تَألِيفُ
فَضَيلةِ الشَّيْخِ العَلاَّمةِ
فَيْصَلَ بِنَ عَبدِ العَزِيزِ آل مُبَارَك
ت 1376هـ رَحِمَهُ اللهُ
الجزء الأول
من سورة الفاتحة إلى سورة النساء آية 147
مقدمة المؤلف
ــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده لكتاب تبيانًا لكل شيء ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ، وفصّله قرآنًا عربيًا لقوم يعلمون .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربَّ السماوات وربّ الأرض ربّ العالمين . وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين ، صلَّى الله عليه وعلى آله الطاهرين ، وأصحابه الأكرمين ، وسلم تسليمًا .
أمّا بعد :
فإن تفسير القرآن أشرف علوم الدين ، وقد صنف فيه الأئمة ما يشفي ويكفي ، ما بين مختصر ومطول ، ولكن لا بد من تفسيره للناس بلسانهم ، وتبيين معانيه على قدر أفهامهم .
قال الله تعالى : ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? .
وأكثر ما في هذا الكتاب نقلته من تفسير ابن جرير ، وابن كثير ، والبغوي رحمهم الله تعالى ، فما كان بلفظه عزوته ، وما تصرفت فيه لم أعزه .
اللهم اعصمنا من القول عليك بلا علم ، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم .
قال صاحب ( الفوز الكبير في أصول التفسير ) رحمه الله تعالى : ( معاني القرآن المنطوقة لا تخرج عن خمسة علوم : علم الأحكام ، وعلم المخاصمة والرد على الفرق الضالة ، وعلم التذكير بآلاء الله ، وعلم التذكير بأيام الله ، وعلم التذكير بالموت وما بعده ، فوجود العقائد الباطلة سبب لنزول آيات لمخاصمة ، ووجود الأعمال الفاسدة وجريان المظالم فيما بينهم سبب لنزول آيات الأحكام ، وعدم تيقظهم بآلاء الله ، وأيام الله ، ووقائع الموت وما بعده سبب لنزول آيات التذكير .(1/1)
قال بعض العارفين : إن الناس لما حفظوا قواعد التجويد شغلوا عن الخشوع في التلاوة . ولما ساق المفسرون الوجوه البعيدة في التفسير ، صار علم التفسير نادرًا كالمعدوم .
ومن المواضع الصعبة في فن التفسير معرفة الناسخ والمنسوخ ، فمعنى النسخ عند المتقدمين : إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى ، إما بانتهاء مدة العمل ، أو بصرف الكلام عن المعنى المتبادر ، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقيًا ، أو تخصيص عام ، أو بيان الفارق بين المنصوص ، وما قيس عليه ظاهرًا ، أو إزالة عدة الجاهلية أو الشريعة السابقة ، فاتسع باب النسخ عندهم ، وكثر جولان العقل هنالك ، واتسعت دائرة الاختلاف .(1/2)
والمنسوخ باصطلاح المتأخرين عدد قليل قريبًا من عشرين آية ، وفي أكثرها نظر ، ولا يتعين النسخ إلا في خمس آيات : الأولى ، قوله تعالى : ? كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ? منسوخة بقوله تعالى : ? يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ ) الآيات . الثانية : قوله تعالى : ? وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ? الآية منسوخة عند الجمهور بقوله تعالى : ? وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ? الثالثة : قوله تعالى : ? إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ? الآية منسوخة بالآية التي بعدها ، وهي قوله تعالى : ? الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ? الرابعة : قوله تعالى : ? لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ? منسوخة بقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ? الآية . الخامسة : قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ(1/3)
نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ? الآية منسوخة بالآية التي بعدها : ? أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? . انتهى ملخصًا مع تقديم وتأخير .
قلت : والمتفق عليه من الخمس ثلاث آيات : آية الوصية ، وآية القتال ، وآية النجوى .
وقال ابن جرير على قوله تعالى : ? فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ? : ( قال ابن زيد : ونسخ هذا لما أمر بالجهاد . قال ابن جرير : هذا قول لا وجه له ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يزل صابرًا على ما يلقى منهم حتى توفاه الله قبل أن يأذن الله بحربهم وبعده ) انتهى ملخصًا .
وقال صاحب الفوز أيضًا : ( ومن المواضع الصعبة : معرفة أسباب النزول ، والذي يظهر من استقراء كلام الصحابة والتابعين ، أنهم لا يستعملون نزلت في كذا لمحض قصة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وهي سبب نزول الآية ، بل ربما يذكرون بعض ما صدقت عليه الآية مما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - أو بعده ، ويقولون نزلت في كذا ، ولا يلزم هناك انطباق جميع القيود ؛ بل يكفي انطباق أصل الحكم فقط ، وقد يقررون حادثة تحققت في تلك الأيام المباركة ، واستنبط - صلى الله عليه وسلم - حكمها من آية ، وتلاها في ذلك الباب ، ويقولون نزلت في كذا ، وربما يقولون في هذه السورة . فأنزل الله قوله كذا فكأنه أشار إلى أن استنباطه - صلى الله عليه وسلم - وإلقاؤها في تلك الساعة بخاطره المبارك أيضًا نوع من الوحي ، والمنفث في الروع ، فلذلك يمكن أن يقال : فأنزلت . ويمكن أيضًا أن يعبر في هذه الصورة بتكرار النزول ) .(1/4)
إلى أن قال : ( ومما ينبغي أن يعلم أن قصص الأنبياء السابقين لا تذكر في الحديث ، إلاّ على سبيل القلة ، فالقصص الطويلة العريضة التي تكلّف المفسرون روايتها كلها منقولة عن علماء أهل الكتاب إلاّ ما شاء الله تعالى ، وقد جاء في صحيح البخاري مرفوعًا : « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم » . ) . إلى أن قال : ( وسبب النزول على قسمين :
القسم الأول : أن تقع حادثة يظهر منها إيمان المؤمنين ، ونفاق المنافقين ، كما وقع في أحد ، والأحزاب ، أنزل الله تعالى مدح هؤلاء وذم أولئك ؛ ليكون فيصلاً بين الفريقين ، وربما يقع في مثل هذا من التعريض بخصوصيات الحادثة ما يبلغ حد الكثرة ، فيجب أن يذكر شرح الحادثة بكلام مختصر ليتضح سوق الكلام على القارئ .
القسم الثاني : أن يتم معنى الآية بعمومها ، ومن غير احتياج إلى العلم بالحادثة التي هي سبب النزول والحكم ؛ لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وقد ذكر قدماء المفسرين تلك الحادثة بقصد الإحاطة بالآثار المناسبة للآية ، أو بقصد بيان ما صدق عليه العموم ، وليس ذكر هذا القسم من الضروريات ، وقد تحققتُ أن الصحابة والتابعين كثيرًا ما كانوا يقولون : نزلت الآية في كذا ، وكذا ، وكان غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية ، وذكر بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها سواء تقدمت القصة أو تأخرت ، إسرائيليًا كان ذلك ، أو جاهليًا ، أو إسلاميًا ، استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها ، والله أعلم . فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلاً ، وللقصص المتعددة هنالك سعة ، فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية ) . انتهى ملخصًا وبالله التوفيق .(1/5)
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى : ( فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير ؟ فالجواب : إن أصح طريق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن ، فما أجمل فما كان فإنه قد بسط في موضع آخر ، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنّة ؛ فإنها شارحة للقرآن موضحة له ، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى : كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن .
قال الله تعالى : ? إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ? ، وقال تعالى : ? وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ? ، وقال : ? وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? ، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إلا إني أوتيت القرآن ومثله معه » ، يعني : السنّة ) .
إلى أن قال : ( والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه ، فإن لم تجده فمن السنّة ؛ كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : « فبم تحكم » ؟ قال : بكتاب الله . قال : « فإن لم تجد » ؟ قال : بسنة رسول الله . قال : « فإن لم تجد » ؟ قال : أجتهد رأيي . فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدره وقال : « الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله » . وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه .
وحينئذٍ إذا لم نجد التفسير في القرآن ، ولا في السنّة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح ، والعمل الصالح ؛ لاسيما علماءهم وكبراءهم ) .(1/6)
إلى أن قال : ( فسل إذا لم تجد التفسير في القرآن ، ولا في السنّة ، ولا وجدته عن الصحابة ، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين : كمجاهد بن جبر ، فإنه كان آية في التفسير ، كما قال محمد ابن إسحاق : حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه عند كل آية منه ، وأسأله عنها ) .
وقال ابن جرير : أنبأنا أبو كريب : أنبأنا طلق بن غنام ، عن عثمان المكي ، عن ابن مليكة ، قال : رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه الواحة . قال : فيقول له ابن عباس : أكتب . حتى سأله عن التفسير كله . ولهذا كان سفيان الثوري يقول : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به . وكسعيد بن جبير ، وعكرمة مولى ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن البصري ، ومسروق بن الأجدع ، وسعيد ابن المسيب ، وأبي العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، وغيرهم من التابعين ، وتابعيهم ، ومن بعدهم فتذكر أقوالهم في الآية ، فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافًا فيحكيها أقوالاً ، وليس كذلك . فإن منهم من يعبّر عن الشيء بلازمه أو بنظيره ، ومنهم من ينص على الشيء بعينه ، والكل بمعنى واحد في أكثر الأماكن ، فليتفطن اللبيب لذلك ، والله الهادي ) . انتهى .
وقال ابن عباس : التفسير على أربعة أوجه : تفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعلمه إلاّ العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلاّ الله ، من ادعى علمه فهو كاذب .(1/7)
تنبيه : لم أبيّن التفسير في بعض المواضع ؛ لأنه يظهر للعالم من سياق الآيات وكلام العرب الموجودين ، خصوصًا من نشأ في بلادهم ، وتجول فيها ، فإنه يكاد يفسر القرآن ولو لم يسمع الآثار ? يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ? . وقد كنت في صغري أهاب سؤال العلماء في بعض ما يشكل عليّ من القرآن ، فأسمع الكلمة من بعض الأعراب ، فتزيل عني ما أشكل ، فكنت أسمع قول الله تعالى : ? وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? فجاءني أعرابي وأنا مع الغلمان ، فقال لي : أين عمك ؟ قلت له : ما هو في البيت . فقال لي : إذا جاء فقل له يقول حمود القحطاني : إذا ما جاء بين العشاوين جيت . فعرفت معنى الآية .
وسمعت أعرابيًا يقول : ( طلعت عليّا الخيل تتبع الربْع تترا ) . فعرفت معنى قول الله تعالى : ? ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ? ، أي : يتبع بعضهم بعضًا .
وقد نشأت - ولله الحمد - في أصل العرب ، وسرت في بلادهم بنجد ، والحجاز ، وتهامة ، واليمن ، والبحرين ، وسمعت كلام البادية والحاضرة ، وكان بعضهم - وهو أبي - إذا سمع القرآن عرف معناه بمجرد التلاوة .
وسمع أعرابي رجلاً يقرأ : ? وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ? فقال الأعرابي : الخيل الخيل .
وسمعت أعرابية رجلاً يقرأ هذه الآية : ? حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ? فقالت : ويش الصلاة الوسطى ؟ قال : صلاة العصر . فقالت : على شان وقتها ضيّق .(1/8)
وتجادل رجلان فيما يفعله الجهال عند القبور من دعاء الموتى ، وطلب الحاجات منهم ، فقال أحدهما : هذا شرك ؛ لأن الله تعالى يقول : ? وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ? ، فقال الآخر : ما يجوز لمثلي ومثلك أن يفسر القرآن . فسكت الرجل ، وكان حليمًا وهو في بيت الآخر ، فخرجت عليهم جارية جميلة فقال : يا فلان من هذه ؟ قال : بنتي . فقال : لو تزوجتها . فضحك به وقال : أتزوج بنتي ! فقال الرجل : هل في ذلك بأس . فقال : ما تسمع قول الله تعالى : ? حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ? فقال : إنك تقول ما يجوز لمثلي ومثلك أن يفسر القرآن .
والمقصود : أن من كان لسانه عربيًا ، وفطرته مستقيمة ، يعرف معنى القرآن بمجرد سماعه وكثيرًا ما يسألني الأعراب ، وغيرهم عن مسائل غامضة في الأيتام ، فأتلوا عليهم قول الله تعالى : ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ? ، فيعرفون الجواب بمجرد التلاوة ، ويقنعون ، فإذا انضم إلى العربية والفطرة السليمة معرفة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك نورًا على نور ، والله الهادي والموافق للصواب .
* * *
فصل
في فضائل القرآن
قال الله تعالى : ? الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ? .
وقال تعالى : ? وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلا خَسَاراً ? .(1/9)
وقال تعالى : ? طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى* تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ? . وقال عز وجل : ? لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? .
وقال جلَّ وعلا : ? إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ? .
وقال تعالى : ? اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ ? .
وقال تعالى : ? حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ? .
وقال تعالى : ? قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً ? .
وقال تعالى : ? وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ? .(1/10)
وقال تعالى : ? قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ? .
وقال تعالى : ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? .
وقال تعالى : ? الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ? .
وقال تعالى : ? وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? .
وقال تعالى : ? قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ? .
وقال تعالى : ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ? .
وقال تعالى : ? وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ? .
وقال تعالى : ? هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الألْبَابِ ?.(1/11)
وقال تعالى : ? وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ? .
وقال تعالى : ? قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ? .
وقال تعالى : ? وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ? .
وقال تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً ? .
وقال تعالى : ? فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ? .
وقال تعالى : ? وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ ? .
وقال تعالى : ? أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ? .(1/12)
وقال تعالى : ? كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ? .
وقال تعالى : ? وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً ? .
وقال تعالى : ? أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ? .
وقال تعالى : ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ? .
وقال تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ? ، والآيات في الأبواب كثيرة .
وعن عثمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « خيركم من تعلم القرآن وعلمه » . رواه البخاري .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصُّفَّة ، فقال : « أيّكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو العقيق ، فيأتي بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم » ؟ فقلنا : يا رسول الله كلنا نحب ذلك . قال : « أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد ، فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين ، وثلاث خير له من ثلاث ، وأربع خير له من أربع ، ومن أعدادهن من الإبل » . رواه مسلم .(1/13)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خَلِفات عظام سمان » ؟ قلنا : نعم . قال : « فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته ، خير له من ثلاث خلفات عظام سمان » . رواه مسلم .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويَتَعْتَع فيه ، وهو عليه شاق له أجران » . متفق عليه .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا حسد إلا على اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار » متفق عليه .
وعن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُترجّة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر » . متفق عليه .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين » رواه مسلم .
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : ( ثلاثة تحت العرش يوم القيامة : القرآن يحاج العباد له ظهر وبطن ، والأمانة ، والرحم تنادي : ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله ) . رواه [البغوي] في شرح السنَّة .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها » . رواه أحمد ، والترمذي ، وأبو داود ، والنسائي .(1/14)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب » . رواه الترمذي والدرامي ، وقال الترمذي : هذا حديث صحيح .
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يقول الربُّ تبارك وتعالى من شغله القرآن عن ذكري أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه » . رواه الترمذي ، والدرامي ، والبيهقي ، في ( شعب الإيمان ) ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول ? آلم ? حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف » . رواه الترمذي ، والدرامي ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب إسنادًا .
وعن الحارث الأعور قال : ( مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث ، فدخلت على عليّ رضي الله عنه فأخبرته فقال : أو قد فعلوها ؟ قلت : نعم . قال : أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « ألا إنها ستكون فتنة » . قلت : ما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : « كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، وهو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا : ? إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ? من قال به صدق ، ومن عمل به أُجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم » . رواه الدرامي .(1/15)
وعن معاذ الجهني رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قرأ القرآن وعمل بما فيه ، ألبس والداه تاجًا يوم القيامة ، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا ، لو كانت فيكم . فما ظنكم بالذي عمل بهذا » ؟ . رواه أحمد ، وأبو داود .
وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قرأ القرآن فاستظهره ، فأحل حلاله وحرم حرامه ، أدخله الله الجنة وشفّعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار » . رواه أحمد ، وابن ماجة ، والدرامي . قوله : فاستظهره ، أي : حفظه عن ظهر قلبه .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « تعلموا القرآن واقرؤوه ، فإن مثل القرآن لمن تعلم فقرأ وقام به ، كمثل جراب محشو مسكًا تفوح ريحه في كل مكان . ومثل من تعلمه فرقد وهو في جوفه ، كمثل جراب أوكى على مسك » . رواه الترمذي ، والنسائي .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أعربوا القرآن وابتغوا غرائبه ، وغرائبه فرائضه وحدوده » .
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة ، وقراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من التسبيح والتكبير ، والتسبيح أفضل من الصدقة ، والصدقة أفضل من الصوم ، والصوم جُنَّة من النار » .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء . قيل يا رسول الله : وما جلاؤها ؟ قال : « كثرة ذكر الموت ، وتلاوة القرآن » . روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في شعب الإيمان .(1/16)
وعن الحسن مرسلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « من قرأ في ليلة مائة آية لم يحاجه القرآن تك الليلة ، ومن قرأ في ليلة مائتي آية كتب له قنوت ليلة ، ومن قرأ في ليلة خمسمائة إلى الألف أصبح وله قنطار من الأجر » . قالوا : وما القنطار ؟ قال : « اثنا عشر ألفًا » . رواه الدرامي .
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « تعاهدوا القرآن ، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيًا من الإِبل في عقلها » . متفق عليه .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت ، بل نُسِّي . واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم » . متفق عليه .
وعن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإِبل المعلقة إن عاهد عليها أمسكها ، وإن أطلقها ذهبت » . متفق عليه .
وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اقرؤوا القرآن ما ائتلف عليه قلوبكم ، فإذا اختلفتم فقوموا عنه » . متفق عليه .
وعن قتادة قال : سئل أنس كيف كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : ( كانت مدًا مدًا ) . ثم قرأ : ? بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ? يمد ببسم الله ، ويمد بالرحمن ، ويمد بالرحيم . رواه البخاري .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن » . متفق عليه .
وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به » . متفق عليه .
وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ليس منا من لم يتغن بالقرآن » . رواه البخاري .(1/17)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو على المنبر : « اقرأ عليَّ » . قلت : ( آأقرأ عليك وعليك أنزل !؟ ) قال : « إني أحب أن أسمعه من غيري » . ( فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : ? فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ? ) ، قال : « حسبك الآن » ؟ ( فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان ) . متفق عليه .
وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأُبيّ بن كعب : « إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن » . قال : الله سمّاني لك ؟ قال : « نعم » . قال : وقد ذكرت عند ربّ العالمين ؟ قال : « نعم » فذرفت عيناه . وفي رواية : « إن الله أمرني أن أقرأ عليك : ? لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ? » . قال : وسمّاني ؟ قال : « نعم » . فبكى . متفق عليه .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين ، وإن بعضهم ليستتر ببعض من العرى ، وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقام علينا ، فلمّا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكت القارئ ، فسلّم ، ثم قال : « ما كنتم تصنعون » ؟ قلنا : كنا نستمع إلى كتاب الله . فقال : « الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم » . قال : فجلس وسطنا ليعدل بنفسه فينا ، ثم قال بيده هكذا ، فتحلقوا وبرزت وجوههم له ، فقال : « أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة ، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم ، وذلك خمسمائة عام » . رواه أبو داود .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « زينوا القرآن بأصواتكم » . رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والدرامي .(1/18)
وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله يوم القيامة أجذم » . رواه أبو داود ، والدرامي .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث » . رواه الترمذي ، وأبو داود ، والدارمي .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة ، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة » . رواه الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
وعن صهيب رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « ما آمن بالقرآن من استحل محارمه » . رواه الترمذي . وقال : هذا حديث ليس إسناده بالقوي .
وعن الليث بن سعد عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مملك : ( أنه سأل أم سلمة عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفًا حرفًا ) . رواه الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي .
وعن جابر رضي الله عنه قال : ( خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نقرأ القرآن ، وفينا الأعرابي والعجمي ) ، فقال : « اقرؤوا فكل حسن ، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه » . رواه أبو داود ، والبيهقي في شعب الإيمان .
يتعجلونه : أي : يطلبون ثوابه في الدنيا ، ولا يتأجلونه بطلب الأجر في الآخرة ؛ بل يؤثرون العاجلة على الآجلة .
وعن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل العشق ، ولحون أهل الكتاب ، وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجع الغناء والنوح ، لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذي يعجبهم شأنهم » . رواه البيهقي في شعب الإِيمان ، ورزين في كتابه .(1/19)
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « حسنوا القرآن بأصواتكم ، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا » . رواه الدرامي .
وعن طاووس مرسلاً قال : ( سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أي الناس أحسن صوتًا للقرآن وأحسن قراءة ؟ قال : « من إذا سمعته يقرأ أريت أنه يخشى الله » . قال طاووس : وكان طلق كذلك . رواه الدرامي .
وعن عبيدة المليكي ، وكانت له صحبة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يا أهل القرآن لا تتوسدوا القرآن ، واتلوه حق تلاوته ، وأفشوه وتغنوه وتدبروا ما فيه لعلكم تفلحون ، ولا تعجلوا ثوابه فإن له ثوابًا » . رواه البيهقي في شعب الإِيمان .
وعن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرؤوا ما تيسر منه » . متفق عليه .
وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : « يا أُبيّ ، أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف ، فرددت إليه أن هوّن على أمتي ، فرد إليّ الثانية : اقرأه على حرفين ، فرددت إليه أن هوّن على أمتي ، فرد إليّ الثالثة : اقرأه على سبعة أحرف ، ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها ، فقلت : اللهم اغفر لأمتي ، اللهم اغفر لأمتي ، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السلام » . رواه مسلم .
وعنه قال : ( لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبرائيل فقال : « يا جبرائيل إني بعثت إلى أمة أميين ، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابًا قط » . قال : ( يا محمد ، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ) . رواه الترمذي ، وفي رواية لأحمد ، وأبي داود قال : ( ليس منها إلا شافٍ كافٍ ) .(1/20)
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه مرّ على قاص يقرأ ثم يسأل فاسترجع ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من قرأ القرآن فليسأل الله به ، فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس » . رواه أحمد ، والترمذي .
وعن بريدة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قرأ القرآن يتأكل به الناس ، جاء يوم القيامة ووجهه عظيم ليس عليه لحم » . رواه البيهقي في شعب الإِيمان .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سَهل الله لديه طريقًا إلى الجنة ، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه » . رواه مسلم .
وما أحسن ما قاله الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى :
فللعمل الإِخلاص شرط إذا أتى ( ... وقد وافقته سنة وكتاب (
وقد صين عن كل ابتداع وكيف ذا ( ... وقد طبق الآفاق منه عباب (
إلى أن قال :
فلم يبقى للراجي سلامة دينه ( ... سوى عزلة فيها الجليس كتاب (
كتاب حوى كل العلوم وكل ما
( ... حواه من العلم الشريف صواب (
فإن رمت تاريخًا رأيت عجائبًا ( ... ترى آدمًا إذ كان وهو تراب (
ولاقيت هابيلاً قتيل شقيقه ( ... يواريه لما أن أراه غراب (
وتنظر نوحًا وهو في الفلك إذ طغى ( ... على الأرض من ماء السحاب عباب (
وإن شئت كل الأنبياء وقومهم ( ... وما قال كل منهم وأجابوا (
ترى كل من تهوى من القوم مؤمن ( ... وأكثرهم قد كذبوه وخابوا ((1/21)
وجنات عدن حورها ونعيمها ( ... وناد بها للمسرفين عذاب (
فتلك لأصحاب التقى ثم هذه ( ... لكل شقي قد حواه عقاب (
وإن ترد الوعظ الذي إن عقلته ( ... فإن دموع العين عنه جواب (
تجده وما تهواه من كل مشرب ( ... فللروح منه مطعم وشراب (
وإن رمت إبراز الأدلة في الذي ( ... تريد فما تدعو إليه تجاب (
تدل على التوحيد فيه قواطع ( ... بها قطعت للملحدين رقاب (
وفيه الدوا مكن كل داء فثق به ( ... فوالله ما عنه ينوب كتاب (
وما مطلب إلا وفيه دليله ( ... وليس عليه للذكي حجاب (
إلى أن قال :
أطيلوا على السبع الطوال وقوفكم ( ... تدر عليكم بالعلوم سحاب (
وكم من ألوف في المئين فكن بها ( ... ألوفًا تجد ما ضاق عنه حساب (
وفي طي أثناء المثاني نفائس ( ... يطيب بها نشر ويفتح باب (
وكم من فصول في الفصل قد حوت ( ... أصولاً إليها للذكي إياب (
* * *
فصل
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا ولا حرج ، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة » . وفي رواية : « أنزل القرآن على سبعة أحرف عليم ، حكيم ، غفور ، رحيم » . رواه ابن جرير وغيره .
وعن الأعمش قال : قرأ أنس هذه الآية : ? إِن ناشِئَةَ اللَّيلِ هي أَشدُّ وَطْءاً وأصوب قِيلاً ? ، فقال له بعض القوم : يا أبا حمزة ، إنما هي ? أَقْوَمُ ? فقال : أقوم وأصوب واحد .
وعن ابن سيرين قال : ( نبئت أن جبرائيل وميكائيل أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له جبرائيل : اقرأ القرآن على حرفين . فقال : له ميكائيل : استزده . فقال : اقرأ القرآن على ثلاثة أحرف . فقال له ميكائيل : استزده . قال حتى بلغ سبعة أحرف ) . قال محمد : لا تختلف في حلال ولا حرام ، وهو كقولك : تعال ، وهلم ، وأقبل .(1/22)
قال ابن جرير : ( معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « نزل القرآن على سبعة أحرف » . أي : سبع لغات ، كقول القائل : هلم ، وأقبل ، وتعال ، وإليّ ، وقصدي ، ونحوي ، وقربي ، ونحو ذلك مما تختلف فيه الألفاظ ، وتتفق فيه المعاني ) . انتهى ملخصًا .
وعن أبي قلابة قال : لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل ، والمعلم يعلم قراءة الرجل ، فجعل الغلمان يلتفون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين حتى كفر بعضهم بقراءة بعض ، فبلغ ذلك عثمان فقام خطيبًا ، فقال : أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون ، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافًا وأشد لحنًا ، اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إمامًا . قال ابن جرير : ( فاستوثقت له الأمة بالطاعة فتركت القراءة بالأحرف الستة ، فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها لدثورها وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها من غير جحود صحتها . فأما اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ، ونصبه وتسكين حرف وتحريكه ، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصور فبمعزل من معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف » . ) . انتهى ملخصًا .(1/23)
وقال بعض المفسرين : ذكر الحروف التي كتب بعضها على خلاف بعض في المصحف وهي في الأصل واحدة : فأول ? بِسْمِ اللهِ ? كتب بحذف الألف التي قبل السين ، وكتب ? اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ? ، و ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ? ، و ? بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ ? بالألف . والأصل في ذلك كله واحد ، وهو أن يكتب الألف ، وإنما حذفت من ? بِسْمِ اللهِ ? فقط لأنها ألف وصل ساقطة من اللفظ كثيرًا . قد كثر استعمال الناس إياها فأمنوا أن يجهل القارئ معناها . وكتب ? فِيمَا ? موصولاً في كل القرآن إلا في البقرة : ? فِي مَا فَعَلْنَ ? ، وفيها : ? فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ? ، وفي الأنعام : ? فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ? ، وفيها : ? لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم ? ، وفي الأنفال : ? فِيمَا أَخَذْتُمْ ? وفي الأنعام : ? فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ ? ، وفي النور : ? فِي مَا أَفَضْتُمْ ? ، وفي الشعراء : ? فِي مَا هَاهُنَا ? ، وفي الروم : ? فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ? ، وفي الزمر : ? فِي مَا هُمْ فِيهِ ? وفيها : ? فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ? ، وفي الواقعة : ? فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ? ، فذلكن اثنا عشر حرفًا وما سوى ذلك موصول ) .(1/24)
إلى أن قال : ( وكتب ? لِكَيْ لاَ ? مقطوعة في كل القرآن إلا في ثلاث مواضع : في الحج ? لِكَيْلَا يَعْلَمَ ? وفي الأحزاب : ? ِلكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ? ، وفي الحديد : ? لِكَيْلَا تَأْسَوْا ? ، وكتب في هود : { فَإلمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } ، موصولاً مدغمًا ، وفي القصص : ? فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ? مقطوعًا . وكتب ? كُلَّمَا ? موصولاً . إلا خمسة مواضع ، وكتبت ? الرَّحْمَةَ ? بالهاء ، إلا سبعة مواضع ، و ? النَّعْمَةِ ? بالهاء إلا أحد عشر موضعًا ? وَامْرَأَةً ? بالهاء إلا سبعة مواضع ، و ? سنة ? بالهاء ، إلا خمسة مواضع ، و ( معصية ) بالهاء إلا في موضعين . وكتب ? الْمَلأُ ? بالألف إلا أربعة مواضع ، فإنها تكتب بالواو . وكتب في الذاريات ? سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ? بالألف ، وما سواه بغير ألف . وكتب جميع ما في القرآن من ذكر الأيدي بياء واحدة إلا في الذاريات ? وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ? فإنها كتبت بياءين والأصل كتبه بياء واحدة ، وكتب في حم السجدة ? سَمَاوَات ? بالألف وما سواه كتبت { سموات } بغير ألف . وكتب ? وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ? بغير واو ، { يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ } بالواو والألف . وكتب { الربوا } بواو بعدها ألف في كل القرآن إلا قوله : ? وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً ? ، فإنه بغير واو ، وكتب { إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ } و ( يَتَفَيَّؤا ظِلاَلُهُ ) و ( تَفْتَؤا تَذْكُرُ ) ( وَيَدْرَؤا عَنْهَا ) وما أشبهها بواو وألف ، ولو كتب بالواو وحدها أو بالألف وحدها لجاز ) .(1/25)
إلى أن قال : ( وإنما كتبت هذه الحروف بعضها على خلاف بعض ، وفي الأصل واحدة ؛ لأن الكتابة بالوجهين كانت جائزة عندهم ، فكتبوا بعضها على وجه ، وبعضها على وجه آخر جمعًا بين المذهبين ، على أنهم كتبوا أكثرها على الأصل ، وكل ما كتب في المصحف على أصل لا يقاس عليه غيره من الكلام ؛ لأن القرآن يلزمه لكثرة الاستعمال ما لا يلزم غيره ، واتباع المصحف في هجائه واجب .
وقال جماعة من الأئمة : إن الواجب على القرّاء ، والعلماء ، وأهل الكتاب أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف ، فإنه رسم زيد بن ثابت ، وكان أمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكاتب وحيه ، وعلم من هذا العلم بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يعلم غيره ، فما كتب شيئًا من ذلك إلا لِعِلَّةٍ لطيفة وحكمة بليغة وإن قصر عنه رأينا ، ألا ترى أنه لو كتب على ( صلوتهم ) ( وأن صلوتك ) بالألف بعد الواو ، وبالألف من غير واو لما دل ذلك إلا على وجه واحد ، وقراءة واحدة ، والله تعالى أعلم ) . انتهى ملخصًا .
وقال بعض العلماء :
والخط فيه معجز للناس ( ... وحائد عن مقتضى القياس (
لا تهتدي لسره الفحول ( ... ولا تحوم حوله العقول (
قد خصه الله بتلك المنزلة ( ... دون جميع الكتب المنزلة (
ليظهر الإِعجاز في المرسوم ( ... منه كما في لفظه المنظوم ((1/26)
اللهم لك الحمد على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة ، وآلائك الجسيمة ، حيث أنزلت علينا خير كتبك ، وأرسلت إلينا أفضل رسلك ، وشرّعت لنا أفضل شرائع دينك ، وجعلتنا من خير أمة أخرجت للناس ، وهديتنا لمعالم دينك الذي ارتضيته لنفسك ، وبنيته على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت الحرام ، ولك الحمد على ما يسّرته من تفسير كتابك العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد ، وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد . اللهم إنا عبيدك ، بنو عبيدك ، بنو إمائك ، نواصينا بيدك ، ماض فينا حكمك ، عدل فينا قضاؤك ، نسألك اللهم بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدًا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، ونور أبصارنا ، وشفاء صدورنا ، وجلاء أحزاننا ، وذهاب همومنا وغمومنا ، اللهم ذكرنا منه ما نسينا ، وعلّمنا منه ما جهلنا ، وارزقنا تلاوته آناء الليل والنهار على الوجه الذي يرضيك عنا ، اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويعمل بمحكمه ، ويؤمن بمتشابهه ، ويتلوه حق تلاوته ، اللهم اجعلنا ممن يقيم حدوده ، ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ، ويضيع حدوده ، اللهم اجعلنا ممن اتبع القرآن فقاده إلى رضوانك والجنة ، ولا تجعلنا ممن اتبعه القرآن فزخ في قفاه إلى النار ، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا رب العالمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وقد فصلّته ثلاثمائة وثلاثة عشر درسًا ، والله الموفق ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
* * *
الدرس الأول
[ سورة الفاتحة ]
مكية ، وهي سبع آيات(1/27)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيْطان الرجِيم
بسم الله الرحمن الرحيم
? الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7) ? .
* * *
سورة الفاتحة لها ثلاثة أسماء : فاتحة الكتاب ، وأم القرآن ، والسبع المثاني .
وروى البخاري وغيره عن سعيد بن المعلى رضي الله عنه ، قال : كنت أصلي فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أجبه حتى صليت ، قال : فأتيته ، فقال : « ما منعك أن تأتيني » ؟ قال : قلت : يا رسول الله إني كنت أصلي ، قال : « ألم يقل الله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ? ؟ ثم قال : « لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد » . قال : فأخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت : يا رسول الله إنك قلت : لأعلمنَّك أعظم سورة في القرآن قال : « نعم ، الحمد لله رب العالمين ، هي : السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته » .(1/28)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج - ثلاثًا - غير تمام » . فقيل لأبي هريرة : إنا نكون خلف الإمام فقال : اقرأ بها في نفسك ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « قال الله عز وجل : قسّمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ؛ فإذا قال : ? الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? قال الله : حمدني عبدي . وإذا قال : ? الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ? ، قال الله : أثنى عليّ عبدي ؛ فإذا قال : ? مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ? قال الله : مجّدني عبدي - وقال مرة : فوّض إليَّ عبدي - فإذا قال : ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ? قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : ? اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ? ، قال الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل » . رواه مسلم وغيره .
قوله عز وجل : ? بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) ? .
روى أبو داود وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يعرف فصل السورة حتى ينْزِلَ عليه ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .
وروى ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن أول ما نزل به جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم - قال : يا محمد قل : أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قال : قل بسم الله الرحمن الرحيم ، قال : قال له جبريل : ( بسم الله يا محمد ، يقول : اقرأ بذكر الله ربك ، وقم واقعد بذكر الله تعالى ) .
واختلف العلماء في مشروعية قراءة البسملة في الصلاة .
فقال بعضهم : لا يقرأ بها سرًا ولا جهرًا .
وقال بعضهم : يقرأ بها جهرًا في الجهرية ، وسرًا في السرية .(1/29)
وقال بعضهم : يقرأ بها سرًا في الجهرية . هذا القول هو الراجح وعليه تدل الأحاديث الصحيحة ؛ ويشرع الجهر بها في بعض الأحيان ، وتستحب البسملة في ابتداء كل عمل ، تبركًا باسم الله تعالى واستعانة به ، وفي الحديث : « كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم » ، قال ابن عباس : الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين .
قوله عز وجل : ? الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? .
قال ابن جرير رحمه الله تعالى : ( الحمد لله ثناء أثنى به على نفسه ، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه ) . انتهى ، قال أبو نصر الجوهري : ( والحمد أعم من الشكر ، وأما المدح فهو أعم من الحمد ، وقال ابن عباس : الحمد لله كلمة الشكر ، وإذا قال العبد : الحمد لله ، قال : شكرني عبدي ) .
قال البغوي : رحمه الله تعالى : ( والحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة ، ويكون بمعنى الثناء عليه بما فيه من الخصال الحميدة ، والشكر لا يكون إلا على النعمة .
وقوله تعالى : ? للّهِ ? ، اللام للإستحقاق ، والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد وأنواعه لله تعالى .
وقوله تعالى : ? رَبِّ الْعَالَمِينَ ? ، الرب : هو المالك المتصرف ، والعالمين : جمع عالَم بفتح اللام ، وهو كل موجود سوى الله عز وجل ؛ والعوالم أصناف المخلوقات ، وعن ابن عباس : ? الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? الحمد لله الذي له الخلق كله ، السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن ، مما نعلم ومما لا نعلم . وعن سعيد بن المسيب قال : لله ألف عالم : ستمائة في البحر ، وأربعمائة في البر . وقال كعب الأحبار : لا يحصي عدد العالمين أحدٌ إلا الله ، قال الله تعالى : ? وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ ? ، وقال الزجاج : العالم كل ما خلق الله في الدنيا والآخرة .
قال القرطبي : والعالم مشتق من العلامة .(1/30)
قال ابن كثير : لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته ، كما قال ابن المعتز :
فيا عجبًا كيف يعصي الإِله ( ... أم كيف يجحده الجاحد (
وفي كل شيء له آية ( ... تدل على أنه واحد (
تنبيه : المعروف عند بعض القراء أنه لا يقف على ? الْعَالَمِينَ ? ، ولا على ? الرَّحِيمِ ? ، لاتصال الصفة بالموصوف ، ولا مانع من ذلك لأن المعنى ظاهر ، والأصل هو الوقوف على رؤوس الآي ، ويشهد لذلك ما رواه الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع قراءته يقول : ? الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? ثم يقف ، ثم يقول : ? الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ? ثم يقف ، فالفصل والوصل جائزان : ويحسن الفصل مع الترتيل والوصل مع الهذ وفي الحديث : « يقال لصاحب القرآن : اقرأ واصعد في درج الجنة ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر أية تقرؤها » ، فهو في صعود ما دام يقرأ ، هذًّا كان أو ترتيلاً .
قوله عز وجل : ? الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ? .
قال ابن كثير : اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ، ورحمن أشد مبالغة من رحيم ، وفي الأثر عن عيسى عليه السلام أنه قال : ( الرحمن رحمن الدنيا والآخرة ، والرحيم رحيم الآخرة ) ، وقال ابن عباس : ( هما اسمان رقيقان ، أحدهما أرق من الآخر ) .
وقال ابن جرير : ( حدثنا السري بن يحيى التميمي ، حدثنا عثمان بن زفر ، سمعت العزرمي يقول : ? الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ? ، قال : الرحمن لجميع الخلق ، الرحيم ، قال : بالمؤمنين .
قال القرطبي : إنما وصف نفسه بالرحمن الرحيم بعد قوله ? الْعَالَمِينَ? ، ليكون من باب قرب الترغيب بعد الترهيب ، كما قال تعالى : ? نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ ? .
قوله عز وجل : ? مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ? .(1/31)
قال ابن كثير : وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عاداه ، لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين وذلك عام في الدنيا والآخرة . وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئًا ، ولا يتكلم أحدًا إلا بإذنه كما قال تعالى : ? يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ? ، وقال تعالى : ? وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً ? ، وقال تعالى : ? يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ? ، وقال الضحاك عن ابن عباس : ? مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ? يقول : لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكمًا كملكهم في الدنيا قال : و ? يَوْمِ الدِّينِ ? يوم الحساب للخلائق ، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر ، إلا من عفا عنه .
قوله عز وجل : ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ? .
أي : لا نعبد إلا إياك ، ولا نتوكل إلا عليك ، قال بعض السلف : الفاتحة سر القرآن ، وسرها هذه الكلمة : ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ? فالأول : تبرؤ من الشرك ، والثاني : تبرؤ من الحول والقوة ، وتفويض إلى الله عز وجل ، وهذا كثير في القرآن ، قال تعالى : ? فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ? ، وقال تعالى : ? هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ? ، وقال تعالى : ? رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ? ، قال ابن عباس : ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ ? ، يعني إياك نوحد ونخاف ، ونرجوك يا ربنا لا غيرك . ? وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ? ، على طاعتك وعلى أمورنا كلها . قال البغوي : ( والعبادة الطاعة مع التذلل والخضوع ، وسمي العبد عبدًا لذلته وانقياده ) .(1/32)
قوله عز وجل : ? اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ? .
قال ابن كثير : لمّا تقدم الثناء على المسئول تبارك وتعالى ، ناسب أن يعقب بالسؤال كما قال : ( فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ) ، وهذا أكمل أحوال السؤال ، أن يمدح مسئوله ، ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين ، والهداية ها هنا : الإرشاد والتوفيق .
وقال البغوي : وهذا الدعاء من المؤمنين ، مع كونهم على الهداية ، بمعنى التثبيت ، وبمعنى طلب مزيد الهداية ، لأن الألطاف والهدايات من الله لا تتناهى .
وقال ابن جرير : أجمعت الأمة من أهل التأويل ، على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح ، الذي لا اعوجاج فيه ، وقال مجاهد : ? اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ? ، قال : الحق .
وروى الإِمام أحمد وغيره عن النواس بن سمعان ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ضرب الله مثلاً صراطًا مستقيمًا ، وعلى جانبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا ؛ وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد الإِنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه ، فإنك إن فتحته تلجه . فالصراط : الإِسلام ، والسوران : حدود الله ، والأبواب المفتحة : محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط : كتاب الله ، والداعي فوق الصراط : واعظ الله في قلب كل مسلم » .
قوله عز وجل : ? صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ? .(1/33)
أي : مننت عليهم بالهداية والتوفيق للإيمان ، والاستقامة عليه من النبيين والمؤمنين ، قال الضحاك عن ابن عباس : ? صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ? ، بطاعتك ، وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ؛ وذلك نظير ما قال ربنا تعالى : ? وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ? .
قوله عز وجل : ? غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ? .
قال ابن كثير : والمعنى : اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم ، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله ، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره ، غير صراط المغضوب عليهم ، وهم الذين فسدت إرادتهم ، فعلموا الحق وعدلوا عنه ، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق . انتهى .(1/34)
وروى الإمام أحمد وغيره عن عدي بن حاتم قال : جاءت خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذوا عمتي وناسًا ، فلما أتوا بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفوا له ، فقالت : يا رسول الله نأى الوافد ، وانقطع الولد ، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة فَمُنَّ عليّ مَنَّ الله عليك ، قال : « ومن وافدك » ؟ قالت : عدي بن حاتم ، قال : « الذي فر من الله ورسوله » ؟ قالت : فمنّ عليّ . فلما رجع ورجل إلى جنبه ترى أنه عليّ ، قال : سليه حملانًا ، فسألته فأمر له ، قال : فأتتني فقالت : إنك فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها ، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه ، وأتاه فلان فأصاب منه ، فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيّان - وذكر قربهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - - قال : فعرفت إنه ليس بملك كسرى ولا قيصر ، فقال : « يا عدي ما أَفَرَّكَ ؟ أن يقال لا إله إلا الله ؟ فهل من إله إلا الله ؟ ما أفرَّك أن يقال الله أكبر ؟ فهل شيء أكبر من الله عز وجل » قال : فأسلمت ، فرأيت وجهه استبشر ، وقال : « إن المغضوب عليهم اليهود ، وإن الضالين النصارى » ... وذكر الحديث .
قال ابن كثير : مسألة ، والصحيح من مذاهب العلماء ، أنه يغتفر الإِخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما لمن لا يميز ذلك ؛ وأما حديث : « أنا أفصح من نطق بالضاد » فلا أصل له ، والله أعلم . انتهى ملخصًا ، قال ابن مفلح في الفروع : ( وإن قرأ : غير المغضوب عليهم ولا الضالين بظاء ، فالوجه الثالث يصح مع الجهل ) . قال في تصحيح الفروع : ( أحدها لا تبطل الصلاة ، اختاره القاضي ، والشيخ تقي الدين ، وقدمه في المغني والشرح وهو الصواب ) انتهى . يعني : تصح الصلاة ولو كان يميز الضاد والظاء ، والأحوط للإِمام القراءة بالضاد إذا كان يميز ذلك .(1/35)
وقال ابن كثير : اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات ، على حمد الله وتمجيده والثناء عليه ، بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا ، وعلى ذكر المعاد وهو : يوم الدين ، وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه ، والتبرؤ من حولهم وقوتهم ، وإلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى ، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم ، وتثبيتهم عليه حتى يفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة ، المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين .
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ، ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون . انتهى .
ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها : ( آمين ) في الصلاة وغيرها . ومعناها : اللهم استجب لنا . لما رواه الإمام أحمد وغيره عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ : ? غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ? ، فقال : « آمين » مد بها صوته . ولأبي داود : ( رفع بها صوته ) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا ? غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ? ، قال : « آمين » ، حتى يسمع من يليه من الصف الأول ) . رواه أبو داود وابن ماجة وزاد فيه : ( فيرتج بها المسجد ) .
وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إذا أمنَّ الإمام فأمّنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه » .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول آمين ، فأكثروا من قول آمين » . رواه ابن ماجة .(1/36)
وعنه قال : ( بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده جبرائيل ، إذ سمع نقيقًا فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال : هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط ، قال : فنزل منه ملك ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لم تقرأ حرفًا منها إلا أوتيته ) . رواه مسلم ، والنسائي وهذا لفظه .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ( كنا في مسير لنا فنزلنا فجاءت جارية فقالت : إن سيد الحي سليم ، وإنّ نَفَرَنا غُيِّبٌ فهل منكم راق ؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقيه فرقاه فبرئ فأمر له بثلاثين شاة ، وسقانا لبنًا ، فلما رجع قلنا له : أكنت تحسن رقية ، أو كنت ترقي ؟ قال : لا ، ما رقيت إلا بأم الكتاب ، قلنا : لا تحدثوا شيئًا حتى نأتي أو نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قدمنا المدينة ، ذكرناه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : « وما كان يدريه أنها رقية ؟ اقسموا واضربوا لي بسهم » . رواه البخاري ومسلم ، والله أعلم .
* * *
الدرس الثاني
[ سورة البقرة ]
مدنية ، وهي مائتان وثمانون وست أو سبع آيات
عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « البقرة سنام القرآن وذروته ، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكًا واستخرجت ? اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? من تحت العرش ، فوصلت بها ، أو فصلت بسورة البقرة . ويس قلب القرآن ، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له ، واقرءوها على موتاكم » . رواه أحمد .
وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ، فإن البيت الذي لا تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان » .(1/37)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة ، لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة ؛ أربع من أولها ، وآية الكرسي ، وآيتان بعدها ، وثلاث آيات من آخرها ) . وفي رواية : ( لم يقربه ولا أهله يومئذٍ شيطان ، ولا شيء يكرهه ، ولا يقرآن على مجنون إلا أفاق ) . رواه الدرامي .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثًا ، وهم ذوو عدد ، فاستقرأهم كل واحد منهم ما معه من القرآن ، فأتى على رجل من أحدثهم سنًا ، فقال : « ما معك يا فلان » ، فقال معي كذا وكذا ، وسورة البقرة فقال : « أمعك سورة البقرة » ، قال : نعم ، قال : « اذهب فأنت أميرهم » . فقال رجل من أشرافهم : والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة ، إلا إني خشيت ألا أقوم بها . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « تعلموا القرآن واقرءوه ، فإن مثل القرآن لمن تعلمه ، فقرأ وقام به ، كمثل جراب محشو مسكًا يفوح ريحه في كل مكان ، ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه ، كمثل جراب أوكى على مسك » . رواه الترمذي وغيره .(1/38)
قال البخاري : وقال الليث حدثني يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال : ( بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس ، فسكت فسكنت فقرأ فجالت الفرس ، فسكت فسكنت ، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف . وكان ابنه يحيى قريبًا منها ، فأشفق أن تصيبه ، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها ، فلما أصبح حدث النبي فقال : « اقرأ يا ابن حضير » . قال : قد أشفقت يا رسول الله على يحيى ، وكان منها قريبًا ، فرفعت رأسي وانصرفت إليه ، فرفعت رأسي إلى السماء ، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح ، فخرجت حتى لا أراها . قال : « وتدري ما ذاك » ؟ قال : لا . قال : « تلك الملائكة دنت لصوتك ، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم » . ولمسلم : « عرجت في الجو » .
وذكر الحافظ ابن حجر أن في الحديث اختصارًا ، أصله كما رواه أبو عبيد : ( رفع رأسه إلى السماء ، فإذا هو بمثل الظلة ، فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها ) .(1/39)
وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال : كنت جالسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعته يقول : « تعلموا سورة البقرة ، فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا يستطيعها البطلة » . قال : ثم سكت ساعة ثم قال : « تعلموا سورة البقرة وآل عمران ، فإنهما الزهراوان ، يظلان صاحبهما يوم القيامة ، كأنهما غمامتان أو غيابتان ، أو فرقان من طير صواف ، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبر كالرجل الشاحب فيقول له : هل تعرفني ؟ فيقول : ما أعرفك . فيقول أنا صاحبك القرآن ، الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك ، وإن كل تجارة من وراء تجارته ، وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه ، والخلد بشماله ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، ويكسى والديه حلتان لا يقوم لهما أهل الدنيا ، فيقولان بم كُسينا هذا ؟ فيقال : بأخذ ولدكما القرآن . ثم يقال : اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها ، فهو في صعود ما دام يقرأ ، هذًّا كان أو ترتيلاً » . رواه الإِمام أحمد .
قال ابن العربي في ( أحكام القرآن ) : ( اعلموا وفقكم الله أن علماءنا قالوا : إن هذه السورة من أعظم سور القرآن . سمعت بعض أشياخي يقول : فيها ألف أمر ، وألف نهي ، وألف حكم ، وألف خبر ولعظيم فقهها أقام عبد الله بن عمر ثمان سنين في تعلمها ) .
بسم الله الرحمن الرحيم(1/40)
? الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ(1/41)
اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) ? .
قال الشعبي وغيره : ? آلم ? . وسائر حروف الهجاء في أوائل القرآن ، من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وهي سر القرآن ، فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى . قال أبو بكر الصديق : في كل كتاب سر ، وسر الله في القرآن ، وأوائل السور . وعن ابن عباس أنه قال : معنى ? آلم ? : أنا الله أعلم ، ومعنى ? آلمص ? : أنا الله أعلم وأفصل . ومعنى ? آلمر ? : أنا الله أرى . ومعنى ? آلمر ? : أنا الله أعلم وأرى . وقال مجاهد : هذه الحروف أسماء السور . وقال آخرون : إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور ، بيانًا لإِعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ؛ وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية .(1/42)
قال الزمخشري : ( ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن ، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت ، كما كررت قصص كثيرة ، وكرر التحدي بالصريح في أماكن ) . انتهى . والله أعلم .
وقوله تعالى : ? ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ? ، يقول تعالى : هذا الكتاب وهو القرآن ، لاشك فيه أنه من عند الله تعالى ، وأنه الحق والصدق ، كما قال تعالى : ? آلم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ? .
وقوله تعالى : ? هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ? ، أي : رشد وبيان لأهل التقوى خاصة ، كما قال تعالى : ? قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ?. وقال تعالى : ? وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلا خَسَاراً ? . قال ابن عباس : التقيّ من يتقيّ الشرك والكبائر والفواحش . وأنشد أبو الدرداء :
يريد المرء أن يؤتى مُناه ( ... ويأبى الله إلا ما أراد (
يقول المرء : فائدتي ومالي ( ... وتقوى الله أفضل ما استفادا (
والتقوى : هي : طاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه .(1/43)
وقوله تعالى : ? الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ? ، أي : الذين يصدقون بما غاب عنهم ، مما أخبر الله به من أمور الآخرة والقدر وغير ذلك . قال أبو العالية : يؤمنون بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وجنته وناره ، ولقائه ، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث ، فهذا غيبٌ كله . وعن أبي جمعة رضي الله عنه قال : تغدينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال : يا رسول الله هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك قال : « نعم قومٌ من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني » .
وقوله تعالى : ? وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ? ، أي : يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها ، بحدودها وأركانها وهيآتها ، والمراد بها الصلوات الخمس . قال ابن عباس : إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود ، والتلاوة والخشوع والإِقبال عليه فيها .
وقوله تعالى : ? وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ? ، أي : في جميع ما يلزمهم من الزكاة وغيرها . قال قتادة : هذه الأموال عَوَارٍ وودائع عندك يا ابن آدم ، يوشك أن تفارقها .
وقوله تعالى : ? والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ? ، قال ابن عباس : ? والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ? ، أي : يصدقون بما جئت به من الله ، وما جاء به من قبلك من المرسلين ، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم ? وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ? ، أي : بالبعث والقيامة ، والجنة والنار ، والحساب والميزان . قال البغوي : قوله : ? وَبِالآخِرَةِ ? ، أي : بالدار الآخرة . سميت الدنيا دنيا لدنوّها من الآخرة ، وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا ? هُمْ يُوقِنُونَ ? ، أي : يستيقنون أنها كائنة .(1/44)
وقوله تعالى : ? أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? . يقول الله تعالى : ? أُوْلَئِكَ ? ، أي : المتصفون بالإِيمان وإقام الصلاة والإِنفاق مما أعطاهم الله ? عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ? ، أي : على نور وبيان وبصيرة ? وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? ، أي : الناجون الفائزون ، فازوا بالجنة ونجوا من النار .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7) ? .
يقول الله تعالى : إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، سواء عليهم إنذارك وعدمه ، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به ، كما قال تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ? . قال البغوي : ( والكفر على أربعة أنحاء : كفر إنكار ، وكفر جحود ، وكفر عناد ، وكفر نفاق ) .
وقوله تعالى : ? خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ? ، أي : طبع الله على قلوبهم ، فلا تعي خيرًا ولا تفهمه ، وعلى سمعهم فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به ، كما قال تعالى : ? إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ? .(1/45)
وقوله تعالى : ? وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ? . يقول تعالى : وعلى أبصارهم غطاء ، فلا يرون الحق ، ولهم عذاب عظيم في الآخرة ، فالختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر ، كما قال تعالى : ? أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ? ، وقال تعالى : ? وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ? ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه ، وإن زادت زاد حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي قال الله تعالى : ? كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ? » . رواه ابن جرير وغيره . وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) . قال مجاهد : الران أيسر من الطبع ، والطبع أيسر من الإِقفال ، والإِقفال أشد من ذلك كله .
قوله عز وجل : ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ (12) ? .(1/46)
هذه الآيات نزلت في المنافقين : عبد الله بن أبي ، وأصحابه وغيرهم ممن أظهر كلمة الإِسلام واعتقد خلافها . قال ابن كثير : النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر ، وهو أنواع : اعتقادي وهو : الذي يخلد صاحبه في النار ، وعملي وهو : من أكبر الذنوب . قال ابن جريج : المنافق يخالف قوله فعله ، وسره علانيته ، ومدخله مخرجه ، ومشهده مغيبه .
وقوله تعالى : ? وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ? كذبهم الله تعالى في قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، لأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، كما قال تعالى : ? إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ? .
وقوله تعالى : ? يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ? ، يقول تعالى : يخادعون الله والذين آمنوا بإظهار الإِيمان وإبطانهم الكفر ، ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كنفعهم عند بعض المؤمنين ، كما قال تعالى : ? يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ? .
وقوله تعالى : ? وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُم ? ، أي : لأن وبال خداعهم راجع عليهم ، بفضيحتهم في الدنيا وعقابهم في الآخرة ، ? وَمَا يَشْعُرُونَ ? ، أي : لا يدرون أنهم يخدعون أنفسهم ، وإن وبال خداعهم يعود عليهم .(1/47)
وقوله تعالى : ? فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ? ، يقول تعالى : ? فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ? ، أي : شك ونفاق ، ? فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً ? ، أي : شكًا ونفاقًا ، كما قال تعالى : ? وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ? .
وقوله تعالى : ? وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ? ، أي : ولهم عذاب مؤلم موجع ، يخلص حده إلى قلوبهم ، ? بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ? ، أي : بكذبهم في دعواهم الإِيمان بالله وباليوم الآخر .
وقوله تعالى : ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ ? ، يقول تعالى : وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض بالكفر وتعويق الناس عن الإِيمان ، ? قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ? ، أي : إنما نريد الإِصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب ، ? أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ ? بكونه فسادًا . قال أبو العالية : وكان فسادهم ذلك معصية الله ، لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض ، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة .(1/48)
قوله عز وجل : ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (16) ? .
يقول تعالى : ? وَإِذَا قِيلَ ? للمنافقين : آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به كما آمن الناس ، قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ يعنون أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ? أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء ? الجهال في الدين الضعفاء الرأي ، ? وَلَكِن لا يَعْلَمُونَ ? . ذلك .
وقوله تعالى : ? وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ? يقول تعالى : وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنون قالوا : آمنا كإيمانكم مصانعة وتقية ، وإذا خلوا انصرفوا ? إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ? رؤسائهم ، قالوا : ? إِنَّا مَعَكْمْ ? ، أي : على دينكم ? إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ? بمحمد وأصحابه نلعب بهم .
قوله تعالى : ? يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ? قال ابن عباس في قوله تعالى : ? اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ? قال : يسخر بهم للنقمة منهم . وقوله تعالى : ? وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ? ، أي : يملي لهم في ضلالتهم يترددون متحيرين .(1/49)
وقوله تعالى : ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ? قال ابن عباس : ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ? أخذوا الضلالة وتركوا الهدى . وقوله تعالى : ? فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ ? ، أي : ما ربحوا في تجارتهم لأنهم استبدلوا الكفر بالإيمان ، ? وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ? . قال قتادة : قد والله رأيتموهم ، من خرجوا من الهدى إلى الضلال ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى البدعة .
قوله عز وجل : ? مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) ? .
قال ابن عباس : نزلت في المنافقين ، يقول : مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارًا في ليلة مظلمة في مفازة ، فاستدفأ ورأى ما حوله ، فاتقى مما يخاف ، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره ، فبقي في ظلمة خائفًا متحيرًا ، فكذلك المنافقون بإظهار كلمة الإِيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم ، وناكحوا المؤمنين ، ووارثوهم ، وقاسموهم الغنائم ، فلذلك نورهم ، فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف .(1/50)
وقوله تعالى : ? صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ? ، أي : هم صم عن الحق لا يقبلونه ، بكم خرس عن الحق لا يقولونه ، عمي لا بصائر لهم ، فهم لا يرجعون عن الضلالة إلى الحق .
وقوله تعالى : ? أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لصنف آخر من المنافقين ، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون أخرى . والصيّب : المطر ، من صاب يصوب ، أي : نزل من السماء ، أي : من السحاب ، ? فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ? . قال ابن عباس : الرعد : اسم ملك يسوق السحاب ، والبرق : لمعان سوط من نور يزجر به الملك السحاب . وعن أبي كثير قال : كنت عند أبي الخلد إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب إليه ، فكتب إليه : كثيرًا تسألني عن الرعد ، فالرعد : الريح ، والبرق من الماء . قال السخاوي : إن سبب الرعد اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا ساقها الريح من الارتعاد . قال بعض المفسرين : وإن أطلق الرعد على الملك أيضًا فهو مشترك بين الصوت المذكور والملك الثابت في الأحاديث .
وقوله تعالى : ? يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ? مخافة الهلاك ؛ فهذا المثل ضربه الله للقرآن وصنيع المنافقين معه ، فإن من شأنهم الخوف الشديد والفزع ، كما قال تعالى : ? يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ? .
وقوله تعالى : ? واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ? ، أي : عالم بهم . قال مجاهد : يجمعهم فيعذبهم .(1/51)
وقوله تعالى : ? يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ ? ، أي : وقفوا . قال ابن عباس : أي : يعرفون الحق ويتكلمون به ، فهم من قولهم به على استقامة ، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا ، أي : متحيرين .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ? ، أي : لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة ، كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة ، ? إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? فصار الناس ثلاثة أقسام : مؤمنون ، وكفار ، ومنافقون ، وكل سيجازى بعمله . قال الله تعالى : ? مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ * يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ? ، وقال تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ(1/52)
سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? .
قال ابن مسعود : نورهم يسعى بين أيديهم على قدر أعمالهم ، يمرون على الصراط ، منهم مَنْ نورُه مثل الجبل ، ومنهم مَنْ نوُره مثل النخلة ، وأدناهم نورًا مَنْ نوُره في إبهامه يتّقد مرة ويُطفأ أخرى . قال ابن عباس : ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نورًا يوم القيامة ، فأما المنافق فيطفأ نوره ، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين ، فهم يقولون : ? رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الثالث(1/53)
? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ(1/54)
جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) ? .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22) ? .
يقول تعالى : يا أيها الناس وحدوا ربكم الذي خلقكم ، وخلق الذين من قبلكم ، لعلكم تتقون : لكي تنجوا من العذاب .
وقال بعض المفسرين : لعلكم تتقون : حال من الضمير في اعبدوا ؛ كأنه قال : اعبدوا ربكم راجين أن تدخلوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح ، المسترجين لجوار الله تعالى ، ولعل في الأصل للترجي ، وهي في كلام الله تعالى للتحقيق ، وقيل : لعل هنا للأطماع كقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? .
وقال ابن جرير : معنى ذلك : اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ؛ لتتقوه بطاعته ، وتوحيده ، وإفراده بالربوبية والعبادة . وقال ابن عباس : كل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناها التوحيد .
وقوله تعالى : ? الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22) ? .(1/55)
يقول تعالى : اعبدوا ربكم خالقكم ، وخالق من قبلكم ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً ، أي : بساطًا وَالسَّمَاء بِنَاء ، سَقْفاً مرفوعاً ، وأنزل من السماء ، أي : من السحاب ، ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم ، طعامًا لكم وعلفًا لدوابكم ، فلا تجعلوا لله أنداداً ، أي : أمثالاً تعبدونها كعبادة الله ، وأنتم تعلمون أنه واحد لا خالق معه . قال ابن عباس : فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون ، أي : لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر ، وأنتم تعملون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره ، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد ، هو الحق الذي لا شك فيه ؟
قال ابن كثير : الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة .
قوله عز وجل : ? وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) ? .(1/56)
يقول تعالى : وإن كنتم في ريب ، أي : شك مما نزلنا على عبدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فأتوا بسورة من مثله ، أي : مثل القرآن ، وادعوا شهداءكم واستعينوا بآلهتكم التي تعبدونها من دون الله إن كنتم صادقين أن محمداً تقوله من تلقاء نفسه . كما قال تعالى : ? أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ? ، وقال تعالى : ? قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ? ، وقال تعالى : ? أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? . ثم تحدّاهم بسورة واحدة فعجزوا .
وقوله تعالى : ? فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ? يقول تعالى : ? فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ? ، أي : فيما مضى ، ولن تفعلوا أبداً ، وهذه معجزة أخرى ، ? فَاتَّقُواْ النَّارَ ? ، أي : فآمنوا واتركوا المعاصي لتنجوا من النار ، ? الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ? . قال ابن عباس يعني : حجارة الكبريت ؛ لأنها أكثر التهاباً ، ? أُعِدَّتْ ? : هيئت ، ? لِلْكَافِرِينَ ? : الذين هم أهلها كما قال تعالى : ? وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ? ، وقال تعالى : ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ? وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعنا وجبة فقلنا : ما هذه ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة ، الآن وصل إلى قعرها » . رواه مسلم .(1/57)
قوله عز وجل : ? وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) ? .
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه الكافرين عطف بذكر حال أوليائه المؤمنين ، فقال تعالى : ? وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ ? بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، ? وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ? من الأفعال والأقوال . قال معاذ : العمل الصالح الذي فيه أربعة أشياء : العلم ، والنية ، والصبر ، والإخلاص ، ? أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ? جمع جنة والجنة البستان الذي فيه أشجار مثمرة ، ? تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? ، أي : من تحت أشجارها ، ومساكنها . وفي الحديث : « إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود » ، ? كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ? قال ابن عباس وغيره : إنهم أتوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل الدنيا . وقال عكرمة : معناه ، مثل الذي كان بالأمس . وقال مجاهد : يقولون : ما أشبهه به ، وأتوا به متشابهًا . قال ابن عباس وغيره : متشابهًا في الألوان مختلفًا في الطعوم . وقال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي . وقال يحيى بن أبي كثير : عشب الجنة الزعفران ، وكثبانها المسك ، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ، ثم يؤتون بمثلها فيقول لهم أهل الجنة : هذا الذي آتيتمونا آنفًا به ؟ فتقول لهم الولدان : كلوا ، فاللون واحد والطعم مختلف . وهو قول الله تعالى : ? وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ? .(1/58)
وقوله تعالى : ? وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ ? ، أي : من الحور والآدميات ? مُّطَهَّرَةٌ ? ، أي : من الغائط والبول ، والحيض والنفاس ، والبصاق والمخاط ، والمني والولد ، وكل قذر . قال الحسن : هنَّ عجائزكم الغمص العمش ، طهرن من قذرات الدنيا .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن أول زمرة تدخل الجنة يوم القيامة صورة وجوههم مثل صورة القمر ليلة البدر ، والزمرة الثانية على لون أحسن الكواكب في السماء لكل رجل منهم زوجتان ، على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ سوقهن دون لحومها ودمائها وحللها » .
وقوله تعالى : ? وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? ، أي : دائمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها : وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ألا هل من مشمر للجنة ؟ وأن الجنة لا خطر لها ، وهي ورب الكعبة نور يتلألأ ، وريحانه تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ،وحلل كثيرة ، ومقام أبد في دار سليمة ، وفاكهة وخضرة ، وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية » . قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها . قال : « قولوا إن شاء الله » . قال القوم : إن شاء الله .
قوله عز وجل : ? إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) ? .(1/59)
قال قتادة : إن الله لا يستحي من الحق أن يذكر شيئًا ما قل أو كثر ، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت ، قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله : ? إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ ? بمحمد والقرآن ، ? فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ? يعني المثل هو ? الْحَقُّ ? الصدق ? مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا ? ، أي : شيء ? أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا ? المثل ? مَثَلاً ? وعن ابن عباس وغيره : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى : ? مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ? ، وقوله : ? أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ? الآيات الثلاث ، قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال . فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى : ? هُمُ الْخَاسِرُونَ ? .(1/60)
وقوله تعالى : ? يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ? أجابهم الله في قولهم : ماذا أراد الله بهذا مثلاً ، فقال : يضل به كثيرًا من الكفار ، وذلك أنهم يكذبونه فيزدادون ضلالاً ، ويهدي به كثيرًا من المؤمنين ، فيصدقونه فيزيدهم هدى إلى هداهم ، وإيمانًا إلى إيمانهم : كما قال تعالى : ? وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ? وكذلك قال ها هنا : ? يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ? . قال ابن عباس : يعني : المنافقين .(1/61)
وقوله تعالى : ? الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ? هذا وصف من الله تعالى للفاسقين المذكورين ها هنا بأنهم الذين ينقضون، أي : يخالفون ويتركون عهد الله ، أمر الله الذي عهد إليهم في كتبه وعلى ألسنة رسله من بعد ميثاقه توكيده ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام وغيرها ، ويفسدون في الأرض بالكفر والظلم والمعاصي أولئك هم الخاسرون بأعياضهم الفساد عن الصلاح والعقاب عن الثواب . كما قال تعالى : ? أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ? .
قوله عز وجل : ? كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) ? .
يقول تعالى : كيف تكفرون بالله وتعبدون معه غيره ! وكنتم أمواتًا في أصلاب آبائكم ، فأحياكم ، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم ، ثم يحييكم للبعث ، ثم إليه ترجعون ، فيجازيكم بأعمالكم . وهذه الآية كقوله تعالى : ? قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ? . وكقوله تعالى: ? قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيبَ فِيهِ ? .(1/62)
وقوله تعالى : ? هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? يقول تعالى : هو الله ربكم الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ؛ لكي تنتفعوا ، فاعبدوه وحده لا شريك له . كما قال تعالى : ? وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ? .
وقوله تعالى : ? ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ? قال ابن عباس وغيره : أي ارتفع ، ? فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ? : خلقهن مستويات لا فطور فيها ، ولا صدوع ، ? وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? ، فإن بالعلم يصح الخلق ، ويحكم الفعل .
قال البغوي : قرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وقالون ، ( وهو ، وهي ) بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء : واوٌ ، أو فاء ، أو لام . زاد الكسائي وقالون : ( ثم هو ) . وقالون : ( أن يملَّ هو ) .(1/63)
وهذه الآية كقوله تعالى : ? قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ? ، وقال مجاهد في قوله تعالى : ? هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ? قال : خلق الله الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فلذلك حين يقول : ? ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ ? ? فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ? قال : بعضهن فوق بعض ، وسبع أرضين ، يعني : بعضها تحت بعض . والله أعلم .
* * *
الدرس الرابع(1/64)
? وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) ? .
* * *(1/65)
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) ? .
يقول تعالى : واذكر يا محمد : ? وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ? ، أي : قومًا يخلف بعضهم بعضًا ، كما قال تعالى : ? وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ ? . ? قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ? ، كما فعل الجن ؟ ? وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ? ، أي : نثني عليك وننزهك عما لا يليق بعظمتك وجلالك .
? قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ? . قال قتادة : فكان في علم الله ، أنه سيكون في تلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة . وقال ابن عباس : إن أول من سكن الأرض الجن ، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضًا ، قال : فبعث الله إليهم إبليس ، فقتلهم إبليس ومن معه ، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ، ثم خلق آدم فأسكنه إياها ، فلذلك قال : ? إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ? . وقال عبد الله بن عمر : وكان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة ، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فيها ، فبعث الله جندًا من الملائكة ، فضربوهم حتى ألحقوا بجزائر البحور ، فقال الله للملائكة : ? إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ? ، ? قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ? . وقال ابن عباس : يقول : إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره .(1/66)
قوله عز وجل : ? وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) ? .
قال ابن عباس : ? وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ? ، قال : علمه أسماء ولده إنسانًا ، إنسانًا ، والدواب ، فقيل : هذا الحمار ، هذا الجمل ، هذا الفرس .
وقال أيضًا : هي هذه الأسماء التي يتعارف الناس بها : إنسان ، ودواب ، وسماء ، وأرض ، وسهل ، وبحر ، وخيل ، وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم ، وغيرها . وقوله تعالى : ? ثُمَّ عَرَضَهُمْ ? ، أي : المسميات ، ? عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي ? أخبروني ، ? بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? أني لا أخلق خلقًا إلا وكنتم أفضل وأعلم منه ، ? قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ ? بخلقك ، ? الْحَكِيمُ ? في أمرك ، ? قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ ? فسمى آدم كل شيء ، ? فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ ? ، قال الله تعالى : ? أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? الظاهر والخفي ما كان وما يكون كما قال تعالى : ? وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ? .(1/67)
? وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ? . قال ابن عباس : مرَّ إبليس على جسد آدم وهو ملقى بين مكة والطائف لا روح فيه ، فقال : لأمر ما خلق هذا ! ثم دخل في فيه وخرج من دبره ، وقال : إنه خلق لا يتماسك ؛ لأنه أجوف . ثم قال للملائكة الذين معه : أرأيتم إن فضِّل هذا عليكم ، وأمرتم بطاعته ، ماذا تصنعون ؟ قالوا : نطيع أمر ربنا . فقال إبليس في نفسه : والله لئن سلطت عليه لأهلكته ، ولئن سلط عليّ لأعينه ، فقال الله تعالى : ? وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ? ، يعني : ما يبديه الملائكة من الطاعة ? وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ? يعني : ما يكتمه إبليس من المعصية .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) ? .
هذه كرامة عظيمة أيضًا لآدم وذريته ، حيث أمر الله الملائكة أن يسجدوا له ، فقال : ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ ? ، أي : سجود تعظيم وتحية ، كما سجد إخوة يوسف له ، لا سجود عبادة ، وقد كانت الأمم السالفة تفعل ذلك بدل التسليم ، وحرّم ذلك في شريعتنا فسجدوا طاعة لله ، وتعظيمًا لآدم ، إلا إبليس أبى واستكبر عن السجود لآدم وكان من الكافرين في سابق علم الله . قال قتادة : حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله من الكرامة ، وقال : أنا ناري وهذا طيني . وكان بدء الذنوب الكِبْر . استكبروا عدو الله أن يسجد لآدم عليه السلام .
قوله عز وجل : ? وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35) ? .(1/68)
قال ابن إسحاق : لما فرغ الله من معاتبة إبليس أقبل على آدم وعلمه الأسماء كلها ، فقال : ? يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ ? إلى قوله : ? إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ? . قال : ثم أُلقيت السِّنة على آدم - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة ، وغيرهم من أهل العلم ، عن ابن عباس وغيره - ثم أخذ ضلعًا من أضلاعه من شقه الأيسر ، ولأم مكانه لحمًا ، وآدم نائم لم يهبّ من نومه ، حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء ، فسواها امرأة ليسكن إليها ، فلما كُشف عنه السِّنة ، وهبّ من نومه رآها امرأة إلى جنبه ، فقال - فيما يزعمون ، والله أعلم - : لحمي ودمي وزوجتي . فسكن إليها ، فلما زوّجه الله وجعل له سكنًا من نفسه ، قال له قبيلاً : ? اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ? . انتهى .
وقوله تعالى : ? وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً ? ، أي : واسعًا كثيرًا ? حَيْثُ شِئْتُمَا ? كيف شئتما ، ومتى شئتما ، وأين شئتما ، ? وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ? أنفسكما بالمعصية .
قوله عز وجل : ? فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) ? .(1/69)
قال البغوي : ? فَأَزَلَّهُمَا ? استزل الشيطان آدم وحواء ، أي : دعاهما إلى الزلة ، وقوله تعالى : ? عَنْهَا ? أي : عن الجنة ? فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ? أي : من اللباس ، والمنزل الرحب ، والرزق الهني ، والراحة ، وعن أبيّ بن كعب مرفوعًا : « إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق ، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه ، فأول ما بدا منه عورته ، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة ، فأخذت شعره شجرة فنازعها ، فناداه الرحمن : يا آدم مني تفر ؟ فلما سمع كلام الرحمن قال : يا رب لا ، ولكن استحياء » .
وفي رواية : « لما ذاق آدم من الشجرة فرّ هاربًا ، فتعلقت شجرة بشعره ، فنودي : يا آدم أفرارًا مني ؟ قال : بل حياء منك . قال : يا آدم اخرج من جواري ، فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني ، ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقًا ، ثم عصوني لأسكننهم دار العاصين » . رواه ابن أبي حاتم .
? وَقُلْنَا اهْبِطُواْ ? : انزلوا إلى الأرض ? بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ? .(1/70)
قال البغوي : أراد العداوة التي بين ذرية آدم ، والحية ، وبين المؤمنين من ذرية آدم ، وبين إبليس ، قال الله تعالى : ? إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ? ، وقال السدي : قال الله تعالى : ? اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً ? فهبطوا ونزل آدم بالهند ، ونزل معه الحجر الأسود ، وقبضة من ورق الجنة ، فبثه بالهند فنبتت شجرة الطيب ، فإنما أصل ما يجاء به من الطيب من الهند من قبضة الورق التي هبط بها آدم ، وإنما قبضها أسفًا على الجنة حين أخرج منها . وعن الحسن البصري قال : أهبط آدم بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال ، وأهبطت الحية بأصبهان ، وعن أبي موسى قال : إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض ، علمه صنعة كل شيء ، وزوّده من أثمار الجنة ، فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير ، وتلك لا تتغير . وروى مسلم ، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة . فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها » .
قال بعض العارفين : كنا قومًا من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا ، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها ، وقال الشاعر :
يا ناظرًا يرنو بعيني راقد ( ... ومشاهدًا للأمر غير مشاهد (
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ( ... درج الجنان ونيل فوز العابد (
أنسيت ربك حين أخرج آدمًا ( ... منها إلى الدنيا بذنب واحد (
وقال بعضهم :
ولكننا سبي العدو فهل ترى ( ... نعود إلى أوطاننا ونسلم (
وقوله تعالى : ? وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ? : مواضع قرار ، ومتاع بلغة مستمتع ? إِلَى حِينٍ ? إلى انقضاء آجالكم .
قوله عز وجل : ? فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) ? .(1/71)
قال سعيد بن جيبر وغيره : الكلمات هي قوله : ? رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? ، وقال مجاهد عن عبيد ابن عمير أنه قال : قال آدم : يا رب ، خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته علي قبل أن تخلقني ؟ أو شيء ابتدعته من قبل نفسي ؟ قال : بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك . قال : فكما كتبته عليّ فاغفر لي . قال : فذلك قوله تعالى : ? فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ? ، وعن ابن عباس : ? فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ? . قال : قال آدم عليه السلام : يا رب ألم تخلقني بيدك ؟ قال له : بلى ونفخت فيّ من روحك ؟ قيل له : بلى . قال : أرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة ؟ قال : نعم .
وقوله تعالى : ? فَتَابَ عَلَيْهِ ? تجاوز عنه ، ? إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ ? على عباده ، ? الرَّحِيمُ ? بخلقه . كما قال تعالى : ? وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ? ، وقال تعالى : ? وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ? .
قوله عز وجل : ? قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) ? .(1/72)
قال ابن كثير : يقول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة ، والمراد الذرية : أنه سينزل الكتب ، ويبعث الأنبياء والرسل ؛ كما قال أبو العالية : الهُدَى الأنبياء والرسل والبينات ، والبيان . ? فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ? ، من أقبل على ما أنزلت به الكتب ، وأرسلت به الرسل ? فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ? أي : فيما يستقبلونه من أمر الآخرة ، ? وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ? على ما فاتهم من أمور الدنيا .
وقوله تعالى : ? وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ? يوم القيامة ، ? هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? لا يخرجون منها ، ولا يموتون ، فيها فنعوذ بالله من حالهم .
* * *
الدرس الخامس
? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) ? .
* * *(1/73)
قوله عز وجل : ? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ? .
يقول تعالى آمرًا بني إسرائيل بالدخول في الإِسلام ومتابعة محمد - صلى الله عليه وسلم - : يا بني إسرائيل ، يا أولاد يعقوب ، اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم على أجدادكم وأسلافكم ، وقال الحسن : ذكر النعمة شكرها ، وقال قتادة : هي النعم التي خصت بها بنو إسرائيل : فلق البحر ، وإنجاؤهم من فرعون بإغراقه ، وتظليل الغمام عليهم في التيه ، وإنزال المن والسلوى ، وإنزال التوراة في نعم كثيرة لا تحصى ? وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي ? بامتثال أمري ? أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ? بالقبول والثواب ، وقال أبو العالية : ? وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي ? قال : عهده إلى عباده دين الإِسلام ، وأن يتبعوه ، وقال الضحاك ، عن ابن عباس : ? أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ? قال : أرضَى عنكم ، وأدخلكم الجنة .(1/74)
وقوله تعالى : ? وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ? أي : خافون ، قال ابن عباس : في قوله تعالى : ? وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ? ، أي : أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره ، وقوله تعالى : ? وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ? . يقول تعالى : ? وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ ? يعني : القرآن . ? مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ ? ، أي : موافقاً لما معكم من التوراة في التوحيد ، والنبوة والأخبار ، ونعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا تكونوا أول كافر به ، أي : القرآن فتتابعكم اليهود على ذلك ، قال أبو العالية : يقول : ولا تكونوا أول من كفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، يعني : من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه ؟
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ? ، يقول : ولا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها ؛ فإنها قليلة فانية ، قال البغوي : وذلك أن رؤساء اليهود وعلماءهم كانت لهم مأكلة يصيبونها من سفلتهم وجهالهم ، يأخذون كل عام منهم شيئًا معلومًا من ذروعهم وضروعهم ونقودهم ، فخافوا إن هم بينوا صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وتابعوه أن تفوتهم تلك المأكلة ، فغيّروا نعته وكتموا اسمه فاختاروا الدنيا على الآخرة .
وقوله تعالى : ? وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ? ، أي : فاخشون ، لا فوات الرياسة ، قال طلق بن حبيب : التقوى : أن تعمل بطاعة الله ، رجاء رحمة الله ، على نور من الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله ، تخاف عقاب الله .(1/75)
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ? ، يقول تعالى : ? وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ? ، أي : لا تخلطوا الحق بالباطل ، والصدق بالكذب ، وتكتموا الحق وأنتم تعملون ، قال مقاتل : إن اليهود أقروا ببعض صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وكتموا بعضها ليصدقوا في ذلك .
قوله تعالى : ? وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ? قال البغوي : ? وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ? ، يعني : الصلوات الخمس بمواقيتها ، وحدودها : ? وَآتُواْ الزَّكَاةَ ? ، وأدوا زكاة أموالكم المفروضة ? وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ? ، أي : صلوا مع المصلين محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وذكرها بلفظ الركوع لأن الركوع ركن من أركان الصلاة ، قال ابن كثير : وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة .
قوله عز وجل : ? أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) ? .(1/76)
قال قتادة : كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ، ويخالفون فعيّرهم الله عز وجل ، وقال ابن عباس : يقول : أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وغير ذلك مما أمرتم به وتنسون أنفسكم ؟ أي : تتركون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ؟ ? أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ? ، وهذا كما قال شعيب عليه السلام : ? وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ? ، وفي الحديث : « مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه » .
وفي الحديث الآخر : « مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، قال : قلت : من هؤلاء ؟ قالوا : خطباء أمتك من أهل الدنيا ، ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، وهم يتلون الكتاب ، أفلا يعقلون » ؟ . رواه أحمد وغيره ، وعن أسامة ابن زيد رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه ، فيجتمع أهل النار عليه ، فيقولون : أي : فلان ما شأنك ؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه » . رواه البخاري ، ومسلم ، وغيرهما .
وقوله تعالى : ? وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ ? ، يقول تعالى : واستعينوا على أمور دينكم ودنياكم بالصبر والصلاة . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الصبر صبران : صبر عند المصيبة حسن ، وأحسن منه الصبر عن محارم الله .(1/77)
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر صلى ) . رواه أبو داود . وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أنه نُعي إليه أخوه قثم وهو في سفر ، فاسترجع ، ثم تنحى عن الطريق ، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما السجود ، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : ? وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ ? ، وقال ابن جريج : ? وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ? ، قال : إنهما معينتان على رحمة الله . وقوله تعالى : ? وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ? ، أي : ثقيلة ، ? إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ ? ، أي : المتواضعين ، قال مجاهد : المؤمنين حقاً .
وقوله تعالى : ? الَّذِينَ يَظُنُّونَ ? يستيقنون ? أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ ? : محشورون إليه يوم القيامة ، معروضون عليه ، ? وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ? فيجزيهم بأعمالهم ؛ والظن من الأضداد ، يكون شكاً ، ويكون يقيناً ، كما قال تعالى : ? وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً ? ، قال مجاهد : كل ظن في القرآن يقين ، أي : ظننت ، وظنوا ، يعني قوله تعالى : ? إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ ? ، ? وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا ? ونحو ذلك ، وفي الصحيح : « أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى . فيقول الله تعالى : أظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا ، فيقول الله تعالى : اليوم أنساك كما نسيتني » . والله أعلم .
* * *
الدرس السادس(1/78)
? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُواْ يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) ? .
* * *(1/79)
قوله عز وجل : ? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُواْ يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (48) ? .
يُذكِّر تعالى بني إسرائيل بنعمه على آبائهم ، وما كان فضلهم به على سائر الأمم من أهل زمانهم ، من إرسال الرسل منهم ، وإنزال الكتب عليهم ، كما قال تعالى : ? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ ? . والمراد بقوله تعالى : ? وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ? أي : عالمي زمانهم ، فإن هذه الأمة أفضل منهم ، كما قال تعالى : ? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ? ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « أنتم توفون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله » . رواه أهل السنن . وقد قال الله تعالى : ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ? .(1/80)
وقوله تعالى : ? وَاتَّقُواْ يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ? : يقول تعالى : ? وَاتَّقُواْ يَوْماً ? ، أي : اخشوا عقاب يوم ? لا تَجْزِي ? لا تقضي نفس عن نفس شيئاً ، حقاً لزمها ، ولا ينفع فيه أحدٌ أحداً ، كما قال تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ? ، وقال تعالى : ? وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ? .
وقوله تعالى : ? وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ? ، يعني : من الكافرين ، فلا يقبل من كافر شفاعة ، ولا تقبل فيه شفاعة ، قال تعالى : ? فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ? . وقوله تعالى : ? وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ? ، أي : فداء ، كما قال تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? . وقوله تعالى : ? وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ? ، أي : لا ناصر لهم ولا مانع يمنعهم من عذاب الله .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) ? .(1/81)
يقول تعالى : واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم ، أي : أسلافكم وأجدادكم ، لأنهم نجوا بنجاتهم من آل فرعون أتباعه وأهل دينه . ? يَسُومُونَكُمْ ? يكلفونكم ويذيقونكم ? سُوَءَ الْعَذَابِ ? أشد العذاب وأسوأه ، ? يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ? . قال ابن إسحاق :كان فرعون يعذب بني إسرائيل فيجعلهم خدماً وخولاً ، وصنفهم في أعماله : فصنف يبنون وصنف يزرعون له فهم في أعماله ، ومن لم يكن منهم في صنعة من عمله فعليه الجزية فسامهم ، كما قال الله عز وجل : ? سُوَءَ الْعَذَابِ ? . وقال : الذي جعلهم في الأعمال القذرة وجعل يقتل أبناءهم ، ويستحي نساءهم .
وقال ابن عباس : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله ، أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً ، وائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولوداً ذكر إلا ذبحوه ، ففعلوا ، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، وأن الصغار يذبحون ، قال : توشكون أن تفنوا بني إسرائيل ، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر ، فتقتل أبناؤهم ، ودعوا عاماً ، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية ، حتى إذا كان القابل حملت بموسى .
وقوله تعالى : ? وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ? ، أي : نعمة عظيمة ، حيث أنجاكم منهم . وأصل البلاء الاختبار ، وقد يكون بالخير والشر ، كما قال تعالى : ? وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ? وقال تعالى : ? وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ? .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (50) ? .(1/82)
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم يا بني إسرائيل إذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم من آل فرعون ومن الغرق ، وأغرقنا آل فرعون ? وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ? ليكون ذلك أشفى لصدوركم ، وأبلغ في إهانة عدوكم . قال تعالى : ? وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً ? .
قال عمرو بن ميمون : فلما أتى موسى البحر ، قال له رجل من أصحابه ، يقال له يوشع بن نون : أين أمر ربك ؟ قال : أمامك يشير إلى البحر ، فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر ، فذهب به الغمر ، ثم رجع ، فقال : أين أمر ربك يا موسى ؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت ، فعل ذلك ثلاث مرات . ثم أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق ، فكان كل فرق كالطود العظيم يقول : مثل الجبل ثم سار موسى ومن معه ، وأتبعهم فرعون في طريقهم ، حتى إذا تتاموا فيه ، أطبقه الله عليهم ، فلذلك قال : ? وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ? .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) ? .
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم ، في عفوي عنكم ، لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه ، عند انقضاء أمد المواعدة ، وكان ذلك بعد إنجائهم من البحر .
وقوله : ? لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ? ، أي : لكي تشكروا عفوي عنكم وصنيعي إليكم .(1/83)
وقوله تعالى : ? وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ? الكتاب : هو التوراة ، والفرقان : ما يفرق بين الحق والباطل . قال أبو العالية قوله : ? وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ? ، قال : يعني : ذا القعدة وعشراً من ذي الحجة ، وذلك حين خلف موسى أصحابه ، واستخلف عليهم هارون ، فمكث على الطور أربعين ليلة ، وأنزل عليه التوراة في الألواح ، وكانت الألواح من برد ، فقرّبه الرب إليه نجياً ، وكلمه وسمع صرير القلم . وبلغنا أنه لم يُحْدث حدثاً في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) ? .
يقول تعالى : ? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ? : الذين عبدوا العجل ? يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ? إلهاً ? فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ ? : خالقكم . قالوا : كيف نتوب ؟ قال : ? فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ? . قال ابن عباس : أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل ، أن يقتلوا أنفسهم ، قال : وأخبر الذين عبدوا العجل ، فجلسوا وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم ، وأصابتهم ظلمة شديدة ، فجعل يقتل بعضهم بعضاً ، فانجلت الظلمة عنهم ، وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل كل من قتل منهم كانت له توبة وكل من بقي كانت له توبة . وقال قتادة : أمر القوم بتشديد من الأمر ، فقاموا يتناحرون بالشفار ، يقتل بعضهم بعضاً حتى بلغ الله فيهم نعمته فسقطت الشفار من أيديهم ، فأمسك الله عنهم القتل ، فجعل لحيهم توبة ، وللمقتول شهادة .(1/84)
وقوله تعالى : ? فَتَابَ عَلَيْكُمْ ? تجاوز عنكم ? إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ ? : القابل التوبة ? الرَّحِيمُ ? : بعبادة المؤمنين .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) ? .
يقول تعالى :? وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ? لن نقرُّ لك ?حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ? : عيانًا . قال ابن عباس : علانية . وقال الربيع بن أنس : هم السبعون الذين اختارهم موسى ، فساروا معه ، قال : فسمعوا كلاماً ، فقالوا : ? لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ? ، قال : فسمعوا صوتاً ، فصعقوا ، يقول : ماتوا . قال السدي : فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : ربي ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم ، وقد أهلكت خيارهم ؟ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا . فأوحى الله إلى موسى : أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل ، ثم إنه أحياهم فقاموا وعاشوا رجلاً رجلاً ، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون ، فذلك قوله تعالى : ? ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ? .
قوله عز وجل : ? وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) ? .(1/85)
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم ، شرع يذكرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم ، فقال : ? وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ? ، أي : السحاب ، في التيه يقيكم حر الشمس ، ? وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ? ، قال ابن عباس : كان المن ينزل عليهم على الأشجار ، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا . وقال الشعبي : عسلكم هذا جزء من سبعين جزءاً من المن . وفي الحديث الصحيح : « الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين ». وقال ابن عباس : السلوى طائر يشبه السمّان . وقوله تعالى : ? كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ? واشكرون ولا تكفرون فخالفوا فحل بهم عقابه . ? وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ? ، كما قال تعالى : ? كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ? .
* * *
الدرس السابع(1/86)
? وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ(1/87)
وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (66) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (59)?.
قال ابن كثير : يقول تعالى لائماً لهم على نكولهم عن الجهاد ، ودخولهم الأرض المقدسة ، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام ، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل ، وقتال من فيها من العماليق الكفرة ، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا ، واستحسروا ، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم ، كما ذكره تعالى في سورة المائدة . ولهذا كان أصح القولين : أن هذه البلدة هي بيت المقدس .
وقوله تعالى : ? فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً ? ، أي : هنيئاً واسعاً . ? وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً ? : شكرًا لله تعالى . قال ابن عباس في قوله : ? وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً ? قال : ركعاً من باب صغير . وقال مجاهد : وهو باب الحطة ، من باب إيلياء بيت المقدس .
? وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ? قال ابن عباس : مغفرة ، استغفروا . وقال قتادة : حطّ عنا خطايانا ، أمروا بالاستغفار . ? وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ? ثواباً من فضلنا .(1/88)
وقوله تعالى : ? فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ? روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجدًا ، وقولوا حطة ، فدخلوا يزحفون على أستاههم ، وقالوا : حبة في شعيرة » . أخرجه البخاري وغيره ، وفي حديث البراء : « قيل لهم : ادخلوا الباب سجداً ، قال : ركعاً وقولوا : حطة ، أي : مغفرة فدخلوا على أستاههم وجعلوا يقولون : حنطة حمراء وفيها شعيرة . فأنزل الله : ? فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم ? » .
وقال البغوي : وذلك أنهم بدلوا قول : الحطة بالحنطة ، فقالوا بلسانهم : حطاناً سمقاناً ، أي : حنطة حمراء ، استخفافاً بأمر الله تعالى . وقوله تعالى : ? فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ? ، أي : يعصون ويخرجون عن أمر الله . قال ابن عباس : كل شيء في كتاب الله من الرجز ، يعني به : العذاب . وقال سعيد بن جبير : هو الطاعون .
قوله عز وجل : ? وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) ? .
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم ، إذ استسقى موسى ، أي : طلب السقيل لقومه حين عطشوا في التيه ? فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ? ، قال ابن عباس : وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع ، وأمر موسى عليه السلام ، فضربه بعصاه ، ? فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ? ، في كل ناحية منه ثلاث عيون ، وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها ، لا يرتحلون من منقله إلا وجدوا ذلك معهم .(1/89)
وقوله تعالى : ? كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ ? ، أي : كلوا من المن والسلوى ، واشربوا من الماء ، فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة .
? وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ? ، العثي : أشد الفساد . قال السدي : لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام : كيف لنا بما ها هنا ، أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن ، فكان ينزل على شجر الزنجبيل . والسلوى وهو : طائر يشبه السمّان أكبر منه ، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير ، فإن كان سمينًا ذبحه وإلا أرسله ، فإذا سمن أتاه ، فقالوا هذا الطعام فأين الشراب ؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر ? فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ? فشرب كل سبط من عين ، فقالوا : هذا الشراب فأين الظل ؟ فظلل عليهم الغمام ، فقالوا : هذا الظل فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ، ولا يتخرق لهم ثوب ، فلذلك قوله تعالى : ? وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ? ، وقوله : ? وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ? .(1/90)
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (61) ? .
يقول تعالى : واذكروا إذا قلتم : ? يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ ? ، أي : مأكل واحد لا يتبدل : ? فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ? .
اختلف المفسرون في قوله تعالى : ? وَفُومِهَا ? فقيل : الثوم ، وقيل : الحنطة ، وقيل : كل حب يختبز ، وقيل : الحبوب التي تؤكل كلها فوم ، والله أعلم .
قال لهم موسى عليه السلام : ? أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى ? : أحسن ، وأراد ? بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ? : أشرف وأفضل ? اهْبِطُواْ مِصْراً ? من الأمصار ، ? فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ? : فأيّ بلد دخلتموها وجدتم ذلك فيها .(1/91)
وقوله تعالى : ? وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ? يقول تعالى : ? وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ? ، أي : وضعت عليهم وألزموها شرعًا وقدرًا ، أي : لا يزالون مستذلين ، من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الجزية .
وقوله تعالى : ? وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ? ، قال أبو عبيدة : واحتملوا وأقروا به . وقال الضحاك : استحقوا الغضب من الله .
? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ? ، أي : فيجاوزون أمر الله ويرتكبون محارمه ، فغضب الله عليهم .
قوله : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) ? .
يخبر تعالى أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع ، فإن الله لا يضيع عمله ، كما في حديث سلمان . سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أهل دين كنت معهم ، فذكرت في صلاتهم وعبادتهم ، فنزلت : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ? الآية . رواه ابن أبي حاتم . قال مجاهد : الصَّابِئِونَ قوم بين المجوس واليهود والنصارى ، ليس لهم دين . وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال : الذي يعرف الله وحده ، وليست له شريعة يعمل بها ، ولم يحدث كفرًا .(1/92)
وقال السدي : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً ? ، الآية ، نزلت في أصحاب سلمان الفارسي : ( بينما هو يحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إذ ذكر أصحابه ، فأخبره خبرهم ، فقال : كانوا يصلّون ويصومون ، ويؤمنون بك ، ويشهدون أنك ستبعث نبيًا ، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم ، قال له نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : « يا سلمان هم من أهل النار » . فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية ) .
فكان إيمان اليهود ، أنه من تمسك بالتوراة وسنَّة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى ، فلما جاء عيسى ، كان من تمسك بالتوراة ، وأخذ بسنَّة موسى فلم يدعها ، ولم يتبع عيسى ، كان هالكًا وإيمان النصارى ، أن من تمسك بالإِنجيل منهم وشرائع عيسى عليه السلام ، كان مؤمنًا مقبولاً منه ، حتى جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فمن لم يتبع محمدًا - صلى الله عليه وسلم - منهم ، ويدع ما كان عليه من سنَّة عيسى والإِنجيل كان هالكًا ، عن ابن عباس : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ? ، الآية ، قال : فأنزل الله بعد ذلك : ? وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? .(1/93)
وقوله تعالى : ? وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ? ، أي : لا خوف عليهم فيما يستقبلونه ، ولا هم يحزنون على ما يتركونه ، كما قال تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ? .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (64) ? .
يقول تعالى : واذكروا يا معشر يهود ، إذ أخذنا ميثاقكم : عهدكم ، ? وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ? : الجبل ، ? خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ? : بجد ومواظبة ، ? وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ ? : ادرسوا واعملوا به ? لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? لكي تنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة كما قال تعالى ? وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? . قال السدي : فلما أبوا أن يسجدوا ، أم الله الجبل أن يقع عليهم ، فنظروا إليه وقد غشيهم ، فسقطوا سجدًا ، فسجدوا على شق ونظروا بالشق الآخر ، فرحمهم الله ، فكشف عنهم ، فقالوا : والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم فهم يسجدون كذلك وذلك قول الله تعالى : ? وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ?.(1/94)
وقال ابن عباس : ثم سار بهم موسى عليه السلام إلى الأرض المقدسة وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب ، وأمرهم بالذي أمر الله أن يبلغهم من الوظائف ، فثقلت عليهم وأبوا أن يقرّوا بها ، حتى نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة ، قال : رفعته الملائكة فوق رؤوسهم .
وقوله تعالى : ? ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ? : أعرضتم من بعد ما قبلتم التوراة ، ? فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ? : بتأخير العذاب عنكم ، وإرسال النبيين إليكم ، ? َكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ? بتعجيل عقوبتكم على نقضكم الميثاق .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (66) ? .
يقول تعالى : ? وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ? يا معشر اليهود ? وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ ? حين عصوا أمر الله ، فمسخهم وأخزاهم .
قال البغوي : كانوا في زمن داود عليه السلام بأرض يقال لها أيلة .(1/95)
قال ابن كثير : يقول تعالى : ? وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ? يا معشر اليهود ما حل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله ، وخالفوا عهده وميثاقه ، فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت ، والقيام بأمره ، إذ كان مشروعًا لهم ، فتحيّلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت ، بما وضعوا لها من الحبائل والبرك ، قبل يوم السبت ، على عادتها في الكثرة ، فنشبت بتلك الحبائل والحيل ، فلم تخلص منها يومها ذلك ، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة ، وهي أشبه شيء بالأناسيّ ، في الشكل الظاهر ، وليست بإنسان حقيقة ، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم ، لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ، ومخالفة له في الباطن ، كان جزاؤهم من جنس عملهم . وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف ، حيث يقول تعالى : ? واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ? . القصة بكمالها .
وقوله تعالى : ? فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ? . قال ابن عباس : يعني : جَعَلْنَاهَا بما أحللنا بها من العقوبة ، عبرة لما حولها من القرى ، كما قال تعالى : ? وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ? .
وقوله تعالى : ? وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ? ، أي : الذين من بعدهم إلى يوم القيامة . والله المستعان .
* * *
الدرس الثامن(1/96)
? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ (68) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) ? .(1/97)
يقول تعالى : واذكروا : إذ قال موسى لقومه إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة ، قال أبو العالية : كان رجل من بني إسرائيل ، وكان غنيًا ، ولم يكن له ولد ، وكان له قريب ، وكان وارثه ، فقتله ليرثه ، ثم ألقاه على مجمع الطريق ، وأتى موسى عليه السلام ، فقال له : إنه قريبي قتل ، وإني إلى أمر عظيم ، وإني لا أجد أحدًا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله . قال : فنادى موسى في الناس ، فقال : أنشد الله ، من كان عنده من هذا علم إلا يبيّنه لنا . فلم يكن عندهم علم ، فأقبل القاتل على موسى عليه السلام ، فقال له : أنت نبي الله ، فسل لنا ربك أن يبيّن لنا . فسأل ربه ، فأوحى الله : ? إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ? فعجبوا من ذلك ، فقالوا : ? أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ? ؟ ? قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ ? ، يعني : لا هرمة ? وَلاَ بِكْرٌ ? ، يعني : ولا صغيرة ? عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ? أي : نَصَفٌ بين البكر والهرمة . ? فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا ? ، أي : صاف لونها ، ? تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ? ، أي : تعجب الناظرين . ? قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ ? ، أي : لم يذللها العمل . ? وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ ? ، يعني : وليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ، يعني : ولا تعمل في الحرث . ? مُسَلَّمَةٌ ? ، يعني : مسلمة من العيوب . ? لا شِيَةَ فِيهَا ? يقول : لا بياض فيها .(1/98)
? قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ? . قال : ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة ، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها ، لكانت إياها ، ولكن شددوا على أنفسهم ، فشدد الله عليهم ، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا : ? وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ? ، لما هُدوا إليها أبدًا ، فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم ، إلا عند عجوز ، وعندها يتامى وهي القيّمة عليهم ، فلما علمت أنه لا يزكوا لهم غيرها ، أضعفت عليهم الثمن ، فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة ، وأنها سألت أضعاف ثمنها ، فقال موسى : إن الله قد خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها ، ففعلوا ، واشتروها ، فذبحوها ، فأمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظمًا منها فيضربوا به القتيل ، ففعلوا ، فرجع إليه روحه ، فسمى لهم قاتله ، ثم عاد ميتًا كما كان ، فأخذ قاتله ، وهو الذي كان أتى موسى عليه السلام فشكا إليه فقتله الله على أسوأ عمله .
قوله عز وجل : ? قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ (68) ? .
يسألوه عن سنها فأخبرهم أنها نَصَفٌ بين الصغيرة والهرمة .
قوله عز وجل : ? قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) ? .
قال ابن عباس : ? فَاقِعٌ لَّوْنُهَا ? شديد الصفرة تكاد من صفرتها تَبْيَضُّ .(1/99)
قوله عز وجل : ? قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71) ? .
قال مجاهد : لا شية فيها : لا بياض ولا سواد . وقوله تعالى : ? وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ? . قال ابن عباس : كادوا ألا يفعلوا ، ولم يكن ذلك الذي أرادوا ، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ? .
قال مجاهد : ? فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ? اختلفتم . وقال ابن جريج : قال بعضهم : أنتم قتلتموه . وقال آخرون : بل أنتم قتلتموه . وقوله تعالى : ? وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ? ، عن المسيب بن رافع ، قال : ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وتصديق ذلك في كلام الله : ? وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ? .
وقوله تعالى : ? فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ? ، أي : فضربوه فحيى ، وقال : قتلني فلان ثم مات . وفي ذلك دليل على كمال قدرته ، قال الله تعالى : ? مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ? .(1/100)
قوله عز وجل : ? ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) ? .
يقول تعالى : ? ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ? كله ، ? فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ ? التي لما تلين أبدًا ، ? أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ? أي : بل هي أشد قسوة من الحجارة .
? وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء ? وإن لم يكن جاريًا ، ? وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ ? ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله ، ? مِنْ خَشْيَةِ ? وقلوبكم لا تلين ولا تخشع .
وقوله تعالى : ? وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ? ، وعيد وتهديد . وقد قال الله تعالى : ? أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ? . وروى البزار عن أنس مرفوعًا : « أربع من الشقاء : جمود العين ، وقساوة القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا » . والله المستعان .
* * *
الدرس التاسع(1/101)
? أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلا اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ(1/102)
أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (86) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) ? .
يقول تعالى : ? أَفَتَطْمَعُونَ ? أيها المؤمنون ، ? أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ? يصدقوكم ويطيعوكم ، ? وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ? أنهم كاذبون ، ومع هذا يخالفونه عمدًا ، كما قال تعالى : ? فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ? . قال ابن عباس : ? وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ? هم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة . وقال السدي : هي التوراة حرّفوها .
قال ابن كثير : وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس .(1/103)
وقال ابن زيد : ? يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ? . قال التوراة التي أنزلها الله عليهم ، يحرفونها ، يجعلون الحلال فيها حرامًا ، والحرام فيها حلالاً ، والحق فيها باطلاً ، والباطل فيها حقًا ؛ إذا جاءهم المحق برشوة ، أخرجوا له كتاب الله ، وإذا جاءهم المبطل برشوة ، أخرجوا له ذلك الكتاب ، فهو فيه محق ، وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئًا ، ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء ، أمروه بالحق ، فقال الله لهم : ? أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ? .
قوله عز وجل : ? وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78) ? .
قال ابن عباس : ? وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ? ، أي : أن صاحبكم رسول الله ، ولكنه إليكم خاصة . ? وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ ? : لا تحدثوا العرب بهذا ، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم ، فكان منهم ، فأنزل الله : ? وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ? ، أي : تقرّون بأنه نبي ، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا ، اجحدوه ولا تقرّوا به .(1/104)
يقول الله تعالى :? أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ?. وقال السدي : هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا . وقال أبو العالية : ? أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ? ، يعني : بما أنزل عليكم في كتابكم من بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله تعالى : ? وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ? ، يقول تعالى : ? وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ ? أي : من اليهود أميون ، لا يحسنون القراءة والكتابة . قال مجاهد : الأمي الذي لا يحسن الكتابة .
وقوله تعالى : ? لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ ? ، قال ابن عباس : يعني : غير عارفين بمعاني الكتاب . ? وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ? ، أي : ولا يدرون ما فيه . وقال مجاهد : ? وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ ? . قال : أناس من اليهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا ، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله .
قوله عز وجل : ? فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79) ? .
قال الزجاج : ? وَيْلٌ ? كلمة تقولها العرب لكل واقع في هلكة . قال ابن كثير : هؤلاء صنف آخر من اليهود ، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله ، وأكل أموال الناس بالباطل . قال ابن عباس : ? فَوَيْلٌ لَّهُم ? ، يقول : فالعذاب عليهم من الذين كتبوا بأيديهم من ذلك الكتاب ، ? وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ? يقول : مما يأكلون به أموال الناس .(1/105)
قوله عز وجل : ? وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) ? .
يقول تعالى : ? وَقَالُواْ ? ، أي : اليهود ، ? لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ? قال ابن عباس : اليهود قالوا : لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة ، وهي مدة عبادتهم العجل . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة فيها سم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اجمعوا إليَّ من كان من اليهود ها هنا » ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من أبوكم » ؟ قالوا : فلان . قال : « كذبتم ، بل أبوكم فلان » فقالوا صدقت وبررت . ثم قال لهم : « هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه » ؟ قالوا : نعم يا أبا القاسم ، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا . فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من أهل النار » ؟ فقالوا : نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها . فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اخسئوا ، والله لا نخلفكم فيها أبدًا » . ثم قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه » ؟ قالوا : نعم يا أبا القاسم . قال : « هل جعلتم في هذه الشاة سمًا » ؟ فقالوا : نعم ؟ قال : « فما حملكم على ذلك » ؟ فقالوا : أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك ، وإن كنت نبيًا لم يضرك ) . رواه البخاري بنحو وغيره .(1/106)
وقوله تعالى : ? قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً ? ، أي : أن لا يعذبكم إلا هذه المدة ، ? فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ ? ؟ قال ابن مسعود : عهدًا بالتوحيد . ? أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ? ، أي : بل تكذبون على الله وتفترون ؟ ثم قال : ? بَلَى ? : إثبات لما ذكر من خلود النار . ? مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? ، أي : ليس الأمر كما تمنيتم ، بل الأمر أنه : ? مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً ? ، يعني : الشرك . ? وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ? مات ولم يتب ، ? فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? ، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : ? لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً ? .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه » . وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب لهم مثلاً : « كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق ، فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود ، حتى جمعوا سوادًا وأججوا نارًا ، فأنضجوا ما قذفوا فيها » . رواه الإمام أحمد .(1/107)
قوله عز وجل : ? وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلا اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ (83) ? .
يقول تعالى : ? وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلا اللّهَ ? أي : أخلصوا له العبادة ، كما قال تعالى : ? وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ? ، ? وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ? ، أي : وصيناهم ببر الوالدين ، والإحسان إليهما . ? وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ? ، قال ابن عباس : أمرهم أيضًا بعد هذا الخلق ، أن يقولوا : ? لِلنَّاسِ حُسْناً ? : أن يأمروا بلا إله إلا الله ، من يقلها ورغب عنها ، حتى يقولوها كما قالوها ، فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه . وقال الحسن البصري : فالحسنى من القول : أن يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويصلح ويعفوا ويصفح ، وقال الحسن أيضًا : لين القول من الأدب الحسن الجميل ، والخلق الكريم ، وهو مما ارتضاه الله وأحبه .
وقوله تعالى : ? وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ ? .(1/108)
قال ابن جرير : وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل ، أنهم نكثوا عهده ، ونقضوا ميثاقه ، بعد ما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له بأن لا يعبدوا غيره ، وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات ، ويصلوا الأرحام ، ويتعطفوا على الأيتام ، ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم ، ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به ، ويحثّوهم على طاعته ، ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها ، ويؤتوا زكاة أموالهم ، فخالفوا أمره في ذلك كله ، وتولوا عنه معرضين ، إلا من عصمه الله منهم ، فوفى الله بعهده وميثاقه .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (86) ? .(1/109)
يقول تعالى : ? وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ ? ، أي : لا يسفك بعضكم دم بعض ، ? وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ? : لا يخرج بعضكم بعضًا من داره ، ? ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ ? بهذا العهد ، ? وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ? : على ذلك يا معشر اليهود . ? ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء ? يعني : يا هؤلاء ، ? تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ? بالمعصية والظلم .(1/110)
? وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ? . قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة عن ابن عباس : ? ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ ? الآية، قال : أنبأهم الله بذلك من فعلهم ، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم ، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم ، فكانوا فريقين : طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج ، والنضير وقريظة وهم حلفاء الأوس ، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب ، خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه ، حتى تسافكوا دماءهم بينهم ، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم ، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ، ولا يعرفون جنةً ولا نارًا ، ولا بعثًا ولا قيامةً ، ولا كتابًا ولا حلالاً ولا حرامًا ، فإذا وضعت الحرب أوزارها ، افتدوا أسراهم تصديقًا لما في التوراة ، وأخذًا به بعضهم من بعض ، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم ، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم ، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم ، مظاهرة لأهل الشرك عليهم . يقول الله تعالى ذِكره ، حيث أنبأهم بذلك : ? أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ? ، أي : تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم ؟ وفي حكم التوراة : ألا يقتل ، ولا يخرج من داره ، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ، ابتغاء عرض الدنيا ، ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج ، فلما بلغني ، نزلت هذه القصة .(1/111)
وقال مجاهد في قوله تعالى : ? أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ? يقول : إن وجدته في يد غيرك فديته ، وأنت تقتله بيدك . ? فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? ، فكان خزي بني قريظة القتل والسبي ، وخزي بني النضير الجلاء والنفي من منازلهم .
? وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ? في النار . ? وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ? السرمدي ? وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ? نعوذ بالله من ذلك .
* * *
الدرس العاشر(1/112)
? وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن(1/113)
يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) ? .
يقول تعالى :? وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ? أعطيناه التوراة ? وَقَفَّيْنَا? أتبعنا ، ? مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ? وهي : المعجزات ، ? وَأَيَّدْنَاهُ ? قويناه ، ? بِرُوحِ الْقُدُسِ ? وهو : جبريل عليه السلام ، كما قال تعالى : ? إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ ? .(1/114)
قال البغوي : وتأييد عيسى بجبريل عليه السلام ، أنه أمر أن يسير معه حيث سار ، حتى صعد به إلى السماء . ? أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ ? يا معشر اليهود ، ? رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ? عن الإيمان به ، ? فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ ? مثل عيسى ، ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، ? وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ? مثل زكريا ، ويحيى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام ؟ وقد حاولوا قتل النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قوله عز وجل : ? وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ (88) ? .
يقول تعالى : ? وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ? ، أي : في أكنة ، فلا تعي ولا تفقه ما جئت به يا محمد . ? بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ ? ، أي : طردهم وأبعدهم من كل خير ، ? فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ? ، قال قتادة : معناه لا يؤمن منهم إلا قليل . وقد قال تعالى : ? فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً ? .
قوله عز وجل : ? وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ (89) ? .
يقول : ? وَلَمَّا جَاءهُمْ ? يعني : اليهود ، ? كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ ? وهو : القرآن ، ? مُصَدِّقٌ ? موافق ، ? لِّمَا مَعَهُمْ ? ، يعني : التوراة . ? وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ? ، أي : وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب ، يستنصرون بمجيئه على أعدائهم .(1/115)
قال محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن أشياخ منهم ، قال : فينا والله وفيهم - يعني : في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم - نزلت هذه القصة ، يعني : ? وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ? ، قالوا : كنا قد علوناهم قهرًا دهرًا في الجاهلية ، ونحن أهل شرك ، وهم أهل كتاب ، وهم يقولون : إن نبيًا سيبعث الآن نتبعه ، قد ظل زمانه ، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه ، كفروا به . يقول الله تعالى : ? فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ? .
قوله عز وجل : ? بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90) ? .
قال مجاهد : ? بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ ? ، يهود شروا الحق بالباطل ، وكتمان ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن يبينوه . وقال السدي : ? بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ ? يقول : باعوا أنفسهم . يقول : بئسما اعتاضوا لأنفسهم ، فرضوا به ، وعدلوا إليه ، من الكفر بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، عن تصديقه ومؤازرته ونصرته ، وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية ، ? أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ? ولا حسد أعظم من هذا . وقال ابن عباس في قوله : ? فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ? فغضب الله عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم ، وغضب الله عليهم بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم .(1/116)
وقوله تعالى : ? وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ? ، قال ابن كثير : لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ، ومنشأ ذلك التكبر ، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ? أي : صاغرين ذليلين .
قوله عز وجل : ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (91) ? .
يقول تعالى : ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ? ، يعني : القرآن ? قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا ? ، يعني : التوراة ، ? وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ? ، أي : بما سواه من الكتب ? وَهُوَ الْحَقُّ ? ، يعني : القرآن ? مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ ? ، من التوراة . ? قُلْ ? لهم يا محمد : ? فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ? بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتل الأنبياء عليهم السلام ؟ .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (92) ? .(1/117)
يقول تعالى : ? وَلَقَدْ جَاءكُم ? يا معشر اليهود ? مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ? أي : بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات ، ? ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ? معبودًا من دون الله ? مِن بَعْدِهِ ? ، أي : من بعد ذهابه إلى الطور لمناجاة الله عزّ وجل ، كما قال تعالى : ? وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (93) ?.
يقول تعالى : ? وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ? الجبل ، ? خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ ? ، أي : استجيبوا وأطيعوا ، ? قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ? ، قال قتادة : أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم .
? قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ ? أن تعبدوا العجل من دون الله ، ? إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ? بزعمكم ، وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة ، من نقضكم المواثيق ، وكفركم بآيات الله ، وقتلكم الأنبياء ، وعبادتكم العجل . وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « حبك الشيء يعمي ويصمّ » . رواه أحمد .(1/118)
قوله عز وجل : ? قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) ? .
يقول تعالى : ? قُلْ ? يا محمد لهؤلاء اليهود : ? إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ ? يعني : الجنة ، ? عِندَ اللّهِ خَالِصَةً ? ، أي : خاصة ? مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? في قولكم . قال ابن عباس : لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه ? وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ? ، أي : من الأعمال السيئة . ? وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ? وهذا كما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد نجران من النصارى إلى المباهلة ، فقال علماؤهم : والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف , فعند ذلك جنحوا للسلم ، وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون .(1/119)
وقوله تعالى : ? وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ? ، أي : وأحرص من الذين أشركوا ، ? يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ? ، قال الحسن البصري : المنافق أحرص الناس ، وأحرص من المشرك على حياة . ? وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ? ، قال ابن عباس : أي : وما هو بمنجيه من العذاب ، وذلك أن المشرك لا يرجوا بعثًا بعد الموت ، فهو يحب طول الحياة ، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي . وقال ابن زيد : يهود أحرص على الحياة من هؤلاء ، وقد ودّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة ، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عُمِّر كما عُمِّر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرًا .
قوله تعالى : ? وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ? ، أي : وسيجازي كل عامل بعمله ، وقد قال تعالى : ? أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ? . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس الحادي عشر(1/120)
? قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (103) ? .
* * *(1/121)
قوله عز وجل : ? قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) ? .(1/122)
قال ابن عباس : ( حضرت عصابة من اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « سلوا ما شئتم ، ولكن اجعلوا لي ذمة ، وما أخذ يعقوب على بنيه ، لئن أنا حدثتكم عن شيء فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام » ؟ فقالوا : لك ذلك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « سلوا عما شئتم » . قالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن : أخبرنا أيّ الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة ، وماء الرجل . وكيف يكون الذكر منه والأنثى ؟؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة ومن وليه من الملائكة ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « عهد الله لئن أنبأتكم لتتابعنني » ؟ فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق . فقال : « نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سقمه ، فنذر لله نذرًا لئن عافاه الله من مرضه ليحرّمنّ أحب الطعام والشراب إليه ، فكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل ، وأحب الشراب إليه ألبانها » ؟ فقالوا : اللهم نعم !! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اللهم اشهد عليهم ، وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض ، وأن ماء المرأة رقيق أصفر ، فأيّهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله عز وجل ؟ وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرًا بإذن الله ؟ وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عز وجل » ؟ قالوا : اللهم نعم !! قال : « اللهم اشهد . وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن هذا النبي الأميّ تنام عيناه ولا ينام قلبه » ؟ قالوا : اللهم نعم !! قال : « اللهم اشهد » . قالوا : أنت الآن ، فحدثنا من وليك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك أو نفارقك ؟؟ قال :(1/123)
« فإن ولي جبريل ، ولم يبعث الله نبيًا قط إلا وهو وليه » . قالوا : فعندها نفارقك ، ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدّقناك . قال : « فما يمنعكم أن تصدقوه » ؟ قالو : إنه عدونا . فأنزل الله عز وجل : ? قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ? إلى قوله : ? لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ? فعندها باءوا بغضب على غضب ) . رواه ابن جرير .
زاد ابن إسحاق : ( قالوا : فأخبرنا عن الروح ؟ قال : « فأنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه جبريل ، وهو الذي يأتيني » ؟ قالوا : اللهم نعم ، ولكنه عدو لنا ، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء ، فلولا ذلك اتبعناك . فأنزل الله تعالى فيهم : ? قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ ? إلى قوله : ? لاَ يَعْلَمُونَ ? .
وقوله تعالى : ? وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ? . يقول تعالى : ولقد أنزلنا إليك يا محمد آيات بينات واضحات ، وما يكفر بها إلا الفاسقون الخارجون عن أمر الله ، ? أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ? .(1/124)
قال البغوي : أو كلما واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام . وقال ابن عباس : قال ابن صوريا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك ، فأنزل الله في ذلك من قوله : ? وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ ? ، وقال أيضًا : ( قال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر لهم ما أخذ الله عليهم من الميثاق ، وما عهد إليهم في محمد - صلى الله عليه وسلم - : والله ما عهد إلينا في محمد ، وما أخذ علينًا ميثاقًا . فأنزل الله تعالى : ? أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ? .
وقال الحسن البصري في قوله : ? بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ? قال : نعم ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ، ونبذوه . يعاهدون اليوم وينقضون غدًا . وقال السدي : لا يؤمنون بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - .(1/125)
وقوله تعالى : ? وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ? يقول تعالى : ? وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ ? ، يعني : محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ، ? مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ? من التوراة ، ? نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ? ما فيها من صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال تعالى في المؤمنين منهم : ? الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? .
قال قتادة في قوله : ? كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ? قال : إن القوم كانوا يعلمون ، لكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به . وقال الشعبي : كانوا يقرءون التوراة ولا يعملون بها ، وقال سفيان بن عيينة : أدرجوها في الحرير ، والديباج ، وحلوها بالذهب والفضة ، ولم يعملوا بها فلذلك نبذهم .(1/126)
قوله عز وجل : ? وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (103) ? .
قال ابن عباس في قوله تعالى : ? وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ ? الآية ، وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والإنس ، واتبعوا الشهوات ، فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه ، وقام الناس على الدين كما كان ، وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه ، وتوفي سليمان عليه السلام حدثان ذلك ، فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان ، وقالوا : هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا ، فأخذوا به فجعلوه دينًا جديدًا ، فقال تعالى : ? وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ? الآية ، واتبعوا الشهوات التي كانت تتلوا الشياطين ، وهي المعازف واللعب ، وكل شيء يصد عن ذكر الله .(1/127)
وقال أيضًا : كان آصف كاتب سليمان ، وكان يعلم الاسم الأعظم ، وكان يكتب كل شيء يأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا ، وقالوا : هذا الذي كان سليمان يعمل بها . قال : وكفره جهال الناس وسبوه ، ووقف علماء الناس ، فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - : ? وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ ? .
وقوله تعالى : ? يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ? ، أي : ويعلمون الذي أنزل على الملكين ، أي : إلهامًا وعلمًا ، فالإنزال هنا بمعنى : الإِلهام والتعليم .(1/128)
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( لما وقع الناس من بعد آدم عليه السلام فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء : يا رب هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك ، قد وقعوا فيما وقعوا فيه ، وركبوا الكفر وقتل النفس ، وأكل المال الحرام ، والزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم ، فقيل : إنهم في غيب فلم يعذروهم ، فقيل لهم : اختاروا من أفضلكم ملكين آمرهما وأنهاهما ، فاختاروا هاروت وماروت ، فأهبطا إلى الأرض وجعل لهما شهوات بني آدم ، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئًا ، ونهيا عن : قتل النفس الحرام ، وأكل المال الحرام ، وعن الزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، فلبثا في الأرض زمانًا يحكمان بين الناس بالحق ، وذلك في زمان إدريس عليه السلام ، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة على سائر الكواكب ، وأنهما أتي لها ، فخضعا لها في القول ، وأرادها على نفسها ، فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها ، فسألاها عن دينها ، فأخرجت لها صنمًا ، فقالت : هذا أعبده : فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا ، فذهبا فعبرا ما شاء الله ، ثم أتيا عليها فأرادها على نفسها ، ففعلت مثل ذلك ، فذهبت ثم أتيا عليها ، فأرادها على نفسها ، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم ، قالت لهما : اختارا أحد الخلال الثلاث : إما أن تعبدا هذا الصنم ، وإما أن تقتلا هذه النفس ، وإما أن تشربا هذه الخمر ، فقالا : كل هذا لا ينبغي ، وأهون هذا شرب الخمر ، فشربا الخمر فأخذت فيهما ، فواقعا المرأة ، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما ، فقتلاه فلما ذهب عنهما السكر ، وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أراد أن يصعدا إلى السماء ، فلم يستطيعا ، وحيل بينهم وبين ذلك ، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء ، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه ، فعجبوا كل العجب ، وعرفوا أنه من كان في(1/129)
غيب فهو أقل خشية ، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض ، فنزل في ذلك : ? وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ ? ، فقيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة ، فقالا : أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب ، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له . فاختارا عذاب الدنيا فجعلا ببابل فهما يعذبان ) .
قال ابن كثير : فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة . والله أعلم .
وقوله تعالى : ? وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ? قال ابن عباس : فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي ، وقالا له : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، وذلك أنهما علما الخير والشر ، والكفر والإيمان ، فعرفا أن السحر من الكفر . قال : فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا ، فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه فإذا تعلمه خرج منه النور .
وقوله تعالى : ? فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ ? . قال سفيان الثوري : معناه إلا بقضائه وقدرته ومشيئته . وقال الحسن : من شاء الله سلطهم عليه ، ومن لم يشأ الله لم يسلط .
وقوله تعالى : ? وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ? ، أي : يضرهم في دينهم ، وليس له نفع يوزاي ضرره .
وقوله تعالى : ? وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ? . قال ابن عباس : من نصيب . وقال قتادة : ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم : أن الساحر لا خلاق له في الآخرة .(1/130)
وقوله تعالى : ? وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ? ، قال ابن كثير : يقول تعالى : ولبئس البديل ما استبدلوا به من السحر عوضًا عن الإيمان ومتابعة الرسول ، لو كان لهم علم بما وعظوا به ? وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ ? ، أي : ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم لكانت مثوبة الله على ذلك خيرًا لهم مما اختاروا لأنفسهم ، ورضوا به ، كما قال تعالى : ? وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ? ، وروي أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه ، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه ، فقال الناس سبحان الله يحي الموتى . ورآه رجل من صالحي المهاجرين ، فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك ، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر ، فقال : إن كان صادقًا فليحيي نفسه ، وتلا قوله تعالى : ? أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ? ، فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك ، فسجنه ثم أطلقه . وروى البزار عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدق بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ) .
الدرس الثاني عشر(1/131)
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ(1/132)
يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) ? .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) ? .
خاطب الله تعالى المؤمنين في ثمانية وثمانين موضعًا من القرآن ، وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين أن يتشبهوا باليهود في قولهم : ? رَاعِنَا ? وذلك أن المسلمين كانوا يقولون : راعنا يا رسول الله ، من المراعاة ، أي : أرعنا سمعك ، وكانت هذه اللفظة من الرعونة بلغة اليهود ، يسبون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال تعالى : ? مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً ? وفي الحديث : « من تشبه بقوم فهو منهم » .
وقوله تعالى : ? وَاسْمَعُوا ? ، أي : ما تؤمرون به ، وأطيعوا ? وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? .
قوله عز وجل : ? مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ? .
يبين تعالى عداوة الكافرين وحسدهم للمؤمنين ؛ ليقطع المودة بينه وبينهم .
وقوله تعالى : ? وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ? ، أي : ممن علم فيهم خيرًا . ? وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ? .(1/133)
قوله عز وجل : ? مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (108) ? .
قال ابن عباس : ? مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ? ، ما نبدل من آية . وقال قتادة : كان الله عز وجل يُنْسي نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما يشاء ، وينسخ ما يشاء .
وقوله تعالى : ? نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ? قال ابن عباس : يقول : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم ، وقال قتادة : آية فيها تخفيف ، فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهي .
وقوله تعالى : ? أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? ، أي : من النسخ وغيره ، لا معقّب لحكمه ولا رادّ لقضائه . قال البغوي : ( والنسخ على وجوه : أحدها : أن يثبت الخط وينسخ الحكم ، مثل آية الوصية للأقارب ، وآية عدة الوفاة بالحول ، وآية التخفيف في القتل , وآية الممتحنة ، ونحوها .
ومنها : أن يرفع أصلاً عن المصحف وعن القلوب ، ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه ، كما أن القبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة ، والوصية للأقارب نسخت بالميراث .
ومنها : ما يرفع ولا يقام غيره مقامه كامتحان النساء ، والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي ، دون الأخبار ) . انتهى ملخصًا .(1/134)
وقوله تعالى : ? أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ? يخبر تعالى أن ملك السماوات والأرض ومن فيهما بيده ، يفعل ما يشاء في ملكه ، ويحكم ما يريد ، ألا له الخلق والأمر لا يسئل عما يفعل ، وهم يسألون ، والله يحكم لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب ، وقد قال تعالى : ? وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ? .
وقوله تعالى : ? أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ? .
قال ابن كثير : نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأشياء قبل كونها ، كما قال تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ? وعن ابن عباس قال : ( قال رافع بن حريملة ، ووهب بن زيد : يا محمد ، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه ، وفجِّر لنا أنهارًا نتبعك ونصدقك ، فأنزل الله من قولهم : ? أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ? .(1/135)
قوله عز وجل : ? وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) ? .
يقول تعالى : ? وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم ? يا معشر المؤمنين ، ? مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً ? ، أي : يحسدونكم حسدًا ، ? مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم ? ، أي : من تلقاء أنفسهم ، ? مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ? في التوراة ، أن قول محمد صدق ، ودينه حق ، ? فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ ? ، اتركوا وتجازوا ، ? حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ? ، بعذابه ، أي : القتل والسبي لبني قريظة ، والجلاء والنفي لبني النضير . قال ابن عباس : ? إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? ، فإن شاء هداهم ، وإن شاء انتقم منهم .
وقوله تعالى : ? وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ? يحث تعالى عباده المؤمنين على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ويرغبهم في الأعمال الصالحة ، ويخبرهم أنها مدخرة لهم عند ربهم ، كما قال تعالى : ? وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ? وقال تعالى : ? فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ? .(1/136)
قوله عز وجل : ? وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112) ? .
يقول تعالى : ? وَقَالُواْ ? ، أي : أهل الكتاب من اليهود والنصارى ? لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ? ادعت كل طائفة أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها ، ? تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ? قال أبو العالية : أماني تمنوها على الله بغير حق ، وهذا المقام كقوله تعالى : ? لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ? . وقوله : ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ? .
قال تعالى : قل يا محمد : ? هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ? : حجتكم ? إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? فيما تدعون ، ثم قال ردًا عليهم : ? بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ? أي : ليس كما قالوا ، بل الحكم للإسلام ، وإنما يدخل الجنة من أسلم وجهه لله ، أي : أخلص دينه لله ، ? وَهُوَ مُحْسِنٌ ? في عمله ، ? فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ? قال سعيد بن جبير : فلا خوف عليهم ، يعني : في الآخرة ، ولا هم يحزنون ، يعني : لا يحزنون للموت .(1/137)
قوله عز وجل : ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) ? .
قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ( لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رافع بن حرملة : ما أنتم على شيء . وكفر بعيسى وبالإنجيل . وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شيء . وجحد بنبوة موسى وكفر بالتوراة ، فأنزل الله في ذلك من قولهما : ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ? قال : إن كلا يتلوا في كتابه تصديق من كفر به ، أن يكفر اليهود بعيسى ؛ وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى ، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى ، وما جاء من التوراة من عند الله ، وكل يكفر بما في يد صاحبه .(1/138)
وقوله تعالى : ? كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ? ، أي : الجهال من الأمم ، ? مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ? يقضي بين المحق والمبطل ، ? فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ? كما قال تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ? وقال تعالى : ? قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ? . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس الثالث عشر(1/139)
? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلا خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُواْ يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (123) ? .
* * *(1/140)
قوله عز وجل : ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلا خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) ? .
قال قتادة : أولئك أعداء الله النصارى ، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس . وقال ابن زيد : هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يوم الحديبية ، وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم ، وقال لهم : ما كان أحد يصد عن هذا البيت ، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده ، فقالوا : لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق .
وفي قوله : ? وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ? . قال : إذ قطعوا من يعمدها بذكره ، ويأتيها للحج والعمرة . والآية عامة في كل من سعى في خراب المساجد بمنع العبادة فيها ، أو بهدمها .
وقوله تعالى : ? أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلا خَآئِفِينَ ? خبر معناه الطلب ، أي : لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة ، أو الجزية ? لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ? ، قال : قتادة هي : القتل للحربي والجزية للذمي . ? وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ? وهو : النار . وفي الدعاء المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة » . رواه أحمد .
قوله عز وجل : ? وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) ? .(1/141)
قال ابن عباس : أول ما نسخ من القرآن - فيما ذكر لنا ، والله أعلم - ، شأن القبلة . قال الله تعالى : ? وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ ? فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى نحو بيت المقدس ، وترك البيت العتيق ، ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها . فقال : ? وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ? ، وعن ابن عمر : ( أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ويذكر أن رسول - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك ) ويتأول هذه الآية : ? فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ? . رواه مسلم وغيره ، وهذا في التطوع . وعن ابن عباس قال : ( خرج نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل تحويل القبلة إلى الكعبة ، فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة ، فتحروا القبلة وصلّوا ، فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا ، فلما قدموا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فنزلت هذه الآية .
وقوله تعالى : ? فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ? .
قال الكلبي : فثمَّ الله يعلم ويرى ? إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ? ، أي : واسع الرحمة ، عليم بالأعمال والنيات ، كما قالت الملائكة : ? رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ? .(1/142)
قوله عز وجل : ? وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117) ? .
يقول تعالى : ? وَقَالُواْ ? ، أي : اليهود والنصارى غيره من الكفرة ? اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً ? ، كما قال تعالى : ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ? .(1/143)
وقوله تعالى : ? سُبْحَانَهُ ? ، أي : تعالى وتنزه وتقدس عن ذلك علوًا كبيرًا ، ? بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? ملكًا وعبيدًا ? كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ? . كما قال تعالى : ? وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ? ، وقال تعالى : ? وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله : إن لي ولدًا ، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدًا » . رواه البخاري ، وللترمذي : « وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ، ولدًا ، وأنا الله الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد » .
وفي الصحيحين : « لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم » .(1/144)
وقوله تعالى : ? بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? ، أي : مبدعهما ومنشئهما من غير مثال سبق ? وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ? ، أي : إذا قدّر أمرًا وأراد كونه كان بكن ، كما قال تعالى : ? إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? ، وقال تعالى : ? إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ? .
قوله عز وجل : ? وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) ? .
قال ابن عباس : قال رافع بن حريملة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا محمد ، إن كنت رسولاً من الله كما تقول ، فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه ، فأنزل الله في ذلك من قوله : ? وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ? ، وقال أبو العالية وغيره : هذا قول كفار العرب . ? كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ? . قال : ( هم اليهود والنصارى ) . وقد قال تعالى : ? وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً ? .
وقوله تعالى : ? تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ? ، أي : في الكفر والقسوة والعناد كما قال تعالى : ? كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ? .(1/145)
وقوله تعالى : ? قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ? ، أي : قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل لمن أيقن وصدق ، وأما من ختم الله على قلبه واتبع هواه ، فلا تنفع فيه الموعظة . كما قال تعالى : ? ِإنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ? .
قوله عز وجل : ? إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) ? .
يقول تعالى : إنا أرسلناك ( يا محمد ) بالحق ، أي : بالصدق ? بَشِيراً وَنَذِيراً ? أي : مبشرًا للمؤمنين بالجنة ، ومنذرًا للعاصين ، أي : مخوفهم من النار .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ? ، أي : لا نسألك عن كفر ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب .
وقوله عز وجل : ? وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (120) ? .
قال ابن عباس : هذا في القبلة ، وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كان يصلي إلى قبلتهم ، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة أيسوا منه في أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله تعالى : ? وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ ? إلا باليهودية ، ? وَلا النَّصَارَى ? إلا بالنصرانية . والملة : الطريقة .
وقوله تعالى : ? قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى ? ، أي : إن هدى الله الذي بعثني به هو الدين الصحيح .(1/146)
وقوله تعالى : ? وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ? فيه تهديد ووعيد شديد لمن اتبع طرائق اليهود والنصارى من هذه الأمة . قال ابن كثير : وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله حتى تتبع ملتهم على أن الكفر كله ملة واحدة ، فيرث كل منهم قريبه . والله أعلم . انتهى ملخصًا .
قوله عز وجل : ? الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)?.
قال ابن مسعود : والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويقرأه كما أنزل الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئًا على غير تأويله . وقال الحسن : يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه .
وقوله تعالى : ? أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ? ، أي : من أقام كتابه آمن بالقرآن ، كما قال تعالى : ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ? .
وقوله تعالى : ? وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ? ، كما قال تعالى : ? وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ? وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحدكم من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار » .
قوله عز وجل : ? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُواْ يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (123) ? .(1/147)
قد تقدم نظير هذه الآية في أول السورة ، وكررت ها هنا للتأكيد والحث على إتباع الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والتحذير من الحسد وكتمان العلم . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس الرابع عشر
? وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) ? .(1/148)
يقول تعالى : واذكر يا محمد : إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن
أي : قام بجميع ما كلفه الله به من الأوامر والنواهي ، كما قال تعالى : ? وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ? .
قال : ? إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ? يقتدى بك في الخير جزاء على ما فعل ، كما قال تعالى : ? وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ? ، قال : ? وَمِن ذُرِّيَّتِي ? ، أي : ومن أولادي أيضًا فاجعل منهم أئمة يقتدى بهم .
قال الله تعالى : ? لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ? أي : لا يصيب عهدي من كان منهم ظالمًَا ، ومعنى الآية : لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإِمامة من كان ظالمًا من ولدك ، وأنه سيكون في ذريتك ظالمون ، كما قال تعالى : ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ? .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) ? .
قال ابن عباس : ? وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ ? ، يقول : لا يقضون منه وطرًا يأتونه ، ثم يرجعون إلى أهليهم ، ثم يعودون إليه . وقال قتادة : ? مَثَابَةً لِّلنَّاسِ ? ، أي : مجمعًا للناس . وقال أبو العالية : ? وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ? ، يقول : وأمنا من العدو أن يحمل فيه السلاح ، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون .(1/149)
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوم فتح مكة : « إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ، ولا يختلي خلاه » ، فقال العباس : يا رسول الله إلا الأذخر ، فإنه لقينهم وبيوتهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إلا الأذخر » .
وقوله تعالى : ? وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ? ، المقام : هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه في بناء الكعبة ، وفي الحديث الصحيح عن عمر : ( قلت : يا رسول الله ! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : ? وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ? ) ، وفي حديث جابر : ( استلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الركن ، فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا ، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ : « ? وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ?» فجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين ) . وقال قتادة : إنما أمروا أن يصلوا عنده ، ولم يؤمروا بمسحه ، وروى البيهقي عن عائشة رضي الله عنها : أن المقام كان زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت ، ثم أخره عمر بن الخطاب .
وقوله تعالى : ? وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ? . قال الحسن : أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس ، ولا يصيبه من ذلك شيء . وقال مجاهد : من الأوثان والرفث ، وقول الزور والرجس ، وقال ابن عباس : إذا كان جالسًا فهو من العاكفين .(1/150)
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي ، أخبرنا موسى بن إسماعيل ، أخبرنا حماد بن سلمة ، أخبرنا ثابت ، قال : قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير : ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام ، فإنهم يُجنبون ويحدثون ، قال : لا تفعل ، فإن ابن عمر سئل عنهم ، فقال : هم العاكفون ، وقد قال تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ? .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)?.
روى البخاري وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن إبراهيم حرم مكة ودعوت لها ، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها ، في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة » . ولمسلم : « بمثل ما دعا إبراهيم لأهل مكة » .
قال ابن كثير : لا منافاة بين الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها ؛ لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها .(1/151)
وقوله تعالى : ? وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ? ، عن أُبيّ بن كعب ، قال : ? وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ? ، قال هو قول الله تعالى . وقال ابن عباس : كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس ، فأنزل الله : ومن كفر أيضًا أرزقهم كما أرزق المؤمنين ، أأخلق خلقًا لا أرزقهم ! ؟ أمتعهم قليلاً ثم اضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير ثم قرأ ابن عباس : ? كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً ? .
وقوله تعالى : ? ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ? ، أي : ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه إلى عذاب النار , ? وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ?، أي : المرجع يصير إليه كما قال تعالى : ? وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ? .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129) ? .(1/152)
يقول تعالى : واذكر يا محمد بناء إبراهيم وإسماعيل البيت ، وهما يقولان : ? رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? . والقواعد : الأساس .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان ، خرج إسماعيل وأم إسماعيل ، ومعهم شنة فيها ماء ، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة ، فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة ، فوضعها تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله ، فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء فنادته من ورائه : يا إبراهيم إلى من تتركنا ؟ قال : إلى الله : قالت : رضيت بالله ، قال : فرجعت ، فجعلت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها حتى لما فني الماء قالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدًا ، فذهبت فصعدت الصفا ، فنظرت هل تحس أحدًا ، فلم تحس أحدًا ، فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة ، وفعلت ذلك أشواطًا حتى أتمت سبعًا ، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي ، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله ، كأنه ينشع الموت ، فلم تقرها نفسها ، فقالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدًا ، فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت ، فلم تحس أحدًا حتى أتمت سبعًا ، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ، فإذا هي بصوت ، فقالت : أغثْ إن كان عندك خير ، فإذا جبريل عليه السلام قال : فقال بعقبه هكذا ، وغمز عقبه على الأرض ، قال : فانبثق الماء ، فدهشت أم إسماعيل ، فجعلت تحفر .
قال : فقال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - : « لو تركته لكان الماء ظاهرًا » ، قال : فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها ، قال : فمر ناس من جرهم ببطن الوادي ، فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك ، وقالوا : ما يكون هذا الطير إلا على ماء ، فبعثوا رسولهم فنظر فإذا هو بالماء فأتاهم فأخبرهم فأتوا إليها ، فقالوا : يا أم إسماعيل أتأذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك ؟ قالت : نعم ، فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة .(1/153)
قال : ثم إنه بدا لإِبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لأهله : إني مطلع تركتي ، قال : فجاء فسلّم ، فقال : أين إسماعيل ؟ قالت امرأته : ذهب يصيد ، قال قولي له إذا جاء غيّر عتبة بابك ، فلما أخبرته قال : أنت ذاك ، فاذهبي إلى أهلك .
قال : ثم إنه بدا لإِبراهيم ، فقال : إني مطلع تركتي ، قال : فجاء فقال : أين إسماعيل ؟ فقالت امرأته : ذهب يصيد ، وقالت : ألا تنزل فتطعم وتشرب ، فقال : ما طعامكم وما شرابكم ؟ قالت : طعامنا اللحم ، وشرابنا الماء ، قال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم .
قال : فقال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - : « بركة بدعوة إبراهيم » .
قال : ثم إنه بدا لإِبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لأهله : إني مطلع تركتي ، فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له ، فقال : يا إسماعيل ، إن ربك عز وجل أمرني أن أبني له بيتًا ، فقال : أطع ربك عز وجل ، قال : إنه قد أمرني أن تعينني عليه ، فقال : إذَن أفعل ، أو كما قال : قال فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان : ? رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? ، قال : حتى ارتفع البناء ، وضعف الشيخ عن نقل الحجارة ، فقام على حجر المقام ، فجعل يناوله الحجارة ويقولان : ? رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? . رواه البخاري في أحاديث الأنبياء كذلك ، ورواه أيضًا من وجه آخر بسياق أبسط من هذا .(1/154)
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ألم تري أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم » ؟ فقلت : يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ قال : « لولا حدثان قومك بالكفر » . فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ما أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم عليه السلام . رواه البخاري وغيره .
وفي رواية لمسلم : « لولا قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ، ولجعلت لها بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر ، فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة » .
قال ابن إسحاق : وكانت الكعبة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر ذراعًا ، وكانت تكسي القباطيّ ، ثم كسيت بعدُ البرود وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف .
وقوله تعالى : حكاية لدعاء إبراهيم ، وإسماعيل عليهما السلام : ? رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? ، ? مُسْلِمَيْنِ ? ، مخلصين ، قال سلام بن أبي مطيع : كانا مسلمين ولكنهما سألاه الثبات . وقال عكرمة : ? رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ? ، قال الله : قد فعلت . ? وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ? ، قال الله : قد فعلت .(1/155)
وقوله : ? وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ? ، قال عطاء : أخرجها لنا ، علّمناها ، وقال مجاهد : قال إبراهيم : (( أرنا مناسكنا )) ، فأتاه جبريل فأتى به البيت ، فقال : ارفع القواعد ، فرفع القواعد وأتم البنيان ؛ ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا ، قال : هذا من شعائر الله ؛ ثم انطلق به إلى المروة ، فقال : وهذا من شعائر الله ؛ ثم انطلق به نحو منى ، فلما كان عند العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة فقال : كبِّر وارمه ، فكبّر ورماه ، ثم انطلق إبليس ، فقام عند الجمرة الوسطى ، فلما جاز به جبريل وإبراهيم ، قال له : كبّر وارمه ، فكبّر ورماه ، فذهب الخبيث إبليس ، وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئًا فلم يستطع ، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام ، فقال : هذا المشعر الحرام ، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات ، قال قد عرفت ما أريتك ؟ - قالها ثلاث مرات - قال : نعم .
وقوله : ? وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? ، طلبًا من الله التوبة والرحمة ؛ لأنه لا يدخل الجنة أحد بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته .
وقوله تعالى : ? رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ? ، يقول تعالى إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم وإسماعيل أنهما قالا : ? رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ ? ، أي : في الأمة المسلمة ? رَسُولاً مِّنْهُمْ ? ، أي : محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ، وروى أحمد وغيره عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إني عند الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك ، دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يرين » . وفي حديث أبي أمامة : « ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام » .(1/156)
وقوله تعالى : ? يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ? ، قال الحسن وغيره : الكتاب : القرآن ، والحكمة : السنة ، وقيل : الحكمة الفهم في الدين ، ولا منافاة .
وقوله تعالى : ? إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ? ، أي : ? العَزِيزُ ? ، الذي ليس مثله أحد ولا يعجزه شيء ، ? الحَكِيمُ ? ، في أفعاله وأقواله فيضع ، الأشياء في محلها . والله أعلم .
* * *
الدرس الخامس عشر
? وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ(1/157)
اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ (138) قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (141) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) ? .(1/158)
يقول تعالى : ? وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ? ، أي: ما يرغب عن ملة إبراهيم الحنيفية إلا سفيه ظالم لنفسه . قال الربيع : رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم ، وابتدعوا اليهودية والنصرانية وليست من الله ، وتركوا ملة إبراهيم الإِسلام ، ويشهد لهذا قوله تعالى : ? مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ? .
وقوله تعالى : ? وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ ? ، أي : اخترناه في الدنيا خليلاً ? وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ? ، أي : مع الأنبياء في الجنة .
وقوله تعالى : ? إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ? ، أي : أمره الله تعالى بالإخلاص له والاستسلام والانقياد ، فأجاب إلى ذلك . وقوله تعالى : ? وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? ، أي : وصى إبراهيم بنيه بكلمة الإِخلاص : لا إله إلا الله ، وهي الملة الحنيفية ، وكذلك وصى بها يعقوب بنيه ، كما قال تعالى : ? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ? .(1/159)
وقوله تعالى : ? إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ ? ، أي : اختار لكم دين الإسلام ، ? فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ? ، أي : استقيموا عليه حتى تموتوا ، كما قال تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ? . وروى مسلم وغيره عن جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام يقول : « لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله » .
قوله عز وجل : ? أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) ? .
قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : ? أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء ? أكنتم ؟ ولكنه استفهم بأم ، إذ كان استفهامًا مستأنفًا على كلام قد سبقه ، كما قال : ? الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ? ، وكذلك تفعل العرب في كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه ، تستفهم فيه بأم .(1/160)
وقوله تعالى : ? إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ? قيل : نزلت في اليهود حين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ألست تعلم أن يعقوب يوم مات وصى بنيه باليهودية ؟ ) وقال الكلبي : لما دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران ، فجمع ولده وخاف عليهم ذلك . وقوله تعالى : ? قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ? ، إسماعيل عم يعقوب ، والعرب تسمي العم أبًا . قال ابن زيد : يقال : بدأ بإسماعيل لأنه الأكبر ، واستدل بالآية من جعل الجدّ أبًا وحجب به الأخوة ، كما هو قول الصديق ، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من السلف والخلف .
وقوله تعالى : ? وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ? ، أي : موحدون مطيعون خاضعون .
قوله عز وجل : ? تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) ? .
يقول تعالى : ? تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ? ، أي : مضت ? لَهَا مَا كَسَبَتْ ? من العمل ? وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ? من خير أو شر ? وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? . كما قال تعالى : ? وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ? وفي الحديث : « من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه » . قال قتادة : ? تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ? ، يعني : إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط .
قوله عز وجل : ? وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) ? .(1/161)
قال ابن عباس : قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد . وقالت النصارى مثل ذلك ، فأنزل الله عز وجل : ? وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ? .
وقوله تعالى : ? قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? ، أي : قل يا محمد : لا نريد ما دعوتمونا إليه ، بل نتبع : ? مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ? ، أي ، مخلصًا مستقيمًا . قال ابن عباس : الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام .
وقوله تعالى : ? وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? .
قال ابن جرير : يقول لم يكن ممن يدين بعبادة الأوثان والأصنام ، ولا كان من اليهود ولا النصارى ، بل كان حنيفًا مسلمًا .
قوله عز وجل : ? قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) ? .(1/162)
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : ? آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ? » الآية . وروى مسلم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر ما يصلي الركعتين اللتين قبل الفجر بـ : ? آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ? الآية ، والأخرى بـ : ? آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? ) . وفي رواية : ( يقرأ في ركعتي الفجر : ? قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ? ، والتي في آل عمران : ? تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ? ) .
قال قتادة : الأسباط : بنو يعقوب اثنا عشر رجلاً ولد كل رجل منهم أمة من الناس فسموا الأسباط . وقال البخاري : الأسباط : قبائل بني إسرائيل .
قال القرطبي : والسبط : الجماعة . والقبيلة : الراجعون إلى أصل واحد . قال قتادة : أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقوا بكتبه كلها ورسله . وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « آمنوا بالتوراة ، والزبور ، والإنجيل ، وليسعكم القرآن » . رواه ابن أبي حاتم .
قوله عز وجل : ? فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ (138) ? .(1/163)
يقول تعالى : فإن آمن الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم ? بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ ? ، أي : بجميع كتب الله ورسله ، ولم يفرقوا بين أحد منهم ? فَقَدِ اهْتَدَوا ? إلى الحق ? وَّإِن تَوَلَّوْاْ ? عن ذلك ، ? فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ? ، أي : في خلاف ومنازعة ، قاله ابن عباس . ? فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ ? ، أي : فسيكفيك شرهم وينصرك عليهم ? وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? .
وقوله تعالى : ? صِبْغَةَ اللّهِ ? ، أي : دين الله ، سماه صبغة لأنه يظهر أثر الدين على المتدين ، كما يظهر أثر الصبغ على الثوب . ? وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً ? .
قال قتادة : إن اليهود تصبغ أبناءها يهودًا ، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى ، وإن صبغة الله الإسلام ، فلا صبغة أحسن من الإسلام ولا أطهر ، وهو دين الله الذي بعث به نوحًا والأنبياء بعده .
قوله عز وجل : ? قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (141) ? .(1/164)
يقول تعالى : ? قُلْ ? يا محمد لهؤلاء المعاندين : ? أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ ? ، أي : في توحيد الله ؟ ? وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ? ، أي : لكل جزاء عمله ، فكيف تدعون أنكم أولى بالله ? وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ? ، وأنتم به مشركون ؟ قال سعيد بن جبير : الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله ، فلا يشرك به في دينه . ولا يرائي بعمله .
? أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ ? ، أي : ? قُلْ ? يا محمد : أأنتم أعلم بدينهم أم الله ؟ وقد أخبر الله تعالى : أن إبراهيم لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا ، ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين ، وإن أولى الناس به محمد والمؤمنون .
وقوله تعالى : ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ ? ، قال الحسن : كانوا يقرءون في كتاب الله الذي أتاهم : أن الدين الإسلام ، وأن محمدًا رسول الله ، وأن : إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط كانوا برءاء من اليهودية والنصرانية ، فشهدوا لله بذلك ، وأقروا على أنفسهم ، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك . وعن قتادة : قوله : ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ ? . قال : الشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - مكتوب عندهم ، وهو الذي كتموا .
وقوله تعالى : ? وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ? تهديد ووعيد . ? تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ? ، أي : مضت ? لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ? ، أي : لهم أعمالهم ولكم أعمالكم ? وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? ، كما قال تعالى : ? مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ? . والله أعلم .(1/165)
* * *
الدرس السادس عشر
? سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ(1/166)
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142) ? .(1/167)
يقول تعالى : ? سَيَقُولُ السُّفَهَاء ? ، أي : الجهال وهم : اليهود والمنافقون ? مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ ? ، أيّ : شيء صرفهم وحوّلهم ? عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا ? يعني : بيت المقدس .
قال ابن عباس : ( لما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر شهرًا ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعوا الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عز وجل : ? فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ? فارتاب من ذلك اليهود وقالوا : ? مَا وَلاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا ? ، فأنزل الله : ? قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? .
وروى الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني في أهل الكتاب : « إنهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين » .
قوله عز وجل : ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143) ? .(1/168)
يقول تعالى : ? وَكَذَلِكَ ? كما هديناكم صراطًا مستقيمًا ? جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ? ، أي : عدلاً خيارًا ، كما قال تعالى : ? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ? .
وقوله تعالى : ? لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ? ، أي : على الأمم بتبليغ رسلهم . وروى الإمام أحمد وغيره عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يدعى نوح يوم القيامة فيقال له : هل بلّغت ؟ فيقول نعم ، فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلّغكم . فيقولون : ما أتانا من نذير ، وما أتانا من أحد ، فيقال لنوح : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته . قال : ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ? قال : والوسط العدل . فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم » . رواه البخاري وغيره .
وفي رواية لأحمد : « يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان ، وأكثر من ذلك ، فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلّغكم هذا ؟ فيقولون : لا . فيقال له : هل بلّغت قومك ؟ فيقول نعم ، فيقال : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته ، فيدعى محمد وأمته فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون : نعم ، فيقال : وما أعلمكم ؟ فيقولون : جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا ، فذلك قوله عز وجل : ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ? قال : عدلاً ، ? لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ? .
وروى أحمد وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم » . قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال : « بالثناء الحسن ، والثناء السيِّء ، أنتم شهداء الله في الأرض » .(1/169)
وفي الحديث الآخر : « أيما مسلم شهد له أربعة بخير ، أدخله الله الجنة » قال : فقلنا : وثلاثة ؟ قال : فقال : « وثلاثة » قال : فقلنا : واثنان ؟ قال : « واثنان » . ثم لم نسأله عن الواحد . رواه البخاري وغيره .
وقوله تعالى : ? وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ? ،كما قال تعالى : ? فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ? قال قتادة : ? لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ? أي : أن رسلهم قد بلغت قومها عن ربها ? وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ? على أنه قد بلغ رسالات ربه إلى أمته .
وقوله تعالى : ? وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ? قال ابن كثير : ( يقول تعالى : إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس ، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ، ويستقبل معك حيثما توجهت ? مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ? ، أي : مرتدًا عن دينه ، ? وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ? أي : هذه الفعلة ، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة ، أي : وإن كان هذا الأمر عظيمًا في النفوس ، ? إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ? قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول ، وإن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه ، وأن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء ، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك ) . انتهى .(1/170)
وقوله تعالى : ? وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ? ، أي : صلاتكم إلى بيت المقدس . كما في الصحيح عن البراء قال : ( مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس ، فقال الناس : ما حالهم في ذلك ؟ فأنزل الله : ? وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ? ) .
وقوله تعالى : ? إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ? ، أي : فلا يضيع أجورهم ، فإن الله أرحم بهم من والديهم .
قوله عز وجل : ? قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) ? .
قال ابن إسحاق : حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق عن البراء قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي نحو بيت المقدس ، ويكثر النظر إلى السماء ، ينظر أمر الله ، فأنزل الله : ? قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ? فقال رجال من المسلمين : وددنا لو علمنا من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة ، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس ؟ فأنزل الله : ? وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ? . وقال السفهاء من الناس ، وهم من أهل الكتاب : ? مَا وَلاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا ? فأنزل الله : ? سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ ? إلى آخر الآية . انتهى .(1/171)
وعن ابن عباس قال : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته إلى بيت المقدس ، رفع رأسه إلى السماء ، فأنزل الله : ? فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ? إلى الكعبة ، إلى الميزاب ، يؤم به جبريل عليه السلام ) . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ? فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ? قال : شطره قبله ، وفي الحديث الصحيح : « ما بين المشرق والمغرب قبلة » ، يعني : لأهل المدينة ومن في سمتها ، فعلى من كان مشاهدًا للكعبة استقبالها ، وغير الشاهد يستقبل الجهة بعد التحري .
وقوله تعالى : ? وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ? أي : استقبالكم الكعبة ، ولكنهم يكتمون ذلك ? وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ? تهديد ووعيد .
قوله عز وجل : ? وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145) ? .
يقول تعالى : ? وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ ? ، يعني : اليهود والنصارى ? بِكُلِّ آيَةٍ ? معجزة ? مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ? ، يعني : الكعبة ? وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ? لأن اليهود تستقبل بيت المقدس وهو المغرب ، والنصارى تستقبل المشرق ، وقبلة المسلمين الكعبة .
وقوله تعالى : ? وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ? فيه : تحذير الأمة من مخالفة الحق واتباع الهوى .(1/172)
قوله عز وجل : ? الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) ? .
يخبر الله تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم ، وأن ما جاء به هو الحق ، ولكنهم يكتمون ذلك ، وهم يعلمون ثم قال تعالى : ? الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ? ، أي : هذا الحق من الله لا شك فيه ? فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ? الشَّاكين . قال الربيع : لا تكن في شك فإنها قبلتك وقبلة الأنبياء قبلك .
قال ابن جرير : هذا من الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب به ، والمراد به غيره .
قوله عز وجل : ? وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)?.
قال ابن عباس : يعني بذلك : أهل الأديان ، يقول : لكل قبيلة قبلة يرضونها ، ووجهة الله حيث توجه المؤمنون . وقال مجاهد : لكن أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة .(1/173)
وقوله تعالى : ? فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ? ، أي : بادروا بالطاعة أينما تكونوا أنتم وأهل الكتاب ، ? يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً ? يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم ، ? إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? ، وهذه الآية كقوله تعالى : ? وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ? .
قوله عز وجل : ? وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) ? .
قيل : إنما كرر الأمر باستقبال القبلة لتأكيد النسخ ، لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام .(1/174)
وقوله تعالى : ? لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ? . قال ابن كثير : ( وقوله : ? لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ? ، أي : أهل الكتاب ، فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة ، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين ، ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس ) . انتهى . وعن مجاهد ، وقتادة في قوله : ? لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ? قال : هم مشركو العرب ، قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة : قد رجع إلى قبلتكم ، فيوشك أن يرجع إلى دينكم . قال الله عز وجل : ? فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ? .
وقوله تعالى : ? وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ? ، أي : بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( تمام النعمة الموت على الإسلام ) .
وقوله تعالى : ? وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ? ، أي : لكي تهتدوا من الضلالة . ولعل وعسى من الله واجب .
قوله عز وجل : ? كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ (152) ? .
قيل معناه : ولأتم نعمتي عليكم ? كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ ?. وقال مجاهد : يقول : كما فعلت ? فَاذْكُرُونِي ? . قال الحسن وغيره : إن الله يذكر من ذكره ، ويزيد من شكره ، ويعذب من كفره . وقال سعيد بن جبير : اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي . وفي الحديث الصحيح : « من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه » .(1/175)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لا تَشْعُرُونَ (154) ? .
الصبر ثلاثة أنواع : صبر على طاعة الله ، وصبر عن محارم الله ، وصبر على أقدار الله . قال ابن زيد : الصبر في بابين : الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان ، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء ، فمن كان هكذا فهو من الصابرين .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ ? ، نزلت في قتلى بدر من المسلمين ? بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لا تَشْعُرُونَ ? ، كما قال تعالى في شهداء أحد : ? وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ? . وفي صحيح مسلم : « إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش ، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال : ماذا تبغون ؟ فقالوا : يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك ؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا ، فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يَسألوا ، قالوا : نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا ، فنقاتل في سبيلك حتى نقتل مرة أخرى . لما يرون من ثواب الشهادة . فيقول الرب جل جلاله : إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون » .
وروى الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه » .
قال ابن كثير : ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضًا .(1/176)
قوله عز وجل : ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) ?.
يقول تعالى : ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ? ، أي : ولنختبرنكم ، ? بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ? ، كما قال تعالى : ? أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ ? ، وقال تعالى : ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ? . وفي الحديث الصحيح : « عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له » . ولهذا قال تعالى : ? وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ? .
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها ، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها » . قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخلف الله خيرًا منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/177)
وقوله تعالى : ? أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ ? ، أي : ثناء الله عليهم ورحمته . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : نعم العدلان ونعمت العلاوة : ? أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ? ، فهذان العدلان ? وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ? ، فهذه العلاوة .
وروى أحمد وغيره عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « قال الله : يا ملك الموت ، قبضت ولد عبدي ؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال : نعم . قال : فما قال ؟ قال : حمدك واسترجع . قال : ابنوا له بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد » . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس السابع عشر(1/178)
? إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ(1/179)
أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) ? .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) ? .
? شَعَآئِرِ اللّهِ ? : معالم دينه ، والمراد به هنا : المناسك التي جعلها أعلامًا لطاعته وموضعًا لعبادته . روى البخاري عن أنس قال : كنا نرى أن الصفا والمروة من أمر الجاهلية ، فلماجاء الإسلام أمسكنا عنها ، فأنزل الله عز وجل : ? إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ ? . وقال الشعبي : كان أساف على الصفا ، وكانت نائلة على المروة ، وكانوا يستلمونها ، فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما ، فنزلت هذه الآية . وذكر ابن إسحاق أن أسافًا ونائلة كانا بشرين فزينا داخل الكعبة فمسخا حجرين ، فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس ، فلما طال عهدهما عُبدا ، ثم حولا إلى الصفا والمروة فنصبا هنالك ، فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما .
وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من باب الصفا وهو يقول : « ? إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ ? - ثم قال - : « أبدأ بما بدأ الله به » . وفي رواية النسائي : « ابدءوا بما بدأ الله به » . وفي الحديث الآخر :« اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي » . رواه أحمد.
وقوله تعالى : ? وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ? ، أي : من تطوع بالحج والعمرة بعد أداء الواجب فإن الله مجاز لعبده بجميع علمه عليم بنيته .(1/180)
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) ? .
قال قتادة : ? إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ? ، أولئك : أهل الكتاب كتموا الإسلام وهو دين الله ، وكتموا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل . وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار » .
وقوله تعالى : ? أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ? ، أصل اللعن الطرد ، والإبعاد . قال مجاهد : إذا أجدبت الأرض قالت البهائم : هذا من أجل عصاة بني آدم ، لعن الله عصاة بني آدم .
وقوله تعالى : ? إِلا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ ? ، أي : رجعوا عما كانوا عليه من المعاصي وأصلحوا أعمالهم ، وبينوا للناس ما كتموا ? فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (162) ? .
قال قتادة : إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ، ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون .(1/181)
وقوله تعالى : ? خَالِدِينَ فِيهَا ? ، أي : في نار جهنم ، كما قال تعالى : ? وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ? .
وقوله تعالى : ? لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ? ، أي : لا يمهلون ، كما قال تعالى : ? لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ? .
قال أبو العالية : لا ينظرون فيعتذروا ، كقوله تعالى : ? وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ? .
قوله عز وجل : ? وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) ? .(1/182)
قال البغوي : سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا : يا محمد صف لنا ربك وانسبه . فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وسورة الإِخلاص . والواحد : الذي لا نظير له ولا شريك له . وذكر حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أنها قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إن في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم : ? وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ? ، و ? الم * اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? » . قال أبو الضحى : ( لما نزلت هذه الآية قال المشركون : إن محمدًا يقول : إن إلهكم إله واحد ، فليأتنا بآية إن كان من الصادقين ، فأنزل الله عز وجل : ? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? الآية ) . قال عطاء : نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة : ? وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ? ، فقال كفار قريش بمكة : كيف يسع الناس إله واحد ؟ فأنزل الله تعالى : ? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ? إلى قوله : ? لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ? ، فبهذا يعلمون أنه إله واحد ، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء .(1/183)
قوله عز وجل : ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) ? .
يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الآخرة ، حيث جعلوا له ? أَندَاداً ? ، أي : أمثالاً ونظراء ، يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه ، وهو الله لا إله إلا هو لا شريك له ولا ند له ، فقال تعالى : ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ ? . قال الربيع : هي الآلهة التي تعبد من دون الله ، يقول : يحبون أوثانهم كحب الله ? وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ ? ، أي : من الكفار لأوثانهم . وقال مجاهد : ? يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ? مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد ، ? وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ ? من الكفار لأوثانهم .
قال ابن كثير : وقوله : ? وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ ? ولحبهم لله وتمام معرفتهم به ، وتوقيرهم وتوحيدهم له ، لا يشركون به شيئًا ، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ، ويلجأون في جميع أمورهم إليه .(1/184)
وقوله تعالى : ? وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ? ، أي : ولو يعلم الذين ظلموا باتخاذ الأنداد ، ? إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ? عاينوه يوم القيامة ، ? أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ? ، أي : لو يعلمون أن القدرة لله جميعًا ، لا قدرة لأندادهم ، ? إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ? يوم القيامة لندموا أشد الندامة ? إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ ? ، وهم : القادة ? مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ? ، أي : الأتباع ، ? وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ? ، أي : أسباب الخلاص ، كما قال تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ? .(1/185)
وقوله تعالى : ? وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ? ، كما قال تعالى : ? الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ? ، وقال تعالى : ? وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ? ، وقال تعالى : ? وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ? ، قال ابن كيسان : ? كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ? أنهم أشركوا بالله الأوثان ، برجاء أن تقربهم إلى الله عز وجل ، فلما عذبوا على ما كانوا يرجون ثوابه ، تحسروا وندموا . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس الثامن عشر(1/186)
? يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلا دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) ? .
* * *(1/187)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (169) ? .
قال البغوي : نزلت في : ثقيف ، وخزاعة ، وعامر بن صعصعة ، وبني مدلج ، فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام ، والبحيرة والسائبة ، والوصيلة ، والحام . انتهى .
وفي صحيح مسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « يقول الله تعالى : إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم » . وفي الحديث الآخر : « الحلال ما أحل الله ، والحرام ما حرم الله وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته » .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ? ، أي : طرائقه وأوامره ? إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ? بيّن العداوة ، كما قال تعالى : ? يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ ? ، وقال تعالى : ? أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ? ، وقال تعالى : ? إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ? .
قال قتادة : كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان . وقال ابن عباس : ما كان من يمين أو نذر في غضب ، فهو من خطوات الشيطان ، وكفارته كفارة يمين .(1/188)
وقوله تعالى : ? إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ ? ، أي : الأفعال السيئة والفحشاء . قال ابن عباس : الفحشاء من المعاصي ما يجب فيه الحد ، والسوء من الذنوب ما لا حد فيه ? وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ? من اتخاذ الأنداد ، وتحريم الحلال .
قوله عز وجل : ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلا دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171) ? .
يقول تعالى : ? وَإِذَا قِيلَ ? لهؤلاء الكفرة : ? اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ ? على رسوله واتركوا ما أنتم عليه من الضلال ? قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا ? ، أي : ما وجدناهم عليه في العقائد والأحكام ? أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ? .
قال البغوي : ? أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ ? ، أي : كيف يتبعون آباءهم لا يعقلون شيئًا ؟ الواو في ? أَوَلَوْ ? واو العطف ، ويقال لها : واو التعجب ، دخلت عليها ألف الاستفهام للتوبيخ . والمعنى : أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالاً لا يعقلون شيئًا ؟ لفظه عام ومعناه الخصوص ، أي : لا يعقلون شيئًا من أمور الدين ، لأنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا ولا يهتدون . ثم ضرب لهم مثلاً فقال جل ذكره : ? وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ ? . انتهى .(1/189)
قال ابن عباس : قوله : ? وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلا دُعَاء وَنِدَاء ? ، كمثل : البعير ، والحمار ، والشاة . إن قلت لبعضها : كلٌ لا يعلم ما تقول ، غير أنه يسمع صوتك ، وكذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته ، لم يعقل ما تقول ، غير أنه يسمع صوتك .
وقوله تعالى : ? صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ? ، أي : صمٌ عن سماع الحق ، بكمٌ لا يتكملون به ، عميٌ عن رؤية طريقه ومسلكه ? فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ? . كما قال تعالى : ? وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ? .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173) ? .
الطيبات : الحلال . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال تعالى : ? يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً ? ، وقال تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ? . ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام ، وغذّي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك » ؟ . رواه مسلم وغيره .(1/190)
وقوله تعالى : ? إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ? ، وهذه الآية كقوله تعالى : ? قُل لا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ? .
قال البغوي : ولحم الخنزير أراد به جميع أجزائه ، فعبر عن ذلك باللحم لأنه معظمه ? وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ? ، أي : ما ذبح للأصنام والطواغيت . وقال الربيع بن أنس : ما ذكر عليه اسم غير الله .
وقوله تعالى : ? فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ? ، أي : في أكل ذلك في غير بغي ولا عدوان ، وهو مجاوزة الحد . قال قتادة : ? فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ? . قال : غير باغ في الميتة ، أي : في أكله أن يتعدى حلالاً إلى حرام ، وهو يجد عنه مندوحة . وقال السدي : أما باغ فيبغي فيه شهوته ، وأما العادي فيتعدى في أكله ، يأكل حتى يشبع ، ولكن ليأكل منه قوتًا ما يمسك به نفسه ، حتى يبلغ به حاجته .(1/191)
وقوله تعالى : ? إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ ? ، أي : لمن أكل في حال الاضطرار ? رَّحِيمٌ ? حيث رخص للعباد في ذلك . وعن عباد بن شُرَحبيل الغُبَري قال : ( أصابتنا عامًا مخمصة ، فأتيت المدينة ، فأتيت حائطًا فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته ، وجعلته منه في كسائي فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال للرجل : « ما أطعمته إذ كان جائعًا ، ولا علمته إذ كان جاهلاً » . فأمره فرد إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق ) . رواه ابن ماجة . قال ابن كثير : إسناده صحيح قوي جيد ، وله شواهد كثيرة ، من ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثمر المعلق فقال : « من أصاب منه من ذي حاجة بفيه ، غير متخذ خبنة فلا شيء عليه » . الحديث .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) ? .(1/192)
نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم ، كتموا صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - الثابتة في كتبهم ، لئلا تذهب برياستهم ومآكلهم ، والآية عامة في كل من كتم العلم لأجل ذلك ? أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ ? ، يعني : إلا ما يؤديهم إلى النار ، وهو : الرشوة ، والحرام ، وثمن الدين ، كما قال تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ? . وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إنكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم أن يكون أبلغ بحجته من بعض ، فأقضي له بنحوٍ مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار ، فليأخذها أو يدعها » . وفي الحديث الآخر : « الذي يشرب في إناء الذهب والفضة ، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم » .
وقوله تعالى : ? وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? .
قال ابن كثير : وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم ، لأنهم كتموا وقد علموا ، فاستحقوا الغضب ، ( فلا ينظر إليهم ) ، ? وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ? ، أي : يثني عليهم ويمدحهم ، بل يعذبهم عذابًا أليمًا . ثم ذكر حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر » .
وقوله تعالى : ? أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ? ، أي : اعتاضوا عن الهدى بالضلالة ، وهي : كتمان ما أنزل الله ، واعتاضوا عن المغفرة بالعذاب ، وهو ما تعاطوه من أسبابه ? فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ? ، قال الحسن ، وقتادة : والله ما لهم عليها من صبر ، ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار .(1/193)
وقوله تعالى : ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ? ، أي : إنما استحقوا هذا العذاب الشديد ، لأن الله نزل الكتاب بتحقيق الحق ، وإبطال الباطل ، وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوًا ، واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . ? وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ ? فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، ? لَفِي شِقَاقٍ ? خلاف وضلال ، ? بَعِيدٍ ? . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس التاسع عشر(1/194)
? لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (182) ? .
* * *(1/195)
قوله عز وجل : ? لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) ? .
البر : كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة . قال أبو العالية : كانت اليهود تقبل قبل المغرب ، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق ، فقال الله تعالى : ? لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ? . يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقة العمل . وقال مجاهد : ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عز وجل . وقال الثوري : ? وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ? ، الآية ، قال : هذه أنواع البر كلها .(1/196)
وقوله تعالى : ? وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ ? ، أي : بأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه ، وآمن باليوم بالآخر : وهو يوم القيامة ، وصدق بوجود الملائكة الذين هم عباد الرحمن ، وصدق بالكتاب أي : القرآن ، وجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء ، وآمن بالنبيين كلهم . ? وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ? ، أي : أعطاه وهو محب له ? ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ? ، أي : فكها من الرق ، وهي عامة في المكاتبين وفي العتق وفي فداء الأسير ? وَأَقَامَ الصَّلاةَ ? ، أي : وأتمها في أوقاتها على الوجه المرضي ? وَآتَى الزَّكَاةَ ? أعطى زكاة ماله ? وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ? فيما بينهم وبين الله عز وجل ، وفيما بينهم وبين الناس ? وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ ? أي : في حالة الفقر والمرض وفي القتال ، ? أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ? في إيمانهم ، ? وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ? بتركهم المحارم وفعلهم الطاعات .
قوله : ? وَالصَّابِرِينَ ? . قال أبو عبيدة : نصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الإعراب إذا طال الكلام ، ومثله في سورة النساء : ? وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ? ، وفي سورة المائدة : ? وَالصَّابِؤُونَ ? . وقال الخليل : نصب على المدح .
وعن علي رضي الله عنه قال : ( كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما يكون أحد منا أقرب إلى العدو منه ، يعني : إذا اشتد الحرب ) .(1/197)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) ? .
قال الشعبي وغيره : نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب ، اقتتلوا في الجاهلية قبيل الإسلام بقليل ، وكانت بينهما قتلى وجراحات ، لم يأخذها بعضهم من بعض ، حتى جاء الإسلام ، وكان لأحد الحيين على الآخر طول في الكثرة والشرف ، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور ، فأقسموا : لنقتلن بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك ، فرفعوا أمرهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمر بالمساواة ، فرضوا وأسلموا .(1/198)
وقوله تعالى : ? كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ? ، أي : فرض عليكم القصاص وهو المساواة والمماثلة في الجراحات والديات : الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى ، قال قتادة : كان أهل الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان ، فكان الحي إذا كان فيهم عدة ومنعة ، فقتل عبد قوم آخرين عبدًا لهم قالوا : لا تقتل به إلا حرًا ، تعزيزًا لفضلهم على غيرهم في أنفسهم ، وإذا قتلت لهم امرأة ، قتلتها امرأة قوم آخرين قالوا : لا نقتل بها إلا رجلاً ، فأنزل الله هذه الآية ، يخبرهم أن العبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى ، فنهاهم عن البغي . ثم أنزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال : ? وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ?.
وقد اختلف العلماء في قتل الحر بالعبد ، فذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة ، وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل الحر بالعبد وقالوا : لا يقتل المسلم بالكافر لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يقتل مسلم بكافر » . رواه البخاري . وقال أبو حنيفة : يقتل لعموم الآية . وقال الحسن وعطاء : لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية .
وخالفهم الجمهور لآية المائدة ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : « المسلمون تتكافأ دماؤهم » .
وذهب الأئمة الأربعة والجمهور إلى أن الجماعة يقتلون بالواحد .
قال البغوي : ( ويجري القصاص في الأطراف كما يجري في النفوس ، إلا في شيء واحد وهو : أن الصحيح السوي يقتل بالمريض والزمن ، وفي الأطراف لو قطع يدًا شلاء أو ناقصة لا تقطع بها الصحيحة الكاملة ) انتهى .(1/199)
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه : ( أن الرّبيّع بنت النضر عمته ، كسرت ثنية جارية ، فطلبوا إليها العفو فأبوا ، فعرضوا الأرش فأبوا ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبوا إلا القصاص فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص فقال أنس بن النضر : يا رسول الله أتكسر ثنية الرّبيّع ؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها . فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - : « يا أنس كتاب الله القصاص » . فرضي القوم فعفوا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره » .
وقوله تعالى : ? فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ? . قال ابن عباس : ? فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ? ، يعني : فمن ترك له من أخيه شيء ، يعني : أخذ الدية بعد استحقاق الدم ، وذلك العفو . ? فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ? ، يقول : فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية ، ? وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ? ، يعني : من القاتل من غير ضرر ولا معك ، يعني : المدافعة . وقوله تعالى : ? ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ? ، يعني : أخذ الدية في العمد . قال قتادة : رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ، ولم تحل لأحد قبلهم ، فكان أهل التوراة إنما هو والقصاص وعفو ليس بينهم أرش ، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به ، وجعل لهذه الأمة : القصاص ، والعفو ، والأرش .(1/200)
وقوله تعالى : ? فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? ، أي : من قتل بعد أخذ الدية فله عذاب أليم . قال ابن جرير : يتحتم قتله حتى لا يقبل العفو . وقال سعيد بن عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية » . وروى أحمد عن أبي شريح الخزاعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتص ، وإما أن يعفو ، وإما أن يأخذ الدية ، وإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدًا فيها » .
وقوله تعالى : ? وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? . يقول تعالى : ? وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ? ، أي : بقاء قال أبو العالية : جعل الله القصاص حياة ، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل . وقال قتادة : جعل الله هذا القصاص حياة ونكالاً وعظة لأهل السفه والجهل من الناس ، وكم من جاهل قد هم بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها ، ولكن الله حجز بالقصاص بعضهم عن بعض ، وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة ، ولا نهى عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين ، والله كان أعلم بالذي يصلح خلقه .
وقوله تعالى : ? يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ? ، أي : العقول والأفهام . ? لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? . قال ابن زيد : لعلك تتقي أن تقتله فتقتل به .
قال ابن كثير : والتقوى اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات .
قوله عز وجل : ? كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) ? .(1/201)
كانت الوصية فريضة في ابتداء الإسلام للوالدين ، والأقربين على من مات وله مال ، ثم نسخت بآية الميراث . وفي السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب وهو يقول : « إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث » . وقال قتادة : قوله : ? كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ? ، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين ، ثم نسخ ذلك بعد ذلك فجعل لهما نصيب مفروض ، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون ، وجعل للوالدين نصيب معلوم ، ولا تجوز وصية لوارث .
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده » . قال ابن عمر : ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك إلا ووصيتي عندي . وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه أنه دخل على رجل من قومه يعوده ، فقال له أوصني ، فقال له علي : إنما قال الله : ? إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ? ، إنما تركت شيئًا يسيرًا فاتركه لولدك .
وقوله تعالى : ? بِالْمَعْرُوفِ ? ، قال ابن جرير : ( وهو ما أذن الله فيه وأجازه في الوصية ، مما يجوز الثلث ، ولم يتعمد الموصي ظلم ورثته ) . انتهى .
وعن حنظلة بن حِذْيَم بن حنيفة أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإِبل ، فشق ذلك على بنيه ، فارتفعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال حنيفة : إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإِبل كنا نسميها المطية ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لا ، لا ، لا ، الصدقة خمس ، وإلا فعشر ، وإلا فخمس عشرة ، وإلا فعشرون ، وإلا فخمس وعشرون ، وإلا فثلاثون ، وإلا فخمس وثلاثون ، فإن كثرت فأربعون » . الحديث رواه أحمد .(1/202)
وقال ابن عباس : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « الثلث ، والثلث كثير » . وقال الشعبي : إنما كانوا يوصون بالخمس أو الربع . وقال الحسن البصري : يوصي بالسدس ، أو الخمس ، أو الربع . وعن نافع أن ابن عمر لم يوص ، وقال : أما مالي فالله أعلم ما كنت أصنع فيه في الحياة ، وأما رباعي فما أحب أن يشرك ولدي فيها أحد . رواه ابن جرير .
قوله عز وجل : ? فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (182) ? .
يقول تعالى : فمن بدل الوصية فزاد فيها أو نقص ? فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ? ، والميت بريء منه ، وقد وقع أجره على الله ? إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? ، أي : قد اطلع على ما أوصى به الميت وعلى ما غيره المبدل ، لا تخفى عليه خافية .(1/203)
وقوله تعالى : ? فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً ? ، أي : جورًا وعدولاً عن الحق ، أي : ظلمًا . قال السدي وغيره : الجنف : الخطأ ، والإثم : العمد ? فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ? ، قال مجاهد : معنى الآية : أن الرجل إذا حضر مريضًا وهو يوصي فرآه يميل إما بتقصير أو إسراف ، أو وضع الوصية في غير موضعها ، فلا حرج على من حضره أن يأمره بالعدل وينهاه عن الجنف ، فينظر للموصى له والورثة . وقال ابن عباس في قوله : ? فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً ? ، يعني : إثمًا ، يقول : إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها ، فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب . وقال قتادة في قوله : ? فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً ? قال : هو الرجل يوصي فيحيف في وصيته ، فيردها الوالي إلى الحق والعدل . وقال أيضًا : من أوصى بجور أو جنف في وصيته ، فردها والي المتوفي إلى كتاب الله وإلى العدل ، فذاك له ، أو إمام من أئمة المسلمين . وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة ، فيعدل في وصيته ، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة » . قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : ? تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ ? الآية ، رواه عبد الرزاق . يشير إلى قوله تعالى : ? مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ * تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ(1/204)
مُّهِينٌ ? .
وقوله تعالى : ? إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? فيه : الحث على ترك الإثم والميل ، وفعل الإصلاح ، ليحصل الغفران والرحمة . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس العشرون
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي(1/205)
الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) ? .
يقول تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ? ، أي : فرض عليكم ? كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ? من الأنبياء والأمم . قال سعيد بن جبير : كان صوم من قبلنا من العتمة إلى الليلة القابلة ، كما كان في ابتداء الإسلام . وقوله تعالى : ? لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? ، أي : لأن الصوم وسيلة إلى التقوى ، لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات . كما ثبت في الصحيحين : « يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » .
وقوله تعالى : ? أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ? ، أي : ثلاثين يومًا أو تسعة وعشرين يومًا .
وقوله تعالى : ? فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ? ، أي : إذا أفطر المريض في حال مرضه ، والمسافر في حال سفره صاما عدد ما أفطراه بعد رمضان .(1/206)
وقوله تعالى : ? وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ? . روى ابن جرير عن معاذ بن جبل قال : ( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة فصام يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر ، ثم إن الله عز وجل فرض شهر رمضان ، فأنزل الله تعالى ذكره : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ? حتى بلغ : ? وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ? ، فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا ، ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم ، وثبت الإِطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم ، فأنزل الله عز وجل : ? فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ ? إلى آخر الآية ) .(1/207)
وقال ابن عباس في قوله تعالى : ? فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ? ، ? فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ? ، فزاد إطعام مسكين آخر ? فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ? ، ? وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ? ، وقال ابن شهاب : ? وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ? ، أي : أن الصيام خير لكم من الفدية . وعن الشعبي قال : نزلت هذه الآية للناس عامة : ? وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ? ، وكان الرجل يفطر ويتصدق بطعامه على مسكين ، ثم نزلت هذه الآية : ? فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ? قال : فلم تنزل الرخصة إلا للمريض والمسافر . وقال قتادة في قوله : ? وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ? ، قال : كان فيها رخصة للشيخ الكبير ، والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يطعما مكان كل يوم مسكينًا ويفطرا ، ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها فقال : ? شَهْرُ رَمَضَانَ ? إلى قوله : ? فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ? فنسختها هذه الآية ، فكان أهل العلم يرون ويرجون الرخصة تثبت للشيخ الكبير ، والعجوز الكبيرة ، إذا لم يطيقا الصوم أن يفطرا ويطعما كل يوم مسكينًا ، وللحبلى إذا خشيت على ما في بطنها ، وللمرضع إذا ما خشيت على ولدها .
وقوله تعالى : ? إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ? . قال ابن جرير : يعني : إن كنتم تعلمون خير الأمرين لكم أيها الذين آمنوا من الإفطار والفدية والصوم على ما أمركم الله به .(1/208)
قوله عز وجل : ? شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) ? .
يمدح تعالى هذا الشهر ؛ لأنه أنزل فيه القرآن ، وفرض صيامه على المسلمين . وروى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان » . وقال ابن عباس : نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة ، وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء ، ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه ، وذلك قوله تعالى : ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ? .
وقوله تعالى : ? هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ? ، أي : إرشادًا للناس إلى سبيل الحق ? وَبَيِّنَاتٍ ? ، أي : واضحات من الهدى ، يعني : من البينات الدالة على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه .(1/209)
وقوله : ? وَالْفُرْقَانِ ? ، يعني : والفصل بين الحق والباطل . وقوله تعالى : ? فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ? قال ابن عباس في قوله : ? فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ? قال : هو إهلاله بالدار ، يريد إذا هلّ وهو مقيم .
وقوله تعالى : ? وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ? .
قال البغوي : أباح الفطر لعذر المرض ، والسفر ، وأعاد هذا الكلام ليعلم أن هذا الحكم ثابت في النسخ ثبوته في المنسوخ .
وقوله تعالى : ? يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ? ، عن أبي حمزة قال : سألت ابن عباس عن الصوم في السفر فقال : يسر وعسر ، فخذ بيسر الله . وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه : ( كنا نسافر مع النبي- صلى الله عليه وسلم - فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم ) .
وقوله تعالى : ? وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ? ، أي : إنما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ، لإرادته بكم اليسر ، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم .
وقوله تعالى : ? وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ? ، أي : ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم ، كما قال تعالى : ? فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ? .
قال البغوي : ? وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ ? ، ولتعظموا الله ? عَلَى مَا هَدَاكُمْ ? أرشدكم إلى ما رضي به من صوم شهر رمضان ، وخصكم به دون سائر أهل الملل . قال ابن عباس : هو تكبيرات ليلة الفطر ? وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ? الله على نعمه .(1/210)
قوله عز وجل : ? وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) ? .
قال البغوي : روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قالت يهود أهل المدينة : يا محمد كيف يسمع ربنا دعاءنا ؟ وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام ؟ وأن غلظ كل سماء مثل ذلك ؟ فنزلت هذه الآية . وقال الضحاك : سأل بعض الصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -فقالوا : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله تعالى : ? وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ? . وفيه إضمار ، كأنه قال : فقلت لهم : ? إِنِّي قَرِيبٌ ? منهم بالعلم لا يخفى عليّ شيء ، كما قال تعالى : ? وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ? . ثم ساق سنده عن أبي موسى الأشعري قال : ( لما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبرًا وتوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر ، أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا ، إنكم تدعون سميعًا قريبًا ، وهو معكم » .
وقوله تعالى : ? أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ? ، روى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « ما من مسلم يدعو الله عزّ وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم ، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجّل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الأخرى ، وإما أن يصرف عنه من السوء بمثلها » . قالوا : إذًا نكثر قال : « الله أكثر » .(1/211)
وقوله تعالى : ? فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ? ، أي : فليجيبوا لي بالطاعة أجبهم بالعطاء . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول دعوت فلم يستجب لي » .
وقوله تعالى : ? وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ? أي : لكي يهتدوا .
قوله عز وجل : ? أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) ? .
الرفث : كناية عن جماع . قال ابن عباس : إن الله حيي كريم يكني كل ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة ، والإفضاء والدخول والرفث ، فإنما عنى به الجماع ، وقال أيضًا : كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ، ثم إن أناسًا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب ، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله تعالى : ? عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ? الآية .(1/212)
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : ( قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله إني أردت أهلي البارحة على ما يريد الرجل أهله ، فقالت : إنها قد نامت . فظننتها تعتل ، فواقعتها ، فنزل في عمر ? أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ? .
وقوله تعالى : ? هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ ? ، أي : سكن لكم . ? وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ? . كما قال تعالى : ? وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ? ، وقال تعالى : ? وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً ? ، وقال تعالى : ? اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ? ، وقال الربيع بن أنس : هنَّ فراش لكم وأنتم لحاف لهنَّ .
وقوله تعالى : ? فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ? ، أي : جامعوهن . ? وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ? . قال قتادة : وابتغوا الرخصة التي كتب الله كم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ .(1/213)
وقوله تعالى : ? وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ? ، في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال : ( لما نزلت هذه الآية : ? وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ? . عمدت إلى عقالين أحدهما أسود ، والآخر أبيض ، قال : فجعلتهما تحت وسادتي . قال : فجعلت أنظر إليهما فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت ، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بالذي صنعت ، فقال : « إن وسادك إذًا لعريض . إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل » . وروى مسلم وغيره عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ، ولا الفجر المستطيل ، ولكن الفجر المستطيل في الأفق » . ولأحمد ، والترمذي عن طلق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « كلوا واشربوا ولا يهدينكم الساطع المصعد ، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر » . وقال ابن عباس : هما فجران ، فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئًا ، ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب . رواه عبد الرزاق .
وقوله تعالى : ? ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ? ، في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إذا أقبل الليل من ها هنا ، وأدبر النهار من ها هنا ، فقد أفطر الصائم » . ولمسلم : « وغابت الشمس » .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ? . قال ابن عباس : هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان ، أو في غير رمضان ، فحرّم الله عليه أن ينكح النساء ليلاً أو نهارًا حتى يقضي اعتكافه .(1/214)
وقوله تعالى : ? تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ ? ، أي : التي نهاكم عنها . ? فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ? فينجو من العذاب ، كما قال تعالى : ? هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ? .
قوله عز وجل : ? وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188) ? .
قال ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بيّنة ، فيجحد المال ، ويخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه ، وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام . وقال مجاهد : لا تخاصم وأنت ظالم . وقال قتادة : لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم ؛ فإن قضاءه لا يحل حرامًا . وفي الصحيحين عن أم سلمة رضي الله عنها : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ألا إنما أنا بشر ، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له بنحو مما أسمع ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار ، فليحملها أو يذرها » .
قال قتادة : ( اعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحل لك حرامًا ، ولا يحق لك باطلاً وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى ، وتشهد به الشهود ، والقاضي بشر يخطئ ويصيب ، واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة ، فيقضي على المبطل للحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا ) . والله أعلم .
الدرس الحادي والعشرين(1/215)
? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) ? .(1/216)
قال العوفي عن ابن عباس : ( سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية : ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ? يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم ) .
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم فعدوا ثلاثين يومًا » . رواه عبد الرزاق .
وقوله تعالى : ? وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ? روى البخاري عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره ، فأنزل الله : ? وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ? .
وقوله تعالى : ? وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ? أي : اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه لتفوزوا غدًا إذا وقفتم بين يديه .
قوله عز وجل : ? وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ (190) ? .
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : إن ذلك في النساء والذرية ، ومن لم ينصب لك الحرب منهم . وقال ابن عباس : يقول : لا تقتلوا النساء ولا الصبيان ولا الشيخ الكبير ، ولا من ألقى إليكم السلام وكف يده ، فإن فعلتم هذا فقد اعتديتم . وقال الربيع : هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاتل من يقاتله ، ويكفّ عم كفّ عنه حتى نزلت براءة .(1/217)
قوله عز وجل : ? وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (192) ? .
قال البغوي : أصل الثقافة الحذّ والبصر بالأمر ، ومعناه : واقتلوهم حيث أبصرتم مقاتلتهم وتمكنتم من قتلهم ، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ، وذلك أنهم أخرجوا المسلمين من مكة . فقال : أخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم من دياركم .
وقوله تعالى : ? وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ? قال مجاهد وغيره : يقول : الشرك أشد من القتل .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? .
قال ابن كثير : وقوله : ? وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ? كما جاء في الصحيحين : « إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، وإنها ساعتي هذه حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شجره ، ولا يختلى خلاه ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم » ، يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه : قتاله أهله يوم فتح مكة ، فإنه فتحها عنوة وقتلت رجال منهم عند الخندمة ، وقيل : صلحًا ؛ لقوله : « من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن » .(1/218)
وقوله : ? حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ? ، يقول تعالى : ? وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ? إلا أن يبدءوكم بالقتال فيه ، فلكم حينئذٍ قتالهم وقتلهم دفعًا للصائل ، كما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال ؛ لما تألبت عليه بطون قريش ، ومن والاهم من أحياء ثقيف ، والأحابيش عامئذ ، ثم كفّ الله القتال بينهم ، فقال : ? وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ? . وقال : ? وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ? .
وقوله : ? فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? ، أي : فإن تركوا القتال في الحرام ، وأنابوا إلى الإِسلام والتوبة ؛ فإن الله يغفر ذنوبهم ؛ ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله ، فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه . انتهى .
قوله عز وجل : ? وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) ? .(1/219)
قال البغوي : وقاتلهم ، يعني : المشركين ، ? حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ? أي : شرك ، يعني : قاتلوهم حتى يسلموا ، فلا يقبل من الوثني إلا الإِسلام ، فإن أبى قُتل . ? وَيَكُونَ الدِّينُ ? ، أي : الطاعة والعبادة لله وحده ، فلا يعبد شيء دونه . قال نافع : جاء رجل إلى ابن عمر في فتنة ابن الزبير ، فقال : ما يمنعك أن تخرج ؟ قال : يمنعني أن الله حرم دم أخي قال : ألا تسمع ما ذكره الله عز وجل : ? وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ? فقال : ابن أخي ، ولأن أعتبر بهذه الآية ولا أقاتل ، أحبّ إليّ من أن أعتبر بالآية التي يقول الله عز وجل : ? وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً ? قال : ألم يقل الله : ? وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ? قال : قد فعلنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كان الإسلام قليلاً وكان الرجل يفتن في دينه إما يقتلونه أو يعذبونه ، حتى كثر الإِسلام فلم تكن فتنة ، وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوهم حتى تكون فتنة ، ويكون الدين لغير الله . انتهى .
وقوله تعالى : ? فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ ? ، قال الربيع : هم المشركون . وقال مجاهد : ? فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ ? ، يقول : لا تقاتلوا إلا من قاتلكم .
قوله عز وجل : ? الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) ? .(1/220)
قال ابن عباس وغيره : ( لما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتمرًا في ست من الهجرة ، وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت ، وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة ، وهو شهر حرام ، حتى قاضهم على الدخول من قابل ، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان معه من المسلمين ، وأقصه الله منهم ، فنزلت في ذلك هذه الآية : ? الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ? وعن جابر بن عبد الله قال : ( لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزي ونغزو ، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ ) . رواه أحمد .
وقوله تعالى : ? فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ? سمي الجزاء باسم الابتداء ، كما قال تعالى : ? وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ? قال ابن كثير : أمر تعالى بالعدل حتى في المشركين .
وقوله تعالى : ? وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ? ، أمر لهم بطاعة الله وتقواه ، وإخبار بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة .
قوله عز وجل : ? وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) ? .
قال ابن عباس في قوله : ? وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ? : ليس ذلك في القتال إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله ، ولا تلق بيدك إلى التهلكة .(1/221)
وروى أبو داود وغيره عن أسلم بن عمران قال : ( حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صفّ العدو حتى خرقه ، ومعنا أبو أيوب الأنصاريّ ، فقال ناس : ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب : نحن أعلم بهذه الآية منكم ، إنما نزلت فينا . صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وشهدنا معه المشاهد ، ونصرناه ، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار نجيًا ، فقلنا : قد أكرمنا الله بصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ونصره حتى فشا الإسلام ، وكثر أهله ، وكنا قد آثرنا على الأهلين والأموال والأولاد ، وقد وضعت الحرب أوزارها ، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهم ، فنزل فينا : ? وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ? ، فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد ) .
وروى ابن مردويه عن النعمان بن بشير في قوله : ? وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ? ، أن يذنب الرجل الذنب فيقول : لا يغفر لي ، فأنزل الله : ? وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ? .
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : والأول أظهر ، لتصديره الآية بذكر النفقة ، فهو المعتمد في نزولها . وأما قصرها عليه ففيه نظر ؛ لأن العمدة بعموم اللفظ إلى أن قال : وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو ، فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته ، وظنه أنه يرهب العدو بذلك ، أو يجرئ المسلمين عليهم ، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة ، فهو حسن . ومتى كان مجرد تهور فممنوع ، ولاسيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين والله أعلم . انتهى .
* * *
الدرس الثاني والعشرون(1/222)
? وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ(1/223)
الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) ? .
قوله عز وجل : ? وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ? .
لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد ، شرع في بيان المناسك فقال : ? وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ? . قال ابن عباس : من أحرم بحج أو عمرة فليس له أن يحل حتى يتمها . تمام الحج يوم النحر ، إذا رمى جمرة العقبة وزار البيت ، فقد حل من إحرامه كله ، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة ، فقد حل .
وقوله تعالى : ? فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ? . قال مجاهد: الحصر الحبس ، كأنه يقول : أيما رجل اعترض له في حجته وعمرته فإنه يبعث بهديه من حيث يحبس . وقال قتادة : هو الخوف والمرض والحابس إذا أصابه ذلك بعث بهديه ، فإذا بلغ الهدي محله حل . وعن هشام بن عروة عن أبيه قال : كل شيء حبس المحرم فهو إحصار . وقال ابن عباس : مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شاة .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ? ، أي : الحرم .(1/224)
قال ابن كثير : ( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم ، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم . فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم ، فلا يجوز الحلق ، حتى يبلغ الهدي محله ، ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة ، إن كان قارنًا ، أو من فعل أحدهما إن كان مفردًا أو متمتعًا ، كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت : يا رسول الله ما شأن الناس أحلّوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فقال : « إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر » .
وقوله تعالى : ? فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ? ، عن كعب بن عجرة قال : ( حملت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي فقال : « ما كنت أرى أن الجهل بلغ بك هذا ، أما تجد شاة » ؟ قلت : لا . قال : « صم ثلاثة أيام ، وأطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام ، واحلق رأسك » . فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة ) . رواه البخاري وغيره .
وفي رواية لأحمد وغيره : « يؤذيك هوام رأسك » ؟ قلت : نعم . قال : « فاحلقه وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك نسيكة » .
قوله عز وجل : ? فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) ? .(1/225)
قال ابن كثير : ( وقوله : ? فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ? ، أي : فإذا تمكنتم من أداء المناسك ، فمن كان منكم متمتعًا بالعمرة إلى الحج ، وهو يشمل من أحرم بهما أو أحرم بالعمرة أولاً ، فلما فرغ منها أحرم بالحج ، وهذا هو التمتع الخاص وهو المعروف في كلام الفقهاء . والتمتع العام يشمل القسمين كما دلت عليه الأحاديث الصحاح ) . انتهى .
وقوله تعالى : ? فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ? ، أي : فليذبح ما تيسر من الهدي وأقله شاة . ? فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ? ، أي : في أيام المناسك . قال عطاء وغيره : الأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر ، أو من حين يحرم ، قاله ابن عباس وغيره . وقال العوفي عن ابن عباس : إذا لم يجد هديًا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة ، فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تمّ صومه ، وسبعة إذا رجع إلى أهله .
وهل يجوز صيامها أيام التشريق ؟ فيه قولان للعلماء والراجح الجواز ، لما روى البخاري عن ابن عمر وعائشة قالا : ( لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي ) .
وقوله تعالى : ? ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ? قال ابن عباس : هم أهل الحرم . وقال طاوس : المتعة للناس لا لأهل مكة ، من لمن يكن أهله من الحرم . وقال مكحول في قوله ذلك : ? لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ? . قال : من كان دون الميقات . واختار ابن جرير : أنهم أهل الحرم ، ومن كان منه على مسافة لا يقصر فيها الصلاة .
وقوله تعالى : ? وَاتَّقُواْ اللّهَ ? ، أي : فيما أمركم ونهاكم ، ? وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ? ، لمن خالف أمره وارتكب نهيه .(1/226)
قوله عز وجل : ? الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ(197)?.
قال ابن عباس : لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج ، من أجل قول الله تعالى : ? الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ? . وقال ابن عمر : هي : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة . قال ابن جرير : وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب .
وقوله تعالى : ? فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ? قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ? فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ? يقول : من أحرم بحج أو عمرة .
وقوله : ? فَلاَ رَفَثَ ? ، أي : من أحرم بحج أو عمرة فليجتنب الرفث وهو الجماع . وكان ابن عمر يقول : الرفث : إتيان النساء ، والتكلم بذلك للرجال والنساء ، إذا ذكروا ذلك بأفواههم . وقال ابن عباس : الرفث : التعريض بذكر الجماع ، وهي العرابة في كلام العرب ، وهو أدنى الرفث . وقال عطاء : الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش . وقال طاوس : هو أن يقول للمرأة إذا حللت أصبتك .
وقوله : ? وَلاَ فُسُوقَ ? . قال ابن عباس وغيره : هي المعاصي . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه » .(1/227)
وقوله تعالى : ? وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ? . قال مجاهد : قد بين الله أشهر الحج ، فليس فيه جدال بين الناس . وقال ابن عباس : ? وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ? . قال : المراء في الحج . وقال ابن مسعود في قوله : ? وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ? . قال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه ، وكذا قال ابن عباس وغيره ، وقال ابن عمر : الجدال في الحج السباب والمنازعة ، وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده ، غفر له ما تقد من ذنبه » . رواه أحمد .
وقوله تعالى : ? وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ ? ، لمّا نهاهم عن إتيان القبيح حثهم على فعل الجميل ، وأخبرهم أنه عالم به وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة .
وقوله تعالى : ? وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ? . روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوجون ، ويقولون : نحن المتوكلون فأنزل الله : ? وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ? .
وقوله تعالى : ? فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ? ، لمّا أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا ، أرشدهم إلى زاد الآخرة ، وهو استصحاب التقوى ، كما قال تعالى : ? يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ? . وقال مقاتل : لما نزلت هذه الآية : ? وَتَزَوَّدُواْ ? قام رجل من فقراء المسلمين فقال : يا رسول الله ما نجد ما نتزوده ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « تزود ما تكف به وجهك عن الناس ، وخير ما تزودتم التقوى » . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : ? وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ? ، أي : العقول ، والأفهام ، أي : احذروا عقابي وعذابي لمن خالفني وعصاني .(1/228)
قوله عز وجل : ? لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) ? .
روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال : ( كانت عكاظ ومجنة وذوى المجاز أسواقًا في الجاهلية ، فتأثموا أن يتّجروا في الموسم فنزلت : ? لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ? في مواسم الحج ) . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية : لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده . وروى أحمد وغيره عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر : إنا نكري فهل لنا من حج ؟ قال : أليس تطوفون بالبيت ، وتأتون بالمعروف ، وترمون الجمار ، وتحلقون رءوسكم ؟ قال : قلنا : بلى . فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية : ? لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ? فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : « أنتم حجاج » .
وقوله تعالى : ? فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ? . روى أحمد وأهل السنن عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « الحج عرفات ، - ثلاثًا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك » . الحديث .(1/229)
وفي حديث جابر الطويل : ( فلم يزل واقفًا - يعني : بعرفة - حتى غابت الشمس وبدت الصفرة قليلاً ، حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه . ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : « أيها الناس السكينة السكينة » . كلما أتى جبلاً أرخى لها قليلاً حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب الْقَصْوَاءَ حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ، فدعا الله وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا فدفع قبل أن تطلع الشمس ) . الحديث رواه مسلم .
وروى أحمد عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « كل عرفات موقف وادفعوا عن عرفة ، وكل مزدلفة موقف وادفعوا عن محسر ، وكل فجاج مكة منحر ، وكل أيام التشريق ذبح » .
وقوله تعالى : ? وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ? ، أي : واذكروه بالتوحيد والتعظيم كما هداكم لدينه ، ومناسك حجه . ? وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ? ، أي : وقد كنتم من قبل هذا الهدى لمن الضالين الجاهلين بدينهم .(1/230)
وقوله تعالى : ? ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? . قال أهل التفسير : كانت قريش وحلفاؤها ومن دان بدينها وهم الحمس ، يقفون بالمزدلفة ويقولون : نحن أهل الله ، وقطان حرمه ، فلا نخلف الحرم ، ولا نخرج منه ، ويتعظمون أن يقفوا مع سائر العرب بعرفات ، فإذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزذلفة ، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات ، ويفيضوا منها إلى جمع مع سائر الناس . وقال الضحاك بن مزاحم : ? ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ? ، قال : هو إبراهيم . وروى عن ابن عباس ما يقتضي أن المراد بالإفاضة ها هنا هي : الإِفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار . والله أعلم .
وقوله تعالى : ? وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? ، كثيرًا ما يأمر الله بذكره واستغفاره بعد قضاء العبادات ، كما ورد ذلك في أدبار الصلوات وغيرها ، ومن ذلك : « اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغور الرحيم » . وكان - صلى الله عليه وسلم - يستغفر بعد السلام ثلاثًا ؛ وفائدة الاستغفار الذل والانكسار بين يدي الجبار ، كما في سيد الاستغفار : « اللهم أنت ربي لا إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء بذنبي فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت » . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة ، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة » . رواه البخاري .(1/231)
قوله عز وجل : ? فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) ? .
يأمر تعالى بذكره دائمًا والإكثار منه بعد قضاء المناسك . قال سعيد ابن جبير عن ابن عباس : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم ، فأنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - : ? فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ? .
وقوله تعالى : ? فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ? ، أي : حظ ونصيب ، قال ابن عباس : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون : اللهم اجعله عام غيث ، وعام خصب ، وعام ولاد حسن ، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا ، فأنزل الله فيهم : ? فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ? ، وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، فأنزل الله : ? أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ? .(1/232)
وقوله تعالى : ? وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ?. قال ابن عباس : الأيام المعدودات : أيام التشريق ، والأيام المعلومات : أيام العشر . وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لا تصوموا هذه الأيام - يعني : أيام منى - فإنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل » . رواه ابن جرير . وقال ابن عباس وغيره : الأيام المعدودات أربعة أيام : يوم النحر ، وثلاثة بعده .
وقوله تعالى : ? فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ? . قال قتادة : قوله : ? فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ? ، أي : من أيام التشريق ? فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ? ، ومن أدركه الليل بمنى من اليوم الثاني من قبل أن ينفر ، فلا نفر له حتى تزول الشمس من الغد ، ? وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ? ، يقول : ومن تأخر إلى اليوم الثالث من أيام التشريق ? فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ? . قال ابن مسعود : ? فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ? ، أي : غفر له . ? وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ? قال : غفر له . وقال أبو العالية : ? فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ? ، قال : ذهب إثمه كله إن اتقى فيما بقي . وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول : من اتقى في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه , أو ما سلف من ذنوبه .
وقوله تعالى : ? وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ? ، أي : اتقوا الله بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه ، ? وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ? فيجزيكم بأعمالكم . والله أعلم .
* * *
الدرس الثالث والعشرون(1/233)
? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ(1/234)
بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (214) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) ? .
قال السدي : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي ، وهو حليف لبني زهرة وأقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فأظهر له الإسلام ، فأعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك منه وقال : إنما جئت أريد الإسلام والله يعلم أني صادق ، وذلك قوله : ? وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ? ، ثم خرج من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق الزرع وعقر الحمر ، فأنزل الله عزّ وجل : ? وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ? .(1/235)
وقال أبو معشر : سمعت سعيدًا المقبري يذاكر محمد بن كعب فقال سعيد : إن في بعض الكتب أن لله عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر ، لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين ، يجترون الدنيا بالدين . قال الله تبارك وتعالى : أعليّ يجترئون وبي يفترون ؟ فبعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيرانًا . فقال محمد بن كعب : هذا في كتاب الله جل ثناؤه . فقال سعيد : وأين هو من كتاب الله ؟ قال : قول الله عز وجل : ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ? ، فقال سعيد : قد عرفت فيم أنزلت هذه الآية ؟ فقال محمد بن كعب : إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد .
وقال الضحاك : ? وَإِذَا تَوَلَّى ? ، أي : ملك الأمر وصار واليًا ، ? سَعَى فِي الأَرْضِ ? ، قال مجاهد : إذا ولى يعمل بالعدوان والظلم ، فأمسك الله المطر وأهلكم الحرث والنسل .
وقال قتادة : قوله : ? وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ? ، يقول : شديد القسوة في معصية الله ، جدّال بالباطل ، وإذا شئت رأيته عالم اللسان جاهل العمل ، يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة . وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم » . رواه البخاري وغيره .(1/236)
وقوله تعالى : ? وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ? ، أي : إذا وعظ هذا الفاجر حملته العزة والغضب على الفعل بالإِثم ، ? فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ? ، أي : كافية ? وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ? الفراش . وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ? . قال ابن مسعود : إن من أكبر الذنب عند الله أن يقال للعبد : اتق الله ، فيقول : عليك بنفسك .
قوله عز وجل : ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) ? .
قال ابن عباس وغيره : نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، وذلك وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل ، فتخلص منهم وأعطاهم ماله ، فأنزل الله فيه هذه الآية ، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له : ربح البيع ، فقال : وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم ، وما ذاك ؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية .
وعن صهيب قال : لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت لي قريش : يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك ، وتخرج أنت ومالك ؟ والله لا يكون ذلك أبدًا فقلت : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني ؟ قالوا : نعم . فدفعت إليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : « ربح صهيب ، ربح صهيب » . مرتين . رواه ابن مردويه .(1/237)
وقال ابن عباس : نزلت في سرية الرجيع . وعن المغيرة قال : بعث عمر جيشًا فحاصروا أهل الحصن ، فتقدم رجل من بجيلة فقاتل فقتل ، فأكثر الناس يقولون فيه : ألقى بيده إلى التهلكة . قال : فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : كذبوا أليس الله عز وجل يقول : ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ? ؟ .
قال ابن كثير : وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله ، كما قال تعالى : ? إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ? .
وقال ابن جرير : هي عامة في كل من باع نفسه في طاعة الله ، وإن كان نزولها بسبب من الأسباب ، هذا معنى كلامه .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) ? .
قال ابن عباس وغيره : ? ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ ? يعني : الإسلام . ? كَآفَّةً ? جميعًا .
وقال مجاهد : أي : اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر ، ? وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ? فيما يأمركم به ، ? إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ? .(1/238)
وقوله تعالى : ? فَإِن زَلَلْتُمْ ? ، أي : ضللتم ? مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ? أي : الدلالات الواضحات ? فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? قال قتادة : عزيز في نقمته ، حكيم في أمره .
قوله عز وجل : ? هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (210) ? .
يقول تعالى مهددًا للكافرين : ? هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ ? يوم القيامة ? فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ? لفصل القضاء والملائكة ، كما قال تعالى : ? هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ? ، وقال تعالى : ? كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ? . وفي حديث الصور : « وينزل الجبار عز وجل في ظلل من الغمام والملائكة ، ولهم زجل من تسبيحهم يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان ذي العزة والجبروت ، سبحان الحي الذي لا يموت ، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت ، سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، سبوح قدوس ، سبحان ربنا الأعلى ، سبحان ذي السلطان والعظمة ، سبحانه سبحانه أبدًا أبدًا » . رواه ابن جرير .
قال سفيان بن عيينة : كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره : قراءته والسكوت عليه ، ليس لأحد أن يفسره إلا الله تعالى ورسوله .(1/239)
وقوله تعالى : ? وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ? ، أي : فصل الله القضاء بين الخلق ، وجزي كلٌ بعمله ، ودخل كلٌ منزله : فريق في الجنة وفريق في السعير ، كما قال تعالى : ? وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? .
قوله عز وجل : ? سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) ? .
يقول تعالى : ? سَلْ ? يا محمد ، ? بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ? ، أي : حجة قاطعة بصدق موسى فيما جاءهم به ، كاليد ، والعصا ، وفلق البحر ، وضرب الحجر ، وتظليل الغمام ، وغير ذلك من الآيات ، ومع هذا أعرض كثير منهم وبدلوا وكذبوا الأنبياء ، ولهذا قال : ? وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ? ، كما قال تعالى : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ? .
قوله عز وجل : ? زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) ? .(1/240)
يقول تعالى : ? زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ? فآثروها على الآخرة ، ? وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ ? حيث آثروا الآخرة وأعرضوا عما يشغلهم عنها . ? وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ? كما قال تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ? .
وقوله تعالى : ? وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ? ، أي : يعطي من يشاء من خلقه عطاء كثيرًا بلا حصر في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : ? انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ? .
قوله عز وجل : ? كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213) ? .
قال ابن عباس : كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .(1/241)
وقوله تعالى : ? وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ ? ، أي : الكتب بالحق ، أي : الصدق والعدل ، ? لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ? من أمور دينهم ودنياهم . ? وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ ? ، أي : الكتاب ، ? إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ? ، كما قال تعالى : ? شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ? .
قال الربيع بن أنس في قوله : ? فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ? ، أي : عند الاختلاف ، أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف ، أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف ، واعتزلوا الاختلاف ، وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة .
وقوله تعالى : ? وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? . قال أبو العالية في هذه الآية المخرج من الشبهات ، والضلالات ، والفتن . وعن عائشة رضي الله عنها : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل يقول : « اللهم رب جبرائيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم » . رواه البخاري ، ومسلم .(1/242)
قوله عز وجل : ? أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (214) ? .
قال عطاء : لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة ، اشتد عليهم الضر لأنهم خرجوا بلا مال ، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين ، وآثروا مرضاة الله ورسوله ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأسرّ قوم النفاق ، فأنزل الله تعالى تطييبًا لقلوبهم : ? أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ ? . قال مجاهد وغيره : ? الْبَأْسَاء ? : الفقر ، ? وَالضَّرَّاء ? : السقم ، ? وَزُلْزِلُواْ ? : خوفوا من الأعداء . ? حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ ? ، أي : ما زال البلاء بهم حتى استبطئوا النصر . قال الله تعالى : ? أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ? ، وهذه الآية كقوله تعالى : ? الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ? . وفي الحديث الصحيح : « واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرًا » . والله أعلم .
* * *
الدرس الرابع والعشرون(1/243)
? يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) ? .
* * *(1/244)
قوله عز وجل : ? يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) ? .
قال مقاتل : هذه الآية في نفقة التطوع ، ومعنى الآية : يسألونك كيف ينفقون ؟ فبين لهم تعالى ذلك قال : ? قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ? ، أي : اصرفوا نفقتكم في هذه الوجوه ، كما في الحديث : « أمك وأباك وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك » ، قال ميمون بن مهران : هذه مواضع النفقة ، ما ذكر فيها طبل ولا مزمار ، ولا تصاوير الخشب ولا كسوة الحيطان .
وقوله تعالى : ? وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ? ، أي : فيجازيكم عليه .
قوله عز وجل : ? كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216) ? .
قال الزهري : الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد ، فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين ، وإذا استغيث أن يغيث ، وإذا استنفر أن ينفر ، وإن لم يحتج إليه قعد .
وقوله تعالى : ? وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ? ، أي : شديد عليكم ، ? وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ? ، لأن في الغزو إحدى الحسنيين : إما الظفر والغنيمة ، وإما الشهادة والجنة . ? وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ? ، فإن الذل في القعود ، ? وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? ، أي : هو أعلم بعواقب الأمور منكم ، وأخبر بما فيه صلاحكم .(1/245)
قوله عز وجل : ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218) ? .
سبب نزول هذه الآية : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن جحش في جمادي الآخرة ، قبل وقعة بدر ، ونفرًا معه سرية ، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة ، من جمادي ، وكانت أول رجب ، ولم يشعروا ، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه ) . قال ابن عباس : وإن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك ، فقال الله تعالى : ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ ? ، إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والشرك أشد منه .(1/246)
وقال ابن إسحاق : ? الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ? ، أي : قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه ، فذلك أكبر عند الله من القتل ، ? وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ? أي : ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غير تائبين ولا نازعين .
قال البغوي : قوله تعالى : ? قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ? عظيم ، تم الكلام ها هنا ، ثم ابتدأ فقال : ? وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ ? .
قال ابن جرير في قوله تعالى : ? وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ? ، ( وتأويل الكلام : وصد عن سبيل الله وكفر به وعن المسجد الحرام ، وإخراج أهل المسجد الحرام ، وهم أهله وولاته ، أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام ، فالصد عن سبيل الله مرفوع بقوله : ? أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ ? ، وقوله : ? وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ ? ، عطف على الصد ، ثم ابتدأ الخبر عن الفتنة فقال : ? وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ? ، يعني : الشرك أعظم وأكبر من القتل ، يعني : مِنْ قَتْلِ ابن الحضرمي الذي استنكرتم قتله في الشهر الحرام ) . انتهى .
قال ابن هشام : وقال عبد الله بن جحش :
تعدون قتلي في الحرام عظيمة ( ... وأعظم منه لو يرى الرشد راشد (
صدودكم عما يقول محمد ( ... وكفر به ولله راء وشاهد (
وإخراجكم من مسجد الله أهله ( ... لئلا يرى لله في البيت ساجد ((1/247)
وروى ابن جرير عن جندب بن عبد الله قال : لما كان من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه ، وأمر ابن الحضرمي ما كان ، قال بعض المسلمين : إن لم يكن أصابوا في سفرهم ، أظنه قال : وزرًا ، فليس لهم فيه أجر ، فأنزل الله : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? ، قال قتادة : أثنى الله على أصحاب نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أحسن الثناء ، هؤلاء خيار هذه الأمة ، ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون ، وأنه من رجا طلب ، ومن خاف هرب .
قوله عز وجل : ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ? .
الخمر : ما خامر العقل ، والميسر : القمار . وقال القاسم بن محمد : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن صلاته فهو ميسر .
وقوله تعالى : ? قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ?.
قال ابن كثير : ( أما إثمهما فهو في الدين ، وأما المنافع فدنيوية .
وقوله تعالى : ? وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ? ، قال ابن جرير : يعني بذلك عز ذكره : والإثم بشرب هذه ، والقمار بهذا ، أَعظم وأكبر مضرة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما ؛ وإنما كان ذلك كذلك لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض ، وقاتل بعضهم بعضًا ، وإذا ياسروا وقع بينهم فيه بسببه الشر ، فأداهم ذلك إلى ما يأثمون به ، ونزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يصرح بتحريمها ) . انتهى .(1/248)
وروى الإمام أحمد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما نزلت تحريم الخمر قال : اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا ، فنزلت هذه الآية التي في البقرة : ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ? فدعي عمر ، فقرئت عليه فقال : اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا ، فنزلت الآية التي في النساء : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ? ، فكان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقام الصلاة نادى : أن لا يقربن الصلاة سكران ، فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا ، فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فلما بلغ ? فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ? ، قال عمر : انتهينا انتهينا ، وزاد ابن أبي حاتم : ( أنها تذهب المال وتذهب العقل ) .
قوله عز وجل : ? وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ? .
قال ابن عباس وغيره : العفو ما يفضل عن أهلك ، وفي الحديث الصحيح : « خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول » ، وقوله تعالى : ? كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ? ، أي : كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها ، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده . ? لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ? ، أي : في زوال الدنيا وبقاء الآخرة فتعملوا لها .(1/249)
قوله عز وجل : ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) ? .
قال ابن عباس : لما نزلت : ? وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? ، و ? إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ? ، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله : ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ? ، رواه ابن جرير وغيره . وقال الربيع : للولي الذي يلي أمرهم فلا بأس عليه في ركوب الدابة أو شرب اللبن أو يخدمه الخادم ، وقال السدي : كان العرب يشددون في اليتيم ، حتى لا يأكلوا معه في قصعة واحدة ، ولا يركبوا له بعيرًا ، ولا يستخدموا له خادمًا ، فجاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عنه فقال : ? قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ? ، يصلح له ماله وأمره له خير ، وأن يخالطه فيأكل معه ويطعمه ، ويركب راحلته ويحمله ، ويستخدم خادمه ويخدمه ، فهو أجود .
? وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ? ، فقال ابن زيد : والله يعلم حين تخلط مالك بماله ، أتريد أن تصلح ماله أو تفسده فتأكله بغير حق .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ ? ، قال ابن عباس : لأخرجكم فضيّق عليكم ولكنه وسّع ويسّر ، فقال : ? وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ? .(1/250)
وقوله تعالى : ? إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? ، أي : عزيز في سلطانه ، حكيم فيما صنع من تدبيره وترك الأعنات .
قال ابن كثير : وقوله ? وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? أي : ولو شاء الله لضيَّق عليكم وأحرجكم ، ولكنه وسَّع عليكم وخفف عنكم ، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن . والله أعلم .
الدرس الخامس والعشرون
? وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ(1/251)
اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) ? .
قال علي بن أبي طلحة في قوله : ? وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ? : استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب .
وقوله تعالى : ? وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ? ، قال السدي : نزلت في عبد الله بن رواحة ، كانت له أمة سوداء فغضب عليها فلطمها ، ثم فزع فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبرهما ، فقال له : « ما هي » ؟ قال : تصوم وتصلي وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : « يا عبد الله هذه مؤمنة » ، فقال : والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : نكح أمته ، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم ، فأنزل الله : ? وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ? .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ ? .
قال البغوي : هذا إجماع لا يجوز للمسلمة أن تنكح المشرك .(1/252)
وقوله تعالى : ? أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ? ، أي : معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على إيثار الدنيا على الآخرة ، وهو موجب للنار . ? وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ? ، أي : بأمره ، ? وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ? ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك » .
قوله عز وجل : ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) ?
روى مسلم وغيره عن أنس : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « اصنعوا كل شيء إلا النكاح » .
وقوله تعالى : ? فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ ? ، يعني : الفرج ، قاله ابن عباس وغيره ، وروى الإِمام أحمد وغيره عن عبد الله بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال : « ما فوق الإِزار » . وقوله تعالى : ? وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ ? ، أي : لا تجامعوهن حتى يطهرن من الحيض ? فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ? أي : اغتسلن ، ? فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ? . قال ابن عباس : طؤهن في الفروج ولا تعدوه إلى غيره . ? إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ? ، من الذنب ، ? وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ? ، أي : المتنزهين عن الأقذار والأذى ، ومن ذلك إتيان الحائض ، والوطء في الدبر .(1/253)
قوله عز وجل : ? نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) ? .
قال ابن عباس : الحرث موضع الولد ? فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ? ، أي : كيف شئتم مقبلة ومدبرة في صمام واحد . وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال : كانت اليهود تقول : إذا جامع الرجل امرأته في دبرها في قبلها كان الولد أحول . فنزلت : ? نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ? .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في أناس من الأنصار ، أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « ائتها على كل حال ، إذا كان في الفرج » ، وفي حديث آخر : « أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة » ، وروى الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ملعون من أتى امرأته في دبرها » .
وقوله تعالى : ? وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ ? ، قال السدي : يعني : الخير والعمل الصالح . وقال مجاهد : يعني : إذا أتى أهله فليدْعُ ، وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا » .
وقوله تعالى : ? وَاتَّقُواْ اللّهَ ? ، أي : خافوا الله فلا ترتكبوا ما نهاكم عنه . ? وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ ? ، فيجازيكم بأعمالكم . ? وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ? ، المطيعين بجزيل ثواب الله لهم .(1/254)
قوله عز وجل : ? وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) ? .
قال ابن عباس في قوله تعالى ? وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ? : لا تجعلن الله عرضة ليمينك ألا تصنع الخير ، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير ، وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرًا منها ، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها » .
وقوله تعالى : ? لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ? ، عن عائشة مرفوعًا : « اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته : كلا والله ، وبلى والله » . رواه أبو داود ، وعنها قالت : ( هم القوم يتدارءون في الأمر فيقول هذا لا والله ، وبلى والله ، وكلا والله يتدارءون في الأمر ، لا تعقد عليه قلوبهم ) ، وقالت أيضًا : ( إنما اللغو في المزاحة والهزل ، وهو قول الرجل : لا والله ، وبلى والله . فذاك لا كفارة فيه ، إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله ) . وعن الحسن بن أبي الحسن : ( مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم ينتضلون ، يعني : يرمون ، ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من أصحابه ، فقام رجل من القوم فقال : أصبت والله ، وأخطأت والله ، فقال الذي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - للنبي - صلى الله عليه وسلم - : حنث الرجل يا رسول الله ، قال : « كلا ، أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة » . رواه ابن جرير .(1/255)
قال ابن كثير : وهذا مرسل حسن . عن الحسن وعن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث ، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت تسألني عن القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة ، فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك ، كفّر عن يمينك وكلم أخاك ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عز وجل ، ولا في قطيعة الرحم ، ولا فيما لا تملك » .
وقوله تعالى : ? وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ? ، أي : عزمتم عليه ، وقصدتم به اليمين كما قال تعالى : ? وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ? ، ? وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ? ، أي : غفور لذلات عباده حليم عليهم .
قوله عز وجل : ? لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) ? .
الإيلاء هو : أن يحلف من جميع نسائه أو بعضهن لا يقربهن ، فإن وقّت بدون أربعة أشهر اعتزل حتى ينقضي ما وقّت به ، وإن وقّت بأكثر منها خيّر بعد مضيها بين أن يفيء أو يطلق .
وقوله تعالى : ? لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ? ، أي : يحلفون على ترك جماعهن .
وقوله : ? تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ? ، أي : ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف ، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق ، فإن أبي طلق عليه الحاكم .
وقوله تعالى : ? فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? ، استدل بذلك على أنه لا كفارة عليه إذا فاء بعد الأربعة الأشهر ، والجمهور أن عليه التكفير .
وقوله تعالى : ? وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? ، قال سعيد بن المسيب : إذا مضت أربعة أشهر فإما أن يفيء ، وإما أن يطلق ، فإن جاوز فقد عصى الله . والله أعلم .
* * *
الدرس السادس والعشرون(1/256)
? وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (228) الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَن يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ(1/257)
ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (228) ? .
القرء : يطلق في اللغة على الحيض والطهر ، وقد اختلف أهل العلم في قوله تعالى : ? وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ? . فذهب جماعة إلى أنها الأطهار ، وهو قول : الفقهاء السبعة ، ومالك والشافعي ، وذهب جماعة إلى أنها الحيض ، وهو قول : الخلفاء الأربعة ، وابن عباس ، ومجاهد ، وأبي حنيفة ، والإمام أحمد ، وأكثر أئمة الحديث وهو الراجح .(1/258)
وقوله تعالى : ? وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ? ، أي : لا يحل للمرأة كتمان ما خلق الله في رحمها من الحيض والحمل ، لتبطل حق الزوج من الرجعة والولد ، أو استعجالاً لانقضاء عدتها ، أو رغبة في تطويلها ، بل تخبر بالحق من غير زيادة ولا نقصان .
وقوله تعالى :? وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً ? أي : أزواجهن أحق برجعتهن في حال العدة ، ? إِنْ أَرَادُواْ ? بالرجعة الصلاح وحسن العشرة لا الإضرار بالمرأة .
وقوله تعالى : ? وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ? ، أي : ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن ، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، في خطبته في حجة الوداع : « فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف » . رواه مسلم .
وقوله تعالى : ? وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ? كما قال تعالى : ? الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ? ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » . وقوله تعالى : ? وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ ? ، أي : عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ، حكيم فيما شرع وقدر .(1/259)
قوله عز وجل : ? الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَن يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) ? .
روى ابن أبي حاتم وغيره عن عروة بن الزبير : ( أن رجلاً قال لامرأته لا أطلقك أبدًا ، ولا آويك أبدًا ، قالت : وكيف ذاك ؟ قال : أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ، فأنزل الله عز وجل : ? الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ? . قال ابن عباس : إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في ذلك ، أي : في الثالثة ، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها ، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئًا .(1/260)
وقوله تعالى : ? وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَن يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ? ، أي : لا يحل لكم أن تأخذوا شيئًا مما أعطيتموهن إلا في حال الشقاق ، ? فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ? . وعن ابن عباس : ( أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أتردين عليه حديقته » ؟ قالت : نعم . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اقبل الحديقة وطلقها تطليقة » . وفي رواية : ( قالت : لا أطيقه ، يعني : بغضًا ) . رواه البخاري . وعند الإمام أحمد : ( فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ ما ساق ولا يزداد ) وعند ابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : ( فردت عليه حديقته . قال : ففرق بينهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .
وقوله تعالى : ? تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ? ، أي : هذه أوامر الله ونواهيه ، فلا تتجاوزوها . واستدل بهذه الآية على أن جمع الثلاث التطليقات بكلمة واحدة حرام . وروى النسائي عن محمود بن لبيد قال : أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا ، فقام غضبانًا فقال : « أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم » ؟ الحديث .
قوله عز وجل : ? فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) ? .(1/261)
يقول تعالى : ? فَإِن طَلَّقَهَا ? ، يعني : الطلقة الثالثة ، ? فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ? ، أي : من بعد الطلقة الثالثة ، ? حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ? ، أي : غير المطلق فيجامعها ، ? فَإِن طَلَّقَهَا ? ، أي الزوج الثاني بعد الجماع ، ? فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا ? أي : المرأة والزوج الأول ، ? إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ? ، أي : يكون بينهما الصلاح وحسن الصحبة . وعن ابن عمر قال : ( سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يطلق امرأته فيتزوجها آخر ، فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، هل تحل للأول ؟ قال : « حتى تذوق العسيلة » . رواه أحمد وغيره . وروى البخاري ومسلم عن عائشة : ( أن رجلاً طلق امرأته ثلاثًا ، فتزوجت زوجًا فطلقها قبل أن يمسها ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتحل للأول ؟ فقال : « لا حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأول » . وروى الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود قال : ( لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواشمة والمستوشمة ، والواصلة والمستوصلة ، والمحلِّل والمحلَّل له ، وآكل الربا وموكله ) .
قوله عز وجل : ? وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) ? .(1/262)
قال ابن عباس وغيره : كان الرجل يطلق المرأة ، فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارًا ، لئلا تذهب إلى غيره ، ثم يطلقها فتعتد ، فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة ، فنهاهم الله عن ذلك وتوعدهم عليه فقال : ? وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ? .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً ? ، روى ابن جرير عن أبي موسى : ( أن رسول الله غضب على الأشعريين ، فأتاه أبو موسى فقال : يا رسول الله غضبت على الأشعريين ؟ فقال : « يقول أحدكم : قد طلقت ، قد راجعت ، ليس هذا طلاق المسلمين ، طلقوا المرأة في قُبُل عدتها » . وقال الحسن وغيره : هو الرجل يطلق ويقول : كنت لاعبًا ، أو يعتق أو ينكح ويقول : كنت لاعبًا فأنزل الله : ? وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً ? فألزم الله بذلك . وروى أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « ثلاث جدّهن جدّ ، وهزلهن جد : النكاح ، والطلاق ، والرجعة » .
وقوله تعالى : ? وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ? ، أي : في إرساله الرسول إليكم ? وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ? ، أي : السنة ? يَعِظُكُم بِهِ ? يأمركم وينهاكم ، ? وَاتَّقُواْ اللّهَ ? فيما تأتون وما تذرون ، ? وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? ، أي : فلا يخفى عليه شيء من أموركم وسيجازيكم على أعمالكم ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر .
قوله عز وجل : ? وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (232) ? .(1/263)
روى أبو داود وغيره عن الحسن : ( أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها ، فتركها حتى انقضت عدتها ، فخطبها فأبى معقل ، فنزلت : ? فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ? .
وقوله تعالى : ? إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ? ، أي : بعقد حلال ومهر جائز ، ? ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ? ، أي : ردهن إلى أزواجهن . ? أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ? ، أي : ردهن إلى أزواجهن خير لكم وأطهر لقلوبكم ? وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? ، أي : يعلم من حب كل واحد منهما لصاحبه ما لا تعلمون أنتم ، فاتبعوا أمر الله واتركوا الحمية ، فإنه تعالى أعلم بمصالح خلقه من أنفسهم .
قوله عز وجل : ? وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) ? .(1/264)
قال البغوي : ( قوله تعالى : ? وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ? أي : المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن ، ? يُرْضِعْنَ ? ، خبر بمعنى الأمر ، وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب ، لأنه لا يجب عليهن الإرضاع إذا كان يوجد من يرضع الولد ، لقوله تعالى في سورة الطلاق : ? فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ? ، فإن رغبت الأم في الإرضاع فهي أولى من غيرها ) . انتهى . وعن أم سلمة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام » . رواه الترمذي . وعن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين » . رواه الدار قطني وغيره . قيل : إن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد ، إما في بدنه أو عقله .
وقوله تعالى : ? وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا ? ، أي : وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن ، بما جرت به عادة أمثالهن بحسب قدرته ، كما قال تعالى ? لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ? . قال الضحاك : إذا طلق زوجته وله منها ولد فأرضعت له ولده ، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف .
وقوله تعالى : ? لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ? . قال مجاهد : ? لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ? لا تأبى أن ترضعه ليشق ذلك على أبيه ( ولا يضار ) الوالد بولده فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها . وقال ابن زيد : لا ينتزعه منها وهي تحب أن ترضعه فيضارها ، ولا تطرحه عليه وهو لا يجد من يرضعه ولا يجد ما يسترضعه به .(1/265)
وقوله تعالى : ? وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ? ، أي : وارث الصبي . قال الحسن : إذا توفي الرجل وامرأته حامل فنفقتها من نصيبها ، ونفقة ولدها من نصيبه من ماله ، إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال فنفقته على عصبته . واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن نفقة الحامل من مال الحمل .
وقوله تعالى : ? فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ? . قال مجاهد : التشاور فيما دون الحولين ، ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى ، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى ، فإن لم يجتمعا فليس لها أن تفطمه دون الحولين .
وقوله تعالى : ? وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ ? . قال مجاهد : ? وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ ? خيفة الضيعة على الصبي ، ? فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ ? ، قال : حساب ما أرضع به الصبي ، وهذه الآية كقوله تعالى : ? وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ? .
وقوله تعالى : ? وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ? ، أي : واتقوا الله في جميع أحوالكم وأقوالكم ، ? وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ? فلا يخفى عليه شيء . والله أعلم .
* * *
الدرس السابع والعشرون(1/266)
? وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلا أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (238) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ(1/267)
عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) ? .
قال ابن عباس : هذه عدة المتوفي عنها زوجها إلا أن تكون حاملاً ، فعدتها أن تضع ما في بطنها . وفي الصحيحين عن أم سلمة : ( أن امرأة توفي عنها زوجها واشتكت عينها ، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تستفتيه في الكحل فقال : « لقد كانت إحداكن تكون في الجاهلية في شر أحلاسها ، فتمكث في بيتها حولاً إذا توفي عنها زوجها ، فيمر عليها الكلب فترميه بالبعرة ، أفلا أربعة أشهر وعشرًا » ؟ . وقال الربيع عن أبي العالية في قوله : ? وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ? . قال : قلت : لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة ؟ قال : لأنه ينفخ فيه الروح في العشر .
وقوله تعالى : ? فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ? . قال مجاهد : هو النكاح الحلال الطيب . وقال ابن عباس : إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها ، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج ، فذلك المعروف .
وقوله تعالى : ? وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ? ، أي : فلا تعضلوهن ممن أردن نكاحه بالمعروف ، فإنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم .(1/268)
قوله عز وجل : ? وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلا أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) ? .
قال ابن عباس وغيره التعريض : أن يقول إن أريد التزويج ، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها ، يعرض لها بالقول المعروف ، وقال مجاهد : يعرض للمرأة في عدتها فيقول : والله إنك لجميلة ، وإن النساء لمن حاجتي ، وإنك إلى خير إن شاء الله .
وقوله : ? أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ? ، أي : أضمرتم نكاحهن بعد العدة . ? عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ? ، أي : في أنفسكم وبألسنتكم ? وَلَكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ? . قال ابن عباس : يقول : لا تقل لها : إني عاشق وعاهديني ألا تتزوجي غيري . وقال مجاهد : لا يأخذ ميثاقها في عدتها أن لا تتزوج غيره .
وقوله تعالى : ? إِلا أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ? ، أي : التعريض بالخطبة .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ? . قال مجاهد : حتى تنقضي العدة .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ?، قال مجاهد : حتى تنقضي العدة .
وقوله تعالى : ? وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ? ، أي : فخافوا الله ولا تضمروا إلا الخير ? وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ?، لا يعجل بالعقوبة .(1/269)
قوله عز وجل : ? لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) ? .
قال ابن عباس : المس : الجماع ، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء ، والفريضة الصداق .
وقوله تعالى : ? وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ ? . قال ابن عباس : فهذا الرجل يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقًا ، ثم يطلقها من قبل أن ينكحها ، فأمر الله سبحانه أن يمتعها على قدر عسره ويسره ، فإن كان موسرًا متّعها بخادم أو شبه ذلك ، وإن كان معسرًا متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك .
قوله عز وجل : ? وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) ? .
قال ابن عباس في قوله : ? وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ? ، فهذا الرجل يتزوج المرأة وقد سمى لها صداقًا ثم يطلقها من قبل أن يمسها ، فلها نصف صداقها ليس لها أكثر من ذلك . وقال عكرمة : إذا طلقها قبل أن يمسها وقد فرض لها ، فنصف الفريضة لها عليه ، إلا أن تعفو عنه فتتركه .
وقوله تعالى : ? أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ? قال ابن عباس : هو أبو الجارية البكر جعل الله سبحانه العفو إليه ، ليس لها معه أمر ، إذا طلقت ما كانت في حجره . وفي رواية : هو الزوج . وكذا قال مجاهد .(1/270)
قوله عز وجل : ? وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ? ، قال ابن عباس : أقربهما للتقوى الذي يعفوا : وقال الشعبي : ? وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ? ، وأن يعفوا هو أقرب للتقوى .
وقوله تعالى :? وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ?. قال مجاهد : ولا تنسوا الفضل بينكم في هذا وفي غيره . وعن سعيد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه ابنة له فتزوجها ، فلما خرج طلقها ، وبعث إليها بالصداق ، قال : قيل : له : فلم تزوجتها ؟ قال : عرضها عليّ فكرهت ردها ، قال : فلم تبعث بالصداق ؟ قال : فأين الفضل ؟ وعن مجاهد : ? وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ? قال : إتمام الزوج الصداق ، أو ترك المرأة الشطر .
قوله عز وجل : ? حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (238) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239) ? .
قال بعض العلماء : ذكر المحافظة على الصلوات هنا لئلا يشتغلوا بالنساء فيغفلوا عنها . قال تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ? . وقال مسروق : المحافظة على الصلوات المحافظة على وقتها وعدم السهو عنها .
وقوله تعالى :? والصَّلاَةِ الْوُسْطَى ? . قال علي بن أبي طالب وغيره: هي صلاة العصر . وفي الصحيحين : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الخندق : « شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر » .(1/271)
وقوله تعالى : ? وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ? . قال الشعبي وغيره : مطيعين . وعن زيد بن أرقم قال : ( إنا كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته ، حتى نزل : ? حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ? ، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ) . متفق عليه .
وقال مجاهد : ? وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ? ، فمن القنوت طول الركوع ، وغض البصر ، وخفض الجناح ، والخشوع من رهبة الله . كان العلماء إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت أو أن يقلب الحصى ، أو يعبث بشيء ، أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيًا .
وقوله تعالى : ? فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ? ، قال إبراهيم : عند المطاردة يصلي حيث كان وجهه راكبًا أو راجلاً ، ويجعل السجود أخفض من الركوع ، ويصلي ركعتين يومئ إيماء . وقال قتادة أحل الله لك إذا كنت خائفًا عند القتال ، أن تصلي وأنت راكب ، وأن تسعى تومئ برأسك من حيث كان وجهك ، إن قدرت على ركعتين وإلا فواحدة .
وقوله تعالى : ? فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ? ، كقوله تعالى : ? فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ? ، وقال ابن زيد في قوله : ? فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ ? ، قال : فإذا أمنتم فصلوا الصلاة كما افترض الله عليكم ، إذا جاء الخوف كانت لهم رخصة .
قوله عز وجل : ? وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) ? .(1/272)
قال قتادة : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولاً في مال زوجها ما لم تخرج ، ثم نسخ ذلك بعد في سورة النساء فجعل لها فريضة معلومة الثمن إن كان له ولد ، والربع إن لم يكن له ولد ، وعدتها أربعة أشهر وعشر . فقال تعالى ذكره : ? وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ? ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها في أمر الحول .
وقوله تعالى : ? فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ? ، يا أولياء الميت ? فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ? ، يعني : التزين للنكاح ، خيّرها الله تعالى بين أن تقيم حولاً ولها النفقة والسكنى ، وبين أن تخرج ، فلا نفقة ولا سكنى ، إلى أن نسخه بأربعة أشهر وعشر .
وقوله تعالى : ? وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? ، أي : عزيز في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه وتعدى حدوده من الرجال والنساء ، حكيم في أقضيته وقدره .
قوله عز وجل : ? وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) ? .
قال عطاء في قوله : ? وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ? قال : المرأة الثيب يمتعها زوجها إذا جامعها بالمعروف . وقال سعيد بن جبير : لكل مطلقة متاع بالمعروف حقًا على المتقين .
وقال البغوي : إنما أعاد ذكر المتعة ها هنا لزيادة معنى ، وذلك أن في غيرها بيان حكم الممسوسة ، وفي هذه الآية بيان حكم جميع المطلقات في المتعة .
وقوله تعالى : ? كَذَلِكَ ? ، أي : مثل أحكام الطلاق والعدة وغير ذلك ? يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ? ، في إحلاله وتحريمه ، ? لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ? تفهمون وتدّبرون . والله أعلم .
* * *
الدرس الثامن والعشرون(1/273)
? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ(1/274)
فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (243) ? .
قال البغوي : قوله تعالى : ? أَلَمْ تَرَ ? ، أي : ألم تعلم بإعلامي إياك ، وهو من رؤية القلب ، وقال أهل المعالي : هو تعجيب . يقول : هل رأيتم مثلهم ؟ كما تقول : ألم تر إلى ما يصنع فلان ؟ وكل ما في القرآن ألم تر ، ولم يعاينه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا وجهه .(1/275)
قال أكثر أهل التفسير : كانت قرية يقال لها داوردان من قِبَل واسط بها وقع الطاعون ، فخرجت طائفة منها ، وبقيت طائفة ، فهلك أكثر من بقي في القرية ، وسلم الذين خرجوا ، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين ، فقال الذين بقوا : أصحابنا كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا ، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء بها . فوقع الطاعون من قابل ، فهرب عامة أهلها وخرجوا حتى نزلوا واديًا أفْيَح ، فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي ، وآخر من أعلاه : أن موتوا . فماتوا جميعًا .
وساق بسنده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام ، فلما جاء سرغ بلغه أن الوباء قد وقع بالشام ، فأخبره عبد الرحمن بن عوف : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه فرجع عمر من سرغ » . والحديث في الصحيحين .
قال البغوي : وأولى الأقاويل قول من قال : كانوا زيادة على عشرة آلاف ؛ لأن الله تعالى قال : ? وَهُمْ أُلُوفٌ ? ، قالوا : فمر عليهم نبي يقال له : حزقيل فجعل يتفكر فيهم متعجبًا ، فأوحى الله تعالى إليه : تريد أن أريك آية ؟ قال : نعم فأحياهم الله ، ? إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ? .
قوله عز وجل : ? وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) ? .
يقول تعالى : وقاتلوا في سبيل الله عدوي وعدوكم من المشركين ، ولا تقعدوا عن الجهاد خوف القتل ، فإنه لا مفر عن الموت ولا يغني حذر عن قدر ، كما قال تعالى : ? أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ? .(1/276)
قوله عز وجل : ? مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) ? .
قال البغوي : القرض اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه ، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له على رجاء ما أعد لهم من الثواب قرضًا ؛ لأنهم يعملون لطلب ثوابه . قال الكسائي : القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيء . وروى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : ( لما نزلت : ? مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ? . قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ، وإن الله عز وجل ليريد منا القرض ؟ قال : « نعم يا أبا الدحداح » . قال : أرني يدك يا رسول الله . قال : فناوله يده قال : فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي . قال : وحائط له فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها ، قال : فجاء أبو الدحداح فنادها : يا أم الدحداح . قالت : لبيك . قال : اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل ) .
وقوله تعالى : ? وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ? ، روى ابن جرير وغيره عن أنس بن مالك قال : غلا السعر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله غلا السعر ، فسعِّر لنا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله الباسط القابض الرازق ، وإني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطلبني بمظلمة في نفس ومال » .(1/277)
قوله عز وجل : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) ? .
قال وهب بن منبه وغيره : كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان ، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام ، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا ، فسلَّط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وأسروا منهم خلقًا عظيمًا ، وأخذوا منهم بلادًا كثيرة ، واستلبوا منهم التابوت الذي كان موروثًا لخلفهم عن سلفهم .
إلى أن قال : فأوحى الله إلى شمويل وأمره بالدعوة إليه وتوحيده ، فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكًا يقاتلون معه أعداءهم ، وكان الملك قد باد فيهم ، فقال لهم النبي : فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكًا أن لا تقاتلوا وتفوا بما التزمتم من القتال معه ؟ قالوا : وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبناءنا ، أي : وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد .
قال الله تعالى : ? فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ? ، أي : ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم والله عليم بهم .(1/278)
قوله عز وجل : ? وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) ? .
قال قتادة : بعث الله طالوت ملكًا ، وكان من سبط بنيامين سبط لم يكن فيهم مملكة ولا نبوة ، وكان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبوة ، وسبط مملكة ، وكان سبط النبوة سبط لاوى إليه موسى ، وسبط المملكة يهوذا إليه داود وسليمان ، فلما بعث من غير النبوة والمملكة أنكروا ذلك ، وعجبوا منه ، وقالوا : أنى يكون له الملك علينا ! ؟ وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة ؟ فقال : ? إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ? .
قوله عز وجل : ? وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248) ? .
قال قتادة : ? فِيهِ سَكِينَةٌ ? ، أي : وقار . وقال عطاء : ما تعرفون من آيات الله فتسكنون إليه .
وقوله تعالى : ? وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ? . قال ابن عباس : عصا موسى ورضاض الألواح . قال ابن عباس : جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض ، حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون .(1/279)
قوله عز وجل : ? فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) ? .
روى البخاري عن البراء بن عازب قال : ( كنا نتحدث أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا معه يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ، وما جازه معه إلا مؤمن ) . قال ابن عباس : فلما فصل طالوت بالجنود غازيًا إلى جالوت ، قال طالوت لبني إسرائيل : إن الله مبتليكم بنهر ، قال : هو نهر بين الأردن وفلسطين ، نهر عذب الماء طيبه .
وقال قتادة : ? فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ? . قال : كان الكفار يشربون فلا يروون ، وكان المسلمون يغترفون غرفة فتجزيهم ذلك . وقال ابن عباس : لما جاوزه هو والذين آمنوا معه ، قال الذين شربوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده . وقال السدي : عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف ، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت رجعوا أيضًا ، وقالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده . فرجع عنه أيضًا ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون . وخلص في ثلاثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر .(1/280)
وقال بعضهم في قوله تعالى : ? فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ ? ، هم العلماء من القليل : ? كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ? .
قوله عز وجل : ? وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) ? .(1/281)
يقول تعالى : ? وَلَمَّا بَرَزُواْ ? ، يعني : طالوت ومن معه من المؤمنين للعدو ? قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم ? ، كسروهم ، ? بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ? وكان طالوت وعده أن يزوجه ابنته إن قتل جالوت ، ويشركه في أمره ، فيما قال وهب . فآل الملك إلى داود ، ? وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ? ، الذي كان بيد طالوت ، ? وَالْحِكْمَةَ ? ، أي : النبوة بعد شمويل ، ? وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ? ، من صنعة الدروع وغير ذلك ، ? وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ? ، كما قال تعالى : ? وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ? .
وعن مجاهد : ولولا دفاع الله بالبر عن الفاجر ، وببقية أخلاق الناس بعضهم عن بعض ؛ لهلك أهلها . وقال علي رضي الله عنه : لولا بقية من المسلمين فيكم لهلكتم . وعن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة بيت من جيرانه البلاء » ، ثم قرأ ابن عمر : ? وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ? .(1/282)
وأكثر كلام المفسرين على أن الآية في الجهاد ، ولديّ أنها عامة فيه وفي غيره ، وأسند للشيخ عبد الرحمن أنها عامة ، وهذا نص كلامه ، قال : ( ومن ذلك ما ذكرت في آية البقرة : ? وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ? ، وأن كلام المفسرين يدور على الجهاد فقط ، وظنكم أنها عامة ، فهو كما ظننتم ؛ لأن العبرة بعموم اللفظ ، وعموم المعنى لا بخصوص السبب ، والجهاد جزء من أمور كثيرة يحصل فيها دفع الناس بعضهم ببعض . وإذا نزلتها على الواقع السابق واللاحق ، ورأيت الأسباب المتعددة التي حصل بها عن العباد مدافعات كثيرة ووقيات من شرور بصدد أن تقع لولا تلك الأسباب ، لا تضح لك أنها عامة ، وأنها من أكبر نعم الله على عباده وتمام وقياته . وفي الحديث الصحيح : « إن الله ليؤيد هذا الرجل بالرجل الفاجر ، وبأقوام لا خلاق لهم » . عام في الجهاد وغيره ، ونرجو الله تعالى أن يلطف بالمسلمين وأن يقيهم شر الشرور التي يترقبها الخلق كل ساعة ، ويقدر من ألطافه ما يدفع به عن عباده المؤمنين ، إنه جواد كريم ) . انتهى .
فالظاهر أن المراد بقوله تعالى في هذه الآية : ? وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ? ، أنه عام في جميع الناس مسلمهم وكافرهم ، وأن دفع الله شر بعضهم ببعض من نعمه السابقة على خلقه .
وقوله تعالى : ? وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ? ، أي : بدفع بعضهم عن بعض .
وقوله تعالى : ? تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ? ، يقول : تلك آيات الله التي اقتص فيها قصص من مضى ، نتلوها عليك بالحق اليقين ، وإنك يا محمد لمن المرسلين . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس التاسع والعشرون(1/283)
? تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) ? .
* * *(1/284)
قوله عز وجل : ? تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) ? .
قال مجاهد : في قول الله تعالى : ? تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ? قال : يقول : منهم من كلم الله ورفع بعضهم على بعض درجات . يقول : كلم الله موسى ، وأرسل محمدًا إلى الناس كافّة .
قوله تعالى : ? وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ? ، أي : وآتينا عيسى بن مريم الحجج ، والأدلة على نبوته من إبراء الأكمه ، والأبرص ، وإحياء الموتى ، وما أشبه ذلك مع الإنجيل .
وقوله تعالى : ? وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ? ، يعني : وقويناه بروح الله ، وهو : جبريل .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ? ، قال قتادة : من بعد موسى وعيسى .(1/285)
وقوله تعالى : ? وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ? ، أي : يوفق من يشاء بفضله ورحمته ، ويخذل من يشاء بعدله وحكمته ، وله الحجة البالغة والحكمة التامة ، وهذه الآية كقوله تعالى : ? وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ? .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) ? .
قال ابن جريج : قوله : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم ? قال : من الزكاة والتطوع ، ? مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ? قال قتادة : قد علم الله أن ناسًا يتحابون في الدنيا ، ويشفع بعضهم لبعض ، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين .
وقوله تعالى : ? وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ? ، أي : لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها . قال الله تعالى : ? إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ? ، قال عطاء : بن دينار : الحمد لله الذي قال : ? وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ? ولم يقل والظالمون هم الكافرون .(1/286)
قوله عز وجل : ? اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) ? .(1/287)
عن أبي بن كعب : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله : « أي آية في كتاب الله أعظم » ؟ قال : الله ورسوله أعلم . فرددها مرارًا ثم قال : أبيّ : آية الكرسي . قال : « ليهنك العلم أبا المنذر » . رواه مسلم وغيره . وفي حديث أبي هريرة عند البخاري في قصة الشيطان الذي سرق من الصدقة قال : ( فرصدته الثالثة ، فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته ، فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود ، فقال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها . قلت : وما هي ؟ قال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي : ? اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? حتى تختم الآية ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، فخليّت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما فعل أسيرك البارحة » ؟ قلت : يا رسول الله إنه زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها ، فخليت سبيله ، قال : « ما هي » ؟ قال : قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية : ? اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « أما إنه صدقك وهو كذوب » . وروى أبو داود وغيره عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في هاتين الآيتين : ? اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? و ? الم * اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? : « إن فيها اسم الله الأعظم » .
قال ابن كثير : وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة .
وقوله تعالى : ? اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? .(1/288)
قال ابن جرير يقول : الله الذي له عبادة الخلق ، الحي القيوم ، لا إله سواه : لا معبود سواه ، يعني : ولا تعبدوا شيئًا سواه ، ? الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? الذي لا تأخذ سنة ولا نوم . قال قتادة : الحيّ حي لا يموت . وقال مجاهد : القيوم القائم على كل شيء . وقال الربيع : القوم قيم كل شيء يكلؤه ويرزقه ويحفظه . وقال الضحاك : الحي القيوم : القائم الدائم .
وقوله تعالى : ? لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ? ، قال ابن عباس : السِّنَة : النعاس . والنوم هو : النوم .
وقوله تعالى : ? لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ? ، كقوله تعالى : ? وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ? .
وقوله تعالى : ? يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاء ? ، قال مجاهد : يعلم من بين أيديهم ما مضى من الدنيا ، وما خلفهم من الآخرة . وقال الكلبي : ? مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ? ، يعني : الآخرة ، لأنهم يقدمون عليها . ? وَمَا خَلْفَهُمْ ? ، من الدنيا ، لأنهم يخلفونها . وقال السدي : ? وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ ? ، يقول : لا يعلمون بشيء من علمه إلا بما شاء هو أن يعلمهم .(1/289)
وقوله تعالى : ? وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ? ، اختلفوا في الكرسي ، فقال الحسن : هو العرش نفسه . وقال أبو هريرة رضي الله عنه : الكرسي موضوع أمام العرش . وفي بعض الأخبار : أن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة . والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة . ويُروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس . وقوله تعالى : ? وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ? قال ابن عباس : لا يثقل عليه . وقال قتادة : لا يجهده حفظهما .
وقوله تعالى : ? وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ? .
قال البغوي : ? وَهُوَ الْعَلِيُّ ? : الرفيع فوق خلقه والمتعالي عن الأشباه والأنداد . وقيل : العلي بالملك والسلطنة ، العظيم الكبير : الذي لا شيء أعظم منه . وقال ابن كثير : فقوله : ? وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ? كقوله : ? الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ? ، وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح : إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه .
قوله عز وجل : ? لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) ? .(1/290)
قال ابن عباس : كانت المرأة تكون مقلاة ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهودّه . فلما أجليت بني النضير كان فيهم من أبناء الأنصار ، فقالوا : لا ندع أبناءنا . فأنزل الله تعالى : ? لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ? . وقال قتادة في قوله : ? لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ? قال : هو هذا الحي من العرب ، أكرهوا على الدين لم يقبل منهم إلا القتل ، أو الإسلام . وأهل الكتاب قبلت منهم الجزية ، ولم يقتلوا . وقال الضحاك : ( أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان ، فلم يقبل منهم إلا : لا إله إلا الله ، أو السيف . ثم أمر فيمن سواهم بأن يقبل منهم الجزية . فقال : ? لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ?
وقوله تعالى : ? فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? ، قال مجاهد وغيره : الطاغوت : الشيطان . وقال أبو العالية : الطاغوت : الساحر . وقال أبو الزبير : سئل جابر بن عبد الله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها ، فقال : كان في جهينة واحد ، وفي أسلم واحد ، وفي كل حي واحد ، وهي كهان ينزل عليها الشيطان .
قال ابن جرير : والصواب أنه كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه ، إما بقهر منه لمن عبده ، وإما لطاعة ممن عبده إنسانًا كان ذلك المعبود ، أو شيطانًا ، أو وثنًا ، أو صنمًا ، أو كائنًا ما كان من شيء .
وقال سعيد بن جبير في قوله : ? فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ ? قال : لا إله إلا الله . وقال السدي : ? لاَ انفِصَامَ لَهَا ? لا انقطاع لها . وقال مجاهد : لا غير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .(1/291)
قوله عز وجل : ? اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) ? .
قال قتادة : قوله تعالى : ? اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ? ، يقول : من الضلالة إلى الهدى ، ? وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ? ، الشيطان ، ? يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ? ، يقول : من الهدى إلى الضلالة . قال الضحاك : والظلمات : الكفر . والنور : الإيمان . والله أعلم .
* * *
الدرس الثلاثون(1/292)
? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) ? .(1/293)
قال مجاهد في قول الله تعالى : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ? . قال : هو نمرود بن كنعان . قال قتادة : وهو أول ملك تجبر في الأرض ، وهو صاحب الصرح ببابل .
وقال قتادة في قوله تعالى : ? إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ? ، وذكر لنا أنه دعا برجلين فقتل أحدهما ، واستحيا الآخر . فقال : أنا أحيي هذا ، أنا أستحيي من شئت ، وأقتل من شئت . قال إبراهيم عند ذلك : ? فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? .
قال البغوي : ( ? فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ? ، أي : تحير ودهش وانقطعت حجته وقال ابن إسحاق : ? وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? ، أي : لا يهديهم في الحجة عند الخصومة لما هم عليه من الضلال ) . انتهى . وهو كقوله تعالى : ? وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ? .(1/294)
وقال السدي : لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك ، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه وقال له : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحي ويميت . قال نمرود : أنا أحي وأميت . أنا أدخل أربعة نفر ، فأدخلهم بيتًا فلا يطعمون ولا يسقون حتى هلكوا من الجوع ، أطعمت اثنين وسقيتمهما فعاشا ، وتركت اثنين فماتا . فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك . قال له إبراهيم : فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر . وقال إن هذا إنسان مجنون فأخرجوه ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها ، وإن النار لم تأكله ، وخشي أن يفتضح في قومه ، أعني نمرود ، وهو قول الله تعالى ذكره : ? وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ? فكان يزعم أنه رب ، وأمر بإبراهيم فأخرج . وقال ابن زيد : فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكث أربعمائة سنة تضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه ، وضرب بهاما رأسه وكان جبارًا أربعمائة عام ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه وأماته الله .
قوله عز وجل : ? أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) ? .(1/295)
قال البغوي : قوله تعالى : ? أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ? ، وهذه الآية مسوقة على الآية الأولى . تقديره : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ؟ وهل رأيت كالذي مر على قرية ؟ وقيل : تقديره : هل رأيت كالذي حاجّ إبراهيم في ربه ؟ وهل رأيت كالذي مر على قرية ؟
وقال ابن كثير : تقدم قوله تعالى : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ ? وهو في قوة ، قوله : هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه . ولهذا عطف عليه بقوله : ? أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ? .
قال قتادة : ذكر لنا أنه عزير ، وقال عكرمة : القرية : بيت المقدس مر بها عزير بعد إذ خربّها بختنصر . وقال ابن جريج : بلغنا أن عزيرًا خرج فوقف على بيت المقدس ، وقد خربه بخنتصر ، فوقف فقال : أبعد ما كان لك من القدس والمقالة والمال ما كان فحزن .
وقال السدي : ? وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ? ، يقول : ساقطة على سقفها ، وذلك أن عزيرًا مر جائيًا من الشام على حمار له ، معه عصير وعنب وتين ، فلما مر بالقرية فرآها وقف عليها ، وقلّب يده وقال : كيف يحيي هذه الله بعد موتها ؟ ليس تكذيبًا منه وشكًا ، فأماته الله وأمات حماره ، فهلكا ومر عليهما مائة سنة ، ثم إن الله أحيا عزيرًا فقال له : كم لبثت ؟ قال : لبثت يومًا أو بعض يوم . قيل له : بل لبثت مائة عام فانظر : إلى طعامك من التين والعنب ، وشرابك من العصير لم يتسنه الآية . وقال قتادة : ذكر لنا أنه مات ضحى ، ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس ، فقال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يومًا ثم التفت ، فرأى بقية من الشمس ، فقال : أو بعض يوم . فقال : بل لبثت مائة عام . وقال الضحاك في قوله : ? فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ? يقول : لم يتغير . وقد أتى عليه مائة عام .(1/296)
وقوله تعالى : ? وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ? . قال البغوي : أي : نرفعها من الأرض ، ونردها إلى مكانها ونركب بعضها على بعض . وقال السدي وغيره : تفرقت عظام حماره حوله يمينًا وشمالاً فنظر إليها وهي تلوح من بياضها ، فبعث الله ريحًا فجمعتهما من كل موضع من تلك المحلة ، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارًا قائمًا من عظام لا لحم عليها ، ثم كساها الله لحمًا وعصبًا وعروقًا وجلدًا ، وبعث الله ملكًا فنفخ في منخاري الحمار ، فنهق بإذن الله عز وجل . وذلك كله بمرأى من العزير ، فعند ذلك لما تبين له هذا كله قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير . وقال الضحاك وغيره : إنه عاد إلى قريته شابًا وأولاده ، وأولاد أولاده شيوخ وعجائز ، وهو أسود الرأس واللحية .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) ? .(1/297)
قال محمد بن إسحاق : لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصه الله في سورة الأنبياء ، قال نمرود فيهما يذكرون لإبراهيم : أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته ، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غير ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمرود : أنا أحيي وأميت . فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ ثم ذكر ما قص الله من محاجته إياه قال : فقال إبراهيم عند ذلك : ? رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ? من غير شك في الله تعالى ، ولا في قدرته ولكنه أحب أن يعلم ذلك ، وتاق إليه قلبه ، فقال : ليطمئن قلبي ، أي : ما تاق إليه إذ هو علمه . وقال سعيد ابن جبير : ليطمئن قلبي ، ليزداد يقيني .(1/298)
وقوله تعالى : ? قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? . قال ابن عباس : فصرهنّ : قطعهنّ . وقال مجاهد : ? ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ? : ثم بددهن أجزاء على كل جبل ، ? ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ? كذلك يحي الله الموتى . وقال ابن جريج : فجعلهن سبعة أجزاء ، وأمسك رؤوسهن عنده ، ثم دعاهن بإذن الله فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى ، وكل ريش تطير إلى الريشة الأخرى ، وكل بضعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رؤوس الجبال حتى لقيت كل جثة بعضها بعضًا في السماء ، ثم أقبلن يسعين حتى وصلت رأسها . وعن ابن المنكدر قال : التقى عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمرو بن العاص فقال ابن عباس لابن عمرو : أي آية في القرآن أرجى عندك ؟ فقال عبد الله بن عمرو : قول الله عز وجل : ? قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ? الآية . فقال ابن عباس : لكن أنا أقول : قول الله عز وجل : ? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى ? فرضي من إبراهيم قوله : بلى . قال : فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان . رواه ابن أبي حاتم وغيره .
وقال البخاري : ( باب وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى . فصرهن : قطعهن . وذكر حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : ? رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ? » . انتهى .(1/299)
قال إسماعيل بن يحيى المزني : لم يشك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا إبراهيم في أن الله قادر على أن يحيي الموتى ، وإنما شكّا في أنه هل يجيبهما إلى ما سألا ؟
قال في فتح الباري : ( وقال عياض : لم يشك إبراهيم بأن الله يحيي الموتى ولكن أراد طمأنينة القلب ، وترك المنازعة لمشاهدة الأحياء ، فحصل له العلم الأول بوقوعه ، وأراد العلم الثاني بكيفيته ومشاهدته ، ويحتمل أنه سأل زيادة اليقين ، وإن لم يكن في الأول شك ، لأن العلوم قد تتفاوت في قوتها فأراد الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين . والله أعلم ) .
* * *
الدرس الحادي والثلاثون(1/300)
? مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) ? .
* * *(1/301)
قوله عز وجل : ? مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) ? .
قال سعيد بن جبير في قوله تعالى : ? مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ? ، يعني : في طاعة الله . وقال ابن عباس : الجهاد والحج يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف .
وقوله تعالى : ? وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ? ، أي : بحسب إخلاصه في عمله ، ? وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ? . قال ابن زيد : ? وَاسِعٌ ? أن يزيد من سعته ، ? عَلِيمٌ ? عالم بمن يزيده . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « كل عمل ابن آدم يضاعف له ، الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة . قال الله تعالى : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، إنه ترك شهوته ، وطعامه ، وشرابه ، من أجلي » .
قوله عز وجل : ? الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) ? .(1/302)
قال قتادة : علم الله أن ناسًا يمنون بعطيتهم ، فكره ذلك وقدم فيه فقال : ? قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ? . وقال الضحاك : ? قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ? يقول : أن يمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منًا وأذى . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المنان بما أعطى ، والمسبل إزاره ، والمنفق سلعته بالحلف والكاذب » . وعن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمنان بما أعطى » . رواه أحمد وغيره .
وقوله تعالى : ? وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ? . قال ابن عباس : الغني الذي كمل في غناه ، والحليم الذي قد كمل في حلمه .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) ? .(1/303)
قال عمرو بن حريث : إن الرجل يغزو [ و ] لا يسرق ولا يزني ولا يغل ، لا يرجع بالكفاف ، فقيل له : لم ذاك ؟ قال : فإن الرجل ليخرج ، فإذا أصابه من بلاء [ الله ] الذي حكم عليه ، سبُّ ولعن إمامه ولعن ساعة غزا ، وقال : لا أعود لغزوة معه أبدًا . فهذا عليه ، وليس له مثل النفقة في سبيل الله يتبعها منّ وأذى ، فقد ضرب الله مثلها في القرآن : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى ? حتى ختم الآية .
وقال قتادة : فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة . يقول : ? لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ ? يومئذٍ كما ترك هذا المطر الصفا الحجر ، ليس عليه شيء أنقى ما كان عليه . وقال السدي : ? لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى ? إلى قوله : ? عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ ? ، أما الصفوان الذي عليه تراب ، فأصابه المطر فذهب ترابه فتركه صلدًا ، فكذا هذا الذي ينفق ماله رياء الناس ، ذهب الرياء بنفقته ، كما ذهب هذا المطر بتراب هذا الصفا فتركه نقيًا ، فكذلك تركه الرياء ، لا يقدر على شيء مما قدم ، فقال للمؤمنين : ? لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى ? ، فتبطل كما بطلت صدقة الرياء .
قوله عز وجل : ? وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) ? .
قال الشعبي في قوله تعالى : ? وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ? : تصديقًا وتيقينًا . وقال مجاهد : يثبتون أين يضعون أموالهم .
وقوله تعالى : ? كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ? .(1/304)
قال البغوي : ( وهي المكان المرتفع المستوى الذي تجري فيه الأنهار ، فلا يعلوه الماء ، ولا يعلو عن الماء ) . انتهى . وقال ابن عباس : ? كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ? ، المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار .
وقوله تعالى : ? أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ? . قال السدي : أما الطل فالندى ، يقول : كما أضعفت ثمرة تلك الجنة ، فكذلك يضاعف ثمرة هذا المنفق . وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن ، يقول : ليس كخيره خلف ، كما ليس الخير هذه الجنة ، خلف على أي حال ، إما وابل ، وإما طل .
وقوله تعالى : ? وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ? ، أي : لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء .
قوله عز وجل : ? أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) ? .(1/305)
قال السدي : هذا مثل آخر لنفقة الرياء ، أنه ينفق ماله يرائي الناس به ، فيذهب ماله منه وهو يرائي ، فلا يأجره الله فيه ، فإذا كان يوم القيامة واحتاج إلى نفقته ، وجدها قد أحرقها الرياء فذهبت ، كما أنفق هذا الرجل على جنته ، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته ، جاءت ريح فيها سموم فأحرقت جنته ، فلم يجد منها شيئًا ، فكذلك المنفق رياء . قال مجاهد في قول الله عز وجل : ? أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ? كمثل المفرط في طاعة الله حتى يموت . وقال عمر بن الخطاب : هذا مثل ضربه الله للإنسان يعمل عملاً صالحًا ، حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه ، عمِل عمَل السوء . وقال قتادة : قوله : ? أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? الآية ، يقول : أصابها ريح فيها سموم شديد . ? كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ? فهذا مثل ، فاعقلوه عن الله عز وجل أمثاله ، فإنه قال : ? وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ? . هذا رجل كبرت سنه ، ودق عظمه ، وكثر عياله ، ثم احترقت جنته على بقية ذلك كأحوج ما يكون إليه ، يقول : أيحب أحدكم أن يضل عنه عمله يوم القيامة ، كأحوج ما يكون إليه ؟(1/306)
وقال البخاري باب قوله : ? أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ? إلى قوله : ? لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ? ، وذكر حديث عمر : أنه قال يومًا لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : فيم ترون هذه الآية نزلت : ? أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ? ؟ قالوا : الله أعلم ، فغضب عمر فقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم . فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين . قال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك . قال ابن عباس : ضربت مثلاً لعمل . قال عمر : أيّ عمل ؟ قال ابن عباس : بعمل . قال عمر : لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل ، ثم بعث الله له الشيطان ، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله . انتهى والله المستعان .
* * *
الدرس الثاني والثلاثون(1/307)
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270) إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلا ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (274) ? .
* * *(1/308)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) ? .
قال ابن عباس : ? أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ? يقول : تصدقوا . وقال مجاهد في قوله : ? أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ? قال : من التجارة . وقال ابن عباس : يقول : من أطيب أموالكم وأنفسه . وعن عبيدة قال : سألت عليًا عن قول الله عز وجل : ? وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ ? قال : يعني : من الحب والثمر ، وكل شيء عليه زكاة . وعن البراء بن عازب في قول الله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ ? إلى قوله : ? أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ? قال : نزلت في الأنصار ، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر ، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيأكل فقراء المهاجرين منه ، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر يظن أن ذلك جائز ، فأنزل الله عز وجل فيمن فعل ذلك : ? وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ? . رواه ابن جرير .(1/309)
قال قتادة : ? وَلاَ تَيَمَّمُواْ ? ، لا تعمدوا . وعن البراء : ? وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ? يقول : لو كان لرجل على رجل فأعطاه ذلك لم يأخذه ، إلا أنه يرى أنه قد نقصه من حقه . وعن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن هذه الآية ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ ? . فقال عبيدة : إنما هذا في الواجب ، ولا بأس أن يتطوع الرجل بالتمرة ، والدرهم الزائف خير من التمرة .
وقوله تعالى : ? وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ? ، أي : غني عن صدقاتكم ، حميد : بقبولها منكم ، وإثباتكم على أعمالكم ، وهو المحدود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره .
قوله عز وجل : ? الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) ? .
عن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن للشيطان لمة من ابن آدم ، وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان » ثم قرأ : « ? الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء ? » . رواه ابن جرير وغيره .
قوله عز وجل : ? يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269) ? .
قال قتادة : الحكمة : القرآن ، والفقه في القرآن .(1/310)
وقوله تعالى : ? وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ? ، أي : العقول . قال الحسن : من أعطى القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه ، إلا أنه لم يوح إليه .
وقال ابن كثير : جاء في بعض الأحاديث : « من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه ، غير أنه لا يوحى إليه » .
قوله عز وجل : ? وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270) ? .
قال مجاهد في قوله عز وجل : ? وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ ? ويحصيه . قال ابن جرير : ثم أوعد جل ثناؤه من كانت نفقته رياء ونذوره طاعة للشيطان فقال : ? وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ? .
قوله عز وجل : ? إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) ? .
قال البغوي : ( قوله تعالى : ? إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ? ، أي : نعمت الخصلة هي ، وما في محل الرفع وهي في محل النصب ، كما تقول : نعم الرجل رجلاً ، فإذا عرفت رفعت ، فقلت : نعم الرجل زيد ، وأصله : نعم ما ، فوصلت ) . انتهى . قال قتادة : كل مقبول إذا كانت النية صادقة ، وصدقة السر أفضل ، وذكر لنا : ( أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ) . وقال ابن عباس : ? إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ ? فجعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيها بسبعين ضعفًا ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها ، يقال بخمسة وعشرين ضعفًا ، وكذلك جمع الفرائض والنوافل والأشياء كلها .(1/311)
قوله عز وجل : ? لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلا ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) ? .
عن ابن عباس : ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام ، حتى نزلت هذه الآية : ? لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ? إلى آخرها ، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين ) رواه ابن أبي حاتم . وقال ابن زيد في قوله : ? يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ? قال : هو مردود عليك فمالك ولهذا تؤذيه وتمن عليه ، إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله والله يجزيك . وقال السدي : قوله : ? لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ ? أمَّا : ? لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ? ، فيعني : المشركين ، وأما النفقة فبين أهلها ، فقال : ? لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ? ، قال قتادة : أحصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو . وقال ابن زيد : كانت الأرض كلها كفرًا لا يستطيع أحد أن يخرج يبتغي من فضل الله .(1/312)
وقال مجاهد في قوله : ? يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ? ، قال : التخشع . وقال الربيع : تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة . وقال السدي في قوله : ? لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً ? ، لا يلحفون في المسألة . وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي ترده التمرة والتمرتان ، واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس » . وللبخاري : « إنما المسكين الذي يتعفف » . وعن أبي سعيد الخدري قال : سرحتني أمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله ، فأتيته فقعدت قال : فاستقبلني فقال : « من استغنى أغناه الله ، ومن استعف أعفه الله ، ومن استكف كفاه الله ، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف » . قال فقلت : ناقتي الياقوتة خير من أوقية ، فرجعت فلم أسأله . رواه أحمد وغيره ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا ، فليستقل أو ليستكثر » . رواه مسلم .
قوله عز وجل : ? الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (274) ? .
قال قتادة : هؤلاء أهل الجنة ، ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : « المكثرون هم الأقلون » . قالوا : يا نبي الله إلا من ؟ - حتى خشوا أن تكون قد مضت فليس لها رد - حتى قال : « إلا من قال بالمال هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ، وهكذا بين يديه ، وهكذا خلفه ، وقليل ماهم ، هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله التي افترض ، وارتضى في غير سرف ولا إملاق ، ولا تبذير ولا فساد » . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس الثالث والثلاثون(1/313)
? الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) ? .(1/314)
قال مجاهد في الربا الذي نهى الله عنه : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول : لك كذا وكذا وتؤخر عني ، فيؤخر عنه .
وقال في قول الله عز وجل : ? الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ? يوم القيامة في آكل الربا في الدنيا . وقال ابن عباس : ذلك حين يبعث من قبره . وقال سعيد بن جبير : يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونًا يخنق .
وقوله تعالى : ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ? .
قال البغوي : ( أي : ذلك الذي نزل بهم لقولهم هذا واستحلالهم إياه ، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه ، فيقول الغريم لصاحب الحق : زدني في الأجل حتى أزيدك في المال ، فيفعلان ذلك ، ويقولون : سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند المحل لأجل التأخير ، فكذبهم الله تعالى وقال : ? وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ? ) . انتهى .
وقوله تعالى : ? فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ ?
قال السدي : أما الموعظة : القرآن ، وأما ما سلف : فله ما أكل من الربا .(1/315)
وقوله تعالى ? وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? فيه تهديد أكيد ووعيد شديد ، كقوله تعالى : ? وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ? . وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لعن الله آكل الربا وموكله ، وكاتبه وشاهديه » . وقال : « هم سواء » . متفق عليه واللفظ لمسلم . وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواء بسواء ، يدًا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يدًا بيد » . رواه مسلم .
قوله عز وجل : ? يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) ? .
عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الربا وإن أكثر ، فإن عاقبته تصير إلى قل » . رواه أحمد وغيره .
وقوله تعالى : ? وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ? ، أي : يبارك فيها في الدنيا ، ويضاعف أجرها في الآخرة . وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها ، كما يرب أحدكم فلوّه ، حتى تكون مثل الجبل » .
وقوله تعالى : ? وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ? .
قال ابن كثير : أي : لا يحب كفور القلب ، أثيم القول والفعل .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (277) ? .(1/316)
هذا مدح من الله تعالى للمؤمنين المطيعين لأمره ، المحسنين إلى خلقه ، وإخبار عما أعد لهم من الكرامة يوم القيامة .
قوله : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) ? .
قال ابن كثير : وقد ذكر زيد بن أسلم وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي : ( أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف ، وبني المغيرة من بني مخزوم ، كان بينهم ربا في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه ، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم فتشاوروا ، وقالت بنو المغيرة : لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام ، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية ، فكتب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ? فقالوا : نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا ، فتركوا كلهم ) . انتهى .
قال ابن عباس : فمن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه ، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه ، وقال أيضًا يقال : يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب .(1/317)
وقوله تعالى : ? وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ? . قال الضحاك : وضع الله الربا ، وجعل لهم رؤوس أموالهم . وقال قتادة : ذكر لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته : « ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله ، أول ربا ابتدء به ربا العباس بن عبد المطلب » . وقال ابن زيد في قوله : ? فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ? ، لا تنقصون من أموالكم ، ولا تأخذون باطلاً لا يحل لكم .
قوله عز وجل : ? وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) ? .
قال الضحاك : من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة ، وأن تصدقوا خير لكم ، قال : وكذلك كل دين على مسلم ، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « من نفّس عن غريمه أو محا عنه ، كان في ظل العرش يوم القيامة » . وفي الحديث الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة ، قال : ما ذا عملت لي في الدنيا ؟ فقال : ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها ؟ قالها ثلاث مرات . قال العبد عند آخرها : يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال ، وكنت رجلاً أبايع الناس ، وكان من خلِقي الجواز ، فكنت أيسر على الموسر وأُنظر المعسر . قال : فيقول الله عز وجل : أنا أحق من ييسّر ، ادخل الجنة » . أخرجه أبو يعلى الموصلي ونحوه في البخاري ومسلم .
قوله عز وجل : ? وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281) ? .(1/318)
قال ابن عباس : ( هذه آخر آية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له جبريل عليه السلام : ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة ، وعاش بعدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى وعشرين يومًا ) . والله أعلم .
* * *
الدرس الرابع والثلاثون
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُواْ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ(1/319)
الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ? .
قال ابن عباس في قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ? أنزلت في السلم إلى أجل معلوم . وقال الضحاك : من باع إلى أجل مسمى أمر أن يكتب صغيرًا كان أو كبيرًا إلى أجل مسمى . قال الربيع فكان هذا واجبًا ، ثم قامت الرخصة والسعة ، قال : ? فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ ? .
وقال قتادة في قوله : ? وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ? اتقى الله كاتب في كتابه ، فلا يدعن منه حقًا ، ولا يزيدن فيه باطلاً .
وعن مجاهد في قول الله عز وجل : ? وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ ? . قال : واجب على الكاتب أن يكتب . وقال السدي : وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ إن كان فارغًا .
وقال ابن زيد في قوله تعالى : ? وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ? . قال : لا ينقص من حق هذا الرجل شيئًا إذا أملى .(1/320)
وقوله تعالى : ? فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ? . قال مجاهد : أما السفيه فالجاهل بالإملاء والأمور ، وقال أيضًا : أما الضعيف فالأحمق . وقال ابن عباس : ? فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ? ، يقول إن عجز عن ذلك أملى وليّ صاحب الدين بالعدل . وقال الضحاك : أمر ولي السفيه والضعيف أن يمل بالعدل .
قوله عز وجل : ? وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ? .
قال مجاهد : ? وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ ? قال : الأحرار . وقال البغوي : ( يعني : الأحرار المسلمين دون العبيد والصبيان ، وهو قول أكثر أهل العلم . وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد ) . انتهى . وقال الربيع في قوله : ? وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ ? ، يقول : في الدِّين ? فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ? وذلك في الدين . ? مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء ? ، يقول : عدول . وقال قتادة : علم الله أن ستكون حقوق ، فأخذ لبعضهم من بعض الثقة ، فخذوا بثقة الله ، فإنه أطوع لربكم وأدرك لأموالكم ، ولعمري لئن كان تقيًّا لا يزيد الكتاب إلا خيرًا ، وإن كان فاجرًا فبالحريّ أن يؤدي إذا علم أن عليه شهودًا .
وقال الربيع : ? أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ? ، يقول : أن تنسى إحداهما فتذكرها الأخرى .(1/321)
وقال قتادة في قوله تعالى : ? وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ? قال : لا تأب أن تشهد إذا ما دعيت إلى شهادة . وكان الحسن يقول في قوله : ? وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ? . جمعت أمرين : لا تأب إذا كانت عندك شهادة أن تشهد ، ولا تأب إذا دعيت إلى شهادة .
قوله عز وجل : ? وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُواْ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) ? .
قال مجاهد : ? وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ? . قال : هو الدَّين .
وقال السدي : قوله : ? ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ ? ، يقول : أعدل عند الله .
وقال البغوي : ? ذَلِكُمْ ? ، أي : الكتاب ، ? أَقْسَطُ ? أعدل ، ? عِندَ اللّهِ ? لأنه أمر به واتباع أمره أعدل من تركه وأقوم للشهادة ، لأن الكتابة تذكر الشهود ، ? وَأَدْنَى ? وأحرى وأقرب إلى ? أَلا تَرْتَابُواْ ? ، تشكوا في الشهادة .
وقال السدي : قوله : ? إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ ? ، يقول : معكم بالبلد ترونها فتؤخذ وتعطى ، فليس على هؤلاء جناح ألا يكتبوها . وقال الربيع : قلت للحسن : أرأيت قول الله عز وجل : ? وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ? ؟ قال : إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك ، وإن لم تشهد عليه فلا بأس . قال ابن كثير : وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب ، لا على الوجوب .(1/322)
وقال مجاهد في قوله تعالى : ? وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ? . يقول : لا يأتي الرجل فيقول : انطلق فاكتب لي واشهد لي ، فيقول : إن لي حاجة فالتمس غيري ، فيقول : اتق الله فإنك قد أمرت أن تكتب لي ، فهذه المضارة . ويقول : دعه والتمس غيره ، والشاهد بتلك المنزلة . وقال ابن عباس : ? وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ? ، يقول : إنه يكون للكاتب والشاهد حاجة ليس منها بد فيقول : خلوا سبيله . وقال أيضًا : والضرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غني : إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت ، فيضاره بذلك وهو مكتف بغيره ، فنهاه الله عز وجل عن ذلك وقال : ? وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ? ، قال : والفسوق المعصية .
وقوله تعالى : ? وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? . قال الضحاك : هذا تعليم علمكموه فخذوا به .
قوله عز وجل : ? وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) ? .
قال الربيع : قوله : ? وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً ? ، يقول كاتبًا يكتب لكم ، ? فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ? . وقال الضحاك : ما كان من بيع إلى أجل فأمر الله عز وجل : أن يكتب وليشهد عليه ، وذلك في المقام ، فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا فرهان مقبوضة .
وقوله تعالى : ? فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ ? .(1/323)
قال البغوي : ( فإن كان الذي عليه الحق أمينًا عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئًا لحسن ظنه به ، ? فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ? ، أي : فليقضه على الأمانة ، ? وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ ? في أداء الحق . انتهى .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ? . قال السدي : ? وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ? ، يقول : فاجر قلبه . وقال ابن عباس : إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها فأخبره بها ، ولا تقل : أخبر بها عند الأمير : أخبره بها لعله يراجع أو يرعوي . انتهى . وقد قال الله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الخامس والثلاثون(1/324)
? لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) ? .(1/325)
يقول تعالى : ? لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ? خلفًا وملكًا وعبيدًا . ? وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? . روى الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة قال : ( لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ? لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? اشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جثوا على الركب وقالوا : يا رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة ، والصيام ، والجهاد ، والصدقة ، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير » ، فلما أقرّ بها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها : ? آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ? ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله : ? لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ? ) . إلى آخره .(1/326)
ولمسلم : ( ولما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله : ? لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ? ، قال : « نعم ربنا » ، ? وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ? قال : « نعم ربنا » ، ? وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ? قال : « نعم » ، ? وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ? قال : « نعم » .
وفي رواية له من حديث ابن عباس : قال : ( قد فعلت ) .
قال ابن حجر في ( فتح الباري ) : ( والمراد بقوله : نسختها أي : أزالت ما تضمنته من الشدة ، وبينت أنه وإن وقعت المحاسبة به ، لكنها لا تقع المؤاخذة به ؛ أشار إلى ذلك الطبري ، فرارًا من إثبات دخول النسخ في الأخبار ، وأجيب بأنه وإن كان خبرًا لكنه يتضمن حكمًا ، ومهما كان من الأخبار يتضمن الأحكام ، أمكن دخول النسخ فيه كسائر الأحكام ، وإنما الذي لا يدخله النسخ من الأخبار ، ما كان خبرًا محضًا لا يتضمن حكمًا ، كالإخبار عما مضى من أحاديث الأمم ونحو ذلك ؛ ويحتمل أن يكون المراد بالنسخ في الحديث : التخصيص ، فإن المتقدمين يطلقون لفظ النسخ عليه كثيرًا ، والمراد بالمحاسبة بما يخفي الإنسان ما يصمم عليه ويشرع فيه ، دون ما يخطر ولا يستمر عليه . والله أعلم ) . انتهى .
وروى الجماعة من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم تكلم أو تعمل » .(1/327)
قوله عز وجل : ? آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) ? .
قال ابن زيد : ? لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ? ، كما صنع القوم يعني : بني إسرائيل قالوا : فلان نبي وفلان ليس نبيًا ، وفلان نؤمن به وفلان لا نؤمن به . وعن حكيم بن جابر قال : ( لما أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ? آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ? . قال جبريل : إن الله عز وجل قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك ، فسل تعطه . فسأل : ? لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا ) ? . رواه ابن جرير .
قوله عز وجل : ? لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) ? .(1/328)
قال السدي : ? لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا ? طاقتها ، وحديث النفس مما لا يطيقون . وقال ابن عباس : هم المؤمنون ، وسع الله عليهم أمر دينهم ، فقال الله جل ثناؤه : ? وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ? وقال : ? يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ? ، وقال : ? فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ? . وقال : قتادة :
قوله : ? لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ ? ، أي : من خير ، ? وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ? ، أي : من شر ، وقوله : ? رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ? قال ابن زيد : إن نسينا شيئًا مما افترضته علينا ، أو أخطأنا شيئًا مما حرمته علينا . وقال قتادة : بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الله تجاوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت بها أنفسها » . وروى ابن ماجة وغيره من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » .
وقوله تعالى : ? رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ? . قال مجاهد : ? إِصْراً ? ، عهدًا . وقال ابن زيد : لاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا ذنبًا ليس فيه توبة ولا كفارة . وقال مالك : الإصر الأمر الغليط .
وقوله : ? رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ? ، قال ابن زيد : لا تفترض علينا من الدين ما لا طاقة لنا به ، فنعجز عنه ، ? وَاعْفُ عَنَّا ? إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به ، ? وَاغْفِرْ لَنَا ? ، إن انتهكنا شيئًا مما نهيتنا عنه ، ? وَارْحَمْنَا ? يقول : لأننا لا نعمل بما أمرتنا به ، ولا نترك ما نهيتنا عنه إلا برحمتك . قال : ولم ينج أحد إلا برحمتك .(1/329)
وقوله تعالى : ? أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ? ، ورد في بعض الآثار : ( قال الله : قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ، ونصرتكم على القوم الكافرين ) . وكان معاذ رضي الله عنه إذا فرغ من هذه السورة قال : ( آمين ) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه إذا فرغ من هذه السورة قال : ( آمين ) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ». متفق عليه . وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي». رواه أحمد . وعن علي رضي الله عنه قال : لا أرى أحدًا عقل الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة ، فإنها من كنز أعطيه نبيكم - صلى الله عليه وسلم - من تحت العرش . رواه ابن مردويه . والله أعلم .
* * *
الدرس السادس والثلاثون
[ سورة آل عمران ]
مدنية ، وهي مائتا آية
روى مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه اقرءوا الزهراوين : البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة » .
بسم الله الرحمن الرحيم(1/330)
? الم (1) اللّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4) إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الألْبَابِ (7) رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) ? .
* * *(1/331)
قوله عز وجل : ? الم (1) اللّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4) إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) ? .
قال ابن إسحاق : قَدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد نَجْران ، ستون راكبًا ، فيهم أربعة عَشرَ رجلاً من أشرافهم ، في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم : العاقب أمير القوم ، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم ، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، واسمه عبد المسيح . والسيد ، ثمالهم وهو صاحب رحلهم ومجتمعهم ، واسمه الأيْهَم . وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل ، أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم . قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر عليهم في ثياب الحبرات ، وقد حانت صلاتهم ، فقاموا يصلون في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « دعوهم » . فصلوا إلى المشرق قال : فكلم منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو حارثة ، والعاقب ، والأيهم ، وهو من النصرانية على دين الملك ، مع اختلاف أمرهم يقولون : المسيح هو : الله ، ويقولون : هو : ولد الله ، ويقولون : هو : ثالث ثلاثة ، إلى أن قال : فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية .(1/332)
وقال الربيع في قوله : ? الم * اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? إنّ النصارى أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخاصموه في عيسى ابن مريم ، وقالوا له : من أبوه ؟ وقالوا له على الله الكذبَ والبهتانَ ، لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا . فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : « كنتم تعملون أنه لا يكون له ولدًا إلا وهو يشبه أباه » ؟ قالوا : بلى . قال : « ألستم تعلمون أن ربَّنا حيّ لا يموت ، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء » ؟ قالوا : بلى . قال : « ألستم تعلمون أن ربنا قَيِّمٌ على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه » ؟ قالوا : بلى ! قال : « فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا » ؟ قالوا : لا . قال : « أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء » ؟ قالوا : بلى . قال : « فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم » ؟ قالوا : لا . قال : « فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء » . قال : « ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يُحدِث الحدَث » ؟ قالوا : بلى . قال : « ألستم تعلمون أن عيسى حملته امرأة كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غُذِّي كما يغذّى الصبيّ ، ثم كان يَطعم الطعام ، ويشرب الشرابَ ويُحدث الحدَث » ؟ قالوا : بلى . قال : « فكيف يكون هذا كما زعمتم » ؟ قال : فعرفوا ، ثم أبوا إلا جحودًا . فأنزل الله عز وجل : ? الم * اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? .
وقوله تعالى : ? نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ? قال مجاهد : لما قبله من كتاب أو رسول .
قوله تعالى : ? وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ ? قال قتادة : هما كتابان أنزلهما الله فيهما بيان من الله وعصمة لمن أخذ به ، وصدق به ، وعمل بما فيه .(1/333)
وقوله تعالى : ? وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ? قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : ? وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ? ، أي : الفصل بين الحق والباطل ، فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره .
وقوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ? ، أي : أن الله منتقم ممن كفر بآياته وجحد بها .
وقوله تعالى : ? إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? .
قال قتادة : قادرٌ والله ربُنا أن يصور عباده في الأرحام كيف يشاء ، من ذكر ، أو أنثى ، أو أسود أو أحمر ، تام خلقه وغير تام .
قوله عز وجل : ? هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الألْبَابِ (7) رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) ? .(1/334)
قال ابن عباس في قوله : ? هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ? : المحكمات : ناسخه ، وحلاله ، وحرامه ، وحدوده ، وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به . قال : ? وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ? والمتشابهات منسوخة ومقدمة ومؤخرة وأمثاله وأقسامه ، وما يؤمن به ولا يعمل به . وقيل : المتشابهات : فواتح السور .
قال البغوي : ( فإن قيل : كيف فرق ها هنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل الله كل القرآن محكمًا في مواضع أخر . فقال : ? الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ? وجعله كله متشابهًا فقال الله : ? نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً ? . قيل : حيث جعل الكل محكمًا أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل ، وحيث جعل الكل متشابهًا أراد أن بعضه يشبه بعضًا في الحق والصدق وفي الحسن ، وجعل ها هنا بعضه محكمًا وبعضه متشابهًا ) . انتهى .
وقال ابن زيد في قوله تعالى : ? مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ? قال : هن جماع الكتاب .
وقال ابن كثير : أي : أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه .(1/335)
وقوله تعالى : ? فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ? ، أي : ميل عن الهدى : ? فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ? قال ابن جريج : هم المنافقون . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ? هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ? إلى قوله : ? أُوْلُواْ الألْبَابِ ? فقال : « إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم » . رواه أحمد وفي رواية البخاري : « فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم » . وقال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : ? فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ? ، أي : ما تحرف منه وتصرف ؛ ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا ، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشبهة .(1/336)
وقال السدي : ? ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ ? قال : إرادة الشرك . وقال مجاهد : الشبهات بها أَهلكوا وأُهلكوا . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومًا يتدارءون فقال : « إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، إنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضًا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوا به ، وما جهلتم فكِلوه إلى عالِمه » . رواه أحمد . وقال ابن عباس : ? وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللّهُ ? ، يعني : تأويله يوم القيامة إلا الله . وقالت عائشة في قوله تعالى : ? وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ? كان من رسخوهم في العلم ، أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه ولم يعلموا تأويله . وقال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : ? وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ? الذي أراد ما أراد ، ? إِلا اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ? ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد ، فاتسق بقولهم الكتاب ، وصدق بعضه بعضًا ، فنفذت به الحجة وظهر به الغدر ، وزاح به الباطل ودمغ به الكفر . وروى ابن جرير وغيره : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل من الراسخ في العلم ؟ قال : « من برت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، وعف بطنه وفرجه ، فذلك الراسخ في العلم » .(1/337)
وقال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : ? رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ? أي : لا تمل قلوبنا وإن ملنا بأجداثنا : ? وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ? ، وعن أم سلمة رضي الله عنها : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر في دعائه أن يقول : « اللهم يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك » قالت قلت : يا رسول الله ، وإن القلب ليتقلب ؟ قال : « نعم ، ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابعه ، فإن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه » . فنسأل الله ربنا ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة ، إنه هو الوهاب . قالت قلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال : « بلى قولي : اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن » . رواه ابن جرير وغيره . وعن أبي عبد الله الصنابحي أنه صلى وراء أبي بكر الصديق المغرب قال : فدنوت منه حتى أن ثيابي لتكاد تمس ثيابه ، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية في الركعة الثالثة . رواه عبد الرزاق .
وقوله تعالى : ? رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ? ، أي : يوم القيامة ? إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ? ، أي : فاغفر لنا واعف عنا وارحمنا ، وثبتنا في الدنيا على الدين ، وفي الآخرة على الصراط . وقد قال الله تعالى : ? يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ? .والله الموفق .
* * *
الدرس السابع والثلاثون(1/338)
? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17) ? .
* * *(1/339)
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) ? .
يخبر تعالى أن أموال الكفار وأولادهم لا تنفعهم يوم القيامة ، ولا تنجيهم من عذاب الله ، وأنهم حطب النار الذي توقد به .
وقوله تعالى : ? كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ? قال ابن عباس رضي الله عنهما : كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر والتكذيب .
وقوله تعالى : ? فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ? أي : شديد الأخذ ، أليم العذاب لا يمتنع منه أحد .
قوله عز وجل : ? قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ (13) ? .
عن ابن عباس قال : لما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا يوم بدر فقدم المدينة جمع يهود في سوق بني قينقاع فقال : « يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا » . فقالوا : يا محمد لا تغرنك نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تأت مثلنا . فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم : ? قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ? ، إلى قوله : ? لأُوْلِي الأَبْصَارِ ? .(1/340)
قال قتادة : ? قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ? ، عبرة وتفكر . وقال ابن عباس : ? قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ ? ، أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر ? وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ? فئة قريش الكفار ، وقال الربيع في قوله : ? قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ? ، قال : كان ذلك يوم بدر ، وكان المشركون تسعمائة وخمسين ، وكان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وثلاثة عشر .
قال ابن جرير : ( فإن قال لنا قائل : فكيف قيل : يرونهم مثليهم رأي العين ، وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذٍ ثلاثة أمثال المسلمين ؟ قلنا لهم كما يقول القائل - وعنده عبد احتاج إلى مثله - : أنا محتاج إليه وإلى مثله ، ثم يقول : أحتاج إلى مثليه ، فيكون ذلك خبرًا عن حاجته إلى مثله ، وإلى مثلي ذلك المثل ) إلى آخر كلامه .
وقوله : ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِي الأبْصَارِ ? ، قال قتادة : يقول : لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكير ، وأيدهم الله ونصرهم على عدوهم .(1/341)
قوله عز وجل : ? زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17) ? .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( لما نزلت ? زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ? ، قلت : الآن يا رب حين زينتها لنا ؟ فنزلت : ? قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ... ? ) الآية . رواه ابن جرير ، قال ابن عباس : القنطار : ألف ومائتا دينار ، ومن الفضة ألف ومائتا مثقال . وقال ابن عمر : القنطار : ألف ومائتا أوقية .
وقال مجاهد في قوله تعالى : ? وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ? ، قال : المطهمة الحسان ، وقال ابن عباس : يعني : المعلمة .
وقوله تعالى : ? ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ?، قال السدي يقول : حسن المنقلب . وهي : الجنة .(1/342)
وقوله تعالى : ? قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ? ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى : أعطيكم أفضل من هذا ؟ فيقولون : أيْ ربنا أيّ شيء أفضل من هذا ؟ قال : رضواني .
وقوله تعالى : ? الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ? ، هذا وصف عباد الله المتقين الذين وعدهم الجنة ، قال قتادة : قوله : ? الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ ? ، الصادقين يوم صدقت أفواههم ، واستقامت قلوبهم وألسنتهم ، وصدقوا في السر والعلانية ، والصابرين يوم صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن محارمه ، والقانتون : هم المطيعون لله .
قال : ? وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ? هم : أهل الصلاة ، وقال جعفر ابن محمد : من صلى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة ، كتب من المستغفرين بالأسحار ، وفي الصحيحين وغيرهما ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا ، حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول : هل من سائلٍ فأعطيه ؟ هل من داعٍ فأستجيب له ؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له ؟ » . والله أعلم .
* * *
الدرس الثامن والثلاثون(1/343)
? شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ(1/344)
النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ? .
قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : ? شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ ? ، بخلاف ما قال وفد نجران من النصارى .
? قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ ? ، أي : بالعدل . قال ابن كثير : قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته ، وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام .(1/345)
وقوله : ? لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ ? تأكيد لما سبق . ? الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? أي : ? الْعَزِيزُ ? الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياء . ? الْحَكِيمُ ? في قوله وأفعاله وشرعه وقدره .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) ?.
قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : ? إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ? ، أي : ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للرب والتصديق للرسل . وقال أبو العالية : الإسلام : الإخلاص لله وحده ، وعبادته لا شريك له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وسائر الفرائض لهذا تبع .
وقوله تعالى : ? وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ? . قال أبو العالية : يقول بغيًا على الدنيا وطلب ملكها وسلطانها ، فقتل بعضهم بعضًا على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس .
وقال مجاهد في قول الله عز وجل : ? وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ ? قال : إحصاؤه عليهم . وقال ابن كثير : أي : فإن الله سيجازيك على ذلك ، ويحاسبه على تكذيبه ، ويعاقبه على مخالفته كتابه .(1/346)
وقوله تعالى : ? فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ? يقول تعالى : فإن جادلوك في الدين فقل : ? أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ ? أي : أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له ، ومن اتبعني على ديني ، يقول كمقالتي . قال البغوي : ? فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ ? ، أي : انقدت لله وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي ؛ وإنما خص الوجه لأنه أكرم الجوارح للإِنسان وفيه بهاؤه ، فإذا خضع وجهه للشيء ، فقد خضع له جميع جوارحه .
وقوله تعالى : ? وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ? . قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : الأميون الذين لا كتاب لهم . وقال البغوي : ? وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ? ، أي : العرب ، ? أَأَسْلَمْتُمْ ? لفظة استفهام ومعناه أمر ، أي : أسلموا ، كما قال : ? فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ? ، أي : انتهوا . ? فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ ? فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية فقال أهل الكتاب : أسلمنا ، فقال لليهود : « أتشهدون أن عزيرًا عبده ورسوله » ؟ . فقالوا : معاذ الله أن يكون عزير - عليه السلام - عبدًا .
وقال للنصارى : « أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله » ؟ . قالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبدًا . فقال الله عز وجل : ? وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ ? ، أي : تبليغ الرسالة وليس عليك الهداية ? وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ? عالم بمَنْ يُؤْمن وبِمَنْ لا يُؤْمِن . انتهى .(1/347)
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (22) ? .
قال ابن جريج : كان الوحي يأتي على أنبياء من بني إسرائيل ، ولم يكن يأتيهم كتاب ، فيذكرون قومهم فيقتلون أنبياءهم ، فيقوم رجال ممن تبعهم وصدقهم ، فيذكرون قومهم فيقتلون أيضًا الذين يأمرون بالقسط من الناس وفي الحديث : « أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتل نبيًا ، أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر » . رواه ابن جريج وغيره .
قوله عز وجل : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (25) ? .(1/348)
قال ابن عباس : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت المدراس على جماعة من يهود ، فدعاهم إلى الله ، فقال له نعيم بن عمرو ، والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد ؟ فقال : « على ملة إبراهيم ودينه » . فقالا : فإن إبراهيم كان يهوديًا . قال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم » ، فأبيا عليه ، فأنزل الله عز وجل : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ? ، إلى قوله : ? مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ? .
وقوله : ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ? . قال قتادة : قالوا : لن تمسنا النار إلا تحلة القسم التي نصبنا فيها العجل ، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا . قال الله عز وجل : ? وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ? ، أي : قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه .
وقوله تعالى : ? فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ? ، وهو : يوم القيامة ، ? وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ? فكيف حالهم حينئذٍ .
قوله عز وجل : ? قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) ? .(1/349)
قال ابن عباس : ( لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وعد أمته ملك فارس والروم ، قالت المنافقون واليهود : هيهات هيهات ، من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك ؟ ألم يكف محمدًا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم ؟ فأنزل الله هذه الآية ) .
وقال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : قوله : ? تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء ? الآية ، أي : أن ذلك بيدك لا إلى غيرك ? إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? لا يقدر هذا غيرك بسلطانك وقدرتك .
وقوله تعالى : ? تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ? . قال ابن عباس : ما نقص من النهار يجعله في الليل ، وما نقص من الليل يجعله في النهار .
وقوله تعالى : ? وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ ? . قال مجاهد : الناس الأحياء من النطف ، والنطف ميتة من الناس الأحياء ومن الأنعام والنبات كذلك .
وقوله تعالى : ? وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ? . قال الربيع : يخرج الرزق من عنده بغير حساب ، لا يخاف أن ينقص ما عنده تبارك وتعالى .
قوله عز وجل : ? لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ (28) ? .
قال ابن عباس : نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفار ، أو يتخذوهم وليجة من دون المؤمنين ، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين ، فيظهروا لهم اللطف ويخالفوهم في الدين ، وذلك قوله : ? إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ? وقال أيضًا : التقاة التكلم باللسان ، وقلبه مطمئن بالإيمان .(1/350)
وقوله تعالى : ? وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ ? ، أي : يخوفكم الله عقوبته ? وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ? ، أي : المرجع والمنقلب .
قوله عز وجل : ? قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) ? .
قال البغوي : ? قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ ? ، قلوبكم من مودة الكفار ، ? أَوْ تُبْدُوهُ ? ، موالاتهم قولاً وفعلاً ، ? يَعْلَمْه اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ? ، يعني : إذا كان لا يخفى عليه شيء في السماوات ولا في الأرض ، فكيف تخفى عليه موالاتكم الكفار ، وميلكم إليهم بالقلب ؟ ? وَاللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? . وقال الكلبي : إن تسروا ما في قلوبكم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التكذيب أو تظهروه بحربه وقتاله ، يعلمه الله ويحفظه عليكم حتى يجازيكم به .
قوله عز وجل : ? يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ (30) ? .
قال قتادة : قوله : ? يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً ? ، يقول موفرًا .
وقال السدي : قوله : ? وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ? ، مكانًا بعيدًا . وعن الحسن في قوله : ? وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ ? . قال : من رأفته بهم أن حذرهم نفسه .
قوله عز وجل : ? قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) ? .(1/351)
قال الحسن : قال قوم على عهد نبيهم - صلى الله عليه وسلم - : يا محمد إنا نحب ربنا ، فأنزل الله عز وجل : ? قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ? فجعل إتباع نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - علمًا لحبه ، وعذاب من خالفه .
قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله ، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر ، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » ولهذا قال : ? قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ? ، أي : يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه ، وهو : محبته إياكم ، وهو أعظم من الأول ، كما قال بعض الحكماء العلماء : ليس الشأن أن تُحِبّ ، إنما الشأن أن تُحَبّ .
قوله عز وجل : ? قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) ? .
قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : ? قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ ? فأنتم تعرفونه ، يعني : الوفد من نصارى نجران ، وتجدونه في كتابكم ، ? فإِن تَوَلَّوْاْ ? على كفرهم ، ? فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ? . وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى » . قالوا ومن يأبى ؟ قال : « من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى » . والله الموفق .
* * *
الدرس التاسع والثلاثون(1/352)
? إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (41) ? .
* * *(1/353)
قوله عز وجل : ? إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) ? .
قال قتادة في قوله : ? إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ? : ذكر الله أهل بيتين صالحين ، ورجلين صالحين ، ففضلهم على العالمين ، فكان محمد من آل إبراهيم . وقال الحسن : فضلهم على العالمين بالنبوة على الناس كلهم ، كانوا هم الأنبياء الأتقياء المصطفين لربهم .
وقوله تعالى : ? ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ? ، أي : من ولد بعض ، ? وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? . قال قتادة : قوله : ? ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ? يقول : في النية ، والعمل ، والإخلاص ، والتوحيد له . وقال في جامع البيان : ? ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ? ، أي : أنهم ذرية واحدة متشبعة بعضها من بعض . انتهى . ولا منافاة بين القولين .
قوله عز وجل : ? إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) ? .
قال ابن إسحاق : تزوج زكريا وعمران أختين ، فكانت أم يحيى عند زكريا وكانت أم مريم عند عمران ، فهلك عمران وأم مريم حامل بمريم ،(1/354)
فهي جنين في بطنها . قال : وكانت فيما يزعمون قد أمسك عنها الولد حتى أسنّت ، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان ، فبينا هي في ظل شجرة نظرت إلى طائر يطعم فرخ له ، فتحركت نفسها للولد ، فدعت الله أن يهب لها ولدًا فحملت بمريم ، وهلك عمران ، فلما عرفت أن في بطنها جنينًا جعلته لله نذيرة ، والنذيرة : أن تعبده لله فتجعله حبسًا في الكنيسة ، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا . قال الشعبي في قوله : ? إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ? جعلته في الكنيسة وفرغته للعبادة . وقال الكلبي : قالت : اللهم لك عليّ إن رزقتني ولدًا أن أتصدق به على بيت المقدس ، فيكون من سدنته وخدمته .
وقال الربيع : كانت امرأة عمران حررت لله ما في بطنها ، وكانت على رجاء أن يهب لها غلامًا ، لأن المرأة لا تستطيع ذلك - يعني : القيام على الكنيسة ، لا تبرحها وتكنسها - لما يصيبها من الأذى . وقال السدي : ظنت أن ما في بطنها غلامًا فوهبته لله ، فلما وضعت إذ هي جارية فقالت تعتذر إلى الله : رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى . تقول : إنما يحرر الغلمان بقول الله ? وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ? ، فقالت : إني سميتها مريم . وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « كل مولود من ولد آدم له طعنة من الشيطان وبها يستهل الصبي ، إلا ما كان من مريم ابنة عمران وولدها ، فإن أمها قالت حين وضعتها : إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ، فضرب دونها حجاب فطعن في الحجاب » . رواه ابن جرير وغيره .
قوله عز وجل : ? فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) ? .(1/355)
قال ابن جرير : قال الله عز وجل : ? فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ? تقبل الله من أمها ما أرادت بها للكنيسة ، وآجرَها فيها وأنبتها ، قال : نبتت في غذاء الله . وقال السديّ : قال الله عز وجل : ? فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ? ، فانطلقت بها أمها في خِرَقها حين ولدتها إلى المحراب وكان الذين يكتبون التوراةَ إذا جاءوا إليهم بإنسان يجرّبونه اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه . وكان زكريا أفضلهم يومئذٍ وكان بينهم ، وكانت خالة مريم تحته . فلما أتوا بها اقترعوا عليها ، وقال لهم زكريا : أنا أحقكم بها ، تحتي خالتها ، فأبوا فخرجوا إلى نهر الأردنّ ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها أيهم يقوم قلمه فيكفلها . فجرت الأقلام ، وقام قلم زكريا على قرنته كأنه في طين فأخذ الجارية . وذلك قول الله عز وجل : ? وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ? ، فجعلها زكريا معه في بيته ، وهو : المحراب .
وقوله تعالى : ? كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ? ، قال الربيع : جعل زكريا دونها سبعة أبواب ، فكان يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء .
وقوله تعالى : ? قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ? ، أي : بغير إحصاء ولا عد ، لأن فضله واسع خزائنه لا تغيض .
قوله عز وجل : ? هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ (39) ? .(1/356)
قال السدي : فلما رأى زكريا من حالها ذلك يعني : فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف قال : إن ربًا أعطاها هذا في غير حينه لقادر على أن يرزقني ذرية طيبة . ورغب في الولد ، فقام فصلَّى ، ثم دعا ربه سرًّا فقال : ? رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ? ، وقوله : ? رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ? وقال : ? رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ? . وقال عكرمة : فدخل المحراب وغلق الأبواب وناجى ربه فقال : ? رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ? إلى قوله : ? رَبِّ رَضِيّاً ? ? فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ ? الآية . قال قتادة : إنما سمي يحيى لأن الله أحياه بالإيمان .
وقوله تعالى : ? مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ ? قال مجاهد : قالت امرأة زكريا : يا مريم إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك . قال : فوضعت امرأة زكريا يحيى ، ومريم عيسى ، ولذا قال : ? مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ ? قال : يحيى مصدقًا بعيسى . وقال الضحاك : كان يحيى أول من صدق بعيسى وشهد أنه كلمة من الله ، وكان يحيى ابن خالة عيسى ، وكان أكبر من عيسى .
وقوله تعالى : ? وَسَيِّداً ? ، قال قتادة : إي واللهِ ، سيد في العبادة ، والحلم ، والعلم ، والورع .(1/357)
وقوله تعالى : ? وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ ? قال مجاهد : الحصور الذي لا يأتي النساء - قال بعض المفسرين : وفيه دليل على أن ترك النكاح كان أفضل في تلك الشريعة - .
وقال الشيخ ابن سعدي : ? وَسَيِّداً ? ، أي : عظيمًا عند الله وعند الخلق ، لما جبله الله عليه من الأخلاق الحميدة والعلوم العظيمة والأعمال الصالحة ? وَحَصُوراً ? ، أي : ممنوعًا بعصمة الله وحفظه ووقايته ، من مواقعة المعاصي ، فوصفه الله بالتوفيق لجميع الخيرات والحماية من السيئات والزلات ، وهذا غاية كمال العبد .
قوله عز وجل : ? قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (41) ? .(1/358)
قال ابن كثير : فلما تحقق زكريا ، عليه السلام ، هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر ، قال : ? رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ ? ، أي : الملك ? كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ? ، أي : هكذا أمر الله عظيم ، لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر . ? قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ? أي : علامة أستدل بها على وجود الولد مني ? قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا ? ، أي : إشارة لا تستطيع النطق ، مع أنك سويٌ صحيح ، كما في قوله : ? ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ? ، ثم أمر بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال ، فقال تعالى : ? وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ ? ) . انتهى . وقال الحسن في قوله : ? قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزاً ? قال : أمسك بلسانه ، فجع يومئ بيده إلى قومه أن سبحوا بكرة وعشيًّا . والله أعلم .
* * *
الدرس الأربعون(1/359)
? وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (51) ? .
* * *(1/360)
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ? .
في الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد » . وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية امرأة فرعون » . رواه الترمذي وصححه . وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون . وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » . رواه البخاري وغيره .
وقوله تعالى : ? يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ? قال مجاهد : لما قيل لها : ? يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ? قامت حتى ورمت قدماها .
وقوله تعالى : ? وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ? ، أي : كوني منهم .
قوله عز وجل : ? ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) ? .(1/361)
يقول تعالى : ? ذَلِكَ ? الذي ذكرت من حديث امرأة عمران ، وزكريا ، ويحيى ، ومريم ، وعيسى : ? مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ ? ، أي : من أخبار الغيب : ? نُوحِيهِ إِلَيكَ ? وهذا من أعظم البراهين على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه أخبره بها وهو أميّ لا يكتب ولا يقرأ ، كما قال تعالى : ? تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ? .
وقوله تعالى : ? وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ? ، أي : في كفالتها . قال قتادة : تساهموا على مريم أيهم يكفلها فقرعهم زكريا .
قوله عز وجل : ? إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) ? .
قال ابن جرير : يعني بقوله جل ثناؤه : ? إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ ? ، ? وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ? ، ? وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ? أيضًا : ? إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ? ، يعني : برسالة من الله . وعن قتادة قوله : ? بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ? قال : قوله : كُنْ ، فسماه الله عز وجل كلمة ، لأنه كان عن كلمته ، كما يقال لما قدّر الله من شيء : هذا قدر الله وقضاؤه . وقيل : إنما سمي المسيح لأنه مسح بالبركة .(1/362)
قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : ? إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ? ، أي : هكذا كان أمره ، لا ما يقولون فيه ? وَجِيهاً ? . قال : وجيهًا في الدنيا والآخرة عند الله . وقال قتادة : قوله : ? وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ? يقول : من المقربين عند الله يوم القيامة .
وقوله تعالى : ? وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ? . قال ابن عباس : ? وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ? ، قال : مضجع الصبي في رضاعه . وقال مجاهد : الكهل الحليم . وقال قتادة : يكلمهم صغيرًا وكبيرًا . وقال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : يخبرهم بحالاته التي يتقلب بها في عمله ، كتقلب بني آدم في أعمالهم صغارًا وكبارًا ، إلا أن الله خصه بالكلام في مهده آية لنبوته وتعريفًا للعباد موقع قدرته . وقال ابن زيد : قد كلمهم عيسى في المهد ، وسيكلمهم إذا قتل الدجال ، وهو يومئذٍ كهل .
قوله عز وجل : ? قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47) ? .
قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : ? قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ? يصنع ما أراد ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر ، أي : ? إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ? مما يشاء وكيف يشاء ، فيكون ما أراد .(1/363)
قوله عز وجل : ? وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (51) ? .
قال البغوي : ? وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ ? : الكتابة والخط ? وَالْحِكْمَةَ ?: العلم والفقه . قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : أخبر الله مريم ما يريد به فقال : ? وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ ? التي كانت فيهم من عهد موسى ، والإنجيل كتابًا آخر أهدته إليه ، لم يكن عندهم علمه إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء قبله .
وقوله تعالى : ? وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ? ، أي : ونجعله رسولاً إلى بني إسرائيل قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : ? وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ? ، أي : يحقق بها نبوتي ، وإني رسول منه إليكم .(1/364)
وقوله : ? أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ ? ، قال ابن إسحاق : إن عيسى - عليه صلوات الله وسلامه عليه - جلس يومًا مع غلمان من الكتاب فأخذ طينًا ، ثم قال : أجعل لكم من هذا الطين طائرًا ، قالوا : وتستطيع ذلك ؟ قال : نعم بإذن ربي . ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر فنفخ فيه ، ثم قال : كن طائرًا بإذن الله ، فخرج يطير بين كفيه ، فخرج الغلمان بذلك من أمره ، فذكروه لمعلمهم فأفشوه في الناس وترعرع ، فهمّت به بنو إسرائيل ، فلما خافت أمه عليه حملته على حميل لها ثم خرجت به هاربة .
وقوله : ? وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ ? قال ابن عباس : الأكمه الذي يولد وهو أعمى .
قال ابن كثير : [ قال كثير ] من العلماء : بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه ، فبعث عيسى السلام في زمن الأطباء ، وأصحاب علم الطبيعة ، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه .(1/365)
وقوله : ? وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ? ، قال السدي : لما كبر عيسى أسلمته أمه ليتعلم التوراة ، فكان يلعب مع الغلمان ، غلمان القرية التي كان فيها فيحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم . وقال عطاء بن أبي رباح : قوله : ? وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ? قال : الطعام والشيء يدخرونه في بيوتهم ، غيبًا علَّمه الله إياه . وقال قتادة : كان القوم لما سألوا المائدة ، فكانت جرابًا ، ينزل عليه أينما كانوا ثمرًا من ثمار الجنة ، فأمر القوم أن لا يخونوا فيه ، ولا يخبئوا ، ولا يدخروا لغد ، بلاء ابتلاهم الله به ، فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئًا أنبأهم به عيسى بن مريم ، فقال : ? وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ? .
وقوله : ? وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ? قال : ابن جريج : قال : ? وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ? قال : لحوم الإِبل والشحوم ، لما بعث عيسى أحلها لهم ، وبعث إلى اليهود فاختلفوا وتفرقوا .
وقوله : ? فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ? ، قال ابن إسحاق : عن محمد بن جعفر : ? فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ? تبريًا من الذين يقولون فيه ، يعني : ما يقول فيه النصارى ، واحتجاجًا لديه عليهم : ? فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ? ، أي : هذا الذي قد حملتكم عليه وجئتكم به . والله أعلم .
* * *
الدرس الحادي والأربعون(1/366)
? فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أََََََََََََََََنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا(1/367)
وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلا مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (65) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أََََََََََََََََنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) ? .(1/368)
قوله تعالى : ? فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ? ، قال مجاهد : كفروا وأرادوا قتله ، فذلك حين استنصر قومه : ? قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ ? . قال الضحاك : الحواريون أصفياء الأنبياء . قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : ? فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ? والعدوان ، ? قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ ? ، وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم ? وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? ، لا كما يقوله هؤلاء الذين يحاجونك فيه ، يعني : وفد نصارى نجران .
قوله عز وجل : ? وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) ? .
قال السدي : إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريين في بيت ، فقال عيسى لأصحابه : من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة ؟ فأخذها رجل منهم ، وصُعد بعيسى إلى السماء ، فذلك قوله : ? وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ? .
وقال الربيع في قوله : ? إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ? قال يعني : وفاة المنام ، ورفعه الله في منامه . قال الحسن : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لليهود : « إن عيسى لم يمت ، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة » . رواه ابن جرير . وقال الحسن في قوله : ? وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ? قال : طهره من اليهود والنصارى والمجوس ، ومن كفار قومه .(1/369)
وقوله تعالى : ? وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ? . قال قتادة في قوله : ? وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ? ، هم : أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسنته ، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة . وقال ابن زيد في قول الله : ? وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ? قال : الذين كفروا من بني إسرائيل . ? وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ? قال : الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم. ? فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ? ، النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة . قال : فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود ، في شرق ولا غرب ، هم في البلدان كلها مستذلون .
قوله عز وجل : ? فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) ? .
قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : ? ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ? القاطع الفاصل ، الحق الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى ، وعما اختلفوا فيه من أمره ، فلا تقبلن خبرًا غيره .(1/370)
قوله عز وجل : ? إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) ? .
قال ابن عباس: قوله : ? إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ? ، وذلك : ( أن رهطًا من أهل نجران قدموا على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وكان فيهم السيد والعاقب فقالوا لمحمد : ما شأنك تذكر صاحبنا ؟ فقال : « من هو » ؟ قالوا : عيسى ، تزعم أنه عبد الله . فقال محمد : « أجل إنه عبد الله » . قالوا له : فهل رأيت مثل عيسى أو أنبئت به ؟ ثم خرجوا من عنده ، فجاءه جبريل - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربنا السميع العليم فقال : قل لهم إذا أتوك : ? إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ? إلى آخر الآية ) .
وقوله تعالى : ? الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ? . قال قتادة : يعني : فلا تكن في شك من عيسى أنه كمثل آدم عبد الله ورسوله ، وكلمة الله وروحه .(1/371)
وقوله تعالى : ? فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ? قال قتادة : ( بلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ليداعي القوم ، فلما رأوه خرج هابوا وفرقوا فرجعوا ) . وفي حديث ابن إسحاق عن محمد بن جعفر : ( فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم عندنا رضى ) .
وقوله تعالى : ? إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ? . قال ابن زيد : إن هذا القصص الحق في عيسى ، ما ينبغي لعيسى أن يتعدى هذا ، ولا يجاوز أن يتعدى أن يكون كلمة الله ، ألقاها إلى مريم وروحًا منه ، وعبد الله ورسوله .
قوله عز وجل : ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) ? .
قال ابن جرير : يعني بذلك جل ثناؤه : ? قُلْ ? يا محمد لأهل الكتاب وهم أهل التوراة والإنجيل : ? تَعَالَوْا ? ، هلموا ? إِلَى كَلَمَةٍ ? يعني : إلى كلمة عدل ، ? بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ? ، والكلمة العدل هي : أن يوحد الله فلا يعبد غيره ، ويبرأ من كل معبود سواه فلا يشرك به شيئًا .(1/372)
وقوله : ? وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً ? ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أُمر به من معاصي الله ، ويعظمه بالسجود له كما يسجد لربه . وقال ابن جريج : ? وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ ? يقول : لا يطع بعضنا بعضًا في معصية الله . وفي حديث ( أبي سفيان في قصته حين دخل على قيصر ، وسأله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثم جيء بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأه فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فأسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين . و ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? ) .
قوله عز وجل : ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلا مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (65) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) ? .(1/373)
قال ابن عباس : ( اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنازعوا عنده فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديًا ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيًا . فأنزل الله عز وجل فيهم : ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلا مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ? ؟ وبعده كانت اليهودية والنصرانية .
وقال قتادة : قوله : ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ ? ، يقول : لما تحاجون في إبراهيم وتزعمون أنه كان يهوديًا أو نصرانيًا وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ؟ فكانت اليهودية بعد التوراة ، وكانت النصرانية بعد الإنجيل ، أفلا تعلقون ؟
وقوله تعالى : ? هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? . قال السدي : أما الذي لهم به علم فما حرم عليهم وما أمروا به ، وأما الذي ليس لهم به علم فشأن إبراهيم .
قوله عز وجل : ? إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) ? .(1/374)
قال قتادة : ? إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ? على ملته وسنته ومنهاجه وفطرته ، ? وَهَذَا النَّبِيُّ ? وهو نبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ? وَالَّذِينَ آمَنُواْ ? ، معه وهم : المؤمنون الذين صدقوا نبي الله واتبعوه . كان محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين معه من المؤمنين أولى الناس بإبراهيم . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن لكل نبي ولاة من النبيين ، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي ، - ثم قرأ - : ? إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ? » . رواه ابن جرير وغيره . والله أعلم .
* * *
الدرس الثاني والأربعون(1/375)
? وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ(1/376)
عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (80) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (71) ? .
قوله تعالى : ? وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ? ، أي : عن الحق حسدًا وبغيًا ، ? وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ ? ، أي : إنما يعود وبال ذلك عليهم ، ? وَمَا يَشْعُرُونَ ? ، وما يدرون أنه عائد عليهم ، قال تعالى : ? وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ? .
وقوله تعالى : ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ? ، قال قتادة : يقول : تشهدون أن نعت محمد نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابكم ، ثم تكفرون به وتنكرونه ، ولا تؤمنون به ، وأنتم تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإِنجيل ؛ النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته .(1/377)
وقوله تعالى : ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ? ، قال ابن زيد في قول الله عز وجل : ? لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ? ، قال : الحق : التوراة التي أنزل الله على موسى ، والباطل الذي كتبوه بأيديهم ، وقال قتادة : قوله : ? وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ? ، كتموا شأن محمد ، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإِنجيل : يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر .
قوله عز وجل : ? وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) ? .
قال قتادة في قوله : ? آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ ? ، فقال : بعضهم لبعض : أعطوهم الرضى بدينهم أول النهار ، واكفروا آخره ، فإن أجدر أن يصدقوكم ، ويعلموا أنكم قد رأيتم منهم ما تكرهون ، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم .
وقوله : ? وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ? ، قال قتادة : هذا قول بعضهم لبعض .
وقوله تعالى : ? قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ? ، قال مجاهد في قوله : ? أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ? ، حسدًا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم وإرادة أن يتبعوا على دينهم .(1/378)
قال ابن كثير : قوله : ? أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ? ، يقولون : لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلمون منكم ويساوونكم فيه ويمتازون به عليكم لشدة الإيمان به ، أَوْ يُحَآجُّوكُمْ به عند رَبِّكم ، أي : يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم ، فتقوم به عليكم الدلالة ، وتتركب الحجة في الدنيا والآخرة . انتهى .
وذكر ابن جرير عن ابن جريج قوله : ? إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ? يقول : هذا الأمر الذي أنتم عليه . ? أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ? ، قال : قال بعضهم لبعض : لا تخبروهم بما بين الله لكم في كتابه ليحاجوكم ، قال : ( ليخاصموكم به عند ربكم قل إن الهدى هدى الله ) ، معترض به ، وسائر الكلام متسق على سياق واحد .
وقوله تعالى : ? قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ? ، قال ابن جريج في قوله : ? قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ ? ، قال : الإِسلام .
وقوله تعالى : ? يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ? قال الربيع : يختص بالنبوة من يشاء . وقال ابن جريج : ? يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ? ، قال : القرآن ، والإِسلام . ويشهد لها قوله تعالى : ? قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ? .(1/379)
قوله عز وجل : ? وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) ? .
قال مجاهد : في قوله : ? إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ? ، قال : مطالبًا ، وقال السدي : يعترف بأمانته ما دمت قائمًا على رأسه .
وقال قتادة : ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ? ، قالت اليهود : ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل ، وقال ابن جريج : بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية ، فلما أسلموا تقاضوهم ثمن بيوعهم فقالوا : ليس لكم علينا أمانة ، ولا قضاء لكم عندنا ، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه ، وادَّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم ، فقال الله عز وجل : ? وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ? ، وعن صعصعة : قلت لابن عباس : إنا نُقِرُّ أهل الكتاب فنصيب من ثمارهم ، قال : وتقولون كما قال أهل الكتاب :? لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ?.
وقوله تعالى : ? بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ? أي : ليس كما قالوا : بل عليهم سبيل ، ثم ابتدأ فقال : ? مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ? ، أي : الذين ائتمروا بأوامر الله واجتنبوا محارمه .(1/380)
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) ? .
قال عكرمة : نزلت في رؤوس اليهود ، وكتموا ما عهد الله إليهم في التوراة ، في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - وبدلوه ، وكتبوا بأيدهم غيره ، وحلفوا أنه من عند الله ، لئلا يفوتهم المأكل والرشا التي كانت لهم من أتباعهم ، وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان ، - وقرأ - : ? إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ... ? » الآية .
قوله عز وجل : ? وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ? .
قال قتادة : هم : أعداء الله اليهود ، حرفوا كتاب الله وابتدعوا فيه ، وزعموا أنه من عند الله .
قوله عز وجل : ? مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (80) ? .(1/381)
قال ابن عباس : قال أبو رافع القرظي : ( حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاهم إلى الإسلام قالوا : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ أو كما قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « معاذ الله أن نعبد غير الله ، أو نأمر بعبادة غيره ، ما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني » . أو كما قال ، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم : ? مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ... ? الآية ، إلى قوله : ? بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ? ) .
وقال قتادة : قوله : ? مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ ? ، يقول : ما كان ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، يأمر عباده أن يتخذوه ربًا من دون الله .
وقوله تعالى : ? وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ? ، قال الحسن في قوله : ? كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ ? ، قال : كونوا فقهاء علماء ، وقال سعيد بن جبير : حكماء أتقياء ، وقال ابن زيد : الربانيون : الذين يربون الناس ولاة هذا الأمر ، وقال المبرد : هم أرباب العلم ، سموا به لأنهم يربون العلم ويقومون به ويربون المتعلمين بصغار العلم قبل كبارها .
قلت : والعالم الرباني هو : الذي يعلم الناس أصول العلم قبل فروعه ، وواضحاته قبل مشكلاته ، وهذا هو معنى ما تقدم .
وقال مجاهد : الربانيون : الفقهاء العلماء ، وهم فوق الأحبار .(1/382)
وقال ابن جرير : والرباني : الجامع إلى العلم والفقه ، البصير بالسياسة والتدبير ، والقيّام بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ودينهم .
وقوله تعالى : ? وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ? ، قال ابن جريج : ولا يأمركم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا .
قال ابن كثير : ? أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ? ، أي : لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله ، ومن دعا إلى عبادة غير الله ، فقد دعا إلى الكفر ، والأنبياء إنما يأمرون بالإِيمان ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، وبالله التوفيق .
* * *
الدرس الثالث والأربعون(1/383)
? وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلا الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ(1/384)
عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (91) ? .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) ? .
قوله تعالى : ? وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ? . قال ابن جرير : تأويل الآية . واذكروا يا معشر أهل الكتاب إذ أخذ اللّهُ ميثاق النَّبيين لما آتيتكم أيها النبيون ، ? مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ ? من عندي ، ? مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ? يقول : لتصدقنه ولتنصرنه . وقال قتادة : ? أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ ? أن يصدق بعضهم بعضًا . وقال علي بن أبي طالب : ما بعث الله نبيًا من الأنبياء إلا أخذ الله عليه الميثاق ، لئن بعث الله محمدًا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته ، لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه .
وقوله تعالى : ? قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ? . قال ابن عباس : ? إِصْرِي ? : عهدي . وقال ابن إسحاق : أي : ثقل ما حملتم من عهدي ، أي : ميثاقي الشديد المؤكد ، وقال علي بن أبي طالب في قوله : ? قَالَ فَاشْهَدُواْ ? يقول : فاشهدوا على أممكم بذلك . ? وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ? عليكم وعليهم .(1/385)
وقوله تعالى : ? فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ? . قال علي بن أبي طالب : ? فَمَن تَوَلَّى ? عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الأمم ? فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ? : العاصون في الكفر .
قوله عز وجل : ? أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) ? .
قال أبو العالية في قوله : ? وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ? . قال : كل آدمي قد أقر على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده ، ممن أشرك في عبادته ، فهذا الذي أسلم كرهًا ، ومن أخلص من العبودية فهو الذي أسلم طوعًا . وقال مجاهد : سجود المؤمن طائعًا ، وسجود ظل الكافر وهو كاره .
وقال ابن كثير : فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله ، والكافر مستسلم لله كرهًا . فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع .
وقوله تعالى : ? قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ? الآية .(1/386)
وقال ابن كثير في قوله : ? قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا ? ، يعني : القرآن ، ? وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ? ، أي : من الصحف والوحي ، ? وَالأَسْبَاطِ ? ، وهم : بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل - وهو يعقوب - الاثنى عشر ، ? وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى ? ، يعني : بذلك التوراة ، والإِنجيل ، ? وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ ? ، وهذا يعم جميع الأنبياء جملة ، ? لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ? ، يعني : بل نؤمن بجميعهم . ? وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ? ، فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل ، وبكل كتاب أنزل ، لا يكفرون بشيء من ذلك ، بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله ، وبكل نبي بعثه الله .
وقوله تعالى : ? وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? .
قال ابن جرير : يعني بذلك جل ثناؤه : ومن يطلب دينًا غير دين الإسلام ليدين به ، فلن يقبل الله منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين .
وروى الإمام أحمد عن الحسن قال : حدثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول : يا رب أنا الصلاة ، فيقول : إنك على خير . وتجيء الصدقة فتقول : يا رب أنا الصدقة ، فيقول : إنك على خير . ثم يجيء الصيام فيقول : يا رب أنا الصيام ، فيقول : إنك على خير . ثم تجيء الأعمال ، كل ذلك يقول الله : إنك على خير . ثم يجيء الإِسلام فيقول : يا رب أنت السلام ، وأنا الإِسلام ، فيقول الله تعالى : إنك على خير ، بك اليوم آخذ وبك أعطي » . قال الله في كتابه : ? وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? .(1/387)
قوله عز وجل : ? كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلا الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ (89) ? .
قال قتادة : كان الحسن يقول في قوله : ? كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ? الآية . هم : أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، رأوا نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم ، وأقروا به ، وشهدوا أنه حق ، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه ، وكفروا بعد إقرارهم ، حسدًا للعرب حين بعث من غيرهم .
وقوله تعالى : ? إِلا الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? . قال مجاهد : جاء الحارث بن سويد ، فأسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه ، فأنزل الله عز وجل في القرآن : ? كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ? إلى : ? إِلا الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? ، قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه ، فقال الحارث : إنك والله ما علمت لصدوق ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصدق منك وإن الله عز وجل لأصدق الثلاثة . قال : فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه .(1/388)
وقال عكرمة : نزلت في أبي عامر الراهب ، والحارث بن سويد ، ووحوح بن الأسلت ، وفي اثني عشر رجلاً رجعوا عن الإسلام ، ولحقوا بقريش ، ثم كتبوا إلى أهليهم : هل لنا من توبة ؟ فنزلت : ? إِلا الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ ? الآيات . واختار ابن جرير : جواز نزولها في الفريقين ، وعمومها في كل مرتد .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (91) ? .
قال قتادة : قوله : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ? هم : أعداء الله اليهود . كفروا ، بالإِنجيل ، ? ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً ? حين بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فأنكروا وكذبوا به . وقال أبو العالية في قوله : ? لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ? . قال : تابوا من بعض ، ولم يتوبوا من الأصل .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود قال : سألت أبا العالية عن هذه الآية : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ ? ، قال : هم : اليهود ، والنصارى ، والمجوس أصابوا ذنوبًا في كفرهم فأرادوا أن يتوبوا منها ولن يتوبوا من الكفر ، لأنه يقول : ? وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ ? .(1/389)
وقوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ? . روى البخاري ، ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به ؟ قال : فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئًا ، فأبيت إلا الشرك » . والله أعلم .
* * *
الدرس الرابع والأربعون(1/390)
? لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ(1/391)
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ (108) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (109) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) ? .(1/392)
قال عمرو بن ميمون : البِرُّ : الجنة . وقال قتادة : يقول : ? لَن تَنَالُواْ ? ، برّ ربكم ، ? حَتَّى تُنفِقُواْ ? مما يعجبكم ومما تهوون من أموالكم . ? وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ? يقول : محفوظ لكم ذلك . وعن أنس بن مالك قال : ( لما نزلت هذه الآية : ? لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ? ، قال أبو طلحة : يا رسول الله إن الله يسألنا من أموالنا ، أشهد أني قد جعلت أرضي بيرحا لله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اجعلها في قرابتك » . فجعلها بين حسان بن ثابت ، وأبيّ بن كعب . رواه ابن جرير وغيره . وفي رواية الصحيحين : ( إن الله يقول : ? لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ? وإن أحب أموالي إليّ بيرحا ، وإنها صدقة لله أرجوا برها وذخرها عند الله تعالى ) . الحديث .
قوله عز وجل : ? كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) ? .(1/393)
قال البغوي : قوله تعالى : ? كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ? ، سبب نزول هذه الآية ( أن اليهود قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم ، وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها ، وأنت تأكلها فلست على ملته . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « كان ذلك حلالاً لإِبراهيم عليه السلام » . فقالوا : كل ما نحرمه اليوم كان ذلك حرامًا على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ) . فأنزل الله تعالى هذه الآية : ? كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ? يريد سوى : الميتة ، والدم ، فإنه لم يكن حلالاً قط . ? إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ? وهو : يعقوب عليه السلام . ? مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ? ، يعني : ليس الأمر على ما قالوا من حرمة لحوم الإِبل وألبانها على إبراهيم ، بل كان الكل حلالاً له ولبني إسرائيل ، وإنما حرمها إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة ، يعني : ليست في التوراة حرمتها ) . انتهى .
وقال ابن عباس في : ? إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ? قال : حرم العروق ، ولحوم الإِبل . قال : كان به عرق النساء فأكل من لحومها فبات بليلة يزفوا - يعني : يصيح - فحلف أن لا يأكله أبدًا .
قوله تعالى : ? فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ? نزلت في اليهود ، وهي عامة في كل من كذب على الله . وقوله تعالى : ? قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? ، أي : اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهي عبادة الله وحده لا شريك له .(1/394)
قوله عز وجل : ? إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) ? .
قال الحسن في قوله : ? إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ? قال : هو أول مسجد عُبد الله فيه في الأرض . وقال قتادة : هو أول بيت وضعه الله عز وجل فطاف به آدم ومن بعده . و عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله : أي : مسجد وضع أول ؟ قال : « المسجد الحرام » . قلت : ثم أي ؟ قال : « المسجد الأقصى » . قلت : كم بينهما ؟ قال : « أربعون سنة » . قلت : ثم أي ؟ قال : « ثم حيث أدركتك الصلاة فصلّ ، فكلها مسجد » . متفق عليه .
قال ابن حجر في شرح البخاري : ( وهذا الحديث يفسر المراد بقوله تعالى : ? إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ? ، ويدل على أن المراد بالبيت بيت العبادة لا مطلق البيوت ، وقد ورد ذلك صريحًا عن عليّ ، أخرجه إسحاق بن راهويه ، وابن أبي حاتم ، وغيرهما بإسناد صحيح عنه قال : كانت البيوت قبله ، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله .
إلى أن قال : ويؤيد قول من قال : إن آدم هو الذي أسس كلاً من المسجدين ما ذكر ابن هشام في كتاب ( التيجان ) : أن آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه فبناه ، ونسك فيه . وبناء آدم للبيت مشهور . وقد تقدم قريبًا حديث عبد الله بن عمرو : أن البيت رفع زمن الطوفان حتى بوأه الله لإِبراهيم ) . انتهى .(1/395)
وقوله تعالى : ? بِبَكَّةَ ? ، أي : مكة . قيل : سميت مكة لقلة مائها ، وبكة : لازدحام الناس فيها . قال قتادة : بكة : بك الناس بعضهم بعضًا ، الرجال والنساء يصلي بعضهم بين يدي بعض ، لا يصلح ذلك إلا بمكة .
وقوله تعالى : ? فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ? ، كما قال تعالى : ? أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ? ، وقال قتادة : قوله : ? وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ? ، وهذا كان في الجاهلية ، كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه ثم لجأ إلى حرم الله لم يتناول ولم يطلب . فأما في الإسلام : فإنه لا يمنع من حدود الله ، ومن سرق فيه قطع ، ومن زنى فيه أقيم عليه الحد ، ومن قتل فيه قتل . وقال مجاهد في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم قال : يؤخذ فيخرج من الحرم ، ثم يقام عليه الحد .
وقوله تعالى : ? وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ? . قال ابن عباس : والسبيل أن يصح بدن العبد ، ويكون له ثمن : زاد وراحلة من غير أن يجحف به . وقال ابن الزبير في قوله : ? وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ? ، قال : على قدرة القوة .
وقوله تعالى : ? وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ? ، أي : من جحد وجوب الحج فقد كفر . قال ابن عباس في قوله : ? وَمَن كَفَرَ ? من زعم أنه ليس بفرض عليه .
قوله عز وجل : ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) ? .(1/396)
قال قتادة : قوله : ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ? يقول : لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله : من آمن بالله ؟ وأنتم شهداء فيما تقرءون من كتاب الله أن محمدًا رسول الله ، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره ، ولا يجزي إلا به ، يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل ؟
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101) ? .
قال مجاهد : كان جِماعُ قبائل الأنصار بطنين : الأوس ، والخزرج ، وكان بينهما في الجاهلية حربٌ ، ودماء ، وشنَآنٌ . حتى مَنَّ الله عليهم بالإسلام وبالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم ، وألفَّ بينهم بالإسلام . قال : فبينا رجل من الأوس ورجلٌ من الخزرج قاعدان يتحدّثان ، ومعهما يهوديّ جالسٌ ، ولم يزل يذكِّرهما أيامهما والعداوةَ التي كانت بينهم ، حتى استَبَّا ثم اقتتلا . قال : فنادى هذا قومه ، وهذا قومه ، فخرجوا بالسلاح ، وصفَّ بعضهم لبعض . قال : رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شاهدٌ يومئذٍ بالمدينة ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم ، حتى رجعوا ووضعوا السلاح ، فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ? إلى قوله : ? عَذَابٍ عَظِيمٍ ? .(1/397)
وقوله تعالى : ? وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ? . قال قتادة : علمان بيّنان وُجْدَانُ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكتاب الله ، فأما نبي الله فمضى - صلى الله عليه وسلم - ، وأما كتاب الله فأبقاه الله بين أظهركم ، رحمة من الله ونعمه ، فيه حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته .
وقوله تعالى : ? وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? ، أي : واضح ، وسيمنعه من كل سوء .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) ? .
قال ابن مسعود : ? اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ? : أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر . ? وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? . قال طاوس : على الإِسلام ، وعلى حرمة الإِسلام .(1/398)
وقوله تعالى : ? وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ? ، قال ابن مسعود في قوله : ? وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً ? قال : الجماعة . وقال قتادة : حبل الله المتين . أمر أن يعتصم به ، هذا القرآن . وقال أبو العالية : يقول : اعتصموا بالإِخلاص لله وحده . وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة ، كلهم في النار إلا واحدة » ، قال : فقيل : يا رسول الله وما هذه الواحدة ؟ قال : فقبض يده وقال : « الجماعة » ? وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ? . رواه ابن جرير .
وقوله تعالى : ? وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ? . قال السدي : أما إذ كنتم أعداء ففي حرب ، فألف بين قلوبكم بالإسلام . وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانًا » . قال قتادة : ذكر لنا أن رجلاً قال لابن مسعود : كيف أصبحتم ؟ قال : أصبحنا بنعمة الله إخوانًا .(1/399)
وقوله تعالى : ? وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ? ، قال قتادة : كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً ، وأشقاه عيشًا ، وأبينه ضلالة ، وأعراه جلودًا ، وأجوعه بطونًا ، معكومين على رأس حجر بين الأسدين : فارس والروم ، لا والله ما في بلادهم يومئذٍ من شيء يحسدون عليه ، من عاش منهم عاش شقيًا ، ومن مات يردى في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله لا نعلم قبيلاً يومئذٍ من حاضر الأرض كانوا فيه أصغر حظًا ، وأدق فيها شأنًا منهم ، حتى جاء الله عز وجل بالإِسلام ، فورثكم به الكتاب ، وأحل لكم به دار الجهاد ، ووضع لكم به من الرزق ، وجعلكم به ملوكًا على رقاب الناس ، وبالإِسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين ، وإن أهل الشكر في مزيد الله ، فتعالى ربنا وتبارك .
قال البغوي : ? وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ ? ، أي : على طرف حفرة مثل شفا البئر ، معناه : وكنتم على طرف حفرة من النار ، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا [ أن ] تموتوا على كفركم ، فأنقذكم الله منها بالإِيمان .(1/400)
قوله عز وجل : ? وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ (108) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (109) ? .
قوله تعالى : ? وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ? ، أي : الإِسلام ? وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ? ، أي : يأمرون بطاعة الله وينهون عن المعاصي . ? وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? . وقال أبو جعفر الباقر : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ? وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ? ، ثم قال : « الخير إتباع القرآن وسنتي » . رواه ابن مردويه . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من رأى منكرًا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإِيمان » .(1/401)
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ? . قال ابن عباس : أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة ، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله .
وقوله تعالى : ? يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ? قال ابن عباس : ( تبيض وجوه أهل السنة ، وتسود وجوه أهل البدعة ) . ? فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ? ، قال الحسن : هم المنافقون . ? فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ? .
قال ابن كثير : وهذا الوصف يعم كل كافر . ? وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? ، يعني : الجنة . ? تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ? ، بل هو الحاكم العدل الذي لا يجور . ? وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ? فيجزي كلاً بعمله . والله أعلم .
* * *
الدرس الخامس والأربعون(1/402)
? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي(1/403)
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ (111) ? .
قال مجاهد في قوله : ? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ? يقول : على هذا الشرط : أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ? ، قال قتادة : ذم الله أكثر الناس .
وقوله تعالى : ? لَن يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ? . قال قتادة : قوله : ? لَن يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى ? قال : أذى تسمعونه منهم .(1/404)
قوله عز وجل : ? ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ( 112) ? .
قال الحسن في قوله : ? ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ? ، قال : أدركتهم هذه الأمة ، وأن المجوس لتجبيهم الجزية .
وقوله : ? إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ? ، قال قتادة : إلا بعهد من الله وعهد من الناس .
قال ابن كثير : ? ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ? ، أي : ألزمهم الله الذلة والصغار أينما كانوا فلا يأمنون ، ? إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ ? ، أي : بذمة من الله . وهو : عقد الذمة لهم ، وضرب الجزية عليهم وإلزامهم أحكام الملة . ? وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ? ، أي : أمان منهم لهم كما في المهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه واحد من المسلمين ، ولو امرأة .
وقوله تعالى : ? وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ? ، أي : إنما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد ، فعوقبوا بالذلة والصغار والمسكنة . ? ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ? ، قال قتادة : اجتنبوا المعصية والعدوان ، فإن بهما أهلك من أهلك من قبلكم من الناس .(1/405)
قوله عز وجل : ? لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) ? .
قال ابن عباس : لما أسلم عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسد بن عبيد ، وأسيد بن سعية ، ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا ، ورغبوا في الإسلام ، ومنحوا فيه ، قالت أحبار يهود ، أهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا شرارنا ، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غير . فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم : ? لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ ? إلى قوله : ? وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ? ، وقال قتادة : قوله : ? أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ ? يقول : قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده .
وقوله تعالى : ? يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ? ، أي : يصلون . قال قتادة : يتلون آيات الله آناء الليل ، أي : ساعات الليل ، ? يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ? ، قال ابن كثير : ? وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ ? ، أي : لا يضيع عند الله بل يجزيهم به أوفر الجزاء ، ? وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ? ، أي : لا يخفى عليه عمل عامل ، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملاً .(1/406)
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) ? .
قال البغوي : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً ? ، أي : لا تنفع أموالهم بالفدية ، ولا أولادهم بالنصرة من الله شيئًا ، أي : من عذاب الله .
وقال مجاهد في قوله عز وجل : ? مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? ، قال : نفقة الكافر في الدنيا وصدقاته كمثل : ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته . قال ابن عباس : ريح فيها صرير شديد وزمهرير .
قال ابن كثير : فكذلك الكفار يمحق الله ثواب أعمالهم في هذه الدنيا كما يذهب ثمرة هذا الحرث بذنوب صاحبه .
وقوله تعالى : ? وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ? ، أي : بالكفر والمعصية .(1/407)
وقوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) ? .
قال ابن عباس : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من اليهود ، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية ، فأنزل الله عز وجل فيهم ، فنهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم منهم : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ? إلى قوله : ? وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ? ، وقال قتادة : نهى الله عز وجل المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين أو يؤاخوهم أي : يتولوهم من دون المؤمنين .
وقوله تعالى : ? لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ ? .
قال البغوي : ? لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ? ، أي : لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد . والخبال : الشر ، ? وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ ? ، أي : يودون ما يشق عليكم من الضر ، والشر ، والهلاك . والعنت : المشقة .(1/408)
وقوله تعالى : ? قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ? قال الربيع : يقول : ما تكن صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم : ? قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ? ، قال ابن عباس : أي : بكتابكم وكتابهم مما مضى من الكتب قبل ذلك ، وهم يكفرون بكتابكم ، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم .
وقوله تعالى : ? وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ? ، قال قتادة : إذا لقوا المؤمنين قالوا : آمنا . ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم ، فصانعوهم بذلك . ? وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ? يقول : مما يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه لو يجدون ريحًا لكانوا على المؤمنين .
قال البغوي : ? قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ? ، أي : أبقوا إلى الممات بغيظكم . ? إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ? ، أي : بما في القلوب من خير وشر .
وقوله تعالى : ? إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ? ، يرشد سبحانه إلى الصبر والتقوى ، والتوكل عليه . فلا حول ولا قوة إلا بالله ، فمن صبر نصره ، ومن توكل عليه كفاه . ودفع عنه كيد عدوه وأذاه . والله المستعان .
* * *
الدرس السادس والأربعون(1/409)
? وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)(1/410)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) ? .
* * *
وقوله عز وجل : ? وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) ? .
قال قتادة : تبوئ : تهيئ ، وتنزل . غدا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من أهله إلى أُحُد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ، قال مجاهد : يمشي على رجليه ، فجعل يصّف أصحابه للقتال .
وقوله تعالى : ? إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ? .(1/411)
قال قتادة : وذلك يوم أحد . والطائفتان : بنو سلمة ، و بنو حارثة ، حيان من الأنصار هموا بأمر فعصمهم الله من ذلك . وقد ذكر لنا أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : لم يسُرُّنا إنا لم نهم بالذي هممنا به ، وقد أخبرنا الله أنه ولينا . وقال السدي : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد في ألف رجل ، وقد وعدهم الفتح إن صبروا ، فلما رجع عبد الله بن أبيّ بن سلول في ثلاثمائة ، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم ، فلما غلبوه وقالوا له : ما نعلم قتالاً ، ولئن أطعتنا لترجعن معنا ، وقال : ? إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ ? ، وهم : بنو سلمة ، و بنو حارثة هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبيّ فعصمهم الله ، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبعمائة . قال ابن عباس : الفشل : الجبن .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ (127) ? .(1/412)
قال ابن إسحاق : ? وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ? ، يقول : وأنتم أقل عددًا وأضعف قوة ، فاتقوا الله لعلكم تشكرون ، أي : فاتقون ؛ فإنه شكر نعمتي . قال قتادة : وبدر ماء بين مكة والمدينة التقى عليه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركون ، وكان أول قتال قاتله نبي الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركون . وذكر لنا أنه قال لأصحابه يومئذٍ : أنتم اليوم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت . فكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، والمشركون يومئذٍ ألف ، أو راهقوا ذلك .
وقوله تعالى : ? إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ? . عن ابن عباس قال : حدثني رجل من بني غفار قال : أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف على بدر ، ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدائرة ، فننتهب مع من ينتهب . قال : فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل ، فسمعت قائلاً يقول : أقدم حيزوم . قال : فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه ، وأما أنا فكدت أهلك ، ثم تماسكت . قال ابن عباس : لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر ، وكانوا يأتون فيما سواه من الأيام عددًا ومددًا لا يضربون .(1/413)
وقوله تعالى : ? وَيَأْتُوكُم ? ، أي : المشركون . وقال قتادة : ? مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا ? ، يقول : من وجههم هذا . قال : كان يوم بدر أمدهم الله تعالى بألف من الملائكة ، كما قال : ? فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ ? ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف . وقال الضحاك : كان هذا موعدًا من الله يوم أحد عرضه على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أنّ المؤمنين إنْ اتقوا وصبروا أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ، ففر المسلمون يوم أحد وولوا مدبرين ، فلم يمدهم الله . وقال عكرمة في قوله : ? وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ ? . قال : فورهم ذلك كان يوم أحد ، غضبوا ليوم بدر مما لقوا - يعني : الكفار - . وقال الضحاك في قوله : ? وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا ? ، يقول : من وجههم وغضبهم .
وقوله تعالى : ? بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ? ، أي : معلمين . قال قتادة : كان سيمًا خيلهم صوفًا في نواصيها . قال الربيع : كانوا يومئذٍ على خيل بلق . وقال ابن عباس : كان سيمًا الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم ، ويوم حنين عمائم حمر . ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر .(1/414)
وقوله تعالى : ? وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ? ، أي : ولما أنزل الله الملائكة ولعلمكم بذلك إلا بشارة لكم ، وما النصر إلا من عند الله . قال ابن إسحاق : ? وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ? ، لما عرف من ضعفكم ، وما النصر إلا من عندي بسلطاني وقدرتي ، وذلك أني أعرف الحكمة لا إلى أحد من خلقي . قال ابن زيد : وما النصر إلا من عند الله ، ولو شاء الله أن ينصركم بغير الملائكة فعل . ? الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ? ، أي : العزيز الذي لا يغالب . الحكيم : في أقواله وأفعاله .
وقوله تعالى : ? لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ ? . قال الحسن : هذا يوم بدر قطع الله طائفة منهم ، وبقيت طائفة . وقال ابن إسحاق : ? أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ ? ، أو يردهم خائبين ، أو يرجع من بقي منهم خائبين لم ينالوا شيئًا مما كانوا يأملون .
قوله عز وجل : ? لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (129) ? .(1/415)
عن أنس قال : ( قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ، وكسرت رباعيته ، وشج ، فجعل يمسح عن وجهه الدم ويقول : « كيف يصلح قوم خضبوا نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم » ! ؟ فنزلت : ? لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ? ) . رواه ابن جرير وغيره . قال ابن إسحاق : أي : ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم ، أتوب عليهم برحمتي ؛ فإن شئت فعلت ، أو أعذبهم بذنوبهم فإنهم ظالمون ، أي : قد استحقوا ذلك بمعصيتهم إياي . وعن ابن عمر : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو على أربعة نفر ، فأنزل الله عز وجل : ? لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ? . قال : وهداهم الله للإسلام ) . رواه ابن جرير .
وقوله تعالى : ? وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? . قال ابن إسحاق : أي : يغفر الذنوب ، ويرحم العباد على ما فيهم .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) ? .(1/416)
قال عطاء : كانت ثقيف تداين في بني المغيرة في الجاهلية ، فإذا حلّ الأجل قالوا : نزيدكم وتؤخرون . فنزلت : ? لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً ? . وقال ابن زيد في قوله : ? لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً ? كان أبيّ يقول : إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف ، وفي السِّن ، يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حلّ الأجل ، فيقول له : تقضيني وتزيدني . فإن كان عنده شيء يقضيه قضى ، وإلا حوله إلى السِّن التي فوق ذلك .
قوله عز وجل : ? وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) ? .
قال ابن إسحاق : ? وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ? ، أي : ذلك لمن أطاعني وأطاع رسولي . قال قتادة : كانوا يرون الجنة فوق السماوات السبع تحت العرش ، وأن جهنم تحت الأرضين السبع .(1/417)
وقال ابن عباس في قوله : ? الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ? يقول : في اليسر والعسر . وقال قتادة : قوله : ? الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ? ، قوم أنفقوا في العسر واليسر ، والجهد والرخاء ، فمن استطاع أن يغلب الشر بالخير فليفعل ولا قوة إلا بالله فنعمت والله يا ابن آدم الجرعة تجرعها من صبر وأنت مغيظ ، وأنت مظلوم . وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « من كظم غيظًا وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنًا وإيمانًا » . رواه ابن جرير .
وقوله تعالى : ? وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ? ، الفاحشة : الزنا ، والكبائر .
وقوله : ? أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ? ، أي : بالصغائر . قال ابن مسعود : كانت بنو إسرائيل إذا أذنبوا ذنبًا أصبح مكتوبًا على بابه الذنب وكفارته ، فأعطينا خيرًا من ذلك هذه الآية . قال ابن إسحاق : ? وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً ? ، أي : إن أتوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم بمعصية ذكروا نهي الله عنها ، وما رحم عليهم ، فاستغفروا لها وعرفوا أنه لا يغفر الذنوب إلا هو .
وقال قتادة في قوله : ? وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ? فإياكم والإِصرار فإنما هلك المصرون الماضون قدمًا ، لا ينهاهم مخافة الله عن حرام حرّمه الله عليهم ، ولا يتوبون من ذنب أصابوا حتى أتاهم الموت وهم على ذلك .
وفي الحديث الصحيح يقول الله عز وجل : ( يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ) .(1/418)
وقوله تعالى : ? أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ? . قال ابن إسحاق : أي : ثواب المطيعين . والله أعلم .
* * *
الدرس السابع والأربعون
? قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا(1/419)
ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) ? .
قوله عز وجل : ? قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143) ? .(1/420)
قال مجاهد في قوله : ? قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ? ، يقول في الكفار والمؤمنين ، والخير والشر . قال ابن إسحاق استقبل ذكر المصيبة التي نزلت بهم ، يعني : بالمسلمين يوم أحد ، والبلاء الذي أصابهم ، والتمحيص لما كان فيهم ، واتخاذه الشهداء منهم ، فقال تعزية لهم وتقريعًا لهم فيما صنعوا ، وما هو صانع بهم : ? قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ? ، أي : قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي ، والشرك في عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين ، فسيروا في الأرض تروا مثلات قد مضت فيهم ، ولمن كان على مثل ما هم عليه مثل ذلك مني ، وإن أمكنت لهم .
وقوله تعالى : ? هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ? . قال قتادة : هذا بيان للناس ، وهو : هذا القرآن جعله الله بيانًا للناس عامة ، وهدى وموعظة للمتقين خاصة .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ? . قال قتادة : يعزي أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كما تسمعون ، ويحثهم على قتال عدوهم ، وينهاهم عن العجز والوهن في طلب عدوهم في سبيل الله . وقال ابن إسحاق : ? وَلاَ تَهِنُوا ? ، أي : لا تضعفوا ، ? وَلاَ تَحْزَنُوا ? ولا تأسوا على ما أصابكم ، ? وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ ? ، أي : لكم تكون العاقبة والظهور . ? إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ? ، إن كنتم صدَّقتم . يعني : بما جاءكم به عني .
وقوله تعالى : ? إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ? . قال قتادة : والقرح : الجراحة ، وذاكم يوم أحد فشا في أصحاب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ القتل ، والجراحة . فأخبرهم الله عز وجل أن القوم قد أصابهم من ذلك مثل الذي أصابكم ، وإن الذي أصابكم عقوبة .(1/421)
وقوله تعالى : ? وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ? . قال الربيع : فأظهر الله عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على المشركين يوم بدر ، وأظهر عليهم عدوهم يوم أحد ، وقد ينال الكافر من المؤمن ، ويبتلى المؤمن بالكافر ؛ ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ، ويعلم الصادق من الكاذب ، وأما من ابتلى منهم من المسلمين يوم أحد : فكانت عقوبة بمعصيتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله تعالى : ? وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ? . قال قتادة : فكرم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوهم ، ثم تصير حوامل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله .
وقوله تعالى : ? وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ? . قال ابن إسحاق : وليمحص الله الذين آمنوا ، أي : يختبر الذين آمنوا حتى يخلصهم بالبلاء الذي نزل بهم ، وكيف صبرهم ويقينهم . وقال ابن زيد في قوله : ? وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ? ، قال : يمحق من محق في الدنيا ، وكان بقية من يمحق في الآخرة في النار .
وقوله تعالى : ? أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ? ، قال ابن إسحاق : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتصيبوا من ثوابي الكرامة ، ولم أختبركم بالشدة وأبتليكم بالمكاره حتى أعلم أصدق ذلك منكم الإيمان بي ، والصبر على ما أصابكم بي .
وقوله تعالى : ? وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ? . قال مجاهد : غاب رجل عن بدر فكانوا يتمنون مثل يوم بدر أن يلقوه ، فيصيبوا من الخير والأجر مثل ما أصاب أهل بدر ، فلما كان يوم أحد ولّى من ولّى منهم ، فعاتبهم الله على ذلك .(1/422)
قوله عز وجل : ? وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) ? .(1/423)
قوله : ? وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ? . قال قتادة : ذلكم يوم أحد حين أصابهم : القرح ، والقتل ، ثم تنازعوا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بقية ذلك ، فقال أناس : لو كان نبيًا ما قتل ، وقال ناس من علية أصحاب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : قاتلوا على ما قاتل عليه محمد نبيكم حتى يفتح الله لكم ، أو تلحقوا به . فقال الله عز وجل : ? وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ? . يقول : إن مات نبيكم أو قتل ارتددتم كفارًا بعد إيمانكم .
قوله تعالى :? وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ? أي : لا يموت أحد حتى يستوفي المدة التي أجّل الله له .
? وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ? . قال ابن إسحاق : أي : فمن كان منكم يريد الدنيا ليست له رغبة في الآخرة نؤته منها ما قسم له منه من رزق ، ولا حظ له في الآخرة ، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ما وعده مع ما يجري عليه من رزقه في دنياه ، ? وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ? ، أي : ذلك جزاء الشاكرين ، يعني بذلك : إعطاء الله إياه ما وعده في الآخرة مع ما يجري عليه من الرزق في الدنيا .
وقوله تعالى : ? وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ? . قال ابن عباس : جموع كثيرة . وقال ابن زيد : الربيون : الأتباع . والربانيون : الولاة .(1/424)
وقوله تعالى : ? فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ? . قال ابن إسحاق : فما وهنوا لفقد نبيهم ، وما ضعفوا عن عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم ، وذلك الصبر . والله يحب الصابرين .
وقوله تعالى : ? وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ? قال مجاهد في قول الله : ? وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا ? ، قال : خطايانا ، وظلمنا أنفسنا . وقال ابن إسحاق : أي : فقولوا كما قالوا ، أو اعلموا أنما ذلك بذنوب منكم واستغفروا كما استغفروا ، وامضوا على دينكم كما مضوا ، ولا ترتدوا على أعقابكم راجعين ، واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم ، واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين ، فكل هذا من قولهم قد كان ، وقد قتل نبيهم فلم يفعلوا كما فعلتم .
وقوله تعالى : ? فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ? ، قال قتادة : أي : والله ، لآتاهم الله الفتح والظهور والتمكين ، والنصر على عدوهم في الدنيا ، ? وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ ? يقول : حسن الثواب في الآخرة هي : الجنة . والله أعلم .
* * *
الدرس الثامن والأربعون(1/425)
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ(1/426)
الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) ? .
قال ابن إسحاق : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ ? ، أي : عن دينكم ، فتذهب دنياكم وآخرتكم ، بل الله مولاكم إن كان ما تقولون بألسنتكم صدقًا في قلوبكم ، وهو خير الناصرين . أي : فاعتصموا به ولا تستنصروا بغيره ، ولا ترجعوا على أعقابكم مرتدين عن دينكم .(1/427)
وقوله تعالى : ? سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ? ، قال السدي : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة ، انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق ، ثم أنهم ندموا ، فقالوا : بئس ما صنعتم أنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فقذف الله عز وجل في قلوبهم الرعب فانهزموا ، فلقوا أعرابيًا فجعلوا له جُعْلاً ، وقالوا له : إن لقيت محمدًا فأخبرهم بما قد جمعنا لهم ، فأخبر الله عز وجل رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ، فأنزل الله عز وجل في ذلك . فذكر أبا سفيان حين أراد أن يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما قذف في قلبه من الرعب ، فقال : ? سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ ? .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ? .(1/428)
عن ابن عباس : ? وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ? ، فإن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوال حتى نزل أحدًا ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأذَّن في الناس فاجتمعوا ، وأمّر على الخيل الزبير بن العوام ومعه يومئذٍ المقداد بن الأسود الكندي ، وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللواء رجلاً من قريش ، يقال له : مصعب بن عمير ، وخرج حمزة بن عبد المطلب بالجيش ، وبعث حمزة بين يديه ، وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبير وقال : استقبل خالد بن الوليد فكن بإيذائه حتى أؤذنك ، وأمر بخيل أخرى فكانوا من جانب آخر ، فقال : لا تبرحوا حتى أؤذنكم ، وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى ، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الزبير أن يحمل فحمل على خالد بن الوليد فهزمه ومن معه ، فقال : ? وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ? ، يقول : تقتلونهم ، ? حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ? ، وأن الله وعد المؤمنين أن ينصرهم .(1/429)
قال ابن إسحاق : ? حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ ? ، أي : تجادلتم ، ? وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ? ، أي : اختلفتم في أمري ، ? وَعَصَيْتُم ? ، أي : تركتم أمر نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وما عهد إليكم ، يعني : الرماة ، ? مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ? ، أي : الفتح لا شك فيه ، وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم . وقوله تعالى : ? مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ? ، قال الضحاك : فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمّر يوم أحد طائفة من المسلمين ، فقال : « كونوا مسلحة للناس » ، بمنزلة أمرهم أن يثبتوا بها ، وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتى يأذن لهم ، فلما لقي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد أبا سفيان ومن معه من المشركين هزمهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رأى المسلحة أن الله عز وجل هزم المشركين ، انطلق بعضهم وهم يتنادون : الغنيمة ، الغنيمة لا تفتكم ، وثبت بعضهم مكانهم وقالوا : لا نريم موضعنا حتى يأذن لنا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، ففي ذلك نزل منكم من يريد الدنيا ، ومنكم من يريد الآخرة ، فكان ابن مسعود يقول : ما شعرت أن أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد .
وقوله تعالى : ? ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ? ، قال ابن إسحاق : ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ، أي : صرفكم عنهم ليختبركم ، وذلك ببعض ذنوبكم .(1/430)
وقال ابن جريج في قوله : ? وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ? ، قال : لم يستأصلكم ، قال الحسن : هؤلاء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي سبيل الله ، غضاب لله ، يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فصنعوه ، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم ، فأفسق الفاسقين اليوم يفعل كل كبيرة ويركب كل داهية ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم .
وقال ابن إسحاق في قوله : ? وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ? ، يقول : وكذلك منّ الله على المؤمنين : إن عاقبتهم ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدبًا وموعظة ، فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحق له عليهم لما أصابوا من معصيته رحمة لهم ، وعائدة عليهم لما فيهم من الإِيمان .
وقوله تعالى : ? إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ? ، قال قتادة : ذاكم يوم أحد صعدوا في الوادي ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم في أخراهم ، قال : « إليّ عباد الله » ، قال السدي : لما شد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها ، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس : « إليّ عباد الله ، إليّ عباد الله » . قال ابن إسحاق : أنبئهم الله بالفرار عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعوهم لا يعطفون عليه لدعائه إياهم ، فقال : ? إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ? .(1/431)
وقوله تعالى : ? فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? ، قال قتادة : ? فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ ? : كانوا تحدثوا يومئذٍ أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أصيب ، وكان الغم الآخر قتل أصحابهم والجراحات التي أصابتهم . وقال الربيع : الغم الأول : الجراح ، والقتل ، والغم الآخر حين سمعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قتل ، فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح ، والقتل ، وما كانوا يرجون من الغنيمة ، وذلك حين يقول : ? لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? .
قوله عز وجل : ? ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) ? .(1/432)
قال قتادة في قوله : ? ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ? الآية ، وذاكم يوم أحد كانوا يومئذٍ فريقين ، فأما المؤمنون : فغشاهم النعاس أمنة منه ورحمة ، والطائفة الأخرى : المنافقون . ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم ، أجبن قوم وأرعبه ، وأخذله للحق ، يظنون بالله غير الحق ، ظن الجاهلية ظنونًا كاذبة ، إنما هم أهل شك وريبة في أمر الله ، ? يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ? .
قال ابن جريج : قيل لعبد الله بن أُبيّ : قتل بنو الخزرج اليوم ، قال : وهل لنا من الأمر من شيء ؟ وعن الزبير قال : والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا .
وقوله تعالى : ? قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ? ، قال ابن إسحاق : ذكر الله تلاوم المنافقين وحسرتهم على ما أصابهم ، ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : قل : لو كنتم في بيوتكم لم تحضروا هذا الموضع الذي أظهر الله جل ثناؤه فيه منكم ما أظهر من سرائركم ؛ لأخرج الذين كتب عليهم القتل إلى مواطن غيره يصرعون فيه ؛ حتى يبتلي به ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم ، ? وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ? ، أي : لا يخفى عليه شيء مما في صدوركم ، ? وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ? ، أي : لا يخفى عليه شيء مما في صدورهم مما استخفوا به منكم .(1/433)
وقال ابن جرير في تفسيره قوله تعالى : ? لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ ? ، يقول : لظهر للموضع الذي كتب عليه مصرعه فيه من قد كتب عليه القتل منهم .
وقال ابن كثير : أي : هذا قدر قدَّره الله عز وجل ، وحكم حق لا محيد عنه ولا مناص منه .
وقال في جامع البيان : أي : لخرج الذين قدّر عليهم القتل إلى مصارعهم منكم ، فلم يستطيعوا الإِقامة في المدينة .
وقوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ? ، قال قتادة : وذلك يوم أحد ، ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تولوا عن القتال ، وعن نبي الله يومئذٍ ، وكان ذلك من أمر الشيطان وتخويفه ، فأنزل الله عز وجل ما تسمعون أنه قد تجاوز لهم عن ذلك وعفا عنهم ، والله أعلم .
* * *
الدرس التاسع والأربعون(1/434)
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ(1/435)
أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175) ? .
* * *(1/436)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ (158) ? .
قال ابن إسحاق في قوله : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ ? الآية ، أي : لا تكونوا كالمنافقين الذين ينهون إخوانهم عن الجهاد في سبيل الله ، والضرب في الأرض في طاعة الله وطاعة رسوله ، ويقولون إذا ماتوا أو قتلوا : لو أطاعونا ما ماتُواْ أو قتلوا ليجعل اللّه ذلك حسرة في قلوبهم . لقلة اليقين بربهم جل ثناؤه : ? وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ? ، أي : يجعل ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء من آجالهم بقدرته : ? وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ? ، فيجازي كل عامل بعمله .
وقوله تعالى : ? وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ? ، أي : الموت كائن لا بد منه ، فموت في سبيل الله أو قتل خير مما يجمعون في الدنيا .
وقوله تعالى : ? وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ? ، قال ابن إسحاق : ? وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ ? ، أي : ذلك كان : ? لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ? ، أي : أن إلى الله المرجع فلا تغرنكم الدنيا ولا تغتروا بها .(1/437)
قوله عز وجل : ? فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) ? .
قوله : ? فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ ? : ما مزيدة للتأكيد . قال قتادة : في قوله : ? فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ ? ، يقول : فبرحمة من الله لنت لهم . ? وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ? ، أي : والله طهره من الفظاظة والغلظة ، وجعله قريبًا رحيمًا بالمؤمنين رؤوفًا . قال ابن عباس : ? لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ? ، قال : انصرفوا عنك .
وقوله تعالى : ? فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ? ، قال ابن إسحاق : ? فَاعْفُ عَنْهُمْ ? ، أي : فتجاوز عنهم : ? وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ? ، ذنوب من قارف من أهل الإِيمان منهم .
وقال قتادة في قوله : ? وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ? أمر الله عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء ، لأنه أطيب لأنفس القوم ، وأن القوم إذا شاور بعضهم بعضًا وأرادوا بذلك وجه الله ، عزم لهم على أرشده .
وقوله : ? فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ? ، قال الربيع : أمره الله إن عزم على أمرٍ أن يمضي فيه ويتوكل عليه .(1/438)
وقوله تعالى : ? إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ? ، أي : النصر والخذلان بيده ، يعز من يشاء ويذل من يشاء .
قوله عز وجل : ? وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (164) ? .
قال ابن عباس : ( إن هذه الآية نزلت : ? وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ? في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر قال : فقال بعض الناس : أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : فأكثروا في ذلك ، فأنزل الله عز وجل : ? وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ? ) . وقال الكلبي : ( نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة . وقالوا : نخشى أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من أخذ شيئًا فهو له ، وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر . فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم . فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : « ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري » ؟ قالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفًا . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « بل ظننتم أن نغل ولا نقسم » . فأنزل الله تعالى هذه الآية .(1/439)
وقوله تعالى : ? وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ? ، أي : سواء كان من الغنيمة أو الصدقة ، أو غير ذلك ، كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لا ألفينّ أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرًا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر ، ينادي : يا محمد يا محمد . فأقول : لا أملك لك من الله شيئًا قد بلّغتك » .
وفي الحديث الآخر : « يا أيها الناس ، من بعثناه على عمل ففعل شيئًا ، جاء يوم القيامة على عنقه يحمله » .
وقوله تعالى : ? ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ? ، قال ابن إسحاق : ثم يجزى بكسبه غير مظلوم ولا معتدى عليه .
وقوله تعالى : ? أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ? ، قال الضحاك : وقوله : ? أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ ? قال : من لم يغل كمن باء بسخط من الله ؟ كمن غل ؟ وقال ابن إسحاق : يقول : أفمن كان على طاعتي فثوابه الجنة ورضوان من ربه ، كمن باء بسخط من الله ، فاستوجب غضبه ، وكان مأواه جهنم وبئس المصير ؟ أسَوَاءٌ المَثَلان ؟ أي : فاعرفوا .
وقوله تعالى : ? هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ? ، قال ابن عباس : ? هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ ? ، يقول : بأعمالهم . ? واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ? ، قال ابن إسحاق : يقول : إن الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته .(1/440)
وقوله تعالى : ? لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ? ، قال ابن إسحاق : أي : لقد من الله عليكم يا أهل الإيمان ، إذ بعث فيكم رسولاً من أنفسكم ، يتلو عليكم آياته ويزكيكم ، فما أخذتم وفيما عملتم ، ? وَيُعَلِّمُكُمُ ? الخير والشر : الخير لتعرفوا فتعملوا به ، والشر فتتقوه ، ويخبركم برضاه عنكم إذ أطعتموه لتستكثروا من طاعته ، وتجتنبوا ما سخط منكم من معصيته ، فتخلصوا بذلك من نقمته ، وتدركوا بذلك ثوابه من جنته . وإن كنتم من قبل لفي ضلال مبين ، أي : في عمى من الجاهلية لا تعرفون حسنة ، ولا تستغيثون من سيئة ، صم عن الحق ، عمي عن الهدى .
قوله عز وجل : ? أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (168) ? .(1/441)
قال قتادة : أصيب المسلمون يوم أحد مصيبة ، وكانوا قد أصابوا مثليها يوم بدر ، ممن قتلوا وأسروا ، فقال الله عز وجل : ? أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا ? ، وقال عكرمة : قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين ، وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين ، فذلك قوله : ? قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا ? إذ نحن مسلمون نقاتل غضبًا لله ، وهؤلاء مشركون ! ? قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ? عقوبة لكم بمعصيتكم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال ما قال . وقال الحسن : معصيتهم أنه قال لهم : لا تتبعوهم يوم أحد ، فاتبعوهم .
وقوله تعالى : ? وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ ? قال ابن إسحاق : أي : ما أصابكم حيث التقيتم أنتم وعدوكم ، فبإذني كان ذلك حين فعلتم ما فعلتم بعد أن جاءكم نصري وصدقتم ، وعدي ؛ ليميز بين المنافقين والمؤمنين : ? وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ ? ، أي : ليظهروا ما فيهم .(1/442)
وقوله تعالى : ? وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ? ، قال ابن إسحاق : ( خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد في ألف رجل من أصحابه ، حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة ، انخزل عنهم عبد الله بن أبيّ بن سلول بثلث الناس ، فقال : أطاعهم فخرج وعصاني ، والله ما ندري على ما نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس ! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريب ، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حزم أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكّركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم ، فقالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكنا لا نرى أن يكون قتال ، فلما استعصوا عليه ، وأبو إلا الانصراف عنهم قال : أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم . ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) . يقول الله عز وجل : ? هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ? ، أي : يخفون . وقال السدي في قوله : ? أَوِ ادْفَعُواْ ? يقول : أو كثروا .(1/443)
وقوله تعالى : ? الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? ، قال ابن إسحاق : ? الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ ? الذين أصيبوا معكم من عشائرهم وقوهم : لو أطاعونا ما قتلوا . ? قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? ، أي : أنه لا بد من الموت ، فإن استطعتم أن تدفعوه عن أنفسكم فافعلوا . قال السدي : هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه .
قوله عز وجل : ? وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) ? .
عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب . مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم . قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا ، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب . فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله عز وجل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الآيات » . رواه ابن جرير وغيره .(1/444)
قوله عز وجل : ? الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175) ? .
قال ابن إسحاق : ( كان يوم أحد السبت للنصف من شوال ، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال ، أذّن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس بطلب العدو ، وأذن مؤذن : لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال لي : يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسي ، فتخلف على إخواتك فتخلفت عليهن ، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج معه ، وإنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرهبًا للعدو ، وليبغلهم أنه خرج في طلبهم ، ليظنوا به قوة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم ) .(1/445)
وقوله تعالى : ? الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ? ، قال قتادة : ( انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعصابة من أصحابه بعدما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد خلفهم ، حتى كانوا بذي الحليفة ، فجعل الأعراب والناس يأتون عليهم فيقولون : هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس . فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فأنزل الله تعالى فيهم : ? الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ? .
وقوله تعالى : ? فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ? ، قال ابن إسحاق : ? وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ? لما صرف عنهم من لقاء عدوهم . وقال ابن عباس : أطاعوا الله وابتغوا حاجتهم ولم يؤذهم أحد ، ? فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ? .
وقوله تعالى : ? إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ ? ، أي : يخوفكم بأوليائه ، ? فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ? ، قال مجاهد : ? إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ ? قال : يخوف المؤمنين بالكفار .(1/446)
وقال ابن كثير : ? إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ ? ، أي : يخوفكم أولياءه ، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة . قال الله تعالى : ? فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ? . أي : إذا سول لكم وأوهمكم ، فتوكلوا عليّ والجأوا إليّ ، فإني كافيكم وناصركم عليهم ، كما قال تعالى : ? أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الخمسون(1/447)
? وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178) مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ(1/448)
مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178) ? .(1/449)
قال مجاهد في قوله : ? وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ? ، أي : المنافقون ، ? إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ ? . قال ابن إسحاق : أن يحبط أعمالهم ، ? وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ? . ? إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ ? ، أي : المنافقين ? لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? ، أي : موجع .
وقوله تعالى : ? وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ? ، كقوله : ? وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ? .
وقوله : ? فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ? .
قوله عز وجل : ? مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) ? .(1/450)
قال مجاهد في قول الله : ? مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ? ، قال : ميز بينهم يوم أحد ، المنافق من المؤمن .
وقوله تعالى : ? وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ? ، فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز ، ? وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ? . قال مجاهد يخلصهم لنفسه .
وقوله تعالى : ? فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ ? ، قال ابن إسحاق : أي : ترجعوا وتتوبوا ? فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ? .
وقوله تعالى : ? وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير ? . قال السدي : هم الذين آتاهم الله من فضله ، فبخلوا أن ينفقوها في سبيل الله ، ولم يؤدوا زكاتها . وقال ابن مسعود في قوله : ? سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ? قال : ثعبان ينقر رأس أحدهم يقول : أنا مالُك الذي بخلت به . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله ، إلا مثّل له شجاع أقرع يطوقه » . رواه ابن جرير وغيره .(1/451)
قوله عز وجل : ? لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) ? .(1/452)
قال الحسن : لما نزلت : ? مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ? ، عجبت اليهود فقالت : إن الله فقير يستقرض . فنزلت : ? لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ * الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ? . قال الكلبي : ( نزلت في كعب بن الأشرف وأناس معه من اليهود ، أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد تزعم أن الله تعالى بعثك إلينا رسولاً ، وأنزل عليك الكتاب ، وأن الله تعالى قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قال الله تعالى : قل يا محمد : قد جاءكم رسل من قبلي بِالبينات وبالذي قلتم من القربان ، فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ؟
قال البغوي : معناه تكذيبهم إياك ، مع علمهم بصدقك ، كقتل آبائهم الأنبياء ، مع الإتيان بالقربان والمعجزات . ثم قال معزيًا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ? فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ? ، أي : الواضح المضيء .
قال في فتح البيان : البينات : المعجزات . والزبر : الكتب المقصورة على الحكم والمواعظ . والكتاب المنير : الواضح المعنى ، المتضمن للشرائع والأحكام .(1/453)
? كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ? كمتاع يدلس به على المبتاع فيفر ويشتريه ، فمن اغتار بها وآثرها فهو مغرور . قال تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ? ، أي : الشيطان .
وقوله تعالى : ? لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ? . قال عطاء : من حقيقة الإِيمان .
قوله عز وجل : ? وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) ? .(1/454)
قال ابن جريج في قوله : ? وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ? ليبيننه للناس ولا يكتمونه . قال : وكان فيه أن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده وأن محمدًا يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل . وقال قتادة : هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم ، فمن علم شيئًا فليعلِّمه ، وإياكم وكتمان العلم ، فإن كتمان العلم هلكة ، ولا يتكلفن رجل ما لا علم له به ، فيخرج من دين الله ، فيكون من المتكلفين ؛ كأن يقال : مَثَلُ عِلْم لا يُقال به كمثل كنز لا ينفق منه ، ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب . وكان يقال : طوبى لعالم ناطق ، وطوبى لمستمع واع ، هذا رجل علّم علمًا فعلّمه وبذله ودعا إليه ، ورجل سمع خيرًا فحفظه ووعاه وانتفع به .
وقال الشعبي في قوله : ? فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ? ، قال : إنهم قد كانوا يقرأون : إنما نبذوا العمل به .
وقوله : ? لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ ? ، أي : منجاة ، ? مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? . قال الضحاك : فرح اليهود باجتماعهم على كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : قد جمع الله كلمتنا . وقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن أهل الصلاة والصيام ، وكذبوا ، بل هم أهل كفر وشرك وافتراء على الله . وقال ابن زيد : هؤلاء المنافقون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لو قد خرجت لخرجنا معك ، فإذا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - تخلفوا وكذبوا ويفرحون بذلك ، ويرون أنها حيلة احتالوا بها .
وقال البغوي : ? يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ ? ، قال الفراء : بما فعوا .(1/455)
وقال ابن كثير : وقوله تعالى : ? لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ? الآية ، يعني بذلك : المرائين المتكثرين بما لم يعطوا ، وذكر أقوال المفسرين ثم قال : ولا منافاة ، لأن الآية عامة في جميع ما ذكر . والله أعلم ) . انتهى .
وقوله تعالى : ? وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? ، أي : فهو الغني القادر لا يحتاج إلى أحد ، كما قال تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الحادي والخمسون(1/456)
? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ(1/457)
اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) ? .
قوله عز وجل : ? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) ? .
قال ابن جريج في قوله : ? الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ? ، قال : هو ذكر الله في الصلاة وفي غير الصلاة ، وقراءة القرآن .
وقوله تعالى : ? وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ? . قال ابن عوف : الفكرة : تذهب الغفلة ، وتحدث للقلب الخشية ، كما يحدث الماء للزرع النماء .(1/458)
وقوله : ? رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ? ، عن الأشعث الجمل قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد أرأيت ما تذكر من الشفاعة حق هو ؟ قال : نعم حق . قلت : يا أبا سعيد أرأيت قول الله تعالى : ? رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ? ، يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها . فقال لي : إنك والله لا تستطيع على شيء ، إن للنار أهلاً لا يخرجون منها كما قال الله . قلت : يا أبا سعيد فيم دخلوا ثم خرجوا ؟ قال : كانوا أصابوا ذنوبًا في الدنيا فأخذهم الله بها ، فأدخلهم بها ، ثم أخرجهم بما يعلم في قلوبهم من الإيمان والتصديق به .
وقوله تعالى : ? رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ? المنادي : هو : القرآن . قال محمد بن كعب القرظي : هو الكتاب ، ليس كلهم لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : ? رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ? ، أي : لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك ، وهو القيام بين يديك ، ? فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ? ، ولا تخزنا فإننا قد آمنا بك وبكتابك ونبيك .(1/459)
قوله عز وجل : ? فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) ? .
عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله تذكر الرجال في الهجرة ولا تذكر النساء ، فنزلت : ? أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ? الآية .
وقوله : ? بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ? ، قال الكلبي : في الدين والنصرة والموالاة .
وقال ابن كثير : أي : جميعكم في ثوابي سواء .
وقوله تعالى : ? فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ? ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إن أول ثلة تدخل الجنة لفقراء المهاجرون الذين تُتَّقى بهم المكاره ، إذا أُمروا سمعوا وأطاعوا ، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره ، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول : أي : عبادي الذين قتلوا في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي ، وجاهدوا في سبيلي ؟ ادخلوا الجنة ، فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب » . رواه ابن جرير .(1/460)
قوله عز وجل : ? لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198) ? .
قال ابن جرير في قوله تعالى : ? لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ ? فنهى الله تعالى ذكره نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الاغترار بضربهم في البلاد ، وإمهال الله إياهم مع شركهم وجحودهم نعمه وعبادتهم غيره . وخرج الخطاب بذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمعنيّ به غيره من أتباعه . وقال قتادة : والله ما غروا نبي الله ، ولا وكل إليهم شيئًا من أمر الله حتى قبضه الله على ذلك .
وقوله تعالى : ? لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ? . قال ابن زيد : لمن يطيع الله . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : إنما سماهم الله الأبرار ؛ لأنهم بروا الآباء والأبناء .
قوله عز وجل : ? وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) ? .(1/461)
قال قتادة في قوله : ? وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ ? الآية ، نزلت في النجاشي وفي ناس من أصحابه ، آمنوا بنبي الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقوا به . قال : وذكر لنا ( أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - استغفر للنجاشي وصلى عليه حين بلغه موته . قال لأصحابه : « صلوا على أخ لكم قد مات بغير بلادكم » . فقال أناس من أهل النفاق : يصلي على رجل مات ليس من أهل دينه ؟ فأنزل الله هذه الآية : ? وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ? . وقال ابن جريج : نزلت في عبد الله بن سلام ومن معه . وقال مجاهد : هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى .
قال ابن جرير : وقد تنزل الآية في الشيء ثم يعم بها كل من كان في معناه ، فالآية وإن كانت نزلت في النجاشي ، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشي ، حكمًا لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشي في إتباعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والتصديق بما جاءهم به من عند الله ، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين : التوراة ، والإنجيل .
وقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ? . قال قتادة : أي اصبروا على طاعة الله ، وصابروا أهل الضلالة ، ورابطوا في سبيل الله ، واتقوا اللّه لعلكم تفلحون .(1/462)
وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: « ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات » ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : « إسباغ الوضوء عند المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرابط ، فذلكم الرباط » . رواه مسلم وغيره .
وقال محمد بن كعب القرظي في قوله : ? وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ? واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غدًا إذا لقيتموني . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة ثم رقد ، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء ، فقال : ? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ? . ثم قام فتوضأ واستن ، ثم صلى إحدى عشر ركعة ، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ، ثم خرج فصلى بالناس الصبح ) . متفق عليه . وفي رواية لمسلم : ( ثم قرأ العشر آيات الخواتم من سورة آل عمران ) . وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : « من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة » . رواه الدرامي . والله أعلم .
* * *
الدرس الثاني والخمسون
[ سورة النساء ]
مدنية ، وهي مائة وست وسبعون آية
قال ابن مسعود : خمس آيات من النساء أحب إلّي من الدنيا جميعًا : ? إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ? .
وقوله : ? وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ? .
وقوله:? إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ?.
وقوله : ? وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ? .(1/463)
وقوله : ? وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ? .
بسم الله الرحمن الرحيم
? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُواْ (3) وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً (4) وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (5) وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً (6) لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ(1/464)
مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) ? .
قال السدي : أسكن آدم الجنة ، فكان يمشي فيها وحشًا ليس له زوج يسكن إليها ، فنام نومة فاستيقظ ، فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه فسألها : من أنت ؟ قالت : امرأة . قال : ولم خلقت ؟ قالت : تسكن إليّ . ? وَبَثَّ ? خلق ، ? مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ ? يقول : اتقوا الأرحام ، واتقوا الأرحام لا تقطعوها . وقال ابن عباس : واتقوا الله في الأرحام فصلوها ، ? إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ? . قال مجاهد : حفيظًا . وقال ابن زيد : ? رَقِيباً ? على أعمالكم يعلمها ويعرفها .(1/465)
قوله عز وجل : ? وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُواْ (3) وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً (4) ? .
قال مجاهد في قول الله تعالى : ? وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ? ، قال : الحلال بالحرام . قال السدي : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة ، ويقول : شاة بشاة ، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ، ويقول : درهم بدرهم . وقال ابن زيد : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ، ولا يورثون الصغار ، يأخذه الأكبر .
وقال مجاهد في قوله : ? وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ? ، يقول : لا تأكلوا أموالكم وأموالهم تخلطوها ، فتأكلوها جميعًا ، ? إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ? ، قال ابن عباس : إثمًا عظيمًا .(1/466)
وقوله تعالى : ? وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ? ، عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن هذه الآية فقالت: يا ابن أختي ، هي : اليتيمة تكون في حِجر ولِّيها، فيرغب في مالها وجمالها ، ويريد أن ينكحها بأدنى صداقها ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في كمال الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما سواهُنَّ من النساء . وفي رواية : هي : اليتيمة تكون عند الرجل وهي ذات مال ، فلعله ينكحها لمالها وهي لا تعجبه ، ثم يضربها ويسيء صحبتها . وقال قتادة في قوله : ? وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُواْ ? ، يقول : كما خفتم الجَوَار في اليتامى همكم ذلك . فكذلك فخافوا في جميع النساء . وكان الرجل في الجاهلية يتزوج العشر فما دون ذلك ، فأحل الله جل ثناؤه أربعًا ، ثم الذي صيرهن إلى أربع قوله : ? مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ? . ? فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً ? ، وإن خفت أن لا تعدل في أربع ، فثلاث ، وإلا فاثنتين ، وإلا فواحدة ، وإن خفت أن لا تعدل في واحدة فما ملكت يمينك . وقال ابن عباس في قوله : ? ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُواْ ? ، يعني : أن لا تميلوا .(1/467)
وقوله تعالى : ? وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ? . قال قتادة في قوله : ? وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ? ، يقول : فريضة . وقال ابن عباس : يعني بالنحلة : المهر ، ? فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ? ، يقول : إذا كان غير إضرار ولا خديعة ، فهو هنيء مريء ، كما قال الله جل ثناؤه . وعن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوج أيّمًا أخذ صداقها دونها ، فنهاهم الله تبارك وتعالى عن ذلك ، ونزلت : ? وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ? الآية . وقال ابن زيد : النحلة في كلام العرب : الواجب ، يقول : لا ينكحها إلا بشيء واجب لها صدقة ، يسميها لها واجبة ، وليس ينبغي لأحد أن ينكح امرأة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إلا بصداق واجب ، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبًا بغير حق .
قوله عز وجل : ? وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (5) وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً (6) ? .(1/468)
قال الحسن في قوله : ? وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ ? ، لا تعطوا الصغار ، والنساء . وقال قتادة في قوله : ? وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً ? ، أمر الله بهذا المال أن يخزن فيحسن خزانته ، ولا يملكه المرأة السفيهة ، والغلام السفيه .
وقوله تعالى : ? وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ? . قال ابن عباس : يقول الله سبحانه : لا تعمد إلى مالك وما خوّلك الله ، وجعله لك معيشة ، فتعطيه امرأتك أو بنيك ، ثم تنظر إلى ما في أيديهم ، ولكن أمسك مالك وأصلح وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ، ورزقهم ومئونتهم . وقال مجاهد في قوله : ? وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ? ، قال : أمروا أن يقولوا لهم قولاً معروفًا في البر والصلة . وقال ابن جريج : عدة تعدوهم .(1/469)
وقوله تعالى : ? وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ ? قال ابن عباس : ? وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى ? اختبروهم ، ? حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ ? . قال : عند الحلم ، ? فَإِنْ آنَسْتُم ? قال : عرفتم ? مِّنْهُمْ رُشْداً ? في حالهم والإصلاح في أموالهم ، ? فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ ? ، يعني : أكل مال اليتيم مبادرًا أن يبلغ ، فيحول بينه وبين ماله وقوله تعالى : ? وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ? ، أي : بالتي هي أحسن . قال إبراهيم : ليس بلبس الكتان ولا الحلل ، ولكن ما سد الجوع ووارى العورة . وجاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتامًا ، وإن لهم إبلاً ولي إبل ، وأنا أمنح في إبلي وأفقر ، فماذا يحل من ألبانها ؟ قال : إن كنت تبغي ضالتها ، وتهنأ جرباها ، وتلوط حوضها ، وتستقي عليها ، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب .
قوله تعالى : ? فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً ? قال ابن عباس : إذا دفع إلى اليتيم مال فليدفعه إليه بالشهود ، كما أمره الله تعالى .
وقال ابن كثير : ? وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً ? ، أي : وكفى بالله محاسبًا وشاهدًا ورقيبًا على الأولياء ، في حال نظرهم للأيتام ، وحال تسليمهم لأموالهم ، هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مبخوسة ، مروج حسابها ، مدلس أمرها ؟ الله عالم بذلك كله .(1/470)
قوله عز وجل : ? لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) ? .
قال قتادة : كانوا لا يورثون النساء ، فنزلت : ? وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ ? .
وقوله تعالى : ? وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ? . قال الشعبي : هي : محكمة ، وقال : واجب ، ما طابت به نفس أهل الميراث . وقال ابن عباس : أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم ويتاماهم بالوصية ، إن كان أوصى ، وإن لم تكن وصية وصل إليهم من مواريثهم . وقال سعيد بن جبير ، والحسن : ذلك عند قسمة الميراث ، إن كان الميراث لمن قد أدرك ، فله أن يكسوا منه ، وأن يطعم الفقراء والمساكين ، وإن كان الميراث ليتامى صغار ، فيقول الولي : إنه ليتامى صغار ويقول لهم قولاً معروفًا .(1/471)
وقوله تعالى : ? وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً ? . قال ابن عباس : يعني : الذي يحضره الموت فيقال له : تصدق من مالك ، وأعتق وأعط منه في سبيل ، فنهوا أن يأمروه بذلك ، يعني : أنه من حضر منكم عند الموت فلا يأمره أن ينفق ماله في العتق ، أو الصدقة ، أو في سبيل الله ، ولكن يأمره أن يبين ماله ، وما عليه من دين ، ويوصي في ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون ، ويوصي لهم بالخمس أو الربع . يقول : أليس يكره أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف ، يعني : صغار . أن يتركهم بغير مال . فيكونوا عيالاً على الناس ؟ فلا ينبغي أن تأمروا بما لا ترضون به لأنفسكم ولا أولادكم ، ولكن قولوا الحق من ذلك . وقال قتادة في قوله : ? وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً ? يقول : فليأمره بالعدل والإحسان ، ولينهه عن الحيف والجور في وصيته ، وليخش على عياله ما كان خائفًا على عياله لو نزل به الموت .
وقوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ? ، قال السدي : إذا قام الرجل بأكل مال اليتيم ظلمًا ، يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ، ومن مسامعه ، ومن أذنيه ، وأنفه ، وعينيه يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم .(1/472)
وقال ابن عباس : ( لما نزلت : ? إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ? الآية . انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسده ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله : ? َيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ? فخلطوا طعامهم بطعامهم ، وشرابهم بشرابهم ) . والله أعلم .
* * *
الدرس الثالث والخمسون(1/473)
? يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (14) ? .
* * *(1/474)
قوله عز وجل : ? يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ? .
قال ابن عباس في قوله تعالى : ? يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ ? ، كان المال للولد ، وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس مع الولد ، وللزوج الشطر والربع ، وللزوجة الربع والثمن .
وقوله تعالى : ? فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ? ، يعني : للبنتين فما فوق الثلثان ، وللبنت الواحدة النصف . وعن جابر رضي الله عنه قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيدًا وإنَّ عَمَّهُمَا أخذ مالَهُمَا فلم يدع لهما مالاً ولا يُنْكَحَانِ إِلا وَلَهُمَا مَال . قال : فقال : « يقضي اللَّهُ في ذلك » . فنزلت آية الميراثِ ، فأرسل رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى عَمِّهِمَا فقال : « أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ ، وما بقِيَ فهو لك » . رواه أحمد ، وأبو داود وغيرهما .
قوله عز وجل : ? وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً (11) ? .(1/475)
الأبوان لهما في الإرث أحوال : أحدها : أن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل واحد منهما السدس ، فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة فرض لها النصف ، وللأبوين لكل واحد منهما السدس ، وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب .
الحال الثاني : ( أن ينفرد الأبوان بالميراث ، فيفرض للأم الثلث ، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب ، فلو كان معهما زوج ، أو زوجة أخذ الزوج النصف ، والزوجة الربع ، وأخذت الأم ثلث الباقي ، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب .
والحال الثالث : وهو اجتماعهما مع الأخوة سواء كانوا من الأبوين ، أو من الأب ، أو من الأم ، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئًا ، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ، ولا يحجبها الواحد عن الثلث .
وقوله تعالى : ? مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ? ، عن علي رضي الله عنه قال : ( إنكم تقرءون هذه الآية : ? مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ? وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية ) . رواه ابن جرير وغيره .
قال ابن كثير : ( أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدَّين مقدم على الوصية ، وذلك عند إمعان النظر فيهم من فحوى الآية الكريمة ) . انتهى .
وقوله تعالى :? آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ?. قال ابن زيد : أيهم خير لكم في الدين والدنيا ، الوالد والولد الذين يرثونكم لم يدخل عليكم غيرهم فرض لهم المواريث لم يأت بآخرين يشركونهم في أموالكم .
وقوله تعالى : ? فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً ? . قال ابن كثير : أي : هذا الذي ذكرناه من تفضيل الميراث وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض هو فرض من الله حكم به ، وقضاه ، ? إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً ? .(1/476)
قوله عز وجل : ? وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ? .
أولاد البنين وإن سلفوا حكم أولاد الصلب ، سواء كان الولد واحدًا أو جماعة ، ذكرًا أو أنثى ، يحجبون الزوج من النصف إلى الربع ، ويحجبون الزوجة من الربع إلى الثمن ، وإذا كان للرجل أكثر من زوجة اشتركن في الربع أو الثمن .
قوله عز وجل : ? وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) ? .
قوله تعالى : ? وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ ? . قال ابن عباس : الكلالة : من لا ولد له ولا والد . وقال قتادة : قوله : ? وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ ? ، والكلالة : الذي لا ولد له ، ولا والد ، [ و ] لا أب ، ولا جد ، ولا ابن ، ولا ابنة ، فهؤلاء الإخوة من الأم . إن كان واحدًا فله السدس ، وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث . ذكرهم وأنثاهم فيه سواء .
وقوله تعالى : ? مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ ? . قال قتادة : إن الله تبارك وتعالى كره الضراء في الحياة وعند الموت ، ونهى عنه ، وقدم فيه فلا تصلح مضارة في حياة ولا موت ، وقال ابن عباس : الضرار ، والحيف في الوصية من الكبائر .(1/477)
وقوله تعالى : ? وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ? ، أي : علم بالمضار وغيره ، حليم لا يعاجل بالعقوبة .
قال ابن جريج : وأما قوله : ? وَصِيَّةً ? فإن نصبه من قوله : ? يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ? ، وسائر ما أوصى به في الأثنين , ثم قال : ? وَصِيَّةً مِّنَ اللّه ? مصدرًا من قوله : ? يُوصِيكُمُ ? . انتهى .
قوله عز وجل : ? تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (14) ? .
قال ابن عباس : قوله : ? تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ ? ، يعني : طاعة الله ، يعني : المواريث التي سمى الله . وقال قتادة : تلك حدود الله التي حد لخلقه ، وفرائضه بينهم من الميراث والقسمة ، فانتهوا إليها ولا تعدوها إلى غيرها .
وقوله تعالى : ? وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ? .
قال ابن جرير : فإن قال قائل : أو يخلد في النار من عصى الله ورسوله في قسمة المواريث ؟ قيل : نعم إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكًا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين ، أو علم ذلك فحادّ الله ورسوله في أمرهما ، على ما ذكر ابن عباس من قول من قال : حين نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ? يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ? إلى تمام الآيتين ، أيورث من لا يركب الفرس ، ولا يقاتل العدو ، ولا يحوز الغنيمة ، نصف المال أو جميع المال ؟ استنكارًا منهم قسمة الله ما قسم لصغار ولد الميت ، ونسائه وإناث ولده ، والله أعلم .
* * *(1/478)
الدرس الرابع والخمسون
? وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً (21) ? .
* * *(1/479)
قوله عز وجل : ? وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً (16) ? .
قال ابن عباس : كانت المرأة إذا زنت حُبست في البيت حتى تموت ، ثم أنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك : ? الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ? ، فإن كانا محصنين رجما ، فهذا سبيلهما الذي جعل الله لهما . وفي حديث عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً : البكران يجلدان وينفيان سنة ، والثيبان يجلدان ويرجمان » .
قال ابن جرير : وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله تعالى : ? أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ? ، قول من قال : السبيل التي جعلها الله جل ثناؤه للثيبين المحصنين : الرجم بالحجارة ، وللبكرين : جلد مائة ونفي سنة ، لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنه رجم ولم يجلد .
وقوله تعالى : ? وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً ? ، قال ابن عباس : يؤذي بالتعيير ، وضرب النعال .
قال البغوي : ( فإن قيل : ذكر الحبس في الآية الأولى ، وذكر في هذه الآية الإيذاء ، فكيف وجه الجمع ؟ قيل : الآية الأولى في النساء ، وهذه في الرجال ، وهو قول مجاهد . وقيل : الآية الأولى في الثيب ، وهذه في البكر ) . انتهى .(1/480)
وقيل : نزل ? وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا ? ، في اللذين يعملان عمل قوم لوط ، قال مجاهد : كل ذلك نسخته الآية التي في النور بالحد المفرض .
قوله عز وجل : ? إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18) ? .
قال مجاهد في قوله : ? إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ? ، من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع من معصيته .
وقوله تعالى : ? ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ ? ، قال الضحاك : كل شيء قبل الموت فهو قريب له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت ، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس له ذاك ، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » . رواه ابن جرير وغيره .
وقال ابن زيد في قوله : ? وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ? ، قال : إذا تبين الموت فيه لم يقبل الله له توبة ، وقال ابن عباس : ولا الذين يموتون وهم كفار : أولئك أبعد من التوبة . قال ابن كثير : يعني : أن الكافر إذا مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ، ولا توبته ? أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ? .(1/481)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً (21) ? .
قال ابن عباس في قوله : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً ? ، كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها ، وهم أحق بها من أهلها . فنزلت هذه الآية في ذلك . وقال مجاهد : كان إذا توفي الرجل كان ابنه الأكبر هو أحق بامرأته ينكحها إذا شاء إذا لم يكن ابنها ، أو يُنكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ? ، قال ابن عباس : يعني ، الرجل نكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضربها لتفتدي . وقال أبو قلابة : إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة فلا بأس أن يضارها ، ويشق عليها حتى تختلع منه ، وقال ابن عباس : ? إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ? ، وهو البغض ، والنشوز ، فإذا فعلت ذلك فقد حل منها الفدية .(1/482)
وقوله تعالى : ? وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ? .
قال ابن جرير : يعني بذلك تعالى ذكره : لا تعضلوا نسائكم لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من غير ريبة ولا نشوز منهن ، ولكن عاشروهن بالمعروف . وإن كرهتموهن فلعلكم أن تكرهوهن فتمسكوهن ، فيجعل الله في إمساككم إياهن خيرًا كثيرًا ، من ولد يرزقكم منهن ، أو عطفكم عليهن بعد كراهتكم إياهن .
وقوله تعالى : ? وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ? ، قال مجاهد : ? وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ ? : طلاق امرأة مكان أخرى ، فلا يحل له من مال المطلقة شيء وإن كثر .
وقوله تعالى : ? وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ? ، قال ابن عباس : الإفضاء : الجماع ، ولكن الله كريم يكني . وقال قتادة : ? وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ? ، والميثاق الغليظ الذي أخذه للنساء على الرجال : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله » . رواه مسلم . وقال الربيع بن أنس : كلمة الله هي التشهد في الخطبة ، والله أعلم .
* * *
الدرس الخامس والخمسون(1/483)
? وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (25)(1/484)
يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً (22) ? .
قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يحرمون ما يَحْرُم إلا امرأة الأب ، والجمع بين الأختين ، فأنزل الله : ? وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ? ، ? وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ ? ، وقال أيضًا : كل امرأة تزوجها أبوك وابنك ، دخل أو لم يدخل ، فهي عليك حرام . وعن البراء بن عازب : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا بردة إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ، ويأخذ ماله ) . رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن .(1/485)
قوله عز وجل : ? حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) ? .
قال ابن عباس : حُرّم من النسب سبعٌ ، ومن الصِّهر سبعٌ . ثم قرأ : ? حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ? حتى بلغ : ? وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلا مَا قَدْ سَلَفَ ? ، قال : والسابعة : ولا تنكحوا ما نَكح آباؤكم من النساء .
قال البغوي : وجملة المحرمات في كتاب الله تعالى أربع عشرة : سبعٌ بالنسب ، وسبعٌ بالسبب .
فأما السبع بالسبب : فمنها اثنتان بالرضاع ، وأربع بالصهرية ، والسابعة المحصنات ، وهن من ذوات الأزواج .(1/486)
وأما السبع بالنسب : فقوله تعالى : ? حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ? ويدخل فيهن الجدات وإن علونَ ، ? وَبَنَاتُكُم ? ويدخل فيهن بنات الأولاد وإن سفلن ، ? وَأَخَوَاتُكُمْ ? سواء كانت من قِبَل الأب ، أو والأم ، ? وَعَمَّاتُكُم ? ويدخل فيهن جميع أخوات آبائك ، وأجدادك وإن علوا ، ? وَخَالاتُكُم ? ويدخل فيهن جميع أخوات أمهاتك ، وجداتك ، ? وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ ? ويدخل فيهن بنات أولاد الأخ ، والأخت وإن سفلن .
وأما المحرمات بالرضاع : فقوله تعالى : ? وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ? وجملته : أن يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب .(1/487)
وأما المحرمات بالصهرية : فقوله : ? وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ? وجملته : أَن كل من عقد النكاح على امرأة فتحرم على الناكح أمهات المنكوحة وجداتها وإن علون من الرضاعة والنسب بنفس العقد ، ?وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ? الربائب جمع : ربيبة ، وهي بنت المرأة ، ? دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ? أي : جامعتموهن ، ويحرم عليه أيضا بناتُ المنكوحة وبنات أولادها ، وإن سفلن من الرضاع ، والنسب بعد الدخول بالمنكوحة ، حتى لو فارق المنكوحة قبل الدخول بها أو ماتت جاز له أن ينكح بنتها ، ولا يجوز له أن ينكح أُمَّها ؛ لأن الله تعالى أطلق تحريم الأمهات وقال في تحريم الربائب : ? فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ? ، يعني : أزواج أبنائكم . وجملته : أنه يحرم على الرجل حلائل أبنائه وأبناء أولاده وإن سفلوا من الرضاع والنسب بنفس العقد . وإنما قال : ? مِنْ أَصْلابِكُمْ ? ليعلم أن حليلة المتبنَّي لا تحرم على الرجل الذي تبناه ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج امرأة زيد بن حارثة ، وكان زيد قد تبنَّاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - .
والرابع من المحرمات بالصهرية : حليلةُ الأب والجدّ وإن علا ، فتحرم على الولد ، وولدِ الولد بنفس العقد ، سواء كان الأب من الرضاع ، أو النسب ؛ لقوله تعالى : ? وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ? وكل امرأة تحرم عليك بعقد النكاح تحرم بالوطء في ملك اليمين ، والوطء بشبهة .
قوله تعالى : ? وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ ? لا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في النكاح سواء كانت الأخوّة بينهما بالنسب ، أو بالرضاع ، وكذلك لا يجوز أن يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها .(1/488)
قوله تعالى : ? إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ? ، يعني : لكن ما مضى فهو معفوٌ عنه ، ? إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ? .
قوله تعالى : ? وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ? يعني : ذوات الأزواج ، لا يحل للغير نكاحُهُنّ قبل مفارقة الأزواج ، وهذه السابعة من النساء اللاتي حُرّمن بالسبب . قال أبو سعيد الخدري : ( نزلت في نساء كُنَّ يهاجرن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهن أزواج ، فتزوجهن بعض المسلمين ، ثم قدم أزواجهن مهاجرين فنهى الله المسلمين عن نكاحهن ، ثم استثنى فقال : ? إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ? ، يعني : السبايا اللواتي سُبين ولهن أزواج في دار الحرب ، فيحِلُّ لمالِكِهنَّ وطؤهنَّ بعد الاستبراء ) . انتهى ملخصًا .
وقال ابن عباس في قوله تعالى : ? وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ? كل امرأة لها زوج فهي عليك حرام إلا أمة ملكتها ولها زوج بأرض الحرب ؛ فهي لك حلال إذا استبرأتها .
وقوله تعالى : ? كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ? ، أي : كتب الله عليكم تحريم هؤلاء .
وقوله تعالى : ? وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ? ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء عنها ، فقال : ? وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ? ، قال : ما وراء ذات القرابة .
وقال ابن جرير : إن الله جل ثناؤه بيّن لعباده المحرمات ، بالنسب والمصهر ، ثم المحرمات من المحصنات من النساء ، ثم أخبرهم جل ثناءه أنه قد أحل لهم ما عدا هؤلاء المحرمات ، المبيّنات في هاتين الآيتين أن نبتغيه بأموالنا نكاحًا ، وملك يمين لا سفاحًا .(1/489)
وقوله تعالى : ? فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ? قال ابن عباس : إذا تزوج الرجل منكم المرأة ثم نكحها مرة واحدة ، فقد وجب صداقها كله . والاستمتاع هو : النكاح . وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة . وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة يوم خيبر ، وعن لحوم الحمر الأهلية ) .
وقوله تعالى : ? وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ? .
قال ابن جرير : وذلك نظير قوله جل ثناؤه : ? وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ? .
وقال ابن كثير : وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ، ولا شك أنه كان مشروعًا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك .
وقال البغوي : ذهب عامة أهل العلم أن نكاح المتعة حرام ، والآية منسوخة . وعن سبرة بن معبد الجهني : أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة فقال : « يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا » . رواه مسلم .(1/490)
قوله عز وجل : ? وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (25) ? .
قال ابن عباس في قوله : ? وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً ? ، قال : من لم يكن له سعة . وقال مجاهد : الغنى أن ينكح المحصنات المؤمنات : ? فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ? ، قال سعيد ابن جبير : أما من لم يجد ما ينكح الحرة تزوج الأمة .
وقوله تعالى : ? وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ? ، أي : كلكم من نفس واحدة ، ودينكم واحد ، والله يعلم سرائركم ، فلينكح بعضكم من بعض .
وقوله تعالى : ? فَانكِحُوهُنَّ ? أي : الإماء ، ? بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ? ، أي : مواليهن ، ? وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ? أي : مهورهن ? بِالْمَعْرُوفِ ? على ما تراضيتم به من غير مطل ولا ضرار ? مُحْصَنَاتٍ ? عفائف ? غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ? ، قال ابن عباس : والمسافحات : المعلنات بالزنا ، ? وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ? ، ذات الخليل الواحد . كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ، ويستحلون ما خفي . يقولون : أما ما ظهر منه فهو لوم ، وأما ما خفي فلا بأس بذلك . فأنزل الله تبارك وتعالى : ? وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ? .(1/491)
وقوله تعالى : ? فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ? ، ليس المراد أن التزويج شرط لوجوب الحد ؛ بل المراد منه التنبيه على أن المملوك وإن كان محصنًا فلا رجم عليه ، إنما حدّه خمسون جلدة . قال قتادة في قوله : ? فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ? ، خمسون جلدة ، ولا نفي ولا رجم . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إذا زنت أمة أحدكم فتبيّن زناها فليجلدها الحج ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت فليجلدها الحدّ ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر » . وفي رواية : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال : « إن زنت فاجلدوها » الحديث . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب فقال : ( يا أيها الناس أقيموا الحد على إمائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن ) . رواه مسلم . وعند أبي داود مرفوعًا : « أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم » .
وقوله تعالى : ? ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? ، قال ابن عباس : العنت الزنا . وقال السدي : ? وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ? يقول : وإن تصبروا ولا تنكح الأمة فيكون ولدك مملوكين فهو خير لكِ .
قوله عز وجل : ? يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28) ? .(1/492)
قوله تعالى : ? يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ? ، أي : يريد الله أن يوضح لكم شرائع دينكم ، ومصالح أموركم ، ? وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ? ، يعني : طرائقهم الحميدة ، ? وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ? من الإِثم والمحارم ، ? وَاللّهُ عَلِيمٌ ? بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم ، ? حَكِيمٌ ? فيما دبر من أمورهم .
وقوله تعالى : ? وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً ? . قال مجاهد : ? وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً ? ، أن تكونوا مثلهم تزنون كما يزنون . وقال ابن زيد : يريد أهل الباطل ، وأهل الشهوات في دينهم أن تميلوا في دينكم ميلاً عظيمًا ، تتبعون أمر دينهم ، وتتركون أمر الله وأمر دينكم .
وقوله تعالى : ? يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ? ، قال مجاهد : يريد الله أن يخفف عنكم في نكاح الأمة ، وفي كل شيء فيه يسر . وقال ابن كيسان : خلق الإِنسان ضعيفًا ، يستميله هواه وشهوته ، وقال طاووس : ليس يكون الإِنسان في شيء أضعف منه في النساء . والله أعلم .
* * *
الدرس السادس والخمسون(1/493)
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً (30) إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) ? .
* * *(1/494)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً (30) إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً (31) ? .
قال السدي في قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ? ، نهوا عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل ، وبالربا والقمار ، والبخس والظلم ، ? إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً ? ، ليربح في الدرهم ألفًا إن استطاع . قال قتادة : والتجارة رزق من رزق الله ، وحلال من حلال الله ، لمن طلبها بصدقها وبرها . وقد كنا نحدث أن التاجر الأمين الصدوق مع السبعة في ظل العرش يوم القيامة .
وقال مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : ? عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ? في تجارة بيع ، أو عطاء يعطيه أحد أحدًا . وقال الشعبي في البيّعين : إنهما بالخيار ما لم يفترقا ، فإذا تصادرا فقد وجب البيع . وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ، ما لم يتفرقا وكانا جميعًا ، أو يخيّر أحدهما الآخر ، فإن خيّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع ، فقد وجب البيع » . متفق عليه . واللفظ لمسلم .(1/495)
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ? ، عن عمرو بن العاص قال : ( احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح ، قال : فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له فقال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ قلت يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فذكرت قول الله عز وجل : ? وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ? ، فتيممت ثم صليت . فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئًا ) . رواه أحمد وغيره . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « كان رجل ممن كان قبلكم ، وكان به جرح ، فأخذ سكينًا فجز بها يده ، فما رقأ الدم حتى مات . قال الله عز وجل : عبدي بادرني بنفسه ، حرمت عليه الجنة » .
وقوله تعالى : ? وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً ? .
قال ابن كثير : أي : ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه متعديًا فيه ظالمًا في تعاطيه ، أي : عالمًا بتحريمه متجاسرًا على انتهاكه ، ? فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ? الآية ، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد .(1/496)
وقوله تعالى : ? إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً ? . في الصحيحين عن النبي أنه قال : « اجتنبوا السبع الموبقات » قالوا : وما هن يا رسول الله ؟ قال : « الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » . وعن ابن مسعود قال : ( سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - ما الكبائر ؟ قال : « أن تدعوا لله ندًا وهو خلقك ، وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك ، أو تزني بحليلة جارك » . وقرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ? وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ? . رواه ابن جرير وغيره . وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس , واليمين الغموس » . قال ابن عباس : الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار ، أو غضب ، أو لعنة ، أو عذاب . وقال : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع . وفي رواية : هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار .
قوله عز وجل : ? وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) ? .(1/497)
عن مجاهد قال : ( قالت أم سلمة : يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو ، وإنما لنا نصف الميراث ! فنزلت : ? وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ? ، ونزلت : ? إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ? . وقال ابن عباس : لا يتمنى الرجل يقول : ليت لي مال فلان وأهله ، فنهى الله سبحانه عن ذلك ، ولكن ليسأل الله من فضله . وقال ابن سيرين : نهيتم عن الأماني ، ودُللتم على ما هو خير منه : ? وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ? .
قال ابن كثير : أي : هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها ، وبمن يستحق الفقر فيفقره ، وعليم بمن يستحق الآخرة فيوفقه لأعمالها ، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه ، وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « سلوا الله من فضله ، فإن الله يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج » . رواه الترمذي .(1/498)
وقوله تعالى : ? وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ? . قال ابن عباس : ? وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ ? . قال : الموالي : العصبة يعني : الورثة . ? وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ? . قال الحسن : كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب ، فيرث أحدهما الآخر ، فنسخ الله ذلك في الأنفال فقال : ? وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? . وقال ابن عباس : كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر ، فأنزل الله ? وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً ? ، يقول : إلا أن يوصوا إلى أوليائهم الذين عاقدوا وصية ، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت ، وذلك هو المعروف وقال مجاهد : ? وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ? ، كان حلف في الجاهلية ، فأمروا في الإسلام أن يعطوهم نصيبهم من العقل والنصرة والمشورة ، ولا ميراث . وعن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا حلف في الإسلام ، وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة ، وما يسرني أن لي حمر النعم ، وإني نقضت الحلف الذي كان في دار الندوة » . رواه ابن جرير .(1/499)
وقال ابن كثير في قوله : ? وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ ? ، أي : ورثة من قراباته من أبويه وأقربائه ، وهم يرثون دون سائر الناس . كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله قال : « ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر » .
قوله عز وجل : ? الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) ? .
قال ابن عباس في قوله تعالى : ? الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ? ، يعني : أمراء . عليها أن تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته ، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهله ، حافظة لماله ، وفضله عليها بنفقته وسعيه . وقال الضحاك : الرجل قائم على المرأة يأمرها بطاعة الله ، فإن أبت فله أن يضربها ضربًا غير مبرح ، أي : غير مؤثر . وقال السدي : ? الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ? ، يأخذون على أيديهن ويؤدبهن . وقال قتادة : ( صك رجل امرأته فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأراد أن يقيدها منه ، فأنزل الله : ? الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ? . وقال الزهري : لو أن رجلاً شج امرأته أو جرحها لم يكن عليه في ذلك قود ، وكان عليه العقل ، يعني : الدية ، إلا أن يعدوا عليها فيقتلها فيُقتل بها .(1/500)
وقوله تعالى : ? فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ ? قال سفيان : ? فَالصَّالِحَاتُ ? يعملن بالخير ، ? قَانِتَاتٌ ? ، قال مجاهد : مطيعات . وقال قتادة : أي : مطيعات لله ولأزواجهن . ? حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ ? . قال السدي : تحفظ على زوجها ماله وفرجها حتى يرجع كما أمرها الله . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالها - ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - : ? الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ? » الآية. رواه ابن جرير . قال ابن جرير : وفي الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من الكلام عليه عن ذكره ومعناه ? فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ ? ، فأحسنوا إليهن وأصلحوا .(2/1)
وقوله تعالى : ? وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ? . قال ابن زيد : النشوز معصية الزوج وخلافه . وقال مجاهد : إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها يقول لها : اتقي الله وارجعي إلى فراشك ، فإن أطاعته فلا سبيل عليها . وقال ابن عباس : في قوله تعالى : ? وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ? ، يعني بالهجران : أن يكون الرجل وامرأته على فراش واحد لا يجامعها . وقال قتادة : إذا خاف نشوزها وعظها ، فإن قبلت وإلا هجر مضجعها . وعن معاوية بن حيدة : أنه قال : يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه ؟ قال : « أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ،ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت » . وقال ابن عباس : في قوله تعالى : ? وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ? ، قال : تهجرها في المضجع ، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربًا غير مبرح ، ولا تكسر لها عظمًا ، فإن أقبلت ، وإلا فقد حل لك منها الفدية ، ? فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ? . قال : إذا ضاجعته . وقال سفيان بن عيينة : إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه ، لأن قلبها ليس في يديها .(2/2)
وقوله تعالى : ? إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ? . قال ابن كثير : فيه تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب ، فإن الله العلي الكبير وليّهن ، وهو منتقم ممن ظلمهم وبغى عليهن . وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قال : « لا تضربوا إماء الله » . فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله فقال : ذئرن النساء على أزواجهن . فرخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ضربهن ، فأطاف بآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساء كثير يشتكين أزواجهن ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن ، ليس أولئك بخياركم » . رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة .
وقوله تعالى : ? وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ? . قال السدي في قوله تعالى : ? وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا ? ، إن ضربها فأبت أن ترجع وشاقته ، يقول : عادته . وقال سعيد بن جبير يعظها : فإن انتهت وإلا هجرها ، فإن انتهت وإلا ضربها ، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلا السلطان ، فيبعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها ، فيقول الحكم الذي من أهلها : يفعل بها كذا ، ويقول الحكم الذي من أهله : تفعل به كذا ، فأيهما كان الظالم رده السلطان ، وأخذ فوق يديه ، وإن كانت ناشزًا أمره أن يخلع . وقال ابن عباس في قوله : ? إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا ? ، وذلك الحكمان ، وكذلك كل مصلح يوفقه الله للحق والصواب .
وقال البخاري : باب الشقاق : وهل يشير بالخلع عند الضرورة ؟ وقوله تعالى : ? وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا ? الآية .(2/3)
قال ابن بطال : أجمع العلماء على أن المخاطب بقوله تعالى : ? وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا ? ، الحكام ، وأن المراد بقوله : ? إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً ? ، الحكمان ، وأن الحكمين يكون أحدهما من جهة الرجل ، والآخر من جهة المرأة ، إلا أن لا يوجد من أهلهما من يصلح ، فيجوز أن يكون من الأجانب ممن يصلح لذلك ، وأنهما إذا اختلفا لم ينفذ قولهما ، وإن اتفقا نفذ في الجميع بينهما من غير توكيل . واختلفوا فيما إذا اتفقا على الفرقة : فقال مالك ، والأوزاعي ، وإسحاق : ينفذ بغير توكيل ولا إذن من الزوجين . وقال الكوفيون ، والشافعي ، وأحمد : يحتاجان إلا الإذن . فأما مالك ومن تابعه فألحقوه بالعنّين والمولى ، فإن الحاكم يطلق عليهما ، فكذلك هذا وأيضًا ، فلما كان المخاطب بذلك الحكام ، وأن الإرسال إليهم دل على أن بلوغ الغاية من الجمع أو التفريق إليهم ، وجرى الباقون على الأصل ، وهو أن الطلاق بيد الزوج ، فإن أذن في ذلك وإلا طلق عليه الحاكم ) . انتهى .
وقال الشيخ ابن سعدي : ومهما وجدا طريقًا إلى الإصلاح والاتفاق والملاءمة بينهما لم يعدِلا عنها إما بتنازل عن بعض الحقوق ، أو ببذل مال أو غير ذلك ، فإن تعذرت الطرق كلها ، ورُأي أن التفريق بينهما أصلح لتعذر الملاءمة ، فرقا بينهما بما تقتضيه الحال ، بعوض أو بغير عوض ، ولا يشترط في هذا رضى الزوج ، لأن الله سماهما حكمين لا وكيلين . ومن قال : أنهما وكيلان اشترط في التفريق رضى الزوج ، ولكن هذا القول ضعيف . ولمحبة الباري للاتفاق بينهما ، وترجيحه على الآخر قال : ? إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا ? . انتهى .
وقوله تعالى : ? إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ? .(2/4)
قال ابن جرير : يعني جل ثناؤه : ? إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً ? ، بما أراد الحكمان من إصلاح بين الزوجين وغيره ، ? خَبِيراً ? بذلك وبغيره من أمور غيرهما ، لا يخفى عليه شيء منه ، حافظ عليهم حتى يجازي كلاً منهم جزاءه ، بالإحسان إحسانًا وبالإساءة غفرانًا أو عقابًا . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس السابع والخمسون
? وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً (39) إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً (42) ? .
* * *(2/5)
قوله عز وجل : ? وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً (37) ? .
قال البغوي : قوله تعالى : ? وَاعْبُدُواْ اللّهَ ? أي : وحدوه وأطيعوه ? وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ? . ثم ساق بسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : ( كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس » ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : « حقه عليهم أن يعبدوه ولا شركوا به شيئًا . أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك » ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : « فإن حق الناس على الله أن لا يعذبهم » . قال قلت : يا رسول الله أفلا أبشر الناس ؟ قال : « دعهم يعملون » .
قوله تعالى : ? وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ? ، برًا بهما وعطفًا عليهما ، ? وَبِذِي الْقُرْبَى ? ، أي : أحسنوا ، ? بِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ? . ثم ساق بسنده عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا » وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما .
وقوله تعالى : ? وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ? . قال ابن عباس : يعني : ذا الرحم . وقال مجاهد : جارك وهو ذا قرابتك .
وقوله تعالى : ? وَالْجَارِ الْجُنُبِ ? ، قال ابن عباس : الذي ليس بينك وبينه قرابة . وقال مجاهد : البعيد في النسب وهو جار .(2/6)
وقوله تعالى : ? وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ? . قال مجاهد : صاحبك في السفر . وقال علي : هي : المرأة . وقال ابن عباس : ? الصَّاحِبِ بِالجَنبِ ? ، الملازم .
قال ابن جرير : وقد يدخل في هذا الرفيق في السفر ، والمرأة ، والمنقطع إلى الرجل الذي يلازمه رجاء نفعه ، لأن كلهم بجنب الذي هو معه وقريب منه ، وقد أوصى الله تعالى بجميعهم ، لوجوب حق الصاحب على المصحوب ؛ وساق بسنده عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن خير الأصحاب عن الله تعالى خيرهم لصاحبه ، وخير الجيران عن الله خيرهم لجاره » .
وقوله تعالى : ? وَابْنِ السَّبِيلِ ? . قال مجاهد : هو الذي يمر عليك وهو مسافر . وقال قتادة : هو الضيف .
وقوله تعالى : ? وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ? ، يعني : الأرقاء . قال مجاهد : كل هذا أوصى الله به .
وقوله تعالى : ? إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ? ، قال مجاهد : ? إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً ? متكبرًا ، ? فَخُوراً ? ، قال : بعد ما أعطي ، وهو لا يشكر الله . قال أبو رجاء : لا تجد سيِّئ الملكة إلا وجدته مختالاً فخورًا . وتلا : ? وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ? ، ولا عاقًا إلا وجدته جبارًا شقيًا ، وتلا : ? وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً ? .(2/7)
وقوله تعالى : ? الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ? . قال طاووس : البخل : أن يبخل الإنسان بما في يديه . والشح : أن يشح على ما في أيدي الناس . قال يحب أن يكون له ما في أيدي الناس بالحل والحرام لا يقنع . وقال قتادة في قوله : ? الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ? ، هم : أعداء الله أهل الكتاب ، بخلوا بحق الله عليهم ، وكتموا الإسلام ومحمدًا - صلى الله عليه وسلم - ، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل .
قال ابن كثير : والظاهر أن السياق في البخل بالمال ، وإن كان البخل بالعلم داخلاً في ذلك بطريق الأولى ، فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء .
وقوله تعالى : ? وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ? .
قال ابن كثير : فالبخيل جحود لنعمة الله ، ولا تظهر عليه ، كما قال تعالى : ? إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ? ، أي : بحاله وشمائله . وقال ها هنا : ? وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ ? ولهذا نوعدكم بقوله : ? وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ? والكفر : هو الستر والتغطية ، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها . فهو كافر لنعمة الله عليه . وفي الحديث : « أن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه » . وفي الدعاء النبوي : « واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها عليك ، قابليها ، وأتممها علينا » . انتهى ملخصًا .(2/8)
قوله عز وجل : ? وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً (39) ? .
قال السدي : نزلت في المنافقين . قال ابن كثير : ذكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء ، ثم ذكر الباذلين المرائين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة ، وأن يمدحوا بالكرم ، ولا يريدون بذلك وجه الله ، وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار وهم : العالم ، والغازي ، والمنفق المراءون بأعمالهم . ( يقول صاحب المال : ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك . فيقول الله : كذبت إنما أردت أن يقال : جواد ، فقد قيل . أي : فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك ) . وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعدي بن حاتم : « إن أباك أراد مرادًا فبلغه » . وفي حديث آخر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن عبد الله بن جدعان : هل ينفعه إنفاقه وإعتاقه ؟ فقال : « لا ، إنه لم يقل يومًا من الدهر : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين » . ولهذا قال : ? وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ ? الآية ، أي : إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان ، فإنه سول لهم وأملى لهم ، وقارنهم ، فحسن لهم القبائح ، ولهذا قال تعالى : ? وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً ? ، ولهذا قال الشاعر :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ( ... فكل قرين بالمقارَن يقتدي ((2/9)
ثم قال تعالى : ? وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ ? الآية ، أي : وأي شيء يضرهم لو آمنوا بالله ، وسلكوا الطريق الحميدة ، وعدلوا عن الرياء إلا الإخلاص والإيمان بالله ، رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله ، وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه اللتي يحبها الله ويرضاهها ؟ [ و ] قوله : ? وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً ? ، أي : وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة ، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم وإلهامه ورشده ويقبضه لعمل صالح يرضى به عنه ، وبمن يستق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الإلهي ، الذي من طرد عن بابه فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة ، عياذًا بالله من ذلك . انتهى .
قوله عز وجل : ? إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً (42) ? .
قال ابن عباس في قوله : ? مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ? ، قال : رأس نملة حمراء . وقال قتادة : كان بعض أهل العلم يقول : لأن تفضل حسناتي على سيئاتي ما يزن ذرة ، أحب إليّ من أن تكون لي الدنيا جميعًا . وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها ، الرزق في الدنيا ويجزي بها في الآخرة . وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا ، فإن كان يوم القيامة لم تكن له حسنة » . رواه ابن جرير وغيره .(2/10)
وقال سعيد بن جبير في قوله : ? وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ? ، قال : الجنة . وفي حديث الشفاعة الطويل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « فيقول الله عز وجل : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه أدنى ، أدنى ، أدنى مثقال ذرة من إيمان ، فأخرجوه من النار ، فيخرجون خلقًا كثيرًا . ثم يقول أبو سعيد : اقرؤوا إن شئتم : ? إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ? الآية ، متفق عليه .
وقوله تعالى : ? فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ? . قال ابن جريج : قوله : ? فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ ? ، قال : رسولهها ، فيشهد علينا أن قد أبلغهم ما أرسله الله إليهم . ? وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ? ، قال : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى عليها فاضت عيناه ) , وعن ابن مسعود : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : « اقرأ عليّ » . قال : يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ ! قال : « إني أحب أن أسمعه من غيري » . قال : فقرأت سورة النساء ، حتى أتيت عل هذه الآية : ? فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ? . فقال : « حسبك الآن » . فالتفت فإذا عيناه تذرفان ) . متفق عليه .(2/11)
وقوله تعالى : ? يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ? عن سعيد بن جبير قال : أتى رجل إلى ابن عباس فقال : سمعت الله يقول : ? ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلا أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ? ، وقال في آية أخرى : ? وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ? . فقال ابن عباس: أما قوله ? وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ? فإنهم لما رأوا الله لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا : تعالوا فلنجحد ، فقالوا : ? وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ? فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم ، فلا يكتمون الله حديثًا . وقال الحسن : إنها مواطن : ففي موطن لا يتكلمون ، ولا تسمع إلا همسًا ، وفي موطن يتكلمون ويكذبون ، وفي موطن يسألون الرجعة ، وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم ، وتتكلم جوارحهم . وهو قوله : ? وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الثامن والخمسون(2/12)
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ (44) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيراً (45) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً(2/13)
مُّبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً (51) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43) ? .(2/14)
روى ابن جرير عن عليّ : أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر ، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : ? قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ? فخلط فيها ، فنزلت : ? لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ? . وعن أبي رزين قال : كانوا يشربون بعدما أنزلت التي في البقرة وبعد التي في النساء ، فلما أنزلت التي في المائدة تركوها . وعن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول » . رواه البخاري ، والنسائي . وفي بعض ألفاظه : « فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه » .
وقوله تعالى : ? وَلاَ جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ ? ، قال ابن عباس : قوله : ? وَلاَ جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ ? قال : المسافر . يقول : لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إذا وجدتم الماء ، فإن لم تجدوا الماء فقد أحللت لكم أن تمسحوا بالأرض . وقال إبراهيم لا بأس أن يمر الجنب في المسجد إذا لم يكن له طريق غيره .
وقوله تعالى : ? وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ? . عن ابن أبي مليكة قال : دخل ابن عباس على عائشة فقال : كنتِ أعظم المسلمين بركة على المسلمين ، سقطت قلادتك بالأبواء فأنزل الله فيك آية التيمم . وقال ابن مسعود : المرض الذي قد أرخص له في التيمم هو : الكسير الجريح ، فإذا أصابت الجنابة الكسر اغتسل ولا يحل جراحته ، إلا جراحة لا يخشى عليها . وقال سعيد بن جبير : إذا كان به جروح أو قروح يتيمم . وقال مجاهد : والمرض أن يصيب الرجل والجرح ، والقرح ، والجدري ، فيخاف على نفسه من برد الماء وأذاه ، يتيمم بالصعيد كما يتيمم المسافر الذي لا يجد الماء .(2/15)
وقوله : ? أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُ مِّن الْغَآئِطِ ? هو كناية عن حاجة الإنسان . والغائط في الأصل : الموضع المطمئن من الأرض . قال مجاهد : ? أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُن مِّن الْغَآئِطِ ? ، قال : الغائط الوادي .
وقوله تعالى : ? أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء ? ، قال ابن عباس : هو الجماع ، ولكن الله كريم يكني . وقال ابن مسعود : القبلة من اللمس ، وفيها الوضوء . قال إبراهيم : اللمس من شهوة ينقض الوضوء . وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينال مني القبلة بعد الوضوء ، ثم لا يعيد الوضوء ) . رواه ابن جرير . وعن ابن جريج : قلت لعطاء : ? فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً ? ، قال : الطيب ما حولك . قلت : مكان جرد غير بطح أيجزئ عني ؟ قال : نعم . قال ابن جرير يعني ( بالطيِّب ) : طاهرًا من الأقذار والنجاسات . وعن أبي مالك قال . وضع عمار بن ياسر كفيه في التراب ، ثم رفعها فنفخها فمسح وجهه وكفيه ثم قال : هكذا التيمم . قال الحسن : يصلي المتيمم بتيممه ما لم يحدث . وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقول : التيمم لكل صلاة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأعدل الأقوال : التيمم لوقت كل صلاة .
قوله عز وجل : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ (44) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيراً (45) مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً (46) ? .(2/16)
قال ابن عباس : كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود ، إذا كلم رسول الله لوى لسانه وقال : راعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ، ثم طعن في الإسلام وعابه ، فأنزل الله : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ ? إلى قوله : ? فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً ? . وقال مجاهد في قوله : ? يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ? ، تبديل اليهود التوراة . وقال ابن زيد في قوله : ? وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ? ، قال : هذا قول أهل الكتاب يهود ، كهيئة ما يقول الإنسان : اسمع لا سمعت ، أذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشتمًا له واستهزاء .
وقوله تعالى : ? وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ ? ، قال الضحاك : كان الرجل من المشركين يقول : أرعني سمعك ، يلوي بذلك لسانه . يعني : يحرف معناه . قال ابن زيد : والراعن : الخطأ من الكلام .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً ? ، قال ابن زيد في قوله : ? وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ? ، قال يقولون : اسمع منا فإنا قد سمعنا وأطعنا ، وانظرنا فلا تعجل علينا .(2/17)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) ? .
قال ابن عباس : ( كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد فقال لهم : « يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا ، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق » . فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد ، وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر ، فأنزل الله فيهم : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ? الآية ) . قال إبراهيم : لما سمعها كعب الأحبار قال : يارب آمنت ، يا رب أسلمت . مخافة أن تصيبه ، ثم رجع فأتى أهله باليمن ، ثم جاء بهم مسلمين في زمان عمر .
وقوله تعالى : ? إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ? ، قال ابن عمر : كنا معشر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نشك في عذاب آكل مال اليتيم ، وشاهد الزور ، وقاطع الرحم ، حتى نزلت هذه الآية ، فأمسكنا عن الشهادة .
قوله عز وجل : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً (50) ? .(2/18)
قال الحسن في قوله : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ ? ، هم اليهود والنصارى قالوا : ? نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ? ، وقالوا : ? لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ? وقال التيمي : سألت ابن عباس عن قوله : ?وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ? ، قال : ما فتلت بين أصبعيك . وقال مجاهد : الفتيل الذي في شق النواة . وقال ابن جريج : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ ? قال : هم اليهود والنصارى ، ? انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ ? ، وعن معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ، وإن هذا المال حلو خضر ، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه ، وإياكم والتمادح فإنه الذبح » . رواه أحمد .
قوله عز وجل : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً (51) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) ? .(2/19)
قال ابن عباس في قوله : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ? ، الجبت : الأصنام . والطاغوت : الذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس . وقال عمر : الجبت : السحر . الطاغوت : الشيطان . قال ابن جرير : الجبت ، والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله ، أو طاعة ، أو خضوع من حجر ، أو إنسان ، أو شيطان .
وقوله تعالى : ? وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ? ، قال مجاهد : نزلت في كعب بن الأشرف وكفار قريش ، أنه قال : كفار قريش أهدى من محمد . وقال قتادة : قال كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ما قالا ، وهما يعلمان أنهما كاذبان ، فأنزل الله تعالى : ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ? .
وقوله تعالى : ? أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ? قال السدي : يقول : لو كان لهم نصيب من الملك إذا لم يؤتوا محمدًا نقيرًا ، والنقير : النكتة التي في وسط النواة .
وقوله تعالى : ? أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ? ، قال قتادة : حسدوا هذا الحي من العرب على ما آتاهم الله من فضله ، بعث الله منهم نبيًا ، فحسدوهم على ذلك .
وقوله تعالى : ? فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ? ، قال مجاهد : ? فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ ? ، قال : بما أنزل على محمد من يهود ، ? وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ ? .(2/20)
وقال ابن كثير : ? فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ ? ، أي : بهذا الإيتاء وهذا الإنعام ، ? وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ ? ، أي : كفر به ، وأعرض عنه ، وسعى في صد الناس عنه ، وهو منهم ، ومن جنسهم ، فقد اختلفوا عليهم ، فكيف بك يا محمد ، ولست من بني إسرايئل ؟ فالكفرة منهم أشد تكذيبًا لك ، ولهذا قال متوعدًا لهم ، ? وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ? ، أي : وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسلِه .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) ? .
قال ابن عمر في قوله : ? نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ? قال : إذا احترقت جلودهم بدلناهم جلودًا بيضًا أمثال القراطيس . قال الحسن : تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة .
وقوله تعالى : ? وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ? ، قال ابن عباس في قوله تعالى : ? لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ? قال : من الأقذار ، والأذى . وقال مجاهد : مطهرة من البول ، والحيض ، والنخام ، والبزاق ، والمني ، والولد . وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ، لا يقطعها شجرة الخلد » . رواه ابن جرير . والله أعلم .
* * *
الدرس التاسع والخمسون(2/21)
? إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً (64) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ(2/22)
أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (68) وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً (70) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) ? .
قال زيد بن أسلم : نزلت هذه الآية : ? إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ? في ولاة الأمر . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ، وأن يؤدي الأمانة ، وإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا وأن يطيعوا ، وأن يجيبوا إذا دعوا . وقال ابن جريج : قوله : ( ? إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ? نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه النبي - صلى الله عليه وسلم - مفاتيح الكعبة ودخل بها البيت يوم الفتح ، فخرج وهو يتلو هذه الآية . فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح ) .(2/23)
قال ابن جرير : جائز أن تكون نزلت فيه ، وأريد به كل مؤتمن على أمانة ، فدخل فيه ولاة أمور المسلمين ، وكل مؤتمن على أمانة في دين أو دنيا .
وقال ابن كثير : وهذا من المشهورات ، إن هذه الآية نزلت في ذلك ، يعني : مفتاح الكعبة . وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا ، فحكمها عام ، ولهذا قال ابن عباس : هي للبر والفاجر ، أي : هي أمر كل أحد بأداء الأمانة . وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لتؤدن الحقوق إلى أهلها ، حتى يقتص للشاة الجمّاء من القرناء » . وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال : « ألا لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له » . رواه البغوي .
وقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ? . قال أبو هريرة : هم الأمراء . وقال ابن عباس : يعني : أهل الفقه والدين .
قال ابن كثير : والظاهر والله أعلم : أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء .
وقوله تعالى : ? فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ? . قال مجاهد : في قوله : ? فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ? ، قال : كتاب الله وسنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ? ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ? ، قال : أحسن جزاء . وقال قتادة : أحسن ثوابًا وخيرٌ عاقبة .(2/24)
قوله عز وجل : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً (64) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (65) ? .(2/25)
قال الشعبي : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة ، فكان المنافق يدعوا إلى اليهود لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة ، وكان اليهودي يدعوا إلى المسلمين لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة ، فأنزل الله فيه هذه الآية : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ? حتى بلغ : ? وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ? وقال قتادة : وذكر لنا أن اليهودي كان يدعوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحكم بينهما ، وقد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لن يجور عليه ، فجعل الأنصاري يأبى عليه ، وهو يزعم أنه مسلم ، ويدعوه إلى الكاهن ، فأنزل الله تبارك وتعالى ما تسمعون ، فعاب ذلك على الذي يزعم أنه مسلم ، وعلى اليهودي الذي هو من أهل الكتاب ، فقال : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ? إلى قوله : ? صُدُوداً ? .
وقوله تعالى : ? فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ? ، يعني : عقوبة حدودهم . ? ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا ? ، ما أردنا بالعدول ? إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ? ، أي : المداراة والمصانعة . ? أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ? من النفاق ، ? فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ? . قال الحسن : القول البليغ أن يقول لهم : إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قتلتم .
وقوله تعالى : ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ? . قال مجاهد : واجب لهم أن يطيعهم من شاء الله ، لا يطيعهم أحد إلا بإذن الله .(2/26)
قال ابن جرير : وإنما هذا تعريض من الله تعالى ذكره لهؤلاء المنافقين ، بأن تركهم طاعة الله ، وطاعة رسوله والرضى بحكمه ، إنما هو للسابق لهم من خذلانه وغلبته الشقاء عليهم .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً ? . قال مجاهد : عني بذلك : اليهود والمسلم اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف .
قوله تعالى : ? فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ? . قال مجاهد : هذا الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف . وعن الزبير بن العوام : أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهدًا بدرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل . فقال الأنصاري : سرّح الماء يمر فأبى عليه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « استق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك » . فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله إن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : « استق يا زبير ثم احبس الماء حتى يصل إلى الجِدْر » واستوعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك أشار على الزبير ، بل أي : أراد فيه الشفقة له وللأنصاري ، فلما أحفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصاري استوعب للزبير حقه في صريح الحكم . قال فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك ? فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ? الآية . رواه ابن جرير . وفي رواية : ثم قال : « يا زبير احبس الماء إلى الجدر أو إلى الكعبين ، ثم خل سيل الماء » .(2/27)
قال ابن جرير : غير مستحيل أن تكون الآية نزلت في قصة المحتكمين إلى الطاغوت ، ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاري إذ كانت الآية دالة على ذلك .
قوله عز وجل : ? وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (68) وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً (70) ? .
عن مجاهد : ? وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم ? كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضًا بالخناجر لم يفعلوا ، ? إِلا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ? . وقال أبو إسحاق السبيعي : ( لما نزلت : ? وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ? ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : « إن من أمتي لرجالاً ، الإِيمان أثبت في قلوبهم من الجبل الرواسي » ) .(2/28)
وقوله تعالى : ? وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ ? ، يؤمرون به من طاعة الرسول والرضى بحكمه ، ? لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ? ، أي : تصديقًا . قال السدي : ? وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ? ، يعني : الجنة . ? وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ? في الدنيا والآخرة .
وقوله تعالى : ? وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ? . عن مسروق قال : قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا ، فإنك لو قدّمت رفعت فوقنا فلم نرك ، فأنزل الله : ? وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ ? الآية . وعن ربيعة بن كعب الأسلمي قال : كنت أبيت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي : « سل » . فقلت : يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة . فقال : « أوَ غير ذلك » ؟ قلت : هو ذاك . قال : « فأعنّي على نفسك بكثرة السجود » . رواه مسلم .
وقوله تعالى : ? ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ ? ، أي : برحمته وفضله نالوا ذلك . ? وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً ? ، أي : هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق . وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « قاربوا وسددوا ، واعلموا أنه لا ينجو أحد منكم بعمله » . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : « ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة » . رواه البغوي وغيره . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس الستون(2/29)
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ(2/30)
حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً (79) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) ? .
عن ابن عباس قوله : ? خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ ? ، يقول : عصبا ، يعني : سرايا متفرقين . ? أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً ? ، يعني : كلكم . وقال قتادة : الثبات الفِرَق .
وقوله تعالى : ? وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً ? . قال ابن جريج : المنافق يبطّيء المسلمين عن الجهاد في سبيل الله ، قال الله : ? فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ ? . قال : بقتل العدو من المسلمين ، ? قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً ? . قال : هذا قول الشامت .(2/31)
وقوله تعالى : ? وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ? .
قال ابن جرير : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين ، أن شهودهم الحرب مع المسلمين إن شهدوها لطلب الغنيمة ، وإن تخلفوا عنها فللشك الذي في قلوبهم ، وأنهم لا يرجون لحضورها ثوابًا ولا يخافون بالتخلف عنها من الله عقابًا . وكان قتادة وابن جريج يقولان : إنما قال من قال من المنافقين إذا كان الظفر للمسلمين : ? يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ ? ، حسدًا منهم لهم .
وقال البغوي : ( قوله تعالى : ? وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ ? ، نزلت في المنافقين وإنما قال : ? مِنكُمْ ? لاجتماعهم مع أهل الإِيمان في الجنسية والنسب وإظهار الإِسلام ، لا في حقيقة الإيمان . ? لَّيُبَطِّئَنَّ ? ، أي : ليتأخرن ، وليتثاقلن ، عن الجهاد . ? فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ ? أي : قتل وهزيمة ، ? قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ ? بالقعود ، ? إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً ? ، أي : حاضرًا في تلك الغزاة فيصيبني ما أصابهم . ? وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله ? فتح وغنيمة ، ? لَيَقُولَنَّ ? هذا المنافق ، وفيه تقديم وتأخير .
وقوله تعالى : ? كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ? متصل بقوله : ? فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ? ، أي : معرفة ، أي : ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم في تلك الغزاة ، فأفوز فوزا عظيماً ، أي : آخذ نصيبًا وافرًا من الغنيمة ) . انتهى ملخصاً .(2/32)
وقوله تعالى : ? فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ? . قال السدي : يقول : يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة . ? وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ? ، أي : كل من قاتل في سبيل الله سواء قتل أو غلب ، فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل .
قوله عز وجل : ? وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) ? .
قال السدي : ? وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ? ، يقول : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي المستضعفين ، وأما القرية : فمكة . وقال ابن شهاب : ? وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ ? . قال : في سبيل الله ، وسبيل المستضعفين . قال ابن عباس : هم : أناس مسلمون كانوا بمكة ، لا يستطيعون أن يخرجوا منها ليهاجروا فعذرهم الله .(2/33)
وقوله تعالى : ? الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ? .
قال البغوي : قوله تعالى : ? الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ? ، أي : في طاعته ، ? وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ? ، أي : في طاعة الشيطان ، ? فَقَاتِلُواْ ? أيها المؤمنون ، ? أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ ? ، أي : حزبه ، وجنوده ، وهم : الكفار ، ? إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ ? مكره ، ? كَانَ ضَعِيفاً ? كما فعل يوم بدر لما رأى الملائكة خاف أن يأخذوه ، فهرب وخذلهم .
قوله عز وجل : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً (79) ? .(2/34)
عن قتادة : قوله : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ? فقرأ حتى بلغ : ? إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ? أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذٍ بمكة قبل الهجرة ، تسرعوا إلى القتال ، وسارعوا إليه ، فقالوا : لنبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ذرنا نتخذ معاول فنقتل بها المشركين بمكة ، فنهاهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك . قال : ثم أمر بذلك فلما كانت الهجرة وأمر بالقتال كره القوم ذلك فصنعوا فيه ما تسمعون ، فقال الله تبارك وتعالى : ? مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ? . وقال السدي في قوله : ? لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ? ، هو : الموت .
وقوله تعالى : ? أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ? . قال قتادة : في قصور محصنة .
قال ابن جرير : يقول : لا تجزعوا من الموت ولا تهربوا من القتال ، وتضعفوا عن لقاء عدوكم ، حذرًا على أنفسكم من القتل والموت ، فإن الموت بإزائكم أين كنتم ، وواصل إلى أنفسكم حيث كنتم ، ولو تحصنتم منه بالحصون المنيعة .
وقال عدي بن زيد العبادي في أبياته المشهورة :
من رأيت المنون خلّد أم من ( ... ذا عليه من أن يضام خفير (
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ( ... وإن أم أين قلبه سابور (
وأخو الحضر إذ بناه وإذ ( ... دجلته تجبى إليه والخابور (
شاده مرمرًا وجلله كلسًا ( ... فلِلطّير في ذُراه وُكور (
لم يُهِبه ريبُ المنون فباد ( ... المُلك عنه فبابه مهجور (
وقال آخر :
أرى الموت لا يبقي عزيزًا ولم يدع ( ... لعاد ملاذًا في البلاد ومربعًا (
يبيت أهل الحصن والحصن مغلق ( ... ويأتي الجبال في شماريخها معًا ((2/35)
وقوله تعالى : ? وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ? .
قال البغوي : نزلت في اليهود ، والمنافقين ، وذلك أنهم قالوا لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه . وقال ابن زيد في قوله : ? وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ ? ، فقرأ حتى بلغ : ? وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً ? ، قال : إن هذه الآيات نزلت في شأن الحرب فقرأ : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً ? ، فقرأ حتى بلغ : ? وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ ? عند محمد عليه السلام ، أساء التدبير وأساء النظر ، ما أحسن التدبير ولا النظر . ? قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ ? ، النصر ، والهزيمة . وقال ابن عباس : ? قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ? ، يقول : الحسنة والسيئة من عند الله ، أما الحسنة فأنعم بها عليك ، وأما السيئة فابتلاك بها .(2/36)
وقوله تعالى : ? مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ? . قال السدي : من ذنبك . قال قتادة : وذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : « لا يصيب رجلاً خدش عودٍ ، ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق ، إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر » . قال قتادة : ? كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ ? ، النعم ، والمصيبات . وعن أبي صالح في قوله : ? وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ? . قال : بذنبك ، وأنا قدَّرْتُها عليك .
قال البغوي : والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمراد غيره نظيره . قوله : ? وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ? .
وقوله تعالى : ? وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً ? ، أي : على إرسالك ، وصدقك ، وتبليغك ما أنزل إليك . والله أعلم .
* * *
الدرس الحادي والستون(2/37)
? مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82) وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (84) مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً (85) وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً (87) ? .
* * *(2/38)
قوله عز وجل : ? مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81) ? .
في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ، ومن عصى الأمير فقد عصاني » . وعن ابن عباس قوله : ? وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ? ، وهم ناس يقولون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : آمنا بالله ورسوله ، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم ، وإذا برزوا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالفوا إلى غير ما قالوا عنده فعابهم الله فقال : ? بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ? ، يقول : يغيرون ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال البغوي : ? فَإِذَا بَرَزُواْ ? خرجوا ، ? مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ? ، قال قتادة والكلبي : ? بَيَّتَ ? ، أي : غيّر وبدّل الذي عهد إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويكون التبييت بمعنى : التبديل . وقال أبو عبيدة ، والقتيبي : معناه قالوا وقدروا ليلاً غير ما أعطوك نهارًا ، وكل ما قدر بليل فهو مبيّت .
وقال ابن كثير : ? بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ? ، أي : استسروا ليلاً فيما بينهم بغير ما أظهروه لك .
قوله تعالى : ? وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ? ، أي : يحفظه عليهم فيجازيهم . ? فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ? فإنه كافيك ، ? وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ? .(2/39)
قوله عز وجل : ? أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82) وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (84) ? .
عن الضحاك في قوله : ? أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ? ، قال : يتدبرون النظر فيه . وقال ابن زيد : إن القرآن لا يكذب بعضه بعضًا ، ولا ينقض بعضه بعضًا ، ما جهل الناس من أمر فإنما هو من تقصير عقولهم وجهالتهم ، وقرأ : ? وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ? . وقال قتادة : أي : قول الله لا يختلف ، وهو حق ليس فيه باطل ، وإن قول الناس يختلف .(2/40)
وقوله تعالى : ? وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ? قال السدي يقول : إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوهم وأنهم خائفون منهم ، أذاعوا بالحديث حتى يبلغ عدوهم أمرهم . ? وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ ? ، يقول : ولو سكتوا وردوا الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى أولي أمرهم حتى يتكلم هو به ? لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ ? ، يعني : عن الأخبار ، وهم الذين ينفرون عن الأخبار . وقال ابن جريج : ? وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ ? حتى يكون هو الذي يخبرهم ? وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ ? ، الفقه في الدين والعقل . وقال مجاهد : ? لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ? ، الذين يسألون عنه ويتحسسونه .
وقوله تعالى : ? وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ? ما تبعتم الشيطان إلا قليلاً . قال قتادة : يقول : ? لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ ? كلكم . وقال الضحاك : هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كانوا حدثوا أنفسهم بأمور من الشيطان ، إلا طائفة منهم .
وقوله تعالى : ? فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ? . قال قتادة : أي : عقوبة .(2/41)
قال البغوي : ( قوله تعالى : ? فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ ? وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واعد أبا سفيان بعد حرب أُحُد ، موسم بدر الصغرى في ذي القعدة ، فلما بلغ الميعاد ، دعا الناس إلى الخروج ، فكرهه بعضهم ، فأنزل الله عز وجل : ? فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ ? ، أي : لا تدع جهاد العدو ، والاستنصار للمستضعفين من المؤمنين ، ولو وحدك ، فإن الله قد وعدك النصرة ، ? وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ? على القتال أي : حضهم على الجهاد ورغبهم في الثواب ، ? عَسَى اللّهُ ? ، أي : لعل الله ? أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ? ، أي : قتال المشركين ، وعسى من الله واجب . ? وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً ? ، أي : أشد صولة وأعظم سلطانًا ، ? وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ? ، أي : عقوبة ) . انتهى ملخصًا .
قوله عز وجل : ? مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً (85) وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً (87) ? .(2/42)
عن مجاهد في قوله : ? مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا ? قال : شفاعة بعض الناس لبعض . قال الحسن : ? مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً ? كتب له أجره ما جرت منفعتها . وقال قتادة : ? مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا ? ، أي : حفظ منها ، ? وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا ? والكفل : هو الإِثم . وقال ابن عباس : الشفاعة الحسنة هي : الإِصلاح بين الناس ، والشفاعة السيئة هي : المشي بالنميمة . وعن أبي موسى رضي الله عنه قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه رجل يسأل ، أو طالب حاجة ، أقبل علينا بوجهه فقال : « اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء » . رواه البغوي وغيره .
وقوله تعالى : ? وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً ? ، قال مجاهد : شهيدًا : حسيبًا حفيظًا . وقال ابن عباس : المقيت : القدير .
وقوله تعالى : ? وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ? . قال السدي : إذا سلم عليك أحد فقل أنت : وعليك السلام ورحمة الله ، أو تقطع إلى : السلام عليك كما قال لك . وقال قتادة : ? فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا ? للمسلمين ، ? أَوْ رُدُّوهَا ? على أهل الكتاب .
وقال ابن كثير : قوله : ? وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ? ، أي : إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم ، أو ردوا عليه بمثل ما سلم ، فالزيادة مندوبة ، والمماثلة مفروضة . وقال الحسن : السلام تطوع ، والرد فريضة .(2/43)
وقوله تعالى : ? اللّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً ? .
قال البغوي : ? اللّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ? ، اللام لام القسم . تقديره : والله ليجمعنكم في الموت وفي القبور ، ? إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ? ، القيامة قيامة لأن الناس يقومون من قبورهم . قال الله تعالى : ? يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً ? وقيل : لقيامهم إلى الحساب . قال الله تعالى : ? يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ? ، ? لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً ? ، أي : قولاً ووعدًا . والله أعلم .
* * *
الدرس الثاني والستون(2/44)
? فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (89) إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً (91) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ(2/45)
تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (89) إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) ? .
عن زيد بن ثابت قال : ذكروا المنافقين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال فريق : نقتلهم ، وقال فريق : لا نقتلهم ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ? فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ? إلى آخر الآية . وقال ابن عباس : ? وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ ? أرداهم . وقال قتادة : أهلكهم بما عملوا . ? أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ? ، أي : طريقًا إلى الحق .(2/46)
وقوله تعالى : ? وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ? . قال السدي : إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم .
وقوله تعالى : ? إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ? ، قال السدي : فإن أحد منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق ، فأجروا عليه مثل ما تجرون على أهل الذمة .
وقوله تعالى : ? أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ ? .
قال ابن جرير : معناه : أو جاءوكم قد حصرت صدورهم . قال السدي : يقول : رجعوا فدخلوا فيكم . ? حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ? يقول : ضاقت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ? عن الربيع : ? فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ? . قال : الصلح . وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية : ( فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم ، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم ) .
قوله عز وجل : ? سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً (91) ? .(2/47)
عن مجاهد : ? يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ ? قال : ناس كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسلمون رياء ، فيرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا ها هنا ، وها هنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا .
وقوله : ? وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ? ، أي : حجة ظاهرة . قال عكرمة : ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة .
قوله عز وجل : ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93) ? .
عن قتادة : قوله : ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَئاً ? يقول : ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه من عهد الله الذي عهد إليه .(2/48)
قال ابن جرير : وأما قوله : ? إِلا خَطَئاً ? فإنه يقول : إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ ، وليس له مما جعل ربه ، وهذا من الاستثناء الذي تسميه أهل العربية : الاستثناء المنقطع . قال عكرمة : كان الحارث بن يزيد بن نبيشة من بني عامر بن لؤي ، يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ، ثم خرج الحارث بن يزيد مهاجرًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلقيه عياش بالحرة ، فعلاه بالسيف حتى سكت ، وهو يحسب أنه كافر ، ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبر ، ونزلت : ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَئاً ? الآية ، فقرأها عليه ثم قال : « قم فحرر » .
وقال الشعبي في قوله : ? فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ? قال : قد صلَّت وعرفت الإيمان . وقال عطاء : كل رقبة ولدت في الإسلام فهي تجزي .
قال ابن جرير : وأما الدية المسلمة إلى أهل القتيل فهي المدفوعة إليهم على ما وجب لهم ، موفرة غير منقصة .
وقوله تعالى : ? فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ? . قال إبراهيم : هو الرجل يسلم في دار الحرب فيقتل ، قال : ليس فيه دية وفيه الكفارة .
وقوله تعالى : ? وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً ? . قال إبراهيم : هذا الرجل المسلم ، وقومه مشركون لهم عقد ، فتكن ديته لقومه ، وميراثه للمسلمين ، ويعقل عنه قومه ولهم ديته . وقال ابن عباس : يقول : إذا كان كافرًا في ذمتكم ، فعلى قاتله الدية ، مسلمة إلى أهله ، وتحرير رقبة مؤمنة ، أو صيام شهرين متتابعين .(2/49)
قال ابن كثير : وقوله : ? وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ ? الآية ، أي : فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة ، أو هدنة ، فلهم دية قتلهم ، فإن كان مؤمنًا فدية كاملة ، وكذا إن كان كافرًا أيضًا عند طائفة من العلماء . وقيل : يجب في الكافر نصف دية المسلم ، وقيل : ثلثها . ويجب أيضًا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة .
وقوله تعالى : ? فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ? .
قال ابن كثير : ? فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ? ، أي : لا إفطار بينهما بل يسرد صومهما إلى آخرهما ، فإن أفطر من غير عذر استأنف .
وقوله : ? تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ? ، أي : هذه التوبة القاتل خطأ ، إذ لم يجد العتق صام شهرين متتابعين .(2/50)
وقوله تعالى : ? وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ? . قال عطاء : العمد السلاح . وقال إبراهيم : إذا خنقه بحبل حتى يموت ، أو ضربه بخشبة حتى يموت فهو القود . وقال طاوس : من قتل في عصبية في رمي يكون منهم بحجارة ، أو جلد بالسياط أو ضربٍ بالعصيّ ، فهو خطأ ديته دية الخطأ ، ومن قتل عمدًا فهو قود يديه . قال ابن عباس : أكبر الكبائر الإِشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، لأن الله سبحانه يقول : ? فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ? . وقال أبو صالح في قوله : ? وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ ? ، قال : جزاؤه أن جازاه خلّده في النار ، وإن شاء غفر له . وقد قال الله تعالى : ? إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ? .
وقال الشيخ ابن سعدي : ( وأحسن ما يقال أن ذكر الخلود على بعض الذنوب التي دون الشرك والكفر ، أنها من باب ذكر السبب ، وأنها سبب لخلود في النار لشفاعتها ، وأنها بذاتها توجب الخلود إذا لم يمنع من الخلود مانع ، ومعلوم بالضرورة من دين الإِسلام ، أن الإِيمان مانع من الخلود ، فتنزل هذه النصوص على الأصل المشهور ، وهو أنه لا تتم الأحكام إلا بوجوب شروطها وأسبابها وانتفاء موانعها ، وهذا واضح ولله الحمد ) . انتهى .(2/51)
قال ابن كثير : فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك ، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها لتقوية الرجاء . والله أعلم . وثبت في الصحيحين : ( خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ثم سأل عالمًا : هل لي من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه ، فهاجر إليه فمات في الطريق ، فقبضته ملائكة الرحمة ) .
قال : واختلف الأئمة : هل تجب عليه كفارة ؟ على قولين : فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون : نعم ؛ لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ ، فلأن تجب عليه في العمد أولى . وقال أصحاب الإمام أحمد وآخرون : قتل العمد أعظم من أن يكفر ، فلا كفارة فيه . وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد ، بما رواه الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفر من بني سليم فقالوا : إن صاحبًا لنا قد أوجب . قال : « فليعتق رقبة ، يفدي الله بكل عضو منها عضو منه من النار » . وفي رواية أبي داود : أتينا رسول الله في صاحب لنا قد أوجب - يعني النار بالقتل - . فقال : « أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النار » انتهى ملخصًا . والله أعلم .
* * *
الدرس الثالث والستون(2/52)
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً (97) إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (100) ? .
* * *(2/53)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) ? .
عن ابن عباس قال : لحق ناس من الناس رجلاً في غنيمة له فقال : السلام عليكم فقتلوه وأخذوا تلك الغنيمة ، فنزلت هذه الآية : ? وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? ، تلك الغنيمة .
وقال سعيد بن جبير في قوله : ? كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ ? ، تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الرعي بإيمانه ، ? فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ ? ، فأظهر الإِسلام ، ? فَتَبَيَّنُواْ ? ، قال ابن جرير : يقول : فتأنّوا في قتل من أشكل عليكم أمره ، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره .
قوله عز وجل : ? لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (96) ? .(2/54)
عن زيد بن ثابت : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنزل عليه : [ لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل اللّه ] ، قال : فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها عليّ فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، قال : فأنزل عليه ، وفخذه على فخذي فثقلت ، فظننت أن ترضّ فخذي ، ثم سرّي عنه فقال : ? غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ? ، رواه ابن جرير وغيره .
وقوله تعالى : ? فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ? ، قال ابن جريج : على أهل الضرر ، ? وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى ? ، قال قتادة : هي : الجنة ، ? وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ? . في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال : « إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض » .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً (97) إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (100) ? .(2/55)
قال ابن عباس : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون : كانوا أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا ، فاستغفروا لهم ، فنزلت : ? إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ? الآية ، وقال : ( كنت أنا وأمي من عذر الله ) .
قال البغوي : ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لا هجرة بعد الفتح » .
وقال ابن كثير : هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين ، وهو قادر على الهجرة ، وليس متمكنًا من إقامة الدين ، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع ، ونص هذه الآية .
وقوله تعالى : ? وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ? ، قال قتادة : لما أنزل الله هؤلاء الآيات ، ورجل من المؤمنين يقال له ضمرة بمكة ، قال : والله إني لي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها ، وأني لأهتدي ، أخرجوني - وهو مريض حينئذٍ - فلما جاوز المحرم قبضه الله فمات ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ? وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ ? الآية ، وقال ابن عباس في قوله : ? مُرَاغَماً كَثِيراً ? ، المراغم : التحول من أرض إلى أرض ، وقال مجاهد : متزحزحًا عما يكره ، وقال السدي : مبتغي للمعيشة ، وقال قتادة : ? يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ? أي : والله ، من الضلالة إلى الهدى ، ومن العيلة إلى الغنى .(2/56)
قال البغوي : وقال أبو عبيدة : المراغم : المهاجر ، يقال : راغمت قومي وهاجرتم ، وهو المضطرب والمذهب ، قيل : سميت المهاجرة : مراغمة ؛ لأن من يهاجر يراغم قومه ، ? وَسَعَةً ? ، أي : في الرزق . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس الرابع والستون
? وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً (101) وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً (103) وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) ? .
* * *(2/57)
قوله عز وجل : ? وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً (101) ? .
عن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب : ? فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ? وقد أمن الناس ! فقال : عجبت مما عجبت حتى سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : « صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته » . رواه ابن جرير وغيره .
وعن مجاهد عن أبي عياش الزرقي قال : ( كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفان ، وعلى المشركين خالد بن الوليد ، قال : فصلينا الظهر ، فقال المشركون : كانوا على حال لو أردنا لأصبنا غرة لأصبنا غفلة . فأنزلت آية القصر بين الظهر ، والعصر ، فأخذ الناس السلاح وصفوا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبلي القبلة ، والمشركون مستقبليهم ، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبروا جميعًا ، ثم ركع وركعوا جميعًا ، ثم رفع رأسه ورفعوا جميعًا ، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونهم ، فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء ، ثم نكص الصف الذي يليه وتقدم الآخرون فقاموا في مقامهم ، فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركعوا جميعًا ، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعًا ، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه ، وقام الآخرون يحرسونهم ، فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء الآخرون ، ثم استووا معه فقعدوا جميعًا ، ثم سلم عليهم جميعًا , فصلاها بعسفان ، وصلاها يوم بني سليم ) .(2/58)
وعن ابن عباس قال : ( فرض الله الصلاة على لسان نبيكم عليه السلام في الحضر أربعًا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ) وقال أيضًا : قصر الصلاة إن لقيت العدو وقد حانت الصلاة أن تكبر الله ، وتخفض رأسك إيماء ، راكبًا كنت أو ماشيًا .
قوله عز وجل : ? وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً (103) ? .
عن صالح بن خوات عمن صلّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف يوم ذات الرقاع : ( أن طائفة صلَّت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وطائفة وجاه العدو ، فصلَّى بالذين معه ركعة ، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم ، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلَّى بهم الركعة التي بقيت ، ثم ثبت جالسًا فأتموا لأنفسهم ) . متفق عليه . قال الإمام أحمد : صحّت صلاة الخوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ست صفات أو سبع ، كلها جائزة ، وكان يعجبه هذا الحديث لأنه موافق للآية .(2/59)
وقوله تعالى : ? فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ? . عن مجاهد في قوله : ? فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ? قال : أتموها . وعن عطية العوفي في قوله : ? إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ? ، قال : فريضة مفروضة . وقال ابن مسعود : إن للصلاة وقتًا كوقت الحج . وعن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن سائلاً أتاه فسأله عن مواقيت الصلاة قال : فلم يرد عليه شيئًا ، ثم أمر بلالاً فأذّن ، ثم أمره فأقام الصلاة حين انشق الفجر فصلَّى ، ثم أمره فأقام الظهر ، والقائل يقول : قد زالت الشمس أو لم تزل وهو كان أعلم منهم ، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية ، ثم أمره فأقام المغرب حتى غابت الشمس ، ثم أمره فأقام العشاء حين سقط الشفق . وقال : وصلَّى الفجر من الغد والقائل يقول : طلعت الشمس ولم تطلع ، وصلى الظهر قريبًا من وقت العصر بالأمس ، وصلى العصر والقائل يقول : قد احمرت الشمس ، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق ، وصلَّى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل الأول . ثم قال : « أين السائل عن وقت الصلاة » ؟ فقال الرجل : أنا يا رسول الله . قال : « ما بين هذا الوقتين وقت » . رواه البغوي وغيره .
قوله عز وجل : ? وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( 104) ? .
قال قتادة : يقول : لا تضعفوا في طلب القوم ، فإنكم إن تكونوا تتجعون فإنهم يتجعون كما تتجعون ، ? وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ ? من الأجر والثواب ? مَا لاَ يَرْجُونَ ? .(2/60)
وقال البغوي : قوله تعالى : ? وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ ? الآية ، سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا يوم أحد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طائفة في آثارهم ، فشكوا ألم الجراحات ، فقال الله تعالى : ? وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ ? ، أي : لا تضعفوا في طلب القوم أبي سفيان وأصحابه ? إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ ? تتوجعون من الجراح ، ? فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ ? ، أي : يتوجعون يعني : الكفار ، ? كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ? ، أي : وأنتم مع ذلك تأملون من الأجر والثواب في الآخرة ، والنصر في الدنيا ما لا يرجون .
? وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ? .
قال ابن كثير : أي : هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه وينفذه ويمضيه ، من أحكامه الكونية والشرعية ، وهو المحمود على كل حال . والله أعلم .
* * *
الدرس الخامس والستون(2/61)
? إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (106) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً (110) وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (112) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ(2/62)
مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً (115) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (106) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) ? .
في الصحيحين عن أم سلمة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع جلبة خصم بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : « ألا إنما أنا بشر ، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار ، فليحملها أو يذرها » .
وعن قتادة : بن النعمان قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق : بشر وبشير ومبشر ، وكان بشير رجلاً منافقًا ، وكان يقول : الشعر يهجو به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ينحله بعض العرب ، ثم يقول : قال فلان : كذا ، وقال فلان : كذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث ، فقال :
أو كلما قال الرجال قصيدة ( ... أصموا وقالوا ابن الأبيرق قالها ((2/63)
قال : وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت قافلة من الشام بالدرمك ، ابتاع الرجل منهم فخص به نفسه ، فأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير . فقدمت قافلة من الشام ، وابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك ، فجعله في مشربة له ، وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما ، فعدا عديّ من تحت الليل فنقب المشربة وأخذ الطعام والسلاح ، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي تعلم أنه قد عديّ علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا ، فذهب بسلاحنا وطعامنا . قال : فتجسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم .
قال : وقد كان بنو أبيرق قالوا : ونحن نسأل في الدار : والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل ، رجل منا له صلاح وإسلام ، فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال : والله ليخالطنكم هذا السيف ولتبين هذه السرقة ، قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فوالله ما أنت بصاحبها . فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ، فقال عمي : يا ابن أخي لو أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له .(2/64)
قال قتادة : فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقلت : يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء ، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه ، فليردوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام فلا حاجة لنا به . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « سأنظر في ذلك » . فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة ، فكلموه في ذلك ، واجتمع إليه ناس من أهل الدار ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا ، أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت .(2/65)
قال قتادة : فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمته فقال : « عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت » ؟ ! قال : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ، ولم أكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك . فأتيت عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الله المستعان . فلم يلبث أن نزل القرآن : ? إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ? ، يعني : بني أبيرق ، ? وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ ? ، أي : مما قلت لقتادة : ? إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ? ، ? وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ? أي : بني أبيرق ، ? إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ ? إلى قوله : ? ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ? ، أي : أنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم . ? وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ? قولهم للبيد . ? وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ ? ، يعني : أسيرًا وأصحابه . ? وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ? إلى قوله : ? فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ? ، فلما نزل القرآن أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسلاح فرده إلى رفاعة .(2/66)
قال قتادة : فلما أتيت عمي بالسلاح ، وكان شيخًا قد عسا في الجاهلية ، وكنت أرى إسلامه مدخولاً ، فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي هو في سبيل الله . قال : فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا . فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين ، فنزل على سلاقة بنت سعد بن سمية ، فأنزل الله فيه : ? وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ? إلى قوله : ? وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ? . فلما نزل على سلاقة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ، ثم خرجت فرمته بالأبطح ، ثم قالت : ( أهديت إليّ شعر حسان ، كنت تأتيني بخير ) . رواه ابن جرير وغيره .
قوله عز وجل : ? وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً (110) وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (112) ? .
عن ابن عباس قوله : ? وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ? ، قال : أخبر الله عباده بحلمه ، وعفوه ، وكرمه ، وسعة رحمته ، ومغفرته ، فمن أذنب ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرًا ، ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا ، ولو كانت ذنوبه أعظم من السماوات والأرض والجبال .(2/67)
وقوله تعالى : ? وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ? ، كقوله : ? وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ? .
وقوله تعالى : ? وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ? ، وهذا عام في بني أبيرق وفي غيرهم .
قوله عز وجل : ? وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً (115) ? .
عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام ، والصلاة ، والصدقة » ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : « إصلاح ذات البين » ، قال : « وفساد ذات البين هي : الحالقة » . رواه أحمد وغيره .
وقال مجاهد في قوله : ? وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ? ، قال : من آلهة الباطل .(2/68)
قال البغوي : ? وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ? أي : يخالفه ، ? مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ? من التوحيد والحدود ، ? وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ? ، أي : غير طريق المؤمنين ، ? نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ? ، أي : نكله في الآخرة إلى ما تولى في الدنيا ، ? وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً ?
قال ابن كثير : أي : إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك ، بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجًا له ، كما قال تعالى : ? فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ? ، وقال تعالى : ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ? . انتهى . والله أعلم .
* * *
الدرس السادس والستون(2/69)
? إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (116) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلا إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَّرِيداً (117) لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً (120) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً (122) لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125) وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً (126) ? .
* * *(2/70)
قوله عز وجل : ? إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (116) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلا إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَّرِيداً (117) لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً (120) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121) ? .
قال علي رضي الله عنه : ما في القرآن آية أحب لي من هذه الآية يعني : ? إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ? . وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما من نفس تموت لا تشرك بالله شيئًا ، إلا حلت لها المغفرة ، إن شاء الله عذبها ، وإن شاء الله غفر لها ? إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ? » . رواه ابن أبي حاتم وغيره .
وقوله تعالى : ? إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلا إِنَاثاً ? . قال ابن زيد : آلهتهم : اللات ، والعزى ، ويساف ، ونائلة . هم : إناث يدعونهم من دون الله ، وقرأ : ? وَإِن يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَّرِيداً ? . وقال قتادة : ? إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلا إِنَاثاً ? ، أي : إلا ميتًا لا روح فيه . وعن مجاهد في قوله : ? إِنَاثاً ? . قال : أوثانًا .(2/71)
وقوله تعالى : ? وَإِن يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَّرِيداً ? ، قال قتادة : تمرد على معاصي الله .
وقوله تعالى : ? لَّعَنَهُ اللّهُ ? ، أي : أخزاه ، وأقصاه ، وأبعده .
وقوله تعالى : ? وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ ? ، عن الضحاك : نصيبًا . قال : معلومًا . وعن قتادة في قوله : ? وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ ? ، قال : البتك في البحيرة والسائبة ، كانوا يبتكون آذانها لطواغيتهم . وقال عكرمة : دين شرعه لهم إبليس . وعن مجاهد في قوله : ? وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ ? . قال : الفطرة دين الله . وقال ابن مسعود : ( لعن الله : الواشمات ، والمتوشمات ، والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله ) . وقال عكرمة : ? فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ ? ، بالخصاء ، والوشح ، وقطع الآذان .
قال القرطبي : الخصاء في غير بني آدم ممنوع في الحيوان ، إلا لمنفعة خاصة في ذلك ، كتطييب اللحم ، أو قطع ضرر عنه . قال الحافظ ابن حجر : والنهي عن الخصاء نهي تحريم في بني آدم بلا خلاف .
قوله عز وجل : ? وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً (122) ? .(2/72)
يقول تعالى : ? وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ? ، أي : صدقت قلوبهم ، وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات ، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات ، ? سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? ، ويصرفونها حيث شاءوا ، ? خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ? ، أي : بلا زوال ولا انتقال . ? وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ? ، أي : لا أحد أصدق منه قولاً ، فوعده واقع لا محالة .
قوله تعالى : ? لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125) وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً (126) ? .(2/73)
قال قتادة : ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا . فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتبنا قبل كتابكم ، ونحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون : نحن أولى بالله ، نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله . فأنزل الله : ? لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ? إلى قوله : ? وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ? ، ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان . وعن مجاهد في قوله : ? لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ? . قال : قريش ، وكعب بن الأشرف ، ? مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ? .
قال ابن كثير : ( والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ، وليس كل من ادعى شيئًا حصل له بمجرد دعواه ، ولا كل من قال أنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك ، حتى يكون له من الله برهان ، ولهذا قال تعالى : ? لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ? ، أي : ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني ، بل العبرة بطاعة الله سبحانه ، وإتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام ) . انتهى . وعن الربيع بن زياد أنه قال لأبيّ بن كعب : قول الله تبارك وتعالى : ? مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ? والله إن كان كل ما عملنا جزينا به هلكنا ! قال : والله إن كنت لأراك أفقه مما أرى ، لا يصيب رجلاً خدش ولا عثرة إلا بذنب ، وما يعفوا الله عنه أكثر حتى اللدغة والنفخة .(2/74)
وقوله تعالى : ? وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ? ، قال الضحاك : فضل الله الإسلام على كل دين فقال : ? وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ ? إلى قوله : ? وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ? ، وليس يقبل فيه عمل غير الإسلام وهي : الحنيفية .
قال ابن كثير : وقوله : ? وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ? ، وهذا من باب الترغيب في اتباعه ، لأنه إمام يقتدى به ، حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له ، فإنه انتهى إلى درجة الخلّة التي هي أرفع مقامات المحبة ، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه ، كما وصفه به في قوله : ? وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ? .
وقوله تعالى : ? وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ? ، أي : الجميع ملكه وخلقه وعبيده ، وهو المتصرف في ذلك ، ألا له الخلق والأمر . ? وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً ? ، فلا يعذب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا يخفى عليه شيء ، وهو على كل شيء قدير . والله أعلم .
* * *
الدرس السابع والستون(2/75)
? وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (129) وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً (130) وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً (131) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (132) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً (133) مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى(2/76)
أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً (127)? .
عن ابن عباس : ? وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ? ، قال : كان أهل جاهلية لا يورّثون المولود حتى يكبر ، ولا يورّثون المرأة ، فلما كان الإسلام قال : ? وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ? ، في أول سورة في الفرائض . ? الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ ? ، وقالت عائشة : هذا في اليتيمة تكون عند الرجل ، لعلها تكون شريكته في ماله وهو أولى بها من غيره ، فيرغب عنها أن ينكحها ويعضلها لمالها ، ولا ينكحها غيره ، كراهية أن يشركه أحد في مالها .(2/77)
وقوله تعالى : ? وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً ? ، عن السدي قوله : ? وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ ? ، كانوا لا يورّثون جارية ، ولا غلامًا صغيرًا ، فأمرهم الله أن يقوموا لليتامى بالقسط ، والقسط : أن يعطى كل ذي حق منهم حقه ذكرًا كان أو أنثى ، الصغير منهم بمنزلة الكبير .
قوله عز وجل : ? وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (129) وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً (130) ? .
عن خالد بن عرعرة أن رجلاً أتى عليًا رضي الله عنه يستفتيه في امرأة ، خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا . فقال : قد تكون المرأة عند الرجل ، فتنبوا عيناه عنها من دمامتها أو كبرها ، أو سوء خلقها وفقرها ، فتكره فراقه ، وإن وضعت له من مهرها شيئًا حل له ، وإن جعلت له من أيامها شيئًا فلا حرج .
وقال عمر رضي الله عنه : هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها ، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها ، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز .(2/78)
وقال ابن عباس رضي الله عنه : هي المرأة تكون عند الرجل فيريد أن يفارقها وتكره أن يفارقها ، ويريد أن يتزوج فيقول : إني لا أستطيع أن أقسم لك بمثل ما أقسم لها ، فتصالحه أن يكون لها في الأيام ، فيتراضيان على ذلك ، فيكونان على ما اصطلحا عليه . وقال عبيدة : يصالحها على ما رضيت دون حقها ، فله ذلك ما رضيت ، فإذا أنكرت أو قالت : غرت ، فلها أن يعدل عليها ، أو يرضيها أو يطلقها .
وقوله تعالى : ? وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ ? ، قال ابن عباس : نصيبها منه . قال ابن جرير : والشح : الإفراط في الحرص على الشيء .
قال ابن كثير : وقوله تعالى : ? وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ? ، وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن ، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن ، فإن الله عالم بذلك ، وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء .
وقوله تعالى : ? وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ? ، عن ابن عباس قوله : ? وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ ? ، يعني : في الحب والجماع . وعن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول : اللهم أما قلبي فلا أملك ، وأما سوى ذلك فأرجوا أن أعدل . وعن الحسن : ? فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ ? ، قال : في الغشيان والقسم .
وقوله تعالى : ? فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ? ، قال ابن عباس : هي أيّم ولا ذات روح .
وقوله تعالى : ? وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ? . قال ابن كثير : أي : وإذا أصلحتم في أموركم ، وقسمتم بالعدل فيما تملكون ، واتقيتم الله في جميع الأحوال ، غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض .(2/79)
وقوله تعالى : ? وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً ? عن مجاهد في قول الله : ? وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ ? قال : الطلاق : ? يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ ? .
قوله عز وجل : ? وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً (131) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (132) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً (133) مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) ? .
عن علي : ? وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً ? ، قال : غنيًا عن خلقه . ? حَمِيداً ? قال : مستحمدًا إليهم . قال البغوي : فإن قيل : فأي فائدة في تكرار قوله تعالى : ? وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ? ؟؟ قيل : لكل واحد منها وجه : أما الأول : فمعناه : للّه ما في السَّماوات وما في الأرض ، وهو يوصيكم بالتقوى فاقبلوا وصيته .
وأما الثاني : فيقول : ? فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً ? ، أي : هو الغني فاطلبوا منه ما تطلبون .
وأما الثالث : فيقول : ? وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ? ، أي : له الملك فاتخذه وكيلاً ، ولا تتوكلوا على غيره .(2/80)
وقوله تعالى : ? إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً ? ، قال قتادة : قادر والله ربنا على ذلك ، أن يهلك من يشاء من خلقه ويأت بآخرين من بعدهم .
وقوله تعالى : ? مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً ? .
قال البغوي : يريد : من كان يريد بعمله عرضًا من الدنيا ، ولا يريد الله عز وجل ، آتاه الله من عرض الدنيا ، أو دفع عنه فيها ما أراد الله ، وليس له في الآخرة من ثواب ، ومن أراد بعمله ثواب الآخرة ، آتاه الله من الدنيا ما أحب ، وجزاه الجنة في الآخرة .
وقوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) ? .
قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحق ، ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم ، ولا تحابوا غنيًا لغناه ، ولا ترحموا مسكينًا لمسكنته ، وذلك قوله : ? إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ ? فتذروا الحق فتجوروا ، ? وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ ? ، قال : هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر . وقال مجاهد : ? وَإِن تَلْوُواْ ? ، أي : تبدلوا الشهادة ، ? أَوْ تُعْرِضُواْ ? قال : تكتموها . وقال ابن عباس : تلوي لسانك بغير الحق وهي : اللجلجة ، فلا تقيم الشهادة على وجهها ، والإعراض : الترك .(2/81)
قال ابن كثير : والإعراض هو : كتمان الشهادة وتركها . قال تعالى ? وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ? ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها » . ولهذا توعدهم الله بقوله : ? فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الثامن والستون
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ(2/82)
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلا قَلِيلاً (142) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً (139) ? .(2/83)
قيل : ( نزلت ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ? في مؤمني أهل الكتاب ، أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : نؤمن بك ، وبكتابك ، وبموسى ، والتوراة ، وعزير ، ونكفر بما سواه من الكتاب والرسل . فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : « بل آمنوا بالله ورسوله محمد ، والقرآن ، وبكل كتاب كان قبله » . فأنزل الله هذه الآية ) . وقال الضحاك : أراد بهم اليهود والنصارى ، يقول : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ? بموسى وعيسى ، ? آمِنُواْ ? بمحمد والقرآن . وقال مجاهد : أراد بهم المنافقين ، يقول : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ? باللسان ، ? آمِنُواْ ? بالقلب . وقال أبو العالية : هذا خطاب للمؤمنين يقول : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ ? ، أي : أقيموا واثبتوا على الإيمان .
وقال ابن كثير : يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان ، وشعبه ، وأركانه ، ودعائمه ، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل ، بل من باب تكميل الكامل ، وتقريره ، وتثبيته ، والاستمرار عليه ، كما يقول المؤمن في كل صلاة : ? اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ? ، أي : بصرَّنا فيه ، وزدنا هدى ، وثبتنا عليه .(2/84)
وقوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ? ، قال قتادة : هم : اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت ، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت ، وكفرهم به تركهم إياه . ثم ? ازْدَادُواْ كُفْراً ? بالفرقان وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال ابن زيد هؤلاء المنافقون ، آمنوا مرتين وكفروا مرتين ، ثم ازدادوا كفرًا بعد ذلك . وعن علي رضي الله عنه قال : يستتاب المرتد ثلاثًا ثم قرأ : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً ? . وقال إبراهيم : يستتاب كلما ارتد ، وهو قول أكثر أهل العلم .
وقوله تعالى : ? لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ? ، أي : أقاموا على ذلك ? وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ? ، أي : طريقًا إلى الحق .
وقوله تعالى : ? بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ? ، كقوله تعالى : ? وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ? .(2/85)
قوله عز وجل : ? وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) ? .
قوله : ? وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ? يشير إلى قوله في سورة الأنعام : ? وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ? . وعن هشام بن عرفة قال : أخذ عمر بن عبد العزيز قومًا على شراب فضربهم وفيهم صائم فقالوا : إن هذا صائم ، ? فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ? .(2/86)
وقوله تعالى : ? إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ? . قال ابن جريج : إن أصاب المسلمون من عدوهم غنيمة قال المنافقون : ألم نكن معكم ؟ قد كنا معكم فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون ، وإن كان للكافرين نصيب يصيبونه من المسلمين قال المنافقون للكافرين : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ؟ قد كنا نثبطهم عنكم .
وقوله تعالى : ? فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ? ، عن منيع الحضرمي قال : كنت عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال رجل : يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله عز وجل : ? وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ? ، وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون ؟ قال له علي : أُدْنُه ، أدنه . ثم قال : ? فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ? يوم القيامة ، قال السدي : حجة .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلا قَلِيلاً (142) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) ? .(2/87)
عن السدي : ? إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ? ، قال : يعطيهم يوم القيامة نورًا يمشون به على المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا ، ثم يسلبهم ذلك النور فيطفيه ، فيقومون في ظلمتهم ، ويضرب بينهم السور .
وقوله تعالى : ? وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى ? ، قال قتادة : وإنه والله لولا الناس ما صلّى المنافق ، ولا يصلي إلا رياء .
وقوله تعالى : ? وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلا قَلِيلاً ? . قال الحسن : إنما قَلّ لأنه كان لغير الله . وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا ، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ، ثم أنطلق معي برجال ومعهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة ، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار » .
وفي رواية : « والذي نفسي بيده ، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين جنتين لشهد العشاء ، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية ، لحرقت عليهم بيوتهم بالنار » . وعن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعًا ، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً » . رواه مسلم وغيره .(2/88)
وقوله تعالى : ? مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ? . قال قتادة في قوله : ? مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء ? يقول : ليسوا بمؤمنين مخلصين ، ولا مشركين مصرحين بالشرك . وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « مثل المنافق كمثل الشاة العائزة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ، لا تدري أيهما تتبع » . رواه ابن جرير وغيره .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) ? .(2/89)
عن قتادة : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ? ، وإن لله السلطان على خلقه ، ولكنه يقول عذرًا مبينًا . وقال عكرمة : ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة . وعن ابن مسعود : ? إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ? قال : في توابيت من حديد مبهمة عليهم . وقال حذيفة : ليدخلن الجنة قوم كانوا منافقين ، ثم قرأ : ? إِلا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ? .
وقوله تعالى : ? مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ? ، أي : أنه لا يعذب المؤمن الشاكر . ? وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً ? ، أي : من أطاعه صادقًا أثابه أوفر الجزاء . والله أعلم .
* * *
ــــــــــــــ
انتهى الجزء الأول بحمد الله ، ويليه الجزء الثاني
ــــــــــــــــــ
فهرس الموضوعات
الجزء الأول
الموضوع ... الصفحة
مقدمة المؤلف ... 2
معاني القرآن لا تخرج عن خمسة علوم ... 3
معرفة الناسخ والمنسوخ ... 3
الأيات المتفق على نسخها ... 4
معرفة أسباب النزول ... 5
سبب النزول على قسمين ... 5
أحسن طرق التفسير ... 6
الرجوع إلى أقوال التابعين ... 7 ، 8
أوجه التفسير التي ذكرها ابن عباس ... 8
فصل في فضائل القرآن ... 11
من القرآن ... 11
من السنة ... 14
فصل في الأحرف السبعة ... 26
الدرس الأول ... 32
سورة الفاتحة ... 32
تفسير البسملة ... 34
الآية : 2 ... 35
الآية : 3 ... 36
الآية : 4 ... 37
الآيتان : 5 ، 6 ... 37، 38
الآية : 7 ... 39
الدرس الثاني ... 44
سورة البقرة ... 44
فضلها ... 44
الآيات : 1 - 5 ... 49
الآيتان : 6 ، 7 ... 52(2/90)
الآيات : 8 - 12 ... 53
الآيات : 13 - 16 ... 55
الآيات : 17 - 20 ... 56
الدرس الثالث ... 60
الآيتان : 21 ، 22 ... 61
الآيتان : 23 ، 24 ... 62
الآية : 25 ... 63
الآيتان : 26 ، 27 ... 65
الآيات : 28 - 29 ... 67
الدرس الرابع ... 69
الآية : 30 ... 70
الآيات : 31 - 33 ... 71
الآيات : 34 - 35 ... 72
الآية : 36 ... 73
الآية : 37 ... 75
الآيتان : 38 ، 39 ... 76
الدرس الخامس ... 78
الآيات : 40 - 43 ... 79
الآيات : 44 - 46 ... 81
الدرس السادس ... 84
الآيتان : 47 ، 48 ... 85
الآية : 49 ... 86
الآية : 50 ... 87
الآيات : 51 - 53 ... 88
الآيات : 54 ... 89
الآيات : 55 - 57 ... 90
الدرس السابع ... 92
الآيتان : 58 ، 59 ... 94
الآية : 60 ... 95
الآية : 61 ... 96
الآية : 62 ... 98
الآيتان : 63 - 64 ... 99
الآيتان : 65 - 66 ... 100
الدرس الثامن ... 102
الآية : 67 ... 103
الآيتان : 68 ، 69 ... 104
الآيات : 70 - 73 ... 105
الآية : 74 ... 106
الدرس التاسع ... 107
الآيات : 75 - 78 ... 109 ، 110
الآيات : 79 - 82 ... 111
الآية : 83 ... 113
الآيات : 84 - 86 ... 114
الدرس العاشر ... 117
الآية : 87 ... 119
الآيات : 88 - 89 ... 120
الآية : 90 ... 121
الآيات : 91 - 93 ... 122 ، 123
الآيات : 94 - 96 ... 123
الدرس الحادي عشر ... 125
الآيات : 97 - 101 ... 126
الآيتان : 102 ، 103 ... 129 ، 130
الدرس الثاني عشر ... 134
الآيتان : 104 ، 105 ... 135
الآيات : 106 - 108 ... 136
الآيتان : 109 ، 110 ... 138
الآيتان : 111 ، 112 ... 139
الآية : 113 ... 140
الدرس الثالث عشر ... 142
الآية : 114 ، 115 ... 143
الآيتان : 116 ، 117 ... 145
الآية : 118 ... 146
الآيتان : 119 ، 120 ... 147
الآية : 121 ... 148
الآيات : 122 - 123 ... 149
الدرس الرابع عشر ... 150
الآيات : 124 - 125 ... 151
الآية : 126 ... 153(2/91)
الآيات : 127 - 129 ... 154
الدرس الخامس عشر ... 160
الآيات : 130 - 132 ... 162
الآية : 133 ... 163
الآيات : 134 - 135 ... 164
الآية : 136 ... 165
الآيات : 137 - 138 ... 166
الآيات : 139 - 141 ... 167
الدرس السادس عشر ... 169
الآية : 142 ... 171
الآية : 143 ... 171 ، 172
الآية : 144 ... 174
الآية : 145 ... 175
الآيات : 146 - 148 ... 176
الآيات : 149 - 150 ... 177
الآيتان : 151 ، 152 ... 178
الآيتان : 153 ، 154 ... 179
الآيات : 155 - 157 ... 180
الدرس السابع عشر ... 182
الآية : 158 ... 183
الآيات : 159 - 162 ... 184
الآيتان : 163 ، 164 ... 185
الآيات : 165 - 167 ... 186
الدرس الثامن عشر ... 189
الآيات : 168 - 169 ... 190
الآيتان : 170 ، 171 ... 191
الآيات : 172 - 173 ... 192
الآيات : 174 - 176 ... 194
الدرس التاسع عشر ... 196
الآية : 177 ... 197
الآيتان : 178 ، 179 ... 198
الآية : 180 ... 202
الآيتان : 181 ، 182 ... 203
الدرس العشرون ... 206
الآيتان : 183 ، 184 ... 207
الآية : 185 ... 209
الآية : 186 ... 211
الآية : 187 ... 212
الآية : 188 ... 215
الدرس الحادي والعشرون ... 216
الآيات : 189 - 190 ... 218
الآيتان : 191 ، 192 ... 219
الآية : 193 ... 220
الآية : 194 ... 221
الآية : 195 ... 222
الدرس الثاني والعشرون ... 223
الآية : 196 ... 227
الآية : 197 ... 229
الآيتان : 198 ، 199 ... 231
الآيات : 200 - 203 ... 234
الدرس الثالث والعشرون ... 234
الآيات : 204 - 206 ... 238
الآية : 207 ... 239
الآيات : 208 - 210 ... 241
الآيات : 211 ... 242
الآية : 212 ، 213 ... 243
الآية : 214 ... 245
الدرس الرابع والعشرون ... 246
الآيتان : 215 ، 216 ... 247
الآيتان : 217 ، 218 ... 248
الآيتان : 219 ، 220 ... 251
الدرس الخامس والعشرون ... 253
الآية : 221 ... 254
الآية : 222 ... 255(2/92)
الآية : 223 ... 256
الآيتان : 224 ، 225 ... 257
الآيتان : 226 ، 227 ... 258
الدرس السادس والعشرون ... 260
الآية : 228 ... 262
الآية : 229 ... 263
الآيتان : 230 ، 231 ... 265
الآيتان : 232 ، 233 ... 267
الدرس السابع والعشرون ... 271
الآية : 234 ، 235 ... 273
الآيتان : 236 ، 237 ... 275
الآيتان : 238 ، 239 ... 276
الآية : 240 ... 278
الآيتان : 241 ، 242 ... 279
الدرس الثامن والعشرون ... 278
الآية : 243 ... 282
الآيتان : 244 ، 245 ... 283
الآية : 246 ... 284
الآية : 247 ... 285
الآيتان : 248 ، 249 ... 286
الآيات : 250 - 252 ... 287
الدرس التاسع والعشرون ... 290
الآية : 253 ... 291
الآيتان : 254 ، 255 ... 292
الآية : 256 ... 295
الآية : 257 ... 296
الدرس الثلاثون ... 296
الآية : 258 ... 299
الآية : 259 ... 300
الآية : 260 ... 302
الدرس الحادي والثلاثون ... 305
الآيات : 261 - 263 ... 306
الآية : 264 ... 307
الآية : 265 ... 308
الآية : 266 ... 309
الدرس الثاني والثلاثون ... 311
الآية : 267 ... 312
الآيتان : 268 ، 269 ... 313
الآيتان : 270 ، 271 ... 314
الآيتان : 272 ، 273 ... 315
الآية : 274 ... 316
الدرس الثالث والثلاثون ... 318
الآية : 275 ... 319
الآية : 276 ... 320
الآيات : 277 - 279 ... 321
الآية : 280 ... 322
الآية : 281 ... 323
الدرس الرابع والثلاثون ... 324
الآية : 282 ... 325
الآية : 283 ... 328
الدرس الخامس والثلاثون ... 330
الآية : 284 ... 331
الآيتان : 285 ، 286 ... 333
الدرس السادس والثلاثون ... 336
سورة آل عمران ... 336
الآيات : 1 - 6 ... 338
الآيات : 7 - 9 ... 340
الدرس السابع والثلاثون ... 344
الآيات : 10 - 13 ... 345
الآيات : 14 - 17 ... 246 ، 347
الدرس الثامن والثلاثون ... 349
الآيات : 18 - 20 ... 351
الآيات : 21 - 25 ... 353 ، 354(2/93)
الآيتان : 26 ، 27 ... 354 ، 355
الآيتان : 28 ، 29 ... 356
الآيتان : 30 ، 31 ... 357
الآية : 32 ... 358
الدرس التاسع والثلاثون ... 359
الآيات : 33 - 36 ... 360
الآية : 37 ... 362
الآيتان : 38 ، 39 ... 363
الآيتان : 40 ، 41 ... 364
الدرس الأربعون ... 366
الآيتان : 42 - 44 ... 367
الآيات : 45 - 46 ... 368
الآيات : 47 - 51 ... 369
الآيات : 48 - 51 ... 370
الدرس الحادي والأربعون ... 373
الآيات : 52 - 55 ... 375
الآيات : 56 - 58 ... 376
الآيات : 59 - 63 ... 377
الآية : 64 ... 378
الآيات : 65 - 67 ... 379
الآية : 68 ... 380
الدرس الثاني والأربعون ... 382
الآيات : 69 - 71 ... 384
الآيات : 72 - 74 ... 384 ، 385
الآيات : 75 - 76 ... 386
الآية : 77 ... 387
الآيات : 78 - 80 ... 388
الدرس الثالث والأربعون ... 391
الآيتان : 81 ، 82 ... 392
الآيات : 83 - 85 ... 393
الآيات : 86 - 89 ... 395
الآيات : 90 - 91 ... 396
الدرس الرابع والأربعون ... 396
الآيات : 92 - 95 ... 400
الآيتان : 96 ، 97 ... 401 ، 402
الآيتان : 98 - 101 ... 404
الآيتان : 102 ، 103 ... 405
الآيات : 104 - 109 ... 407
الدرس الخامس والأربعون ... 409
الآيات : 110 - 112 ... 411
الآيات : 113 - 115 ... 412
الآيتان : 116 ، 117 ... 413
الآيات : 118 - 120 ... 414
الدرس السادس والأربعون ... 417
الآيات : 121 - 127 ... 419 ، 420
الآيات : 128 ، 129 ... 422
الآيات : 130 - 136 ... 423 ، 424
الدرس السابع والأربعون ... 426
الآيات : 137 - 143 ... 427
الآيات : 144 - 148 ... 429 ، 430
الدرس الثامن والأربعون ... 433
الآيات : 149 - 151 ... 434
الآيتان : 152 ، 153 ... 435
الآيتان : 154 ، 155 ... 438
الدرس التاسع والأربعون ... 441
الآيات : 156 - 158 ... 443
الآيتان : 159 ، 160 ... 444
الآيات : 161 - 164 ... 445
الآيات : 165 - 168 ... 447(2/94)
الآيات : 169 - 171 ... 449
الآيات : 172 - 175 ... 450
الدرس والخمسون ... 453
الآيات : 176 - 180 ... 455 ، 456
الآيات : 181 - 186 ... 456 ، 457
الآيات : 187 - 189 ... 458 ، 459
الدرس الحادي والخمسون ... 461
الآيات : 190 - 194 ... 462
الآية : 195 ... 463
الآيات : 196 - 198 ... 464
الآيتان : 199 ، 200 ... 465
الدرس الثاني والخمسون ... 468
سورة النساء ... 468
الآيات : 1 - 4 ... 470
الآيتان : 5 ، 6 ... 472
الآيات : 7 - 10 ... 474
الدرس الثالث والخمسون ... 477
الآيات : 11 ... 478 ، 479
الآيات : 12 ... 480
الآيتان : 13 ، 14 ... 481
الدرس الرابع والخمسون ... 483
الآيتان : 15 ، 16 ... 484
الآيتان : 17 ، 18 ... 485
الآيات : 19 - 21 ... 486
الدرس الخامس والخمسون ... 488
الآيات : 22 - 24 ... 490
الآية : 25 ... 494 ، 495
الآيات : 26 - 28 ... 496 ، 497
الدرس السادس والخمسون ... 498
الآيات : 29 - 31 ... 499
الآيتان : 32 ، 33 ... 501
الآيتان : 34 ، 35 ... 503
الدرس السابع والخمسون ... 508
الآيتان : 36 ، 37 ... 509
الآيتان : 38 ، 39 ... 512
الآيات : 40 - 42 ... 513
الدرس الثامن والخمسون ... 516
الآية : 43 ... 518
الآيات : 44 - 46 ... 520
الآيات : 47 - 48 ... 521
الآيات : 49 - 55 ... 522 ، 523
الآيتان : 56 ، 57 ... 524
الدرس التاسع والخمسون ... 526
الآيتان : 58 ، 59 ... 528
الآيات : 60 - 65 ... 529 ، 530
الآيات : 66 - 70 ... 532
الدرس الستون ... 535
الآيات : 71 - 74 ... 537
الآيتان : 75 ، 76 ... 539
الآيات : 77 - 79 ... 540
الدرس الحادي والستون ... 544
الآيتان : 80 ، 81 ... 545
الآيات : 82 - 84 ... 546
الآيات : 85 - 87 ... 548
الدرس الثاني والستون ... 550
الآيات : 88 - 90 ... 551
الآية : 91 ... 552
الآيتان : 92 ، 93 ... 553
الدرس الثالث والستون ... 555
الآيات : 94 - 96 ... 558(2/95)
الآيات : 97 - 100 ... 559
الدرس الرابع والستون ... 562
الآية : 101 ... 563
الآيتان : 102 ، 103 ... 564
الآيات : 104 ... 565
الدرس الخامس والستون ... 567
الآيات : 105 - 109 ... 568
الآيات : 110 - 112 ... 571
الآيات : 113 - 115 ... 572
الدرس السادس والستون ... 574
الآيات : 116 - 121 ... 575
الآية : 122 ... 576
الآيات : 123 - 126 ... 577
الدرس السابع والستون ... 580
الآيتان : 127 ، 128 ... 582
الآيات : 129 ، 130 ... 583
الآيات : 131 - 134 ... 585
الآية : 135 ... 586
الدرس الثامن والستون ... 588
الآيات : 136 - 139 ... 590
الآيتان : 140 ، 141 ... 591 ، 592
الآيات : 142 - 143 ... 593
الآيات : 144 - 147 ... 594(2/96)
تَألِيفُ
فَضَيلةِ الشَّيْخِ العَلاَّمةِ
فَيْصَلَ بِنَ عَبدِ العَزِيزِ آل مُبَارَك
ت 1376هـ رَحِمَهُ اللهُ
الجزء الثالث
من سورة الكهف إلى سورة فصلت
الدرس السادس والخمسون بعد المائة
[ سورة الكهف ]
مكية ، وهي مائة وإحدى عشر آية
روى مسلم وغيره عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال » . وعن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين » . رواه الحاكم وصححه .
بسم الله الرحمن الرحيم(3/1)
? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً (14) هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ(3/2)
يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا(3/3)
قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً (8) ? .(3/4)
عن ابن عباس : قوله : ? وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً ? ، يقول : أنزل الكتاب عدلاً قيماً ، ? وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ? . وقال قتادة : معناه : ? أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ? ولكن جعله ? قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً ? . قال بن إسحاق : عاجل عقوبة في الدنيا ، وعذابًا في الآخرة ? مِن لَّدُنْهُ ? . أي : من عند ربك الذي بعثك رسولاً .
? وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ? أي : في دار خلد لا يموتون فيه ، الذين صدقوك بما جئت به عن الله وعملوا بما أمرتهم ، ? وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ? ، يعني : قريشاً في قولهم : إنما نعبد الملائكة وهن بنات الله . ? كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ? قولهم : إن الملائكة بنات الله ? إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ? .
وعن قتادة : ? فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ? قاتلُ نفسك ، ? عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ? ، قال : حزناً عليهم . قال ابن إسحاق : يعاتبه على حزنه عليهم ، حين فاته ما كان يرجو منهم ، أي : لا تفعل .
? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ? اختبارًا لهم ، أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي . وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : « إن الدنيا خضرة حلوة ، وإن الله مستخلفكم فيها ، فناظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء » .
وعن ابن إسحاق : ? وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ? ، يعني : الأرض إن ما عليها لفان وبائد ، وإن المرجع إليّ ، فلا تأس ولا يحزنك ما ستسمع وترى فيها .(3/5)
قال ابن كثير : وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة ، فقال : حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي مُعَيط ، إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ؛ فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء . فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله ، وقالا : إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . قال : فقالوا لهم : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بِهِنّ : فهو نبي مرسل ، وإلا : فهو رجل مُتَقَول قروا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان من أمرهم ؟ فإنهم قد كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طوّاف بلغ في مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبَأه ؟ وسلوه عن الروح ، ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم .(3/6)
فأقبل النضر ، وعقبة حتى قدما على قريش ، فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور ، فأخبروهم بها ، فجاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد ، أخبرنا : فسألوه عما أمروهم به ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أخبركم غدًا عما سألتم عنه » . ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ، ومكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة ليلة ، لا يُحدث الله في ذلك وحيًا ، ولا يأتيه جبريل عليه السلام ، حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدًا ، واليوم خمسَ عشرةَ قد أصبحنا فيها ، لا يُخبرنا بشيء مما سألناه عنه . وحتى أحزنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكثُ الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخَبَر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف ، وقول الله عز وجل : ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ? .
قوله عز وجل : ? أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً (12) ? .(3/7)
عن مجاهد : ? أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ? ، يقول : قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك . وقال ابن عباس : الرقيم وادٍ دون فلسطين وهو قريب من أيلة . وعن سعيد بن جبير قال : الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف .
وعن قتادة قوله : ? ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ? ، يقول : ما كان لواحد من الفريقين علم ، لا لكفارهم ، ولا لمؤمنيهم . وعن مجاهد : ? أَمَداً ? ، قال : عددًا .
قال ابن كثير : هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار ، ثم بسطها بعد ذلك .
قوله عز وجل : ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً (14) هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً (16) ? .
قال ابن إسحاق : مرج أهل الإنجيل ، وعظمت فيهم الخطايا ، وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام ، وذبحوا للطواغيت ، وفيهم بقايا على دين المسيح متمسّكين بعبادة الله وتوحيده ، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقينوس ، وكان قد عبد الأصنام ، وذبح للطواغيت ، وقتل من خالفه في ذلك .(3/8)
وقال مجاهد : كان أصحاب الكهف أبناء عظماء مدينتهم وأهل سوقهم ، فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد ، فقال رجل منهم هو أسنّهم : إني لأجد في نفسي شيئًا ما أظن أن أحدًا يجده ، قالوا : ماذا تجد ؟ قال : أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض ، وقالوا : نحن نجد ، فقاموا جميعًا : ? فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً ? فاجتمعوا أن يدخلوا الكهف وعلى مدينتهم إذ ذاك جبار يقال له دقينوس ، فلبثوا في الكهف ? ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ? رقداء .
وعن قتادة : ? وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ? . يقول : بالإيمان ، ? إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً ? يقول : كذبًا . وقال ابن زيد : الشطط الخطأ من القول . وقال ابن كثير : ? شَطَطاً ? ، أي : باطلاً ، وكذبًا ، وبهتانًا .
وقوله تعالى : ? ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً ? ، قال البغوي : ? ويُهَيِّئْ لَكُم ? : يسهّل لكم ، ? مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً ? ، أي : ما يعود إليه يُسْرُكم ورفقكم .
قوله عز وجل : ? وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) ? .(3/9)
عن ابن عباس : ? وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ? ، يقول : تميل عن كهفهم يمينًا وشمالاً ، وقال : لو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم ، ولو أنهم لا ينقلبون لأكلتهم الأرض . وعن سعيد بن جبير قال : ? وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ? تتركهم ? ذَاتَ الشِّمَالِ ? .
وعن قتادة : ? وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ? . يقول : في فضاء من الكهف . ? ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ? ، قال ابن قتيبة : كان كهفهم مستقبل بنات نعش . وقال ابن كثير : ? وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ? ، أي : تدخل إلى غارهم من شمال بابه .
وقوله تعالى : ? وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ? . قيل : إن أعينهم كانت مفتحة ، ? وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ? ، قال ابن عباس يقول : بالفناء . وقال ابن جريج : يحرس عليهم الباب ، ? لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ? ، أي : أنه تعالى ألقى عليهم المهابة فلا يقدر أحد أن يدنو منهم .(3/10)
قوله عز وجل : ? وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً (21) ? .(3/11)
عن عكرمة قال : كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم ، رزقهم الله الإسلام ، فتعوذوا بدينهم ، واعتزلوا قومهم ، حتى انتهوا إلى الكهف ، فضرب الله على سمعهم فلبثوا دهرًا طويلاً ، حتى هلكت أمتهم وجاءت أمة مسلمة وكان ملكهم مسلمًا فاختلفوا في الروح ، والجسد . فقال قائل : يبعث الروح والجسد جميعًا ، وقال قائل : يبعث الروح فأما الجسد فتأكله الأرض فلا يكون شيئًا ، فشقّ على ملكهم اختلافهم ، فانطلق فلبس المسوح وجلس على الرماد ، ثم دعا الله تعالى : أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم ، فبعث الله أصحاب الكهف ، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعامًا ، فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه ويعرف الطرق ، ويرى الإيمان بالمدينة ظاهرًا ، فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلاً يشتري منه طعامًا ، فلما نظر الرجل إلى الوَرِقِ أنكرها فقال له الفتى : أليس ملككم فلان قال : بل ملكنا فلان ، فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك ، فسأله فأخبره الفتى خبر أصحابه ، فبعث الملك في الناس فجمعهم فقال : إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد ، وإن الله قد بعث لكم آية ، فهذا رجل من قوم فلان - يعني ملكهم الذي مضى - فقال الفتى : انطلقوا بي إلى أصحابي ، فركب الملك وركب معه الناس حتى انتهوا إلى كهف ، فقال الفتى : دعوني أدخل إلى أصحابي ، فلما أبصرهم ضرب على أذنه وعلى آذانهم ، فلما استبطئوه دخل الملك ودخل الناس معه ، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئًا غير أنها لا أرواح فيها ، فقال الملك : هذه آية بعثها الله لكم .(3/12)
وقوله تعالى : ? قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً ? . قال ابن كثير : حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين : أحدهما : إنهم المسلمون منهم . والثاني : أهل الشرك منهم ، فالله أعلم . والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ . ولكن هل هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لعن الله اليهود ، والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد » . يحذر ما فعلوا . انتهى .
قوله عز وجل : ? سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) ? .(3/13)
عن قتادة : ? مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ? ، يقول : قليل من الناس . وعن ابن عباس : ? مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ? ، قال : أنا من القليل ، كانوا سبعة . ? فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً ? ، يقول : إلاَّ بما قد أظهرنا لك من أمرهم . وقال قتادة ، أي : حسبك ما قصصنا عليك من شأنهم وعن ابن عباس : ? وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً ? ، قال : هم أهل الكتاب . وعن أبي العالية في قوله : ? وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ? ثم ذكرت فاستثن .
وقوله تعالى : ? وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً ? ، قال ابن كثير : أي : إذا سئُلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه ، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك . وعن مجاهد : ? وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ? ، قال : عدد ما لبثوا . وعن قتادة : ? أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ? ، فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع تبارك وتعالى .
* * *
الدرس السابع والخمسون بعد المائة(3/14)
? وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً (36) قَالَ(3/15)
لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً (39) فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا(3/16)
يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً (29) ? .
عن مجاهد : ? مُلْتَحَداً ? ، قال : ملجأ .
وقوله تعالى : ? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ? . قال ابن عباس : لا تجاورهم إلى غيرهم . وعن سعد بن أبي وقاص قال : ( كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة ، فقال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا ، قال : وكنت أنا ، وابن مسعود ، ورجل من هذيل ، وبلال ، ورجلان ، فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه ، فأنزل الله عز وجل : ? وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ? . رواه مسلم .
وقوله تعالى : ? وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ? . قال مجاهد : ضياعًا .(3/17)
وقوله تعالى : ? وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ? . قال البغوي : هذا على طريق التهديد والوعيد . كقوله : ? اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ? .
وعن ابن عباس في قوله ? إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ? قال : حائط من نار ، ? وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ ? ، قال : هو ماء غليظ مثل درديّ الزيت . وقال الضحاك : ماء جهنم أسود . وهي : سوداء . وشجرها أسود ، وأهلها سود . وقال سعيد بن جبير : المهل هو : الذي قد انتهى حره . وعن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ? وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يتجرّعه ? ، قال : « يقرّب إليه فيتكرهه ، فإذا قرّب منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ، فإذا شرب قطع أمعاءه ، يقول الله : ? وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ ? . رواه ابن جرير .
وعن مجاهد : ? وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً ? ، قال : مجتمعًا .
وقال ابن كثير : ? وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً ? أي : وساءت النار نزلاً ومَقِيلا ، ومجتمعًا ، وموضعًا للارتفاق . كما في الآية الأخرى : ? إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ? .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) ? .
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ، ثنى بذكر السعداء ، الذين آمنوا بالله ورسله وعملوا بما أمروهم به .(3/18)
قال ابن كثير : والأرائك : جمع أريكة ، وهي السرر تحت الحَجَلة ، والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا : بالبشخانة . والله أعلم .
قوله عز وجل : ? وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً (39) فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)(3/19)
? .
لما ذكر سبحانه وتعالى الكافرين المستكبرين والمؤمنين المستضعفين ، ضرب لهم مثلاً بهذين الرجلين ؛ قال قتادة في قوله : ? فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ? تلك والله أمنية الفاجر كثرة المال وعزة النفر ، ? وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ? ، كفور لنعم ربه ، مكذب بلقائه متمن على الله .
وقوله تعالى : ? قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ? أي : يجادله ? أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ? .
قال البغوي : وأصله : ( لكن إنا ) فحذفت الهمزة طلبًا للتخفيف لكثرة استعمالها ، ثم أدغمت إحدى النونين في الأخرى .
وقال ابن كثير : ? لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ? أي : لكن أنا لا أقول بمقالتك ، بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية ، ? وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ? ، أي : بل هو الله المعبود وحده لا شريك له .(3/20)
قوله تعالى : ? وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً ? ، أي : فتكبرّت وتعظمت عليّ : قال بعض السلف : من أعجبه شيء من حاله ، أو ماله ، أو ولده فليقل : ما شاء الله لا قوة إلا بالله . ? فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ ? ، أي : في الآخرة ، ? وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ? . قال قتادة : ? حُسْبَاناً ? : عذابًا ، ? فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ? ، قال ابن عباس : مثل الجزر ، ? أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً ? ، قال قتادة : ذاهبًا قد غار في الأرض ، ? فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ? . ? وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا ? ، متلهّفًا على ما فاته وهو ? يَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ? . وعن مجاهد في قول الله عز وجل : ? وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ? ، قال : عشيرته ، ? وَمَا كَانَ مُنتَصِراً ? ، قال قتادة : ممتعنًا .
وقوله تعالى : ? هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ? .
قال ابن كثير : أي : هنالك كل أحد مؤمن ، أو كافر يرجع إلى الله ، وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب . كقوله : ? فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ? . ? هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً ? ، أي : جزاء . ? وَخَيْرٌ عُقْبًا ? ، أي : الأعمال التي تكون لله عز وجل ، ثوابها خير ، وعاقبتها حميدة رشيدة .(3/21)
قوله عز وجل : ? وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) ? .
عن ابن عباس قوله : ? وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ? ، قال : هي ذكر الله . قول : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، وتبارك الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأستغفر الله ، وصلى الله على رسول الله . والصيام ، والصلاة ، والحج ، والصدقة ، والعتق ، والجهاد ، والصلة ، وجميع أعمال الحسنات . وهنّ الباقيات الصالحات ، التي تبقى لأهلها في الجنة ، ما دامت السماوات والأرض .(3/22)
وعن مجاهد : ? وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ? ، لا حجر فيها ولا غيابة ، ولا شجر ، ولا بناء ، ولا جبال فيها . وعن قتادة : قوله : ? مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ? ، اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء ، ولم يشتك أحد ظلمًا ، فإياكم والمحقّرات من الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه . ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يضرب لها مثلاً يقول : « كمثل قوم انطلقوا يسيرون حتى نزلوا بفلاة من الأرض ، وحضر صنيع القوم ، فانطلق كل رجل يحتطب ، فجعل الرجل يجيء بالعود ويجيء الآخر بالعود ، حتى جمعوا سوادًا كثيرًا وأجّجوا نارًا . فإن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه حتى يهلكه » .
* * *
الدرس الثامن والخمسون بعد المائة(3/23)
? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً (59) ? .
* * *(3/24)
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) ? .
قال ابن كثير : يقول تعالى منبهًا بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم ، ومقرعًا لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه وهو الذي أنشأه وابتدأه بألطافه ورزقه غذاه ، ثم بعد هذا كله وإلى إبليس وعادى الله ، فقال تعالى : ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ? ، أي : خانه أصله ، فإنه خلق من مارج من نار ، وأصل خلق الملائكة من نور كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « خلقت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم » . فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه وخانه الطبع عند الحاجة ، وذلك أنه قد توسّم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبّد وتنسك فلهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة . انتهى .
وعن مجاهد في قول الله تعالى : ? فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ? ، قال : عصى في السجود لآدم ، ? أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي ? ، قال : ذريته هم الشياطين . قال قتادة : وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم . ? وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ? بئسما استبدلوا بعبادة ربهم إذ أطاعوا إبليس . ? مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ? ، قال : أعوانًا .(3/25)
وقال ابن كثير : يقول تعالى : أنا المستقل بخلق الأشياء كلها ، ومدبرها ومقدرها وَحْدي ، ليس معي في ذلك شريك ولا وزير ، ولا مشير .
قوله عز وجل : ? وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً (53) ? .
وعن ابن عباس : ? وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ? ، قال : مهلكًا . وقال الحسن جعل بينهم عداوة يوم القيامة .
وقوله تعالى : ? وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا ? ، قال قتادة : علموا .
وقال ابن كثير : أي : إنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك ، فإذا رأى المجرمون النار ، تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها ، ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم ، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز . وقوله : ? وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً ? ، أي : ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ، ولا بد لهم منها .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً (56) ? .(3/26)
قال ابن زيد في قوله : ? وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ? ، قال : الجدل : الخصومة . خصومة القوم لأنبيائهم وردّهم عليهم ماجاءوا به . وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول - صلى الله عليه وسلم - طرقه ، وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقال : « ألا تصليان » ؟ فقلت : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، فانصرف حين قلت ذلك ولم يُرجع إليّ شيئًا ، ثم سمعته وهو مولّ يضرب فخذه ويقول : « ? وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ? » .
وقوله تعالى : ? وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ? ، أي : في إهلاكهم إن لم يؤمنوا ، ? أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ? ، قال ابن عباس : عيانًا . وقال مجاهد : فجأة ، أي : ما منعهم من الإيمان إلاَّ طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانًا .
وقوله تعالى : ? وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ? ، أي : قبل العذاب ، ? وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً ? .
قوله عز وجل : ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً (59) ? .(3/27)
وعن قتادة في قوله : ? وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ? ، أي : نسي ما سلف من الذنوب وعن ابن عباس قوله : ? لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ? ، يقول : ملجأ . وعن مجاهد : قوله : ? لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً ? ، قال : أجلاً .
* * *
الدرس التاسع والخمسون بعد المائة
? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64) فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73)(3/28)
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً (74) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً (76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً (82) ? .
* * *(3/29)
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64) فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً (65) ? .
عن قتادة قوله : ? حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ? . والبحران : بحر فارس والروم ، وبحر الروم مما يلي الغرب ، وبحر فارس مما يلي الشرق . وعن ابن عباس : قوله : ? أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ? ، قال : دهرًا . وقال عبد الله بن عمر : والحُقُب ثمانون سنة .
وقال ابن عباس : ? فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ? وحلق بيده . وعن مجاهد : قوله : ? فِي الْبَحْرِ عَجَباً ? ، قال : موسى يعجب من أثر الحوت في البحر ودوراته التي غاب فيها ، فوجدا عندها خطرًا .
قوله عز وجل : ? قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) ? .(3/30)
عن ابن عباس : قال ? فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً? يعني : عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه .
قوله عز وجل : ? فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) ? .
عن قتادة قوله : ? لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ? ، أي : عجباً ، إن قومًا لجّجوا سفينتهم فخرقتها كأحوج ما تكون إليها ؟ ! ولكن عَلِم من ذلك ما لم يعلم نبي الله موسى . ذلك من علم الله الذي آتاه ، وقد قال لنبي الله موسى عليه السلام : ? فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ? .
قوله عز وجل : ? فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً (74) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً (75) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً (76) ? .
قال سعيد بن جبير : وجد خضر غلمانًا يلعبون ، فأخذ غلامًا ظريفًا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين . وعن قتادة : ? لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ? ، والنكر أشد من الأمر . وعن أبيّ بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « رحمة الله علينا ، وعلى موسى ، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ، ولكنه قال : ? إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً ? » . رواه ابن جرير .(3/31)
قوله عز وجل : ? فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً (82) ? .(3/32)
عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : أن نوفًا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل ، قال ابن عباس : كذب عدو الله ، حدثنا أُبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فسئل : أي الناس أعلم ؟ قال : أنا . فعتب الله عليه إذ لم يردَّ العلم إليه ، فأوحى الله إليه أن لي عبدًا بمجمعِ البحرينِ ، هو أعلم منك . قال موسى : يا ربّ وكيف لي به ؟ قال : تأخذ معك حوتًا ، فتجعلهُ بمكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثَمّ . فأخذ حوتًا فجعله بمكتل ، ثُمَّ انطلق ، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما ، واضطرب الحوت في المكتل ، فخرج منه فسقط في البحر ، ? فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ? ، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق ، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا يومهما وليلتهما ، حتى إذا كان من الغداة ، ? قَالَ ? موسى : ? لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً ? ولم يجد موسى النَصَب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به ، ? قَالَ ? له فتاه : ? أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً ? ، قال : فكان للحوت سربًا ولموسى وفتاه عجبًا . فقال : ? ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ? ، قال : فرجع يقصّان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة . فإذا رجل مسجّي بثوب ، فسلم عليه موسى . فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام . فقال : أنا موسى . فقال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم . قال : أتيتك لتعلّمني ? مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ? ،(3/33)
يا موسى إني على علم من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت . وأنت على علم من علم الله علّمكه الله لا أعلمه . فقال موسى : ? سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ? ، قال له الخضر : ? فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَانطَلَقَا ? ، يمشِيان عَلى ساحِل البحر ، فمرّت سفينة فكلّموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدّوم ، فقال له موسى : قد حملونا بغير نول فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها ? لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ? ؟ ! ? قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ? .(3/34)
قال : وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « فكانت الأولى من موسى نسيانًا » . قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين . فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا : مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر . ثم خرجا من السفينة . فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان ، فأخذَ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتلهُ ، فقال لهُ موسى : ? أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ? ؟ ! ? قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً ? ؟ قال : وهذه أشد من الأولى ، ? قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً ? ، ? فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ ? ، أي : مائلاً . فقال الخضر بيده ? فَأَقَامَهُ ? فقال موسى : قوم آتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا ؟ ! ? لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ? . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما » . قال سعيد بن جبير : كان ابن عباس : يقرأ ( وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا ) ، وكان يقرأ : ( وأما الغلام كان كافرًا وكان أبواه مؤمنين ) راوه البخاري وفي رواية : ( وفي أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة . لا يصيب من ماءها شيء إلا حَيِيَ فأصاب الموت من ماء تلك العين فتحرَّك وانسلّ من المكتل فدخل البحر ) .(3/35)
وفي رواية : ( فرجعا فوجدا خضرًا على طنفسة خضراء ، على كبد البحر ؛ وفيها ) . قال سعيد : وجد غلمانًا يلعبون فأخذ غلامّا كافرًا ظريفًا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين فقال : ? أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً ? لم تعمل الخبث ؟ وفيها كانت الأولى نسيانًا ، والثانية : شرطًا . والثالثة : عمدًا . وعن ابن عباس في قوله : ? وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ? ، قال : حُفِظَا بصلاح أبيهما .
* * *
الدرس الستون بعد المائة
? وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ(3/36)
وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً (108) قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ(3/37)
عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً (88) ? .
عن ابن عباس قوله : ? وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ? ، يقول : علمًا ، ? فَأَتْبَعَ سَبَباً ? ، يعني : بالسبب المنزل . وقال مجاهد : منزلاً وطريقًا ما بين المشرق ، والمغرب .
قال ابن كثير : يسر الله له الأسباب . أي : الطرق ، والوسائل إلى فتح الأقاليم وكسر الأعداء . وقال وهب بن منبه : سخَّر الله له النور ، والظلمة فجعلهما جندًا من جنوده . ورُوي عن عليّ رضي الله عنه : سخّر له السحاب ، ومدت له الأسباب ، وبسط له النور ، وأحب الله وأحبه .
قال بعض المفسرين : والسبب في اللغة : الحيل ، والمراد ها هنا : كل ما يتوصّل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة .
وقال البخاري : باب قول الله تعالى : ? وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ? إلى قوله : ? سَبَباً ? ، قال الحافظ : في إيراد المصنف ترجمة ذي القرنين قبل إبراهيم إشارة إلى توهين قول من زعم أنه الإسكندر اليوناني .(3/38)
إلى أن قال : والذي يظهر أن الإسكندر لقب بذي القرنين تشبهًا به لسعة ملكه ، والذي يقوي أن ذي القرنين من العرب كثرة ما ذكروه في أشعارهم . وقال الربيع بن ضبيع ، والصعب : ذو القرنين عمّر ملكه ألفين وأمسى بعد ذلك رميمًا .
وعن ابن عباس : ? وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ? ، قال : في طين أسود . قال ابن كثير : وقوله : ? وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ? ، أي : رأوا الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط ، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه ، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه . والحَمِئَة : مشتقة على إحدى القراءتين من الحمأة . وهو : الطين . أي : طين أملس .
وعن ابن عباس : وجدها تغرب في عين حامية . أي : حارة ، ولا منافاة بين معنييها ، إذ قد تكون حارة لمجاورتها وضح الشمس عند غروبها ، وملاقاتها الشعاع بلا حائل ، وحمئة في ماء ، وطين ، أسود .
وعن قتادة في قوله : ? أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ? ، قال : هو القتل . وقوله : ? ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً ? ، يقول : ثم يرجع إلى الله تعالى بعد قتله فيعذبه عذابًا عظيمًا . وعن مجاهد قوله :? مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ? ، قال : معروفًا .
قال البغوي : أي : تلين له القول وتعامله باليسر .
قوله عز وجل : ? ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً (91) ? .
قوله عز وجل : ? ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ? منازل الأرض ومعالمها ، ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً ? .(3/39)
قال ابن جرير : وذلك أرضهم لا جبل فيها ولا شجر ولا تحتمل بناء فيسكنوا البيوت ، وإنما يغورون في المياه أو يسربون في الأسراب .
وقوله تعالى : ? كَذَلِكَ ? ، أي : كما حكم في القوم الذين هم عند مغرب الشمس حكم في هؤلاء ، ? وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ? .
قال البغوي : يعني : بما عنده ومعه من الجند والعدة والآلات ? خُبْراً ? أي : علمًا .
قوله عز وجل : ? ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (97) ? .
وعن قتادة في قوله : ? بَيْنَ السَّدَّيْنِ ? ، قال : هما جبلان . قال أبو عبيدة : السدّ إذا كان بخلق الله فهو بضم السين ، وإذا كان من عمل العباد فهو بالفتح . قال بعض المفسرين : والردم أكبر من السد .(3/40)
وقال ابن كثير في ( البداية والنهاية ) : أما السد فقد تقدم أن ذا القرنين بناه من الحديد ، والنحاس ، وساوى به الجبال الصم ، الشامخات الطوال . فلا يعرف على وجه الأرض بناء أجلّ منه ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم . قال البخاري : وقال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : رأيتُ السدّ قال : « وكيف رأيته » ؟ قال : مثل : البُرْدِ المُحَبَّرِ . فقال : « رأيته » . وعن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلاً قال : يا نبي الله : قد رأيت سد يأجوج ومأجوج . قال : « انعْته » قال : كأنه البُرْدُ المُحَبَّر طريقة سوداء ، وطريقة حمراء . قال : « قد رأيته » . وعن الضحاك في قوله : ? بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ? ، يعني : الجبلين . وهما من قِبَل أرمينية ، وأذريبيجان .
قال ابن كثير : وقد بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه ، وجهز معه جيشًا سريًا . لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا ، فتوصلّوا من بلاد إلى بلاد ومن ملُك إلى ملك حتى وصلوا إليه ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس ، وذكروا أنهم رأوا فيه بابًا عظيمًا وعليه أقفال عظيمة ، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك ، وأن عنده حرسًا من الملوك المتاخمة له ، وأنه عال منيف ، شاهق لا يُستطاع ولا ما حوله من الجبال . ثم رجعوا إلى بلادهم وكانت غيبتهم أكثر من سنتين ، وشاهدوا أهوالاً وعجائب . انتهى .(3/41)
قلت : ولا يشكل على ذلك أن الدول المتأخرة لم تكتشفه ، فإنها وإن أعطيت ما أعطيت من القوة والآلة ، فلم يبلغوا معشار ما أوتي ذو القرنين ، فإن الله يسّر له الأسباب والوسائل لفتح المدائن والأقاليم ، وأطال عمره ووسّع ملكه وكسر أعداءه ، وسخر له النور والظلمة ، فجعلهما جندًا من جنوده . وكان إذا انتهى إلى بحر أو مخاضة بنى سفنًا من ألواح صغار أمثال النعال ، فنظمها ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم والجنود ، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها ثم دفع إلى كل إنسان لوحًا فلا يكرثه حمله ، وكان إذا البحر الجامد ألقى عليه ما يذيبه فخاضه ، وإذا أراد أن يجمد الماء ألقى عليه ما يجمده فمشي فوقه ، وبعث النور والظلمة على ما يريد بحسب حاجته ، وذلك مدد من الله تعالى ، ويشهد لذلك قوله تعالى : ? وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ? .
قال وهب بن منبه : ما بين الصدفين مائة فرسخ ، فلما أنشأ في عمله حفر له أساسًا حتى بلغ الماء ، ثم جعل عرضه خمسين فرسخًا ، وجعل حشوه الصخور ، وطينه النحاس يذاب ثم يصبّ عليه ، فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض ، ثم علاه وشرفه بِزُبَرِ الحديد والنحاس المذاب .
وعن ابن جريج : ? فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ ? ، قال : يعلوه ، ? وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً ? ، أي : ينقبوه من أسفله . قال وهب بن منبه : وهو في منقطع أرض الترك مما يلي مشرق الشمس ، بُعْدُ ما بينهما مائة فرسخ ، وجعل خلاله عرقًا من نحاس أصغر ، فصار كأنه بُرْدٌ مُحَبَّر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد .
قال ابن كثير : وقوله : ? وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ? ، أي : لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس .(3/42)
وقال البغوي : أي : لا يفقهون كلام غيرهم . قال ابن عباس : لا يفقهون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم . وقال في جامع البيان ? وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ? يعني : لعجمهم وقله فطانتهم ، لا يفهمون كلام أحد ، ومن قرأ بضم الياء وكسر القاف ، أي : لا يفهمون السامع لغرابة ألسنتهم .
قوله عز وجل : ? قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) ? .
روى ابن جرير وغيره عن أبي هريرة عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن يأجوج ومأجوج يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فتحفرونه غدًا فيعيده الله وهو كهيئته حتى إذا جاء الوقت قال : إن شاء الله فيحفرونه ، ويخرجون على الناس فينشفون المياه ويتحصن الناس في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع كهيئة الدم فيقولون : قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء . فيبعث الله عليهم نغفًا في أقفائهم فتقتلهم » . فقال رسول الله : « والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم » .
وعن زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت : استيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - من نومه وهو محمّر وجهه وهو يقول : « لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه . وحلّق بأصبعه الإبهام والتي تليها » ، فقلت : يا رسول الله أفنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : « نعم إذا كَثُرَ الخَبَثُ » . متفق عليه .(3/43)
وفي رواية : وعقد وهب تسعين . قال الحافظ العسقلاني : وعقد التسعين أن يجعل طرف السبابة اليمنى في أصلها ويضمها ضمًا محكمًا بحيث تنطوي عقدتاها حتى تصير مثل الحية المطوّقة . وقال : المراد بالردم السد الذي بناه ذو القرنين .
قوله تعالى : ? وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ? ، قال السدي : ذاك حين يخرجون على الناس ، أي : في زمان عيسى قبل يوم القيامة وبعد الدجال ، كما قال تعالى : ? حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ? .
وقوله تعالى : ? وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً ? أي : يوم القيامة ، ? وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ? ، أي : تعاموا ، وتصامموا ، وتغافلوا عن قبول الحق ، واستماع القرآن . كما قال تعالى : ? صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ? . وفي رواية الصحيحين : إن الله تعالى يقول : يا آدم . فيقول : لبيك وسعديك ، فيقول : ابعث بعث النار ؛ فيقول : ما بعث النار ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة ، فحينئذٍ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها ، فقالوا : يا رسول الله وأيُّنا ذلك الواحد ؟ فقال : « إن فيكم أمّتين ما كانتا في شيء إلاَّ كثّرتاه : يأجوج ومأجوج » .(3/44)
قوله عز وجل : ? أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً (108) ? .
عن ابن جريج في قوله : ? أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء ? ، قال : يعني : من يعبد المسيح ابن مريم والملائكة ، وهم عباد الله ولم يكونوا للكفار أولياء . عن مصعب بن سعد قال : قلت لسعد : يا أبت ? هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ? أهم الحرورية ؟ فقال : لا . ولكنهم أصحاب الصوامع ، ولكن الحرورية قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم . وفي رواية : ولكن الحرورية الذين ? يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ? ، فكان سعد يسمّيهم : الفاسقين .(3/45)
وعن علي بن أبي طالب أن ابن الكواء سأله عن قول الله عز وجل : ? هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ? ؟ فقال : أنت وأصحابك . وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناج بعوضة ، - وقال : اقرأوا إن شئتم - : ? فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ? » . متفق عليه . وفي الصحيحين أيضًا : إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنها أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجّر أنهار الجنة .
قال ابن كثير : وقوله تعالى : ? نُزُلاً ? ، أي : ضيافة ، ? خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ? ، قال ابن عباس : لا يريدون أن يتحوّلوا عنها ، كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى .
قوله عز وجل : ? قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) ? .
عن قتادة : قوله : ? قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي ? إذًا : ? لَنَفِدَ ? ماء البحر ، ? قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ ? الله وحكمه .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ? .
قال ابن كثير : أي : بمثل البحر ، آخر ثم آخر . وهلمّ جرًّا بحور تمدّه ويكتب بها لما نفدت كلمات الله كما قال تعالى : ? وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? .(3/46)
وقوله تعالى : ? قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ? ، أي : فإني لا أعلم الغيب إلا ما أطلعني الله عليه من خبر أصحاب الكهف وذي القرنين وغير ذلك . ? يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ? ، قال ابن عباس : علّم الله رسوله التواضع لئلا يزهو على خلقه ، فأمره الله أن يقرّ فيقول : أنا آدميّ مثلكم إلا أني خُصِّصْتُ بالوحي ، وأكرمني الله به ? فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ? .
قال ابن جرير : فمن يخاف ربه يوم لقائه ويراقبه على معاصيه ويرجو ثوابه على طاعته ، ? فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ? ، يقول : فليخلص له العبادة وليفرد له الربوبية .
وعن سعيد بن جبير : ? فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ ? ، قال : ثواب ربه .
قال البغوي : فالرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعًا .
وقوله تعالى : ? وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ? ، قال سفيان : لا يرائي . وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن الله عز وجل أنه قال : « أنا خير الشركاء ، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه هو والذي أشرك » . رواه أحمد .
* * *
الدرس الحادي والستون بعد المائة
[ سورة مريم عليها السلام ]
مكية ، وهي ثمان وتسعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم(3/47)
? كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً (12) وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً (13) وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً (15) ? .
* * *(3/48)
قوله عز وجل : ? كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً (6) ? .
عن قتادة قوله : ? إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً ? ، أي : سرًا ، وإن الله يعلم القلب النقي ويسمع الصوت الخفي ، ? قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ? ، أي : ضعف ، ? وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ? ، قال ابن جريج يقول : قد كنت تعرفني الإجابة فيما مضى ، ? وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي ? ، قال ابن عباس : يعني بالموالي : الكلالة الأولياء أن يرثوه ، فوهب الله له يحيى . قال قتادة : هم العصبة .
وقوله تعالى : ? يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ? ، قال مجاهد : كان وراثته علمًا ، وكان زكريا من ذرية يعقوب . وقال الحسن : يرث نبوته وعلمه .
قال البغوي : وقال الزجاج : والأولى أن يحمل على ميراث غير المال ، والمعنى : أنه خاف تضييع بني عمه دين الله وتغيير أحكامه ، على ما كان شاهد من بني إسرائيل من تبديل الدين وقتل الأنبياء ، فسأل ربه ولدًا صالحًا يأمنه على أمته ويرث نبوته وعمله ، لئلا يضيع الدين ، وهذا معنى قول عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وقوله : ? وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ? .
قال ابن كثير : أي : مرضيًا عندك وعند خلقك ، تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه .(3/49)
قوله عز وجل : ? يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً (11) ? .
عن قتادة قوله : ? يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى ? ، عبد أحياه الله للإيمان ، ? لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ? ، قال : لم يسمّ قبله أحد بهذا الاسم . وقال ابن عباس : لم تلد العواقر مثله ولدًا قط . وقال مجاهد : ? عِتِيّاً ? ، يعني : تحول العظم . وعن ابن عباس ? ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ? ، قال : اعتقل لسانه من غير مرض . قال قتادة : وإنما عوقب بذلك لأنه سأل آية بعدما شافهته الملائكة مشافهة ، أخذ بلسانه حتى ما كان يفض الكلام إلاَّ أومأ إيماء .
وقال ابن زيد في قوله :? قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ? ، وأنت صحيح . قال : فحبس لسانه فكان لا يستطيع أن يكلم أحدًا ، وهو في ذلك يسبّح ويقرأ التوراة ، ? فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ? ، قال : المحراب مصلاّه ، ? فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ? وهو لا يكلمهم .(3/50)
قوله عز وجل : ? يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً (12) وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً (13) وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً (15) ? .
عن مجاهد : ? خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ? ، قال : بجدّ . وقال ابن زيد : القوة أن يحمل ما أمره الله به ، ويجانب فيه ما نهاه الله . قال ابن جبير وقوله : ? وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ? ، يقول تعالى ذكره : وأعطيناه الفهم بكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال .
وقوله : ? وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا ? ، يقول تعالى ذكره : ورحمة منا به ومحبة له آتيناه الحكم صبيّاً . وعن ابن عباس قوله : ? وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا ? ، يقول : ورحمة من عندنا . وقال الضحاك : رحمة من عندنا لا يملك عطاءها أحد غيرنا . وعن مجاهد قوله : ? وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا ? ، قال : تعطّفًا من ربه عليه . وعن قتادة قوله : ? وَزَكَاةً ? ، قال : الزكاة : العمل الصالح . وعن ابن عباس : ? وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً ? ، قال : طُهَّرَ فلم يعمل بذنب . وقال ابن عطية : أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يولد فيرى نفسه في محشر عظيم ؛ قال : فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصّه بالسلام عليه فقال : ? وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ? . وقال الحسن : إن عيسى ويحيى التقيا ، فقال له عيسى : استغفر لي أنت خير مني ، فقال له الآخر : استغفر لي أنت خير مني ، فقال له عيسى : أنت خير مني ، سلّمتُ على نفسي وسلم الله عليك ، فعرف والله فضلهما .(3/51)
قال ابن كثير : وقوله : ? وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً ? ، لما ذكر تعالى طاعته لربه ، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة ، وتقى عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما ، ومجانبته عقوقهما قولاً وفعلاً ، أمرًا ونعيًا ، ولهذا قال : ? وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً ? ، ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك : ? وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ? .
* * *
الدرس الثاني والستون بعد المائة(3/52)
? وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً (21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً (22) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31) وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ(3/53)
يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (38) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً (21) ? .(3/54)
عن قتادة في قوله : ? وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ ? ، أي : انفردت ، ? مِنْ أَهْلِهَا ? ، قال السدي : خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها ، وهو قوله : ? إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً ? في شرقي المحراب ، ? فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ? ، قال وهب بن منبه : أرسل الله جبريل إلى مريم ، وقال السدي : فلما طهرت من حيضها إذا هي برجل معها قالت : ? إِنِّي أَعُوذُ ? بالله ، ? مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً ? ، قال ابن زيد : قد عَلِمَتْ أن التُّقَى ذو نهية ، ? قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ? ، قال جبريل : ? كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ? وإن لم يكن لك بعل ولا يوجد منك فاحشة ، فإنه على ما يشاء قادر ، ولهذا قال : ? وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ? ، أي : علامة على قدرة الله ، ? وَرَحْمَةً مِّنَّا ? للمؤمنين ، ? وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ? لا يردّ ولا يبدل . وقد قال تعالى : ? وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ? . قال وهب بن منبه : لما أرسل الله جبريل إلى مريم نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت .(3/55)
قوله عز وجل : ? فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً (22) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً (26) ? .
عن ابن عباس : ? فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً ? ، قال : مكانًا نائيًا . وعن قتادة : ? فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ? ، قال : اضطرّها إلى جذع النخلة . وقال السدي : ? قَالَتْ ? وهي تطلق استحياء من الناس : ? يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً ? ، قال قتادة تقول : لا أعرف ولا يدري من أنا . وقال ابن زيد : ? فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا ? ، قال : عيسى ناداها : ? أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ? ، قال البراء بن عازب : هو : الجدول . وقال ابن عباس : وهو : نهر عيسى . وقال سعيد بن جبير : هو : الجدول . النهر الصغير ، وهو بالنبطية سري . وعن ابن عباس : ? وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ? ، قال : كان جذعًا يابسًا ، فقال : هُزّيه ? تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ? ، قال عمرو بن ميمون : ما من شيء خير للنفساء من التمر ، والرطب .(3/56)
وقوله تعالى : ? فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً ? ، قال الضحاك : كان من بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم من الطعام ، إلاَّ من ذِكْرِ الله .
قوله عز وجل : ? فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31) وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) ? .(3/57)
عن قتادة : ? لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ? ، قال : عظيمًا ، ? يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ? ، قال : كانت من أهل بيت يُعرفون بالصلاح ولا يُعرفون بالفساد ، قال : وكان من بني إسرائيل رجل صالح يسمى هارون ، فشبّهوها به ، يعني : في الصلاح . وعن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران فقالوا لي : ألستم تقرءون ? يَا أُخْتَ هَارُونَ ? ؟ قلت : بلى ، وقد علمتم ما كان بين عيسى ، وموسى ، فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال : « ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم » . رواه مسلم وغيره .
وعن وهب بن منبه : ? فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ? ، يقول : أشارت إليه أن كلّموه ، ? قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً ? ، فأجابهم عيسى عنها فقال لهم : ? إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ? الآية . وقال عكرمة : ? آتَانِيَ الْكِتَابَ ? قضى أن يؤتيني الكتاب . وعن مجاهد : ? وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ ? ، قال : مقامًا . وقال سفيان : معلمًا للغير . وقال قتادة : ذكر لنا أنه كان يقول : سلوني فإن قلبي لين ، وإني صغير في نفسي ، مما أعطاه الله من التواضع . وقال بعض السلف : لا تجد عاقّاً إلاَّ وجدته جبارًا شقيًا ، ولا تجد سيّئ الملكة إلا وجدته مختالاً فخورًا .
وعن قتادة قوله : ? ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ? امترت اليهود والنصارى ، فأما اليهود فزعموا أنه ساحر كذاب ، وأما النصارى فزعموا أنه ابن الله ، وثالث وثلاثة ، وإله ، وكذبوا كلهم ، ولكنه عبد الله ورسوله ، وكلمته وروحه .(3/58)
قوله عز وجل : ? فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (38) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) ? .
قال قتادة : ذكر لنا أنه لما رفع ابن مريم انتخبت بنو إسرائيل أربعة من فقهائهم فقالوا للأول : ما تقول في عيسى ؟ قال : هو الله هبط إلى الأرض فخلق ما خلق وأحيا ما أحيا ، ثم صعد إلى السماء ، فتابعه على ذلك ناس من الناس فكانت اليعقوبية من النصارى . وقال الثلاثة الآخرون : نشهد أنك كاذب ؛ فقالوا للثاني : ما تقول في عيسى ؟ قال : هو ابن الله ، فتابعه على ذلك ناس من الناس فكانت النسطورية من النصارى . وقال الاثنان الآخران : نشهد إنك كاذب ؛ فقالوا للثالث : ما تقول في عيسى ؟ قال : هو إله ، وأمه إله ، والله إله ، فتابعه على ذلك ناس من الناس فكانت الإسرائيلية من النصارى . فقال الرابع : أشهد أنك كاذب ، ولكنه عبد الله ورسوله ، هو كلمة الله وروحه ، فاختتم القوم فقال المرء المسلم : أنشدكم الله ما تعلمون أن عيسى كان يَطْعَمُ الطعام ، وأن الله تبارك وتعالى يُطْعِمُ الطعام ؟ قالوا : اللهم نعم ، قال : ما تعلمون أن عيسى كان ينام ؟ قالوا : اللهم نعم ، قال : فخصمهم المسلم .
وقوله تعالى : ? أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ? ، أي : ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة . قال قتادة : سمعوا حين لا ينفعهم السمع ، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر وقال ابن زيد : هذا في القيامة ، فأما في الدنيا فلا كانت على أبصارهم غشاوة وفي آذانهم وقرًا .(3/59)
وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا ؟ قال : فيشرئبّون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ، قال : فيقال : يا أهل النار هل تعرفون هذا ؟ قال : فيشرئبّون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ، قال : فيؤتى به فيُذبح ، قال ويقال : يا أهل الجنة خلود ولا موت ، ويا أهل النار خلود ولا موت ، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ? وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ? وأشار بيده ثم قال : « أهل الدنيا في غفلة الدنيا » رواه أحمد وغيره .
وكتب عمر بن عبد العزيز لبعض عماله : ( أما بعد فإن الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت فجعل مصيرهم إليه ، وقال فيما أنزل في كتابه الصادق الذي حفظه بعلمه وأشهد ملائكته على حفظه ، أنه يرث الأرض ومن عليها وإليه ترجعون ) .
* * *
الدرس الثالث والستون بعد المائة(3/60)
? وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً (49) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً (51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً (57) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ(3/61)
عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً (65) ?
* * *(3/62)
قوله عز وجل : ? وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً (48) ? .
قال البغوي : الصديق : الكثير الصدق القائم عليه وعن الحسن : ? وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً ? ، قال طويلاً . قال ابن إسحاق يقول : دهرًا والدهر الملي وعن ابن عباس [ قوله ] : ? إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ? ، يقول : لطيفًا .
قال ابن جرير : وقوله : ? وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ? ، يقول : وأجتنبكم وما تدعون من دون الله من الأوثان والأصنام ، ? وَأَدْعُو رَبِّي ? ، يقول : وأدعو ربي بإخلاص العبادة له وإفراده بالربوبية ، ? عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً ? ، يقول : عسى أن لا أشقى بدعاء ربي ، ولكن يجيب دعاء ربي ، ويعطني ما أسأله .(3/63)
قوله عز وجل : ? فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً (49) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً (50) ? .
عن ابن عباس قوله : ? وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ? ، يقول : الثناء الحسن .
قوله عز وجل : ? وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً (51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً (53) ? .
قال البغوي : ? مُخْلَصاً ? ، أي : مختارًا اختاره الله عز وجل .
وقوله تعالى : ? وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ? ، أي : جانبه الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة .
وعن ابن عباس : ? وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ? ، قال : أُدْنِيَ حتى سمع صريف القلم . ? وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ? ، قال : كان هارون أكبر من موسى ، ولكن أراد وهب له نبوته .
قوله عز وجل : ? وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً (55) ? .
عن مجاهد في قوله : ? إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ? ، قال : لم يَعِدْ شيئًا إلاَّ وفى به . قال بعض السلف : إنما قيل له : صادق الوعد لأنه قال لأبيه : ستجدني إن شاء الله من الصابرين . فصدق في ذلك . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان » .(3/64)
قوله عز وجل : ? وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً (57) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58) ? .
عن مجاهد : ? وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ? ، قال : السماء الرابعة . وفي حديث المعراج في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - لما عرج به إلى السماء قال : « أتيت على إدريس في السماء الرابعة » . وعن الأعمش عن إبراهيم قال : قرأ عمر ابن الخطاب سورة مريم فسجد فقال : ( هذا السجود فأين البكي ؟ ) .
قوله عز وجل : ? فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً (65) ? .(3/65)
عن ابن مسعود أنه قيل له : إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن : ? الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ? و? عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ? و ? عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ? فقال ابن مسعود رضي الله عنه : على مواقيتها ، قالوا : ما كنا نرى ذلك إلا على الترك ، قال : ( ذاك الكفر ) .
وعن مجاهد قوله : ? فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ? ، قال : عند قيام الساعة ، وذهاب صالح أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ينزو بعضهم على بعض في الأزقّة . وعن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله أنه قال في هذه الآية : ? فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ? ، قال : نهر في جهنم خبيث الطعم ، بعيد القعر ، يعذّب فيه الذين يتّبعون الشهوات .(3/66)
وقوله تعالى : ? إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ? ، يعني : أنهم لم يروها ، ? إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ? ، أي : العباد صائرون إلى ما وعدهم الله ، ووعده آت لا محالة . وعن قتادة : قوله : ? وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ? ، فيها ساعتان : بكرة وعشيّ ، فإن ذلك لهم لبس ثم ليل ، إنما هو : ضوء ، ونور ، وقال : كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء يحجب له ، فأخبرهم الله أن لهم في الجنة بكرة وعشيًا قدر ذلك الغداء والعشاء . وقوله تعالى : ? تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ? قال ابن جرير : يقول : من كان بكرة وعشيًا قدر ذلك الغداء والعشاء ذا اتقاء عذاب الله ، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه . وعن ابن عباس : أن محمدًا قال لجبرائيل : « ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا » ؟ فنزلت هذه الآية : ? وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ? . قال : هذا الجواب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - . رواه ابن جرير وغيره . وقال سعيد بن جبير : ? لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ? من أمر الآخرة ، ? وَمَا خَلْفَنَا ? ما مضى من الدنيا . وعن مجاهد ? وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ? قال : ما نسيك ربك . وعن قتادة : قوله : ? هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ? ، لا سميّ لله ولا عدل له ، كل خلقه يقوله ويعترف : الله خالقه ، ويعرف ذلك ثم يقرأ هذه الآية : ? ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ? . وعن مجاهد في هذه الآية : ? هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ? ، قال : هل تعلم له شبيهًا ؟ هل تعلم له مثلاً تبارك وتعالى ؟ .
* * *(3/67)
الدرس الرابع والستون بعد المائة
? وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً (74) قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً (77) أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً (82) أَلَمْ تَرَ(3/68)
أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) ? .
* * *(3/69)
قوله عز وجل : ? وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72) ? .
في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « يقول الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وآذاني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته ، وأما أذاه إياي فقوله : إن بها ولدًا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد » .
وعن ابن عباس قوله : ? ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ? ، يعني : القعود ، وهو مثل قوله : ? وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ? . ? ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ? ، يقول : أيهم أشد للرحمن معصية . وهي : معصيته في الشرك . وقال أبو الأحوص : نبدأ بالأكبر فالأكبر جرمًا .
وقوله تعالى : ? ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ? .
قال البغوي : أي : أحق بدخول النار ، يقال : صلى يصلى صليًّا إذا دخل النار وقاسى حرّها .
وقال ابن كثير : ثم ها هنا لعطف الخبر على الخبر ، والمراد : أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها ، وبمن يستحق تضعيف العذاب .(3/70)
وعن ابن عباس قوله : ?وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ? ، يعني : البر والفاجر . وعن ابن مسعود : ? وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ? ، قال : داخلها . وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يردها الناس كلهم ثم يَصْدُرون عنها بأعمالهم » . رواه أحمد وغيره . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلاَّ تَحِلَّه القسم » .
وعن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « يوضع الصراط بين ظهري جهنم عليه حسك كحسك السعدان ، ثم يستجيز الناس فناج مسلّم ، ومجروح به ، ثم ناجٍ ومحتبس ومكدس فيها حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد تفقد المؤمنون رجالاً كانوا معهم في الدنيا :يصلون صلاتهم، ويزكون زكاتهم ، ويصومون صيامهم ، ويحجون حجهم ، ويغزون غزوهم ، فيقولون : أي ربنا من عبادك كانوا معنا في الدنيا يصلون صلاتنا ، ويزكون زكاتنا ، ويصومون صومنا ، ويحجون حجنا ، ويغزون غزونا ، لا نراهم ! . فيقول : اذهبوا إلى النار فمن وجدتم فيها منهم فأخرجوه . فيجدونهم قد أخذتهم النار على قدر أعمالهم ، فمنهم من أخذته النار إلى قدميه ، ومنهم من أخذته النار إلى نصف ساقيه ، ومنهم من أخذته إلى ركبتيه ، ومنهم من أخذته إلى ثدييه ، ومنهم من أخذته إلى عنقه ، ولم تغش الوجوه . فيستخرجونهم منها ، فيطرحون في ماء الحياة . قيل وما ماء الحياة يا رسول الله ؟ قال : « غسل أهل الجنة فينبتون كما تنبت الزرعة في غثاء السيل . ثم تشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله مخلصًا ، فيستخرجونهم منها ، ثم يتحنن الله برحمته على من فيها فما يترك فيها عبدًا في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا أخرجه منها » . رواه ابن جرير .(3/71)
وعن حفصة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدرًا والحديبية » ، قالت فقلت : أليس الله يقول : ? وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ? . قالت : فسمعته يقول : « ? ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ? » . رواه أحمد وغيره .
قوله عز وجل : ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً (74) قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً (76) ? .
عن ابن عباس : ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ? ، قال : المقام المسكن ، والنديّ : المجلس ، والنعمة ، والبهجة . قال قتادة : رأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عيشهم خشونة ، وفيهم قشافة فعرض أهل الشرك بما تسمعون ، ? وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً ? ، قال : أكثر متاعًا وأحسن منزلة ومستقرًا ، فأهلك أموالهم وأفسد صورهم عليهم تبارك وتعالى . وقال ابن عباس : الرئيّ : المنظر الحسن .
وعن مجاهد قوله : ? فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً ? ، فليدعه الله في طغيانه .(3/72)
وقوله تعالى : ? حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا ? ، أي : في الدنيا ، ? وَإِمَّا السَّاعَةَ ? فيدخلون النار ، ? فَسَيَعْلَمُونَ ? عند ذلك ، ? مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً ? أهم ، أم المؤمنون ؟ ? وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ? ، أي : إيمانًا ويقينًا على يقينهم ? وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ? أي : الأذكار ، وجميع الأعمال الصالحة التي تبقى لصاحبها ، ? خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ? ، أي : عاقبة ، ومرجعًا .
قوله عز وجل : ? أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً (80) ? .
في الصحيحين عن خباب بن الأرت قال : ( كنت رجلاً قينًا وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه منه فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت : لا و الله لا أكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - حتى تموت ثم تُبعث قال : فإني إذا متّ ثم بعثت جئتني ولي ثَمّ مال وولد فأعطيتك ، فأنزل الله : ? أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً إلى قوله : ? وَيَأْتِينَا فَرْداً ? .
وقوله تعالى : ? أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلَّا ? ، قال البغوي : ردّ عليه ، يعني : لم يفعل ذلك .
وقال ابن كثير : وقوله : ? كَلَّا ? ، هي حرف ردع لما قبلها ، وتأكيد لما بعدها .
وعن مجاهد قوله : ? وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ? ماله وولده ، ? وَيَأْتِينَا فَرْداً ? ، قال قتادة : لا مال له ولا ولد .(3/73)
قوله عز وجل : ? وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (87) ? .
قال الضحاك في قوله : ? وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ? ، قال : أعداء . وقال مجاهد : عدنا عليهم نخاصمهم ونكذبهم .
وقوله تعالى : ? أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ? ، قال ابن عباس إغراء في الشرك . وقال ابن زيد : تشليهم أشلاء على معاصي الله .
وعن ابن عباس قوله : ? إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ? ، يقول : أنفاسهم التي يتنفسون في الدنيا ، فهي معدودة وآجالهم . وعن علي في قوله : ? يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً ? ، قال : ( أما والله ما يحشر الوفد على أرجلهم ولا يساق سوقًا ، لكنهم يؤتون بِنُوقٍ لم ير الخلائق مثلها ، عليها رحال الذهب ، وأزمتها الزبرجد ، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة ) .
وعن ابن عباس قوله : ? وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ? ، يقول : عطاشًا ، ? لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ? ، قال : العهد شهادة أن لا الله إلاَّ الله ، ويتبّرأ إلى الله من الحول ولا يرجو إلاَّ الله . قال ابن جريج : المؤمنون يومئذٍ بعضهم لبعض شفعاء .(3/74)
قوله عز وجل : ? وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) ? .
عن ابن عباس قوله : ? لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ? ، يقول : لقد جئتم شيئًا عظيمًا ، وهو المنكر من القول ، ? تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً ? ، قال : إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلاَّ الثقلين ، وكادت أن تزول منه لعظمة الله ، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحّدين ؛ وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لقّنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله ، فمن قالها عند موته وجبت له الجنة » . قالوا : يا رسول الله فمن قالها في صحته ؟ قال : « تلك أوجب وأوجب . - ثم قال - : والذي نفسي بيده لو جيء بالسماوات والأرض وما فيهن وما بينهنّ وما تحتهن ، فوضعن في كفة الميزان ، ووضعت شهادة أن لا أله إلاَّ الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن » .
وقوله تعالى : ? وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ? ، أي : ما يليق به اتخاذ الولد ، ? إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ? ، أي : الخلق كلهم عبيده ، ? لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ? .(3/75)
قال ابن جرير : يقول : وجميع خلقه سوف يرد عليه يوم تقوم الساعة وحيدًا لا ناصر له من الله ولا دافع عنه .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) ? .
عن مجاهد في قوله : ? سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ? ، قال : محبة في المسلمين في الدنيا . وقال ابن عباس : يحبّهم ويحبّبهم . يعني : إلى المؤمنين .
وقوله تعالى : ? فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ ? ، أي : سهلنا القرآن ? بِلِسَانِكَ ? يا محمد ، ? لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ? ، قال قتادة : أي جدالاً بالباطل ، ذوي لدد ، وخصومة .
وقوله تعالى : ? وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ? ، قال قتادة : هل ترى عينًا أو تسمع صوتًا ؟ .
* * *
الدرس الخامس والستون بعد المائة
[ طه ]
مكية ، وهي مائة وخمس وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم(3/76)
? طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (3) تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن(3/77)
لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ(3/78)
هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (3) تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى (8) ? .
عن ابن عباس قوله تعالى : ? طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ? ، فإن قومه قالوا : لقد شقي هذا الرجل بربه فأنزل الله تعالى ذكره ? طه ? ، يعني : يا رجل ، ? مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ? . وقال قتادة : ? مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ? ، لا والله ما جعله شقاء ، ولكن جعله رحمة ونورًا ودليلاً إلى الجنة ، ? إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ? وأن الله أنزل كتابه وبعث رسله رحمة رحم الله بها العباد ، ليتذكر ذاكر وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله وهو ذاكرًا له ، أنزل الله فيه حلاله وحرامه . فقال : ? تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? .(3/79)
قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : الرحمن على عرشه ارتفع وعلا .
? لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ? ، قال محمد بن كعب : أي : ما تحت الأرض السابعة . ? وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ? ، قال ابن عباس : السر : ما علمته أنت ، وأخفى ما قذف الله في قلبك مما لم تعلم . وفي رواية : السر ما أسرّ الإنسان في نفسه ، وأخفى ما لم يعلمه الإنسان مما هو كائن .
? اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى ? .
قال ابن كثير : أي : الذي أنزل عليك القرآن هو الله الذي لا إله إلاَّ هو ذو الأسماء الحسنى ، والصفات العُلى .
قوله عز وجل : ? وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) ? .
قال البغوي : ? وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ? ، أي : وقد أتاك ، استفهام بمعنى : التقرير ، وقال في جامع البيان : فيه تعظيم لشأن الحديث ، وتبيين على أنه إنما عرفه بالوحي .(3/80)
قال ابن عباس : لما قضى موسى الأجل سار بأهله فضل الطريق ، وكان في الشتاء ورفعت لهم نار ، فلما رآها ظن أنها نار وكانت من نور الله : قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدًى ، يقول : من يدل على الطريق . وقال وهب بن منبه : خرج موسى نحوها ، فإذا هي شجر من العليق ؛ وبعض أهل الكتاب يقول : في عوسجة ، فلما دنا ، استأخرت عنه ، فلما رأى استئخارها رجع عنها ، وأوجس في نفسه منها خيفة ، فلما أراد الرجعة دنت منه ثم كلمه من الشجرة ، فلما سمع الصوت استأنس ، قال الله تبارك وتعالى له : ? يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ? قال قتادة : كانتا من جلد حمار ، فقيل له : اخلعهما . وقال الحسن : كانتا من بقر ، لكن إنما أراد الله أن يباشر بقدميه بركة الأرض ، وكان قد قدّس مرتين . وقال مجاهد : طوى : اسم الوادي .
وقوله تعالى : ? وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ? ، أي : اصطفيتك ، ? فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ? ، قال مجاهد : إذا صلى ذكر ربه وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها ، فيصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى قال : ? وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ? » . وعن ابن عباس قوله : ? إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ? ، يقول : لا أظهر عليها أحدًا غيري . وفي مصحف عبد الله ابن مسعود أكاد أخفيها من نفسي ، فكيف يعلمها مخلوق ؟ وقيل : أخفيها فلا أقول هي : آتية .
? لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ? ، أي : بما تعمل من خير وشر ، ? فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا ? ، أي : عن التصديق بالساعة ، ? مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ? فتهلك .(3/81)
قوله عز وجل : ? وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) ? .
قال البغوي : قوله عز وجل : ? وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ? ؟ سؤال تقرير ، والحكمة في هذا السؤال تنبيهه وتوقيفه على أنها عصا ، حتى إذا قلبها حية علم أنها معجزة عظيمة .
وقوله تعالى : ? قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ? ، قال السدي يقول : أضرب بها الشجر للغنم فيقع الورق .
وعن ابن عباس في قوله : ? وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ? ، قال : حوائج أخرى قد علمتها ، ? قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ? ، أي : عصا كما كانت .
وعن مجاهد قوله : ? وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ? ، قال كفّه تحت عضده ، ? تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ? ، قال : من غير برص ? لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ? . قال ابن جرير : كي نريك من أدلّتنا الكبرى على عظيم سلطاننا وقدرتنا .(3/82)
قوله عز وجل : ? اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً (35) ? .
قال مجاهد في قوله : ? وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ? ، قال : لجمرة نار أدخلها في فيه عن أمر امرأة فرعون ، تردّ به فرعون حين أخذ بلحيته .
وعن ابن عباس قوله : ? اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ? ، يقول : اشدد به ظهري .
وقوله : ? وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ? .
قال البغوي : يعني : في النبوة وتبليغ الرسالة ، ? كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً ? ، قال ابن جرير : يقول : ? إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً ? ، لا يخفى عليك من أفعالنا شيء .
قوله عز وجل : ? قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) ? .(3/83)
قال البغوي : ? إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ ? وحي إلهام ، ? مَا يُوحَى ? ما يلهم ؛ ثم فسّر ذلك الإلهام وعدّد نعمة عليه فقال : ? أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ ? ، يعني : نهر النيل ، قال ابن إسحاق : لما ولدت موسى أمه أرضعته ، حتى إذا أمر فرعون بقتل الغلمان من سنته تلك ، عمدت إليه فصنعت به ما أمرها الله تعالى ، جعلته في تابوت صغير ومهّدت له فيه ، ثم عمدت إلى النيل فقذفته فيه ، وأصبح فرعون في مجلس له ، كان يجلس على شفير النيل كل غداة ، فبينما هو جالس إذ مرّ النيل بالتابوت ، فقذف به ، وآسية ابنة مزاحم امرأته جالسة إلى جنبه ، فقال : إن هذا الشيء في البحر فائتوني به ، فخرج إليه أعوانه حتى جاءوا به ، ففتح التابوت فإذا فيه صبي في مهده ، فألقى الله عليه محبته وعطف عليه نفسه .
وعن قتادة قوله : ? وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ? ، قال : هو غذاؤه . قال ابن إسحاق : ? قالت ? ، يعني : أم موسى ، ? لأخته قصّيه ? فانظري ما يفعلون به ،فخرجت في ذلك ? فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون ? ، وقد احتاج إلى الرضاع والتمس الثدي ، وجمعوا له المراضع حين ألقى الله محبتهم عليه ، فلا يؤتى بامرأة فيقبل ثديها فيرمضهم ذلك ، فيؤتى بمرضع بعد مرضع فلا يقبل شيئًا منهم ، فقالت لهم أخته حين رأت من وُجْدِهم به وحرصهم عليه : ? هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ? ؟ أي : لمنزلته عندكم وحرصكم على مسرة الملك ؟ قالوا : هاتي فأتت أمه فأخبرتها فانطلقت معها حتى أتتهم ، فناولوها إياه فلما وضعته في حجرها أخذ ثديها ، وسرّوا بذلك منه وردّه الله إلى أمه ، ? كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ? فبلغ لطف الله لها وله أن ردّ عليها ولدها ، وعطف عليها نفع فرعون وأهل بيته ، مع الأمَنَة من القتل الذي يُتخوف على غيره .(3/84)
وعن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إنما قتل موسى الذي قَتَل من آل فرعون خطأ ، فقال الله له : ? وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ? » . قال ابن كثير : ? فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ? ، وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله ، ففرّ منهم هاربًا حتى ورد ماء مدين .
وعن ابن عباس قوله : ? وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ? ، يقول : اختبرناك اختبارًا ? فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ? ، قال ابن عباس يقول : لقد جئت ليمقات يا موسى . وقال قتادة : قدر الرسالة والنبوة .
قوله عز وجل : ? وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) ? .
قال ابن كثير : وقوله : ? وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ? ، أي : اصطفيتك واجتبيتك رسولاً ، ? لِنَفْسِي ? ، أي : كما أريد ، وأشاء . وعن ابن عباس قوله : ? وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ? لا تبطئا . وقال مجاهد : لا تضعفا . وقال ابن زيد : الواني هو الغافل المفرط . وعن السدي : ? فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً ? ، قال : كَنَّياه .(3/85)
وعن ابن عباس قوله : ? لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ? ، يقول : هل يتذكر أَوْ يَخْشَى .
وقال ابن كثير : أي : لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة . ? أَوْ يَخْشَى ? ، أي : يوجد طاعة من خشية ربه .
قال البغوي : فإن قيل : كيف قال : ? لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ? وقد سبق في علمه أنه لا يتذكّر ولا يُسْلِم ؟ قيل : معناه اذهبا على رجاء منكما وطمع ، وقضاء الله وراء أمركما .
وقال ابن زيد في قوله : ? إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ? ، قال : نخاف أن يعجل علينا إذ نبلّغه كلامك وأمرك ، ? يَفْرُطَ ? ويعجل ، وقرأ : ? لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ? . وقال ابن جرير : ? وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ? ، يقول : والسلامة لمن اتبع هدى الله ، وهو بيانه . وعن قتادة قوله : ? أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ? عن طاعة الله .
قوله عز وجل : ? قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ? ، يقول : خلق لكل شيء زوجه ثم هداه لمنحه ومطعمه ومشربه ومسكنه ومولده .(3/86)
وقوله تعالى : ? قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ? ، أي : ما بالهم عبدوا غير الله ، ? قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ? . قال ابن عباس : لا يخطئ ربي ولا ينسى .
قال ابن كثير : لما أخبره موسى أن ربه الذي أرسله ، هو الذي خلق ورزق وقدّر فهدى ، شرع يحتجّ بالقرون الأولى ، أي : الذين لم يعبدوا الله ، أي : فما بالهم إذا كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره ؟ فقال له موسى في جواب ذلك : هم وإن لم يعبدوه فإن عملهم عند الله مضبوط عليهم ، سيجزيهم بعملهم .
وقوله تعالى : ? فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً ? .
قال البغوي : أصنافًا ? مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ? مختلف الألوان ، والطعوم ، والمنافع ، ? كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ? لذوي العقول ، ? مِنْهَا ? ، أي : الأرض ، ? خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ? يوم البعث .
* * *
الدرس السادس والستون بعد المائة(3/87)
? وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَاناً سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى(3/88)
مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى (76) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَاناً سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) ? .
عن مجاهد في قوله : ? مَكَاناً سُوًى ? ، قال : منصفًا بينهم . وعن ابن عباس قوله : ? قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ? فإنه يوم زينة يجتمع الناس إليه ويحشر الناس له .(3/89)
قوله عز وجل : ? فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) ? .
عن ابن عباس قوله : ? فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ? ، يقول : فيهلككم . وقال قتادة : يستأصلكم .
وقوله تعالى : ? فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ? ، قال قتادة : قال السحرة بينهم : إن كان هذا ساحرًا فإنا سنغلبه ، وإن كان من السماء فله أمر . وقال وهب بن منبه : جمع كل ساحر حباله وعصيّه ، وخرج موسى معه أخوه يتكئ على عصاه ، حتى أتى المجمع ، وفرعون في مجلسه معه أشراف أهل مملكته قد استكف له الناس ، فقال موسى للسحرة حين جاءهم : ? وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ? ، فتراود السحرة بينهم ، وقال بعضهم لبعض : ما هذا بقول ساحر .
وقال ابن كثير : وقوله : ? وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ? ، أي : ويستبدّا بهذه الطريقة وهي : السحر . وقال ابن عباس : يعني : ملكهم الذي هم فيه والعيش . وقال علي بن أبي طالب : يصرفان وجوه الناس إليهما .
قال ابن كثير : وقوله : ? فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً ? ، أي : اجتمعوا كلكم صفًا واحدًا ، وألقوا ما في أيدكم مرة واحدة لتبهروا الأبصار وتغلبوا هذا وأخاه ، ? وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ? منا ومنه .(3/90)
قوله عز وجل : ? قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) ? .
عن السدي قال : قالوا : يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال : بل ألقوا ، فألقوا حبالهم وعصيهم وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل ليس منهم رجل إلاَّ ومعه حبل وعصا . وعن وهب بن منبه قال : ? قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا ? فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى ، وبصر فرعون ، ثم أبصار الناس بعد ، ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من العصي والحبال ، فإذا هي حيّات كأمثال الحبال ، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضًا .
? فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى ? ، لما رأى ما ألقوا من الحبال والعصي خيّل إليه أنها تسعى ، فأوحى الله أن : ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى . وفرح موسى فألقى عصاه من يده ، فاستعرضت لما ألقوا من حبالهم وعصيّهم ، وهي : حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى ، فجعلت تلقفها حية ، حية حتى ما يُرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا ، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت ، ووقع السحرة سجّدًا قالوا : آمنا برب هارون وموسى ، لو كان هذا سحرًا ما غلبنا .
وقال ابن عباس في قوله : ? وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ? لا يسعد حيث كان .(3/91)
قوله عز وجل : ? فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى (76) ? .
قال وهب بن منبه : لما قالت السحرة : ? آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ? ، قال لهم فرعون وأسف ورأى الغلبة البيّنة : ? آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ? ، أي : لعظيم السحار الذي علّمكم . وعن السدي : قال فرعون : ? فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ? فقتلهم وقطّعهم ، كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه حين قالوا : ? رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ? وقال : كانوا أول النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء .(3/92)
وعن وهب بن منبه : ? لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ? ، أي : على الله ، ? فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ? اصنع ما بدا لك ، ? إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ? ، أي : ليس لك سلطان إلاَ فيها ثم لا سلطان لك بعد . وقال ابن زيد في قوله : ? وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ? ، قال : أمرهم بتعلّم السحر ، قال : تركوا كتاب الله وأمروا قومهم بتعليم السحر . وعن ابن إسحاق : ? وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ? خير منك ثوابًا ، وأبقى عذابًا .
وعن أبي سعيد رضي الله عنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب فأتى على هذه الآية : ? إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى ? ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « أما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ، وأما الذين ليسوا من أهلها فإن النار تمسّهم ثم يقوم الشفعاء فيشفعون ، فتجعل الضبائر فيؤتى بهم نهرًا يقال له الحياة أو الحيوان ، فينبتون كما ينبت العشب في حميل السيل » . رواه ابن أبي حاتم . وعن عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة . ومنها تخرج الأنهار الأربعة ، والعرش فوقها فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس » رواه أحمد وغيره . وفي الصحيحين : « إن أهل علّيين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء لتفاضل ما بينهم » ، قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء ؟ قال : « بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين » .
* * *
الدرس السابع والستون بعد المائة(3/93)
? وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَّا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)(3/94)
قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَّا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) ? .
عن مجاهد قوله : ? يَبَساً ? ، قال : يابسًا . وعن ابن عباس في قوله : ? لا تخاف دركًا ولا تخشى ? ، يقول : لا تخاف من آل فرعون دركًا ، ولا تخشى من البحر غرقًا .
? فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ? .
قال البغوي : وهذا تكذيب لفرعون في قوله : ? وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ? .(3/95)
قوله عز وجل : ? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (82) ? .
عن ابن عباس قوله : ? وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ ? ، يقول : ولا تظلموا ، ? وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ? ، يقول : فقد شقي ، ? وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ ? من الشرك ، ? وَآمَنَ ? ، يقول : وعد الله ، ? وَعَمِلَ صَالِحاً ? ، يقول : أديّ فرائضي ، ? ثُمَّ اهْتَدَى ? ، قال قتادة : ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه .
قوله عز وجل : ? وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً (89) ? .(3/96)
قال ابن إسحاق : وعد الله موسى حين أهلك فرعون وقومه ، ونجّاه وقومه : ? ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ? تلقاه فيها بما شاء فاستخلف موسى هارون في بني إسرائيل ومعه السامري ، يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به ، فلما كلّم الله موسى قال له : ? وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ? ، قال ابن عباس يقول : حزينًا .
? قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً ? .
قال البغوي : صدقًا ، أن يعطيكم التوارة ، ? أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ ? مدة مفارقتي إياكم ، ? أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ? ، قال ابن كثير : أي : عن قدرتنا واختيارنا .
? وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ? . وعن ابن عباس : ? وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ ? ، فهو ما كان مع بني إسرائيل من حليّ آل فرعون ، يقول : خطؤنا مما أصبنا من حليّ عدوّنا ، وقال قتادة : كان الله وقت لموسى ثلاثين ليلة ثم أتّمها بعشر ، فلما مضت الثلاثون قال عدو الله السامريّ : إنما أصابكم الذي أصابكم عقوبة بالحليّ ، الذي كان معكم ، فهلّموا ، وكانت حليًّا استعاروها من آل فرعون ، فساروا وهي معهم فقدفوها إليه فصوّرها صورة بقرة ، وكان قد صرّ في عمامته أو في ثوبه قبضة من أثر فرس جبرائيل ، فقذفها مع الحليّ والصورة .(3/97)
? فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ ? فجعل يخور خوار البقرة فقال : ? هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ? ، وفي رواية : فقالوا هذا إلهكم وإله موسى ولكن موسى نسي ربه عندكم ، قال الله : ? أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ ? ذلك العجل الذي اتخذوه ، ? قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً ? ؟ .
قال ابن كثير : وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورّعوا عن زينة القوم ، فألقوها وعبدوا العجل ، فتورّعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير ، كما قال ابن عمر : انظروا إلى أهل العراق ، قتلوا ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يسألون عن دم البعوضة .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) ? .
قال ابن عباس : لما قال القوم : ? لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ? ، أقام هارون فيمن تبعه من المسلمين ممن لم يفتتن ، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل ، وتخوف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى : ? فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ? وكان له هائبًا مطيعًا .(3/98)
قوله عز وجل : ? قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) ? .
قال ابن زيد في قوله : ? فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ? ، قال : ما أمرك ؟ ما شأنك ؟ ما هذا الذي أدخلك فيما دخلت فيه ؟ ? قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ? . قال قتادة : يعني : فرس جبريل - صلى الله عليه وسلم - ، ? فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ? ، قال ابن زيد : كذلك حدثتني نفسي . وقال قتادة : كان والله السامريُ عظيما من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ، ولكنّ عدو الله نافق بعدما قطع البحر مع بني إسرائيل .
وقال ابن كثير : ? وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ? ، أي : حَسَّنَتْهُ وأعجبها إذ ذاك ، ? قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ ? ، أي : كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول ، فعقوبتك في الدنيا ، ? أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ ? ، أي : لا تماسّ الناس ولا يمسّونك ، ? وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً ? ، أي : يوم القيامة ، ? لَّنْ تُخْلَفَهُ ? ، أي : لا يحيد لك عنه .
وقوله : ? وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ? . قال ابن عباس : فحرّقه ثم ذرّاه في اليمّ .(3/99)
وقال ابن جرير : وقوله : ? إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ? ، يقول : ما لكم أيها القوم معبود إلاَّ الذي له عبادة جميع الخلق ، لا تصلح العبادة لغيره ، ولا تنبغي أن تكون إلاَّ له ، ? وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ? ، يقول : احتاط بكل شيء علمًا وعلمه ، فلا يخفى عليه شيء ولا يضيق عليه علم جميع ذلك .
* * *
الدرس الثامن والستون بعد المائة
? كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً (112) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ(3/100)
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً (104) ? .
يقول تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قصصنا عليك خبر موسى ، كذلك نقص عليك من الأخبار الماضية كما وقعت : ? وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ? ، من عندنا ، ? ذِكْراً ? ، وهو : القرآن ، ? مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً ? ، قال مجاهد : إثمًا ، ? خَالِدِينَ فِيهِ ? ، أي : مقيمين في عذاب الوزر ، ? وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً ? ، أي : بئسما حملوا على أنفسهم من الإثم .
? يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ? ، قال ابن عباس : ? يَتَخَافَتُونَ ? يتساررون ، ? نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ? ، أي : في الدنيا . قاله ابن جرير .
قال البغوي : قصر ذلك في أعينهم في جنب ما استقبلهم من أهوال يوم القيامة . وقيل : نسوا مقدار لبسهم لشدة ما أهمّهم .(3/101)
وعن شعبة في قوله : ? إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً ? ، يقول : أعلمهم في أنفسهم ، ? إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ? . وقيل : المراد : مدة مكثهم في القبور .
قوله عز وجل : ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً (112) ? .
عن ابن عباس قوله : ? قَاعاً صَفْصَفاً ? ، يقول : مستويًا لا نبات فيه ، ? لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً ? ، يقول : واديًا ، ? ولا أمتًا ? ، يقول : رابية .
? يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ ? يقول : سكنت ، ? فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً ? ، قال : وطء الأقدام .
? يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ? أن يشفع ، ? وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ? ، قال قتادة : ? يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ? من أمر الساعة ، ? وَمَا خَلْفَهُمْ ? من أمر الدنيا .(3/102)
? وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ? ، قال ابن عباس : ذلّت ، ? وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ? ، قال : خسر من أشرك بالله . وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « الظلم ظلمات يوم القيامة » .
وقوله تعالى : ? وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً ? ، قال قتادة : ? ظُلْماً ? أن يزاد في سيئاته ولا يهضم من حسناته . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله سيخلّص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مدَّ البصر ثم يقول : أتنكر من هذا شيئًا ؟ أظلمك كَتَبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يارب ، فيقول : أَفَلَكَ عذر ؟ قال : لا يارب ، فيقول : بلى إنّ لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فتُخرج بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فيقول : احضر وزنك ، فيقول : يارب وما هذه البطاقة مع هذه السجّلات ؟ فيقول : أنك لا تُظلم . قال : فتوضع السجلاّت في كفّة والبطاقة في كفّة فطاشت السجلاّت وثقلت البطاقة ، فلا يثقل مع اسم الله شيء » . رواه الترمذي ، وابن ماجة .(3/103)
وعن أنس رضي الله عنه : قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إذا كان يوم القيامة ماج النَّاس بعضهم في بعضٍ فيأتون آدم فيقولون اشفع إلى ربِّك » ، - وفي رواية - قال : « يَجْلِسُ الْمؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا ، فيأتون آدم فيقولون : أنت آدم أبو الناس ، خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا . فيقول : لست هُنَاكم . ويذكر خطيئته التي أصاب : أكله من الشَّجرة وقد نهي عنها ولكن ائتوا نوحًا أول نبيٍ بعثه الله إلى أهل الأرض ، فيأتون نوحًا فيقول : لست هُنَاكم ويذكر خطيئته التي أصاب : سؤاله ربه بغير علم . ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن . قال : فيأتون إبراهيم فيقول : إني لست هُنَاكم ويذكر ثلاث كذباتٍ كذبهنَّ ولكن ائتوا موسى عبدًا آتَاه الله التوراة وكلمه وقربه نجيًّا . قال : فيأتون موسى فيقول : إني لست هُنَاكم ويذكر خطيئَتهُ الَّتي أَصَاب قتله النَّفس ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلِمتهُ ، قال : فيأتون عيسى فيقول : لَسْتُ هُنَاكُم ولكن ائتوا مُحَمدًا عبدًا غفر اللَّهُ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر . قال : فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه . فإذا رأيتُهُ وقعت ساجدًا فيدعني ما شَاء اللَّهُ أن يدعني ثمَّ يقول : ارفع محمد ، وقل تسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه . قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناءٍ وتحميد يُعَلِّمُنيهِ ، ثمَّ أشفع فَيَحُدُّ لي حَدًّا ، فأخرج فأخرجهم منَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُم الجنَّة . ثمَّ أعود الثَّانية فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدًا فيدعني ما شاء اللَّهُ أن يدعني ثمَّ يقول : ارفع مُحَمَّدُ وقل تسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه . قال فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناءٍ وتحميد يُعلِّمنيه . قال(3/104)
ثمَّ أشفع فيحُدُّ لي حدًّا فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنَّة . حتى ما يبقى في النَّارِ إِلا من قد حبسه القرآنُ . أَيْ : وجب عليه الخلود - ثمَّ تلا هذه الآية : ? عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ? - قال : وهذا المقامُ المحمود الذِي وُعِدَهُ نبيكم » . متفق عليه وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يخرج من النار قوم بالشفاعة كأنهم الثعارير » قلنا : ما الثعارير ؟ قال : « إنه الضغابيس » . متفق عليه . وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء » . رواه ابن ماجة .
قوله عز وجل : ? وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) ? .
قال البغوي : ? وَكَذَلِكَ ? ، أي : كما بينا في هذه السورة ، ? أَنزَلْنَاهُ ? ، يعني : أنزلنا هذا الكتاب ، ? قُرْآناً عَرَبِيّاً ? ، أي : بلسان العرب ، ? وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ? عبرة وعظة . قال قتادة : ? لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ? ما حذروا به من أمر الله وعقابه ووقائعه بالأمم قبلهم ، ? أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ? القرآن ، ? ذِكْراً ? ، أي : حدًا ، وورعًا .
وقوله تعالى : ? فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ? ، أي : عمَّا يصفه به المشركون . ? وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ? ، قال مجاهد : لا تَتْلُه على أحد حتى نبيّنه لك ، ? وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ? .(3/105)
قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : ? وَقُل ? يا محمد : ? رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ? صحيحًا إلى ما علّمتني أمره بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم . قال ابن عيينة : ولم يزل - صلى الله عليه وسلم - في زيادة حتى توفّاه الله عز وجل . وفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : « اللهم انفعني بما علّمتني ، وعلمني ما ينفعني ، وارزقني علمًا ينفعني ، وزدني علمًا الحمد لله على كل حال وأعوذ بالله من
حال أهل النار » .
* * *
الدرس التاسع والستون بعد المائة(3/106)
? وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ(3/107)
وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) ? .(3/108)
عن ابن عباس في قوله : ? وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ ? ، يقول : فترك ، ? وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ? ، يقول : حفظًا . قال ابن زيد : العزم المحافظة على ما أمره الله تبارك وتعالى بحفظه والتمسك به ، قال له : ? يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ? فقرأ حتى بلغ : ? لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ? وقرأ حتى بلغ : ? وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى ? ، قال : فنسي ما عهد إليه في ذلك . قال : وهذا عهد الله إليه . قال : ولو كان له عزم ما أطاع عدوه الذي حسده وأبي أن يسجد له ، وعصى الله الذي كّرمه وشرفه وأمر ملائكته فسجدوا له . وعن ابن عباس قال : إنما سمّي : الإنسان لأنه عهد إليه فنسي . وعن سعيد بن جبير قال : أهبط إلى آدم ثور أحمر ، فكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه ، فهو الذي قال الله : ? فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ? .
وقوله تعالى : ? إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ? . قال ابن عباس : يقول : لا يصيبك فيها عطش ، ولا حر .
? فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ? .
قال البغوي : يعني : على شجرة إن أكلت منها بقيت مخلدًا ؟ ? وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى ? لا يبيد ولا يفنى ؟ ? فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ? ، قال السدي : أقبلا يغطيان عليهما بورق التين ، ? وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ? وفقه للتوبة .(3/109)
قوله عز وجل : ? قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) ? .
وعن ابن عباس قال : تضمّن الله لمن قرأ القرآن واتّبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، ثم تلا هذه الآية : ? فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ? ، يقول : الشقاء . وعن الضحاك : ? فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ? ، قال : الكسب الخبيث . وقال سعيد بن جبير : يسلبه القناعة حتى لا يشبع . وعن ابن عباس قال : كل مال أعطي العبد قلّ أو كثر ، فلم يتق فيه ، فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة ، وإن أقوامًا أعرضوا عن الحق وكانوا أُولي سعة من الدنيا مكثرين ، فكانت معيشتهم ضنكًا ، وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف لهم معايشهم ، من سوء ظنهم بالله .
وقوله تعالى : ? وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ? ، قال ابن عباس : أعمى البصر ، ? قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ? . قال مجاهد في قوله : ? كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ? ، قال : فتركتها ، ? وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ? ، وكذلك اليوم تترك في النار . قال قتادة : نُسُوا من الخير ولم يُنْسَوا من العذاب .(3/110)
وقوله تعالى : ? وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ ? .
قال البغوي : أي : وكما جزينا من أعرض عن القرآن ، كذلك ? نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ ? أشرك ، ? وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ ? مما نعذّبهم به في الدنيا والقبر ، ? وَأَبْقَى ? ، وأدوم .
قوله عز وجل : ? أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) ? .
يقول تعالى : ? أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ? يبيّن لهم القرآن ، ? كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ? كديار عاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وأصحاب مدين وغيرهم ، ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ? لذوي العقول . قال ابن عباس : ? لذوي النهي ? ، يقول : التقى .
وعن مجاهد قوله : ? وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى ? الأجل المسمى : الدنيا .
قال ابن جرير : ومعنى الكلام : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمًّى لكان لزامًا .
قال البغوي : والكلمة الحكم بتأخير العذاب عنهم وأجل مسمى وهو القيامة ، ? لَكَانَ لِزَاماً ? ، أي : لكان لازمًا لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية .(3/111)
? فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ? ، قال ابن عباس : الصلاة المكتوبة . قال البغوي : ? وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ ? ساعاته ، ? فَسَبِّحْ ? ، يعني : صلاة المغرب ، والعشاء . قال ابن عباس : يريد أول الليل ، ? وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ? ، يعني : صلاة الظهر ، وسمّي وقت الظهر أطراف النهار لأنه وقته عند الزوال ، وهو طرف النصف الأول انتهاء ، وطرف النصف الآخر ابتداء . انتهى .
وقيل : التسبيح ها هنا محمول على التنويه والإجلال ، والصواب أن الآية عامة لصلاة المكتوبة وصلاة التطوع ، والتسبيح ، والتحميد ، والتهليل ، والتكبير .
وقوله تعالى : ? لَعَلَّكَ تَرْضَى ? . قال ابن زيد : ترضى ما يثيبك الله على ذلك . وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : كنا جلوسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : « إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا » . ثم قرأ هذه الآية .
قوله عز وجل : ? وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) ? .(3/112)
عن قتادة قوله : ? زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا ? ، أي : زينة الحياة الدنيا ، ? لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ? ، قال : لنبتليهم فيه ، ? وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ? مما متّعنا به هؤلاء من هذه الدنيا وكان هشام بن عروة إذا رأى ما عند السلاطين دخل داره فقال : ? وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ? ثم ينادي : الصلاة ، الصلاة يرحمكم الله . وعن زيد بن ثابت قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
يقول : « من كانت الدنيا همّه فرّق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ، لم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة » . رواه ابن ماجة .
قوله عز وجل : ? وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) ? .(3/113)
يقول تعالى : ? وَقَالُوا ? ، يعني : المشركين ، ? لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ ? ، أي : بآية يقترحونها ، ? أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ? ، يعني : بيان ما فيها وهو القرآن ، كما قال تعالى : ? وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ? .
? وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ? ، أي : قالوا ذلك حين رأوا العذاب يوم القيامة . وعن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « يحتج على الله يوم القيامة ثلاثة : الهالك في الفترة ، والمغلوب على عقله ، والصبي الصغير . فيقول المغلوب على عقله : لم تجعل لي عقلاً أنتفع به ، ويقول الهالك في الفترة : لم يأتني رسول ولا نبي ولو أتاني لك رسول أو نبي لكنت أطوع خلقك لك وقرأ : ? لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ? ، ويقول الصبي الصغير : كنت صغيرًا لا أعقل . قال : فترفع لهم نار ، ويقال لهم : رِدُوها قال : فَيَرِدُها من كان في علم الله أنه سعيد ، وتلكّأ عنها من كان في علم الله أنه شقي ، فيقول : إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم » ؟ رواه ابن جرير .(3/114)
وقوله تعالى : ? قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ ? ، وذلك أن المشركين قالوا : نتربص بمحمد حوادث الدهر ، فقال الله سبحانه : ? قُلْ ? لهم يا محمد : ? كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ ? منا ومنكم ، ? فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ ? ، أي : الطريق المستقيم نحن أم أنتم ، ? وَمَنِ اهْتَدَى ? إلى الحق وسبيل الرشاد ، كما قال تعالى : ? وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ? .
* * *
الدرس السبعون بعد المائة
[ سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ]
مكية ، وهي مائة واثنتا عشرة آية
عن عبد الله بن مسعود قال : ( بني إسرائيل ، والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء هنّ من العتاق الأول ، وهنّ من تلادي ) . رواه البخاري .
بسم الله الرحمن الرحيم(3/115)
? اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ(3/116)
فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) ? .
* * *(3/117)
قوله عز وجل : ? اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) ? .
عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ? وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ ? ، قال : في الدنيا .
وقوله تعالى : ? مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ? ، أي : غافلة .
قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : ما يحدث الله من تنزيل شيء من هذا القرآن للناس ويذكَرهم به ويعظهم : ? إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ? . وعن قتادة قوله : ? مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ ? الآية ، يقول : ما ينزل عليهم من شيء من القرآن : ? إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ? . وقال ابن عباس : ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم ، وقد حرّفوه ، وبدّلوه ، وزادوا فيه ، ونقصوا منه ، وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرؤونه محضًا لم يُشَبْ ؟ !(3/118)
وقوله تعالى : ? وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ? ، قال ابن زيد : قاله أهل الكفر لنبيهم لما جاء به من عند الله ، زعموا أنه ساحر وأن ما جاء به من سحر قالوا : أتأتون السحر وأنتم تبصرون ؟ ? قال ? ، أي : محمد ، وفي قراءة : { قل رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ } ، لا يخفى عليه خافية ، وهو الذي أنزل هذا القرآن ، ? وَهُوَ السَّمِيعُ ? لأقوال الخلق ، ? الْعَلِيمُ ? بأحوالهم .
? بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ? عن ابن عباس قوله : ? أضغاث أحلام ? ، قال : مشتبهة . وعن قتادة قوله : ? أضغاث أحلام ? ، أي : فعل حالم ، إنما هي رؤيا رآها ، ? بل افتراه بل هو شاعر ? كل هذا قد كان منهم .
قال البغوي : يعني : أن المشركين اقتسموا القول فيه وفيما يقوله فقال بعضهم : أضغاث أحلام ، وقال بعضهم : بل هو فرية ، وقال بعضهم : بل محمد شاعر ، وما جاءكم به شعر ، فليأتنا بآية إن كان صادقًا كما أرسل الأولون ؛ قال الله تعالى مجيبًا لهم : ? مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ ? الرسل إذا جاؤوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم ينظروا .
قوله عز وجل : ? وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) ? .
عن قتادة قوله : ? فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? ، يقول : فاسألوا أهل التوراة والإنجيل .(3/119)
قال ابن جرير : أراه أنا يقول : يخبروكم أن الرسل كانوا رجالاً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق .
وقال الضحاك في قوله : ? وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ? ، يقول : لم أجعلهم جسدًا لا يأكلون الطعام .
قال ابن كثير : أي : قد كانوا بشرًا من البشر يأكلون ويشربون مثل الناس . وعن قتادة قوله : ? وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ? ، أي : لا بدّ لهم من الموت . ? ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ ? ، بإنجاء المؤمنين وإهلاك المكذّبين ? فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ? .
قوله عز وجل : ? لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ (15) ? .
عن ابن عباس في قوله : ? لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ? ، يقول : شرفكم ، ? أَفَلَا تَعْقِلُونَ ? ؟ ، ? وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً ? ، قال مجاهد : أهلكناها ، ? وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ ? .(3/120)
? لَا تَرْكُضُوا ? لا تفرّوا ، ? وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ? ، قال قتادة يقول : ارجعوا إلى دنياكم التي أترفتم فيها ، ? لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ? من دنياكم شيئًا ، استهزاء بهم ، ? قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ ? ، قال قتادة : فلما رأوا العذاب وعاينوه لم يكن لهم مجير إلاَّ قولهم : ياويلنا إنا كنا ظالمين ، حتى دمرّ الله عليهم وأهلكهم .
قوله عز وجل : ? وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) ? .(3/121)
عن قتادة قوله : ? وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ? ، يقول : ما خلقناهما عبثًا ولا باطلاً . وعن مجاهد في قوله : ? لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً ? ، قال : زوجة ، ? لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا ? ، من عندنا ، وما خلقنا جنة ، ولا نارًا ، ولا موتًا ، ولا بعثًا . وعن قتادة قوله : ? لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً ? الآية ، أي : أن ذلك لا يكون ولا ينبغي . وقوله : ? إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ? ، يقول : ما كنا فاعلين . وقيل : إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا ، ولكنا لم نفعله لأنه لا يليق بالربوبية ، ? بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ? ، أي : فبطل كذبهم بما نبين من الحق ؛ ثم أوعدهم فقال : ? وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ? الله بما لا يليق به من الصاحبة ، والولد ، والشريك .
? وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ? خَلْقًا ، وملكًا ، وعبيدًا ، ? وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ? ، قال قتادة : لا يعيون . وقال ابن زيد : لا يملّون ، ? يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ? ، قال قتادة : يقول : الملائكة الذين هم عند الرحمن لا يستكبرون عن عبادته ولا يسأمون فيها ؛ وذكر لنا : أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس مع أصحابه إذ قال : « تسمعون ما أسمع » ؟ قالوا : ما نسمع من شيء يا نبي الله . قال : « أني لأسمع أطيط السماء ، وما تلام أن تئط ، وليس فيها موضع راحة إلا وفيه ملك ساجد أو قائم » .(3/122)
قوله عز وجل : ? أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) ? .
قال ابن زيد في قوله : ? أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ? ، يقول : أفي آلهتهم أحد يحيي ؟ ? لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ? ، كما قال تعالى : ? مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ? .
وقال الضحاك في قوله : ? لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ? لا يُسأل الخالق عما يقضي في خلقه ، والخلق مسئولون عن أعمالهم .(3/123)
وقال البغوي : ? أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ? ، استفهام إنكار وتوبيخ . ? قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي ? ، قال ابن جريج : حديث مَن معي وحديث من قبلي . وعن قتادة قوله : ? هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ ? ، يقول : هذا القرآن فيه ذكر الحلال والحرام ، ? وَذِكْرُ مَن قَبْلِي ? ، يقول : ذكر أعمال الأمم السالفة ، وما صنع الله بهم وإلى ما صاروا ، ? بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ? عن كتاب الله ، ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ? به أرسلت الرسل بالإخلاص والتوحيد .
قوله عز وجل : ? وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) ? .
قوله : ? وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ? .
قال البغوي : نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله .
وقوله تعالى : ? يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ? ، قال مجاهد : لمن رضي الله عنه . وقال ابن عباس : الذي ارتضى لهم شهادة أن لا إله إلاَّ الله .(3/124)
وقوله تعالى : ? وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ? ، أي : خائفون أن يعصوه ويخالفوا أمره فيعذبهم ، ? وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ? .
قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : ? وَمَن يَقُلْ ? من الملائكة : ? إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ ? الذي يقول ذلك منهم : ? نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ? .
قال البغوي : الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعهما . وقال ابن كثير : ? وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ ? ، أي : من ادعى منهم أنه إله من دون الله . أي : مع الله ? فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ? أي : كل من قال ذلك ، وهذا شرط ، والشرط لا يلزم وقوعه ، كقوله : ? إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ? ، وقوله : ? لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? .
* * *
الدرس الحادي والسبعون بعد المائة(3/125)
? أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (41) قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ(3/126)
الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ (45) وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) ? .
عن ابن عباس قوله : ? أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً ? ، يقول : ملتصقتين ، ? فَفَتَقْنَاهُمَا ? ، فرفع السماء ووضع الأرض . وقال مجاهد : ففتقهن سبع سماوات بعضهن فوق بعض ، وسبع أرضين بعضهن تحت بعض . وقال عطية : كانت السماء رتقًا لا تمطر ، والأرض رتقًا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات ، وجعل من الماء كل شيءٍ حيٍّ ? أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ? . قال قتادة : كُلَّ شيءٍ حيٍّ خلق من الماء .
قال ابن جرير : وقوله : ? أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ? ، يقول : أفلا يصدقون بذلك ويقرّون بألوهية من فعل ذلك ، ويفردونه بالعبادة ؟(3/127)
وقوله تعالى : ? وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ ? ، أي : جبالاً ، ? أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً ? بين الجبال ، ? لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ? .
قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : جعلنا هذه الفجاج في الأرض ليهتدوا إلى السير فيها .
وقوله تعالى : ? وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً ? ، قال قتادة : سقفًا مرفوعًا وموجًا مكفوفًا ، ? وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ? ، قال مجاهد : الشمس ، والقمر ، والنجوم آيات السماء ، ? وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ? ، قال مجاهد : فلك كهيئة حديدة الرحى ، ? يَسْبَحُونَ ? يجرون .
قوله عز وجل : ? وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) ? .
قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : وما خلّدنا أحدًا من بني آدم يا محمد قبلك في الدنيا فنخلّدك فيها ، ولا بدّ لك من أن تموت كما مات من قبلك ? أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ? ؟ يقول : فهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون في الدنيا بعدك ؟ لا ما ذلك . قيل : نزلت هذه الآية حين قالوا : نتربص بمحمد ريب المنون ، وفي هذه الآية دلالة ظاهرة على أن الخضر عليه السلام ميت ، لأن الله لم يجعل الخلد في الدنيا لأحد من بني آدم .(3/128)
? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ? ، قال ابن عباس يقول : نبتليكم : بالشدّة ، والرخاء ، والسقم ، والغنى ، والفقر ، والحلال ، والحرام ، والطاعة ، والمعصية ، والهدى ، والضلال . وقال ابن زيد : نبلوهم بما يحبون وبما يكرهون نختبرهم بذلك ، لننظر كيف شكرهم فيما يحبون ، وكيف صبرهم فيما يكرهون .
قوله عز وجل : ? وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (41) ? .
يقول تعالى : ? وَإِذَا رَآكَ ? ، يا محمد هؤلاء المشركون ، ? إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ? ، سخريًا . يقول بعضهم لبعض : ? أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ? ، يعيبها ؟ ? وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ? ، كما قال تعالى : ? وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ? .
وقوله تعالى : ? خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ? . قال سعيد بن جبير : لما دخلت الروح في رأس آدم وعينيه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخلت في جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قائمًا قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عَجِلاً إلى ثمار الجنة فوقع ، ? سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ? .(3/129)
قال البغوي : هذا خطاب للمشركين ، كانوا يستعجلون بالعذاب ? وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? ، قال الله تعالى : ? لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ ? لا يدفعون ، ? عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ? ، يُمنعون من العذاب ، أي : لو علموا لما أقاموا عن كفّهم ولما استعجلوا ، ? بَلْ تَأْتِيهِم ? ، أي : النار ، ? بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ? يمهلون ، ? وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ ? ، فاصبر كما صبروا ، ? فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ? ، أي : نزل بهم العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه .
قوله عز وجل : ? قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ (45) وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) ? .(3/130)
قال ابن عباس في قوله : ? قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ? قال : يحرسكم ، ? بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ ? يجأرون . أي : الآلهة لا يستطيعون نصر أنفسهم فكيف ينصرون عابديهم .
? بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء ? في الدنيا ، ? وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ? فاغترّوا ، ? أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ? ، قال ابن عباس : تخرب القرية حتى يكون العمران في ناحية ، ? أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ? أم نحن ؟
وعن قتادة قوله : ? قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ ? ، أي : بهذا القرآن ، ? وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ ? ، يقول : إن الكافر قد صمّ عن كتاب الله ، لا يسمعه ولا يشفع به ولا يعقله ، ? وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ ? ، يقول : عقوبة ، ? لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ? ندموا حين لا ينفعهم الندم .
قوله عز وجل : ? وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) ? .(3/131)