بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : تفسير مقاتل بن سليمان
المؤلف: أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي بالولاء البلخي
دار النشر : دار الكتب العلمية - لبنان/ بيروت - 1424 هـ - 2003 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 3
تحقيق : أحمد فريد
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ](1/20)
صفحة رقم 21
( مقدمة المصنف )
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عقيل بن زيد الشهرزوري ، رضي الله عنه ، قال :
حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن علي بن زادلج ، قال : حدثنا عبد الخالق بن الحسن ،
قال عبيد الله بن ثابت بن يعقوب الثوري المقرئ قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الهذيل
ابن حبيب أبو صالح الزيداني ، عن مقاتل بن سليمان ، عن ثلاثين رجلا ، منهم اثني عشر
رجلا من التابعين ، منهم من زاد على صاحبه الحرف ، ومنهم من وافق صاحبه في
التفسير ، فمن الاثنى عشر : عطاء بن أبي رباح ، والضحاك بن مزاحم ، ونافع مولى ابن
عمر ، والزبير ، وابن شهاب الزهري ، ومحمد بن سيرين ، وابن أبي مليكة ، وشهر بن
حوشب ، وعكرمة ، وعطية الكوفي ، وأبو إسحاق الشعبي ، ومحمد بن علي بن الحسين
ابن علي ، ومن بعد هؤلاء قتادة ونظراؤه ، حتى ألفت هذا الكتاب .
قال عبد الخالق بن الحسن : وجدت على ظهر كتاب عبيد الله بن ثابت ، عن أبيه تمام
الثلاثين الذين روى عنهم مقاتل . قال : حدثنا الهذيل ، قال : رجال مقاتل الذين أخذ التفسير عنهم سوى من سمينا : قتادة بن دعامة ، وسليمان بن مهران الأعمش ، وحماد بن
أبي سليمان ، وإسماعيل بن أبي خالد ، وابن طاوس اليماني ، وعبد الكريم وعبد القدوس
صاحبي الحسن ، وأبو روق ، وابن أبي نجيح ، وليث بن سليم ، وأيوب ، وعمرو بن دينار ،
وداود بن أبي هند ، والقاسم بن محمد ، وعمرو بن شعيب ، والحكم بن عتبة ، وهشام بن
حسان ، وسفيان الثوري ، ثم قال أبو محمد : قال أبي : فقلت لأبي صالح : لم كتب عن
سفيان وهو أكبر منه ؟ فقال : إن مقاتل عمر ، فكتب عن الصغار والكبار .
قال أبو محمد : قال أبي : قال أبو صالح : بذلك أخبرني مقاتل . قال : حدثنا عبد الله ،
قال : وحدثني أبي ، قال : حدثنا الهذيل ، عن مقاتل ، قال : أنزل القرآن على خمسة أوجه :
أمره ، ونهيه ، ووعده ، ووعيده ، وخبر الأولين . قال : حدثنا عبيد الله ، قال : وحدثني أبي ،
قال : حدثني الهذيل ، عن المسيب ، عن الأعمش ، عن ابن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله
عنه ، قال : تعلموا التأويل قبل أن يجيء أقوام يتأولونه على غير تأويله .(1/21)
صفحة رقم 22
قال : حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا الهذيل ، عن أبي قلابة ، عن ابن
عباس ، قال : ما أنزل الله عز وجل كتابا ، إلا أحب أن يعلم تأويله . قال : حدثنا عبيد الله ،
قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا الهذيل ، عن إسماعيل بن عياش الحمصي ، قال : أخبرني
معاذ ابن رفاعة ، عن إبراهيم العذري ، قال : يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ،
ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين . قال : حدثنا عبيد الله ،
قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا الهذيل ، عن سفيان الواسطي ، قال : إن مثل من قرأ القرآن
ولم يعلم تفسيره ، كمثل رجل جاءه كتاب أعز الناس عليه ، ففرح به ، فطلب من يقرؤه
له ، فلم يجده وهو أمي ، فهكذا من قرأ القرآن ولم يدر ما فيه .
قال : حدثنا عبيد الله ، قال : وحدثني أبي ، عن الهذيل ، عن علي بن عاصم ، عن عطاء
ابن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن ابن مسعود ، قال : كنا إذا علمنا رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) العشر آيات من القرآن ، لم نجاوزهن إلى غيرهن حتى نعلم ما فيهن . قال : حدثنا
عبيد الله ، قال : وحدثني أبي ، قال : حدثني الهذيل ، عن ابن المسيب ، عن الكلبي ، عن أبي
صالح ، عن ابن عباس ، قال : القرآن على أربعة أوجه : تفسير يعلمه العلماء ، وعربية
تعرفها العرب ، وحلال وحرام لا يسع الناس جهله ، وتأويل لا يعلمه إلا الله عز وجل ،
قلت : وما التأويل ؟ قال : ما هو كائن .
قال : حدثنا عبيد الله ، قال : وحدثنا أبي ، عن الهذيل ، عن مقاتل ، أنه قال : في القرآن
خاص وعام ، خاص للمسلمين ، وخاص في المشركين ، وعام لجميع الناس ، ومتشابه ،
ومحكم ، ومفسر ، ومبهم ، وإضمار ، وتمام ، وصلات في الكلام مع ناسخ ومنسوخ ،
وتقديم وتأخير ، وأشباه مع وجوه كثيرة ، وجواب في سورة أخرى ، وأمثال ضربها الله
عز وجل لنفسه ، وأمثال ضربها للكافر والصنم ، وأمثال ضربها للدنيا ، والبعث ،
والآخرة ، وخبر الأولين ، وخبر ما في الجنة والنار ، وخاص لمشرك واحد ، وفرائض ،
وأحكام ، وحدود ، وخبر ما في قلوب المؤمنين ، وخبر ما في قلوب الكافرين ، وخصومة
مشركي العرب ، وتفسير ، وللتفسير تفسير .
قال : حدثنا عبيد الله ، قال : حدثنا أبي ، عن الهذيل بن حبيب ، عن مقاتل ، قال : من
قرأ القرآن فلم يعلم تأويله ، فهو فيه أمي . قال : حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني أبي ، عن
الهذيل ، عن مقاتل ، عن عبد الكريم الجزوي ، قال : ما أجد أعظم أجرا يوم القيامة ممن
علم القرآن وعلمه .(1/22)
صفحة رقم 23
وذكر مقاتل حساب الجمل ، فقال : يبدأ بحروف أبي جاد ، فألحقها بها ألف واحد ،
ب اثنين ، ج ثلاثة ، د أربعة ، ه خمسة ، و ستة ، ز سبعة ، ح ثمانية ، ط تسعة ، ي عشرة ،
ك عشرون ، ل ثلاثون ، م أربعون ، ن خمسون ، ص ستون ، ع سبعون ، ف ثمانون ، س
تسعون ، ق مائة ، ر مائتين ، ش ثلاثمائة ، ت أربعمائة ، باقي المعجم : ث خمسمائة ، خ
ستمائة ، ذ سبعمائة ، ض ثمانمائة ، ، ظ تسعمائة ، غ ألف .
قال : وحدثنا عبيد الله ، قال : وحدثني أبي ، عن الهذيل ، عن مقاتل ، قال : قال رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ما أنزل الله عز وجل في القرآن سورة مثل فاتحة الكتاب ، ولا نزل في كتب
الأنبياء مثلها ' ، قال : وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أعطيت بالتوراة السبع الطوال وهن القرآن ،
وأعطيت بالإنجيل المثاني وهن هدى القرآن ، وأعطيت بالزبور المئين وهن ريحان القرآن ،
وفضلني بالمفصل ' .
قال : حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني الهذيل ، عن المسيب بن شريك ، عن أبي روق ،
عن الضحاك ، في قول الله سبحانه وتعالى : ( الم ( ، قال : أنا الله أعلم . قال : حدثنا
عبيد الله ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا الهذيل ، عن أبي جعفر الرازي ، عن أبي العالية
في قوله سبحانه : ( الم ( ، قال : هذه من الثمانية وعشرين حرفا التي دارت الألسن
كلها بها ، وليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسماء الله عز وجل ، وليس منها
اسم إلا وهو في الآية وبلا آية ، وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم ،
فالألف مفتاح الله جل جلاله ، واللام مفتاح اسمه لطيف ، والميم مفتاح اسمه مجيد .
الألف آلاؤه ، واللام لطفه ، والميم مجده .
قال : حدثنا عبيد الله ، قال : وحدثن أبي ، قال : حدثنا الهذيل ، عن أبي بكر الهذلي ،
عن عكرمة في قوله عز وجل : ( ذلك الكتاب ( ، يعني التوراة والإنجيل ، قال أبو
روق : في قوله سبحانه : ( لا ريب فيه ( ، لا شك فيه ، و ) هدى للمتقين ) [ البقرة :
2 ] ، قال : كرامة لهم هداهم إليه ، وأما قوله سبحانه : و ) الذين يؤمنون بالغيب ( ، يعني
بالغيب لا إله إلا الله ، وبما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويقيمون الصلاة ( ، يعني الصلاة
المكتوبة ، ) ويؤتون الزكاة ) [ المائدة : 55 ] ، يعني المفروضة ، ) ومما رزقناهم
ينفقون ) [ البقرة : 3 ] ، قال روق : هذه للعرب خاصة . قال : وقال أبو صالح ، قال
الكلبي : قالت اليهود : جدي وحيي ومن معهما نحن المتقون الذين يؤمنون بالغيب آمنا
بمحمد قبل أن يبعث . قال الكلبي : هاتان الآيتان نزلتا في اليهود .(1/23)
صفحة رقم 24
سورة الفاتحة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال :
حدثنا عبيد الله ، قال : وحدثني أبي ، عن الهذيل ، عن سفيان ، عن منصور ، عن
مجاهد ، قال : قال : فاتحة الكتاب مدنية .
قال :
حدثنا عبيد الله ، قال : وحدثني أبي ، عن الهذيل ، عن مقاتل ، عن الضحاك ، عن إبن
عباس ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : ' فاتحة الكتاب مدنية ' .
سورة فاتحة الكتاب سبع آيات كوفية ، وهي مدنية ، ويقال : مكية ( 1 ) .
تفسير سورة الفاتحة من آية [ 1 - 4 ]
الفاتحة : ( 2 ) الحمد لله رب . . . . .
) الحمد لله ( ( 2 ) ، يعنى الشكر لله ، ) رب العالمين ) [ آية : 2 ] ، يعني الجن
والإنس ، مثل قوله : ( ليكون للعالمين نذيرا ) [ الفرقان : 1 ] ، ) الرحمن الرحيم (
[ آية : 3 ] ، إسمان رفيقان ، أحدهما أرق من الآخر
الفاتحة : ( 3 ) الرحمن الرحيم
) الرحمن ( ، يعني المترحم ،
)( الرحيم ( ، يعني المتعطف بالرحمة ،
الفاتحة : ( 4 ) مالك يوم الدين
) ملك يوم الدين ) [ آية : 4 ] ، يعني يوم
الحساب ، كقوله سبحانه : ( أئنا لمدينون ) [ الصافات : 53 ] ، يعني لمحاسبون ، وذلك
أن ملوك الدنيا يملكون في الدنيا ، فأخبر سبحانه أنه لا يملك يوم القيامة أحد غيره ،
فذلك قوله تعالى : ( والأمر يومئذ لله ) [ الانفطار : 19 ] .(1/24)
صفحة رقم 25
سورة الفاتحة
من آية [ 5 - 7 ]
الفاتحة : ( 5 ) إياك نعبد وإياك . . . . .
) إياك نعبد ( ، يعني نوحد ، كقوله سبحانه في المفصل : ( عابدات (
[ التحريم : 5 ] ،
يعني موحدات ، ) وإياك نستعين ( ( 1 ) [ آية : 5 ] على عبادتك ،
الفاتحة : ( 6 ) اهدنا الصراط المستقيم
) اهدنا الصراط المستقيم ( ( 2 ) [ آية : 6 ] ، يعني دين الإسلام ؛ لأن غير دين الإسلام
ليس بمستقيم ، وفي قراءة إبن مسعود : أرشدنا ،
الفاتحة : ( 7 ) صراط الذين أنعمت . . . . .
) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( ( 3 ) ، يعني دلنا على طريق الذين أنعمت عليهم ،(1/25)
صفحة رقم 26
يعني النبيين الذين أنعم الله عليهم بالنبوة ، كقوله سبحانه : ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) [ مريم : 58 ] ، ) غير المغضوب عليهم ( ، يعني دلنا على دين
غير اليهود الذين غضب الله عليهم ، فجعل منهم القردة والخنازير ، ) ولا الضالين (
[ آية : 7 ] ، يقول : ولا دين المشركين ، يعني النصارى .
قال :
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني أبي ، عن الهذيل ، عن مقاتل ، عن مرثد ، عن أبي
هريرة ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' يقول الله عز وجل : قسمت هذه السورة بيني وبين
عبدي نصفين ، فإذا قال العبد : ( الحمد لله رب العالمين ( ، يقول الله عز وجل :
شكرني عبدي ، فإذا قال : ( الرحمن الرحيم ( ، يقول الله : مدحني عبدي ، فإذا
قال : ( مالك يوم الدين ( ، يقول الله : أثنى علي عبدي ، ولعبدي بقية السورة ، وإذا
قال : ( وإياك نستعين ( ، يقول الله : هذه لعبدي إياي يستعين ، وإذا قال :
( اهدنا الصراط المستقيم ( ، يقول الله : فهذه لعبدي ، وإذا قال : ( صراط الذين أنعمت عليهم ( ، يقول الله : فهذه لعبدي ، ) ولا الضالين ( ، فهذه
لعبدي ' ( 1 ) .
قال :
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا الهذيل ، عن مقاتل ، قال : إذا قرأ
أحدكم هذه السورة فبلغ خاتمتها ، فقال : ( ولا الضالين ( ، فليقل : آمين ، فإن
الملائكة تؤمن ، فإن وافق تأمين الناس ، غفر للقوم ما تقدم من ذنوبهم .(1/26)
صفحة رقم 27
قال :
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني هذيل ، عن وكيع ، عن
منصور ، عن مجاهد ، قال : لما نزلت فاتحة الكتاب رن إبليس .
قال : حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني أبي ، عن صالح ، عن وكيع ، عن سفيان الثوري ،
عن السدى ، عن عبد خير ، عن علي ، رضي الله عنه ، في قوله عز وجل : ( سبعا من المثاني ) [ الحجر : 87 ]
قال : هي فاتحة الكتاب .(1/27)
صفحة رقم 28
سورة البقرة
سورة البقرة مدنية ، وهي مائتان وثمانون آية وعشر وست آيات كوفية
تفسير سورة البقرة من آية [ 1 - 2 ]
البقرة : ( 1 ) الم
) الم ( ( 1 ) [ آية : 1 ]
البقرة : ( 2 ) ذلك الكتاب لا . . . . .
) ذلك الكتاب ( ، وذلك أن كعب بن الأشرف ، وكعب
بن أسيد ، لما دعاهما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الإسلام ، قالا : ما أنزل الله كتاباً من بعد موسى ،
تكذيبا به ، فأنزل الله عز وجل في قولهما : ( آلم ( 1 ) ذلك الكتاب ( ، بمعنى هذا
الكتاب الذي كفرت به اليهود ، ) لا ريب فيه ) 6 ، يعني لا شك فيه أنه من الله جاء ،
وهو أنزله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قال : هذا القرآن ) هدى ( من الضلالة ) للمتقين (
[ آية : 2 ] من الشرك .
تفسير سورة البقرة من آية [ 2 - 5 ]
البقرة : ( 3 ) الذين يؤمنون بالغيب . . . . .
ثم نعتهم ، فقال سبحانه : ( الذين يؤمنون بالغيب ( ، يعني يؤمنون بالقرآن أنه من
الله تعالى جاء ، وهو أنزله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ويعملون بما
فيه ، ) ويقيمون الصلاة ( المكتوبة الخمس ، يعني يقيمون ركوعها وسوجودها في
مواقيتها ، ) ومما رزقناهم ) ) من الأموال ( ( ينفقون ) [ آية : 3 ] ، يعني الزكاة
المفروضة نظيرها في لقمان ، فهاتان الآيتان نزلتا في مؤمني أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم )
والمهاجرين .(1/28)
صفحة رقم 29
البقرة : ( 4 ) والذين يؤمنون بما . . . . .
ثم ذكر مؤمنى أهل التوراة ، عبد الله بن سلام وأصحابه ، منهم : أسيد بن زيد ، وأسد
بن كعب ، وسلام بن قيس ، وثعلبة بن عمر ، وابن يامين ، وأسمه سلام ، فقال : ( والذين يؤمنون ( ، يعني يصدقون ) بما أنزل إليك ( يا محمد من القرآن أنه من الله نزل ،
)( وما أنزل من قبلك ( على الأنبياء ، يعني التوراة والإنجيل والزبور ، ) وبالآخرة هم يوقنون ) [ آية : 4 ] ، يعني يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن ، ثم
جمعهم جميعا ، فقال سبحانه :
البقرة : ( 5 ) أولئك على هدى . . . . .
) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (
[ آية : 5 ] .
فلما سمع أبو ياسر بن أخطب اليهودي بهؤلاء الآيات ، قال لأخيه جدى بن أخطب :
لقد سمعت من محمد كلمات أنزلهن الله على موسى بن عمران ، فقال جدى لأخيه : لا
تعجل حتى تتثبت في أمره ، فعمد أبو ياسر وجدى إبنا أخطب ، وكعب بن الأشرف ،
وكعب بن أسيد ، ومالك بن الضيف ، وحيى بن أخطب ، وسعيد بن عمرو الشاعر ، وأبو
لبابة بن عمرو ، ورؤساء اليهود ، فأتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال جدى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : يا أبا القاسم ،
أخبرني أبو ياسر بكلمات تقولهن آنفا ، فقرأهن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال جدى : صدقتم ، أما
) الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ( ، فنحن هم ، وأما ) والذين يؤمنون بما أنزل إليك ( فهو كتابك ، ) وما أنزل من قبلك ( ، فهو كتابنا ،
)( وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( ، فأنتم هم قد آمنتم بما أنزل إليكم وإلينا ، وآمنتم بالجنة والنار ، فآيتان
فينا وآيتان فيكم .
ثم قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ننشدك بالله أنها نزلت عليك من السماء ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
' أشهد بالله أنها نزلت علي من السماء ' ، فذلك قوله سبحانه في يونس :
( ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي ) [ يونس : 53 ] ، يعني ويستخبرونك أحق هو ؟
قل : ( إي وربي ( ، ويعني بلى وربي إنه لحق . فقال جدى : لئن كنت صادقا ، فإنكم
تملكون إحدى وسبعين سنة ، ولقد بعث الله عز وجل في بني إسرائيل ألف نبي كلهم
يخبرون عن أمتك ولم يخبرونا كم تملكون حتى أخبرتنا أنت الآن ، ثم قال جدى لليهود :
كيف ندخل في دين رجل منتهى ملك أمته إحدى وسبعون سنة ، فقال عمر بن
الخطاب ، رضوان الله عليه : وما يدريك أنها إحدى وسبعون سنة ؟ فقال جدى : أما ألف(1/29)
صفحة رقم 30
في الحساب فواحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون سنة ، فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال
جدي : هل غير هذا ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ' نعم ، ) المص كتاب أنزل إليك ( ' [ الأعراف :
1 ، 2 ] .
فقال جدي : هذه أكبر من الأولى ، ولئن كنت صادقاً : فإنكم تملكون مائتي سنة
واثنتين وثلاثين سنة ، ثم قال : هل غير هذا ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ) الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ( ' [ هود : 1 ] ، فقال جدي : هذه أكبر من الأولى
والثانية ، وقد حكم وفصل ، ولئن كنت صادقاً ، فإنكم تملكون أربعمائة سنة وثلاثا
وستين سنة ، فاتق الله ولا تقولن إلا حقاً ، فهل غير هذا ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ) المر تلك آيات الكتاب ( ' [ الرعد : 1 ] ، فقال جدي : لئن كنت صادقاً ، فإنكم تملكون سبعمائة
سنة وأربعاً وثلاثين سنة ، ثم إن جدي قال : الأن لا نؤمن بما تقول ، ولقد خلطت علينا
فما ندري بأي قولك نأخذ ، وأيما أنزل عليك نتبع ، ولقد لبست علينا حتى شككنا في
قولك الأول ، ولولا ذلك لاتبعناك .
قال أبو ياسر : أما أنا فأشهد أن ما أنزل على أنبيائنا حق ، وأنهم قد بينوا لنا ملك
هذه الأمة ، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول ، ليجمعن له هذه السنون كلها ، ثم نهضوا
من عنده ، فقالوا : كفرنا بقليله وكثيره ، فقال جدي لعبد الله بن سلام وأصحابه : أما
تعرفون الباطل فيما خلط عليكم ؟ فقالوا : بلى نعرف الحق فيما يقول ، فأنزل الله عز
وجل في كفار اليهود بالقرآن : ( الم الله لا إله إلا هو الحي ( الذي لا يموت ، ) القيوم (
يعني القائم على كل شيء ، ) نزل عليك الكتاب ( يا محمد ) بالحق (
لم ينزل باطلاً ، ) مصدقا لما بين يديه ( ، يقول سبحانه : قرآن محمد
يصدق الكتب التي كانت قبله ، ) وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس (
يعني لبني إسرائيل من الضلالة ، ثم قال عز وجل ) وأنزل الفرقان ) [ آل عمران : 1
- 4 ] ، يعني قرآن محمد بعد التوراة والإنجيل ، يعني بالفرقان المخرج من الشبهات
والضلالة ، نظيرها في الأنبياء ، ) ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ) [ الأنبياء : 48 ] ،
يعني المخرج . وفي البقرة ) وبينات من الهدى والفرقان ) [ البقرة : 185 ] . ) إن الذين كفروا بآيات الله ( ، اليهود كفروا بالقرآن ، يعني هؤلاء النفر المسلمين
وأصحابهم ، ) لهم عذاب شديد والله عزيز ( في ملكه وسلطانه ، ) ذو انتقام (
[ آل عمران : 4 ] من أهل معصيته(1/30)
صفحة رقم 31
وأنزلت أيضاً في اليهود في هؤلاء النفر وما يحسبون من المتشابه ، ) هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ) [ آل عمران : 7 ] .
فأما المحكمات ، فالآيات الثلاث اللاتي في الأنعام : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ( ، إلى قوله سبحانه : ( لعلكم تتقون ) [ الأنعام : 151 - 153 ] ، فهن
محكمات ولم ينسخهن شيء من الكتاب ، وإنما سمين أم الكتاب ؛ لأن تحريم هؤلاء
الآيات في كل كتاب أنزله الله عز وجل .
) وأخر متشابهات ( ، يعني : ( آلم ) ) ( ( آلمص ) ) ( ( الر ) ) ( ( المر ( ، شبهوا
على هؤلاء النفر من اليهود كم تملك هذه الأمة من السنين ، ) فأما الذين في قلوبهم
زيغ ( ، يعني ميل عن الهدى ، وهم هؤلاء اليهود ، ) فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء
الفتنة ( ، يعني الكفر ، ) وابتغاء تأويله ( ، يعني منتهى كم يملكون . يقول الله عز
وجل : ( وما يعلم تأويله إلا الله ( ، يعني كم تملك هذه الأمة من السنين ،
)( والراسخون في العلم ( ، يعني عبد الله بن سلام وأصحابه ، ) يقولون آمنا به ) ،
يعني بالقرآن كله ، ) كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ) [ آل عمران : 7 ]
يعني من كان له لب أو عقل .
ثم قال ابن صلام وأصحابه : ( ربنا لا تزغ قلوبنا ( كما أزغت قلوب اليهود
) بعد إذ هديتنا ( إلى الإسلام ، ) وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (
[ آل عمران : 8 ] .
فآيتان من أول هذه السورة نزلتا في أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المهاجرين والأنصار
والآيتان اللتان تليانهما نزلتا في مشركي العرب ، وثلاث عشرة آية في المنافقين من أهل
التوراة
تفسير سورة البقرة من آية [ 6 - 7 ]
البقرة : ( 6 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) [ آية : 6 ](1/31)
صفحة رقم 32
يعني لا يصدقون ، ( البقرة : ( 7 ) ختم الله على . . . . .
) ختم الله على قلوبهم ( ، يعني طبع الله على قلوبهم ، فهم لا
يعقلون الهدى ، ) وعلى سمعهم ( ، يعني آذانهم ، فلا يسمعون الهدى ، ) وعلى أبصارهم غشاوة ( ، يعني غطاء فلا يبصرون الهدى ، ) ولهم عذاب عظيم ( ، [ آية : 7 ] ، يعني
وافر لا انقطاع له .
نزلت هاتان الآيتان في مشركي العرب ، منهم : شيبة وعتبة ابنا ربيعة ، والوليد بن
المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ، اسمه عمرو ، وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية بن خلف ،
وعمرو بن وهب ، والعاص بن وائل ، والحارث بن عمرو ، والنضر بن الحارث ، وعدي
بن مطعم بن عدي ، وعامر بن خالد ، أبو البحتري بن هشام .
تفسير سورة البقرة من آية [ 8 - 9 ]
البقرة : ( 8 ) ومن الناس من . . . . .
ثم رجع إلى المنافقين ، فقال عز وجل : ( ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم
الآخر ( ، يعني صدقنا بالله بأنه واحد لا شريك له ، وصدقنا بالبعث الذي فيه جزاء
الأعمال بأنه كائن ، فكذبهم الله عز وجل ، فقال : ( وما هم بمؤمنين ) [ آية : 8 ] ، يعني
بمصدقين بالتوحيد ولا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال .
البقرة : ( 9 ) يخادعون الله والذين . . . . .
) يخادعون الله ( حين أظهروا الإيمان بمحمد ، وأسروا التكذيب ، ) والذين
ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) [ آية : 9 ] ، نزلت في منافقي أهل الكتاب
اليهود ، منهم : عبد الله بن أبي بن سلول ، وجد بن قيس ، والحارث بن عمرو ، ومغيث
بن قشير ، وعمرو بن زيد ، فخدهم الله في الآخرة حين يقول في سورة الحديث
) ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) [ الحديد : 13 ] ، فقال لهم استهزاء بهم كما
استهزؤوا في الدنيا بالمؤمنين حين قالوا : آمنا وليسوا بمؤمنين ، وذلك قوله عز وجل :
( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) [ النساء : 142 ] ، أيضا على الصراط
حين يقال لهم : ( ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا )(1/32)
صفحة رقم 33
تفسير سورة البقرة من آية [ 10 - 11 ]
البقرة : ( 10 ) في قلوبهم مرض . . . . .
) في قلوبهم مرض ( ، يعني الشك وبمحمد ، نظيرها في سورة محمد : ( أم حسب الذين في قلوبهم مرض ) [ محمد : 29 ] يعني الشك . ) فزادهم الله مرضا ( ، يعني شكاً في قلوبهم ، ) ولهم عذاب أليم ( ، يعني وجيع في الآخرة ،
)( بما كانوا يكذبون ) [ آية : 10 ] لقولهم : ( آمنا بالله وباليوم الآخر ( ، وذلك أن
عبد الله بن أبي المنافق قال لأصحابه : انظروا إليَّ وإلى ما أصنع ، فتعلموا مني وانظروا
دفعي في هؤلاء القوم كيف أدفعهم عن نفسي وعنكم ، فقال أصحابه : أنت سيدنا
ومعلمنا ، ولولا أنت لم نستطع أن نجتمع مع هؤلاء ، فقال عبد الله بن أبيِّ لأبي بكر
الصديق وأخذ بيده : مرحباً بسيد بني تميم بن مرة ، ثاني اثنين ، وصاحبه في الغار
وصفيه من أمته ، الباذل نفسه وماله .
ثم أخذ بيد عمر بن الخطاب ، فقال : مرحبا بسيد بني عدي بن كعب ، القوي في
أمر الله ، الباذل نفسه وماله ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب ، فقال : مرحبا بسيد بني
هاشم ، غير رجل واحد اختصه الله بالنبوة لما علم من صدق نيته ويقينه ، فقال عمر بن
الخطاب ، رضي الله عنه : ويحك يا ابن أبي ، اتق الله ولا تنافق ، وأصلح ولا تفسد ، فإن
المنافق شر خليقة الله ، وأخبثهم خبثا ، وأكثرهم غشا ، فقال عبد الله بن أبي بن سلول : يا
عمر مهلا : فوالله لقد آمنت كإيمانكم ، وشهدت كشهادتكم ، فافترقوا على ذلك .
فانطلق أبو بكر وعمر وعلي ، رحمة الله عليهم ، إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأخبروه بالذي
قاله عبد الله ، فأنزل الله عز وجل على نبيه : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( ،
البقرة : ( 11 ) وإذا قيل لهم . . . . .
) وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ( ، يعني لا تعملوا
في الأرض بالمعاصي ، ) قالوا إنما نحن مصلحون ) [ آية : 11 ] ، يعني مطيعين .
تفسير سورة البقرة من آية [ 12 - 13 ](1/33)
صفحة رقم 34
البقرة : ( 12 ) ألا إنهم هم . . . . .
يقول الله سبحانه : ( ألا إنهم هم المفسدون ( ، يعني العاصين ، ) ولكن لا يشعرون ) [ آية : 12 ] بأنهم مفسدون ،
البقرة : ( 13 ) وإذا قيل لهم . . . . .
) وإذا قيل لهم ءامنوا كما ءامن الناس ( نزلت
في منذر بن معاذ ، وأبي لبابة ، ومعاذ بن جبل ، وأسيد ، قالوا لليهود : صدقوا بمحمد إنه
نبي ، كما صدق به عبد الله بن سلام وأصحابه ، فقالت اليهود : ( قالوا أنؤمن ( ، يعني
نصدق ، ) كما ءامن السفهاء ( ، يعني الجهال ، يعنون عبد الله بن سلام وأصحابه ،
يقول الله عز وجل رداً عليهم : ( ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ) [ آية : 13 ]
بأنهم السفهاء .
تفسير سورة البقرة من آية [ 14 - 15 ]
البقرة : ( 14 ) وإذا لقوا الذين . . . . .
ثم أخبر عنهم ، فقال سبحانه : ( وإذا لقوا الذين ءامنوا ( ، يعني صدقوا من
أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) قالوا ( لهم : ( ءامنا ( صدقنا بمحمد ، ) وإذا خلوا إلى شياطينهم ( ، يعني رؤساء اليهود : كعب بن الأشرف وأصحابه ، ) قالوا ( لهم : ( إنا معكم ( على دينكم ، ) إنما نحن مستهزءون ) [ آية : 14 ] بمحمد وأصحابه ، فقال الله
سبحانه :
البقرة : ( 15 ) الله يستهزئ بهم . . . . .
) الله يستهزئ بهم ( في الآخرة إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب
على الصراط ، فيبقون في الظلمة حتى يقال لهم : ( ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) [ الحديد : 13 ]
فهذا من الاستهزاء بهم ، ثم قال سبحانه : ( ويمدهم ( ويلجهم ) في طغيانهم يعمهون ) [ آية : 15 ] ، يعني في ضلالتهم يترددون .
تفسير سورة البقرة آية [ 16 ]
البقرة : ( 16 ) أولئك الذين اشتروا . . . . .
ثم نعتهم ، فقال سبحانه : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) 6 ، وذلك أن
اليهود وجدوا نعت محمد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في التوراة قبل أن يبعث ، فآمنوا به وظنوا أنه من
ولد إسحاق ، عليه السلام ، فلما بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من العرب من ولد إسماعيل ، عليه(1/34)
صفحة رقم 35
السلام ، كفروا به حسداً ، واشتروا الضلالة بالهدى ، يقول : باعوا الهدى الذي كانوا فيه
من الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يبعث ، بالضلالة التي دخلوا فيها بعدما بعث من تكذيبهم
بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فبئس التجارة ، فذلك قوله سبحانه : ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) [ آية : 16 ] من الضلالة .
تفسير سورة البقرة آية [ 17 ]
البقرة : ( 17 ) مثلهم كمثل الذي . . . . .
ثم ضرب الله للمنافقين مثلاً ، فقال عز وجل : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ( طفئت ناره ، يقول الله عز وجل : مثل المنافق إذا تكلم بالإيمان كان
له نور بمنزلة المستوقد ناراً يمشي بضوئها ما دامت ناره تتقد ، فإذا ترك الإيمان كان في
ظلمة كظلمة من طفئت ناره ، فقام لا يهتدي ولا يبصر ، فذلك قوله سبحانه : ( ذهب الله بنورهم ( ، يعني بإيمانهم ، نظيرها في سورة النور : ( ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) [ النور : 40 ] ، يعني به الإيمان ، وقال سبحانه في الأنعام : ( وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) [ الأنعام : 122 ] ، يعني يهتدي به الذين تكلموا به ،
)( وتركهم في ظلمات ( ، يعني الشرك ، ) لا يبصرون ) [ آية : 17 ] الهدى .
تفسير سورة البقرة من آية [ 18 - 19 ]
البقرة : ( 18 ) صم بكم عمي . . . . .
ثم نعتهم ، فقال سبحانه : ( صم ( لا يسمعون ، يعني لا يعقلون ، ) بكم ( خرس
لا يتكلمون بالهدى ، ) عمي ) 6 فهم لا يبصرون الهدى حين ذهب الله بنورهم ، يعني
بإيمانهم ، ) فهم لا يرجعون ) [ آية : 18 ] عن الضلالة إلى الهدى ،
البقرة : ( 19 ) أو كصيب من . . . . .
ثم ضرب للمنافقين
مثلا ، فقال سبحانه : ( أو كصيب من السماء ( ، يعني المطر ، ) فيه ظلمات ورعد وبرق (
مثل المطر مثل القرآن ، كما أن المطر حياة الناس ، فكذلك القرآن حياة لمن آمن به ، ومثل
الظلمات ، يعني الكافر بالقرآن ، يعني الضلالة التي هم فيها ، ومثل الرعد ما خوفوا به
من الوعيد في القرآن ، ومثل البرق الذي في المطر مثل الإيمان ، وهو النور الذي في
القرآن ، ) يجعلون أصابعهم في ءاذانهم من الصواعق ( ، يقول : مثل المنافق إذا سمع القرآن ،
فصهم أذنيه كراهية للقرآن ، كمثل الذي جعل أصبعيه في أذنيه من شدة الصواعق ،
)( حذر الموت ( ، يعني مخافة الموت ، يقول : كما كره الموت من الصاعقة ، فكذلك(1/35)
صفحة رقم 36
يكره الكافر القرآن ، فالموت خير له من الكفر بالله عز وجل والقرآن ، ) والله محيط بالكافرين ) [ آية : 19 ] ، يعني أحاطه علمه بالكافرين .
تفسير سورة البقرة آية [ 20 ]
البقرة : ( 20 ) يكاد البرق يخطف . . . . .
ثم قال سبحانه : ( يكاد البرق ( الذي في المطر ) يخطف أبصارهم ( ، يعني
يذهب بأبصارهم من شدة نوره ، يقول سبحانه : مثل الإيمان إذا تكلم به المنافق مثل نور
البرق الذي يكاد أن يذهب بأبصارهم ، ) كلما أضاء لهم ( البرق ) مشوا فيه ( ،
يقول : كلما تكلموا يالإيمان مضوا فيه ، يقول : ويضئ لهم نوراً يهتدون به ، ) وإذا أظلم عليهم ( البرق ، أي ذهب ضوءه ، ) قاموا ( في ظلمة لا يبصرون الهدى ، ) ولو شاء الله لذهب بسمعهم ( فلا يسمعون ) وأبصارهم ( فلا يرون أبداً عقوبة لهم ، ) إن
الله على كل شيء قدير ) [ آية : 20 ] من ذلك وغيره .
تفسير سورة البقرة من آية [ 21 - 22 ]
البقرة : ( 21 ) يا أيها الناس . . . . .
) يا أيها الناس اعبدوا ربكم ( ، يعني المنافقين واليهود وحدوا ربكم ، ) الذي خلقكم ( ولم تكونوا شيئا ، ) والذين من قبلكم ( من الأمم الخالية ) لعلكم ( ، يعني
لكي ) تتقون ) [ آية : 21 ] الشرك وتوحدوا الله عز وجل إذا تفكرتم في خلقكم
وخلق الذين من قبلكم ،
البقرة : ( 22 ) الذي جعل لكم . . . . .
ثم دل على نفسه بصنعه ليوحدوه وذكرهم النعم ، فقال
سبحانه : اعبدوا ربكم ) الذي جعل لكم الأرض فراشا ( ، يعني بساطا ، ) والسماء بناء ( ، يعني سقفا ، ) وأنزل من السماء ماء ( ، يعني المطر ، ) فأخرج به ( ، يقول :
فأخرج بالمطر من الأرض أنواعا ) من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا ( ،
يقول : لا تجعلوا مع الله شركاء ، ) وأنتم تعلمون ) [ آية : 22 ] أن هذا الذي ذكر كله
من صنعه ، فكيف تعبدون غيره ؟ .(1/36)
صفحة رقم 37
تفسير سورة البقرة آية [ 23 ]
البقرة : ( 23 ) وإن كنتم في . . . . .
قالت اليهود ، منهم : رفاعة بن زيد ، وزيد بن عمرو : ما يشبه هذا الكلام الوحي ،
وإنا لفي شك منه ، فأنزل الله عز وجل : ( وإن كنتم في ريب ( ، يعني في شك ،
)( مما نزلنا ( من القرآن ) على عبدنا ( ، يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) فأتوا بسورة من ( الله
) مثله ( ، يعني مثل هذا القرآن ، ) وادعوا شهداءكم ) [ آية : 23 ] ، يقول : واستعينوا بالآلهة
التي تعبدون ) من دون الله إن كنتم صادقين ) [ آية : 23 ] بأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يقول من
تلقاء نفسه .
تفسير سورة البقرة آية [ 24 ]
البقرة : ( 24 ) فإن لم تفعلوا . . . . .
ثم يقول سبحانه : ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ( ، يعني تجيئوا به ، فيها تقديم تقديمها ،
ولن تفعلوا ذلك ، فإن تفعلوا فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن ، فلم يجيبوه وسكتوا ،
يقول الله سبحانه : ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ( ، وتلك الحجارة
تحت الأرض الثانية مثل الكبريت تجعل في أعناقهم إذا اشتعلت فيها النار احترقت عامة
اليوم ، فكان وهجها على وجوههم ، وذلك قوله سبحانه : ( أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب ( ، يعني شدة العذاب ) يوم القيامة ) [ الزمر : 24 ] .
ثم قال : ( أعدت للكافرين ) [ آية : 24 ] بالتوحيد يخوفهم الله عز وجل ، فلم يخافوا ،
فقالوا من تكذيبهم : هذه النار وقودها الناس ، فما بال الحجارة ، فرق المؤمنون عند
التخويف .
تفسير سورة البقرة آية [ 25 ]
البقرة : ( 25 ) وبشر الذين آمنوا . . . . .
فأنزل الله عز وجل : ( وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من
تحتها الأنهار ( ، يعني البساتين ، ) كلما رزقوا منها من ثمرة ( كلما أطعموا منها(1/37)
صفحة رقم 38
من الجنة من ثمرة ، ) رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ( ، وذلك أن لهم في الجنة
رزقهم فيها بكرة وعشيا ، فإذا أتوا بالفاكهة في صحاف الدر والياقوت في مقدار بكرة
الدنيا وأتوا بالفاكهة غيرها على مقدار عشاء الدنيا ، فإذا نظروا إليه متشابه الألوان ،
قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل ، يعني أطعمنا بكرة ، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير الذي
أتوا به بكرة ، فذلك قوله سبحانه : ( وأتوا به متشابها ( ، يعني يشبه بعضه بعضاً في
الألوان ، مختلفاً في الطعم ، ) ولهم فيها أزواج مطهرة ( خلقن في الجنة مع شجرها
وحللها ، مطهرة من الحيض والغائط والبول والأقذار كلها ، ) وهم فيها خالدون (
[ آية : 25 ] لا يموتون .
تفسير سورة البقرة من آية [ 26 - 27 ]
البقرة : ( 26 ) إن الله لا . . . . .
) إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ( ، وذلك أن الله عز وجل ذكر العنكبوت
والذباب في القرآن ، فضحكت اليهود ، وقالت : ما يشبه هذا من الأمثال ، فقال سبحانه :
( إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ( ، يعني أن الله عز وجل لا يمنعه الحياء أن
يصف للخلق مثلا ، ) ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا ( ، يعني يصدقون
بالقرآن ، ) فيعلمون أنه ( ، أي هذا المثل هو ) الحق من ربهم وأما الذين كفروا ( بالقرآن ، يعني اليهود ، ) فيقولون ماذا أراد الله بهذا ( الذي ذكر
) مثلا ( ، إنما يقوله محمد من تلقاء نفسه وليس من الله ، فأنزل الله عز وجل : ( يضل
به ) 6 ، أي يضل الله بهذا المثل ) كثيرا ( من الناس ، يعني اليهود ، ) ويهدي
به ( ، أي بهذا المثل ) كثيرا ( من الناس ، يعني المؤمنين ، ) وما يضل به ( ، أي(1/38)
صفحة رقم 39
بهذا المثل ) إلا الفاسقين ) [ آية : 26 ] ، يعني اليهود .
البقرة : ( 27 ) الذين ينقضون عهد . . . . .
ثم أخبر فقال سبحانه : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ( ، فنقضوا العهد
الأول ، ونقضوا ما أخذ عليهم في التوراة أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا ، وأن يؤمنوا
بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكفروا بعيسى وبمحمد ، عليهما السلام ، وآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا
ببعض ، ) ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض ( يعني ويعملون
فيها بالمعاصي ، ) أولئك هم الخاسرون ) [ آية : 27 ] في العقوبة ، يعني اليهود ،
ونظيرها في الرعد : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ( من إيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم
سوء الدار ) [ الرعد : 25 ] .
تفسير سورة البقرة من آية [ 28 - 29 ]
البقرة : ( 28 ) كيف تكفرون بالله . . . . .
) كيف تكفرون بالله ( بأنه واحد لا شريك له ، ) وكنتم أمواتا ( ، يعني
نطفا ) فأحياكم ( ، يعني فخلقكم ، وذلك قوله سبحانه : ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) [ الروم : 19 ] ، ) ثم يميتكم ( عند إحيائكم ،
)( ثم يحييكم ( من بعد الموت يوم القيامة ، ) ثم إليه ترجعون ) [ آية : 28 ] ،
فيجزيكم بأعمالكم ، فأما اليهود ، فعرفوا وسكتوا ، وأما المشركون ، فقالوا : أئذا كنا
تراباً ، من يقدر أن يبعثنا من بعد الموت ؟ فأنزل الله عز وجل :
البقرة : ( 29 ) هو الذي خلق . . . . .
) هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ( من شئ ) ثم استوى إلى السماء ) فبدأ بخلقهن ، وخلق الأرض
) فسواهن ( ، يعني فخلقهن ) سبع سماوات ( ، فهذا أعظم من خلق الإنسان ،
وذلك قوله سبحانه : ( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ) [ غافر :
57 ] ، ) وهو بكل شئ ( من الخلق ) عليم ) [ آية : 29 ] بالبعث وغيره .
تفسير سورة البقرة آية [ 30 ]
البقرة : ( 30 ) وإذ قال ربك . . . . .
) وإذا ( ، يعني وقد ) قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ( ، وذلك(1/39)
صفحة رقم 40
أن الله عز وجل خلق الملائكة والجن قبل خلق الشياطين والإنس ، وهو آدم ، عليه
السلام ، فجعلهم سكان الأرض ، وجعل الملائكة سكان السماوات ، فوقع في الجن الفتن
والحسد ، فاقتتلوا ، فبعث الله جندا من أهل سماء الدنيا ، يقال لهم : الجن ، إبليس عدو الله
منهم ، خلقوا جميعا من نار ، وهم خزان الجنة رأسهم إبليس ، فهبطوا إلى الأرض ، فلم
يكلفوا من العبادة في الأرض ما كلفوا في السماء ، فأحبوا القيام في الأرض ، فأوحى
الله عز وجل إليهم : إني جاعل في الأرض خليفة سواكم ورافعكم إليَّ ، فكرهوا ذلك ؛
لأنهم كانوا أهون الملائكة أعمالا ، ) قالوا أتجعل فيها ( ، يقول ، أتجعل في الأرض
) من يفسد فيها ( ، يعني من يعمل فيها بالمعاصي ) ويسفك الدماء ( بغير حق
كفعل الجن ، ) ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ( ، يقول : نحن نذكرك بأمرك ، كقوله
سبحانه : ( ويسبح الرعد بحمده ) [ الرعد : 13 ] ، يعني يذكره بأمره ، ونقدس لك
ونصلي لك ونعظم أمرك .
) قال ( الله سبحانه : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) [ آية : 30 ] إن في علمي أنكم
سكان السماء ، ويكون آدم وذريته سكان الأرض ، ويكون منهم من يسبح بحمدي
ويعبدني ، فخلق آدم ، عليه السلام ، من طين أحمر وأبيض من السبخة والعذبة ، فمن ثم
نسله أبيض وأحمر وأسود مؤمن وكافر ، فحسد إبليس تلك الصورة ، فقال للملائكة
الذين هم معه : أرأيتم هذا الذي لم تروا شيئا من الخلق على خلقته ، إن فضل عليَّ ماذا
تصنعون ؟ قالوا : نسمع ونطيع لأمر الله ، وأسر عدو الله إبليس في نفسه ، لئن فضل آدم
عليه لا يطيعه وليستزنه ، فترك آدم طينا أربعين سنة مصورا ، فجعل إبليس يدخل من دبره
ويخرج من فيه ، ويقول : أنا نار وهذا طين أجوف ، والنار تغلب الطين ولأغلبنه ، فذلك
قوله عزوجل : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ) [ سبأ : 20 ] ،
يعني قوله يومئذ : لأغلبنه ، وقوله : لأحتنكن ، يعني لأحتوين على ذريته إلا
قليلاً ، فقال للروح : ادخلي هذا الجسد ، فقالت : أي رب ، أين تدخلني هذا الجسد
المظلم ؟ فقال الله تبارك وتعالى : ادخليه كرها ، فدخلته كرها ، وهي لا تخرج منه إلا
كرها ، ثم نفخ فيه الروح من قبل رأسه ، فترددت الروح فيه حتى بلغت نصف جسده
موضع السرة ، فجعل للقعود ، فذلك قوله تعالى : ( وكان الإنسان عجولا ) [ الإسراء : 11 ] ،
فجعلت الروح تتردد فيه حتى بلغت أصابع الرجلين ، فأرادت أن تخرج
منها ، فلم تجد منفذا ، فرجعت إلى الرأس ، فخرجت من المنخرين ، فعطس عند ذلك(1/40)
صفحة رقم 41
لخروجها من منخريه ، فقال : الحمد لله ، فكان أول كلامه ، فرد ربه عز وجل : يرحمك
الله ، لهذا خلقتك ، تسبح بحمدي وتقدس لي ، فسبقت رحمته لآدم عليه السلام .
تفسير سورة البقرة آية [ 31 ]
البقرة : ( 31 ) وعلم آدم الأسماء . . . . .
) وعلم ءادم الأسماء كلها ( ثم إن الله تبارك وتعالى حشر الطير والدواب
وهوام الأرض كلها ، فعلم آدم ، عليه السلام ، أسماءها ، فقال : يا آدم ، هذا فرس ، وهذا
بغل ، وهذا حمار ، حتى سمى له كل دابة وكل طير باسمه ، ) ثم عرضهم على الملائكة ) ،
ثم عرض أهل تلك الأسماء على الملائكة الذين هم في الأرض ، ) فقال أنبئوني ( ، يعني
أخبروني ) بأسماء هؤلاء ) ، يعني دواب الأرض كلها ) إن كنتم صادقين ) [ آية :
31 ] بأني جاعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء .
تفسير سورة البقرة آية [ 32 ]
البقرة : ( 32 ) قالوا سبحانك لا . . . . .
) قالوا ( قالت الملائكة : ( سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) [ آية : 32 ] .
قال :
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا الهذيل ، قال : قال مقاتل : قال
الله عز وجل لهم : كيف تدعون العلم فيما لم يخلق بعد ولم تروه وأنتم لا تعلمون من
ترون .
تفسير سورة البقرة آية [ 33 ]
البقرة : ( 33 ) قال يا آدم . . . . .
) قال ( الله عز وجل لآدم : ( يا آدم أنبئهم بأسمائهم ( ، يقول : أخبر الملائكة(1/41)
صفحة رقم 42
بأسماء دواب الأرض والطير كلها ، ففعل ، قال الله عز وجل : ( فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب ( ما يكون في ) السماوات والأرض وأعلم ما تبدون ( ،
يعني ما أظهرت الملائكة لإبليس من السمع والطاعة لرب ) و ( أعلم ) ما كنتم تكتمون ) [ آية : 33 ] ، يعني إبليس وحده ما كان أسر إبليس في نفسه من المعصية لله
عز وجل في السجود لآدم .
تفسير سورة البقرة آية [ 34 ]
البقرة : ( 34 ) وإذ قلنا للملائكة . . . . .
ثم قال : ( وإذ ( ، يعني وقد ) قلنا للملائكة ( الذين خلقوا من مارج من نار
السموم ) اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ( وحده ، فاستثنى لم يسجد ) أبى واستكبر ( ، يعني وتكبر عن السجود لآدم ، وإنما أمره الله عز وجل بالسجود لآدم لما
علم الله منه ، فأحب أن يظهر ذلك للملائكة ما كان أسر في نفسه ، قال : ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) [ الأعراف : 12 ] ، ) وكان ( إبليس ) من الكافرين ) [ آية : 34 ] الذين أوجب الله عز وجل لهم الشقاء في علمه ، فمن ثم لم
يسجد .
تفسير سورة البقرة آية [ 35 ]
البقرة : ( 35 ) وقلنا يا آدم . . . . .
) وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ( ، يعني حواء خلقا يوم الجمعة ، ) وكلا منها رغدا حيث ( ، يعني ما ) شئتما ( ، وإذا شئتما من حيث شئتما ، ) ولا تقربا هذه الشجرة ( ، يعني السنبلة ، وهي الحنطة ، ) فتكونا من الظالمين ) [ أية : 35 ] لأنفسكما .
تفسير سورة البقرة آية [ 36 ]
البقرة : ( 36 ) فأزلهما الشيطان عنها . . . . .
) فأزلهما الشيطان عنها ( ، يقول سبحانه : فاستزلهما الشيطان عنها ، يعني عن
الطاعة ، وهو إبليس ، ) فأخرجهما مما كانا فيه ( من الخير في الجنة ، ) وقلنا اهبطوا (
منها ، يعني آدم وحواء وإبليس بوحي منه ، فهبط آدم بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس(1/42)
صفحة رقم 43
بالبصرة ، وهي الأيلة ، وهبط آدم في واد اسمه نوذ في شعب يقال له : سرنديب ، فاجتمع
آدم وحواء بالمزدلفة ، فمن ثم جمع لاجتماعهما بها ، ثم قال : ( بعضكم لبعض عدو ( ،
فإبليس لهما عدو ، وهما إبليس عدو ، ثم قال : ( ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (
[ آية : 36 ] ، يعني بلاغا إلى منتهى آجالكم الموت .
تفسير سورة البقرة من آية [ 37 - 38 ]
البقرة : ( 37 ) فتلقى آدم من . . . . .
وهبط إبليس قبل آدم ، ) فتلقىءادم من ربه كلمات ( بعدما هبط إلى الأرض يوم
الجمعة ، يعني بالكلمات أن قال : رب ، أكان هذا شئ كنت قدرته عليَّ قبل أن تخلقني ،
فسبق لي به الكتاب أني عاملة ، وسبقت لي منك الرحمة حين خلقتني ؟ قال : نعم يا آدم ،
قال : يا رب ، خلقتني بيدك ، فسويتني ونفخت من روحك ، فعطست فحمدتك ،
فدعوت لي برحمتك ، فسبقت رحمتك إلى غضبك ؟ قال : نعم يا آدم ، قال : أخرجتني من
الجنة ، وأنزلتني إلى الأرض يا رب ، إن تبت وأصلحت ترجعني إلى الجنة ؟ قال الله عز
وجل له : نعم يا آدم ، فتاب آدم وحواء يوم الجمعة ، فعند ذلك قالا : ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) [ الأعراف : 23 ] .
) فتاب ( الله عز وجل ) عليه ( يوم الجمعة ، ) إنه هو التواب الرحيم ) [ آية : 37 ]
لخلقه ،
البقرة : ( 38 ) قلنا اهبطوا منها . . . . .
) قلنا اهبطوا منها جميعا ( ، يعني من الجنة جميعا ، آدم ، وحواء ، وإبليس ، فأوحى
الله إليهم بعدما هبطوا ، ) فإما يأتينكم ( ، يعني ذرية آدم ، فإن يأتيكم يا ذرية آدم
) مني هدى ( ، يعني رسولا وكتابا فيه البيان ، ثم أخبر بمستقر من اتبع الهدى في
الآخرة ، قال سبحانه : ( فمن تبع هداي ( ، يعني رسولي وكتابي ، ) فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ آية : 38 ] من الموت .
تفسير سورة البقرة آية [ 39 ]
البقرة : ( 39 ) والذين كفروا وكذبوا . . . . .
) ثم أخبر بمستقر من ترك الهدى ، فقال : ( والذين كفروا ) ) برسلي ( ( وكذبوا بآياتنا ) ) القرآن ( ( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ آية : 39 ] لا يموتون .
تفسير سورة البقرة آية [ 40 ](1/43)
صفحة رقم 44
البقرة : ( 39 ) والذين كفروا وكذبوا . . . . .
) يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ( ، يعني أجدادهم ، فكانت النعمة
حين أنجاهم من آل فرعون ، وأهلك عدوهم ، وحين فرق البحر لهم ، وحين أنزل عليهم
المن والسلوى ، وحين ظلل عليهم الغمام بالنهار من حر الشمس ، وجعل لهم عمودا من
نور يضيء لهم بالليل إذا لم يكن ضوء القمر ، وفجر لهم اثنى عشر عينا من الحجر ،
وأعطاهم التوراة فيها بيان كل شيء ، فدلهم على صنعه ليوحدوه عز وجل .
) وأوفوا بعهدي ( ، يعني اليهود ، وذلك أن الله عز وجل عهد إليهم في التوراة أن
يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وأن يؤمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالنبيين والكتاب ، فأخبر الله عز
وجل عنهم في المائدة ، فقال : ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي (
بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وعزرتموهم ( ، يعني ونصرتموهم ) وأقرضتم الله قرضا حسنا (
[ المائدة : 12 ] ، فهذا الذي قال الله : ( وأوفوا بعهدي ( الذي عهدت إليكم في التوراة ،
فإذا فعلتم ذلك ) أوف ( لكم ) بعهدكم ) 6 ، يعني المغفرة والجنة ، فعاهدهم إن أوفوا له
بما قال المغفرة والجنة ، فكفروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبعيسى ، عليه السلام ، فذلك قوله سبحانه :
( لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار ) [ المائدة :
12 ] ، فهذا وفاء الرب عز وجل لهم ، ) وإياي فارهبون ) [ آية : 40 ] ، يعني وإياي
فخافون في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فمن كذب به فله النار .
تفسير سورة البقرة آية [ 41 ]
البقرة : ( 41 ) وآمنوا بما أنزلت . . . . .
ثم قال : ( وءامنوا بما أنزلت مصدقا ( نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه
رءوس اليهود ، يقول : صدقوا بما أنزلت من القرآن على محمد مصدقا ) لما معكم (
يقول : محمد تصديقه معكم أنه نبي رسول ، ) ولا تكونوا أول كافر به ( يعني محمدا ،
فتتابع اليهود كلها على كفر به ، فلما كفروا تتابعت اليهود كلها ، أهل خيبر ، وأهل
فدك ، وأهل قريظة وغيرهم على الكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قال لرءوس اليهود : ( ولا تشتروا
بآياتي ثمنا قليلا ( ، وذلك أن رءوس اليهود كتموا أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في التوراة ، وكتموا(1/44)
صفحة رقم 45
أمره عن سفلة اليهود ، وكانت للرؤساء منهم مأكلة في كل عام من زرعهم وثمارهم ،
ولو تابعوا محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) لحبست تلك المأكلة عنهم ، فقال الله لهم : ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ( ، يعني بكتمان بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عرضا قليلا من الدنيالا مما تصيبون من سفلة
اليهود ، ثم خوفهم ) وإياي فاتقون ) [ آية : 41 ] في محمد ، فمن كذب به فله النار .
تفسير سورة البقرة آية [ 42 ]
البقرة : ( 42 ) ولا تلبسوا الحق . . . . .
ثم قال لليهود : ( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق ( ، وذلك أن اليهود
يقرون ببعض أمر محمد ويكتمون بعضا ليصدقوا في ذلك ، فقال الله عز وجل : ولا
تخلطوا الحق بالباطل ، نظيرها في آل عمران والأنعام : ( ولم يلبسوا إيمانهم بظلم (
[ الأنعام : 82 ] ، يعني ولم يخلطوا بشرك ) وتكتموا الحق ( ، أي ولا تكتموا أمر محمد
( صلى الله عليه وسلم ) ) وأنتم تعلمون ) [ آية : 42 ] أن محمداً نبي ونعته في التوراة
تفسير سورة البقرة آية [ 43 ]
البقرة : ( 43 ) وأقيموا الصلاة وآتوا . . . . .
وقال لليهود : ( وأقيموا الصلاة ( في مواقيتها ) وءاتوا الزكاة ( ، يعني وأعطوا
الزكاة من أموالكم ، ) واركعوا مع الراكعين ) [ آية : 43 ] ، يعني اليهود صلوا مع المصلين ،
يعني مع المؤمنين من أصحاب النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
تفسير سورة البقرة من آية [ 44 - 46 ]
البقرة : ( 44 ) أتأمرون الناس بالبر . . . . .
) أتأمرون الناس بالبر ( ، وذلك أن اليهود قالوا لبعض أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن
محمدا حق فاتبعوه ترشدوا ، فقال الله عز وجل لليهود : ( وتنسون أنفسكم ( ، يعني
أصحاب محمد ، ) وتنسون أنفسكم ( ، يقول : وتتركون أنفسكم فلا تتبعوه ، ) وأنتم تتلون الكتاب ( ، يعني التوراة فيها بيان أمر محمد ونعته ، ) أفلا تعقلون ) [ آية : 44 ]
أنتم فتتبعونه .
البقرة : ( 45 ) واستعينوا بالصبر والصلاة . . . . .
ثم قال : ( واستعينوا ( على طلب الآخرة ) بالصبر ( على الفرائض ،
)( والصلاة ( الخمس حافظوا عليها في مواقيتها ، ) وإنها لكبيرة ( ، يعني حين صرفت
القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة ، فكبر ذلك على اليهود منهم ، جدي بن أخطب ،(1/45)
صفحة رقم 46
وسعيد بن عمرو الشاعر وغيرهم ، ثم استثنى ، فقال : ( إلا على الخاشعين ) [ آية : 45 ] ،
يعني إلا على المتواضعين من المؤمنين ، لم يكبر عليهم تحويل القبلة ،
البقرة : ( 45 ) واستعينوا بالصبر والصلاة . . . . .
ثم نعت الخاشعين ،
فقال : ( الذين يظنون ( يعني يعلمون يقينا ) أنهم ملاقوا ربهم ( ، يعني في الآخرة ،
( وأنهم إليه راجعون ) [ آية : 46 ] فيجزيهم بأعمالهم .
تفسير سورة البقرة آية [ 47 ]
البقرة : ( 47 ) يا بني إسرائيل . . . . .
) يا بني إسرائيل ( ، يعني اليهود بالمدينة ، ) اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ( ، يعني
أجدادكم ، والنعمة عليهم حين أنجاهم من آل فرعون ، فأهلك عدوهم ، والخير الذي
أنزل عليهم في أرض التيه ، وأعطاهم التوراة ، ثم قال : ( وأني فضلتكم على العالمين ) [ آية :
47 ] ، يعني عالمي ذلك الزمان ، يعني أجدادهم من غير بني إسرائيل .
تفسير سورة البقرة آية [ 48 ]
البقرة : ( 48 ) واتقوا يوما لا . . . . .
ثم خوفهم ، فقال : ( واتقوا يوما لا تجزي نفس ( ، يقول : لا تغني نفس كافرة ) عن
نفس شيئا ( من المنفعة في الآخرة ، ) ولا يقبل منها ( ، يعني من هذه النفس الكافرة ،
)( شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ( ، يعني فداء ، كفعل أهل الدنيا بعضهم من بعض ، ثم قال :
( ولا هم ينصرون ) [ آية : 48 ] ، يقول : ولا هم يمنعون من العذاب .
تفسير سورة البقرة آية [ 49 ]
البقرة : ( 49 ) وإذ نجيناكم من . . . . .
ثم ذكرهم النعم ليوحدوه ، فقال سبحانه : ( وإذ نجيناكم ( ، يعني أنقذناكم
) من ءال فرعون ( ، يعني أهل مصر ، ) يسومونكم سوء العذاب ( ، يعني يعذبونكم شدة
العذاب ، يعني ذبح الأبناء واستحياء النساء ؛ لأن فرعون أمر بذبح البنين في حجور
أمهاتهم ، ثم بين العذاب ، فقال : ( يذبحون أبناءكم ( في حجور أمهاتهم ،
)( ويستحيون نساءكم ( ، يعني قتل البنين وترك البنات ، قتل منهم فرعون ثمانية عشر
طفلا مخافة أن يكون فيهم مولود يكون هلاكه في سببه ، يقول الله عز وجل : ( وفي ذلكم ) ، يعني فيما يخبركم من قتل الأبناء وترك البنات ) بلاء ( ، يعني نقمة ) من
ربكم عظيم ) [ آية : 49 ] فاذكروا فضله عليكم حين أنجاكم من آل فرعون .(1/46)
صفحة رقم 47
تفسير سورة البقرة آية [ 50 ]
البقرة : ( 50 ) وإذ فرقنا بكم . . . . .
) وإذ فرقنا بكم البحر ( وذلك أنه فرق البحر يمينا وشمالا كالجبلين المتقابلين كل
واحد منهما على الآخر ، وبينهما كوى من طريق إلى طريق ، ينظر كل سبط إلى الآخر
ليكون آنس لهم ، ) فأنجيناكم ( من الغرق ) وأغرقنا ءال فرعون ( ، يعني أهل مصر ،
يعني القبط ) وأنتم تنظرون ) [ آية : 50 ] أجدادهم يعلمون أن ذلك حق ، وكان ذلك
من النعم .
تفسير سورة البقرة من [ آية 51 - 52 ]
البقرة : ( 51 - 52 ) وإذ واعدنا موسى . . . . .
وإذ واعدنا موسى ( ، يعني الميعاد ) أربعين ليلة ( ، يعني ثلاثين من ذي القعدة
وعشر ليال من ذي الحجة ، فكان الميعاد الجبل ؛ ليعطى التوراة ، وكان موسى ، عليه
السلام ، أخبر بني إسرائيل بمصر ، فقال لهم : إذا خرجنا منها أتيناكم من الله عز وجل
بكتاب يبين لكم فيه ما تأتون وما تتقون ، فلما فارقهم موسى مع السبعين ، واستخلف
هارون أخاه عليهم ، اتخذوا العجل ، فذلك قوله سبحانه : ( ثم اتخذتم العجل من بعده ( ، يقول : من بعد انطلاق موسى إلى الجبل ) وأنتم ظالمون ) [ آية : 51 ] ،
وذلك أن موسى قطع البحر يوم العاشر من المحرم ، فقال بنو إسرائيل : وعدتنا يا موسى
أن تأتينا بكتاب من ربنا إلى شهر ، فأتنا بما وعدتنا ، فانطلق موسى وأخبرهم أنه يرجع
إلى أربعين يوما عن أمر ربه عز وجل ، فلما سار موسى فدنا من الجبل ، أمر السبعين أن
يقيموا في أصل الجبل ، وصعد موسى الجبل ، فكلم ربه تبارك اسمه ، وأخذ الألواح فيها
التوراة ، فلما مضى عشرون يوما ، قالوا : أخلفنا موسى العهد ، فعدوا عشرين يوما وعشرين ليلة ، فقالوا : هذا أربعون يوما ، فاتخذوا العجل ، فأخبر الله عز وجل موسى
بذلك على الجبل ، فقال موسى لربه : من صنع لهم العجل ؟ قال : السامري صنعه لهم ،
قال موسى لربه : فمن نفخ فيه الروح ؟ قال الرب عز وجل : أنا ، فقال موسى : يا رب
السامري سنع لهم العجل فأضلهم ، وصنعت فيه الخوار ، فأنت فتنت قومي ، فمن ثم قال
الله عز وجل : ( فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ) [ طه : 85 ] ، يعني
الذين خلفهم مع هارون سوى السبعين حين أمرهم بعبادة العجل .
فلما نزل موسى من الجبل إلى السبعين ، أخبرهم بما كان ، ولم يخبرهم بأمر العجل ،(1/47)
صفحة رقم 48
فقال السبعون لموسى : نحن أصحابك جئنا معك ولم نخالفك في أمر ، ولنا عليك حق ،
فأرنا الله جهرة ، يعني معاينة ، كما رأيته ، فقال موسى : والله ما رأيته ، ولقد أردته على
ذلك فأبى ، وتجلى للجبل فجعله دكا ، يعني فصار دكا ، وكان أشد منى وأقوى ، فقالوا :
إنا لا نؤمن بك ولا نقبل ما جئت به حتى تريناه معاينة ، فلما قالوا ذلك أخذتهم
الصاعقة ، يعني الموت عقوبة ، فذلك قوله سبحانه : ( فأخذتكم الصاعقة ) [ البقرة :
55 ] ، يعني الموت ، نظيرها : ( وخر موسى صعقا ) [ الأعراف : 143 ] ، يعني ميتا ،
وكقوله عز وجل : ( فصعق من في السماوات ) [ الزمر : 68 ] ، يعني فمات ) وأنتم تنظرون ( ، يعني السبعين .
ثم أنعم الله عليهم فبعثهم ، وذلك أنهم لما صعقوا قام موسى يبكي ، وظن أنهم إنما
صعقوا بخطيئة العجل ، فقال عز وجل في سورة الأعراف : ( رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ) [ الأعراف : 155 ] ، وقال : يا رب ، ما
أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقد أهلكت أخبارهم ، فبعثهم الله عز وجل لما وجد
موسى من أمرهم ، فذلك قوله سبحانه : ( ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون (
[ آية : 52 ] ، يقول : لكي تشكروا ربكم في هذه النعمة ، فبعثوا يوم ماتوا ، ثم انصرفوا مع
موسى راجعين ، فلما دنوا من العسكر على ساحل البحر ، سمعوا اللغط حول العجل ،
فقالوا : هذا قتال في المحلة ، فقال موسى ، عليه السلام : ليس بقتال ، ولكنه صوت الفتنة ،
فلما دخلوا المعسكر رأى موسى ماذا يصنعون حول العجل ، فغضب وألقى الألواح ،
فانكسر منها لوحان ، فارتفع من اللوح بعض كلام الله عز وجل ، فأمر بالسامري
فأخرج من محلة بني إسرائيل ، ثم عمد إلى العجل فبرده بالمبرد وأحرقه بالنار ، ثم ذراه في
البحر ، فذلك قوله : ( لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ) [ طه : 97 ] .
فقال موسى : إنكم ظلمتم ، أي ضررتم ، أنفسكم باتخاذكم العجل إلها من دون الله
سبحانه وتعالى ، فتوبوا إلى بارئكم ، يعني خالقكم ، وندم القوم على صنيعهم ، فذلك قوله
سبحانه : ( ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ( ، يعني أشركوا بالله عز
وجل ، ) قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ) [ الأعراف :
149 ] ، فقالوا : كيف لنا بالتوبة يا موسى ، قال : اقتلوا أنفسكم ، يعني يقتل بعضكم
بعضا ، كقوله سبحانه في النساء : ( ولا تقتلوا أنفسكم ( ، يقول : لا يقتل بعضكم
بعضا ، ) إن الله كان بكم رحيما ) [ النساء : 29 ] ، يعني ذلك القتل والتوبة خير لكم
عند بارئكم ، يعني عند خالقكم .(1/48)
صفحة رقم 49
قالوا : قد فعلنا ، فلما أصبحوا أمر موسى ، عليه السلام ، البقية الأثنى عشر ألفا الذين
لم يعبدوا العجل أن يقتلوهم بالسيف والخناجر ، فخرج من كل بني أب على حدة من
منازلهم ، فقعدوا بأفنية بيوتهم ، فقال بعضهم لبعض : هؤلاء إخوانكم أتوكم شاهرين
السيوف ، فاتقوا الله واصبروا ، فلعنة الله على رجل حل جيوبه ، أو قام من مجلسه ، أو
اتقى بيد أو رجل ، أو حار إليهم طرفة عين ، قالوا : آمين ، فقتلوهم من لدن طلوع
الشمس إلى انتصاف النهار يوم الجمعة ، وأرسل الله عز وجل عليهم الظلمة حتى لا
يعرف بعضهم بعضا ، فبلغت القتلى سبعين ألفا ، ثم أنزل الله عز وجل الرحمة ، فلم يحد
فيهم السلاح ، فأخبر الله عز وجل موسى ، عليه السلام ، أنه قد نزلت الرحمة ، فقال لهم :
قد نزلت الرحمة ، ثم أمر موسى المنادي فنادى : أن ارفعوا سيوفكم عن إخوانكم ، فجعل
الله عز وجل القتلى شهداء ، وتاب الله على الأحياء ، وعفى عن الذين صبروا للقتل ، فلم
يقتلوا ، فمن مات قبل أن يأتيهم موسى ، عليه السلام ، على عبادة العجل دخل النار ،
ومن هرب من القتل لعنهم الله ، فضربت عليهم الذلة والمسكنة ، فذلك قوله : ( سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا ) [ الأعراف : 152 ] ، وذلك قوله سبحانه :
( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ) [ الأعراف : 167 ] ، ^
فكان الرجل يأتي نادى قومه وهم جلوس ، فيقتل من العشرة ثلاثة ويدع البقية ،
ويقتل الخمسة من العشرين ، ومن كتب عليهم الشهادة ويبقى الذين لم يقض لهم أن
يقتلوا ، فذلك قوله عز وجل : ( ثم عفونا عنكم ( ، فلم نهلككم جميعا ) من بعد ذلك ( ، يعني بعد العجل ) لعلكم ( ، يعني لكي ) تشكرون ) [ البقرة : 52 ] ربكم
في هذه النعم ، يعني العفو ، فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ، وذلك قوله سبحانه في الأعراف : ( والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها ) ، يعني من بعد عبادة العجل
) وآمنوا ( ، يعني وصدقوا بأن الله واحد لا شريك له ، ) إن ربك من بعدها لغفور
رحيم ) [ الأعراف : 153 ] لذو تجاوز عنهم رحيم بهم عند التوبة .
تفسير سورة البقرة آية [ 53 ]
البقرة : ( 53 ) وإذ آتينا موسى . . . . .
) وإذ ءاتينا موسى الكتاب ( ، يعني التوراة ، ) والفرقان ( ، يعني النصر حين فرق
بين الحق والباطل ، ونصر موسى وأهلك فرعون ، نظيرها في الأنفال قوله سبحانه :(1/49)
صفحة رقم 50
) وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ( ، يعني يوم النصر ، ) يوم التقى الجمعان (
[ الأنفال : 41 ] ، فنصر الله عز وجل المؤمنين وهزم المشركين ، ) لعلكم تهتدون ) [ آية :
53 ] من الضلالة بالتوراة ، يعني بالنور .
تفسير سورة البقرة من آية [ 54 - 57 ]
البقرة : ( 54 ) وإذ قال موسى . . . . .
) وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) [ آية :
54 ] ،
البقرة : ( 55 ) وإذ قلتم يا . . . . .
) وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ) [ آية : 55 ] ،
البقرة : ( 56 ) ثم بعثناكم من . . . . .
) ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ) [ آية : 56 ] .
البقرة : ( 57 ) وظللنا عليكم الغمام . . . . .
) وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم ( ، وذلك أن موسى ، عليه السلام ، قالت له
بنو إسرائيل وهم في التيه : كيف لنا بالأبنية ، وقد نزلنا في القفر ، وخرجنا من العمران
من حر الشمس ، فظلل الله عز وجل عليهم الغمام الأبيض يقيهم حر الشمس ، ثم إنهم
سألوا موسى ، عليه السلام ، الطعام ، فأنزل الله عليهم طعام الجنة ، وهو ) المن والسلوى ( ، أما المن ، فهو الترنجبين ، فكان ينزل بالليل على شجرهم أبيض كالثلج ، حلو
مثل العسل ، فيغدون عليه كل إنسان صاع لكل ليلة ، فيغدون عليه فيأخذون ما يكفيهم
ليومهم ، ذلك لكل رجل صاع ، ولا يرفعون منه في غد ، ويأخذون يوم الجمعة ليومين ؛
لأن السبت كان عندهم لا يشخصون فيه ولا يعملون ، كان هذا لهم في التيه ، وتنبت
ثيابهم مع أولادهم ، فأما الرجال ، فكانت ثيابهم عليهم لا تبلى ولا تنخرق ولا تدنس .
وأما السلوى ، فهو الطير ، وذلك أن بني إسرائيل سألوا موسى اللحم وهم في التيه ،
فسأل موسى ربه عز وجل ، فقال الله : لأطعمنهم أقل الطير لحما ، فبعث الله سبحانه
السماء ، فأمطرت لهم السلوى وهي السمانا ، وجمعتهم ريح الجنوب ، وهي طير حمر
تكون في طريق مصر ، فأمطرت قدر ميل في عرض الأرض ، وقدر رمح في السماء(1/50)
صفحة رقم 51
بعضه على بعض ، فقال الله عز وجل لهم : ( كلوا من طيبات ( ، يعني من حلال ،
كقوله : ( فتيمموا صعيدا طيبا ) [ المائدة : 6 ] ، يعني حلالا طيبا في غير مأثم ، وإذا
وجدوا الماء فهو حرام ، فمن ثم قال : ( طيبا ( ، يعني حلالا من ) ما رزقناكم ( من
السلوى ، ولا تطغوا فيه ، يعني تعصوا الله في الرزق فيما رزقكم ، ولا ترفعوا منه لغد ،
فرفعوا وقددوا مخافة أن ينفذ ، ولو لم يفعلوا لدام لهم ذلك ، فقددوا منه ورفعوا فدود
وتغير ما قدروا منه وما رفعوا فعصوا ربهم ، فذلك قوله سبحانه : ( وما ظلمونا ( ، يعني
وما ضرونا ، يعني ما نقصونا من ملكنا بمعصيتهم شيئا حين رفعوا وقددوا منه في غد ،
)( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) [ آية : 57 ] ، يعني أنفسهم يضرون ، نظيرها في
الأعراف قوله سبحانه : ( من طيبات ما رزقناكم ) [ الأعراف : 160 ] إلى آخر الآية .
تفسير سورة البقرة من آية [ 58 - 59 ]
البقرة : ( 58 - 59 ) وإذ قلنا ادخلوا . . . . .
) وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ( يعني إيلياء وهم يومئذ من وراء البحر ، ) فكلوا منها حيث شئتم رغدا ( ، يعني ما شئتم ، وإذ شئتم ، وحيث شئتم ، ) وادخلوا الباب سجدا ( ، يعني باب إيلياء سجدا ، فدخلوا متحرفين على شق وجوههم ، ) وقولوا حطة ( ، وذلك أن بني إسرائيل خرجوا مع يوشع بن نون بن اليشامع بن عميهوذ بن
غيران بن شونالخ بن إفراييم بن يوسف ، عليه السلام ، من أرض التيه إلى العمران حيال
أريحا ، وكانوا أصابوا خطيئة ، فأراد الله عز وجل أن يغفر لهم ، وكانت الخطيئة أن
موسى ، عليه السلام ، كان أمرهم أن يدخلوا أرض أريحا التي فيها الجيارون ، فلهذا قال
لهم : ( وقولوا حطة ( ، يعني بحطة حط عنا خطايانا .
ثم قال : ( نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ) [ آية : 58 ] الذين لم يصيبوا
خطيئة ، فزادهم الله إحسانا إلى إحسانهم ، فلما دخلوا إلى الباب ، فعل المحسنون ما أمروا
به ، وقال الآخرون : هطا سقماثا يعنون حنطة حمراء ، قالوا : ذلك استهزاء وتبديلا ، لما
أمروا به ، فدخلوا مستقلين ، فذلك قوله عز وجل : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا ( ، يعني عذابا ) من السماء ( كقوله(1/51)
صفحة رقم 52
في سورة الأعراف : ( قال قد وقع عليكم من ربكم رجس ) [ الأعراف : 71 ] ، يعني عذابا ، ويقال : الطاعون ، ويقال : الظلمة شبه النار ، ) بما كانوا يفسقون ) [ آية : 59 ] ،
وأهلك منهم سبعون ألفا في يوم واحد عقوبة لقولهم : هطا سقماثا ، فهذا القول
ظلمهم .
تفسير سورة البقرة من آية [ 60 - 61 ]
البقرة : ( 60 - 61 ) وإذ استسقى موسى . . . . .
) وإذ استسقى موسى لقومه ( ، وهم في التيه ، قالوا : من أين لنا شراب نشرب ؟
فدعا موسى ، عليه السلام ، ربه أن يسقيهم ، فأوحى الله عز وجل إلى موسى ، عليه
السلام : ( فقلنا اضرب بعصاك الحجر ( ، وكان الحجر خفيفا مربعا ، فضربه ،
)( فانفجرت منه ( من الحجر ) اثنتا عشرة عينا ( ، فرووا بإذن الله عز وجل ، وكانوا اثنى عشر سبطا ، لكل سبط من بني إسرائيل عين تجري على حدة ، لا يخالطهم غيرهم ،
فذلك قوله سبحانه : ( قد علم كل أناس مشربهم ( ، يعني كل سبط مشربهم ، يقول
الله عز وجل : ( كلوا ( من المن والسلوى ، ) واشربوا ( من العيون ، وهو ) من رزق الله ( حلالا طيبا ، فذلك قوله سبحانه : ( كلوا من طيبات ما رزقناكم ( ، ) ولا تعثوا في الأرض ( ، يقول : لا تعلوا ولا تسعوا في الأرض ) مفسدين ) [ آية : 60 ] ،
يقول : لا تعملوا في الأرض بالمعاصي ، فرفعوا من المن والسلوى لغد ، فذلك قوله
سبحانه : ( ولا تطغوا فيه ) [ طه : 81 ] ، يقول : لا ترفعوا منه لغد ، وكان موسى ( صلى الله عليه وسلم )
إذا ظعن حمل الحجر معه ، وتنصب العيون منه .
ثم إنهم قالوا : يا موسى ، فأين اللباس ؟ فجعلت الثياب تطول مع أولادهم ، وتبقى
على كبارهم ، ولا تمزق ولا تبلى ولا تدنس ، وكان لهم عمود من نور يضئ لهم بالليل
إذا ارتحلوا وغاب القمر ، فلما طال عليهم المن والسلوى ، سألوا موسى نبات الأرض ،(1/52)
صفحة رقم 53
فذلك قوله عز وجل : ( وإذ قلتم يا موسى ( في التيه ) لن نصبر على طعام واحد ( ، يعني المن والسلوى ، ) فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها ( ، يعني الثوم ، ) وعدسها وبصلها ( ، فغضب موسى ، عليه السلام ، ) قال أتستبدلون الذي هو أدنى ( ، يقول : الذي هو دون المن والسلوى من نبات الأرض
) بالذي هو خير ( ، يعني المن والسلوى ، فقال موسى : ( اهبطوا مصرا ( من
الأمصار ، ) فإن لكم ما سألتم ( من نبات الأرض ، ) وضربت عليهم الذلة ( ، يعني
على اليهود الذلة ، وهي الجزية ، ) والمسكنة ( ، يعني الفقر ، ) وباءو بغضب من
الله ( ، يعني استوجبوا غضب الله عز وجل ، ) ذلك ( الذل والمسكنة الذي نزل بهم
) بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ( ، يعني القرآن ، ) ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) [ آية : 61 ] في أديانهم .
) تفسير سورة البقرة آية [ 62 ]
البقرة : ( 62 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) إن الذين آمنوا والذين هادوا ( ، يعني اليهود ، ) والنصارى والصائبين ( ، وهم
قوم يصلون للقبلة ، يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة ، وذلك أن سلمان الفارسي كان من
جند سابور ، فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأسلم ، وذكر سلمان أمر الراهب وأصحابه ، وأنهم
مجتهدون في دينهم يصلون ويصومون ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' هم في النار ' ، فأنزل الله عز
وجل فيمن صدق منهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) : وبما جاء به : ( إن الذين آمنوا ( ، يعني صدقوا ،
يعني أقروا وليسوا بمنافقين ، ) والذين هادوا والنصارى والصابئين ( ) من آمن بالله
واليوم الآخر وعمل صالحا ( ، يقول : من صدق منهم بالله عز وجل ، بأنه واحد لا(1/53)
صفحة رقم 54
شريك له ، وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، بأنه كائن ، ) فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ( من نزول العذاب ، ) ولا هم يحزنون ) [ آية : 62 ] عند
الموت ، يقول : إن الذين آمنوا ، يعني صدقوا بتوحيد الله تعالى ، ومن آمن من الذين
هادووا ومن النصارى ومن الصابئين ، من آمن منهم بالله واليوم الآخر فيما تقدم إلى
آخر الآية .
تفسير سورة البقرة آية [ 62 ]
البقرة : ( 63 ) وإذ أخذنا ميثاقكم . . . . .
) وإذ أخذنا ميثاقكم ( في التوراة ، وأن تعملوا بما فيها ، فلما قرأوا التوراة وفيها
الحدود والأحكام ، كرهوا أن يقروا بما فيها ، رفع الله عز وجل عليهم الجبل ليرضخ به
رءوسهم ، وذلك قوله سبحانه : ( ورفعنا فوقكم الطور ( ، يعني الجبل ، فلما رأوا ذلك
أقروا بما فيها ، فذلك قوله : ( وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم (
[ الأعراف : 171 ] ، ) خذوا ما ءاتيناكم بقوة ( ، يقول : ما أعطيناكم من التوراة بالجد
والمواظبة عليه ، ) واذكروا ( يقول : احفظوا ^ ) ما فيه ( من أمره ونهيه ولا تضيعوه
) لعلكم تتقون ) [ آية : 63 ] ، يقول : لكي تتقوا المعاصي
تفسير سورة البقرة من آية [ 64 - 65 ]
البقرة : ( 64 ) ثم توليتم من . . . . .
) ثم توليتم ( يقول : أعرضتم ) من بعد ذلك ( عن الحق من بعد الجبل ، ) فلولا
فضل الله عليكم ورحمته ( ، يعني نعمته لعاقبكم ، و ) لكنتم ) ) في الآخرة ( ( من
الخاسرين ) [ آية : 64 ] في العقوبة .
البقرة : ( 65 ) ولقد علمتم الذين . . . . .
) ولقد علمتم ( ، يعني اليهود ) الذين اعتدوا منكم في السبت ( ، فصادوا فيه
السمك ، وكان محرما عليهم صيد السمك يوم السبت ، فأمهلهم الله سبحانه بعد صيد
السمك سنين ، ثم مسخهم الله قردة ، فذلك قوله : ( فقلنا لهم ) ) بوحي ( ( كونوا قردة
خاسئين ) [ آية : 65 ] ، يعني صاغرين .
تفسير سورة البقرة آية [ 66 ](1/54)
صفحة رقم 55
البقرة : ( 66 ) فجعلناها نكالا لما . . . . .
) فجعلناها نكالا ( لبني إسرائيل ) لما بين يديها ( ، يقول : أخذناهم بمعاصيهم قبل
صيد الحيتان ، ) وما خلفها ( ما استنوا من سنة سيئة ، فاقتدى بها من بعدهم ، فالنكال
هي العقوبة ، ثم مسخهم الله عز وجل في زمان داود ، عليه السلام ، قردة ثم حذر هذه
الأمة ، فقال سبحانه : ( وموعظة للمتقين ) [ آية : 66 ] ، يعني تعظهم يا محمد أن ريكبوا
ما ركبت بنو إسرائيل من المعاصي ، فيستحلوا محرما أو صيدا في حرم الله ، أو تستحلوا
أنتم حراما لا ينبغي فينزل بكم من العقوبة مثل ما نزل بالذين استحلوا صيد السمك يوم
السبت .
تفسير سورة البقرة آية [ 67 ]
البقرة : ( 67 ) وإذ قال موسى . . . . .
) وإذ قال موسى لقومه ( يا بني إسرائيل ، ) إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة (
بأرض مصر قبل الغرق ، وذلك أن أخوين كانا في بني إسرائيل ، فقتلا ابن عم لهما ليلا
بمصر ليرثاه ، ثم حملاه فألقياه بين القريتين . قال :
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني أبي ، قال :
حدثنا الهذيل ، عن مقاتل ، عن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، أنه قال : قاسوا
ما بين القريتين ، فكانتا سواء ، فلما أصبحوا أخذوا أهل القرية ، فقالوا : والله ما قتلناه ولا
علمنا له قاتلا ، قالوا : يا موسى ، ادع لنا ربك يطلع على القاتل إن كنت نبيا كما تزعم ،
فدعا موسى ربه عز وجل ، فأتاه جبريل ، عليه السلام ، فأمره بذبح بقرة ، فقال لهم ،
موسى : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، فتضربوه ببعضها فيحيا ، فيخبركم بقاتله ، واسم
المقتول عاميل ، فظنوا أنه يستهزئ بهم ، فقالوا : نسألك عن القاتل لتخبرنا به ، فتأمرنا
بذبح بقرة استهزاء بنا ، فذلك قولهم لموسى : ( قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) [ آية : 67 ] ، يعني من المستهزئين ، فعلموا أن عنده علم ذلك . .
تفسير سورة البقرة من آية [ 68 - 71 ](1/55)
صفحة رقم 56
البقرة : ( 68 ) قالوا ادع لنا . . . . .
) قالوا ( يا موسى ، ) ادع لنا ربك ( ، أي سل لنا ربك ) يبين لنا ما هي قال إنه يقول ( ، إن ربكم يقول : ( إنها بقرة لا فارض ولا بكر ( ، يعني ليست بكبيرة ولا بكر ،
أي شابة ، ) عوان بين ذلك ( ، يعني بالعوان بين الكبيرة والشابة ، ) فافعلوا ما
تؤمرون ) [ آية : 68 ] ،
البقرة : ( 69 ) قالوا ادع لنا . . . . .
فانطلقوا ثم رجعوا إلى موسى ، ) قالوا ادع لنا ربك ( ، أي
سل ربك ) يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها ( ، يعني
صافية اللون نقية ) تسر ( ، يعني تعجب ، ) الناظرين ) [ آية : 69 ] ، يعني من
رآها ، فشددوا على أنفسهم ، فشدد الله عليهم ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إنما أمروا ببقرة ، ولو
عمدوا إلى أدنى بقرة لأجزأت عنهم ، والذي نفس محمد بيده ، لو لم يستثنوا ما بينت لهم
آخر الأبد ' .
البقرة : ( 70 ) قالوا ادع لنا . . . . .
فانطلقوا ثم رجعوا ) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا ( تشكل
) وإنا إن شاء الله لمهتدون ) [ آية : 70 ] ، لو لم يستثنوا لم يهتدوا لها أبدا ، فعند ذلك
هموا أن يفعلوا ما أمروا ، ولو أنهم عمدوا إلى الصفة الأولى فذبحوها لأجزأت عنهم .
البقرة : ( 71 ) قال إنه يقول . . . . .
) قال إنه يقول ( ، أي قال موسى : إن الله يقول : ( إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ( ،
يقول : ليست بالذلول التي يعمل عليها في الحرث ، ) لا تسقي الحرث ( يقول : ليست
بالذلول التي يسقى عليها بالسواقي الماء للحرث ، ) مسلمة ( ، يعني صحيحة ) ولا
شية فيها ( ، يقول : لا وضح فيها ، يقول : ليس فيها سواد ولا بياض ولا حمرة ،
)( قالوا آلآن ) ) يا موسى ( ( جئت بالحق ( ، يقول : الآن بينت لنا الحق ، فانطلقوا حتى
وجدوها عند امرأة اسمها نوريا بنت رام ، فاستاموا بها ، فقالوا لموسى : إنها لا تباع إلا
بملء مسكها ذهبا ، قال موسى : لا تظلموا ، انطلقوا اشتروها بما عز وهان ، فاشتروها
بملء مسكها ذهبا ، ) فذبحوها ( ، فقالوا لموسى : قد ذبحناها ، قال : خذوا منها عضوا
فاضربوا به القتيل ، فضربوا القتيل بفخذ البقرة اليمنى ، فقام القتيل وأوداجه تشخب دما ،
فقال : قتلني فلان وفلان ، يعني ابني عمه ، ثم وقع ميتا ، فأخذا فقتلا ، فذلك قوله سبحانه
) فذبحوها ( ) وما كادوا يفعلون ) [ آية : 71 ] .
تفسيرسورة البقرة من آية [ 72 - 74 ](1/56)
صفحة رقم 57
البقرة : ( 72 ) وإذ قتلتم نفسا . . . . .
) وإذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها ( ، فاختلفتم في قتلها ، فقال أهل هذه القرية
الأخرى : أنتم قتلتموه ، وقال الآخرون : أنتم قتلتموه ، فذلك قوله سبحانه : ( والله مخرج ما كنتم تكتمون ) [ آية : 72 ] ، يعني كتمان قتل المقتول ،
البقرة : ( 73 ) فقلنا اضربوه ببعضها . . . . .
) فقلنا اضربوه ببعضها كذلك ( ، يقول : هكذا ) يحي الله الموتى ويريكم آياته ( ، فكان ذلك من آياته
وعجائبه ، ) لعلكم ( يقول : لكي ) تعقلون ) [ آية : 73 ] ، فتعتبروا في البعث ، وإنما
فعل الله ذلك بهم ؛ لأنه كان في بني إسرائيل من يشك في البعث ، فأراد الله عز وجل
أن يعلمهم أنه قادر على أن يبعث الموتى ، وذلك قوله سبحانه ، ) لعلكم تعقلون (
فتعتبروا في البعث
البقرة : ( 74 ) ثم قست قلوبكم . . . . .
فقالوا : نحن لم نقتله ، ولكن كذب علينا ، فلما كذبوا المقتول ، ضرب الله لهم مثلا ،
وذلك قوله سبحانه : ( ثم قست قلوبكم ( في الشدة ، فلم تطمئن ، يعني تلين ، حتى
كذبتم المقتول ، ثم قال : ( من بعد ذلك ( ، يعني من بعد حياة المقتول ، ) فهي كالحجارة ( فشبه قلوبهم حين لم تلن بالحجارة في الشدة ، ثم عذر الحجارة وعاب
قلوبهم ، فقال : فهي كالحجارة في القسوة ، ) أو أشد قسوة ( ، ثم قال : ( وإن من الحجارة ( ما هي ألين من قلوبهم ، فمنها ) لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما ( ،
يعني ما ) يشقق ( ، يعني يتصدع ، ) فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط ( ، يقول : من
بعض الحجارة الذي يهبط من أعلاه ، فهؤلاء جميعا ) من خشية الله ( يفعلون ذلك ،
وبنو إسرائيل لا يخشون الله ، ولا ترق قلوبهم كفعل الحجارة ، ولا يقبلون إلى طاعة
ربهم ، ثم وعدهم ، فقال عز وجل : ( وما الله بغافل عما تعملون ) [ آية : 74 ] من
المعاصي
تفسير سورة البقرة آية [ 75 ]
البقرة : ( 75 ) أفتطمعون أن يؤمنوا . . . . .
) أفتطمعون ( أي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحده ، ) أن يؤمنوا لكم ( ، أن يصدقوا قولك يا
محمد ، يعني يهود المدينة ، ) وقد كان فريق منهم ( على عهد موسى ، عليه السلام ،
)( يسمعون كلام الله ( ، وذلك أن السبعين الذين اختارهم موسى حين قالوا : ( أرنا(1/57)
صفحة رقم 58
الله جهرة ( ، فعاقبهم الله عز وجل وأماتهم عقوبة ، وبقي موسى وحده يبكي ، فلما
أحياهم الله سبحانه ، قالوا : قد علمنا الآن أنك لم تر ربك ، ولكن سمعت صوته ، فأسمعنا
صوته ، قال موسى : أما هذا فعسى ، قال موسى : يا رب ، إن عبادك هؤلاء بني إسرائيل
يحبون أن يسمعوا كلامك ، فقال : من أحب منهم أن يسمع كلامي فليعتزل النساء ثلاثة
أيام ، وليغتسل يوم الثالث ، وليلبس ثيابا جددا ، ثم ليأتي الجبل فأسمعه كلامي .
ففعلوا ذلك ، ثم انطلقوا مع موسى إلى الجبل ، فقال لهم موسى : إذا رأيتم السحابة قد
غشيت ورأيتم فيها نورا ، وسمعتم فيها صوتا ، فاسجدوا لربكم ، وانظروا ما يأمركم به
فافعلوا ، قالوا : نعم ، فصعد موسى ، عليه السلام ، الجبل ، فجاءت الغمامة ، فحالت بينهم
وبين موسى ، ورأوا النور ، وسمعوا صوتا كصوت الصور ، وهو البوق ، فسجدوا ، وسمعوه
وهو يقول : إني أنا ربكم ، لا إله إلا أنا الحي القيوم ، وأنا الذي أخرجتكم من أرض مصر بيد رقيقة وذراع شديد ، فلا تعبدوا إلها غيري ، ولا تشركوا بي شيئا ، ولا تجعلوا
لي شبها ، فإنكم لن تروني ، ولكن تسمعون كلامي ، فلما أن سمعوا الكلام ، ذهبت
أرواحهم من هول ما سمعوا ، ثم أفاقوا وهم سجود ، فقالوا لموسى ، عليه السلام : إنا لا
نطيق أن نسمع كلام ربنا ، فكن بيننا وبين ربنا ، فليقل لك وقل أنت لنا ، قال موسى : يا
رب ، إن بني إسرائيل لم يطيقوا أن يسمعوا كلامك ، فقل لي وأقل لهم ، قال الله عز
وجل : نعم ما رأوا .
فجعل الله عز وجل يأمر موسى ، ثم يخبرهم موسى ، ويقولون : سمعنا ربنا وأطعنا ،
فلما فرغ من أمره ونهيه ، ارتفعت السحابة ، وذهب الصوت ، فرفع القوم رءوسهم ،
ورجعوا إلى قومهم ، قيل لهم : ماذا أمركم به ربكم ونهاكم عنه ؟ فقال بعضهم : أمرنا
بكذا وكذا ، ونهانا عن كذا وكذا ، وقال آخرون : واتبع في آخر قوله : إن لم تستطيعوا
ترك ما نهاكم عنه ، فافعلوا ما تستطيعون ، فذلك قوله سبحانه : ( أفتطمعون أن يؤمنوا
لكم وقد كان فريق منهم ( ، يعني طائفة من بني إسرائيل ، ) يسمعون كلام الله
) ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ( ، وفهموه ، ) وهم يعلمون ) [ آية : 75 ] أنهم
حرفوا الكلام .
تفسير سورة البقرة آية [ 76 ](1/58)
صفحة رقم 59
البقرة : ( 76 ) وإذا لقوا الذين . . . . .
) وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا ( ، يعني صدقنا بمحمد ، عليه السلام ، بأنه نبي ،
وذلك أن الرجل المسلم كان يلقى من اليهود حليفه أو اخاه من الرضاعة ، فيسأله :
أتجدون محمدا في كتابكم ، فيقولون : نعم ، إن نبوة صاحبكم حق ، وإنا نعرفه ، فسمع
كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، ومالك بن الضيف ، وجدي بن أخطب ، فقالوا
لليهود في السر : أتحدثون أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بما فتح الله لكم ، يعني بما بين لكم في
التوراة من أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذلك قوله تعالى : ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم ( ، يعني ليخاصموكم ) به عند ربكم )
باعترافكم أن محمدا ، عليه السلام ، نبي ثم لا تتابعوه ، ) أفلا تعقلون ) [ آية : 76 ] ،
يعني أفلا ترون أن هذه حجة لهم عليكم .
تفسير سورة البقرة من آية [ 77 - 78 ]
البقرة : ( 77 ) أو لا يعلمون . . . . .
فقال الله عز وجل : ( أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون ( في الخلا ) وما
يعلنون ) [ آية : 77 ] في الملاء ، فيقول بعضهم لبعض : أتحدثونهم بأمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، أولا
يعلمون حين قالوا : إنا نجد محمدا في كتابنا وإنا لنعرفه ،
البقرة : ( 78 ) ومنهم أميون لا . . . . .
) ومنهم أميون لا يعلمون
الكتاب إلا أماني ( ، يقول : من اليهود من لا يقرأ التوراة إلا أن يحدثهم عنها رءوس
اليهود ، ) وإن هم إلا يظنون ) [ آية : 78 ] في غير يقين ما يستيقنون به ، فإن كذبوا
رءوس اليهود أو صدقوا تابعوهم باعترافهم ، فليس لهم بالتوراة علم إلا ما حدثوا عنها .
تفسير سورة البقرة آية [ 79 ]
البقرة : ( 79 ) فويل للذين يكتبون . . . . .
) فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ( ، سوى نعت محمد ، عليه السلام ، وذلك أن
رءوس اليهود بالمدينة محوا نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من التوراة ، وكتبوا سوى نعته ، وقالوا لليهود
سوى نعت محمد ، ) ثم يقولون هذا ( النعت ) من عند الله ليشتروا به ثمنا
قليلا ( ، يعني عرضا يسيرا مما يعطيهم سفلة اليهود كل سنة من زروعهم وثمارهم ،
يقول : ( فويل لهم مما كتبت أيديهم ( ، يعني في التوراة من تغيير نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( وويل لهم مما يكسبون ) [ آية : 79 ] من تلك المآكل على التكذيب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولو
تابعوا محمدا ، عليه السلام ، إذا لحبست عنهم تلك المآكل .(1/59)
صفحة رقم 60
تفسير سورة البقرة آية [ 80 ]
البقرة : ( 80 ) وقالوا لن تمسنا . . . . .
) وقالوا ( ، يعني اليهود ) لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ( ؛ لأنا أبناء الله
وأحباؤه ، يعني ولد أنبياء الله ، إلا أربعين يوما التي عبد آباؤنا فيها العجل ، ) قل أتخذتم عند الله عهدا ( ، فعلمتم بما عهد إليكم في التوراة ، فإن كنتم فعلتم ) فلن يخلف الله عهده أم تقولون ( ، يعني بل تقولون ) على الله ما لا تعلمون ( ) آية : 80 ] ، فإنه ليس
بمعذبكم إلا تلك الأيام ، فإذا مضت تلك الأيام مقدار كل يوم ألف سنة ، قالت الخزنة :
يا أعداء الله ، ذهب الأجل وبقي الأبد ، وأيقنوا بالخلود .
تفسير سورة البقرة من آية [ 81 - 82 ]
البقرة : ( 81 ) بلى من كسب . . . . .
) فلما قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ، أكذبهم الله عز عز وجل ، فقال : ( بلى (
يخلد فيها ) من كسب سيئة ( ، يعني الشرك ، ) وأحاطت به خطيئته ( حتى مات
على الشرك ، ) فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ آية : 81 ] ، يعني لا
يموتون ،
البقرة : ( 82 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
ثم بين مستقر المؤمنين ، فقال : ( والذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب
الجنة هم فيها خالدون ) [ آية : 82 ] لا يموتون .
تفسير سورة البقرة من آية [ 83 - 84 ]
البقرة : ( 83 ) وإذ أخذنا ميثاق . . . . .
) وإذ ( ، يعني ولقد ) أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين
إحسانا ( ، يعني برا بهما ) وذي القربى واليتامى ( ، يعني ذوي القرابة صلته ،
)( والمساكين ( واليتيم أن تصدق عليه وابن السبيل ، يعني الضيف أن تحسن إليه ،
)( وقولوا للناس حسنا ( ، يعني حقا ، نظيرها في طه قوله عز وجل : ( ألم يعدكم
ربكم وعدا حسنا ) [ طه : 86 ] يعني حقا ، وقوله : ( وقولوا للناس حسنا ( ، يعني
) للناس ( أجمعين صدقا في محمد وعن الإيمان .(1/60)
صفحة رقم 61
) وأقيموا الصلاة ( ، يعني أتموا الصلاة لمواقيتها ، ) وءاتوا ( وأعطوا ) الزكاة ثم توليتم ( ، يعني أعرضتم عن الإيمان ، فلم تقروا ببعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ) [ آية : 83 ] ، يعني ابن سلام ، وسلام بن قيس ، وثعلبة بن
سلام ، وقيس ابن أخت عبد الله بن سلام ، وأسيد وأسد ابنى كعب ، ويامين ، وابن
يامين ، وهم مؤمنو أهل التوراة .
البقرة : ( 84 ) وإذ أخذنا ميثاقكم . . . . .
) وإذ أخذنا ميثاقكم ( في التوراة ، يعني ولقد أخذنا ميثاقكم في التوراة ( لا تسفكون دماءكم ( ، يقول : لا يقتل بعضكم بعضا ، ) ولا
تخرجون أنفسكم ( ، يعني لا يخرج بعضكم بعضا ) من دياركم ثم أقررتم ( بهذا
) وأنتم تشهدون ) [ آية : 84 ] أن هذا في التوراة .
تفسير سورة البقرة آية [ 85 ]
البقرة : ( 85 ) ثم أنتم هؤلاء . . . . .
) ثم أنتم هؤلاء ( معشر اليهود بالمدينة ) تقتلون أنفسكم ( ، يعني يقتل
بعضكم بعضا ، ) وتخرجون فريقا ( ، يعني طائفة ) منكم من ديارهم تظاهرون ( ،
يعني تعاونون ) عليهم بالإثم ( ، يعني بالمعصية ) والعدوان ( ، يعني بالظلم ، ومكتوب
عليهم في التوراة أن يفدوا أسراهم فيشتروهم إذا أسرهم أهل الروم في القتال إن كان
عبدا أو أمة ، يقول الله عز وجل : ( وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم
إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب ( ، يقول : تصدقون ببعض ما في التوراة لمن يقتل ،
والإخراج من الديار ، فهو محرم عليكم إخراجهم ، ) وتكفرون ببعض فما جزاء من
يفعل ذلك منكم إلا خزي ( ، يعني الهوان ) في الحياة الدنيا ( ، فكان خزي أهل
قريظة القتل والسبي ، وخزي أهل النضير الجلاء والنفي من منازلهم وجناتهم التي بالمدينة
إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام ، فكان هذا خزيا لهم وهوانا لهم ، ) ويوم القيامة
يردون إلى أشد العذاب ( ، يعني رءوس اليهود ، يقول : هم أشد كذابًا ، يعني رءوس اليهود
من أهل ملتهم ؛ لأنهم أول من كفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) من اليهود ، ثم أوعدهم ، فقال : ( وما
الله بغافل عما تعملون ) [ آية : 85 ] .(1/61)
صفحة رقم 62
تفسير سورة البقرة آية [ 86 ]
البقرة : ( 86 ) أولئك الذين اشتروا . . . . .
ثم نعتهم فقال سبحانه : ( أولئك الذين اشتروا ( ، يعني اختاروا ) الحياة الدنيا بالآخرة ( ، يقول : باعوا الآخرة بالدنيا مما يصيبون من سفلة اليهود من المآكل ، ) فلا يخفف عنهم العذاب ( في الآخرة ) ولا هم ينصرون ) [ آية : 86 ] ، يعني ولا هم يمنعون
من العذاب .
تفسير سورة البقرة من آية [ 87 - 88 ]
البقرة : ( 87 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
) ولقد ءاتينا موسى الكتاب ( ، يقول : أعطينا موسى التوراة ، ) وقفينا من بعده ( ، يقول : وأتبعنا من بعد موسى ) بالرسل ( إلى قومهم ، ) وءاتينا عيسى ابن
مريم البينات ( ، يقول : وأعطينا عيسى ابن مريم العجائب التي كان يصنعها من خلق
الطير ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وأحياء الموتى بإذن الله ، ثم قال سبحانه : ( وأيدناه بروح القدس ( ، يقول : وقوينا عيسى بجبريل ، عليهما السلام ، فقالت اليهود عند ذلك : فجئنا
يا محمد بمثل ما جاء به موسى من الآيات كما تزعم ، يقول الله عز وجل : ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم ( ، يعني اليهود ، ) استكبرتم ( يعني تكبرتم عن
الإيمان برسولي ، يعني محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ففريقا كذبتم ( ، يعني طائفة من الأنبياء كذبتم
بهم ، منهم عيسى ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وفريقا تقتلون ) [ آية : 87 ] ، يعني وطائفة
قتلتموهم ، منهم زكريا ، ويحيى ، والأنبياء أيضا ، فعرفوا أن الذي قال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حق
فسكتوا .
البقرة : ( 88 ) وقالوا قلوبنا غلف . . . . .
) وقالوا ( للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قلوبنا غلف ( ، يعني في غطاء ، ويعنون في أكنة عليها
الغطاء ، فلا تفهم ولا تفقه ما تقول يا محمد ، كراهية لما سمعوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من قوله :
' إنكم كذبتم فريقا من الأنبياء وفريقا قتلتم ' ، فإن كنت صادقا فأفهمنا ما تقول ، يقول
الله عز وجل : ( بل لعنهم الله بكفرهم ( فطبع على قلوبهم ، ) فقليلا ما يؤمنون (
[ آية : 88 ] ، يعني بالقليل بأنهم لا يصدقون بأنه من الله ، وكفروا بما سواه مما جاء به(1/62)
صفحة رقم 63
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذلك قوله عز وجل في النساء : ( فلا يؤمنون إلا قليلا ) [ النساء :
155 ] ، وإنما سمى اليهود من قبل يهوذا بن يعقوب
تفسير سورة البقرة آية [ 89 ]
البقرة : ( 89 ) ولما جاءهم كتاب . . . . .
) ولما جاءهم كتاب من عند الله ( ، يعني قرآن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) مصدق لما معهم (
في التوراة بتصديق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقرآنه في التوراة ، نزلت في اليهود ، منهم : أبو رافع ، وابن
أبي الحقيق ، وأبو نافع ، وغرار ، ) وكانوا من قبل ( أن يبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رسولا
) يستفتحون على الذين كفروا ( ، نظيرها في الأنفال : ( إن تستفتحوا ) [ الأنفال :
19 ] ، يعني إن تستنصروا بخروج محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على مشركي العرب : جهينة ، ومزينة ، وبني
عذرة ، وأسد ، وغطفان ، ومن يليهم ، كانت اليهود إذا قاتلوهم قالوا : اللهم إنا نسألك
باسم النبي الذي نجده في كتابنا تبعثه في آخر الزمان أن تنصرنا ، فينصرون عليهم ، فلما
بعث الله عز وجل محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) من غير بني إسرائيل كفروا به وهم يعرفونه ، فذلك قوله
سبحانه : ( فلما جاءهم ( محمد ) ما عرفوا ( أي بما عرفوا من أمره في التوراة ،
)( كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) [ آية : 89 ] ، يعني اليهود .
تفسير سورة البقرة آية [ 90 ]
البقرة : ( 90 ) بئسما اشتروا به . . . . .
) بئسما اشتروا به أنفسهم ( ، يقول : بئسما باعوا أنفسهم بعرض يسير من الدنيا
مما كانوا يصيبون من سفلة اليهود من المأكل في كل عام ، ثم قال : ( أن يكفروا بما أنزل الله ( من القرآن على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) بغيا ( ، يعني حسدا لمحمد ، إذ كان من
العرب ، يقول الله عز وجل : ( أن ينزل الله من فضله ( من النبوة والكتاب ، ) على من
يشاء من عباده ) ( صلى الله عليه وسلم ) يعني محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قال سبحانه : ( فباءو بغضب على غضب ( ،
يقول : استوجبوا بغضب من الله حين كفروا بعيسى ( صلى الله عليه وسلم ) على غضب بكفرهم بمحمد
( صلى الله عليه وسلم ) وبما جاء به ، ) وللكافرين ( من اليهود ) عذاب مهين ) [ آية : 90 ] ، يعني الهوان .(1/63)
صفحة رقم 64
تفسير سورة البقرة آية [ 91 ]
البقرة : ( 91 ) وإذا قيل لهم . . . . .
ثم قال : ( وإذا قيل لهم ( ، يعني اليهود ، منهم : أبو ياسر ، والنعمان بن أوفى ،
)( ءامنوا ( ، يعني صدقوا ) بما أنزل الله ( من القرآن على محمد ، ) قالوا نؤمن بما أنزل علينا ( ، يعني التوراة ، ) ويكفرون بما وراءه ( ، يعني بما بعد التوراة الإنجيل
والفرقان ، ) وهو الحق ( ، يعني قرآن محمد ) مصدقا لما معهم ( ، يقول تصديقا لمحمد
بما أنزل الله عليه من القرآن مكتوبا عندهم في التوراة ، ) قل ( لهم يا محمد : ( فلم تقتلون أنبياء الله ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا اليهود إلى الإيمان ، فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : آتنا
بالآيات والقربان كما كانت الأنبياء تجئ بها إلى قومهم ، يقول الله سبحانه : فقد كانت
الأنبياء تجئ إلى آبائهم ، فكانوا يقتلونهم ، فقال الله عز وجل : قل يا محمد فلم تقتلون
أنبياء الله من قبل ، يقول : فلم قتلتم أنبياء الله ) من قبل ( ، يعني آباءهم ، وقد جاءوا
بالآيات والقربان ، ) إن كنتم مؤمنين ) [ آية : 91 ] ، يعني إن كنتم صادقين بأن الله
عهد إليكم في التوراة ألا تؤمنوا بالرسول حتى يأتيكم بقربان تأكله النار ، فقد جاءوا
بالقربان ، فلم قتلتموهم ، يعني أباءهم .
تفسير سورة البقرة آية [ 92 ]
البقرة : ( 92 ) ولقد جاءكم موسى . . . . .
ثم قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) : قل لليهود : ( ولقد جاءكم موسى بالبينات ) ، يعني
بالآيات التسع ، ) ثم اتخذتم العجل ) ) إلها ( ( من بعده ( ، يعني من بعد انطلاق
موسى إلى الجبل ، ) وأنتم ظالمون ) [ آية : 92 ] لأنفسكم .
تفسير سورة البقرة آية [ 93 ]
البقرة : ( 93 ) وإذ أخذنا ميثاقكم . . . . .
) وإذ أخذنا ميثاقكم ( ، يعني وقد أخذنا ميثاقكم في التوراة ، يعني اليهود ، يعني
على أن تعبدوا الله ، وتشركوا به شيئا ، وأن تؤمنوا بالكتاب والنبيين ، ) ورفعنا
فوقكم الطور ( ، حين لم يقبلوا التوراة ، قال موسى : يا رب ، إن عبادك لم يقبلوا(1/64)
صفحة رقم 65
كتابك ، وعصوا أمرك ، فأمر الله عز وجل الملائكة وجبريل ، فرفعوا من الأرض المقدسة
جبلا فوق رءوسهم ، فحال الجبل بينهم وبين السماء ، فقال موسى ، عليه السلام ، لبني
إسرائيل : إن لم تقبلوا التوراة طرح هذا الجبل ، فيرضخ به رءوسكم ، وكان الجبل منهم
قدر ميل ، فلما رأوا ذلك قبلوها ، فذلك قوله سبحانه : ( وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم ) [ الأعراف : 171 ] ، خذوا ما ءاتيناكم بقوة ( ، يعني
ما آتيناكم من التوراة بالجد والمواظبة عليه ، فرجع الجبل إلى مكانه ، فقال موسى لبني
إسرائيل : ( واسمعوا ( ، يقول : اسمعوا ما في التوراة من الحدود ، والأحكام ، والشدة
) قالوا سمعنا ( بذلك الذي تخوفنا به من أمر الجبل ، ) وعصينا ( أمرك ، فلا نتبع ما
جئتنا به من الشدة في التوراة ، والعجل كان أرفق بنا ، وأهون علينا مما جئتنا به من
الشدة ، يقول الله عز وجل : ( وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ( ، قال لهم
موسى : أن تحبوا شيئا دونه يعدل حبه في قلوبكم ، كحب الله خالقكم ، ) قل بئسما
يأمركم به إيمانكم أن كنتم مؤمنين ) [ آية : 93 ] ، كما تزعمون .
تفسير سورة البقرة آية [ 94 ]
البقرة : ( 94 ) قل إن كانت . . . . .
ثم أخبر أنه حين رفع الجبل عليهم والبحر من ورائهم ، خافوا الهلكة ، فقبلوا التوراة ،
)( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ( ، يعني الجنة ، وذلك أن اليهود
قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وأن الله لن يعذبنا ، فقال الله عز وجل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : قل لهم
) إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ( ) من دون الناس فتمنوا الموت إن
كنتم صادقين ) [ آية : 94 ] ، يقول : فأحبوا الموت إن كنتم أولياء الله وأحباؤه ،
وأنكم في الجنة ، قال الله عز وجل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأسألهم عن القرية التي كانت
حاضرة البحر إذ يعدون في السبت ) [ الأعراف : 163 ] ، ألم أمسخهم قردة
بمعصيتهم .
تفسير سورة البقرة آية من [ 95 - 96 ]
البقرة : ( 95 ) ولن يتمنوه أبدا . . . . .
ثم أخبر عنهم بمعصيتهم ، فقال : ( ولن يتمنوه أبدا ( ، يعني ولن يحبوه أبدا ، يعني(1/65)
صفحة رقم 66
الموت ، ) بما قدمت أيديهم ( من ذنوبهم وتكذيبهم بالله ورسوله ، ) والله عليم بالظالمين ) [ آية : 95 ] ، يعني اليهود ، فأبوا أن يتمنوه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لو تمنوا الموت
ما قام منهم رجل من مجلسه حتى يغصه الله عز وجل بريقه فيموت ' ،
البقرة : ( 96 ) ولتجدنهم أحرص الناس . . . . .
) ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ( ، أي وأحرص الناس على الحياة من الذين
أشركوا ، أي مشركي العرب ، ) يودأحدهم ( ، يعني اليهود ، ) لو يعمر ( في الدنيا
) ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ( فيها ) والله بصير بما يعملون (
[ آية : 96 ] ، فأبوا أن يتمنوه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لو تمنوا الموت ما قام منهم رجل من
مجلسه حتى يغصه الله عز وجل بريقه فيموت ' .
تفسير سورة البقرة من آية [ 97 - 98 ]
البقرة : ( 97 ) قل من كان . . . . .
فقالت اليهود : إن جبريل لنا عدو ، أمر أن يجعل النبوة فينا ، فجعلها في غيرنا من
عداوته إيانا ، فأنزل الله عز وجل : ( قل من كان عدوا لجبريل ( ، يعني اليهود ، ) فإنه نزله على قلبك بإذن الله ( ، يقول جبريل ، عليه السلام : تلاه عليك ليثبت به فؤادك ،
يعني قلبك ، نظيرها في الشعراء قوله سبحانه : ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ) [ الشعراء : 193 ، 194 ] ، ثم قال : ( مصدقا لما بين يديه ( ، يعني قرآن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يصدق الكتب التي كانت قبله ، ) وهدى ( ، أي وهذا
القرآن هدى من الضلالة ، ) وبشرى ( لمن آمن به من المؤمنين ، ) للمؤمنين ) [ آية :
97 ] .
البقرة : ( 98 ) من كان عدوا . . . . .
) من كان عدوا لله وملائكته ورسله ( ، يعني بالملائكة جبريل ، ورسله يعني
محمدا وعيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، كفرت اليهود بهم وبجبريل وبميكائيل ، يقول الله عز وجل :
( وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) [ آية : 98 ] ، يعني اليهود .
تفسير سورة البقرة من آية [ 99 - 100 ]
البقرة : ( 99 ) ولقد أنزلنا إليك . . . . .
) ولقد أنزلنا إليك آيات بينات ) ، يعني القرآن ، ثم قال : ( بينات ( ، يعني ما
فيه من الحلال والحرام ، ) وما يكفر بها ( ، يعني بالآيات ، ) إلا الفاسقون ) [ آية :
99 ] ، يعني اليهود .(1/66)
صفحة رقم 67
البقرة : ( 100 ) أو كلما عاهدوا . . . . .
ثم قال سبحانه : ( أوكلما عاهدوا عهدا ( بينهم وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) نبذه فريق منهم ( من اليهود ، ) بل أكثرهم لا يؤمنون ) [ آية : 100 ] ، يعني لا يصدقون
بالقرآن أنه من الله جاء .
تفسير سورة البقرة آية [ 101 ]
البقرة : ( 101 ) ولما جاءهم رسول . . . . .
) ولما جاءهم ( ، يعني اليهود ، ) رسول من عند الله ( ، يعني محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( مصدق لما معهم ( ، يعني يصدق محمدا أنه نبي رسول معهم في التوراة ، ) نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب ( ، يعني جعل طائفة من اليهود ) كتاب الله ( ، يعني ما
في التوراة من أمر محمد ، ) وراء ظهورهم ( ، فلم يتبعوه ولم يبينوه للناس ، ) كأنهم لا يعلمون ) [ آية : 101 ] بأن محمدا رسول نبي ؛ لأن تصديقه معهم ، نزلت في كعب
ابن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، وأبي ياسر بن أخطب ، وسعيد بن عمرو والشاعر ،
ومالك بن الضيف ، وحيي بن أخطب ، وأبي لبابة بن عمرو .
تفسير سورة البقرة آية [ 102 ]
البقرة : ( 102 ) واتبعوا ما تتلوا . . . . .
) واتبعوا ( ، يعني اليهود ، ) ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ( ، يعني ما تلت
الشياطين على عهد سليمان وفي سلطانه ، وذلك أن طائفة من الشياطين كتبوا كتابا فيه
سحر ، فدفنوه في مصلى سليمان حين خرج من ملكه ، ووضعوه تحت كرسيه ، فلما
توفي سليمان ، استخرجوا الكتاب ، فقالوا : إن سليمان تملككم بهذا الكتاب به كانت
تجئ الريح ، وبه سخرت الشياطين ، فعلموه الناس ، فأبرأ الله عز وجل منه سليمان ،
)( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ( ، فتركت
اليهود كتاب الأنبياء واتبعوا ما قالت من السحر ، ) وما أنزل على الملكين ببابل(1/67)
صفحة رقم 68
هاروت وماروت ( ، أي واتبعوا ما أنزل على الملكين ، يعني هاروت وماروت ، وكانا
من الملائكة مكانهما في السماء واحد ، ثم قال : ببابل ، أي وهما ببابل ، وإنما سميت
بابل ؛ لأن الألسن تبلبلت بها حين ألقى إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) في النار
ثم قال : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ( ، وذلك أن
هاروت وماروت يصنعان من السحر الفرقة ، ) فيتعلمون منهما ( بعد قولهما : ( فلا
تكفر ( إذا وصفا فيتعلمون منهما ) ما يفرقون به بين المرء وزوجه ( ، والفرقة
أن يؤخذ الرجل عن امرأته ، يقول الله عز وجل : ( وما هم بضارين ( ، يعني السحرة ،
)( به من أحد ( ، يعني بالسحر من أحد ، ) إلا بإذن الله ( في ضره ، ) ويتعلمون ما(1/68)
صفحة رقم 69
يضرهم ( ، فيتعلمون السحر من الشياطين ، والفرقة من هاروت وماروت ، ) ولا
ينفعهم ) ) ثم قال ( ( ولقد علموا لمن اشتراه ( ، يقول : لقد علمت اليهود في التوراة لمن
اختار السحر ) ما له في الآخرة من خلاق ( ، يقول : ما له في الآخرة من نصيب ،
نظيرها في براءة قوله سبحانه : ( فاستمتعتم بخلاقكم ) [ التوبة : 69 ] ، وكقوله :
( أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ) [ آل عمران : 77 ] ، يعني نصيب ، ) ولبئس
ما شروا ( ، يقول : باعوا ) به أنفسهم ) ) من السحر ( ( لو ( ، يعني إن ) كانوا
يعلمون ) [ آية : 102 ] ، ولكنهم لا يعلمون .
كان أبو صالح يروي عن الحسن في قوله تعالى : ( وما أنزل على الملكين
ببابل ( ، قال : وكان هاروت وماروت مطيعين لله عز وجل ، هبطا بالسحر ابتلاء من
الله لخلقه ، وعهد إليهما عهدا أن لا يعلما أحدا سحرا حتى يقولا له مقدمة : ( إنما
نحن فتنة ( ، يعني محنة وبلوى ، ) فلا تكفر ( ، فإذا أبى عليهما إلا تعليم السحر ، قالا
له : اذهب إلى موضع كذا وكذا ، فإنك إذا أتيته وفعلت كذا وكذا ، كنت ساحرا .
تفسير سورة البقرة من آية [ 103 - 104 ]
البقرة : ( 103 ) ولو أنهم آمنوا . . . . .
ثم قال لليهود : ( ولو أنهم ءامنوا ( ، يعني صدقوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) واتقوا ) ) الشرك ( ( لمثوبة من عند الله ( ، يقول : لكان ثوابهم عند الله ) خير ( من السحر
والكفر ) لو ( ، يعني إن ) كانوا يعلمون ) [ آية : 103 ] ، نظيرها في المائدة : ( قل
هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ) [ المائدة : 60 ] ، يعني ثوابا .
البقرة : ( 104 ) يا أيها الذين . . . . .
) الذين ءامنوا لا تقولوا راعنا ( ، وذلك أن المؤمنين قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : راعنا
سمك ، كقولهم في الجاهلية بعضهم لبعض ، وراعنا في كلام اليهود الشتم ، فلما سمعت
ذلك اليهود من المشركين أعجبهم ، فقالوا مثل ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال رجل من الأنصار ،
وهو سعد بن عبادة الأنصاري لليهود : لئن قالها رجل منكم للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأضربن عنقه ،
فوعظ الله عز وجل المؤمنين ، فقال : ( يا أيها الذين ءامنوا لا تقولوا ( للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( راعنا ( ) و ) ) لكن ( ( وقولوا انظرنا ( ، قولوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) اسمع منا ، ثم قال :(1/69)
صفحة رقم 70
) واسمعوا ( ما تؤمرون به ، ) وللكافرين ( يعني اليهود ، ) عذاب أليم (
[ آية : 104 ] ، يعني وجيعا .
تفسير سورة البقرة آية [ 105 ]
البقرة : ( 105 ) ما يود الذين . . . . .
) ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ( ، منهم : قيس بن عمرو ، وعازار بن
ينحوم ، وذلك أن الأنصار دعوا خلفاءهم من اليهود إلى الإسلام ، فقالوا للمسلمين : ما
تدعون إلى خير مما نحن عليه ، وددنا أنكم على هدى ، وأنه كما تقولون ، فكذبهم الله
سبحانه ، فقال : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ( ) ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته ( ، يعني دينه الإسلام ، ) من يشاء ( ، نظيرها في هل أتى : ( يدخل من يشاء في رحمته ) [ الإنسان : 31 ] ، يعني
في دينه الإسلام ، فاختص المؤمنين ، ) والله ذو الفضل العظيم ) [ آية : 105 ] ،
فاختصهم لدينه .
تفسير سورة البقرة آية [ 106 ]
البقرة : ( 106 ) ما ننسخ من . . . . .
) ما ننسخ من ءاية أو ننسها ( ، يعني نبدل من آية فنحولها فيها تقديم ، يقول :
( نأت بخير منها ( ، يقول : نأت من الوحي مكانها أفضل منها لكم وأنفع لكم ، ثم
قال : ( أو مثلها ( ، يقول : أو نأت بمثل ما نسخنا أو ننسها ، يقول : أو نتركها كما
هي ، فلا ننسخها ، وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إنما تقولت أنت يا محمد هذا
القرآن من تلقاء نفسك ، قلت كذا وكذا ، ثم غيرت فقلت كذا وكذا ، فأنزل الله عز
وجل يعظم نفسه تبارك اسمه : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) [ آية : 106 ] ، من
الناسخ والمنسوخ قدير .
تفسير سورة البقرة من آية [ 107 - 109 ](1/70)
صفحة رقم 71
البقرة : ( 107 ) ألم تعلم أن . . . . .
) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ( ، يحكم فيهما ما يشاء ، ويأمر بأمر ،
ثم يأمر بغيره ، ثم قال سبحانه : ( وما لكم من دون الله من ولي ( ، يعني قريب
ينفعكم ، ) ولا نصير ) [ آية : 107 ] ، يعني ولا مانع يمنعكم من الله لقولهم : إن
القرآن ليس من الله ، وإنما تقوله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من تلقاء نفسه ، نظيرها في براءة قوله
سبحانه : ( وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ) [ التوبة : 74 ] ، وقال عز وجل في النحل : ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (
[ النحل : 101 ] أنك لن تقول إلا ما قيل لك .
البقرة : ( 108 ) أم تريدون أن . . . . .
) أم تريدون أن تسئلوا رسولكم ( ، يعني يقول : تريدون أن تسألوا محمدا أن
يريكم ربكم جهرة ، ) كما سئل موسى من قبل ( محمد ، يعني كما قالت بنو إسرائيل
لموسى : ( أرنا الله جهرة ( ، ) ومن يتبدل ( ، يعني من يشتر ) الكفر بالإيمان ( ،
يعني اليهود ، ) فقد ضل سواء السبيل ) [ آية : 108 ] ، يعني قد أخطأ قصد طريق
الهدى ، كقوله سبحانه في القصص : ( عسى ربي أن يهديني سواء السبيل (
[ القصص : 22 ] ، يعني قصد الطريق .
البقرة : ( 109 ) ود كثير من . . . . .
) ود كثير من أهل الكتاب ( ، وذلك أن نفرا من اليهود ، منهم : فنحاص ،
وزيد بن قيس ، بعد قتال أحد ، دعوا حذيفة ، وعمارا إلى دينهم ، وقالوا لهما : إنكما لن
تصيبا خيرا للذي أصابهم يوم أحد من البلاء ، وقالوا لهما : ديننا أفضل من دينكم ، ونحن
أهدى منكم سبيلا ، قال لهم عمار : كيف نقض العهد فيكم ؟ قالوا : شديد ، قال عمار :
فإني عهدت ربي أن لا أكفر بمحمد أبدا ، ولا أتبع دينا غير دينه ، فقالت اليهود : أما
عمار ، فقد ضل وصبأ عن الهدى بعد إذ بصره الله ، فكيف أنت يا حذيفة ؟ ألا تبايعنا ؟
قال حذيفة : الله ربي ، ومحمد نبيي ، والقرآن إمامي ، أطيع ربي ، وأقتدي برسولي ، وأعمل
بكتاب الله ربي حتى يأتيني اليقين على الإسلام ، والله السلام ومنه السلام ، فقالوا : وإله
موسى ، لقد أشربت قلوبكم حب محمد ، فقال عمار : ربي أحمده ، وربي أكرم محمدا ،
ومنه اشتق الجلالة ، إن محمدا أحمد هو محمد .(1/71)
صفحة رقم 72
ثم أتيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبراه ، فقال : ' ما رددتما عليهما ؟ ' ، فقالا : قلنا : الله ربنا ، ومحمد
رسولنا ، والقرآن إمامنا ، الله نطيع ، وبمحمد نقتدي ، وبكتاب الله نعمل ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
' أصبتما أخا الخير ، وأفلحتما ' ، فأنزل الله عز وجل يحذر المؤمنين : ( ود كثير من أهل الكتاب ( ، ) لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ( في التوراة أن محمدا نبي ، ودينه الإسلام ، ثم قال سبحانه :
( فاعفوا واصفحوا ( ، يقول : اتركوهم واصفحوا ، يقول : وأعرضوا عن اليهود ، ) حتى يأتي الله بأمره ( ، فأتى الله عز وجل بأمره في أهل قريظة القتل والسبي ، وفي أهل
النضير الجلاء والنفي من منازلهم وجناتهم التي بالمدينة إلى أذرعات وأريحا من أرض
الشام ، ) إن الله على كل شيء قدير ) [ آية : 109 ] ، من القتل والجلاء قدير .
تفسير سورة البقرة من آية [ 110 - 111 ]
البقرة : ( 110 ) وأقيموا الصلاة وآتوا . . . . .
) وأقيموا الصلاة ( ، يقول : وأتموها لمواقيتها ، ) وءاتوا الزكاة ( ، يقول : آتوا زكاة
أموالكم ، ) وما تقدموا لأنفسكم من خير ( في الصدقة ، ثم قال : ( تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير ) [ آية : 110 ] ،
البقرة : ( 111 ) وقالوا لن يدخل . . . . .
) وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان (
على ديننا ، ) هودا أو نصارى ( ، يقول الله سبحانه : ( تلك أمانيهم ( ، يقول : تمنوا
على الله ، فقال الله عز وجل لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل هاتوا برهانكم ( ، يعني حجتكم من
التوراة والإنجيل ) إن كنتم صادقين ) [ آية : 111 ] بما تقولون .
تفسير سورة البقرة من آية [ 112 - 113 ]
البقرة : ( 112 ) بلى من أسلم . . . . .
فأكذبهم الله عز وجل ، فقال : ( بلي ( لكن يدخلها ) من أسلم وجهه لله ( ، يعني
أخلص دينه لله ، ) وهو محسن ( في عمله ، ) فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ آية : 112 ] عند الموت ،
البقرة : ( 113 ) وقالت اليهود ليست . . . . .
) وقالت اليهود ( ، يعني ابن صوريا وأصحابه ،
)( ليست النصارى على شيء ( من الدين ، فمالك يا محمد والنصارى اتبع ديننا ، ) وقالت(1/72)
صفحة رقم 73
النصارى ليست اليهود على شيء ( من الدين ، فمالك يا محمد واليهود ، اتبع ديننا ، يقول الله
عز وجل : ( وهم يتلون الكتاب ( ، يقول : وهم يقرءون التوراة والإنجيل ، يعني يهود
المدينة ونصارى نجران ، ) كذلك ( ، يعني هكذا ، ) قال الذين لا يعلمون ( بتوحيد
ربهم ، يعني مشركي العرب أن محمدا وأصحابه ليسوا على شيء من الدين ، يقول الله :
( مثل قولهم ( ، يعني مثل ما قالت اليهود والنصارى بعضهم لبعض ، فذلك قوله
سبحانه في المائدة : ( فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) [ المائدة :
14 ] ، يقول : ( فالله يحكم بينهم يوم القيامة ( ، يعني بين مشركي العرب وبين أهل
الكتاب ، ) فيما كانوا فيه ) ) من الدين ( ( يختلفون ) [ آية : 113 ] .
تفسير سورة البقرة آية [ 114 ]
البقرة : ( 114 ) ومن أظلم ممن . . . . .
) ومن أظلم ( ، نزلت في الطياخوس بن ببليس الرومي ومن معه من اهل الروم ،
يقول : فلا أحد أظلم ) ممن منع ( ، يعني نصارى الروم ) مساجد الله ( ، يعني بيت
المقدس أن يصلي فيه ، ) أن يذكر فيها اسمه ( ، يعني التوحيد ، ) وسعى في خرابها ( ،
وذلك أن الروم ظهروا على اليهود ، فقتلوهم وسبوهم وخربوا بيت المقدس ، وألقوا فيه
الجيف ، وذبحوا فيه الخنازير ، ثم كان على عهد الروم الثانية ططسر بن سناباتوس ،
ويقال : اصطفانوس ، فقتلهم وخرب بيت المقدس ، فلم يعمر حتى بناه المسلمون في
زمان عمر بن الخطاب ، رضوان الله عليه ، يقول الله عز وجل : ( أولئك ( ، يعني أهل
الروم ) ما كان ) ) ينبغي ( ( لهم أن يدخلوها ( ، يعني الأرض المقدسة إذ بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم )
) إلا خائفين ( ، فلا يدخل بيت المقدس اليوم الرومي إلا خائفا متنكرا ، فمن قدر
عليه منهم ، فإنه يعاقب ، ثم أخبر عن أهل الروم ، فقال : ( لهم في الدنيا خزي ( ، يعني
الهوان إن لم تقتل مقاتلتهم وتسب ذراريهم بأيدي المسلمين في ثلاث مدائن :
قسطنطينية ، والرومية ، ومدينة أخرى وهي عمورية ، فهذا خزيهم في الدنيا ، ) ولهم في
الآخرة عذاب عظيم ) [ آية : 114 ] من النار
تفسير سورة البقرة من آية [ 115 - 117 ](1/73)
صفحة رقم 74
البقرة : ( 115 ) ولله المشرق والمغرب . . . . .
) ولله المشرق والمغرب ( ، وذلك أن ناسا من المؤمنين كانا في سفر ، فحضرت الصلاة
في يوم غيم ، فمنهم من صلى قبل المشرق ، ومنهم من صلى قبل المغرب ، وذلك قبل أن
تحول القبلة إلى الكعبة ، فلما طلعت الشمس عرفوا أنهم قد صلوا لغير القبلة ، فقدموا
المدينة ، فأخبروا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك ، فأنزل الله عز وجل : ( ولله المشرق والمغرب ( ، ) فأينما تولوا ( تحولوا وجوهكم في الصلاة ، ) فثم وجه الله ( فثم الله ، ) إن الله واسع ( ،
لتوسيعه عليهم في ترك القبلة حين جهلوها ، ) عليم ) [ آية : 115 ] بما نووا ، وأنزل
الله عز وجل : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) [ البقرة :
177 ] إلى آخر الآية .
البقرة : ( 116 ) وقالوا اتخذ الله . . . . .
) وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه ( ، إنما نزلت في نصارى نجران السيد والعاقب
ومن معهما من الوفد قدموا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة ، فقالوا : عيسى ابن الله ، فأكذبهم الله
سبحانه وعظم نفسه ، تعالى عما يقولون ، فقال : ( بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ) [ آية : 116 ] ، يعني لله ، يعني من فيهما ، يعني عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، وغيره عبيده ، وفي
ملكه ، ثم قال : قانتون ، يعني مقرون بالعبودية ،
البقرة : ( 117 ) بديع السماوات والأرض . . . . .
ثم عظم نفسه ، فقال : ( بديع السماوات والأرض ( ابتدعهما ولم يكونا شيئا ، ) وإذا قضى أمرا ( في علمه أنه كائن ، ) فإنما يقول له كن فيكون ) [ آية : 117 ] ، لا يثنى قوله كفعل المخلوقين ، وذلك أن الله عز
وجل ، قضى أن يكون عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) في بطن أمه من غير أب ، فقال له ، كن ، فكان .
تفسير سورة البقرة من آية [ 118 - 120 ]
البقرة : ( 118 ) وقال الذين لا . . . . .
) وقال الذين لا يعلمون ( بتوحيد ربهم ، يعني مشركي العرب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( لولا ( يعنون هلا ) يكلمنا الله ( يخبرنا بأنك رسوله ، ) أو تأتينا ءاية ( كما
كانت الأنبياء تأتيهم الآيات تجئ إلى قومهم ، يقول الله : ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ( ، يقول : هكذا قالت بنو إسرائيل من قبل مشركي العرب ، فقالوا(1/74)
صفحة رقم 75
في سورة البقرة ، والنساء لموسى : ( أرنا الله جهرة ) [ النساء : 153 ] ، وأتوا بالآيات
وسمعوا الكلام فحرفوه ، فهل هؤلاء إلا مثل أولئك ، فذلك قوله سبحانه : ( تشابهت قلوبهم ( ، ثم قال : وإن كذب مشركو العرب بمحمد ، ) قد بينا الآيات ( ، أي فقد
بينا الآيات ، فذلك قوله سبحانه في العنكبوت : ( بل هو آيات ( ، يعني بيان أمر محمد
آيات ) بينات ) [ العنكبوت : 49 ] ، يعني واضحات في التوراة أنه أمي لا يقرأ
الكتاب ولا يخط بيمينه ، ) لقوم يوقنون ) [ آية : 118 ] ، يعني مؤمني أهل التوراة .
البقرة : ( 119 ) إنا أرسلناك بالحق . . . . .
) إنا أرسلناك بالحق ( ، يقول : لم نرسلك عبثا لغير شئ ، ) بشيرا ونذيرا ( ،
بشيرا بالجنة ونذيرا من النار ، ) ولا تسئل عن أصحاب الجحيم ) [ آية : 119 ] ، فإن الله قد
أحصاها عليهم ،
البقرة : ( 120 ) ولن ترضى عنك . . . . .
) ولن ترضى عنك اليهود ( من أهل المدينة ، ) ولا النصارى ( من أهل
نجران ، ) حتى تتبع ملتهم ( ، وذلك أنهم دعوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى دينهم وزعموا أنهم على
الهدى ، فأنزل الله عز وجل : ( قل ( لهم : ( إن هدى الله ( ، يعني الإسلام ) هو الهدى ( ، ثم حذر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : ( ولئن اتبعت أهواءهم ( ، يعني أهل الكتاب على
دينهم ) بعد الذي جاءك من العلم ( ، وعلم البيان ، ) ما لك من الله من ولي ( ، يعني قريب
فينفعك ) ولا نصير ) [ آية : 120 ] ، يعني ولا مانع .
تفسير سورة البقة آية [ 121 ]
البقرة : ( 121 ) الذين آتيناهم الكتاب . . . . .
ثم ذكر مؤمني أهل التوراة ، عبد الله بن سلام وأصحابه ، فقال عز وجل : ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ( ، يعني أعطيناهم التوراة ، ) يتلونه ( ، يعني نعت
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في التوراة ، ) حق تلاوته ( في التوراة ولا يحرفون نعته ، ) أولئك يؤمنون به ( ، يقول : أولئك يصدقون بمحمد ، يعني عبد الله بن سلام وأصحابه ، ثم قال :
( ومن يكفر به ( ، يعني بمحمد من أهل التوراة ، ) فأولئك هم الخاسرون ) [ آية : 121 ]
في العقوبة .
تفسير سورة البقرة من آية [ 122 - 123 ]
البقرة : ( 122 ) يا بني إسرائيل . . . . .
) يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ) [ آية :(1/75)
صفحة رقم 76
122 ] ، يعني عالمي ذلك الزمان ، يعني عالمي أجدادهم ، يعني بالمن والسلوى والحجر
والغمام .
البقرة : ( 123 ) واتقوا يوما لا . . . . .
) واتقوا يوما ( ، يعني اخشوا يوما يوم القيامة ) لا تجزي نفس ) كافرة ) عن نفس ) ) كافرة ( ( شيئا ( من المنفعة ، ) ولا يقبل منها عدل ( ، يعني فداء ، ) ولا تنفعها شفاعة ( ،
يعني شفاعة نبي ولا شهيد ولا صديق ، ) ولا هم ينصرون ) [ آية : 123 ] ، يعني يمتنعون
من العذاب
تفسير سورة البقرة آية [ 124 ]
البقرة : ( 124 ) وإذ ابتلى إبراهيم . . . . .
) وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ( ، يعني بذلك كل مسألة في القرآن مما سأل
إبراهيم من قوله : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ) [ البقرة :
126 ] ، ومن قوله : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا
مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ) [ البقرة : 128 ] ، وحين قال : ( ربنا
وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ) [ البقرة : 129 ] ، وحين قال لقومه حين
حاجوه : ( إني برئ مما تشركون ) [ الأنعام : 78 ] .
وحين قال : ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا (
[ الأنعام : 79 ] ، وحين ألقى في النار ، وحين أراد ذبح ابنه ، وحين قال : ( رب هب لي
من الصالحين ) [ الصافات : 100 ] ، وحين سأل الولد ، وحين قال : ( واجنبني
وبني أن نعبد الأصنام ) [ إبراهيم : 35 ] ، وحين قال : ( فاجعل أفئدة من الناس تهوي
إليهم ) [ إبراهيم : 37 ] ، وحين قال : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) [ البقرة :
127 ] ، وما كان نحو هذا في القرآن ، وما سأل إبراهيم فاستجاب له ، ) فأتمهن ( ،
ثم زاده الله مما لم يكن في مسألته ، ) قال إني جاعلك للناس إماما ( في الدين يقتدى
بسنتك ، ) قال ( إبراهيم : يا رب ، ) ومن ذريتي ( فاجعلهم أئمة ، ) قال (
الله : إن في ذريتك الظلمة ، يعني اليهود والنصارى ، ) لا ينال عهدي الظالمين (
[ آية : 124 ] ، يعني المشركين من ذريتك ، قال : لا ينال طاعتي الظلمة من ذريتك ، ولا
أجعلهم أئمة ، أنحلها أوليائي وأجنبها أعدائي .
تفسير سورة البقرة آية [ 125 ](1/76)
صفحة رقم 77
البقرة : ( 125 ) وإذ جعلنا البيت . . . . .
) وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ( يقولون : يثوبون إليه في كل عام ليقضوا منه وطرا ،
ثم قال : ( وأمنا ( لمن دخله وعاذ به في الجاهلية ، ومن أصاب اليوم حدا ثم لجأ إليه
أمن فيه حتى يخرج من الحرم ، ثم يقام عليه ما أحل بنفسه ، ثم قال : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ( ، يعني صلاة ، ولم يؤمروا بمسحه ولا تقبيله ، وذلك أنه كان ثلاثمائة
وستون صنما في الكعبة ، فكسرها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قال : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي ( من الأوثان ، فلا تذرا حوله صنما ولا وثنا ، يعني حول البيت
) للطائفين ( بالبيت من غير أهل مكة ، ) والعاكفين ( ، يعني أهل مكة مقيمين بها ،
)( والركع السجود ) [ آية : 125 ] في الصلوات .
تفسير سورة البقرة آية [ 126 ]
البقرة : ( 126 ) وإذ قال إبراهيم . . . . .
) وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا ( ، يعني مكة ، فقال الله عز وجل : نعم ،
فحرمه من الخوف ، ) وارزق أهله ( من المقيمين بمكة ، ) من الثمرات من آمن منهم بالله ( ، يعني من صدق منهم بالله ) واليوم الآخر ( وصدق بالله أنه واحد لا شريك
له ، وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، فأما مكة ، فجعلها الله أمنا ، وأما الرزق ،
فإن إبراهيم اختص بمسائلته الرزق للمؤمنين ، ) قال ومن كفر فأمتعه ( ، أي قال الله عز
وجل : والذين كفروا أرزقهم أيضا مع الذين آمنوا ، ولكنها لهم متعة من الدنيا ، ) قليلا ثم أضطره ( ألجئه إن مات على كفره ) إلى عذاب النار وبئس المصير ) [ آية :
126 ] .
تفسير سورة البقرة من آية [ 127 - 129 ](1/77)
صفحة رقم 78
البقرة : ( 127 ) وإذ يرفع إبراهيم . . . . .
) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيات وإسماعيل ( ، يعني أساس البيت الحرام الذي
كان رفع ليالي الطوفان على عهد نوح ، فبناه إبراهيم وإسماعيل على ذلك الأصل ،
وأعانهم الله عز وجل بسبعة أملاك على البناء ملك إبراهيم ، وملك إسماعيل ، وملك
هاجر ، والملك الموكل بالبيت ، وملك الشمس ، وملك القمر ، وملك آخر ، فلما فرغا من
بناء البيت ، قالا : ( ربنا تقبل منا ( ، يعني بناء هذا البيت الحرام ، ) إنك أنت السميع العليم ) [ آية : 127 ] لدعائهما : ( ربنا تقبل منا ( .
البقرة : ( 128 ) ربنا واجعلنا مسلمين . . . . .
ثم قالا : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ( ، يعني مخلصين لك ، ) ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا ( ، يعني علمنا مناسكنا ، نظيرها : ( بما أراك الله ) [ النساء : 105 ] ،
يعني بما علمك الله ، ونظيرها : ( ولما يعلم الله ) [ آل عمران : 142 ] ، يعني يرى الله ،
ونظيرها أيضا : ( ويرى الذين أوتوا العلم ) [ سبأ : 6 ] ، يعني ويعلم ، ونظيرها :
( فليعلمن الله الذين صدقوا ( ، يعني وليرين الله ، ) وليعلمن الكاذبين (
[ العنكبوت : 3 ] ، يعني ويرى .
) وأرنا مناسكنا ( فنصلي لك ، ) وتب علينا ( ، يعني إبراهيم وإسماعيل أنفسهما ،
)( إنك أنت التواب الرحيم ) [ آية : 128 ] ، ففعل الله عز وجل ذلك به ، فنزل جبريل
عليه السلام ، فانطلق بإيراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عرفات وإلى المشاعر ليريه ويعلمه كيف يسأل
ربه ، فلما أراه الله المناسك والمشاعر ، علم أن الله عز وجل سيجعل في ذريتهما أمة
مسلمة ، كما سألا ربهما ، فقالا عند ذلك :
البقرة : ( 129 ) ربنا وابعث فيهم . . . . .
) ربنا وابعث فيهم ( ، يعني في ذريتنا
) رسولا منهم ( ، يعني محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) يتلوا عليهم آياتك ( ، يعني يقرأ عليهم آيات
القرآن ، ) ويعلمهم الكتاب ( ، يقول : يعلمهم ما يتلى عليهم من القرآن ، ثم قال :
( والحكمة ( ، يعني الموعظة التي في القرآن من الحلال والحرام ، ) ويزكيهم ( ، يعني
ويطهرهم من الشرك والكفر ، ) إنك أنت العزيز الحكيم ) [ آية : 129 ] ، فاستجاب الله
له في سورة الجمعة ، فقال : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ) [ الجمعة : 2 ] إلى آخر الآية .
تفسير سورة البقرة من آية [ 130 - 134 ](1/78)
صفحة رقم 79
البقرة : ( 130 ) ومن يرغب عن . . . . .
) ومن يرغب عن ملة إبراهيم ، وذلك أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة
ومهاجرا إلى الإسلام ، فقال لهما : ألستما تعلمان أن الله عز وجل قال لموسى : إني باعث
نبيا من ذرتة إسماعيل يقال له : أحمد ، يحيد أمته عن النار ، وأنه ملعون من كذب بأحمد
النبي ، وملعون من لم يتبع دينه ؟ فأسلم سلمة ، وأبى مهاجر ، ورغب عن الإسلام ، فأنزل
الله عز وجل : ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم ( ، يعني الإسلام ، ثم استثنى ، ) إلا من
سفه نفسه ( ، يعني إلا من خسر نفسه من أهل الكتاب ، ) ولقد اصطفيناه في الدنيا
وإنه ( ، يعني إبراهيم ، يعني اخترناه بالنبوة والرسالة في الدنيا ، ) وإنه ( ) في الآخرة
لمن الصالحين ) [ آية : 130 ]
البقرة : ( 131 ) إذ قال له . . . . .
) إذ قال له ربه أسلم ( ، يقول : أخلص ، ) قال أسلمت ( ، يعني أخلصت ) لرب
العالمين ) [ آية : 131 ] ،
البقرة : ( 132 ) ووصى بها إبراهيم . . . . .
) ووصى بها ( ، يعني بالإخلاص ) إبراهيم بنيه ( الأربعة :
إسماعيل ، وإسحاق ، ومدين ، ومداين ، ثم وصى بها يعقوب بنيه يوسف وإخواته اثنى
عشر ذكرا بنيه ، ) ويعقوب يا بني ( ، أي فقال يعقوب لبنيه الاثنى عشر : ( إن الله (
عز وجل ) اصطفي ( ، يعني اختار ) لكم الدين ( ، يعني دين الإسلام ، ) فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) [ آية : 132 ] ،
البقرة : ( 133 ) أم كنتم شهداء . . . . .
يعني مخلصون بالتوحيد ، ) أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ( ، وذلك أن اليهود قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : يا محمد ، ألست تعلم أن يعقوب
يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية ، فأنزل الله عز وجل : ( أم كنتم شهداء إذا حضر
يعقوب الموت ( ، قال الله عز وجل : إن اليهود لم يشهدوا وصية يعقوب لبنيه ، ) إذ قال لبنيه ( يوسف وإخوته : ( ما تعبدون من بعدي ( أي بعد موتي ، ) قالوا نعبد
إلاهك وإله ءابائك ( ) إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ((1/79)
صفحة رقم 80
[ آية : 133 ] ، يعني مخلصون له بالتوحيد .
البقرة : ( 134 ) تلك أمة قد . . . . .
يقول : ( تلك أمة ( ، يعني عصبة ، ) قد خلت لها ما كسبت ( ، من العمل ، يعني
الدين ، يعني إبراهيم وبنيه ، ويعقوب وبنيه ، ثم قال لليهود ، ) ولكم ما كسبتم ( من
الدين ، ) ولا تسألون عما كانوا يعملون ) [ آية : 134 ] أولئك
تفسير سورة البقرة من آية [ 135 - 141 ]
البقرة : ( 135 ) وقالوا كونوا هودا . . . . .
) وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ( ، وذلك أن رءوس اليهود كعب بن
الأشرف ، وكعب بن أسيد ، وأبا ياسر بن أخطب ، ومالك بن الضيف ، وعازارا ،
وإشماويل ، وخميشا ، ونصارى نجران السيد ، والعاقب ومن معهما ، قالوا للمؤمنين : كونوا
على ديننا ، فإنه ليس دين إلا ديننا ، فكذبهم الله تعالى ، فقال : ( قل بل ( الدين ) ملة إبراهيم ( ، يعني الإسلام ، ثم قال : ( حنيفا ( ، يعني مخلصا ، ) وما كان من المشركين ) [ آية : 135 ] ، يعني من اليهود والنصارى .
البقرة : ( 136 ) قولوا آمنا بالله . . . . .
ثم أمر الله عز وجل المؤمنين ، فقال : ( قولوا ءامنا بالله ( بأنه واحد لا شريك له ،
)( وما أنزل إلينا ( ، يعني قرآن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب(1/80)
صفحة رقم 81
والأسباط ( ، وهم بنو يعقوب يوسف وإخوته ، فنزل على هؤلاء صحف إبراهيم ، قال :
( وما أوتي موسى ( ، يعني التوراة ، ) و ) ) ما أوتي ( ( وعيسى ( ، يعني الإنجيل ، يقول :
ما أنزل على موسى وعيسى وصدقنا ، ) وما أوتي النبيون من ربهم ( ، وأوتي داود
وسليمان الزبور ، ) لا نفرق بين أحد منهم ( ، فنؤمن ببعض النبيين ونكفر ببعض ،
كفعل أهل الكتاب ، ) ونحن له مسلمون ) [ آية : 136 ] ، يعني مخلصون ، نظيرها في آل
عمران .
البقرة : ( 137 ) فإن آمنوا بمثل . . . . .
يقول الله سبحانه : ( فإن ءامنوا بمثل ما ءامنتم به ( ، يقول : فإن صدق أهل
الكتاب بالذي صدقتم به يا معشر المسلمين من الإيمان بجميع الأنبياء والكتب ، ) فقد اهتدوا ( من الضلالة ، ) وإن تولوا ( ، أي وإن كفروا بالنبيين وجميع الكتب ، ) فإنما هم في شقاق ( ، يعني في ضلال واختلاف ، نظيرها : ( وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) [ البقرة : 176 ] ، يعني لفي ضلال واختلاف ؛ لأن اليهود كفروا بعيسى
ومحمد ، صلى الله عليهما وسلم ، وبما جاءا به ، وكفرت النصارى بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبما جاء
به ، فلما نزلت هذه الآية قرأها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على اليهود والنصارى ، فقال : ' إن الله عز
وجل أمرني أن أوصي بهذه الآية ، فإن أنتم آمنتم ، يعني صدقتم بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والكتاب ،
فقد اهتديتم ، وإن توليتم وأبيتم عن الإيمان ، فإنما أنتم في شقاق ' .
فلما سمعت اليهود ذكر عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، قالوا : لا نؤمن بعيسى ، وقالت النصارى :
وعيسى بمنزلتهم مع الأنبياء ، ولكنه ولد الله ، يقول : إن أبوا أن يؤمنوا بمثل ما آمنتم به ،
)( فسيكفيكهم الله ( يا محمد ، يعني أهل الكتاب ، ففعل الله عز وجل ذلك ، فقتل
أهل قريظة ، وأجلى بني النضير من المدينة إلى الشام ، ) وهو السميع العليم ) [ آية :
137 ] ، لقولهم للمؤمنين : ( كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ( ،
البقرة : ( 138 ) صبغة الله ومن . . . . .
ثم قال : ( العليم (
بما قالوا : قل لهم : ( صبغة الله ( التي صبغ الناس عليها ، ) ومن أحسن من الله صبغة ( ، يعني الإسلام ؛ لقولهم للمؤمنين : اتبعوا ديننا ، فإنه ليس دين إلا ديننا ، يقول
الله عز وجل : دين الله ، ومن أحسن من الله دينا ؟ يعني الإسلام ، ) ونحن له عابدون (
[ آية : 138 ] ، يعني موحدون .
البقرة : ( 139 ) قل أتحاجوننا في . . . . .
) قل أتحاجوننا في الله ( ، يقول : أتخاصموننا في الله ، ) وهو ربنا وربكم ( ، فقال
لهم : ( ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ) [ آية : 139 ] ، يقول : لنا ديننا(1/81)
صفحة رقم 82
ولكم دينكم ، يعني أن يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران قالوا للمؤمنين : إن أنبياء الله
كانوا منا من بني إسرائيل ، فكانوا على ديننا ، فأنزل الله عز وجل يكذبهم :
البقرة : ( 140 ) أم تقولون إن . . . . .
) أم تقولون
إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ) ، وإنما سموا الأسباط ؛ لأنه ولد
لكل واحد منهم أمة من الناس ، ) كانوا هودا أو نصارى قل ) لهم يا محمد : ( ءأنتم
أعلم ( بدينهم ) أم الله ) ، ثم قال عز وجل : ( ومن أظلم ( ، يقول : فلا أحد أظلم
) ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون ) [ آية : 140 ] ،
فكتموا تلك الشهادة التي عندهم ، وذلك أن الله عز وجل بين أمر محمد في التوراة
والإنجيل ، وكتموا تلك الشهادة التي عندهم ، وذلك قوله : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ) [ آل عمران : 187 ] ، يعني أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
البقرة : ( 141 ) تلك أمة قد . . . . .
فلما قالوا : إن إبراهيم وبنيه ، ويعقوب وبنيه كانوا على ديننا ، قال الله تعالى : ( تلك أمة ( ، يعني عصبة ، يعني إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه ، ) قد خلت ) ، يعني قد
مضت ، ) لها ما كسبت ) ، يعني من العمل ، يعني من الدين ، ) ولكم ( معشر اليهود
والنصارى ، ) ما كسبتم ( من العمل ، يعني من الدين ، ) ولا تسألون عما كانوا يعملون ) [ آية : 141 ] أولئك .
تفسير سورة البقرة من آية [ 142 - 143 ]
البقرة : ( 142 ) سيقول السفهاء من . . . . .
) سيقول السفهاء من الناس ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه كانوا بمكة يصلون
ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي ، فلما عرج بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى السماء ليلا ، أمر بالصلوات
الخمس ، فصارت الركعتان للمسافر ، وللمقيم أربع ركعات ، فلما هاجر إلى المدينة
لليلتين خلتا من ربيع الأول ، أمر أن يصلي نحو بيت المقدس ؛ لئلا يكذب به أهل الكتاب
إذا صلى إلى غير قبلتهم مع ما يجدون من نعته في التوراة ، فصلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه
قبل بيت المقدس من أول مقدمة المدينة سبعة عشر شهرا ، وصلت الأنصار قبل بيت
المقدس سنتين قبل هجرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانت الكعبة أحب القبلتين إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال(1/82)
صفحة رقم 83
لجبريل ، عليه السلام : ' وددت أن ربي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها ' ، فقال جبريل ،
عليه السلام : إنما أنا عبد مثلك لا أملك شيئا ، فاسأل ربك ذلك ، وصعد جبريل إلى
السماء ، وجعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل ، عليه السلام ، بما
سأل .
فأنزل الله عز وجل في رجب عند صلاة الأولى قبل قتال بدر بشهرين : ( قد نرى
تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام
وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) ، ولما صرفت القبلة إلى الكعبة ، قال مشركو
مكة : قد تردد على أمره واشتاق إلى مولد آبائه ، وقد توجه إليكم وهو راجع إلى دينكم ،
فكان قولهم هذا سفها منهم ، فأنزل الله عز وجل : ( سيقول السفهاء من الناس ( ،
يعني مشركي مكة ، ) ما ولاهم ) ، يقول : ما صرفهم ) عن قبلتهم ( الأولى ) التي كانوا
عليها قل ) يا محمد ) لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) [ آية :
142 ] ، يعني دين الإسلام ، يهدي الله نبيه والمؤمنين لدينه .
البقرة : ( 143 ) وكذلك جعلناكم أمة . . . . .
) وكذلك جعلناكم أمة وسطا ( ، وذلك أن اليهود منهم مرحب ، ورافع ، وربيعة
قالوا لمعاذ : ما ترك محمد قبلتنا إلا حسدا ، وإن قبلتنا قبلة الأنبياء ، ولقد علم محمد أنا
عدل بين الناس ، فقال معاذ : إنا على حق وعدل ، فأنزل الله عز وجل في قول معاذ :
( وكذلك ( ، يعني وهكذا ، ) جعلناكم أمة وسطا ( ، يعني عدلا ، نظيرها في ن والقلم ، قوله سبحانه : ( قال أوسطهم ) [ القلم : 28 ] ، يعني أعدلهم ، وقوله سبحانه :
( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) [ المائدة : 89 ] ، يعني أعدل ، فقول الله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ( ، يعني أمة محمد تشهد بالعدل في الآخرة بين الأنبياء وبين أممهم ،
)( لتكونوا شهداء على الناس ) ، يعني على الرسل هل بلغت الرسالة عن ربها إلى
أممهم ، ) ويكون الرسول ) ، يعني محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) عليكم شهيدا ( ، يعني على أمته أنه
بلغهم الرسالة .
) وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ( ، يعني بيت المقدس ، ) إلا لنعلم ) ، إلا لنرى
) من يتبع الرسول ( ، يعني محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) على دينه في القبلة ومن يخالفه من اليهود ،
)( ممن ينقلب على عقبيه ( ، يقول : ومن يرجع إلى دينه الأول ، ) وإن كانت لكبيرة ) ،
يعني القبلة حين صرفها عن بيت المقدس إلى الكعبة ، فعظمت على اليهود ، ثم استثنى(1/83)
صفحة رقم 84
فقال : ( إلا على الذين هدى الله ( فإنه لا يكبر عليهم ذلك ، ) وما كان الله ليضيع إيمانكم ( ، وذلك أن حيي بن أخطب اليهودي وأصحابه قالوا للمسلمين : أخبرونا عن
صلاتكم نحو بيت المقدس ، أكانت هدى أم ضلالة ، فوالله لئن كانت هدى لقد تحولتم
عنه ، ولئن كانت صلالة لقد دنتم الله بها فتقربتم إليه بها ، وإن من مات منكم عليها
مات على الضلالة .
فقال المسلمون : إنما الهدى ما أمر الله عز وجل به ، والضلالة ما نهى الله عنه ، قالوا :
فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا ؟ وكان قد مات قبل أن تحول القبلة إلى
الكعبة : أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار بن مالك
ابن الخزرج ، من بني النجار ، ومات البراء بن معرور بن صخر بن سنان بن عبيد بن
عدي بن سلمة بن سعد بن علي بن شاردة بن زيد بن جشم بن الخزرج ، من بني
سلمة ، وكانا من النقباء ، ومات رجال ، فانطلقت عشائرهم ، فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : توفي
إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى ، وقد صرفك الله عز وجل إلى قبلة إبراهيم ، عليه
السلام ، فكيف بإخواننا ، فأنزل الله عز وجل : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ( ، يعني
إيمان صلاتكم نحو بيت المقدس ، يقول : لقد تقبلت منهم ، ) إن الله بالناس لرءوف ( ،
يعني يرق لهم ، ) رحيم ) [ آية : 143 ] حين قبلها منهم قبل تحويل القبلة .
تفسير سورة البقرة من آية [ 144 - 150 ](1/84)
صفحة رقم 85
البقرة : ( 144 ) قد نرى تقلب . . . . .
) قد نرى تقلب وجهك في السماء ( ، يعني نرى أنك تديم نظرك إلى السماء ،
)( فلنولينك ( ، يعني لنحولنك إلى ) قبلة ترضاها ( ؛ لأن الكعبة كانت أحب إلى النبي
( صلى الله عليه وسلم ) من بيت المقدس ، ) فول ( ، يعني فحول ) وجهك شطر ( ، يعني تلقاء
) المسجد الحرام وحيث ما كنتم ( من الأرض ) فولوا وجوهكم شطره ( ، يعني فحولوا
وجوهكم في الصلاة تلقاءه ، وقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي في مسجد بني سلمة ، فصلى ركعة ، ثم حولت القبلة إلى الكعبة ، وفرض الله صيام رمضان ، وتحويل القبلة ، والصلاة
إلى الكعبة قبل بدر بشهرين ، وحرم الخمر قبل الخندق .
) وإن الذين أوتوا الكتاب ( ، يعني أهل التوراة ، وهم اليهود ، منهم الحميس بن
عمرو ، قال : يا محمد ، ما أمرت بهذا الأمر ، وما هذا إلا شيء ابتدعته ، يعني في أمر
القبلة ، فأنزل الله عز وجل : ( وإن الذين أوتوا الكتاب ( ، يعني أهل التوراة ، ) ليعلمون أنه الحق من ربهم ( ، بأن القبلة هي الكعبة ، فأوعدهم الله ، فقال : ( وما الله بغافل عما يعملون ) [ آية : 144 ] ، يعني عما يعملون من كفرهم بالقبلة ،
البقرة : ( 145 ) ولئن أتيت الذين . . . . .
) ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب ( ، يعني اليهود ، ينحوم بن سكين ، ورافع بن سكين ، ورافع ابن حريملة ، ومن
النصارى أهل نجران السيد والعاقب ، فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ائتنا بآية نعرفها كما كانت
الأنبياء تأتي بها ، فأنزل الله عز وجل : ( ولئن أتيت ( ، يقول : ولئن جئت يا محمد
) الذين أوتوا الكتاب ( ) بكل آية ما تبعوا قبلتك ) ، يعني الكعبة ، ) وما أنت بتابع
قبلتهم ( ، يعني بيت المقدس ، ثم قال : ( وما بعضهم بتابع قبلة بعض ( ، يقول : إن
اليهود يصلون قبل المغرب لبيت المقدس ، والنصارى قبل المشرق ، فأنزل الله عز وجل
يحذر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ويخوفه : ( ولئن اتبعت أهواءهم ) ، فصليت إلى قبلتهم ) من بعد ما
جاءك من العلم ) ، يعني البيان ، ) إنك إذا لمن الظالمين ) [ آية : 145 ] .
البقرة : ( 146 ) الذين آتيناهم الكتاب . . . . .
) الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ( ، يعني اليهود منهم : أبو ياسر
بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، وسلام بن صوريا ، وكنانة بن أبي الحقيق ، ووهب بن يهوذا ، وأبو نافع ، فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لم تطوفون بالكعبة ، وإنما هي
حجارة مبنية ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إنكم لتعلمون أن الطواف بالبيت حق ، فإنه هو القبلة
مكتوب في التوراة والإنجيل ، ولكنكم تكتمون ما في كتاب الله من الحق وتجحدونه ،
فقال ابن صوريا : ما كتمنا شيئا مما في كتابنا ، فأنزل الله عز وجل : ( الذين ءاتيناهم
الكتاب ( ، يقول : أعطيناهم التوراة ، ) يعرفونه ( ، أي يعرفون البيت الحرام أنه القبلة ،(1/85)
صفحة رقم 86
) كما يعرفون أبناءهم ( ) وإن فريقا منهم ( ، يعني طائفة من هؤلاء الرءوس ) ليكتمون الحق ( ، يعني أمر القبلة ) وهم يعلمون ) [ آية : 146 ] أن البيت هو القبلة .
البقرة : ( 147 ) الحق من ربك . . . . .
ثم قال سبحانه : ( الحق من ربك ( يا محمد إن القبلة التي وليناكها هي القبلة ،
)( فلا ( ، يعني لئلا ) تكونن ( يا محمد ) من الممترين ) [ آية : 147 ] ، يعني من
الشاكين أن البيت الحرام هو القبلة ،
البقرة : ( 148 ) ولكل وجهة هو . . . . .
) ولكل وجهة هو موليها ( ، يقول : لكل أهل ملة
قبلة هم مستقبلوها ، يريدون بها الله عز وجل ، ) فاستبقوا الخيرات ( ، يقول : سارعوا
في الصالحات من الأعمال ، ) أين ما تكونوا ( من الأرض أنتم وأهل الكتاب ، ) يأت بكم الله جميعا ( يوم القيامة ، ) إن الله على كل شيء قدير ) [ آية : 148 ] من البعث
وغيره قدير .
البقرة : ( 149 ) ومن حيث خرجت . . . . .
) ومن حيث خرجت ( ، يقول : ومن أين توجهت من الأرض ، ) فول وجهك شطر
المسجد الحرام ) ، يقول : فحول وجهك في الصلاة تلقاء المسجد الحرام ، ) وإنه للحق
من ربك وما الله بغافل عما تعملون ) [ آية : 149 ] ،
البقرة : ( 150 ) ومن حيث خرجت . . . . .
) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر
المسجد الحرام ( ، يعني الحرم كله ، فإنه مسجد كله ، ) وحيث ما كنتم ( من الأرض ،
)( فولوا وجوهكم شطره ( ، يعني فحولوا وجوهكم تلقاءه ، ثم قال : ( لئلا يكون للناس
عليكم حجة ( ، يعني اليهود في أن الكعبة هي القبلة ، ولا حجة لهم عليكم في انصرافكم
إليها ، ثم استثنى ، فقال : ( إلا الذين ظلموا منهم ( ، يعني من الناس ، يعني مشركي
العرب ، وذلك أن مشركي مكة قالوا : إن الكعبة هي القبلة ، فما بال محمد تركها
وكانت لهم في ذلك حجة ، يقول الله عز وجل : ( فلا تخشوهم ( أن يكون لهم عليكم
حجة في شيء غيرها ، ) واخشوني ( في ترك أمري في أمر القبلة ، ثم قال عز وجل :
( ولأتم نعمتي عليكم ( في انصرافكم إلى الكعبة وهي القبلة ، ) ولعلكم ( ولكي
) تهتدون ) [ آية : 150 ] من الضلالة ، فإن الصلاة قبل بيت المقدس بعد ما نسخت
الصلاة إليه ضلالة .
قال :
حدثنا عبيد الله بن ثابت ، قال :
حدثنا أبي ، قال الهذيل ، عن ليث بن سعد ، عن
يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الجهم مرثد ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : إنكم
ستفتحون قسطنطينية والرومية وحمقلة . قال :
حدثنا عبيد الله ، قال :
حدثنا أبي ، قال :
حدثنا الهذيل ، عن ابن لهيعة ، عن أبي قبيل ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : إنكم ستفتحون(1/86)
صفحة رقم 87
رومية ، فإذا دخلتموها فادخلوا كنيستها الشرقية ، فعدوا سبع بلاطات وأقلعوا الثامنة ،
وهي بلاطة حمراء ، فإن تحتها عصا موسى ، وإنجيل عيسى ، وحلي إيلياء ، يعني بيت
المقدس ، هذا خزيهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار .
قال :
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني أبي ، عن الهذيل بن حبيب ، عن مقاتل ، قال : كل
من ملك القبط يسمى قيطوس ، وكل من ملك الروم يسمى قيصر ، وكل من ملك
الفرس يسمى كسرى .
تفسير سورة البقرة من آية [ 151 - 152 ]
البقرة : ( 151 ) كما أرسلنا فيكم . . . . .
) كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ( ، يعني محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) يتلوا عليكم ءاياتنا (
القرآن ) ويزكيكم ( ، يعني ويطهركم من الشرك والكفر ، ) ويعلمكم الكتاب ( ،
يعني القرآن ، ) والحكمة ( ، يعني الحلال والحرام ، ) ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (
[ آية : 151 ] ، إذا فعلت ذلك بكم ،
البقرة : ( 152 ) فاذكروني أذكركم واشكروا . . . . .
) فاذكروني ( ، يقول : فاذكروني بالطاعة
) أذكركم ( بخير ، ) واشكروا لي ولا تكفرون ) [ آية : 152 ] ، يقول : اشكروا الله عز
وجل في هذه النعم لا تكفروا بها لقوله : ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ( إلى
آخر الآية .
تفسير سورة البقرة من آية [ 153 - 157 ]
البقرة : ( 153 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر والصلاة ( ، يقول : استعينوا على طلب الآخرة
بالصبر على الفرائض والصلوات الخمس في مواقيتها نحو الكعبة ، حين عيرتهم اليهود
بترك قبلتهم ، ) إن الله مع الصابرين ) [ آية : 153 ] على الفرائض والصلاة ،
البقرة : ( 154 ) ولا تقولوا لمن . . . . .
) ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات ( ، نزلت في قتلى بدر من المسلمين ، وهم أربعة عشر(1/87)
صفحة رقم 88
رجلا من المسلمين ، ثمانية من الأنصار ، وستة من المهاجرين ، فمن المهاجرين : عبيدة بن
الحارث بن عبد المطلب ، وعمير بن نضلة ، وعقيل بن بكير ، ومهجع ابن عبد الله مولى
عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وصفوان بن بيضاء ، فهؤلاء ستة من المهاجرين ، ومن الأنصار : سعد بن خيثمة بن الحارث بن النخاط بن كعب بن غنم بن أسلم بن مالك بن
الأوس ، ومبشر بن عبد المنذر ، ويزيد بن الحارث ، وعمر بن الحمام ، ورافع بن المعلى ،
وحارثة بن سراقة ، ومعوذ بن عفراء ، وعوف بن عفراء ، وعما ابنا الحارث بن مالك بن
سوار ، فهؤلاء ثمانية من الأنصار .
وذلك أن الرجل كان يقتل في سبيل الله ، فيقولون : مات فلان ، فأنزل الله عز وجل :
( ولا تقولوا ( معشر المؤمنين ) لمن يقتل في سبيل الله أموات ( ) بل أحياء (
مرزوقون في الجنة عند الله ، ثم قال سبحانه : ( ولكن لا تشعرون ) [ آية : 154 ]
بأنهم أحياء مرزوقون ، ومساكن أرواح الشهداء سدرة المنتهى في جنة المأوى ،
البقرة : ( 155 ) ولنبلونكم بشيء من . . . . .
) ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ( ، يعني القحط ، ) ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ( ، يعني قحط المطر ، ) وبشر الصابرين ) [ آية : 155 ] على هذه البلية بالجنة .
البقرة : ( 156 ) الذين إذا أصابتهم . . . . .
ثم نعت أهل المصيبة ، فقال : ( الذين إذا أصابتهم مصيبة ( ، يعني فيما ذكر من هذه
الآية ، ) قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) [ آية : 156 ] ،
البقرة : ( 157 ) أولئك عليهم صلوات . . . . .
) أولئك عليهم صلوات من ربهم ( ، يعني مغفرة ، كقوله سبحانه : ( وصل عليهم ( ، يعني استغفر لهم ، ) إن صلاتك ( ، يعني استغفارك ) سكن لهم ) [ التوبة : 103 ] ) ) من ربهم ( ( ورحمة
وأولئك هم المهتدون ) [ آية : 157 ] للاسترجاع .
تفسير سورة البقرة آية [ 158 ]
البقرة : ( 158 ) إن الصفا والمروة . . . . .
) إن الصفا والمروة من شعائر الله ( ، وذلك أن الحمس ، وهم : قريش ، وكنانة ،
وخزاعة ، وعامر بن صعصعة ، قالوا : ليست الصفا والمروة من شعائر الله ، وكان على
الصفا صنم يقال له : نائلة ، وعلى المروة صنم يقال له : يساف في الجاهلية ، قالوا : إنه(1/88)
صفحة رقم 89
حرج علينا في الطواف بينهما ، فكانوا لا يطوفون بينهما ، فأنزل الله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ( ، يقول : هما من أمر المناسك التي أمر الله بها ، ) فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ( ، يقول : لا حرج عليه أن
يطوف بينهما لقولهم : إن علينا حرجا في الطواف بينهما ، ثم قال سبحانه : ( ومن تطوع خيرا ( بعد الفريضة ، فزاد في الطواف ، ) فإن الله شاكر عليم ) [ آية : 158 ] لأعمالكم
عليم بها ، وقد طاف إبراهيم الخليل ( صلى الله عليه وسلم ) بين الصفا والمروة .
تفسير سورة البقرة من آية [ 159 - 163 ]
البقرة : ( 159 ) إن الذين يكتمون . . . . .
) إن الذين يكتمون ( ، وذلك أن معاذ بن جبل ، وسعد بن معاذ ، وحارثة بن زيد ،
سألوا اليهود عن أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعن الرجم وغيره فكتموهم ، يعني اليهود ، منهم : كعب
ابن الأشرف ، وابن صوريا ، ) ما أنزلنا من البينات ( ، يعني ما بين الله عز وجل في
التوراة ، يعني الرجم والحلال والحرام ، ) والهدى ( ، يعني أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في التوراة ،
فكتموه الناس ، يقول الله سبحانه : ( من بعد ما بيناه ( ، يعني أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) للناس في الكتاب ( ، يعني لبني إسرائيل في التوراة ، وذلك قوله سبحانه في العنكبوت : ( وما يجحد بآياتنا ( ، أي بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلا الظالمون ) [ العنكبوت : 49 ] ، يعني المكذبون
بالتوراة ، وهم ) أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) [ آية : 159 ] ، وذلك أن الكافر
يضرب في قبره فيصيح ويسمع صوته الخليقة كلهم ، غير الجن والإنس ، فيقولون : إنما
كان يحبس عنا الرزق بذنب هذا ، فتلعنهم الخليقة ، فهم اللاعنون .
البقرة : ( 160 ) إلا الذين تابوا . . . . .
ثم استثنى مؤمني أهل التوراة ، فقال سبحانه : ( إلا الذين تابوا ( من الكفر(1/89)
صفحة رقم 90
) وأصلحوا ( العمل ) وبينوا ( أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) للناس ، ) فأولئك أتوب عليهم ( ،
يعني أتجاوز عنهم ، ) وأنا التواب الرحيم ( ، [ آية : 160 ] ،
البقرة : ( 160 ) إلا الذين تابوا . . . . .
ثم ذكر من مات من اليهود
على الكفر ، فقال : ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله و ( لعنة
) والملائكة و ( لعنة ) والناس أجمعين ) [ آية : 161 ] ، يعني المؤمنين جميعا ،
البقرة : ( 162 ) خالدين فيها لا . . . . .
) خالدين فيها ( ، يعني في اللعنة ، واللعنة النار ، ) ولا يخفف عنهم العذاب ولا هم
ينظرون ) [ آية : 162 ] ، لا يناظر بهم حتى يعذبوا .
البقرة : ( 163 ) وإلهكم إله واحد . . . . .
ثم قال لأهل الكتاب : ( وإلاهكم إله واحد ( ، يقول : ربكم رب واحد ، فوحد نفسه
تبارك اسمه ، ) لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) [ آية : 163 ] .
تفسير سورة البقرة آية [ 164 ]
البقرة : ( 164 ) إن في خلق . . . . .
) إن في خلق السماوات والأرض ( ، وذلك أن كفار مكة قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ائتنا
بآية ، اجعل لنا الصفا ذهبا ، فقال الله سبحانه : ( إن في خلق السماوات والأرض (
) واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري ( ، يعني السفن التي ) في البحر بما ينفع الناس ( في معايشهم ، ) وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به ( ، يعني بالماء
) الأرض بعد موتها ( يبسها ، ) وبث فيها ( ، يعني وبسط ، ) من كل دابة وتصريف الرياح ( في العذاب والرحمة ، ) والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) [ آية : 164 ] ، فيما ذكر من صنعه فيوحدوه .
تفسير سورة البقرة من آية [ 165 - 167 ]
البقرة : ( 165 ) ومن الناس من . . . . .
) ومن الناس ( ، يعني مشركي العرب ، ) من يتخذ من دون الله أندادا ( ، يعني
شركاء ، وهي الآلهة ، ) يحبونهم كحب الله ( ، يقول : يحبون آلهتهم كما يحب الذين(1/90)
صفحة رقم 91
آمنوا ربهم ، ثم قال سبحانه : ( والذين ءامنوا أشد حبا لله ( منهم لآلهتهم ، ثم أخبر
عنهم ، فقال : ( ولو يرى ( محمد يوم القيامة ) الذين ظلموا ( ، يعني مشركي العرب
ستراهم يا محمد في الآخرة ) إذ يرون العذاب ) فيعلمون حينئذ ) أن القوة لله جميعا
وأن الله شديد العذاب ) [ آية : 165 ] ، ثم أخبر سبحانه عنهم ، فقال :
البقرة : ( 166 ) إذ تبرأ الذين . . . . .
) إذ تبرأ الذين
اتبعوا ( ، يعني القادة ، ) من الذين اتبعوا ( ، يعني الأتباع ، ) ورأوا العذاب ( ،
يعني القادة والأتباع ، ) وتقطعت بهم الأسباب ) [ آية : 166 ] ، يعني المنازل والأرحام
التي كانوا يجتمعون عليها من معاصي الله ، ويتحابون عليها في غير عبادة الله ، انقطع
عنهم ذلك وندموا .
البقرة : ( 167 ) وقال الذين اتبعوا . . . . .
) وقال الذين اتبعوا ( ، أي الأتباع : ( لو أن لنا كرة ( ، يعني رجعة إلى الدنيا ،
)( فنتبرأ منهم ( من القادة ، ) كما تبرءوا منا ( في الآخرة ، وذلك قوله سبحانه :
( ثم يوم القيامة يكفر ( ، يعني يتبرأ ) بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) ،
)( كذلك ( يقول : هكذا ) يريهم الله أعمالهم ( ، يعني القادة والأتباع ) حاسرات
عليهم ( ، يعني ندامة ، ) وما هم بخارجين من النار ) [ آية : 167 ] .
تفسير سورة البقرة من آية [ 168 - 171 ]
البقرة : ( 168 ) يا أيها الناس . . . . .
) يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ( ، يعني مما حرموا من الحرث
والأنعام ، نزلت في ثقيف ، وفي بني عامر بن صعصعة ، وخزاعة ، وبني مدلج ، وعامر
والحارث ابني عبد مناة ، ثم قال سبحانه : ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ( ، يعني تزيين
الشيطان في تحريم الحرث والأنعام ، ) إنه لكم عدو مبين ) [ آية : 168 ] ، يعني بين ،
البقرة : ( 169 ) إنما يأمركم بالسوء . . . . .
) إنما يأمركم بالسوء ( ، يعني بالإثم ، ) والفحشاء ( ، يعني وبالمعاصي ؛ لأنه لكم عدو
مبين ، ) وأن تقولوا على الله ( بأنه حرم عليكم ) ما لا تعلمون ) [ آية : 169 ] أنتم أنه
حرمه .
البقرة : ( 170 ) وإذا قيل لهم . . . . .
ثم أخبر عنهم ، فقال : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله ( من القرآن في تحليل ما(1/91)
صفحة رقم 92
حرموه ، ) قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا ( من أمر الدين ، فإن آباءنا أمرونا أن نعبد
ما كانوا يعبدون ، قل يا محمد : ( أولو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئا ( من الدين
) ولا يهتدون ) [ آية : 170 ] به أفتتبعونهم ، ثم ضرب لهم مثلا ، فقال سبحانه :
البقرة : ( 170 ) وإذا قيل لهم . . . . .
) ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق ( ، يعني الشاة والحمار ، ) بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ( ، يعني مثل الكافر كمثل البهيمة إن أمرت أن تأكل أو تشرب سمعت صوتا ولا
تعقل ما يقال لها ، فكذلك الكافر الذين يسمع الهدى والموعظة إذا دعى إليها ، فلا يعقل
ولا يفهم بمنزلة البهيمة ، يقول : ( صم ( ، فلا يسمعون الهدى ، ) بكم ( ، فلا يتكلمون
بالهدى ، ) عمي ( ، فلا يبصرون الهدى ، ) فهم لا يعقلون ) [ آية : 171 ] الهدى .
تفسير سورة البقرة من آية [ 172 - 173 ]
البقرة : ( 172 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ( من تحليل الحرث والأنعام ، يعني
بالطيب الحلال ، ) واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ) [ آية : 172 ] ، ولا تحرموا
ما أحل الله لكم من الحرث والأنعام ،
البقرة : ( 173 ) إنما حرم عليكم . . . . .
ثم بين ما حرم ، فقال : ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ( ، يقول : وما ذبح للأوثان ، ) فمن اضطر ( إلى شيء مما حرم الله ) غير باغ ( استحلاله ، ) ولا عاد ( ، يعني ولا معتديا
لم يضطر إليه ، ) فلا إثم عليه ( في أكله ، ) إن الله غفور ( لما أكل من الحرام في
الاضطرار ، ) رحيم ) [ آية : 173 ] ، إذ رخص لهم في الاضطرار ، مثلها في الأنعام ،
والمضطر يأكل على قدر قوته .
تفسير سورة البقرة من آية [ 174 - 176 ]
البقرة : ( 174 ) إن الذين يكتمون . . . . .
) إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ( ، يعني التوراة أنزلت في رءوس
اليهود ، منهم : كعب بن الأشرف ، وابن صوريا ، كتموا أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في التوراة(1/92)
صفحة رقم 93
) ويشترون به ثمنا قليلا ( ، يعني عرضا من الدنيا ، ويختارون على الكفر ، بمحمد ثمنا
قليلا ، يعني عرضا من الدنيا يسيرا مما يصيبون من سفلة اليهود من المآكل كل عام ، ولو
تابعوا محمدا لحبست عنهم تلك المآكل ، فقال الله تعالى ذكره : ( أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ( ، يقول : ولا يزكي
لهم أعمالهم ، ) ولهم عذاب أليم ( ، [ آية : 174 ] ، يعني وجيع .
ثم أخبر عنهم ، فقال سبحانه :
البقرة : ( 175 ) أولئك الذين اشتروا . . . . .
) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ، يعني
باعوا الهدى الذي كانوا فيه من إيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يبعث بالضلالة التي دخلوا فيها
بعدما بعث محمد ، ثم قال : ( والعذاب بالمغفرة ( ، أي اختاروا العذاب على المغفرة ،
)( فما أصبرهم على النار ) [ آية : 175 ] ، يقول : أي شيء جرأهم على عمل يدخلهم
النار ، فما أصبرهم عليها إلا أعمالهم الخبيثة ،
البقرة : ( 176 ) ذلك بأن الله . . . . .
) ذلك ( العذاب الذي نزل بهم في
الآخرة ) بأن الله نزل الكتاب ( ، يعني القرآن ، ) بالحق ( ، يقول : لم ينزل باطلاً
لغير شيء ، فلم يؤمنوا به ، ) وإن الذين اختلفوا في الكتاب ( ، يعني في القرآن ، ) لفي
شقاق بعيد ) [ آية : 176 ] ، يعني لفي ضلال بعيد ، يعني طويل .
تفسير سورة البقرة آية [ 177 ]
البقرة : ( 177 ) ليس البر أن . . . . .
) ليس البر أن تولوا وجوهكم ( ، يعني ليس التقوى أن تحولوا وجوهكم في الصلاة
) قبل ( ، يعني تلقاء ) المشرق والمغرب ( ، فلا تفعلوا ذلك ، ) ولكن البر من ءامن
بالله ( ، يعني صدق بالله بأنه واحد لا شريك له ، ) واليوم الآخر ( ، يعني وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن ) والملائكة ( ، أي وصدق بالملائكة ،
)( والكتاب والنبيين وءاتي المال ( ، يعني وأعطى المال ) على حبه ) له أعطى ) ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ( ، يعني والضيف نازل عليك ) و ( أعطى
) والسائلين وفي الرقاب ( ، فهذا تطوع ، ثم قال سبحانه : ( وأقام الصلاة ( المكتوبة
) وءاتى ( وأعطى ) الزكاة ( المفروضة ) والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ( فيما(1/93)
صفحة رقم 94
بينهم وبين الناس ، ) والصابرين في البأساء والضراء ) ، يعني الفقر ، والضراء يعني البلاء ،
)( وحين البأس ( ، يعني وعند القتال هم صابرون ، ) أولئك الذين صدقوا ( في إيمانهم ،
)( وأولئك هم المتقون ) [ آية : 177 ] .
تفسير سورة البقرة من آية [ 178 - 179 ]
البقرة : ( 177 ) ليس البر أن . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ( إذا كان عمدا ، وذلك أن حيين
من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، وكانت بينهم قتلى وجرحى ، حتى
قتل العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض الأموال حتى أسلموا ، وكان أحد الحيين
له طول على الآخر في العدد والأموال ، فحلفوا ألا نرضى حتى يقتل بالعبد منا الحر
منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، فأنزل الله عز وجل : ( الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ( ، فسوى بينهم في الدماء ، وأمرهم بالعدل فرضوا ، فصارت منسوخة نسختها
الآية التي في المائدة قوله سبحانه : ( وكتبنا ( فيما قضينا ) عليهم فيها أن النفس
بالنفس ) [ المائدة : 54 ] ، يعني النفس المسلم الحر بالنفس ، المسلم الحر ، والمسلمة الحرة
بالمسلمة الحرة ، ) فمن عفى له من أخيه شيء ( .
ثم رجع إلى أول الآية في قوله سبحانه : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ( إذا كان
عمدا إذا عفى ولي المقتول عن أخيه القاتل ورضي بالدية ، ) فاتباع بالمعروف ( ، يعني
الطالب ليطلب ذلك في رفق ، ثم قال للمطلوب : ( وأداء إليه بإحسان ( ، يقول : ليؤدي
الدية إلى الطالب عفوا في غير مشقة ولا أذى ، ) ذلك ( العفو والدية ) تخفيف من
ربكم ( إذ جعل في قتل العمد العفو والدية ، ثم قال : ( ورحمة ( ، يعني وتراحموا ،
وكان الله عز وجل حكم على أهل التوراة أن يقتل القاتل ، ولا يعفى عنه ، ولا يقبل منه
الدية ، وحكم على أهل الإنجيل العفو ، ولا يقتل القاتل بالقصاص ، ولا يأخذ ولي المقتول
الدية .
ثم جعل الله عز وجل التخفيف لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إن شاء ولي المقتول قتل القاتل ، وإن
شاء عفا عنه ، وإن شاء أخذ منه الدية ، فكان لأهل التوراة أن يقتل قاتل الخطأ والعمد(1/94)
صفحة رقم 95
فرخص الله عز وجل لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذلك قوله سبحانه في الأعراف : ( ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) [ الأعراف : 157 ] من التشديدات ، وهم أن
يقتل قاتل العمد ولا يعفى عنه ، ولا يؤخذ منه الدية ، ثم قال : ( فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) [ آية : 178 ] ، يعني وجيع ، ، فإنه يقتل ، ولا يؤخذ منه دية ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
' لا عفو عمن قتل القاتل بعد أخذ الدية ، وقد جعل الله له عذابا أليما ' .
ثم قال سبحانه :
البقرة : ( 179 ) ولكم في القصاص . . . . .
) ولكم في القصاص حياة ( ، يعني بقاء يحجز بعضكم عن بعض
) يا أولي الألباب ( ، يعني من كان له لب أو عقل ، فذكر القصاص ، فيحجزه الخوف
عن القتل ، ) لعلكم ( ، يعني لكي ) تتقون ) [ آية : 179 ] الدماء مخافة القصاص .
تفسير سورة البقرة آية [ 180 - 182 ]
البقرة : ( 180 ) كتب عليكم إذا . . . . .
) كتب عليكم ( ، يعني فرض عليكم ، نظيرها : ( كتب عليكم القتال ) [ البقرة :
216 ] ، يعني فرض ، نظيرها أيضا : ( ما كتبناها ( ، يعني ما فرضناها ) عليهم (
[ الحديد : 27 ] ، يعني الرهبانية ، ) إذا حضر أحدكم الموت إن ترك ( بعد موته
) خيرا ( ، يعني المال ، ) الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ( ، يعني تفضيل الوالدين
على الأقربين في الوصية ، وليوص للأقربين بالمعروف .
والذين لا يرثون يقول الله عز وجل تلك الوصية ) حقا على المتقين ) [ آية : 180 ] ،
فمن لم يوص لقرابته عند موته ، فقد ختم عمله بالمعصية ، ثم نزلت آية الميراث بعد هذه
الآية ، فنسخت للوالدين ، وبقيت الوصية للأقربين الذين لا يرثون ، ما بينه وبين ثلث
ماله ،
البقرة : ( 181 ) فمن بدله بعد . . . . .
) فمن بدله بعدما سمعه ( ، يقول : من بدل وصية الميت ، يعني الوصي والولي بعدما
سمعه من الميت ، فلم يمض وصيته ، ) فإنما إثمه على الذين يبدلونه ( ، عني الوصي والولي
وبرئ منه الميت ، ) إن الله سميع ( لوصية الميت ) عليم ) [ آية : 181 ] بها .
ثم قال :
البقرة : ( 182 ) فمن خاف من . . . . .
) فمن خاف ( ، يعني الوصي ) من موص ( ، يعني الميت ) جنفا ( ميلا(1/95)
صفحة رقم 96
عن الحق خطأ ، ) أو إثما ( تعمدا للجنف ، أي إن جار الميت في وصيته عمدا أو خطأ ،
فلم يعدل ، فخاف الوصي أو الولي من جور وصيته ، ) فأصلح بينهم ( بين الورثة بالحق
والعدل ، ) فلا إثم عليه ( حين خالف جور الميت ، ) إن الله غفور ( للمصلح
) رحيم ) [ آية : 182 ] به إذا رخص في مخالفة جور الميت .
تفسير سورة البقرة من آية [ 183 - 184 ]
البقرة : ( 183 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام ( ، وذلك أن لبيد الأنصاري من بني عبد
الأشهل كبر فعجز عن الصوم ، فقال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما على من عجز عن الصوم ، فأنزل الله
عز وجل : ( يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام ( ، يعني فرض عليكم ، نظيرها :
( كتب عليكم القتال ( ، يعني فرض عليكم القتال ، ) كما كتب ( ، يعني كما فرض
) على الذين من قبلكم ( ، يعني أهل الإنجيل ، ) لعلكم تتقون ) [ آية : 183 ] ،
يعني لكي تتقون الطعام والشراب والجماع ، فمن صلى العشاء الآخرة أو نام قبل أن
يصلي العشاء الآخرة ، حرم عليه ما يحرم على الصائم .
وكان ذلك على الذين من قبلنا
البقرة : ( 184 ) أياما معدودات فمن . . . . .
) أياما معدودات ( وهي دون الأربعين ، فإذا
كانت فوق الأربعين فلا يقال لهم : ( معدودات ( ، ) فمن كان منكم مريضا أو على
سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية ) ، أي ومن كان يطيق الصوم ،
وليس بمريض ولا مسافر ، فإن شاء صام وإن شاء أفطر ، وعليه فدية ) طعام
مسكين ( ، لكل مسكين نصف صاع حنطة ، ) فمن تطوع خيرا ( ، فزاد على مسكين
فأطعم مسكينين أو ثلاثة مكان كل يوم ، ) فهو خير له ) من أن يطعم مسكينا واحدا ،
ثم قال : ( وأن تصوموا خير ( ، يعني ولأن تصوموا خير ) لكم ( من الطعام ) إن كنتم تعلمون ) [ آية : 184 ] ، وكان المؤمنون قبل رمضان يصومون عاشوراء ولا
يصومون غيره ، ثم أنزل الله عز وجل صوم رمضان بعد ، فنسخ الطعام ، وثبت الصوم ،
إلا على من لا يطيق الصوم ، فليفطر وليطعم مكان كل يوم مسكينا نصف صاع حنطة .
تفسير سورة البقرة آية [ 185 ](1/96)
صفحة رقم 97
البقرة : ( 185 ) شهر رمضان الذي . . . . .
ثم بين لهم أي شهر يصومون ، فقال عز وجل : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه
القرءان ( ، من اللوح المحفوظ في عشرين شهرا ، وأنزل به جبريل ، عليه السلام ،
عشرين سنة ، ثم قال سبحانه : ( هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ( ، يعني
في الدين من الشبهة والضلالة ، نظيرها في آل عمران [ الآية : 4 ] : ( وأنزل الفرقان ( ،
يعني المخرج من الشبهات ، ) فمن شهد منكم الشهر فليصمه ( ، فواجب عليه الصيام ،
ولا يطعم ، ) ومن كان ( منكم ) مريضا أو على سفر ( ، فلم يصم ، فإذا برئ
المريض من مرضه ، ) فعدة ( فليصم عدة ) من أيام أخر ( ، إن شاء صام متتابعا ،
وإن شاء متقطعا ، وهكذا المسافر ، ) يريد الله بكم اليسر ( ، يعني الرفق في أمر
دينكم حين رخص للمريض والمسافر في الفطر ، ) ولا يريد بكم العسر ( ، يعني
الضيق في الدين ، فلو لم يرخص للمريض والمسافر ، كان عسرا ، ثم قال عز وجل :
( ولتكملوا العدة ( يعني تمام الأيام المعدودات ، ) ولتكبروا ( ، يعني لكي
تعظموا ) الله على ما هداكم ( من أمر دينه ، ) ولعلكم ( ، يعني لكي ،
)( تشكرون ) [ آية : 185 ] ربكم في هذه النعم إذ هداكم لأمر دينه .
تفسير سورة البقرة آية [ 186 ]
البقرة : ( 186 ) وإذا سألك عبادي . . . . .
ثم قال سبحانه : ( وإذا سألك عبادي عني ( ، وذلك أنه كان في الصوم الأول أن
الرجل إذا صلى العشاء الآخرة ، أو نام قبل أن يصليها ، حرم عليه الطعام والشراب
والجماع ، كما يحرم بالنهار على الصائم ، ثم إن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، صلى
العشاء الآخرة ، ثم جامع امرأته ، فلما فرغ ندم وبكا ، فلما أصبح أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم )
فأخبره ، فقال : يا نبي الله ، إني أعتذر إلى الله عز وجل ، ثم إليك من نفسي هذه الخاطئة
واقعت أهلي بعد الصلاة ، فهل تجد لي رخصة ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لم تك جديرا بذلك
يا عمر ' ، فرجع حزينا ، ورأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صرمة بن أنس بن صرمة بن مالك ، من بني(1/97)
صفحة رقم 98
عدي بن النجار عند العشاء ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' يا أبا قيس ، ما لك طليحا ؟ ' ، فقال : يا
رسول الله ، ظللت أمس في حديقتي ، فلما أمسيت أتيت أهلي ، وأرادت المرأة أن
تطعمني شيئا سخنا ، فأبطأت علي بالطعام ، فرقدت فأيقظتني وقد حرم علي الطعام ،
فأمسيت وقد أجهدني الصوم .
واعترف رجال من المسلمين عند ذلك بما كانوا يصنعون بعد العشاء ، فقالوا : ما
توبتنا ومخرجنا مما علمنا ، فأنزل الله عز وجل : ( وإذا سألك عبادي عني ( ) فإني قريب ( ، أي فأعلمهم أني قريب منهم في الاستجابة ، ) أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي ( بالطاعة ، ) وليؤمنوا بي ( ، يعني وليصدقوا بي ، فإني قريب سريع
الإجابة أجيبهم ) لعلهم يرشدون ) [ آية : 186 ] ، يعني لكي يهتدون .
تفسير سورة البقرة آية [ 187 ]
البقرة : ( 187 ) أحل لكم ليلة . . . . .
ثم قال : ( أحل لكم ليلة الصيام ( رخصة للمؤمنين بعد صنيع عمر ، رضي الله
عنه ، ) الرفث ( ، يعني الجماع ، ) إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ( ، يقول :
هن سكن لكم ، وأنتم سكن لهن ، ) علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ( ،
يعني عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، في جماع امرأته ، ) فتاب عليكم ( ، يعني
فتجاوز عنكم ، ) وعفا عنكم ( .
قوله سبحانه : ( تختانون أنفسكم ( بالمعصية ، نظيرها : ( فخانتاهما (
[ التحريم : 10 ] ، فخالفتاهما ، يعني بالمعصية ، وكقوله سبحانه : ( ولا تزال تطلع على خائنة منهم ) [ المائدة : 13 ] ، يعني على معصية ، ) وعفا عنكم ( ، يقول : ترككم فلم
يعاقبكم ، ) فالآن باشروهن ) ، يعني جامعوهن من حيث أحللت لكم الجماع الليل كله ،
)( وابتغوا ) ) من نسائكم ( ( ما كتب الله لكم ( من الولد ، يعني واطلبوا ما قضى لكم
وأنزل في صرمة بن أنس ، ) وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط(1/98)
صفحة رقم 99
الأسود ( ، حتى يتبين لكم وجه الصبح ، يعني بياض النهار من سواد الليل ، ) من الفجر
ثم أتموا الصيام إلى الليل ( ، والخيط الأبيض يعني أول بياض الصبح ، الضوء المعترض قبل
المشرق ، والخيط الأسود أول سواد الليل ، ) ولا تباشروهن ( ، نزلت في علي بن أبي
طالب ، رضي الله عنه ، وعمار بن ياسر ، وأبي عبيدة بن الجراح ، كان أحدهم يعتكف ،
فإذا أراد الغائط من السحر رجع إلى أهله بالليل ، فيباشر ويجامع امرأته ويغتسل ويرجع
إلى المسجد ، فأنزل الله عز وجل : ( ولا تباشروهن ( ) وأنتم عاكفون في المساجد ( ،
يقول : لا تجامعوا النساء ليلا ولا نهارا ما دمتم معتكفين ، ثم قال عز وجل : ( تلك حدود
الله ( المباشرة تلك معصية الله ، ) فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته ( ، يعني أمره
) للناس ( وأمر الاعتكاف ، ) لعلهم ( ، يعني لكي ) يتقون ) [ آية : 187 ]
المعاصي في الاعتكاف .
تفسير سورة البقرة آية [ 188 ]
البقرة : ( 188 ) ولا تأكلوا أموالكم . . . . .
) ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( ، يعني ظلما ، وذلك أن امرأ القيس بن عابس ،
وعبدان بن أشوع الحضرمي اختصما في أرض ، فكان امرؤ القيس المطلوب ، وعبدان
الطالب ، فلم يكن لعبدان بينة ، وأراد امرؤ القيس أن يحلف ، فقرأ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ) إن
الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ( ' [ آل عمران : 77 ] ، يعني عرضا يسيرا
من الدنيا ، إلى آخر الآية ، فلما سمعها امرؤ القيس كره أن يحلف ، ولم يخاصمه في أرضه ،
وحكمه فيها ، فأنزل الله عز وجل : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( ) وتدلوا
بها إلى الحكام ( ، يقول : لا يدلين أحدكم بخصومة في استحلال مال أخيه ، وهو
يعلم أنه مبطل ، فذلك قوله سبحانه : ( لتأكلوا فريقا ( ، يعني طائفة ، ) من أموال
الناس بالإثم وأنتم تعلمون ) [ آية : 188 ] أنكم تدعون الباطل ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إنما
أنا بشر مثلكم ، فلعلى بعضكم أعلم بحجته ، فأقضى له وهو مبطل ' . ثم قال عليه
السلام : ' أيما رجل قضيت له بمال امرئ مسلم ، فإنما هي قطعة من نار جهنم أقطعها ،
فلا تأكلوها ' .
تفسير سورة البقرة آية [ 189 ](1/99)
صفحة رقم 100
البقرة : ( 189 ) يسألونك عن الأهلة . . . . .
قوله سبحانه : ( يسئلونك عن الأهلة ( ، نزلت في معاذ بن جبل ، وثعلبة بن
غنمة ، وهما من الأنصار ، فقال معاذ : يا رسول الله ، ما بال الهلال يبدو مثل الخيط ، ثم
يزيد حتى يمتلئ فيستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ، فأنزل الله عز وجل :
( يسئلونك عن الأهلة ( ) قل هي مواقيت للناس ( في أجل دينهم ، وصومهم ،
وفطرهم ، وعدة نسائهم ، والشروط التي بينهم إلى أجل ، ثم قال عز وجل :
( والحج ( ، يقول : وقت حجهم والأهلة مواقيت لهم ، وذلك قوله سبحانه : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ( ، وذلك أن الأنصار في الجاهلية وفي الإسلام
كانوا إذا أحرم أحدهم بالحج أو بالعمرة ، وهو من أهل المدن ، وهو مقيم في أهله لم
يدخل منزله من باب الدار ، ولكن يوضع له سلم إلى ظهر البيت فيصعد فيه ، وينحدر
منه ، أو يتسور من الجدار ، وينقب بعض بيوته ، فيدخل منه ويخرج منه ، فلا يزال كذلك
حتى يتوجه إلى مكة محرما ، وإذا كان من أهل الوبر دخل وخرج من وراء بيته .
) وأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل يوما نخلا لبني النجار ، ودخل معه قطبة بن عامر بن حديدة
الأنصاري من بني سلمة بن جشم من قبل الجدار ، وهو محرم ، فلما خرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من
الباب وهو محرم ، خرج قطبه من الباب ، فقال رجل : هذا قطبة خرج من الباب وهو محرم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ما حملك أن تخرج من الباب وأنت محرم ؟ ' . قال : يا نبي ، رأيتك
خرجت من الباب وأنت محرم ، فخرجت معك ، وديني دينك ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
' خرجت لأني من أحمس ' ، فقال قطبة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن كنت أحمسيا فإني أحمسي ، وقد
رضيت بهديك ودينك ، فاستننت بسنتك ، فأنزل الله في قول قطبة بن عامر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( وليس البر ( ، يعني التقوى ، ) بأن تأتوا البيوت من ظهورها ( ) ولكن البر من
اتقى ( الله واتبع أمره ، ثم قال عز وجل : ( وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا
الله ( ولا تعصوه يحذركم ) لعلكم ( ، يقول : لكي ) تفلحون ) [ آية : 189 ] ،
والحمس قريش ، وكنانة ، وخزاعة ، وعامر بن صعصعة ، الذين لا يسلون السمن ولا
يأكلون الأقط ولا يبنون الشعر والوبر .
تفسير سورة البقرة من آية [ 190 - 193 ](1/100)
صفحة رقم 101
البقرة : ( 190 ) وقاتلوا في سبيل . . . . .
وقوله سبحانه : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ( ، وذلك أن الله عز وجل نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين عن الشهر الحرام أن يقاتلوا في الحرم إلا أن يبدأهم المشركون
بالقتال ، وأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بينا هو وأصحابه معتمرون إلى مكة في ذي القعدة ، وهم محرمون
عام الحديبية ، والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة رجل ، فصدهم مشركو مكة عن المسجد
الحرام وبدأوهم بالقتال ، فرخص الله في القتال ، فقال سبحانه : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ( ) ولا تعتدوا ( فتبدأوا بقتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم ، فإنه
عدوان ، ) إن الله لا يحب المعتدين ) [ آية : 190 ] ، ثم قال سبحانه :
البقرة : ( 191 ) واقتلوهم حيث ثقفتموهم . . . . .
) واقتلوهم حيث ثقفتموهم ( ، يعني أين أدركتموهم في الحل والحرم ، ) وأخرجوهم ( من
مكة ) من حيث أخرجوكم ( ، يعني من مكة ، ) والفتنة أشد من القتل ( ، يعني الشرك أعظم
عند الله عز وجل جرما من القتل ، نظيرها : ( ألا في الفتنة سقطوا ) [ التوبة : 49 ] ،
يعني في الكفر وقعوا ، فلما نزلت : ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ( ، أنزل الله عز وجل بعد :
( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ( ، يعني أرض الحرم كله ، فنسخت هذه الآية ، ثم
رخص لهم ، ) حتى يقاتلوكم فيه ( ، يعني حتى يبدءوا بقتالكم في الحرم ، ) فإن قاتلوكم (
فيه ، ) فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ) [ آية : 191 ] إن بدأوا بالقتال في الحرم أن يقاتلوا
فيه .
ثم قال سبحانه :
البقرة : ( 192 ) فإن انتهوا فإن . . . . .
) فإن انتهوا ( عن قتالكم ووحدوا ربهم ، ) فإن الله غفور (
لشركهم ) رحيم ( ) [ آية : 192 ] بهم في الإسلام ، نظيرها في الأنفال : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) [ الأنفال : 39 ] إلى آخر الآية : ثم قال :
البقرة : ( 193 ) وقاتلوهم حتى لا . . . . .
) وقاتلوهم ( أبدا ) حتى لا تكون فتنة ( ، يقول : حتى لا يكون فيهم شرك فيوحدوا
ربهم ولا يعبدوا غيره ، يعني مشركي العرب خاصة ، ) ويكون ( ، يعني ويقوم ) الدين لله ( ، فيوحدوه ولا يعبدوا غيره ، ) فإن انتهوا ( عن الشرك ووحدوا ربهم ، ) فلا عدوان ( ، يعني فلا سبيل ) إلا على الظالمين ) [ آية : 193 ] الذين لا يوحدون ربهم ،
نظيرها في القصص : ( فلا عدوان علي ) [ القصص : 28 ] ، يعني فلا سبيل علي .
تفسير سورة البقرة آية [ 194 ](1/101)
صفحة رقم 102
البقرة : ( 194 ) الشهر الحرام بالشهر . . . . .
) الشهر الحرام بالشهر الحرام ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين ساروا إلى مكة محرمين
بعمرة ، ومن كان معه عام الحديبية ، لست سنين من هجرته إلى المدينة ، فصدهم مشركو
مكة ، وأهدى أربعين بدنة ، ويقال : مائة بدنة ، فردوه وحبسوه شهرين لا يصل إلى
البيت ، وكانت بيعة الرضوان عامئذ ، فصالحهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أن ينحر الهدى مكانه في
أرض الحرم ويرجع في يدخل مكة ، فإذا كان العام المقبل خرجت قريش من مكة ،
وأخلوا له مكة ثلاثة أيام ، ليس مع المسلمين سلاح إلا في غمده ، فرجع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم
توجه من فوره ذلك إلى خيبر ، فافتتحها في المحرم ، ثم رجع إلى المدينة ، فلما كان العام
المقبل ، وأحرم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه بعمرة في ذي القعدة وأهدوا .
ثم أقبلوا من المدينة ، فأخلى لهم المشركون مكة ثلاثة أيام ، وأدخلهم الله عز وجل
مكة ، فقضوا عمرتهم ونحروا البدن ، فأنزل الله عز وجل : ( الشهر الحرام ( الذي دخلتم
فيه مكة هذا العام ) بالشهر الحرام ( ، يعني الذي صدوكم فيه العام الأول ، ) والحرمات قصاص ( ، يعني اقتصصت لك منهم في الشهر الحرام ، يعني في ذي القعدة كما
صدوكم في الشهر الحرام ، وذلك أنهم فرحوا وافتخروا حين صدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن
المسجد الحرام ، فأدخله الله عز وجل من قابل ، ثم قال سبحانه : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ( ، وذلك أن أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أهلوا إلى مكة محرمين بعمرة ، فخافوا ألا
يفي لهم المشركون بدخول المسجد الحرام ، وأن يقاتلوهم عنده ، فأنزل الله عز وجل :
( فمن اعتدى عليكم ( فقاتلكم في الحرم ، ) فاعتدوا عليه ( ، يقول : فقاتلوهم فيه ،
)( بمثل ما اعتدى عليكم ( فيه ، ) واتقوا الله ( ، يعني المؤمنين ، ولا تبدءوهم بالقتال في
الحرم ، فإن بدأ المشركون فقاتلوهم ، ) واعلموا أن الله ( في النصر ) مع المتقين ) [ آية :
194 ] ، الشرك ، فخبرهم أنه ناصرهم .
تفسير سورة البقرة آية [ 195 ]
البقرة : ( 195 ) وأنفقوا في سبيل . . . . .
قوله سبحانه : ( وأنفقوا في سبيل الله ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين ساروا من
المدينة إلى مكة محرمين بعمرة في العام الذي أدخله الله عز وجل مكة ، فقال ناس من
العرب منازلهم حول المدينة : والله ما لنا زاد ، وما يطعمنا أحد ، فأمر الله عز وجل
بالصدقة عليهم ، فقال سبحانه : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ( ، أي ولا تكفوا أيديكم(1/102)
صفحة رقم 103
عن الصدقة فتهلكوا . وقال رجل من الفقراء : يا رسول الله ، ما نجد ما نأكل ، فبأي شيء
نتصدق ، فأنزل الله عز وجل : ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ( ، فإن
أمسكتم عنها فهي التهلكة ، ) وأحسنوا ( النفقة في سبيل الله ، ) إن الله يحب المحسنين ) [ آية : 195 ] ، يعني من أحسن في أمر النفقة في طاعة الله .
تفسير سورة البقرة من آية [ 196 - 197 ]
البقرة : ( 196 ) وأتموا الحج والعمرة . . . . .
) وأتموا الحج والعمرة لله ( من المواقيت ، ولا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم ،
فريضتان واجبتان ، ويقال : العمرة هي الحج الأصغر ، وتمام الحج والعمرة المواقيت
والإحرام خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدنيا ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يشركون
في إحرامهم ، فأمر الله عز وجل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين أن يتموهما لله ، فقال : ( وأتموا الحج والعمرة لله ( ، وهو ألا يخلطوهما بشيء ، ثم خوفهم أن يستحلوا منهما ما لا ينبغي ،
فقال سبحانه في آخر الآية : ( واعلموا أن الله شديد العقاب ( ) فإن أحصرتم ( ، يقول :
فإن حبستم كقوله سبحانه : ( الذين أحصروا في سبيل الله ) [ البقرة : 273 ] ، يعني
حبسوا ، نظيرها أيضا : ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) [ الإسراء : 8 ] ، يعني
محبسا
يقول : إن حبسكم في إحرامكم بحج أو بعمرة كسر أو مرض أو عدو عن المسجد
الحرام ، ) فما استيسر من الهدي ( ، يعني فليقم محرما مكانه ويبعث ما استيسر من الهدى
أو بثمن الهدى ، فيشتري له الهدى ، فإذا نحر الهدى عنه ، فإنه يحل من إحرامه مكانه ، ثم
قال : ( ولا تحلقوا رءوسكم ( في الإحرام ، ) حتى يبلغ الهدي محله ( ، يعني حتى يدخل
الهدى مكة ، فإذا نحر الهدى حل من إحرامه ، ) فمن كان منكم مريضا ( ، وذلك أن كعب
بن عجرة الأنصاري كان محرما بعمرة عام الحديبية ، فرأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على مقدم رأسه(1/103)
صفحة رقم 104
قملا كثيرا ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' يا كعب ، أيؤذيك هوام رأسك ؟ ' ، قال : نعم يا نبي الله ،
فأمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحلق ، فأنزل الله عز وجل في كعب : ( فمن كان منكم مريضا (
) أو به أذى من رأسه ( ، فحلق رأسه ، ) ففدية من صيام ( ، فعليه فدية صيام ثلاثة أيام
إن شاء متتابعا ، وإن شاء متقطعا ، ) أو صدقة ( على ستة مساكين لكل مسكين نصف
صاع من حنطة ، ) أو نسك ( ، يعني شاة أو بقرة أو بعيرا ينحره ، ثم يطعمه المساكين
بمكة ، ولا يأكل منه ، وهو بالخيار ، إن شاء ذبح شاة أو بقرة أو بعيرا ، فأما كعب ، فذبح
بقرة .
) فإذا أمنتم ( من الحبس من العدو عن البيت الحرام ، ) فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ( ،
يقول : وهو يريد الحج ، فإن دخل مكة وهو محرم بعمرة في غرة شوال ، أو ذي القعدة ،
أو في عشر من ذي الحجة ) فما استيسر من الهدي ( ، يعني شاة فما فوقها يذبحها
فيأكل . منها ويطعم ، فقال أبو هريرة ، وسلمان ، وأبو العرباض للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إنا لا نجد
الهدى ، فلنصم ثلاثة أيام ، فأنزل الله عز وجل فيهم : ( فمن لم يجد ( الهدى فليصم ،
)( فصيام ثلاثة أيام في الحج ( ، في عشر الأضحى في أول يوم من العشر إلى يوم عرفة ، فإن
كان يوم عرفة يوم الثالث ، تم صومه ، ثم قال : ( وسبعة ( ، يعني ولتصوموا سبعة أيام
) إذا رجعتم ( من منى إلى أهليكم ، ) تلك عشرة كاملة ( ، فمن شاء صام في الطريق ،
ومن شاء صام في أهله ، إن شاء متتابعا ، وإن شاء متقطعا ، ثم قال : ( ذلك ( التمتع
) لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ) [ آية :
196 ] ، يعني من لم يكن منزله في أرض الحرم كله ، فمن كان أهله في أرض الحرم ، فلا
متعة عليه ولا صوم .
ثم قال عز وجل :
البقرة : ( 197 ) الحج أشهر معلومات . . . . .
) الحج أشهر معلومات ( ، يقول : من أحرم بالحج ، فليحرم في
شوال ، أو في ذي القعدة ، أو في عشر ذي الحجة ، فمن أحرم في سوى هذه الأشهر ،
فقد أخطأ السنة ، وليجعلها عمرة ، ثم قال : ( فمن فرض ( ، يقول : فمن أحرم ) فيهن الحج ( ، أي الحج ، ) فلا رفث ( ، يعني فلا جماع ، كقوله سبحانه : ( أحل لكم ليلة
الصيام الرفث ) ، يعني الجماع ) إلى نسائكم ) [ البقرة : 187 ] ، ) ولا فسوق ( ،
يعني ولا سباب ، ) ولا جدال في الحج ( ، يعني ولا مراء ، كقوله سبحانه : ( ما
يجادل في آيات الله ) [ غافر : 4 ] ، يعني ما يمارى حتى يغضب وهو محرم ، أو يغضب
صاحبه وهو محرم ، فمن فعل ذلك فليطعم مسكينا ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر في حجة(1/104)
صفحة رقم 105
الوداع ، فقال : ' من لم يكن معه هدى فليحل من إحرامه ، وليجعلها عمرة ' ، فقالوا للنبي
( صلى الله عليه وسلم ) : إنا أهللنا بالحج ، فذلك جدالهم للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
ثم قال عز وجل : ( وما تفعلوا من خير ) ، يعني ما نهى من ترك الرفث والفسوق
والجدال ، ) يعلمه الله ( ، فيجزيكم به ، ثم قال عز وجل : ( وتزودوا فإن خير
الزاد التقوى ( ، وذلك أن ناسا من أهل اليمن وغيرهم كانوا يحجون بغير زاد ، وكانوا
يصيبون من أهل الطريق ظلما ، فأنزل الله عز وجل : ( وتزودوا ( من الطعام ما
تكفون به وجوهكم عن الناس وطلبهم ، وخير الزاد التقوى ، يقول الله تبارك اسمه :
التقوى خير زاد من غيره ، ولا تظلمون من تمرون عليه ، ) واتقون ( ولا تعصون
) يا أولي الألباب ) [ آية : 197 ] ، يعني يا أهل اللب والعقل ، فلما نزلت هذه الآية
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' تزودوا ما تكفون به وجوهكم عن الناس ، وخير ما تزودتم التقوى ' .
تفسير سورة البقرة آية [ 198 ]
البقرة : ( 198 ) ليس عليكم جناح . . . . .
) ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ( ، وذلك أن أهل
الجاهلية كانوا يحجون منهم الحاج والتاجر ، فلما أسلموا قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن سوق
عكاظ وسوق منى وذي المجاز في الجاهلية كانت تقوم قبل الحج وبعد الحج ، فهل يصلح
لنا البيع والشراء في أيام حجنا قبل الحج وبعد الحج ، فأنزل الله عز وجل : ( ليس
عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ( ، في مواسم الحج ، يعني التجارة ،
فرخص الله سبحانه في التجارة ، ) فإذا أفضتم من عرفات ( بعد غروب ،
)( فاذكروا الله ( تلك الليلة ) عند المشعر الحرام ( ، فإذا أصبحتم ، يعني
بالمشعر حيث يبيت الناس بالمزدلفة ، فاذكروا الله ، ) واذكروه كما هداكم ( لأمر
دينه ، ) وإن كنتم من قبله ( من قبل أن يهديكم لدينه ) لمن الضالين ) [ آية :
198 ] ، يعني عن الهدى .
تفسير سورة البقرة آية [ 199 - 202 ](1/105)
صفحة رقم 106
البقرة : ( 199 ) ثم أفيضوا من . . . . .
) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ( ، وذلك الحمس ، قريش ، وكنانة ،
وخزاعة ، وعامر بن صعصعة ، كانوا يبيتون بالمشعر الحرام ، ولا يخرجون من الحرم خشية
أن يقتلوا ، وكانوا لا يقفون بعرفات ، فأنزل الله عز وجل فيهم يأمرهم بالوقوف
بعرفات ، فقال لهم : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ( ، يعني ربيعة ، واليمن
كانوا يفيضون من عرفات قبل غروب الشمس ، ويفيضون من جمع إذا طلعت الشمس ،
فخالف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الإفاضة ، ) واستغفروا الله ( لذنوبكم ، ) إن الله غفور (
لذنوب المؤمنين ، ) رحيم ) [ آية : 199 ] بهم .
البقرة : ( 200 ) فإذا قضيتم مناسككم . . . . .
) فإذا قضيتم مناسككم ( بعد أيام التشريق ، ) فاذكروا الله كذكركم
آباءكم ، وذلك أنهم كانوا إذا فرغوا من المناسك وقفوا بين مسجد منى وبين
الجبل يذكر كل واحد منهم أباه ومحاسنه ، ويذكر صنائعه في الجاهليو أنه كان من أمره
كذا وكذا ، ويدعو له بالخير ، فقال الله عز وجل : ( فإذا قضيتم مناسككم
فاذكروا الله ( ، كذكر الأبناء الآباء ، فإني فعلت ذلك الخير إلى آبائكم الذين تثنون
عليهم ، ثم قال سبحانه : ( أو أشد ( ، يعني أكثر ) ذكرا ( لله منكم لآبائكم ،
وكانوا إذا قضوا مناسكهم قالوا : اللهم أكثر أموالنا ، وأبناءنا ، ومواشينا ، وأطل بقاءنا ،
ونزل علينا الغيث ، وأنبت لنا المرعى ، وأصحبنا في سفرنا ، وأعطنا الظفر على عدونا ،
ولا يسألون ربهم عن أمر آخرتهم شيئا ، فأنزل الله تعالى فيهم : ( فمن الناس من
يقول ربنا آتنا ( ، يعني أعطنا ) في الدنيا ( ، يعني هذا الذي ذكر ، فقال سبحانه :
( وما له في الآخرة من خلاق ) [ آية : 200 ] ، يعني من نصيب ، نظيرها في براءة :
( فاستمتعوا بخلاقهم ) [ التوبة : 69 ] ، يعني بنصيبهم ، فهؤلاء مشركو العرب . فلما
أسلموا وحجوا دعوا ربهم ، فقال سبحانه :
البقرة : ( 201 ) ومنهم من يقول . . . . .
) ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا
حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) [ آية : 201 ] ، أي دعوا ربهم أن
يؤتيهم ) في الدنيا حسنة ( ، يعني الرزق الواسع ، وأن يؤتيهم ) وفي الآخرة(1/106)
صفحة رقم 107
حسنة ( ، فيجعل ثوابهم الجنة ، وأن يقيهم ) عذاب النار ( .
ثم أخبر عنهم ، فقال :
البقرة : ( 202 ) أولئك لهم نصيب . . . . .
) أولئك لهم نصيب مما كسبوا ( ، يقول : حظ من أعمالهم
الحسنة ، ) والله سريع الحساب ) [ آية : 202 ] ، يقول : كأنه قد كان ، فهؤلاء المؤمنون .
تفسير سورة البقرة آية [ 203 - 206 ]
البقرة : ( 203 ) واذكروا الله في . . . . .
) واذكروا الله في أيام معدودات ( إذا رميتم الجمار ، يعني أيام التشريق ،
والأيام المعلومات يعني يوم النحر ويومين من أيام التشريق بعد النحر ، فكان عمر ، رضى
الله عنه ، يكبر في قبته بمنى ، فيرفع صوته ، فيسمع أهل مسجد منى فيكبرون كلهم حتى
يرتج منى تكبيرا ، ) فمن تعجل في يومين ( ، يعني بعد يوم النحر بيومين ، يقول : من
تعجل فنفر قبل غروب الشمس ، ) فلا إثم عليه ( ، يقول : فلا ذنب عليه ، يقول :
ذنوبه ، مغفورة ، فمن لم ينفر حتى تغرب الشمس فليقم إلى الغد يوم الثالث ، فيرمي
الجمار ، ثم ينفر مع الناس ، قال : ( ومن تأخر ( إلى يوم الثالث حتى ينفر الناس ، ) فلا
إثم عليه ( ، يقول : لا ذنب عليه ، يقول : ذنوبه مغفورة ، ثم قال : ( لمن اتقى ( قتل
الصيد ، ) واتقوا الله ( ، ولا تستحلوا قتل الصيد في الإحرام ، ) واعلموا ( يخوفهم
) أنكم إليه تحشرون ) [ آية : 203 ] في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم نظيرها في
المائدة : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون (
[ المائدة : 96 ] فيجزيكم بأعمالكم .
البقرة : ( 204 ) ومن الناس من . . . . .
) ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ( ، نزلت في الأخنس بن شريق بن
عمرو بن وهب بن أبي سلمة الثقفي ، وأمه اسمها ريطة بنت عبد الله بن أبي قيس
القرشي ، من بني عامر بن لؤي ، وكان عديد بني زهرة ، وكان يأتي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيخبره أنه
يحبه ويحلف بالله على ذلك ، ويخبره أنه يتابعه على دينه ، فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعجبه ذلك(1/107)
صفحة رقم 108
ويدنيه في المجلس ، وفي قلبه غير ذلك ، فأنزل الله عز وجل : ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ( ) ويشهد الله على ( ما يقول : يعني يمينه التي حلف بالله ، و ) ما في قلبه ( أن الذي يقول حق ) وهو ألد الخصام ) [ آية : 204 ] ، يقول : جدلا
بالباطل ، كقوله سبحانه : ( وتنذر به قوما لدا ) [ مريم : 97 ] ، يعني جدلاء خصماء .
ثم أخبر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال :
البقرة : ( 205 ) وإذا تولى سعى . . . . .
) وإذا تولى ( ، يعني إذا توارى وكان رجلا مانعا جريئا
على القتل ، ) سعى في الأرض ( بالمعاصي ؛ ) ليفسد فيها ( ، / يعني في الأرض ،
)( ويهلك الحرث والنسل ( ، يعني كل دابة ، وذلك أنه عمد إلى كديس بالطائف
إلى رجل مسلم ، فأحرقه وعقر دابته ، ) والله لا يحب الفساد ) [ آية : 205 ] ،
البقرة : ( 206 ) وإذا قيل له . . . . .
) وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ( ، يعني الحمية ، نظيرها في ص آية : 2 قوله
سبحانه : ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ( يعني حمية بالإثم ، ) فحسبه جهنم ( شدة عذاب ، ) ولبئس المهاد ) [ آية : 206 ] ، وكان الأخنس يسمى أبي بن
شريق ، من بني زهرة بن كعب بن لؤي بن غالب ، وإنما سمي الأخنس ؛ لأنه يوم بدر رد
ثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقال لهم : إن محمدا ابن أختكم ، وأنتم
أحق من كف عنه ، فإن كان نبيا لم نقتله ، وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عنه ،
فخنس بهم ، فمن ثم سمي الأخنس .
تفسير سورة البقرة من آية [ 207 - 210 ]
البقرة : ( 207 ) ومن الناس من . . . . .
) ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ( ، وذلك أن كفار مكة
أخذوا عمارا ، وبلالا ، وخبابا ، وصهيبا ، فعذبوهم لإسلامهم حتى يشتموا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
فأما صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان القرشي ، وكان شخصا ضعيفا ، فقال
لأهل مكة : لا تعذبوني ، هل لكم إلى خير ؟ قالوا : وما هو ؟ قال : أنا شيخ كبير ، لا(1/108)
صفحة رقم 109
يضركم إن كنت معكم أو مع غيركم ، لئن كنت معكم لا أنفعكم ، ولئن كنت مع
غيركم لا أضركم ، وإن لي عليكم لحقا لخدمتي وجواري إياكم ، فقد علمت أنكم إنما
تريدون مالي ، وما تريدون نفسي ، فخذوا مالي واتركوني وديني غير راحلة ، فإن أردت
أن ألحق بالمدينة فلا تمنعوني ، فقال بعضهم لبعض : صدق ، خذوا ماله فتعاونوا به على
عدوكم ، ففعلوا ذلك ، فاشترى نفسه بماله كله غير راحلة ، واشترط ألا يمنع عن صلاة ،
ولا هجرة .
فأقام بين أظهرهم ما شاء ، ثم ركب راحلته نهارا حتى أتى المدينة مهاجرا ، فلقيه أبو
بكر ، رضي الله عنه ، فقال : ربح البيع يا صهيب ، فقال : وبيعك لا يخسر ، فقال أبو بكر ،
رضي الله عنه : قد أنزل الله فيك : ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ( ) والله رءوف بالعباد ) [ آية : 207 ] ، يعني للفعل فعل الرومي صهيب بن
سنان مولى عبد الله بن جدعان بن عمرو بن سعيد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن
غالب القرشي .
قال عبد الله بن ثابت : سمعت أبي يقول : سمعت هذا الكتاب من أوله إلى آخره من
الهذيل أبي صالح ، عن مقاتل بن سليمان ببغداد درب السدرة سنة تسعين ومائة ، قال :
وسمعته من أوله إلى آخره قراءة عليه في المدينة في سنة أربع ومائتين ، وهو ابن خمس
وثمانين سنة ، رحمنا الله وإياهم .
البقرة : ( 208 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كافة ( ، وذلك أن عبد الله بن سلام ،
وسلام بن قيس ، وأسيد وأسد ابنا كعب ، ويامين بن يامين ، وهم مؤمنوا أهل التوراة ،
استأذنوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قراءة التوراة في الصلاة ، وفي أمر السبت ، وأن يعملوا ببعض ما
في التوراة ، فقال الله عز وجل : خذوا سنة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وشرائعه ، فإن قرآن محمد ينسخ
كل كتاب كان قبله ، فقال : ( ادخلوا في السلم كافة ( ، يعني في شرائع الإسلام
كلها ، ) ولا تتبعوا خطوات الشيطان ( ، يعني تزيين الشيطان ، فإن السنة الأولى
بعدما بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ضلالة من خطوات الشيطان ، ) إنه لكم عدو مبين ) [ آية :
208 ] ، يعني بين .
البقرة : ( 209 ) فإن زللتم من . . . . .
) فإن زللتم ( ، يعني ضللتم عن الهدى وفعلتم هذا ) من بعد ما جاءتكم
البينات ) ، يعني شرائع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمره ، ثم حذرهم عقوبته ، فقال : ( فاعلموا أن الله(1/109)
صفحة رقم 110
عزيز ( في نقمته ، ) حكيم ) [ آية : 209 ] حكم عليهم العذاب ،
البقرة : ( 210 ) هل ينظرون إلا . . . . .
) هل
ينظرون ( ، يعني ما ينظرون ، ) إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ( ، يعني كهيئة
الضبابة أبيض ، ) والملائكة ( في غير ظلل في سبعين حجابا من نور عرشه
والملائكة يسبحون ، فذلك قوله : ( ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة
تنزيلا ) [ الفرقان : 25 ] ، يعني وليس بسحاب ، ثم قال سبحانه : ( وقضي الأمر ( ،
يعني وقع العذاب ، ) وإلى الله ترجع الأمور ) [ آية : 210 ] ، يقول : يصير أمر الخلائق إليه
في الآخرة .
تفسير سورة البقرة آية [ 211 ]
البقرة : ( 211 ) سل بني إسرائيل . . . . .
) سل بني إسرائيل ( ، يعني يهود المدينة ، ) كم ءاتيناهم من آية بينة ( ، يعني كم
أعطيناهم من آية بينة ، يعني حين فرق بهم البحر ، وأهلك عدوهم ، وأنزل عليهم المن
والسلوى والغمام والحجر ، فكفروا برب هذه النعم حين كفروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذلك قوله
سبحانه : ( ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته ( ، فخوفهم عقوبته بقوله : ( فإن الله
شديد العقاب ) [ آية : 211 ] إذا عاقب .
تفسير سورة البقرة آية [ 212 ]
البقرة : ( 212 ) زين للذين كفروا . . . . .
) زين للذين كفروا الحياة الدنيا ( ، وما بسط لهم فيها من الخير ، نزلت في المنافقين
عبد الله بن أبي وأصحابه ، ) ويسخرون من الذين ءامنوا ( في أمر المعيشة بأنهم فقراء ،
نزلت في عبد الله بن ياسر المخزومي ، وصهيب بن سنان ، من بني تيم بن مرة ، وبلال
بن رباح مولى أبي بكر ، رضي الله عنه ، وخباب بن الأرت مولى ابن أم بهار الثقفي
حليف بني زهرة ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق ،
رضي الله عنه ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي هريرة الدوسي ، وفي نحوهم من الفقراء ،
يقول الله عز وجل : ( والذين اتقوا ( الشرك ، يعني هؤلاء النفر ، ) فوقهم ( ، يعني(1/110)
صفحة رقم 111
فوق المنافقين والكافرين ) يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب ) [ آية : 212 ] ،
حين يبسط للكافرين الرزق ، ويقدر على المؤمنين يقول : ليس فوقي ملك يحاسبني ، أنا
الملك أعطي من شئت بغير حساب حين أبسط للكافرين في الرزق وأقتر على المؤمنين .
تفسير سورة البقرة آية [ 213 ]
البقرة : ( 213 ) كان الناس أمة . . . . .
) كان الناس ( ، يعني أهل السفينة ، ) أمة واحدة ( ، يعني على ملة الإسلام
وحدها ، وذلك أن عبد الله بن سلام خاصم اليهود في أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) فبعث الله النبيين ( إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ولوط بن حران بن آزر ، فبعثهم الله
) مبشرين ( بالجنة ، ) ومنذرين ) من النار ، ) وأنزل معهم الكتاب بالحق ( ، يعني
صحف إبراهيم ؛ ) ليحكم بين الناس ( ؛ ليقضي الكتاب ) فيما اختلفوا فيه ( من
الدين ، فدعا بها إبراهيم وإسحاق قومهما ، ودعا بها إسماعيل جرهم ، فآمنوا به ، ودعا
بها يعقوب أهل مصر ، ودعا بها لوط سدوم وعامورا وصابورا ودمامورا ، فلم يسلم
منهم غير ابنتيه ريتا وزعوتا ، يقول الله عز وجل : ( وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه ( ،
يعني أعطوا الكتاب ، ) من بعد ما جاءتهم البينات ) ، يعني البيان ، ) بغيا بينهم ( ،
يقول : تفرقوا بغيا وحسدا بينهم ، ) فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه ) ، يقول :
حين اختلفوا في القرآن ، ) من الحق بإذنه ( ، يعني التوحيد ، ) والله يهدي من يشاء
إلى صراط مستقيم ) [ آية : 213 ] ، يعني دين الإسلام ؛ لأن غير دين الإسلام باطل .
تفسير سورة البقرة آية [ 214 ]
البقرة : ( 214 ) أم حسبتم أن . . . . .
ثم بين للمؤمنين أن لا بد لهم من البلاء والمشقة في ذات الله ، فقال سبحانه : ( أم
حسبتم أن تدخلوا الجنة ( ، نظيرها في آل عمران قوله سبحانه : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله ) [ آل عمران : 142 ] ، وفي العنكبوت : ( الم أحسب
الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) [ العنكبوت : 1 ، 2 ] ، وذلك أن(1/111)
صفحة رقم 112
المنافقين قالوا للمؤمنين في قتال أحد : لم تقتلون أنفسكم وتهلكون أموالكم ، فإنه لو
كان محمد بيننا لم يسلط عليكم القتل ، فرد المؤمنون عليهم ، فقالوا : قال الله : من قتل منا
دخل الجنة ، فقال المنافقون : لم تمنون أنفسكم بالباطل ؟ فأنزل الله عز يوم أحد :
( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ( ، نزلت في عثمان بن عفان وأصحابه ، رحمهم الله .
يقول الله عز وجل : ( ولما يأتكم مثل ( ، يعني سنة ، ) الذين خلوا من قبلكم ( من
البلاء ، يعني مؤمني الأمم الخالية ، ثم أخبر عنهم ليعظ أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال
سبحانه : ( مستهم ( ، يعني أصابتهم ) البأساء ( ، يعني الشدة ، وهي البلاء ،
)( والضراء ( ، يعني البلاء ، ) وزلزلوا ) ، يعني وخوفوا ) حتى يقول الرسول ( وهو اليسع
) والذين ءامنوا معه ( ، وهو حزقيا الملك حين حضر القتال ومن معه من المؤمنين ،
)( متى نصر الله ( ، فقال الله عز وجل : ( ألا إن نصر الله قريب ) [ آية : 214 ] ، يعني
سريع ، وإن ميشا بن حزقيا قتل اليسع ، واسمه اشعيا .
تفسير سورة البقرة آية [ 215 ]
البقرة : ( 215 ) يسألونك ماذا ينفقون . . . . .
) يسئلونك ماذا ينفقون ) من أموالهم ، وذلك أن الله أمر بالصدقة ، فقال عمرو بن
الجموح الأنصاري من بني سلمة بن جشم بن الخزرج ، قتل يوم أحد ، رضي الله عنه ،
قال : يا رسول الله ، كم ننفق ؟ وعلى من ننفق ؟ فأنزل الله عز وجل في قول عمرو : كم
ننفق ؟ وعلى من ننفق ؟ : ( يسئلونك ماذا ينفقون ) من الصدقة ، ) قل ما أنفقتم من
خير ( من مال ، كقوله سبحانه ) إن ترك خيرا ) [ البقرة : 180 ] ، يعني مالا ،
)( فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ( ، فهؤلاء موضع نفقة أموالكم ،
)( وما تفعلوا من خير ( من أموالكم ، ) فإن الله به عليم ) [ آية : 215 ] ، يعني بما
أنفقتم عليم .
وأنزل في قول عمرو : يا رسول الله ، كم ننفق من أموالنا ؟ وعلى من ننفق ؟ قول الله
عز وجل : ( قل العفو ( ، يعني فضل قوتك ، فإن كان الرجل من أصحاب الذهب
والفضة أمسك الثلث وتصدق بسائره ، وإن كان من أصحاب الزرع والنخل أمسك ما
يكفيه في سنته وتصدق بسائره ، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه يومه ذلك
وتصدق بسائره ، فبين الله عز وجل ما ينفقون في هذه الآية ، فقال : ( قل العفو ( ،(1/112)
صفحة رقم 113
يعني فضل القوت ، ) كذلك ( يعظكم هكذا ) يبين الله لكم الآيات ( ، يعني أمر
الصدقات ، ) لعلكم تتفكرون ) [ البقرة : 219 ] ، يقول لكي تتفكروا في أمر الدنيا ،
فتقولون : هي دار بلاء ، وهي دار فناء ، ثم تتفكروا في الآخرة فتعرفون فضلها ، فتقولون :
هي دار خير ، ودار بقاء ، فتعملون لها في أيام حياتكم ، فهذا التفكر فيهما ، فشق على
الناس حين أمرهم أن يتصدقوا بالفضل ، حتى نزلت آية الصدقات في براءة ، فكان لهم
الفضل وإن كثر إذا أدوا الزكاة .
تفسير سورة البقرة آية [ 216 ]
البقرة : ( 216 ) كتب عليكم القتال . . . . .
) قوله سبحانه : ( كتب عليكم القتال ( ، يعني فرض عليكم ، كقوله : ( كتب
عليكم الصيام ) ، يعني فرض ، ) وهو كره لكم ( ، يعني مشقة لكم ، ) وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ( ، فيجعل الله عاقبته فتحا وغنيمة وشهادة ، ) وعسى أن تحبوا شيئا ( ، يعني القعود عن الجهاد ، ) وهو شر لكم ( ، فيجعل الله عاقبته شر ، فلا
تصيبون ظفرا ولا غنيمة ، ) والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) [ آية : 216 ] ، أي والله
يعلم من ذلك ما لا تعلمون .
تفسير سورة البقرة آية [ 217 ]
البقرة : ( 217 ) يسألونك عن الشهر . . . . .
) يسئلونك عن الشهر الحرام ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث عبيدة بن الحارث بن عبد
المطلب على سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ، على رأس ستة عشر شهرا ،
بعد قدوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة ، فلما ودع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فاضت عيناه ، ووجد من فراق
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن عقد له اللواء ، فلما رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وجده ، بعث مكانه عبد الله ابن
جحش الأسدي من بني غنم بن دودان ، وأمه عمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أميمة بنت عبد المطلب ،
وهو حليف لبني عبد شمس ، وكتب له كتابا ، وأمره أن يتوجه قبل مكة ، ولا يقرأ
الكتاب حتى يسير ليلتين ، فلما سار عبد الله ليلتين ، قرأ الكتاب ، فإذا فيه : سر باسم الله(1/113)
صفحة رقم 114
إلى بطن نخلة ، على اسم الله وبركته ، ولا تكرهن أحد من أصحابك على السير ، وامض
لأمري ومن اتبعك منهم ، فترصد بها عير قريش ، فلما قرأ الكتاب استرجع عبد الله ،
واتبع استرجاعه بسمع وطاعة الله عز وجل ولرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) .
ثم قال عبد الله لأصحابه : من أحب منكم أن يسير معي فليسر ، ومن أحب أن يرجع فليرجع ، وهم ثمانية رهط من المهاجرين : عبد الله بن جحش الأسدي ، وسعد بن أبي
وقاص الزهري ، وعتبة بن غزوان المزني حليف لقريش ، وأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة
بن عبد شمس ، وسهل بن بيضاء القرشي ، ويقال : سهل من بني الحارث بن فهد ، وعامر
بن ربيعة القرشي من بني عدي بن كعب ، وواقد بن عبد الله التميمي ، فرجع من القوم
سعد ابن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان ، وسار عبد الله ومعه خمسة نفر وهو سادسهم ،
فلما قدموا لبطن نخلة بين مكة والطائف ، حملوا على أهل العير ، فقتلوا عمر بن الحضرمي
القرشي ، قتله واقد بن عبد الله التميمي ، رماه بسهم ، فكان أول قتيل في الإسلام من
المشركين ، وأسروا عثمان بن عبد الله بن المغيرة ، والحكم بن كيسان مولى هشام بن
المغيرة المخزومي ، فغديا بعد ذلك في المدينة ، وأفلتهم نوفل بن عبد الله بن المغيرة
المخزومي على فرس له جواد أنثى ، فقدم مكة من الغد ، وأخبر الخبر مشركي مكة ،
وكرهوا الطلب ؛ لأنه أول يوم من رجب ، وسار المسلمون بالأسارى والغنيمة حتى
قدموا المدينة ، فقالوا : يا نبي الله ، أصبناالقوم نهارا ، فلما أمسينا رأينا هلال رجب ، فما
ندري أصبناهم في رجب أو في آخر يوم من جمادى الآخرة .
وأقبل مشركو مكة على مسلميهم ، فقالوا : يا معشر الصباة ، ألا ترون أن إخوانكم
استحلوا القتال في الشهر الحرام ، وأخذوا أسارانا وأموالنا ، وأنتم تزعمون أنكم على
دين الله ، أفوجدتم هذا في دين الله حيث أمن الخائف ، وربطت الخيل ، ووضعت الأسنة ،
وبدأ الناس لمعاشهم ، فقال المسلمون : الله ورسوله اعلم ، وكتب مسلمو مكة إلى عبد الله
بن جحش أن المشركين عابونا في القتال ، وأخذ الأسرى والأموال في الشهر الحرام ،
فاسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ألنا في ذلك متكلم ، أو أنزل الله بذلك قرآنا ، فدفع عبد الله بن
جحش الأسدي الكتاب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأنزل الله عز وجل : ( يسئلونك عن الشهر
الحرام ( ) قتال فيه قل قتال فيه كبير ( ، ولم يرخص فيه القتال .
ثم قال : ( وصد عن سبيل الله ) ، يعني دين الإسلام ، ) وكفر به ( أي وكفر(1/114)
صفحة رقم 115
بالله ) و ( صد عن ) والمسجد الحرام وإخراج أهله منه ( من عند المسجد الحرام ،
فذلك صدهم ، وذلك أنهم أخرجوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه من مكة ، ) أكبر عند الله ( ،
فهذا أكبر عند الله من القتل والأسر وأخذ الأموال ، ثم قال سبحانه : ( والفتنة ( ،
يعني الإشراك الذي أنتم فيه ) أكبر ( عند الله ) من القتل ( ، ثم أخبر عز وجل عن
رأى مشركي العرب في المسلمين ، فقال سبحانه : ( ولا يزالون يقاتلونكم ( ، يعني
مشركي مكة ) حتى يردوكم ) يا معشر المؤمنين ) عن دينكم ) ) الإسلام ( ( إن
استطاعوا ( ، ثم خوفهم ، فقال : ( ومن يرتدد منكم عن دينه ( الإسلام ، يقول :
ومن ينقلب كافرا بعد إيمانه ، ) فيمت وهو كافر فأولئك حبطت ( ، يعني بطلت
) أعمالهم ( الخبيثة ، فلا ثواب لهم ) في الدنيا و ) ) لا في ( ( والآخرة وأولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ آية : 217 ] ، يعني لا يموتون .
تفسير سورة البقرة آية [ 218 ]
البقرة : ( 218 ) إن الذين آمنوا . . . . .
فكتب عبد الله بن جحش إلى مسلمي أهل مكة بهذه الآية ، وكتب إليهم أن
عيروكم ، فعيروهم بما صنعوا ، وقال عبد الله بن جحش وأصحابه : أصبنا القوم في
رجب ، فنرجو أن يكون لنا أجر المجاهدين في سبيل الله ، فأنزل الله عز وجل : ( إن
الذين ءامنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور
رحيم ) [ آية : 218 ] . ) الذين ءامنوا والذين هاجروا ) ) إلى المدينة ( ( وجاهدوا ) ) المشركين ( ( في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله ( ، يعني جنة الله ، نظيرها في آل
عمران قوله سبحانه : ( وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله ) [ آل عمران :
107 ] ، يعني ففي جنة الله ؛ لقولهم للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : هل لنا أجر المجاهدين في سبيل الله .
) والله غفور رحيم ( ؛ لاستحلالهم القتل والأسر والأموال في الشهر الحرام ،
فكانت هذه أول سرية ، وأول غنيمة ، وأول خمس ، وأول قتيل ، وأول أسر كان في
الإسلام ، فأما نوفل بن عبد الله الذي أفلت يومئذ ، فإنه يوم الخندق ضرب بطن فرسه
ليدخل الخندق على المسلمين في غزوة الأحزاب ، فوقع في الخندق ، فتحطم هو وفرسه ،
فقتله الله تعالى ، وطلب المشركون جيفته بثمن ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' خذوه ، فإنه خبيث الجيفة ،
خبيث الدية ' .(1/115)
صفحة رقم 116
تفسير سورة البقرة من آية [ 219 - 220 ]
البقرة : ( 219 ) يسألونك عن الخمر . . . . .
) يسئلونك عن الخمر والميسر ( ، يعني القمار ، نزلت في عبد الرحمن بن
عوف ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، ونفر من الأنصار ، رضي الله عنهم ،
وذلك أن الرجل كان يقول في الجاهلية : أين أصحاب الجزور ، فيقوم نفر ، فيشترون
الجزور ، فيجعلون لكل رجل منهم سهم ، ثم يقرعون ، فمن خرج سهمه يبرأ من الثمن ،
حتى يبقى آخرهم رجلا ، فيكون ثمن الجزور كله عليه وحده ، ولا حق له في الجزور ،
ويقتسم الجزور بقيتهم بينهم ، فذلك المسير ، قال سبحانه : ( قل فيهما إثم كبير ( ،
في ركوبهما ؛ لأن فيهما ترك الصلاة ، وترك ذكر الله عز وجل ، وركوب المحارم ، ثم قال
سبحانه : ( ومنافع للناس ( ، يعني بالمنافع اللذة والتجارة في ركوبهما قبل التحريم ،
فلما حرمهما الله عز وجل ، قال : ( وإثمهما ( بعد التحريم ، ) أكبر من نفعهما (
قبل التحريم ، وأنزل الله عز وجل تحريمهما بعد هذه الآية بسنة ، والمنفعة في الميسر أن
بعضهم ينتفع به ، وبعضهم يخسر ، يعني المقامر ، وإنما سمي الميسر ؛ لأنهم قالوا : يسروا لنا
ثمن الجزور ، يقول الرجل : افعل كذا وكذا .
) ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم
تتفكرون ) [ آية : 219 ] ،
البقرة : ( 220 ) في الدنيا والآخرة . . . . .
) في الدنيا والآخرة ويسئلونك عن اليتامى ( ، وذلك أن الله
عز وجل أنزل في أموال اليتامى : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) [ النساء : 10 ] ، فلما نزلت هذه الآية ، أشفق
المسلمون من خلطة اليتامى ، فعزلوا بيت اليتيم وطعامه وخدامه على حدة مخافة العذر ،
فشق ذلك على المسلمين ، وعلى اليتامى اعتزالهم ، فقال ثابت بن رفاعة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : قد
سمعنا ما أنزل الله عز وجل في اليتامى فعزلناهم ، والذي لهم ، وعزلنا الذي لنا ، فشق
ذلك علينا وعليهم ، وليس كلنا يجد سعة في عزل اليتيم وطعامه وخادمه ، فهل يصلح لنا
خلطتهم ، فيكون البيت والطعام واحد والخدمة وركوب الدابة ، ولا نرزأهم شيئا ، إلا أن نعود عليهم بأفضل منه ، فأنزل الله عز وجل في قول ثابت بن رفاعة الأنصاري :(1/116)
صفحة رقم 117
) ويسئلونك عن اليتامى ) ) قل إصلاح لهم خير ( ، يقول : ما كان لليتيم في صلاح ،
فهو خير أن تفعلوه .
ثم قال سبحانه : ( إن تخالطوهم ( في المسكن والطعام والخدمة وركوب الدابة ،
)( فإخوانكم ( ، فهم إخوانكم ، ) والله يعلم المفسد ) ، لمال اليتيم ، ) من المصلح (
لماله ، ) ولو شاء الله لأعنتكم ) ، يقول : لآثمكم في دينكم ، نظيرها في براءة قوله
سبحانه : ( عزيز عليه ما عنتم ) [ التوبة : 128 ] ، يقول : ما أثمتم ، فحرم عليكم
خلطتهم في الذي لهم ، كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير ، فلم تنتفعوا بشيء منه ، ) إن
الله عزيز ( في ملكه ) حكيم ) [ آية : 220 ] ، يعني ما حكم في أموال اليتامى .
تفسير سورة البقرة آية [ 221 ]
البقرة : ( 221 ) ولا تنكحوا المشركات . . . . .
) ولا تنكحوا المشركات ( ، نزلت في أبي مرثد الغنوي ، واسمه أيمن ، وفي عناق
القرشية ، وذلك أن أبا مرثد كان رجلا صالحا ، وكان المشركون أسروا أناسا بمكة ،
وكان أبو مرثد ينطلق إلى مكة مستخفيا ، فإذا كان الليل أخذ الطريق ، وإذا كان النهار
تعسف الجبال ؛ لئلا يراه أحد ، حتى يقدم مكة ، فيرصد المسلمين ليلا ، فإذا أخرجهم
المشركون للبراز ، تركوهم عند البراز والغائط ، فينطلق أبو مرثد ، فيجعل الرجل منهم
على عنقه حتى إذا أخرجه من مكة كسر قيده بفهر ويلحقه بالمدينة ، كان ذلك دأبه ،
فانطلق يوما حتى انتهى إلى مكة ، فلقيته عناق ، وكان يصيب منها في الجاهلية ، فقالت :
أبا مرثد ، ما لك في حاجة ، فقال : إن الله عز وجل قد حرم الزنا .
فلما أيست منه أنذرت به كفار مكة ، فخرجوا يطلبونه ، فاستتر منهم بالشجر ، فلم
يقدروا عليه ، فلما رجعوا احتمل بعض المسلمين حتى أخرجه من مكة ، فكسر قيده ،
ورجع إلى المدينة ، فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره بالخبر ، فقال : والذي بعثك بالحق ، لو شئت أن
آخذهم وأنا مستتر بالشجرة لفعلت ، فقال له الني ( صلى الله عليه وسلم ) : اشكر ربك أبا مرثد ، إن الله عز
وجل حجزهم عنك ، فقال أبو مرثد : يا رسول الله ، إن عناق أحبها ، وكان بيني وبينها(1/117)
صفحة رقم 118
في الجاهلية ، أفتأذن لي في تزويجها ، فإنها لتعجبني ، فأنزل الله عز وجل : ( ولا تنكحوا المشركات ( ) حتى يؤمن ( ، يصدقن بتوحيد الله ، ) ولأمة مؤمنة ( ، يعني مصدقة
بتوحيد الله ، ) خير من مشركة ولو أعجبتكم ( ؛ لقوله : إنها لتعجبني ، ) ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) [ آية : 221 ] .
تفسير سورة البقرة آية [ 222 ]
البقرة : ( 222 ) ويسألونك عن المحيض . . . . .
) ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى ) ، يعني قذر ، نزلت في عمرو بن الدحداح
الأنصاري ، من قضاعة ، فلما نزلت هذه الآية لم يؤاكلوهن في إناء واحد ، وأخرجوهن
من البيوت والفرش كفعل العجم ، فقال ناس من العرب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : قد شق علينا اعتزال
الحائض ، والبرد شديد ، فإن آثرناهم بالثياب هلك سائر البيت ، وإن آثرنا أهل البيت
هلكت النساء بردا ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إنكم لم تؤمروا أن تعزلوهن من البيوت ، إنما أمرتم
باعتزال الفرج إذا حضن ، ويؤتين إذا طهرن ' وقرأ عليهم : ( فاعتزلوا النساء في
في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ) ، يعني يغتسلن ، ) فإذا تطهرن ( ، يعني اغتسلن من
المحيض ، ) فأتوهن من حيث أمركم الله ( ، أي يؤتين غير حيض في فروجهن التي نهى
عنها في الحيض ، ) إن الله يحب التوابين ( من الذنوب ، ) ويحب المتطهرين ) [ آية :
222 ] من الأحداث والجنابة والحيض .
تفسير سورة البقرة آية [ 223 ]
البقرة : ( 223 ) نساؤكم حرث لكم . . . . .
) نساؤكم حرث لكم ( ، وذلك أن حيي بن أخطب ونفرا من اليهود قالوا للمسلمين :
إنه لا يحل لكم جماع النساء إلا مستلقيات ، وإنا نجد في كتاب الله عز وجل أن جماع
المرأة غير مستلقية ذنبا عند الله عز وجل ، فقال المسلمون لرسول الله : إنا كنا في
الجاهلية وفي الإسلام نأتي النساء على كل حال ، فزعمت اليهود أنه ذنب عند الله عز
وجل إلا مستلقيات ، فأنزل الله عز وجل : ( نساؤكم حرث لكم ( ، يعني مزرعة للولد ،
)( فأتوا حرثكم أنى شئتم ( في الفروج ، ) وقدموا لأنفسكم ) ) من الولد ( ( واتقوا الله ((1/118)
صفحة رقم 119
يعظكم ، فلا تقربوهن حيضا ، ثم حذرهم ، فقال سبحانه : ( واعلموا أنكم ملاقوه ( ،
فيجزيكم بأعمالكم ، ) وبشر المؤمنين ) [ آية : 223 ] ، يعني المصدقين بأمر الله ونهيه
بالجنة .
تفسير سورة البقرة من آية [ 224 - 225 ]
البقرة : ( 224 ) ولا تجعلوا الله . . . . .
) ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ( ، نزلت في أبي بكر الصديق ، رضي الله
عنه ، وفي ابنه عبد الرحمن ، حلف أبو بكر ، رضي الله عنه ، ألا يصله حتى يسلم ، وذلك
أن الرجل كان إذا حلف ، قال : لا يحل إلا إبرار القسم ، فأنزل الله عز وجل : ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ( ، يقول : لا يحلف على ما هو في معصية إلا يصل
قرابته ، وذلك أن الرجل يحلف أن لا يدخل على جاره ، ولا يكلمه ، ولا يصلح بين
إخوانه ، والرجل يريد الصلح بين الرجلين ، فيغضبه أحدهما أو يتهمه ، فيحلف المصلح أن
لا يتكلم بينهما ، قال الله عز وجل : لا تحلفوا ألا تصلوا القرابة : ( أن تبروا وتتقوا (
الله ) وتصلحوا بين الناس ( ، فهو خير لكم من وفاء باليمين في معصية الله ، ) والله سميع ( لليمين ؛ لقولهم : حلفنا عليها ، ) عليم ) [ آية : 224 ] ، يقول : عالم بها ، كان
هذا قبل أن تنزل الكفارة في المائدة .
البقرة : ( 225 ) لا يؤاخذكم الله . . . . .
) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ( ، وهو الرجل يحلف على أمر يرى أنه فيه صادق
وهو مخطئ ، فلا يؤاخذه الله بها ، ولا كفارة عليه فيها ، فذلك العفو ، ثم قال عز وجل :
( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ( ، يعني بما عقدت قلوبكم من المأثم ، يعني اليمين
الكاذبة التي حلف عليها ، وهو يعلم أنه فيها كاذب ، فهذه فيها كفارة ، ) والله
غفور ) ، يعني ذا تجاوز عن اليمين التي حلف عليها ، ) حليم ) [ آية : 225 ] ، حين لا
يوجب فيها الكفارة .
تفسير سورة البقرة من آية [ 226 - 227 ]
البقرة : ( 226 ) للذين يؤلون من . . . . .
ثم نزلت الكفارة في سورة المائدة ، فبين فيها ) للذين يؤلون ( ، يعني يقسمون ) من
نسائهم ( ، فهو الرجل يحلف أن لا يقرب امرأته ، ) تربص أربعة أشهر فإن فاءو ( ، يعني(1/119)
صفحة رقم 120
فإن رجع في يمينه فجامعها قبل أربعة أشهر ، فهي امرأته ، وعليه أن يكفر عن يمينه ،
)( فإن الله غفور ( لهذه اليمين ، ) رحيم ) [ آية : 226 ] به ، إذ جعل الله عز وجل
الكفارة فيها ؛ لأنه لم يكن أنزل الكفارة في المائدة ، ثم نزلت بعد ذلك الكفارة في
المائدة .
البقرة : ( 227 ) وإن عزموا الطلاق . . . . .
) وإن عزموا الطلاق ( ، يعني فإن حققوا ) الطلاق ( ، يعني أنفذوا في السراح ، فلم
يجامعها أربعة أشهر بانت منه بتطليقه ، ) فإن الله سميع ( ليمينه ، ) عليم ) [ آية :
227 ] ، يعني عالم بها .
تفسير سورة البقرة آية [ 228 ]
البقرة : ( 228 ) والمطلقات يتربصن بأنفسهن . . . . .
) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ( ، يعني ثلاث حيض إذا كانت ممن
تحيض ، ) ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ( من الولد ، ) إن كن يؤمن بالله ( ، يعني يصدقن بالله بأنه واحد لا شريك له ، ) واليوم الآخر ( ، يصدقن بالبعث
الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن ، ثم قال عز وجل : ( وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ( ،
يقول : الزوج أحق برجعتها وهي حبلى ، نزلت في إسماعيل الغفاري وفي امرأته لم تشعر
بحبلها ، ثم قال سبحانه : ( إن أرادوا إصلاحا ( ، يعني بالمراجعة فيما بينهما ، فعمد
إسماعيل فراجعها وهي حبلى ، فولدت منه ، ثم ماتت ومات ولدها ، ) ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ( ، يقول : لهن من الحق على أزواجهن مثل ما لأزواجهن عليهن ، ثم قال
سبحانه : ( وللرجال عليهن درجة ( ، يقول : لأزواجهن عليهن فضيلة في الحق وبما ساق
إليها من الحق ، ) والله عزيز ( في ملكه ، ) حكيم ) [ آية : 228 ] ، يعني حكم الرحمة
عليها في الحبل .
تفسير سورة البقرة من آية [ 229 - 232 ](1/120)
صفحة رقم 121
البقرة : ( 229 ) الطلاق مرتان فإمساك . . . . .
ثم نسختها الآية التي بعدها ، فأنزل الله بعد ذلك بأيام يسيرة ، فبين للرجل كيف
يطلق المرأة ، وكيف تعتد ، فقال : ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف ( ، يعني بإحسان ،
)( أو تسريح بإحسان ( ، يعني التطليقة الثالثة في غير ضرار ، كما أمر الله سبحانه في
وفاء المهر ، ) ولا يحل لكم ( إذا أردتم طلاقها ) أن تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئا ( ،
وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته ، أخرجها من بيته ، فلا يعطيها شيئا من المهر ، ثم
استثنى ورخص ، فقال سبحانه : ( إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ( ، يعني أمر الله عز
وجل فيما أمرهما ، وذلك أن تخاف المرأة الفتنة على نفسها ، فتعصى الله فيما أمرها
زوجها ، أو يخاف الزوج أن لم تطعه امرأته أن يعتدى عليها ، يقول سبحانه : ( فإن خفتم ( ، يعني علمتم ، ) ألا يقيما ( ، يعني الحاكم ، ) حدود الله ( ، يعني أمر الله في
أنفسهما إن نشزت عليه ، ) فلا جناح عليهما ( ، يعني الزوج والزوجة ، ) فيما افتدت به ( من شيء ، يقول : لا حرج عليهما إذا رضيا أن تفتدى منه ويقبل منها الفدية ثم
يفترقا ، وكانت نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري من بني الحارث بن
الخزرج ، وفي امرأته أم حبيبة بنت عبد الله بن أبي رأس المنافقين ، وكان أمهرها حديقة
فردتها عليه ، واختلعت منه ، فهي أول خلعة كانت في الإسلام ، ثم قال : ( تلك حدود الله ( ، يعني أمر الله فيهما ، ) فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله ( ، يقول : ومن يخالف أمر
الله إلى غيره ، ) فأولئك هم الظالمون ) [ آية : 229 ] لأنفسهم .
البقرة : ( 230 ) فإن طلقها فلا . . . . .
ثم رجع إلى الآية الأولى في قوله : ( الطلاق مرتان ( ) فإن طلقها ( بعد التطليقتين
تطليقة أخرى ، سواء أكان بها حبل أم لا ، ) فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره (
فيجامعها ، فنسخت هذه الآية الآية التي قبلها في قوله عز وجل ) وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ( ، ونزلت ) فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ( في تميمة بنت وهب بن
عتيك النقرى ، وفي زوجها رفاعة بن عبد الرحمن بن الزبير ، وتزوجها عبد الرحمن بن(1/121)
صفحة رقم 122
الزبير القرظي ، يقول : ( فإن طلقها ( الزوج الأخير عبد الرحمن ، ) فلا جناح عليهما ( ،
يعني الزوج الأول رفاعة ، ولا على المرأة تميمة ، ) أن يتراجعا ( بمهر جديد ونكاح
جديد ، ) إن ظنا ( ، يعني إن حسبا ، ) أن يقيما حدود الله ( أمر الله فيما أمرهما ،
)( وتلك حدود الله ( ، يعني أمر الله في الطلاق ، يعني ما ذكر من أحكام الزوج والمرأة
في الطلاق وفي المراجعة ، ) يبينها لقوم يعلمون ) [ آية : 230 ] .
البقرة : ( 231 ) وإذا طلقتم النساء . . . . .
) وإذا طلقتم النساء ( واحدة ، ) فبلغن أجلهن ( ، يعني انقضاء عدتهن من قبل أن
تغتسل من قرئها الثالث ، ) فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ( ، يعني بإحسان من
غير ذرار ، فيوفيها المهر والمتعة ، نزلت في ثابت بن ياسر الأنصاري في الطعام والكسوة
وغير ذلك ، فقال سبحانه : ( ولا تمسكوهن ضرارا ( ، وذلك أنه طلق امرأته ، فلما أرادت
أن تبين منه راجعها ، فما زال يضارها بالطلاق ويراجعها ، يريد بذلك أن يمنعها من
الزواج لتفتدي منه ، فذلك قوله سبحانه : ( لتعتدوا ( ، وكان ذلك عدوانا ، ) ومن
يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ، ولا تتخذوا ءايات الله هزوا ( ، يعني استهزاء فيما أمر الله عز
وجل في كتابه من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، ولا تتخذوها لعبا ،
)( واذكروا ( ، يعني واحفظوا ) نعمت الله عليكم ( بالإسلام ، ) و ( احفظوا ) وما أنزل ( الله ) عليكم من الكتاب ( ، يعني القرآن ) والحكمة ( والموعظة التي في
القرآن من أمره ونهيه ، يقول : ( يعظكم به ( ، يعني بالقرآن ، ) واتقوا الله ( ، يعظكم
فلا تعصوه فيهن ، ثم حذرهم ، فقال : ( واعلموا أن الله بكل شيء ( من اعمالكم
) عليم ) [ آية : 231 ] ، فيجزيكم بها .
البقرة : ( 232 ) وإذا طلقتم النساء . . . . .
) وإذا طلقتم النساء ( تطليقة واحدة ، ) فبلغن أجلهن ( ، يقول : انقضت عدتهن ،
نزلت في أبي البداح بن عاصم بن عدي الأنصاري ، من بني العجلان الأنصاري ، وهو
حي من قضاعة ، وفي امرأته جمل بنت يسار المزني ، بانت منه بتطليقه ، فأراد مراجعتها ،
فمنعها أخوها ، وقال : لئن فعلت لا أكلمك أبدا ، أنكحتك وأكرمتك وآثرتك على
قومي فطلقتها ، وأجحفت بها ، والله لا أزوجكها أبدا ، فقال الله عز وجل ، يعني معقل :
( فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ) ، يعني فلا تمنعوهن أن يراجعهن أزواجهن ، ) إذا
تراضوا بينهم بالمعروف ) ، يعني بمهر جديد ونكاح جديد ، ) ذلك ( الذي ذكر من النهى
ألا يمنعها من الزوج ذلك ، ) يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ) ، يعني
يصدق بالله بأنه واحد لا شريك له ، ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، فليفعل ما(1/122)
صفحة رقم 123
أمره الله عز وجل من المراجعة ، ) ذلكم أزكى لكم ( ، يعني خير لكم من الفرقة ،
)( وأطهر ( لقلوبكم من الريبة ، ) والله يعلم ( حب كل واحد منهما لصاحبه ، ) وأنتم لا تعلمون ) [ آية : 232 ] ذلك منهما .
فلما نزلت هذه الآية ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ' يا معقل ، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا
تمنع أختك فلانا ' ، يعني أبا البداح ، قال : فإني أنا أؤمن بالله واليوم الآخر ، وأشهدك أني قد أنكحته .
تفسير سورة البقرة آية [ 233 ]
البقرة : ( 233 ) والوالدات يرضعن أولادهن . . . . .
) والوالدات يرضعن أولادهن ( ، يعني إذا طلقن ، ) حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ( ، يعني يكمل الرضاعة ، وليس الحولان بالفريضة ، فمن شاء أرضع فوق
الحولين ، ومن شاء قصر عنهما ، ثم قال : ( وعلى المولود له ( إذا طلق امرأته وله ولد
رضيع ترضعه أمه ، فعلى الأب رزق الأم والكسوة ، ) رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها ( ، يعني إلا ما أطاقت من النفقة والكسوة ، ثم قال سبحانه : ( لا تضار والدة بولدها ( ، يقول : لا يجعل بالرجل إذا طلق امرأته أن يضارها ، فينزع
منها ولدها وهي لا تريد ذلك ، فيقطعه عن أمه ، فيضارها بذلك بعد أن ترضى بعطية
الأب من النفقة والكسوة .
ثم ذكر الأم ، فقال : ( ولا مولود له بولده ( ، يعني لا يجمل بالمرأة أن تضار زوجها
وتلقى إليه ولدها ، ثم قال في التقديم : ( وعلى الوارث مثل ذلك ( ، يقول : وعلى من
يرث اليتيم إذا مات الأب مثل ما على الأب من النفقة والكسوة لو كان حيا ، فلا يضار
الوارث الأم ، وهي بمنزلة الأب إذا لم يكن لليتيم ماله ، ) فإن أرادا فصالا عن تراض منهما(1/123)
صفحة رقم 124
وتشاور ( ، يقول : واتفقا ، ) فلا جناح عليهما ( ، يعني لا حرج ما لم يضار أحدهما
صاحبه أن يفصلا الولد قبل الحولين ، والأم أحق بولدها من المرضع إذا رضيت من النفقة
والكسوة بما يرضي به غيرها ، فإن لم ترض الأم بما يرضى به غيرها من النفقة ، ) فلا
جناح عليهما ) ، يقول عز وجل : فلا جناح على الوالد أن يسترضع لولده ، ويسلم للظئر
أجرها ، ولا كسوة لها ، ولا رزق ، وإنما هو أجرها ، قوله سبحانه : ( وإن أردتم أن
تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ) لأمر الله في المراضع ، ) ما ءاتيتم
بالمعروف ( ، يقول : ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها ) واتقوا الله ( ولا تعصوه
فيما حذركم الله في هذه الآية من أمر المضارة والكسوة والنفقة للأم وأجر الظئر ، ثم
حذرهم ، فقال : ( واعلموا أن الله بما تعملون بصير ) [ آية : 233 ] .
تفسير سورة البقرة آية [ 234 ]
البقرة : ( 234 ) والذين يتوفون منكم . . . . .
) والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ( من يوم
يموت زوجها ، ) فإذا بلغن أجلهن ( ، يعني إذا مضى الأجل مما ذكر في هذه الآية ،
)( فلا جناح عليكم ( في قراءة ابن مسعود : ( لا حرج عليهن ' ، ) فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ( ، يعني لا حرج على المرأة إذا نقضت عدتها أن تتشوف وتتزين
وتلتمس الأزواج ، ) والله بما تعملون خبير ) [ آية : 234 ] من أمر العدة .
تفسير سورة البقرة آية [ 235 ]
البقرة : ( 235 ) ولا جناح عليكم . . . . .
) ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء ( ، يعني لا حرج على الرجل أن
يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدتها : إنك لتعجبينني ، وما أجاوزك إلى غيرك ، فهذا
التعريض ، ) أو أكننتم في أنفسكم ( ، فلا جناح عليكم أن تسروا في قلوبكم(1/124)
صفحة رقم 125
تزويجهن في العدة ) علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا ( ، يعني
الجماع في العدة ، ثم استثنى ، فقال : ( إلا أن تقولوا قولا معروفا ( عدة حسنة ،
نظيرها في النساء : ( وقولوا لهم قولا معروفا ) [ النساء : 8 ] ، يعني عدة حسنة ،
فتقول : وهي في العدة ، إنه حبيب إلى أن أكرمك وأن آتى ما أحببت ولا أجاوزك إلى
غيرك ، ) ولا تعزموا عقدة النكاح ( ، يعني ولا تحققوا عقدة النكاح ، يعني لا
تواعدوهن في العدة ، ) حتى يبلغ الكتاب أجله ( ، يعني حتى تنقضي عدتها ، ثم
خوفهم ، فقال سبحانه : ( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم ) ، يعني ما في قلوبكم
من أمورهن ، ) فاحذروه ) ، أي فاحذروا أن ترتكبوا في العدة ما لا يحل ، ) واعلموا أن
الله غفور ) ، يعني ذا تجاوز لكم ، ) حليم ) [ آية : 235 ] لا يعجل بالعقوبة .
تفسير سورة البقرة آية [ 236 ]
البقرة : ( 236 ) لا جناح عليكم . . . . .
) لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ( ، يقول : وإن
لم تسموا لهن المهر ، فلا حرج في الطلاق في هذه الأحوال كلها ، وهو الرجل يطلق
امرأته قبل أن يجامعها ولم يسم لها مهرا ، فلا مهر لها ، ولا عدة عليها ، ولا المتعة
بالمعروف ويجبر الزوج على متعة هذه المرأة التي طلقها قبل أن يسمى لها مهرا ، وليس
بمؤقت ، نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ، ولم يسم لها مهرا ، ثم
طلقها قبل أن يمسها ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ' هل متعتها بشيء ' ؟ ، قال : لا ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
' متعها بقلنسوتك ، أما إنها لا تساوي شيئا ، ولكن أحببت أن أحيي سنة ' ، فذلك قوله
عز وجل : ( ومتعوهن على الموسع قدره ( في المال ، ) وعلى المقتر قدره ( في المال ،
)( متاعا بالمعروف ( وليس بمؤقت ، وهو واجب ، ) حقا على المحسنين ) [ آية : 236 ] .
تفسير سورة البقرة آية [ 237 ]
البقرة : ( 237 ) وإن طلقتموهن من . . . . .
ثم إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كساه ثوبين بعد ذلك ، فتزوج امرأة فأمهرها أحد ثوبيه ، ثم قال
سبحانه : ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ( ، يعني من قبل الجماع ، ) وقد
فرضتم لهن ( من المهر ) فريضة فنصف ما فرضتم ) عليكم من المهر ، ثم استثنى ،(1/125)
صفحة رقم 126
فقال : ( إلا أن يعفون ( ، يعني إلا أن يتركن ، يعني المرأة تترك نصف مهرها ،
فتقول المرأة : أما إنه لم يدخل بي ولم ينظر لي إلى عورة ، فتعفو عن نصف مهرها وتتركه
لزوجها ، وهي بالخيار ، ثم قال : ( أو بعفوا الذي بيده عقدة النكاح ) ، يعني الزوج ،
فيوفيها المهر كله ، فيقول : كانت في حبالي ومنعتها من الأزواج ، فيعطيها المهر كله ،
وهو بالخيار ، ثم قال : ( وأن تعفوا ( ، يعني ولأن تعفوا ، ) أقرب للتقوى ( ، يعني
المرأة والزوج كلاهما أمرهما أن يأخذا بالفضل في الترك ، ثم قال عز وجل : ( ولا
تنسوا ( ، يعني المرأة والزوج ، يقول : لا تتركوا ) الفضل بينكم ) في الخير حين
أمرها أن تترك نصف المهر للزوج ، وأمر الزوج أن يوفيها المهر كله ، ) إن الله بما تعملون بصير ) [ آية : 237 ] ، يعني بصيرا أن ترك أو وفاها .
تفسير سورة البقرة من آية [ 238 - 239 ]
البقرة : ( 238 ) حافظوا على الصلوات . . . . .
) حافظوا على الصلوات ( الخمس في مواقيتها ، ) والصلاة الوسطى ( ، يعني
صلاة العصر ، ) وقوموا لله قانتين ) [ آية : 238 ] في صلاتكم ، يعني مطيعين ، نظيرها :
( وكانت من القانتين ) [ التحريم : 12 ] ، يعني من المطيعين ، وكقوله سبحانه : ( إن إبراهيم كان أمة قانتا ) [ النحل : 120 ] ، يعني مطيعا ، وكقوله سبحانه : ( قانتات (
[ النساء : 34 ] ، يعني مطيعات ، وذلك أن أهل الأوثان يقومون في صلاتهم عاصين ، قال
الله : قوموا أنتم مطيعين ،
البقرة : ( 239 ) فإن خفتم فرجالا . . . . .
) فإن خفتم ( العدو فصلوا ، ) فرجالا أو ركبانا ( ، يقول :
على أرجلكم أو على دوابكم ، فصلوا ركعتين حيث كان وجهه إذا كان الخوف
شديدا ، فإن لم يستطع السجود ، فليومئ برأسه إيماء ، وليجعل السجود أخفض من
الركوع ، ولا يجعل جبهته على شيء ، ثم قال سبحانه : ( فإذا أمنتم ) العدو ،
)( فاذكروا الله ( ، يقول : فصلوا لله ، ) كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ) [ آية :
239 ] .(1/126)
صفحة رقم 127
تفسير سورة البقرة من آية [ 240 - 242 ]
البقرة : ( 240 ) والذين يتوفون منكم . . . . .
) والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول ( ،
يعني بالمتاع أن ينفق عليها في الطعام والكسوة سنة ما لم تتزوج ، قال : ( غير
إخراج ) ، يقول : لا تخرج من بيت زوجها سنة وهي كارهة ، ) فإن خرجن ( إلى
أهلهن طائعة قبل الحلول ، فلا نفقة لها ، فعدتها ثلاثة قروء ، يقول : ( فلا جناح
عليكم ( في قراءة ابن مسعود : ' فلا جناح عليهن ' ، ) في ما فعلن في أنفسهن
من معروف ( ، يعني بالمعروف ، يعني أن تتشوف وتتزين وتلتمس الأزواج ، ) والله
عزيز حكيم ) [ آية : 240 ] ، عزيز في ملكه ، حكيم فيما حكم من النفقة حولا ،
نزلت في حكيم بن الأشرف ، قدم الطائف ومات بالمدينة وله أبوان وأولاد ، فأعطى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الميراث الوالدين ، وأعطى الأولاد بالمعروف ، ولم يعط امرأته شيئا .
غير أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بالنفقة عليها في الطعام والكسوة حولا ، فإن كانت المرأة من
أهل المدر ، التمست السكنى فيما بينها وبين الحول ، وإن كانت من أهل الوبر نسجت
ما تسكن فيه إلى الحول ، فكان هذا قبل أن تنزل آية المواريث ، ثم نزل :
البقرة : ( 241 ) وللمطلقات متاع بالمعروف . . . . .
) والذين
يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ( نسخت هذه
الحول ، ثم أنزل الله عز وجل آية المواريث ، فجعل لهن الربع والثمن ، فنسخت نصيبها
من الميراث نفقة سنة ، ثم قال : ( وللمطلقات ( اللاتي دخل بهن ) متاع بالمعروف ( ،
يعني على قدر مال الزوج ، ولا يجبر الزوج على المتعة ؛ لأن لها المهر كامل ، ) حقا على
المتقين ) [ آية : 241 ] أن يمتع الرجل امرأته ،
البقرة : ( 242 ) كذلك يبين الله . . . . .
) كذلك يبين الله لكم
ءاياته ( ، يقول : هكذا يبين الله لكم أمره في المتعة ، ) لعلكم ) ، يعني لكي
) تعقلون ( ، [ آية : 242 ] .
تفسير سورة البقرة من آية [ 243 - 245 ](1/127)
صفحة رقم 128
البقرة : ( 243 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ( من بني إسرائيل ) ألوف ( ثمانية
آلاف ، ) حذر الموت ( ، يعني حذر القتل ، وذلك أن نبيهم حزقيل بن دوم ، وهو ذو
الكفل بن دوم ، ندبهم إلى قتال عدوهم ، فأبوا عليه جبنا عن عدوهم واعتلوا ، فقالوا : إن
الأرض التي نبعث إليها لنقاتل عدونا ، هي أرض يكون فيها الطاعون ، فأرسل الله عز
وجل عليهم الموت ، فلما رأوا أن الموت كثر فيهم ، خرجوا من ديارهم فرارا من الموت ،
فلما رأى ذلك حزقيل ، قال : اللهم رب يعقوب وإله موسى ، قد ترى معصية عبادك ،
فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لن يستطيعوا فرارا منك ، فأمهلهم الله عز وجل
حتى خرجوا من ديارهم ، وهي قرية تسمى دامردان .
فلما خرجوا قال الله عز وجل لهم : ( فقال لهم الله موتوا ( عبرة لهم ، فماتوا جميعا
وماتت دوابهم كموت رجل واحد ثمانية أيام ، فخرج إليهم الناس ، فعجزوا عن دفنهم
حتى حظروا عليهم وأروحت أجسادهم ، ) ثم ( إن الله عز وجل ) أحياهم ( بعد
ثمانية أيام وبهن نتن شديد ، ثم إن حزقيل بكى إلى ربه عز وجل ، فقال : اللهم رب
إبراهيم وإله موسى ، لا تكن على عبادك الظلمة كأنفسهم ، واذكر فيهم ميثاق الأولين ،
فسمع الله عز وجل ، فأمره أن يدعوهم بكلمة واحدة ، فقاموا كقيام رجل واحد كان
وسنانا فاستيقظ ، فذلك قوله عز وجل : ( إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) [ آية : 243 ] رب هذه النعمة حين أحياهم بعدما أراهم
عقوبته ، ثم أمرهم عز وجل أن يرجعوا إلى عدوهم فيجاهدوا ، فذلك قوله : ( موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ( أنه أحياهم بعدما أماتهم ، ) ولكن أكثر الناس لا يشكرون ( .
البقرة : ( 244 ) وقاتلوا في سبيل . . . . .
وقوله سبحانه : ( وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع ) ؛ لقولهم : إن الأرض
التي نبعث إليها فيها الطاعون ) عليم ) [ آية : 244 ] بذلك ، حتى إنه ليوجد في
ذلك السبط من اليهود ريح كريح الموتى ، وكانوا ثمانية آلاف
البقرة : ( 245 ) من ذا الذي . . . . .
) من ذا الذي يقرض الله
قرضا حسنا ( طيبة بها نفسه محتسبا ، ) فيضاعفه له ) ) بها ( ( أضعافا كثيرة ( ،
نزلت في أبي الدحداح ، وأسمه عمر بن الدحداح الأنصاري ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال :(1/128)
صفحة رقم 129
' من تصدق بصدقة ، فله مثلها في الجنة ' ، قال أبو الدحداح : إن تصدقت بحديقتي فلي
مثلها في الجنة ؟ قال : ' نعم ' ، قال : وأم الدحداح معي ؟ قال : ' نعم ' ، فال : والصبية ؟
قال : ' نعم ' .
وكان له حديقتان ، فتصدق بأفضلهما واسمها الجنينة ، فضاعف الله عزوجل صدقته
ألفي ألف ضعف ، فذلك قوله عزوجل : ( أضعافا كثيرة ( ) والله يقبض
ويبصط ( ، يعني يقتر ويوسع ، ) وإليه ترجعون ) [ آية : 245 ] فيجزيكم بأعمالكم ،
فرجع أبو الدحداح إلى حديقته ، فوجد أم الدحداح والصبية في الحديقة التي جعلها
صدقة ، فقام على باب الحديقة ، وتحرج أن يدخلها ، وقال : يا أم الدحداح ، قالت له :
لبيك يا أبا الدحداح ، قال : إني قد جعلت حديقتي هذه صدقة ، واشترطت مثلها في
الجنة ، وأم الدحداح معي ، والصبية معي ، قالت : بارك الله لك فيما اشتريت ، فخرجوا
منها ، وسلم الحديقة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : كم من نخلة مدلا عذوقها لأبي الدحداح في
الجنة لو اجتمع على عذق منها أهل منى أن يقلوه ما أقلوه .
تفسير سورة البقرة آية [ 246 ]
البقرة : ( 246 ) ألم تر إلى . . . . .
) قوله سبحانه : ( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى ( ، وذلك ان كفار
بني إسرائيل قهروا مؤمنيهم ، فقتلوهم وسبوهم وأخرجوهم من ديارهم وأبنائهم ،
فمكثوا زمانا ليس لهم ملك يقاتل عدوهم ، والعدو بين فلسطين ومصر ، ) إذ قالوا لنبي
لهم ( فقالوا لنبي لهم ، عليه السلام ، اسمه اشماويل ، وهو بالعربية إسماعيل بن هلقابا ،
واسم أمه حنة ، وهو من نسل هارون بن عمران أخو موسى : ( ابعث لنا ملكا
نقاتل ( عدونا ) في سبيل الله قال ) ) لهم نبيهم ( ( هل عسيتم إن ( بعث الله لكم
ملكا و ) كتب ( ، يعني وفرض ) عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل
في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب ( أي فلما فرض ، كقوله
سبحانه : ( كتب عليكم الصيام ( ، يعني فرض عليكم ، ) عليهم القتال ( ، يعني
على بني إسرائيل ، ) تولوا إلا قليلا منهم ( ، يعني كره القتال العصابة الذين وقفوا(1/129)
صفحة رقم 130
في النهر ، ) والله عليم بالظالمين ) [ آية : 246 ] ، يعينهم لقولهم : ( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ( ، وكان القليل أصحاب الفرقة ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد
أصحاب بدر .
تفسير سورة البقرة آية [ 247 ]
البقرة : ( 247 ) وقال لهم نبيهم . . . . .
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم بدر : ' إنكم على عدد أصحاب طالوت ' ، ) وقال لهم نبيهم ( إسماعيل : ( إن الله ( عز وجل ) قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك ( ، يعني من أين يكون له الملك ) علينا ( ، وليس طالوت من سبط
النبوة ولا من سبط الملوك ، وكان طالوت فيهم حقير الشأن دون ، ) ونحن أحق بالملك منه ( ، منا الأنبياء والملوك ، وكانت النبوة في سبط لاوى بن يعقوب والملوك في سبط
يهوذا بن يعقوب ، ) ولم يؤت ( طالوت ) سعة من المال ( أن ينفق علينا ،
)( قال ( لهم نبيهم إسماعيل : ( إن الله ( عز وجل ) اصطفاه عليكم ( ، يعني
اختاره ، كقوله سبحانه : ( إن الله اصطفى لكم الدين ( ، يعني اختاره ، ) وزاده بسطة في العلم والجسم ( ، وكان أعلم بني إسرائيل ، وكان طالوت من سبط
بنيامين ، وكان جسيما عالما ، وكان اسمه شارل بن كيس ، وبالعربية طالوت بن قيس ،
وسمي طالوت لطوله ، ) والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع ) بعطية الملك
) عليم ) [ آية : 247 ] بمن يعطيه الملك .
تفسير سورة البقرة آية [ 248 ]
البقرة : ( 248 ) وقال لهم نبيهم . . . . .
فلما أنكروا أن يكون طالوت عليهم ملكا ، ) وقال لهم نبيهم إن آية
ملكه ( أنه من الله ) أن يأتيكم التابوت ( الذي أخذ منكم ، ) فيه(1/130)
صفحة رقم 131
سكينة من ربكم ( ، ورأس كرأس الهرة ، ولها جناحان ، فإذا صوتت عرفوا أن
النصر لهم ، فكانوا يقدمونها أمام الصف ، ) وبقية مما ترك ءال موسى وءال
هارون ( ، يعني بالبقية رضراضا من الألواح وقفير من في طست من ذهب وعصا
موسى ، عليه السلام ، وعمامته ، وكان التابوت يكون مع الأنبياء إذا حضروا القتال
قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم ، فلما تفرقت بنو إسرائيل وعصوا الأنبياء ،
سلط الله عز وجل عليهم عدوهم ، فقتلوهم وغلبوهم على التابوت ، فدفنوه في مخرأة
لهم ، فابتلاهم الله عز وجل بالبواسير ، فكان الرجل إذا تبرز عند التابوت أخذه الباسور ،
ففشى ذلك فيهم فهجروه ، فقالوا : ما ابتلينا بهذه إلا بفعلنا بالتابوت ، فاستخرجوه ، ثم
وجهوه إلى بني إسرائيل على بقرة ذات لبن ، وبعث الله عز وجل الملائكة ، فساقوا
العجلة ، فإذا التابوت بين أظهرهم ، فذلك قوله سبحانه ، ) تحمله الملائكة ( ، يعني
تسوقه الملائكة ، ) إن في ذلك ( ، يعني في رد التابوت ، ) لآية لكم إن كنتم
مؤمنين ) [ آية : 248 ] ، يعني مصدقين بأن طالوت ملكه من الله عز وجل .
وكان التابوت من عود الشمشار التي تتخذ منه الأمشاط الصفر مموه بالذهب ، فلما
رأوا التابوت أيقنوا بأن ملك طالوت من الله عز وجل ، فسمعوا له وأطاعوا ، وكان
موسى عليه السلام ، ترك التابوت في التيه قبل موته عند يوشع بن نون ، ثم إن طالوت
تجهز لقتال جالوت ، وقال النبي إسماعيل لطالوت : إن الله عز وجل سيبعث رجلا من
أصحابك فيقتل جالوت ، وأعطاه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) درعا ، فقال لطالوت : من صلحت هذه
الدرع عليه ، لم تقصر عليه ، ولم تطل ، فإنه قاتل جالوت ، فاجعل لقاتله نصف ملكك
ونصف مالك .
فبلغ ذلك داود النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يرعى الغنم في الجبل فاستودع غنمه ربه جل وعز ،
فقال : آتي الناس وأطالع أخوتي ، وهم سبعة من طالوت ، وانظر ما هذا الخبر ، فمر داود ،
عليه السلام ، على حجر ، فقال : يا داود خذني ، فأنا حجر هارون الذي به قتل كذا
وكذا ، فارم بي جالوت الجبار ، فأقع في بطنه ، فأنفذ من جانبه الآخر ، فأخذه فألقاه في
مخلاته ، ثم مر بحجر آخر ، فقال له : يا داود خذني ، فأنا حجر موسى الذي قتل بي كذا
وكذا ، فارم بي جالوت ، فأقع في قلبه فأنفذ من الجانب الآخر ، فألقاه في مخلاته ، ثم مر
بحجر آخر ، فقال : يا داود خذني ، فأنا الذي أقتل جالوت الجبار ، فأستعين بالريح فتلقى
البيضة فأقع في دماغه فأقتله ، فأخذه فألقاه في مخلاته .(1/131)
صفحة رقم 132
ثم انطلق حتى دخل على طالوت ، فقال : أنا قاتل جالوت بإذن الله ، وكان داود ،
عليه السلام ، رث المنظر ، هبير ، دوير ، فأنكر طالوت أن يقتله داود ، عليه السلام ، فقال
داود : تجعل لي نصف ملكك ونصف مالك إن قتلت جالوت الجبار ؟ قال طالوت : لك
ذلك عندي ، وأزوجك ابنتي ، ولن يخفى علي إن كنت أنت صاحبه ، قد أتاني قومي
كلهم يزعم أنه يقتله ، وقد أخبرني إسماعيل أن الله يبعث له رجلا من أصحابي فيقتله ،
فالبس هذا الدرع ، فلبسها داود ، عليه السلام ، فطالت عليه ، فانتفض فيها ، فتقلص منها
وجعل داود يدعو الله عز وجل ، ثم انتفض فيها ، فتقلص منها ، ثم انتفض فيها الثالثة
فاستوت عليه ، فعلم طالوت أنه يقتل جالوت .
تفسير سورة البقرة آية [ 249 ]
البقرة : ( 249 ) فلما فصل طالوت . . . . .
) فلما فصل طالوت بالجنود ( ، وهم مائة ألف إنسان ، فسار في حر شديد ، ) فلما فصل طالوت بالجنود ( ) قال إن الله ( عز وجل ) مبتليكم بنهر ( بين
الأردن وفلسطين ، ) فمن شرب منه فليس مني ( ، يقول : ليس معي على عدوى ،
كقول إبراهيم ، عليه السلام : ( فمن تبعني فإنه مني ) [ إبراهيم : 36 ] ، يعني معي ،
)( ومن لم يطعمه فإنه مني ( ، فإنه معي على عدوى ، ثم استثنى ، فقال : ( إلا من اغترف غرفة بيده ( ، الغرفة يشرب منها الرجل وخدمه ودابته ويملأ قربته ، ووصلوا إلى النهر من مفازة ، وأصابهم العطش ، فلما رأى الناس الماء ابتدروا فوقعوا فيه ،
)( فشربوا منه إلا قليلا منهم ( ، والقليل ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، عدة أصحاب
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم بدر .
) فلما جاوزه ) ، أي جاوز النهر ) هو ( ، يعني طالوت ، ) والذين ءامنوا
معه ( ، وكلهم مؤمنون ، فقال العصاة الذين وقعوا في النهر : ( قالوا لا طاقة لنا
اليوم بجالوت وجنوده ( ، فرد عليهم أصحاب الغرفة ، ) قال الذين يظنون ( ،
يعني الذين يعلمون ، كقوله سبحانه : ( وظن أنه الفراق ) [ القيامة : 28 ] ، يعني وعلم ،(1/132)
صفحة رقم 133
وكقوله عز وجل : ( فظنوا أنهم مواقعوها ) [ الكهف : 53 ] ، وكقوله عز وجل :
( ألا يظن أولئك ) [ المطففين : 4 ] ، أي ألا يعلم ) أنهم ملاقوا الله ( ؛ لأنهم قد
طابت أنفسهم بالموت ، ) كم من فئة ( ، يعني جند ) قليلة ( عددهم ،
)( غلبت فئة كثيرة ( عددهم ) بإذن الله والله مع الصابرين ) [ آية : 249 ] ، يعني
بني إسرائيل في النصر على عدوهم ، فرد طالوت العصاة وسار بأصحاب الغرفة حتى
عاينوا العدو .
تفسير سورة البقرة من آية [ 250 - 252 ]
البقرة : ( 250 - 251 ) ولما برزوا لجالوت . . . . .
) ولما برزوا ) ) لقتال ( ( لجالوت وجنوده ( ، قال أصحاب الغرفة : ( قالوا
ربنا أفرغ علينا صبرا ( ، يعني ألق ، أصبب علينا صبرا ، كقوله سبحانه : ( أفرغ ) ،
يعني أصبب ، ) عليه قطرا ) [ الكهف : 96 ] ، ) وثبت أقدامنا ) عند القتال
حتى لا تزول ، ) وانصرنا على القوم الكافرين ) [ آية : 250 ] ، يعني جالوت
وجنوده ، وكانوا يعبدون الأوثان ، فاستجاب الله لهم ، وكانوا مؤمنين ، أصحاب الغرفة
في العصاة .
فلما التقى الجمعان وطالوت في قلة وجالوت في كثرة ، عمد داود ، عليه السلام ،
فقام بحيال جالوت ، لا يقوم ذلك المكان إلا من يريد قتال جالوت ، فجعل الناس
يسخرون من داود حين قام بحيال جالوت ، وكان جالوت من قوم عاد عليه بيضة فيها
ثلاثمائة رطل ، فقال جالوت : من أين هذا الفتى ؟ ارجع ويحك ، فإني أراك ضعيفا ، ولا
أرى لك قوة ، ولا أرى معك سلاحا ، ارجع فإني أرحمك ، فقال داود ، عليه السلام : أنا
أقتلك بإذن الله عز وجل ، فقال جالوت : بأي شيء تقتلني ؟ وقد قمت مقام الأشقياء ،
ولا أرى معك سلاحا إلا عصاك هذه ، هلم فاضربني بها ما شئت ، وهي عصاه التي
كان يرد بها غنمه ، قال داود : أقتلك بإذن الله بما شاء الله .(1/133)
صفحة رقم 134
فتقدم جالوت ليأخذه بيده مقتدرا عليه في نفسه ، وقد صارت الحجارة الثلاثة حجرا
واحدا ، فلما دنا جالوت من داود ، أخرج الحجر من مخلاته ، وألقت الريح البيضة عن
رأسه ، فرماه فوقع الحجر في دماغه حتى خرج من أسفله ، وانهزم الكفار ، وطالوت
ومن معه وقوف ينظرون ، فذلك قوله سبحانه : ( فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت ( بحذافة فيها حجر واحد ، وقتل معه ثلاثون ألفا ، وطلب داود نصف مال
طالوت ونصف ملكه ، فحسده طالوت على صنيعه وأخرجه ، فذهب داود حتى نزل
قرية من قرى بني إسرائيل وندم طالوت على صنيعه ، فقال في نفسه : عمدت إلى خير
أهل الأرض بعثه الله عز وجل لقتل جالوت فطردته ، ولم أف له ، وكان داود ، عليه
السلام ، أحب إلى بني إسرائيل من طالوت .
فانطلق في طلب داود ، فطرق امرأة ليلا من قدماء بني إسرائيل تعلم اسم الله
الأعظم ، وهي تبكي على داود ، فضرب بابها ، فقالت : من هذا ؟ قال : أنا طالوت ،
فقالت : أنت أشقى الناس وأشرهم ، هل تعلم ما صنعت ؟ طردت داود النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان
أمره من الله عز وجل ، وكانت لك آية فيه من أمر الدرع وصفة أشماويل وظهوره على
جالوت ، وقتل الله عز وجل به أهل الأوثان فانهزموا ، ثم غذرت بداود وطردته ، هلكت
يا شقي ، فقال لها : إنما أتيتك لأسألك ما توبتي ؟ قالت : توبتك أن تأتي مدينة بلقاء
فتقاتل أهلها وحدك ، فإن افتتحتها ، فهي توبتك ، فانطلق طالوت ، فقاتل أهل بلقاء
وحده ، فقتل وعمدت بنو إسرائيل إلى داود ، عليه السلام ، فردوه وملكوه ، ولم يجتمع
بنو إسرائيل لملك قط غير داود ، عليه السلام ، فكانوا اثنى عشر سبطا ، لكل سبط ملك
بينهم ، فذلك قوله تبارك وتعالى : ( فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت ( .
) وءاتاه الله الملك ( ، يعني ملكه اثنا عشر سبطا ، ) والحكمة ) ، يعني
الزبور ، ) وعلمه مما يشاء ( ، علمه صنعة الدروع ، وكلام الدواب والطير ،
وتسبيح الجبال ، ) ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ( ، يقول الله سبحانه : لولا
دفع الله المشركين بالمسلمين ، لغلب المشركون على الأرض ، فقتلوا المسلمين ، وخرجوا
المساجد والبيع والكنائس والصوامع ، فذلك قوله سبحانه : ( لفسدت الأرض ( ،
يقول : لهلكت الأرض نظيرها : ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ) [ النمل :
34 ] ، يعني أهلكوها ، ) ولكن الله ذو فضل على العالمين ) [ آية : 251 ](1/134)
صفحة رقم 135
في الدفع عنهم .
البقرة : ( 252 ) تلك آيات الله . . . . .
) تلك ءايات الله ( ، يعني القرآن ، ) نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين ) [ آية : 252 ] .
تفسير سورة البقرة آية [ 253 ]
البقرة : ( 253 ) تلك الرسل فضلنا . . . . .
) تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ( ، وهو موسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومنهم
من اتخذه خليلا ، وهو إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومنهم من أعطى الزبور ، وتسبيح الجبال والطير ،
وهو داود ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومنهم من سخرت له الريح والشياطين ، وعلم منطق الطير ، وهو
سليمان ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومنهم من يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين طيرا ،
وهو عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، فهذه الدرجات ، يعني الفضائل ، قال تعالى : ( ورفع بعضهم درجات (
على بعض ، ) وءاتينا ( ، يقول : وأعطينا ) عيسى ابن مريم البينات ( ، يعني ما كان
يصنع من العجائب وما كان يحيي من الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين .
ثم قال : ( وأيدناه بروح القدس ( ، يقول سبحانه : وقويناه بجبريل ، عليه السلام ،
ثم قال : ( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم ( ، يعني من بعد عيسى وموسى ،
وبينهما ألف نبي ، أولهم وآخرهم عيسى ، ) من بعد ما جاءتهم البينات ( ، يعني
العجائب التي كان يصنعها الأنبياء ، ) ولكن اختلفوا ( ، فصاروا فريقين في الدين ،
فذلك قوله سبحانه : ( فمنهم من ءامن ( ، يعني صدق بتوحيد الله عز وجل ، ) ومنهم من كفر ( بتوحيد الله ، ) ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ) [ آية :
253 ] ، يعني أراد ذلك .
تفسير سورة البقرة آية [ 254 ]
البقرة : ( 254 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقناكم ( من الأموال في طاعة الله ) من قبل أن يأتي يوم لا بيع ( يقول : لا فداء فيه ، ) فيه ولا خلة ( فيه ليعطيه بخلة ما بينهما ، ) ولا شفاعة ( للكفار فيه كفعل أهل الدنيا بعضهم في بعض فليس في الآخرة شيء من ذلك
) والكافرون هم الظالمون ) [ آية : 254 ] .(1/135)
صفحة رقم 136
تفسير سورة البقرة آية [ 255 ]
البقرة : ( 255 ) الله لا إله . . . . .
) الله لا إله إلا هو الحي ( الذي لا يموت ، ) القيوم ( القائم على كل نفس ،
)( لا تأخذه سنة ( ، يعني ريح من قبل الرأس ، فيغشى العينين ، وهو وسنان بين النائم
واليقظان ، ثم قال جل ثناؤه : ( لا تأخذه سنة ( ) ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض ( من الخلق عبيده ، وفي ملكه الملائكة ، وعزيز ، وعيسى ابن مريم ، وغيره ممن
يعبد ، ) من ذا الذي يشفع عنده ( من الملائكة ) إلا بإذنه ( ، يقول : إلا بأمره ،
وذلك قوله سبحانه : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) [ الأنبياء : 28 ] ، ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ( ، يقول : ما كان قبل خلق الملائكة ، وما كان بعد خلقهم ، ثم قال :
( ولا يحيطون ( ، يعني الملائكة ، ) بشيء من علمه إلا بما شاء ( الرب فيعلمهم ، ثم
أخبر عن عظمة الرب جل جلاله ، فقال سبحانه : ( وسع كرسيه السماوات والأرض (
كلها كل قائمة ، ) ولا يؤده حفظهما ( ، يقول : ولا يثقل عليه ، ولا يجهده حملها .
) وهو العلي العظيم ) [ آية : 255 ] الرفيع فوق كل خلقه العظيم ، فلا أعظم منه
شيء ، يحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه ، أقدامهم تحت الصخرة التي
تحت الأرض السفلى ، مسيرة خمس مائة عام ، وما بين كل أرض مسيرة مائة عام ، ملك
وجهه على صورة الإنسان ، وهو سيد الصور ، وهو يسأل الرزق للآدميين ، وملك
وجهه على صورة سيد الأنعام يسأل الرزق للبهائم وهو الثور ، لم يزل الملك الذي على
صورة الثور على وجهه كالغضاضة منذ عبد العجل من دون الرحمن عز وجل ، وملك
وجهه على صورة سيد الطير ، وهو يسأل الله عز وجل الرزق للطير وهو النسر ، وملك
على صورة سيد السباع ، وهو يسأل الرزق للسباع وهو الأسد .
تفسير سورة البقرة آية [ 256 ]
البقرة : ( 256 ) لا إكراه في . . . . .
) لا إكراه في الدين ( لأحد بعد إسلام العرب إذا أقروا بالجزية ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) (1/136)
صفحة رقم 137
كان لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب ، فلما أسلمت العرب طوعا وكرها قبل الخراج ،
من غير أهل الكتاب ، فكتب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المنذر بن ساوى ، وأهل هجر ، يدعوهم إلى
الإسلام ، فكتب : ' من محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أهل هجر ، سلام على من اتبع الهدى ،
أما بعد : إن من شهد شهادتنا ، وأكل من ذبيحتنا ، واستقبل قبلتنا ، ودان بديننا ، فذلك
المسلم الذي له ذمة الله عز وجل ، وذمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإن أسلمتم فلكم ما أسلمتم
عليه ، ولكم عشر التمر ، ولكم نصف عشر الحب ، فمن أبى الإسلام ، فعليه الجزية ' .
فكتب المنذر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إني قرأت كتابك إلى أهل هجر ، فمنهم من أسلم ،
ومنهم من أبى ، فأما اليهود والمجوس ، فأقروا بالجزية ، وكرهوا الإسلام ، فقبل النبي ( صلى الله عليه وسلم )
منهم بالجزية . فقال منافقوا أهل المدينة : زعم محمد أنه لم يؤمر أن يأخذ الجزية إلا من
أهل الكتاب ، فما باله قبل من مجوس أهل هجر ، وقد أبى ذلك على آبائنا وإخواننا حتى
قاتلهم عليه ، فشق على المسلمين قولهم ، فذكروه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ( آخر الآية [ المائدة : 105 ] ، وأنزل الله عز وجل :
( لا إكراه في الدين ( بعد إسلام العرب .
قد تبين الرشد من الغي ( ، يقول : قد تبين الضلالة من الهدى ، ) فمن يكفر
بالطاغوت ( ، يعني الشيطان ، ) ويؤمن بالله ( ، بأنه واحد لا شريك له ، ) فقد
استمسك بالعروة الوثقى ( ، يقول : أخذ الثقة ، يعني الإسلام ، التي ) لا انفصام لها ( ،
يقول : لا انقطاع له دون الجنة ، ) والله سميع ) ) لقولهم ( ( عليم ) [ آية : 265 ] به .
تفسير سورة البقرة آية [ 257 ] .
البقرة : ( 257 ) الله ولي الذين . . . . .
) والله ولي الذين ءامنوا ( ، يعني ولي المؤمنين بالله عز وجل ، ) يخرجهم من
الظلمات إلى النور ( ، يعني من الشرك إلى الإيمان ، نظيرها في إبراهيم : ( أن أخرج
قومك من الظلمات إلى النور ) [ إبراهيم : 5 ] ؛ لأنه سبق لهم السعادة من الله تعالى في
علمه ، فلما بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أخرجهم الله سبحانه من الشرك إلى الإيمان ، ثم قال :
( والذين كفروا ( ، يعني اليهود ، ) أولياؤهم الطاغوت ( ، يعني كعب بن(1/137)
صفحة رقم 138
الأشرف ، ) يخرجونهم ) ، يعني يدعونهم ) من النور إلى الظلمات ( ، نظيرها في
إبراهيم قوله سبحانه : ( أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) [ إبراهيم : 5 ] ، ثم
قال : يدعونهم من النور الذي كانوا فيه من إيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يبعث إلى كفر به
بعد أن بعث ، وهي الظلمة ، ) أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ آية :
257 ] ، يعني لا يموتون .
تفسير سورة البقرة آية [ 258 ]
البقرة : ( 258 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ( ، وهو نمروذ بن كنعان بن ريب بن نمروذ
ابن كوشى بن نوح ، وهو أول من ملك الأرض كلها ، وهو الذي بنى الصرح ببابل ،
)( أن ءاتاه الله ( ، يقول : أن أعطاه الله ) الملك ( ، وذلك أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) حين
كسر الأصنام سجنه نمروذ ، ثم أخرجه ليحرقه بالنار ، فقال لإبراهيم ، عليه السلام : من
ربك ) إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ( ، وإياه أعبد ومنه أسأل الخير ،
)( قال ( نمروذ ) أنا أحيي وأميت ( ، قال له إبراهيم : أرني بيان الذي تقول ، فجاء
برجلين فقتل أحدهما ، واستحيا الآخر ، وقال : كان هذا حيا فأمته وأحييت هذا ولو
شئت قتلته ، ) قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب
فبهت ) ) الجبار ( ( الذي كفر ( بتوحيد الله عز وجل ، يقول : بهت نمروذ الجبار ، فلم
يدر ما يرد على إبراهيم .
ثم إن الله عز وجل سلط على نمروذ بعوضة ، بعدما أنجا الله عز وجل إبراهيم من
النار ، فعضت شفته ، فأهوى إليها ، فطارت في منخره ، فذهب ليأخذها فدخلت
خياشيمه ، فذهب يستخرجها ، فدخلت دماغه ، فعذبه الله عز وجل بها أربعين يوما ، ثم
مات منها ، وكان يضرب رأسه بالمطرقة ، فإذا ضرب رأسه سكنت البعوضة ، وإذا رفع
عنها تحركت ، فقال الله سبحانه : وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى أتي بها ، يعني
الشمس من قبل المغرب ، فيعلم من يرى ذلك أنى أنا الله قادر على أن أفعل ما شئت ، ثم(1/138)
صفحة رقم 139
قال سبحانه : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) [ آية : 258 ] إلى الحجة ، يعني نمروذ ،
مثلها في براءة : ( وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) [ التوبة : 19 ] إلى الحجة .
تفسير سورة البقرة آية [ 259 ]
البقرة : ( 259 ) أو كالذي مر . . . . .
) أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ( ، يعني ساقطة على سقوفها ،
وذلك أن بخت نصر سبا أهل بابل ، وفيهم عزير بن شرحيا ، وكان من علماء بني
إسرائيل ، وأنه ارتحل ذات يوم على حمار أقمر ، فمر على قرية تدعى سابور على شاطئ
دجلة بين واسط والمدائن ، وكان هذا بعد ما رفع عيسى ابن مريم ، فربط حماره في ظل
شجرة ، ثم طاف في القرية ، فلم ير فيها ساكنا ، وعامة شجرها حامل ، فأصاب من
الفاكهة والعنب والتين .
ثم رجع إلى حماره ، فجلس يأكل من الفاكهة ، وعصر من العنب ، فشرب منه ،
فجعل فضل الفاكهة في سلة ، وفضل العصير في الزق ، فلما رأى خراب القرية وهلاك
أهلها ، ) قال أنى يحي هذه الأرض ( ، يعني أهل هذه القرية [ ( بعد موتها ( بعد
هلاكها ، لم يشك في البعث ، ولكنه احب أن يريه الله عز وجل كيف يبعث الموتى كما
سأل إبراهيم ، عليه السلام ، ربه عز وجل : ( أرني كيف تحيي الموتى ) [ البقرة :
260 ] .
فلما تكلم بذلك عزير ، أراد الله عز وجل أن يعلمه كيف يحييها بعد موتها ، ) فأماته
الله ( عز وجل وأمات حماره ) مائة عام ( ، فحيى والفاكهة والعصير موضوع عنده ،
)( ثم بعثه ( الله عز وجل في آخر النهار بعد مائة عام ، لم يتغير طعامه وشرابه ، فنودى
في السماء ) قال كم لبثت ( يا عزير ميتا ، ) قال لبثت يوما ( ، فالتفت فرأى
الشمس ، فقال : ( أو بعض يوم قال ) ) له ( ( بل لبثت مائة عام ( ميتا ، ثم أخبره
ليعتبر ، فقال سبحانه : ( فانظر إلى طعامك ( ، يعني الفاكهة في السلة ،(1/139)
صفحة رقم 140
) وشرابك ( ، يعني العصير ، ) لم يتسنه ( ، يقول لم يتغير طعمه بعد مائة عام ،
نظيرها في سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه (
[ محمد : 15 ] ، فقال : سبحان الله ، كيف لم يتغير طعمه ؟ .
ونظر إلى حماره ، وقد ابيضت عظامه ، وبليت وتفرقت أوصاله ، فنودي من السماء :
أيتها العظام البالية اجتمعي ، فإن الله عز وجل منزل عليك روحا ، فسعت العظام بعضها ،
إلى بعض ، الذراع إلى العضد ، والعضد إلى المنكبين والكتف ، وسعت الساق إلى
الركبتين ، والركبتان إلى الفخذين ، والفخذان إلى الوركين ، والتصق الوركان بالظهر ، ثم
وقع الرأس على الجسد ، وعزير ينظر ، ثم ألقى على العظام العروق والعصب ، ثم رد عليه
الشعر ، ثم نفخ في منخره الروح ، فقام الحمار ينهق عند رأسه ، فاعلم كيف يبعث أهل
هذه القبور بعد هلاكهم وبعث حماره بعد مائة عام كما لم يتغير طعامه وشرابه ، وبعث
بعد طوال الدهر ليعتبر بذلك ، فذلك قوله سبحانه : ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ( ، يعني لم يتغير طعمه ، كقوله في سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من ماء غير آسن ( .
) وانظر إلى حمارك ولنجعلك ءاية للناس ( ، يعني عبرة ؛ لأنه بعثه شابا بعد
مائة سنة ، ) وانظر إلى العظام ( ، يعني عظام الحمار ، ) كيف ننشزها ( ،
يعني نحييها ، نظيرها : ( أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ) [ الأنبياء : 21 ] ،
يعني يبعثون الموتى ، ) ثم نكسوها لحما فلما تبين له ( ، يعني لعزير كيف يحيي الله
الموتى ، خر لله ساجدا ، ) قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) [ آية : 259 ] ، يعني
من البعث وغيره ، فرجع عزير إلى أهله ، وقد هلكوا ، وبيعت داره وبنيت فردت عليه ،
وانتسب عزير إلى أولاده ، فعرفوه وعرفهم ، وأعطى عزير العلم من بعد ما بعث بعد مائة
عام .
تفسير سورة البقرة آية [ 260 ]
البقرة : ( 260 ) وإذ قال إبراهيم . . . . .
) وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى ( ، وذلك أنه رأى جيفه حمار على
شاطئ البحر تتوزعه دواب البر والبحر والطير ، فنظر إليها ساعة ، ثم قال : ( رب أرني
كيف تحي الموتى ( ) قال أولم تؤمن ( يا إبراهيم ، يعني قال : أو لم تصدق بأني(1/140)
صفحة رقم 141
أحيي الموتى يا إبراهيم ) قال بلى ( صدقت ) ولكن ليطمئن قلبي ( ليسكن قلبي بأنك
أريتني الذي أردت ) قال فخذ أربعة من الطير ( قال : خذ ديكا وبطة وغرابا وحمامة
فاذبحهن يقول : قطعهن ، ثم خالف بين مفاصلهن وأجنحتهن ) فصرهن إليك ( بلغة
النبط صرهن قطعهن ، واخلط ريشهن ودماءهن ، ثم خالف بين الأعضاء والأجنحة
واجعل مقدم الطير مؤخر طير آخر ، ثم فرقهن على أربعة أجبال ) ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا ( فيها تقدم فدعاهن فتواصلت الأعضاء
والأجنحة ، فأجابته جميعا ليس معهن رءوسهن ، ثم وضع على أجسادهن ، ففقت البطة ،
وصوت الديك ، ونعق الغراب ، وقرقر الحمام يقول : خذهن فصرهن وادعهن يسعين
على أرجلهن عند غروب الشمس .
) واعلم أن الله عزيز حكيم ) [ آية : 260 ] ، فقال : عند ذلك أعلم أن الله عزيز في
ملكه حكيم ، يعني حكم البعث يقول : كما بعث هذه الأطيار الأربعة من هذه الجبال
الأربعة ، فكذلك يبعث الله عز وجل الناس من أرباع الأرض كلها ونواحيها ، وكان هذا
بالشام ، وكان أمر الطير قبل أن يكون له ولد ، وقبل أن تنزل عليه الصحف ، وهو ابن
خمس وسبعين سنة .
تفسير سورة البقرة من آية [ 261 - 262 ]
البقرة : ( 261 ) مثل الذين ينفقون . . . . .
) مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ( ، يعني في طاعة الله عز وجل ،(1/141)
صفحة رقم 142
) كمثل حبة أنبتت ( يقول : أخرجت ) سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع ( لتلك الأضعاف ) عليم ) [ آية : 261 ] . بما تنفقون .
البقرة : ( 262 ) الذين ينفقون أموالهم . . . . .
) الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ آية : 262 ] عند الموت نزلت في
عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، في نفقته في غزاة تبوك وفي شرائه رومه ركية بالمدينة ،
وتصدقه بها على المسلمين ، وفي عبد الرحمن بن عوف الزهري ، رضي الله عنه ، حين
تصدق بأربعة آلاف درهم مثقال كل درهم وكان نصف ماله .
تفسير سورة البقرة آية [ 263 ]
البقرة : ( 263 ) قول معروف ومغفرة . . . . .
) قول معروف ( ، يعني قول حسن ، يعني دعاء الرجل لأخيه المسلم إذا جاء وهو
فقير يسأله فلا يعطيه شيئاً يدعو بالخير له ، ) ومغفرة ( ، وتجاوز عنه ، ) خير من صدقة ( يعطيه إياها ) يتبعها أذى ( ، يعني المن ، ) والله غني ( عما عندكم من
الصدقة ، ) حليم ) [ أية : 263 ] حين لا يعجل بالعقوبة على من يمن بالصدقة ويؤذي
فيها المعطي .
تفسير سورة البقرة آية [ 264 ]
البقرة : ( 264 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ( يقول : يمن بها فإن ذلك
أذى لصاحبها وكل صدقة يمن بها صاحبها على المعطى ، فإن المن يبطلها ، فضرب الله
عز وجل ، مثل لذلك : ( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله ( يقول : ولا يصدق
بأنه واحد لا شريك له .
) واليوم الآخر ( يقول : ولا يصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن ،
فمثله ، يعني مثل الذي يمن بصدقته ، كمثل مشرك أنفق ماله في غير إيمان ، فأبطل شركه(1/142)
صفحة رقم 143
الصدقة كما أبطل المن والأذى صدقة المؤمن ، ثم أخبر عمن من بها على صاحبه ، فلم
يعط عليها أجرا ولا ثوابا ، ثم ضرب الله عز وجل لهما مثلا فقال : في مثله : ( فمثله كمثل صفوان ( ، يعني الصفا ، ) عليه تراب فأصابه وابل ( ، يعني المطر الشديد ،
)( فتركه صلدا ( ، يقول : ترك المطر الصفا صلدا نقيا أجرد ، ليس عليه تراب ،
فكذلك المشرك الذي ينفق في غير إيمان ، وينفق رئاء الناس ، وكذلك صدقة المؤمن إذا
من بها .
) وذلك قوله سبحانه : ( لا يقدرون على شيء مما كسبوا ( ، يقول : لا يقدرون
على ثواب شيء مما أنفقوا يوم القيامة وذلك قوله عز وجل : ( مثل الذين كفروا بربهم
أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على ) ) ثواب ( ( شيء ) [ إبراهيم : 18 ] يوم القيامة ، كما لم يبق على الصفا شيء من التراب
حين أصابه المطر الشديد ، ) والله لا يهدي القوم الكافرين ) [ آية : 264 ] .
تفسير سورة البقرة آية [ 265 ]
البقرة : ( 265 ) ومثل الذين ينفقون . . . . .
ثم ذكر نفقة المؤمن الذي يريد بنفقته وجه الله عز وجل ، ولا يمن بها ، فقال سبحانه :
( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم ( ، يعني
وتصديقا من قلوبهم ، فهذا مثل نفقة المؤمن التي يريد بها وجه الله عز وجل ، ولا يمن
بها ) كمثل جنة بربوة ( ، يعني بستان في مكان مرتفع مستو ، تجري من تحتها
الأنهار ) أصابها ( ، يعني أصاب الجنة ) وابل ( ، يعني المطر الكثير الشديد ، ) فآتت
أكلها ( ، يقول : أضعفت ثمرتها في الحمل ) ضعفين ( ، فكذلك الذي ينفق ماله
لله عز وجل من غير أن يضاعف له نفقته إن كثرت أو قلت ، كما أن المطر إذا اشتد ، أو
قل أضعف ثمرة الجنة حين أصابها وابل ، ) فإن لم يصبها وابل فطل ( ، أي أصابها
عطش من المطر ، وهو الرذاذ مثل الندى ، ) والله بما تعملون ( ، يعني بما تنفقون
) بصير ) [ آية : 265 ] .(1/143)
صفحة رقم 144
تفسير سورة البقرة آية [ 266 ]
البقرة : ( 266 ) أيود أحدكم أن . . . . .
) أيود أحدكم أن تكون له جنة ( ، هذا مثل ضربه عز وجل لعمل الكافر ، جنة
) من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء ( ، يعني عجزة لا حيلة لهم ، ) فأصابها إعصار فيه نار ( ، يعني ريح
فيها نار ، يعني فيها سموم حارة ، ) فاحترقت ( ، يقول : مثل الكافر كمثل شيخ كبير له
بستان فيه من كل الثمرات ، وله ذرية أولاد صغار ، يعني عجزة لا حيلة لهم ، فمعيشته
ومعيشة ذريته من بستانه ، فأرسل الله عز وجل على بستانه السموم الحارة ، فأحرقت
بستانه ، فلم يكن له قوة من كبره أن يدفع عن جنته ، ولم تستطع ذريته الصغار أن يدفعوا
عن جنتهم التي كانت معيشتهم منها حين احترقت ، ولم يكن للشيخ قوة أن يغرس مثل
جنته ، ولم يكن عند ذريته خير ، فيعودون به على أبيهم عندما كان أحوج إلى خير
يصيبه ، ولا يجد خيرا ، ولا يدفع عن نفسه عذابا ، كما لم يدفع الشيخ الكبير ، ولا ذريته
عن جنتهم شيئا حين احترقت ، ولا يرد الكافر إلى الدنيا فيعتب ، كما لا يرجع الشيخ
الكبير شابا ، فيغرس جنة مثل جنته ، ولم يقدم لنفسه خيرا ، فيعود عليه في الآخرة ، وهو
أحوج ما يكون إليه كما لم يكن عند والده شيئا فيعودون به على أبيهم ، ويحرم الخير في
الآخرة عند شدة حاجته إليه ، كما حرم جنته عندما كان أحوج ما يكون إليها عند كبر
سنة وضعف ذريته ، ) كذلك ) ، يعني هكذا ) يبين الله لكم الآيات ( ، يعني
يبين الله أمره ، ) لعلكم ( ، يقول : لكي ) تتفكرون ) [ آية : 266 ] في أمثال الله عز
وجل فتعتبروا .
تفسير سورة البقرة آية [ 267 ]
البقرة : ( 267 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ( ، يقول : أنفقوا من الحلال مما
رزقناكم من الأموال الفضة والذهب وغيره ، ) ومما أخرجنا لكم من الأرض ( ، وأنفقوا
من طيبات الثمار والنبات ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر الناس بالصدقة قبل أن تنزل آية(1/144)
صفحة رقم 145
الصدقات ، فجاء رجل بعزق من تمر عامته حشف ، فوضعه في المسجد مع التمر ، فقال
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' من جاء بهذا ؟ ' ، فقالوا : لا ندري ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعلق العزق ، فمن نظر
إليه قال : بئس ما صنع صاحب هذا ، فقال الله عز وجل : ( ولا تيمموا الخبيث ( ،
يقول : ولا تعمدوا إلى الحشف من التمر الردئ من طعامكم للصدقات ، ) منه تنفقون ولستم بآخذيه ( ، يعني الردئ بسعر الطيب لأنفسكم ، يقول : لو كان لبعضكم على
بعض حق لم يأخذ دون حقه ، ثم استثنى ، فقال : ( إلا أن تغمضوا فيه ( ، يقول : إلا
أن يهضم بعضكم على بعض حقه ، فيأخذ دون حقه ، وهو يعلم أنه ردئ ، فيأخذه على
علم ، ) واعلموا أن الله غني ( عما عندكم من الأموال ، ) حميد ) [ آية : 267 ] عند
خلقه في ملكه وسلطانه .
تفسير سورة البقرة آية [ 268 ]
البقرة : ( 268 ) الشيطان يعدكم الفقر . . . . .
ثم قال سبحانه : ( الشيطان يعدكم الفقر ( ، عند الصدقة ، ويأمركم أن تمسكوا
صدقتكم ، فلا تنفقوا فلعلكم تفتقرون ، ) ويأمركم بالفحشاء ( ، يعني المعاصي ،
يعني بالإمساك عن الصدقة ، ) والله يعدكم ( عند الصدقة ) مغفرة منه ( لذنوبكم
ويعدكم ) وفضلا ( ، يعني الخلف من صدقتكم ، فيجعل لكم الخلف بالصدقة في
الدنيا ويغفر لكم الذنوب في الآخرة ، ) والله واسع ( لذلك الفضل ) عليم ) [ آية :
268 ] بما تنفقون ، وذلك قوله سبحانه في التغابن : ( إن تقرضوا الله قرضا حسنا (
[ التغابن : 17 ] ، يعني به الصدقة محتسبا طيبة بها نفسه ، يضاعفه لكم في الدنيا ، ويغفر
لكم بالصدقة في الآخرة .
تفسير سورة البقرة من آية [ 269 - 270 ](1/145)
صفحة رقم 146
البقرة : ( 269 ) يؤتي الحكمة من . . . . .
) يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة ( ، يقول : ومن يعط الحكمة ،
وهي علم القرآن والفقه فيه ، ) فقد أوتي خيرا كثيرا ( ، يقول : فقد أعطى خيرا كثيرا ،
)( وما يذكر ( فيما يسمع ، ) إلا أولوا الألباب ) [ آية : 269 ] ، يعني أهل اللب
والعقل ، ثم قال :
البقرة : ( 270 ) وما أنفقتم من . . . . .
) وما أنفقتم من نفقة ( من خير من أموالكم في الصدقة ، ) أو نذرتم من نذر ( في حق ، ) فإن الله يعلمه ( ، يقول : فإن الله يحصيه ، ) وما للظالمين من أنصار ) [ آية : 270 ] ، يعني للمشركين من مانع من النار .
تفسير سورة البقرة آية [ 271 ]
البقرة : ( 271 ) إن تبدوا الصدقات . . . . .
قوله سبحانه : ( إن تبدوا الصدقات ( ، يقول : إن تعلنوها ، ) فنعما هي وإن تخفوها ( ، يعني تسروها ، ) وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ( من العلانية ، وأعظم
أجرا يضاعف سبعين ضعفا ، ) ويكفر عنكم ( بصدقات السر والعلانية ، ) من سيئاتكم ( من ذنوبكم ، يعني ذنوبكم أجمع ، ومن هاهنا صلة ، وكل مقبول السر
والعلانية ، ) ويكفر عنكم من سيئاتكم ( ) والله بما تعملون خبير ) [ آية :
271 ] .
تفسير سورة البقرة آية [ 272 ]
البقرة : ( 272 ) ليس عليك هداهم . . . . .
) ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ( ، نزلت في المشركين ؛
لأنه يأمر بالصدقة عليهم من غير زكاة ، نزلت في أسماء بنت أبي بكر ، رضي الله عنه ،
سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن صلة جدها أبي قحافة ، وعن صلة امرأته ، وهما كافران ، فكأنه شق
عليه صلتهما ، فنزلت : ( ليس عليك هداهم ( ، يعني أبا قحافة ، ) ولكن الله يهدي من يشاء ( إلى دينه الإسلام ، ) وما تنفقوا من خير ( ، يعني المال ،
)( فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير ( يعني(1/146)
صفحة رقم 147
المال ، ) يوف إليكم ( ، يعني توفر لكم أعمالكم ، ) وأنتم لا تظلمون ) [ آية :
272 ] فيها .
تفسير سورة البقرة [ آية 273 ]
البقرة : ( 273 ) للفقراء الذين أحصروا . . . . .
ثم بين على من ينفق ، فقال : النفقة ) للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ( ، يقول : حبسوا ، نظيرها : ( فإن أحصرتم ) [ البقرة : 196 ] ، يعني حبستم ،
وأيضا : ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) [ الإسراء : 8 ] ، يعني محبسا ، ) الذين أحصروا ( حبسوا أنفسهم بالمدينة في طاعة الله عز وجل ، فهم أصحاب الصفة .
قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبيه ، عن هذيل بن حبيب ، عن مقاتل بن سليمان ، منهم
ابن مسعود ، وأبو هريرة ، والموالى أربعمائة ، رجل لا أموال لهم بالمدينة ، فإذا كان الليل
آووا إلى صفة المسجد ، فأمر الله عز وجل بالنفقة عليهم ، ) لا يستطيعون ضربا في الأرض ( ، يعني سيرا ، كقوله سبحانه : ( وإذا ضربتم في الأرض ) [ النساء :
101 ] ، يعني إذا سرتم في الأرض ، يعني التجارة ، ) يحسبهم الجاهل ( بأمرهم
وشأنهم ) أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم ( ، يعني بسيما الفقر عليهم لتركم
المسألة ، ) لا يسئلون الناس إلحافا ( فيلحفون في المسألة ، ) وما تنفقوا من خير ( ، يعني من مال ، كقوله عز وجل : ( إن ترك خيرا ) [ البقرة : 180 ] ، يعني
مالا للفقراء أصحاب الصفة ، ) فإن الله به عليم ) [ آية : 273 ] ، يعني بما أنفقتم
عليم .
تفسير سورة البقرة آية [ 274 ]
البقرة : ( 274 ) الذين ينفقون أموالهم . . . . .
) الذين ينفقون أموالهم ( في الصدقة ) باليل والنهار سرا وعلانية ( ،
نزلت في علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، لم يملك غير أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم
ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا ، وبدرهم علانية ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ما حملك على
ذلك ؟ ' ، قال : حملني أن أستوجب من الله الذي وعدني ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ألأن لك
ذلك ' ، قال : فأنزل الله عز وجل فيه : ( الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا(1/147)
صفحة رقم 148
وعلانية ( ) فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (
[ آية : 274 ] عند الموت .
تفسير سورة البقرة آية [ 275 ]
البقرة : ( 275 ) الذين يأكلون الربا . . . . .
) الذين يأكلون الربا ( استحلالا ، ) لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس ( في الدنيا ، وذلك علامة أكل الربا ، ) ذلك ( الذي نزل بهم يوم
القيامة ، ) بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ( ، فأكذبهم الله عز وجل ، فقال : ( وأحل
الله البيع وحرم الربا ( ، فكان الرجل إذا حل ماله فطلبه ، فيقول المطلوب : زدني في
الأجل ، وأزيدك على مالك ، فيفعلان ذلك ، فإذا قيل لهم : إن هذا ربا ، قالوا : سواء زدت
في أول بيع أو في آخره عند محل المال ، فهما سواء ، فذلك قوله سبحانه : ( إنما البيع
مثل الربا ( .
فقال الله عز وجل : ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ) ( ( فمن جاءه موعظة من
ربه ( ، يعني البيان في القراءة ، ) فانتهى ( عن الربا ، ) فله ما سلف ( ، يقول : ما أكل
من الربا قبل التحريم ، ) وأمره إلى الله ( بعد التحريم وبعد تركه ، إن شاء عصمه من
الربا ، وإن شاء لم يعصمه ، قال : ( ومن عاد ( فأكله استحلالا لقولهم : ( إنما البيع
مثل الربا ( ، يخوف أكله الربا في الدنيا أن يستحلوا أكله ، فقال : ( فأولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون ) [ آية : 275 ] لا يموتون .
تفسير سورة البقرة آية [ 276 ]
البقرة : ( 276 ) يمحق الله الربا . . . . .
ثم قال سبحانه : ( يمحق الله الربا ( ، فيضمحل وينقص ، ) ويربي الصدقات ( ،
يعني ويضاعف الصدقات ، ) والله لا يحب كل كفار أثيم ) [ آية : 276 ] بربه عز وجل .
تفسير سورة البقرة آية [ 277 ]
البقرة : ( 277 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة ( المكتوبة في مواقيتها ،(1/148)
صفحة رقم 149
) وآتوا الزكاة ( ، يعني وأعطوا الزكاة من أموالهم ، ) لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ آية : 277 ] .
تفسير سورة البقرة آية [ 278 - 281 ]
البقرة : ( 278 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ( ولا تعصوه ، ) وذروا ( ، يعني واتقوا ) ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ) [ آية : 278 ] نزلت في أربعة أخوة من ثقيف : مسعود ،
وحبيب ، وربيعة ، وعبد ياليل ، وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي ، كانوا يداينون
بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وكانوا يربون لثقيف ، فلما أظهر الله عز وجل
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الطائف ، اشترطت ثقيف أن كل ربا لهم على الناس فهو لهم ، وكل ربا
للناس عليهم فهو موضوع عنهم ، فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة ، فاختصموا إلى عتاب بن
أسيد بن أبي العيص بن أمية ، كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استعمله على مكة ، وقال له : ' أستعملك
على أهل الله ' .
وقالت بنو المغيرة : أجعلنا أشقى الناس بالربا وقد وضعه عن الناس ؟ فقالت ثقيف : إنا
صالحنا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن لنا ربانا ، فكتب عتاب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في المدينة بقصة الفريقين ،
فأنزل الله تبارك وتعالى بالمدينة ، ) يا أيها الذين آمنوا ( ، يعني ثقيفا ، ) اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ( الآية ؛ لأنه لم يبق غير رباهم ، ) إن كنتم مؤمنين ( ، فأقروا
بتحريمه ،
البقرة : ( 279 ) فإن لم تفعلوا . . . . .
) فإن لم تفعلوا ( وتقروا بتحريمه ) فأذنوا ( ، يعني فاستيقنوا ) بحرب من الله ورسوله ( ، يعني الكفر ، ) وإن تبتم ( من استحلال الربا وأقررتم بتحريمه ، ) فلكم
رءوس أموالكم ( التي أسلفتم لا تزدادوا ، ) لا تظلمون ( أحدا إذا لم تزدادوا على
أموالكم ، ) ولا تظلمون ) [ آية : 279 ] فتنقصون من رءوس أموالكم .
فبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه الآية إلى عتاب بن أسيد بمكة ، فأرسل عتاب إلى بني عمرو بن
عمير ، فقرأ عليهم الآية ، فقالوا : بل نتوب إلى الله عز وجل ، ونذر ما بقى من الربا ، فإنه
لا يدان لنا بحرب الله ورسوله ، فطلبوا رءوس أموالهم إلى بني المغيرة ، فاشتكوا العسرة ،(1/149)
صفحة رقم 150
فقال الله عز وجل :
البقرة : ( 280 ) وإن كان ذو . . . . .
) وإن كان ) المطلوب ) ذو عسرة ( من القوم ، يعني بني
المغيرة ) فنظرة إلى ميسرة ( ، يقول : فأجله إلى غناه ، كقوله سبحانه : ( أنظرني
إلى يوم يبعثون ) [ الأعراف : 14 ] ، يقول : أجلني ، ) وأن تصدقوا ( به كله على بني
المغيرة وهم معسرون ، فلا تأخذونه ، فهو ) خير لكم ( من أخذه ، ) إن كنتم
تعلمون ) [ آية : 280 ] ،
البقرة : ( 281 ) واتقوا يوما ترجعون . . . . .
) واتقوا يوما ( يخوفهم ) ترجعون فيه إلى الله ثم
توفى ) ، يعني توفى ) كل نفس ( بر وفاجر ثواب ) ما كسبت ( من خير وشر ،
)( وهم لا يظلمون ) [ آية : 281 ] في أعمالهم ، وهذه آخر آية نزلت من القرآن ، ثم توفي
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعدها بتسع ليال .
تفسير سورة البقرة آية [ 282 ]
البقرة : ( 282 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ( ، يعني اكتبوا
الدين والأجل ، ) وليكتب ( الكاتب بين البائع والمشتري ، ) بينكم كاتب بالعدل ( يعدل بينهما في كتابه ، فلا يزداد على المطلوب ، ولا ينقص من حق الطالب ،
)( ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ( الكتابة ، وذلك أن الكتاب كانوا قليلا على
عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، يقول : ( فليكتب ( الكاتب ، ) وليملل ( على الكاتب
) الذي عليه الحق ( ، يعني المطلوب ، ثم خوف المطلوب ، فقال عز وجل : ( وليتق(1/150)
صفحة رقم 151
الله ربه ولا يبخس منه شيئا ( ، يعني ولا ينقص المطلوب من الحق شيئا ، كقوله عز
وجل : ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) [ الأعراف : 85 ] .
) فإن كان الذي عليه الحق سفيها ( ، يعني جاهلا بالإملاء ، ) أو ضعيقا ( ، يعني
أو عاجزا أو به حمق ، ) أو لا يستطيع أن يمل هو ( ، لا يعقل الإملاء لعيه ، أو لخرسه ،
أو لسفهه ، ثم رجع إلى الذي له الحق ، فقال سبحانه : ( فليملل وليه ( ، يعني ولي
الحق ، فليملل هو ) بالعدل ( ، يعني بالحق ، ولا يزداد شيئا ولا ينقص ، كما قال
للمطلوب قبل ذلك ، وأمر كليهما بالعدل ، ثم قال سبحانه : ( واستشهدوا ( على
حقكم ) شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من
الشهداء ( ، يقول : ولا يشهد الرجل على حقه إلا مرضيا إن كان الشاهد رجلا أو
امرأة .
ثم قال : ( أن تضل ( المرأة ، يعني أن تنسى ) إحداهما ) ) الشهادة ( ( فتذكر
إحداهما ) ) الشهادة ( ( الأخرى ( ، يقول : تذكرها المرأة الأخرى التي حفظت
شهادتهما ، ثم قال سبحانه : ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ( ، يقول : إذا ما دعى الرجل
ليستشهد على أخيه ، فلا يأب إن كان فارغا ، ثم قال : ( ولا تسئموا ( ، يقول : ولا
تملوا ، وكل شيء في القرآن تسأموا ، يعني تملوا ، ) أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا ( ،
يعني قليل الحق وكثيره ، ) إلى أجله ( ؛ لأن الكتاب أحصى للأجل وأحفظ للمال ،
)( ذلكم ( ، يعني الكتاب ، ) أقسط ( ، يعني أعدل ) عند الله وأقوم ( ، يعني أصوب
) للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ( ، يعني وأجدر ألا تشكوا ، نظيرها : ( ذلك أدنى أن يأتوا
بالشهادة ) [ المائدة : 108 ] ، أي أجدر ، ونظيرها في الأحزاب : ( ذلك أدنى ( ، يعني
أجدر ) أن تقر أعينهن ) [ الأحزاب : 51 ] ، في الحق والأجل والشهادة إذا كان
مكتوبا .
ثم رخص في الاستثناء ، فقال : ( إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم ( ،
وليس فيها أجل ، ) فليس عليكم جناح ( ، يعني حرج ، ) ألا تكتبوها ( ، يعني التجارة
الحاضرة ، إذا كانت يدا بيد على كل حال ، ) وأشهدوا ( ، على حقكم ) إذا
تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد ( ، يقول : لا يعمد أحدكم إلى الكاتب والشاهد
فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة ولهما حاجة ، فيقول : اكتب لي ، فإن الله أمرك أن تكتب(1/151)
صفحة رقم 152
لي ، فيضاره بذلك ، وهو يجد غيره ، ويقول للشاهد وهو يجد غيره : اشهد لي على حقي ،
فإن الله قد أمرك أن تشهد على حقي ، وهو يجد غيره من يشهد له على حقه ، فيضاره
بذلك ، فأمر الله عز وجل أن يتركا لحاجتهما ويلتمس غيرهما ، ) وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ( ، يقول : وإن تضاروا الكاتب والشاهد وما نهيتم عنه ، فإنه إثم بكم ،
ثم خوفهم ، فقال سبحانه : ( واتقوا الله ( ولا تعصوه فيهما ، ) ويعلمكم الله
والله بكل شيء عليم ) [ آية : 282 ] من أعمالكم عليم .
تفسير سورة البقرة آية [ 283 ]
البقرة : ( 283 ) وإن كنتم على . . . . .
ثم قال : ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ( ، يقول : إذا لم
يكن الكاتب والصحيفة حاضرين ، فليرتهن الذي عليه الحق من المطلوب ، ) فإن أمن بعضكم بعضا ( في السفر ، فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق ، فلم
يرتهن منه لثقته به وحسن ظنه ، ) فليؤد ( ذلك ) الذي اؤتمن أمانته ( ، يقول : ليرد
على صاحب الحق حقه حين ائتمنه ولم يرتهن منه ، ثم خوفه الله عز وجل ، فقال :
( وليتق الله ربه ( ، يعني الذي عليه الحق .
ثم رجع إلى الشهود ، فقال : ( ولا تكتموا الشهادة ( عند الحاكم ، يقول : من
أشهد على حق ، فليشهد بها على وجهها كما كانت عند الحاكم ، فلا تكتموا الشهادة ،
قال : ( ومن يكتمها ( ولا يشهد بها عند الحاكم ، ) فإنه ءاثم قلبه والله بما
تعملون ( من كتمان الشهادة وإقامتها ) عليم ) [ آية : 283 ] .
تفسير سورة البقرة آية [ 284 ]
البقرة : ( 284 ) لله ما في . . . . .
) لله ما في السماوات وما في الأرض ( من الخلق عبيدة وفي ملكه ، يقضي فيهم ما
يريد ، ) وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ( ، يقول : إن تلنوا بألسنتكم ما في
قلوبكم من ولاية الكفار والنصيحة أو تسروه ، ) يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء(1/152)
صفحة رقم 153
ويعذب من يشاء والله على كل شيء ( من العذاب والمغفرة ) قدير ) [ آية :
284 ] .
فلما نزلت هذه الآية ، قال المسلمون : يا رسول الله ، إنا نحدث أنفسنا بالشرك
والمعصية ، أفيحاسبنا الله بها ولا نعملها ؟ فأنزل الله عز وجل في قولهم في التقديم : ( لا
يكلف الله نفسا إلا وسعها ( ، يقول : لا يكلفها من العمل إلا ما أطاقت ، ) لها ما
كسبت ( من الخير وما عملته وتكلمت به ، ) وعليها ما اكتسبت ) من الإثم ، فنسخت
هذه الآية قوله سبحانه : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ( ،
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذلك : ' إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم
يعملوه أو يتكلموا به ' .
تفسير سورة البقرة آية [ 285 ]
البقرة : ( 285 ) آمن الرسول بما . . . . .
قوله سبحانه : ( ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه ( ، يقول : صدق محمد بما أنزل
إليه من ربه من القرآن ، ثم قال : ( والمؤمنون كل ءامن بالله ( ، يقول : كل صدق بالله بأنه واحد لا شريك له ، ) و ( صدق ب ) وملائكته وكتبه ورسله ( ، يقول : لا يكفر
بأحد من رسله ، فكل هذه الرسل صدق بهم المؤمنون ، ) لا نفرق بين أحد من رسله ( كفعل أهل الكتاب ، آمنوا ببعض الكتب وببعض الرسل ، فذلك التفريق ، فأما
اليهود ، فآمنوا بموسى وبالتوراة ، وكفروا بالإنجيل والقرآن ، وأما النصارى ، فآمنوا
بالتوراة والإنجيل وبعيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكفروا بالإنجيل والقرآن ، وأما النصارى ، فآمنوا
بالتوراة والإنجيل وبعيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكفروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالقرآن ، ) وقالوا ( ، فقال
المؤمنون بعد ذلك : ( سمعنا ( قول ربنا في القرآن ، ) وأطعنا ( أمره ، ثم قال لهم
بعدما أقروا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والكتب : أن ) غفرانك ربنا ( ، يقول : قولوا : وأعطنا مغفرة
منك يا ربنا ، ) وإليك المصير ) [ آية : 285 ] ، يقول : المرجع إليك في الآخرة .
تفسير سورة البقرة آية [ 286 ](1/153)
صفحة رقم 154
البقرة : ( 286 ) لا يكلف الله . . . . .
ثم قال سبحانه : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ( ، يقول : لا يكلفها من العمل
إلا ما أطاقت ، ) لها ما كسبت ( من الخير وما عملت أو تظلمت به ، ) وعليها ما اكتسبت ( من الإثم ، ثم علم جبريل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ( ، يقول : إن جهلنا عن شيء أو أخطأنا ، فتركنا أمرك ، قال الله عز وجل :
ذلك لك ، ثم قال : ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا ( ، يعني عهدا ، ) كما حملته على الذين من قبلنا ( ما كان حرم عليهم من لحوم الإبل ، وشحوم الغنم ، ولحوم كل ذي
ظفر ، يقول : لا تفعل ذلك بأمتي بذنوبها كما فعلته ببني إسرائيل ، فجعلتهم قردة
وخنازير ، قال الله تعالى : ذلك لك .
ثم قال : ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا ( ، يقول : واعف عنا من
ذلك ، ) واغفر لنا ( ، يقول : وتجاوز عنا ، عن ذنوبنا من ذلك كله واغفر ، ) وارحمنا أنت مولانا ( ، يقول : أنت ولينا ، ) فانصرنا على القوم الكافرين ) [ آية : 286 ] ،
يعني كفار مكة وغيرها إلى يوم القيامة ، قال الله تعالى : ذلك لك ، فاستجاب الله عز
وجل له ، ذلك فيما سأل وشفعه في أمته ، وتجاوز لها عن الخطايا والنسيان وما
استكرهوا عليه ، فلما نزلت قرأهن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أمته ، وأعطاه الله عز وجل هذه
الخصال كلها في الآخرة ، ولم يعطها أحدا من الأمم الخالية .
قال :
حدثنا عبيد الله بن ثابت ، قال : حدثني الهذيل ، عن مقاتل ، قال : بلغني أن الله
عز وجل كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام ، فهو عنده على العرش ،
فأنزل منه لآيتين ختم بهما سورة البقرة : ( آمن الرسول ( إلى آخرها ، فمن قرأها
في بيته لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام ولياليهن .
قال :
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني أبي ، عن الهذيل أبي صالح ، عن مقاتل بن سليمان
في قوله : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ) [ البقرة : 245 ] ، قال :
فقال أبو الدحداح : يا رسول الله ، إن تصدقت بصدقة ، أفلى مثلها في الجنة ؟ قال :
' نعم ' ، قال : والصبية معي ؟ قال : ' نعم ' ، قال : وأم الدحداح معي ؟ قال : ' نعم ' ، قال :
وكان له حديقتان ، إحداهما تسمى الجنة ، والأخرى الجنينة ، وكانت الجنينة أفضل من(1/154)
صفحة رقم 155
الجنة ، قال : يا رسول الله ، أشهد بأني قد تصدقت بها على الفقراء ، أو بعتها من الله
ورسوله ، فمن يقبضها ؟ قال : وجاء إلى باب الحديقة ، فتحرج أن يدخلها ، إذ جعلها لله
ورسوله ، فصاح :
يا أم الدحداح هداك الهادي
إلى سبيل القصد والرشاد
بيني من الحائط الذي بالوادي
فقد مضى قرضا إلى التناد
أقرضته الله على اعتماد
طوعا بلا من ولا ارتداد
إلا رجاء الضعف في الميعاد
فودعي الحائط وداع العاد
واستيقني وفقت للرشاد
فارتحلي بالفضل والأولاد
إن التقى والبر خير زاد
قدمه المرء إلى المعاد
فأجابته : ربح بيعك ، والله لولا شرطك ما كان لك منه إلا مالك ، وأنشأت تقول :
مثلك أحيا ما لديه ونصح
وأشهر الحق إذا لحق وضح
قد منح الله عيالي ما صلح
بالعجوة السوداء والزهر البلح
والله أولى بالذي كان منح
مع واجب الحق ومع ما قد سرح
والعبد يسعى وله ما قد كدح
طول الليالي وعليه ما اجترح
قال : ثم خرجت وجعلت تنفض ما في أكمام الصبيان ، وتخرج ما في أفواههم ، ثم
خرجوا وسلموا الحديقة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' كم نخلة لأبي الدحداح
مدلا عذوقها في الجنة ، لو اجتمع على عذق منها أهل منى أن يقلوه ما أقلوه ' .(1/155)
صفحة رقم 156
سورة آل عمران
مدنية كلها ، وهي مائتا آية باتفاق
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة آل عمران آية من [ 1 - 3 ]
آل عمران : ( 1 - 2 ) الم
قال : حدثنا عبيد الله ، حدثني أبي ، عن الهذيل ، عن مقاتل ، أنه اجتمعت نصارى
نجران ، فمنهم السيد والعاقب ، فقالوا : نشهد أن عيسى هو الله ، فأنزل الله عزوجل
تكذيبا لقولهم : ( الم ) [ آية : 1 ] ، يخبره أنه ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) [ آية :
2 ] ، يعني الحي الذي لا يموت ، ) القيوم ( ، يعني القائم على كل نفس بما كسبت ،
آل عمران : ( 3 ) نزل عليك الكتاب . . . . .
) نزل عليك الكتاب ( يا محمد ) بالحق ( ، لم ينزله باطلا ، يعني القرآن ، ) مصدقا لما بين يديه ( من الكتاب ، يقول : محمد ، عليه السلام ، مصدق للكتب التي كانت قبله ،
)( وأنزل التوارة ( على موسى ، ) والإنجيل ) [ آية : 3 ] على عيسى .
[ آية 4 ]
آل عمران : ( 4 ) من قبل هدى . . . . .
) من قبل ( هذا القرآن ، ثم قال : ( التوراة والإنجيل ( هما ) هدى للناس ( ، يعني
لبنى إسرائيل من الضلالة .(1/156)
صفحة رقم 157
قال سبحانه : ( وأنزل الفرقان ( ، يعني القرآن بعد التوراة والإنجيل ، والفرقان يعني به
المخرج في الدين من الشبهة والضلالة ، فيه بيان كل شيء يكون إلى يوم القيامة ، نظيرها
في الأنبياء : ( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ) [ الأنبياء : 48 ] ، يعني المخرج من
الشبهات ، وفي البقرة : ( وبينات من الهدى والفرقان ) [ البقرة : 185 ] ، ثم قال
سبحانه : ( إن الذين كفروا بآيات الله ( ، يعني القرآن ، وهم اليهود كفروا بالقرآن ،
منهم : حيي ، وجدي ، وأبو ياسر بنو أخطب ، وكعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ،
وزيد بن التابوه وغيرهم ، ) لهم عذاب ( في الآخرة ) شديد والله عزيز ذو انتقام ) [ آية : 4 ] ، يعني عزيز في ملكه ، منيع شديد الإنتقام من أهل مكة ، هذا وعيد لمن خالف
أمره .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 5 - 6 ]
آل عمران : ( 5 ) إن الله لا . . . . .
) أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ) [ آية : 5 ] ، يعني شيئ من أهل
السماء ، ولا من أهل الأرض ، كل ذلك عنده ،
آل عمران : ( 6 ) هو الذي يصوركم . . . . .
) هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ( ، نزلت في عيسى إبن مريم ( صلى الله عليه وسلم ) ، خلقه من غير أب ، ذكرا وأنثى ، سويا وغير
سوى ، ) لا إله إلا هو العزيز ( في ملكه ، ) الحكيم ) [ آية : 6 ] في أمره ، نزلت هذه
الآية في قولهم ، وما قالوا من البهتان والزور لعيسى ( صلى الله عليه وسلم ) .
تفسير سورة آل عمران [ آية 7 ]
آل عمران : ( 7 ) هو الذي أنزل . . . . .
ثم قال سبحانه : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ( ، يعمل بهن ، وهن
الآيات التي في الأنعام قوله سبحانه : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ( إلى ثلاث آيات آخرهن : ( لعلكم تتقون (
[ الأنعام : 151 - 153 ] ، يقول : ( هن أم الكتاب ( ، يعني أصل الكتاب ؛ لأنهن في
اللوح المحفوظ مكتوبات ، وهن محرمات على الأمم كلها في كتابهم ، وإنما تسمين أم
الكتاب ؛ لأنهن مكتوبات في جميع الكتب التي أنزلها الله تبارك وتعالى على جميع
الأنبياء ، وليس من أهل دين إلا وهو يوصي بهن .(1/157)
صفحة رقم 158
ثم قال عزوجل : ( وأخر متشابهات ( ، ) الم ( ) المص ( ) المر ( ) الر ( ،
شبه على اليهود كم تملك هذه الأمة من السنين ، والمتشابهات هؤلاء الكلمات الأربع ،
)( فأما الذين في قلوبهم زيغ ( ، يعني ميل عن الهدى ، وهو الشك ، فهم اليهود ، ) فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة ( ، يعني إبتغاء الكفر ، ) وابتغاء تأويله ( ، يعني منتهى ما يكون
وكم يكون ، يريد بذلك الملك ، يقول الله عزوجل : ( وما يعلم تأويله إلا الله ( ، كم
يملكون من السنين ، يعني أمة محمد ، يملكون إلى يوم القيامة ، إلا أياما يبتليهم الله عز
وجل بالدجال .
ثم استأنف ، فقال : ( والراسخون في العلم ( ، يعني المتدارسون علم التوراة ، فهم عبد
الله بن سلام وأصحابه من مؤمني أهل التوراة ، ) يقولون ءامنا به كل من عند ربنا ( ، يعني قليله وكثيره من عند ربنا ، ) وما يذكرإلا أولوا الألباب ) [ آية : 7 ] ، فما يسمع إلا
أولو الألباب ، يعني من كان له لب وعقل ، يعني ابن سلام وأصحابه ، فيعلمون أن كل
شيء من هذا وغيره من عند الله .
تفسير سورة آل عمران من [ آية 8 - 9 ]
آل عمران : ( 8 ) ربنا لا تزغ . . . . .
قال ابن سلام وأصحابه : ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ( ، لا تمل قلوبنا ، يعني لا
تحول قلوبنا عن الهدى بعدما هديتنا كما أزغت اليهود عن الهدى ، ) وهب لنا من لدنك رحمة ( ، يعني من عندك رحمة ، ) إنك أنت الوهاب ) [ آية : 8 ] للرحمة ، ثم قال ابن
سلام وأصحابه :
آل عمران : ( 9 ) ربنا إنك جامع . . . . .
) ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ( ، يعني ليوم القيامة ،
)( إن الله لا يخلف الميعاد ) [ آية : 9 ] في البعث بأنك تجمع الناس في الآخرة .
تفسير سورة آل عمران [ آية 10 ]
آل عمران : ( 10 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إن الذين كفروا ( ، يعني اليهود خاصة ، نزلت في كعب بن الأشرف . ) لن تغني عنهم ( ، يعني لا ) أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار (
[ آية : 10 ] ، يعني اليهود .(1/158)
صفحة رقم 159
تفسير سورة آل عمران آية [ 11 ]
آل عمران : ( 11 ) كدأب آل فرعون . . . . .
) كدأب ءآل فرعون ( ، يعني كأشباه آل فرعون في التكذيب ، ) والذين من قبلهم ( من الأمم الخالية قبل آل فرعون والأمم الخالية قبل آل فرعون : قوم نوح ،
وعاد ، وثمود ، وقوم إبراهيم ، وقوم لوط ، وقوم شعيب ، ) كذبوا بآياتنا ( ، يعني بأنهم
كذبوا أيضا بالعذاب في الدنيا بأنه غير نازل بهم ، ) فأخذهم الله بذنوبهم ( ، يعني في
الدنيا ، فعاقبهم الله ، ) والله شديد العقاب ) [ آية : 11 ] ، يعني إذا عاقب .
تفسير سورة آل عمران من [ آية 12 - 13 ]
آل عمران : ( 12 ) قل للذين كفروا . . . . .
) قل للذين كفروا ( من أهل مكة يوم بدر ، ) ستغلبون وتحشرون إلى جهنم ( في الآخرة ، ) وبئس المهاد ) [ آية : 12 ] ، يقول : بئسما مهدوا لأنفسهم ،
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للكفار يوم بدر : ' إن الله غالبكم ، وسوف يحشركم إلى جهنم ' ، فقال
أبو جهل : يا ابن أبي كبشة ، هل هذا إلا مثل ما كنت تحدثنا به ،
آل عمران : ( 13 ) قد كان لكم . . . . .
وقوله سبحانه : ( قد
كان لكم ءاية في فئتين ( ، وذلك أن بني قينقاع من اليهود أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد قتال
بدر يوعدونه القتال كما قتل كفار مكة يوم بدر ، فأنزل الله عزوجل : ( قد كان لكم
ءاية ( معشر اليهود ، يعني عبرة ) في فئتين ( ) التقتا ( فئة المشركين وفئة المؤمنين
يوم بدر ، التقتا ) فئة تقاتل في سبيل الله ( ، وهو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه يوم بدر ،
)( وأخرى كافرة ( ، أبو جهل والمشركين ، ) يرونهم مثليهم ( ، رأت اليهود أن
الكفار مثل المؤمنين في الكثرة ، ) رأي العين ( ، وكان الكفار يومئذ سبعمائة
رجل ، عليهم أبو جهل ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ،
بين كل أربعة بعير ، ومعهم فرسان ، أحدهما مع أبي مرثد الغنوى ، والآخر مع المقداد بن
الأسود الكندي ، ومعهم ستة أدراع ، والمشركون ألف رجل ، سبعمائة دراع ، عليهم أبو
جهل ، وثلاثمائة حاسر ، ثم حبس الأخنس بن شريق ثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال(1/159)
صفحة رقم 160
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فبقى المشركون في سبعمائة رجل .
يقول الله تعالى : ( والله يؤيد بنصره ( ، يعني بنصره ) من يشاء ( ، فينصره الله عز
وجل القليل على الكثير ، ) إن في ذلك ( ، يعني يقوى في نصرهم ، نصر المؤمنين
وهم قليل ، وهزيمة الكفار وهم كثير ، ) لعبرة لأولي الأبصار ) [ آية : 13 ] ، يعني
الناظرين في أمر الله عز وجل وطاعته لعبرة وتفكرا لأولي الأبصار ، حين أظهر الله عز
وجل القليل على الكثير .
تفسير سورة آل عمران [ آية 14 ]
آل عمران : ( 14 ) زين للناس حب . . . . .
) زين للناس ( ، يعني الكفار ، ) حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة ( ، يعني المال الكثير ) من الذهب والفضة ( ، فأما الذهب ، فهو ألف
دينار ومائتا دينار ، والفضة ألف ومائتا مثقال ، ) والخيل المسومة ( ، يعني السائمة ،
وهي الراعية ، ) والأنعام ( ، وهي الإبل والبقر والغنم ، ) والحرث ذلك ( الذي
ذكر في هذه الآية ، ) متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) [ آية : 14 ] ،
يعني حسن المرجع ، وهي الجنة .
تفسير سورة آل عمران [ آية 15 ]
آل عمران : ( 15 ) قل أؤنبئكم بخير . . . . .
) قل ( للكفار : ( أؤنبئكم بخير من ذلكم ( ، يعني ما ذكره في هذه الآية
) للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار ( ، وذلك أن العيون تجري من
تحت البساتين ، ) خالدين فيها ( لا يموتون ، ) وأزواج مطهرة ( من الحيض والغائط(1/160)
صفحة رقم 161
والبول والبزاق والمخاط ومن القذر كله ، ) ورضوان من الله ( أكبر ، يعني رضى
الله عنهم ، ) والله بصير بالعباد ) [ آية : 15 ] ، يعني بأعمالهم .
تفسير سورة آل عمران [ آية 16 - 17 ]
آل عمران : ( 16 ) الذين يقولون ربنا . . . . .
ثم أخبر سبحانه عن فعلهم ، فقال : ( الذين يقولون ربنا إننا ءامنا فأغفر لنا
ذنوبنا وقنا عذاب النار ) [ آية : 16 ] ، ثم نعت أعمالهم ، فقال : الجنة هي ل
آل عمران : ( 17 ) الصابرين والصادقين والقانتين . . . . .
) الصابرين ( على أمر الله وفرائضه ، ) والصادقين ( بكتاب الله ورسله ،
)( والقانتين ( ، يعني المطيعين لله ، ) والمنافقين ( أموالهم في حق الله ،
)( والمستغفرين بالأسحار ) [ آية : 17 ] ، يقول : المصلين لله بالأسحار ، يعني المصلين
من آخر الليل .
تفسير سورة آل عمران [ آية 18 ]
آل عمران : ( 18 ) شهد الله أنه . . . . .
قوله سبحانه : ( شهد الله ( ، وذلك أن عبد الله بن سلام وأصحابه مؤمنى أهل
التوراة ، قالوا لرءوس اليهود : إن محمدا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ودينه الحق ، فاتبعوه ، فقالت
اليهود : ديننا أفضل من دينكم ، فقال الله تبارك وتعالى : ( شهد الله ( ) أنه لا اله إلا
هو الملائكة ( يشهدون بها ، ) وأولوا العلم ( بالتوارة ابن سلام وأصحابه يشهدون أنه
لا إله إلا هو ، ويشهدون أن الله عزوجل ) قائما بالقسط ( ، يعني قائم على كل شيء
بالعدل ، ) لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) [ آية : 18 ] في أمره .
تفسير سورة آل عمران [ آية 19 ]
آل عمران : ( 19 ) إن الدين عند . . . . .
شهدوا ) إن الدين ( ، يعني التوحيد ) عند الله الإسلام ( ، ثم قال : ( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ( ، يعني اليهود والنصارى في هذا الدين ، ) إلا من بعد ما جاءهم العلم ( ، يعني بيان أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ لأنهم كانوا مؤمنين بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) من قبل أن
يبعث رسولا ، فلما بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من ولد إسماعيل ، تفرقوا ) بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله ( ، يعني القرآن ، يعني اليهود ، ثم خوفهم ، ) فإن الله سريع الحساب (
[ آية : 19 ] ، كأنه قد جاء .(1/161)
صفحة رقم 162
تفسير سورة آل عمران [ آية 20 ]
آل عمران : ( 20 ) فإن حاجوك فقل . . . . .
) فإن حاجوك ( ، يعني اليهود خاصموك يا محمد في الدين ، ) فقل أسلمت وجهي لله ( ، يقول : أخلصت ديني لله ، ) ومن اتبعن ( على ديني فقد أخلص ، ) وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ( ، يعني أهل التوراة والإنجيل ، اليهود والنصارى ، ) ءأسلمتم ( ،
والاسلام اسم مشتق من إسم الله عز وجل ، أمر الله تعالى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ان يدعوهم إلى
الإسلام ، فقال : أسلمت ، يعني أخلصت ، يقول : ( فإن أسلموا ( ، يعني فإن أخلصوا له ،
يعني لله عزوجل بالتوحيد ، ) فقد اهتدوا ( من الضلالة ، ) وإن تولوا ( ، يقول
فإن أبوا أن يسلموا ، ) فإنما عليك البلاغ ( ، يعني بلاغ الرسالة ، ) والله بصير بالعباد ) [ آية : 20 ] بأعمال العباد .
تفسير سورة آل عمران [ آية 21 ]
آل عمران : ( 21 ) إن الذين يكفرون . . . . .
) إن الذين يكفرون بآيات الله ( ، يعني بالقرآن ، وهم ملوك بني إسرائيل من اليهود
ممن لا يقرأ الكتاب ، ) ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ( ، يعني بالعدل بين الناس من مؤمني بني إسرائيل من بعد موسى ،
)( فبشرهم ( يا محمد ) بعذاب أليم ) [ آية : 21 ] ، يعني وجيع ، يعني اليهود ؛ لأن
هؤلاء على دين أوائلهم الذين قتلوا الأنبياء والآمرين بالقسط .
تفسير سورة آل عمران [ آية 22 - 23 ]
آل عمران : ( 22 ) أولئك الذين حبطت . . . . .
ثم قال عزوجل : ( أولئك الذين ( فعلوا ذلك ) حبطت ( ، يعني بطلت
) أعمالهم ( ، فلا ثواب لهم ، ) في الدنياو ( لا في ) والآخرة ( ؛ لأن
أعمالهم كانت في غير طاعة الله عزوجل ، ) وما لهم من ناصرين ) [ آية : 22 ] ،
يعني من مانعين يمنعونهم من النار ،
آل عمران : ( 23 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ( ، يعني
أعطوا حظا من التوراة ، يعني اليهود : كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، ومالك بن(1/162)
صفحة رقم 163
الضيف ، ويحيى بن عمرو ، ونعمان بن اوفى ، وأبو ياسر بن أخطب ، وأبو نافع بن قيس ،
وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهم : ' أسلموا تهتدوا ، ولا تكفروا ' ، فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : نحن
أهدى وأحق بالهدى منكم ، ما أرسل الله نبيا بعد موسى ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لم تكذبون
وأنتم تعلمون أن الذي أقول حق ، فاخرجوا التوراة نتبع نحن وأنتم ما فيها ، وهي بينكم ،
فإني مكتوب فيها أني نبي ورسول ' ، فأبوا ذلك ، فأنزل الله عزوجل فيهم : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ( ) يدعون إلى كتاب الله ( ، يعني التوراة ، ) ليحكم بينهم ( ، يعني ليقضي بينهم ، ) ثم يتولى ( ، يعني يأبى ) فريق ( ، يعني طائفة ) منهم وهم معرضون ) [ آية : 23 ] .
تفسير سورة آل عمران [ آية 24 - 25 ]
آل عمران : ( 24 ) ذلك بأنهم قالوا . . . . .
) ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار ( بان العذاب واجب عليهم ، فيها تقديم لقولهم :
( إلا أياما معدودات ( ، يعني الأربعين يوما التي عبد آباؤهم فيها العجل ؛ لأنهم قالوا
إنهم أبناء الله وأحباؤه ، يقول : ( وغرهم في دينهم ( عفو الله ) ما كانوا يفترون (
[ آية : 24 ] ، يعني الذين كذبوا لقولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، خوفهم الله ، فقال :
آل عمران : ( 25 ) فكيف إذا جمعناهم . . . . .
) فكيف ( بهم ) إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ( ، يعني يوم القيامة لا شك فيه بأنه
كائن ، ) ووفيت ( ) كل نفس ( بر وفاجر ) ما كسبت ( من خير أو شر ،
)( وهم لا يظلمون ) [ آية : 25 ] في أعمالهم .
تفسير سورة آل عمران [ آية 26 - 27 ]
آل عمران : ( 26 ) قل اللهم مالك . . . . .
) قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سأل ربه عزوجل أن
يجعل له ملك فارس والروم في أمته ، فنزلت : ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك (
) من تشاء ( ، يعني محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته ، ) وتنزع الملك ممن تشاء ( ، يعني الروم
وفارس ، ) وتعز من تشاء ( محمدا وأمته ، ) وتذل من تشاء ( ، يعني الروم وفارس ،(1/163)
صفحة رقم 164
) بيدك الخير إنك على كل شيء ( من الملك والعز والذل ) قدير ) [ آية : 26 ] ،
آل عمران : ( 27 ) تولج الليل في . . . . .
) تولج
اليل في النهار وتولج النهار في اليل ( ، يعني ما تنقص في الليل داخل في النهار ، حتى
يصير الليل تسع ساعات والنهار خمس عشرة ساعة ، فذلك قوله سبحانه : ( يكور الليل على النهار ويكور ( ، يعني يسلط ) النهار على الليل ) [ الزمر : 5 ] ، وهما هكذا إلى
أن تقوم الساعة .
قوله سبحانه : ( وتخرج الحي من الميت ( ، فهو الناس والدواب والطير ، خلقهم
من نطفة وهي ميتة ، وخلق الطير من البيضة وهي ميتة ، ) وتخرج الميت من الحي ( ، يعني
يخرج الله عزوجل هذه النطفة من الحي ، وهم الناس والدواب والطير ، ) وترزق من تشاء بغير حساب ) [ آية : 27 ] ، يقول سبحانه : ليس فوقي ملك يحاسبني ، أنا الملك أعطى
من شئت بغير حساب ، لا أخاف من أحد يحاسبني .
تفسير سورة آل عمران [ آية 28 ]
آل عمران : ( 28 ) لا يتخذ المؤمنون . . . . .
قوله سبحانه : ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ( ، نزلت في
حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة ، فنهاهم الله عزوجل عن
ذلك ، ) ومن يفعل ذلك ( ، فيتخذونهم أولياء من غير قهر ، ) فليس من الله في
شيء ( ، ثم استثنى تعالى ، فقال : ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ( ، فيكون بين أظهرهم
فيرضيهم بلسانه من المخافة ، وفي قلبه غير ذلك ، ثم خوفهم ، فقال : ( ويحذركم الله نفسه ( ، يعني عقوبته في ولاية الكفار ، ) وإلى الله المصير ) [ آية : 28 ] في الأخرة ،
فيجزيكم بأعمالكم .
تفسير سورة آل عمران [ آية 29 - 31 ]
آل عمران : ( 29 ) قل إن تخفوا . . . . .
) قل ( لهم يا محمد : ( إن تخفوا ما في صدوركم ( ، يعني إن تسروا ما في قلوبكم(1/164)
صفحة رقم 165
من الولاية للكفار ، ) أو تبدوه ( ، يعني أو تظهروا ولايتهم ، يعني حاطب وأصحابه ،
)( يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء ( ، من المغفرة
والعذاب ) قدير ) [ آية : 29 ] ، نظيرها في آخر البقرة ، ثم خوفهم ورغبهم ، فقال :
آل عمران : ( 30 ) يوم تجد كل . . . . .
) يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ( ، يعجل لها كل خير عملته ، ولا يغادر
منه شيء ، ) وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ( ، يعني أجلا بعيدا
بين المشرق والمغرب ، ) ويحذركم الله نفسه ( ، يعني عقوبته في عمل السوء ، ) والله
رءوف بالعباد ) [ آية : 30 ] ، يعني بربهم ، حين لا يعجل عليهم بالعقوبة ،
آل عمران : ( 31 ) قل إن كنتم . . . . .
لما دعا النبي
( صلى الله عليه وسلم ) كعبا وأصحابه إلى الإسلام ، قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، ولنحن أشد حبا لله مما
تدعونا إليه ، فقال الله عزوجل لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ( على ديني ،
)( يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ( ما كان في الشرك ، ) والله غفور رحيم ) [ آية : 31 ] ذو تجاوز لما كان في الشرك ، رحيم بهم في الإسلام .
تفسير سورة آل عمران [ آية 32 ]
آل عمران : ( 32 ) قل أطيعوا الله . . . . .
) قل ( لليهود ) أطيعوا الله والرسول فإن تولوا ( ، يعني أعرضوا عن طاعتهما ،
)( فإن الله لا يحب الكافرين ) [ آية : 32 ] ، يعني اليهود .
تفسير سورة آل عمران [ آية 33 - 34 ]
آل عمران : ( 33 ) إن الله اصطفى . . . . .
) إن الله اصطفى ءادم ونوحا ( ، يعني اختار من الناس لرسالته آدم ونوحا ، ) وءال
إبراهيم ( ، يعني إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، ثم قال : ( وءال
عمران ( ، يعني موسى ، وهارون ، ذرية آل عمران اختارهم للنبوة والرسالة ) على العالمين ) [ آية : 33 ] ، يعني عالمي ذلك الزمان .
آل عمران : ( 34 ) ذرية بعضها من . . . . .
وهي ) ذرية بعضها من بعض ( ، وكل هؤلاء من ذرية آدم ، ثم من ذرية نوح ،
ثم من ذرية إبراهيم ، ) والله سميع عليم ) [ آية : 34 ] ، لقولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ،
ونحن أشد حبا لله ، عليهم بما قالوا ، يعني اليهود .
تفسير سورة آل عمران [ آية 35 ](1/165)
صفحة رقم 166
[ آية 35 ]
آل عمران : ( 35 ) إذ قالت امرأة . . . . .
) إذ قالت امرأت عمران ( بن ماثانا ، اسمها حنة بنت فاقوز ، وهي أم مريم ، وهي
حبلى ، لئن نجاني الله عزوجل ووضعت ما في بطني ، لاجعلنه محررا ، وبنو ماثان من
ملوك بني إسرائيل من نسل داود ، عليه السلام ، والمحرر الذي لا يعمل للدنيا ولا يتزوج ،
ويعمل للآخرة ، ويلزم المحراب ، فيعبد الله عزوجل فيه ، ولم يكن يحرر في ذلك الزمان
إلا الغلمان ، فقال زوجها : أرأيت إن كان الذي في بطنك أنثى ؟ والانثى عورة ، كيف
تصنعين ؟ فاهتمت لذلك ، فقالت حنة : ( رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ) [ آية : 35 ] لدعائهما ، العليم بنذرهما ، يعنى بالتقبل والاستجابة
لدعائهما .
تفسير سورة آل عمران [ آية 36 ]
آل عمران : ( 36 ) فلما وضعتها قالت . . . . .
) فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ( ،
والأنثى عورة ، فيها تقديم ، يقول الله تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( والله أعلم بما وضعت ( ، ثم
قالت حنة : ( وإني سميتها مريم ( ، وكذلك كان اسمها عند الله عزوجل ، ) وإني أعيذها بك وذريتها ( ، يعني عيسى ) من الشيطان الرجيم ) [ آية : 36 ] ، يعني الملعون ،
فاستجاب الله لها ، فلم يقربها ولا ذريتها شيطان ، وخشيت حنة ألا تقبل الأنثى محررة ،
فلفتها في خرق ووضعتها في بيت المقدس عند المحراب ، حيث يدرس القراء ، فتساهم
القوم عليها ؛ لأنها بنت إمامهم وسيدهم ، وهم الأحبار من ولد هارون أيهم يأخذها .
قال زكريا ، وهو رئيس الأحبار : أنا آخذها ، أنا أحقكم بها ؛ لأن أختها أم يحيى
عندي ، فقال القراء : وإن كان في القوم من هو أقرب إليها منك ؟ فلو تركت لأحق
الناس بها لتركت لأمها ، ولكنها محررة ، ولكن هلم نتساهم عليها ، من خرج سهمه فهو
أحق بها ، فاقترعوا ، فقال الله عزوجل لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وما كنت لديهم ( ، يعني عندهم
فتشهدهم ، ) إذ يلقون أقلامهم ( ، حين اقترعوا ثلاث مرات بأقلامهم التي كانوا
يكتبون بها الوحي أيهم يكفلها ؟ أيهم يضمها ؟ فقرعهم زكريا فقبضها ، ثم قال الله عز
وجل لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وما كنت لديهم إذ يختصمون ) [ آل عمران : 44 ] في مريم ،
فذلك قوله : ( وكفلها زكريا ( .(1/166)
صفحة رقم 167
تفسير سورة آل عمران من [ آية 37 - 38 ]
آل عمران : ( 37 - 38 ) فتقبلها ربها بقبول . . . . .
) فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا ( ، يقول : رباها تربية حسنة في عبادة
وطاعة لربها ، فبنى لها زكريا محرابا في بيت المقدس ، وجعل بابه وسطه ، لا يصعد إليه
أحد إلا بسلم ، واستأجر لها ظئرا ترضعها حتى تحركت ، فكان يغلق عليها الباب ومعه
المفتاح ، لا يأمن عليها أحدا ، يأتيها بطعامها ومصالحها ، وكانت إذا حاضت أخرجها
إلى منزله ، فتكون مع أختها أيليشفع بنت عمران ، وهي مريم بنت عمران ، أم يحيى ، فإذا
طهرت ردها إلى محراب بيت المقدس ، وكان زكريا يرى عندها العنب في الشتاء الشديد
البرد ، فيأتيها به جبريل ، عليه السلام من السماء ، ) وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال ( لها زكريا : ( يا مريم أنى لك هذا ( ، يعني من أين هذا
في غير حينه ؟ ) قالت ( هذا الرزق ) هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) [ آية : 37 ] .
فطمع عند ذلك زكريا في الولد ، فقال : إن الذي يأتي مريم بهذه الفاكهة في غير
حينها لقادر أن يصلح لي زوجتي ويهب لي منها ولدا ، فذلك قوله : ( هنالك ( ، يعني
عند ذلك ) دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ( ، يعني من عندك ، ) ذرية طيبة ( ، تقيا زكيا ، كقوله : ( واجعله ربي رضيا ) [ مريم : 6 ] ، ) إنك سميع الدعاء ) [ آية : 38 ] ، فاستجاب الله عزوجل ، وكانا قد دخلا في السن .
[ آية 39 ]
آل عمران : ( 39 ) فنادته الملائكة وهو . . . . .
) فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ( ، فبينما هو يصلي في المحراب ، حيث
يذبح القربان ، إذا برجل عليه بياض حياله ، وهو جبريل ، عليه السلام ، فقال : ( أن الله يبشرك بيحيى ( ، اشتق يحيى من أسماء الله عزوجل ، ) مصدقا بكلمة من الله ( ، يعني(1/167)
صفحة رقم 168
من الله عزوجل ، وكان يحيى أول من صدق بعيسى ، عليهما السلام ، وهو ابن ثلاث
سنين ، قوله الأول وهو ابن ستة أشهر ، فلما شهد يحيى ان عيسى من الله عزوجل ،
عجبت بنو إسرائيل لصغره ، فلما سمع زكريا شهادته ، قام إلى عيسى فضمه إليه ، وهو في
خرقة ، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين ، يحيى وعيسى ابنا خالة ، ثم قال الله
سبحانه : ( وسيدا ( ، يعني حليما ، ) وحصورا ( لا ماء له ، ) ونبيا من الصالحين (
[ آية : 39 ] ، والحصور الذي لا حاجة له في النساء .
تفسير سورة آل عمران [ آية 40 ]
آل عمران : ( 40 ) قال رب أنى . . . . .
فلما بشر زكريا بالولد ، قال لجبريل ، عليه السلام في المخاطبة : ( قال رب أنى ( ،
يعني من أين ) يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ( ، يقول ذلك تعجبا ؛ لأنه
كان قد يبس جلده على عظمه من الكبر ، ) قال ( جبريل ، عليه السلام ،
)( كذلك ( ، يعني هكذا قال ربك ، إنه يكون لك ولد ، ) الله يفعل ما يشاء ) [ آية :
40 ] ، أن يجعل ولدا من الكبير والعاقر ؛ لقوله : ( وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ( .
تفسير سورة آل عمران [ آية 41 ]
آل عمران : ( 41 ) قال رب اجعل . . . . .
) قال رب اجعل لي ءاية ( ، يعني علما للحبل ، ) قال ءايتك ( إذا جامعتها على
طهر فحبلت ، فإنك تصبح لا تستنكر من نفسك خرسا ولا سقما ، ولكن تصبح لا
تطيق الكلام ، ) ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ( ، يعني إلا إشارة يومىء
بيده ، أو برأسه من غير مرض ، ولم يحبس لسانه عن ذكر الله عزوجل ، ولا عن الصلاة ،
فكذلك قوله سبحانه : ( واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ) [ آية : 41 ] ،
يقول : صل بالغداة والعشى ، فأتى امرأته على طهرها فحملت ، وكان آية الحبل أنه وضع
يده على صدرها ، فحملت فاستقر الحمل في رحمها ، فحبلت بيحيى ، فأصبح لا(1/168)
صفحة رقم 169
يستطيع الكلام ، فعرف أن امرأته قد حبلت ، فولدت يحيى ، عليه السلام ، فلم يعص الله
قط .
تفسير سورة آل عمران من [ آية 42 - 43 ]
آل عمران : ( 42 ) وإذ قالت الملائكة . . . . .
) وإذ قالت الملائكة ( ، وهو جبريل ، عليه السلام ، وحده : ( يامريم ( ، وهي في
المحراب ، ) إن الله اصطفاك ( ، يعني اختارك ، ) وطهرك ( من الفاحشة والألم ،
)( واصطفاك ( ، يعني واختارك ، ) على نساء العالمين ) [ آية : 42 ] بالولد من غير
بشر ،
آل عمران : ( 43 ) يا مريم اقنتي . . . . .
) يامريم اقنتي لربك ( ، يعني لربك ، ) واسجدي واركعي مع الراكعين ) [ آية :
43 ] ، يعني مع المصلين في بيت المقدس .
تفسير سورة آل عمران [ آية 44 ]
آل عمران : ( 44 ) ذلك من أنباء . . . . .
) ذلك ( أن الذي ذكر في هؤلاء الآيات ، ) من أنباء الغيب ( ، يعني حديثا من
الغيب لم تشهده يا محمد ، فذلك قوله : ( نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم ( في القرعة ، ) أيهم يكفل مريم ( ، يعني يضم مريم إلى نفسه ، ) وما كنت لديهم ( يا محمد ، ) إذ يختصمون ) [ آية : 44 ] في مريم ، يعني القراء أيهم
يكفلها .
تفسير سورة آل عمران [ آية 45 - 46 ]
آل عمران : ( 45 ) إذ قالت الملائكة . . . . .
) إذ قالت الملائكة يامريم ( ، وهو جبريل وحده ، عليه السلام ، ) إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها ( ، يعني مكينا عند الله عزوجل ، ) في الدنيا والآخرة ( فيها تقديم ، ) ومن المقربين ) [ آية : 45 ] عند الله في الآخرة ،
آل عمران : ( 46 ) ويكلم الناس في . . . . .
) ويكلم الناس في المهد ( ، يعني حجر أمه في الخرق طفلا ، ) و ( يكلمهم
) وكهلا ( ، يعني إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء ، ) ومن الصالحين ) [ آية :(1/169)
صفحة رقم 170
تفسير سورة آل عمران من [ آية 47 - 48 ]
آل عمران : ( 47 ) قالت رب أنى . . . . .
) قالت ربي أنى ( ، يعني من أين ) يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ( ، يعني الزوج ،
)( قال كذلك الله يخلق ما يشاء ( ، ويخلق من يشاء ، فشاء أن يخلق ولدا من غير بشر ،
لقولها : ( ولم يمسسني بشر ( ، ) إذا قضى أمرا ( كان في علمه أن يكون عيسى في
بطن مريم من غير بشر ، ) فإنما يقول له كن فيكون ) [ آية : 47 ] لا يثنى ،
آل عمران : ( 48 ) ويعلمه الكتاب والحكمة . . . . .
) ويعلمه الكتاب ( ، يعني خط الكتاب بيده بعدما بلغ أشده ، وهو ابن ثماني عشرة سنة ، والمرأة
بعدما تبلغ الحيض ، ) والحكمة ( ، يعني الحلال والحرام والسنة ، ) والتوراة والإنجيل ) [ آية : 48 ] .
تفسير سورة آل عمران [ آية 49 ]
آل عمران : ( 49 ) ورسولا إلى بني . . . . .
ويجعله ) ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم ( ، يعني بعلامة ، ثم
بين الآية ، ) أني أخلق لكم ( ، يعني أجعل لكم ) من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا ( ، فخلق الخفاش ) بإذن الله ( ؛ لأنه أشد الخلق ، إنما هو لحم وشيء
يطير بغير ريش فطار بإذن الله ، ) وأبرئ الأكمه ( الذي ولدته أمه أعمى ، الذي لم
ير النور قط ، فيرد الله بصره ، ) و ( أبرىء ) والأبرص ( ، فيبرأ بإذن الله ، ) وأحي
الموتى بإذن الله ( ، قتعيش ، ففعل ذلك وهم ينظرون ، وكان صنبعة هذا آية من الله عز
وجل بأنه نبي ورسول إلى بني إسرائيل ، فأحيا سام بن نوح بن لمك من الموت بإذن الله ،
فقالوا له : إن هذا سحر ، فأرنا آية نعلم أنك صادق .
وقال عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) : أرأيتم إن أنا أخبرتكم ) وأنبئكم بما تأكلون ( في بيوتكم من
الطعام ، فيها تقديم ) وما تدخرون في بيوتكم ( ، يعني وما ترفعون في غد ، تعلمون
أني صادق ؟ قالوا : نعم ، قال عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) : فلان أكلت كذا وكذا . وشربت كذا وكذا ،
وأنت يا فلان أكلت كذا ، وكذا ، وأنت يا فلان ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، يقول(1/170)
صفحة رقم 171
الله عز وجل : ( إن في ذلك لآية ( ، يعني لعلامة ، ) لكم ( فيما أخبرتكم به ) إن كنتم مؤمنين ) [ آية : 49 ] ، يعني مصدقين بعيسى بأنه رسول .
[ تفسير سورة آل عمران آية 50 ]
آل عمران : ( 50 ) ومصدقا لما بين . . . . .
) ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (
) ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ( من
اللحوم ، والشحوم ، وكل ذي ظفر ، والسمك ، فهذا البعض الذي أحل لهم غير السبت ،
فإنهم يقومون عليه فوضع عنهم في الإنجيل ذلك ، ) وجئتكم بآية من ربكم (
بعلامة من ربكم ، يعني العجائب التي كان يصنعها الله ، ) فاتقوا الله ( ، يعني فوحدوا
الله ، ) وأطيعون ) [ آية : 50 ] فيما آمركم به من النصيحة ، فإنه لا شريك له .
[ تفسير سورة آل عمران من آية [ 51 - 52 ]
آل عمران : ( 51 ) إن الله ربي . . . . .
وقال لهم عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله ربي وربكم فاعبدوه ( ، يعني فوحدوه ، ) هذا صراط مستقيم ) [ آية : 51 ] ، يعني هذا التوحيد دين مستقيم ، وهو الإسلام ، فكفروا ،
آل عمران : ( 52 ) فلما أحس عيسى . . . . .
) فلما أحس ( ، يعني فلما رأى ) عيسى منهم الكفر ( ، يعني من بني إسرائيل ،
كقوله عزوجل : ( هل تحس منهم من أحد ) [ مريم : 98 ] ، يعني هل ترى منهم
من ؟ فمر عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) على الحواريين ، يعني على القصارين غسالى الثياب ، ) قال من أنصاري إلى الله ( ، يعني من يتبعني مع الله ، كقوله : ( فأرسل إلى هارون (
[ الشعراء : 13 ] ، يعني معي هارون ، وكقوله سبحانه : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) [ النساء : 2 ] ، يعني مع أموالكم ، ) قال الحواريون نحن أنصار الله ءامنا
بالله ( ، يعني بتوحيد الله ، ) وأشهد ( يا عيسى ) بأنا مسلمون ) [ آية : 52 ] ،
يعني مخلصين بتوحيد الله عزوجل .
[ تفسير سورة آل عمران آية 53 ]
آل عمران : ( 53 ) ربنا آمنا بما . . . . .
ثم قالوا : ( ربنا ءامنا بما أنزلت ( ، يعني صدقنا بالإنجيل الذي أنزلت على عيسى ،
)( واتبعنا الرسول ( ، يعني عيسى على دينه ، ) فاكتبنا مع الشاهدين ) [ آية :
53 ] ، يقول : فاجعلنا مع الصادقين ، نظيرها في المائدة ، هذا قول الحواريين(1/171)
صفحة رقم 172
[ تفسير سورة آل عمران من آية 54 - 55 ]
آل عمران : ( 54 ) ومكروا ومكر الله . . . . .
) ومكروا ومكر الله ( ، وذلك أن كفار بني إسرائيل عمدوا إلى رجل ،
فجعلوه رقيبا على عيسى ليقتلوه ، فجعل الله شبه عيسى على الرقيب ، فأخذوا الرقيب
فقتلوه وصلبوه ، وظنوا أنه عيسى ، ورفع الله عزوجل عيسى إلى سماء الدنيا من بيت
المقدس ليلة القدر في رمضان ، فذلك قوله سبحانه : ( ومكروا ( بعيسى ليقتلوه ،
يعني اليهود ، ) ومكر الله ( بهم حين قتل رقيبهم وصاحبهم ، ) والله خير الماكرين ) [ آية : 54 ] ، يعني أفضل مكرا منهم .
آل عمران : ( 55 ) إذ قال الله . . . . .
) إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ( ، فيها تقديم ، يقول : رافعك إلى من
الدنيا ، ومتوفيك حين تنزل من السماء على عهد الدجال ، يقول : إني رافعك إلي الآن
ومتوفيك بعد قتل الدجال ، يقول : رافعك إلي في السماء ، ) ومطهرك من الذين كفروا ( ، يعني اليهود وغيرهم ، ) وجاعل الذين اتبعوك ( على دينك يا عيسى ، وهو
الإسلام ، ) فوق الذين كفروا ( ، يعني اليهود وغيرهم ، وأهل دين عيسى هم المسلمون
فوق الأديان كلها ) إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم ( في الآخرة ) فأحكم ( ،
يعني فأقضى ) بينكم ( ، يعني بين المسلمين وأهل الاديان ) فيما كنتم فيه ( من
الدين ) تختلفون ) [ آية : 55 ] ، وهو الإسلام ، فأسلمت طائفة وكفرت طائفة .
[ تفسير سورة آل عمران من آية 56 - 58 ]
آل عمران : ( 56 ) فأما الذين كفروا . . . . .
ثم أخبر الله عزوجل عن منزلة الفريقين في الآخرة ، فقال : ( فأما الذين كفروا ( ،
يعني كفار أهل الكتاب ، ) فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا ( ، يعني القتل أو الجزية ،
)( و ( في ) والآخرة ( عذاب النار ، ) وما لهم من ناصرين ) [ آية : 56 ] ، يعني من
مانعين يمنعونهم من النار ،
آل عمران : ( 57 ) وأما الذين آمنوا . . . . .
) وأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات ( ، يعني أمة محمد
( صلى الله عليه وسلم ) ، ) فيوفيهم أجورهم ( ، يعني فيوفوا أجورهم في الآخرة ، ) والله لا يحب الظالمين(1/172)
صفحة رقم 173
آل عمران : ( 58 ) ذلك نتلوه عليك . . . . .
) ذلك ( الذي ذكره الله عزوجل في هذه الآيات ) نتلوه عليك ( يا محمد
) من الآيات ( ، يعني من البيان ) والذكر الحكيم ) [ آية : 58 ] ، يعني المحكم من
الباطل .
[ تفسير سورة آل عمران من آية 59 - 60 ]
آل عمران : ( 59 ) إن مثل عيسى . . . . .
) إن مثل عيسى عند الله ( ، وذلك أن وفد نصارى نجران قدموا على النبي ( صلى الله عليه وسلم )
بالمدينة ، منهم السيد ، والعاقب ، والأسقف ، والرأس ، والحارث ، وقيس ، وابنيه ، وخالد ،
خليد ، وعمرو ، فقال السيد والعاقب ، وهما سيدا اهل نجران : يا محمد ، لم تشتم
صاحبنا وتعيبه ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ما صاحبكم ؟ ' ، قالوا : عيسى ابن مريم العذراء البتول ،
قال أبو محمد بن ثابت ، قال : العذراء البتول ، المنقطعة إلى الله عزوجل ، لقوله عزوجل :
( وتبتل إليه تبتيلا ) [ المزمل : 8 ] .
قالوا : ( فأرنا فيما خلق الله عبدا مثله يحيى الموتى ، ويبرىء الأكمه والأبرص ، ويخلق من
الطين طيرا ، ولم يقولوا : بإذن الله ، وكل آدمي له أب ، وعيسى لا أب له ، فتابعنا في أن
عيسى ابن الله ونتابعك ، فإما أن تجعل عيسى ولدا وإما إلها ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' معاذ الله
أن يكون له ولد ، أو يكون معه إله ' ، فقالا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أنت أحمد ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ' أنا
أحمد ، وأنا محمد ' ، فقالا : فيم أحمد ؟ قال : ' أحمد الناس عن الشرك ' ، قالا : فإنا نسألك
عن أشياء ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لا أخبركم حتى تسلموا فتتبعوني ' ، قالا : أسلمنا قبلك ، قال
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إنكما لم تسلما ، حجزكما عن الإسلام ثلاثة : أكلكما الخنزير ، وشربكما
الخمر ، وقولكما : إن لله عزوجل ولدا ' .
فغضبا عند ذلك ، فقالا : من أبو عيسى ؟ ائتنا له بمثل ، فانزل الله عزوجل : ( إن
مثل عيسى عند الله ( ) كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) [ آية : 59 ] ،
آل عمران : ( 60 ) الحق من ربك . . . . .
هذا الذي قال الله في عيسى هو ) الحق من ربك فلا تكن من الممترين ) [ آية : 60 ] يا
محمد ، يعني من الشاكين في عيسى أنه مثله كمثل آدم ، فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ليس كما
تقول ، ما هذا له بمثل .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 61 - 63 ](1/173)
صفحة رقم 174
آل عمران : ( 61 ) فمن حاجك فيه . . . . .
فأنزل الله عز وجل : ( فمن حاجك فيه ( ، يعني فمن خاصمك في عيسى ) من بعد ما جاءك من العلم ( ، يعني من البيان من أمر عيسى ، يعني ما ذكر في هذه الآيات ،
)( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل ( ، يعني
تخلص الدعاء إلى الله عز وجل ، ) فنجعل لعنت الله على الكاذبين ) [ آية : 61 ] ،
آل عمران : ( 62 ) إن هذا لهو . . . . .
) إن هذا ( الذي ذكرته في عيسى ، ) لهو القصص الحق ( ، والذي تقولون هو
الباطل ، ) وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز ( في ملكه ) الحكيم ) [ آية : 62 ]
في أمره ، حكم عيسى في بطن أمه .
آل عمران : ( 63 ) فإن تولوا فإن . . . . .
) فإن تولوا ( ، يعني فإن أبوا إلا أن يلاعنوا ، ) فإن الله عليم بالمفسدين ) [ آية : 63 ] في الأرض بالمعاصي .
تفسير سورة آل عمران آية [ 64 ]
آل عمران : ( 64 ) قل يا أهل . . . . .
قال الله عز وجل : ( قل ( لهم يا محمد : ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ( ،
يعني كلمة العدل ، وهي الإخلاص ، ) بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ( من خلقه ، ) ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ( ؛ لأنهم اتخذوا عيسى
ربا ، ) فإن تولوا ( ، يعني فإن أبوا التوحيد ، ) فقولوا ( لهم أنتم : ( اشهدوا بأنا مسلمون ) [ آية : 64 ] ، يعني مخلصين بالتوحيد ، فقال العاقب : ما نصنع بملاعنته شيئا ،
فوالله لئن كان كاذبا ما ملاعنته بشئ ، ولئن كان صادقا لا يأتي علينا الحول حتى
يهلك الله الكاذبين .
قالوا : يا محمد ، نصالحك على ألا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا ، على أن نؤدي
إليك ألف حلة في صفر ، وألف حلة في رجب ، وعلى ثلاثين درعا من حديد عادية ،
فصالحهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ذلك ، فقال : ' والذي نفس محمد بيده ، لولا عنوني ما حال
الحول ، ويحضرني منهم أحد ، ولأهلك الله الكاذبين ' ، قال عمر ، رضى الله عنه : لو
لاعنتهم بيد من كنت تأخذ ، قال : ' آخذ بيد على ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، عليهم
السلام ، وحفصة ، وعائشة ، رحمهما الله .(1/174)
صفحة رقم 175
تفسير سورة آل عمران آية [ 65 - 67 ]
آل عمران : ( 65 ) يا أهل الكتاب . . . . .
) يا أهل الكتاب لم تحاجون ( ، يعني تخاصمون ) في إبراهيم ( ، وذلك أن
رؤساء اليهود : كعب بن الأشرف ، وأبا ياسر ، وأبا الحقيق ، وزيد بن التابوه ، ونصارى
نجران ، يقولون : إبراهيم أولى بنا ، والأنبياء منا كانوا على ديننا ، وما تريد إلا أن نتخذك
ربا كما اتخذت النصارى عيسى ربا ، وقالت النصارى : ما تريد بأمرك إلا أن نتخذك ربا
كما اتخذت اليهود عزيرا ربا ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' معاذ الله من ذلك ، ولكني أدعوكم إلى
أن تعبدوا الله جميعا ، ولا تشركوا به شيئا ' ، فأنزل الله عز وجل : ( يا أهل الكتاب لم تحاجون ( ، يعني تخاصمون ) في إبراهيم ( ، قتزعمون أنه كان على دينكم ، ) وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ( ، أي بعد موت إبراهيم ، ) أفلا تعقلون (
[ آية : 65 ] .
آل عمران : ( 66 ) ها أنتم هؤلاء . . . . .
) هأنتم هؤلاء حاججتم ( ، يعني خاصمتم ) فيما لكم به علم ( مما جاء في
التوراة والإنجيل ، ) فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ( بما ليس في التوراة والإنجيل ،
)( والله يعلم ( أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ، ) وأنتم لا تعلمون ) [ آية : 66 ]
أنه ما كان يهوديا ولا نصرانيا ، ثم أخبر الله عز وجل ، فقال :
آل عمران : ( 67 ) ما كان إبراهيم . . . . .
) ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا ( ، يعني حاجا ) مسلما ( ، يعني مخلصا ، ) وما كان من المشركين ) [ آية : 67 ] ، يعني من اليهود ولا من النصارى .
تفسير سورة آل عمران آية [ 68 - 69 ]
ثم قال :
آل عمران : ( 68 ) إن أولى الناس . . . . .
) إن أولى الناس بإبراهيم ( لقولهم : إنه كان على دينهم ، ) للذين اتبعوه (
على دينه واقتدوا به ، ) وهذا النبي والذين آمنوا ( ، يقول : من اتبع محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) على
دينه ، ثم قال الله عز وجل : ( والله ولي المؤمنين ) [ آية : 68 ] الذين يتبعونهما على
دينهما ،
آل عمران : ( 69 ) ودت طائفة من . . . . .
) ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ( ، يعني يستنزلونكم عن دينكم(1/175)
صفحة رقم 176
الإسلام ، ) وما يضلون ( ، يعني وما يستنزلون ) إلا أنفسهم وما يشعرون ) [ آية :
69 ] ، إنما يضلون أنفسهم ، فنزلت في عمار بن ياسر ، وحذيفة بن اليمان ، وذلك أن
اليهود جادلوهما ودعوهما إلى دينهم ، وقالوا : إن ديننا أفضل من دينكم ، ونحن أهدى
منكم سبيلا ، فنزلت : ( ودت طائفة من أهل الكتاب ( إلى آخر الآية .
تفسير سورة آل عمران آية [ 70 - 74 ]
آل عمران : ( 70 ) يا أهل الكتاب . . . . .
ونزلت : ( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ( ، يعني القرآن ) وأنتم تشهدون ) [ آية : 70 ] أن محمدا رسول الله ، ونعته معكم في النوراة ،
آل عمران : ( 71 ) يا أهل الكتاب . . . . .
) يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق ( ، يعني لم تخلطون الحق ) بالباطل وتكتمون الحق ( ، وذلك أن اليهود
أقروا ببعض أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكتموا بعضا ) وأنتم تعلمون ) [ آية : 71 ] أن محمدا نبى
ورسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
آل عمران : ( 72 ) وقالت طائفة من . . . . .
) وقالت طائفة من أهل الكتاب ( ، كعب بن الاشرف ، ومالك بن الضيف
اليهوديان لسلفة اليهود ) ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا ( ، يعني صدقوا بالقرآن ،
)( وجه النهار واكفروا ءاخره ( أول النهار ، يعني صلاة الغداة ، وإذا كان العشى قولوا
لهم : نظرنا في التوراة ، فإذا النعت الذي في التوراة ليس بنعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذلك قوله
سبحانه : ( واكفروا ءاخره ( ، يعني صلاة العصر ، فلبسوا عليهم دينهم لعلهم يشكون في
دينهم ، فذلك قوله : ( لعلهم يرجعون ( ، [ آية : 72 ] ، يعني لكي يرجعوا عن دينهم إلى دينكم .
وقالا لسفلة اليهود :
آل عمران : ( 73 ) ولا تؤمنوا إلا . . . . .
) وَلا تُؤْمِنٌوا إلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُم ( ، فإنه لن يؤتى أحد من الناس
مثل ما أوتيتم من الفضل والتوراة والمن والسلوى والغمام والحجر ، اثبتوا على دينكم ،
وقالوا لهم : لا تخبروهم بأمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيحاجوكم ، يعني فيخاصموكم عند ربكم ، قالوا
ذلك حسداً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأن تكون النبوة في غيرهم ، فأنزل الله عز وجل : ( قُل إِنَّ(1/176)
صفحة رقم 177
الهدى هدى الله أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل ( يا محمد ) إن
الفضل ( ، يعني الإسلام والنبوة ) بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع ( لذلك ) عليم (
[ آية : 73 ] بمن يؤتيه الفضل ،
آل عمران : ( 74 ) يختص برحمته من . . . . .
) يختص برحمته ( ، يعني بتوبته ، ) من يشاء ( ،
فاختص الله عزوجل به المؤمنين ، ) والله ذو الفضل ( ، يعني الإسلام ) العظيم (
[ آية : 74 ] على المؤمنين .
تفسير سورة آل عمران آية [ 75 - 76 ]
آل عمران : ( 75 - 76 ) ومن أهل الكتاب . . . . .
) ومن أهل الكتاب ( ، يعني أهل التوراة ، ) من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ( ، يعني عبد الله بن سلام وأصحابه ، ) ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ( ، يعني
كفار اليهود ، يعني كعب بن الأشرف وأصحابه ، يقول : منهم من يؤدي الأمانة ولو
كثرت ، ومنهم من لا يؤديها ولو ائتمنته على دينار لا يؤده إليك ، ) إلا ما دمت عليه
قائما ( عند راسه مواظبا عليه تطالبه بحقك ، ) ذلك ( استحلالا للامانة ، ) بأنهم قالوا
ليس علينا في الأميين ( ، يعني في العرب ) سبيل ( ، وذلك أن المسلمين باعوا اليهود
في الجاهلية ، فلما تقاصهم المسلمون في الإسلام ، قالوا : لا حرج علينا في حبس
أموالهم ؛ لانهم ليسوا على ديننا يزعمون أن ذلك حلال لهم في التوراة ، فذلك قوله عز
وجل : ( ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) [ آية : 75 ] أنهم كذبة ، وأن في
التوراة تحريم الدماء والأموال الا بحقها ، ولكن أمرهم بالإسلام وأداء الأمانة وأخذ على
ذلك ميثاقهم ، فذلك قوله سبحانه : ( بلى من أوفى بعهده ( الذي أخذه الله عليه في
التوراة وأدى الأمانة ، ) واتقى ( محارمه ، ) فإن الله يحب المتقين ) [ لآية : 76 ] ، يقول :
الذين يتقون استحلال المحارم .
تفسير سورة آل عمران آية [ 77 - 78 ](1/177)
صفحة رقم 178
آل عمران : ( 77 ) إن الذين يشترون . . . . .
) إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ( ، يعني عرضا من الدنيا يسيرا ، يعني
رءوس اليهود ، ) أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ( ، يعني لا نصيب لهم في الآخرة ،
)( ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ( بعد العرض والحساب ، ) ولهم عذاب أليم ) [ آية : 77 ] ، يعني وجيع .
آل عمران : ( 78 ) وإن منهم لفريقا . . . . .
) وإن منهم ( ، يعني من اليهود ) لفريقا ( ، يعني طائفة ، منهم : كعب بن
الأشرف ، ومالك بن الضيف ، وأبو ياسر ، وجدى بن أخطب ، وشعبة بن عمرو ،
يلوون ألسنتهم بالكتاب ( ، يعني باللي التحريف بالألسن في أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( لتحسبوه من الكتاب ( ، يعني التوراة ، يقول الله عزوجل : ( وما هو من
الكتاب ( كتبوا يعني في من التوراة غير نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومحوا نعته ، ) ويقولون
هو ( هذا النعت ) من عند الله وما هو من عند الله ( ، ولكنهم كتبوه ، ) ويقولون على
الله الكذب وهم يعلمون ) [ آية : 78 ] أنهم كذبة ، وليس ذلك نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
تفسير سورة آل عمران آية [ 79 - 81 ]
آل عمران : ( 79 ) ما كان لبشر . . . . .
) ما كان لبشر ( ، يعني عيسى ابن مريم ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) أن يؤتيه الله ( ، يعني ان يعطيه
الله ) الكتاب ( ، يعني التوراة والإنجيل ، ) والحكم ( ، يعني الفهم ، ) والنبوة ثم
يقول للناس ( ، يعني بني إسرائيل ، ) كونوا عبادا لي من دون الله ولكن ( ، يقول لهم :
( كونوا ربانيين ( ، يعني متعبدين لله عزوجل ، ) بما كنتم تعلمون الكتاب ( ، يعني التوراة والإنجيل ، ) وبما كنتم تدرسون ) [ آية : 79 ] ، يعني تقرءون .
آل عمران : ( 80 ) ولا يأمركم أن . . . . .
) ولا يأمركم ان تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ( ، يعني عيسى ، وعزير ، ولو أمركم
بذلك لكان كفرا ، فذلك قوله : ( أيأمركم بالكفر ( ، يعني بعبادة الملائكة والنبيين ،
)( بعد إذ أنتم مسلمون ) [ أية : 80 ] ، يعني مخلصين له بالتوحيد ، فقال : الإصبغ بن زيد(1/178)
صفحة رقم 179
وكردم بن قيس ، أيامرنا بالكفر بعد الإيمان ، فأنزل الله عزوجل :
آل عمران : ( 81 ) وإذ أخذ الله . . . . .
) وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ( ، على ان يعبدوا الله ، ويبلغوا الرسالة إلى قومهم ، ويدعوا الناس إلى دين الله عز
وجل ، فبعث الله موسى ومعه التوراة إلى بني إسرائيل ، فكان موسى أول رسول بعث
إلى بني إسرائيل ، وفي التوراة بيان أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأقروا به ، ) لما ( ، يعني للذي
) ءاتيتكم ( ، يعني بني إسرائيل ) من كتاب ( ، يعني التوراة ، ) وحكمة ( ،
يعني ما فيها من الحلال والحرام ، ) ثم جاءكم ( ، يعني بني إسرائيل ، ) رسول ( ،
يعني محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) مصدق لما معكم ( ، يعني تصديق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لما معكم في التوراة ،
)( لتؤمنن به ( ، يعني لتصدقن به إن بعث ، ) ولتنصرنه ( ، إذا خرج ، يقول عز وجل
لهم : ( قال ءاقررتم ( بمحمد في التوراة بتصديقه ونصره ، ) وأخذتم على ذلكم إصري ( ، يقول : وقبلتم على الإيمان بمحمد عهدي وميثاقي في التوراة ، ) قالوا أقررنا ( ، يقول الله : ( قال فاشهدوا ( على انفسكم بالإقرار ، يقول الله عز وجل :
( وأنا معكم ( ، أي إقراركم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الشاهدين ) [ آية : 81 ] .
تفسير سورة آل عمران آية [ 82 - 83 ]
آل عمران : ( 82 ) فمن تولى بعد . . . . .
ثم قال : ( فمن تولى بعد ذلك ( ، يعني فمن أعرض عن الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بعد
إقراره في التوراة ، ) فأولئك هم الفاسقون ) [ آية : 82 ] ، يعني العاصين ،
آل عمران : ( 83 ) أفغير دين الله . . . . .
) أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات ( ، يعني الملائكة ، ) والأرض ( ، يعني
المؤمنين ، ) طوعا ( ، ثم قال سبحانه : ( وكرها ( ، يعني أهل الأديان ، يقولون : الله
هو ربهم ، وهو خلقهم ، فذلك إسلامهم ، وهم في ذلك مشركون ، ) وإليه يرجعون ) [ آية : 83 ] .(1/179)
صفحة رقم 180
تفسير سورة آل عمران آية [ 84 - 85 ]
آل عمران : ( 84 ) قل آمنا بالله . . . . .
ثم أنزل الله عز وجل في آل عمران : إن لم يؤمن أهل الكتاب بهذه الآية التي في
البقرة ، وأمر المؤمنين أن يقرءوها ، فنزل : ( قل ءامنا بالله ( ، يعني صدقنا بتوحيد الله ،
)( وما أنزل علينا ( ، يعني الإقرار بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى ( ، يعني وما أعطى موسى ، ) وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ( ، يقول : لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض ،
)( ونحن له مسلمون ) [ آية : 84 ] ، يعني مخلصين ،
آل عمران : ( 85 ) ومن يبتغ غير . . . . .
) ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) [ آية : 85 ] ، نزلت في طعمة بن أبيرق
الأنصاري من الأوس من بني صقر ، ارتد عن الإسلام ولحق بكفار مكة .
تفسير سورة آل عمران آية [ 86 - 89 ]
آل عمران : ( 86 ) كيف يهدي الله . . . . .
) كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات ( ، يعني البيان ، ) والله لا يهدي ( إلى دينه ) القوم الظالمين ) [ آية : 86 ] ،
آل عمران : ( 87 ) أولئك جزاؤهم أن . . . . .
) أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله و ( لعنة ) والملائكة والناس أجمعين ) [ آية :
87 ] ، يعني والعالمين كلهم ،
آل عمران : ( 88 ) خالدين فيها لا . . . . .
) خالدين فيها ( في اللعنة ، مقيمين فيها ، ) يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ) [ آية : 88 ] ، يعني لا يناظر بهم العذاب ، نزلت في اثني عشر
رجلا ارتدوا عن الإسلام ، وخرجوا من المدينة كهيئة البداة ، ثم انصرفوا إلى طريق مكة ،
فلحقوا بكفار مكة ، منهم : طعمة بن أبيرق الأنصاري ، ومقيس بن ضبابة الليثى ، وعبد
الله بن أنس بن خطل من بني تيم بن مرة القرشي ، ووجوج بن الأسلت الأنصاري ، وأبو
عامر بن النعمان الراهب ، والحارث بن سويد بن الصامت الأنصاري من بني عمرو بن
عوف أخو الجلاس بن سويد بن الصامت .(1/180)
صفحة رقم 181
ثم إن الحارث ندم فرجع تائبا من ضرار ، ثم أرسل إلى أخيه الجلاس : إني قد رجعت
تائبا ، فسل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هل لي من توبة وإلا لحقت بالشام ؟ فانطلق الجلاس إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
فاخبره فلم يرد عليه شيئا ، فأنزل الله عز وجل في الحارث ،
آل عمران : ( 89 ) إلا الذين تابوا . . . . .
فاستثنى : ( إلا الذين تابوا ( ، فلا يعذبون ) من بعد ذلك ( ، يعني من بعد الكفر ، ) وأصلحوا ( في العمل
فيما بقى ، ) فإن الله غفور ( لكفره ، ) رحيم ) [ آية : 89 ] به فيما بقى .
تفسير سورة آل عمران آية [ 90 - 92 ]
آل عمران : ( 90 ) إن الذين كفروا . . . . .
فبلغ أمر الحارث الأحد عشر الذين بمكة ، فقالوا : نقيم بمكة ما أقمنا ونتربص بمحمد
الموت ، فإذا أردنا المدينة فسينزل فينا ما نزل في الحارث ويقبل منا ما يقبل منه ، فأنزل
الله عز وجل فيهم : ( إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا ( ، قالوا : نقيم بمكة
كفارا ، فإذا أردنا المدينة ، فسينزل فينا كما نزل في الحارث ، ) لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ) [ آية : 90 ] .
آل عمران : ( 91 ) إن الذين كفروا . . . . .
ثم أخبرهم عنهم وعن الكفار وما لهم في الآخرة ، فقال عز وجل : ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار ( ، فيود أحدهم أن يكون له ملء الأرض ذهبا ، يقدر على أن يفتدى به
نفسه من العذاب لافتدى به ، ) فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به ( ما قبل منه ، ) أولئك لهم عذاب أليم ( ، وله عذاب ، وجميع نظيرها في المائدة ،
)( وما لهم من ناصرين ) [ آية : 91 ] ، يعني من مانعين يمنعونهم من العذاب .
آل عمران : ( 92 ) لن تنالوا البر . . . . .
قوله سبحانه :
( لن تنالوا البر حتى تنفقوا ( ، يقول : لن تستكملوا التقوى حتى تنفقوا في الصدقة
) مما تحبون ( من الأموال ، ) وما تنفقوا من شيء ( ، يعني من صدقة ، ) فإن الله به عليم ) [ آية : 92 ] ، يعني عالم به ، يعني بنياتكم .
تفسير سورة آل عمران آية [ 92 - 95 ](1/181)
صفحة رقم 182
آل عمران : ( 93 ) كل الطعام كان . . . . .
) كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ( ، وذلك أن يعقوب بن إسحاق خرج ذات ليلة ليرسل الماء في أرضه ،
فاستقبله ملك ، فظن أنه لص يريد أن يقطع عليه الطريق ، فعالجه في المكان الذي كان
يقرب فيه القربان يدعى شانير ، فكان أول قربان قربه بأرض المقدس ، فلما أراد الملك ان
يفارقه ، غمز فخذ يعقوب برجليه ليريه أنه لو شاء لصرعه ، فهاج به عرق النساء ، وصعد
الملك إلى السماء ، ويعقوب ينظر إليه ، فلقى منها البلاء ، حتى لم ينم الليل من وجعه ، ولا
يؤذيه بالنهار ، فجعل يعقوب لله عز وجل تحريم لحم الإبل وألبانها ، وكان من أحب
الطعام والشراب إليه ، لئن شفاه الله .
قالت اليهود : جاء هذا التحريم من الله عز وجل في التوراة ، قالوا : حرم الله على
يعقوب وذريته لحوم الإبل وألبانها ، قال الله عز وجل لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل ( لليهود ) فأتوا بالتوراة فاتلوها ( فاقرءوها ) إن كنتم صادقين ) [ آية : 93 ] بأن تحريم لحوم الإبل
في التوراة ، فلم يفعلوا ،
آل عمران : ( 94 ) فمن افترى على . . . . .
يقول الله عز وجل يعيبهم : ( فمن افترى على الله الكذب ( بأن
الله حرمه في التوراة ، ) من بعد ذلك ( البيان ، ) فأولئك هم الظالمون ) [ آية : 94 ] .
آل عمران : ( 95 ) قل صدق الله . . . . .
) قل صدق الله ( ، وذلك حين قال الله سبحانه : ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ) [ آل عمران : 67 ] إلى آخر الآية ، وقالت اليهود والنصارى : كان إبراهيم
والأنبياء على ديننا ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' فقد كان إبراهيم يحج البيت وأنتم تعلمون ذلك ،
فلم تكفرون بآيات الله ' ، يعني بالحج ، فذلك قوله سبحانه : ( قل صدق الله ( ) فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ( ، يعني حاجا ، ) وما كان من المشركين ) [ آية : 95 ] ، يقول : لم يكن
يهوديا ولا نصرانيا .
تفسير سورة آل عمران آية [ 96 - 97 ]
آل عمران : ( 96 ) إن أول بيت . . . . .
) إن أول بيت ( ، يعني أول مسجد ، ) وضع للناس ( ، يعني للمؤمنين ، ) للذي ببكة مباركا ( ، وإنما سمي بكة ؛ لأنه يبك الناس بعضهم بعضا في الطواف ، ومباركا فيه ،
البركة مغفرة للذنوب ، ) وهدى للعالمين ) [ آية : 96 ] ، يعني المؤمنين من الضلالة لمن
صلى فيه ، وضلالة لمن صلى قبل بيت المقدس ، وذلك أن المسلمين واليهود اختصموا في(1/182)
صفحة رقم 183
أمر القبلة ، فقال المسلمون : القبلة الكعبة ، وقالت اليهود : القبلة بيت المقدس ، فأنزل الله
عز وجل ان الكعبة أول مسجد كان في الأرض ، والبيت قبلة لأهل المسجد الحرام ،
والحرم كله قبلة الأرض .
آل عمران : ( 97 ) فيه آيات بينات . . . . .
ثم قال عز وجل : ( فيه آيات بينات مقام إبراهيم ( ، يعني علامة واضحة أثر مقام
إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ومن دخله ( في الجاهلية ) كان ءامنا ( حتى يخرج منه ، ) ولله على الناس ( ، يعني المؤمنين ) حج البيت من استطاع إليه سبيلا ( ، يعني بالاستطاعة الزاد
والراحلة ، ) ومن كفر ( من أهل الأديان بالبيت ولم يحج واجبا فقد كفر ، فذلك قوله
سبحانه : ( ومن كفر ( ) فإن الله غني عن العالمين ) [ آية : 97 ] .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 98 - 99 ]
آل عمران : ( 98 ) قل يا أهل . . . . .
) قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ( ، يعني بالقرآن ، ) والله شهيد على ما تعملون ) [ آية : 98 ] ،
آل عمران : ( 99 ) قل يا أهل . . . . .
) قل يا أهل الكتاب ( ، يعني اليهود ، ) لم تصدون عن سبيل الله ( أهل الإيمان ، نزلت في حذيفة ، وعمار بن ياسر حين دعوهما إلى دينهم ، فقالوا
لهما : ديننا أفضل من دينكم ، ونحن أهدى منكم سبيلا ، فقال عز وجل : ( لم تصدون عن سبيل الله ( ، عن دين الإسلام ، ) من ءامن تبغونها عوجا ( ، يعني بملة الإسلام زيغا ،
)( وأنتم شهداء ( أن الدين هو الإسلام ، وأن محمدا رسول الله ونبي ، ) وما الله بغافل عما تعملون ) [ آية : 99 ] .
تفسير سورة آل عمران آية من [ 100 - 101 ]
آل عمران : ( 100 ) يا أيها الذين . . . . .
) يأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقا من الذين اوتوا الكتاب ( ، يعني طائفة من الذين
أوتوا الكتاب ، يعني أعطوا التوراة ، ) يردوكم بعد إيمانكم كافرين ) [ آية : 100 ] ،
آل عمران : ( 101 ) وكيف تكفرون وأنتم . . . . .
) وكيف
تكفرون وأنتم تتلى عليكم ءايات الله ( ، يعني القرآن ، ) وفيكم رسوله ( ، يعني محمدا
( صلى الله عليه وسلم ) بين أظهرهم ، ) ومن يعتصم بالله ( ، يعني يحترز بالله فيجعله ثقته ، ) فقد هدي إلى صراط مستقيم ) [ آية : 101 ] ، يعني إلى دين الإسلام(1/183)
صفحة رقم 184
تفسير سورة آل عمران من آية [ 102 - 104 ]
آل عمران : ( 102 ) يا أيها الذين . . . . .
) يأيها الذين ءامنوا ( ، يعني الأنصار ، ) اتقوا الله حق تقاته ( ، وهو أن يطاع فلا
يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وان يشكر فلا يكفر ، نسختها : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) [ التغابن : 16 ] ، وذلك انه كان بين الأوس والخزرج عداوة في الجاهلية في
دم شمير وحاطب ، فقتل بعضهم بعضا حينا ، فلما هاجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة أصلح
بينهم ، فلما كان بعد ذلك ، فاتخر منهم رجلان أحدهما ثعلبة بن غنيمة من الاوس ،
والآخر سعد بن زرارة من بني الخزرج من بني سلمة بن جشم ، فجرى الحديث بينهما
فغضبا ، فقال الخزرجي : أما والله لو تأخر الإسلام عنا وقدوم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علينا لقتلنا
سادتكم ، واستعبدنا أبناءكم ، ونكحنا نساءكم بغير مهر ، فقال الأوسي : قد كان
الإسلام متأخرا زمانا طويلا ، فهلا فعلتم ، فقد ضربناكم بالمرهفات حتى أدخلناكم
الديار ، وذكرا الأشعار والموتى ، وافتخرا وانتسبا ، حتى كان بينهما دفع وضرب بالأيدي
والسعف والنعال ، فغضبا فناديا ، فجاءت الأوس إلى الأوس ، والخزرج إلى الخزرج
بالسلاح ، وأسرع بعضهم إلى بعض بالرماح ، فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فركب حمارا
وأتاهم ، فلما أن عاينهم ناداهم : ( يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ( ) ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) [ آية : 102 ] ، يعني معتصمين بالتوحيد .
آل عمران : ( 103 ) واعتصموا بحبل الله . . . . .
) واعتصموا بحبل الله ( ، يعني بدين الله ، ) جميعا ولا تفرقوا ( ، يعني ولا تختلفوا
في الدين كما اختلف أهل الكتاب ، ) واذكروا نعمت الله عليكم ( الإسلام ، ) إذ كنتم أعداء ( في الجاهلية يقتل بعضكم بعضا ، ) فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ( ،
يعني برحمته إخوانا في الإسلام ، ) وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ( ، يقول
للمشركين : الميت منكم في النار ، والحي منكم على حرف النار ، إن مات دخل النار ،
)( فأنقذكم منها ( ، يعني من الشرك إلى الإيمان ، ) كذلك ( ، يعني هكذا ، ) يبين الله
لكم ءاياته ( ، يعني علاماته في هذه النعمة ، أعداء في الجاهلية ، إخوانا في الإسلام ،
)( لعلكم ( ، لكي ) تهتدون ) [ آية : 103 ] ، فتعرفوا علاماته في هذه النعمة .(1/184)
صفحة رقم 185
فلما سمع القوم القرآن من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تحاجزوا ، ثم عانق بعضهم بعضا ، وتناول بخدود
بعض بالتقبيل والالتزام ، يقول جابر بن عبد الله ، وهو في القوم : لقد اطلع إلينا رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما أحد هو أكره طلعة إلينا منه لما كنا هممنا به ، فلما انتهى إليهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
قال : ' اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ' ،
آل عمران : ( 104 ) ولتكن منكم أمة . . . . .
) ولتكن منكم أمة ( ، يعني عصبة ، ) يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) [ آية : 104 ] .
تفسير سورة آل عمران آية [ 105 - 108 ]
آل عمران : ( 105 ) ولا تكونوا كالذين . . . . .
فوعظ الله المؤمنين لكي يتفرقوا ولا يختلفوا كفعل أهل الكتاب ، فقال : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ( في الدين بعد موصى ، فصاروا أديانا ) من بعد ما جاءهم البينات ( ، يعني البيان ، ) وأولئك لهم عذاب عظيم ) [ آية : 105 ] ،
آل عمران : ( 106 ) يوم تبيض وجوه . . . . .
) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ( بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يبعث ،
)( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) [ آية : 106 ] ،
آل عمران : ( 107 ) وأما الذين ابيضت . . . . .
) وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة ( ، يعني في جنة ) الله هم فيها خالدون ) [ آية : 107 ] ، يعني لا يموتون ،
آل عمران : ( 108 ) تلك آيات الله . . . . .
) تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين ) [ آية : 108 ] ، فيعذب على غير
ذنب .
تفسير سورة آل عمران آية [ 109 - 112 ]
آل عمران : ( 109 ) ولله ما في . . . . .
) ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور ) [ آية : 109 ] ، يعني تصير(1/185)
صفحة رقم 186
أمور العباد إليه في الآخرة ، وافتخرت الأنصار ، فقالت الأوس : منا خزيمة بن ثابت
صاحب الشهادتين ، ومنا حنظلة غسيل الملائكة ، ومنا عاصم بن ثابت بن الأفلح الذي
حمت رأسه الدبر ، يعني الزنابير ، ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز العرش لموته ، ورضى الله
عز وجل بحكمه ، والملائكة في أهل قريظة ، وقالت الخزرج : منا أربعة أحكموا القرآن ،
أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد ، ومنا سعد بن عبادة صاحب
راية الأنصار وخطيبهم الذي ناحت الجن عليه ، فقالوأ :
نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة
فرميناه بسهمين فلم تخط فؤاده
آل عمران : ( 110 ) كنتم خير أمة . . . . .
قوله سبحانه : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ( ، يعني خير الناس للناس ، وذلك أن
مالك بن الضيف ، ووهب بن يهوذا قالا لعبد الله بن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وسالم
مولى أبي حنيفة : إن ديننا خير مما تدعونا إليه ، فأنزل الله عز وجل فيهم : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ( في زمانكم كما فضل بنى إسرائيل في ومانهم ، ) تأمرون (
الناس ) بالمعروف ( ، يعني بالإيمان ، ) وتنهون عن المنكر وتؤمنون ( بتوحيد
) بالله ( وتنهوهم عن الظلم وأنتم خير الناس للناس ، وغيركم من أهل الأديان لا
يأمرون أنفسهم ولا غيرهم بالمعروف ، ولا ينهونهم عن المنكر ، ثم قال : ( ولو آمن ( ، يعني ولو صدق ) أهل الكتاب ( ، يعني اليهود بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما جاء به
من الحق ، ) لكان خيرا لهم ( من الكفر ، ثم قال : ( منهم المؤمنون ( ، يعني عبد
الله بن سلام وأصحابه ، ) وأكثرهم الفاسقون ) [ آية : 110 ] ، يعني العاصين ، يعني
اليهود .
آل عمران : ( 111 ) لن يضروكم إلا . . . . .
) لن يضروكم إلا أذى ( ، وذلك أن رؤساء اليهود : كعب بن مالك ، وشعبة ،
وبحرى ، ونعمان ، وأبا ياسر ، وأبا نافع ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وابن صوريا ، عمدوا إلى
مؤمنيهم فآذوهم لإسلامهم ، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه ، فأنزل الله عز وجل :
( لن يضروكم ( اليهود ) إلا أذى ( باللسان ، ) وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ) [ آية : 111 ] .
آل عمران : ( 112 ) ضربت عليهم الذلة . . . . .
ثم أخبر عن اليهود ، فقال سبحانه : ( ضربت عليهم الذلة ( ، يعني المذلة ، ) أين ما ثقفوا ( ، يعني وجدوا ، ) إلا بحبل من الله وحبل من الناس ( ، يقول : لا يأمنوا حيث ما
توجهوا إلا بعهد من الله ، وعهد من الناس ، يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحده ، ) وباءو بغضب من(1/186)
صفحة رقم 187
الله ( ، يعني استوجبوا الغضب من الله ، ) وضربت عليهم ) ) الذلة و ( ( المسكنة ( ،
يعني الذل والفقر ، ) ذلك ( الذي نزل بهم ) بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله
ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك ( الذي أصابهم ) بما عصوا وكانوا يعتدون ) [ آية :
112 ] في دينهم بما خبر عنهم .
تفسير سورة آل عمران آية [ 113 - 115 ]
آل عمران : ( 113 ) ليسوا سواء من . . . . .
فقال سبحانه : ( ليسوا سواء من أهل الكتاب ( ، وذلك أن اليهود قالوا لابن سلام
وأصحابه : لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم دينا غيره ، وقد عاهدتم الله بعهد ألا تدينوا
إلا بدينكم ، فقال الله عز وجل : ( ليسوا سواء ( ، يقول : ليس كفار اليهود والذين
في الضلالة بمنزلة ابن سلام وأصحابه الذين هم على دين الله ، منهم ) أمة ( عصابة
) قائمة ( بالحق على دين الله عادلة ، ) يتلون آيات الله ( ، يعني يقرءون كلام الله
) آناء الليل ( ، يعني ساعات الليل ، ) وهم يسجدون ) [ آية : 113 ] ، يعني يصلون
بالليل .
آل عمران : ( 114 ) يؤمنون بالله واليوم . . . . .
) يؤمنون بالله واليوم الآخر ( ، يعني يصدقون بتوحيد الله والبعث الذي فيه
جزاء الأعمال ، ) ويأمرون بالمعروف ( ، يعني إيمانا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وينهون عن
المنكر ( ، يعني عن تكذيب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ويسارعون في الخيرات ( ، يعني شرائع
الإسلام ، ) وأولئك من الصالحين ) [ آية : 114 ] ،
آل عمران : ( 115 ) وما يفعلوا من . . . . .
) وما يفعلوا من خير فلن
يكفروه ( ، فلن يضل عنهم ، بل يشكر ذلك لهم ، ) والله عليم بالمتقين ) [ آية :
115 ] ، يعني ابن سلام وأصحابه .
تفسير سورة آل عمران آية [ 116 - 117 ]
آل عمران : ( 116 ) إن الذين كفروا . . . . .
فقال : ( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك(1/187)
صفحة رقم 188
أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ آية : 116 ] ،
آل عمران : ( 117 ) مثل ما ينفقون . . . . .
ثم ذكر نفقة سفلة اليهود من الطعام والثمار
على رءوس اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه ، يريدون بها الاخرة ، فضرب الله عز
وجل مثلا لنفقاتهم ، فقال : ( مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا ( / وهم كفار ، يعني
سفلة اليهود / ) كمثل ريح فيها صر ( ، يعني بردا شديدا ، ) أصابت ( الريح الباردة ،
)( حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته ( ، فلم يبق منه شيئا ، كما أهلكت الريح الباردة ،
)( حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته ( ، فلم يبق منه شيئاً ، كما أهلكت الريح الباردة
حرث الظلمة ، فلم ينفعهم حرثهم ، فكذلك أهلك الله نفقات سفلة اليهود ، ومنهم كفار
مكة التي أرادوا بها الآخرة ، فلم تنفعهم نفقاتهم ، فذلك قوله عز وجل : ( وما ظلمهم
الله ( حين أهلك نفقاتهم ، فلم نتقبل منهم ، ) ولكن أنفسهم يظلمون ) [ آية : 117 ] .
تفسير سورة آل عمران آية [ 118 - 120 ]
آل عمران : ( 118 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين ءامنوا ( ، يعني المنافقين عبد الله بن أبى ، ومالك بن دخشم الأنصاري
وأصحابه ، دعاهم اليهود إلى دينهم ، منهم : إصبغ ورافع ابني حرملة ، وهما رءوس
اليهود ، فزينوا لهما ترك الإسلام ، حتى أرادوا ان يظهروا الكفر ، فأنزل الله عز وجل
يحذرهما ولاية اليهود ، ) يأيها الذين ءامنوا ( ) لا تتخذوا بطانة ( ، يعني اليهود ،
)( من دونكم ( ، يعني من دون المؤمنين ، ) لا يألونكم خبالا ( ، يعني غيا ، ) ودوا ما
عنتم ( ، يعني ما أثمتم لدينكم في دينكم ، ) قد بدت البغضاء ( ، يعني ظهرت البغضاء ،
)( من أفواههم ( ، يعني قد ظهرت العداوة بألسنتهم ، ) وما تخفى صدورهم ( ، يعني ما
تسر قلوبهم من الغش ، ) أكبر ( مما بدت بألسنتهم ، ) قد بينا لكم الآيات ( ، يقول :
ففي هذا بيان لكم منهم ، ) إن كنتم تعقلون ) [ آية : 118 ] .
آل عمران : ( 119 ) ها أنتم أولاء . . . . .
ثم قال سبحانه : ( هأنتم ( معشر المؤمنين ) أولاء تحبونهم ( تحبون هؤلاء اليهود
في التقديم لما أظهروا من الأيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبما جاء به ، ) ولا يحبونكم ( ؛ لأنهم
ليسوا على دينكم ، ) وتؤمنون بالكتاب كله ( ، كتاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والكتب كلها التي(1/188)
صفحة رقم 189
كانت قبله ، ) وإذا لقوكم قالوا ءامنا ( ، يعني صدقنا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبما جاء به ، وهم
كذبة ، يعني اليهود ، مثلها في المائدة : ( وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر ) [ المائدة : 61 ] إلى آخر الآية ، ثم قال : ( وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل ( ،
يعني أطراف الأصابع ، ) من الغيظ ( الذي في قلوبهم ، ودوا لو وجدوا ريحا يركبونكم
بالعداوة ، ) قل موتوا بغيظكم ( ، يعني اليهود ، ) إن الله عليم بذات الصدور ) [ آية :
119 ] ، يعني يعلم ما في قلوبهم من العداوة والغش للمؤمنين .
آل عمران : ( 120 ) إن تمسسكم حسنة . . . . .
ثم أخبر عن اليهود ، فقال سبحانه : ( إن تمسسكم حسنة ( ، يعني الفتح والغنيمة يوم
بدر ، ) تسؤهم وإن تصبكم سيئة ( ، القتل والهزيمة يوم أحد ، ) يفرحوا بها ( ، ثم قال
للمؤمنين : ( وإن تصبروا ( على أمر الله ، ) وتتقوا ( معاصيه ) لا يضركم كيدهم شيئا ( ، يعني قولهم ، ) إن الله بما يعملون محيط ) [ آية : 120 ] ، أحاط علمه
بأعمالهم .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 121 - 125 ]
آل عمران : ( 121 ) وإذ غدوت من . . . . .
) وإذ غدوت من أهلك ( على راحتك يا محمد يوم الأحزاب ، ) تبوئ المؤمنين ( ، يعني توطن لهم ، ) مقاعد للقتال ( في الخندق قبل أن يستبقوا إليه
ويستعدوا للقتال ، ) والله سميع عليم ) [ آية : 121 ] ،
آل عمران : ( 122 ) إذ همت طائفتان . . . . .
) إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ( ، يعني ترك المركز ، منهم بنو حارثة بن الحارث ، ومنهم أوس بن قيظي ، وأبو
عربة بن أوس بن يامين ، وبنو سلمة بن جشم ، وهما حيان من الأنصار ، ) والله وليهما ( حين عصمها فلم يتركا المركز ، وقالوا : ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا إذا
كان الله ولينا ، ) وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) [ آية : 122 ] ، يعني فليثق المؤمنون به .
آل عمران : ( 123 ) ولقد نصركم الله . . . . .
) ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ( ، وأنتم قليل ، يذكرهم النعم ، ) فاتقوا الله (
ولا تعصوه ، ) لعلكم تشكرون ) [ آية : 123 ] ربكم في النعم ،
آل عمران : ( 124 ) إذ تقول للمؤمنين . . . . .
) إذ تقول ( يا محمد(1/189)
صفحة رقم 190
) للمؤمنين ( يوم أحد : ( ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة ءالاف من الملائكة
منزلين ) [ آية : 124 ] عليكم من السماء ، وذلك حين سألوا المدد ، فقال سبحانه :
آل عمران : ( 125 ) بلى إن تصبروا . . . . .
) بلى ( يمددكم ربكم بالملائكة ، ) إن تصبروا ( لعدوكم ) وتتقوا ( معاصيه ،
)( ويأتوكم من فورهم هذا ( ، يعني من وجههم هذا ، ) يمددكم ربكم بخمسة ءالاف من
الملائكة ( ، فزادهم ألفين ) مسومين ) [ آية : 125 ] ، يعني معلمين بالصوف الأبيض
في نواصي الخيل ، وأذنابها عليها البياض ، معتمين بالبياض ، وقد أرخوا أطراف العمائم
بين أكتافهم .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 126 - 127 ]
آل عمران : ( 126 ) وما جعله الله . . . . .
) وما جعله الله ( ، يقول : وما جعل المدد من الملائكة ) إلا بشرى لكم ولتطمئن ( ،
يعني ولكي تسكن ) قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله ( ، يقول : النصر ليس بقلة
العدد ولا بكثرته ، ولكن النصر من عند الله ) العزيز ( ، يعني المنيع في ملكه ،
)( الحكيم ) [ آية : 126 ] في أمره حكم النصر للمؤمنين ، نظيرها في الانفال ،
آل عمران : ( 127 ) ليقطع طرفا من . . . . .
) ليقطع ( لكي يقطع ) طرفا من الذين كفروا ( من أهل مكة ، ) أو يكبتهم ( ، يعني
يخزيهم ، ) فينقلبوا ( إلى مكة ) خائبين ) [ آية : 127 ] ، لم يصيبوا ظفرا ولا خيرا ، فلم
يصبر المؤمنون وتركوا المركز وعصوا ، فرفع عنهم المدد ، وأصابتهم الهزيمة بمعصيتهم ، فيها
تقديم .
تفسير سورة آل عمران [ آية 128 ]
آل عمران : ( 128 ) ليس لك من . . . . .
) ليس لك ( يا محمد ) من الأمر شيء ( ، وذلك أن سبعين رجلا من أصحاب
الصفة فقراء ، كانوا إذا أصابوا طعاما فشبعوا منه تصدقوا بفضله ، ثم إنهم خرجوا إلى
الغزو محتسبين إلى قتال قبيلتين من بني سليم : عصبة وذكوان ، فقالتلوهم فقتل السبعون
جميعا ، فشق على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه قتلهم ، فدعا عليهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أربعين يوما في
صلاة الغداة ، فأنزل الله تعالى : ( ليس لك من الأمر شيء ( ) أو يتوب عليهم ( ،
فيهديهم لدينه ، ) أو يعذبهم ( على كفرهم ، ) فإنهم ظالمون ) [ آية : 128 ] .
تفسير سورة آل عمران آية [ 129 ](1/190)
صفحة رقم 191
آل عمران : ( 129 ) ولله ما في . . . . .
ثم عظم نفسه تعالى ، فقال : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ( من الخلق عبيدة
وفي ملكه ، ) يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم ) [ آية : 129 ] في
تأخير العذاب عن هذين الحيين من بني سليم .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 130 - 132 ]
آل عمران : ( 130 ) يا أيها الذين . . . . .
) يأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة ( ، وذلك ان الرجل كان
إذا حل ماله طلبه من صاحبه ، فيقول المطلوب : أخر عني وأزيدك على مالك ، فيفعلون
ذلك ، فوعظهم الله تعالى ، وقال : ( واتقوا الله ( في الربا ) لعلكم تفلحون ) [ آية :
130 ]
آل عمران : ( 131 ) واتقوا النار التي . . . . .
، ثم خوفهم ، فقال : ( واتقوا النار التي أعدت للكافرين ) [ آية : 131 ] ،
آل عمران : ( 132 ) وأطيعوا الله والرسول . . . . .
) وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ) [ آية : 132 ] ، يعني لكي ترحموا فلا
تعذبوا .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 133 - 134 ]
آل عمران : ( 133 ) وسارعوا إلى مغفرة . . . . .
ثم رغبهم ، فقال سبحانه : ( وسارعوا ( بالأعمال الصالحة ) إلى مغفرة (
لذنوبكم ) من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض ( ، يقول : عرض الجنة كعرض
سبع سماوات وسبع أرضين جميعا لو ألصق بعضها إلى بعض ، ) أعدت للمتقين ) [ آية :
133 ] ،
آل عمران : ( 134 ) الذين ينفقون في . . . . .
ثم نعتهم ، فقال : ( الذين ينفقون في السراء والضراء ( ، يعني في اليسر والعسر ،
وفي الرخاء والشدة ، ) والكاظمين الغيظ ( ، وهو الرجل يغضب في أمر ، فإذا فعله
وقع في معصية ، فيكظم الغيظ ويغفر ، فذلك قوله : ( والعافين عن الناس ( ، ومن
يفعل هذا فقد أحسن ، فذلك قوله : ( والله يحب المحسنين ) [ آية : 134 ] ، فقال
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إني أرى هؤلاء في أمتي قليلا ، وكانوا أكثر في الامم الخالية ' .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 135 - 136 ](1/191)
صفحة رقم 192
آل عمران : ( 135 ) والذين إذا فعلوا . . . . .
) والذين إذا فعلوا فاحشة ( ، وذلك أن رجلا خرج غازيا وخلف رجلا في أهله
وولده ، فعرض له الشيطان في اهله ، فهوى المرأة ، فكان منه ما ندم ، فاتى أبا بكر
الصديق ، رضى الله عنه ، فقال : هلكت ، قال : وما هلاكك ، قال : ما من شيء يناله
الرجل من المرأة ، إلا وقد نلته غير الجماع ، فقال أبو بكر ، رضى الله عنه : ويحك ، أما
علمت أن الله عز وجل يغار للغازي ما لا يغار للقاعد ، ثم لقى عمر ، رضى الله عنه ،
فأخبره ، فقال له مثل مقالة أبى بكر ، رضى الله عنه ، ثم أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال له مثل
مقالتهما ، فأنزل الله عز وجل فيه : ( والذين إذا فعلوا فاحشة ( ، يعني الزنا ) أو ظلموا أنفسهم ( ما كان نال منها دون الزنا ، ) ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا ( يقيموا ) على ما فعلوا وهم يعلمون ) [ آية : 135 ]
أنها معصية .
آل عمران : ( 136 ) أولئك جزاؤهم مغفرة . . . . .
فمن استغفر ف ) أولئك جزاؤهم مغفرة ( لذنوبهم ) من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ( ، يعني مقيمين في الجنان لا يموتون ، ) ونعم أجر العاملين ) [ آية : 136 ] ، يعني التائبين من الذنوب ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ظلمت نفسك ،
فاستغفر الله وتب إليه ' ، فاستغفر الرجل ، واستغفر له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، نزلت هذه الآية في
عمر بن قيس ، ويكنى أبا مقبل ، وذلك حين أقبل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقد صدمه حائط ، وإذا
الدم يسيل على وجهه عقوبة لما فعل ، فانتهى إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأذن بلال بالصلاة ، صلاة
الأولى ، فسأل أبو مقبل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما توبته ، فلم يجبه ، ودخل المسجد وصلى الأولى ،
ودخل أبو مقبل وصلى معه ، فنزل جبريل ، عليه السلام ، بتوبته ، ) وأقم الصلاة طرفي
النهار وزلفا من الليل إن الحسنات ( ، يعني الصلوات الخمس ) يذهبن السيئات (
[ هود : 114 ] ، يعني الذنوب التي لم تختم بالنار ، وليس عليه حد في الزنا وما بين
الحدين فهو اللمم ، والصلوات الخمس تكفر هذه الذنوب ، وكان ذنب أبي مقبل من
هذه الذنوب ، فلما صلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال لأبي مقبل : ' أما توضأت قبل أن تأتينا ؟ ' ، قال :
بلى ، قال : ' أما شهدت معنا الصلاة ؟ ' ، قال : بلى ، قال : ' فإن الصلاة قد كفرت ذنبك ' ،
وقرأ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 137 - 139 - ](1/192)
صفحة رقم 193
آل عمران : ( 137 ) قد خلت من . . . . .
) قد خلت من قبلكم سنن ( ، يعني عذاب الأمم الخالية ، فخوف هذه الأمم بعذاب
الأمم ليعتبروا فيوحدوه ، قوله سبحانه : ( فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) [ آية : 137 ] للرسل بالعذاب ، كان عاقبتهم الهلاك ،
آل عمران : ( 138 ) هذا بيان للناس . . . . .
ثم وعظهم ، فقال
سبحانه : ( هذا ( القرآن ) بيان للناس ( من العمى ) وهدى ( من الضلالة
) وموعظة ( من الجهل ) للمتقين ) [ آية : 138 ] ،
آل عمران : ( 139 ) ولا تهنوا ولا . . . . .
) ولا تهنوا ( ولا تضعفوا عن
عدوكم ) ولا تحزنوا ( على ما أصابكم من القتل والهزيمة يوم أحد ) وأنتم الأعلون ( ، يعني العالين ) إن كنتم مؤمنين ) [ آية : 139 ] ، يعني إن كنتم مصدقين .
تفسير سورة آل عمران [ آية 140 ]
آل عمران : ( 140 ) إن يمسسكم قرح . . . . .
ثم عزاهم ، فقال : ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ( ، يعني إن
تصبكم جراحات يوم أحد فقد مس القوم ، يعني كفار قريش ، قرح مثله ، يقول : قد
أصاب المشركين جراحات مثله يوم بدر ، وذلك قوله سبحانه : ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ( يوم لكم ببدر ، ويوم عليكم بأحد ، مرة للمؤمنين ومرة للكافرين ، بديل
للكافرين من المؤمنين ، ويبتلى المؤمنين بالكافرين ، ) وليعلم الله ( ، يعني وليرى إيمان
) الذين آمنوا ( منكم عند البلاء فيتبين إيمانهم أيشكوا في دينهم أم لا ، ) ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ) [ آية : 140 ] ، يعني المنافقين .
تفسير سورة آل عمران آية [ 141 - 144 ]
آل عمران : ( 141 ) وليمحص الله الذين . . . . .
) وليمحص الله الذين آمنوا ( بالبلاء ليرى صبرهم ، ) ويمحق الكافرين [ آية :(1/193)
صفحة رقم 194
141 ] ، يعني ويذهب دعوة الكافرين الشرك ، يعني المنافقين ، فيبين نفاقهم وكفرهم ، ثم
بين للمؤمنين أنه نازل بهم الشدة والبلاء في ذات الله عز وجل ، فقال : ( أم حسبتم (
يعني أحسبتم ، وذلك أن المنافقين قالوا للمؤمنين يوم أحد بعد الهزيمة : لم تقتلون
أنفسكم ، وتهلكون أموالكم ، فإن محمدا لو كان نبيا لم يسلط عليه القتل ؟ قال المؤمنون :
بلى ، من قتل منا دخل الجنة ، فقال المنافقون : لم تمنون أنفسكم بالباطل ؟ فأنزل الله تعالى :
آل عمران : ( 142 ) أم حسبتم أن . . . . .
) أم حسبتم ( معشر المؤمنين ) أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله ( ، يعني ولما يرى الله
) الذين جاهدوا منكم ( في سبيل الله ) و ( لما ) ويعلم ( ، يعني يرى
) الصابرين ) [ آية : 142 ] عند البلاء ، وليمحص ، أي يقول : إذا جاهدوا وصبروا رأى
ذلك منهم ، وإذا لم يفعلوا لم ير ذلك منهم .
آل عمران : ( 143 ) ولقد كنتم تمنون . . . . .
) ولقد كنتم تمنون الموت ( ، وذلك حين أخبر الله عز وجل عن قتلى بدر ، وما هم
فيه من الخير ، قالوا : يا نبي الله ، أرنا يوما كيوم بدر ، فأراهم الله عز وجل يوم أحد ،
فانهزموا فعاتبهم الله عز وجل ، فقال سبحانه : ( ولقد كنتم تمنون الموت ( ) من قبل أن تلقوه ( ، يعني القتال من قبل أن يلقوه ، ) فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) [ آية :
143 ] ، وقالوا يومئذ : إن محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) قد قتل ، فقال بشر بن النضر الأنصاري ، وهو عم
أنس بن مالك : إن كان محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) قد قتل ، فإن رب محمد حي ، أفلا تقاتلون على ما
قاتل عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى تلقوا الله عز وجل .
آل عمران : ( 144 ) وما محمد إلا . . . . .
ثم قال النضر : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ،
ثم شد عليهم بسيفه فقتل منهم من قتل ، وقال المنافقون يومئذ : ارجعوا إلى إخوانكم
فاستأمنوهم ، فارجعوا إلى دينكم الأول ، فقال النضر عند قول المنافقين تلك المقالة ،
فأنزل الله عز وجل : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ( ، يقول : وهل
محمد ، عليه السلام ، لو قتل إلا كمن قتل قبله من الأنبياء ، ) افإين مات ( محمد ) أو قتل انقلبتم على أعقابكم ( ، يعني رجعتم إلى دينكم الأول الشرك ، ثم قال : ( ومن ينقلب على عقبيه ( ، يقول : ومن يرجع إلى الشرك بعد الإيمان ، ) فلن يضر الله شيئا (
بارتداده من الإيمان إلى الشرك ، إنما يضر بذلك نفسه ، ) وسيجزي الله الشاكرين ((1/194)
صفحة رقم 195
[ آية : 144 ] ، يعني الموحدين لله في الآخرة .
تفسير سورة آل عمران آية [ 145 - 146 ]
آل عمران : ( 145 ) وما كان لنفس . . . . .
) وما كان لنفس أن تموت ( ، يعني أن تقتل ، ) إلا بإذن الله ( حتى يأذن الله
في موته ، ) كتابا مؤجلا ( في اللوح المحفوظ ، ) ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ( ،
يعني الذين تركوا المركز يوم أحد وطلبوا الغنيمة ، وقال سبحانه : ( ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ( ، الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير الأنصاري من بني عمرو
حتى قتلوا ، ) وسنجزي الشاكرين ) [ آية : 145 ] ، يعني الموحدين في الآخرة .
آل عمران : ( 146 ) وكأين من نبي . . . . .
ثم أخبر بما لقيت الأنبياء والمؤمنون قبلهم يعزيهم ليصبروا ، فقال سبحانه : ( وكأين من نبي ( ، وكم من نبي ) قاتل معه ( قبل محمد ) ربيون كثير ( ، يعني الجمع
الكثير ، ) فما وهنوا ( ، يعني فما عجزوا لما نزل بهم من قبل أنبيائهم وأنفسهم ، ) لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا ( ، يعني خضعوا لعدوهم ، ) وما استكانوا ( ، يعني وما
استسلموا ، يعني الخضوع لعدوهم بعد قتل نبيهم ، فصبروا ) والله يحب الصابرين (
[ آية : 146 ] .
تفسير سورة آل عمران آية [ 147 - 148 ]
آل عمران : ( 147 ) وما كان قولهم . . . . .
) وما كان قولهم ( عند قتل أنبيائهم ) إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ( ، يعني الخطايا الكبار في أعمالنا ، ) وثبت أقدامنا ( عند اللقاء حتى لا تزل ،
)( وانصرنا على القوم الكافرين ) [ آية : 147 ] ، أفلا تقولون كما قالوا ، وتقاتلون كما
قاتلوا ، فتدركون من الثواب في الدنيا والآخرة مثل ما أدركوا ، فذلك قوله عز وجل :
آل عمران : ( 148 ) فآتاهم الله ثواب . . . . .
) فآتاهم الله ثواب الدنيا ( ، يقول : أعطاهم النصر والغنيمة في الدنيا ، ) وحسن ثواب(1/195)
صفحة رقم 196
الآخرة ( جنة الله ورضوانه ، فمن فعل ذلك فقد أحسن ، فذلك قوله عز وجل : ( والله
يحب المحسنين ) [ آية : 148 ] .
تفسير سورة آل عمران آية [ 149 - 150 ]
آل عمران : ( 149 ) يا أيها الذين . . . . .
وأنزل الله عز وجل في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم
فادخلوا في دينهم ، فقال سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين
كفروا ( ، يعني المنافقين في الرجوع إلى أبي سفيان ، ) يردوكم على أعقابكم (
كفارا بعد الإيمان ، ) فتنقلبوا خاسرين ) [ آية : 149 ] إلى دينكم الأول ،
آل عمران : ( 150 ) بل الله مولاكم . . . . .
) بل الله
مولاكم ( ، يعني يقول : فأطيعوا الله مولاكم ، يعني وليكم ، ) وهو خير الناصرين (
[ آية : 150 ] من أبي سفيان وأصحابه ومن معه من كفار العرب يوم أحد .
تفسير سورة آل عمران آية [ 151 - 152 ]
آل عمران : ( 151 ) سنلقي في قلوب . . . . .
) سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب ( ، فانهزموا إلى مكة من غير شيء ،
)( بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ( ، يعني ما لم ينزل به كتابا فيه حجة
لهم بالشرك ، ) ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ) [ آية : 151 ] ، يعني مأوى
المشركين النار ،
آل عمران : ( 152 ) ولقد صدقكم الله . . . . .
) ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ( ، يعني
تقتلونهم بإذنه يوم أحد ، ولكم النصر عليهم ، ) حتى إذا فشلتم ( ، يعني ضعفتم
عن ترك المركز ، ) وتنازعتم في الأمر وعصيتم ( كان تنازعهم أنه قال بعضهم :
ننطلق فنصيب الغنائم ، وقال بعضهم : لا نبرح المركز كما أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) من
بعد ما أراكم ما تحبون ( من النصر على عدوكم ، فقتل أصحاب الألوية من
المشركين ، ) منكم من يريد الدنيا ( الذين طلبوا الغنيمة ، ) ومنكم من يريد(1/196)
صفحة رقم 197
الآخرة ( الذين ثبتوا في المركز حتى قتلوا ، ) ثم صرفكم عنهم ) ) من بعد أن أظفركم عليهم ( ( ليبتليكم ( بالقتل والهزيمة ، ) ولقد عفا عنكم ( حيث لم
تقتلوا جميعا عقوبة بمعصيتكم ، ) والله ذو فضل ( في عقوبته ) على المؤمنين ) [ آية :
152 ] ، حيث لم يقتلوا جميعا .
تفسير سورة آل عمران آية [ 153 ]
آل عمران : ( 153 ) إذ تصعدون ولا . . . . .
) إذ تصعدون ( من الوادي إلى أحد ، ) ولا تلوون على أحد ( ، يعني
بأحد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) والرسول يدعوكم في أخراكم ( ، يعني يناديكم من ورائكم :
يا معشر المؤمنين ، أنا رسول الله ، ثم قال : ( فأثابكم غما بغم ( ، وذلك أنهم
كانوا يذكرون فيما بينهم بعد الهزيمة ما فاتهم من الفتح والغنيمة ، وما أصابهم بعد ذلك
من المشركين ، وقتل إخوانهم ، فهذا الغم الأول ، والغم الآخر إشراف خالد بن الوليد
عليهم من الشعب في الخيل ، فلما أن عاينوه ذعرهم ذلك وأنساهم ما كانوا فيه من الغم
الأول والحزن ، فذلك قوله سبحانه : ( لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ( من
الفتح والغنيمة ، ) ولا ما أصابكم ( من القتل والهزيمة ، ) والله خبير بما تعملون ) [ آية : 153 ] .
تفسير سورة آل عمران آية [ 154 ]
آل عمران : ( 154 ) ثم أنزل عليكم . . . . .
) ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا ( ، يعني من بعد غم الهزيمة أمنة نعاسا ،
وذلك أن الله عز وجل ألقى على بعضهم النعاس فذهب غمهم ، فذلك قوله عز وجل :
( يغشى ) ) النعاس ( ( طائفة منكم ( نزلت في سبعة نفر ، في : أبي بكر الصديق ،
وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، والحارث بن الصمة ، وسهل بن ضيف(1/197)
صفحة رقم 198
ورجلين من الأنصار ، رضى الله عنهم ، ثم قال سبحانه : ( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ( ، يعني الذين لم يلق عليهم النعاس ، ) يظنون بالله غير الحق ( كذبا يقول
المؤمنون : إن محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) قد قتل ، ) ظن الجاهلية ( ، يقول : كظن جهال المشركين أبو
سفيان وأصحابه ، وذلك أنهم قالوا : إن محمدا قد قتل ، ) يقولون هل لنا من الأمر من
شيء ( ، هذا قول معتب بن قشير ، يعني بالأمر النصر ، يقول الله عز وجل لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) :
( قل إن الأمر ( ، يعني النصر ) كله لله ( .
ثم قال سبحانه : ( يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر
شيء ما قتلنا ههنا ( ، يقول : يسرون في قلوبهم ما لا يظهرون لك بألسنتهم ، والذي
أخفوا في أنفسهم أنهم قالوا : لو كنا في بيوتنا ما قتلنا ها هنا ، قال الله عز وجل لنبيه
( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل ( لهم يا محمد : ( لو كنتم في بيوتكم لبرز ( كما تقولون لخرج من البيوت
) الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ( ، فمن كتب عليه القتل لا يموت أبدا ، ومن
كتب عليه الموت لا يقتل أبدا ، ) وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور ) [ آية : 154 ] ، يقول : الله عليم بما في القلوب من الإيمان
والنفاق ، والذين أخفوا في أنفسهم قولهم : إن محمدا قد قتل ، وقولهم : لو كان لنا من
الأمر شيء ما قتلنا ها هنا ، يعني هذا المكان ، فهذا الذي قال الله سبحانه لهم : ( قل (
لهم يا محمد : ( لو كنتم في بيوتكم ( كما تقولون ) لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ( .
تفسير سورة آل عمران آية 155
آل عمران : ( 155 ) إن الذين تولوا . . . . .
قوله سبحانه : ( إن الذين تولوا منكم ( ، يعني انهزموا عن عدوهم مدبرين منهزمين
) يوم التقى الجمعان ( ، جمع المؤمنين وجمع المشركين يوم أحد ، ) إنما استزلهم الشيطان ( ، يعني استفزهم الشيطان ) ببعض ما كسبوا ( من الذنوب ، يعني
بمعصيتهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتركهم المركز ، منهم : عثمان بن عفان ، ورافع بن المعلى ، وخارجة
بن زيد ، وخذيفة بن عبيد بن ربيعة ، وعثمان بن عقبة ، ) ولقد عفا الله عنهم ( حين لم
يقتلوا جميعا عقوبة بمعصيتهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) إن الله غفور ( لذنوبهم ) حليم ) [ آية :
155 ] عنهم في هزيمتهم فلم يعاقبهم(1/198)
صفحة رقم 199
تفسير سورة آل عمران آية [ 156 ]
آل عمران : ( 156 ) يا أيها الذين . . . . .
ثم وعظ الله المؤمنين ألا يشكوا كشك المنافقين ، فقال سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا ( في القول ) كالذين كفروا ( ، يعني المنافقين ، ) وقالوا لإخوانهم ( ، يعني
عبد الله بن أبي ، وذلك أنه قال يوم أحد لعبد الله بن رباب الأنصاري وأصحابه : ( إذا ضربوا ( ، يعني ساروا ) في الأرض ( تجاراً ) أو كانوا غزى ) جمع غاز ، ) لو كانوا
عندنا ما ماتوا ( ، يعني التجار ، ) وما قتلوا ( ، يعني الغزاة ، قال عبد الله بن أبي ذلك
حين انهزم المؤمنون وقتلوا ، يقول الله عز وجل : ( ليجعل الله ذلك ( القتل
) حسرة ( ، يعني حزنا ) في قلوبهم والله يحي ) ) الموتى ( ( ويميت ( الأحياء لا يملكهما
غيره ، وليس ذلك بأيديهم ، ) والله بما تعملون بصير ) [ آية : 156 ] .
تفسير سورة آل عمران من [ 157 - 159 ]
آل عمران : ( 157 ) ولئن قتلتم في . . . . .
) ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم ( في غير قتل ) لمغفرة من الله ( لذنوبكم
) ورحمة خير مما يجمعون ) [ آية : 157 ] من الأموال ،
آل عمران : ( 158 ) ولئن متم أو . . . . .
ثم حذرهم القيامة ، فقال
) ولئن متم ( في غير قتل ) أو قتلتم ) ) في سبيله ( ( لإلى الله تحشرون ) [ آية : 158 ]
فيجزيكم بأعمالكم ،
آل عمران : ( 159 ) فبما رحمة من . . . . .
) فبما رحمة من الله لنت لهم ( ، فبرحمة الله كان إذ لنت لهم في
القول ، ولم تسرع إليهم بما كان منهم يوم أحد ، يعني المنافقين ، ) ولو كنت فظا (
باللسان ) غليظ القلب لانفضوا من حولك ( لتفرقوا عنك ، يعني المنافقين ، ) فاعف
عنهم ( ، يقول : اتركهم ) واستغفر لهم ( لما كان منهم يوم أحد ، ) وشاورهم في
الأمر ( ، وذلك أن العرب في الجاهلية كان إذا أراد سيدهم أن يقطع أمرا دونهم ولم(1/199)
صفحة رقم 200
يشاورهم شق ذلك عليهم ، فأمر الله عز وجل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يشاورهم في الأمر إذا أراد ،
فإن ذلك أعطف لقلوبهم عليه ، وأذهب لضغائنهم ، ) فإذا عزمت ( ، يقول : فإذا فرق
الله لك الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك ، ) فتوكل على الله ( ، يقول : فثق بالله ، ) إن الله يحب المتوكلين ) [ آية : 159 ] عليه ، يعني الذين يثقون به .
تفسير سورة آل عمران من [ 160 - 161 ]
آل عمران : ( 160 ) إن ينصركم الله . . . . .
) إن ينصركم الله ( ، يعني يمنعكم ، ) فلا غالب لكم ( ، يعني لا يهزمكم أحد ،
)( وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ( ، يعني يمنعكم من بعد الله ، ) وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) [ آية : 160 ] ،
آل عمران : ( 161 ) وما كان لنبي . . . . .
) وما كان لنبي أن يغل ( ، يعني أن يخون في الغنيمة
يوم أحد ولا يجور في قسمته في الغنيمة ، نزلت في الذين طلبوا الغنيمة يوم أحد ،
وتركوا المركز ، وقالوا : إنا نخشى أن يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : من أخذ شيئا فهو له ، ونحن ها هنا
وقوف ، فلما رآهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا من المركز حتى يأتيكم
أمري ؟ ' ، قالوا : تركنا بقية أخواننا وقوفا ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ظننتم أنا نغل ' ، فنزلت
) وما كان لنبي أن يغل ( ، ثم خوف الله عز وجل من يغل ، فقال : ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ( بر وفاجر ) وما كسبت ( من خير أو شر ،
)( وهم لا يظلمون ) [ آية : 161 ] في أعمالهم .
تفسير سورة آل عمران من [ 162 - 164 ]
آل عمران : ( 162 ) أفمن اتبع رضوان . . . . .
ثم قال سبحانه : ( أفمن اتبع رضوان الله ( ، يعني رضي ربه عز وجل ، ولم يغلل ،
)( كمن باء بسخط من الله ( ، يعني استوجب السخط من الله عز وجل في
الغلول ، ليسوا سواء ، ثم بين مستقرهما ، فقال : ( ومأواه ( ، يعني ومأوى من غل
) جهنم وبئس المصير ) [ آية : 162 ] ، يعني أهل الغلول .(1/200)
صفحة رقم 201
آل عمران : ( 163 ) هم درجات عند . . . . .
ثم ذكر سبحانه من لا يغل ، فقال : ( هم ( ، يعني لهم ) درجات ( ، يعني لهم
فضائل ) عند الله والله بصير بما يعملون ) [ آية : 163 ] من غل منكم ومن لم يغل
فهو بصير بعمله ،
آل عمران : ( 164 ) لقد من الله . . . . .
) لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم
آياته ( ، يعني القرآن ، ) ويزكيهم ( ، يعني ويصلحهم ، ) ويعلمهم الكتاب ( ،
يعني القرآن ) والحكمة ( ، يعني المواعظ التي في القرآن من الحلال والحرام
والسنة ، ) وإن كانوا من قبل ( أن يبعث محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ) لفي ضلال مبين ) [ آية :
164 ] ، يعني بين مثلها في الجمعة .
تفسير سورة آل عمران آية [ 165 ]
آل عمران : ( 165 ) أو لما أصابتكم . . . . .
) أو لما أصابتكم مصيبة ( ، وذلك أن سبعين رجلا من المسلمين قتلوا يوم أحد
يوم السبت في شوال لإحدى عشرة ليلة خلت منه ، وقتل من المشركين قبل ذلك ، بسنة
في سبع عشرة ليلة خلت من رمضان ببدر سبعين رجلا ، وأسروا سبعين رجلا من
المشركين ، فذلك قوله سبحانه : ( قد أصبتم مثليها ( من المشركين يوم بدر بمعصيتكم
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وترككم المركز ، ) قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء
قدير ) [ آية : 165 ] من النصرة والهزيمة قدير .
تفسير سورة آل عمران من [ 166 - 167 ]
آل عمران : ( 166 ) وما أصابكم يوم . . . . .
) وما أصابكم ( من القتل والهزيمة بأحد ) يوم التقى الجمعان ( جمع المؤمنين وجمع
المشركين ، ) فبإذن الله ( أصابكم ذلك ،
آل عمران : ( 167 ) وليعلم الذين نافقوا . . . . .
ثم قال ، ) وليعلم ( ، يقول : وليرى إيمانكم
يعني ) المؤمنين ) [ آية : 166 ] صبرهم ، ) وليعلم ( ، يعني وليرى ) الذين نافقوا ( في
إيمان أهل الشك عند البلاء والشدة ، يعني عبد الله بن أبي بن ملك الأنصاري وأصحابه
المنافقين ، ) وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ( المشركين عن دياركم
وأولادكم ، وذلك أن عبد الله بن رباب الأنصاري يوم أحد دعا عبد الله بن أبي ملك
يوم أحد للقتال ، فقال عبد الله بن أبي : ( قالوا لو نعلم قتالا ( ، يقول : لو نعلم أن(1/201)
صفحة رقم 202
يكون اليوم قتالا ) لاتبعنكم ( ، يقول الله عز وجل : لو استيقنوا بالقتال ما تبعوكم ،
)( هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون ) [ آية : 167 ] ، يعني من الكذب .
تفسير سورة آل عمران آية [ 168 ]
آل عمران : ( 168 ) الذين قالوا لإخوانهم . . . . .
فرجع يومئذ عبد الله بن أبي في ثلاثمائة ولم يشهدوا القتال ، فقال عبد الله بن رباب
وأصحابه : أبعدكم الله ، سيغني الله عز وجل نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين عن نصركم ، فلما انهزم
المؤمنون وقتلوا يومئذ ، قال عبد الله بن أبي : لو أطاعونا ما قتلوا ، يعني عبد الله بن رباب
وأصحابه ، فأنزل الله عز وجل في قول عبد الله بن أبي : ( الذين قالوا لإخوانهم ( في
النسب والقرابة ، وليسوا بإخوانهم في الدين ، ولا الولاية ، كقوله سبحانه : ( وإلى ثمود أخاهم صالحا ) [ هود : 61 ] ، ليس بأخيهم في الدين ولا في الولاية ، ولكن
أخاهم في النسب والقرابة ، ) وقعدوا ( عن القتال ، ) لو أطاعونا ما قتلوا ( فأوجب
الله لهم الموت صفرة قمأة والإيجاب لمن كرهوا قتله من أقربائهم ، فقال سبحانه : ( قل
فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) [ آية : 168 ] .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 169 - 171 ]
آل عمران : ( 169 ) ولا تحسبن الذين . . . . .
) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ( ، يعني قتلى بدر من قتل من المسلمين يومئذ
وهم أربعة عشر رجلا ، ستة من المهاجرين ، مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب
رضى الله عنه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم بدر : ' سيد شهداء أمتي مهجع ' ، وهو أول قتيل قتل
يوم بدر ، رضي الله عنه ، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي ،
وعمير بن أبي وقاص بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ، وذو الشماليل عبد
عمرو بن نضلة بن عمرو بن نضلة بن عبد عمرو القيساني ، وعقيل بن بكير ، وصفوان
ابن بيضاء ، رضي الله عنهم ، وثمانية من الأنصار : حارثة بن سراقة ، ويزيد بن الحارث بن
جشم ، ومعوذ بن الحارث ، وعوف بن الحارث بن رفاعة ابنا عفراء ، الاسم اسم أمهما(1/202)
صفحة رقم 203
عفراء ، ورافع بن المعلى ، وسعد بن حنتمة ، وعمرو بن الحمام بن الجموح ، ومبشر بن
عبد المنذر .
فقال رجل : يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين قتلوا ببدر ، فأنزل الله تعالى : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ( ، يعني قتلى بدر ، ) أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (
[ آية : 169 ] الثمار في الجنة ، وذلك أن الله تعالى جعل أرواح الشهداء طيرا خضرا ترعى
في الجنة ، لها قناديل معلقة بالعرش تأوى إلى قناديلها ، فاطلع الله عز وجل عليهم ، فقال
سبحانه : هل تستزيدوني شيئا فأزيدكم ؟ قالوا : أولسنا نسرح في الجنة حيث تشاء ؟ ثم
اطلع عليهم أخرى ، فقال سبحانه : هل تستزيدوني شيئا فأزيدكم ؟ ثم اطلع الثالثة ، فقال
سبحانه : هل تستزيدوني شيئاً فأزيدكم ؟ قالوا : ربنا ، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا
فنقاتل في سبيلك مرة أخرى لما نرى من كرامتك إيانا ، ثم قالوا فيما بينهم : ليت إخواننا
الذين في دار الدنيا يعلمون ما نحن فيه من الكرامة والخير والرزق ، فإن شهدوا قتالا
سارعوا بأنفسهم إلى الشهادة ، فسمع الله عز وجل كلامهم ، فأوحى إليهم : أني منزل
على نبيكم ومخبر إخوانكم بما أنتم فيه ، فاستبشروا بذلك ، فأنزل الله عز وجل يحبب
الشهادة إلى المؤمنين : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ( من الثمار .
آل عمران : ( 170 ) فرحين بما آتاهم . . . . .
ثم قال سبحانه : ( فرحين بما آتاهم الله ( ، يعني راضين بما أعطاهم الله ) من فضله ( ، يعني الرزق ، ) ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ( ، يعني من بعدهم
من إخوانهم في الدنيا أنهم لو رأوا قتالاً لاستشهدوا ليلحقوا بهم ، ثم قال سبحانه
) ألا خوف عليهم ( من العذاب ، ) ولا هم يحزنون ) [ آية : 170 ] عند الموت ،
آل عمران : ( 171 ) يستبشرون بنعمة من . . . . .
) يستبشرون بنعمة من الله ( ، يعني رحمة من الله ) وفضل ( ورزق ، ) وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ) [ آية : 171 ] ، يعني أجر المصدقين بتوحيد الله عز وجل .
تفسير سورة آل عمران آية [ 172 ]
آل عمران : ( 172 ) الذين استجابوا لله . . . . .
) الذين استجابوا لله والرسول ( ، وذلك أن المشركين انصرفوا يوم أحد ولهم الظفر ،
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إني سائر في أثر القوم ' ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد على بغلة شهباء ،
فدب المنافقون إلى المؤمنين ، فقالوا : أتوكم في دياركم فوطئوكم قتلا ، وكان لكم النصر(1/203)
صفحة رقم 204
يوم بدر ، فكيف تطلبونهم وهم اليوم عليكم أجرأ وأنت اليوم أرعب . ؟ فوقع في أنفس
المؤمنين قول المنافقين ، فاشتكوا ما بهم من الجراحات ، فأنزل الله عز وجل : ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) [ آل عمران : 140 ] إلى آخر الآية .
وأنزل الله تعالى : ( إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون ) [ النساء : 104 ] ، يعني
تتوجعون من الجراحات ، إلى آخر الآية ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لأطلبنهم ولو بنفسي ' ،
فانتدب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سبعون رجلا من المهاجرين والأنصار ، حتى بلغوا سفراء بدر
الصغرى ، فبلغ أبا سفيان أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يطلبه ، فأمعن عائدا إلى مكة مرعوبا ، ولقى أبو
سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي وهو يريد المدينة ، فقال : يا نعيم ، بلغنا أن محمدا في
الأثر ، فأخبره أن أهل مكة قد جمعوا جمعا كثيرا من قبائل العرب لقتالكم ، وأنهم لقوا أبا
سفيان ، فلاموه بكفه عنكم بعد الهزيمة حتى هموا به فردوه ، فإن رددت عنا محمدا فلك
عشر ذود من الإبل إذا رجعت إلى مكة ، فسار نعيم فلقى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الصفراء ، فقال
' ما وراءك يا نعيم ؟ ' ، فأخبره بقول أبي سفيان ، ثم قال : أتاكم الناس ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم )
' ) حسبنا الله ونعم الوكيل ( ، نعم الملتجأ ونعم الحرز ' ، [ آل عمران : 173 ]
فأنزل الله سبحانه : ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ( ، يعني
الجراحات ، ) للذين أحسنوا منهم ( الفعل ) واتقوا ( معاصيه ) أجر عظيم ) [ آية :
172 ] ، وهو الجنة .
تفسير سورة آل عمران آية 173
آل عمران : ( 173 ) الذين قال لهم . . . . .
) الذين قال لهم الناس ( ، يعني نعيم بن مسعود وحده ، ) إن الناس قد جمعوا لكم ( الجموع لقتالكم ، ) فاخشوهم فزادهم إيمانا ( ، يعني تصديقاً ، ) وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) [ آية : 173 ] ، يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، رضى الله عنهم ،
فأصابوا .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 174 - 175 ]
آل عمران : ( 174 ) فانقلبوا بنعمة من . . . . .
) فانقلبوا ( ، يعني فرجعوا إلى المدينة ) بنعمة من الله وفضل ( ، يعني الرزق وذلك(1/204)
صفحة رقم 205
أنهم أصابوا سرية في الصفراء ، وذلك في ذي القعدة ، ) لم يمسسهم سوء ( من
عدوهم في وجوههم ، ) واتبعوا رضوان الله ( ، يعني رضى الله في الاستجابة لله عز
وجل ، وللرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في طلب المشركين ، يقول الله سبحانه ، ) والله ذو فضل عظيم (
[ آية : 174 ] على أهل طاعته .
قال :
حدثنا عبيد الله بن ثابت : قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا هذيل ، قال : مقاتل :
فنزلت هذه الآيات في ذي القعدة بذي الحليفة حين انصرفوا عن طلب أبي سفيان
وأصحابه بعد قتال أحد ،
آل عمران : ( 175 ) إنما ذلكم الشيطان . . . . .
) إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
ندب الناس يوم أحد في طلب المشركين ، فقال المنافقون للمسلمين ، قد رأيتم ما لقيتم لم
ينقلب إلا شريد ، وأنتم في دياركم تصحرون وأنتم أكلة رأس ، والله لا ينقلب منكم
أحد ، فأوقع الشيطان قول المنافقين في قلوب المؤمنين ، فأنزل الله عز وجل : ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ( ، يعني يخوفهم بكثرة أوليائه من المشركين ، ) فلا تخافوهم وخافون ( في ترك أمري ) إن كنتم مؤمنين ) [ آية : 175 ] ، يعني إذ كنتم ،
يقول : ( إن كنتم مؤمنين ( فلا تخافوهم .
تفسير سورة آل عمران من [ 176 - 177 ]
آل عمران : ( 176 ) ولا يحزنك الذين . . . . .
ثم قال : ( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ( ، يعني المشركين يوم أحد ، ) إنهم لن يضروا الله شيئا ( ، يقول : لن ينقصوا الله شيئا من ملكه وسلطانه لمسارعتهم في
الكفر ، وإنما يضرون أنفسهم بذلك ، ) يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ( ، يعني
نصيبا في الجنة ، ) ولهم عذاب عظيم ) [ آية : 176 ] ،
آل عمران : ( 177 ) إن الذين اشتروا . . . . .
ثم قال سبحانه يعنيهم : ( إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان ( ، يعني باعوا الإيمان بالكفر ، ) لن يضروا الله ( ، يعني لن
ينقصوا الله من ملكه وسلطانه ) شيئا ( حين باعوا الإيمان بالكفر ، إنما ضروا أنفسهم
بذلك ، ) ولهم عذاب أليم ) [ آية : 177 ] ، يعني وجيع .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 178 - 179 ](1/205)
صفحة رقم 206
آل عمران : ( 178 ) ولا يحسبن الذين . . . . .
) ولا يحسبن الذين كفروا ( أبا سفيان وأصحابه يوم أحد ، ) أنما نملي لهم ( حين
ظفروا ) خير لأنفسهم إنما نملي لهم ( في الكفر ، ) ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين (
[ آية : 178 ] ، يعني الهوان ،
آل عمران : ( 179 ) ما كان الله . . . . .
) ما كان الله ليذر المؤمنين ( يا معشر الكفار ) على ما أنتم عليه ( من الكفر ، ) حتى يميز الخبيث من الطيب ( في علمه حتى يميز أهل الكفر
من أهل الإيمان ، نظيرها في الأنفال ، ثم قال سبحانه : ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ( ، وذلك أن الكفار قالوا : إن كان محمد صادقا ، فليخبرنا بمن يؤمن منا ومن
يكفر ، فأنزل الله عز وجل : ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ( ، يعني ليطلعكم على غيب
ذلك ، إنما الوحي إلى الأنبياء بذلك ، فذلك قوله سبحانه : ( ولكن الله يجتبي (
يستخلص ) من رسله من يشاء ( ، فيجعله رسولا فيوحي إليه ذلك ، ليس الوحي إلا إلى
الأنبياء ، ) فآمنوا بالله ورسله ( ، يعني صدقوا بتوحيد الله تعالى ، وبرسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( وإن تؤمنوا ( ، يعني تصدقوا بتوحيد الله تعالى ، ) وتتقوا ( الشرك ، ) فلكم أجر عظيم ) [ آية : 179 ] .
تفسير سورة آل عمران آية 180
آل عمران : ( 180 ) ولا يحسبن الذين . . . . .
) ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله ( ، يعني بما أعطاهم الله من
فضله ، يعني من الرزق ، وبخلوا بالزكاة ، إن ذلك ) هو خيرا لهم بل ( البخل ) هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ( ، وذلك أن كنز أحدهم يتحول شجاعا أقرع
ذكر ، ولفيه زبيبتان كأنهما جبلان ، فيطوق به في عنقه فينهشه ، فيتقيه بذراعيه
فيلتقمهما حتى يقضي بين الناس ، فلا يزال معه حتى يساق إلى النار ويغل ، وذلك قوله
سبحانه : ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ( ، ثم قال سبحانه : ( ولله ميراث السماوات والأرض ( ، يقول : إن بخلوا بالزكاة فالله يرثهم ويرث أهل السموات ، وأهل
الأرضين ، فيهلكون ويبقى ، ) والله بما تعملون خبير ) [ آية : 180 ] ، يعني في ترك
الصدقة ، يعني اليهود .
تفسير سورة آل عمران آية [ 181 - 182 ](1/206)
صفحة رقم 207
آل عمران : ( 181 ) لقد سمع الله . . . . .
) لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
كتب مع أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، إلى يهود قينقاع يدعوهم إلى إقامة الصلاة ،
وإيتاء الزكاة ، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا ، قال فنحاص اليهودي : إن الله فقير حين
يسألنا القروض ونحن أغنياء ، ويقول الله عز وجل ، ) سنكتب ما قالوا ( ، فأمر الحفظة
أن تكتب كل ما قالوا ، ) و ( نكتب ) وقتلهم الأنبياء بغير حق ( ، أي تقول لهم
خزنة جهنم في الآخرة : ( ونقول ذوقوا عذاب الحريق ) [ آية : 181 ] ،
آل عمران : ( 182 ) ذلك بما قدمت . . . . .
) ذلك (
العذابِ ) بما قدمت أيديكم ( من الكفر والتكذيب ، ) وأن الله ليس بظلام للعبيد ) [ آية : 182 ] فيعذب على غير ذنب .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 183 - 184 ]
آل عمران : ( 183 ) الذين قالوا إن . . . . .
ثم أخبر عن اليهود حين دعوا إلى الإيمان ، فقال تبارك وتعالى : ( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ( ، فقال عز وجل
لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل ( لهم ) قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات ( ، يعني التبيين بالآيات ،
)( وبالذي قلتم ( من أمر القربان ، ) فلم قتلتموهم ( ، فلم قتلتم أنبياء الله من قبل
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إن كنتم صادقين ) [ آية : 183 ] بما تقولون :
آل عمران : ( 184 ) فإن كذبوك فقد . . . . .
) فإن كذبوك ( يا
محمد ، يعزى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ليصبر على تكذيبهم ، فلست بأول رسول كذب ، فذلك قوله
سبحانه : ( فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات ( ، يعني بالآيات ، ) والزبر (
يعني بحديث ما كان قبلهم والمواعظ ، ) والكتاب المنير ) [ آية : 184 ] ، يعني
المضئ البين الذي فيه أمره ونهيه .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 185 - 186 ](1/207)
صفحة رقم 208
آل عمران : ( 185 ) كل نفس ذائقة . . . . .
ثم خوفهم ، فقال : ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم ( ، يعني جزاء
أعمالكم ، ) يوم القيامة فمن زحزح ( ، يعني صرف ) عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ( ، يعني فقد نجى ، ثم وعظهم ، فقال : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (
[ آية : 185 ] ، يعني الفاني الذي ليس بشئ ،
آل عمران : ( 186 ) لتبلون في أموالكم . . . . .
) لتبلون في أموالكم وأنفسكم ( ، نزلت في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، يعني بالبلاء
والمصيبات ، ) ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ( حين قالوا : إن الله
فقير ، ثم قال : ( ومن الذين أشركوا ( ، يعني مشركي العرب ، ) أذى كثيرا (
باللسان والفعل ، ) وإن تصبروا ( على ذلك الأذى ، ) وتتقوا ( معصيته ، ) فإن ذلك من عزم الأمور ) [ آية : 186 ] ، يعني ذلك الصبر والتقوى من خير الأمور التي
أمر الله عز وجل بها .
تفسير سورة آل عمران آية 187 ]
آل عمران : ( 187 ) وإذ أخذ الله . . . . .
) وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ( ، يعني أعطوا التوراة ، يعني اليهود ،
)( لتبيننه للناس ( ، يعني أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في التوراة ، ) ولا تكتمونه ( ، أي أمره وأن
تتبعوه ، ) فنبذوه ( ، يعني فجعلوه ) وراء ظهورهم واشتروا به ( بكتمان أمر محمد
( صلى الله عليه وسلم ) ) ثمنا قليلا ( ، وذلك أن سفلة اليهود كانوا يعطون رءوس اليهود من ثمارهم
وطعامهم عند الحصاد ، ولو تابعوا محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) لذهب عنهم ذلك المأكل ، يقول الله عز
وجل : ( فبئس ما يشترون ) [ آية : 187 ]
تفسير سورة آل عمران آية 188
آل عمران : ( 188 ) لا تحسبن الذين . . . . .
) لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ( ، وذلك أن اليهود قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين دخلوا
عليه : نعرفك نصدقك وليس ذلك في قلوبهم ، فلما خرجوا من عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهم
المسلمون : ما صنعتم ؟ قالوا : عرفناه وصدقناه ، فقال المسلمون : أحسنتم ، بارك الله فيكم ،
وحمدهم المسلمون على ما أظهروا من الإيمان بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذلك قوله سبحانه :(1/208)
صفحة رقم 209
) ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ( يا محمد ، ) فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) [ آية : 188 ] ، يعني وجيع .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 189 - 191 ]
آل عمران : ( 189 ) ولله ملك السماوات . . . . .
ثم عظم الله نفسه ، فقال : ( ولله ملك السماوات والأرض ( وما بينهما من الخلق
عبيده وفي ملكه ، ) والله على كل شيء قدير ) [ آية : 189 ] ،
آل عمران : ( 190 ) إن في خلق . . . . .
) إن في خلق السماوات والأرض ( خلقين عظيمين ، ) واختلف اليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) [ آية :
190 ] ، يعني أهل اللب والعقل ،
آل عمران : ( 191 ) الذين يذكرون الله . . . . .
ثم نعتهم ، فقال سبحانه : ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ( ،
يقول : عبثا لغير شيء ، لقد خلقتهما لأمر قد كان ، ) سبحانك فقنا عذاب النار ) [ آية :
191 ] .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 192 - 195 ]
آل عمران : ( 192 ) ربنا إنك من . . . . .
) ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ( ، يعني من خلدته في النار فقد أهنته ،
)( وما للظالمين من أنصار ) [ آية : 192 ] ، يعني وما للمشركين من مانع يمنعهم من
النار ، قالوا :
آل عمران : ( 193 ) ربنا إننا سمعنا . . . . .
) ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان ( ، فهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) داعيا يدعو إلى
التصديق ، ) أن آمنوا بربكم ( ، يعني صدقوا بتوحيد ربكم ، ) فآمنا ( ، أي فأجابه
المؤمنون ، فقالوا : ربنا آمنا ، يعني صدقنا ، ) ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا ( ، يعني امح عنا خطايانا ، ) وتوفنا مع الأبرار ) [ آية : 193 ] ، يعني(1/209)
صفحة رقم 210
المطيعين ، قالوا :
آل عمران : ( 194 ) ربنا وآتنا ما . . . . .
) ربنا وآتنا ( ، يعني وأعطنا ) ما وعدتنا على رسلك ( ، يقول : أعطنا
من الجنة ما وعدتنا على ألسنة رسلك ، ) ولا تخزنا ( ، يعني ولا تعذبنا ) يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ) [ آية : 194 ]
آل عمران : ( 195 ) فاستجاب لهم ربهم . . . . .
فأخبر الله عز وجل بفعلهم وبما أجابهم ، وأنجز الله عز وجل لهم موعوده ، فذلك قوله
سبحانه : ( فاستجاب لهم ربهم ( ، فقال : ( أني لا أضيع عمل عامل منكم ( في الخير ،
)( من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا ( إلى المدينة ، ) وأخرجوا من ديارهم ( ، وذلك أن كفار مكة أخرجوا مؤمنيهم من مكة ، ثم قال سبحانه : ( وأوذوا في سبيلي ( ، يعني في سبيل دين الإسلام ، ) وقاتلوا ( المشركين ، ) وقاتلوا لأكفرن
عنهم ( ، يعني لأمحون عنهم ) سيئاتهم ( ، يعني خطاياهم ، ) ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ( ، يعني بجنات البساتين ، ذلك الذي ذكر كان ) ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ) [ آية : 195 ] ، يعني الجنة ، نزلت في أم سلمة أم المؤمنين ،
رضى الله عنها ، ابنة أبي أمية المخزومي حين قالت : ما لنا معشر النساء عند الله خير ،
وما يذكرنا بشيء ففيها نزلت : ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ) [ الأحزاب : 35 ] في الأحزاب إلى آخر الآية ، فأشرك الله عز وجل
الرجال مع النساء في الثواب كما شاركن الرجال في الأعمال الصالحة في الدنيا .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 196 - 197 ]
آل عمران : ( 196 ) لا يغرنك تقلب . . . . .
) لا يغرنك ( يا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) تقلب الذين كفروا في البلاد ) [ آية : 196 ] ، نزلت
في مشركي العرب ، وذلك أن كفار مكة كانوا في رخاء ولين عيش حسن ، فقال بعض
المؤمنين : أعداء الله فيما ترون من الخير وقد أهلكنا الجهد ، فأخبر الله عز وجل بمنزلة
الكفار في الآخرة ، وبمنزلة المؤمنين في الآخرة ، فقال سبحانه : ( لا يغرنك ( يا محمد
( صلى الله عليه وسلم ) ما فيه الكفار من الخير والسعة ، فإنما هو
آل عمران : ( 197 ) متاع قليل ثم . . . . .
) متاع قليل ( يمتعون بها إلى آجالهم ،
)( ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ) [ آية : 197 ] ، فبين الله تعالى مصيرهم .
تفسير سورة آل عمران من آية [ 198 - 199 ](1/210)
صفحة رقم 211
آل عمران : ( 198 ) لكن الذين اتقوا . . . . .
ثم بين منازل المؤمنين في الآخرة ، فقال سبحانه : ( لكن الذين اتقوا ربهم ( وحدوا
ربهم ، ) لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ( لا يموتون ، كان ذلك ) نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار ) [ آية : 198 ] ، يعني المطيعين ،
آل عمران : ( 199 ) وإن من أهل . . . . .
) وإن من أهل الكتاب ( ، يعني ابن سلام ، ) لمن يؤمن بالله ( ، يعني يصدق بالله ، ) وما أنزل إليكم ( ، يعني أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من القرآن ، ) وما أنزل إليهم ( من التوراة ، ثم نعتهم ،
فقال : ( خاشعين لله ( ، يعني متواضعين لله ، ) لا يشترون بآيات الله ( ، يعني بالقرآن
) ثمنا قليلا ( ، يعني عرضا يسيرا من الدنيا كفعل اليهود بما أصابوا من سفلتهم من
المأكل من الطعام والثمار عند الحصاد ، ثم قال يعني مؤمني أهل التوراة ابن سلام
وأصحابه ، ) أولئك لهم أجرهم ( ، يعني جزاؤهم في الآخرة ) عند ربهم ( ،
وهي الجنة ، ) إن الله سريع الحساب ) [ آية : 199 ] ، يقول : كأنه قد جاء .
تفسير سورة آل عمران آية [ 200 ]
آل عمران : ( 200 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا اصبروا ( على أمر الله عز وجل وفرائضه ، ) وصابروا ( مع
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في المواطن ، ) ورابطوا ( العدو في سبيل الله حتى يدعوا دينهم لدينكم ،
)( واتقوا الله ( ولا تعصوا ، ومن يفعل ذلك فقد أفلح ، فذلك قوله : ( لعلكم تفلحون ) [ آية : 200 ]
قال :
حدثنا عبد الله بن ثابت ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني الهذيل ، قال : سمعت أبا
يوسف يحدث عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، قال : كتب
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأهل نجران : ' هذا ما كتب محمد لأهل نجران في كل ثمرة ، وكل صفراء
وبيضاء وسوداء ورقيق ، فأفضل عليهم وترك ذلك كله على ألفي حلة من خلل الألوان ،
في كل صفر ألف حلة ، كل حلة أوقية ، وفي كل رجب ألف حلة ، كل حلة أوقية ، فما
زاد من حلل الخراج على الأواق فبحسابه ، وما قصر من درع ، أو حلة ، أو خيل ، أو
ركاب ، أو عرض ، أخذ منهم بحسابه ، وعلى نجران مثوبة رسل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشرين
ليلة ، ولا تحبس رسولى فوق شهر ، وعليهم عارية ثلاثين درعا ، وثلاثين فرسا ، وثلاثين
بعيرا إذا كان كبد باليمن ذو معذرة ، ولنجران وحاشيتها جوار الله عز وجل ، وذمة(1/211)
صفحة رقم 212
محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أنفسهم ، ومالهم وأرضهم ، وأموالهم ، وغائبهم ، وشاهدهم ،
وتابعهم ، ولا يغير ما كانوا عليه ، ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا ملة من مللهم ، ولا
يغير أسقف عن أسقفيته ، ولا راهب عن رهبانيته ، وعلى ما تحت أيديهم من قليل
وكثير ، وليس عليهم ربا ولا دم جاهلية ، ولا يحسرون ، ولا يعشرون ، ولا يطأ أرضهم
حاشر ، ومن سأل فيهم حقا أنصف ، غير ظالمين ولا مظلومين ، ومن أكل ربا من ذي
قبل ، فذمتي منه بريئة ، ولا يؤخذ رجل منهم بطلب آخر ، وكل ما كان في هذه
الصحيفة جوار الله عز وجل ، وذمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيما لهم وعليهم غير متغلبين بظلم ' .
شهد أبو سفيان بن حرب ، وغيلان بن عمرو ، ومالك بن عوف النضري ، والأقرع
ابن حابس ، والمغيرة ، وكتب علي بن أبي طالب ، وزعم أن أبا بكر ، رضي الله عنه ، كتب
لهم كتاباً من كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال :
حدثنا عبد الله ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا الهذيل : سمعت المسيب والضرير
يحدثان عن الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : لو كان عليا طاعنا على عمر بن
الخطاب ، رضي الله عنهما ، لطعن عليه حين جاء أهل نجران ومعهم قطعة أيدم فيه كتاب
عليه خاتم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا لعلي ، عليه السلام : ننشدك الله كتابك بيدك ، وشفاعتك
بلسانك ، ألا ما رددتنا إلى نجران ، فقال علي ، رضي الله عنه : دعوني ، فإن عمر ، رضي
الله عنه ، كان رشيد الأمر .
قال الأعمش : فسألت سالما : كيف كان إخراج عمر ، رضي الله عنه ، إياهم ؟ قال :
كثروا حتى صاروا أربعين ألف مقاتل ، فخاف المسلمون أن يميلوا عليهم ، فوقع بينهم
شر ، فجاءوا إلى عمر ، رضي الله عنه ، فقالوا : قد فسد الذي بيننا ، فذهبوا ، فاغتنمها
عمر ، رضي الله عنه ، ثم جاءوا إليه ، فقالوا : قد اصطلحنا فأقلنا ، فقال : لا والله لا أقيلكم
أبدا ، فأخرج فرقة إلى الشام ، وفرقة إلى العراق ، وفرقة إلى أرض أخرى .
قال : حدثنا عبيد الله بن ثابت ، قال :
حدثني أبي ، قال : حدثنا الهذيل في قوله عز
وجل : تفسير سورة [ آل عمران : 186 ] ، فيها تقديم ، ولم أسمع مقاتل .(1/212)
صفحة رقم 213
سورة النساء
مدنية وهي مائة وستة وسبعون آية كوفية
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة النساء آية 1
النساء : ( 1 ) يا أيها الناس . . . . .
) يا أيها الناس اتقوا ربكم ( يخوفهم ، يقول : اخشوا ربكم ، ) الذي خلقكم من نفس واحدة ( ، يعني آدم ، ) وخلق منها زوجها ( ، يعني من نفس آدم من ضلعه حواء ، وإنما
سميت حواء لأنها خلقت من حي آدم ، قال سبحانه : ( وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ( ،
يقول : وخلق من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء ، هم ألف أمة ، ) واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ( ، يقول : تسألون بالله بعضكم ببعض الحقوق والحوائج ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها وصلوها ، ، ) إن الله كان عليكم رقيبا ) [ آية : 1 ] ، يعني حفيظاً لأعمالكم .
تفسير سورة النساء آية 2
النساء : ( 2 ) وآتوا اليتامى أموالهم . . . . .
) وآتوا اليتامى ( ، يعني الأوصياء ، يعني أعطوا اليتامى ) أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ( ، يقول : ولا تتبدلوا الحرام من أموال اليتامى بالحلال من أموالكم ، ولا تذرو
الحلال وتأكلوا الحرام ، ) ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ( ، يعني مع أموالكم ، كقوله
سبحانه : ( فأرسل إلى هارون ) [ الشعراء : 13 ] ، يعني معى هارون ، ( إنه كان حوبا
كبيرا ) ^ [ آية : 2 ] ، يعني إثما كبيرا بلغة الحبش ، وقد كان أهل الجاهلية يسمون الحوب
الإثم ، نزلت في رجل من غطفان ، يقال له : المنذر بن رفاعة ، كان معه مال كبير ليتيم ،
وهو ابن أخيه ، فلما بلغ طلب ماله فمنعه ، فخاصمه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأمر أن يرد عليه
ماله ، وقرأ عليه الآية ، فلما سمعها قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ، ونعوذ بالله من الحوب(1/213)
صفحة رقم 214
الكبير ، فدفع إليه ماله ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' هكذا من يطع ربه عز وجل ، ويوق شح نفسه ،
فإنه يحل داره ' ، يعني جنته ، فلما قبض الفتى ماله ، أنفقه في سبيل الله ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
' ثبت الأجر وبقى الوزر ' ، فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : قد عرفنا ثبت الأجر ، فكيف بقى الوزر
وهو ينفق في سبيل الله ؟ فقال الأجر للغلام ، والوزر على والده .
تسير سورة النساء آية 3
النساء : ( 3 ) وإن خفتم ألا . . . . .
) وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ( ، نزلت في خميصة بن الشمردل ، وذلك أن الله
عز وجل أنزل : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ( ، يعني بغير حق ، ) إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) [ النساء 10 ] ، فخاف المؤمنون الحرج ،
فعزلوا كل شيء لليتيم من طعام ، أو لبن ، أو خادم ، أو ركوب ، فلم يخالطوهم في شيء
منه ، فشق ذلك عليهم وعلى اليتامى ، فرخص الله عز وجل من أمولهم في الخلطة ،
فقال : ( وإن تخالطوهم فإخوانكم ) [ البقرة : 220 ] : ، فنسخ من ذلك الخلطة ، فسألوا
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عما ليس به بأس ، وتركوا أن يسألوه عما هو أعظم منه ، وذلك أنه كان
يكون عند الرجل سبع نسوة ، أو ثمان ، أو عشر حرائر ، لا يعدل بينهن ، فقال سبحانه :
( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ( ، يقول : ألا تعدلوا في أمر اليتامى ، فخافوا الإثم
في أمر النساء ، واعدلوا بينهن ، فذلك قوله عز وجل : ( فانكحوا ما طاب لكم ) ، يعني ما
يحل لكم ) من النساء مثنى وثلاث ورباع ( ، ولم يطب فوق الأربع ، ثم قال سبحانه :
( فإن خفتم ) ) الإثم ( ( ألا تعدلوا ( في الاثنين والثلاث والأربع في القسمة والنفقة ،
)( فواحدة ( ، يقول : فتزوج واحدة ولا تأثم ، فإن خفت أن لا تحسن إلى تلك الواحدة ؛
) أو ما ملكت أيمانكم ( من الولائد ، فاتخذ منهن ) ذلك أدنى ألا تعولوا ) [ آية : 3 ] ،
يقول : ذلك أجدر ألا تميلوا عن الحق في الواحدة وفي إتيان الولائد بعضهم على بعض ،
ولما نزلت : ( مثنى وثلاث ورباع ( ، كان يومئذ تحت قيس بن الحارث ثمان نسوة ، فقال
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' خل سبيل أربعة منهن وأمسك أربعة ' ، فقال للتي يريد إمساكها : أقبلي ،(1/214)
صفحة رقم 215
وللتي لا يريد إمساكها أدبري ، فأمسك أربعة وطلق أربعة .
تفسير سورة النساء من آية [ 4 - 5 ]
النساء : ( 4 ) وآتوا النساء صدقاتهن . . . . .
) وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ( ، وذلك أن الرجل كان يتزوج بغير مهر ، فيقول :
أرثك وترثيني ، وتقول المرأة : نعم ، فأنزل الله عز وجل : ( وآتوا النساء ( ، يعني أعطوا
الأزواج النساء ) صدقاتهن ( ، يعني مهورهن ) نحلة ( ، يعني فريضة ، ) فإن طبن لكم ( ، يعني أحللن لكم ، يعني الأزواج ) عن شيء منه ( ، يعني المهر ، ) نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) [ آية : 4 ] ، يعني حلالا ، مريئا يعني طيبا .
النساء : ( 5 ) ولا تؤتوا السفهاء . . . . .
) ولا تؤتوا السفهاء ( ، يعني الجهال بموضع الحق في الأموال ، يعني لا تعطوا
نساءكم وأولادكم ) أموالكم التي جعل الله لكم قياما ( ، يعني قواما لمعاشكم ، فإنهن
سفهاء ، يعني جهالا بالحق ، نظيرها في البقرة : ( سفيها أو ضعيفا ) [ البقرة : 282 ] ،
ولا يدري الصغير ما عليه من الحق في ماله ، ولكن ) وارزقوهم فيها ( ، يقول : أعطوهم
منها ) واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ) [ آية : 5 ] ، يعني العدة الحسنة أني سأفعل ، وكنت
أنت القائم على مالك .
تفسير سورة النساء آية 6
النساء : ( 6 ) وابتلوا اليتامى حتى . . . . .
) وابتلوا اليتامى ( ، يقول : اختبروا عقولهم ، ) حتى إذا بلغوا النكاح ) ، يعني الحلم ،
)( فإن آنستم منهم رشدا ( معشر الأولياء والأوصياء صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم ،
)( فادفعوا إليهم أموالهم ( التي معكم ) ولا تأكلوها إسرافا ( ، يعني بغير حق ، ) وبدارا
أن يكبروا ( ، يقول : يبادر أكلها خشية أن يبلغ اليتيم الحلم فيأخذ منه ماله ، ثم رخص(1/215)
صفحة رقم 216
للذي معه مال اليتيم ، فقال سبحانه : ( ومن كان غنيا فليستعفف ( عن أموالهم ، ) ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ( ، يعني بالقرض ، فإن أيسر رد عليه ، وإلا فلا إثم عليه ،
)( فإذا دفعتم ( ، يعني الأولياء والأوصياء ، ) إليهم ( ، يعني إلى اليتامى ) أموالهم ( إذا
احتلموا ، ) فأشهدوا عليهم ( بالدفع إليهم ، ) وكفى بالله حسيبا ) [ آية : 6 ] ، يعني شهيدا ،
فلا شاهد أفضل من الله بينكم وبينهم ، نزلت في ثابت بن رفاعة وعمه ، وذلك أن رفاعة
توفي وترك ابنه ثابت ، فولى ميراثه ، فنزلت فيه : ( وابتلوا اليتامى ( ، يقول : واختبروا ،
يعني به عم ثابت بن رفاعة ) اليتامى ( ، يعني ثابت بن رفاعة ، الآية كلها ، حتى قال
سبحانه : ( وكفى بالله حسيبا ( .
تفسير سورة النساء آية 7
النساء : ( 7 ) للرجال نصيب مما . . . . .
وقوله سبحانه : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ( ، نزلت في أوس بن
مالك الأنصاري ، وذلك أن أوس بن مالك الأنصاري توفي وترك امرأته أم كحة
الأنصارية ، وترك ابنتين إحداهن صفية ، وترك ابنى عمه عرفطة وسويد ابنى الحارث ، فلم
يعطياها ولا ولداها شيئا من الميراث ، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الولدان
الصغار شيئا ، ويجعلون الميراث لذوي الأسنان منهم ، فانطلقت أم كحة وبناتها إلى النبي
( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالت : إن أباهن توفي ، وإن سويد بن الحارث وعرفطة منعاهن حقهن من
الميراث ، فأنزل الله عز وجل في أم كحة ويناتها : ( للرجال نصيب ( ، يعني حظا ،
)( وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ( ، يعني حظا ) مما قل منه ( ، يعني من
الميراث ، ) أو كثر نصيبا مفروضا ) [ آية : 7 ] ، يعني حظا مفروضا ، يعني معلوما ،
فأخذت أم كحة الثمن وبناتها الثلثين ، وبقيته لسويد وعرفطة .
تفسير سورة النساء آية 8
النساء : ( 8 ) وإذا حضر القسمة . . . . .
) وإذا حضر القسمة ( ، يعني المواريث ، فيها تقديم ، وإذا حضر ) أولوا القربى ( ، يعني قرابة الميت ، ) واليتامى والمساكين ( قسمة المواريث ، ) فارزقوهم منه ( ، يعني فأعطوهم من الميراث ، وإن قل ، وليس بموقت هذه قبل قسمة المواريث ،
)( وقولوا لهم قولا معروفا ) [ آية : 8 ] ، يقول سبحانه : إن كانت الورثة صغارا فليقل(1/216)
صفحة رقم 217
أولياء الورثة لأهل هذه القسمة : إن بلغوا أمرناهم أن يدفعوا حقكم ويتبعوا وصية ربهم
عز وجل ، وإن ماتوا ورثناهم وأعطيناكم حقكم ، فهذا القول المعروف ، يعني العدة
الحسنة .
تفسير سورة النساء آية 9
النساء : ( 9 ) وليخش الذين لو . . . . .
ثم قال عز وجل : ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا ( ، فهو الرجل
يحضر الميت ، فيقول له : قدم لنفسك ، أوص لفلان وفلان ، حتى يوصي بعامة ماله ، فيزيد
على الثلث ، فنهى الله عز وجل عن ذلك ، فقال : وليخش الذين يأمرون الميت بالوصية
بأكثر من الثلث ، فليخش على ورثة الميت الفاقة والضيعة ، كما يخشى على ذريته
الضعيفة من بعده ، فكذلك لا يأمر الميت بما يؤثمه ، فذلك قوله سبحانه : ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا ( ، يعني عجزة ، لا حيلة لهم ، نظيرها في البقرة ،
)( خافوا عليهم ( الضيعة ، ) فليتقوا الله وليقولوا ( إذا جلسوا إلى الميت ) قولا
سديدا ) [ آية : 9 ] ، يعني عدلا ، فليأمره بالعدل في الوصية ، فلا يحرفها ، ولا يجر فيها .
تفسير سورة النساء آية [ 10 ]
النساء : ( 10 ) إن الذين يأكلون . . . . .
) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) ) بغير حق ( ( إنما يأكلون في بطونهم نارا
وسيصلون سعيرا ) [ آية : 10 ] ، وذلك أن خازن النار يأخذ شفتيه ، وهما أطول من
مشفري البعير ، وطول شفتيه أربعون ذراعا ، أحداهما بالغة على منخره ، والأخرى على
بطنه ، فيلقمه جمر جهنم ، ثم يقول : كل بأكلك أموال اليتامى ظلما ، فنسخت هذه
الآية : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ الأنعام : 152 ] ، ) وإن
تخالطوهم فإخوانكم ) [ البقرة : 220 ] ، فرخص في المخالطة ، ولم يرخص في أكل
أموال اليتامى ظلما .
تفسير سورة النساء آية 11(1/217)
صفحة رقم 218
النساء : ( 11 ) يوصيكم الله في . . . . .
ثم بين قسمة المواريث بين الورثة ، فقال عز وجل : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين ( ، يعني بنات أم كحة ، ) فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت ( ابنة ) واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك ( الميت ) إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ( ، وبقية المال
للأب ، ) فإن كان له إخوة فلأمه السدس ( ، وما بقي فللأب ) من بعد وصية يوصي بها أو دين ( ، يعني إلى الثلث أو دين عليه ، فإنه يبدأ بالدين من ميراث الميت بعد
الكفن ، ثم الوصية بعد ذلك ، ثم الميراث .
) آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ( ، يعني في الآخرة ، فيكون معه
في درجته ، وذلك أن الرجل يكون عمله دون عمل ولده ، أو يكون عمله دون عمل
والده ، فيرفعه الله عز وجل في درجته لتقر أعينهم ، ثم قال في التقديم لهذه القسمة :
( فريضة ( ثابتة ) من الله إن الله كان عليما حكيما ) [ آية : 11 ] في الميراث ،
)( حكيما ( حكم قسمته .
تفسير سورة النساء آية [ 12 ]
النساء : ( 12 ) ولكم نصف ما . . . . .
) ولكم نصف ما ترك أزواجكم ) إذا متن ، ) إن لم يكن لهن ولد فإن
كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين (
عليهم ، ثم قال سبحانه : ( ولهن الربع مما تركتم ( بعد الموت من الميراث ، ) إن
لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم ( من المال ،
)( من بعد وصية توصون بها أو دين ( .(1/218)
صفحة رقم 219
ثم قال عز وجل : ( وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ( فيها تقديم ،
)( يورث كلالة ( ، والكلالة الميت يموت وليس له ولد ولا والد ولا جد ، ) وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ( ، فهم الإخوة لأم ، والذكر والأنثى في الثلث سواء ، ولا يوصى لوارث ، ولا
يقر بحق ليس عليه مضارة للورثة ، فذلك قوله سبحانه : ( من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله ( ، يعني هذه القسمة فريضة من الله ، ) والله عليم (
بالضرار ، يعني من يضار في أمر الميراث ، ) حليم ) [ آية : 12 ] حين لا يعجل عليهم
بالعقوبة .
تفسير سورة النساء من [ 13 - 14 ]
النساء : ( 13 ) تلك حدود الله . . . . .
) تلك حدود الله ( ، يعني هذه القسمة فريضة من الله ، ) ومن يطع الله ورسوله ( في قسمة المواريث ، ) يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ( لا يموتون ، ) وذلك ( الثواب ) الفوز العظيم ) [ آية :
13 ] ،
النساء : ( 14 ) ومن يعص الله . . . . .
) ومن يعص الله ورسوله ( في قسمة المواريث ، فلم يقسمها ، ) ويتعد حدوده ( ، يعني يخالف أمره وقسمته إلى غيرها ، ) يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ) [ آية : 14 ] ، يعني الهوان .
فلما فرض الله عز وجل لأم كحة وبناتها انطلق سويد وعرفطة وعيينة بن حصن إلى
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : إن المرأة لا تركب فرسا ولا تجاهد ، وليس عند الصبيان الصغار منفعة
في شيء ، فأنزل الله عز وجل في ذلك : ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب ( ، يعني ما بين في قسمة المواريث في أول السورة ،
ويفتيكم في بنات أم كحة ) في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ( إلى قوله سبحانه : ( فإن الله كان به عليما ) [ النساء :
127 ] .(1/219)
صفحة رقم 220
تفسير سورة النساء من [ 15 - 16 ]
النساء : ( 15 ) واللاتي يأتين الفاحشة . . . . .
قوله سبحانه : ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ( ، يعني المعصية ، وهي
الزنا ، وهي المرأة الثيب تزني ولها زوج ، ) فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ( عدولا ،
)( فإن شهدوا ( عليهن بالزنا ) فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت ( ، وإن
كان لها زوج وقد زنت أخذ الزوج المهر منها من غير طلاق ولا حد ولا جماع ، وتحبس
في السجن حتى تموت ، ) أو يجعل الله لهن سبيلا ) [ آية : 15 ] ، يعني مخرجا من
الحبس ، وهو الرجم ، يعني الحد ، فنسخ الحد في سورة النور الحبس في البيوت .
النساء : ( 16 ) واللذان يأتيانها منكم . . . . .
ثم ذكر البكرين اللذين لم يحصنا ، فقال عز وجل : ( والّذان يأتيانها منكم ( ،
يعني الفاحشة ، وهو الزنا ، منكم ) فآذوهما ( باللسان ، يعني بالتعيير والكلام القبيح
بما عملا ، ولا حبس عليهما ؛ لأنهما بكران ، فيعيران ليندما ويتوبا ، يقول الله عز وجل :
( فإن تابا ( من الفاحشة ) وأصلحا ( العمل فيما بقي ، ) فأعرضوا عنهما ( ،
يعني فلا تسمعوهما الأذى بعد التوية ، ) إن الله كان توابا رحيما ) [ آية : 16 ] .
ثم أنزل الله عز وجل في البكرين : ( فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة (
[ النور : 2 ] ، فنسخت هذه الآية التي في النور : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد
منهما مئة جلدة ( ، فلما أمر الله عز وجل بالجلد ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' الله أكبر ، جاء الله
بالسبيل ، البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ' ،
فأخرجوا من البيوت ، فجلدوا مائة وحدوا ، فلم يحبسوا ، فذلك قوله عز وجل ) أو يجعل الله لهن سبيلا ( ، يعني مخرجا من الحبس بجلد البكر ورجم المحصن .
تفسير سورة النساء من آية [ 17 - 18 ]
النساء : ( 17 ) إنما التوبة على . . . . .
) إنما التوبة على الله ( ، يعني التجاوز على الله ، ) للذين يعملون السوء(1/220)
صفحة رقم 221
بجهالة ( ، فكل ذنب يعمله المؤمن فهو جهل منه ، ) ثم يتوبون من قريب ( ، يعني قبل
الموت ، ) فأولئك يتوب الله عليهم ( ، يعني يتجاوز عنهم ، ) وكان الله عليما
حكيما ) [ آية : 17 ] ،
النساء : ( 18 ) وليست التوبة للذين . . . . .
) وليست التوبة للذين يعملون السيئات ( ، يعني
الشرك ، ) حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ( ، فلا توبة له عند الموت ،
)( ولا ) ) توبة ( ( الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ) [ آية :
18 ] .
تفسير سورة القرآن آية [ 19 ]
النساء : ( 19 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ( ، نزلت في محصن بن
أبي قيس بن الأسلت الأنصاري ، من بني الحارث بن الخزرج ، وفي امرأته هند بنت
صبرة ، وفي الأسود بن خلف الخزاعي ، وفي امرأته حبيبة بنت أبي طلحة ، وفي منظور
بن يسار الفزاري ، وفي امرأته ملكة بنت خارجة بن يسار المري ، تزوجوا نساء آبائهم
بعد الموت ، وكان الرجل من الأنصار إذا مات له حميم ، عمد الذي يرث الميت ، وألقى
على امرأة الميت ثوبا ، فيرث تزويجها ، رضيت أو كرهت ، على مثل مهر الميت ، فإن
ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقى عليها ثوبا ، فهي أحق بنفسها ، فأتين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
فقلن : يا رسول الله ، ما يدخل بنا ولا ينفق علينا ولا نترك أن نتزوج ، فأنزل الله عز وجل
في هؤلاء النفر : ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ( ، يعن وهن كارهات ، ولكن
تزوجوهن برضى منهن ، وكان أحدهم يقول : أنا أرثك لأني ولي زوجك ، فأنا أحق
بك ، ثم انقطع الكلام .
ثم قال الله عز وجل : ( ولا تعضلوهن ( ، كان الرجل يفر بامرأته لتفتدى منه ، ولا
حاجة له فيها ، يقول : لا تحبسوهن ) لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ( ، يقول : ببعض
ما أعطيتموهن من المهر ، ثم رخص واستثنى ، ) إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ( ، يعني
العصيان البين ، وهو النشوز ، فقد حلت الفدية إذا جاء العصيان من قبل المرأة ، ثم قال
تبارك وتعالى : ( وعاشروهن بالمعروف ( ، يقول : صاحبوهن بإحسان ، ) فإن
كرهتموهن ( وأردتم فراقهن ، ) فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا(1/221)
صفحة رقم 222
كثيرا ) [ آية : 19 ] ، يعني في الكره خيرا كثيرا ، يقول : عسى الرجل يكره المرأة ،
فيمسكها على كراهية ، فلعل الله عز وجل يرزقه منها ولدا ، ويعطفه عليها ، وعسى أن
يكرهها ، فيطلقها فيتزوجها غيره ، فيجعل الله للذي يتزوجها فيها خيرا كثيرا ، فيرزقه
منها لطفا وولدا .
تفسيرسورة النساء آية [ 20 - 21 ]
النساء : ( 20 ) وإن أردتم استبدال . . . . .
ثم قال سبحانه : ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ( ، يقول : وإن أراد
الرجل طلاق امرأته ويتزوج أخرى غيرهأ ، ) وآتيتم إحداهن قنطارا ( ، يقول :
وآتيتم إحداهن من المهر قنطارا من ذهب ، والقنطار ألف ومائتا دينار ، ) فلا تأخذوا
منه شيئا ( إذا أردتم طلاقها ، يقول : فليس له أن يضر بها حتى تفتدي منه ، يقول :
( أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ) [ آية : 20 ] ، يعني بينا ،
النساء : ( 21 ) وكيف تأخذونه وقد . . . . .
) وكيف تأخذونه ( تعظيما
له ، يعني المهر ، ) وقد أفضى بعضكم إلى بعض ( ، يعني به الجماع ، ) وأخذن
منكم ميثاقا غليظا ) [ آية : 21 ] ، يعني بالميثاق الغليظ ما أمروا به من قوله تبارك
وتعالى فيهن : ( فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ) [ البقرة : 231 ] ،
والغلظ يعني الشديد ، وكل غليظ في القرآن يعني به الشديد .
تفسير سورة النساء آية [ 22 ]
النساء : ( 22 ) ولا تنكحوا ما . . . . .
) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ( ، نزلت في محصن بن أبي قيس بن
الأسلت بن الأفلح الأنصاري ، وفي امرأته كبشة بنت معن بن معبد بن عدي بن عاصم
الأنصاري من الأوس من بني خطمة بن الأوس ، ) إلا ما قد سلف ( ؛ لأن العرب
كانت تفعل ذلك قبل التحريم ، وذلك أن محصن مات أبوه ، فشد على امرأته فتزوجها ،
وهو محصن بن أبي قيس بن الأسلت الأنصاري ، من بني الحارث بن الخزرج ، وكبشة
بنت معن بن معبد ، وفي شريك وفي امرأته كحة ، ) إنه كان فاحشة ( ، يعني
معصية ، ) ومقتا ( ، يعني وبغضا ، ) وساء سبيلا ) [ آية : 22 ] ، يعني وبئس
المسلك ، وقال سبحانه : ( إلا ما قد سلف ( ؛ لأن العرب كانوا ينكحون نساء الآباء ،(1/222)
صفحة رقم 223
ثم حرم النسب والصهر ، ولم يقل : ( إلا ما قد سلف ( ؛ لأن العرب كانت لا تنكح
النسب والصهر ، وقال عز وجل في الأختين : ( إلا ما قد سلف ( ؛ لأنهم كانوا
يجمعون بينهما .
تفسير سورة النساء آية [ 23 ]
النساء : ( 23 ) حرمت عليكم أمهاتكم . . . . .
ثم بين ما حرم ، فقال تعالى ذكره : ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ( ، فهذا النسب ، ثم قال
سبحانه : ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ( ،
يعني جامعتم أمهاتهن ، ) فإن لم تكونوا دخلتم بهن ( ، يقول : إن لم تكونوا
جامعتم أمهاتهن ، ) فلا جناح عليكم ( يقول : فلا حرج عليكم في تزوج
البنات ، ) وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ( ، يقول : وحرم ما تزوج الابن
الذي خرج من صلب الرجل ولم يتبناه ، فهذا الصهر ، ) وأن تجمعوا بين الأختين ( ، فحرم جمعهما ، إلا أن يكون إحداهما بملك ، فزوجها غيره ، فلا بأس ،
)( إلا ما قد سلف ( قبل التحريم ، ) إن الله كان غفورا رحيما ) [ آية : 23 ] لما
كان من جماع الأختين قبل التحريم .
تفسير سورة النساء آية [ 24 ]
النساء : ( 24 ) والمحصنات من النساء . . . . .
) والمحصنات من النساء ( ، يعني وكل امرأة أيضا فنكاحها حرام مع ما حرم
من النسب والصهر ، ثم استثنى من المحصنات ، فقال سبحانه : ( إلا ما ملكت(1/223)
صفحة رقم 224
أيمانكم ( من الحرائر مثنى وثلاث ورباع ، ) كتاب الله عليكم ( ، يعني فريضة الله
لكم بتحليل أربع ، ) وأحل لكم ما وراء ذلكم ( ، يعني ما وراء الأربع ، ) أن تبتغوا
بأموالكم محصنين ( لفروجهن ) غير مسافحين ( بالزنا علانية ، ثم ذكر المتعة ، فقال :
( فما استمتعتم به منهن ) ) إلى أجل مسمى ( ( فآتوهن أجورهن فريضة ( ، يعني
أعطوهن مهورهن ، ) ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ( ، يقول :
لا حرج عليكم فيما زدتم من المهر وازددتم في الأجل بعد الأمر الأول ، ) إن الله كان
عليما ) ) بخلقه ( ( حكيما ) [ آية : 24 ] في أمره ، نسختها آية الطلاق وآية المواريث .
تفسير سورة النساء [ 25 ]
النساء : ( 25 ) ومن لم يستطع . . . . .
ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن المتعة بعد نزول هذه الآية مرارا ، والله تعالى يقول :
( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [ الحشر : 7 ] ، ثم قال سبحانه :
( ومن لم يستطع منكم طولا ( ، يقول : من لم يجد منكم سعة من المال ، ) أن ينكح
المحصنات المؤمنات ( ، يعني الحرائر ، فليتزوج من الإماء ، ) فمن ما ملكت
أيمانكم ( ، يعني الولائد ، فتزوجوا ) من فتياتكم المؤمنات ( ، يعني الولائد ، ثم قال
سبحانه : ( والله أعلم بإيمانكم ( من غيره ، فيكره للعبد المسلم أن يتزوج وليدة من
أهل الكتاب ؛ لأن ولده يصير عبدا ، فإن تزوجها وولدت له ، فإنه يشتري من سيده
رضى أو كره ، ويسعى في ثمنه ، ) بعضكم من بعض ( يتزوج هذا وليدة هذا ، وهذا وليدة هذا .
ثم قال سبحانه : ( فانكحوهن بإذن أهلهن ( ، يقول : تزوجوا الولائد بإذن أربابهن ،
)( وآتوهن أجورهن ( ، يقول : وأعطوهن مهورهن ) بالمعروف محصنات ( عفائف
لفروجهن ، ) غير مسافحات ( غير معلنات بالزنا ، ) ولا متخذات أخدان ( ، يعني(1/224)
صفحة رقم 225
أخلاء في السر ، فيزني بها سرا ، ) فإذا أحصن ( ، يعني أسلمن ، ) فإذا أتين
بفاحشة ( ، يقول : فإن جئن بالزنا ، ) فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ( ، يعني خمسين جلدة ، نصف ما على الحرة إذا زنت ، ) ذلك ( التزويج
للولائد ، ) لمن خشي العنت منكم ( ، يعني الإثم في دينه ، وهو الزنا ، ) وأن ( ،
يعني ولئن ) تصبروا ( عن تزويج الأمة ، ) خير لكم ( من تزويجهن ، ) والله غفور (
لتزويجه الأمة ، ) رحيم ) [ آية : 25 ] به حين رخص له في تزويجها إذا لم يجد طولا ،
يعني سعة في تزويج الحرة .
تفسير سورة النساء من آية [ 26 - 28 ]
النساء : ( 26 ) يريد الله ليبين . . . . .
) يريد الله ليبين لكم ( ، يعني أن يبين لكم ، ) ويهديكم سنن الذين من قبلكم ( ، يعني شرائع هدى من كان قبلكم من المؤمنين من تحريم النسب والصهر ،
)( ويتوب عليكم ( ، يعني ويتجاوز عنكم من نكاحكم ، يعني تزويجكم إياهن من قبل
التحريم ، ) والله عليم حكيم ) [ آية : 26 ] .
النساء : ( 27 ) والله يريد أن . . . . .
) والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات ( ، يعني به الزنا ،
وذلك أن اليهود زعموا أن نكاح ابنة الأخت من الأب حلال ، فذلك قوله سبحانه :
( أن تميلوا ( عن الحق ) ميلا عظيما ) [ آية : 27 ] في استحلال نكاح ابنة الأخت
من الأب ،
النساء : ( 28 ) يريد الله أن . . . . .
) يريد الله أن يخفف عنكم ( إذ رخص في تزويج الأمة لمن لم يجد طولا
لحرة ، وذلك قوله سبحانه : ( وخلق الإنسان ضعيفا ) [ آية : 28 ] ، لا يصبر عن
النكاح ، ويضعف عن تركه ، فلذلك أحل لهم تزويج الولائد لئلا يزنوا .
تفسير سورة النساء آية [ 29 - 30 ]
النساء : ( 29 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( ، يقول : لا تأكلوها(1/225)
صفحة رقم 226
إلا بحقها وهو الرجل يجحد حق أخيه المسلم ، أو يقتطعه بيمينه ، ثم استثنى ما استفضل
الرجل من مال أخيه من التجارة ، فلا بأس ، فقال سبحانه : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم ( ، يقول : لا يقتل بعضكم بعضا ؛ لأنكم أهل دين
واحد ، ) إن الله كان بكم رحيما ) [ آية : 29 ] ، إذ نهى عن ذلك ،
النساء : ( 30 ) ومن يفعل ذلك . . . . .
) ومن يفعل ذلك ( ، يعني الدماء والأموال جميعا ، ) عدوانا وظلما ( ، يعني اعتداء بغير حق وظلما
لأخيه ، ) فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ) [ آية : 30 ] ، يقول : كان
عذابه على الله هينا .
تفسير سورة النساء من آية [ 31 - 33 ]
النساء : ( 31 ) إن تجتنبوا كبائر . . . . .
ثم قال سبحانه : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ( من أول هذه السورة إلى
هذه الآية ، ) نكفر عنكم سيئاتكم ( ، يعني ذنوب ما بين الحدين ، ) وندخلكم مدخلا كريما ) [ آية : 31 ] ، يعني حسنا ، وهي الجنة لما نزلت ، ) للذكر مثل حظ الأنثيين ) [ النساء : 11 ] ، قالت النساء : لم هذا ؟ نحن أحق أن يكون لنا سهمان ولهم
سهم ؛ لأنا ضعاف الكسب والرجال أقوى على التجارة والطلب والمعيشة منا ، فإذا لم
يفعل الله ذلك بنا ، فإنا نرجو أن يكون الوزر على نحو ذلك علينا وعليهم ، فأنزل الله في
قولهم : كنا نحن أحوج إلى سهمين ،
النساء : ( 32 ) ولا تتمنوا ما . . . . .
قوله سبحانه : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ( ، يقول : فضل الرجال على النساء في الميراث ، ونزل في قولهن :
نرجو أن يكون الوزر على نحو ذلك : ( للرجال نصيب ( ، يعني حظا ) مما اكتسبوا ( من الإثم ، ) وللنساء نصيب ( ، يعني حظا ) مما اكتسبن ( من الإثم ،
)( وسئلوا الله من فضله ( ، يعني الرجال والنساء ، ) إن الله كان بكل شيء (
من قسمة الميراث ) عليما ) [ آية : 32 ] . به
النساء : ( 33 ) ولكل جعلنا موالي . . . . .
) ولكل جعلنا موالي ( ، يعني العصبة بني العم والقربى ، ) مما ترك الوالدان(1/226)
صفحة رقم 227
والأقربون والذين عقدت أيمانكم ( ، كان الرجل يرغب في الرجل ، فيحالفه
ويعاقده على أن يكون معه وله من ميراثه كبعض ولده ، فلما نزلت هذه الآية آية
المواريث ، ولم يذكر أهل العقد ، فأنزل الله عز وجل : ( والذين عقدت أيمانكم (
) فآتوهم نصيبهم ( ، يقول : أعطوهم الذي سميتم لهم من الميراث ، ) إن الله كان على كل شيء ) ) من أعمالكم ( ( شهيدا ) [ آية : 33 ] إن أعطيتم نصيبهم أو لم
تعطوهم ، فلم يأخذ هذا الرجل شيئا حتى نزلت : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى
ببعض ) [ الأحزاب : 6 ] ، فنسخت هذه الآية : ( والذين عقدت أيمانكم ( .
تفسير سورة النساء آية [ 34 ]
النساء : ( 34 ) الرجال قوامون على . . . . .
قوله عز وجل : ( الرجال قوامون على النساء ( ، نزلت في سعد بن الربيع بن
عمرو ، من النقباء ، وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، وهما من الأنصار من بني
الحارث بن الخزرج ، وذلك أنه لطم امرأته ، فأتت أهلها ، فانطلق أبوها معها إلى النبي
( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : أنكحته وأفرشته كريمتي فلطمها ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لتقتص من زوجها ' ،
فأتت مع زوجها لتقتص منه ، ثم قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ارجعوا ، هذا جبريل ، عليه السلام ، قد
أتاني ، وقد أنزل الله عز وجل : ( الرجال قوامون على النساء ( ' ، يقول : مسلطون على
النساء ، ) بما فضل الله بعضهم على بعض ( ، وذلك أن الرجل له الفضل على امرأته
في الحق ، ) وبما أنفقوا من أموالهم ( ، يعني وفضلوا بما ساق إليها من المهر ، فهم
مسلطون في الأدب والأخذ على أيديهن ، فليس بين الرجل وبين امرأته قصاص إلا في
النفس والجراحة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذلك : ' أردنا أمرا وأراد الله أمرا ، والذي أراد الله
خيرا ' .
ثم نعتهم ، فقال سبحانه : ( فالصالحات ) ) في الدين ( ( قانتات ( ، يعني
مطيعات له ولأزواجهن ، ) حافظات للغيب ( لغيبة أزواجهن في فروجهن(1/227)
صفحة رقم 228
وأموالهم ، ) بما حفظ الله ( ، يعني بحفظ الله لهن ، ثم قال : ( والاتي تخافون
نشوزهن ( ، يعني تعلمون عصيانهن من نسائكم ، يعني سعدا ، يقول : تعلمون
معصيتهن لأزواجهن ، ) فعظوهن ( بالله ، فإن لم يقبلن العظة ، ) واهجروهن في المضاجع ( ، يقول : لا تقربها للجماع ، فإن رجعت إلى طاعة زوجها بالعظة والهجران ،
وإلا ) واضربوهن ( ضرباً غير مبرح ، يعني غير شائن ، ) فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ( ، يعني عللا ، يقول : لا تكلفها في الحب لك ما لا تطيق ، ) إن الله كان عليا ( ، يعني رفيعا فوق خلقه ، ) كبيرا ) [ آية : 34 ] .
تفسير سورة النساء آية 35
النساء : ( 35 ) وإن خفتم شقاق . . . . .
) وإن خفتم ( ، يعني علمتم ) شقاق بينهما ( ، يعني خلاف بينهما ، بين سعد
وامرأته ، ولم يتفقا ، ولم يدر من قبل من منهما النشوز من فبل الرجل أو من قبل المرأة ؟
) فابعثوا ( ، يعني الحاكم ، يقول للحاكم ، قابعثوا ) حكما من أهله وحكما من أهلها ( ، فينظرون في أمرهما في النصيحة لهما ، إن كان من قبل النفقة أو إضرار وعظا
الرجل ، وإن كان من قبلها ، وعظاها لعل الله أن يصلح على أيديهما ، فذلك قوله عز
وجل : ( إن يريدا إصلاحا ( ، يعني الحكمين ، ) يوفق الله بينهما ( للصلح ، فإن لم
يتفقا وظنا أن الفرقة خير لهما في دينهما ، فرق الحكمان بينهما برضاهما ، ) إن الله كان عليما ( ، بحكمهما ) خبيرا ) [ آية : 35 ] بنصيحتهما في دينهما .
تفسير سورة النساء من آية [ 36 - 39 ] .(1/228)
صفحة رقم 229
النساء : ( 36 ) واعبدوا الله ولا . . . . .
) واعبدوا الله ( ، يعني وحدوا الله ، ) ولا تشركوا به شيئا ( ؛ لأن أهل
الكتاب يعبدون الله في غير إخلاص ، فلذلك قال الله : ( ولا تشركوا به شيئا ( من
خلقه ، ) وبالوالدين إحسانا ( ، يعني برا بهما ، ) وبذي القربى ( والإحسان إلى ذي
القربى ، يعني صلته ، ) و ( الإحسان إلى ) واليتامى والمساكين ( أن تتصدقوا عليهم ،
والإحسان إلى ) والجار ذي القربى ( ، يعني جارا بينك وبينه قرابة ، ) والجار الجنب ( ، يعني من قوم آخرين ، ) والصاحب بالجنب ( ، يقول : الرفيق في السفر
والحضر ، ) وابن السبيل ( ، يعني الضيف ينزل عليك أن تحسن إليه ، ) و ( إلى
) وما ملكت أيمانكم ( من الخدم وغيره ، وعن على وعبد الله ، قالا : ( والصاحب بالجنب ( المرأة ، فأمر الله عز وجل بالإحسان إلى هؤلاء ، ) إن الله لا يحب من كان مختالا ( ، يعني بطرا مرحا ) فخورا ) [ آية : 36 ] في نعم الله ، لا يأخذ ما
أعطاه الله عز وجل فيشكر .
النساء : ( 37 ) الذين يبخلون ويأمرون . . . . .
) الذين يبخلون ( ، يعني رءوس اليهود ، ) ويأمرون الناس بالبخل ( ، وذلك
أن رءوس اليهود كعب بن الأشرف وغيره ، كانوا يأمرون سفلة اليهود بكتمان أمر
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خشية أن يظهروه ويبينوه ، ومحوه من التوراة ، ) ويكتمون ما آتاهم الله ( عز وجل ، يعني ما أعطاهم ) من فضله ( في التوراة من أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونعته ،
ثم أخبر عما لهم في الآخرة ، فقال : ( وأعتدنا ( يا محمد ) للكافرين ( ، يعني
لليهود ، ) عذابا مهينا ) [ آية : 37 ] ، يعني الهوان .
النساء : ( 38 ) والذين ينفقون أموالهم . . . . .
ثم أخبر عنهم ، فقال سبحانه : ( والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ( ، يعني
اليهود ، ) ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ( ، يقول : لا يصدقون بالله أنه واحد لا
شريك له ، ولا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن ، ) ومن يكن الشيطان له قرينا ( ، يعني صاحبا ، ) فساء قرينا ) [ آية : 38 ] ، يعني فبئس الصاحب ،
النساء : ( 39 ) وماذا عليهم لو . . . . .
ثم قال عز وجل : ( وماذا عليهم ( ، يعني وما كان عليهم ) لو آمنوا بالله واليوم الآخر ( ، يعني بالبعث ، ) وأنفقوا مما رزقهم الله ( من الأموال في الإيمان ومعرفته ،
)( وكان الله بهم عليما ) [ آية : 39 ] أنهم لن يؤمنوا .
تفسير سورة النساء من آية [ 40 - 42 ](1/229)
صفحة رقم 230
النساء : ( 40 ) إن الله لا . . . . .
) إن الله لا يظلم مثقال ذرة ( ، يعني لا ينقص وزن أصغر من الذرة من أموالهم ،
)( وإن تك حسنة ( واحدة ) يضاعفها ( حسنات كثيرة ، فلا أحد أشكر من الله عز
وجل ، ) ويؤتي من لدنه أجرا عظيما ) [ آية : 40 ] ، يقول : ويعطي من عنده في الآخرة
جزاء كثيرا ، وهي الجنة ،
النساء : ( 41 ) فكيف إذا جئنا . . . . .
ثم خوفهم ، فقال تعالى : ( فكيف ( بهم ) إذا جئنا من كل أمة بشهيد ( ، يعني نبيهم ، وهو شاهد عليهم بتبليغ الرسالة إليهم من ربهم ، ) وجئنا بك ( يا محمد ) على هؤلاء شهيدا ) [ آية : 41 ] ، يعني كفار أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بتبليغ
الرسالة .
النساء : ( 42 ) يومئذ يود الذين . . . . .
ثم أخبر عن كفار أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال سبحانه : ( يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ( ، وذلك بأنهم قالوا في الآخرة : والله ربنا ما كنا مشركين ،
فشهدت عليهم الجوارح بما كتمت ألسنتهم من الشرك ، فودوا عند ذلك أن الأرض
انشقت فدخلوا فيها فاستوت عليهم ، ) ولا يكتمون الله حديثا ) [ آية : 42 ] ، يعني
الجوارح حين شهدت عليهم .
تفسير سورة النساء آية 43
النساء : ( 43 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ( ، لما نزلت هذه الآية قال
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' قد قدم الله عز وجل تحريم الخمر إلينا ' ، وذلك أن عبد الرحمن بن عوف
الزهري صنع طعاما ، فدعا أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وسعد بن أبي وقاص ،
رحمهم الله جميعا ، فأكلوا وسقاهم خمرا ، فحضرت صلاة المغرب ، فأمهم على بن أبي
طالب ، رضي الله عنه ، فقرأ : ( قل يا أيها الكافرون ) [ الكافرون : 1 ] ، فقال في
قراءته : نحن عابدون ما عبدتم ، فأنزل الله عز وجل في علي بن أبي طالب ، رضي الله
عنه وأصحابه : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ( ) حتى تعلموا ما تقولون ( في صلاتكم ، فتركوا شربها إلا من بعد صلاة الفجر إلى الضحى الأكبر ،(1/230)
صفحة رقم 231
فيصلون الأولى وهم أصحياء .
ثم إن رجلا من الأنصار يسمى عتبان بن مالك دعا سعد بن أبي وقاص إلى رأس
بعير مشوى ، فأكلا ثم شربا فسكرا ، فغضب الأنصاري ، فرفع لحى البعير فكسر أنف
سعد ، فأنزل الله عز وجل تحريم الخمر في المائدة بعد غزوة الأحزاب ، ثم قال سبحانه :
( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ( ) ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ( ، ثم استثنى المسافر الذي لا يجد الماء ، فقال سبحانه : ( إلا عابري سبيل ( ، ) وإن كنتم مرضى أو على سفر ( ، نزلت في عبد الرحمن بن عوف ، أصابته
جنابة وهو جريح ، فشق عليه الغسل ، وخاف منه شرا ، أو يكون به قرح أو جدري ،
فهو بهذه المنزلة ، فذاك قوله سبحانه : ( وإن كنتم مرضى ( ، يعني به جرحا فوجدتم الماء ،
فعليكم التيمم .
وإن كنتم على سفر وأنتم أصحاء ، نزلت في عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ،
)( أو جاء أحد منكم من الغائط ( ، يعني الخلاء ، ) أو لمستم النساء ( ، يعني جامعتم ،
)( فلم تجدوا ماء فتيمموا ( ، يقول : الصحيح الذي لا يجد الماء ، والمريض الذي يجد الماء
يتيمموا ) صعيدا طيبا ( ، يعني حلالا طيبا ، ) فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ( إلى
الكرسوع ، ) إن الله كان عفوا ( عنكم ) غفورا ) [ آية : 43 ] لما كان منكم قبل النهى
عن السكر والصلاة والتيمم بغير وضوء ، وقد نزلت آية التيمم في أمر عائشة ، رضى الله
عنها ، بين الصلاتين .
تفسير سورة النساء من آية [ 44 - 45 ]
النساء : ( 44 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا ( ، يعن حظا ، ألم تر إلى فعل الذين أعطوا نصيبا ، يعني
حظا ) من الكتاب ( ، يعني التوراة ، ) يشترون ( ، يعني يختارون ، وهم اليهود ، منهم
إصبغ ورافع ابنا حريملة ، وهما من أحبار اليهود ) يشترون ( ) الضلالة ( ، يعني باعوا
إيمانا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يبعث ، بتكذيب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بعد بعثته ، ) ويريدون أن تضلوا السبيل ) [ آية : 44 ] ، يعني أن تخطئوا قصد طريق الهدى كما أخطأوا الهدى ، نزلت في
عبد الله بن أبي ، ومالك بن دخشم ، حين دعوهما إلى دين اليهودية وعيروهما بالإسلام
وزهدوهما فيه ، وفيهما نزلت :
النساء : ( 45 ) والله أعلم بأعدائكم . . . . .
) والله أعلم بأعدائكم ( ، يعني بعداوتهم إياكم ، يعني(1/231)
صفحة رقم 232
اليهود ، ) وكفى بالله وليا ( ، فلا ولى أفضل من الله عز وجل ، ) وكفى بالله نصيرا (
[ آية : 45 ] ، فلا ناصر أفضل من الله جل ذكره .
وفيهما نزلت : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ) [ آل
عمران : 118 ] ، نزلت في عبد الله بن أبي ، ومالك بن دخشم ، وفي بني حريملة .
تفسير سورة النساء آية 46
النساء : ( 46 ) من الذين هادوا . . . . .
) من الذين هادوا ( ، يعني اليهود ، ) يحرفون الكلم عن مواضعه ( ، يعني
بالتحريف نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، عن مواضعه ، عن بيانه في التوراة ، ليا بألسنتهم ،
)( ويقولون ( للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) سمعنا ( قولك ) وعصينا ( أمرك ، فلا تطيعك ،
)( واسمع ( منا يا محمد تحدثك ) غير مسمع ( منك قولك يا محمد ، غير مقبول ما
تقزل ، ) وراعنا ( ، يعني ارعنا سمعك ، ) ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ( ، يعني دين
الإسلام ، يقولون : إن دين محمد ليس بشيء ، ولكن الذي نحن عليه هو الدين .
يقول الله عز وجل : ( ولو أنهم قالوا سمعنا ( قولك ) وأطعنا ( أمرك ) واسمع (
منا ) وانظرنا ( حتى نحدثك يا محمد ، ) لكان خيرا لهم ( من التحريف والطعن في
الدين ومن راعنا ) وأقوم ( ، يعني وأصوب من قولهم الذي قالوا ، ) ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) [ آية : 46 ] ، والقليل الذي آمنوا به ، إذ يعلمون أن الله
ربهم ، وهو خالقهم ورازقهم ، ويكفرون بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبما جاء به ، نزلت في رفاعة بن
زيد بن السائب ، ومالك بن الضيف ، وكعب بن أسيد ، كلهم يهود ، مثلها في آخر
السورة .
تفسير سورة النساء آية 47
النساء : ( 47 ) يا أيها الذين . . . . .
ثم خوفهم ، فقال : ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب ( ، يعني كعب بن الأشرف ، يعني
الذي أعطوا التوراة ، ) آمنوا بما نزلنا ( ، يعني بما أنزل الله من القرآن على محمد ،
)( مصدقا لما معكم ( ، يقول : تصديق محمد معكم في التوراة أنه نبي رسول ، ) من(1/232)
صفحة رقم 233
قبل أن نطمس وجوها ( ، يقول : نحول الملة عن الهدى والبصيرة التي كانوا عليها من
إيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يبعث ، ) فنردها على أدبارها ( بعد الهدى الذي كانوا عليه
كفارا ضلالا ، ) أو نلعنهم ( ، يعني نعذبهم ) كما لعنا ( ، يعني كما عذبنا ) أصحاب
السبت ( ، يقول : فنمسخهم قردة كما فعلنا بأوائلهم ، ) وكان أمر الله مفعولا ( آية :
47 ] ، يقول : أمره كائن لا بد ، هذا وعيد .
تفسير سورة النساء آية 48
النساء : ( 48 ) إن الله لا . . . . .
) إن الله لا يغفر أن يشرك به ( ، فيموت عليه ، يعني اليهود ، ) ويغفر ما دون ذلك ) ) الشرك ( ( لمن يشاء ( لمن مات موحدا ، فمشيئته تبارك وتعالى لأهل التوحيد . قال :
حدثنا عبيد الله بن ثابت ، قال : حدثني أبي ، عن الهذيل ، عن مقاتل بن سليمان ، عن
رجل ، عن مجاهد ، أن الاستثناء لأهل التوحيد ، ) ومن يشرك بالله ( معه غيره ، ) فقد
افترى إثما عظيما ) [ آية : 48 ] ، يقول : فقد قال ذنبا عظيما .
تفسير سورة النساء آية [ 49 - 51 ]
النساء : ( 49 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألم تر ( ، يعني ألم تنظر ) إلى ( ، يعني فعل ) الذين يزكون أنفسهم ( ، يعني اليهود ، منهم بحرى بن عمرو ، ومرحب بن زيد ، دخلوا بأولادهم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا :
أهل لهؤلاء ذنوب ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لا ' ، فقالوا : والذي تحلف به ما نحن إلا كهيئتهم ،
نحن أبناء الله وأحباؤه ، وما من ذنب نعمله بالنهار إلا غفر لنا بالليل ، وما من ذنب نعمله
بالليل إلا غفر لنا بالنهار ، فزكوا أنفسهم ، يقول الله عز وجل ، ) بل الله يزكي من
يشاء ( ، يعني يصلح من يشاء من عباده ، ) ولا يظلمون ( ، يعني ولا ينقصون من
أعمالهم ) فتيلا ) [ آية : 49 ] ، يعني الأبيض الذي يكون في شق النواة من الفتيل .
النساء : ( 50 ) انظر كيف يفترون . . . . .
يقول الله عز وجل : يا محمد ، ) انظر كيف يفترون على الله الكذب ( ، لقولهم : نحن
أبناء الله وأحباؤه ، ) وكفى به ( ، يعني بما قالوا ، ) إثما مبينا ) [ آية : 50 ] ، يعني بينا ،
النساء : ( 51 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ( ، وذلك أن كعب بن الأشرف(1/233)
صفحة رقم 234
اليهودي ، وكان عربيا من طيىء ، وحيى بن أخطب ، انطلقا في ثلاثين من اليهود إلى مكة
بعد قتال أحد ، فقال أبو سفيان بن حرب : إن أحب الناس إلينا من يعيننا على قتال هذا
الرجل ، حتى نفنى أو يفنوا ، فنزل كعب على أبي سفيان ، فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود
في دور قريش ، فقال كعب لأبي سفيان : ليجيء منكم ثلاثون رجلا ، ومنا ثلاثون
رجلا ، فنلصق أكبادنا بالكعبة ، فنعاهد رب هذا البيت ، لنجتهدن على قتال محمد ،
ففعلوا ذلك .
قال أبو سفيان لكعب بن الأشرف : أنت امرؤ من أهل الكتاب تقرأ الكتاب ، فنحن
أهدى أم ما عليه محمد ؟ فقال : إلى ما يدعوكم محمد ؟ قال : إلى أن نعبد الله ولا نشرك به
شيئا ، قال : فأخبروني ما أمركم ؟ وهو يعلم ما أمرهم ، قالوا : ننحر الكوماء ، ونقرى
الضيف ، ونفك العاني ، يعني الأسير ، ونسقى الحجيج الماء ، ونعمر بيت ربنا ، ونصل
أرحامنا ، ونعبد إلهنا ونحن أهل الحرم ، فقال كعب : أنت والله أهدى مما عليه محمد ،
فأنزل الله عز وجل : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ( ، يقول : أعطوا
حظا من التوراة ) يؤمنون بالجبت ( ، يعني حيى بن أخطب القرظي ،
)( والطاغوت ( ، وكعب بن الأشرف ، ) ويقولون للذين كفروا ( من أهل مكة
) هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ) [ آية : 51 ] ، يعني طريقا .
تفسير سورة النساء آية [ 52 - 55 ]
النساء : ( 52 ) أولئك الذين لعنهم . . . . .
يقول الله : ( أولئك الذين لعنهم الله ( ، يعني كعبا وأصحابه ، ) ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ) [ آية : 52 ] ، فلما رجع كعب إلى المدينة ، بعث الني ( صلى الله عليه وسلم ) إلى نفر من
أصحابه بقتله ، فقتله محمد بن مسلمة الأنصاري ، من بني حارثة بن الحارث تلك الليلة ،
فلما أصبح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سار في المسلمين ، فحاصر أهل النضير حتى أجلاهم من المدينة إلى
أذرعات وأريحا من أرض الشام ،
النساء : ( 53 ) أم لهم نصيب . . . . .
) أم لهم ( ، تقول : ألهم ، والميم ها هنا صلة ، فلو كان
لهم ، يعني اليهود ، ) نصيب ( ، يعني حظا ) من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ) [ آية :
53 ] ، يعني لا يعطون الناس من بخلهم وحسدهم وقلة خيرهم ، نقيرا يعني بالنقير النقرة
التي في ظهر النواة التي ينبت منها النخلة .(1/234)
صفحة رقم 235
النساء : ( 54 ) أم يحسدون الناس . . . . .
) أم يحسدون الناس ( ، يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحده ، ) على ما آتاهم الله من فضله ( ،
يعني ما أعطاهم من فضله ، وذلك أن اليهود قالوا : انظروا إلى هذا الذي لا يشبع من
الطعام ، ما له هم إلا النساء ، يعنون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فحسدوه على النبوة وعلى كثرة النساء ،
ولو كان نبيا ما رغب في النساء ، يقول الله عز وجل : ( فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ( ، يعني النبوة ، ) وآتيناهم ملكا عظيما ) [ آية : 54 ] ، وكان يوسف منهم
على مصر ، وداود وسليمان منهم ، وكان لداود تسعة وتسعون امرأة ، وكان لسليمان
ثلاثمائة امرأة حرة ، وسبعمائة سرية ، فكيف تذكرون محمدا في تسع نسوة ، ولا تذكرون
داود وسليمان ، عليهما السلام ، فكان هؤلاء أكثر نساء ، وأكثر ملكا من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
ومحمد أيضا من آل إبراهيم ، وكان إبراهيم ولوطا ، وإسحاق ، وإسماعيل ، ويعقوب ،
عليهم السلام ، يعملون بما في صحف إبراهيم ،
النساء : ( 55 ) فمنهم من آمن . . . . .
) فمنهم ( ، يعني من آل إبراهيم ) من آمن به ( ، يقول : صدق بالكتاب الذي جاء به ، ) ومنهم من صد عنه ( ، يعني أعرض
عن الإيمان بالكتاب ولم يصدق به ، ) وكفى بجهنم سعيرا ) [ آية : 55 ] ، يقول : وكفى
بوقودها وعذابها وقودا لمن كفر بكتاب إبراهيم ، فلا وقود أحر من جهنم لأهل الكفر .
تفسير سورة النساء آية 56
النساء : ( 56 ) إن الذين كفروا . . . . .
ثم أخبر بمستقر الكفار ، فقال سبحانه : ( إن الذين كفروا ( ، يعني اليهود ،
)( بآياتنا ( ، يعني القرآن ، ) سوف نصليهم نارا كلما نضجت ( ، يعني احترقت ) جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ( ، جددنا لهم جلودا غيرها ، وذلك أن النار إذا أكلت جلودهم
بدلت كل يوم سبع مرات على مقدار كل يوم من أيام الدنيا ، ) ليذوقوا العذاب (
عذاب النار جديدا ، ) إن الله كان عزيزا ( في نقمته ، ) حكيما ) [ آية : 56 ] ، حكم
لهم النار .
تفسير سورة النساء آية 57
النساء : ( 57 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
ثم أخبر بمستقر المؤمنين ، فقال سبحانه : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات ( ، يعني البساتين ، ) تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ( ، لا يموتون ، ) لهم فيها أزواج ( ، يعني النساء ، ) مطهرة ( ، يعني المطهرات من الحيض والغائط والبول(1/235)
صفحة رقم 236
والقذر كله ، ) وندخلهم ظلا ( ، يعني أكنان القصور ، ) ظليلا ) [ آية : 57 ] ، يعني لا
خلل فيها .
تفسير سورة النساء آية 58
النساء : ( 58 ) إن الله يأمركم . . . . .
) إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ( ، نزلت في عثمان بن طلحة بن عبد
الله القرشي ، صاحب الكعبة في أمر مفاتيح الكعبة ، وذلك أن العباس بن عبد المطلب ،
رضي الله عنه ، قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : اجعل فينا السقاية والحجابة لنسود بها الناس ، وقد كان
أخذ المفتاح من عثمان حين افتتح مكة ، فقال عثمان بن طلحة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن كنت
تؤمن بالله واليوم الآخر فادفع إلى المفتاح ، فدفع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المفتاح ، ثم أخذه ثلاث
مرات ، ثم إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) طاف بالبيت ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ( ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعثمان : ' خذه بأمانة الله ' ، حيث دفع إليه
المفتاح ، فقال العباس ، رضي الله عنه ، للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : جعلت السقاية فينا والحجابة لغيرنا ،
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أما ترضون أني جعلت لكم ما تدرون ، ونحيت عنكم ما لا تدرون ، ولكم أجر ذلك ؟ ' ، قال العباس : بلى ، قال : ' بشرفهم بذلك ، أي تفضلون على الناس ، ولا يفضل الناس عليكم ' .
ثم قال عز وجل : ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ) [ آية : 58 ] ، فلا أحد أسمع منه ، ) بصيرا ( ، فلا أحد أبصر منه ،
فكان من العدل أن دفع السقاية إلى العباس بن عبد المطلب ، والحجابة إلى عثمان بن
طلحة ؛ لأنهما كانا أهلها في الجاهلية .
تفسير سورة النساء 59
النساء : ( 59 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
بعث خالد بن الوليد على سرية فيهم عمار بن ياسر ، فساروا حتى دنوا من الماء ،
فعرسوا قريبا ، وبلغ العدو أمرهم فهربوا ، وبقى منهم رجل ، فجمع متاعه ، وجاء ليلا
فلقى عمارا ، فقال : يا أبا اليقظان ، إن القوم سمعوا بكم ، فهربوا ولم يبق غيري ، وقد(1/236)
صفحة رقم 237
أسلمت ، وشهدت ألا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فهل الإسلام نافعي ؟ فقال
عمار : ينفعك ، فأقم ، فلما أصبح خالد غار بخيلة ، فلم يجد إلا هذا الرجل وماله ، فقال
عمار : خل عن هذا الرجل وماله ، فقد أسلم وهو في أماني ، قال خالد : فبم أنت تجير
دوني وأنا أمير عليك ، فاستبا ، فلما رجعا إلى المدينة أجاز النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمان عمار ، ونهاه
أن يجير الثانية على أمير ، فقال خالد : يا نبي الله ، يسبني هذا العبد الأجدع ، وشتم خالد
عمارا .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لخالد : ' لا تسب عمارا ، فمن سب عمارا سب الله ، ومن أبغض
عمارا أبغضه الله ، ومن لعن عمارا لعنه الله ' ، فغضب عمار ، فقام فذهب ، فقال النبي
( صلى الله عليه وسلم ) لخالد : ' قم فاعتذر إليه ' ، فأتاه خالد فأخذ بثوبه ، فاعتذر إليه ، فأعرض عنه ، فأنزل
الله عز وجل في عمار : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( ،
يعني خالد بن الوليد ؛ لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان ولاه أمرهم ، فأمر الله عز وجل بطاعة أمراء
سرايا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
) فإن تنازعتم في شيء ( من الحلال والحرام ، يعني خالدا وعمارا ، ) فردوه إلى الله ( ،
يعني إلى القرآن ، ) والرسول ( ، يعني سنة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، نظيرها في النور ، ثم قال : ( إن كنتم تؤمنون بالله ( ، يعني تصدقون بالله بأنه واحد لا شريك له ، ) واليوم الآخر ( ، يعني
باليوم الذي فيه جزاء الأعمال ، فليفعل ما أمر الله ، ) ذلك ( الرد إليهما ) خير وأحسن تأويلا ( آية : 59 ] ، يعني وأحسن عاقبة .
تفسير سورة النساء آية [ 60 - 64 ](1/237)
صفحة رقم 238
النساء : ( 60 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألو تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا ( ، يعني صدقوا ) بما أنزل إليك ( من
القرآن ) و ( صدقوا ب ) وما أنزل من قبلك ( من الكتب على الأنبياء ، وذلك أن
بشر المنافق خاصم يهوديا ، فدعاه اليهودي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ودعاه المنافق إلى كعب ، ثم
إنهما اختصما إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقضى لليهودي على المنافق ، فقال المنافق لليهودي : اتطلق
أخاصمك إلى عمر بن الخطاب ، رضى الله عنه ، فقال اليهودي لعمر ، رضي الله عنه : إني
خاصمته إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقضى لي ، فلم يرض بقضائه ، فزعم أنه مخاصمني إليك ، فقال
عمر ، رضي الله عنه ، للمنافق : أكذلك ؟ قال : نعم ، أحببت أن أفترق عن حكمك ، فقال
عمر ، رضى الله عنه ، مكانك حتى أخرج إليكما ، فدخل عمر ، رضي الله عنه ، فأخذ
السيف ، واشتمل عليه ، ثم خرج إلى المنافق فضربه حتى برد ، فقال عمر ، رضي الله عنه :
هكذا أقضى على من لم يرض بقضاء الله عز وجل وقضاء رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وأتى جبريل ، عليه السلام ، إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : يا محمد ، قد قتل عمر الرجل ، وفرق
الله بين الحق والباطل ، فسمى عمر ، رضى الله عنه ، الفاروق ، فأنزل الله عز وجل في
بشر المنافق : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ( ) يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ( ، يعني كعب بن الأشرف ، وكان
يتكهن ، ) وقد أمروا أن يكفروا به ( ، يعني أن يتبرأوا من الكهنة ، ) ويريد الشيطان أن يضلهم ( عند الهدى ) ضلالا بعيدا ) [ آية : 60 ] ، يعني طويلا .
النساء : ( 61 ) وإذا قيل لهم . . . . .
) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله ( في كتابه ، ) وإلى الرسول رأيت المنافقين ( ، يعني بشرا ، ) يصدون عنك صدودا ) [ آية : 61 ] ، يعني يعرضون
عنك يا محمد إعراضا إلى غيرك ، مخافة أن تحيف عليهم ،
النساء : ( 62 ) فكيف إذا أصابتهم . . . . .
) فكيف ( بهم ، يعني
المنافقين ، ) إذا أصابتهم مصيبة ( في أنفسهم بالقتل ، ) بما قدمت أيديهم (
من المعاصي في التقديم ، ثم انقطع الكلام ، ثم ذكر الكلام ، فقال عز ذكره : ( ثم
جاءوك يحلفون بالله ( نظيرها في سورة براءة ، ) إن أردنا ( ببناء مسجد القرار ،
)( إلا إحسانا وتوفيقا ) [ آية : 62 ] ، يعني إلا الخير والصواب ، وفيهم نزلت :
( وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ( ، يعني إلا الخير ، ) والله يشهد إنهم لكاذبون (
[ التوبة : 107 ] في قولهم الذي حلفوا به .
النساء : ( 63 ) أولئك الذين يعلم . . . . .
) أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ( من النفاق ، ) فأعرض عنهم(1/238)
صفحة رقم 239
وعظهم ) ) بلسانك ( ( وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ) [ آية : 63 ] ، نسختها آية
السيف ،
النساء : ( 64 ) وما أرسلنا من . . . . .
) وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع ( ، يعني إلا لكي يطاع ، ) بإذن
الله ( ، يقول : لا يطيعه أحد حتى يأذن الله عز وجل له في طاعة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ولو
أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاءوك ( بالذنوب ، يعني حين لم يرضوا بقضائك جاءوك :
( فاستغفروا الله ( من ذنوبهم ، ) واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا
رحيما ) [ آية : 64 ] .
تفسير سورة النساء آية [ 65 - 68 ]
النساء : ( 65 ) فلا وربك لا . . . . .
) فلا وربك لا يؤمنون ( ، وذلك أن الزبير بن العوام ، رضى الله عنه ، وهو من بنى
أسد بن عبد العزى ، وحاطب بن أبي بلتعة العنسي من مذحج ، وهو حليف لبني أسد
بن عبد العزى ، اختصما إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الماء ، وكانت أرض الزبير فوق أرض حاطب ،
وجاء السيل ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للزبير : ' اسق ، ثم أرسل الماء إلى جارك ' ، فغضب حاطب
وقال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أما إنه ابن عمتك ، فتغير وجه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومر حاطب على المقداد بن
الأسود الكندي ، فقال : يا أبا لتعة ، لمن كان القضاء ، فقال : قضى لابن عمته ، ولوى
شدقه ، فأنزل الله عز وجل ، فأقسم : ( فلا وربك لا يؤمنون ( ) حتى يحكموك فيما
شجر بينهم ( ، يعني اختلفوا بينهم ، يقول : لا يستحقون الإيمان حتى يرضوا بحكمك
فيما اختلفوا فيه من شيء ، ) ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ( ، يقول :
لا يجدون في قلوبهم شكا مما قضيت أنه الحق ، ) ويسلموا ( لقضائك لهم وعليهم
) تسليما ) [ آية : 65 ] .
فقالت اليهود : قاتل الله هؤلاء ، ما أسفههم ، يشهدون أن محمدا رسول الله ويبذلون
له دماءهم ، وأموالهم ، ووطئوا عقبة ، ثم يتهمونه في القضاء ، فوالله لقد أمرنا موسى ، عليه
السلام ، في ذنب واحد ، أتيناه فقتل بعضنا بعضا ، فبلغت القتلى سبعين ألفا حتى رضى
الله عنا ، وما كان يفعل ذلك غيرنا ، فقال عند ذلك ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري :(1/239)
صفحة رقم 240
فوالله ، إن الله عز وجل ليعلم أنه لو أمرنا أن نقتل أنفسنا لقتلناها ، فأنزل الله عز وجل في
قول ثابت :
النساء : ( 66 ) ولو أنا كتبنا . . . . .
) ولو أنا كتبنا ( ، يقول : لو أنا فرضنا ) عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ( ، فكان من ذلك القليل عمار بن ياسر ، وعبد
الله بن مسعود ، وثابت بن قيس ، فقال عمر بن الخطاب ، رضى الله عنه ، والله لو فعل
ربنا لفعلنا ، فالحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' والذي نفسي بيده ،
للإيمان أثبت في قلوب المؤمنين من الجبال الرواسي ' .
ثم قال : ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ( من القرآن ، ) لكان خيرا لهم ( في
دينهم ، ) وأشد تثبيتا ) [ آية : 66 ، يعني تصديقا في أمر الله عز وجل ،
النساء : ( 67 ) وإذا لآتيناهم من . . . . .
) وإذا لآتيناهم من لدنا ( ، يعني من عندنا ، ) أجرا عظيما ) [ آية : 67 ] ، يعني الجنة ،
النساء : ( 68 ) ولهديناهم صراطا مستقيما
) ولهديناهم صراطا مستقيما ) [ آية : 68 ] ، فلما نزلت : ( إلا قليل منهم ( ، قال النبي
( صلى الله عليه وسلم ) : ' لعمار بن ياسر ، وعبد الله بن مسعود ، وثابت بن الشماس من أولئك القليل ' .
تفسير سورة النساء آية [ 69 - 70 ]
النساء : ( 69 ) ومن يطع الله . . . . .
) ومن يطع الله والرسول ( ، نزلت في رجل من الأنصار يسمى : عبد الله بن زيد بن
عبد ربه الأنصاري ، قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو الذي رأى الأذان في المنام مع عمر بن
الخطاب ، رضى الله عنهما : إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك ، فلم ينفعنا شيء
حتى نرجع إليك ، فذكرت درجاتك في الجنة ، فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنة ؟ فأنزل
الله عز وجل : ( ومن يطع الله والرسول ( ) فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ( بالنبوة ، ) والصديقين ( بالتصديق ، وهم أول من صدق بالأنبياء ، عليهم
السلام ، حين عاينوهم ، ) والشهداء ( ، يعني القتلى في سبيل الله بالشهادة ،
)( والصالحين ( ، يعني المؤمنين أهل الجنة ، ) وحسن أولئك رفيقا ) [ آية : 69 ] ،
النساء : ( 70 ) ذلك الفضل من . . . . .
) ذلك ( ، يعني هذا الثواب هو ) الفضل من الله وكفى بالله عليما ) [ آية : 70 ] ،
فلما توفي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتاه ابنه وهو في حديقة له ، فأخبره بموت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال عند
ذلك : اللهم اعمني ، فلا أرى شيئا بعد حبيبي أبدا ، فعمى مكانه ، وكان يحب النبي ( صلى الله عليه وسلم )
حبا شديدا ، فجعله الله عز وجل مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الجنة .(1/240)
صفحة رقم 241
تفسير سورة النساء آية [ 71 - 75 ]
النساء : ( 71 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ( ، يعني عدتكم من السلاح ، ) فانفروا ثبات ( ، عصبا سرايا جماعة إلى عدوكم ، ) أو انفروا ( إليهم ) جميعا ) [ آية : 71 ]
مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، إذا نفر ،
النساء : ( 72 ) وإن منكم لمن . . . . .
) وإن منكم لمن ليبطئن ( ، يعني ليتخلفن النفر ، نزلت في عبد الله
بن أبي بن ملك بن أبي عوف بن الخزرج رأس المنافقين ، ) فإن أصابتكم مصيبة ( ، يعني
بلاء من العدو أو شدة من العيش ، ) قال ( المنافق ، ) قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ) [ آية : 72 ] ، يعني شاهدا فيصيبني من البلاء ما أصابهم .
النساء : ( 73 ) ولئن أصابكم فضل . . . . .
) ولئن أصابكم فضل ( ، يعني رزق ، ) من الله ( عز وجل ، يعني الغنيمة ،
)( ليقولن ( ندامة في التخلف ، ) كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ( في الدين والولاية ،
)( يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ) [ آية : 73 ] ، فالحق من الغنيمة نصيبا وافرا ،
النساء : ( 74 ) فليقاتل في سبيل . . . . .
) فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب ( ، فيقتل في سبيله أو يغلب عدوه ) فسوف نؤتيه أجرا عظيما ( ، [ آية : 74 ] في الجنة ، لقولهم للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن نقاتل فنقتل ولا نقتل ؟ فنزلت هذه
الآية ، فأشركهم جميعا في الأجر ،
النساء : ( 75 ) وما لكم لا . . . . .
) وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ( ، وتقاتلون عن ،
)( والمستضعفين ( ، يعني المقهورين ) من الرجال والنساء والولدان ( المقهورين بمكة حتى
يتسع الأمر ، ويأتي إلى الإسلام من أراد منهم .
ثم أخبر عنهم ، فقال سبحانه : ( الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية ( ، يعني
مكة ، ) الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا ( ، يعني من عندك وليا ، ) واجعل لنا من لدنك نصيرا ) [ آية : 75 ] على أهل مكة والمستضعفين من الرجال ، يعني المؤمنين ، قال(1/241)
صفحة رقم 242
ابن عباس ، رحمه الله : كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان .
تفسير سورة النساء آية 76
النساء : ( 76 ) الذين آمنوا يقاتلون . . . . .
ثم قال : ( الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ( ، يعني طاعة الله ، ) والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ( ، يعني في طاعة الشيطان ، ثم حرض الله عز وجل المؤمنين ، فقال :
( فقاتلوا أولياء الشيطان ( ، يعني المشركين بمكة ) إن كيد ( ، يعني إن مكر
) الشيطان كان ضعيفا ) [ آية : 76 ] ، يعني واهنا ، كقوله سبحانه : ( موهن كيد الكافرين ) [ الأنفال : 18 ] ، يعني مضعف كيد الكافرين ، فسار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى مكة
ففتحها ، وجعل الله عز وجل للمستضعفين مخرجا .
تفسير سورة البقرة آية 77
النساء : ( 77 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ( عن القتال ، نزلت في عبد الرحمن بن عوف ،
وسعد بن أبي وقاص ، رضى الله عنهما ، وهما من بني زهرة ، وقدامة بن مظعون
الجمحي ، والمقداد بن الأسود الكندي ، رضى الله عنهم ، وذلك أنهم استأذنوا في قتال
كفار مكة سرا ، مما كانوا يلقون منهم من الأذى ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' مهلا ، كفوا أيديكم
عن قتالهم ، ) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ( ، فإني لم أومر بقتالهم ' ، فلما هاجر النبي
( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة ، أمر الله عز وجل بالقتال ، فكره بعضهم ، فذلك قوله عز وجل : ( فلما كتب عليهم القتال ( ، يعني فرض القتال بالمدينة ، ) إذا فريق منهم ( ، نزلت في طلحة بن
عبيد الله ، رضى الله عنه ، ) يخشون الناس ( ، يعني كفار مكة ، ) كخشية الله ( ، فلا
يقاتلونهم ، ) أو أشد خشية وقالوا ( ، وهو الذي قال : ( ربنا لم كتبت علينا القتال ( ،
يعني لم فرضت علينا القتال ، ) لولا أخرتنا إلى أجل قريب ( هلا تركتنا حتى نموت موتا
وعافيتنا من القتل ، ) قل متاع الدنيا قليل ( ، تتمتعون فيها يسيرا ، ) والآخرة خير ( من
الدنيا ، يعني الجنة أفضل من الدنيا ، ) لمن اتقى ولا تظلمون ( من أعمالكم الحسنة
) فتيلا ) [ آية : 77 ] ، يعني الأبيض الذي يكون في وسط النواة حتى يجازوا بها .(1/242)
صفحة رقم 243
تفسير سورة النساء آية 78
النساء : ( 78 ) أينما تكونوا يدرككم . . . . .
ثم أخبر عن كراهيتهم للقتال ذاكرا لهم أن الموت في أعناقكم ، فقال سبحانه :
( أينما تكونوا ( من الأرض ) يدرككم ( ، يعني يأتيكم ) الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ( ، يعني القصور الطوال المشيدة إلى السماء في الحصانة حين لا يخلص إليه ابن
آدم يخلص إليه الموت حين يفر منه ، وقال عبد الله بن أبي ، لما قتلت الأنصار يوم أحد ،
قال : لو أطاعونا ما قتلوا ، فنزلت : ( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ( ، يعني القصور .
ثم أخبر سبحانه عن المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه ، فقال : ( وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله ( ببدر ، يعني نعمة ، وهي الفتح والغنيمة ، يقول : هذه الحسنة من
عند الله ، ) وإن تصبهم سيئة ( ، يعني بلية ، وهي القتل والهزيمة يوم أحد ، ) يقولوا هذه من عندك ( يا محمد ، أنت حملتنا على هذا ، وفي سببلك كان هذا ، فقال عز وجل لنبيه
( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل كل ( ، يعني الرخاء والشدة ) من عند الله فمال هؤلاء القوم ( ، يعني المنافقين
) لا يكادون يفقهون حديثا ) [ آية : 78 ] ، أن الشدة والرخاء والسيئة والحسنة من الله ، ألا
يسمعون ما يحذرهم ربهم في القرآن ؟ يعني عبد الله بن أبي .
تفسير سورة النساء آية 79
النساء : ( 79 ) ما أصابك من . . . . .
فقال الله عز وجل لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما أصابك من حسنة ( ، يعني الفتح والغنيمة يوم بدر ،
)( فمن الله ( كان ، ) وما أصابك من سيئة ( ، يعني البلاء من العدو ، والشدة من العيش
يوم أحد ، ) فمن نفسك ( ، يعني فبذنبك ، يعني ترك المركز ، وفي مصحف عبد الله بن
مسعود ، وأبي بن كعب : ' فبذنبك ، وأنا كتبتها عليك ' ، ) وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ) [ آية : 79 ] ، يعني فلا شاهد أفضل من الله بأنك رسوله .
تفسير سورة النساء آية [ 80 - 81 ](1/243)
صفحة رقم 244
النساء : ( 80 ) من يطع الرسول . . . . .
) من يطع الرسول فقد أطاع الله ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في المدينة : ' من أحبني
فقد أحب الله ، ومن أطاعني فقد أطاع الله ' ، فقال المنافقون : ألا تسمعون إلى هذا
الرجل وما يقول ؟ لقد قارب الشرك ، وهو ينهى ألا يعبد إلا الله ، فما حمله على الذي
قال إلا ان نتخذه حنانا ، يعنون ربا ، كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حنانا ، فأنزل
الله عز وجل تصديقا لقول نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ( ) ومن تولى (
عرض عن طاعتهما ، ) فما أرسلناك عليهم حفيظا ) [ آية : 80 ] ، يعني رقيبا .
النساء : ( 81 ) ويقولون طاعة فإذا . . . . .
ثم أخبر عن المنافقين ، فقال سبحانه : ( ويقولون طاعة ( للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين أمرهم
بالجهاد ، وذلك أنهم دخلوا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا : مرنا بما شئت ، فأمرك طاعة ، فإذا خرجوا من عنده خالفوا ، وقالوا غير الذي قال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله عز وجل :
( ويقولون طاعة ( للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) فإذا برزوا من عندك ( ، يعني خرجوا من عندك يا
محمد ، ) بيت طائفة ( ، يقول : ألفت طائفة ، ) منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون ( ، يعني الحفظة ، فيكتبون ما يقولون من الكذب ، ) فأعرض عنهم ( ، يعني
الجلاس بن سويد ، وعمرو بن زيد ، فلا تعاتبهم ، ) وتوكل على الله ( ، يعني وثق بالله عز
وجل ، ) وكفى بالله وكيلا ) [ آية : 81 ] ، يعني وكفى به منيعاً ، فلا أحد أمنع من الله عز
وجل ، ويقال : وكيلا ، يعني شهيدا لما يكتمون .
تفسير سورة النساء آية [ 82 - 84 ]
النساء : ( 82 ) أفلا يتدبرون القرآن . . . . .
ثم وعظهم ، فقال سبحانه : ( أفلا يتدبرون ( ، يعني أفلا يسمعون ) القرآن (
فيعلمون أنه ، ) ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) [ آية : 82 ] ، يعني
كذبا كبيرا ؛ لأن الاختلاف في قول الناس ، وقول الله عز وجل لا اختلاف فيه ،
النساء : ( 83 ) وإذا جاءهم أمر . . . . .
) وإذا جاءهم ( ، يعني المنافقين ، ) أمر من الأمن ( ، يعني شيئا من الأمر يسر المؤمنين من
الفتح والخير ، قصروا عما جاءهم من الخير .(1/244)
صفحة رقم 245
ثم قال سبحانه : ( أو الخوف ( ، يعني فإن جاءهم بلاء أو شدة نزلت بالمؤمنين ،
)( أذاعوا به ( ، يعني أفشوه ، فإذا سمع ذلك المسلمون كاد أن يدخلهم الشك ، ) ولو ردوه إلى الرسول ( حتى يخبر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بما كان من الأمر أو ردوه ، ) وإلى أولي الأمر منهم ( ، يقول : أمراء السرايا ، فيكونون هم الذين يخبرون ويكتبون به ، ) لعلمه الذين يستنبطونه منهم ( ، يعني الذين يتبينونه منهم ، يعني الخير على وجهه ، ويحبوا أن يعلموا ذلك فيعلمونه ، ثم قال سبحانه : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ( ، يعني
ونعمته فعصمكم من قول المنافقين ، ) لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) [ آية : 83 ] ، نزلت
في أناس كانوا يحدثون أنفسهم بالشرك .
النساء : ( 84 ) فقاتل في سبيل . . . . .
ثم قال عز وجل : ( فقاتل في سبيل الله ( ، فأمره أن يقاتل بنفسه ، ) لا تكلف إلا نفسك ( ، يعني ليس عليك ذنب غيرك ، ) وحرض المؤمنين ( ، يعني وحرض على القتال ،
يعني على قتال العدو ، ) عسى الله أن يكف بأس ( ، يعني قتال ) الذين كفروا والله أشد بأسا ( ، يعني أخذا ، ) وأشد تنكيلا ) [ آية : 84 ] ، يعني نكالا ، يعني عقوبة
من الكفار ، ولو لم يطع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أحدا من الكفار ، لكفاه الله عز وجل .
تفسير سورة النساء آية [ 85 - 88 ]
النساء : ( 85 ) من يشفع شفاعة . . . . .
وقوله سبحانه : ( من يشفع شفاعة حسنة ( لأخيه المسلم بخير ، ) يكن له نصيب منها ( ، يعني حظا من الأجر من أجل شفاعته ، ) ومن يشفع شفاعة سيئة ( ، وهو
الرجل يذكر أخاه بسوء عند رجل فيصيبه عنت منه ، فيأثم المبلغ ، فذلك قوله سبحانه :
( يكن له كفل منها ( ، يعني إثما من شفاعته ، ) وكان الله على كل شيء مقيتا ) [ آية :
85 ] من الحيوان ، عليه قوت كل دابة لمدة رزقها .
النساء : ( 86 ) وإذا حييتم بتحية . . . . .
) وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها ( ، نزلت في نفر بخلوا بالسلام ، فحيوا
بأحسن منها ، ) أو ردوها ( ، يقول : فردوا عليه أحسن مما قال : قال فيقول : وعليك(1/245)
صفحة رقم 246
ورحمة الله وبركاته ، أو يرد عليه مثل ما سلم عليه ، ) إن الله كان على كل شيء ( من أمر
التحية ، إن رددت عليها أحسن منها أو مثلها ، ) حسيبا ) [ آية : 86 ] ، يعني شهيدا ،
النساء : ( 87 ) الله لا إله . . . . .
) الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة ( ، نزلت في قوم شكوا في البعث ،
فأقسم الله عز وجل بنفسه ليبعثهم إلى يوم القيامة ، ) لا ريب فيه ( ، يعني لا شك في
البعث ، ) ومن أصدق من الله حديثا ) [ آية : 87 ] ، يقول : فلا أحد أصدق من الله حديثا
إذا حدث ، يعني في أمر البعث .
النساء : ( 88 ) فما لكم في . . . . .
) فما لكم ( صرتم ) في المنافقين ( نزلت في تسعة نفر ، منهم : مخرمة بن زيد
القرشي ، هاجروا من مكة إلى المدينة ، فقدموا وأرادوا الرجعة ، فقال بعضهم : نخرج
كهيئة البداة ، فإذا غفل عنا مضينا إلى مكة ، فجعلوا يتحولون منقله منقلة ، حتى تباعدوا
من المدينة ، ثم إنهم أدلجوا حتى أصبحوا قد قطعوا أرضا بعيدة ، فلحقوا بمكة ، فكتبوا إلى
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إنا على ما فرقناك عليه ، ولكنا اشتقنا إلى بلادنا وإخوتنا بمكة ، ثم إنهم
خرجوا تجارا إلى الشام ، واستبضعهم أهل مكة بضائعهم ، فقالوا لهم : أنتم على دين محمد
( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، فلا بأس عليكم ، فساروا وبلغ المسلمين أمرهم ، فقال بعضهم لبعض :
أخرجوا إلى هؤلاء فنقاتلهم ، ونأخذ ما معهم ، فإنهم تركوا دار الهجرة وظاهروا عدونا .
وقال آخرون : ما حلت دماؤهم ولا أموالهم ولكنهم فتنوا ، ولعلهم يرجعوا للتوبة ،
والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ساكت ، فأنزل الله عز وجل يخبر عن التسعة رهط ويعظ المؤمنين ليكون
أمرهم جميعا عليهم ، فقال الله عز وجل : ( فما لكم ( صرتم ) في المنافقين (
) فئتين ( تختصمون ، ) والله أركسهم ( ، يعني أضلهم فردهم إلى الكفر ، ) بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله ( عن الهدى ، ) فلن تجد له سبيلا ) [ آية : 88 ] .
تفسير سورة النساء آية [ 89 - 91 ](1/246)
صفحة رقم 247
النساء : ( 89 ) ودوا لو تكفرون . . . . .
ثم أخبر عن التسعة ، فقال سبحانه : ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ( أنتم
وهم على الكفر ، ) فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ( ، يعني حتى
يهاجروا إلى دار الهجرة بالمدينة ، ) فإن تولوا ( ، فإن أبوا الهجرة ، ) فخذوهم ( ، يعني
فأسروهم ، ) واقتلوهم حيث ( ، يعني أين ) وجدتموهم ( من الأرض في الحل
والحرم ، ) ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ) [ آية : 89 ] ، يعني ولا ناصرا .
النساء : ( 90 ) إلا الذين يصلون . . . . .
ثم استثنى ، فقال : ( إلا الذين يصلون ( ، يعني التسعة المرتدين ، ) إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ( ، يعني عهد خزاعة وبني خزيمة ، وفيهم نزلت : ( إلا الذين عاهدتم من المشركين ) [ التوبة : 4 ] ، إن وصل هؤلاء التسعة إلى أهل عهدكم وهم خزاعة ، منهم :
هلال بن عويمر الأسلمى ، وسراقة بن مالك بن جشم ، وبنو مدلج ، وبنو جذيمة ، وهما
حيان بن كنانة ، فلا تقتلوا التسعة ؛ لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صالح هؤلاء على أن من يأتيهم من
المسلمين فهو آمن ، يقول : إن وصل هؤلاء وغيرهم إلى أهل عهدكم ، فإن لهم مثل الذي
لحلفائهم .
ثم قال عز وجل : ( أو جاءوكم ( ، يعني بني جذيمة ، ) حصرت صدورهم ( ، يعني
ضيقة قلوبهم ، ) إن يقاتلوكم ( ، يعني ضاقت قلوبهم أن يقتالوكم ، ) أو يقاتلوا قومهم ( من التسعة ، ثم قال : ( ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم ( ، يخوف
المؤمنين ، ثم قال : ( فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم ( ، يعني الصلح ، يعني
هلالا وقومه حزاعة ، ) فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) [ آية : 90 ] في قتالهم .
النساء : ( 91 ) ستجدون آخرين يريدون . . . . .
) ستجدون آخرين ( منهم أسد غطفان ، أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أجئتم
مهاجرين ؟ ' ، قالوا : بل جئنا مسلمين ، فإذا رجعوا إلى قومهم ، قالوا : آمنا بالعقرب
والخنفساء إذ تعود ، فقال : ( ستجدون آخرين ( ) يريدون أن يأمنوكم ( ، يعني يأمنوا
فيكم معشر المؤمنين بأنهم مقرون بالتوحيد ، ) ويأمنوا قومهم ( المشركين ؛ لأنهم على
دينهم ، ) كل ما ردوا إلى الفتنة ( ، يعني كلما دعوا إلى الشرك ، ) أركسوا فيها ( ،
يقول : عادوا في الشرك ، ) فإن لم يعتزلوكم ( في القتال ، ) ويلقوا إليكم السلم ( ، يعني
الصلح ، ) ويكفوا أيديهم ( عن قتالكم ، ) فخذوهم واقتلوهم ( ، يعني أأسروهم(1/247)
صفحة رقم 248
واقتلوهم ، ) حيث ثقفتموهم ( ، يعني أدركتموهم من الأرض في الحل والحرم ،
)( وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ) [ آية : 91 ] ، يعني حجة بينة .
تفسير سورة النساء آية 92
النساء : ( 92 ) وما كان لمؤمن . . . . .
ثم صارت منسوخة ، ) وما كان لمؤمن ( ، يعني عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة
المخزومي ، يقول : ما كان ينبغي لمؤمن ) أن يقتل مؤمنا ( ، يعني الحارث بن يزيد بن
أبي أنيسة من بني عامر بن لؤي ، ) إلا خطئا ( ، وذلك أن الحارث أسلم في موادعة
أهل مكة ، فقتله عياش خطأ ، وكان عياش قد حلف على الحارث بن يزيد ليقتلنه ، وكان
الحارث يومئذ مشرك ، فأسلم الحارث ولم يعلم به عياش فقتله بالمدينة ، ) ومن قتل مؤمنا
خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ( أي التي قد صلت لله ووحدت الله ، ) ودية مسلمة إلى أهله ( ، أي المقتول ، ) إلا أن يصدقوا ( ، يقول : إلا أن يصدق أولياء المقتول بالدية
على القاتل ، فهو خير لهم ، ) فإن كان ( هذا المقتول ) من قوم عدو لكم ( من
أهل الحرب ، ) وهو ( ، يعني المقتول ) مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ( نزلت في
مرداس بن عمر القيسي ، ولا دية له ، ) وإن كان ( هذا المقتول وكان ورثته ) من قوم بينكم وبينهم ميثاق ( ، يعني عهد ) فدية مسلمة إلى أهله ( ، أي إلى
أهل المقتول ، يعني إلى ورثته بمكة ، وكان بين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبين أهل مكة يومئذ عهد ،
)( و ( عليه ) وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد ( الدية ) ف ( عليه
) فصيام شهرين متتابعين توبة من الله ( ، تلك الكفارة تجاوز من الله في قتل
الخطأ لهذه الأمة ؛ لأن المؤمن كان يقتل بالخطأ في التوراة على عهد موسى ، عليه
السلام ، ) وكان الله عليما حكيما ) [ آية : 92 ] ، حكم الكفارة والرقبة .
تفسير سورة النساء آية 93
النساء : ( 93 ) ومن يقتل مؤمنا . . . . .
) ومن يقتل مؤمنا متعمدا ( ، نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني ، ثم الليثي ،(1/248)
صفحة رقم 249
قتل رجلا من قريش ، يقال له : عمرو مكان أخيه هشام بن ضبابة ، وذلك أن مقيس بن
ضبابة وجد أخاه قتيلا في الأنصار في بني النجار ، فانطلق إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأخبره بذلك ،
فأرسل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الأنصار رجلا من بني فهر مع مقيس ، فقال : ادفعوا إلى مقيس قاتل
أخيه ، إن علمتم ذلك ، وإلا فادفعوا إليه ديته ، فلما جاءهم الرسول ، قالوا : السمع
والطاعة لله ولرسوله ، والله ما نعلم له قاتلا ، ولكنا نؤدي ديته ، ودفعوا إلى مقيس مائة
من الإبل دية أخيه ، فلما انصرف مقيس عمد إلى رسول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقتله وفر
وارتد عن الإسلام ، ورحل من المدينة ، وساق معه الدية ، ورجع إلى مكة كافرا ، وهو
يقول في شعره :
قتلت به فهرا وحملت عقله
سراة بني النجار أرباب فارع
وأدركت ثأري واضطجعت موسدا
وكنت إلى الأوثان أول راجع
فنزلت فيه بعدما قتل النفس وارتد عن الإسلام ، وساق معه الدية إلى مكة ، نزلت فيه
الآية : ( ومن يقتل مؤمنا ( ، يعني الفهرى ) متعمدا ( لقتله ) فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) [ آية : 93 ] وافر
الانقطاع له بقتله النفس وبأخذه الدية .
تفسير سورة النساء آية [ 94 ]
النساء : ( 94 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث سرية ،
وبعث عليها غالب بن عبد الله الليثي أخا ثميلة بن عبد الله ، فلما أصبحوا رأوا رجلا
يسمى مرداس بن عمرو بن نهيك العنسي من بني تيم بن مرة من أهل فدك ، معه غنيمة
له ، فلما رأى الخيل ساق غنيمته حتى أحرزها في الجبل ، وكان قد أسلم من الليل وأخبر
أهله بذلك ، فلما دنوا منه كبروا ، فسمع التكبير ، فعرفهم ، فنزل إليهم ، فقال : سلام
عليكم ، إني مؤمن ، فحمل عليه أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي من بني عبد ود ، فقال
مرداس : إني منكم أشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده(1/249)
صفحة رقم 250
فطعنه أسامة برمحه فقتله وسلبه وساق غنمه ، فلما قدم المدينة أخبر أسامة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
فلامه النبي ملامة شديدة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' قتلته وهو يقول : لا إله إلا الله ؟ ' ، قال : إنما
قال ذلك أراد أن يحرز نفسه وغنمه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أفلا شققت عن قلبه ، فتنظر
صدق أم لا ' ، قال : يا رسول الله ، كيف يتبين لي ؟ وإنما قلبه بضعة من جسده ، فقال :
' فلا صدقته بلسانه ، ولا أنت شققت عن قلبه فيبين لك ' ، فقال : استغفر لي يا رسول
الله ، قال : ' فكيف لك بلا إله إلا الله ' ، يقول ذلك ثلاث مرات ، فاستغفر له النبي ( صلى الله عليه وسلم )
الرابعة .
قال أسامة في نفسه : وددت أني لم أسلم حتى كان يومئذ ، فأمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعتق
رقبة . قال مقاتل ، رحمه الله : فعاش أسامة زمن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، رضي الله
عنهم ، حتى أدرك على بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، فدعاه على ، رحمه الله ، إلى القتال ،
فقال أسامة : ما أحد أعز على منك ، ولكن لا أقاتل مسلما بعد قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' كيف
لك بلا إله إلا الله ؟ ' .
فإن أتيت بسيف إذا ضربت به مسلما ، قال السيف : هذا مسلم ، وإن ضربت به
كافرا ، قال لي : هذا كافر ، قاتلت معك ، فقال له علي : اذهب حيث شئت ، فأنزل الله
عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ( ، يعني سرتم غزاة في سبيل
الله ، ) فتبينوا ( من تقتلوا ، ) ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام ( ، يعني مرداس ،
وذلك أنه قال لهم : السلام عليكم إني مؤمن ، ) لست مؤمناً تبتغون عرض الحيوة
الدنيا ( ، يعني غنم مرداس ، ) فعند الله مغانم كثيرة ( في الآخرة والجنة ،
)( كذلك ( ، يعني هكذا ، ) كنتم من قبل ( الهجرة بمنزلة مرداس تأمنون في
قومكم بالتوحيد من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا لقوكم ، فلا تخيفون أحدا بأمر كان فيكم
تأمنون بمثله قبل هجرتكم ، ) فمن الله عليكم ( بالهجرة فهاجرتم ، ) فتبينوا (
إذا خرجتم فلا تقتلوا مسلما ، ) إن الله كان بما تعملون خبيرا ) [ آية : 94 ] ،
فقال أسامة : والله لا أقتل رجلا بعد هذا يقول : لا إله إلا الله .
تفسير سورة النساء آية 95(1/250)
صفحة رقم 251
النساء : ( 95 ) لا يستوي القاعدون . . . . .
وقوله سبحانه : ( لا يستوي القاعدون ( عن الغزو ) من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ( ، يعني عبد الله بن جحش الأسدي ، وابن أم
مكتوم من أهل العذر .
قال أبو محمد : هم ثلاثة منهم عبد الله بن جحش ، عقد له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعبيد الله مات
نصارنيا ، وعبد الله بن جحش هو الضرير الذي نزل فيه قوله عز وجل : ( غير أولي الضرر ( .
يقول عز وجل : لا يستوي في الفضل القاعد الذي لا عذر له ، والمجاهد بنفسه وماله
في سبيل الله ، وهي غزوة تبوك ، قال عز وجل : ( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين ( من أهل العذر ، ) درجة ( ، يعني فضيلة على القاعدين ، ) وكلا ( ، يعني
المجاهد والقاعد المعذور ، ) وعد الله الحسنى ( ، يعني الجنة ، ثم قال سبحانه : ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين ( الذين لا عذر لهم ) أجرا عظيما ) [ آية : 95 ] .
تفسير سورة النساء آية [ 96 - 100 ]
النساء : ( 96 ) درجات منه ومغفرة . . . . .
) درجات منه ( ، يعني فضائل من الله في الجنة سبعين درجة بين كل درجتين مسيرة
سبعين سنة ، ) ومغفرة ( لذنوبهم ، ) ورحمة وكان الله غفورا رحيما ) [ آية : 96 ] ، يعني أبا
لبابة ، وأوس بن حزام ، ووداعة بن ثعلب ، وكعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن
ربيعة من بني عمرو بن عوف ، كلهم من الأنصار ،
النساء : ( 97 ) إن الذين توفاهم . . . . .
) إن الذين توفاهم الملائكة ( ، يعني
ملك الموت وحده ، ) ظالمي أنفسهم ( ، وذلك أنه كان نفر أسلموا بمكة مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاطه بن
المغيرة ، والوليد بن عقبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وعمرو بن أمية بن سفيان بن أمية بن
عبد شمس ، والعلاء بن أمية بن خلف الجمحي .(1/251)
صفحة رقم 252
ثم إنهم أقاموا عن الهجرة ، وخرجوا مع المشركين إلى قتال بدر ، فلما رأوا قلة
المؤمنين شكوا في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقالوا : غر هؤلاء دينهم ، وكان بعضهم نافق بمكة ، فلما
قتل هؤلاء ببدر ) قالوا ( ، أي قالت الملائكة لهم ، وهو ملك الموت وحده : ( فيم كنتم ( ؟ يقول : في أي شيء كنتم ، ) قالوا كنا مستضعفين في الأرض ( ، يعني كنا مقهورين
بأرض مكة لا نطيق أن نظهر الإيمان ، ) قالوا ( ، أي قالت الملائكة لهم ، ) ألم تكن أرض الله واسعة ( من الضيق ، يعني أرض الله المدينة ، ) فتهاجروا فيها ( ، يعني إليها ، ثم انقطع
الكلام ، فقال عز وجل : ( فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) [ آية : 97 ] ، يعني وبئس
المصير صاروا .
النساء : ( 98 ) إلا المستضعفين من . . . . .
ثم استثنى أهل العذر ، فقال سبحانه : ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ( ، فليس مأواهم جهنم ، ) لا يستطيعون حيلة ( ، يقول : ليس لهم سعة للخروج
إلى المدينة ، ) ولا يهتدون سبيلا ) [ آية : 98 ] ، يعني ولا يعرفون طريقا إلى المدينة ،
النساء : ( 99 ) فأولئك عسى الله . . . . .
) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ( ، والعسى من الله واجب ، ) وكان الله عفوا ( عنهم
) غفورا ) [ آية : 99 ] ، فلا يعاقبهم لإقامتهم عن الهجرة في عذر .
النساء : ( 100 ) ومن يهاجر في . . . . .
فقال ابن عباس ، رضي الله عنه ، أنا يومئذ من الولدان ، وامي من النساء ، فبعث النبي
( صلى الله عليه وسلم ) بهذه الآية إلى مسلمي مكة ، فقال جندب بن حمزة الليثي ، ثم الجندعي لبنيه :
احملوني فإني لست من المستضعفين ، وإني لهاد بالطريق ولو مت لنزلت في الآية ، وكان
شيخا كبيرا ، فحمله بنوه على سريره متوجها إلى المدينة ، فمات بالتنعيم ، فبلغ أصحاب
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) موته ، فقالوا : لو لحق بنا لأتم الله أجره ، فأراد الله عز وجل أن يعلمهم أنه لا
يخيب من التمس رضاه ، فأنزل الله عز وجل : ( ومن يهاجر في سبيل الله ( ، يعني في
طاعة الله إلى المدينة ، ) يجد في الأرض مراغما كثيرا ( ، يعني متحولا عن الكفر ، ) وسعه (
في الرزق ) ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ) [ آية : 100 ] .
تفسير سورة النساء آية 101
النساء : ( 101 ) وإذا ضربتم في . . . . .
ثم قال سبحانه : ( وإذا ضربتم ( ، يعني سرتم ) في الأرض ( ، يعني غزوة بني أنمار
ببطن مكة ، ) فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ( ،(1/252)
صفحة رقم 253
يعني أن يقتلكم ، كقوله : ( على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ) [ يونس :
83 ] ، يعني أن يقتلكم الذين كفروا من أهل مكة ، فيصيبوا منكم طائفة ، ) إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) [ آية : 101 ] .
تفسير سورة النساء آية 102
النساء : ( 102 ) وإذا كنت فيهم . . . . .
) وإذا كنت فيهم ( ، يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك ( ، وليأخذوا حذرهم من عدوهم ، ) وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون ( ، يعني تذرون ) عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون ( ،
يعني فيحملون ) عليكم ( جميعا ) ميلة واحدة ( ، يعني حملة واحدة ، يعني كرجل
واحد عند غفلتكم ، ثم رخص لهم في وضع السلاح عند المطر أو المرض ، فقال : ( ولا جناح ( ، يعني لا حرج ) عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ( من عدوكم عند وضع السلاح ، ) إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ) [ آية : 102 ] ، يعني الهوان .
تفسير سورة النساء آية [ 103 - 104 ]
النساء : ( 103 ) فإذا قضيتم الصلاة . . . . .
وكان تقصير الصلاة يعسفان ، بين مكة والمدينة ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإزاء الذين خافوه وهم
غطفان ، ) فإذا قضيتم الصلاة ( ، يعني صلاة الخوف ، ) فاذكروا الله ( باللسان ،
)( قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ( ، إذا أقمتم في بلادكم
فأقيموا الصلاة ، يعني فأتموا الصلاة كاملة ولا تقصروا ، ) إن الصلاة كانت على(1/253)
صفحة رقم 254
المؤمنين كتابا موقوتا ) [ آية : 103 ] ، يعني فريضة معلومة ، كقوله : ( كتب
عليكم القتال ) [ البقرة : 216 ] ، يعني فرض عليكم القتال .
النساء : ( 104 ) ولا تهنوا في . . . . .
) ولا تهنوا في ابتغاء القوم ( ، يقول : ولا تعجزوا ، كقوله : ( فما وهنوا ) [ آل
عمران : 146 ] ، يعني فما عجزوا في طلب أبي سفيان وأصحابه يوم أحد بعد القتل
بأيام ، فاشتكوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الجراحات ، فأنزل الله عز وجل : ( إن تكونوا تألمون ( ،
يعني تتوجعون ، ) فإنهم يألمون كما تألمون ( ، يعني يتوجعون كما تتوجعون ،
)( وترجون من الله ( من الثواب والأجر ، ) ما لا يرجون ( ، يعني أبا سفيان
وأصحابه ، ) وكان الله عليما ) ) بخلقه ( ( حكيما ) [ آية : 104 ] في أمره .
تفسير سورة النساء من آية [ 105 - 113 ]
النساء : ( 105 ) إنا أنزلنا إليك . . . . .
) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ( ، وذلك أن يهوديا يسمى زيد بن السمين ، كان
استودع طعمة بن أبيرق الأنصاري من الأوس من بني ظفر بن الحارث درعا من حديد ،
ثم إن زيدا اليهودي طلب درعه فجحده طعمة ، فقال زيد لقومه : قد ذكر لي أن الدرع
عنده ، فانطلقوا حتى نلتمس داره ، فاجتمعوا ليلا فأتوا داره ، فلما سمع جلبة القوم أحس
قلبه أن القوم جاءوا من أجل الدرع ، فرمى به في دار أبي مليك ، فدخل القوم داره ،
فلم يجدوا الدرع ، فاجتمع الناس .(1/254)
صفحة رقم 255
ثم إن طعمة اطلع في دار أبي مليك ، فقال : هذا درع في دار أبي مليك ، فلا أدري
هي لكم أم لا ؟ فأخذوا الدرع ، ثم إن قوم طعمة ، قتادة بن النعمان وأصحابه ، قالوا :
انطلقوا بنا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلنبرئ صاحبنا ، ونقول : إنهم أتونا ليلا ففضحونا ، ولم يكن
معهم رسول من قبلك ونأمرهم أن يبرءوا صاحبنا لتنقطع ألسنة الناس عنا بما قذفونا به ،
ونخبره أنها وجدت في دار أبي مليك ، فأتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأخبروه فصدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) طعمة
وأبرأه من ذلك ، وهو يرى أنهم قد صدقوا ، فأنزل الله تعالى : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب ( ، يعني القرآن ) بالحق ( لم ننزله باطلا عبثا لغير شيئ ، ) لتحكم ( ، يعني
لكي تحكم ) بين الناس بما أراك الله ( ، يعني بما علمك الله في كتابه ، كقوله
سبحانه : ( ويرى الذين أوتوا العلم ) [ سبأ : 6 ] ، ) ولا تكن للخائنين خصيما (
[ آية : 105 ] ، ، يعني طعمة .
النساء : ( 106 ) واستغفر الله إن . . . . .
ثم قال : ( واستغفر الله ( يا محمد عن جدالك عن طعمة حين كذبت عنه ، فأبرأته
من السرقة ، ) إن الله كان غفورا رحيما ) [ آية : 106 ] ، فاستغفر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذلك ،
النساء : ( 107 ) ولا تجادل عن . . . . .
) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ( ، يعني طعمة ، ) إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ) [ آية : 107 ] في دينه أثيما بربه ،
النساء : ( 108 ) يستخفون من الناس . . . . .
) يستخفون ( ، يعني يستترون بالخيانة
) من الناس ( ، يعني طعمة ، ) ولا يستخفون من الله ( ، ولا يشترون بالخيانة من الله ،
)( وهو معهم إذ يبيتون ( ، يعني إذ يؤلفون ) ما لا يرضى من القول ( ، لقولهم : إنا نأتي
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنقول له كذا وكذا ، فألقوا قولهم بينهم ، يعني قتادة وأصحابه ليدفعوا عن
صاحبهم ما لا يرضى الله من القول ، ) وكان الله بما يعملون محيطا ) [ آية : 108 ] ،
يعني أحاط علمه بأعمالهم ، يعني قوم الخائن قتادة بن النعمان وأصحابه .
النساء : ( 109 ) ها أنتم هؤلاء . . . . .
ثم قال يعينهم : ( هأنتم هؤلاء ( قوم الخائن ) جادلتم عنهم ( نبيكم ) في الحياة الدنيا ( عن طعمة ، ) فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ) [ آية : 109 ] ، يعني به قومه ، يقول : أم من يكون لطعمة مانعا في الآخرة ،
النساء : ( 110 ) ومن يعمل سوءا . . . . .
ثم عرض على طعمة التوبة ، فقال : ( ومن يعمل سوءا ( ، يعني إثما ، ) أو يظلم نفسه ( ، يعني قذف البرئ أبا مليك ، ) ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (
[ آية : 110 ] .
النساء : ( 111 ) ومن يكسب إثما . . . . .
) ومن يكسب إثما ( ، يعني طعمة ، ) فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما(1/255)
صفحة رقم 256
حكيما ) [ آية : 111 ] في أمره ،
النساء : ( 112 ) ومن يكسب خطيئة . . . . .
) ومن يكسب ( لنفسه ) خطيئة أو إثما ( ، يعني
قذف البريء ، ) ثم يرم به بريئا ( ، يعني أنه رمى به في دار أبي مليك الأنصاري ،
)( فقد احتمل بهتانا ( ، يعني قذفه البرئ بما لم يكن ، ) وإذنا وإثما ) [ آية : 112 ] ،
يعني بينا .
النساء : ( 113 ) ولولا فضل الله . . . . .
ثم قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ولولا فضل الله عليك ورحمته ( ، يعني ونعمته بالقرآن حين بين
لك أمر طعمة ، فحولك عن تصديق الخائنين بالقرآن ، ) لهمت طائفة منهم أن
يضلوك ( ، يقول : لكادت طائفة من قوم الخائنين أن يستنزلوك عن الحق ، ) وما
يضلون ( ، يعني وما يستنزلون ) إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء ( ، يعني وما
ينقصونك من شيء ليس ذلك بأيديهم ، إنما ينقصون أنفسهم ، ثم قال : ( وأنزل الله
عليك الكتاب والحكمة ( ، يعني الحلال والحرام ، ) وعلمك ما لم تكن تعلم ( من
أمر الكتاب وأمر الدين ، ) وكان فضل الله عليك عظيما ) [ آية : 113 ] ، يعني النبوة
والكتاب .
تفسير سورة النساء آية 114 - 121
النساء : ( 114 ) لا خير في . . . . .
ثم قال سبحانه : ( لا خير في كثير من نجواهم ( ، يعني قوم طعمة قيس بن
زيد ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وأبو رافع ، وكلهم يهود ، حين تناجوا في أمر طعمة ، ثم
استثنى ، فقال : ( إلا من أمر بصدقة أو معروف ( ، يعني القرض ، ) أو إصلاح بين(1/256)
صفحة رقم 257
الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) [ آية : 114 ] ، يعني
جزاء عظيما ، فأنزل الله عز وجل في قولهم :
النساء : ( 115 ) ومن يشاقق الرسول . . . . .
) ومن يشاقق ( ، يعني يخالف ، ) الرسول
من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل ( ، يعني غير دين ) المؤمنين نوله ما تولى (
من الآلهة ، ) ونصله جهنم وساءت مصيرا ) [ آية : 115 ] ، يعني وبئس المصير .
النساء : ( 116 ) إن الله لا . . . . .
فلما قدم طعمة مكة ، نزل على الحجاج بن علاط السلمى ، فأحسن نزله ، فبلغه أن
في بيته ذهبا ، فلما كان من الليل خرج فنقب حائط البيت ، وأراد أن يأخذ الذهب وفي
البيت مسوك يابسة مسوك الشاء قد أصابها حر الشمس ولم تدبغ ، فلما دخل البيت من
النقب وطئ المسوك ، فسمعوا قعقعة المسوك في صدره عند النقب ، وأحاطوا بالبيت ،
ونادوه : اخرج فإنا قد أحطنا بالبيت ، فلما خرج إذا هم بضيفهم طعمة ، فأراد أهل مكة
أن يرجموه فاستحيا الحجاج لضيفه ، وكانوا يكرمون الضيف فأهزوه وشتموه ، فخرج
من مكة ، فلحق بحرة بني سليم يعبد صنمهم ، ويصنع ما يصنعون حتى مات على
الشرك ، فأنزل الله عز وجل فيه : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ( ، يعني يعدل به ،
فيموت عليه ، ) ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( ، يعني ما دون الشرك لمن يشاء ،
فمشيئته لأهل التوحيد ، ) ومن يشرك بالله فقد ضل ) ) عن الهدى ( ( ضلالا بعيدا (
[ آية : 116 ] .
النساء : ( 117 ) إن يدعون من . . . . .
ثم إن أبا مليك عاش حتى استخلف عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فحلف بالله
لعمر ، رضي الله عنه ، لا يولى راجعاً ، فلما كان يوم القادسية انهزم المشركون إلى الفرات
وجاءت أساورة كسرى ، فهزموا المسلمين إلى قريب من الجيش ، فثبت أبو مليك حتى
قتل ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال أبو مليك : صدق الله وعده :
( إن يدعون من دونه إلا إناثا ( ، يعني أوثانا ، يعني أمواتا اللات والعزى ، وهي
الأوثان لا تحرك ولا تضر ولا تنفع ، فهي ميتة ، ) وإن يدعون ( ، يعني وما يعبدون
من دونه ، ) إلا شيطانا ( ، يعني إبليس ، زين لهم إبليس طاعته في عبادة الأوثان
) مريدا ) [ آية : 117 ] ، يعني عاتيا تمرد على ربه عز وجل في المعصية ،
النساء : ( 118 ) لعنه الله وقال . . . . .
) لعنه الله (
حين كره السجود لآدم ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وقال ( إبليس لربه جل جلاله : ( لأتخذن من
عبادك نصيبا مفروضا ) [ آية : 118 ] ، يعني حظا معلوما من كل ألف إنسان واحد في
الجنة وسائرهم في النار ، فهذا النصيب المفروض(1/257)
صفحة رقم 258
النساء : ( 119 ) ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم . . . . .
) و ( قال إبليس : ( ولأضلنهم ( عن الهدى ، ) ولأمنينهم ( بالباطل ،
ولأخبرنهم ألا بعث ولا جنة ولا نار ، ) ولآمرنهم فليبتكن ( ، يعني ليقطعن ،
)( آذان الأنعام ( ، وهي البحيرة للأوثان ، ) ولآمرنهم فليغيرون خلق الله ( ،
يعني ليبدلن دين الله ، ) ومن يتخذ الشيطان ( ، يعني إبليس ) وليا ( ، يعني ربا
) من دون الله ( عز وجل ، ) فقد خسر خسرانا مبينا ) [ آية : 119 ] ،
يقول : فقد ضل ضلالا بينا .
النساء : ( 120 ) يعدهم ويمنيهم وما . . . . .
( 2 يعدهم ( إبليس الغرور إلا بعث ، ) ويمنيهم ( إبليس الباطل ، ) وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( آية : [ 120 ] ، يعني إلا باطلا ، الذي ليس بشيء وقال : ( ومن يتخذ الشيطان وليا 2 )
النساء : ( 121 ) أولئك مأواهم جهنم . . . . .
( 2 أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ) [ آية :
121 ] ، يعني مقرا يلجئون إليه ، يعني القرار .
تفسير سورة النساء آية [ 122 - 125 ]
النساء : ( 122 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
ثم أخبر بمستقر من لا يتولى الشيطان ، فقال : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ( ، يعني
صدقا أنه منجز لهم ما وعدهم ، ) ومن أصدق من الله قيلا ) [ آية : 122 ] ، فليس أحد
أصدق قولا منه عز وجل في أمر الجنة والنار والبعث وغيره ،
النساء : ( 123 ) ليس بأمانيكم ولا . . . . .
( 2 ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ( ، نزلت في المؤمنين واليهود والنصارى ، قالت اليهود : كتابنا قبل
كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، فنحن أهدى وأولى بالله منكم ، وقالت النصاري : نبينا كلمة
الله وروح الله وكلمته ، وكان يحيى الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، وفي كتابنا العفو ، وليس فيه قصاص ، فنحن أولى بالله منكم معشر اليهود ومعشر المسلمين .
فقال المسلمون : كذبتم ، كتابنا نسخ كل كتاب ، ونبينا ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم الأنبياء ، وآمنا
بنبيكم وكتابكم ، وكذبتم نبينا وكتابنا ، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ، ونعمل بكتابنا ،(1/258)
صفحة رقم 259
فنحن أهدى منكم وأولى بالله منكم ، فأنزل عز وجل : ( ليس بأمانيكم ( معشر
المؤمنين ) ولا أماني أهل الكتاب ( ) من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) [ آية : 123 ] .
النساء : ( 124 ) ومن يعمل من . . . . .
) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ) [ آية : 124 ] ، ) من يعمل سوءا يجز به ( ، نزلت في المؤمنين
مجازات الدنيا تصيبهم في النكبة بحجر ، والضربة واختلاج عرق أو خدش عود ، أو عثره
قدم فيدميه أو غيره ، فبذنب قدم وما يعفو الله عنه أكبر ، فذلك قوله سبحانه : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) [ الشورة : 30 ] ، ثم قال : ( ولا يجد له من دون الله وليا ( ، يعني قريبا ينفعه ، ) ولا نصيرا ( يعني ولا مانعا يمنعه من الله عز
وجل .
فلما افتخرت اليهود على المؤمنين بالمدينة بين الله عز وجل ، أمر المؤمنين ، فقال
سبحانه : ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ( بتوحيد الله عز
وجل ، ) فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ( ، يعني ولا ينقصون من أعمالهم
الحسنة نقيرا حتى يجازوا بها ، يعني النقير الذي في ظهر النواة التي تنبت منه النخلة .
النساء : ( 125 ) ومن أحسن دينا . . . . .
ثم اختار من الأديان دين الإسلام ، فقال عز وجل : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ( ، يعني أخلص دينه لله ، ) وهو محسن ( في عمله ، ) واتبع ملة إبراهيم حنيفا ( ، يعني مخلصا ، ) واتخذ الله إبراهيم خليلا ) [ آية : 125 ] ، يعني محبا ، وأنزل
الله عز وجل فيهم ، ) هذان خصمان ( ، يعني كفار أهل الكتاب ، ) واختصموا ( ،
يعني ثلاثتهم : المسلمين واليهود والنصارى ، ) في ربهم ( أنهم أولياء الله ، ثم أخبر
بمستقر الكافر ، فقال : ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) [ الحج : 19 ] ، يعني
جعلت لهم ثياب من نار ، إلى آخر الآية ، ثم أخبر سبحانه بمستقر المؤمنين ، فقال : ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ( إلى
آخر الآية .
قوله : ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ( ، والخليل الحبيب ؛ لأن الله أحبه في كسره الأصنام ، وجداله قومه ، واتخذ الله إبراهيم خليلا قبل ذبح ابنه ، فلما رأته الملائكة حين
أمر بذبح ابنه ، أراد المضى على ذلك ، قالت الملائكة : لو أن الله عز وجل اتخذ عبدا حليلا(1/259)
صفحة رقم 260
لاتخذ هذا خليلا محبا ، ولا يعلمون أن الله عز وجل اتخذه خليلا ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال
لأصحابه ، رضى الله عنهم : ' إن صاحبكم خليل الرحمن ' ، يعني نفسه ، فقال المنافقون
لليهود : ألا تنظرون إلى محمد يزعم أنه خليل الله ، لقد اجترأ ، فأنزل الله عز وجل :
( واتخذ الله إبراهيم خليلا ( ، وإنما إبراهيم عبد من عباده مثل محمد ، واتخذ إبراهيم
خليلا حين ألقى في النار ، فذهب حرالنيران يومئذ من الأرض كلها .
تفسير سورة النساء آية [ 126 - 130 ]
النساء : ( 126 ) ولله ما في . . . . .
) ولله ما في السماوات وما في الأرض ( من الخلق عبيده ، وفي ملكه ، ) وكان الله
بكل شيء محيطا ) [ آية : 126 ] ، يعني أحاط علمه ،
النساء : ( 127 ) ويستفتونك في النساء . . . . .
) ويستفتونك في النساء ( نزلت
في سويد وعرفطة ابنى الحارث ، وعيينة بن حصن الفزاري ، وذلك أنه لما فرض الله عز
وجل لأم كحة وبناتها الميراث انطلق سويد وعرفطة وعيينة بن حصن الفزاري إلى النبي
( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن المرأة لا تركب فرسا ولا تجاهد ، وليس عند الولدان الصغار
منفعة في شيء ، فأنزل الله عز وجل فيهم : ( ويستفتونك ( ، يعني يسألونك عن
النساء ، يعني سويدا وصاحبيه ، ) قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب ( ، يعني ما بين من القسمة في أول هذه السورة ، قال : ويفتيكم ) في يتامى النساء ( ، يعني بنات أم كحة ) اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن ( ، يعني ما فرض لهن
من انصبائهن من الميراث في أول السورة .
ثم قال عز وجل : ( وترغبون أن تنكحوهن ( ، يعني بنات أم كحة ، وكان الرجل(1/260)
صفحة رقم 261
يكون في حجره اليتيمة ولها مال ، ويكون فيها موق ، فيرغب عن تزويجها ، ويمنعها من
الأزواج من أجل ما لها رجاء أن تموت فيرثها ، فذلك قوله عز وجل : ( وترغبون أن تنكحوهن ( لدمامتهن ، ) و ( يفتيكم في ) والمستضعفين من الولدان ( أن
تعطوهم حقوقهم ، وكانوا لا يورثونهم ) و ( يفتيكم ) وأن تقوموا لليتامى ( في
الميراث ) بالقسط ( ، يعني بالعدل ، ) وما تفعلوا من خير ( مما أمرتم به من قسمة
المواريث ، ) فإن الله كان به عليما ) [ آية : 127 ] فيجزيكم به .
النساء : ( 128 ) وإن امرأة خافت . . . . .
) وإن امرأة ( ، واسمها خويلة بنت محمد بن مسلمة ) خافت ( ، يعني علمت
) من بعلها نشوزا ( ، يعني زوجها ، ) أو إعراضا ( عنها لما بها من العلة إلى الأخرى ،
نزلت في رافع بن خديج الأنصاري وفي امرأته خويلة بنت محمد بن مسلمة الأنصاري ،
وذلك أن رافعا طلقها ثم راجعها وتزوج عليها أشب منها ، وكان يأتي الشابة ما لا
يأتي الكبيرة ، يقول : ( فلا جناح عليهما ( الزوج والمرأة الكبيرة ) أن يصلحا بينهما صلحا ( أن ترضى المرأة الكبيرة بما له ، على أن يأتي الشابه ما لا يأتي الكبيرة ، يقول :
فلا بأس بذلك في القسمة ، فذلك قوله عز وجل : ( والصلح خير ( من المفارقة ،
)( وأحضرت الأنفس الشح ( ، يعني الحرص على المال ، يعني الكبيرة يرضيها الزوج من
بعض ماله ، فتحرص على المال وتدع نصيبها من زوجها ، ) وإن تحسنوا ( الفعل فلا
تفارقها ، ) وتتقوا ( الميل والجور ، ) فإن الله كان بما تعملون خبيرا ( ) آية :
128 ] في أمرهن من الإحسان والجور .
النساء : ( 129 ) ولن تستطيعوا أن . . . . .
ثم قال عز وجل : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ( في الحب أن يستوى
حبهن في قلوبكم ، ) ولو حرصتم ( ، فلا تقدرون على ذلك ، ) فلا تميلوا كل الميل ( إلى التي تحب ، وهي الشابة ، ) فتذروها كالمعلقة ( ، أي فتأتيها وتذر
الأخرى ، يعني الكبيرة كالمعلقة ، لا أيم ولا ذات بعل ، ولكن اعدلوا في القسمة ، ) وإن تصلحوا ( أمرهن ) وتتقوا ( الميل والجور ، ) فإن الله كان غفورا ( حين ملت إلى
الشابة برضى الكبيرة ، ) رحيما ) [ آية : 129 ] بك حين رخص لك في الصلح ، فإن
أبت الكبيرة الصلح إلا أن تسوى بينها وبين الشابة أو تطلقها كان ذلك لها .
النساء : ( 130 ) وإن يتفرقا يغن . . . . .
ثم إنه طلقها ، فنزلت : ( وإن يتفرقا ( ، يعني رافع وخويلة المرأة الكبيرة ، ) يغن الله كلا ( ، يعني الزوج والكبيرة ، ) من سعته ( ، يعني من فضله الواسع ، ) وكان(1/261)
صفحة رقم 262
الله واسعا ( لهما في الرزق جميعا ، ) حكيما ) [ آية : 130 ] حين حكم فرقتهما .
تفسير سورة النساء أية [ 131 - 132 ]
النساء : ( 131 ) ولله ما في . . . . .
) ولله ما في السماوات وما في الأرض ( من الخلق عبيده وفي ملكه ، ) ولقد وصينا
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما
في الأرض وكان الله غنيا ( عن عباده وخلقه ) حميدا ) [ آية : 131 ] عند خلقه في
سلطانه .
النساء : ( 132 ) ولله ما في . . . . .
) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ) [ آية : 132 ] ، يعني شهيدا ،
فلا شاهد أفضل من الله عز وجل أن من فيهما عباده وفي ملكه .
تفسير سورة النساء آية [ 133 - 134 ]
النساء : ( 133 ) إن يشأ يذهبكم . . . . .
ثم قال عز وجل : ( إن يشأ يذهبكم ( بالموت ) أيها الناس ويأت
بآخرين ( ، يعني بخلق غيركم أطوع منكم ، ) وكان الله على ذلك قديرا ) [ آية : 133 ]
أن يذهبكم ويأت بغيركم إذا عصيتموه .
النساء : ( 134 ) من كان يريد . . . . .
) من كان يريد ثواب الدنيا ( بعمله فليعمل لآخرته ، ) فعند الله ثواب الدنيا ( ،
يعني الرزق في الدنيا وثواب ) والآخرة ( ، يعني الجنة ، ) وكان الله سميعا بصيرا (
[ آية : 134 ] بأعمالكم .
تفسير سورة النساء آية [ 135 ]
النساء : ( 135 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين ( ، يعني قوالين ) بالقسط شهداء لله ( ، يقول
سبحانه : أقيموا الشهادة لله بالعدل ، ) ولو ( كانت الشهادة ) على أنفسكم أو ( على(1/262)
صفحة رقم 263
) الوالدين والأقربين إن يكن ( أحدهما ) غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ( بالغنى
والفقير من غيره ، ) فلا تتبعوا الهوى ( في الشهادة والقرابة ، واتقوا ) أن تعدلوا ( عن
الحق إلى الهوى ، ثم قال : ( وإن تلوا ( ، يعني التحريف بالشهادة ، يلجلج بها لسانه
فلا يقيمها ليبطل بها شهادته ، ) أو تعرضوا ( عنها فلا تشهدوا بها ، ) فإن الله كان بما تعملون ( من كتمان الشهادة وإقامتها ) خبيرا ) [ آية : 135 ] ، نزلت في رجل
كانت عنده شهادة على أبيه ، فأمره الله عز وجل أن يقيمها لله عز وجل ، ولا يقول : إني
إن شهدت عليه أجحفت بماله ، وإن كان فقيرا هلك وازداد فقره ، ويقال : إنه أبو بكر
الصديق ، رضى الله عنه ، الشاهد على أبيه أبي قحافة .
تفسير سورة النساء آية [ 136 ]
النساء : ( 136 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا ( ، نزلت في مؤمني أهل الكتاب ، كان بينهم وبين اليهود
كلام لما أسلموا ، قالوا : نؤمن بكتاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونكفر بما سواه ، فقال تعالى : ( آمنوا بالله ( وصدقوا بتوحيد الله عز وجل ، ) ورسوله ( ، أي وصدقوا برسوله محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( والكتاب الذي نزل على رسوله ( ، يعني محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) والكتاب الذي أنزل من قبل ( نزول كتاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم ذكر كفار أهل الكتاب ، فحذرهم الاخرة ، يعني
البعث ، فقال الله تعالى ذكره : ( ومن يكفر بالله ( ، يعني بتوحيد الله ، ) وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ( ، يعني البعث الذي فيه جزاء الأعمال ، ) فقد ضل ( عن
الهدى ، ) ضلالا بعيدا ) [ آية : 136 ] ، وبما أعد الله عز وجل من الثواب والعقاب .
تفسير سورة النساء آية [ 137 - 139 ]
النساء : ( 137 ) إن الذين آمنوا . . . . .
ثم ذكر أهل الكتاب ، فقال : ( إن الذين آمنوا ( بالتوراة وبموسى ، ) ثم كفروا (
من بعد موسى ، ) ثم آمنوا ( بعيسى ( صلى الله عليه وسلم ) وبالإنجيل ، ) ثم كفروا ( من بعده ، ) ثم ازدادوا كفرا ( بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالقرآن ، ) لم يكن الله ليغفر لهم ( على ذلك ، ) ولا(1/263)
صفحة رقم 264
ليهديهم سبيلا ) [ آية : 137 ] إلى الهدى ، منهم : عمرو بن زيد ، وأوس بن قيس ، وقيس
ابن زيد .
النساء : ( 138 ) بشر المنافقين بأن . . . . .
ولما نزلت المغفرة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وللمؤمنين في سورة الفتح ، قال عبد الله بن أبي ونفر
معه : فما لنا ؟ فأنزل الله عز وجل : ( بشر المنافقين ( ، يعني عبد الله بن أبي ، ومالك بن
دخشم ، وجد بن قيس ، ) بأن لهم ) ) في الآخرة ( ( عذابا أليما ) [ آية : 138 ] ، يعني
وجيعا ، ثم نعتهم ، فقال :
النساء : ( 139 ) الذين يتخذون الكافرين . . . . .
) الذين يتخذون الكافرين ( من اليهود ) أولياء من دون
المؤمنين ( ، وذلك ان المنافقين قالوا : لا يتم أمر محمد ، فتابعوا اليهود وتولوهم ، فذلك
قوله سبحانه : ( أيبتغون عندهم العزة ( ، يعني المنعة ، وذلك أن اليهود أعانوا مشركي
العرب على قتال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليتعززوا بذلك ، فقال سبحانه : ( أيبتغون عندهم العزة ( ،
يقول : أيبتغي المنافقون عند اليهود المنعة ، ) فإن العزة لله جميعا ) [ آية : 139 ] ، يقول :
جميع من يتعزز ، فإنما هو بإذن الله .
تفسير سورة النساء 140
النساء : ( 140 ) وقد نزل عليكم . . . . .
وكان المنافقون بستهزءون بالقرآن ، فأنزل الله عز وجل بالمدينة : ( وقد نزل عليكم
في الكتاب ( ، يعني في سورة الأنعام بمكة ، ) أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها
فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ( ، يقول : حتى يكون حديثهم ، يعني
المنافقين في غير ذكر الله عز وجل ، فنهى الله عز وجل عن مجالسة كفار مكة ومنافقي
المدينة عند الاستهزاء بالقرآن ، ثم خوفهم : إن جالستموهم ورضيتم باستهزائهم ، ) إنكم
إذا مثلهم ) ) في الكفر ( ( إن الله جامع المنافقين ( ، يعني عبد الله بن أبي ، ومالك بن
دخشم ، وجد بن قيس من أهل المدينة ، ) والكافرين ( من أهل مكة ) في جهنم
جميعا ) [ آية : 140 ] .
تفسير سورة النساء آية 141
النساء : ( 141 ) الذين يتربصون بكم . . . . .
ثم أخبر سبحانه عن المنافقين ، فقال عز وجل : ( الذين يتربصون بكم ( الدوائر ،(1/264)
صفحة رقم 265
) فإن كان لكم ( معشر المؤمنين ) فتح من الله ( ، يعني النصر على العدو يوم بدر ،
)( قالوا ألم نكن معكم ( على عدوكم ، فأعطونا من الغنيمة ، فلستم أحق بها ، فذلك
قوله سبحانه في العنكبوت : ( ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم (
[ العنكبوت : 10 ] على عدوكم .
) وإن كان للكافرين نصيب ( ، يعني دولة على المؤمنين يوم أحد ، ) قالوا ( أي
المنافقون للكفار : ( ألم نستحوذ عليكم ( ، يعني ألم نحظ بكم من ورائكم ، ) ونمنعكم من المؤمنين ( ، وتجادل المؤمنين عنكم فنحبسهم عنكم ونخبرهم أنا معكم ، قالوا ذلك
جبنا وفرقا منهم ، قال الله تعالى : ( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) [ آية : 141 ] ، يعني حجة أبدا ، نزلت في عبد الله بن أبي
وأصحابه .
تفسير سورة النساء آية [ 142 - 143 ]
النساء : ( 142 ) إن المنافقين يخادعون . . . . .
) إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ( حين أظهروا الإيمان وأسروا التكذيب ،
)( وهو خادعهم ( على الصراط في الآخرة حين يقال لهم : ( ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) [ الحديد : 113 ] ، فبقوا في الظلمة ، فهذه خدعة الله عز وجل لهم في
الآخرة ، ثم أخبر عن المنافقين ، فقال سبحانه ) وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ( ،
يعني المنافقين متثاقلين لا يروا أنها حق عليهم ، نظيرها في براءة .
) يراءون الناس ( بالقيام بالنهار ، ) ولا يذكرون الله ( ، يعني في الصلاة ، ) إلا قليلا ) [ آية : 142 ] ، يعني بالقليل ، الرياء ولا يصلون في السر ،
النساء : ( 143 ) مذبذبين بين ذلك . . . . .
) مذبذبين بين ذلك ( ،
يقول : إن المنافقين ليسوا مع اليهود فيظهرون ولايتهم ، ولا مع المؤمنين في الولاية ، ) لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله ( عن الهدى ، ) فلن تجد له سبيلا ) [ آية :
143 ] إليه .
تفسير سورة النساء آية 144
النساء : ( 144 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا ( يرغبهم ، نزلت في المنافقين ، منهم : عبد الله بن أبي ، ومالك(1/265)
صفحة رقم 266
بن دخشم ، وذلك أن مواليهما من اليهود أصبغ ورافع عيروهما بالإسلام ، وزينوا لهما
ترك دينهما وتوليهما اليهود فصانعا اليهود ، فقال الله : ( لا تتخذوا الكافرين ( من
اليهود ) أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ) [ آية :
144 ] ، يعني حجة بينة يحتج بها عليكم حين توليتم اليهود ونصحتموهم .
تفسير سورة النساء آية [ 145 - 146 ]
النساء : ( 145 ) إن المنافقين في . . . . .
) إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ( ، يعني الهاوية ، ) ولن تجد لهم نصيرا (
[ آية : 145 ] ، يعني مانعا من العذاب ،
النساء : ( 146 ) إلا الذين تابوا . . . . .
ولما أخبر بمستقر المنافقين ، قال ناس للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
فقد كان فلان وفلان منافقين فتابوا منه ، فكيف يفعل الله بهم ؟ فأنزل الله جل ذكره :
( إلا الذين تابوا ( من المنافقين ، ) وأصلحوا ( العمل ) واعتصموا ( ، يعني
احترزوا ) بالله وأخلصوا دينهم ( الإسلام ) لله ( عز وجل ولم يخلطوا بشرك ،
)( فأولئك مع المؤمنين ( في الولاية ، ) وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما (
[ آية : 146 ] ، يعني جزاء وافرا .
تفسير سورة النساء آية 147
النساء : ( 147 ) ما يفعل الله . . . . .
) ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم ( نعمته ، ) وآمنتم ( ، يعني صدقتم ،
فإنه لا يعذب شاكرا ولا مؤمنا ، ) وكان الله شاكرا عليما ) [ آية : 147 ] بهم .
تفسير سورة النساء آية [ 148 - 151 ]
النساء : ( 148 ) لا يحب الله . . . . .
) لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ( لأحد من الناس ، ) إلا من ظلم ( ،(1/266)
صفحة رقم 267
يعني اعتدى عليه ، فينتصر من القول مثل ما ظلم ، ولا حرج عليه أن ينتصر بمثل مقالته ،
نزلت في أبي بكر ؟ ، رضى الله عنه ، شتمه رجل والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) جالس ، فسكت عنه مرارا ،
ثم رد عليه أبو بكر ، رضى الله عنه ، فقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذلك ، فقال أبو بكر ، رضى الله
عنه : يا رسول الله ، شتمنى وأنا ساكت ، فلم تقل له شيئا ، حتى إذا رددت عليه قمت ،
قال : ' إن ملكا كان يجيب عنك ، فلما أن رددت عليه ، ذهب الملك وجاء الشيطان ، فلم
أكن لأجلس عند مجئ الشيطان ' ، ) وكان الله سميعا ( بجهر السوء ، ) عليما ) [ آية :
148 ] به .
النساء : ( 149 ) إن تبدوا خيرا . . . . .
ثم أخبر أن العفو والتجاوز خير عند الله من الانتصار ، فقال سبحانه : ( إن تبدوا خيرا ( ، يعني تعلنوه ، ) أو تخفوه ( ، يعني تسروه ، ) أو تعفوا عن سوء ( فعل بك ،
)( فإن الله كان عفوا قديرا ) [ آية : 149 ] ، يقول : فإن الله أقدر على عفو ذنوبك منك
على العفو عن صاحبك .
النساء : ( 150 ) إن الذين يكفرون . . . . .
) إن الذين يكفرون بالله ورسله ( ، يعني اليهود ، منهم : عامر بن مخلد ، ويزيد
بن زيد ، كفروا بعيسى وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ( الرسل ، يعني موسى ، ) ونكفر ببعض ( الرسل ، يعني
عيسى ومحمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ) [ آية : 150 ] ، يعني دينا ،
يعني إيمانا ببعض الرسل ، وكفرا ببعض الرسل ،
النساء : ( 151 ) أولئك هم الكافرون . . . . .
) أولئك هم الكافرون حقا ( حين
كفروا ببعض الرسل ، لا ينفعهم إيمان ببعض ، ) وأعتدنا للكافرين ( في الآخرة ،
)( عذابا مهينا ) [ آية : 151 ] ، يعني الهوان .
تفسير سورة النساء آية 152
النساء : ( 152 ) والذين آمنوا بالله . . . . .
ثم ذكر المؤمنين ، فقال سبحانه : ( والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم ( ، يعني بين الرسل ، وصدقوا بالرسل جميعا ، ) أولئك سوف يؤتيهم أجورهم ( ،
يعني جزاء أعمالهم ، ) وكان الله غفورا رحيما ) [ آية : 152 ] .
تفسير سورة النساء آية [ 153 - 159 ](1/267)
صفحة رقم 268
النساء : ( 153 ) يسألك أهل الكتاب . . . . .
) يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ( ، نزلت في اليهود ، وذلك
أن كعب بن الأشرف ، وفنحاص اليهودي ، قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن كنت صادقا بأنك
رسول ، فائتنا بكتاب غير هذا ، مكتوب في السماء جملة واحدة كما جاء به موسى ،
فذلك قوله : ( يسئلك أهل الكتاب . . . ( إلى قوله سبحانه : ( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ( ، يعني معاينة ، ) فأخذتهم الصاعقة ( ، يعني الموت ،
)( بظلمهم ( لقولهم : أرنا الله جهرة معاينة ، ) ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات ( ، يعني الآيات التسع ، ) فعفونا عن ذلك ( ، فلم نستأصلهم جميعا عقوبة
باتخاذهم العجل ، ) وآتينا موسى سلطانا مبينا ) [ آية : 153 ] ، يعني حجة بينة ، يعني اليد
والعصى .
النساء : ( 154 ) ورفعنا فوقهم الطور . . . . .
) ورفعنا فوقهم الطور ( ، يعني الجبل فوق رءوسهم ، رفعه جبريل ، عليه السلام ،
وكانوا في أصل الجبل ، فرفع الطور فوق رءوسهم ، ) بميثاقهم ( ؛ لأن يقروا بما في
التوراة ، ) وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا ( ، يعني باب حطة ، ) وقلنا لهم لا تعدوا في السبت ( ، أي لا تعدوا في أخذ الحيتان يوم السبت ، ) وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) [ آية :
154 ] ، يعني شديدا ، والميثاق إقرارهم بما عهد الله عز وجل في التوراة .
النساء : ( 155 ) فبما نقضهم ميثاقهم . . . . .
) فبما نقضهم ميثاقهم ( ، يعني فبنقضهم إقرارهم بما في التوراة ، ) وكفرهم بآيات الله ( ، يعني الإنجيل والقرآن ، وهم اليهود ، ) وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا(1/268)
صفحة رقم 269
غلف ( ، وذلك حين سمعوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وقتلهم الأنبياء ( عرفوا أن الذي قال لهم
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حق ، وقالوا : ( قلوبنا غلف ( ، يعني في أكنة عليها الغطاء ، فلا تفقه ولا تفهم
ما تقول يا محمد ، كراهية ما سمعوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من كفرهم بالإنجيل والفرقان ، يقول
الله تعالى : ( بل طبع عليها بكفرهم ( ، يعني ختم على قلوبهم ، ) فلا يؤمنون إلا
قليلا ) [ آية : 155 ] ، يقول : ما أقل ما يؤمنون ، فإنهم لا يؤمنون البتة .
النساء : ( 156 ) وبكفرهم وقولهم على . . . . .
) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ) [ آية : 156 ] ، وذلك أن اليهود قذفوا
مريم ، عليها السلام ، بيوسف بن ماثان بالزنا ، وكان ابن عمها ، وكان قد خطبها ،
ومريم ابنة عمران بن ماثان ،
النساء : ( 157 ) وقولهم إنا قتلنا . . . . .
) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم ( ، ولم يقولوا :
رسول الله ، ولكن الله عز وجل قال : ( رسول الله ( ، ثم قال تعالى : ( وما قتلوه وما
صلبوه ولكن شبه لهم ( بصاحبهم الذي قتلوه ، وكان الله عز وجل قد جعله على صورة
عيسى فقتلوه ، وكان المقتول لطم عيسى ، وقال لعيسى حين لطمه ، أتكذب على الله
حين تزعم أنك رسوله ، فلما أخذه اليهود ليقتلوه ، قال لليهود : لست بعيسى ، أنا فلان ،
واسمه يهوذا ، فكذبوه وقالوا له : أنت عيسى ، وكانت اليهود جعلت المقتول رقيبا على
عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، فألقى الله تعالى ذكره شبهه على الرقيب فقتلوه .
ثم قال سبحانه : ( وإن الذين اختلفوا فيه ( ، يعني في عيسى ، وهم النصارى ، فقال
بعضهم : قتله اليهود ، وقال بعضهم : لم يقتل ، ) لفي شك منه ( في شك من قتله ، ) ما
لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا ) [ آية : 157 ] ، يقول : وما قتلوا ظنهم
يقينا ، يقول : لم يستيقنوا قتله ، كقول الرجل : قتلته علما ، فأكذب الله عز وجل اليهود
في قتل عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال عز وجل :
النساء : ( 158 ) بل رفعه الله . . . . .
) بل رفعه الله إليه ( إلى السماء حيا في شهر
رمضان في ليلة القدر ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، رفع إلى السماء من جبل بيت
المقدس ، فذلك قوله سبحانه : ( بل رفعه الله إليه ( ) وكان الله عزيزا حكيما ) [ آية :
158 ] ، يعني عزيزا منيعا حين منع عيسى من القتل ، حكيما حين حكم رفعه ، قال :
وترك عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) بعد رفعه خفين ، ومدرعة ، وحذافة يحذف بها الطير ، وقالت عائشة ،
رضى الله عنها : وترك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد موته إزارا غليظا ، وكساء ، ووسادة أدم
حشوها ليف .
النساء : ( 159 ) وإن من أهل . . . . .
) وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن ( ، يعني وما من أهل الكتاب ، يعني اليهود ، إلا(1/269)
صفحة رقم 270
ليؤمنن ) به ( ، يعني بعيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) قبل موته ( أنه نبى رسول قبل موت اليهودي ،
يعني عند موته ؛ لأن الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم ، وتقول : يا عدو الله ، إن
المسيح الذي كذبتم به ، هو عبد الله ورسوله حقا ، فيؤمن به ولا ينفعه ، ويؤمن به من
كان منهم حيا إذا نزل عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، فينزل عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) على ثنية يقال لها : أفيق ، دهين
الرأس ، عليه ممصرتان ، ومعه حربة يقتل بها الدجال ، فقيل لابن عباس ، رحمه الله : فمن
غرق من اليهود ، أو أحرق بالنار ، أو أكله السبع ، قال : لا تخرج روحه حتى يؤمن
بعيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قال تعالى : ( ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ) [ آية : 159 ] أنه قد
بلغهم الرسالة .
تفسير سورة النساء آية [ 160 - 162 ]
النساء : ( 160 ) فبظلم من الذين . . . . .
قوله سبحانه : ( فبظلم من الذين هادوا ( ، يعني اليهود ، ) حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ( ، يعني في الأنعام ، يعني اللحوم والشحوم وكل ذي ظفر لهم حلال ، فحرمها الله
عز وجل عليهم بعد موسى ، ) وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ) [ آية : 160 ] ، فيها
إضمار ، يقول : ( وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ( ، يعني دين الإسلام ، وعن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ،
النساء : ( 161 ) وأخذهم الربا وقد . . . . .
) وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ( ، وهو محرم بغير حق ، ) وأعتدنا للكافرين منهم ( ، يعني اليهود ) عذابا أليما ) [ آية : 161 ] ، يعني وجيعا ، فهذا الظلم
الذي ذكره في هذه الآية .
النساء : ( 162 ) لكن الراسخون في . . . . .
ثم ذكر مؤمني أهل التوراة ، فقال سبحانه : ( لكن الراسخون في العلم منهم ( ، وذلك
أن عبد الله بن سلام وأصحابه ، قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن اليهود لتعلم أن الذي جئت به حق ،
وأنك لمكتوب عندهم في التوراة ، فقالت اليهود : ليس كما تقولون ، وإنهم لا يعلمون
شيئا ، وإنهم ليغرونك ويحدثونك بالباطل ، فقال الله عز وجل : ( لكن الراسخون في العلم منهم ( ، يعني المتدارسين علم التوراة ، يعني ابن سلام وأصحابه ، ) منهم ( ، يعني من
اليهود ، ) والمؤمنون ( ، يعني أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من غير أهل الكتاب ، ) يؤمنون بما أنزل(1/270)
صفحة رقم 271
إليك ) ) من القرآن ( ( وما أنزل من قبلك ( من الكتب على الأنبياء ، التوراة والإنجيل .
ثم نعتهم ، فقال سبحانه : ( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ( ، يعني
المعطون الزكاة ، ) والمؤمنون بالله واليوم الآخر ( أنه واحد لا شريك له ، والبعث الذي
فيه جزاء الأعمال ، ) أولئك سنؤتيهم أجرا ( ، يعني جزاء ) عظيما ) [ آية : 162 ] .
تفسير سورة النساء آية [ 163 - 166 ]
النساء : ( 163 ) إنا أوحينا إليك . . . . .
) إنا أوحينا إليك ( ، وذلك أن عدى بن زيد وصاحبيه اليهود ، قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
والله ما أوحى الله إليك ولا إلى أحد من بعد موسى ، فكذبهم الله عز وجل ، فقال :
( إنا أوحينا إليك ( ) كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ( ، يعني من بعد نوح :
هود وصالح ، ) وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ( ، يعني
بني يعقوب : يوسف وإخواته ، وأوحينا إليهم في صحف إبراهيم ، ثم قال : ( و ) ) أوحينا إلي ( ( وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ) [ آية : 163 ] ،
ليس فيه حد ، ولا حكم ، ولا فريضة ، ولا حلال ، ولا حرام ، خمسين ومائة سورة ،
فأخبره الله بهن ليعلموا أنه نبي .
النساء : ( 164 ) ورسلا قد قصصناهم . . . . .
فقالت اليهود : ذكر محمد النبيين ولم يبين لنا أمر موسى أكلمه الله أم لم يكلمه ؟
فأنزل الله عز وجل في قول اليهود : ( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ( ، هؤلاء
بمكة في الأنعام وفي غيرها ؛ لأن هذه مدنية ، ) ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله
موسى تكليما ) [ آية : 164 ] ، يعني مشافهة ، وهو ابن أربعين سنة ليلة النار ، ومرة
أخرى حين أعطى التوارة ،
النساء : ( 165 ) رسلا مبشرين ومنذرين . . . . .
) رسلا مبشرين ) ) بالجنة ( ( ومنذرين ) ) من النار ( ( لئلا(1/271)
صفحة رقم 272
يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ( ، فيقولوا يوم القيامة : لم يأتنا لك رسول ، ) وكان
الله عزيزا حكيما ) [ آية : 165 ] ، حكم إرسال الأنبياء إلى الناس .
النساء : ( 166 ) لكن الله يشهد . . . . .
فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إنكم لتعلمون حق ما أقول ، وإنه لفي التوراة ، فإن تتوبوا
وترجعوا يغفر لكم ذنوبكم ' ، قالوا : لو كان ما تقول في التوراة لاتبعناك ، فقال النبي
( صلى الله عليه وسلم ) : ' والله إنكم لتشهدون بما أقول ' ، قالوا ما عندنا بذلك شهادة ، قال الله عز وجل :
فإن لم يشهد لك أحد منهم ، فإن الله وملائكته يشهدون بذلك ، فذلك قوله عز وجل :
( لكن الله يشهد بما أنزل إليك ) ) من القرآن ( ( أنزله بعلمه والملائكة
يشهدون ( بذلك ، ) وكفى بالله شهيدا ) [ آية : 166 ] ، يقول : فلا شاهد أفضل من
الله بأنه أنزل عليك القرآن .
تفسير سورة النساء آية [ 167 - 169 ]
النساء : ( 167 ) إن الذين كفروا . . . . .
ثم قال يعنيهم : ( إن الذين كفروا ( ، يعني اليهود كفروا بمحمد والقرآن ، ) وصدوا
عن سبيل الله ( ، يعني عن دين الإسلام ، ) قد ضلوا ) ) عن الهدى ( ( ضلالا بعيدا (
[ آية : 167 ] ، يعني طويلا ، ثم قال :
النساء : ( 168 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إن الذين كفروا ( ، يعني اليهود كفروا بمحمد
والقرآن ، ) وظلموا ( ، يعني وأشركوا بالله ، ) لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم
طريقا ) [ آية : 168 ] إلى الهدى ،
النساء : ( 169 ) إلا طريق جهنم . . . . .
ثم استثنى : ( إلا طريق جهنم خالدين فيها ( ، يعني
طريق الكفر ، فهو يقود إلى جهنم خالدين فيها ) أبذد وكان ذلك على الله يسيرا ) [ آية :
169 ] ، يعني عذابهم على الله هينا .
تفسير سورة النساء آية 170
النساء : ( 170 ) يا أيها الناس . . . . .
) يا أيها الناس قد جاءكم الرسول ( ، يعني محمدا ) بالحق ( ، يعني بالقرآن ،
)( من ربكم فآمنوا خيرا لكم ( ، يعني صدقوا بالقرآن فهو خير لكم من الكفر ، ) وإن
تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض ( من الخلق ، ) وكان الله عليما حكيما ) [ آية :
170 ] .
تفسير سورة النساء [ آية : 171 ](1/272)
صفحة رقم 273
النساء : ( 171 ) يا أهل الكتاب . . . . .
) يا أهل الكتاب ( ، يعني النصارى ، ) لا تغلوا في دينكم ( ، يعني الإسلام ،
فالغلو في الدين أن تقولوا على الله غير الحق في أمر عيسى ابن مريم ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ( ، وليس لله تبارك وتعالى
ولدا ، ) وكلمته ( ، يعني بالكلمة ، قال : كن فكان ، ) ألقاها إلى مريم وروح منه ( ، يعني بالروح أنه كان من غير بشر ، نزلت في نصارى نجران في السيد والعاقب
ومن معهما .
ثم قال سبحانه : ( فآمنوا ( ، يعني صدقوا ) بالله ( عز وجل بأنه واحد لا شريك
له ، ) ورسله ( ، يعني محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه نبي ورسول ، ) ولا تقولوا ثلاثة ( ، يعني لا
تقولوا : إن الله عز وجل ثالث ثلاثة ، ) انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد ( ، يعني عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) له ما في السماوات وما في الأرض ( من الخلق
عبيده ، وفي ملكه عيسى وغيره ، ) وكفى بالله وكيلا ) [ آية : 171 ] ، يعني شهيدا
بذلك .
تفسير سورة النساء آية 172
النساء : ( 172 ) لن يستنكف المسيح . . . . .
ثم قال عز وجل : ( لن يستنكف المسيح ( ، يعني لن يأنف ، ) أن يكون عبدا لله ولا ( يستنكف ) الملائكة المقربون ( أن يكونوا عبيدا لله ، ليعتبروا بكون الملائكة
أقرب إلى الله عز وجل منزلة من عيسى ابن مريم وغيره ، فإن عيسى عبد من عباده ، ثم
أوعد النصارى ، فقال : ( ومن يستنكف ( ، يعني ومن يأنف ، ) عن عبادته ويستكبر ( ، يعني ومن يأنف عن عبادة الله ، يعني التوحيد ويستكبر ، يعني ويتكبر عن
العبادة ، ) فسيحشرهم إليه جميعا ) [ آية : 172 ] ، فلم يستنكف ويستكبر غير إبليس .
تفسير سورة النساء [ آية : 173 ](1/273)
صفحة رقم 274
النساء : ( 173 ) فأما الذين آمنوا . . . . .
وأخبر المؤمنين بمنزلتهم في الآخرة ومنزلة المستنكفين ، فقال : ( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ( ، يعني فيوفى لهم جزاءهم ، ) ويزيدهم ( على
أعمالهم ) من فضله ( الجنة ، ) وأما الذين استنكفوا ( ، يعني أنفوا
) واستكبروا ( عن عبادة الله بالتوحيد ، ) فيعذبهم عذابا أليما ( ، يعني وجيعا ،
)( ولا يجدون لهم من دون الله وليا ( ، يعني قريبا ينفعهم ، ) ولا نصيرا ) [ آية : 173 ] ،
يعني مانعا يمنعهم من الله عز وجل .
تفسير سورة النساء آية [ 174 - 175 ]
النساء : ( 174 ) يا أيها الناس . . . . .
) يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ( ، يعني بيان ، وهو القرآن ، ) وأنزلنا إليكم نورا مبينا ) [ آية : 174 ] ، يعني ضياء بينا من العمى ، وهو القرآن ،
النساء : ( 175 ) فأما الذين آمنوا . . . . .
) فأما الذين آمنوا بالله ( ، يعني صدقوا بالله عز وجل بأنه واحد لا شريك له ، ) واعتصموا به ( ،
يعني احترزوا به ، يعني بالله عز وجل ، ) فسيدخلهم في رحمة منه ( ، يعني الجنة ،
)( وفضل ( ، يعني الرزق في الجنة ، ) ويهديهم إليه صراطا مستقيما ) [ آية : 175 ] .
تفسير سورة النساء آية 176
النساء : ( 176 ) يستفتونك قل الله . . . . .
) يستفتونك ( ، نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري من بني سلمة بن جشم بن
سعد بن علي بن شاردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج وفي أخواته ، ) قل الله يفتيكم في الكلالة ( ، يعني به الميت الذي يموت وليس له ولد ولا والد ، فهو
الكلالة ، وذلك أن جابر بن عبد الله الأنصاري ، رحمه الله ، مرض بالمدينة ، فعاده رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : يا رسول الله ، إني كلالة لا أب لي ولا ولد ، فكيف أصنع في مالي ،
فأنزل الله عو وجل : ( إن امرؤا هلك ( ، يعني مات ، ) ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ( الميت من الميراث ، ) وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ( إذا ماتت قبله ،
)( فإن كانتا اثنتين ( ، يعني أختين ، ) فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء(1/274)
صفحة رقم 275
فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا ( ، يقول : لئلا تخطئوا قسمة
المواريث ، ) والله بكل شيء ( من قسمة المواريث ، ) عليم ) [ آية : 176 ] ، نظيرها
في الأنفال .(1/275)
صفحة رقم 276
سورة المائدة
سورة المائدة مدنية ، نهارية كلها ، عشرون ومائة آية كوفية
إلا قوله تعالى ) اليوم أكملت لكم دينكم ( الآية ، فإنها نزلت بعرفة
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة المائدة آية 1
المائدة : ( 1 ) يا أيها الذين . . . . .
قال مقاتل : قوله سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ( ، يعني بالعهود التي
بينكم وبين المشركين ، ) أحلت لكم بهيمة الأنعام ( ، يعني أحل لكم أكل لحوم
الأنعام ، الإبل ، والبقر ، والغنم ، والصيد كله ، ) إلا ما يتلى عليكم ( ، يعني غير ما نهى الله
عز وجل عن أكله مما حرم الله عز وجل ، من الميتة والدم ، ولحم الخنزير ، والمنخنقة ،
والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، ثم قال : ( غير محلي الصيد ( ، يقول : من غير أن
تستحلوا الصيد ، ) وأنتم حرم ( ، يقول : إذا كنت محرما بحج أو عمرة ، فالصيد
عليك حرام كله ، غير صيد البحر ، فإنه حلال لك ، ) إن الله يحكم ما يريد ) [ آية : 1 ] ،
فحكم أن يجعل ما شاء من الحلال حرما ، وجعل ما شاء مما حرم في الإحرام من الصيد
حلالا .
تفسير سورة المائدة آية 2
المائدة : ( 2 ) يا أيها الذين . . . . .
قال تعالى ذكره : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ( ، يعني مناسك الحج
والعمرة ، وذلك أن الحمس ، قريشا ، وخزاعة ، وكنانة ، وعامر بن صعصعة ، كانوا
يستحلون أن يغير بعضهم على بعض في الأشهر الحرم وغيرها ، وكانوا لا يسعون بين
الصفا والمروة ، وكانوا لا يرون الوقوف بعرفات من شعائر الله ، فلما أسلموا أخبرهم الله(1/276)
صفحة رقم 277
عز وجل بأنها من شعائر الله ، فقال عز وجل : ( الصفا والمروة من شعائر الله (
[ البقرة : 158 ] .
وأمر سبحانه أن يسعى بينهما ، فأنزل الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ( ) ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ( ، يقول : لا تستحلوا القتل في
الشهر الحرام ، وذلك أن أبا ثمامة جنادة بن عوف بن أمية من بني كنانة كان يقوم كل
سنة في سوق عكاظ ، فيقول : ألا إني قد أحللت المحرم ، وحرمت صفرا ، وأحللت كذا ،
وحرمت كذا ، ما شاء ، وكانت العرب تأخذ به ، فأنزل الله تعالى : ( إنما النسئ زيادة
في الكفر يضل به الذين كفروا ( ، يعني جنادة بن عوف ، ) يحلونه عاما ويحرمونه
عاما ليواطؤوا عدة ما حرم الله ( ، يعني خلافا على الله جل اسمه وعلى ما حرم ،
)( فيحلوا ما حرم الله ) [ التوبة : 37 ] من الأشهر الحرم .
ثم رجع إلى الآية الأولى في التقديم ، فقال تعالى : ( ولا القلائد ( ، كفعل أهل
الجاهلية ، وذلك أنهم كانوا يصيبون من الطريق ، قال : وكان في الجاهلية من أراد الحج
من غير أهل الحرم ، يقلد نفسه من الشعر والوبر ، فيأمن به إلى مكة ، وإن كان من أهل
الحرم ، قلد نفسه وبعيره من لحيا شجر الحرم ، فيأمن به حيث يذهب ، فهذا في غير أشهر
الحرم ، فإذا كان أشهر الحرم ، لم يقلدوا أنفسهم ولا أباعرهم وهم يأمنون حيث ما
ذهبوا .
قال عز وجل : ( ولا آمين البيت الحرام ( ، يعني متوجهين نحو البيت ، نزلت في
الخطيم ، يقول : لا تتعرضوا الحجاج بيت الله ، ) يبتغون فضلا من ربهم ( ، يعني الرزق
في التجارة في مواسم الحج ، ) ورضوانا ( ، يعني رضوان الله بحجهم ، فلا يرضى الله
عنهم حتى يسلموا ، فنسخت آية السيف هذه الآية كلها .
قوله سبحانه : ( وإذا حللتم ( من الإحرام ، ) فاصطادوا ( ، يقول : إذا حللتم من
إحرامكم فاصطادوا ، ) ولا يجرمنكم شنئان قوم ( ، يقول : ولا يحملنكم عداوة
المشركين من أهل مكة ، ) أن صدوكم عن المسجد الحرام ( ، يعني منعوكم من(1/277)
صفحة رقم 278
دخول البيت الحرام أن تطوفوا به عام الحديبية ، ) أن تعتدوا ( ، يعني أن ترتكبوا
معاصيه ، فتستحلوا أخذ الهدى والقلائد والقتل في الشهر الحرام من حجاج بكر بن
وائل من أهل اليمامة ، نزلت في الخطيم ، واسمه شريح بن ضبيعة بن شرحبيل بن عمر بن
جرثوم البكري ، ومن بني قيس بن ثعلبة ، وفي حجاج المشركين ، وذلك أن شريح بن
ضبيعة جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : يا محمد ، اعرض علي دينك ، فعرض عليه وأخبره بما له
وبما عليه ، فقال له شريح : إن في دينك هذا غلظا ، فأرجع إلى قومي فأعرض عليهم ما
قلت ، فإن قبلوه كنت معهم ، وإن لم يقبلوه كنت معهم .
فخرج من عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لقد دخل بقلب كافر ، وخرج بوجه
غادر ، وما أرى الرجل بمسلم ' ، ثم مر على مسرح المدينة فاستاقها ، فطلبوه فسبقهم إلى
المدينة ، وأنشأ يقول :
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
خدلج الساق ولا رعش القدم
قال أبو محمد عبد الله بن ثابت : سمعت أبي يقول : قال أبو صالح : قتله رجل من قومه
على الكفر ، وقدم الرجل الذي قتله مسلما ، فلما سار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معتمرا عام
الحديبية في العام الذي صده المشركون ، جاء شريح إلى مكة معتمرا ، معه تجارة عظيمة
في حجاج بكر بن وائل ، فلما سمع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقدوم شريح وأصحابه ،
وعرفوا بنبئهم ، فأراد أهل السرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم من قبل شريح
وأصحابه ، فقالوا : نستأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فاستأمروه ، فنزلت الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ( ، يعني أمر المناسك .
ولا تستحلوا في الشهر الحرام أخذ الهدى ولا القلائد ، يقول : ولا تخيفوا من قلد
بعيره ، ولا تستحلوا القتل آمين البيت الحرام ، يعني متوجهين قبل البيت الحرام من
حجاج المشركين ، يعني شريح بن ضبيعة وأصحابه يبتغون بتجاراتهم فصلا من الله ،
يعني الرزق والتجارة ورضوانه بحجهم ، فنهى الله عز وجل نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن قتالهم ، ثم لم
يرض منهم حتى يسلموا ، فنسخت هذه الآية آية السيف ، فقال عز وجل : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) [ التوبة : 5 ] ، ثم قال تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) [ آية : 2 ] .(1/278)
صفحة رقم 279
تفسير سورة المائدة آية 3
المائدة : ( 3 ) حرمت عليكم الميتة . . . . .
قوله سبحانه : ( حرمت عليكم الميتة ( ، يعني أكل الميتة ، ) والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ( ، يعني الذي ذبح لأصنام المشركين ولغيرهم ، هذا حرام البتة إن
أدركت ذكاته أو لم تدرك ذكاته ، فإنه حرام البتة ؛ لأنهم جعلوه لغير الله عز وجل ، ثم
قال عز وجل : ( والمنخنقة ( ، يعني وحرم المنخنقة ، الشاة ، والإبل ، والبقر التي تنخنق
أو غيره حتى تموت ، ) والموقوذة ( ، يعني التي تضرب بالخشب حتى تموت ،
)( والمتردية ( ، يعني التي تردى من الجبل ، فتقع منه أو تقع في بئر فتموت ،
)( والنطيحة ( ، يعني الشاة تنطح صاحبتها فتموت ، ) وما أكل السبع ( من الأنعام
والصيد ، يعني فريسة السبع .
ثم استثنى ، فقال سبحانه : ( إلا ما ذكيتم ( ، يعني إلا ما أدركتم ذكاته من المنخنقة ،
والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، فما أدركتم ذكاته من المنخنقة ،
والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع مما أدركتم ذكاته ، يعني بطرف ، أو
بعرق يضرب ، أو بذنب بتحرك ، ويذكي فهو حلال ، ) وما ذبح على النصب ( ، يعني
وحرم ما ذبح على النصب ، وهي الحجارة التي كانوا ينصبونها في الجاهلية فيعبدونها ،
فهو حرام البتة ، وكان خزان الكعبة يذبحون لها ، وإن شاءوا بدلوا تلك الحجارة بحجارة
أخرى ، وألقوا الأولى .(1/279)
صفحة رقم 280
ثم قال تعالى ذكره : ( وأن تستقسموا بالأزلام ( ، يعني وأن تستقسموا الأمور
بالأزلام ، والأزلام قدحان في بيت أصنامهم ، فإذا أرادوا أن يركبوا أمرا أتوا بيت
أصنامهم ، فضربوا بالقدحين ، فما خرج من شيء عملوا به ، وكان كتب على أحدهما :
أمرني ربي ، وعلى الآخر : نهاني ربي ، فإذا أرادوا سفرا أتوا ذلك البيت ، فغطوا عليه
ثوبا ، ثم يضربون بالقدحين ، فإن خرج السهم الذي فيه : أمرني ربي ، خرج في سفره ،
وإن خرج السهم الذي فيه : نهاني ربي ، لم يسافر ، فهذه الأزلام .
) ذلكم فسق ( ، يعني معصية حراما ، ) اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم ( ، يعني لا تخشوا الكفار ، ) واخشون ( في ترك أمرى ، ثم قال سبحانه :
( اليوم أكملت لكم دينكم ( ، يعني يوم عرفة ، لم ينزل بعدها حلال ولا حرام ، ولا
حكم ، ولا حد ، ولا فريضة ، غير آيتين من آخر سورة النساء : ( يستفتونك (
[ النساء : 176 ] ، ) اليوم أكملت لكم دينكم ( ، يعني شرائع دينكم أمر الحلال والحرام ،
وذلك أن الله جل ذكره كان فرض على المؤمنين شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، والإيمان بالبعث ، والجنة ، والنار ، والصلاة ركعتين غدوة وركعتين
بالعشى شيئا غير مؤقت ، والكف عن القتال قبل أن يهاجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفرضت
الصلوات الخمس ليلة المعراج ، وهو بعد بمكة ، والزاكة المفروضة بالمدينة ، ورمضان ،
والغسل من الجنابة ، وحج البيت ، وكل فريضة .
فلما حج حجة الوداع ، نزلت هذه الآية يوم عرفة ، فبركت ناقة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لنزول
الوحي بجمع ، وعاش النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعدها إحدى وثمانين ليلة ، ثم مات يوم الاثنين لليلتين
خلتا من شهر ربيع الأول ، وهي آخر آية نزلت في الحلال والحرام ، ) اليوم أكملت لكم دينكم ( ، يعني شرائع دينكم أمر حلالكم وحرامكم ، ) وأتممت عليكم نعمتي ( ، يعني
الإسلام إذ حججتم وليس معكم مشرك ، ) ورضيت لكم الإسلام دينا ( ، يعني واخترت
لكم الإسلام دينا ، فليس دين أرضى عند الله عز وجل من الإسلام .
قال سبحانه : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) [ آل عمران : 85 ] ، ثم قال عز وجل : ( فمن اضطر في مخمصة ( ، يعني
مجاعة وجهد شديد أصابه من الجوع ، ) غير متجانف لإثم ( غير متعمد لمعصية ،
)( فإن الله غفور رحيم ) [ آية : 3 ] ، إذا رخص له في أكل الميتة ، ولحم الخنزير ، حين(1/280)
صفحة رقم 281
أصابه الجوع الشديد والجهد ، وهو على غير المضطر حرام .
تفسير سورة المائدة آية [ 4 - 5 ]
المائدة : ( 4 ) يسألونك ماذا أحل . . . . .
) يسئلونك ماذا أحل لهم ( من الصيد ، وذلك أن زيد الخير ، وهو من بني المهلهل ،
وعدي بن حاتم الطائيان ، سألا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالا : يا رسول الله ، كلاب آل درع وآل
حورية يصدن الظباء والبقر والحمر ، فمنها ما تدرك ذكاته فيموت ، وقد حرم الله عز
وجل الميتة ، فماذا يحل لنا ؟ فنزلت : ( يسئلونك ماذا أحل لهم ( من الصيد ) قل أحل لكم الطيبات ( ، يعني الحلال ، وذبح ما أحل الله لهم من الصيد مما أدركت ذكاته .
ثم قال : ( وما علمتم من الجوارح مكلبين ( ، يعني الكلاب معلمين للصيد ،
)( تعلمونهن مما علمكم الله ( ، يقول : تؤدبوهن كما أدبكم الله ، فيعرفون الخير والشر ، وكذا
الكاتم أيضا ، فأدبوا كلابكم في أمر الصيد ، ) فكلوا مما أمسكن عليكم ( ، يقول : فكلوا
مما أمسكن ، يعني حبسن عليكم الكلاب المعلمة ، ) واذكروا اسم الله عليه ( إذا أرسلتم
بعد أن أمسك عليكم ، ) واتقوا الله ( ، فلا تستحلوا أكل الصيد من الميتة ، إلا ما ذكى
من صيد الكلب المعلم ، ثم خوفهم ، فقال : ( إن الله سريع الحساب ) [ آية : 4 ] لمن
يستحل أكل الميتة من الصيد إلا من اضطر .
المائدة : ( 5 ) اليوم أحل لكم . . . . .
قوله : ( اليوم أحل لكم الطيبات ( ، يعني الحلال ، أي الذبائح من الصيد ، ) وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ( ، يعني بالطعام ذبائح الذين أوتوا الكتاب من اليهود
والنصارى ، ذبائحهم ونساؤهم حلال للمسلمين ، ) وطعامكم حل لهم ( يعني ذبائح
المسلمين وذبائح نسائهم حلال لليهود والنصارى ، ثم قال عز وجل : ( والمحصنات من المؤمنات ( ، يعني وأحل لكم تزويج العفائف من المؤمنات ، ) والمحصنات من الذين أوتوا(1/281)
صفحة رقم 282
الكتاب من قبلكم ( ، يعني وأحل تزويج العفائف من حرائر نساء اليهود والنصارى ،
نكاحهن حلال للمسلمين ، ) إذا آتيتموهن أجورهن ( ، يعني إذا أعطيتموهن مهورهن ،
)( محصنين ( لفروجهن من الزنا ، ) غير مسافحين ( ، يعني غير معلنات بالزنا علانية ،
)( ولا متخذي أخذان ( ، يعني لا تتخذ الخليل في السر فيأيتها ، فلما أحل الله عز وجل
نساء أهل الكتاب ، قال المسلمون : كيف تتزوجوهن وهن على غير ديننا ، وقالت نساء
أهل الكتاب : ما أحل الله تزويجنا للمسلمين إلا وقد رضى أعمالنا ، فأنزل الله عز وجل :
( ومن يكفر بالإيمان ( ، يعني من نساء أهل الكتاب بتوحيد الله ، ) فقد حبط عمله
وهو في الآخرة من الخاسرين ) [ آية : 5 ] ، يعني من الكافرين .
تفسير سورة المائدة آية [ 6 - 7 ]
المائدة : ( 6 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق
وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا ( ، يعني إن أصابتكم
جنابة ، ) فاطهروا ( ، يعني فاغتسلوا ، ) وإن كنتم مرضى ( ، نزلت في عبد الرحمن بن
عوف ، رضي الله عنه ، أو أصابكم جراحة ، أو جدري ، أو كان بكم قروح وأنتم
مقيمون في الأهل ، فخشيتم الضرر والهلاك ، فتيمموا الصعيد ضربة للوجه وضربة
للكفين ، ) أو ) ) إن كنتم ( ( على سفر ( ، نزلت في عائشة ، رضى الله عنها ، حين
أسقطت قلادتها وهو مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في غزاة بني أنمار ، وهم حي من قيس عيلان .
) أو جاء أحد منكم من الغائط ( في السفر ) أو لامستم النساء ( ، يعني جامعتم
النساء في السفر ، ) فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم
منه ( ، يعني من الصعيد ضربتين ، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكرسوع ، ولم(1/282)
صفحة رقم 283
يؤمروا بمسح الرأس في التيمم ، ) ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ( ، يعني
ضيق في أمر دينكم ، إذ رخص لكم في التيمم ، ) ولكن يريد ليطهركم ( في أمر
دينكم من الأحداث والجنابة ، ) وليتم نعمته عليكم ( ، يعني إذ رخص لكم في
التيمم في السفر ، والجراح في الحضر ، ) لعلكم تشكرون ) [ آية : 6 ] رب هذه
النعم فتوحدونه ، فلما نزلت الرخصة ، قال أبو بكر الصديق ، رضى الله عنه ، لعائشة ،
رضوان الله عليها : والله ما علمتك إلا مباركة .
المائدة : ( 7 ) واذكروا نعمة الله . . . . .
قوله سبحانه : ( واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به ( ، يعني
بالإسلام يوم أخذ ميثاقكم على المعرفة بالله عز وجل والربوبية ، ) إذ قلتم سمعنا وأطعنا ( ، ذلك أن الله عز وجل أخذ الميثاق الأول على العباد حين خلقهم من صلب
آدم ، عليه السلام ، فذلك قوله عز وجل : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) [ الأعراف : 172 ]
على أنفسنا ، فمن بلغ منهم العمل ، وأقر لله عز وجل بالإيمان به ، وبآياته ، وكتبه ،
ورسله ، والكتاب ، والملائكة ، والجنة ، والنار ، والحلال ، والحرام ، والأمر ، والنهى أن
يعمل بما أمر ، وينتهي عما نهى ، فإذا أوفى لله تعالى بهذا ، أوفى الله له بالجنة . .
فهذان ميثاقان ، ميثاق بالإيمان بالله ، وميثاق بالعمل ، فذلك قوله سبحانه في البقرة :
( سمعنا وأطعنا ) [ البقرة : 285 ] ، سمعنا بالقرآن الذي جاء من عند الله ، وأطعنا الله
عز وجل فيه ، وذلك قوله سبحانه في التغابن : ( فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا ) [ التغابن : 16 ] ، يقول : اسمعوا القرآن الذي جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من عند الله عز
وجل ، وأطيعوا الله فيما أمركم ، فمن بلغ الحلم والعمل ولم يؤمن بالله عز وجل ولا
بالرسول والكتاب ، فقد نقض الميثاق الأول بالإيمان بالله عز وجل ، وبما أخذ الله تعالى
عليه حين خلقه وصار من الكافرين ، ومن أخذ الله عز وجل عليه الميثاق الأول ، ولم يبلغ
الحلم ، فإن الله عز وجل أعلم به .
قال : وسئل عبد الله بن عباس عن أطفال المشركين ، فقال : لقد أخذ الله عز وجل
الميثاق الأول عليهم ، فلم يدركوا أجلا ، ولم يأخذوا رزقا ، ولم يعملوا سيئة ، ) ولا تزر وازرة وزر أخرى ) [ الإسراء : 15 ] ، وماتوا على الميثاق الأول ، فالله أعلم بهم .
) واتقوا الله ( ، ولا تنقضوا ذلك الميثاق ، ) إن الله عليم بذات الصدور ) [ آية : 7 ] ،(1/283)
صفحة رقم 284
يعني بما في قلوبهم من الإيمان والشك .
تفسير سورة المائدة آية [ 8 - 10 ]
المائدة : ( 8 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ( ، يعني
قوالين بالعدل ، شهداء لله ، ) ولا يجرمنكم شنئان قوم ( ، يقول : لا تحملنكم
عداوة المشركين ، يعني كفار مكة ، ) على ألا تعدلوا ( على حجاج ربيعة ، وتستحلوا
منهم محرما ، ) اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ( فاعدلوا ، فإن العدل أقرب
للتقوى ، يعني لخوف الله عز وجل ، ) إن الله خبير بما تعملون ) [ آية : 8 ] ،
يعظهم ويحذرهم .
المائدة : ( 9 ) وعد الله الذين . . . . .
ثم قال سبحانه : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( ، يعني وأدوا
الفرائض ، ) لهم مغفرة ( لذنوبهم ، ) وأجر عظيم ) [ آية : 9 ] ، يعني جزاء حسنا ،
وهو الجنة ،
المائدة : ( 10 ) والذين كفروا وكذبوا . . . . .
) والذين كفروا ( من أهل مكة ، ) وكذبوا بآياتنا ( ، يعني القرآن ،
)( أولئك أصحاب الجحيم ) [ آية : 10 ] ، يعني ما عظم من النار .
تفسير سورة المائدة آية 11
المائدة : ( 11 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن
يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم . . . ( الآية ، نزلت هذه الآية ؛ لأن
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد بعث المنذر بن عمرو الأنصاري في أناس من أصحابه إلى بئر
معوتة ، وهو ماء بني عامر ، فساروا حتى أشرفوا على الأرض ، فأدركهم الماء فنزلوا ،
فلما كان المساء ، أضل أربعة منهم بعيرا لهم ، فاستأذنوا أن يقيموا ، فأذن لهم المنذر ، ثم
سار المنذر بمن معه ، وأصبح القوم وقد جمعوا لهم على الماء ، وكانت بنو سليم هم الذين
آذنوا بني عامر بهم ، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل المنذر بن عمرو ومن معه ،(1/284)
صفحة رقم 285
وأصاب الأربعة بعيرهم من الغد ، فأقبلوا في طلب أصحابهم ، فلقيتهم وليدة لبني عامر
في غنيمة ترعاها ، فقالت لهم : أمن أصحاب محمد أنتم ؟ قالوا : نعم ، رجاء أن تسلم ،
فقالت : النجاء ، فإن إخوانكم قد قتلوا حول الماء ، قتلهم عامر بن الطفيل بن مالك بن
جعفر .
فقال أحد الأربعة : ما ترون ؟ قالوا : نرى أن نرحل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فنخبره بالذي
كان ، قال : لكني والله لا أرجع حتى انتقم من أعداء أصحابي اليوم ، فامضوا راشدين
واقرأوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مني السلام كثيرا ، فأشرف على الخيل ، فنظر إلى أصحابه
مقتلين عند الماء ، فأخذ سيفه ، فضرب به حتى قتل ، رحمه الله ، ورجع الثلاثة إلى المدينة ،
فأتوها حين أمسوا ، فلقوا رجلين من بني سليم وهما خارجان من المدينة ، فقالوا لهما :
من أنتما ؟ قالا : نحن من بني عامر ، فقالوا : أنتما ممن قتل إخواننا ، فأقبلوا عليهما
فقتلوهما .
ثم دخلوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأخبروه الخبر ، فوجدوا الخبر قد سبق إليه ، فقالوا : يا رسول
الله ، غشينا المدينة ممسين ، فوجدنا رجلين من بني عامر ، فقتلناهما وهذا سلبهما ، فقال
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' بئس ما صنعتما ، فإنهما كانا من بني سليم ' ، قال : وكان بين بني
سليم وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) موادعة وعهد ، فنزلت : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ( ، يقول : لا تعجلوا بأمر ولا بفعل حتى يأمركم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( واتقوا الله ( ولا تخالفوا على نبيكم ، ) إن الله سميع ( لما تقولون ، ) عليم (
[ الحجرات : 1 ] بما تفعلون .
وجاء أهل السليميين ، فقالوا : يا محمد ، إن صاحبينا أتياك فقتلا عندك ، فقال رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن صاحبيكما اعتزيا إلى عدونا حتى قتلا ، ولكنا سنعقل صاحبيكم ' ، فانطلق
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أهل عهده ، فبدأ ببني النضير ، فقال : ' أنتم جيرننا وحلفاؤنا ، والأيام ،
دول ، وقد رأيتم الذي أصابنا ، فاتخذوا عندنا يدا نجزكم بها غدا إن شاء الله ' ، فقالوا :
مرحبا بك وأهلا ، إخواننا بنو قريظة لا نحب أن نسبقهم بأمر ، ولكن ائتنا يوم كذا
وكذا ، وقد جمعنا لك الذي تريد أن نعطيك .
فرجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عندهم ، فأرسلوا إلى بني قريظة : أن محمدا مغرور ، يأتينا في
الرجل والرجلين ، فاجتمعوا له فاقتلوه ، فأتاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لميعادهم ، ومعه ثلاثة نفر :(1/285)
صفحة رقم 286
أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، رضي الله عنهم ، وهو ( صلى الله عليه وسلم ) رابعهم ، فأجلسوه في صفة لهم ، ثم
خرجوا يجمعون السلاح له ، وكان كعب بن الأشرف عند ذلك بالمدينة ، فهم ينتظرونه
حتى يأتيهم ، فأوحى الله عز وجل إلى نبيه ، فأتاه جبريل ، عليه السلام ، فأخبره بما يراد به
وبأصحابه ، فقام نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولم يؤذن أصحابه مخافة أن يثوروا بهم ، فأتى باب الدار ،
فقام به .
فلما أبطأ على أصحابه ، خرج على لينظر ما فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإذا هو على
الباب ، فقال : يا رسول الله ، احتبست علينا ، حتى خفنا عليك أن يكون قد اغتالك
أحد ، قال : ' فإن أعداء الله قد أرادوا ذلك ، فقم مكانك بالباب حتى يخرج إليه بعض
أصحابك ، فأقمه مكانك وأخبره بالذي أخبرتك ، ثم الحقني ' ، ومضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
وقام الآخر بالباب ، حتى خرج إليه صاحبه ، فقال : احتبست أنت ورسول الله ، حتى
خفنا عليكما ، فأخبره الخبر ، فمكث مكانه ولحق الآخر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : فلما أبطأوا
على صاحبهم خرج ، فاتبعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذلك قوله سبحانه : ( يا أيها الذين
آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم ( ، وهم اليهود ، ) أن يبسطوا إليكم أيديهم ( بالسوء ، ) فكف أيديهم عنكم ( ) واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) [ آية : 11 ] .
تفسير سورة المائدة آية [ 12 - 13 ]
المائدة : ( 12 ) ولقد أخذ الله . . . . .
قوله سبحانه : ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ( ، يعني شاهدا على قومهم ، من كل سبط رجلا ليأخذ هذا الرجل على سبطه
الميثاق ، وشهداء على قومهم ، وكانوا اثنى عشر سبطا ، على كل سبط منهم رجلا ،
فأطاع الله عز وجل منهم خمسة ، فكان منهم طالوت ، ممن أطاع الله عز وجل ، وعصى(1/286)
صفحة رقم 287
منهم سبعة ، فنقبوا على أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا ، ) وقال الله ( عز وجل
للنقباء الاثنى عشر ، ) إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي ( ، يعني الذين بعثتهم إليكم ، وفيهم عيسى ، ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكفروا بعيسى ومحمد ،
صلى الله عليهما وسلم .
قال الله تعالى : ولقد أخذ الله ميثاقكم على أن تعملوا بما في التوراة ، فكان الإيمان
بالنبيين من عمل التوراة ، ثم قال سبحانه : ( وعزرتموهم ( ، يعني وأعنتموهم حتى
يبلغوا الرسالة ، ) وأقرضتم الله قرضا حسنا ( ، يعني طيبة بها أنفسكم ، وهو التطوع ،
)( لأكفرن عنكم سيئاتكم ( ، يقول : أغفر لكم خطاياكم الذي كان منكم فيما
بينكم وبيني ، ) ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار ( ، يعني الساتين ، ) فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ) [ آية : 12 ] ، يعني فقد أخطأ
قصد الطريق ، طريق الهدى ، فنقضوا العهد والميثاق .
فذلك قوله سبحانه :
المائدة : ( 13 ) فبما نقضهم ميثاقهم . . . . .
) فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ( ، فبنقضهم ميثاقهم لعناهم
بالمسخ ، ) وجعلنا قلوبهم قاسية ( ، يعني قست قلوبهم عن الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( يحرفون الكلم عن مواضعه ( ، والكلم صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ونسوا حظا مما ذكروا به ( ، وذلك أن الله عز وجل أخذ ميثاق بني إسرائيل في التوراة أن يؤمنوا
بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويصدقوا به ، وهو مكتوب عندهم في التوراة ، فلما بعثه الله عز وجل
كفروا به وحسدوه ، وقالوا : إن هذا ليس من ولد إسحاق ، وهو ولد من إسماعيل ، فقال
الله عز وجل : ( ولا تزال تطلع على خائنة منهم ( ، وهو الغش للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) إلا قليلا منهم ( ، والقليل مؤمنيهم عبد الله بن سلام وأصحابه .
يقول الله عز وجل : ( فاعف عنهم واصفح ( ، حتى يأتي الله بأمره في أمر بني قريظة
والنضير ، فكان أمر الله فيهم القتل والسبي والجلاء ، يقول : فاعف عنهم حتى يأتي ، يعني
يجيء ذلك الأمر ، فبلغوه فسبوا وأجلوا ، فصارت آية العفو والصفح منسوخة ، نسختها
آية السيف في براءة ، فلما جاء ذلك الأمر قتلهم الله تعالى وسباهم وأجلاهم ، ) إن الله يحب المحسنين ) [ آية : 13 ] .
تفسير سورة المائدة آية 14(1/287)
صفحة رقم 288
المائدة : ( 14 ) ومن الذين قالوا . . . . .
ثم ذكر أهل الإنجيل ، فقال سبحانه : ( ومن الذين قالوا إنا نصارى ( ، إنما
سموا نصارى ؛ لأنهم كانوا من قرية يقال لها : ناصرة ، كان نزلها عيسى ابن مريم ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( أخذنا ميثاقهم ( ، وذلك أن الله كان أخذ عليهم الميثاق في الإنجيل بالإيمان بمحمد
( صلى الله عليه وسلم ) ، كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويتبعوه ويصدقوه ، وهو مكتوب
عندهم في الإنجيل ، يقول الله تعالى : ( فنسوا حظا مما ذكروا به ( ، يعني فتركوا
حظا مما أمروا به من إيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، والتصديق به ، ولو آمنوا لكان خيرا لهم ، وكان
لهم حظا .
يقول الله عز وجل : ( فأغرينا بينهم ( ، يعني بين النصارى ، ) العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ( النسطورية والماريعقوبية ، وعبادة الملك ، فهم أعداء بعضهم لبعض إلى
يوم القيامة ، ) وسوف ينبئهم الله ( في الآخرة ، ) بما كانوا يصنعون (
[ آية : 14 ] ، يعني بما يقولون من الجحود والتكذيب ، وذلك أن النسطورية ، قالوا : إن
عيسى ابن الله ، وقالت الماريعقوبية : إن الله هو المسيح ابن مريم ، وقالت عبادة الملك : إن
الله عز وجل ثالث ثلاثة ، هو إله ، وعيسى إله ، ومريم إله ، افتراء على الله تبارك وتعالى ،
وإنما الله إله واحد ، وعيسى عبد الله ونبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، كما وصف الله سبحانه نفسه : أحد ،
صمد ، لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد .
تفسير سورة المائدة آية [ 15 - 16 ]
المائدة : ( 15 ) يا أهل الكتاب . . . . .
) يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ( ، يعني التوراة ، أخفوا أمر الرجم ، وأمر محمد
( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ويعفوا عن كثير ( ، يعني ويتجاوز عن كثير مما كتمتم ، فلا يخبركم
بكتمانه ، ) وقد جاءكم من الله نور ( ، يعني ضياء من الظلمة ، ) وكتاب مبين ) [ آية : 15 ] ، يعني بين .(1/288)
صفحة رقم 289
المائدة : ( 16 ) يهدي به الله . . . . .
) يهدي به الله ( ، يعني بكتاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) من اتبع رضوانه سبل السلام ( ، يعني من اتبع دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ودين الإسلام ، يهديه الله إلى طريق الجنة ،
)( ويخرجهم من الظلمات إلى النور ( ، يعني من الشرك إلى الإيمان ،
)( بإذنه ( ، يعني بعلمه ، ) ويهديهم إلى صراط مستقيم ) [ آية : 16 ] .
تفسير سورة المائدة آية [ 17 - 18 ]
المائدة : ( 17 ) لقد كفر الذين . . . . .
قوله سبحانه : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ( ، نزلت
في نصارى نجران الماريعقوبيين ، منهم السيد والعاقب وغيرهما ، ) قل ( لهم يا محمد ،
)( فمن يملك ( ، فمن يقدر أن يمتنع ، ) من الله شيئا ( من شيء من عذابه ،
)( إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ( بعذاب
أو بموت ، فمن الذي يحول بينه وبين ذلك ؟ ثم عظم الرب جل جلاله نفسه عن قولهم
حين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ، فقال سبحانه : ( ولله ملك السماوات والأرض ( ، يقول : إليه سلطان السموات والأرض ، ) وما بينهما ( من الخلق ،
)( يخلق ما يشاء ( ، يعني عيسى ، شاء أن يخلقه من غير بشر ، ) والله على كل شيء
قدير ) [ آية : 17 ] من خلق عيسى من غير بشر وغيره من الخلق قدير ، مثلها في آخر
السورة .
المائدة : ( 18 ) وقالت اليهود والنصارى . . . . .
) وقالت اليهود ( يهود المدينة ، منهم : كعب بن الأشرف ، ومالك بن الضيف ،
وكعب بن أسيد ، وبحرى بن عمرو ، وشماس بن عمرو ، وغيرهم ، ) والنصارى ( من
نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما ، قالوا جميعا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ( ،
وافتخروا على المسلمين ، وقالوا : ما أحد من الناس أعظم عند الله منزلة منا ، فقال الله عز
وجل لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) قل ( للمسلمين يردوا عليهم ، ) فلم يعذبكم بذنوبكم ( ، حين
زعمتم وقلتم : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ، يعني عدة ما عبدوا فيها العجل ، إن كنتم(1/289)
صفحة رقم 290
أبناء الله وأحباؤه ، أفتطيب نفس رجل أن يعذب ولده بالنار ؟ والله أرحم من جميع خلقه .
فقال الله عز وجل لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) قل لهم : ( بل أنتم بشر ممن خلق ( من العباد ، ولستم
بأبناء الله وأحبائه ، ) يغفر لمن يشاء ( ، يعني يتجاوز عمن يشاء فيهديه لدينه ،
)( ويعذب من يشاء ( فيميته على الكفر ، ثم عظم الرب نفسه عز وجل عن قولهم : نحن
أبناء الله واحباؤه ، فقال سبحانه : ( ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ( من الخلق
يحكم فيهما ما يشاءهم عبيده وفي ملكه ، ) وإليه المصير ) [ آية : 18 ] في الآخرة
فيجزيكم بأعمالكم .
تفسير سورة المائدة آية [ 19 - 26 ]
المائدة : ( 19 ) يا أهل الكتاب . . . . .
) يا أهل الكتاب ( ، يعني اليهود ، منهم : رافع بن أبي حريملة ، ووهب بن يهوذا ،
)( قد جاءكم رسولنا ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) يبين لكم ( الدين ، ) على فترة من الرسل ( فيها
تقديم ، وكان بين محمد وعيسى ، صلى الله عليهما وسلم ، ستمائة سنة ، ) أن تقولوا ( ،
يعني لئلا تقولوا : ( ما جاءنا من بشير ( بالجنة ، ) ولا نذير ( من النار ، يقول : ( فقد جاءكم بشير ونذير ( ، يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) والله على كل شيء قدير ) [ آية : 19 ] ، إذ
بعث محمدا رسولا .
المائدة : ( 20 ) وإذ قال موسى . . . . .
) وإذ قال موسى لقومه ( ، وهم بنو إسرائيل ، ) يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم ((1/290)
صفحة رقم 291
يعني بالنعمة ، ) إذ جعل فيكم ( السبعين الذي جعلهم الله ) أنبياء ( بعد موسى
وهارون ، وبعدما أتاهم الله بالصاعقة ، ) وجعلكم ملوكا ( ، يعني أغنياء ، بعضكم عن
بعض ، فلا يدخل عليه أحد إلا بإذنه بمنزلة الملوك في الدنيا ، ثم قال : ( وآتاكم ( ،
يعني وأعطاكم ، ) ما لم يؤت ( ، يعني ما لم يعط ) أحدا من العالمين ) [ آية : 20 ] ،
يعني الخير والتوراة ، وما أعطاكم الله عز وجل في التيه من المن والسلوى ، وما ظلل
عليهم من الغمام وأشباه ذلك مما فضلوا به على غيرهم .
فقال موسى :
المائدة : ( 21 ) يا قوم ادخلوا . . . . .
) يا قوم ( بني إسرائيل ، ) ادخلوا الأرض المقدسة ( ، يعني المطهرة
) التي كتب الله لكم ( ، يعني التي أمركم الله عز وجل أن تدخلوها وهي أريحا أرض
الأردن وفلسطين ، وهما من الأرض المقدسة ، ) ولا ترتدوا على أدباركم ( ، يعني ولا
ترجعوا ورائكم بترككم الدخول ، ) فتنقلبوا خاسرين ) [ آية : 21 ] ، يعني فترجعوا
خاسرين .
وذلك أن الله عز وجل قال لإبراهيم ، عليه السلام ، وهو بالأرض المقدسة : إن هذه
الأرض التي أنت بها اليوم هي ميراث لولدك من بعدك ، فلما أخرج الله عز وجل
موسى ، عليه السلام ، من مصر مع بني إسرائيل ، وقطعوا البحر ، وأعطوا التوراة ، أمرهم
موسى أن يدخلوا الأرض المقدسة ، فساروا حتى نزلوا على نهر الأردن في جبل أريحا ،
وكان في أريحا ألف قرية ، في كل قرية ألف بستان ، وجبنوا أن يدخلوها ، فبعث موسى ،
عليه السلام ، اثنى عشر رجلا ، من كل سبط رجلا ، يأتونه بخبر الجبارين ، وأمرهم أن
يأتوه منها بالثمرة .
فلما أتوها خرج إليهم عوج بن عناق بنت آدم ، فاحتملهم ومتاعهم بيده حتى
وضعهم بين يدي الملك بن بانوس سشرون ، فنظر إليهم ، فأمر بقتلهم ، فقالت إمرأته :
أيها الملك ، أنعم على هؤلاء المساكين ، فدعهم فليرجعوا وليأخذوا طريقاً غير الذي
جاءوا فبه ، فأرسلهم لها ، فأخوا عنقودا من كرومهم ، وحملوه على عمودين بين رجلين ،
وعجزوا عن حمله ، وحملوا رمانتين على بعض دوابهم ، فعجزت الدابة عن حملهما حتى
أتوا به أصحابهم وهم بواد يقال له : جبلان ، فسموا ذلك المنزل وادى العنقود ؟
المائدة : ( 22 ) قالوا يا موسى . . . . .
) قالوا يا موسى ( وجدناها أرضا مباركة تفيض لبنا وعسلا كما عهد الله عز وجل
إليك ، ولكن ) إن فيها قوما جبارين ( ، يعني قتالين أشداء يقتل الرجل منهم العصابة منا ،(1/291)
صفحة رقم 292
فإن كان الله عز وجل أراد أن يجعلها لنا منزلا وسكنا ، فليسلطك عليهم فتقتلهم وإلا
فليس لنا بهم قوة ، وحصنهم منيع ، فتتابع على ذلك منهم عشرة ، فقالوا لموسى : ( إن فيها قوما جبارين ( ، طول كل رجل منهم سبعة أذرع ونصف من بقايا قوم عاد ، وكان
عوج بن عناق بنت آدم فيهم ، ) وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ( ، وهي أريحا ،
)( فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ) [ آية : 22 ] .
قال يوشع بن نون ، وهو من سبط بنيامين ، وكالب بن يوقنا ، وهو من سبط يهوذا ،
المائدة : ( 23 ) قال رجلان من . . . . .
) قال رجلان ( ، وهما الرجلان من القوم ، ) من الذين يخافون ( من العدو وقد
) أنعم الله عليهما ( بالإسلام ، قالا : ليس كما يقول العشرة ، سيروا حتى تحيطوا بالمدينة
وبأبوابها ، فإن القوم إذا رأوا كثرتكم بالباب وكبرتم رعبوا منكم ، فانكسرت قلوبهم
وانقطعت ظهورهم ، وذهبت قوتهم ، ف ) ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا ( ، يقول : وبالله فلتتقوا ، ) إن كنتم مؤمنين ) [ آية : 23 ]
بقتلهم بأيديكم ، وينفيهم من أرض هي ميراثهم .
المائدة : ( 24 ) قالوا يا موسى . . . . .
) قالوا يا موسى ( أتصدق رجلين وتكذب عشرة يا موسى ، ) إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك ( ينصرك عليهم ، ) فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) [ آية :
24 ] ، يعني مكاننا ، فإننا لا نستطيع قتال الجبابرة ، فغضب موسى عليهم ،
المائدة : ( 25 ) قال رب إني . . . . .
و ) قال رب إني لا أملك ( من الطاعة ) إلا نفسي وأخي ( هارون ، ) فافرق بيننا ( ، يعني فاقض
بيننا ) وبين القوم الفاسقين ) [ آية : 25 ] ، يعني العاصين الذين عصوا أن يقاتلوا
عدوهم ، وهم كلهم مؤمنون .
المائدة : ( 26 ) قال فإنها محرمة . . . . .
فأوحى الله عز وجل إلى موسى ، عليه السلام : أما إذا سميتهم فاسقين ، فالحق أقول :
لا يدخلونها أبداً ، وذلك قوله عز وجل : ( قال فإنها محرمة عليهم ( دخولها البتة أبدا ،
)( أربعين سنة ( فيها تقديم ، ) يتيهون في الأرض ( في البرية ، فأعمى الله عز
وجل عليهم السبيل ، فحبسهم بالنهار ، وسيرهم بالليل ، يسهرون ليلهم ، فيصبحون حيث أمسوا ، فإذا بلغ أجلهم ، وهو أربعون سنة ، أرسلت عليهم الموت ، فلا يدخلها إلا
خلوفهم ، إلا يوشع بن نون ، وكالب بن يوقنا ، فهما يسوقان بني إسرائيل إلى تلك
الأرض ، فتاة القوم في تسع فراسخ عرض وثلاثين فرسخا طول ، وقالوا أيضا : ستة(1/292)
صفحة رقم 293
فراسخ عرض في اثنى عشر فرسخا طول ، فقال القوم لموسى ، عليه السلام ، ما صنعت
بنا ، دعوت علينا حتى بقينا في التيه ؟ وندم موسى ، عليه السلام ، على ما دعا عليهم ،
وشق عليه حين تاهوا ، فأوحى الله عز وجل إليه : ( فلا تأس على القوم الفاسقين (
[ آية : 26 ] ، يعني لا تحزن على قوم أنت سميتهم فاسقين أن تاهوا .
ثم مات هارون ، عليه السلام ، في التيه ، ومات موسى من بعده بستة أشهر ، فماتا
جميعا في التيه ، ثم إن الله عز وجل أخرج ذرياتهم بعد أربعين سنة وقد هلكت الأمة
العصاة كلها ، وخرجوا مع يوشع بن نون ابن أخت موسى ، وكالب بن يوقنا بعد وفاة
موسى ، عليه السلام ، بشهرين ، فأتوا أريحا ، فقاتلوا أهلها ففتحوها ، وقتلوا مقاتلهم ،
وسبوا ذراريهم ، وقتلوا ثلاثة من الجبارين ، وكان قاتلهم يوشع بن نون ، فغابت الشمس ،
فدعا يوشع بن نون ، فرد الله عز وجل عليه الشمس ، فأطلعت ثانية ، وغابت الشمس
الثانية ، ودار الفلك فاختلط على الحساب حسابهم منذ يومئذ فيما بلغنا ، ومات في التيه ،
كل ابن عشرين سنة فصاعدا ، وموضع التيه بين فلسطين وإيلة ومصر ، فتاه القوم
بعصيانهم ربهم عز وجل ، وخلافهم على نبيهم ، مع دعاء بلعام بن باعور بن ماث
عليهم فيما بين ستة فراسخ إلى اثنى عشر فرسخا ، لا يستطيعون الخروج منها أربعين
سنة ، ومات هارون حين أتم ثمانية وثمانين سنة ، وتوفي موسى بعده بستة أشهر ،
واستخلف عليهم يوشع بن نون ، وحين ماتوا كلهم أخرج ذراريهم يوشع بن نون ،
وكالب بن يوقنا .
تفسير سورة المائدة آية [ 27 - 32 ](1/293)
صفحة رقم 294
المائدة : ( 27 ) واتل عليهم نبأ . . . . .
) واتل عليهم نبأ ابني آدم ( ، يقول : اتل يا محمد على أهل مكة نبأ ابنى آدم ،
)( بالحق ( ليعرفوا نبوتك ، يقول : اتل عليهم حديث ابنى آدم هابيل وقابيل ، وذلك أن
حواء ولدت في بطن واحد غلاما وجارية ، قابيل وإقليما ، ثم ولدت في البطن الآخر
غلاما وجارية ، هابيل وليوذا ، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل ، فلما أدركا ،
قال آدم ، عليه السلام ، ليتزوج كل واحد منهما أخت الآخر ، قال قابيل : لكن يتزوج
كل واحد منهما أخته التي ولدت معه ، قال آدم ، عليه السلام : قربا قربانا ، فأيما تقبل
قربانه كان أحق بهذه الجارية .
وخرج آدم ، عليه السلام ، إلى مكة ، فعمد قابيل ، وكان صاحب زرع ، فقرب أخبث
زرعه البر المأكول فيه الزوان ، وكان هابيل صاحب ماشية ، فعمد فقرب خير غنمه مع
زبد ولبن ، ثم وضعا القربان على الجبل ، وقاما يدعوان الله عز وجل ، فنزلت نار من
السماء ، فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، فحسده قابيل ، فقال لهابيل :
لأقتلنك ، قال هابيل : يا أخي ، لا تلطخ يدك بدم برئ ، فترتكب أمرا عظيما ، إنما طلبت
رضا والدي ورضاك ، فلا تفعل ، فإنك إن فعلت أخزاك الله بقتلك إياي بغير ذنب ولا
جرم ، فتعيش في الدنيا أيام حياتك في شقوة ومخافة في الأرض ، حتى تكون من الخوف
والحزن أدق من شعر رأسك ، ويجعلك إلهي ملعونا .
فلم يزل يحاوره حتى انتصف النهار ، وكان في آخر مقالة هابيل لقابيل : إن أنت
قتلتني كنت أول من كتب عليه الشقاء ، وأول من يساق إلى النار من ذرية والدي ،
وكنت أنا أول شهيد يدخل الجنة ، فغضب قابيل : فقال لا عشت في الدنيا ، ويقال : قد
تقبل قربانه ولم يتقبل قرباني ، فقال له هابيل : فتشفى آخر الأبد ، فغضب عند ذلك
قابيل ، فقتله بحجر دق رأسه ، وذلك بأرض الهند عشية ، وآدم ، عليه السلام ، بمكة ،
فذلك قوله عز وجل : ( إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين ) [ آية : 27 ] .
المائدة : ( 28 ) لئن بسطت إلي . . . . .
) لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ) [ آية : 28 ] ،
المائدة : ( 29 ) إني أريد أن . . . . .
) إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك
جزاء الظالمين ) [ آية : 29 ] ،
المائدة : ( 30 ) فطوعت له نفسه . . . . .
) فطوعت له نفسه قتل أخيه ( ، يقول : قزينت له(1/294)
صفحة رقم 295
نفسه قتل أخيه ، ) فقتله فأصبح من الخاسرين ) [ آية : 30 ] .
قال : وكان هابيل قال لأخيه قابيل : ( لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ( إلى قوله :
( بإثمي وإثمك ( ، يعني أن ترجع بإثمي بقتلك إياي ، وإثمك الذي عملته قبل قتلي ،
)( فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ( ، يعني جزاء من قتل نفسا بغير جرم ،
فلما قتله عشية من آخر النهار ، لم يدر ما يصنع ، وندم ولم يكن يومئذ على الأرض بناء
ولا قبر ، فحمله على عاتقه ، فإذا أعيى وضعه بين يديه ، ثم ينظر إليه ويبكي ساعة ، ثم
يحمله ، ففعل ذلك ثلاثة أيام .
المائدة : ( 31 ) فبعث الله غرابا . . . . .
فلما كان في الليلة الثالثة ، بعث الله غرابين يقتتلان ، فقتل أحدهما صاحبه وهو ينظر ،
ثم حفر بمنقاره في الأرض ، فلما فرغ منه ، أخذ بمنقاره رجل الغراب الميت ، حتى قذفه
في الحفيرة ، ثم سوى الحفيرة بالأرض ، وقابيل ينظر ، فذلك قوله تعالى : ( فبعث الله
غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال ( قابيل : ( يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب ( ، يقول : أعجزت أن أعلم من العلم مثل ما علم هذا
الغراب ، ) فأواري سوءة أخي ( ، يقول : فأغطى عورة أخي كما وارى الغراب صاحبه ،
)( فأصبح من النادمين ) [ آية : 31 ] بقتله أخاه .
فعمد عند ذلك قابيل ، فحفر في الأرض بيده ، ثم قذف أخاه في الحفيرة ، فسوى
عليه تراب الحفيرة كما فعل الغراب بصاحبه ، فلما دفنه ألقى الله عز وجل عليه الخوف ،
يعني على قابيل ؛ لأنه أول من أخاف ، فانطلق هاربا ، فنودى من السماء : يا قابيل ، أين
أخوك هابيل ؟ قال : أو رقيبا كنت عليه ؟ ليذهب حيث شاء ، قال المنادي : أما تدري أين
هو ؟ قال : لا ، قال المنادي : إن لسانك وقلبك ويديك ورجليك وجميع جسدك يشهدون
عليك أنك قتلته ظلما ، فلما أنكر شهدت عليه جوارحه ، فقال المنادي : أين تنجو من
ربك ؟ إن إلهي يقول : إنك ملعون بكل أرض ، وخائف ممن يستقبلك ، ولا خير فيك ،
ولا في ذريتك .
فانطلق جائعا ، حتى أتى ساحل البحر ، فجعل يأخذ الطير ، فيضرب بها الجبل ،
فيقتلها ويأكلها ، فمن أجل ذلك حرم الله الموقوذة ، وكانت الدواب ، والطير ، والسباع ،
لا يخاف بعضها من بعض ، حتى قتل قابيل هابيل ، فلحقت الطير بالسماء ، والوحش
بالبرية والجبال ، ولحقت السباع بالغياض ، وكانت قبل ذلك تستأنس إلى آدم ، عليه(1/295)
صفحة رقم 296
السلام ، وتأتيه ، وغضبت الأرض على الكفار من يومئذ ، فمن ثم يضغط الكافر في
الأرض حتى تختلف أضلاعه ، ويتسع على المؤمن قبره حتى ما يرى طرفاه ، وتزوج شيت
بن آدم ليوذا التي ولدت مع هابيل ، وبعث الله عز وجل ملكا إلى قابيل فعلق رجله ،
وجعل عليه ثلاث سرادقات من نار ، كلما دار دارت السرادقات معه ، فمكث بذلك
حينا ، ثم حل عنه .
المائدة : ( 32 ) من أجل ذلك . . . . .
) من أجل ذلك ( ، يعني من أجل بني آدم ، تعظيما للدم ، ) كتبنا على بني إسرائيل ( في التوراة ) أنه من قتل نفسا بغير نفس ( عمدا ، ) أو فساد في الأرض ( ، أو عمل فيها بالشرك ، وجبت له النار ، ولا يعفى عنه حتى يقتل ،
)( فكأنما قتل الناس جميعا ( ، أي كما يجزي النار لقتله الناس جميعا لو قتلهم ، ثم
قال سبحانه : ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ( ، وذلك أنه مكتوب في
التوراة أنه من قتل رجلا خطأ ، فإنه يقاد به ، إلا أن يشاء ولى المقتول أن يعفو عنه ، فإن
عفا عنه ، وجبت له الجنة ، كما تجب له الجنة لو عفا عن الناس جميعا ، فشدد الله عز
وجل عليهم القتل ؛ ليحجز بذلك بعضهم عن بعض ، ثم قال سبحانه : ( ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ( ، يعني بالبيان في أمره ونهيه ، ) ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك (
البيان ) في الأرض لمسرفون ) [ آية : 32 ] ، يعني إسرافا في سفك الدماء واستحلال
المعاصي .
تفسير سورة المائدة آية [ 33 - 34 ]
المائدة : ( 33 ) إنما جزاء الذين . . . . .
قوله سبحانه : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ( ، يعني بالمحاربة الشرك ،
نظيرها في براءة ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله ، وذلك أن تسعة نفر من عرينة وهم
من بجيلة ، أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة فأسلموا ، فأصابهم وجع شديد ، ووقع الماء الأصفر في
بطونهم ، فأمرهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يخرجوا إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها ، ففعلوا
ذلك ، فلما صحوا عمدوا إلى الراعي ، فقتلوه وأغاروا على الإبل ، فاستاقوها وارتدوا عن(1/296)
صفحة رقم 297
الإسلام ، فبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على بن أبي طالب ، رضى الله عنه ، في نفر فأخذهم .
فلما أتوا بهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم ، وسملت أعينهم ، فأنزل
الله عز وجل فيهم : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ( ، يعني الكفر بعد
الإسلام ، ) ويسعون في الأرض فسادا ( القتل وأخذ الأموال ، ) أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ( ، يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى ، فالإمام
في ذلك بالخيار في القتل والصلب ، وقطع الأبدى والأرجل ، ) أو ينفوا من الأرض ( ، يقول : يخرجوا من الأرض ، أرض المسلمين ، فينفوا بالطرد ، ) ذلك (
جزاءهم الخزى ) لهم خزي في الدنيا ( قطع اليد والرجل والقتل والصلب في الدنيا ،
)( ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) [ آية : 33 ] ، يعني كثيرا وافرا لا انقطاع له .
المائدة : ( 34 ) إلا الذين تابوا . . . . .
ثم استثنى ، فقال عز وجل : ( إلا الذين تابوا ( من الشرك ) من قبل أن تقدروا عليهم ( ، فتقيموا عليهم الحد ، فلا سبيل لكم عليهم ، يقول : من جاء منهم مسلما قبل
أن يؤخذ ، فإن الإسلام يهدم ما أصاب في كفره من قتل أو أخذ مال ، فذلك قوله
سبحانه : ( فاعلموا أن الله غفور ( لما كان منه في كفره ) رحيم ) [ آية : 34 ] به
حين تاب ورجع إلى الإسلام ، فأما من قتل وهو مسلم ، فارتد عن الإسلام ، ثم رجع
مسلما ، فإنه يؤخذ بالقصاص .
تفسير سورة المائدة آية [ 35 - 36 ]
المائدة : ( 35 ) يا أيها الذين . . . . .
وقوله سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ( ، يعني
في طاعته بالعمل الصالح ، ) وجاهدوا ( العدو ) في سبيله ( ، يعني في طاعته ،
)( لعلكم ( ، يعني لكي ) تفلحون ) [ آية : 35 ] ، يعني تسعدون ، ويقال :
تفوزون .
المائدة : ( 36 ) إن الذين كفروا . . . . .
وقوله سبحانه : ( إن الذين كفروا ( من أهل مكة ، ) لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به ( ، أي فقدروا أن يفتدوا به ) من عذاب ( جهنم(1/297)
صفحة رقم 298
) يوم القيامة ( ، يقول : لو كان ذلك لهم وفعلوه ، ) ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم (
[ آية : 36 ] ،
المائدة : ( 37 ) يريدون أن يخرجوا . . . . .
) يريدون أن يخرجوا من النار ( بالفداء ، ) وما هم بخارجين منها (
أبدا ) ولهم عذاب مقيم ) [ آية : 37 ] ، يعنى دائم .
تفسير سورة المائدة [ آية 38 - 40 ]
المائدة : ( 38 ) والسارق والسارقة فاقطعوا . . . . .
وقوله سبحانه : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( ، يعني أيمانهما من
الكرسوع ، يقول : القطع ) جزاء بما كسبا ( ، يعني سرقا ، ) نكالا من الله ( ، يعني
عقوبة من الله قطع اليد ، ) والله عزيز حكيم ) [ آية : 38 ] ،
المائدة : ( 39 ) فمن تاب من . . . . .
) فمن تاب من بعد ظلمه ( ، يقول : من تاب من بعد سرقته ، ) وأصلح ( العمل فيما بقى ، ) فإن الله يتوب عليه إن الله غفور ( لذنبه ، ) رحيم ) [ آية : 39 ] به ، وأما المال ، فلا بد أن يرده
إلى صاحبه .
المائدة : ( 40 ) ألم تعلم أن . . . . .
وقوله سبحانه : ( ألم تعلم ( يا محمد ) أن الله له ملك السماوات والأرض (
يحكم فيهما بما يشاء ، ) يعذب من يشاء ( من أهل معصيته ، ) ويغفر لمن يشاء ( ،
يعني به المؤمنين ، ) والله على كل شيء ( من العذاب والمغفرة ) قدير ) [ آية :
40 ] .
تفسير سورة المائدة [ آية 41 - 43 ](1/298)
صفحة رقم 299
المائدة : ( 41 ) يا أيها الرسول . . . . .
وقوله سبحانه : ( يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من
الذين قالوا ءامنا بأفواههم ( ، يعني صدقنا بألسنتهم ، ) ولم تؤمن قلوبهم ( في
السر ، نزلت في أبي لبابة ، إسمه : مروان بن عبد المنذر الأنصاري ، من بني عمرو بن
عوزف ، وذلك أنه أشار إلى أهل قريظة إلى حلقه أن محمدا جاء يحكم فيكم بالموت ، فلا
تنزلوا على حكم سعد بن معاذ ، وكان حليفا لهم ، ثم قال سبحانه : ( ومن الذين هادوا ( ، أي ولا يحزنك الذين هادوا ، يعني يهود المدينة ، ) سماعون للكذب ( ، يعني قوالون للكذب ، منهم : كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، وأبو
لبابة ، وسعيد بن مالك ، وإبن صوريا ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وشاس بن قيس ، وأبو رافع
بن حريملة ، ويوسف بن عازر بن أبي عازب ، وسلول بن أبي سلول ، والبخام بن عمرو ،
وهم ) سماعون لقوم ءاخرين ( ، يعني يهود خيبر ، ) لم يأتوك ( يا محمد
) يحرفون الكلم ( ، يعني أمر الرجم ، ) من بعد مواضعه ( عن بيانه في التوراة .
وذلك أن رجلا من اليهود يسمى يهوذا ، وإمرأة تسمى بسرة من أهل خيبر من
أشراف اليهود ، زنيا وكانا قد أحصنا ، فكرهت اليهود رجمهما من أجل شرفهما
وموضعهما ، فقالت يهود خيبر : نبعث بهذين إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإن في دينه الضرب ،
وليس في دينه الرجم ، ونوليه الحكم فيهما ، فإن أمركم فيهما بالضرب فخذوه ، وإن
أمركم فيهما بالرجم فاحذروه ، فكتب يهود خيبر إلى يهود المدينة ، إلى كعب بن
الأشرف ، وكعب بن أسيد ، ومالك بن الضيف ، وأبي لبابة ، وبعثوا نفرا منهم ، فقالوا :
سلوا لنا محمدا ، عليه السلام ، عن الزانيين إذا أحصنا ما عليهما ؟ فإن أمركم بالجلد
فخذوا به ، والجلد الضرب بحبل من ليف مطلي بالقار ، وتسود وجوههما ويحملان على
حمار ، وتجعل وجوههما مما يلي ذنب الحمار ، فذلك التجبية , .
) يقولون ( ، أي اليهود ، ) إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ( ، أي إن
أمركم بالرجم فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه ، قال : فجاء كعب بن
الأشرف ، ومالك بن الضيف ، وكعب بن أسيد ، وأبو لبابة ، إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا : أخبرنا
عن الزانيين إذا أحصنا ما عليهما ، فأتاه جبريل ، عليه السلام ، فأخبره بالرجم ، ثم قال
جبريل ، عليه السلام : إجعل بينك وبينهم إبن صوريا ، وسلهم عنه ، فمشى رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) حتى أتى أحبارهم في بيت المدارس ، فقال : ' يا معشر اليهود ، أخرجوا إلى
علماءكم ' ، فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا ، وأبا ياسر بن أخطب ، ووهب بن يهوذا ،(1/299)
صفحة رقم 300
فقالوا : هؤلاء علماؤنا ، ثم حصر أمرهم ، إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا : هذا أعلم من
بقى بالتوراة ، فجاء به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وكان ابن صوريا غلاما شابا ، ومع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عبد الله بن سلام ، فقال رسول
الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو هو إله بني إسرائيل ، الذي إخرجكم من مصر ،
وفلق لكم البحر ، وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، وأنزل عليكم كتابه يبين لكم حلاله
وحرامه ، وظلل عليكم المن والسلوى ، هل وجدتم في كتابكم أن الرجم على من
أحصن ؟ ' ، قال ابن صوريا : اللهم نعم ، ولولا أني خفت أن أحترق بالنار ، أو أهلك
بالعذاب ، لكتمتك حين سألتني ، ولم أعترف لك ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' الله أكبر ، فأنا
أول من أحيا سنة من سنن الله عز وجل ' ، ثم أمر بهما فرجما عند باب مسجده في بنى
غنم بن مالك بن النجار .
فقال عبد الله بن صوريا : والله يا محمد ، أن اليهود لتعلم أنك نبي حق ، ولكنهم
يحسدونك ، ثم كفر أبن صوريا بعد ذلك ، فأنزل الله عزوجل : ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ( ، يعني مما في التوراة
من أمر الرجم ، ونعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قال : ( ويعفو عن كثير ( ، فلا يخبر به ، فقال
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لليهود : ' إن شئتم أخبرتكم بالكثير ' ، قال ابن صوريا : أنشدك بالله أن تخبرنا
بالكثير مما أمرت أن تعفو عنه .
ثم قال ابن صوريا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أخبرني عن ثلاث خصال لا يعلمهن إلا نبي ، فقال
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' هات ، سل عما شئت ' ، قال : أخبرني عن نومك ؟ قال : ' تنام عيني
وقلبي يقظان ' ، قال ابن صوريا : صدقت ، قال : فأخبرني عن شبه الولد ، من أين يشبه
الأب أو الأم ؟ قال : ' أيهما سبقت الشهوة له كان الشبه له ' ، قال : صدقت ، قال :
أخبرني ما للرجل وما للمرأة من الولد ، ومن أيهما يكون ؟ قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' اللحم
والدم والظفر والشعر للمرأة ، والعظم والعصب والعروق للرجل ' ، قال : صدقت ، قال :
فمن وزيرك من الملائكة ، ومن يجيئك بالوحي ؟ قال : ' جبريل ، عليه السلام ' ، قال :
صدقت يا محمد ، وأسلم عند ذلك .
قوله سبحانه : ( إن أوتيتم هذا فخذوه ( ، يقول ذلك يهود خيبر ليهود المدينة ،
كعب بن الأشرف ، ومالك بن الضيف ، وكعب بن أسيد ، وأبي لبابة : إن أمركم محمد(1/300)
صفحة رقم 301
بالجلد فاقبلوه ، وإن لم تؤتوه ، يعني الجلد ، وإن أمركم بالرجم فاحذروا ، فإنه نبي ، قال
الله عزوجل : ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين ( ، يعني اليهود ، ) لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ( من الكفر حين كتموا أمر
الرجم ونعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) لهم في الدنيا خزي ( ، يعني به اليهود ، وهم أهل قريظة ، أما
الخزي الذي نزل بهم ، فهو القتل والسبى ، وأما خزي أهل النضير ، فهو الخروج من
ديارهم وأموالهم وجناتهم ، فأجلوا إلى الشام ، إلى أذرعات وأريحا ، ) ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) [ آية : 41 ] ، يعني ما عظم من النار .
المائدة : ( 42 ) سماعون للكذب أكالون . . . . .
ثم قال : ( سماعون ( ، يعني قوالون ) للكذب ( للزور ، منهم : كعب بن
الأشرف ، وكعب بن أسيد ، ومالك بن الضيف ، ووهب بن يهوذا ، ) أكالون للسحت ( ، يعني الرشوة في الحكم ، كانت اليهود قد جعلت لهم جعلا في كل سنة ،
على أن يقضوا لهم بالجور ، يقول الله عزوجل : ( فإن جاءوك ( يا محمد في الرجم ،
)( فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ( ، يعني بالعدل ، ) إن الله يحب المقسطين ) [ آية : 42 ] ، يعني الذين
يعدلون في الحكم ، ثم نسختها الآية التي حاءت بعد ، وهي قوله : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ( إليك في الكتاب أن الرجم على المحصن والمحصنة ، ولا ترد الحكم ،
)( ولا تتبع أهواءهم ( ، يعني كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، ومالك بن
الضيف .
المائدة : ( 43 ) وكيف يحكمونك وعندهم . . . . .
قال تعالى : ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ( ، يعني الرجم على
المحصن والمحصنة ، والقصاص في الدماء سواء ، ) ثم يتولون من بعد ذلك ( ، يعني
يعرضون من بعد البيان في التوراة ، ) وما أولئك بالمؤمنين ) [ آية : 43 ] ، يعني وما
أولئك بمصدقين حين حرفوا ما في التوراة .
تفسير سورة المائدة من آية [ 44 - 47 ](1/301)
صفحة رقم 302
[ آية 45 - 47 ]
المائدة : ( 44 ) إنا أنزلنا التوراة . . . . .
ثم أخبر الله عن التوراة ، فقال سبحانه : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ( وضياء
من الظلمة ، ) يحكم بها النبيون ( من لدن موسى ، عليه السلام ، إلى عيسى ابن مريم
( صلى الله عليه وسلم ) ، ألف نبي ، ) الذين أسلموا ( ، يعني أنهم مسلمون ، أو أسلموا وجوههم لله ،
)( للذين هادوا ( ، يعني اليهود يحكمون بما لهم وما عليهم ، ) و ( يحكم بها
) والربانيون ( ، وهم المتعبدون من أهل التوراة من ولد هارون ، يحكمون بالتوراة ،
)( والأحبار ( ، يعني القراء والعلماء منهم ، ) بما استحفظوا من كتاب الله ( عز وجل
من الرجم ، وبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في كتابهم ، ثم قال يهود المدينة ، كعب بن الأشرف ،
وكعب بن أسيد ، ومالك بن الضيف ، وأصحابهم ، ) وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس ( ، يقول : لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم ، ونعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( واخشون ( إن كتمتموه ، ) ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ( عرضا يسيرا مما كانوا
يصيبون من سفلة اليهود من الطعام والثمار ، ) ومن لم يحكم بما أنزل الله ( في
التوراة بالرجم ونعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويشهد به ، ) فأولئك هم الكافرون ) [ آية : 44 ] .
ولما أرادوا القيام ، قالت بنو قريظة ، أبو لبابة ، وشعبة بن عمرو ، ورافع بن حريملة ،
وشاس بن عمرو ، للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إخواننا بني النضير ، كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ،
ومالك بن الضيف ، وغيرهم ، أبونا واحد ، وديننا واحد ، إذا قتل أهل النضير منا قتيلا ،
أعطونا سبعين وسقا من تمر ، وإن قتلنا منهم قتيلا ، أخذوا منا مائة وأربعين وسقا من
تمر ، وجراحاتنا على أنصاف جراحاتهم ، فاقض بيننا وبينهم يا محمد ، فقال رسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) : ' إن دم القرظى وفاء من دم النضيري ، وليس للنضيري على القرظي فضل في الدم
ولا في العقل ' ، قال كعب بن الأشرف ، ومالك بن الضيف ، وكعب بن أسيد ،
وأصحابهم : لا نرضى بقضائك ، ولا نطيع أمرك ، ولنأخذن بالأمر الأول ، فإنك عدونا ،
وما تأول أن تضعنا وتضرنا .(1/302)
صفحة رقم 303
وفي ذلك يقول الله تعالى : ( أفحكم الجاهلية يبغون ( ، يعني حكمهم الأول ،
)( ومن أحسن من الله حكما ( ، يقول : فلا أحد أحسن من الله حكما ، ) لقوم يوقنون ( . وعد الله عز وجل ووعيده ،
المائدة : ( 45 ) وكتبنا عليهم فيها . . . . .
ثم أخبر عن التوراة ، فقال سبحانه : ( وكتبنا عليهم فيها ( ، يعني وفرضنا عليهم في التوراة ، نظيرها في المجادلة : ( كتب الله (
[ المجادلة : 21 ] ، يعني قضى ، ) أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ( ، يقول : فمن تصدق بالقتل والجراحات ، فهو كفارة لذنبه ، يقول : إن عفى المجروح
عن الجارح ، فهو كفارة للجارح من الجرح ، ليس عليه قود ولا دية ، ) ومن لم يحكم بما أنزل الله ( في التوراة من أمر الرجم والقتل والجراحات ، ) فأولئك هم الظالمون ) [ آية : 45 ] .
المائدة : ( 46 ) وقفينا على آثارهم . . . . .
ثم أخبر عن أهل الإنجيل ، فقال : ( وقفينا على آثارهم ( ، يعني وبعثنا من بعدهم ، يعني
من بعد أهل التوراة ، ) بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة ( ، يقول : عيسى
يصدق بالتوراة ، ) وآتيناه الإنجيل ( ، يعني أعطينا عيسى الإنجيل ، ) فيه هدى ( من
الضلالة ، ) ونور ( من الظلمة ، ) ومصدقا لما بين يديه من التوراة ( ، يقول : الإنجيل
يصدق التوراة ، ) و ( الإنجيل ) وهدى ( من الضلالة ، ) وموعظة ( من الجهل ،
)( للمتقين ) [ آية : 46 ] الشرك .
المائدة : ( 47 ) وليحكم أهل الإنجيل . . . . .
ثم قال عز وجل : ( وليحكم أهل الإنجيل ( من الأحبار والرهبان ، ) بما أنزل الله فيه ( ، يعني في الإنجيل من العفو عن القاتل أو الجارح والضارب ، ) ومن لم يحكم بما أنزل الله ( في الإنجيل من العفو واقتص من القاتل والجارح والضارب ، ) فأولئك هم الفاسقون ) [ آية : 47 ] ، يعني العاصين لله عز وجل .
تفسير سورة المائدة آية [ 48 - 50 ](1/303)
صفحة رقم 304
المائدة : ( 48 ) وأنزلنا إليك الكتاب . . . . .
قوله سبحانه : ( وأنزلنا إليك الكتاب ( يا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) بالحق ( ، يعني القرآن
بالحق ، لم ننزله عبثا ولا باطلا لغير شيء ، ) مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ( ، يقول : وشاهدا عليه ، وذلك أن قرآن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) شاهد بأن الكتب التي أنزلت
قبله أنها من الله عز وجل ، ) فاحكم بينهم بما أنزل الله ( إليك في القرآن ، ) ولا تتبع أهواءهم ( ، يعني أهواء اليهود ، ) عما جاءك من الحق ( ، وهو القرآن ، ) لكل جعلنا منكم شرعة ( ، يعني من المسلمين وأهل الكتاب ، ) شرعة ( ، يعني سنة ،
)( ومنهاجا ( ، يعني طريقا وسبيلا ، فشريعة أهل التوراة في قتل العمد القصاص ليس لهم
عقل ولا دية ، والرجم على المحصن والمحصنة إذا زنيا .
وشريعة الإنجيل في القتل العمد العفو ، ليس لهم قصاص ولا دية ، وشريعتهم في الزنا ،
الجلد بلا رجم ، وشريعة أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في قتل العمد القصاص والدية والعفو ، وشريعتهم
في الزنا إذا لم يحصن الجلد ، فإذا أحصن فالرجم ، ) ولو شاء الله لجعلكم ( يا أمة
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأهل الكتاب ، ) أمة واحدة ( على دين الإسلام وحدها ، ) ولكن ليبلوكم ( ، يعني يبتليكم ) في ما آتاكم ( ، يعني فيما أعطاكم من الكتاب والسنة من
يطع الله عز وجل فيما أمر ونهى ، ومن يعصه ) فاستبقوا الخيرات ( ، يقول : سارعوا
في الأعمال الصالحة يا أمة محمد ، فيما ذكر من السبيل والسنة ، ) إلى الله مرجعكم جميعا ( في الآخرة أنتم وأهل الكتاب ، ) فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) [ آية : 48 ]
في الدين .
المائدة : ( 49 ) وأن احكم بينهم . . . . .
قوله سبحانه : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ( إليك في الكتاب ، يعني بين اليهود ،
وذلك أن قوما من رءوس اليهود من أهل النصير اختلفوا ، فقال : بعضهم لبعض : انطلقوا
بنا إلى محمد لعلنا نفتنه ونرده عما هو عليه ، فإنما هو بشر إذن فيستمع ، فأتوه فقالوا له :
هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل ، فإن
فعلت ، فإنا نبايعك ونطيعك ، وإنا إذا بايعناك تابعك أهل الكتاب كلهم ؛ لأنا سادتهم
وأحبارهم ، فنحن نفتنهم ونزلهم عما هم عليه حتى يدخلوا في دينك .
فأنزل الله عز وجل يحذر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : ( ولا تتبع أهواءهم ( في أمر الدماء ،
)( واحذرهم أن يفتنوك ( ، يعني أن يصدوك ، ) عن بعض ما أنزل الله إليك ( من أمر(1/304)
صفحة رقم 305
الدماء بالسوية ، ) فإن تولوا ( ، يقول : فإن أبوا حكمك ، ) فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ( ، يعني أن يعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء من المدينة إلى الشام ، ) ببعض ذنوبهم ( ، يعني ببعض الدماء التي كانت بينهم من قبل أن يبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وإن كثيرا من الناس ( ، يعني رءوس اليهود ، ) لفاسقون ) [ آية : 49 ] ، يعني لعاصون حين كرهوا
حكم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أمر الدماء بالحق .
المائدة : ( 50 ) أفحكم الجاهلية يبغون . . . . .
فقال كعب بن الأشرف ، ومالك بن الضيف ، وكعب بن أسيد ، للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لا نرضى
بحكمك ، فأنزل الله عز وجل : ( أفحكم الجاهلية يبغون ( ، الذي كانوا عليه من الجور
من قبل أن يبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ومن أحسن من الله حكما ( ، يقول : فلا أحد أحسن من
الله حكما ، ) لقوم يوقنون ) [ آية : 50 ] بالله عز وجل .
تفسير سورة المائدة آية [ 51 - 53 ]
المائدة : ( 51 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا ( ، نزلت في رجلين من المسلمين ، ) لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ( ، قال : لما كانت وقعة أحد ، خاف ناس من المسلمين أن يدال
الكفار عليهم ، فقال رجل منهم : أنا آتي فلانا اليهودي فأتهود ، فإني أخشى أن يدال
الكفار علينا ، قال الآخر : أما أنا ، فإني آتى الشام فأنتصر ، فنزلت : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ( ) ومن يتولهم منكم ( ، يعني من المؤمنين ،
)( فإنه منهم ( ، يعني يلحق بهم ويكون معهم ؛ لأن المؤمنين لا يتولون الكفار ، ) إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) [ آية : 51 ] .
المائدة : ( 52 ) فترى الذين في . . . . .
ثم ذكر أنه إنما يتولاهم المنافقون ؛ لأنهم وافقوهم على ما يقولون ، قال سبحانه :
( فترى الذين في قلوبهم مرض ( ، وهو الشك ، فهم المنافقون ، ) يسارعون فيهم ( ،(1/305)
صفحة رقم 306
يعني في ولاية اليهود بالمدينة ، ) يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ( ، يعني دولة اليهود على
المسلمين ، وذلك أن نفرا من المنافقين ، أربعة وثمانين رجلا ، منهم : عبد الله بن أبي ، وأبو
نافع ، وأبو لبابة ، قالوا : نتخذ عند اليهود عهدا ونواليهم فيما بيننا وبينهم ، فإنا لا ندري
ما يكون في غد ، ونخشى ألا ينصر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فينقطع الذي بيننا وبينهم ، ولا نصيب
منهم قرضا ولا ميرة ، فأنزل الله عز وجل : ( فعسى الله أن يأتي بالفتح ( ، يعني بنصر
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي يئسوا منه ، ) أو ( يأتي ) أمر من عنده ( ، قتل قريظة ، وجلاء النضير
إلى أذرعات ، فلما رأى المنافقون ما لقى أهل قريظة والنضير ، ندموا على قولهم ، قال :
( فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ) [ آية : 52 ]
المائدة : ( 53 ) ويقول الذين آمنوا . . . . .
فلما أخبر الله عز وجل نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن المنافقين ، أنزل هذه الآية : ( ويقول الذين آمنوا (
بعضهم لبعض : ( أهؤلاء الذين أقسموا بالله ( ، يعني المنافقين ، ) جهد أيمانهم ( ، إذ
حلفوا بالله عز وجل ، فهو جهد اليمين ، ) إنهم لمعكم ( على دينكم ، يعني المنافقين ،
)( حبطت أعمالهم ( ، يعني بطلت أعمالهم ؛ لأنها كانت في غير الله عز وجل ،
)( فأصبحوا خاسرين ) [ آية : 53 ] في الدنيا .
تفسير سورة المائدة آية [ 54 - 57 ]
المائدة : ( 54 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ( ، وذلك حين هزموا يوم
أحد ، شك أناس من المسلمين ، فقالوا ما قالوا ، ) فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ( ،
فارتد بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنو تميم ، وبنو حنيفة ، وبنو أسد ، وغطفان ، وأناس من
كندة ، منهم الأشعث بن قيس ، فجاء الله عز وجل بخير من الذين ارتدوا ، بوهب بطن
من كندة ، وبأحمس بجيلة ، وحضرموت ، وطائفة من حمير وهمذان ، أبدلهم مكان
الكافرين .
ثم نعتهم ، فقال سبحانه : ( أذلة على المؤمنين ( بالرحمة واللين ، ) أعزة على(1/306)
صفحة رقم 307
الكافرين ( ، يعني عليهم بالغلظة والشدة ، فسدد الله عز وجل بهم الدين ، ) يجاهدون في
سبيل الله ( العدو ، يعني في طاعة الله ، ) ولا يخافون لومة لائم ( ، يقول : ولا يبالون
غضب من غضب عليهم ، ) ذلك فضل الله ( ، يعني دين الإسلام ، ) يؤتيه من يشاء والله
واسع ( لذلك الفضل ، ) عليم ) [ آية : 54 ] لمن يؤتى الإسلام ، وفيهم نزلت وفي
الإبدال : ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) [ محمد : 38 ] .
المائدة : ( 55 ) إنما وليكم الله . . . . .
وقوله سبحانه : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة والزكاة وهم
راكعون ) [ آية : 55 ] ، وذلك أن عبد الله بن سلام وأصحابه قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند صلاة
الأولى : إن اليهود أظهروا لنا العداوة من أجل الإسلام ، ولا يكلموننا ، ولا يخالطوننا في
شيء ، ومنازلنا فيهم ، ولا نجد متحدثا دون هذا المسجد ، فنزلت هذه الآية ، فقرأها النبي
( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا : قد رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين اولياء ، وجعل الناس يصلون تطوعا بعد
المكتوبة ، وذلك في صلاة الأولى .
وخرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى باب المسجد ، فإذا هو بمسكين قد خرج من المسجد ، وهو
يحمد الله عز وجل ، فدعاه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : ' هل أعطاك أحد شيئا ؟ ' ، قال : نعم يا نبي
الله ، قال : ' من أعطاك ؟ ' ، قال : الرجل القائم أعطاني خاتمه ، يعني علي بن أبي طالب ،
رضوان الله عليه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' على أي حال أعطاكه ؟ ' ، قال : أعطاني وهو راكع ،
فكبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقال : ' الحمد لله الذي خص عليا بهذه الكرامة ' ، فأنزل الله عز وجل :
( والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (
المائدة : ( 56 ) ومن يتول الله . . . . .
) ومن يتول الله
ورسوله والذين آمنوا ( ، يعني علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، ) فإن حزب الله هم
الغالبون ) [ آية : 56 ] ، يعني شيعة الله ورسوله والذين آمنوا هم الغالبون ، فبدأ بعلى بن
أبي طالب ، رضى الله عنه ، قبل المسلمين ، ثم جعل المسلمين وأهل الكتاب المؤمنين ،
فيهم عبد الله بن سلام وغيره هم الغالبون لليهود ، حين قتلوهم وأجلوهم من المدينة إلى
الشام وأذرعات وأريحا .
المائدة : ( 57 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا ( ، يعني المنافقين الذين أقروا باللسان وليس الإيمان
في قلوبهم ، ) لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم ) ) الإسلام ( ( هزوا ولعبا ( ، يعني استهزاء
وباطلا ، وذلك أن المنافقين كانوا يوالون اليهود فيتخذونهم أولياء ، قال : ( من الذين
أوتوا الكتاب ( ، يعني اليهود ، ) من قبلكم ( ؛ لأنهم أعطوا التوراة قبل أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ،(1/307)
صفحة رقم 308
يقول : لا تتخذوهم اولياء ، ) و ( لا تتخذوا ) والكفار أولياء ( ، يعني كفار اليهود
ومشركي العرب ، ثم حذرهم ، فقال : ( واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) [ آية : 57 ] ، يعني إن
كنتم مصدقين ، فلا تتخذوهم أولياء ، يعني كفار العرب ، حين قال عبد الله بن أبي ،
وعبد الله بن نتيل ، وأبو لبابة ، وغيرهم من اليهود : لئن أخرجتم لنخرجن معكم ، حين
كتبوا إليهم .
تفسير سورة المائدة آية [ 58 - 63 ]
المائدة : ( 58 ) وإذا ناديتم إلى . . . . .
ثم أخبر عن اليهود ، فقال سبحانه : ( وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ( ، يعني
استهزاء وباطلا ، وذلك أن اليهود كانوا إذا سمعوا الأذان ، ورأوا المسلمين قاموا إلى
صلاتهم ، يقولون : قد قاموا لا قاموا ، وإذا رأوهم ركعوا ، قالوا : لا ركعوا ، وإذا رأوهم
سجدوا ضحكوا ، وقالوا : لا سجدوا ، واستهزءوا ، يقول الله تعالى : ( ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) [ آية : 58 ] ، يقول : لو عقلوا ما قالوا هذه المقالة .
المائدة : ( 59 ) قل يا أهل . . . . .
) قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ) [ آية : 59 ] ، قال أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبو ياسر ، وحيي بن أخطب ، ونافع بن
أبي نافع ، وعازر بن أبي عازر ، وخالد وزيد ابنا عمرو ، وأزر بن أبي أزر ، وأشيع ،
فسألوه عن من يؤمن به من الرسل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' نؤمن ) بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ( '
[ البقرة : 136 ] ، فلما ذكر عيسى ابن مريم جحدوا نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقالوا : لا نؤمن بعيسى
ولا بمن آمن به ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية : ( قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا(1/308)
صفحة رقم 309
إلا أن آمنا بالله ( ، يعني صدقنا بالله بأنه واحد لا شريك له ، ) و ( صدقنا ب ) ما
أنزل إلينا ( ، يعني قرآن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) و ( صدقنا ب ) وما أنزل من قبل ( قرآن
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، الكتب التي أنزلها الله عز وجل على الأنبياء ، عليهم السلام ، ) وأن أكثركم
فاسقون ( ، يعني عصاة .
المائدة : ( 60 ) قل هل أنبئكم . . . . .
قالت اليهود للمؤمنين ، ما نعلم أحدا من أهل هذه الأديان أقل حظا في الدنيا
والآخرة منكم ، فأنزل الله عز وجل : ( قل هل أنبئكم بشر من ذلك ( ، يعني المؤمنين ،
)( مثوبة عند الله ( ، يعني ثوابا من عند الله ، قالت : اليهود : من هم يا محمد ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم )
وغضب عليه ، ) من لعنه الله ( ، وهم اليهود ) وغضب عليه ( ، فإن لم يقتل أقر بالخراج وغضب عليه ، ) وجعل منهم القردة والخنازير ( ، القردة في شأن الحيتان ، والخنازير في
شأن المائدة ، ) وعبد الطاغوت ( ، فيها تقديم ، ) وعبد الطاغوت ( ، يعني ومن عبد
الطاغوت ، وهو الشيطان ، ) أولئك شر مكانا ( في الدنيا ، يعني شر منزلة ، ) وأضل عن
سواء السبيل ) [ آية : 60 ] ، يعني وأخطأ عن قصد الطريق من المؤمنين .
المائدة : ( 61 ) وإذا جاؤوكم قالوا . . . . .
فلما نزلت هذه الآية ، عيرت اليهود ، فقالوا لهم : يا إخوان القردة والخنازير ، فنكسوا
رءوسهم وفضحهم الله تعالى ، وجاء أبو ياسر بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ، ، وعزر
بن أبي عازر ، ونافع بن أبي نافع ، ورافع بن أبي حريملة ، وهم رؤساء اليهود ، حتى
دخلوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا : قد صدقنا بك يا محمد ؛ لأنا نعرفك ونصدقك
ونؤمن بك .
ثم خرجوا من عنده بالكفر ، غير أنهم أظهروا الإيمان ، فأنزل الله عز وجل فيهم :
( وإذا جاءوكم ) ) اليهود ( ( قالوا آمنا ( ، يعني صدقنا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ لأنهم دخلوا عليه
وهم يسرون الكفر ، وخرجوا من عنده بالكفر ، فذلك قوله سبحانه : ( وقد دخلوا بالكفر
وهم قد خرجوا به ( يعني بالكفر مقيمين عليه ، ) والله أعلم بما كانوا يكتمون ) [ آية :
61 ] ، يعني بما يسرون في قلوبهم من الكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، نظيرها في آل عمران .
المائدة : ( 62 ) وترى كثيرا منهم . . . . .
ثم أخبر عنهم ، فقال سبحانه : ( وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم ( ، يعني المعصية ،(1/309)
صفحة رقم 310
) والعدوان ( ، يعني الظلم ، وهو الشرك ، ) وأكلهم السحت ( ، يعني كعب بن
الأشرف ؛ لأنه كان يرشى في الحكم ويقضي بالجور ، ) لبئس ما كانوا يعملون ) [ آية :
62 ] ،
المائدة : ( 62 ) وترى كثيرا منهم . . . . .
ثم عاتب الله عز وجل الربانيين والأحبار ، فقال : ( لولا ( ، يعني فهلا ) ينهاهم الربانيون والأحبار ( ، يعني بالربانيين المتعبدين والأحبار ، يعني القراء الفقهاء أصحاب
القربان من ولد هارون ، عليه السلام ، وكانوا رءوس اليهود ، ) عن قولهم الإثم ( ، يعني
الشرك ، ) وأكلهم السحت ( ، يعني الرشوة في الحكم ، ) لبئس ما كانوا يصنعون (
[ آية : 63 ] ، حين لم ينهوهم ، فعاب من أكل السحت : الرشوة في الحكم ، وعاب
الربانيين الذين لم ينهوهم عن أكله .
تفسير سورة المائدة آية 64
المائدة : ( 64 ) وقالت اليهود يد . . . . .
) وقالت اليهود ( ، يعني ابن صوريا ، وفنحاص اليهوديين ، وعازر بن أبي عازر ، ) يد الله مغلولة ( ، يعني ممسكة ، أمسك الله يده عنا ، فلا تبسطها علينا بخير ، وليس بجواد ،
وذلك أن الله عز وجل بسط عليهم في الرزق ، فلما عصوا واستحلوا ما حرم عليهم ،
أمسك عنهم الرزق ، فقالوا عند ذلك : يد الله محبوسة عن البسط ، يقول الله عز وجل :
( غلت أيديهم ( ، يعني أمسكت أيديهم عن الخير ، ) ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان (
بالخير ، ) ينفق كيف يشاء ( ، إن شاء وسع في الرزق ، وإن شاء قتر ، هم خلقه وعبيده
في قبضته .
ثم قال : ( وليزيدن كثيرا منهم ( ، يعني اليهود من بني النضير ، ) ما أنزل إليك من ربك ( ، يعني أمر الرجم والدماء ، ونعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) طغيانا وكفرا ( بالقرآن ، يعني
جحودا به ، ) وألقينا بينهم ( ، يعني اليهود والنصارى ، شر ألقاه عز وجل بينهم ،
)( العداوة والبغضاء ( ، يعني يبغض بعضهم بعضا ، ويشتم بعضا ، ) إلى يوم القيامة ( ،
فلا يحب اليهودي النصراني ولا النصراني اليهودي ، ) كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ( ، يعني كلما أجمعوا أمرهم على مكر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) في أمر الحرب ، فرقه الله عز
وجل ، وأطفأ نار مكرهم ، فلا يظفرون بشيء أبدا ، ) ويسعون في الأرض فسادا ( ،(1/310)
صفحة رقم 311
يعني يعملون فيها بالمعاصي ، ) والله لا يحب المفسدين ) [ آية : 64 ] ، يعني العاملين
بالمعاصي .
تفسير سورة المائدة آية [ 65 - 66 ]
المائدة : ( 65 ) ولو أن أهل . . . . .
وقوله سبحانه ) ولو أن أهل الكتاب ( ، يعني اليهود والنصارى ، ) آمنوا ( ،
يعني صدقوا بتوحيد الله ، ) واتقوا ( الشرك ، ) لكفرنا عنهم سيئاتهم ( ، يعني لمحونا
عنهم ذنوبهم ، ) ولأدخلنهم جنات النعيم ) [ آية : 65 ] ،
المائدة : ( 66 ) ولو أنهم أقاموا . . . . .
) ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ( ، فعملوا بما فيهما من أمر الرجم والزنا وغيره ، ولم يحرفوه عن مواضعه في
التوراة التي أنزلها الله عز وجل ، فأما في الإنجيل ، فنعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأما في التوراة ،
فنعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، والرجم والدماء وغيرها ، ولم يحرفوها عن مواضعها ، ) و ( أقاموا
ب ) وما أنزل إليهم من ربهم ( في التوراة والإنجيل من نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومن إيمان
بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولم يحرفوا نعته ، ) لأكلوا من فوقهم ( ، يعني المطر ، ) ومن تحت أرجلهم ( ، يعني من الأرض : النبات ، ثم قال عز وجل : ( منهم أمة مقتصدة ( ، يعني
عصبة عادلة في قولها من مؤمني أهل التوراة والإنجيل ، فأما أهل التوراة ، فعبد الله بن
سلام وأصحابه ، وأما أهل الإنجيل ، فالذين كانوا على دين عيسى ابن مريم ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهم
اثنان وثلاثون رجلا ، ثم قال سبحانه : ( وكثير منهم ( ، يعني من أهل الكتاب ، يعني
كفارهم ، ) ساء ما يعملون ) [ آية : 66 ] ، يعني بئس ما كانوا يعملون .
تفسير سورة المائدة آية [ 67 - 68 ]
المائدة : ( 67 ) يا أيها الرسول . . . . .
قوله سبحانه : ( يا أيها الرسول بلغ ( ، يعني محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ما أنزل إليك من ربك ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا اليهود إلى الإسلام ، فأكثر الدعاء ، فجعلوا يستهزئون
ويقولون : أتريد يا محمد أن تتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حنانا ؟(1/311)
صفحة رقم 312
فلما رأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك ، سكت عنهم ، فحرض الله ، يعني فحضض الله عز وجل النبي
( صلى الله عليه وسلم ) على الدعاء إلى الله عز وجل ، وألا يمنعه ذلك تكذيبهم إياه واستهزاؤهم ، فقال :
( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ( ) وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ( ، يعني من اليهود ، فلا تقتل ، ) إن الله لا يهدي القوم الكافرين (
[ آية : 67 ] ، يعني اليهود ، فلما نزلت هذه الآية ، أمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من القتل والخوف ،
فقال : ' لا أبالي من خذلني ومن نصرني ' ، وذلك أنه كان يخشى أن تغتاله اليهود فتقتله .
المائدة : ( 68 ) قل يا أهل . . . . .
ثم أخبره ماذا يبلغ ، فقال تعالى : ( قل يا أهل الكتاب ( ، يعني اليهود والنصارى ،
)( لستم على شيء ( من أمر الدين ، ) حتى تقيموا التوراة والإنجيل ( ، يقول : حتى
تتلوهما حق تلاوتهما كما أنزلهما الله عز وجل ، ) و ( تقيموا ) وما أنزل إليكم من ربكم ( من أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا تحرفوه عن مواضعه ، فهذا الذي أمر الله عز وجل أن
يبلغ أهل الكتاب ، ) وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك ( ، يعني ما في القرآن
من أمر الرجم والدماء ، ) طغيانا وكفرا ( ، يعني وجحودا بالقرآن ، ) فلا تأس على القوم ( ، يعني فلا تحزن يا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على القوم ) الكافرين ) [ آية : 68 ] ، يعني أهل
الكتاب إذ كذبوك بما تقول .
تفسير سورة المائدة آية [ 69 - 74 ]
المائدة : ( 69 ) إن الذين آمنوا . . . . .
قوله سبحانه : ( إن الذين آمنوا ( ، يعني الذين صدقوا ، ) والذين هادوا ( ، يعني(1/312)
صفحة رقم 313
اليهود ، ) والصابئون ( ، هم قوم من النصارى صبأوا إلى دين نوح وفارقوا هذه الفرق
الثلاث ، وزعموا أنهم على دين نوح ، عليه السلام ، وأخطأوا ؛ لأن دين نوح ، عليه
السلام ، كان على دين الإسلام ، ) والنصارى ( ، إنما سموا نصارى ؛ لأنهم ابتدعوا هذا
الدين بقرية تسمى ناصرة ، قال الله عز وجل : ( من آمن ( من هؤلاء ) بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ( ، وأدى الفرائض من قبل أن يبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فله الجنة ، ومن بقي
منهم إلى أن يبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلا إيمان له ، إلا أن يصدق بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فمن صدق بالله
عز وجل أنه واحد لا شريك له ، وبما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبالبعث الذي فيه جزاء
الأعمال ، ) فلا خوف عليهم ( من العذاب ، ) ولا هم يحزنون ) [ آية : 69 ] من
الموت .
المائدة : ( 70 ) لقد أخذنا ميثاق . . . . .
قوله سبحانه : ( لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل ( في التوراة على أن يعملوا بما
فيها ، ) وأرسلنا إليهم رسلا ( ، يعني وأرسل الله تعالى إليهم رسلا ، ) كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم ( ، يعني اليهود ، ) فريقا كذبوا ( ، يعني اليهود ، فريقا
كذبوا عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ومحمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وفريقا يقتلون ) [ آية : 70 ] ، يعني اليهود ، كذبوا
بطائفة من الرسل ، وقتلوا طائفة من الرسل ، يعني زكريا ، ويحيى في بني إسرائيل .
المائدة : ( 71 ) وحسبوا ألا تكون . . . . .
قوله عز وجل : ( وحسبوا ألا تكون فتنة ( ، يعني اليهود ، حسبوا ألا يكون شرك
ولا يبتلوا ولا يعاقبوا بتكذيبهم الرسل وبقتلهم الأنبياء ، أن لا يبتلوا بالبلاء والشدة من
قحط المطر ، ) فعموا ( عن الحق ، فلم يبصره ، ) وصموا ( عن الحق ، فلم يسمعوه ،
)( ثم تاب الله عليهم ( ، يقول : تجاوز عنهم ، فرفع عنهم البلاء ، فلم يتوبوا بعد رفع
البلاء ، ) ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون ) [ آية : 71 ] من
قتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل .
المائدة : ( 72 ) لقد كفر الذين . . . . .
قوله عز وجل : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ( ، نزلت
في نصارى نجران الماريعقوبيين ، منهم السيد والعاقب وغيرهما ، قالوا : إن الله هو المسيح
ابن مريم ، ) وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ( ، يعني وحدوا الله
ربي وربكم ، ) إنه من يشرك بالله ( ، فيقول : إن الله هو المسيح ابن مريم ، فيموت على
الشرك ، ) فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين ( ، يعني وما(1/313)
صفحة رقم 314
للمشركين ) من أنصار ) [ آية : 72 ] ، يعني من مانع يمنعهم من النار .
المائدة : ( 73 ) لقد كفر الذين . . . . .
) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ( ، يعني الملكانيين ، قالوا : الله
والمسيح ومريم ، يقول الله عز وجل تكذيبا لقولهم : ( وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ( من الشرك ) ليمسن ( ، يعني ليصيبن ) الذين كفروا منهم عذاب أليم ) [ آية : 73 ] ، يعني وجيع ، والقتل بالسيف ، والجزية على من بقي
منهم عقوبة .
المائدة : ( 74 ) أفلا يتوبون إلى . . . . .
ثم قال سبحانه يعيبهم : ( أفلا يتوبون إلى الله ( ، يعني أفهلا يتوبون إلى الله ،
)( ويستغفرونه ( من الشرك ، فإن فعلوا غفر لهم ، ) والله غفور ( لذنوبهم
) رحيم ) [ آية : 74 ] بهم .
تفسير سورة المائدة آية [ 75 - 81 ]
المائدة : ( 75 ) ما المسيح ابن . . . . .
ثم أخبر عن عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال سبحانه : ( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة ( ، يعني مؤمنة كقوله سبحانه : ( إنه كان صديقا نبيا ) [ مريم : 56 ] ، يعني مؤمناً نبياً ، وذلك حين قال لها جبريل عليه السلام :
( إنما أنا رسول ربك ) [ مريم : 19 ] ، وفي بطنك المسيح ، فآمنت بجبريل ، عليه
السلام ، وصدقت بالمسيح ابن مريم ، عليه السلام ، ثم سميت الصديقة ، وهي يومئذ في
محراب بيت المقدس ، ) كانا يأكلان الطعام ( ، فلو كانا إلاهين ما أكلا الطعام ،(1/314)
صفحة رقم 315
) انظر ( يا محمد ) كيف نبين لهم الآيات ( ، يعني العلامات في أمر عيسى
ومريم أنهم كانا يأكلان الطعام والآلهة لا تأكل الطعام ، ) ثم انظر أنى يؤفكون ) [ آية : 75 ] ، يعني من أين يكذبون ، فأعلمهم أني واحد .
المائدة : ( 76 ) قل أتعبدون من . . . . .
) قل ( لنصارى نجران ، ) أتعبدون من دون الله ( ، يعني عيسى ، ) ما لا يملك لكم ضرا ( في الدنيا ، ) ولا نفعا ( في الآخرة ، ) والله هو السميع (
لقولهم : إن الله هو المسيح ابن مريم ، وثالث ثلاثة ، ) العليم ) [ آية : 76 ] بمقالتهم .
المائدة : ( 77 ) قل يا أهل . . . . .
) قل يا أهل الكتاب ( ، يعني نصارى نجران ، ) لا تغلوا في دينكم ( عن دين
الإسلام فتقولوا ) غير الحق ( في عيسى ابن مريم ، ) ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا ( عن الهدى ) من قبل وأضلوا ( ، عن الهدى ) كثيرا ( من الناس ،
)( وضلوا عن سواء السبيل ) [ آية : 77 ] ، يعني وأخطأوا عن قصد سبل الهدى نزلت
في برصيصا .
المائدة : ( 78 ) لعن الذين كفروا . . . . .
) لعن الذين كفروا ( اليهود ) من بني إسرائيل ( ، يعني من سبط بني
إسرائيل ، ) على لسان داود ( ابن أنبشا ، وذلك أنهم صادوا الحيتان يوم السبت ، وكانوا
قد نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت ، قال دواد : اللهم إن عبادك قد خالفوا امرك
وتركوا أمرك ، فاجعلهم آية ومثلا لخلقك ، فمسخهم الله عز وجل قردة ، فهذه لعنة
داود ، عليه السلام ، ) وعيسى ابن مريم ( ، وأما لعنة عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإنهم أكلوا المائدة ،
ثم كفروا ورفعوا من المائدة ، فقال عيسى : اللهم إنك وعدتني أن من كفر منهم بعدما
يأكل من المائدة أن تعذبه عذابا لا تعذبه أحدا من العالمين ، اللهم العنهم كما لعنت
أصحاب السبت ، فكانوا خمسة آلاف ، فمسخهم الله عز وجل خنازير ، ليس فيهم امرأة
ولا صبي ، ) ذلك بما عصوا ( في ترك أمره ، ) وكانوا يعتدون ) [ آية : 78 ] في
دينهم .
المائدة : ( 79 ) كانوا لا يتناهون . . . . .
) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (
[ آية : 79 ] حين لم ينهوهم عن المنكر .
المائدة : ( 80 ) ترى كثيرا منهم . . . . .
ثم قال عز وجل : ( ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا ( ، يعني من
قريش ، ) لبئس ما قدمت لهم أنفسهم ( ؛ لأنهم ليسوا بأصحاب كتاب ، ) أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ) [ آية : 80 ] ،
المائدة : ( 81 ) ولو كانوا يؤمنون . . . . .
) ولو كانوا ( ، يعني اليهود ،
)( يؤمنون بالله ( ، يعني يصدقون بالله عز وجل بأنه واحد لا شريك له ، ) و ((1/315)
صفحة رقم 316
ب ) والنبي ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) وما أنزل إليه ( من القرآن ، ) ما اتخذوهم أولياء ( ، يقول :
ماتخذوا مشركي العرب أولياء ، ) ولكن كثيرا منهم ( من اليهود ) فاسقون (
[ آية : 81 ] ، يعني عاصين .
تفسير سورة المائدة آية [ 82 - 86 ]
المائدة : ( 82 ) لتجدن أشد الناس . . . . .
) لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ( ، كان اليهود
يعاونون مشركي العرب على قتال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويأمرونهم بالمسير إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( والذين أشركوا ( ، يعني مشركي العرب أيضا ، كانوا شديدي العداوة للنبي ( صلى الله عليه وسلم )
وأصحابه ، رضى الله عنهم ، ) ولتجدن أقربهم مودة ( ، وليس يعني في الحب ،
ولكن يعني في سرعة الإجابة للإيمان ، ) للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ( ،
وكانوا في قرية تسمى ناصرة ، ) ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ( ، يعني
متعبدين أصحاب الصوامع ، ) وأنهم لا يستكبرون ) [ آية : 82 ] ، يعني لا يتكبرون
عن الإيمان .
نزلت في أربعين رجلا من مؤمني أهل الإنجيل ، منهم اثنان وثلاثون رجلا قدموا من
أرض الحبشة مع جعفر بن أبي طالب ، رضى الله عنه ، وثمانية نفر قدموا من الشام معهم
بحيري الراهب ، وأبرهة ، والأشرف ، ودريس ، وتمام ، وقسيم ، ودريد ، وأيمن ، والقسيسون
الذين يحلقون أواسط رءوسهم ، وذلك أنهم حين سمعوا القرآن من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قالوا : ما
أشبه هذا بالذي كنا نتحدث به عن عيسى ابن مريم ( صلى الله عليه وسلم ) ، فبكوا وصدقوا بالله عز وجل
ورسله ، فنزلت فيهم :
المائدة : ( 83 ) وإذا سمعوا ما . . . . .
) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ( من القرآن ، ) ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا ( ، يعني صدقنا بالقرآن أنه من الله(1/316)
صفحة رقم 317
عز وجل ، ) فاكتبنا ( ، يعني فاجعلنا ) مع الشاهدين ) [ آية : 83 ] ، يعني مع
المهاجرين ، يعني من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، نظيرها في المجادلة : ( كتب في قلوبهم الإيمان (
[ المجادلة : 22 ] ، يقول : جعل في قلوبهم الإيمان ، وهو التوحيد .
المائدة : ( 84 ) وما لنا لا . . . . .
وقالوا : ( وما لنا لا نؤمن بالله ( ، وذلك أنهم لما أسلموا ورجعوا إلى أرضهم ، لامهم
كفار قومهم ، فقالوا : أتركتم ملة عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ودين آبائكم ، قالوا : نعم ، ) وما لنا لا نؤمن بالله ( ) وما جاءنا من الحق ( مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ونطمع ( ، يعني ونرجو ) أن يدخلنا ربنا ( الجنة ) مع القوم الصالحين ) [ آية : 84 ] ، وهم المهاجرين الأول ، رضوان الله
عليهم .
المائدة : ( 85 ) فأثابهم الله بما . . . . .
) فأثابهم الله بما قالوا ( من التصديق ، ) جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ( لا يموتون ، ) وذلك ( الثواب ) جزاء المحسنين ) [ آية : 85 ] .
المائدة : ( 86 ) والذين كفروا وكذبوا . . . . .
ثم قال
سبحانه : ( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ( ، يعني بالقرآن بأنه ليس من الله عز وجل ،
)( أولئك أصحاب الجحيم ) [ آية : 86 ] ، يعني ما عظم من النار ، يعني كفار النصارى
الذين لاموهم حين أسلموا وتابعوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
تفسير سورة المائدة آية [ 87 - 88 ]
المائدة : ( 87 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ( من اللباس
والنساء ، نزلت في عشر نفر ، منهم : علي بن أبي طالب ، رضى الله عنه ، وعمر ، وابن
مسعود ، وعمار بن ياسر ، وعثمان بن نظعون ، والمقداد بن الأسود ، وأبو ذر الغفاري ،
وسلمان الفارسي ، وحذيفة بن اليمان ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ورجل آخر ، اجتمعوا
في بيت عثمان بن مظعون ، رضى الله عنهم ، ثم قالوا : تعالوا حتى نحرم على أنفسنا
الطعام واللباس والنساء ، وأن يقطع بعضهم مذاكيره ، ويلبس المسرح ، ويبنوا الصوامع ،
فيترهبوا فيها ، فتفرقوا وهذا رأيهم .
فجاء جبريل ، عليه السلام ، فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك ، فأتى منزل عثمان بن مظعون ،
رضى الله عنه ، فلم يجدهم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لامرأة عثمان : أحق ما بلغني عن عثمان
وأصحابه ؟ ' ، قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فأخبرها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي بلغه ، فكرهت أن(1/317)
صفحة رقم 318
تكذب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو تفشى سر زوجها ، فقالت : يا رسول الله ، إن كان عثمان أخبرك
بشيء ، فقد صدقك ، أو أخبرك الله عز وجل بشيء ، فهو كما أخبرك ربك تعالى ذكره ،
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' قولى لزوجك إذا جاء : إنه ليس مني من لم يستن بسنتي ، ويهتد
بهدينا ، ويأكل من ذبائحنا ، فإن من سنتنا اللباس ، والطعام ، والنساء ، فأعلمي زوجك ،
وقولي له : من رغب عن سنتي فليس منى ' .
فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرته امرأته بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فما أعجبه ، فذروا الذي
ذكره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأنزل الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ( ) ولا تعتدوا ( ، فتحرموا حلاله ، ) إن الله لا يحب المعتدين ) [ آية : 87 ]
من يحرم حلاله ، ويعتدي في أمره عز وجل ،
المائدة : ( 88 ) وكلوا مما رزقكم . . . . .
) وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ( ،
اللباس ، والنساء ، والطعام ، ) واتقوا الله ( ، ولا تحرموا ما أحل الله لكم ، واتقوا الله ،
)( الذي أنتم به مؤمنون ) [ آية : 88 ] ، يقول : الذي أنتم به مصدقون .
تفسير سورة المائدة آية 89 ]
المائدة : ( 89 ) لا يؤاخذكم الله . . . . .
قوله سبحانه : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ( ، وهو الرجل يحلف على أمر
وهو يرى أنه فيه صادق وهو كاذب ، فلا إثم عليه ولا كفارة ، ) ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ( ، يقول : بما عقد عليه قلبك ، فتحلف وتعلم أنك كاذب ،
)( فكفارته ( ، يعني كفارة هذا اليمين الذي عقد عليها قلبه وهو كاذب ، ) إطعام عشرة مساكين ( ، لكل مسكين نصف صاع حنطة ، ) من أوسط ما تطعمون ( ، يعني
من أعدل ما تطعمون ) أهليكم ( من الشبع ، نظيرها في البقرة : ( جعلناكم أمة وسطا ) [ البقرة : 143 ] ، يعني عدلا ، قال سبحانه في ن : ( قال أوسطهم ) [ القلم :
28 ] ، يعني اعدلهم ، يقول : ليس بأدنى ما تأكلون ولا بأفضله .
ثم قال سبحانه : ( أو كسوتهم ( ، يعني كسوة عشرة مساكين ، لكل مسكين
عباءة أو ثوب ، ) أو تحرير رقبة ( ما ، سواء أكان المحرر يهوديا ، أو نصرانيا ، أو(1/318)
صفحة رقم 319
مجوسيا ، أو صابئيا ، فهو جائز ، وهو بالخيار في الرقبة ، أو الطعام ، أو الكسوة ، ) فمن لم يجد ( من هذه الخصال الثلاث شيئا ، ) فصيام ثلاثة أيام ( ، وهي في قراءة ابن
مسعود متتابعات ، ) ذلك ( الذي ذكر الله عز وجل ) كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم ( ، فلا تتعمدوا اليمين الكاذبة ، ) كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) [ آية : 89 ] ربكم في هذه النعم ، إذ جعل لكم مخرجا في إيمانكم فيما ذكر
في الكفارة .
تفسير سورة المائدة آية [ 90 - 93 ]
المائدة : ( 90 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ( ، نزلت في سعد بن أبي وقاص ،
رضى الله عنه ، وفي رجل من الأنصار ، يقال له : عتبان بن مالك الأنصاري ، وذلك أن
الأنصاري صنع طعاما ، وشوى رأس بعير ، ودعا سعد بن أبي وقاص إلى الطعام ، وهذا
قبل التحريم ، فأكلوا وشربوا حتى انتشوا ، وقالوا الشعر ، فقام الأنصاري إلى سعد ، فأخذ
إحدى لحيى البعير ، فضرب به وجهه فشجه ، فانطلق سعد مستعديا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ،
فنزل تحريم الخمر .
فقال سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ( ، يعني به القمار كله ،
)( والأنصاب ( ، يعني الحجارة التي كانوا ينصبونها ويذبحون لها ، ) والأزلام ( ، يعني
القدحين الذين كانوا يعملون بهما ، ) رجس ( ، يعني إثم ، ) من عمل الشيطان فاجتنبوه ( ، يعني من تزيين الشيطان ، ومثله في القصص : ( هذا من عمل الشيطان (
[ القصص : 15 ] ، ) فاجتنبوه ( ، فهذا النهي للتحريم ، كما قال سبحانه : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) [ الحج : 30 ] ، فإنه حرام ، كذلك فاجتنبوا الخمر ، فإنها حرام ،
)( لعلكم تفلحون ) [ آية : 90 ] يعني لكى .
المائدة : ( 91 ) إنما يريد الشيطان . . . . .
) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة ( ، يعني أن يغرى بينكم العداوة ،(1/319)
صفحة رقم 320
) والبغضاء ( الذي كان بين سعد وبين الأنصاري حتى كسر أنف سعد ، ) في الخمر والميسر ( ، ورث ذلك العداوة والبغضاء ، ) و ( يريد الشيطان أن ) ويصدكم عن ذكر الله ( ، يقول : إذا سكرتم لم تذكروا الله عز وجل ، ) وعن الصلاة ( ، يقول : إذا سكرتم
لم تصلوا ، ) فهل أنتم منتهون ) [ آية : 91 ] ، فهذا وعيد بعد النهى والتحريم ، قالوا :
انتهينا يا ربنا ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' يا أيها الذين آمنوا ، إن الله حرم عليكم الخمر ، فمن
كان عنده منها شيء ، فلا يشربها ، ولا يبيعها ، ولا يسقيها غيره ' .
قال : وقال أنس بن مالك : لقد نزل تحريم الخمر وما بالمدينة يومئذ خمر ، إنما كانوا
يشربون الفصيح ، وأما الميسر ، فهو القمار ، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يقول : أين
أصحاب الجزور ، فيقوم نفر ، فيشترون بينهم جزورا ، فيجعلون لكل رجل منهم سهم ،
ثم يقرعون ، فمن خرج سهمه برئ من الثمن ، وله نصيب في اللحم ، حتى يبقى
آخرهم ، فيكون عليه الثمن كله ، وليس له نصيب في اللحم ، وتقسم الجزور بين البقية
بالسوية .
وأما الأزلام ، فهي القداح التي كانوا يقتسمون الأمور بها ، قدحين مكتوب على
أحدهما : أمرني ربي ، وعلى الآخر : نهاني ربي ، فإذا أرادوا أمرا أتوا بيت الأصنام ،
فغطوا عليه ثوبا ، ثم ضربوا بالقداح ، فإن خرج أمرني ربي ، مضى على وجهه الذي
يريد ، وإن خرج نهاني ربي ، لم يخرج في سفره ، وكذلك كانوا يفعلون إذا شكوا في
نسبة رجل ، وأما الأنصاب ، فهي الحجارة التي كانوا ينصبونها حول الكعبة ، وكانوا
يذبحون لها .
المائدة : ( 92 ) وأطيعوا الله وأطيعوا . . . . .
ثم قال عز وجل : ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ( في تحريم الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام ، إلى آخر الآية ، ) واحذروا ( معاصيهما ، ) فإن توليتم ( ، يعني أعرضتم عن
طاعتهما ، ) فاعلموا أنما على رسولنا ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) البلاغ المبين ) [ آية : 92 ] ، في
تحريم ذلك ،
المائدة : ( 93 ) ليس على الذين . . . . .
فلما نزلت هذه الآية في تحريم الخمر ، قال حيى بن أخطب ، وأبو ياسر ،
وكعب بن الأشرف للمسلمين : فما حال من مات منكم ، وهم يشربون الخمر ؟ فذكروا
ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقالوا : إن إخواننا ماتوا وقتلوا ، وقد كانوا يشربونها ، فأنزل الله عز
وجل : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ( ، يعني حرج ، ) فيما طعموا ( ،
يعني شربوا من الخمر قبل التحريم ، ) إذا ما اتقوا ( المعاصي ، ) وآمنوا ( بالتوحيد ،(1/320)
صفحة رقم 321
) وعملوا الصالحات ( ، يعني أقاموا الفرائض قبل التحريم ، ) ثم اتقوا ( المعاصي ،
)( وآمنوا ( بما يجيء من الناسخ والمنسوخ ، ) ثم اتقوا ( المعاصي بعد تحريمها ،
)( وآمنوا ( ، يعني وصدقوا ، ) ثم اتقوا ( الشرك ) وأحسنوا ( العمل بعد تحريمها ، فمن
فعل ذلك ، فهو محسن ، ) والله يحب المحسنين ) [ آية : 93 ] ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للذي سأله :
' قيل لي إنك من المحسنين ' .
تفسير سورة المائدة آية [ 94 - 96 ]
المائدة : ( 94 ) يا أيها الذين . . . . .
وقوله سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد ( ، يعني ببعض الصيد ،
فخص صيد البر خاصة ، ولم يعم الصيد كله ؛ لأن للبحر صيدا ، ) تناله أيديكم ( ،
يقول : تأخذون صغار الصيد بأيديكم أخذا بغير سلاح ، ثم قال سبحانه : ( ورماحكم ( ،
يعني وسلاحكم النبل والرماح ، بها يصيبون كبار الصيد ، وهو عام حبس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن
مكة عام الحديبية ، وأقام بالتنعيم ، فصالحهم على أن يرجع عامة ذلك ، ولا يدخل مكة ،
فإذا كان العام المقبل ، أخلوا له مكة فدخلها في أصحابه ، رضى الله عنهم ، وأقام بها
ثلاثا ، ورضى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك ، فنحر البدن مائة بدنة ، فجاءت السباع والطير تأكل
منها ، فنهى الله عز وجل عن قتل الصيد في الحرم ، ) ليعلم الله ( ، لكي يرى الله ، ) من يخافه بالغيب ( ، يقول : من يخاف الله عز وجل ولم يره ، فلم يتناول الصيد ، وهو محرم ،
)( فمن اعتدى بعد ذلك ( ، يقول : فمن أخذ الصيد عمدا بعد النهى ، فقتل الصيد وهو
محرم ، ) فله عذاب أليم ) [ آية : 94 ] ، يعني ضربا وجيعا ، ويسلب ثيابه ، ويغرم الجزاء ،
وحكم ذلك إلى الإمام ، فهذا العذاب الأليم .
المائدة : ( 95 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ( ، وذلك أن أبا بشر ،
واسمه : عمرو بن مالك الأنصاري ، كان محرما في عام الحديبية بعمرة ، فقتل حمار(1/321)
صفحة رقم 322
وحش ، فنزلت فيه : ( ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ( ) ومن قتله منكم متعمدا ( لقتله ناسيا
لإحرامه ، ) فجزاء ( ، يعني جزاء الصيد ، ) مثل ما قتل من النعم ( ، يعني من الأزواج
الثمانية إن كان قتل عمدا أو خطأ ، أو أشار إلى الصيد فأصيب ، فعليه الجزاء ، ) يحكم به ذوا عدل منكم ( ، يعني يحكم بالكفارة رجلان من المسلمين عدلين فقيهين يحكمان
في قاتل الصيد جزاء مثل ما قتل من النعم ، إن قتل حمار وحش ، أو نعامة ، ففيها بعيرا
بنحره بمكة ، يطعم المساكين ولا يأكل هو ولا أحد من أصحابه ، وإن كان من ذوات
القرون الأيل والوعل ونحوهما ، فجزاؤه أن يذبح بقرة للمساكين ، وفي الطير ونحوها
جزاؤه أن يذبح شاة مسنة ، وفي الحمام شاة ، وفي بيض الحمام إذا كان فيه فرخ درهم ،
وإن لم يكن فيه فرخ ، فنصف درهم ، وفي ولد الحمار الوحش ولد بعير مثله ، وفي ولد
النعامة ولد بعير مثله ، وفي ولد الأيل والوعل ونحو ولد بقرة مثله ، وفي فرخ الحمام
ونحوه ولد شاة مثله ، وفي ولد الظبي ولد شاة مثله .
) هديا بالغ الكعبة ( ، يعني ينحر بمكة ، كقوله سبحانه في الحج : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) [ الحج : 33 ] ، تذبح بأرض الحرم ، فتطعم مساكين مكة ، ) أو كفارة طعام مساكين ( ، لكل مسكين نصف صاع حنطة ، ) أو عدل ذلك صياما ( ، يقول : إن
لم يقدر على الهدى ولا على ثمنه ، ولا على إطعام المساكين ، فليصم مكان كل مسكين
يوما ، ينظر ثمن الهدى فيجعله دراهم ، ثم ينظر كم يبلغ الطعام بتلك الدراهم بسعر مكة ،
فيصوم مكان كل مسكين يوما ، وبكل مسكين نصف صاع حنطة ، ) ليذوق وبال أمره ( ، يعني جزاء ذنبه ، يعني الكفارة عقوبة له بقتله الصيد ، ) عفا الله عما سلف ( ،
يقول : عفا الله كما كان منه قبل التحريم ، يقول : تجاوز الله عما صنع في قتله الصيد
متعمدا قبل نزول هذه الآية ، ) ومن عاد ( بعد النهي إلى قتل الصيد ، ) فينتقم الله منه ( بالضرب والفدية وينزع ثيابه ، ) والله عزيز ( ، يعني منيع في ملكه ، ) ذو انتقام ) [ آية : 95 ] ، من أهل معصيته فيمن قتل الصيد ، نزلت هذه الآية قبل الآية
الأولى : ( فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ( .
المائدة : ( 96 ) أحل لكم صيد . . . . .
ثم قال عز وجل : ( أحل لكم صيد البحر ( ، يعني السمك الطري ، وشيء يفرخ في
الماء لا يفرخ في غيره ، فهو للمحرم حلال ، ثم قال : ( وطعامه ( ، يعني مليح السمك ،
)( متاعا لكم ( ، يعني منافع لكم ، يعني للمقيم ) وللسيارة ) ، يعني للمسافر ، ) وحرم
عليكم صيد البر ما دمتم حرما ( ، يعني ما دمتم محرمين ، ) واتقوا الله ( ، ولا تستحلوا(1/322)
صفحة رقم 323
الصيد في الإحرام ، ثم حذرهم قتل الصيد ، فقال سبحانه : ( الذي إليه تحشرون (
[ آية : 96 ] في الآخرة ، فيجزيكم بأعمالكم .
تفسير سورة المائدة آية [ 97 - 99 ]
المائدة : ( 97 ) جعل الله الكعبة . . . . .
قوله سبحانه : ( جعل الله الكعبة البيت الحرام ( ، أنها سميت الكعبة ؛ لأنها
منفردة من البنيان ، وكل منفرد من البنيان فهو في كلام العرب الكعبة ، قال أبو محمد :
قال ثعلب : العرب تسمى كل بيت مربع الكعبة ، ) قياما للناس ( ، يعني أرض الحرم
أمنا لهم وحياة لهم في الجاهلية . قال : كان أحدهم إذا أصاب ذنبا أو أحدث حدثا يخاف
على نفسه ، دخل الحرم فأمن فيه ، ) والشهر الحرام ( ، قال : كان الرجل إذا أراد سفرا
في أمره ، فإن كان السفر الذي يريده يعلم أنه يذهب ويرجع قبل أن يمضي الشهر الحرام
توجه آمنا ، ولم يقلد نفسه ولا راحلته ، وإن كان يعلم أنه لا يقدر على الرجوع حتى
يمضي الشهر الحرام ، قلد نفسه وبعيره من لحا شجر الحرم فيأمن به حيث ما توجه من
البلاد ، فمن ثم قال سبحانه : ( والهدي والقلائد ( كل ذلك كان قواما لهم وأمنا في
الجاهلية ، نظيرها في أول السورة ، ) ذلك ( ، يقول : هذا ) لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ( ، قبل أن يكونا ، ويعلم أنه سيكون من أمركم الذي كان ،
)( وأن الله بكل شيء ( من أعمال العباد ، ) عليم ) [ آية : 97 ] .
المائدة : ( 98 ) اعلموا أن الله . . . . .
ثم خوفهم ألا يستحلوا الغارة في حجاج اليمامة ، يعني شريحا وأصحابه ، فقال :
( اعلموا أن الله شديد العقاب ( إذا عاقب ، ) وأن الله غفور رحيم ) [ آية : 98 ] لمن
أطاعه بعد النهى ،
المائدة : ( 99 ) ما على الرسول . . . . .
ثم قال عز وجل : ( ما على الرسول ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) إلا البلاغ ( في
أمر حجاج اليمامة ، شريح بن ضبيعة وأصحابه ، ) والله يعلم ما تبدون ( ، يعني ما تعلنون
بألسنتكم ، ) وما تكتمون ) [ آية : 99 ] من أمر حجاج اليمامة والغارة عليهم .
تفسير سورة المائدة آية 100
المائدة : ( 100 ) قل لا يستوي . . . . .
) قل ( لهم يا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) لا يستوي الخبيث والطيب ( ، يعني بالخبيث الحرام ،(1/323)
صفحة رقم 324
والطيب الحلال ، نزلت في حجاج اليمامة حين أراد المؤمنون الغارة عليهم ، ) ولو أعجبك كثرة الخبيث ( ، يعني الحرام ، ثم حذرهم ، فقال سبحانه : ( فاتقوا الله ( ، ولا
تستحلوا منهم محرما ، ) يا أولي الألباب ( ، يعني يا أهل اللب والعقل ، ) لعلكم تفلحون ) [ آية : 100 ] .
تفسير سورة المائدة آية [ 101 - 104 ]
المائدة : ( 101 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسوءكم ( ، نزلت
في عبد الله بن جحش بن رباب الأسدي ، من بنى غنم ابن دودان ، وفي عبد الله بن
حذافة القرشي ، ثم السهمي ، وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' يا أيها الناس ، إن الله كتب
عليكم الحج ' ، فقال عبد الله بن جحش ، أفي كل عام ؟ فسكت عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم أعاد قوله ،
فسكت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم عاد ، فغضب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ونخسه بقضيب كان معه ، ثم قال :
' ويحك ، لو قلت نعم لوجبت ، فاتركوني ما تركتكم ، فإذا أمرتكم بأمر فافعلوه ، وإذا
نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه ' ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أيها الناس ، إنه قد رفعت لي الدنيا ،
فأنا أنظر إلى ما يكون في أمتي من الأحداث إلى يوم القيامة ، ورفعت لي أنساب العرب ،
فأنا أعرف أنسابهم رجلا رجلا ' .
فقام رجل ، فقال : يا رسول الله ؟ أين أنا ؟ قال : ' أنت في الجنة ' ، ثم قام آخر ، فقال :
أين أنا ؟ قال : ' في الجنة ' ، ثم قام الثالث ، فقال : أين أنا . فقال : ' أنت في النار ' ، فرجع
الرجل حزينا ، وقام عبد الله بن حذافة ، وكان يطعن فيه ، فقال : يا رسول الله ، من أبى ؟
قال : ' أبوك حذافة ' ، وقام رجل من بني عبد الدار ، فقال يا رسول الله ، من أبي ؟ قال :
' أبوك سعد ' ، نسبه إلى غير أبيه ، فقام عمر بن الخطاب ، فقال : يا رسول الله ، استر علينا
يستر الله عليك ، أنا قوم قريبو عهد بالشرك ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' خيرا ' ، فأنزل الله
عز وجل : ( لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ( ، يعني إن تبين لكم فلعلكم إن(1/324)
صفحة رقم 325
تسألوا عما لم ينزل به قرآنا فينزل به قرآنا مغلظا لا تطيقوه ، قوله سبحانه : ( وإن تسئلوا
عنها حين ينزل القرآن ( ، يعني عن الأشياء حين ينزل بها قرآنا ، ) تبد لكم ( تبين
لكم ، ) عفا الله عنها ( ، يقول : عفا الله عن تلك الأشياء حين لم يوجبها عليكم ،
)( والله غفور حليم ) [ آية : 101 ] ، يعني ذو تجاوز حين لا يعجل بالعقوبة .
المائدة : ( 102 ) قد سألها قوم . . . . .
ثم قال عز وجل : ( قد سألها قوم ( ، يقول : قد سأل عن تلك الأشياء ، ) من قبلكم ( ، يعني من بني إسرائيل ، فبينت لهم ، ) ثم أصبحوا بها كافرين ) [ آية :
102 ] ، وذلك أن بني إسرائيل سألوا المائدة قبل أن تنزل ، فلما نزلت كفروا بها ، فقالوا :
ليست المائدة من الله ، وكانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء ، فإذا أخبروهم بها تركوا
قولهم ، ولم يصدقوهم ، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين .
المائدة : ( 103 ) ما جعل الله . . . . .
قوله سبحانه : ( ما جعل الله ( حراما ، ) من بحيرة ( لقولهم : إن الله أمرنا بها ،
نزلت في مشركي العرب ، منهم : قريش ، وكنانة ، وعامر بن صعصعة ، وبنو مدلج ،
والحارث وعامر ابنى عبد مناة ، وخزاعة ، وثقيف ، أمرهم بذلك في الجاهلية عمرو بن
ربيعة بن لحى بن قمعة بن خندف الخزاعي ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' رأيت عمرو بن ربيعة
الخزاعي رجلا قصيرا ، أشقر ، له وفرة ، يجر قصبة في النار ، يعني أمعاءه ، وهو أول من
سيب السائبة ، واتخذ الوصيلة ، وحمى الحامي ، ونصب الأوثان حول الكعبة ، وغير دين
الحنفية ، فأشبه الناس به أكثم بن لجون الخزاعي ' ، فقال أكثم : أيضرني شبهه يا رسول
الله ؟ قال : ' لا ، أنت مؤمن وهو كافر ' .
والبحيرة الناقة إذا ولدت خمسة أبطن ، فإذا كان الخامس سقيا ، وهو الذكر ، ذبحوه
الآلهة ، فكان لحمه للرجال دون النساء ، وإن كان الخامس ربعة ، يعني أنثى ، شقوا
أذنيها ، فهي البحيرة ، وكذلك من البقر ، لا يجز لها وبر ، ولا يذكر اسم الله عليها إن
ركبت ، أو حمل عليها ، ولبنها للرجال دون النساء ، وأما السائبة ، فهي الأنثى من الأنعام
كلها ، كان الرجل يسيب للآلهة ما شاء من إبله وبقره وغنمه ، ولا يسيب إلا الأنثى ،
وظهورها ، وأولادها ، وأصوافها ، وأوبارها ، وأشعارها ، وألبانها للآلهة ، ومنافعها للرجال
دون النساء ، وأما الوصيلة ، فهي الشاة من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن عمدوا إلى
السابع ، فإن كان جديا ذبحوه للآلهة ، وكان لحمه للرجال دون النساء ، وإن كانت عتاقا
استحيوها ، فكانت من عرض الغنم .(1/325)
صفحة رقم 326
قال عبد الله بن ثابت : قال أبي : قال أبو صالح : قال مقاتل : وإن وضعته ميتا ، أشرك
في أكله الرجال والنساء ، فذلك قوله عز وجل : ( وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء (
[ الأنعام : 139 ] ، بأن ولدت البطن السابع جديا وعتاقا ، قالوا : إن الأخت قد وصلت
أخاها ، فرحمته علينا ، فحرما جميعا ، فكانت المنفعة للرجال دون النساء ، وأما الحام ، فهو
الفحل من الإبل إذا ركب أولاد أولاده ، فبلغ ذلك عشرة أو أقل من ذلك ، قالوا : قد
حمى هذا ظهره ، فأحرز نفسه ، فيهل للآلهة ولا يحمل عليه ، ولا يركب ، ولا يمنع من
مرعى ، ولا ماء ، ولا حمى ، ولا ينحر أبدا حتى يموت موتا ، فأنزل الله عز وجل : ( ما جعل الله ( حراما ، ) من بحيرة ( ) ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا (
من قريش وخزاعة من مشركي العرب ، ) يفترون على الله الكذب ( ؛ لقولهم : إن الله
أمرنا بتحريمه حين قالوا في الأعراف : ( والله أمرنا بها ) [ الأعراف : 28 ] ، يعني
بتحريمها ، ثم قال : ( وأكثرهم لا يعقلون ) [ آية : 103 ] أن الله عز وجل لم يحرمه .
المائدة : ( 104 ) وإذا قيل لهم . . . . .
قوله سبحانه : ( وإذا قيل لهم ( ، يعني مشركي العرب ، ) تعالوا إلى ما أنزل الله (
في كتابه من تحليل ما حرم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، ) وإلى الرسول (
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءاباءنا ( من أمر الدين ، فإنا أمرنا أن نعبد ما
عبدوا ، يقول الله عز وجل : ( أولو كان ءاباؤهم ( ، يعني فإن كان آباؤهم ، ) لا يعلمون شيئا ( من الدين ، ) ولا يهتدون ) [ آية : 104 ] له ، أفتتبعونهم ؟ .
تفسير سورة المائدة آية 105
المائدة : ( 105 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا قبل الجزية إلا من
أهل الكتاب ، فلما أسلم العرب طوعا وكرها قبل الجزية من مجوس هجر ، فطعن
المنافقون في ذلك ، فنزلت : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ( ، يقول : اقبلوا على
أنفسكم ، فانظروا ما ينفعكم في أمر آخرتكم ، فاعملوا به ، ) لا يضركم من ضل ( من
أهل هجر ، نزلت في رجل من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) إذا اهتديتم إلى الله ( عز وجل
) مرجعكم ( في الآخرة ، ) جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ) [ آية : 105 ] .
تفسير سورة المائدة آية [ 106 - 108 ](1/326)
صفحة رقم 327
المائدة : ( 106 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ( ، نزلت في بديل بن أبي
مارية مولى العاص بن وائل السهمي ، كان خرج مسافرا في البحر إلى أرض النجاشي
ومعه رجلان نصرانيان ، أحدهما يسمى تميم بن أوس الداري ، وكان من لخم ، وعدى
بن بندا ، فمات بديل وهم في البحر ، فرمى به في البحر ، قال : ( حين الوصية ( ،
وذلك أنه كتب وصيته ، ثم جعلها في متاعه ، ثم دفعه إلى تميم وصاحبه ، وقال لهما :
أبلغا هذا المتاع إلى أهلي ، فجاءا ببعض المتاع وحبسا جاما من فضة مموها بالذهب ،
فنزلت : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية ( يقول : عند الوصية يشهدون وصيته .
) اثنان ذوا عدل منكم ( من المسلمين في دينهما ، ) أو آخران من غيركم ( ، يعني
من غير أهل دينكم النصرانيين ، تميم الداري وعدى بن بندا ، ) إن أنتم ضربتم في الأرض ( يا معشر المسلمين للتجارة ، ) فأصابتكم مصيبة الموت ( ، يعني بديل بن أبي
مارية حين انطلق تاجرا في البحر ، وانطلق معه تميم وعدى صاحباه ، فحضره الموت ،
فكتب وصيته ، ثم جعلها في المتاع ، فقال : أبلغا هذا المتاع إلى أهلي ، فلما مات بديل ،
قبضا المتاع ، فأخذا منه ما أعجبهما ، وكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال
منقوش مموه بالذهب ، فلما رجعا من تجارتهما دفعا بقية المال إلى ورثته ، ففقدوا بعض
متاعه ، فنظروا إلى الوصية ، فوجدوا المال فيه تاما لم يبع منه ، ولم يهب ، فكلموا وتميما
وصاحبه ، فسألوهما : هل باع صاحبنا شيئا أو اشترى شيئا فخسر فيه ، أو طال مرضه
فأنفق على نفسه ؟ فقال : لا ، قالوا : فإنا قد فقدنا بعض ما أبدى به صاحبنا ، فقالا : ما لنا
بما أبدى ، ولا بما كان في وصيته علم ، ولكنه دفع إلينا هذا المال ، فبلغناكم إياه .
فرفعوا أمرهم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فنزلت : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم(1/327)
صفحة رقم 328
الموت ( ، يعني بديلب بن أبي مارية ، ) اثنان ذوا عدل منكم ( ، يعني من المسلمين ،
عبد الله بن عمرو بن العاص ، والمطلب بن أبي وداعة السهميان ، ) أو آخران من
غيركم ( من غير أهل دينكم ، يعني النصرانيين ، ) إن أنتم ( معشر المسلمين ) ضربتم في
الأرض ( تجارا ) فأصابتكم مصيبة الموت ( ، يعني بديل بن أبي مارية مولى العاص بن
وائل السهمي ، ) تحسبونهما ( ، يعني النصرانيين تقيمونهما ، ) من بعد الصلاة (
صلاة العصر ، ) فيقسمان بالله ( ، فيحلفان بالله ، ) إن ارتبتم ( ، يعني إن
شككتم ، نظيرها في النساء القصرى ، أن المال كان أكثر من هذا الذي أتيناكم به ، ) لا
نشتري به ثمنا ( ، يقول : لا نشتري بأيماننا عرضا من الدنيا ، ) ولو كان ذا قربى ( ، يقول :
ولو كان الميت ذا قرابة منا ، ) ولا نكتم شهادة الله إنا إذا ( إن كتمنا شيئا من المال ،
)( لمن الآثمين ) [ آية : 106 ] بالله عز وجل .
المائدة : ( 107 ) فإن عثر على . . . . .
فحلفهما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند المنبر بعد صلاة العصر ، فحلفا أنهما لم يخونا شيئا من المال ،
فخلى سبيلهما ، فلما كان بعد ذلك ، وجدوا الإناء الذي فقدوه عند تميم الداري ، قالوا :
هذا من آنية صاحبنا الذي كان أبدى بها ، وقد زعمتما أنه لم يبع ولم يشتر ولم ينفق
على نفسه ، فقالا : قد كنا اشتريناه منه ، فنسينا أن نخبركم به ، فرفعوهما إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم )
الثانية : فقالوا : يا رسول الله ، إنا وجدنا مع هذين إناء من فضة من متاع صاحبنا ، فأنزل
الله عز وجل : ( فإن عثر على أنهما استحقا إثما ( ، يقول : فإن اطلع على أنهما ، يعني
النصرانيين كتما شيئا من المال أو خانا ، ) فآخران ( من أولياء الميت ، يعني عبد الله بن
عمرو بن العاص ، والمطلب بن أبي وداعة السهميان ، ) يقومان مقامهما ( ، يعني مقام
النصرانيين ، ) من الذين استحق ) ) الإثم ( ( عليهم الأوليان فيقسمان بالله ( ، يعني
فيحلفان بالله في دبر صلاة العصر أن الذي في وصية صاحبنا حق ، وأن المال كان أكثر
مما أتيتمانا به ، وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه ، وكتبه في وصيته ،
وأنكما خنتما ، فذلك قوله سبحانه : ( لشهادتنا ( ، يعني عبد الله بن عمرو بن العاص ،
والمطلب ، ) أحق من شهادتهما ( ، يعني النصرانيين ، ) وما اعتدينا ( بشهادة المسلمين
من أولياء الميت ، ) إنا إذا لمن الظالمين ) [ آية : 107 ] .
المائدة : ( 108 ) ذلك أدنى أن . . . . .
) ذلك أدنى ( ، يعني أجدر ، نظيرها في النساء ، ) أن يأتوا ( ، يعني النصرانيين ،
)( بالشهادة على وجهها ( ، كما كانت ولا يكتمان شيئا ، ) أو يخافوا أن ترد أيمان بعد
أيمانهم ( ، يقول : أو يخافوا أن يطلع على خيانتهم فيرد شهادتهما بشهادة الرجلين(1/328)
صفحة رقم 329
المسلمين من أولياء الميت ، فحلف عبد الله والمطلب كلاهما أن الذي في وصية الميت
حق ، وأن هذا الإناء من متاع صاحبنا ، فأخذوا تميم بن أوس الداري ، وعدى بن بندا
النصرانيين بتمام ما وجدوا في وصية الميت حين اطلع الله عز وجل على خيانتهما في
الإناء ، ثم وعظ الله عز وجل المؤمنين ألا يفعلوا مثل هذا ، وألا يشهدوا بما لم يعاينوا
ويروا ، فقال سبحانه يحذرهم نقمته : ( واتقوا الله واسمعوا ( مواعظه ، ) والله لا يهدي القوم الفاسقين ) [ آية : 108 ] ، وأن تميم بن أوس الداري اعترف بالخيانة ، فقال له النبي
( صلى الله عليه وسلم ) : ' ويحك يا تميم ، أسلم يتجاوز الله عنك ما كان في شركك ' ، فأسلم تميم الداري ،
وحسن إسلامه ، ومات عدى بن بندا نصرانيا .
تفسير سورة المائدة آية [ 109 - 118 ](1/329)
صفحة رقم 330
المائدة : ( 109 ) يوم يجمع الله . . . . .
قوله سبحانه : ( يوم يجمع الله الرسول ( ، يعني الأنبياء ، عليهم السلام ، ) فيقول ماذا أجبتم ( في التوحيد ، ) قالوا لا علم لنا ( ، وذلك أول ما بعثوا عند زفرة جهنم ؛
لأن الناس إذا خرجوا من قبورهم تاهت عقولهم ، فجالوا في الدنيا ثلاثين سنة ، ويقال :
أربعين سنة ، ثم ينادي مناد عند صخرة بيت المقدس : يا أهل الدنيا ، ها هنا موضع
الحساب ، فيسمع النداء جميع الناس ، فيقبلون نحو الصوت ، فإذا اجتمعوا ببيت المقدس ،
زفرت جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا ظن أنه لو جاء بعمل سبعين
نبيا ما نجا ، فعند ذلك تاهت عقولهم ، فيقول لهم عند ذلك ، يعني المرسلين : ( ماذا أجبتم ( في التوحيد ، ) قالوا لا علم لنا ( ) إنك أنت علام الغيوب ) [ آية : 109 ] ،
ثم رجعت عقولهم بعد ذلك إليهم فشهدوا على قومهم أنهم قد بلغوا الرسالة عن
ربهم ، فذلك قوله سبحانه : ( ويقول الأشهاد ( ، يعني الأنبياء ) هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ) [ هود : ] 18 ] .
المائدة : ( 110 ) إذ قال الله . . . . .
قوله سبحانه : ( إذ قال الله ياعيسى ابن مريم ( في الآخرة ، ) اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ( ، يعني مريم ، عليهما السلام ، ) إذ أيدتك بروح القدس ( ، فالنعمة
على عيسى حين أيده بروح القدس ، يعني جبريل ، عليه السلام ، ) تكلم الناس في المهد ( صبيا ) و ( تكلمهم ) وكهلا وإذ علمتك الكتاب ( ، يعني خط
الكتاب بيده ، ) والحكمة ( ، يعني الفهم والعلم ، ) والتوراة والإنجيل ( ، يعني علم
التوراة والإنجيل ، وجعله نبيا ورسولا إلى بني إسرائيل ، ) وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ( ، يعني الخفاش ، ) بإذني فتنفخ فيها ( ، يعني في الهيئة ، ) فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه ( ، يعني الأعمى الذي يخرج من بطن أمه أعمى ، ) و ( يبرئ
) والأبرص ( ، يمسحها بيده فيبرئها ) بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني ( أحياء ، ) وإذ كففت بني إسرائيل عنك ( ، أي عن قتلك ، ) إذ جئتهم بالبينات ( ، وهي أحياء
سام بن نوح بإذن الله .
فيقوم عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) يوم القيامة بهؤلاء الكلمات خطيبا على رءوس الخلائق ، ويخطب
إبليس ، لعنه الله ، على اهل النار بهذه الآية : ( إن الله وعدكم ( إلى قوله :
( بمصرخكم ( ، يعني بمانعكم من العذاب ، ) وما أنتم بمصرخي ( ، يعني بمانعي
من العذاب ، ) إني كفرت ( ، يعني تبرأت ) بما أشركتمون من قبل ) [ إبراهيم :
22 ] ، أي في الدار الدنيا ، وأما النعمة على مريم ، عليها السلام ، فهي أنه اصطفاها ،(1/330)
صفحة رقم 331
يعني اختارها ، وطهرها من الإثم ، واختارها على نساء العالمين ، وجعلها زوجة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
في الجنة .
قوله سبحانه : ( تكلم الناس في المهد ( ، يعني تكلم بني إسرائيل صبيا في المهد
حين جاءت به أمه تحمله ، ويكلمهم كهلا حين اجتمع واستوت لحيته ، ) وإذ علمتك الكتاب ( ، يعني خط الكتاب بيده ، ) والحكمة ( ، يعني الفهم والعلم ، وإذ علمتك
التوراة والإنجيل ، ) وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ( ، يعني الخفاش ، ) فتنفخ فيها ( ، يعني في الهيئة ، ) فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه ( الذي يخرج من بطن أمه
أعمى ، فكان عيسى ، عليه السلام ، يرد إليه بصره بإذن الله تعالى ، فيمسح بيده عليه ، فإذا
هو صحيح بإذن الله ، وأحيا سام بن نوح بإذن الله ، حيث كلمه الناس ، ثم مات فعاد
كما كان ، ) وإذ كففت بني إسرائيل عنك ( ، يعني عن قتلك حين رفعه الله عز
وجل إليه ، وقتل شبيهه ، وهو الرقيب الذي كان عليه ، ) إذ جئتهم بالبينات ( ، يعني
بالعجائب التي كان يصنعها من إبراء الأكمه والأبرص والموتى والطير ونحوه .
) فقال الذين كفروا منهم ( ، يعني من اليهود من بني إسرائيل ، ) إن هذا إلا سحر مبين ) [ آية : 110 ] ، يعني ما هذا الذي يصنع عيسى من الأعاجيب إلا سحر مبين ،
يعني بين ، نظيرها في الصف ،
المائدة : ( 111 ) وإذ أوحيت إلى . . . . .
) وإذا أوحيت إلى الحواريين ( ، وهم القصارون مبيضو
الثياب ، وكانوا اثنى عشر رجلا ، والوحى إليهم من الله عز وجل هو إلهام قذف في
قلوبهم التصديق بالله عز وجل ، بأنه واحد لا شريك له ، فذلك قوله عز وجل : ( أن آمنوا بي ( أن صدقوا بأني واحد ليس معي شريك ، ) وبرسولي ( ، عيسى ابن مريم
أنه نبى رسول ، ) قالوا آمنا ( ، يعني صدقنا بما جاء به من عند الله ، ونشهد أن الله عز
وجل واحد لا شريك له ، وأنك رسوله ، ) وأشهد ( يا عيسى ) بأننا مسلمون ) [ آية :
111 ] ، يعني مخلصون بالتوحيد .
المائدة : ( 112 ) إذ قال الحواريون . . . . .
) إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك ( ، يقول : هل يقدر على
أن يعطيك ربك إن سألته ) أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله ( ، فلا تسألوه
البلاء ، ) إن كنتم مؤمنين ) [ آية : 112 ] ، فإنها إن نزلت ثم كذبتم عوقبتم ،
المائدة : ( 113 ) قالوا نريد أن . . . . .
) قالوا
نريد أن تأكل منها ( ، فقد جعنا ، ) وتطمئن قلوبنا ( ، يعني وتسكن قلوبنا إلى ما
تدعونا إليه ، ) ونعلم أن قد صدقتنا ( بأنك نبى رسول ، ) ونكون عليها من(1/331)
صفحة رقم 332
الشاهدين ) [ آية : 113 ] ، يعني على المائدة عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم ، وكان
القوم الذين خرجوا وسألوا المائدة خمسة آلاف بطريق ، وهم الذين سألوا المائدة مع
الحواريين .
المائدة : ( 114 ) قال عيسى ابن . . . . .
) قال عيسى ابن مريم ( ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذلك ، ) اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون
لنا عيدا لأولنا وآخرنا ( ، يقول : تكون عيدا لمن كان في زماننا عند نزول المائدة ،
وتكون عيدا لمن بعدنا ، ) و ( تكون المائدة ) وآية منك وارزقنا ( ، يعني المائدة ،
)( وأنت خير الرازقين ) [ آية : 114 ] ، من غيرك ، يقول : فإنك خير من يرزق .
المائدة : ( 115 ) قال الله إني . . . . .
) قال الله ( عز وجل ، ) إني منزلها ( يعني المائدة ، ) عليكم ( ، فنزلها يوم
الأحد ، ) فمن يكفر بعد ( نزول المائدة ، ) منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من
العالمين ) [ آية : 115 ] ، فنزلت من السماء عليها سمك طرى ، وخبز رقاق ، وتمر ،
وذكروا أن عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأصحابه وهم جلوس في ورضة : هل مع أحد منكم شيء ؟
فجاء شمعون بسمكتين صغيرتين ، وخمسة أرغفة ، وجاء آخر بشيء من سويق ، فعمد
عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) فقطعهما صغارا وكسر الخبز ، فوضعها فلقا فلقا ، ووضع السويق فتوضأ ، ثم
صلى ركعتين ، ودعا ربه عز وجل ، فألقى الله عز وجل على أصحابه شبه السبات ، ففتح
القوم أعينهم ، فزاد الطعام حتى بلغ الركب ، فقال عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) للقوم : كلوا وسموا الله عز
وجل ، ولا ترفعوا ، وأمرهم أن يجلسوا حلقا حلقا ، فأكلوا حتى شبعوا ، وهم خمسة
آلاف رجل ، وهذا ليلة الأحد ويوم الأحد .
فنادى عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : أكلتم ؟ قالوا : نعم ، قال : لا ترفعوا ، قالوا : لا نرفع ، فرفعوا ،
فبلغ ما رفعوا من الفضل أربعة وعشرين مكتلا ، فآمنوا عند ذلك بعيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ، وصدقوا
به ، ثم رجعوا إلى قومهم اليهود من بني إسرائيل ، ومعهم فضل المائدة ، فلم يزالوا بهم
حتى ارتدوا عن الإسلام ، فكفروا بالله ، وجحدوا بنزول المائدة ، فمسخهم الله عز وجل
وهم نيام خنازير ، وليس غيهم صبى ولا امرأة .
المائدة : ( 116 ) وإذ قال الله . . . . .
) وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس ( ، يعني بني إسرائيل في الدنيا ،
)( اتخذوني وأمي ) ) مريم ( ( إلهين من دون الله قال سبحانك ( فنزه الرب عز وجل ،
أن يكون امرهم بذلك ، فقال : ( ما يكون لي ( ، يعني ما ينبغي لي ) أن أقول ما ليس لي
بحق ( ، يعني بعدل أن يعبدوا غيرك ، ) إن كنت قلته ) ) لهم ( ( فقد علمته تعلم ما في(1/332)
صفحة رقم 333
نفسي ( ، يعني ما كان مني وما يكون ، ) ولا اعلم ما في نفسك ( ، يقول : ولا أطلع
على غيبك ، وقال أيضا ، ولا أعلم ما في علمك ، ما كان منك وما يكون ، ) إنك أنت
علام الغيوب ( ، [ آية : 116 ] ، يعني غيب ما كان وغيب ما يكون .
المائدة : ( 117 ) ما قلت لهم . . . . .
) ما قلت لهم ( وأنت تعلم ، ) إلا ما أمرتني به ) ) في الدنيا ( ( أن اعبدوا الله ( ،
يعني وحدوا الله ، ) ربي وربكم ( ، قال لهم عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك في هذه السورة ، وفي
كهيعص ، وفي الزخرف ، ) وكنت عليهم شهيدا ( ، يعني على بني إسرائيل بأن قد بلغتهم
الرسالة ، ) ما دمت فيهم ( ، يقول : ما كنت بين أظهرهم ، ) فلما توفيتني ( ، يقول : فلما
بلغ بي أجل الموت فمت ، ) كنت أنت الرقيب عليهم ( ، يعني الحفيظ ، ) وأنت على كل
شيء شهيد ) [ آية : 117 ] ، يعني شاهدا بما أمرتهم من التوحيد ، وشهيد عليهم بما قالوا
من البهتان ، وإنما قال الله عز وجل : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ( ، ولم يقل : وإذ
يقول : يا عيسى ابن مريم ؛ لأنه قال سبحانه قبل ذكر عيسى يوم يجمع الله الرسل ،
فيقول : ماذا أجبتم ؟ قالوا : يومئذ ، وهو يوم القيامة ، حين يفرغ من مخاصمة الرسل ،
فينادى : أين عيسى ابن مريم ، فيقوم عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) شفق ، فرق ، يرعد رعدة حتى يقف بين
يدي الله عز وجل ، يا عيسى : ( ءأنت قلت للناس أتخذوني وأمي إلهين من دون الله ( .
وكما قال سبحانه : ( ونودوا أن تلكم الجنة اورثتموها بما كنتم تعملون (
[ الأعراف : 43 ] ، فلما دخلوا الجنة ، قال : ( ونادى أصحاب النار ) [ الأعراف :
50 ] ، فنسق بالماضي على الماضي ، والمعنى مستقبل ، ولو لم يذكر الجنة قبل بدئهم
بالكلام الأول لقال في الكلام الأول : ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار (
[ الأعراف : 44 ] ، وكل شيء في القرآن على هذا النحو .
المائدة : ( 118 ) إن تعذبهم فإنهم . . . . .
ثم قال عيسى ( صلى الله عليه وسلم ) لربه عز وجل في الآخرة : يا رب ، غبت عنهم وتركتهم على
الحق الذي أمرتني به ، فلم أدر ما أحدثوا بعدى ، ف ) إن تعذبهم ( فتميتهم على ما قالوا
من البهتان والكفر ، ) فإنهم عبادك ( ، وأنت خلقتهم ، ) وإن تغفر لهم ( ، فتتوب
عليهم وتهديهم إلى الإيمان والمغفرة بعد الهداية إلى الإيمان ، ) فإنك أنت العزيز الحكيم (
[ آية : 118 ] في ملكك ، الحكيم في أمرك ، وفي قراءة ابن مسعود : ' فإنك أنت الغفور
الرحيم ' ، نظيرها في سورة إبراهيم ، عليه السلام ، في مخاطبة إبراهيم : ( ومن عصاني
فإنك غفور رحيم ) [ إبراهيم : 36 ] ، وهي كذلك أيضا في قراءة عبد الله بن مسعود .(1/333)
صفحة رقم 334
تفسير سورة المائدة آية [ 119 - 120 ]
المائدة : ( 119 ) قال الله هذا . . . . .
) قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ( ، يعني النبيين بما قالوا في الدنيا ، فكان
عيسى صادقا فيما قال لربه في الآخرة ، ) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ( ، فصدقه الله
بقوله في الدنيا ، وصدقه في الآخرة حين خطب على الناس ، ثم قال : ( لهم ( ، يعني
للصادقين ، ) جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ( ، لا يموتون ، ) رضي الله عنهم ( بالطاعة ، ) ورضوا عنه ( بالثواب ، ) ذلك ( الثواب ) الفوز العظيم ) [ آية :
119 ] ، يعني النجاء العظيم .
المائدة : ( 120 ) لله ملك السماوات . . . . .
ثم عظم الرب جل جلاله نفسه عما قالت النصارى من البهتان والزور أنه ليس كما
زعمت ، وأنه واحد لا شريك له ، فقال سبحانه : ( لله ملك السماوات والأرض وما فيهن (
من الخلق ، عيسى ابن مريم وغيره من الملائكة والخلق عباده وفي ملكه ، ) وهو على كل
شيء ( من خلق عيسى من غير أب وغيره ، ) قدير ) [ آية : 120 ] .(1/334)
صفحة رقم 335
سورة الأنعام
مقدمات
مكية كلها ، إلا هذه الآيات ، نزلت بالمدينة ، ونزلت ليلا وهي خمس وستون ومائة آية كوفى
والآيات المدنية هي : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ( إلى قوله
) لعلكم تعقلون ) [ الآيات 151 - 153 ] ، وهي الآيات المحكمات .
وقوله : ( وما قدروا الله حق قدره ) [ آية : 91 ] إلى آخر الآية .
وقوله : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ) [ أآية :
93 ] ، نزلت في مسيلمة ، ) ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ) [ آية : 93 ] ،
نزلت في عهد عبد الله بن سعد بن أبي سرح .
وقوله : ( ولو ترى إذ الطالمون في غمرات الموت . . . ) [ آية : 93 ] .
وقوله : ( والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ) [ آية :
114 ] ، ) الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ) [ آية : 20 ] .
هذه الآيات مدنيات ، وسائرها مكى ، نزل بها جبريل ، عليه السلام ، ومعه سبعون
ألف ملك ، طبقوا ما بين السماء والأرض ، لهم زجل بالتسبيح والتمجيد والتحميد ، حتى
كادت الأرض أن ترتج ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' سبحان الله العظيم وبحمده ' ، وخر النبي
ساجدا ، فيها خصومة مشركي العرب وأهل الكتاب ، وذلك أن قريشا قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
من ربك ؟ فقال : ' ربي الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ' ،
فقالوا : أنت كذاب ، ما اختصك الله بشيء ، وما انت عليه بأكرم منا ، فأنزل الله عز
وجل :
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الأنعام آية من [ 1 - 5 ](1/335)
صفحة رقم 336
الأنعام : ( 1 ) الحمد لله الذي . . . . .
) الحمد لله ( ، فحمد نفسه ودل بصنعه على توحيده ، ) الذي خلق السماوات والأرض ( ، لم يخلقهما باطلا ، خلقهما لأمر هو كائن ، ) وجعل الظلمات والنور ( ، يعني
الليل والنهار ، ثم رجع إلى أهل مكة ، فقال : ( ثم الذين كفروا ( من أهل مكة ،
)( بربهم يعدلون ) [ آية : 1 ] ، يعني يشركون .
الأنعام : ( 2 ) هو الذي خلقكم . . . . .
) هو الذي خلقكم من طين ( ، يعني آدم ، عليه السلام ؛ لأنكم من ذريته ، ) ثم قضى أجلا ( ، يعني أجل ابن آدم من يوم ولد إلى أن يموت ، ) وأجل مسمى عنده ( ، يعني
البرزخ منذ يوم ولد إلى يوم يموت ، إلى يوم القيامة ، ) ثم أنتم تمترون ( ] آية : 2 ] ، يعني
تشكون في البعث ، يعني كفار مكة .
الأنعام : ( 3 ) وهو الله في . . . . .
) وهو الله في السماوات ( أنه واحد ، ) وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ( ، يعني سر
أعمالكم وجهرها ، ) ويعلم ما تكسبون ) [ آية : 3 ] ، يعني ما تعملون من الخير والشر .
الأنعام : ( 4 ) وما تأتيهم من . . . . .
) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم ( ، يعني انشقاق القمر ، ) إلا كانوا عنها معرضين ) [ آية : 4 ] ، فلم يتفكرون فيها ، فيعتبروا في توحيد الله .
الأنعام : ( 5 ) فقد كذبوا بالحق . . . . .
) فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ( ، يعني القرآن حين جاءهم به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، استهزءوا
بالقرآن بأنه ليس من الله ، يعني كفار مكة ، منهم : أبو جهل بن هشام ، والوليد بن
المغيرة ، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ، والعاص بن وائل السهمي ، وأبي بن خلف ، وعقبة بن
أبي معيط ، وعبد الله بن أبي أمية ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو البحتري بن هشام بن
أسد ، والحارث بن عامر بن نوفل ، ومخرمة بن نوفل ، وهشام بن عمرو بن ربيعة ، وأبو
سفيان بن حرب ، وسهل بن عمرو ، وعمير بن وهب بن خلف ، والحارث بن قيس ،
وعدي بن قيس ، وعامر بن خالد الجمحي ، والنضر بن الحارث ، وزمعة بن الأسود ،
ومطعم بن عدي ، وقرط بن عبد عمرو بن نوفل ، والأخنس بن شريق ، وحويطب بن
عبد العزى ، وأمية بن خلف ، كلهم من قريش ، يقول الله عز وجل : ( فسوف يأتيهم أنباء ( ، يعني حديث ، ) ما كانوا به ( بالعذاب ) يستهزءون ) [ آية : 5 ] ، بأنه غير نازل
بهم ، ونظيرها في الشعراء ، فنزل بهم العذاب ببدر .
تفسير سورة الأنعام آية [ 6 - 12 ](1/336)
صفحة رقم 337
الأنعام : ( 6 ) ألم يروا كم . . . . .
ثم وعظهم ليخافوا ، فقال : ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم ( ، كفار مكة ، ) من قرن ( من امة ، ) مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ( ، يقول : أعطيناهم من الخير
والتمكين في البلاد ما لم نعطكم يا أهل مكة ، ) وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ( بالمطر ،
يعني متتابعا ، ) وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم ( ، يعني فعذبناهم ،
)( بذنوبهم ( ، يعني بتكذيبهم رسلهم ، ) وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) [ آية : 6 ] ،
يقول : وخلقنا من بعد هلاكهم قوما آخرين .
الأنعام : ( 7 ) ولو نزلنا عليك . . . . .
) ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم ( ، ما صدقوا به ، و ) لقال الذين كفروا ( من أهل مكة ، ) إن هذا ( ، يقول : ما هذا القرآن ، ) إلا سحر مبين ) [ آية :
7 ] ، يعني بين .
الأنعام : ( 8 ) وقالوا لولا أنزل . . . . .
) وقالوا لولا ( ، يعني هلا ، ) أنزل عليه ملك ( ، يعينه ويصدقه بما أرسل به ، نظيرها
في الفرقان ، نزلت في النضر بن الحارث ، وعبد الله بن أمية بن المغيرة ، ونوفل بن
خويلد ، كلهم من قريش ، يقول الله : ( ولو أنزلنا ملكا ( فعاينوه ، ) لقضي الأمر ( ،
يعني لنزل العذاب بهم ، ) ثم لا ينظرون ) [ آية : 8 ] ، يعني ثم لا يناظر بهم حتى
يعذبوا ؛ لأن الرسل إذا كذبت جاءت الملائكة بالعذاب .
الأنعام : ( 9 ) ولو جعلناه ملكا . . . . .
يقول الله : ( ولو جعلناه ( ، هذا الرسول ، ) ملكا لجعلناه رجلا ( ، يعني في
صورة رجل حتى يطيقوا النظر إليه ؛ لأن الناس لا يطيقون النظر إلى صورة الملائكة ، ثم
قال : ( وللبسنا عليهم ( ، يعني ولشبهنا عليهم ، ) ما يلبسون ) [ آية : 9 ] ، يعني ما
يشبهون على أنفسهم بأن يقولوا : ما هذا إلا بشر مثلكم .(1/337)
صفحة رقم 338
الأنعام : ( 10 ) ولقد استهزئ برسل . . . . .
) ولقد استهزئ برسل من قبلك ( ، وذلك أن مكذبي الأمم الخالية ، اخبرتهم رسلهم
بالعذاب فكذبوهم ، بأن العذاب ليس بنازل بهم ، فلما كذب كفار مكة النبي ( صلى الله عليه وسلم )
بالعذاب حين أوعدهم استهزءوا منه ، فأنزل الله يعزي نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ليصبر على تكذيبهم إياه
بالعذاب ، فقال : ( ولقد استهزئ برسل من قبلك ( يا محمد كما استهزئ بك في أمر
العذاب ، ) فحاق ( ، يعني فدار ) بالذين سخروا منهم ( ، يعني من الرسل ، ) ما كانوا به ( ، يعني بالعذاب ، ) يستهزءون ) [ آية : 10 ] بأنه غير نازل بهم .
الأنعام : ( 11 ) قل سيروا في . . . . .
ثم وعظهم ليخافوا ، فقال : ( قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) [ آية : 11 ] بالعذاب كان عاقبتهم الهلاك يحذر كفار مكة بمثل عذاب الأمم
الخالية ،
الأنعام : ( 12 ) قل لمن ما . . . . .
) قل ( لكفار مكة ) لمن ما في السماوات والأرض ( من الخلق ، فردوا عليه في
الرعد ، قالوا : الله ، في قراءة أبي بن كعب ، وابن مسعود في تكذيبهم بالبعث ، قالوا : الله
) قل لله كتب على نفسه الرحمة ( في تأخير العذاب عنهم ، فأنزل ا الله في تكذيبهم
بالبعث ، ) ليجمعنكم إلى يوم القيامة ( أنتم والأمم الخالية ، ) لا ريب فيه ( ، يعني
لا شك فيه ، يعني في البعث بأنه كائن ، ثم نعتهم ، فقال : ( الذين خسروا ( ، يعني
غبنوا ، ) أنفسهم فهم لا يؤمنون ) [ آية : 12 ] ، يعني لا يصدقون بالبعث بأنه كائن .
تفسير سورة الأنعام آية [ 13 - 18 ]
الأنعام : ( 13 ) وله ما سكن . . . . .
ثم عظم نفسه لكي يوحد ، فقال : ( وله ما سكن ( ، يعني ما استقر ، ) في اليل
والنهار ( من الدواب والطير في البر والبحر ، فمنها ما يستقر بالنهار وينتشر ليلا ، ومنها
ما يستقر بالليل وينتشر نهارا ، ثم قال : ( وهو السميع ( لما سألوا من العذاب ،
)( العليم ) [ آية : 13 ] به .
الأنعام : ( 14 ) قل أغير الله . . . . .
) قل أغير الله ( ، وذلك أن كفار قريش قالوا : يا محمد ، ما يحملك على ما أتيتنا به ،
ألا تنظر إلى ملة أبيك عبد الله وملة جدك عبد المطلب وإلى سادات قومك يعبدون(1/338)
صفحة رقم 339
اللات والعزى ومناة ، فتأخذ به ، وتدع ما أنت عليه ، وما يحملك على ذلك إلا الحاجة ،
فنحن نجمع لك من اموالنا ، وأمره بترك عبادة الله ، فأنزل الله : ( قل أغير الله ( ) أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ( ، فعظم نفسه ليعرف توحيده بصنعه ، ) وهو يطعم ولا يطعم ( وهو يرزق ولا يرزق ، لقولهم : نجمع لك من أموالنا ما يغنيك ، ) قل ( لهم
) إني أمرت أن أكون أول من أسلم ( ، يعني أول من أخلص من أهل مكة
بالتوحيد ، ثم أوحى إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : ( ولا تكونن من المشركين ) [ آية : 14 ] ،
لقولهم للنبي ، عليه السلام : ارجع إلى ملة آبائك .
الأنعام : ( 15 ) قل إني أخاف . . . . .
) قل ( لهم يا محمد ، ) إني أخاف إن عصيت ربي ( ، إن رجعت إلى ملة آبائي ،
)( عذاب يوم عظيم ) [ آية : 15 ] ، يعني بالعظيم الشديد يوم القيامة ، وقد نسخت :
( إنا فتحنا ) [ الفتح : 1 ] ، ) إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( ، يعني
الشديد يوم القيامة .
الأنعام : ( 16 ) من يصرف عنه . . . . .
) من يصرف ( الله ) عنه ( العذاب ) يومئذ ( يوم القيامة ، ) فقد رحمه وذلك ( الصرف ، يعني صرف العذاب ، ) الفوز المبين ) [ آية : 16 ] ، يعني النجاة
العظيمة المبينة .
الأنعام : ( 17 ) وإن يمسسك الله . . . . .
ثم خوف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليتمسك بدين الله تعالى ، فقال : ( وإن يمسسك الله بضر ( ،
يعني يصبك الله بضر ، يعني بلاء وشدة ، ) فلا كاشف له إلا هو ( ، يقول : لا يقدر
أحد من الآلهة ولا غيرهم كشف الضر إلا الله ،
)( وإن يمسسك بخير ( ، يعني يصبك
بفضل وعافية ، ) فهو على كل شيء قدير ) [ آية : 17 ] من ضر وخير .
وأنزل الله في قولهم : ( قل ( يا محمد ) إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ( ، يعني يعبدون من دون الله من الآلهة ، ) قل لا أتبع أهواءكم ( في ترك دين
الله ، ) قد ضللت إذا ( ، إن اتبعت دينكم ، ) وما أنا من المهتدين ( ، يعني من
المرشدين ، و ) قل ( لهم ) إني على بينة من ربي ( ، يعني على بيان من ربي ، وأنزل
الله في ذلك : ( قل أغير الله أبغي ربا ( إلى آخر السورة ،
الأنعام : ( 18 ) وهو القاهر فوق . . . . .
) وهو القاهر ( لخلقه ،
)( فوق عباده ( ، قد علاهم وقهرهم ، ) وهو الحكيم ( في أمره ) الخبير ) [ آية : 18 ]
) فوق عباده ( ، قد علاهم وقهرهم ، ) وهو الحكيم ( في أمره ) الخبير ) [ آية : 18 ]
بخلقه .
تفسير سورة الأنعام آية [ 19 - 21 ](1/339)
صفحة رقم 340
الأنعام : ( 19 ) قل أي شيء . . . . .
) قل أي شيء أكبر شهادة ( ، وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أما وجد الله
رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك بما تقول : وقد سألنا عنك أهل الكتاب ، فزعموا أنه
ليس لك عندهم ذكر ، فمن يشهد لك أن الله هو الذي أرسلك ؟ فقال الله للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( قل ( لهم ) أي شيء أكبر شهادة ( ، قالوا : الله أكبر شهادة من غيره ، فقال الله :
( قل ( لهم يا محمد ) الله شهيد بيني وبينكم ( بأنى رسول ، ) و ( أنه ) وأوحي إلي هذا القرآن ( من عند الله ، ) لأنذركم به ( ، يعني لكي أنذركم بالقرآن يا أهل مكة ، ) ومن بلغ ( القرآن من الجن والإنس ، فهو نذير لهم ، يعني القرآن إلى يوم القيامة ، ثم قال :
( أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ( ؟ قالوا : نعم نشهد ، قال الله للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( قل ( لهم ) لا أشهد ( بما شهدتم ، ولكن أشهد ) قل إنما هو إله واحد ( ، قل لهم :
( وإنني برئ مما تشركون ) [ آية : 19 ] به غيره .
الأنعام : ( 20 ) الذين آتيناهم الكتاب . . . . .
وأنزل في قولهم : لقد سألنا عنك أهل الكتاب ، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ،
فقال : ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ( ، أي صفة ، محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في كتبهم ) كما يعرفون أبناءهم ( .
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا الهذيل ، عن مقاتل ، قال : إن عبد الله
بن سلام ، قال : لأنا أعرف بمحمد ، عليه السلام ، منى بابني ؛ لأني لا أعلم ما أحدثت
فيه أمه ، ثم نعتهم ، فقال : ( الذين خسروا أنفسهم ( ، يعني غبنوا أنفسهم ، ) فهم لا يؤمنون ) [ آية : 20 ] ، لا يصدقون بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، بأنه رسول الله ، وأنزل الله في
قولهم أيضاً : ( والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه ( ، يعني القرآن ، ) منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين ) [ الأنعام : 114 ] ، يعني من الشاكين بأن القرآن
جاء من الله ، نظيرها في يونس :
الأنعام : ( 21 ) ومن أظلم ممن . . . . .
) ومن أظلم ( ، يقول : فلا أحد أظلم ) ممن افترى على الله كذبا ( بأن معه شريكا لقولهم : إن مع الله آلهة أخرى ، ثم قال : ( أو كذب بآياته ( ، يعني بالقرآن أنه ليس من الله ، ) إنه لا يفلح الظالمون ) [ آية : 21 ] ، يعني(1/340)
صفحة رقم 341
المشركين في الآخرة يعيبهم ، نظيرها في يونس .
تفسير سورة الأنعام آية [ 22 - 24 ]
الأنعام : ( 22 ) ويوم نحشرهم جميعا . . . . .
) ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا ( ، وذلك أن المشركين في الآخرة لما رأوا
كيف يتجاوز الله عن أهل التوحيد ، فقال بعضهم لبعض : إذا سئلنا قولوا : كنا موحدين ،
فلما جمعهم الله وشركاءهم ، قال لهم : ( أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ) [ آية : 22 ] في
الدنيا بأن مع الله شريكا .
الأنعام : ( 23 ) ثم لم تكن . . . . .
) ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا ( ، يعني معذرتهم إلا الكذب حين سئلوا فتبرأوا من
ذلك ، فقالوا : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) [ آية : 23 ] ،
الأنعام : ( 24 ) انظر كيف كذبوا . . . . .
قال الله : ( انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ( في الآخرة ، ) ما كانوا يفترون ) [ آية : 24 ] من الشرك في الدنيا ،
فختم على ألسنتهم ، وشهدت الجوارح بالكذب عليهم والشرك .
تفسير سورة الأنعام آية [ 25 - 30 ]
الأنعام : ( 25 ) ومنهم من يستمع . . . . .
) ومنهم ( ، يعني كفار مكة ، ) من يستمع إليك ( وأنت تتلو القرآن ، يعني النضر بن
الحارث ، إلى آخر الآية ، ) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ( ، يعني الغطاء عن القلب ؛
لئلا يفقهوا القرآن ، ) وفي آذانهم وقرا ( ، يعني ثقلاً ، فلا يسمعوا ، ، يعني النضر ، ثم قال :
( وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها ( ، يعني انشقاق القمر ، والدخان ، فلا يصدقوا بأنها
من الله عز وجل ، ) حتى إذا جاءوك يجادلونك ( في القرآن بأنه ليس من الله ، ) يقول (
الله : قال : ( الذين كفروا ( ، يعني النضر : ( إن هذا ( القرآن ) إلا أساطير الأولين (
[ آية : 25 ] ، يعني أحاديث الأولين ، حديث رستم واسفندياز .(1/341)
صفحة رقم 342
الأنعام : ( 26 ) وهم ينهون عنه . . . . .
) وهم ينهون عنه وينئون عنه ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان عند أبي طالب بن عبد
المطلب ، يدعوه إلى الإسلام ، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب ليريدوا بالنبي ، عليه
السلام ، سوءاً ، فسألوا أبا طالب أن يدفعه إليهم فيقتلوه ، فقال أبو طالب : ما لي عنه
صبر ، قالوا : ندفع إليك من سبايانا من شئت مكان ابن اخيك ، فقال أبو طالب : حين
تروح الإبل ، فإن جاءت ناقة إلى غير فصيلها دفعت إليكم ، وإن كانت الناقة لا تحن إلا
إلى فصيلها ، فأنا أحق من الناقة ، فلما أبى عليهم ، اجتمع منهم سبعة عشر رجلا من
أشرافهم ورؤسائهم ، فكتبوا بينهم كتابا ألا يبايعوا بني عبد المطلب ، ولا يناكحوهم ،
ولا يخالطوهم ، ولا يؤاكلوهم ، حتى يدفعوا إليهم محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) فيقتلوه ، فاجتمعوا في دار
شيبة بن عثمان صاحب الكعبة ، وكان هو أشد الناس على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال أبو طالب :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أغيب في التراب دفينا
فانفذ لأمرك ما عليك غضاضة
أبشر وقر بذاك منك عونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي
فلقد صدقت وكنت قدما أمينا
وعرضت دينا قد علمت بأنه
من خير أديان البرية دينا
لولا الدمامة أو أخادن سبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
فأنزل الله في أبي طالب ، واسمه : عبد مناف بن شيبة ، وهو عبد المطلب : ( وهم
ينهون عنه وينئون عنه ( ، كان ينهى قريش عن أذى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويتباعد هو عن النبي
( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا يتبعه على دينه ، ) وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ) [ آية : 26 ] ، يعني أبا
طالب .
الأنعام : ( 27 ) ولو ترى إذ . . . . .
) ولو ترى ( يا محمد ) إذ وقفوا على النار ( ، يعني كفار قريش هؤلاء الرؤساء تمنوا ،
)( فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ( ، يعني القرآن بأنه من الله ، ) ونكون من المؤمنين ) [ آية : 27 ] ، يعني المصدقين بالقرآن في قولهم :
الأنعام : ( 28 ) بل بدا لهم . . . . .
) بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ( ، وذلك أنهم حين قالوا : ( والله ربنا ما كنا مشركين ( ، أوحى الله إلى
الجوارح ، فشهدت عليهم بما كتموا من الشرك ، فذلك قوله : ( بل بدا لهم ( ، يعني
ظهر لهم من الجوارح ) ما كانوا يخفون من قبل ( بألسنتهم من قبل أن تنطق الجوارح
بالشرك ، فتمنوا عند ذلك الرجعة إلى الدنيا ، ) فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ( إلى آخر الآية ، فأخبر الله عنهم ، فقال : ( ولو ردوا ( إلى الدنيا كما تمنوا(1/342)
صفحة رقم 343
وعمروا فيها ، ) لعادوا لما ( ، يعني لرجعوا لما ) نهوا عنه ( من الشرك والتكذيب ،
)( وإنهم لكاذبون ) [ آية : 28 ] في قولهم حين قالوا : ( ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ( ، بالقرآن .
الأنعام : ( 29 ) وقالوا إن هي . . . . .
لما أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كفار مكة بالبعث كذبوه ، ) وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ) [ آية : 29 ] ، بعد الموت ، فأخبر الله بمنزلتهم في الآخرة ، فقال :
الأنعام : ( 30 ) ولو ترى إذ . . . . .
) ولو ترى ( يا
محمد ) إذ وقفوا ( ، يعني عرضوا ) على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا ( إنه
الحق ، ) قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) [ آية : 30 ] بالعذاب بأنه غير كائن ،
نظيرها في الأحقاف .
تفسير سورة الأنعام آية [ 31 - 35 ]
الأنعام : ( 31 ) قد خسر الذين . . . . .
) قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ( ، يعني بالبعث ، ) حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة ( ،
يعني يوم القيامة بغتة ، يعني فجأة ، ) قالوا ياحسرتنا ( ، يعني كفار قريش ، ) على ما فرطنا فيها ( ، يقولون : يا ندامتنا على ما ضيعنا في الدنيا من ذكر الله ، ثم قال : ( وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ) [ آية : 31 ] ، وذلك أن الكافر إذا بعث في
الآخرة ، أتاه عمله الخبيث في صورة حبشى ، أشوه ، منتن الريح ، كريه المنظر ، فيقول له
الكافر : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الخبيث ، قد كنت أحملك في الدنيا بالشهوات
واللذات ، فاحملني اليوم ، فيقول : وكيف أطيق حملك ؟ فيقول : كما حملتك ، فيركب
ظهره ، فذلك قوله : ( وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ( ، يعني ألا بئس
ما يحملون .
الأنعام : ( 32 ) وما الحياة الدنيا . . . . .
) وما الحياة الدنيا إلا لعب ( ، يعني إلا باطل ، ) ولهو ( يكون في الدنيا ،(1/343)
صفحة رقم 344
) وللدار الآخرة خير ( ، يثنى على الجنة ، يقول : ولدار الجنة أفضل من الدنيا ، ) للذين يتقون ( الشرك ، ) أفلا ( ، يعني فهلا ) تعقلون ) [ آية : 32 ] أن الدار الآخرة أفضل
من الدنيا ؛ لأنها بعد دار الدنيا ، وإنما سميت الدنيا ؛ لأنها أدنى إلينا من دار الآخرة .
الأنعام : ( 33 ) قد نعلم إنه . . . . .
) قد نعلم إنه يحزنك الذي يقولون ( ، نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد
مناف بن قصى ، كان الحارث يكذب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في العلانية ، فإذا خلا مع أهل ثقته ،
قال : ما محمد من أهل الكذب ، وإني لأحسبه صادقاً ، وكان إذا لقى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : إنا
لنعلم أن هذا الذي تقول حق ، وإنه لا يمنعنا أن نتبع الهدى معك إلا مخافة أن يتخطفنا
الناس ، يعني العرب ، من أرضنا إن خرجنا ، فإنما نحن أكلة رأس ، ولا طاقة لنا بهم ،
نظيرها في القصص : ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) [ القصص :
57 ] ، فأنزل الله : ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ( في العلانية بأنك كذاب مفتر ،
)( فإنهم لا يكذبونك ( في السر بما تقول بأنك نبى رسول ، بل يعلمون أنك صادق ،
وقد جربوا منك الصدق فيما مضى ، ) ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) [ آية :
33 ] ، يعني بالقرآن بعد المعرفة .
الأنعام : ( 34 ) ولقد كذبت رسل . . . . .
) ولقد كذبت رسل من قبلك ( ، وذلك قبل كفار مكة ؛ لأن كفار مكة ، قالوا : يا
محمد ، ما يمنعك أن تأتينا بآية كما كانت الأنبياء تجئ بها إلى قومهم ، فإن فعلت
صدقناك ، وإلا فأنت كاذب ، فأنزل الله يعز نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ليصبر على تكذيبهم إياه ، وأن
يقتدى بالرسل قبله : ( ولقد كذبت رسل من قبلك ( ) فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ( في هلاك قومهم ، وأهل مكة بمنزلتهم ، فذلك قوله : ( ولا مبدل لكلمات الله ( ، يعني لا تبديل لقول الله بأنه ناصر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ألا وقوله حق كما نصر الأنبياء
قبله ، ) ولقد جاءك من نبإي ( ، يعني من حديث ) المرسلين ) [ آية : 34 ] حين
كذبوا وأوذوا ثم نصروا .
الأنعام : ( 35 ) وإن كان كبر . . . . .
) وإن كان كبر عليك ( ، يعني ثقل عليك ) إعراضهم ( عن الهدى ، ولم تصبر على
تكذيبهم إياك ، ) فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض ( ، يعني سربا ، ) أو سلما في السماء ( ، أي فإن لم تستطع فأت بسلم ترقى فيه إلى السماء ، ) فتأتيهم بآية ( فافعل
إن استطعت ، ثم عزى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ليصبر على تكذيبهم ، فقال : ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ) [ آية : 35 ] ، فإن الله لو شاء لجعلهم مهتدين .(1/344)
صفحة رقم 345
تفسير سورة الأنعام آية [ 36 - 42 ]
الأنعام : ( 36 ) إنما يستجيب الذين . . . . .
ثم ذكر إيمان المؤمنين ، فقال : ( إنما يستجيب الذين يسمعون ( الهدى ، يعني القرآن ،
ثم قال : ( والموتى يبعثهم الله ( ، يعني كفار مكة يبعثهم الله في الآخرة ، ) ثم إليه يرجعون ) [ آية : 36 ] ، يعني يردون فيجزيهم .
الأنعام : ( 37 ) وقالوا لولا نزل . . . . .
) وقالوا لولا ( ، يعني هلا ) نزل عليه (
محمد كما أنزل على الأنبياء ) آية من ربه ( للكفار ، ) قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [ آية : 37 ] بأن الله قادر على أن ينزلها .
الأنعام : ( 38 ) وما من دابة . . . . .
) وما من دابة في الأرض ( ، ولا في بر ، ولا في بحر ، ) ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ( ، يعني خلقا أصنافا مصنفة تعرف بأسمائهم ، ) ما فرطنا في الكتاب ( ،
يعني ما ضيعنا في اللوح المحفوظ ، ) من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) [ آية : 38 ] في
الآخرة ، ثم يصيرون من بعد ما يقتص بعضهم من بعض ترابا ، يقال لهم : كونوا ترابا .
الأنعام : ( 39 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
) والذين كذبوا بآياتنا ( ، يعني القرآن ، ) صم ( لا يسمعون الهدى ، ) وبكم (
لا يتكلمون به ، ) في الظلمات ( ، يعني الشرك ، ) من يشإ الله يضلله ( عن الهدى ،
نزلت في بني عبد الدار بن قصى ، ) ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) [ آية : 39 ] ،
يعني على دين الإسلام ، منهم : علي بن أبي طالب ، والعباس ، وحمزة ، وجعفر .
الأنعام : ( 40 ) قل أرأيتكم إن . . . . .
ثم خوفهم ، فقال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله ( في الدنيا كما
أتى الأمم الخالية ، ) أو أتتكم الساعة ( ، ثم رجع إلى عذاب الدنيا ، فقال : ( أغير الله ( من الآلهة ) تدعون ( أن يكشف عنكم العذاب في الدنيا ، ) إن كنتم صادقين ) [ آية : 40 ] بأنه معه آلهة .
الأنعام : ( 41 ) بل إياه تدعون . . . . .
ثم رجع إلى نفسه ، فقال : ( بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ( ،(1/345)
صفحة رقم 346
يعني وتتركون ) ما تشركون ) [ آية : 41 ] بالله من الآلهة ، فلا تدعونهم أن يكشفوا
عنكم ولكنكم تدعون الله ،
الأنعام : ( 42 ) ولقد أرسلنا إلى . . . . .
) ولقد أرسلنا ( الرسل ) إلى أمم من قبلك ( ، فكذب بهم
قومهم كما كذب بك كفار مكة ، ) فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم ( لكي
) يتضرعون ) [ آية : 42 ٍ إلى ربهم فيتوبون إليه .
تفسير سورة الأنعام آية [ 43 - 45 ]
الأنعام : ( 43 ) فلولا إذ جاءهم . . . . .
يقول : ( فلولا إذ جاءهم بأسنا ( ، يعني الشدة والبلاء ، ) تضرعوا ( إلى الله وتابوا
إليه لكشف ما نزل بهم من البلاء ، ) ولكن قست ( ، يعني جفت ) قلوبهم ( ، فلم
تلن ، ) وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) [ آية : 43 ] من الشرك والتكذيب ،
الأنعام : ( 44 ) فلما نسوا ما . . . . .
) فلما نسوا ما ذكروا به ( ، يعني فلما تركوا ما أمروا به ، يعني وعظوا به ، يعني
الأمم الخالية مما دعاهم الرسل فكذبوهم ، ف ) فتحنا عليهم ( ، يعني أرسلنا عليهم
) أبواب كل شيء ( ، يعني أنواع الخير من كل شيء بعد الضر الذي كان نزل بهم ،
نظيرها في الأعراف ، ) حتى إذا فرحوا بما أوتوا ( ، يعني بما أعطوا من أنواع الخير
وأعجبهم ما هم فيه ، ) أخذناهم بغتة ( ، يعني أصبناهم بالعذاب بغتة ، يعني فجأة أعز ما
كانوا ، ) فإذا هم مبلسون ) [ آية : 44 ] ، يعني فإذا هم مرتهنون آيسون من كل خير .
الأنعام : ( 45 ) فقطع دابر القوم . . . . .
) فقطع دابر القوم ( ، يعني أصل القوم ، ) الذين ظلموا ( ، يعني أشركوا ، فلم يبق
منهم أحد ، ) والحمد لله رب العالمين ) [ آية : 45 ] ، في هلاك أعدائه ، يخوف كفار مكة .
تفسير سورة الأنعام آية [ 46 - 48 ]
الأنعام : ( 46 ) قل أرأيتم إن . . . . .
) قل ( لكفار مكة يا محمد : ( أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم ( ، فلم تسمعوا
شيئا ، ) وختم ( ، يعني وطبع ) على قلوبكم ( ، فلم تعقلوا شيئا ، ) من إله غير الله(1/346)
صفحة رقم 347
يأتيكم به ( ، يعني هل أحد يرده إليكم دون الله ، ) انظر ( يا محمد ) كيف نصرف
الآيات ( ، يعني العلامات في أمور شتى فيما ذكر من تخويفهم من أخذ السمع
والأبصار والقلوب ، وما صنع بالأمم الخالية ، ) ثم هم يصدفون ) [ آية : 46 ] ، يعني
يعرضون ، فلا يعتبرون .
الأنعام : ( 47 ) قل أرأيتكم إن . . . . .
ثم قال يعنيهم : ( قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة ( ، يعني فجأة لا تشعرون
حتى ينزل بكم ، ) أو جهرة ( ، أو معاينة ترونه حين ينزل بكم القتل ببدر ، ) هل
يهلك ( بذلك العذاب ، ) إلا القوم الظالمون ( ] آية : 47 ] ، يعني المشركون .
الأنعام : ( 48 ) وما نرسل المرسلين . . . . .
) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ) ) بالجنة ( ( ومنذرين ) ) من النار ( ( فمن آمن ( ،
يعني فمن صدق ، ) وأصلح ) ) العمل ( ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ آية : 48 ] ،
نظيرها في الأعراف .
تفسير سورة الأنعام آية : [ 49 - 51 ]
الأنعام : ( 49 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
) والذين كذبوا بآياتنا ( ، يعني بالقرآن ، يعني كفار مكة ، ) يمسهم ( ، يعني
يصيبهم ) العذاب بما كانوا يفسقون ) [ آية : 49 ] ، يعني يعصون ،
الأنعام : ( 50 ) قل لا أقول . . . . .
فلما خوفهم النبي ( صلى الله عليه وسلم )
بالعذاب ، سألوه العذاب استهزاء وتكذيبا : إلى متى يكون هذا العذاب الذي تعدنا به إن
كنت من الصادقين ؟ فقال الله للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ( ، يعني
مفاتيح الله بنزول العذاب ، ) ولا أعلم الغيب ( ، يعني غيب نزول العذاب متى ينزل
بكم ، ) ولا أقول لكم إني ملك ( ؛ لقولهم في حم السجدة : ( لو شاء ربنا لأنزل
ملائكة ) [ فصلت : 14 ] رسلا فتؤمن بهم ، فأما أنت يا محمد ، فلا نصدقك فيما تقول ،
)( إن أتبع ( ، يقول : ما أتبع ، ) إلا ما يوحى إلي ) ) من القرآن ( ( قل هل يستوي
الأعمى ( بالهدى فلا يبصره ، وهو الكافر ، ) والبصير ( بالهدى ، وهو المؤمن ،
)( أفلا ( ، يعني فهلا ) تتفكرون ) [ آية : 50 ] فتعلمون أنهما لا يستويان .
الأنعام : ( 51 ) وأنذر به الذين . . . . .
ثم قال : ( وأنذر به ( ، يعني بالقرآن ، ) الذين يخافون ( ، يعني يعلمون ، ) أن
يحشروا إلى ربهم ( ، يعني الموالى وفقراء العرب ، ويعلمون أنه ) ليس لهم من دونه ( ،(1/347)
صفحة رقم 348
يعني من دون الله ) ولي ( ، يعني قريب ينفعهم ، ) ولا شفيع ( في الآخرة يشفع لهم
إن عصوا الله ، ) لعلهم ( ، يعني لكى ) يتقون ) [ آية : 51 ] المعاصي ، نزلت في الموالي
عمارة ، وأبي ذر الغفاري ، وسالم ، ومهجع ، والنمر بن قاسط ، وعامر بن فهيرة ، وابن
مسعود ، وأبي هريرة ، ونحوهم ، وذلك أن أبا جهل وأصحابه ، قالوا : انظروا إلى هؤلاء
الذين اتبعوا محمدا من موالينا وأعرابنا رذالة كل حي وسفلتهم ، يعنون الموالى ، ولو كان
لا يقبل إلا سادات الحي وسراة الموالي تابعناه ، وذكروا ذلك لأبي طالب ، فقالوا : قل
لابن أخيك أن يطرد هؤلاء الغرباء والسفلة ، حتى يجيبه سادات قومه وأشرافهم .
تفسير سورة الأنعام آية [ 52 - 55 ]
الأنعام : ( 52 ) ولا تطرد الذين . . . . .
قال أبو طالب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لو طردت هؤلاء عنك ، لعل سراة قومك يتبعونك ، فأنزل
الله : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم ( ، يعني الصلاة له ، ) بالغداوة والعشي ( طرفي
النهار ، ) يريدون وجهه ( ، يعني يبتغون بصلاتهم وجه ربهم ، ) ما عليك من حسابهم
من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ) [ آية : 52 ] ،
قال : وكانت الصلاة يومئذ ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى ، ثم فرضت الصلوات
الخمس بعد ذلك .
الأنعام : ( 53 ) وكذلك فتنا بعضهم . . . . .
) وكذلك فتنا بعضهم ببعض ( ، يقول : هكذا ابتلينا فقراء المسلمين من العرب
والموالي بالعرب من المشركين : أبي جهل ، والوليد ، وعتبة ، وأمية ، وسهل بن عمرو ،
ونحوهم ، ) ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم ( ، يعني أنعم الله عليهم بالإسلام ، ) من بيننا ( ، يقول الله : ( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) [ آية : 53 ] ، يعني بالموحدين
منكم من غيره ، وفيهم نزلت في الفرقان : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة (
[ الفرقان : 20 ] ، إلى آخر الآية(1/348)
صفحة رقم 349
الأنعام : ( 54 ) وإذا جاءك الذين . . . . .
ثم قال يعنيهم : ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ( ، يعني يصدقون بالقرآن أنه من
الله ، ) فقل سلام عليكم ( ، يقول : مغفرة الله عليكم ، كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا رآهم بدأهم
بالسلام ، وقال : ' الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر معهم وأسلم
عليهم ' ، وقال : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده ( ، نزلت في عمر بن الخطاب ، تاب من بعد السوء ، يعني الشرك ،
)( وأصلح ( العمل ، ) فأنه غفور رحيم ) [ آية : 54 ] .
الأنعام : ( 55 ) وكذلك نفصل الآيات . . . . .
) وكذلك نفصل الآيات ( ، يعني نبين الآيات ، يعني هكذا نبين أمر الدين ،
)( ولتستبين ( ، يعني وليتبين لكم ) سبيل المجرمين ) [ آية : 55 ] ، يعني طريق الكافرين
من المؤمنين حتى يعرفهم ، يعني هؤلاء النفر أبا جهل وأصحابه .
تفسير سورة الأنعام آية [ 56 - 58 ]
الأنعام : ( 56 ) قل إني نهيت . . . . .
) قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ( من الآلهة ، ) قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ) [ آية : 56 ] إن اتبعت أهواءكم ،
وذلك حين دعى إلى دين آبائه .
الأنعام : ( 57 ) قل إني على . . . . .
قوله : ( قل إني على بينة من ربي ( ، يعني بيان من ربي بما أمرني من عبادته وترك
عبادة الأصنام ، حين قالوا له : ائتنا بالعذاب إن كنت من الصادقين ، ) وكذبتم به ( ، يعني بالعذاب ، فقال لهم ، عليه السلام : ( ما عندي ما تستعجلون به ( من
العذاب ، يعني كفار مكة ، ) إن الحكم إلا لله ( ، يعني ما القضاء إلا الله في نزول
العذاب بكم في الدنيا ، ) يقص الحق ( ، يعني يقول الحق ، ومن قرأها : ' يقضي الحق ' ،
يعني يأتي بالعذاب ولا يؤخره إذا جاء ، ) وهو خير الفاصلين ( آية : 57 ] بيني وبينكم ،
يعني خير الحاكمين في نزول العذاب بهم .
الأنعام : ( 58 ) قل لو أن . . . . .
) قل ( لهم ) لو أن عندي ( ، يعني بيدي ، ) ما تستعجلون به ( من العذاب ،
)( لقضي الأمر ( ، يعني أمر العذاب ، ) بيني وبينكم ( ، وليس ذلك بيدي ، ) والله أعلم بالظالمين ) [ آية :(1/349)
صفحة رقم 350
تفسير سورة الأنعام آية [ 59 - 62 ]
الأنعام : ( 59 ) وعنده مفاتح الغيب . . . . .
) وعنده مفاتح الغيب ( ، يعني وعند الله خزائن العذاب ، متى ينزله بكم ، ) لا يعلمها ( أحد ) إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة ( من شجرة ،
)( إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ( كلها ، ) ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) [ آية : 59 ] ، يقول : هو بين في اللوح المحفوظ .
الأنعام : ( 60 ) وهو الذي يتوفاكم . . . . .
) وهو الذي يتوفاكم باليل ( ، يعني يميتكم بالليل ، ) ويعلم ما جرحتم بالنهار ( ،
يعني ما كسبتم من خير أو شر بالنهار ، ) ثم يبعثكم فيه ( ، يقول : يبعثكم من
منامكم بالنهار ، ) ليقضى أجل مسمى ( ، يعني منتهيا إليه ، ) ثم إليه مرجعكم ( في
الآخرة ، ) ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ) [ آية : 60 ] في الدنيا من خير أو شر ، هذا
وعيد .
الأنعام : ( 61 ) وهو القاهر فوق . . . . .
قوله : ( وهو القاهر ( لخلقه ، ) فوق عباده ( ، قد علاهم ، ) ويرسل عليكم حفظة ( من الملائكة ، يعني الكرام الكاتبين يحفظون أعمال بني آدم ، ) حتى إذا جاء أحدكم الموت ( عند منتهى الأجل ، ) توفته رسلنا ( ، يعني ملك الموت وحده ، عليه
السلام ، ) وهم لا يفرطون ) [ آية : 61 ] ، يعني لا يضيعون ما أمروا به ، يعني ملك
الموت وحده .
الأنعام : ( 62 ) ثم ردوا إلى . . . . .
ثم قال : ( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ( ، ثم ردوا من الموت إلى الله في الآخرة ،
فيها تقديم ، ) ألا له الحكم ( ، يعني القضاء ، ) وهو أسرع الحاسبين ) [ آية : 62 ] ،(1/350)
صفحة رقم 351
يقول : هو أسرع حسابا من غيره ، وذلك قوله : ( وكفى بنا حاسبين ) [ الأنبياء :
47 ] .
تفسير سورة الأنعام آية [ 63 - 67 ]
الأنعام : ( 63 ) قل من ينجيكم . . . . .
) قل ( يا محمد لكفار مكة : ( من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ( ، يعني الظلل
والظلمة والموج ، ) تدعونه تضرعا ( يعني مستكينين ، ) وخفية ( ، يعني في خفض
وسكون ، ) لئن أنجانا من هذه ( الأهوال ، ) لنكونن من الشاكرين ) [ آية : 63 ] لله في
هذه النعم ، فيوحدوه ،
الأنعام : ( 64 ) قل الله ينجيكم . . . . .
) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ( ، يعني من أهوال كل
كرب ، يعني من كل شدة ، ) ثم أنتم تشركون ) [ آية : 64 ] في الرخاء .
الأنعام : ( 65 ) قل هو القادر . . . . .
) قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ( ، يعني الحصب بالحجارة كما
فعل بقوم لوط ، فلا يبقى منكم أحد ، ) أو من تحت أرجلكم ( ، يعني الخسف كما فعل
بقارون ومن معه ، ثم قال : ( أو يلبسكم شيعا ( ، يعني فرقا أحزابا أهواء مختلفة كفعله
بالأمم الخالية ، ) ويذيق بعضكم بأس بعض ( ، يقول : يقتل بعضكم بعضا ، فلا يبقى منكم
أحد إلا قليل ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يجر رداءه ، وذلك بالليل ، وهو يقول : ' لئن أرسل الله
على أمتي عذابا من فوقهم ليهلكنهم ، أو من تحت أرجلهم ، فلا يبقى منهم أحد ' ، فقام
( صلى الله عليه وسلم ) فصلى ودعا ربه أن يكشف ذلك عنهم ، فأعطاه الله اثنتين الحصب والخسف ،
كشفهما عن أمته ، ومنعه اثنتين الفرقة والقتل ، فقال : ' أعوذ بعفوك من عقابك ، واعوذ
بمعافاتك من غضبك ، وأعوذ بك منك ، جل وجهك ، لا أبلغ مدحتك والثناء عليك أنت
كما أثنيت على نفسك ' .
قال : فجاءه جبريل ، عليه السلام ، فقال : إن الله قد استجاب لك وكشف عن أمتك
اثنتين ومنعوا اثنتين ، ) انظر ( يا محمد ) كيف نصرف الآيات ( ، يعني العلامات في
أمور شتى من ألوان العذاب ، ) لعلهم ( ، يقول : لكي ، ) يفقهون ) [ آية : 65 ] عن(1/351)
صفحة رقم 352
الله فيخافوه ويوحدوه ،
الأنعام : ( 66 ) وكذب به قومك . . . . .
) وكذب به ( بالقرآن ) قومك ( خاصة ، ) وهو الحق ( جاء
من الله ، ) قل لست عليكم بوكيل ) [ آية : 66 ] ، يقول بمسيطر ، نسختها آية السيف ،
الأنعام : ( 67 ) لكل نبإ مستقر . . . . .
) لكل نبإ مستقر ( ، يقول : لكل حديث حقيقة ومنتهى ، يعني العذاب منه في الدنيا ،
وهو القتل ببدر ، ومنه في الآخرة نار جهنم ، وذلك قوله : ( وسوف تعلمون ) [ آية :
67 ] ، أو عدهم العذاب ، مثلها في اقتربت .
تفسير سورة الأنعام آية [ 68 - 70 ]
الأنعام : ( 68 ) وإذا رأيت الذين . . . . .
) وإذا رأيت ( ، يعني سمعت يا محمد ، ) الذين يخوضون في آياتنا ( ، يعني يستهزءون
بالقرآن ، وقالوا ما لا يصح ، قال الله لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ( ، يعني فقم عنهم لا تجالسهم حتى يكون حديثهم في غير أمر الله وذكره ، ) وإما ينسينك الشيطان ( ، يقول : فإن أنساك الشيطان فجالستهم بعد النهى ، ) فلا تقعد بعد الذكرى ( ، يقول : إذا ذكرت فلا تقعد ، ) مع القوم الظالمين ) [ آية : 68 ] ، يعني
المشركين .
الأنعام : ( 69 ) وما على الذين . . . . .
فقال المؤمنين عند ذلك : لو قمنا عنهم إذا خاضوا واستهزءوا ، فإنا نخشى الإثم في
مجالستهم ، يعني حين لا نغير عليهم ، فأنزل الله : ( وما على الذين يتقون ( ، يعني
يوحدون الرب ، ) من حسابهم من شيء ( ، يعني من مجازاة عقوبة خوضهم ،
واستهزائهم من شيء ، ثم قال : ( ولكن ذكرى لعلهم يتقون ) [ آية : 69 ] إذا
قمتم عنهم منعهم من الخوض والاستهزاء الحياء منكم والرغبة في مجالستكم ، فيذكرون
قيامكم عنهم ، ويتركون الخوض والاستهزاء ، ثم نسختها الآية التي في النساء : ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) [ النساء : 140 ] الآية .(1/352)
صفحة رقم 353
الأنعام : ( 70 ) وذر الذين اتخذوا . . . . .
) وذر الذين اتخذوا دينهم ( الإسلام ) لعبا ( ، يعني باطلا ، ) ولهوا ( ، يعني
لهوا عنه ، ) وغرتهم الحياة الدنيا ( ، عن دينهم الإسلام ، ) وذكر به ( ، يعني
وعظ بالقرآن ، ) أن تبسل نفس ( ، يعني لئلا تبسل نفس ، ) بما كسبت ( ، يعني بم
عملت من الشرك والتكذيب ، فترتهن بعملها في النار ، ليس لها من دون الله
ولي ، يعني قريبا ينفعهم ، ) ولا شفيع ( في الآخرة يشفع لهم ، ) وإن تعدل ( ، يعني
فتفتدى هذه النفس المرتهنة بعملها ، ) كل عدل ( ، فتعطى كل فداء ملء الأرض
ذهبا ، ) لا يؤخذ منها ( ، يعني لا يقبل منها ، ) أولئك ( يعنيهم ، ) الذين أبسلوا ( ،
يعني حبسوا في النار ، ) بما كسبوا لهم شراب من حميم ( ، يعني النار التي قد انتهى
حرها ، ) وعذاب أليم ( ، يعني وجيع ، ) بما كانوا يكفرون ) [ آية : 70 ] .
تفسير سورة الأنعام آية 71
الأنعام : ( 71 ) قل أندعو من . . . . .
) قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ( ، وذلك أن كفار مكة عذبوا نفرا
من المسلمين على الإسلام ، وأرادوهم على الكفر ، يقول الله لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل أتعبدون من دون الله ( من آلهة ، يعني الأوثان ، ) ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ) [ المائدة :
76 ] في الآخرة ، ولا يملك لنا ضرا في الدنيا ، ) ونرد على أعقابنا ( ، يعني ونرجع إلى
الشرك ، ) بعد إذ هدانا الله ( إلى دينه الإسلام ، فهذا قول المسلمين للكفار حين قالوا
لهم : اتركوا دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واتبعوا ديننا ، يقول الله للمؤمنين : ردوا عليهم : فإن مثلنا إن
اتبعناكم وتركنا ديننا ، كان مثلنا ) كالذي استهوته الشياطين ( وأصحابه على الطريق
يدعونه إلى الهدى : إن ائتنا ، فإنا على الطريق ، فأبى ذلك الرجل أن يأتيهم ، فذلك مثلنا
لإن تركنا دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ونحن على طريق الإسلام ، وأما الذي استهوته الشياطين ، يعني
أضلته ، ) في الأرض حيران ( ، لا يدري أين يتوجه ، فإنه عبد الرحمن بن أبي بكر
الصديق ، أضلته الشياطين عن الهدى ، فهو حيران ، ) له أصحاب ( مهتدون ، ) يدعونه إلى الهدى ( ، يعني أبويه ، قالا له : ( ائتنا ( ، فإنا على الهدى ، وفيه نزلت ، والذي
قال لوالديه : ( أف لكم ) [ الأنبياء : 67 ] ، فذلك قوله : ( قل إن هدى الله هو الهدى ( ، يعني الإسلام هو الهدى ، والضلال الذي تدعونا الشياطين إليه هو الذي أنتم
عليه ، قل لهم : ( وأمرنا لنسلم ( ، يعني لنخلص ، ) لرب العالمين ) [ آية : 71 ] ، فقد فعلنا(1/353)
صفحة رقم 354
تفسير سورة الأنعام آية 72 ]
الأنعام : ( 72 ) وأن أقيموا الصلاة . . . . .
ثم أمرهم بالعمل ، فقال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وأن أقيموا الصلاة ( لمواقيتها ، يخبرهم أنه لا
تنفعهم الصلاة إلى مع الإخلاص ، ) واتقوه ( ، يعني وحدوه ، ) وهو الذي إليه تحشرون ) [ آية : 72 ]
.
تفسير سورة الأنعام آية [ 73 - 81 ]
الأنعام : ( 73 ) وهو الذي خلق . . . . .
ثم خوفهم ، فقال : ( وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ( ، يعني بأنه لم
يخلقهما باطلا لغير شيئ ، ولكن خلقهما لأمر هو كائن ، ) ويوم يقول ( الله للبعث مرة
واحدة : ( كن فيكون ( ، لا يثنى الرب القول مرتين ، ) قوله ( في البعث
) الحق ( ، يعني الصدق ، وأنه كائن ، ) وله الملك يوم ينفخ ( ، أي ينفخ إسرافيل ،
)( في الصور عالم الغيب ( ، يعلم غيب ما كان وما يكون ، ثم قال : ( والشهادة ( ،
يعني شاهد كل نجوى وكل شيء ، ) وهو الحكيم ( ، يعني حكم البعث ،
)( الخبير ) [ آية : 73 ] بالبعث متى يبعثهم .
الأنعام : ( 74 ) وإذ قال إبراهيم . . . . .
) وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ( ، اسمه بكلام قومه : تارح : ( أتتخذ أصناما(1/354)
صفحة رقم 355
آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ) [ آية : 74 ] ، وولد إبراهيم بكوتي ، وذلك أن
الكهنة قالوا لنمروذ الجبار : إنه يولد في هذه السنة غلام يفسد آلهة أهل الأرض ، ويدعو
إلى غير آلهتكم ، ويكون هلاك ملكك وهلاك أهل بيتك بسببه ، فقال نمروذ : إن دواء هذا
لهين ، نعزل الرجال عن النساء ، ونعمد إلى كل غلام يولد في هذه السنة فنقتله إلى أن
تنقضي السنة ، فقالوا : إن فعلت ذلك ، وإلا كان الذي قلنا لك .
فعمد نمروذ ، فجعل على كل عشرة رجال رجلا ، وقال لهم : إذا طهرت المرأة فحولوا
بينها وبين زوجها إلى أن تحيض ، ثم يرجع إلى امرأته إلى أن تطهر ، ثم يحال بينهما ،
فرجع آزر إلى امرأته ، فجامعها على طهر فحملت ، قالت الكهنة : قد حمل به الليلة ، قال
نمروذ : انظروا إلى كل امرأة استبان حملها ، فخلوا سبيلها ، وانظروا بقيتهن ، فلما دنا
مخاض أم إبراهيم ، عليه السلام ، دنت إلى نهر يابس ، فولدت فيه ، ثم لفته في خرقة ،
فوضعته في حلفا ، ثم رجعت إلى بيتها ، فأخبرت زوجها بمكانه ، فعمد أبوه فحفر له
سربا في الأرض ، ثم جعله فيه وسد عليه بصخرة مخافة السباع ، فكانت أمه تختلف إليه
وترضعه حتى فطمته وعقل ، وكان ينبت في اليوم نبات شهر ، وفي الشهر نبات سنة ،
وفي السنة نبات سنتين ، فقال لأمه : من ربي ؟ قالت : أنا ، قال : من ربك ؟ قالت : أبوك ،
قال : فمن رب أبي ؟ فضربته ، وقالت له : اسكت فسكت الصبي .
ورجعت إلى زوجها ، فقالت : أرأيت الغلام الذي كنا نخبر أنه يغير دين أهل الأرض ؟
فهو ابنك ، وأخبرته الخبر ، فأتاه أبوه وهو في السرب ، فقال : يا أبت ، من ربي ؟ قال :
أمك ، قال : فمن رب أمي ؟ قال : أنا ، قال : فمن ربك ؟ فضربه ، وقال له : اسكت ،
الأنعام : ( 75 ) وكذلك نري إبراهيم . . . . .
) وكذلك ( ، يعني هكذا ، ) نرى إبراهيم ملكوت ( ، يعني خلق ) السماوات
والأرض ( ، وما بينهما من الآيات ، ) وليكون ) ) إبراهيم ( ( من الموقنين ) [ آية : 75 ]
بالرب أنه واحد لا شريك له .
وذلك أن إبراهيم سأل ربه أن يريه ملكوت السماوات والأرض ، فأمر الله جبريل ،
عليه السلام ، فرفعه إلى الملكوت ينظر إلى أعمال العباد ، فرأى رجلا على معصية ، فقال :
يا رب ، ما أقبح ما يأتي هذا العبد ، اللهم اخسف به ، ورأى آخر فأعاد الكلام ، قال :
فأمر الله جبريل ، عليه السلام ، أن يرده إلى الأرض ، فأوحى الله إليه : مهلا يا إبراهيم ، فلا(1/355)
صفحة رقم 356
تدع على عبادى ، فإني من عبادى على إحدى خصلتين : إما أن يتوب إلى قبل موته
فأتوب عليه ، وإما أن يموت فيدع خلفا صالحا فيستغفر لأبيه فأغفر لهما بدعائه .
الأنعام : ( 76 ) فلما جن عليه . . . . .
) فلما جن عليه اليل ( ، دنا من باب السرب ، وذلك في آخر الشهر ، فرأى الزهرة
أول الليل من خلال السرب ومن وراء الصخرة ، والزهرة أحسن الكواكب ، ) رءا
كوكبا قال هذا ربي فلما أفل ( ، يعني غاب ، ) قال ( إبراهيم : ( لا أحب الآفلين (
[ آية : 76 ] ، يعني الغائبين الذاهبين ، وربى لا يذهب ولا يغيب .
الأنعام : ( 77 ) فلما رأى القمر . . . . .
) فلما ( كان آخر الليل ، ) رءا القمر بازغا ( ، يعني طالعا أعظم وأضوأ من
الكواكب ، ) قال هذا ربي ( ، وهو ينظر إليه ، ) فلما أفل ( ، يعني غاب ، ) قال لئن لم يهدني ربي ( لدينه ) لأكونن من القوم الضالين ) [ آية : 77 ] عن الهدى .
الأنعام : ( 78 ) فلما رأى الشمس . . . . .
) فلما رءا الشمس بازغة ( ، يعني طالعة في أول ما رآها ملأت كل شيء ضوءا ،
)( قال هذا ربي هذا أكبر ( ، يعني أعظم من الزهرة والقمر ، ) فلما أفلت ( ، يعني
غابت ، عرف أن الذي خلق هذه الأشياء دائم باق ، ورفع الصخرة ، ثم خرج فرأى قومه
يعبدون الأصنام ، فقال لهم : ما تعبدون ؟ قالوا : نعبد ما ترى ، ) قال يا قوم ( ، عبادة رب
واحد خير من عبادة أرباب كثيرة ، و ) إني بريءٌ مما تشركون ) [ آية : 78 ] بالله من الآلهة ، قالوا : فمن تعبد يا إبراهيم ؟ قال : أعبد الله الذي خلق السماوات والأرض حنيفا ،
يعني مخلصا لعبادته ، وما أنا من المشركين ، وذلك قوله :
الأنعام : ( 79 ) إني وجهت وجهي . . . . .
) إني وجهت وجهي ( ، يعني
ديني ) للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ( ، يعني مخلصا ، ) وما أنا من المشركين ) [ آية : 79 ] .
الأنعام : ( 80 ) وحاجه قومه قال . . . . .
ثم إن نمروذ بن كنعان الجبار خاصم إبراهيم ، فقال : من ربك ؟ قال إبراهيم : ربى
الذي يحيى ويميت ، وهو قوله : ( وحاجه قومه ( ، فعمد نمروذ إلى إنسان فقتله ، وجاء
بآخر فتركه ، فقال : أنا أحييت هذا وأمت ذلك ، قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من
المشرق ، فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر ، يعني نمروذ ، قوله : ( وحاجه قومه ( ،
وذلك أنهم لما سمعوا إبراهيم ، عليه السلام ، عاب آلهتهم وبرئ منها ، قالوا لإبراهيم : إن
لم تؤمن بآلهتنا ، فإنا نخاف أن تخبلك وتفسدك فتهلك ، فذلك قوله : ( وحاجه قومه ( ،
يعني وخاصمه قومه ، ) قال أتحاجوني في الله وقد هدان ( لدينه ، ) ولا أخاف ما تشركون به ( ، يعني بالله من الآلهة ، وهي لا تسمع ولا تبصر شيئا ، ولا تفع ولا تضر ،(1/356)
صفحة رقم 357
وتنحتونها بأيديكم ، ) إلا أن يشاء ربي شيئا ( ، فيضلني عن الهدى ، فأخاف آلهتكم
أن تصيبني بسوء ، ) وسع ( ، يعني ملأ ) ربي كل شيء علما ( ، فعلمه ، ) أفلا ) ،
يعني فهلا ) تتذكرون ) [ آية : 80 ] فتعتبرون .
الأنعام : ( 81 ) وكيف أخاف ما . . . . .
ثم قال لهم ) وكيف أخاف ما أشركتم ( بالله من الآلهة ) ولا تخافون ) ) أنتم ب ( ( أنكم أشركتم بالله ) ) غيره ( ( ما لم ينزل به عليكم سلطانا ( ، يعني كتاباً
فيه حجتكم بأن معه شريكاً ، ثم قال لهم ) فأي الفريقين أحق بالأمن ( ، أنا أو أنتم ؟ ) إن كنتم تعلمون ) [ آية : 81 ] من عبد إلهاً واحداً أحق بالأمن أم من عبد أرباباً
شتى ، يعنى آلهة صغاراً وكباراً ، ذكوراً وإناثاً ، فكيف لا يخاف من الكبير إذا سوى
بالصغير ؟ وكيف لا يخاف من الذكر إذا سوى بالأنثى ؟ أخبروني أي الفريقين أحق
بالأمن من الشر إن كنتم تعلمون .
تفسير سورة الأنعام من آية [ 82 - 90 ] .
الأنعام : ( 82 ) الذين آمنوا ولم . . . . .
فرد عليه قومه ، فقال : ( الذين ءامنوا ( برب واحد ، ) ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ( ،
يعني ولم خلطوا تصديقهم بشرك ، فلم يعبدوا غيره ، ) أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (
[ آية : 82 ] من الضلالة ، فأقروا بقول إبراهيم ، وفلح عليهم ، فذلك قوله :
الأنعام : ( 83 ) وتلك حجتنا آتيناها . . . . .
) وتلك
حجتنا ءاتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم ( في أمره
) عليم ) [ آية : 83 ] بخلقه .(1/357)
صفحة رقم 358
الأنعام : ( 84 ) ووهبنا له إسحاق . . . . .
ثم قال : ( ووهبنا له ( ، يعني إبراهيم ، ) إسحاق ويعقوب كلا هدينا (
للإيمان ، ) ونوحا هدينا ( إلى الإسلام ) من قبل ( إبراهيم ، ) ومن ذريته ( ، يعني
من ذرية نوح ، ) داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك ( ، يعني
هكذا ، ) نجزي المحسنين ) [ آية : 84 ] ، يعني هؤلاء الذين ذكرهم الله ،
الأنعام : ( 85 ) وزكريا ويحيى وعيسى . . . . .
) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ) [ آية : 85 ] ،
الأنعام : ( 86 ) وإسماعيل واليسع ويونس . . . . .
) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا ( بالنبوة من الجن والإنس ) على العالمين ) [ آية : 86 ] .
الأنعام : ( 87 ) ومن آبائهم وذرياتهم . . . . .
) ومن ءابائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم ( ، يعني واستخلصناهم بالنبوة ،
)( وهديناهم إلى صراط مستقيم ) [ آية : 87 ] ، يعني الإسلام ،
الأنعام : ( 88 ) ذلك هدى الله . . . . .
) ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ( ، يعني ثمانية عشر نبياً ، ) من عباده ( ، فيعطيه النبوة ، ) ولو أشركوا ( بالله ،
)( لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) [ آية : 88 ] .
الأنعام : ( 89 ) أولئك الذين آتيناهم . . . . .
ثم ذكر ما أعطى النبيين ، فقال : ( أولئك الذين آتيناهم الكتاب ( ، يعني أعطيناهم
الكتاب ، يعني كتاب إبراهيم ، والتوراة ، والزبور ، والإنجيل ، ) والحكم ( ، يعني العلم
والفهم ، ) والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء ( من أهل مكة بما أعطى الله النبيين من الكتب ،
)( فقد وكلنا بها ( ، يعني بالكتب ، ) قوما ليسوا بها بكافرين ) [ آية : 89 ] ، يعني أهل
المدينة من الأنصار .
الأنعام : ( 90 ) أولئك الذين هدى . . . . .
ثم ذكر النبيين الثمانية عشر ، فقال : ( أولئك الذين هدى الله ( لدينه ، ) فبهداهم اقتده ( ، يقول للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : فبسنتهم اقتد ، ) قل لا أسئلكم عليه ( ، يعني على
الإيمان بالقرآن ، ) أجرا ( ، يعني جميلاً ، ) ان هو ( ، يعني ما القرآن ) إلا ذكرى ( ،
يعني تذكرة ) للعالمين ) [ آية : 90 ] .
تفسير سورة الأنعام من آية [ 91 - 94 ](1/358)
صفحة رقم 359
الأنعام : ( 91 ) وما قدروا الله . . . . .
) وما قدروا الله حق قدره ( ، يعني ما عظموا الله حق عظمته ، ) إذ قالوا ما أنزل الله
على بشر من شيء ( ، يقول : على رسول من كتاب ، فما عظموه حين كذبوا بأنه لم ينزل
كتاباً على الرسل ، نزلت في مالك بن الضيف اليهودي حين خاصمه عمر بن الخطاب
في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه مكتوب في التوراة ، فغضب مالك ، فقال : ما أنزل الله على أحد كتاباً
ربانياً في اليهود ، فعزلته اليهود عن الربانية ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا ( ، يعني ضياء من الظلمة ، ) وهدى للناس ( من الضلالة ، ) تجعلونه قراطيس ( ، يعني صحفاً ليس فيها شيء ، ) تبدونها ( تعلنونها ، ) وتخفون ( ، يعني
وتسرون ، ) كثيرا ( ، فكان مما أخفوا أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأمر الرجم في التوراة ،
)( وعلمتم ( في التوراة ) ما لم تعلموا أنتم ولا ( ولم يعلمه ) آباؤكم ( ، ثم قال في
التقديم : ( قل الله ( أنزل على موسى ، عليه السلام ، ) ثم ذرهم ( ، يعني خل عنهم
إن لم يصدقوك ، ) في خوضهم يلعبون ) [ آية : 91 ] ، في باطلهم يلهون ، يعني اليهود ،
نزلت هذه الآية بالمدينة ، ثم إن مالك بن الضيف تاب من قوله ، فلم يقبلوا منه ، وجعلوا
مكانه رجلاً في الربانية .
الأنعام : ( 92 ) وهذا كتاب أنزلناه . . . . .
) وهذا كتاب أنزلناه ( على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) مبارك ( لمن عمل به ، وهو ) مصدق الذي بين يديه ( ، يقول : يصدق لما قبله من الكتب التي أنزلها الله عز وجل على الأنبياء ،
)( ولتنذر أم القرى ( ، يعني لكي تنذر بالقرآن أصل القرى ، يعني مكة ؛ وإنما سميت أم
القرى ؛ لأن الأرض كلها دحيت من تحت الكعبة ، ) و ( تنذر بالقرآن ) ومن حولها ( ، يعني حول الكعبة ، يعني قرى الأرض كلها ، ) والذين يؤمنون بالآخرة ( ، يعني
يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، ) يؤمنون به ( ، يعني يصدقون بالقرآن أنه
جاء من الله عز وجل ، ثم نعتهم ، فقال : ( وهم على صلاتهم يحافظون ) [ آية : 92 ] عليها
في مواقيتها لا يتركونها .
الأنعام : ( 93 ) ومن أظلم ممن . . . . .
) ومن أظلم ( ، هذه الآية مدنية ، فلا أحد أظلم ) ممن افترى على الله كذباً أو قال(1/359)
صفحة رقم 360
أوحِى إلي ولم يوحى إليه شيء ( ، نزلت في مسيلمة بن حبيب الكذاب الحنفي ، حيث زعم
أن الله أوحى إليه النبوة ، وكان مسيلمة أرسل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رسولين ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم )
لهما : ' أتشهدان أن مسيلمة نبي ؟ ' ، قال : نعم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لولا أن الرسل لا تقتل
لضربت أعناقكما ' ، ثم قال : ( ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ( ، فلا أحد أيضاً أظلم
منه ، نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي ، من بني عامر بن لؤي ، وكان
أخا عثمان بن عفان من الرضاعة ، كان يتكلم بالإسلام ، وكتب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً سورة
النساء ، فإذا أملى عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( غفوراً رحيماً ) ) كتب ( ( عليما حكيما ( ،
وإذا أملى عليه : ( سميعاً بصيراً ) ) كتب ( ( سميعاً عليماً ( ، فقال لقوم من المنافقين :
كتبت غير الذي أملى علي ، وهو ينظر إليه فلم يغيره ، فشك عبد الله بن سعد في إيمانه ،
فلحق بمكة كافراً ، فقال لهم : لئن كان محمد صادقاً فيما يقول ، لقد أنزل عليّ كما أنزل
عليه ، ولئن كان كاذباً ، لقد قلت كما قال ، وإنما شك لسكوت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو ينظر
إليه ، فلم يغير ذلك ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان أمياً لا يكتب .
ثم قال : ( ولو ترى إذ الظالمون ( ، يعني مشركي مكة ، ) في غمرات الموت (
يعني في سكرات الموت ، إذ قتلوا ببدر ، ) والملائكة باسطوا أيديهم ( عند الموت
تضرب الوجوه والأدبار ، يعني ملك الموت وحده ، وهو يقول : ( أخرجوا
أنفسكم ( ، يعني أرواحكم ، منهم : أبو جهل ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة ، والوليد بن
عتبة ، وأمية بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، وأبو قيس بن الفاكه ،
والوليد بن المغيرة ، وقريباً من سبعين قتيلاً ، فلما بعثوا في الآخرة ، وصاروا في النار ،
قالت لهم خزنة جهنم : ( اليوم تجزون عذاب الهون ( ، يعني الهوان بغير رأفة ولا رحمة ،
نظيرها في الأنفال ، ) بما كنتم تقولون على الله ) ) في الدنيا ( ( غير الحق ( بأن معه
شريكاً ، ) وكنتم عن ءاياته تستكبرون ) [ آية : 93 ] ، يعني وكنتم تتكبرون عن الإيمان
بالقرآن .
الأنعام : ( 94 ) ولقد جئتمونا فرادى . . . . .
) ولقد جئتمونا ) ) في الآخرة ( ( فرادى ( ، ليس معكم من الدنيا شيء ، ) كما
خلقناكم أول مرة ( حين ولدوا وليس لهم شيء ، ) وتركتم ما خولنكم ) ) في الدنيا ( ( وراء
ظهوركم ( ، يعني ما أعطيناكم من الخير من بعدكم في الدنيا ، ) وما نرى معكم
شفعاءكم ) ) من الملائكة ( ( الذين زعمتم ) ) في الدنيا ( ( أنهم فيكم شركاء ( ، يعني أنهم
لكم شفعاء عند الله ، لقولهم في يونس : ( هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [ يونس : 18 ] ،(1/360)
صفحة رقم 361
يعني الملائكة ، ثم قال : ( لقد تقطع بينكم ( وبين شركاءكم ، يعني من الملائكة من
المودة والتواصل ، ) وضل عنكم ( في الآخرة ) ما كنتم تزعمون ) [ آية : 94 ] في
الدنيا بأن مع الله شريكاً .
تفسير سورة الأنعام من آية [ 95 - 99 ]
الأنعام : ( 95 ) إن الله فالق . . . . .
) إن الله فالق الحب ( ، يعني خالق الحب ، يعني البر ، والشعير ، والذرة ، والحبوب
كلها ، ثم قال : ( والنوى ( ، يعني كل ثمرة لها نوى : الخوخ ، والنبق ، والمشمش ،
والعنب ، والإجاص ، وكل ما كان من الثمار له نوى ، ثم قال : ( يخرج الحي من الميت ( ،
يقول أخرج الناس والدواب من النطف وهي ميتة ، ويخرج الطير كلها من البيضة وهي
ميتة ، ثم قال : ( ومخرج الميت من الحي ( ، يعني النطف والبيض من الحي ، يعني
الحيوانات كلها ، ) ذلكم الله ( الذي ذكر في هذه الآية من صنعه وحده يدل على
توحيده بصنعه ، ثم قال : ( فأنى تؤفكون ) [ آية : 95 ] ، يقول : أني يكذبون بأن الله
وحده لا شريك له .
الأنعام : ( 96 ) فالق الإصباح وجعل . . . . .
ثم ذكر أيضاً في هذه من صنعه ليدل على توحيده بصنعه ، فقال : ( فالق الإصباح ( ،
يعني خالق النهار من حين يبدوا أوله ، ) وجعل الليل سكنا ( لخلقه يسكنون فيه لراحة
أجسادهم ) و ( جعل ) والشمس والقمر حسبانا ( ، يقول : جعلهما في مسيرهما
كالحسبان في القلك ، يقول : لتعلموا عدد السنين والحساب ، وذلك أن الله قدر لهما
منازلهما في السماء الدنيا ، فذلك قوله : ( ذلك تقدير العزيز ( في ملكه يصنع ما أراد ،
)( العليم ) [ آية : 96 ] بما قدر من خلقه ، نظيرها في يونس .
الأنعام : ( 97 ) وهو الذي جعل . . . . .
ثم قال : ( وهو الذي جعل لكم النجوم ( نوراً ، ) لتهتدوا بها ( بالكواكب ليلاً ،(1/361)
صفحة رقم 362
يقول : لتعرفوا الطريق إذا سرتم ، ) في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون (
[ آية : 97 ] بأن الله واحد لا شريك له ،
الأنعام : ( 98 ) وهو الذي أنشأكم . . . . .
ثم أخبر عن صنعه ، فقال : ( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة ( ، يعني خلقكم من نفس واحدة ، يعني آدم وحده ، ) فمستقر ( في
أرحام النساء ، ) ومستودع ( في أصلاب الرجال مما لم يخلقه وهو خالقه ، ) قد فصلنا الآيات ( ، يعني قد بينا الآيات ، ) لقوم يفقهون ) [ آية : 98 ] عن الله عز وجل .
الأنعام : ( 99 ) وهو الذي أنزل . . . . .
ثم أخبر عن صنعه ليعرف توحيده ، فقال : ( وهو الذي أنزل من السماء ماء ( ، يعني
المطر ، ) فأخرجنا به ( ، يعني بالمطر ، ) نبات كل شيء ( ، يعني الثمار والحبوب وألوان
النبات ، ) فأخرجنا منه خضرا ( ، يعني أول النبات ، ) تخرج منه ( ، يعني من الماء ،
)( حبا متراكبا ( ، يعني السنبل قد ركب بعضه بعضاً ، ) و ( أخرجنا بالماء ) ومن النخل من طلعها ( ، يعني من ثمرها ، ) قنوان ( ، يعني قصار النخل ، ) دانية ( ، يعني
ملتصقة بالأرض تجنى باليد ، ) و ( أخرجنا بالماء ) وجنات ( ، يعني البساتين ، ثم نعت
البساتين ، فقال : ( من ( نخيل و ) أعناب والزيتون والرمان مشتبها ( ، ورقها في المنظر
يشبه ورق الزيتون وورق الرمان ، ثم قال : ( وغير متشابه ( في اللون مختلف في الطعم ،
)( انظروا إلى ثمره إذا أثمر ( حين يبدو غضاً أوله صيصاً ، ) وينعه إن في ذلكم ( ،
يعني إن في هذا الذي ذكر من صنعه وعجائبه لعبرة ، ) لآيات لقوم يؤمنون ) [ آية :
99 ] ، يعني يصدقون بالتوحيد .
تفسير سورة الأنعام من الآية [ 100 - 105 ](1/362)
صفحة رقم 363
الأنعام : ( 100 ) وجعلوا لله شركاء . . . . .
) وجعلوا ( يعني وصفوا ) لله ( الذي خلقهم في التقديم ) شركاء الجن ( من
الملائكة ، وذلك أن جهينة ، وبني سلمة ، وخزاعة وغيرهم ، قالوا : إن حياً من الملائكة
يقال لهم : الجن بنات الرحمن ، فقال الله : ( وخلقهم وخرقوا له ( ، يعني وتخرصوا ، يعني
يخلقوا لله ) بنين وبنات بغير علم ( يعلمونه أن له بنين وبنات ، وذلك أن اليهود ،
قالوا : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالت العرب : الملائكة بنات الله ،
يقول الله : ( سبحانه ( نزه نفسه عما قالوا من البهتان ، ثم عظم نفسه ، فقال :
( وتعالى ( ، يعني وارتفع ) عما يصفون ) [ آية : 100 ] ، يعني يقولون من
الكذب .
الأنعام : ( 101 ) بديع السماوات والأرض . . . . .
فعظم نفسه وأخبر عن قدرته ، فقال : ( بديع السماوات والأرض ( ، لم يكونا فابتدع
خلقهما ، ثم قال : ( إني ( ، يعني من أين ) يكون له ولد ولم تكن له صحبة ( ، يعني
زوجة ، ) وخلق كل شيء ( ، يعني من الملائكة ، وعزير ، وعيسى ، وغيرهم فهم خلقه
وعباده وفي ملكه ، ثم قال : ( وهو بكل شيء عليم ) [ آية : 101 ] .
الأنعام : ( 102 ) ذلكم الله ربكم . . . . .
ثم دل على نفسه بصنعه ليوحدوه ، فقال : ( ذلكم الله ربكم ( الذي ابتدع
خلقهما وخلق كل شيء ولم يكن له صاحبة ولا ولد ، ثم وحد نفسه إذ لم يوحده كفار
مكة ، يقال : ( لا إله إلا هو خلق كل شيء فاعبدوه ( ، يعني فوحدوه ، ) وهو
على كل شيء وكيل ) [ آية : 102 ] ، وهو رب كل شيء ذكر من بنين وبنات
وغيرهم .
الأنعام : ( 103 ) لا تدركه الأبصار . . . . .
ثم عظم نفسه ، فقال : ( لا تدركه الأبصار ( يقول : لا يراه الخلق في الدنيا ،
)( وهو يدرك الأبصار ( ، وهو يرى الخلق في الدنيا ، ) وهو اللطيف ( لطف علمه
وقدرته حين يراهم في السماوات والأرض ، ) الخبير ) [ آية : 103 ] بمكانهم .
الأنعام : ( 104 ) قد جاءكم بصائر . . . . .
) قد جاءكم ( يا أهل مكة ، ) بصائر ( ، يعني بيان ) من ربكم ( ، يعني القرآن ،
نظيرها في الأعراف ، ) فمن أبصر ( إيماناً بالقرآن ، ) فلنفسه ومن عمي ( عن إيمان
بالقرآن ، ) فعليها ( ، يعني فعلى نفسه ، ) وما أنا عليكم بحفيظ ) [ آية : 104 ] ،
يعني برقيب ، يعني محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .(1/363)
صفحة رقم 364
الأنعام : ( 105 ) وكذلك نصرف الآيات . . . . .
) وكذلك ( ، يعني وهكذا ) نصرف الآيات ( في أمور شتى ، يعني ما ذكر ،
)( وليقولوا درست ( ، يعني قابلت ودرست ، يعني تعلمت من غيرك يا محمد ، فأنزل
الله : ( وكذلك نصرف الآيات ( ؛ لئلا يقولوا : درست وقرأت من غيرك ،
)( ولنبينه ( ، يعني القرآن ، ) لقوم يعلمون ) [ آية : 105 ] .
تفسير سورة الأنعام من آية [ 106 - 110 ]
الأنعام : ( 106 ) اتبع ما أوحي . . . . .
) اتبع ما أوحي إليك من ربك ( ، وذلك حين دعي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى ملة آبائه ، فأنزل
الله عز وجل : ( اتبع ما أوحي إليك من ربك ( ) لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ) [ آية : 106 ] ، يقول الله لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : أعرض عنهم إذا أشركوا .
الأنعام : ( 107 ) ولو شاء الله . . . . .
) ولو شاء الله ما أشركوا ( ، يقول ' ولو شاء الله لمنعهم من الشرك ، ) وما جعلناك عليهم حفيظا ( ، يعني رقيباً إن لم يوحدوا ، ) وما أنت عليهم بوكيل ) [ آية : 107 ] ،
يعني بمسيطر ، فنسختها آية السيف .
الأنعام : ( 108 ) ولا تسبوا الذين . . . . .
) ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه كانوا
يذكرون أوثان أهل مكة بسوء ، فقالوا : لينتهين محمد عن شتم آلهتنا أو لنسبن ربه ، فنهى
الله المؤمنين عن شتم آلهتهم فيسبوا ربهم ؛ لأنهم جهلة بالله ، وأنزل الله : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ( ، يعني يعبدون من دون الله من الآلهة ، ) فيسبوا الله عدوا بغير علم ( يعلمونه أنهم يسبون الله ، يعني أهل مكة ، ) كذلك ( ، يعني هكذا
) زينا لكل أمة عملهم ( ، يعني ضلالتهم ، ) ثم إلى ربهم مرجعهم ( في الآخرة ،(1/364)
صفحة رقم 365
) فينبئهم بما كانوا يعملون ) [ آية : 108 ] .
الأنعام : ( 109 ) وأقسموا بالله جهد . . . . .
فلما نزلت هذه الآية ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه : ' لا تسبوا ربكم ' فأمسك المسلمون
عند ذلك عن شتم آلهتهم ، ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم ( ، فمن حلف بالله فقد اجتهد
في اليمين ، وذلك أن كفار مكة حلفوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) لئن جاءتهم ءاية ( كما كانت
الأنبياء تجيء بها إلى قومهم ، ) ليؤمنن بها ( ليؤمنن بالآية ، قال الله لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل إنما الآيات عند الله ( ، إن شاء أرسلها وليست بيدي ، ) وما يشعركم ( وما يدريكم
) أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) [ آية : 109 ] ، يعني لا يصدقون ، لما سبق في علم الله من
الشقاء .
الأنعام : ( 110 ) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم . . . . .
) ونقلب أفئدتهم ( ، يعني قلوبهم ، ) وأبصارهم ( عن الإيمان ، ) كما لم يؤمنوا به أول مرة ( ، يقول : كما لم يؤمن بها أوائلهم من الأمم الخالية بما سألوا من الآيات
قبلها ، فكذلك كفار أهل مكة لا يصدقون بها إن جاءتهم آية ، ثم قال : ( ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ آية : 110 ] ، يعني في ضلالتهم يترددون ، لا نخرجهم منها أبداً .
تفسير سورة الأنعام من آية [ 111 - 114 ]
الأنعام : ( 111 ) ولو أننا نزلنا . . . . .
ثم أخبر عما علمه فيهم ، فقال : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ( ، وأخبروهم
أن محمداً رسول كما سألوا ، لقولهم في الفرقان : ( لولا أنزل علينا الملائكة (
[ الفرقان : 21 ] ، يعني المستهزئين من قريش ، أبا جهل وأصحابه ، ثم قال : ( وكلمهم الموتى ( ، لقولهم : ابعث لنا ، رجلين أو ثلاثة من آبائنا ، فنسألهم عما أمامهم مما تحدثنا أنه
يكون بعد الموت أحق هو ؟ ثم قال : ( وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ( ، يعني عياناً ، قال أبو
محمد : ومن قرأه : ' قبلاً ' أراد قبيلاً قبيلاً ، رواه عن ثعلب ، فعاينوه كله ، فلو فعلت هذا
كله ، فأخبروهم بأن الذي يقول محمد حق ، ) ما كانوا ليؤمنوا ( ، يعني ليصدقوا ، ) إلا(1/365)
صفحة رقم 366
ن يشاء الله ( لهم الإيمان ، ) ولكن أكثرهم ( أكثر أهل مكة ) يجهلون ) [ آية :
111 ] .
الأنعام : ( 112 ) وكذلك جعلنا لكل . . . . .
ثم قال : ( وكذلك ( ، يعني وهكذا ، ) جعلنا لكل نبي عدواً ( من قومه ، يعني أبا
جهل عدواً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، كقولهم في الفرقان : ( وقالوا مال هذا الرسول . . . ) [ الفرقان :
7 ] إلى آخر الآية ، قوله : ( شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض ( ، وذلك أن
إبليس وكل شياطين بالإنس يضلونهم ، ووكل شياطين بالجن يضلونهم ، فإذا التقى
شيطان الإنس مع شيطان الجن ، قال أحدهما لصاحبه : إني أضللت صاحبي بكذا وكذا ،
فأضلل أنت صاحبك بكذا وكذا ، فذلك قوله : ( يوحي بعضهم إلى بعض ( ، يقول :
يزين بعضهم ) زخرف القول غروراً ( ، يقول : ذلك التزيين بالقول باطل ، يغرون به
الإنس والجن ، ثم قال : ( ولو شاء ربك ما فعلوه ( ، يقول : لو شاء الله لمنعهم عن ذلك ،
ثم قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فذرهم ( ، يعني خل عنهم ، يعني كفار مكة ، ) وما يفترون (
[ آية : 112 ] من الكذب .
الأنعام : ( 113 ) ولتصغى إليه أفئدة . . . . .
) ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ( ، يعني ولتميل إلى ذلك الزخرف
والغرور قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ، يعني الذين لا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء
الأعمال ، ) وليرضوه ( ، يعني وليحبوه ، ) وليقترفوا ما هم مقترفون ) [ آية : 113 ] ،
يعني ليعملوا من المعاصي ما هم عاملون .
الأنعام : ( 114 ) أفغير الله أبتغي . . . . .
) أفغير الله أبتغي حكماً ( ، فليس أحد أحسن قضاء من الله في نزول العذاب
ببدر ، ) وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً ( ، يعني القرآن حلاله وحرامه ، وكل
شيء مفصلاُ ، يعني مبيناً فيه أمره ونهيه ، ) والذين ءاتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من
ربك بالحق فلا تكونن ممن الممترين ) [ آية : 114 ] .
تفسير سورة الأنعام من آية [ 115 - 117 ]
الأنعام : ( 115 ) وتمت كلمة ربك . . . . .
) وتمت كلمت ربك ( بأنه ناصر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ببدر ، ومعذب قومه ببدر ، فحكمه عدل
في ذلك ، فذلك قوله : ( صدقاً ( فيما وعد ، ) وعدلا ( فيما حكم ، ) لا مبدل(1/366)
صفحة رقم 367
لكلماته ( ، يعني لا تبديل لقوله في نصر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأن قوله حق ، ) وهو السميع (
بما سألوا من العذاب ، ) العليم ) [ آية : 115 ] به حين سألوا ، ) فأسقط علينا كسفاً
من السماء ) [ الشعراء : 187 ] ، يعني جانباً من السماء .
الأنعام : ( 116 ) وإن تطع أكثر . . . . .
) وإن تطع ( يا محمد ) أكثر من في الأرض ( ، يعني أهل مكة حين دعوه إلى
ملة آبائه ، ) يضلوك عن سبيل الله ( ، يعني يستنزلوك عن دين الإسلام ، ) إن يتبعون
إلا الظن وإن هم ( ، يعني وما هم ) إلا يخرصون ) [ آية : 116 ] الكذب ،
الأنعام : ( 117 ) إن ربك هو . . . . .
) إن ربك
هو أعلم من يضل عن سبيله ( ، يعني عن دينه الإسلام ، ) وهو أعلم بالمهتدين (
[ آية : 117 ] .
تفسير سورة الأنعام من آية [ 118 - 121 ]
الأنعام : ( 118 ) فكلوا مما ذكر . . . . .
) فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بأياته مؤمنين ) [ آية : 118 ] ، يعني بالقرآن
مصدقين ، وذلك أن كفار مكة حين سمعوا أن الله حرم الميتة ، قالوا للمسلمين : أتزعمون
أنكم تتبعون مرضاة ربكم ؟ ألا تحدثونا عما قتلتم أنتم بأيديكم أهو أفضل ؟ أو ما قتل
الله ؟ فقال المسلمون : بل الله أفضل صنعاً ، فقالوا لهم : فما لكم تأكلون مما ذبحتم
بأيديكم ، وما ذبح الله فلا تأكلونه ، وهو عندكم ميتة ؟ فأنزل الله :
الأنعام : ( 119 ) وما لكم ألا . . . . .
) وما لكم ألا
تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم ( ، يعني وقد بين لكم ما
حرم عليكم ، يعني الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، ثم استثنى ، فقال : ( إلا ما اضطررتم
إليه ( مما نهيتم عن أكله ، ) وإن كثيراً ( من الناس ، يعني سادة قريش ، ) ليضلون (
أهل مكة ) بأهوائهم بغير علم ( يعلمونه في أمر الذبائح ، ) إن ربك هو أعلم
بالمعتدين ) [ آية : 119 ] .
الأنعام : ( 120 ) وذروا ظاهر الإثم . . . . .
) وذروا ظاهر الإثم ( ، يعني واتركوا ظاهر الإثم ، ) وباطنه ( ، يعني الزنا في(1/367)
صفحة رقم 368
السر والعلانية ، وذلك أن قريشاً كانوا ينكرون الزنا في العلانية ، ولا يرون به بأساً سراً ،
)( إن الذين يكسبون الإثم ( ، يعني الشرك ، ) سيجزون ( في الآخرة ) بما كانوا يقترفون ) [ آية : 120 ] ، يعني يكسبون .
الأنعام : ( 121 ) ولا تأكلوا مما . . . . .
وأنزل الله في قولهم : ما قتل الله فلا تأكلوه : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ( ، يعني إن أكل الميتة لمعصية ، ) وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ( من
المشركين ، ) ليجادلوكم ( في أمر الذبائح ، ) وإن أطعتموهم ( باستحلالكم الميتة ،
)( إنكم لمشركون ) [ آية : 121 ] مثلهم ، وفيهم نزلت : ( ولكل أمة جعلنا منسكاً هم
ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر ) [ الحج : 67 ] ، يعني أمر الذبائح .
تفسير سورة الأنعام من آية [ 122 - 124 ]
الأنعام : ( 122 ) أو من كان . . . . .
) أو من كان ميتا فأحييناه ( ، يعني أو من كان ضالاً فهديناه ، نزلت في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( وجعلنا له نورا ( ، يعني إيماناً ) يمشي به ( ، يعني يهتدي به ) في الناس ( ، أهو
) كمن مثله في الظلمات ( ، يعني كشبه من هو في الشرك ، يعني أبا جهل ، ) ليس بخارج منها ( ، يعني من الشرك ، يعني ليس بمهتد ، هو فيها متحير لا يجد منفذاً ، ليسا
بسواء ، ) كذلك ( ، يعني هكذا ، ) زين للكافرين ( ، يعني للمشركين ، ) ما كانوا
يعلمون ) [ آية : 122 ] ، يعني أبا جهل ، وذلك أنه قال : زحمتنا بنو عبد مناف في
الشرف ، حتى إذا صرنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يوحى إليه ، فمن يدرك هذا والله
لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً ، أو يأتينا وحي كما يأتيه ، فأنزل الله عز وجل : ( وإذا
جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى تؤتى مثل ما أوتي رسل الله . . . ( إلى آخر الآية : .
الأنعام : ( 123 ) وكذلك جعلنا في . . . . .
) وكذلك ( ، يعني وهكذا ) جعلنا في كل قرية ( خلت ، يعني عصت ، ) أكبر
مجرميها ( ، يعني جبابرتها وكبراءها ، جعلنا بمكة المستهزئين من قريش ، ) ليمكروا فيها ( ، يعني في القرية بالمعاصي حين أجلسوا في كل طريق أربعة منهم ، يقول الله(1/368)
صفحة رقم 369
) وما يمكرون إلا بأنفسهم ( ، وما معصيتهم إلا على أنفسهم ، ) وما يشعرون (
[ آية : 123 ] .
الأنعام : ( 124 ) وإذا جاءتهم آية . . . . .
) وإذا جاءتهم آية ( ، يعني انشقاق القمر ، والدخان ، ) قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ( ، يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحده ، يقول الله : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ( ، الله أعلم حيث يختص بنبوته من يشاء ، ) سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله ( ، يعني مذلة ، ) وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) [ آية : 124 ] ، يعني
يقولون ، لقولهم : لو كان هذا القرآن حقاً ، لنزل على الوليد بن المغيرة ، أو على أبي
مسعود الثقفي ، وذلك قولهم : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) [ الزخرف : 31 ] .
تفسير سورة الأنعام من آية [ 125 - 128 ]
الأنعام : ( 125 ) فمن يرد الله . . . . .
) فمن يرد الله أن يهديه ( لدينه ، ) يشرح صدره للإسلام ( ، نزلت في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
يعني يوسع قلبه ، ) ومن يرد أن يضله ( عن دينه ، ) يجعل صدره ضيقا ( بالتوحيد ،
يعني أبا جهل ، حتى لا يجد التوحيد من الضيق مجازاً ، ثم قال : ( حرجا ( شكاً ،
)( كأنما يصعد في السماء ( ، يقول : هو بمنزلة المتكلف الصعود إلى السماء لا يقدر
عليه ، ) كذلك ( ، يعني هكذا ، ) يجعل الله الرجس ( ، يقول : الشر : ( على الذين لا يؤمنون ) [ آية : 125 ] بالتوحيد .
الأنعام : ( 126 ) وهذا صراط ربك . . . . .
) وهذا ( التوحيد ) صراط ربك ( يعني دين ربك ، ) مستقيما قد فصلنا الآيات ( ، يعني قد بينا الآيات في أمر القلوب في الهدى والضلالة ، يعني الذي يشرح
صدره للإسلام ، والذي جعله ضيقاً حرجاً ، ) لقوم يذكرون ) [ آية : 126 ] بتوحيد(1/369)
صفحة رقم 370
الأنعام : ( 127 ) لهم دار السلام . . . . .
ثم ذكر ما أعد للموحدين ، فقال : ( لهم دار السلام ( ، يعني جنة الله ، ) عند ربهم ( في الآخرة ، ) وهو وليهم ( ، يقول : الله وليهم في الآخرة ، ) بما كانوا يعملون ) [ آية : 127 ] له في الدنيا ، يعني يوحدون ربهم .
الأنعام : ( 128 ) ويوم يحشرهم جميعا . . . . .
) ويوم يحشرهم ( ، يعني كفار الإنس والشياطين والجن ، يقول : ويوم نجمعهم ،
)( جميعا يا معشر الجن ( ، ثم يقول للشياطين : ( قد استكثرتم من الإنس ( ، يعني من
ضلال الإنس فيما أضللتم منهم ، وذلك أن كفار الإنس كانوا تولوا الجن وأعاذوا بهم ،
)( وقال أولياؤهم من الإنس ( ، يعني أولياء الجن من كفار الإنس ، ) ربنا استمتع بعضنا ببعض ( ، كاستمتاع الإنس بالجن ، وذلك أن الرجل كان إذا سافر فأدركه الليل بأرض
القفر خاف ، فيقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، فيبيت في جواره آمناً ،
وكان استمتاع الجن بالإنس أن يقولوا : لقد سودتنا الإنس حين فزعوا إلينا ، فيزدادوا
بذلك شرفاً ، ) و ( قالت : ( وبلغنا أجلنا ( الموت ) الذي أجلت لنا ( في الدنيا ، فرد
الله عليهم : ( قال النار مثواكم ( ، ومثوى الكافرين ، ) خالدين فيها ( أبداً ، ) إلا ما شاء الله ( ، واستثنى أهل التوحيد ، أنهم لا يخلدون فيها ، ) إن ربك حكيم ( ، يعني
حكم النار لمن عصاه ، ) عليم ) [ آية : 128 ] ، يقول : عالم بمن لا يعصيه .
تفسير سورة الإنعام من آية [ 129 - 130 ]
الأنعام : ( 129 ) وكذلك نولي بعض . . . . .
قوله : ( وكذلك ( ، يعني وهكذا ، ) نولي بعض الظالمين بعضا ( ، فولى الله ظلمة
الإنس ظلمة الجن ، وولى ظلمة الجن ظلمة الإنس بأعمالهم الخبيثة ، فذلك قوله : ( بما كانوا يكسبون ) [ آية : 129 ] ، يعني يعملون من الشرك .
الأنعام : ( 130 ) يا معشر الجن . . . . .
ثم قال لهم عند ذلك : ( يا معشر الجن والإنس ( ، يعني كفار الجن وكفار الإنس ،
ولا يعني به الشياطين ؛ لأن الشياطين هم أغروا كفار الجن وكفار الإنس ، وبعث الله
رسولاً من الجن إلى الجن ، ومن الإنس إلى الإنس يقصون ، فذلك قوله : ( ألم يأتكم رسل منكم ( ، يعني من أنفسكم الجن إلى الجن ، والإنس إلى الإنس ، ) يقصون عليكم
ءاياتي ( ، يعني آيات القرآن ، ) وينذرونكم لقاء يومكم هذا ( ، يعني يوم القيامة ،(1/370)
صفحة رقم 371
) قالوا ( ، يعني قالت الإنس والجن : ( شهدنا على أنفسنا ( بذلك أنا كفرنا بما قالت
الرسل في الدنيا ، قال الله للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وغرتهم الحياة الدنيا ( عن دينهم الإسلام ،
ويقول الله للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وشهدوا على أنفسهم ( في الآخرة ) أنهم كانوا كافرين (
[ آية : 130 ] في الدنيا ، وذلك حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك والكفر في الدنيا ،
ثم قال الخازن ، في التقديم : ف ) النار مثواكم ( ، يعني مأواكم ، ) خالدين فيها ( لا
يموتون ، ثم استثنى ، فقال : ( إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ( ، حكم عليهم
حقاً بذلك الهلاك ، كفعله بالأمم الخالية في سورة أخرى .
تفسير سورة الأنعام من آية [ 131 - 134 ]
الأنعام : ( 131 ) ذلك أن لم . . . . .
) ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى ( ، يعني معذب أهل القرى ) بظلم ( بغير
ذنب في الدنيا ، ) وأهلها غافلون ) [ آية : 131 ] عن العذاب حتى يبعث في أمها رسولاً
ينذرهم بالعذاب حجة عليهم .
الأنعام : ( 132 ) ولكل درجات مما . . . . .
) ولكل ( ، يعني كفار الجن والإنس ، ) درجات ( ، يعني فضائل من العذاب
في الآخرة ، ) مما عملوا ( في الدنيا ، ) وما ربك بغافل عما يعملون ) [ آية :
132 ] ، هذا وعيد ، نظيرها في الأحقاف .
الأنعام : ( 133 ) وربك الغني ذو . . . . .
وقوله : ( وربك الغني ( عن عبادة خلقه ، ) ذو الرحمة ( ، يعنى النعمة ، فلا
تعجل عليهم بالعذاب ، يعنى كفار مكة ، ) إن يشأ يذهبكم ( بهلاك ،
)( ويستخلف من بعدكم ( خلقاً من غيركم بعد هلاككم ) ما يشاء ( ، إن شاء
مثلكم ، وإن شاء أمثل وأطوع لله منكم ، ) كما أنشأكم ( ، يعني كما خلقكم
) من ذرية قوم آخرين ) [ آية : 133 ] ، يعنى ذرية أهل سفينة نوح ،
الأنعام : ( 134 ) إن ما توعدون . . . . .
) إن ما توعدون ( من العذاب في الدنيا ) لأت ( ، يعني لكائن ، ) وما أنتم بمعجزين ) [ آية : 134 ] ، يعني بسابقي الله بأعمالكم الخبيثة حتى يجزيكم بها .
تفسير سورة الأنعام من آية [ 135 - 139 ](1/371)
صفحة رقم 372
الأنعام : ( 135 ) قل يا قوم . . . . .
قوله : ( قل يقوم اعملوا على مكانتكم ( ، يعني جديلتكم ، يعني كفار مكة ، ) إني عامل ( ، على جديلتي التي أمرني بها ربي ، ) فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ( ، يعني الجنة ، أنحن أم أنتم ، ثم قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنه لا يفلح ( ، يعني لا يسعد
) الظالمون ) [ آية : 135 ] في الآخرة ، يعني المشركين ، نظيرها في القصص .
الأنعام : ( 136 ) وجعلوا لله مما . . . . .
) وجعلوا لله ( ، يعني وصفوا لله ) مما ذرأ ( ، يعني مما خلق ، ) من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ( ، يعني النصيب لآلهتهم
مثل ذلك ، فما أخرج الله من بطون الأنعام وظهورها من الحرث ، قالوا : هذا لله ،
فيتصدقون به على المساكين ، وما أخرج الله من نصيب الآلهة أنفقوه عليها ، فإن زكا
نصيب الآلهة ولم يزك نصيب الله تركوه للآلهة ، وقالوا : لو شاء الله لأزكى نصيبه ، وإن
زكا نصيب الله ولم يزك نصيب الآلهة ، خدجت أنعامهم وأجدبت أرضهم ، وقالوا : ليس
لآلهتنا بد من نفقة ، فأخذوا نصيب الله فقسموه بين المساكين والآلهة نصفين ، فذلك
قوله : ( فما كان لشركائهم ( ، يعني لآلهتهم مما خرج من الحرث والأنعام ،
)( فلا يصل إلى الله ( ، يعني إلى المساكين ، ) وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ( ، يعني آلهتهم ، يقول الله : ( ساء ( ، يعني بئس ) ما يحكمون ) [ آية : 136 ] ، يقول : لو كان معي شريك كما يقولون ، ما عدلوا في
القسمة أن يأخذوا مني ولا يعطوني .(1/372)
صفحة رقم 373
الأنعام : ( 137 ) وكذلك زين لكثير . . . . .
ثم انقطع الكلام ، فقال : ( وكذلك ( ، يعني وهكذا ، ) زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ( ، كما زينوا لهم تحريم الحرث
والأنعام ، يعني دفن البنات وهن أحياء ، ) ليردوهم ( ، يعني ليهلكوهم ، ) وليلبسوا عليهم ( ، يعني وليخلطوا عليهم ، ) دينهم ولو شاء الله ما فعلوه ( ، يقول : لو شاء
الله لمنعهم من ذلك ، ) فذرهم ( ، يعني فخل عنهم ، ) وما يفترون ) [ آية : 137 ]
من الكذب ، لقولهم في الأعراف : ( والله أمرنا بها ) [ الأعراف : 28 ] .
الأنعام : ( 138 ) وقالوا هذه أنعام . . . . .
) وقالوا هذه أنعام وحرث حجر ( ، يعني حرام ، ) لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم ( ، يعني الرجال دون النساء ، وكانت مشيئتهم أنهم جعلوا اللحوم والألبان
للرجال دون النساء ، ) وأنعام حرمت ظهورها ( ، يعني الحام ، ) وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ( ، يعني البحيرة أن نتجوها أو نحروها لم يذكروا اسم الله عليها ، ) افتراء عليه ( ، على الله ، يعني كذبا على الله ، ) سيجزيهم بما كانوا يفترون ) [ آية :
138 ] حين زعموا أن الله أمرهم بتحريمه ، حين قالوا في الأعراف : ( والله أمرنا بها (
[ الأعراف : 28 ] .
الأنعام : ( 139 ) وقالوا ما في . . . . .
ثم أخبر عنهم ، فقال : ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ( ، يعني من الولد والألبان ، ) ومحرم على أزواجنا ( ، يعني البحيرة ،
والسائبة ، والوصيلة ، فكانوا إذا انتجوه حياً ذبحوه فأكله الرجال دون النساء ، وكذلك
الألبان ، وإن وضعته ميتاً اشترك في أكله الرجال والنساء ، فذلك قوله : ( وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم ( الله العذاب في الآخرة ، ) وصفهم ( ، ذلك
بالتحليل والتحريم ، أي جزاءه ، ) إنه حكيم ( حكم عليهم العذاب ، ) عليم (
[ آية : 139 ] به .
تفسير سورة الأنعام من آية [ 140 - 144 ](1/373)
صفحة رقم 374
الأنعام : ( 140 ) قد خسر الذين . . . . .
ثم عابهم بقتل أولادهم وتحريم الحرث والأنعام ، فقال : ( قد خسر ( في الآخرة ،
)( الذين قتلوا أولادهم ( ، يعني دفن البنات أحياء ، ) سفها ( ، يعني جهلاً ، ) بغير علم وحرموا ما رزقهم الله ( من الحرث والأنعام ، ) افتراء على الله ( الكذب حين
زعموا أن الله أمرهم بهذا ، يعني بتحريمه ، يقول الله : ( قد ضلوا ( عن الهدى ، ) وما كانوا مهتدين ) [ آية : 140 ] ، وكانت ربيعة ومضر يدفنون البنات وهن أحياء ، غير
بنى كنانة ، كانوا لا يفعلون ذلك .
الأنعام : ( 141 ) وهو الذي أنشأ . . . . .
قوله : ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات ( ، يعنى الكروم وما يعرش ، ) وغير معروشات ( ، يعني قائمة على أصولها ، ) والنخل والزرع مختلفا أكله ( ، يعني طعمه ،
منه الجيد ، ومنه الدون ، ثم قال : ( والزيتون والرمان متشابها ( ، ورقها في النظير
يشبه ورق الزيتون ورق الرمان ، ) وغير متشابه ( ثمرها وطعمها ، وهما متشابهان في
اللون ، مختلفان في الطعم ، يقول الله : ( كلوا من ثمره إذا أثمر ( ، حين يكون
غضاً ، ثم قال : ( وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (
[ آية : 141 ] ، يقول : ولا تشركوا الآلهة في تحريم الحرث والأنعام .
الأنعام : ( 142 ) ومن الأنعام حمولة . . . . .
) ومن الأنعام حمولة ( ، يعني الإبل والبقر ، ) وفرشا ( ، والفرش الغنم
الصغار مما لا يحمل عليها ، ) كلوا مما رزقكم الله ( من الأنعام والحرث حلالاً طيباً ،
)( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ( ، يعني تزيين الشيطان فتحرمونه ، ) إنه لكم عدو مبين ) [ آية : 142 ] ، كلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك عوف بن مالك الجشمي ، يكنى أبا
الأحوص .(1/374)
صفحة رقم 375
الأنعام : ( 143 ) ثمانية أزواج من . . . . .
ثم قال : أنزل ) ثمانية أزواج ( قبل خلق آدم ، عليه السلام ، ) من الضأن اثنين ( ، يعني ذكراً وأنثى ، ) ومن المعز اثنين ( ، ذكراً وأنثى ، ) قل ( يا محمد
لمن حرم ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى ، ونسب ذلك إلى الله : ( ءآلذكرين ( من
الضأن والمعز ) حرم ( الله عليكم ؟ ) أم الأنثيين ( منهما ؟ ) أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ( ؟ ذكراً كان أو أنثى ؟ ) نبئوني بعلم ( عن كيفية تحريم ذلك ، ) إن كنتم صادقين ) [ آية : 143 ] فيه . المعنى من أين جاء التحريم ، فإن كان من قبل
الذكورة فجميع الذكور حرام ، أو الأنوثة ، فجميع الإناث ، أو اشتمال الرحم
فالزوجان ، فمن أين التخصيص ؟ والاستفهام للاستنكار .
الأنعام : ( 144 ) ومن الإبل اثنين . . . . .
) ومن الإبل اثنين ( ذكرا وأنثى ، ) ومن البقر اثنين ( ذكراً وأنثى ، ) قل ( يا
محمد ) ءآلذكرين حرم أم الأنثيين ( ، يعني من أين تحريم الأنعام من قبل الذكرين
أم قبل الأنثيين ؟ ) أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ( ، يقول : على ما اشتمل ، ما
يشتمل الرحم إلا ذكراً أو أنثى ، فأين هذا الذي جاء التحريم من قبله ، وما اشتمل
الرحم إلا على مثلها .
يقول : ما تلد الغنم إلا الغنم ، وما تلد الناقة إلا مثلها ، يعني أن الغنم لا تلد البقر ، ولا
البقر تلد الغنم ، فإن قالوا : حرم الأنثيين ، خصوا ولم يجز لهم أن يأكلوا الإناث من
الأنعام ، وإن قالوا : الذكرين ، لم يجز لهم أن يأكلوا ذكور الأنعام ، فسكتوا ، يقول الله لنبيه
( صلى الله عليه وسلم ) : قل لهم : ( نبؤوني بعلم إن كنتم صادقين ( بأن الله حرم هذا ، ثم قال : ( أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ( التحريم ، فسكتوا فلم يجيبوه ، إلا أنهم
قالوا : حرمها آباؤنا ، فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' فمن أين حرمه آباؤكم ؟ ' ، قالوا : الله أمرهم
بتحريمه ، فأنزل الله : ( فمن أظلم ( ، يقول : فلا أحد أظلم ) ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) [ آية : 144 ] .
تفسير سورة الأنعام من آية [ 145 - 147 ] .(1/375)
صفحة رقم 376
الأنعام : ( 145 ) قل لا أجد . . . . .
قالوا : يا محمد ، فمن أين حرمه آباؤنا ؟ فأوحى الله إلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل لا أجد في ما
أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه ( ، يعني على آكل يأكله ، ) إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا ( ، يعني يسيل ، ) أو لحم خنزير فإنه رجس ( ، يعني إنما ، ) أو فسقا ( ، يعني معصية ، ) أهل لغير الله به ( ، يعني ذبح لغير الله ، ) فمن اضطر ( إلى
شيء مما حرمت عليه ، ) غير باغ ( ليستحله في دينه ، ) ولا عاد ( ، يعني ولا معتديا
لم يضطر إليه فأكله ، ) فإن ربك غفور ( لأكله الحرام ، ) رحيم ) [ آية : 145 ] به
إذا رخص له في الحرام في الاضطرار .
الأنعام : ( 146 ) وعلى الذين هادوا . . . . .
ثم بين ما حرم على اليهود ، فقال : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ( ،
يعني الإبل ، والنعامة ، والوز ، والبط ، وكل شيء له خف وظفر من الدواب ، والطير ، فهو
عليهم حرام ، ) ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما ( ، وحرم عليهم
الشحوم من البقر ، والغنم ، ثم استثنى ما أحل لهم من الشحوم ، فقال : ( إلا ما حملت ظهورهما ( ، يعني ظهور البقر والغنم والأكتاف والإلية ، ) أو الحوايا ( ، يعني المعى ،
)( أو ما اختلط ( من الشحم ) بعظم ( ، فكل هذا حلال لهم ، وحرم عليهم شحوم
الكليتين والثروب ، ) ذلك ( التحريم ، ) جزيناهم ببغيهم ( ، يعني عقوبة بقتلهم
الأنبياء وبصدهم عن سبيل الله ، وبأكلهم الربا ، واستحلالهم أموال الناس بالباطل ، فهذا
البغى ، ) وإنا لصادقون ) [ آية : 146 ] بذلك ، وهذا ما أوحى الله إلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه محرم ،
منه على المسلمين ، ومنه على اليهود .
الأنعام : ( 147 ) فإن كذبوك فقل . . . . .
فقال كفار العرب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : فإنك لم تصب ، يقول الله : ( فإن كذبوك ( بما
تقول من التحريم ، ) فقل ( لكفارمكة ، ) ربكم ذو رحمة واسعة ( ملأت رحمته
كل شيء لا يعجل عليكم بالعقوبة ، ) ولا يرد بأسه ( ، يقول : عذابه إذا جاء الوقت
على من كذب بما يقول : ( عن القوم المجرمين ) [ آية : 147 ] ، يعني كفار العرب .
تفسير سورة الأنعام آية [ 148 - 150 ](1/376)
صفحة رقم 377
الأنعام : ( 148 ) سيقول الذين أشركوا . . . . .
) سيقول الذين أشركوا ( مع الله آلهة ، يعني مشركي العرب ، ) لو شاء الله ما أشركنا ولا ( أشرك ) آباؤنا ولا حرمنا من شيء ( ، يعني الحرث ، والأنعام ، ولكن
الله أمر بتحريمه ، ) كذلك ( ، يعني هكذا ) كذب الذين من قبلهم ( من الأمم
الخالية رسلهم ، كما كذب كفار مكة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) حتى ذاقوا بأسنا ( ، يعني عذابنا ،
)( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ( ، يعني بيانا من الله بتحريمه فتبينوه لنا ، يقول
الله : ( إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ) [ آية : 148 ] ، الكذب
الأنعام : ( 149 ) قل فلله الحجة . . . . .
) قل ( لهم يا محمد : ( فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) [ آية : 149 ]
لدينه ،
الأنعام : ( 150 ) قل هلم شهداءكم . . . . .
) قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ( الحرث والأنعام ، ) فإن شهدوا ( أن لله حرمه ، ) فلا يشهد معهم ( يأمر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا يصدق قولهم ،
)( ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ( ، يعني القرآن الذي فيه تحليل ما حرموا ،
)( والذين لا يؤمنون بالآخرة ( ، يعني لا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ،
( و ) الذين ) وهم بربهم يعدلون ) [ آية : 150 ) ، يعني يشركون .
تفسير سورة الأنعام آية [ 151 - 152 ]
الأنعام : ( 151 ) قل تعالوا أتل . . . . .
) قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ( ، يقول : تعالوا حتى أقرأ ما حرم
عليكم ، ) ألا تشركوا به شيئا ( من خلقه ، ) وبالوالدين إحسانا ( ، يعني برا بهما ،
)( ولا تقتلوا أولادكم ( ، يعني دفن البنات وهن أحياء ، ) من إملاق ( ، يعني(1/377)
صفحة رقم 378
خشية الفقر ، ) نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ( ، يعني الزنا ، ) ما ظهر منها ( ، يعني السفاح علانية ، ) وما بطن ( ، يعني الزنا في السر تتخذ الخليل ،
فيأتيها في السر ، ) ولا تقتلوا النفس التي حرم الله ( قتلها ) إلا بالحق ( ، يعني
بالقصاص والثيب الزاني بالرجم ، والمرتد عن الإسلام ، فهذا الحق ، ) ذلكم وصاكم به لعلكم ( ، يعني لكي ) تعقلون ) [ آية : 151 ] ، أنه لم يحرم إلا ما ذكر في هذه الآيات
الثلاث ، ولم يحرم البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام .
الأنعام : ( 152 ) ولا تقربوا مال . . . . .
) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ( ، إلا ليثمر لليتيم ماله بالأرباح / ) حتى يبلغ أشده ( ، يعني ثماني عشرة سنة ، ) وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ( ، يعني
بالعدل ، ) لا نكلف نفسا إلا وسعها ( ، يقول : لا نكلفها من العمل إلا طاقتها ،
)( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ( ، يعني أولى قربى إذا تكلمتم فقولوا الحق ، وإن
كان ذو قرابتك فقل فيه الحق ، ) وبعهد الله أوفوا ( فيما بينكم وبين الناس ،
)( ذلكم وصاكم به لعلكم ( ، يعني لكي ) تذكرون ) [ آية : 152 ] في أمره
ونهيه .
تفسير سورة الأنعام آية [ 153 - 155 ]
الأنعام : ( 153 ) وأن هذا صراطي . . . . .
) وأن هذا ( الذي ذكر في هذه الآيات من أمر الله ونهيه ، ) صراطي مستقيما ( ،
يعني دينا مستقيما ، ) فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ( ، يعني طرق الضلالة فيما حرموا ،
)( فتفرق بكم عن سبيله ( ، يعني فيضلكم عن دينه ، ) ذلكم وصاكم به لعلكم ( ،
يعني لكي ، ) تتقون ) [ آية : 153 ] ، فهذه الآيات المحكمات لم ينسخهن شيء من
جميع الكتب ، وهن محكمات على بني آدم كلهم .
الأنعام : ( 154 ) ثم آتينا موسى . . . . .
) ثم آتينا موسى الكتاب ( ، يعني أعطينه التوراة ، ) تماما على الذي أحسن ( ،(1/378)
صفحة رقم 379
يقول : تمت الكرامة على من أحسن منهم في الدنيا والآخرة ، فتمم الله لبني إسرائيل ما
وعدهم من قوله : ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا ) [ القصص : 5 ، 6 ] إلى
آيتين ، ثم قال : ( وتفضيلا لكل شيءو ( التوراة ) وهدى ( من الضلالة ،
)( ورحمة ( من العذاب ، ) لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) [ آية : 154 ] ، يعني بالبعث الذي
فيه جزاء الأعمال .
الأنعام : ( 155 ) وهذا كتاب أنزلناه . . . . .
) وهذا ( القرآن ) كتاب أنزلناه مبارك ( ، فهو بركة لمن آمن به ، ) فاتبعوه ( ،
فاقتدوا به ، ) واتقوا ( الله ) لعلكم ( ، يعني لكي ) ترحمون ) [ آية : 155 ] فلا
تعذبوا .
تفسير سورة الأنعام آية [ 156 - 157 ]
الأنعام : ( 156 ) أن تقولوا إنما . . . . .
) أن تقولوا ( ، يعني لئلا تقولوا : ( إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ( ، يعني
اليهود والنصارى ، ) وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) [ آية : 156 ] ،
الأنعام : ( 157 ) أو تقولوا لو . . . . .
وذلك أن كفار
مكة قالوا : قاتل الله اليهود والنصارى ، كيف كذبوا أنبياءهم ، فوالله لو جاءنا نذير
وكتاب لكنا أهدى منهم ، فنزلت هذه الآية فيهم : ( أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ( ، يعني اليهود والنصارى ، يقول الله لكفار مكة : ( فقد جاءكم بينة من ربكم ( ، يعني بيان من ربكم القرآن ، ) و ( هو ) وهدى ( من الضلالة
) ورحمة ( من العذاب لقوم يؤمنون ، فكذبوا به ، فنزلت : ( فمن أظلم ممن كذب بآيات الله ( ، يعني بالقرآن ، ) وصدف عنها ( ، يعني وأعرض عن آيات القرآن ، فلم
يؤمن بها ، ثم أوعدهم الله ، فقال : ( سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا ( ، يعني يعرضون
عن إيمان بالقرآن ، ) سوء العذاب ( ، يعني شدة العذاب ، ) بما كانوا يصدفون ) [ آية :
157 ] ، يعني بما كانوا يعرضون عن إيمان بالقرآن .
تفسير سورة الأنعام آية [ 158 ](1/379)
صفحة رقم 380
الأنعام : ( 158 ) هل ينظرون إلا . . . . .
ثم وعدهم ، فقال : ( هل ينظرون ( ، يعني ما ينتظر كفار مكة بالإيمان ) إلا أن تأتيهم الملائكة ( ، يعني ملك الموت وحده بالموت ، ) أو يأتي ربك ( يوم القيامة في
ظلل من الغمام ، ) أو يأتي بعض آيات ربك ( ، يعني طلوع الشمس من مغربها ، ثم
قال : ( يوم يأتي بعض آيات ربك ( ، يعني طلوع الشمس من المغرب ، ) لا ينفع نفسا إيمانها ( ، يعني نفسا كافرة حين لم تؤمن قبل أن تجيء هذه الآية ، ) لم تكن آمنت من قبل ( ، يقول : لم تكن صدقت من قبل طلوع الشمس من مغربها ، ) أو ( لم تكن
) كسبت في إيمانها خيرا ( ، يقول : لم تكن هذه النفس عملت قبل طلوع الشم من
مغربها ، ولم يقبل منها بعد طلوعها ، ومن كان يقبل منه عمله قبل طلوع الشمس من
مغربها ، فإنه يتقبل منه بعد طلوعها ، ثم أوعدهم العذاب ، فقال الله لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قل انتظروا ( العذاب ) إنا منتظرون ) [ آية : 158 ] بكم العذاب .
تفسير سورة الأنعام آية [ 159 ]
الأنعام : ( 159 ) إن الذين فرقوا . . . . .
) إن الذين فرقوا دينهم ( الإسلام الذي أمروا به ، ودخلوا في غيره ، يعني اليهود
والنصارى قبل أن يبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وكانوا شيعا ( ، يعني أحزابا يهود ، ونصارى ،
وصابئين ، وغيرهم ، ) لست منهم ( يا محمد ) في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما
كانوا يفعلون ) [ آية : 159 ] ، فنسختها آية براءة : ( قاتلوا الذين ( إلى قوله :
( صاغرون ) [ التوبة : 29 ] .
تفسير سورة الأنعام آية [ 160 ]
الأنعام : ( 160 ) من جاء بالحسنة . . . . .
) من جاء ( في الآخرة ) بالحسنة ( بالتوحيد والعمل الصالح ، ) فله عشر أمثالها ( في الأضعاف ، ) ومن جاء ( في الأخرة ) بالسيئة ( ، يعني الشرك ، ) فلا يجزى إلا مثلها ( في العظم ، فجزاء الشرك أعظم الذنوب ، والنار أعظم العقوبة ، وذلك
قوله : ( جزاء وفاقا ) [ النبأ : 26 ] وافق الجزاء العمل ، ) وهم لا يظلمون ) [ آية :
160 ] كلا الفريقين جميعا .
تفسير سورة الأنعام آية [ 161 ](1/380)
صفحة رقم 381
الأنعام : ( 161 ) قل إنني هداني . . . . .
) قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ( ، يعني الإسلام ، ) دينا قيما ( مستقيما لا
عوج فيه ، ) ملة إبراهيم حنيفا ( ، يعني مخلصا ، ) وما كان ( إبراهيم ) من المشركين (
[ آية : 161 ] من اليهود والنصارى .
تفسير سورة الأنعام آية [ 162 - 163 ]
الأنعام : ( 162 ) قل إن صلاتي . . . . .
) قل ( يا محمد ) إن صلاتي ( الخمس ، ) ونسكي ( ، يعني وذبحي ، ) ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) [ آية : 162 ] ،
الأنعام : ( 163 ) لا شريك له . . . . .
) لا شريك له ( ، يقول : ليس معك شريك ،
)( وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) [ آية : 163 ] ، يعني المخلصين من أهل مكة .
تفسير سورة الأنعام آية [ 164 ]
الأنعام : ( 164 ) قل أغير الله . . . . .
) قل أغير الله أبغي ربا ( ، وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ارجع عن هذا
الأمر ، فنحن لك كفلاء بما أصابك من تبعة ، فأنزل الله : ( قل ( لهم ) أغير الله أبغي ربا ( ، يعني أتخذ ربا ، ) وهو رب كل شيء ( في السماوات والأرض ، ) ولا تكسب كل نفس إلا عليها ( ، يعني إلا على نفسها ، ) ولا تزر وازرة وزر أخرى ( ، يعني لا
تحمل نفس خطيئة نفس أخرى ؛ لقلوهم للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : نحن لك الكفلاء بما أصابك من
تبعة ، ) ثم إلى ربكم ( في الآخرة ) مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه ( في الدين أنتم
وكل قبيلة في الدين ) تختلفون ) [ آية : 164 ] أنتم وكفار مكة ، نظيرها في الروم .
تفسير سورة الأنعام آية [ 165 ]
الأنعام : ( 165 ) وهو الذي جعلكم . . . . .
) وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ( ، يعني من بعد هلاك الأمم الخالية ، ) ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ( ، يعني بالدرجات الفضائل والرزق ؛
لقولهم للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما يحملك على الذي أتيتنا به إلا الحاجة ، فنحن نجمع لك أموالنا ،
فنزلت : ( ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ( ، يعني ليبتليكم فيما
أعطاكم ، يقول : يبتلى بعض المؤمنين الموسر بالغنى ، ويبتلى بعض المؤمنين المعسر بالفاقة ،
)( إن ربك سريع العقاب ( لمن عصاه في فاقة أو غنى ، يخوفهم كأنه قد جاء ذلك اليوم ،
)( وإنه لغفور رحيم ) [ آية : 165 ] بعد التوبة .(1/381)
صفحة رقم 382
قوله : ( من الضأن اثنين ( ، يعني كبشا ونعجة .
) ومن المعز اثنين ( ، يعني تيسا وشاة .
) ومن الإبل اثنين ( ، يعني جملا وناقة .
) ومن البقر اثنين ( ، يعني ثورا وبقرة .(1/382)
صفحة رقم 383
سورة الأعراف
مكية إلا قوله تعالى : [ آية : 163 ] إلى قوله
[ آية : 172 ] ، هذه الآيات مدنيات وهي مائتان وست آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الأعراف آية [ 1 - 2 ]
الأعراف : ( 1 ) المص
) المص ) [ آية : 1 ] .
الأعراف : ( 2 ) كتاب أنزل إليك . . . . .
) كتاب أنزل إليك ( ، يعني القرآن ، ) فلا يكن في صدرك ( ،
يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) حرج منه ( ، يقول : فلا يكن في قلبك شك من القرآن بأنه من الله ،
)( لتنذر به ( ، بما في القرآن من الوعيد ، ) وذكرى للمؤمنين ) [ آية : 2 ] ، يعني
تذكرة للمصدقين بالقرآن من أنه الله عز وجل .
تفسير سورة الأعراف آية [ 3 - 6 - ]
الأعراف : ( 3 ) اتبعوا ما أنزل . . . . .
ثم قال لأهل مكة : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( ، يعني القرآن ، ) ولا تتبعوا من دونه أولياء ( ، يعني أربابا ، ثم أخبر عنهم ، فقال : ( قليلا ما تذكرون ) [ آية : 3 ] ، يعني
بالقليل أنهم لا يعقلون فيعتبرون .
الأعراف : ( 4 ) وكم من قرية . . . . .
ثم وعظهم ، فقال : ( وكم من قرية أهلكناها ( بالعذاب ، ) فجاءها بأسنا بياتا ( ،
وهم نائمون ، يعني ليلا ، ) أو ( جاءهم العذاب ، ) هم قائلون ) [ آية : 4 ] ، يعني
بالنهار .
الأعراف : ( 5 ) فما كان دعواهم . . . . .
) فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا ( ، يقول : فما كان قولهم عند نزول العذاب بهم ،
)( إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ) [ آية : 5 ] ، لقولهم في حم المؤمن : ( آمنا بالله وحده ) [ غافر : 84 ] .(1/383)
صفحة رقم 384
الأعراف : ( 6 ) فلنسألن الذين أرسل . . . . .
ثم قال : ( فلنسئلن ( في الآخرة ) الذين أرسل إليهم ( ، يعني الأمم الخالية الذين
أهلكوا في الدنيا : ما أجابوا الرسل في التوحيد ؟ ) ولنسئلن المرسلين ) [ آية : 6 ] ماذا
أجيبوا في التوحيد ؟
تفسير سورة الأعراف آية [ 7 - 9 ]
الأعراف : ( 7 ) فلنقصن عليهم بعلم . . . . .
) فلنقصن عليهم ( أعمالهم ) بعلم وما كنا غائبين ) [ آية : 7 ] عن أعمالهم ، يعني
عنهم في الدنيا .
الأعراف : ( 8 ) والوزن يومئذ الحق . . . . .
) والوزن يومئذ الحق ( ، يقول : وزن الأعمال يومئذ العدل في الآخرة ، ) فمن ثقلت موازينه ( من المؤمنين وزن ذرة على سيئاته ، ) فأولئك هم المفلحون ) [ آية : 8 ] .
الأعراف : ( 9 ) ومن خفت موازينه . . . . .
) ومن خفت موازينه ( ، يعني الكفار ، ) فأولئك الذين خسروا أنفسهم ( ، يعني غبنوا
أنفسهم ، فصاروا إلى النار . ) بما كانوا بآياتنا يظلمون ) [ آية : 9 ] ، يعني بالقرآن
يجحدون بأنه ليس من الله .
تفسير سورة الأعراف آية [ 10 - 18 ]
الأعراف : ( 10 ) ولقد مكناكم في . . . . .
) ولقد مكناكم في الأرض ( ، يقول : ولقد أعطيناكم يا أهل مكة من الخير
والتمكين في الأرض ، ) وجعلنا لكم فيها معايش ( من الرزق لتشكروه فتوحدوه ، فلم
تفعلوا ، فأخبر عنهم ، فقال : ( قليلا ما تشكرون ) [ آية : 10 ] ، يعني بالقليل أنهم لا
يشكرون رب هذه النعم فيوحدونه .(1/384)
صفحة رقم 385
الأعراف : ( 11 ) ولقد خلقناكم ثم . . . . .
) ولقد خلقناكم ( ، يعني آدم ، عليه السلام ، ) ثم صورناكم ( ، يعني ذرية آدم ،
ذكرا وأنثى ، وأبيض وأسود ، سويا وغير سوي ، ) ثم قلنا للملائكة ( الذين هم في
الأرض ، ومنهم إبليس عدو الله : ( اسجدوا لآدم فسجدوا ( له ، ثم استثنى ، فقال :
( إلا إبليس لم يكن من الساجدين ) [ آية : 11 ] لآدم مع الملائكة .
الأعراف : ( 12 ) قال ما منعك . . . . .
) قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) [ آية :
12 ] ، والنار تغلب الطين .
الأعراف : ( 13 ) قال فاهبط منها . . . . .
) قال فاهبط منها ( ، قال : اخرج من صورة الملائكة إلى صورة الدمامة ، فأخرج من
الجنة يا إبليس ، ) فما يكون لك أن تتكبر فيها ( ، فما ينبغي لك ان تتعظم فيها ، يعني في
الجنة ، ) فأخرج ( منها ) إنك من الصاغرين ) [ آية : 13 ] ، يعني من المذلين .
الأعراف : ( 14 ) قال أنظرني إلى . . . . .
) قال ( إبليس لربه : ( أنظرني إلى يوم يبعثون ) [ آية : 14 ] ، يعني النفخة الآخرة ،
يوم يبعث آدم ، عليه السلام ، وذريته .
الأعراف : ( 15 ) قال إنك من . . . . .
) قال ( الله : ( إنك من المنظرين ) [ آية : 15 ] ، فلا تموت إلى يوم الوقت المعلوم ،
يعني أجلا معلوما ، وهي النفخة الأولى ،
الأعراف : ( 16 ) قال فبما أغويتني . . . . .
) قال فبما أغويتني ( ، قال : اما إذ أضللتني .
) لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) [ آية : 16 ] ، يعني لأصدنهم عن دينك المستقيم ، يعني
الإسلام .
الأعراف : ( 17 ) ثم لآتينهم من . . . . .
) ثم لآتينهم من بين أيديهم ( ، من قبل الآخرة ، فأزين لهم التكذيب بالبعث ، وبالجنة ،
وبالنار ، ) ومن خلفهم ( ، يعني من قبل الدنيا ، فأزينها في أعينهم ، وأرغبهم فيها ، ولا
يعطون فيها حقا ، ) وعن أيمانهم ( ، يعن من قبل دينهم ، فإن كانوا على هدى شبهته ،
عليهم حتى يشكوا فيها ، وإن كانوا على ضلالة زينتها لهم ، ) وعن شمائلهم ( ، يعني من
قبل الشهوات واللذات من المعاصي وأشهيها إليهم ، ) ولا تجد أكثرهم شاكرين ) [ آية :
17 ] ، لنعمتك ، فلا يوحدونك .
الأعراف : ( 18 ) قال اخرج منها . . . . .
) قال ( له : ( اخرج منها ( يعني من الجنة ، ) مذءوما ( منفيا ، ) مدحورا ( ،
يعني مطرودا ، ) لمن تبعك منهم ( على دينك ، ) لأملأن جهنم منكم أجمعين ) [ آية : 18 ] ،
يعني إبليس وذريته وكفار ذرية آدم منهم جميعا .(1/385)
صفحة رقم 386
تفسير سورة الأعراف آية [ 19 - 25 ]
الأعراف : ( 19 ) ويا آدم اسكن . . . . .
) ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ( ، في التقديم ، ) فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة ( ، وهي السنبلة الحنطة ، وقالوا : هي الشجرة التي تحتك بها الملائكة للخلود ،
)( فتكونا من الظالمين ) [ آية : 19 ] لأنفسكم .
الأعراف : ( 20 ) فوسوس لهما الشيطان . . . . .
) فوسوس لهما الشيطان ( ، يعني إبليس وحده ، ) ليبدي لهما ما ووري عنهما ( ، يعني ما
غطى عنهما ، ) من سوءاتهما ( ، يعني ليظهر لهما عورتهما ، ) وقال ( إبليس لهما :
إني خلقت قبلكما ، وإني أعلم منكما ، فأطيعاني ترشدا ، وقال لهما : ( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) [ آية : 20 ] ، يقول : إن لم تكونا
ملكين ، كنتما من الخالدين لا تموتان .
الأعراف : ( 21 ) وقاسمهما إني لكما . . . . .
) وقاسمهما ( ، يعني حلف بالله لهما ، ) إني لكما لمن الناصحين ) [ آية : 21 ] إنها
شجرة الخلد ، من أكل منها لم يمت ، فكان إبليس أول من يحلف بالله كاذبا .
الأعراف : ( 22 ) فدلاهما بغرور فلما . . . . .
) فدلاهما بغرور ( ، يعني زين لهما الباطل ، لقوله : ( تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ( ، وحلف على قوله ، فغرهما بهذه اليمين ، ) فلما ذاقا الشجرة بدت لهما
سوءاتهما ( ، يعني ظهرت لهما عوراتهما ، ) وطفقا يخصفان عليهما ( ، يقول : أخذا
يغطيان عوراتهما ) من ورق الجنة ( ، يعني ورق التين الذي في الجنة ، ) وناداهما ربهما ( ، يقول : وقال لهما ربهما يوحي إليهما : ( ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل(1/386)
صفحة رقم 387
لكما ( ، يعني آدم وحواء : ( إن الشيطان ( ، يعني إبليس ) لكما عدو مبين ) [ آية :
22 ]
الأعراف : ( 23 ) قالا ربنا ظلمنا . . . . .
) قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا ) ) ذنوبنا ( ( وترحمنا ( وتتجاوز عنا ،
)( لنكونن من الخاسرين ) [ آية : 23 ] في العقوبة ، فتاب آدم ، عليه السلام ، يوم عاشوراء
يوم الجمعة ، فتاب الله عليه .
الأعراف : ( 24 ) قال اهبطوا بعضكم . . . . .
وأوحى إليهما : ( قال اهبطوا ( من الجنة ، آدم ، وحواء ، وإبليس ، والحية ، ) بعضكم
لبعض عدو ( ، يقول : إبليس لهما عدو ، وهما إبليس عدو ، ) ولكم في الأرض مستقر
ومتاع إلى حين ) [ آية : 24 ] ، يعني إلى منتهى آجالكم ، وإبليس في النفخة الأولى .
الأعراف : ( 25 ) قال فيها تحيون . . . . .
) قال فيها تحيون ( ، يعني في الأرض ، ) وفيها تموتون ( عند منتهى آجالكم ، ) ومنها تخرجون ) [ آية : 25 ] يوم القيامة .
تفسير سورة الأعراف آية [ 26 - 30 ]
الأعراف : ( 26 ) يا بني آدم . . . . .
) يا بني آدم ( ، نزلت في ثقيف ، وبني عامر بن صعصعة ، وخزاعة ، وبنى مدلج ،
وعامر والحارث ابنى عبد مناة ، قالوا : لا نطوف بالبيت الحرام في الثياب التي تفرق
فيها الذنوب ، ولا يضربون على أنفسهم خباء من وبر ، ولا صوف ، ولا شعر ، ولا آدم ،
فكانوا يطوفون بالبيت عراة ، ونساءهم يطفن بالليل ، فأنزل الله : ( يا بني آدم قد أنزلنا
عليكم لباسا ( ، يقول : من أمرى كان اللباس في الأرض ، ) يواري سوءاتكم ( ، يعني
يغطي عوراتكم ، ) وريشا ( ، يعني المال ، ) ولباس التقوى ( ، يعني من العمل(1/387)
صفحة رقم 388
الصالح ، ) ذلك خير ( ، يقول : العمل الصالح خير من الثياب والمال ، ثم قال :
( ذلك ( الثياب والمال ) من آيات الله ( ومن صنعه ، ) لعلهم ( ، يعني لكي
) يذكرون ) [ آية : 26 ] فيعتبروا في صنعه فيوحدوه .
الأعراف : ( 27 ) يا بني آدم . . . . .
ثم قال : ( يا بني آدم ( ، يعنيهم ، ) لا يفتننكم الشيطان ( في دينكم أمر الثياب ،
فيدعها عنكم فتبدى عوراتكم ، ) كما أخرج أبويكم ( ، يعني كما فعل بأبويكم آدم
وحواء ، فأخرجهما ) من الجنة ( ، وبدت عورتهما ، فذلك قوله : ( ينزع عنهما لباسهما ( ، يعني ثيابهما ، ) ليريهما سوءاتهما ( ، يعني عوراتهما ، ) إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ( ، يقول : يراكم إبليس وجنوده من الشياطين من حيث لا
ترونهم ، ) إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ) [ آية : 27 ] ، يعني لا يصدقون .
الأعراف : ( 28 ) وإذا فعلوا فاحشة . . . . .
ثم قال : ( وإذا فعلوا فاحشة ( ، يعني معصية فيما حرموا من الحرث ، والأنعام ،
والثياب ، والألبان ، فنهوا عن تحريم ذلك ، ) قالوا وجدنا عليها ءاباءنا والله أمرنا بها ( ،
يعني بتحريم ذلك ، ثم قال : ( قل ( يا محمد : ( إن الله لا يأمر بالفحشاء ( ، يعني
بالمعاصي فيحرم ذلك ، وقل لهم : ( أتقولون على الله ( ربكم إنه حرم عليكم ) ما لا تعلمون ) [ آية : 28 ] إنه حرمة .
الأعراف : ( 29 ) قل أمر ربي . . . . .
و ) قل ( لهم : ( أمر ربي بالقسط ( ، يعني بالعدل ، ) وأقيموا وجوهكم ( ، يعني
وأمر ربي أن تقيموا وجوهكم ، يعني إلى القبلة ، ) عند كل مسجد ( في بيعة أو
كنيسة أو غيرها ، فصلوا قبل الكعبة ، وأمرهم بالصلاة والتوحيد ، فذلك قوله : ( وادعوه مخلصين ( يعني موحدين ، ) له الدين كما بدأكم تعودون ) [ آية : 29 ] ، يعني كما
خلقكم سعداء وأشقياء كذلك تعودون .
الأعراف : ( 30 ) فريقا هدى وفريقا . . . . .
) فريقا هدى ( لدينه ، ) وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء (
يعني أربابا ، ) من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) [ آية : 30 ] ، أنهم على الهدى .
تفسير سورة الأعراف آية [ 31 - 35 ](1/388)
صفحة رقم 389
الأعراف : ( 31 ) يا بني آدم . . . . .
ثم قال يعنيهم : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ( في كنيسة ، أو بيعة ، أو
غيرها ، ) وكلوا ( من الحرث والأنعام ، ) واشربوا ( من الألبان ، ) ولا تسرفوا ( ،
يقول : ولا تشركوا الآلهة في تحريم الحرث ، والأنعام ، والثياب ، والألبان ، مما هو حل
لكم ، ) إنه لا يحب المسرفين ) [ آية 31 ] ، يعني المشركين .
الأعراف : ( 32 ) قل من حرم . . . . .
) قل ( لهم : ( من حرم زينة الله ( ، يعني الثياب ، ) التي أخرج لعباده والطيبات ( ،
يعني الحلال ، ) من الرزق ( ، يعني الحرث ، والأنعام ، والألبان ، ) قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ( ، يقول : أشرك في الطيبات في الدنيا المؤمن والكافر ،
وهي خالصة للمؤمنين يوم القيامة ، ) كذلك نفصل ( ، يقول : هكذا نبين ) الآيات ( ،
يعني أمور ما ذكر في هذه الآية ، ) لقوم يعلمون ) [ آية : 32 ] بتوحيد الله .
الأعراف : ( 33 ) قل إنما حرم . . . . .
ثم أخبرهم بما حرم الله ، فقال : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ( يعني الزنا ، ) ما ظهر منها ( ، يعني العلانية ، ) وما بطن ( في السر وكانوا يتكرمون عن الزنا في العلانية ،
ويفعلوه في السر ، وحرم شرب الخمر ، ) والإثم ( والمعاصي ، ) والبغي ( ، يعني ظلم
الناس ، ) بغير الحق ( ، إلا أن يقتص منه بحق ، ) و ( حرم ) وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ( ، يعني كتابا فيه حجتكم بأن معه شريكا ، ) و ( حرم ) وأن تقولوا على الله ( بأنه حرم الحرث ، والأنعام ، والألبان ، والثياب ، ) ما لا تعلمون ) [ آية : 33 ] أنه
حرمه .
الأعراف : ( 34 ) ولكل أمة أجل . . . . .
ثم خوفهم بالعذاب ، فقال : ( ولكل أمة أجل ( العذاب ، ) فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) [ آية : 34 ] ، يقول : لا يتأخرون ولا يتقدمون حتى
يعذبوا ، وذلك حين سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن العذاب .
الأعراف : ( 35 ) يا بني آدم . . . . .
ثم قال : ( يا بني آدم ( ، يعني مشركي العرب ، ) أما ( فإن ) يأتينكم رسل منكم (
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وحده ، ) يقصون عليكم آياتي ( ، يعني يتلون عليكم القرآن ، ) فمن اتقى (
الشرك ) وأصلح ( العمل وآمن بالله ، ) فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ آية : 35 ] من
الموت .(1/389)
صفحة رقم 390
تفسير سورة الأعراف آية [ 36 - 39 ]
الأعراف : ( 36 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
) والذين كذبوا بآياتنا ( ، يعني بالقرآن أنه ليس من الله ، ) واستكبروا عنها ( ،
وتكبروا عن الإيمان بآيات القرآن ، ) أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ آية :
36 ] .
الأعراف : ( 37 ) فمن أظلم ممن . . . . .
) فمن أظلم ( ، يعني فلا أحد أظلم ، ) ممن افترى على الله كذبا ( بأن معه شريكا
وأنه أمر بتحريم الحرث ، والأنعام ، والألبان ، والثياب ، ) أو كذب بآياته ( ، يعني
بآيات القرآن ، ) أولئك ينالهم نصيبهم ( ، يعني حظهم ، ) من الكتاب ( ، وذلك أن الله
قال في الكتب كلها : إنه من افترى على الله كذبا ، فإنه يسود وجهه ، فهذا ينالهم في
الآخرة ، نظيرها في الزمر : ( ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) [ الزمر :
60 ، وقال : ( حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ( ، يعني ملك الموت وحده ، ثم قالت لهم
خزنة جهنم قبل دخول النار في الآخرة : ( قالوا أين ما كنتم تدعون ( ، يعني تعبدون ،
)( من دون الله ( من الآلهة ، هل يمنعونكم من النار ، ) قالوا ضلوا عنا ( ، يعني ضلت
الآلهة عنا ، يقول الله : ( وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) [ آية : 37 ] ، وذلك حين
قالوا : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] ، فشهدت عليهم الجوارح بما
كتمت الألسن من الشرك والكفر ، نظيرها في الأنعام .
الأعراف : ( 38 ) قال ادخلوا في . . . . .
) قال ( ، أي قالت الخزنة : ( ادخلوا ( النار ) في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة ( النار ) لعنت أختها ( ، لعنت أهل ملتهم يلعن المشركون
المشركين ، ويلعن اليهود اليهود ، ويلعن النصارى النصارى ، ويلعن المجوس المجوس ، ويلعن
الصابئون الصابئين ، ويلعن الأتباع القادة ، يقولون : لعنكم الله أنتم ألقيتمونا في هذا(1/390)
صفحة رقم 391
الملقى حين أطعناكم ، يقولون : ( حتى إذا اداركوا فيها ( ، يعني حتى إذا اجتمعوا
في النار ) جميعا ( القادة ، والأتباع ، وقد دخلت القادة والأتباع ، ) قالت أخراهم (
دخولا النار ، ) وهم الأتباع ( ) لأولاهم ( دخولا النار ، وهم القادة ، ) ربنا هؤلاء (
القادة ) أضلونا ( عن الهدى ، ) فآتهم عذابا ضعفا ( ، يعني أعطهم عذابا مضاعفا
) من النار ( ) قال ( يقول الله : ( لكل ( ، يعني الأتباع والقادة ، ) ضعف (
يضاعف العذاب ، ) ولكن لا تعلمون ) [ آية : 38 ] .
الأعراف : ( 39 ) وقالت أولاهم لأخراهم . . . . .
) وقالت أولاهم ( دخولا النار ، وهم القادة ، ) لأخراهم ( دخولا النار ، وهم
الأتباع ، ) فما كان لكم علينا من فضل ( في شيء ، فقد ضللتم كما ضللنا ، ) فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ) [ آية : 39 ] ، يعني تقولون من الشرك والتكذيب .
تفسير سورة الأعراف آية [ 40 - 47 ]
الأعراف : ( 40 ) إن الذين كذبوا . . . . .
) إن الذين كذبوا بآياتنا ( ، يعني القرآن ، ) واستكبروا عنها ( ، يعني وتكبروا عن
الإيمان بآيات القرآن ، ) لا تفتح لهم ( ، يعني لأرواحهم ولا لأعمالهم ، ) أبواب السماء ( ،
كما تفتح أبواب السماء لأرواح المؤمنين ولأعمالهم إذا ماتوا ، ثم قال : ( ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ( ، يقول : حتى يدخل البعير في خرق الإبرة ،(1/391)
صفحة رقم 392
) وكذلك ( ، يعني وهكذا ، ) نجزي المجرمين ) [ آية : 40 ] لا يدخلون الجنة .
الأعراف : ( 41 ) لهم من جهنم . . . . .
ثم ذكر ما أعد لهم في النار ، فقال : ( لهم من جهنم مهاد ( ، يعني فراش من نار ،
)( ومن فوقهم غواش ( ، يعني لحفا ، يعني ظللا من النار ، وذلك قوله في الزمر : ( لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ) [ الزمر : 16 ] ، يقول : ( وكذلك ( ، يعني
وهكذا ، ) نجزي الظالمين ) [ آية : 41 ] جهنم ، وما فيها من العذاب .
الأعراف : ( 42 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
ثم ذكر المؤمنين ، فقال : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها ( ، يقول : لا نكلفها من العمل إلا ما تطيق ، ) أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) [ آية : 42 ] لا يموتون .
الأعراف : ( 43 ) ونزعنا ما في . . . . .
ثم أخبر عنهم ، فقال : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل ( ، يعني ما كان في الدنيا في
قلوبهم من غش ، يعني بعضهم لبعض ، وذلك أن أهل الجنة إذا هم بشجرة ينبع من
ساقها عينان ، فيميلون إلى أحدهما فيشربون منها ، فيخرج الله ما كان في أجوافهم من
غل أو أقذار ، فيطهر الله أجوافهم ، ) وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) [ الإنسان : 21 ] ،
ثم يميلون إلى العين الأخرى ، فيغتسلون فيها ، فيطيب الله أجسادهم من كل درن ،
وجرت عليهم النظرة ، فلا تشعث رءوسهم ، ولا تغبر وجوههم ، ولا تشحب
أجسادهم ، ثم تتلقاهم خزنة الجنة قبل أن يدخلوا الجنة ، فينادونهم ، يعني قالوا لهم :
( أن تلكم الجنة أورثتموها ( ، يقول : هاكم الجنة أورثتموها ) بما كنتم تعملون ( ، فلما استقروا في منازلهم ، ) تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ( ، أي للإسلام ولهذا الخير ، ) وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ( لدينه ، ما
كنا لنهتدي في التقديم ، ) لقد جاءت رسل ربنا بالحق ( ، بأن هذا اليوم حق فصدقناهم ،
)( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) [ آية : 44 ] .
الأعراف : ( 44 ) ونادى أصحاب الجنة . . . . .
) ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ( من الخير والثواب في
الدنيا ، ) فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ( في الدنيا من العذاب ، ) قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم ( ، وهو مالك ينادي : ( أن لعنة الله على الظالمين ) [ آية : 49 ] يعني عذاب الله
على المشركين .
الأعراف : ( 45 ) الذين يصدون عن . . . . .
ثم نعت أعمالهم الخبيئة ، فقال : ( الذين يصدون عن سبيل الله ( ، يعني دين الإسلام ،
)( ويبغونها عوجا ( ، ويريدون بملة الإسلام زيفا ، ) وهم بالآخرة ( ، يعني بالبعث الذي فيه
جزاء الأعمال ، ) كافرون ) [ آية : 45 ] .(1/392)
صفحة رقم 393
الأعراف : ( 46 ) وبينهما حجاب وعلى . . . . .
ثم قال : ( وبينهما حجاب ( ، يقول : بين الجنة والنار سور ، ) وعلى الأعراف ( ، يعني
على السور رجال ) رجال يعرفون كلا ( من الفريقين ) بسيماهم ( ، يعرفون أهل الجنة
ببياض في الوجوه ، وأهل النار بسواد الوجوه ، ) ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ( ،
يسلم أصحاب الأعراف على أهل الجنة ، يقول الله : ( لم يدخلوها ( ، يعني أصحاب
الأعراف لم يدخلوا الجنة ، ) وهم يطمعون ) [ آية : 46 ] في دخولها ، وإنما طمعوا في
دخول الجنة من أجل النور الذي بين أيديهم وعلى أقدامهم مثل السراج .
الأعراف : ( 47 ) وإذا صرفت أبصارهم . . . . .
ثم قال : ( وإذا صرفت أبصارهم ( ، يعني قلبت وجوههم ، ) تلقاء أصحاب النار ( ،
يقول : وإذا نظر أصحاب الأعراف قبل أهل النار ، ) قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين (
[ آية : 47 ] ، يعني مع المشركين في النار .
تفسير سورة الأعراف آية [ 48 - 49 ]
الأعراف : ( 48 ) ونادى أصحاب الأعراف . . . . .
) ونادى أصحاب الأعراف رجالا ( ، هم في النار ، ) يعرفونهم بسيماهم ( ، يعني بسواد
الوجوه من القادة والكبراء ، ) قالوا ما أغنى عنكم جمعكم ( في الدنيا ، ) وما كنتم تستكبرون ) [ آية : 48 ] ، يعني وما أغنى عنكم ما كنتم تستكبرون عن الإيمان ، فأقسم
أهل النار أن أهل الأعراف سيدخلون النار معهم .
الأعراف : ( 49 ) أهؤلاء الذين أقسمتم . . . . .
قالت الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصراط : ( أهؤلاء ( ، يعني
أصحاب الأعراف ، ) الذين أقسمتم ( يا أهل النار أنهم ) لا ينالهم الله برحمة ( ، ثم
قالت الملائكة : يا أصحاب الأعراف ، ) ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ( من العذاب ،
)( ولا أنتم تحزنون ) [ آية : 49 ] من الموت . فقال مقاتل : إن أصحاب الأعراف من
أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة ، وهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فحسبوا على الصراط من
أجل ذنوبهم ، ثم دخلوا الجنة بعد ذلك بشفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
تفسير سورة الأعراف آية [ 50 - 51 ](1/393)
صفحة رقم 394
الأعراف : ( 50 ) ونادى أصحاب النار . . . . .
) ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء ( ، يقول : اسقونا من الماء
نشرب ، ) أو ( أطعمونا ) مما رزقكم الله ( من الطعام نأكل ، فإن فينا معارفكم
وفيكم معارفنا ، فرد عليهم أهل الجنة ، ) قالوا إن الله حرمهما ( ، يعني الطعام
والشراب ، ) على الكافرين ) [ آية : 50 ] ، وذلك أن الله عز وجل رفع أهل الجنة لأهل
النار ، فرأوا ما فيهما من الخير والرزق ، فنادوا عند ذلك : ( أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ( من الشراب والطعام ، قال لهم أهل الجنة : ( إن الله حرمهما على الكافرين ( .
الأعراف : ( 51 ) الذين اتخذوا دينهم . . . . .
ثم نعتهم ، فقال : ( الذين اتخذوا دينهم ( الإسلام ، ) لهوا ولعبا ( ، يعني لهوا
عنه ، ولعبا يعني باطلا ، ودخلوا في غير دين الإسلام ، ) وغرتهم الحياة الدنيا ( عن
دينهم الإسلام ، ) فاليوم ( في الآخرة ، ) ننساهم كما نسوا ( ، يقول : فاليوم في
الآخرة نتركهم في النار ، كما تركوا الإيمان ، ) لقاء يومهم هذا ( ، يعني بالبعث ،
)( وما كانوا بآياتنا ( ، يعني بالقرآن ) يجحدون ) [ آية : 51 ] بأنه ليس من الله .
تفسير سورة الأعراف آية [ 52 - 53 ]
الأعراف : ( 52 ) ولقد جئناهم بكتاب . . . . .
) ولقد جئناهم بكتاب فصلناه ( ، يعني بيناه ، ) على علم ( ، وهو القرآن ، ) هدى (
من الضلالة ، ) ورحمة ( من العذاب ، ) لقوم يؤمنون ) [ آية : 52 ] ، يعني يصدقون
بالقرآن بأنه من الله .
الأعراف : ( 53 ) هل ينظرون إلا . . . . .
ثم رجع في التقديم إلى الذين جحدوا بالقرآن ، فقال : ( هل ينظرون ( ، يخوفهم ،
)( إلا تأويله يوم يأتي تأويله ( ، يعني العاقبة ، ما وعد الله في القرآن من الوعد والوعيد ،
والخير والشر ، على ألسنة الرسل ، ) يقول الذين نسوه من قبل ( ، يعني يقول في
الآخرة الذين تركوا الإيمان في الدنيا بالبعث ، فإذا ذكروه ، وعاينوا قول الرسل ، قالوا :
( قد جاءت رسل ربنا بالحق ( ، بأن هذا اليوم كائن ، وهو حق ، ) فهل لنا من شفعاء (
من الملائكة والنبيين وغيرها ، ) فيشفعوا لنا أو نرد ( إلى الدنيا ، ) فنعمل ( من الخير
) غير الذي كنا نعمل ( من الشر ، يعني الشرك والتكذيب ، يقول الله ) قد خسروا(1/394)
صفحة رقم 395
أنفسهم ( ، يقول : قد غبنوا أنفسهم ، فساروا إلى النار ، ) وضل عنهم ) ) في الآخرة ( ( ما
كانوا يفترون ) [ آية : 53 ] في الدنيا من التكذيب .
تفسير سورة الأعراف آية [ 54 - 56 ]
الأعراف : ( 54 ) إن ربكم الله . . . . .
) إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) ) قبل ذلك ( ( يغشى اليل النهار ( ، يقول : يغشى ظلمة الليل ضوء النهار ، ) يطلبه
حثيثا ( ، يعني سريعا ، ) والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ( لبني آدم ، ) ألا له
الخلق ( ، يعني كل شيء خلق ، ) والأمر ( ، يعني قضاءه في الخلق الذي في اللوح
المحفوظ ، فله المشيئة في الخلق والأمر ، ) تبارك الله رب العالمين ) [ آية : 54 ] ، فيخبر
بعظمته وقدرته .
الأعراف : ( 55 ) ادعوا ربكم تضرعا . . . . .
ثم بين كيف يدعونه ، فقال : ( ادعوا ربكم تضرعا ( ، يعني مستكينين ،
)( وخفية ( ، يعني في خفض وسكون ، كقوله : ( ولا تخافت بها ) [ الإسراء :
110 ] ، يعني تسر بها ، فادعوه في حاجتكم ولا تدعوه فيما لا يحل لكم على مؤمن أو
مؤمنة ، تقول : اللهم اخزه والعنه ، اللهم أهلكه ، أو افعل به كذا وكذا ، فذلك عدوان ،
)( إنه ) ) الله ( ( لا يحب المعتدين ) [ آية : 55 ] .
الأعراف : ( 56 ) ولا تفسدوا في . . . . .
) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ( ، وذلك أن الله بعث نبيا إلى الناس
فأطاعوه ، صلحت الأرض وصلح أهلها ، وأن المعاصي فساد المعيشة ، وهلاك أهلها ،
يقول : لا تعملوا في الأرض بالمعاصي بعد الطاعة ، ) وادعوه خوفا ( من عذابه ،
)( وطمعا ( في رحمته ، فمن فعل ذلك وهو محسن ، فذلك قوله : ( إن رحمت الله قريب
من المحسنين ) [ آية : 56 ] ، يعني بالرحمة المطر ، يقول : الرحمة لهم .
تفسير سورة الأعراف آية [ 57 - 64 ](1/395)
صفحة رقم 396
الأعراف : ( 57 ) وهو الذي يرسل . . . . .
) وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ( ، يقول : الرياح نشرا
للسحاب . كقوله : ( يرسل الرياح فتثير سحابا ) [ الروم : 48 ] ، يسير السحاب قدام
الرياح ، ) حتى إذا أقلت ( ، يعني إذا حملت الريح ) سحابا ثقالا ( من الماء ، ) سقناه لبلد ميت ( ، ليس فيه نبات ، ) فأنزلنا به الماء فأخرجنا به ( بالماء من الأرض ، ) من كل الثمرات كذلك ( ، يعني هكذا ، ) نخرج ( ، يخرج الله ) الموتى ( من الأرض
بالماء ، كما أخرج النبات من الأرض بالماء ، ) لعلكم ( ، يعني لكي ) تذكرون (
[ آية : 57 ] فتعتبروا في البعث أنه كائن ، نظيرها في الروم والملائكة .
الأعراف : ( 58 ) والبلد الطيب يخرج . . . . .
ثم ضرب مثلا للمؤمنين والكفار ، فقال : ( والبلد الطيب ( ، يعني الأرض العذبة إذا
مطرت ، ) يخرج نباته بإذن ربه ( ، فينتفع به كما ينفع المطر البلد الطيب فينبت ، ثم
ذكر الكافر ، فقال : ( والذي خبث ( من البلد ، يعني من الأرض السبخة أصابها المطر ،
فلم ينبت ، ) لا يخرج إلا نكدا ( ، يعني إلا عسرا رقيقا يبس مكانه ، فلم ينتفع به ،
فهكذا الكافر يسمع الإيمان ولا ينطق به ولا ينفعه ، كما لا ينفع هذا النبات الذي يخرج
رقيقا فييبس مكانه ، ) كذلك ( ، يعني هكذا ) نصرف الآيات ( في أمور شتى لما
ذكره في هاتين الآيتين ، ) لقوم يشكرون ) [ آية : 58 ] ، يعني يوحدون ربهم .
الأعراف : ( 59 ) لقد أرسلنا نوحا . . . . .
) لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ( ، يعني وحدوا الله ، ) ما لكم من إله غيره ( ، يقول : ليس لكم رب غيره ، فإن لم تعبدوه ، ) إني أخاف عليكم ( في
الدنيا ) عذاب يوم عظيم ) [ آية : 59 ] لشدته .(1/396)
صفحة رقم 397
الأعراف : ( 60 ) قال الملأ من . . . . .
) قال الملأ من قومه ( ، وهم القادة والكبراء لنوح : ( إنا لنراك في ضلال مبين (
[ آية : 60 ] .
الأعراف : ( 61 ) قال يا قوم . . . . .
) قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين ) [ آية : 61 ] إليكم .
الأعراف : ( 62 ) أبلغكم رسالات ربي . . . . .
) أبلغكم رسالات ربي ( في نزول العذاب بكم في الدنيا ، ) وأنصح لكم ( فيها
وأحذركم من عذابه في الدنيا ، ) وأعلم من الله ( في نزول العذاب بكم ، ) ما لا تعلمون ) [ آية : 62 ] أنتم .
وذلك أن قوم نوح لم يسمعوا بقوم قط عذبوا ، وقد سمعت الأمم بعدهم بنزول
العذاب على قوم نوح ، ألا ترى أن هودا قال لقومه : ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ) [ الأعراف : 69 ] ، وقال صالح لقومه : ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد ( هلاك ) عاد ) [ الأعراف : 74 ] ، وحذر شعيب قومه ، فقال : ( أن يصيبكم ( من العذاب ) مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم
لوط منكم ببعيد ) [ هود : 89 ] ، فمن ثم قال نوح لقومه : أعلم ما لا تعلمون .
الأعراف : ( 63 ) أوعجبتم أن جاءكم . . . . .
فقال بعضهم لبعض ، الكبراء للضعفاء : ما هذا إلا بشر مثلكم ، أفتتبعونه ؟ فرد عليهم
نوح : ( أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم ( ، يعني بيان من ربكم ، ) على رجل منكم ( ، يعني نفسه ، ) لينذركم ( العذاب في الدنيا ، ) ولتتقوا ( الشرك وتوحدوا
ربكم ، ) ولعلكم ( ، يعني لكي ) ترحمون ) [ آية : 63 ] ، فلا تعذبوا .
الأعراف : ( 64 ) فكذبوه فأنجيناه والذين . . . . .
) فكذبوه ( في العذاب أنه ليس بنازل بنا ، يقول الله : ( فأنجيناه ( ، يعني نوحا ،
)( والذين معه ( من المؤمنين ، في الفلك ر ، يعني السفينة من الغرق برحمة منا ،
)( وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ( ، يعني نزول العذاب ، ) إنهم كانوا قوما عمين (
[ آية : 64 ] ، عموا عن نزول العذاب بهم ، وهو الغرق .
تفسير سورة الأعراف آية [ 65 - 72 ](1/397)
صفحة رقم 398
الأعراف : ( 65 ) وإلى عاد أخاهم . . . . .
) و ( أرسلنا ) وإلى عاد أخاهم هودا ( ، ليس بأخيهم في الدين ، ولكن أخوهم في
النسب ، ) قال يا قوم اعبدوا الله ( ، يعني وحدوا الله ، ) ما لكم من إله غيره ( ، يقول :
ما لكم رب غيره ، ) أفلا تتقون ) [ آية : 65 ] ، يعني الشرك ، أفلا توحدون ربكم .
الأعراف : ( 66 ) قال الملأ الذين . . . . .
) قال الملأ الذين كفروا من قومه ( ، وهم الكبراء لهود والقادة : ( إنا لنراك في سفاهة ( ، يعني في حمق ، ) وإنا لنظنك ( ، يعني لنحسبك ، ) من الكاذبين (
[ آية : 66 ] فيما تقول في نزول العذاب بنا .
الأعراف : ( 67 ) قال يا قوم . . . . .
) قال يا قوم ليس بي سفاهة ( ، يعني حمق ، ) ولكني رسول من رب العالمين (
[ آية : 67 ] إليكم .
الأعراف : ( 68 ) أبلغكم رسالات ربي . . . . .
) أبلغكم رسالات ربي ( في نزول العذاب بكم في الدنيا ، ) وأنا لكم ناصح ( فيما
أحذركم من عذابه ، ) امين ) [ آية : 68 ] فيما بيني وبينكم .
الأعراف : ( 69 ) أوعجبتم أن جاءكم . . . . .
فقال الكبراء للضعفاء : ما هذا إلا بشر مثلكم ، أفتتبعونه ؟ فرد عليهم هود : ( أو
عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم ( ، يعني بيان من ربكم ، ) على رجل منكم ( ، يعني
نفسه ، ) لينذركم ( العذاب في الدنيا ، ) واذكروا إذ جعلكم خلفاء ( في
الأرض ، ) من بعد ( هلاك ) قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة ( على غيركم ، كان
طول كل رجل منهم اثنى عشر ذراعا ونصفا ، ) فاذكروا آلاء الله ( ، يعني نعم الله
فوحدوه ، ) لعلكم ( ، يعني لكي ) تفلحون ) [ آية : 69 ] ولا تعبدوا غيره .
الأعراف : ( 70 ) قالوا أجئتنا لنعبد . . . . .
) قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ( عبادة ) ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا ( من العذاب ، ) إن كنت من الصادقين ) [ آية : 70 ] إن العذاب نازل بنا .
الأعراف : ( 71 ) قال قد وقع . . . . .
) قال ( هود : ( قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب ( ، يعني إثم وعذاب ،
)( أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ( إنها آلهة ، ) ما نزل الله بها من(1/398)
صفحة رقم 399
سلطان ( ، يعني من كتاب لكم فيه حجة بأن معه شريكا ، ) فانتظروا ( العذاب
) إني معكم من المنتظرين ) [ آية : 71 ] بكم العذاب .
الأعراف : ( 72 ) فأنجيناه والذين معه . . . . .
) فأنجيناه ( ، يعني هودا ، ) والذين معه ) ) من المؤمنين ( ( برحمة منا ( ، يعني
بنعمة منا من العذاب ، ) وقطعنا دابر ( ، يعني أصل القوم ) الذين كذبوا بآياتنا ( ،
يعني بنزول العذاب ، ) وما كانوا مؤمنين ) [ آية : 72 ] ، يعني مصدقين بالعذاب أنه
نازل بهم ، وهي الريح .
تفسير سورة الأعراف آية [ 72 - 79 ]
الأعراف : ( 73 ) وإلى ثمود أخاهم . . . . .
ثم ذكر الله ثمود قوم صالح ، فقال : ( و ) ) أرسلنا ( ( وإلى ثمود أخاهم صالحا ( ،
ليس بأخيهم في الدين ، ولكن أخوهم في النسب ، ) قال يا قوم اعبدوا الله ( ، يعني
وحدوا الله ، ) ما لكم من إله غيره ( ، يقول : ليس لكم رب غيره ، ) قد
جاءتكم بينة من ربكم ( ، يعني بالبينة الناقة ، فقال : ( هذه ناقة الله لكم
آية ( ، لتعتبروا فتوحدوا ربكم ، وكانت من غير نسل ، وكان الفصيل من نسل ،
)( فذروها تأكل في أرض الله ( ، يقول : خلوا عنها فلتأكل حيث شاءت ، ولا تكلفكم
مؤونة ، ) ولا تمسوها بسوء ( ، لا تصيبوها بعقر ، ) فيأخذكم ( ، يعني فيصيبكم
) عذاب أليم ) [ آية : 73 ] ، يعني وجيع في الدنيا .
الأعراف : ( 74 ) واذكروا إذ جعلكم . . . . .
) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد ( هلاك ) عاد وبوأكم في الأرض(1/399)
صفحة رقم 400
تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا ( ، يعني تبنون في الجبال من
الحجارة بيوتا ، ) فاذكروا آلاء الله ( ، يعني نعم الله في القصور والبيوت فتوحدوه ،
)( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) [ آية : 74 ] ، يعني ولا تسعوا فيها المعاصي .
الأعراف : ( 75 ) قال الملأ الذين . . . . .
) قال الملأ الذين استكبروا ( ، يعني الذين تكبروا عن الإيمان ، وهم الكبراء ،
)( من قومه ( ، أي من قوم صالح ، ) للذين استضعفوا لمن آمن منهم ( ، يعني لمن
صدق منهم بالتوحيد ، ) أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل
به مؤمنون ) [ آية : 75 ] .
الأعراف : ( 76 ) قال الذين استكبروا . . . . .
) قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به ( ، يعني صدقتم به من العذاب
والتوحيد ) كافرون ) [ آية : 76 ] .
الأعراف : ( 77 ) فعقروا الناقة وعتوا . . . . .
) فعقروا الناقة ( ليلة الأربعاء ، ) وعتوا عن أمر ربهم ( ، يعني التوحيد ،
)( وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا ) ) من العذاب ( ( إن كنت من المرسلين ) [ آية : 77 ]
الذادقين بأن العذاب نازل بنا .
الأعراف : ( 78 ) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا . . . . .
) فأخذتهم الرجفة ( ، يعني فأصابهم العذاب بكرة السبت من صيحة جبريل ، عليه
السلام ، ) فأصبحوا في دارهم جاثمين ) [ آية : 78 ] ، يعني في منازلهم خامدين ، أمواتا .
الأعراف : ( 79 ) فتولى عنهم وقال . . . . .
) فتولى عنهم ( ، يعني فأعرض عنهم حين كذبوا بالعذاب ، ) وقال يا قوم لقد
أبلغتكم رسالة ربي ( في نزول العذاب بكم في الدنيا ، ) ونصحت لكم ( فيما
حذرتكم من عذابه ، ) ولكن لا تحبون الناصحين ) [ آية : 79 ] ، يعني نفسه .
تفسير سورة الأعراف آية [ 80 - 84 ]
الأعراف : ( 80 ) ولوطا إذ قال . . . . .
) و ) ) أرسلنا ( ( ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ( ، يعني المعصية ، يعني إتيان
الرجال ، وأنتم تبصرون أنها فاحشة . ) ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) [ آية :
80 ] فيما مضى قبلكم .(1/400)
صفحة رقم 401
الأعراف : ( 81 ) إنكم لتأتون الرجال . . . . .
) إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون ) [ آية :
81 ] ، يعني الذنب العظيم .
الأعراف : ( 82 ) وما كان جواب . . . . .
) وما كان جواب قومه ( ، أي قوم لوط حين نهاهم عن الفاحشة ، ) إلا أن قالوا أخرجوهم ( ، آل لوط ، ) من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) [ آية : 82 ] ، يعني
لوطا وحده ، يعني يتنزهون عن إتيان الرجال .
الأعراف : ( 83 ) فأنجيناه وأهله إلا . . . . .
) فأنجيناه وأهله ( من العذاب ، ) إلا امرأته كانت من الغابرين ) [ آية : 83 ] ،
يعني من الباقين في العذاب .
الأعراف : ( 84 ) وأمطرنا عليهم مطرا . . . . .
) وأمطرنا عليهم ( الحجارة من فوقهم ) مطرا ( ، ) فساء مطر المنذرين (
[ الشعراء : 173 ، النمل : 58 ] ، يعني فبئس مطر الذين أنذروا العذاب ، ) فانظر ( يا
محمد ، ) كيف كان عاقبة المجرمين ) [ آية : 84 ] ، يعني قوم لوط ، كان عاقبتهم
الخسف والحصب بالحجارة .
تفسير سورة الأعراف آية [ 85 - 86 ]
الأعراف : ( 85 ) وإلى مدين أخاهم . . . . .
) و ( أرسلنا ) وإلى مدين ( ابن إبراهيم لصلبه ، وأرسلنا إلى مدين ) أخاهم شعيبا ( ، ليس بأخيهم في الدين ، ولكن أخوهم في النسب ، ) قال يا قوم اعبدوا الله ( ، يعني وحدوا الله ، ) ما لكم من إله غيره ( ، ليس لكم رب غيره ، ) قد جاءتكم بينة من ربكم ( ، يعني بيان من ربكم ، ) فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ( ، يعني لا تنقصوا الناس حقوقهم في نقصان
الكيل والميزان ، ) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ( ، بعد الطاعة في نقصان
الكيل والميزان ، فإن المعاصي فساد المعيشة وهلاك أهلها ، ) ذلكم خير لكم ( ، يعني
وفاء الكيل والميزان خير لكم من النقصان ، ) إن كنتم مؤمنين ) [ آية : 85 ] ،
يقول : إن كنتم آمنتم ، كان في الآخرة خير لكم من نقصان الكيل والميزان في الدنيا ،
نظيرها في هود .(1/401)
صفحة رقم 402
الأعراف : ( 86 ) ولا تقعدوا بكل . . . . .
) ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ( ، يعني ولا ترصدوا بكل طريق توعدون
أهل الإيمان بالقتل ، ) وتصدون عن سبيل الله ( ، يعني عن دين الإسلام ، ) من آمن به ( ، ، يعني من صدق بالله وحده لا شريك له ، ) وتبغونها عوجا (
يعني تريدون بملة الإسلام زيفا ، ) واذكروا إذ كنتم قليلا ( ، عددكم بعد عذاب
الأمم الخالية ، ثم ذكرهم النعم ، فقال : ( فكثركم ( ، يعني فكثر عددكم ، ثم
وعظهم وخوفهم بمثل هذاب الأمم الخالية ، فقال : ( وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ) [ آية : 86 ] في الأرض بالمعاصي بعد عذاب قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم
لوط في الدنيا ، نظيرها في هود .
تفسير سورة الأعراف آية [ 87 - 93 ]
الأعراف : ( 87 ) وإن كان طائفة . . . . .
) وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به ( من العذاب ، ) وطائفة لم يؤمنوا ( ، يعني لم يصدقوا بالعذاب ، ) فاصبروا حتى يحكم الله ( ، حتى يقضى الله
) بيننا ( في أمر العذاب ، ) وهو خير الحاكمين ) [ آية : 87 ] ، يعني وهو خير
الفاصلين ، فكان قضاؤه نزول العذاب بهم .
الأعراف : ( 88 ) قال الملأ الذين . . . . .
) قال الملأ الذين استكبروا من قومه ( ، يعني الذين تكبروا عن الإيمان ، وهم
الكبراء ، ) لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ( ، يعنون
الشرك ، أو لتدخلن في ملتنا ، ) قال أولو كنا كارهين ) [ آية : 88 ] .
الأعراف : ( 89 ) قد افترينا على . . . . .
ثم قال لهم شعيب : ( قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم ( الشرك ، يعني إن(1/402)
صفحة رقم 403
دخلنا في دينكم ، ) بعد إذ نجانا الله منها ( ، يقول : بعد إذ لم يجعلنا الله من أهل ملتكم
الشرك ، ) وما يكون لنا أن نعود فيها ( ، وما ينبغي لنا أن ندخل في ملتكم الشرك ، ) إلا أن يشاء الله ربنا ( ، فيدخلنا في ملتكم ، ) وسع ( ، يعني ملأ ) ربنا كل شيء علما ( ،
فعلمه ، ) على الله توكلنا ( ، لقولهم لشعيب : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من
قريتنا ، ثم قال شعيب : ( ربنا افتح ( ، يعني اقض ) بيننا وبين قومنا بالحق ( ، يعني
بالعدل في نزول العذاب بهم ، ) وأنت خير الفاتحين ) [ آية : 89 ] ، يعني القاضين .
الأعراف : ( 90 ) وقال الملأ الذين . . . . .
) وقال الملأ الذين كفروا من قومه ( ، وهم الكبراء للضعفاء ، ) لئن اتبعتم شعيبا (
على دينه ، ) إنكم إذا لخاسرون ) [ آية : 90 ] ، يعني لعجزه ، نظيرها في يوسف : ( لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون ) [ يوسف : 14 ] ، يعني لعجزه ظالمون .
الأعراف : ( 91 ) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا . . . . .
) فأخذتهم الرجفة ( ، يعني العذاب ، ) فأصبحوا ( من صيحة جبريل ، عليه السلام ،
)( في دارهم ( ، يعني قريتهم ، ) جاثمين ) [ آية : 91 ] ، يعني أمواتا خامدين .
الأعراف : ( 92 ) الذين كذبوا شعيبا . . . . .
) الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها ( ، يعني كأن لم يكونوا فيها قط ، ) الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ) [ آية : 92 ] .
الأعراف : ( 93 ) فتولى عنهم وقال . . . . .
) فتولى عنهم ( ، يعني فأعرض عنهم حين كذبوا بالعذاب ، نظيرها في هود ،
)( وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ( ، في نزول العذاب بكم في الدنيا ،
)( ونصحت لكم ( فيما حذرتكم من عذابه ، ) فكيف آسى ( ، يقول : فكيف أحزن
بعد الصيحة ، ) على قوم كافرين ) [ آية : 93 ] إذا عذبوا .
تفسير سورة الأعراف آية [ 94 - 102 ](1/403)
صفحة رقم 404
الأعراف : ( 94 ) وما أرسلنا في . . . . .
) وما أرسلنا في قرية من نبي ( فكذبوه ، ) إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء ( ،
يعني قحط المطر ، فأصابهم البؤس ، وهو الشدة ، والضر يعني البلاء ، ) لعلهم ( ، يعني
لكي ، ) يضرعون ) [ آية : 94 ] إلى ربهم فيوحدونه فيرحمهم .
الأعراف : ( 95 ) ثم بدلنا مكان . . . . .
) ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ( ، يقول : حولنا مكان الشدة الرخاء ، ) حتى عفوا ( ، يقول : حموا وسمتوا ، فلم يشكروا ربهم ، فقالوا من غيرتهم وجهلهم : ( وقالوا قد مس آباءنا ( ، يعني أصاب آباءنا ، ) الضراء والسراء ( ، يعني الشدة والرخاء مثل ما
أصابنا ، فلم يك شيئا ، يقول : ( فأخذناهم ( بالعذاب ) بغتة ( ، فجأة ، ) وهم لا يشعرون ) [ آية : 95 ] أعز ما كانوا حتى ينزل بهم ، وقد أنذرتهم رسلهم العذاب من قبل
أن ينزل بهم ، فذلك قوله : ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ( ، بالشرك ،
)( وأهلها غافلون ) [ الأنعام : 131 ] .
الأعراف : ( 96 ) ولو أن أهل . . . . .
ثم أخبر عنهم ، فقال : ( ولو أن أهل القرى ( التي عذبت ، ) آمنوا ( بتوحيد الله ،
)( واتقوا ( الشرك ما قحط عليهم المطر ، و ) لفتحنا عليهم بركات من السماء ( ، يعني
المطر ، ) والأرض ( ، يعني النبات ، ) ولكن كذبوا فأخذناهم ( بالعذاب ، ) بما كانوا يكسبون ) [ آية : 96 ] من الشرك والتكذيب .
الأعراف : ( 97 ) أفأمن أهل القرى . . . . .
) أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى ( ، يعني عذابنا نهاراً ، ) وهم نائمون (
[ آية : 97 ] .
الأعراف : ( 98 ) أو أمن أهل . . . . .
) أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا ( ، يعني عذابنا ليلا ، ) وهم يلعبون ) [ آية : 98 ] ، يعني لاهون عنه ، نظيرها في طه : ( وأن يحشر الناس ضحى (
[ طه ' 59 ] ، يعني نهارا .
الأعراف : ( 99 ) أفأمنوا مكر الله . . . . .
) أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله ( ، يعني عذاب الله ، ) إلا القوم الخاسرون ) [ آية : 99 ] .
الأعراف : ( 100 ) أولم يهد للذين . . . . .
) أو لم يهد للذين يرثون الأرض ( ، يعني ورثوا الأرض ، ) من بعد ( هلاك
) أهلها أن لو نشاء أصبناهم ( بعذاب ، ) بذنوبهم ( يخوف كفار مكة ، ) ونطبع(1/404)
صفحة رقم 405
على قلوبهم ) ) بالكفر ( ( فهم لا يسمعون ) [ آية : 100 ] بالإيمان .
الأعراف : ( 101 ) تلك القرى نقص . . . . .
ثم رجع إلى القرى الخالية التي عذبت ، فقال : ( تلك القرى نقص عليك من انبائها ( ،
يعني حديثها ، ) ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ( ، يعني بيان العذاب ، فإنه نازل بهم في
الدنيا ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخبر كفار مكة أن العذاب نازل بهم ، فكذبوه بالعذاب ،
فأنزل الله : ( فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ( ، يقول : فما كان كفار مكة
ليؤمنوا ، يعني ليصدقوا أن العذاب نازل بهم في الدنيا بما كذبت به أوائلهم من الأمم
الخالية من قبل كفار مكة حين أنذرتهم رسلهم العذاب ، يقول الله : ( كذلك يطبع
الله ( ، يعني هكذا يختم الله بالكفر ) على قلوب الكافرين ) [ آية : 101 ] .
الأعراف : ( 102 ) وما وجدنا لأكثرهم . . . . .
) وما وجدنا لأكثرهم من عهد ( ، وذلك أن الله أخذ ميثاق ذرية آدم على المعرفة ،
فأقروا بذلك ، فلما بلغوا العمل نقضوا العهد ، ) وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) [ آية :
102 ] .
تفسير سورة الأعراف من آية : [ 102 - 116 ]
الأعراف : ( 103 ) ثم بعثنا من . . . . .
) ثم بعثنا من بعدهم ( ، يعني من بعد الرسل ، ) موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه ( ،
يعني اليد والعصا ، ) فظلموا بها ( ، يعني فجحدوا بالآيات ، وقالوا : ليست من الله فإنها
سحر ، ) فانظر ( يا محمد ) كيف كان عاقبة المفسدين ) [ آية : 103 ] في
الأرض بالمعاصي ، فكان عاقبتهم الغرق .(1/405)
صفحة رقم 406
الأعراف : ( 104 ) وقال موسى يا . . . . .
) وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ) [ آية : 104 ] .
الأعراف : ( 105 ) حقيق على أن . . . . .
) حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق ( ، فإنه بعثني رسولا ، ) قد جئتكم ببينة من ربكم ( ، يعني اليد والعصا بأنى رسول الله ، ) فأرسل معي بني إسرائيل ) [ آية :
105 ] إلى فلسطين .
الأعراف : ( 106 ) قال إن كنت . . . . .
) قال ( فرعون : ( إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ) [ آية :
106 ] ، بأنك رسول رب العالمين ، وفي يد موسى عصا ، فزعم ابن عباس أن ملكا من
الملائكة دفعها إليه حين توجه إلى مدين ، فقال موسى لفرعون : ما هذه بيدي ؟ قال
فرعون : عصا .
الأعراف : ( 107 ) فألقى عصاه فإذا . . . . .
) فألقى ( موسى ) عصاه ( من يده ، ) فإذا هي ثعبان مبين ) [ آية : 107 ] ،
يعني حية بينة ، فقال فرعون : فهل من آية غيرها ؟ قال : نعم ، فأخرج يده ، وقال لفرعون :
ما هذه ؟ قال : هذه يدك ، فأدخل موسى يده في جيبه وعليه مدرعة من صوف مضرية ،
ثم أخرجها .
الأعراف : ( 108 ) ونزع يده فإذا . . . . .
فذلك قوله : ( ونزع يده ( ، يعني أخرج يده من جيبه ، ) فإذا هي بيضاء للناظرين (
[ آية : 108 ] ، لها شعاع كشعاع الشمس يغشى البصر من شدة بياضها .
الأعراف : ( 109 ) قال الملأ من . . . . .
) قال الملأ ( ، وهم الكبراء ، ) من قوم فرعون إن هذا ( ، يعني موسى ) لساحر عليم ) [ آية : 109 ] ، يعني عالم بالسحر ، وذلك أن فرعون بدأ بهذه المقالة فصدقه
قومه ، نظيرها في الشعراء .
الأعراف : ( 110 ) يريد أن يخرجكم . . . . .
ثم قال لهم فرعون : ( يريد أن يخرجكم من أرضكم ( ، وهي مصر ، ) فماذا تأمرون (
[ آية : 110 ] ، يعني تشيرون .
الأعراف : ( 111 ) قالوا أرجه وأخاه . . . . .
فرد عليه كبراء قومه : ( قالوا أرجه وأخاه ( ، يقول : أرجئ أمرهم ، يقول : أوقف
أمرهم حتى ننظر ، في أمرهما ، ) وأرسل في المدائن حاشرين ) [ آية : 111 ] .
الأعراف : ( 112 ) يأتوك بكل ساحر . . . . .
) يأتوك ( ، يحشرون عليك ، ) بكل ساحر عليم ) [ آية : 112 ] ، يعنون عالم
بالسحر .
الأعراف : ( 113 ) وجاء السحرة فرعون . . . . .
) وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا ( ، يعني جعلا ، ) إن كنا نحن الغالبين ) [ آية : 113 ] لموسى .(1/406)
صفحة رقم 407
الأعراف : ( 114 ) قال نعم وإنكم . . . . .
) قال ( فرعون : ( نعم وإنكم لمن المقربين ) [ آية : 114 ] ، في المنزلة سوى
العظمة ، كان هذا يوم السبت في المحرم ، والسحرة اثنان وسبعون رجلا .
الأعراف : ( 115 ) قالوا يا موسى . . . . .
) قالوا يا موسى ( ، فقالت السحرة لموسى : ( إما أن تلقي ( ما في يدك ، يعني
عصاه ، ) وإما أن نكون نحن الملقين ) [ آية : 115 ] ما في أيدينا من الحبال والعصى .
الأعراف : ( 116 ) قال ألقوا فلما . . . . .
) قال ( لهم موسى : ( القوا ( ما أنتم ملقون ، ) فلما ألقوا ( الحبال والعصى ،
)( سحروا أعين الناس واسترهبوهم ( ، يعني وخوفوهم ، ) وجاؤوا بسحر عظيم (
[ آية : 116 ] .
تفسير سورة الأعراف آية [ 117 - 129 ]
الأعراف : ( 117 ) وأوحينا إلى موسى . . . . .
) وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك ( ، فصارت حية ، ) فإذا هي تلقف ( ، يعني
تلقم ، ) ما يأفكون ) [ آية : 117 ] ، يعني ما جاءوا به من الكذب .
الأعراف : ( 118 ) فوقع الحق وبطل . . . . .
) فوقع الحق ( ، يعني فظهر الحق بأنه ليس بسحر ، ) وبطل ما كانوا يعملون ) [ آية :
118 ] ، يعني بطل ما كانوا يعملون من السحر .
الأعراف : ( 119 ) فغلبوا هنالك وانقلبوا . . . . .
) فغلبوا هنالك ( ، يعني عند ذلك ، ) وانقلبوا صاغرين ) [ آية : 119 ] ، يعني فرجعوا
إلى منازلهم مذلين(1/407)
صفحة رقم 408
الأعراف : ( 120 ) وألقي السحرة ساجدين
) وألقي السحرة ساجدين ) [ آية : 120 ] لله .
الأعراف : ( 121 - 122 ) قالوا آمنا برب . . . . .
) قالوا آمنا برب العالمين ) [ آية : 121 ] ، قال السحرة : آمنا ب ) رب موسى وهارون ) [ آية : 122 ] ، فبهت فرعون لردهم عليه .
الأعراف : ( 123 ) قال فرعون آمنتم . . . . .
و ) قال فرعون ( للسحرة ، ) آمنتم به ( ، يعني صدقتم بموسى ، ) قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة ( ، يقول : إن هذا الإيمان لقول قلتموه في المدينة ، يعني
في أهل مصر في متابعتكم إياه ، وذلك أن موسى قال للساحر الأكبر ، واسمه شمعون :
أتؤمن لي إن غلبتك ؟ قال : لآتين بسحر لا يغلبه سحرك ، ولئن غلبتني لأؤمن لك ،
وفرعون ينظر ، فمن ثم قال فرعون : ( لتخرجوا منها أهلها ( ، من أرض مصر ، يعني
موسى ، وهارون ، وشمعون رئيس السحرة ، ) فسوف تعلمون ) [ آية : 123 ] فأوعدهم .
الأعراف : ( 124 ) لأقطعن أيديكم وأرجلكم . . . . .
) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ( ، يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى ، أو الرجل
اليمنى واليد اليسرى ، ) ثم لأصلبنكم أجمعين ) [ آية : 124 ] .
الأعراف : ( 125 ) قالوا إنا إلى . . . . .
فرد السحرة على فرعون ، ) قالوا إنا إلى ربنا منقلبون ) [ آية : 125 ] ، يعني راجعين .
الأعراف : ( 126 ) وما تنقم منا . . . . .
) وما تنقم ( ، يعني وما نقمت ) منا إلا أن آمنا بآيات ربنا ( ، يعني صدقنا
باليد والعصا آيتان من ربنا ، ) لما جاءتنا ( ، ثم قالوا : ( ربنا أفرغ علينا ( ، يعني ألقى
علينا ) صبرا ( عند القطع والصلب ، ) وتوفنا مسلمين ) [ آية : 126 ] ، يعني مخلصين
لله حتى لا يردنا البلاء عن ديننا ، فصلبهم فرعون من يومه ، فكانوا أول النهار سحرة
كفاراً ، وآخر النهار شهداء مسلمين لما آمنت السحرة لموسى .
الأعراف : ( 127 ) وقال الملأ من . . . . .
) وقال الملأ ( ، يعني الأشراف ) من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ( ، بنى إسرائيل
قد آمنوا بموسى ، ) ليفسدوا في الأرض ( ، يعني مصر ، يعني بالفساد أن يقتل أبناءكم ،
ويستحيى نساءكم ، يعني ويترك بناتكم كما فعلتم بقومه يفعله بكم ، نظيرها في حم
المؤمن ، ) ويذرك وآلهتك ( ، يعني ويترك عبادتك ، ) قال ( فرعون عند ذلك :
( سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم ( ، يعني بناتهم ، ) وإنا فوقهم قاهرون ) [ آية : 127 ](1/408)
صفحة رقم 409
ثم أمرهم أن يقتلوا أبناء الذين معه ، ويستحيوا نساءهم ، فمنعهم الله من قتل الأبناء
حين أغرقهم في البحر ، وكان فرعون قد كلفهم من العمل ما لم يطيقوا ، فمر بهم
موسى ، عليه السلام ،
الأعراف : ( 128 ) قال موسى لقومه . . . . .
ف ) قال ( لهم ) موسى لقومه ( في التقديم : ( استعينوا بالله (
على فرعون وقومه ، ) واصبروا ( على البلاء ، ) إن الأرض ( ، أرض مصر ، ) لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة ( ، يعني الجنة ) للمتقين ) [ آية : 128 ] ، يعني
للموحدين .
الأعراف : ( 129 ) قالوا أوذينا من . . . . .
ف ) قالوا أوذينا ( في سببك ) من قبل أن تأتينا ( الرسالة ، يعنون الأذى قتل
الأبناء وترك البنات ، ) و ( أوذينا ) ومن بعد ما جئتنا ( بالرسالة ، يعنون حين
كلفهم فرعون من العمل ما لم يطيقوا مضارة باتباعهم موسى ، عليه السلام ، قال
موسى : ( قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ( ، يعني فرعون وقومه ،
)( ويستخلفكم ( من بعد هلاكهم ، ) في الأرض ( ، يعني أرض مصر ، ) فينظر كيف تعملون ) [ آية : 129 ] ، فإنما قال لهم موسى ، عليه السلام ، ذلك من قول الله
تعالى في القصص : ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض (
[ القصص : 5 ، 6 ] إلى آيتين ، ففعل الله ذلك بهم ، فأهلك عدوهم واستخلفهم في
الأرض ، فاتخذوا العجل .
تفسير سورة الأعراف [ 130 - 136 ]
الأعراف : ( 130 ) ولقد أخذنا آل . . . . .
) ولقد أخذنا آل فرعون ( ، يعني أهل مصر ، ) بالسنين ( ، يعني قحط المطر ،
)( ونقص من الثمرات ( ، فأصابهم الجوع ، ) لعلهم يذكرون ) [ آية : 130 ] ، يعني
لعلهم يتذكرون .(1/409)
صفحة رقم 410
الأعراف : ( 131 ) فإذا جاءتهم الحسنة . . . . .
) فإذا جاءتهم الحسنة ( ، يعني الخير والخصب ، ) قالوا لنا هذه ( ، يعنون نحن
أحق بهذا ، ) وإن تصبهم سيئة ( ، يعني الجوع ، والبلاء ، وقحط المطر ، وهلاك الثمار
والمواشي ، ) يطيروا بموسى ومن معه ( على دينه ، تسألوا أصابنا هذا الشر من سحر
موسى ، يقول الله : ( ألا إنما طائرهم عند الله ( ، يقول : إن الذي أصابهم هو من الله ،
)( ولكن أكثرهم ( ، يعني أهل مصر ، ) لا يعلمون ) [ آية : 131 ] أنه من الله الذي
أصابهم .
الأعراف : ( 132 ) وقالوا مهما تأتنا . . . . .
) وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها ( ، يعني الآيات التسع ، ) فما نحن لك بمؤمنين ) [ آية : 132 ] ، يعني بمصدقين ، يعني بأنك رسول رب العالمين .
الأعراف : ( 133 - 134 ) فأرسلنا عليهم الطوفان . . . . .
) فأرسلنا ( ، فلما قالوا ذلك أرسل الله ) عليهم ( السنين ، ونقص من الثمرات ،
والنبات ، و ) الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ( ، يعني باينات
بعضها من بعض بين كل آيتين ثلاثين يوما ، ) فاستكبروا ( ، يعني فتكبروا عن الإيمان ،
)( وكانوا قوما مجرمين ) [ آية : 133 ] .
فأما الطوفان ، فهو الماء طغى فوق حروثهم وزروعهم مطردا ثمانية أيام في ظلمة
شديدة لا يرون فيها شمسا ولا قمرا ، ولا يخرج منهم أحد إلى صنعته ، فخافوا الغرق ،
فصرخوا إلى فرعون ، فأرسل إلى موسى ، فقال : يا أيها الساحر ، ادع لنا ربك أن يكشف
عنا هذا المطر ، فإن يكشفه لنؤمنن لك ، ولنرسلن معك بني إسرائيل ، فقال : لا أفعل ما
زعمتم أني ساحر ، فقالوا : يا موسى ، ادع لنا ربك ، فدعا ربه ، فكشف عنهم المطر ،
فنبت من الزرع والعشب ما لم ير مثله قط ، فقالوا : لقد جزعنا من أمر كان خيرا لنا ،
فنكثوا العهد ، فأرسل الله عليهم الجراد ثمانية أيام ، وملئت الأرض حتى كانوا لا يرون
الأرض من كثرته ، قدر ذراع ، فأكل النبات ، حتى خافوا ألا يبقى لهم شيء .
فقال فرعون : يا موسى ، ادع لنا ربك أن يكشف عنا فنؤمن لك ، فدعا موسى ربه ،
فبعث الله ريحا ، فاحتملت الجراد فألقته في البحر ، قالوا : قد بقى لنا ما نتبلغ به حتى
يدركنا الغيث ، فنكثوا ، فأرسل الله عليهم القمل ، وهو الدبى ، فغشى كل شيء منهم ،
فلم يبق عودا أخضر من الزرع والنبات إلا أكله ، قال فرعون لموسى : ادع لنا ربك أن
يكشفه عنا ونؤمن لك ، فدعا ربه ، فأمات القمل ، وبقى لهم ما يتبلغون ، فنكثوا ، قالوا :(1/410)
صفحة رقم 411
يا موسى ، هل يستطيع ربك أن يفعل بنا أشد من هذا ؟ فأرسل الله عليهم الضفادع ،
فدبت في بيوتهم ، وعلى ظهورهم ، فكان يستيقظ الرجل من نومه وعليه منهم كثرة ،
فقال فرعون لموسى : ادع لنا ربك فيهلكه ، فإنه لم يعذب أحد قط بالضفادع ، فدعا
موسى ربه ، فأمات الضفادع ، فأرسل الله مطرا جوادا ، فجزى بهم الماء حتى قذفهم في
البحر .
فقالوا : إنما كان هذا الضفادع من المطر الذي كان أصابنا ، فلن يعود إلينا أبدا ،
فنكثوا ، فأرسل الله عليهم الدم ، حتى صارت أنهارهم ، وركاباهم دما ، وأنهار بنى
إسرائيل ماء عذبا ، فإذا دخل القبطي ليستقى من ماء بني إسرائيل ، صار دما ما بين يديه
وما خلفه صاف ، إذا تحول ليأخذ من الصافي ، صار دما وخلفه صاف ، فمكثوا ثلاثة
أيام لا يذوقون ماء صافيا ، فقالوا لفرعون : هلكنا وهلكت مواشينا وذرارينا من العطش ،
فقال لموسى : ادع لنا ربك ليكشف عنا ، ونعطيك ميثاقا لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى
إسرائيل ، فدعا موسى ربه ، فكشفه عنهم ، ولما شربوا الماء نكثوا العهد .
فذلك قوله : ( لما وقع عليهم الرجز ( ، يعني العذاب الذي كان نزل بهم ، ) قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز ( ، يعني هذا العذاب كله ،
)( لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ) [ آية : 134 ] إلى فلسطين .
الأعراف : ( 135 ) فلما كشفنا عنهم . . . . .
يقول الله : ( فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه ( ، يعني الغرق ، ) إذا هم ينكثون ) [ آية : 135 ] العهد الذي عاهدوا عليه موسى ، عليه السلام ، لقولهم : لئن
كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل إلى فلسطين .
الأعراف : ( 136 ) فانتقمنا منهم فأغرقناهم . . . . .
يقول الله : ( فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم ( بلسان العبرانية ، يعني به البحر ، وهو
نهر بمصر ، ) بأنهم كذبوا بآياتنا ( ، يعني الآيات التسع ، قالوا : يا أيها الساحر ، أنت
الذي تعمل هذه الآيات ، وإنها سحر ، وليست من الله ، ) وكانوا عنها غافلين ) [ آية :
136 ] ، يعني معرضين ، فلم يتفكروا فيها فيعتبرون .
قال فرعون لموسى في حم الزخرف : ( يا أيها الساحر ادع لنا ربك ) [ الزخرف :
49 ] ، فقال : لا أدعو وأنتم تزعمون أنى ساحر ، فقال في الأعراف : ( يا موسى ادع لنا ربك ) [ الأعراف : 134 ] ، يعني سل لنا ربك .
تفسير سورة الأعراف آية [ 137 - 141 ](1/411)
صفحة رقم 412
الأعراف : ( 137 ) وأورثنا القوم الذين . . . . .
ثم قال : ( وأورثنا ( الأرض ) القوم الذين كانوا يستضعفون ( ، يعني بنى
إسرائيل ، يعني بالاستضعاف قتل الأبناء ، واستحياء النساء بأرض مصر ، وورثهم
) مشارق الأرض ( المقدسة ، ) ومغاربها ( ، وهي الأردن وفلسطين ، ) التي باركنا فيها ( ، يعني بالبركة الماء ، والثمار الكثيرة ، ) وتمت كلمات ربك الحسنى ( ، وهي
النعمة ، ) على بني إسرائيل بما صبروا ( ، حين كلفوا بأرض مصر ما لا يطيقون من
استعبادهم إياهم ، يعني بالكلمة التي في القصص من قوله : ( ونريد أن نمن (
[ القصص : 5 ، 6 ] إلى آيتين ، وأهلك الله عدوهم ، ومكن لهم في الأرض ، فهي الكلمة ،
وهي النعمة التي تمت على بنى اسرائيل .
) ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ( ، يعني وأهلكنا عمل فرعون وقومه
القبط في مصر ، ) و ( أهلكنا ) وما كانوا يعرشون ) [ آية : 137 ] ، يعني يبنون
من البيوت والمنازل .
الأعراف : ( 138 ) وجاوزنا ببني إسرائيل . . . . .
) وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ( ، يعني النيل ، نهر مصر ، ) فأتوا على قوم يعكفون ( ، يعني فمروا على العمالقة يقيمون ) على أصنام لهم ( يعبدونها ، فقالت
بنو إسرائيل : ( قالوا يا موسى اجعل لنا إلها ( نعبده ، ) كما لهم آلهة ( يعبدونها ،
)( قال إنكم قوم تجهلون ) [ آية : 138 ]
الأعراف : ( 139 ) إن هؤلاء متبر . . . . .
) إن هؤلاء متبر ( ، يعني مدمر ، ) ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ) [ آية :
139 ] .
الأعراف : ( 140 ) قال أغير الله . . . . .
) قال ( لهم موسى : ( أغير الله أبغيكم إلاها ( ، يعني ربا ، ) وهو فضلكم على العالمين ) [ آية : 140 ] ، يعني عالمى أهل مصر حين أنجاكم وأهلكهم .(1/412)
صفحة رقم 413
الأعراف : ( 141 ) وإذ أنجيناكم من . . . . .
) وإذ أنجيناكم من آل فرعون ( ، يعني بنى إسرائيل ، ) يسومونكم سوء العذاب ( ، يعني يعذبونكم أشد العذاب ، ) يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم (
يعني قتل الأبناء وترك البنات ، ) وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) [ آية : 141 ] ،
يعني بالعظم شدة ما نزل بهم من البلاء .
تفسير سورة الأعراف آية [ 142 - 147 ]
الأعراف : ( 142 ) وواعدنا موسى ثلاثين . . . . .
) وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ( من ذي القعدة ، واعدناه الجبل ، ) وأتممناها بعشر ( من ذي الحجة ، ) فتم ميقات ربه ( ، يعني ربه ، ) أربعين ليلة ( ، وكان
موسى ومن معه قد قطعاو البحر في عشر من المحرم يوم عاشوراء ، ثم أعطى التوراة يوم
النحر بينهما أحد عشر نهرا ، ) وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي ( ، بنى
إسرائيل بخير حين خرج إلى الجبل ، ) وأصلح ( ، يعني وأرفق بهم ، نظيرها في القصص :
( وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ) [ القصص : 27 ] ،
يعني الرافقين بك ، ) ولا تتبع سبيل المفسدين ) [ آية : 142 ] منهم .
الأعراف : ( 143 ) ولما جاء موسى . . . . .
) ولما جاء موسى ( الجبل ) لميقاتنا ( ، يعني لميعادنا لتمام الأربعين يوما ، ) وكلمه ربه ( ، فلما سمع كلام ربه ، استحلاه واشتاق إلى رؤية ربه ، ) قال ( : يا ) رب أرني أنظر إليك ( له ربه : إنك ) قال لن تراني ولكن ( ، اجعل بيني وبينك علما هو أقوى(1/413)
صفحة رقم 414
منك ، يعني الجبل ، ) انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ( ، وإن لم
يستقر الجبل مكانه ، فإنك لن تطيق رؤيتي ، ) فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا (
يعني قطعا ، فصار الجبل دكا ، يعني قطعا على ستة فرق ، فوق ثلاثة بأجبل مكة : بثير ،
وغار ثور ، وحزن ، ووقع بالمدينة : رضوى ، وورقان ، وجبل أحد ، فذلك قوله : ( جعله دكا ( ، ) وخر موسى صعقا ( ، يعني ميتا ، ) فلما أفاق ( ، يعني رد عليه نفسه ،
)( قال ( موسى : ( سبحانك تبت إليك ( من قولي : ( رب أرني أنظر إليك (
) وأنا أول المؤمنين ) [ آية : 143 ] ، يعني أول المصدقين بأنك لن ترى في الدنيا .
الأعراف : ( 144 ) قال يا موسى . . . . .
) قال ( له ربه : ( يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ( يقول :
اخترتك من بني إسرائيل بالرسالة وبالكلام من غير وحى ، ) فخذ ما آتيتك ( بقوة ،
يقول : ما أعطيتك من التوراة بالجد ، والمواظبة عليه ، ) وكن من الشاكرين ) [ آية :
144 ] ، لله في هذه النعم ، يعني الرسالة ، والكلام من غير وحى .
الأعراف : ( 145 ) وكتبنا له في . . . . .
) وكتبنا له في الألواح ( نقرا كنقش الخاتم ، وهي تسعة ألواح ، ) من كل
شيء ( ، فقال : ( موعظة ( من الجهل ، ) وتفصيلا ( ، يعني بيانا ) لكل شيء ( من
الأمر ، والنهي ، والحد ، وكتبه الله عز وجل بيده ، فكتب فيها : إني أنا الله الذي لا إله إلا
أنا الرحمن الرحيم ، لا تشركوا بي شيئا ، ولا تقتلوا النفس ، ولا تزنوا ، ولا تقطعوا
السبيل ، ولا تسبوا الوالدين ، ووعظهم في ذلك ، والألواح من زمرد وياقوت ، يقول :
( فخذها بقوة ( ، يعني التوراة بالجد والمواظبة عليه ، ) وأمر قومك ( بني إسرائيل ،
)( يأخذوا بأحسنها ( ، يعني بأحسن ما فيها ، ثم قال قبل ذلك لبني إسرائيل : ( سأوريكم
دار الفاسقين ) [ آية : 145 ] سنة أهل مصر ، فزعم ابن عباس ، أن الله حين أغرق
فرعون وقومه ، أوحى إلى البحر أن يقذف أجسادهم على الساحل ، ففعل البحر ذلك ،
فنظر إليهم بنو إسرائيل ، فأراهم سنة الفاسقين .
الأعراف : ( 146 ) سأصرف عن آياتي . . . . .
ثم قال : ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ( ، يعني يعملون
فيها بالمعاصي الكبرياء والعظمة ، يعني أهل مصر ، يقول : سأصرف عن التفكير في خلق
السماوات والأرض وما بينهما من الآيات الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والسحاب ،
والرياح ، والجبال ، والفلك ، والبحور ، والشجر ، والثمار ، والنبات ، عام بعام ، يعني
المتكبرين ، فلا يتفكرون فتكون لهم عبرة ، تعني لأهل مصر ، ثم قال يعنيهم : ( وإن يروا(1/414)
صفحة رقم 415
كل آية ( ، يعني يروا مرة اليد ومرة العصا ، ثم يرون الطوفان ، ثم الجراد ، ثم القمل ،
ثم الضفادع ، ثم الدم ، ثم السنين ، ثم الطمس .
فرأوا كل آية على حدة ، فلم يؤمنوا ، ) لا يؤمنوا بها ( ، يعني لا يصدقون بأنها
من الله ، ) وإن يروا سبيل الرشد ( ، يعني طريق الهدى ، ) لا يتخذوه سبيلا ( ، يعني
لا يتخذوه ديناً فيتبعونه ، ) وإن يروا سبيل الغي ( ، يعني طريق الضلالة ، ) يتخذوه
سبيلا ( ، يقول : اتخذه دينا فيتبعونه ، ) ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا ( ، يعني بالآيات
التسع ، ) وكانوا عنها غافلين ) [ آية : 146 ] ، يعني معرضين ، ولم يتفكروا فيها .
الأعراف : ( 147 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
) والذين كذبوا بآياتنا ( ، يعني القرآن ، ) ولقاء الآخرة ( ، وكذبوا بالبعث
الذي فيه جزاء الأعمال ، ) حبطت أعمالهم ( التي أرادوا بها وجه الله ؛ لأنها كانت
في غير إيمان ، ) هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ) [ آية : 147 ] .
تفسير سورة الأعراف آية [ 148 - 151 ]
الأعراف : ( 148 ) واتخذ قوم موسى . . . . .
) واتخذ قوم موسى ) ) بني إسرائيل ( ( من بعده ( ، حين انطلقوا إلى الطور ، ) من
حليهم عجلا جسدا ( ، يعني صورة عجل جسد ، يقول : ليس فيه روح ، ) له
خوار ( ، يعني له صوت البهائم ، ثم لم يصوت غير مرة واحدة ، ) ألم يروا ( ، يعني
بني إسرائيل ، ) أنه لا يكلمهم ( ، يعني لا يقدر على أن يكلمهم ، ) ولا يهديهم
سبيلا ( ، يعني طريقا إلى الهدى ، يعني العجل ، ) اتخذوه ( العجل إلها ، ) وكانوا
ظالمين ) [ آية : 148 ] ، يعني مشركين .
الأعراف : ( 149 ) ولما سقط في . . . . .
) ولما سقط في أيديهم ( ، ندامة وندموا ، ) ورأوا ( وعلموا ) أنهم قد ضلوا ) ) عن الهدى ( ( قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا ( ، يعني ويتجاوز عنا ، ) لنكونن(1/415)
صفحة رقم 416
من الخاسرين ) [ آية : 149 ] ، في العقوبة ، فلم يقبل الله توبتهم إلا بالقتل .
الأعراف : ( 150 ) ولما رجع موسى . . . . .
) ولما رجع موسى إلى قومه ( من الجبل ، ) غضبان أسفا ( ، يعني حزينا في صنع
قومه في عبادة العجل ، وكان أخبره الله على الطور بأمر العجل ، ثم قال : ( قال بئسما
خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم ( ، يقول : استعجلتم ميقات ربكم أربعين يوما ،
)( وألقى الألواح ( من عاتقه ، فذهب منها خمس وبقيت أربعة ، ) وأخذ برأس أخيه ) ) هارون ( ( يجره إليه ( ، يعني إلى نفسه ) قال ( هارون لموسى : ( ابن أم إن القوم
استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين (
[ آية : 150 ] .
الأعراف : ( 151 ) قال رب اغفر . . . . .
) قال ) ) موسى ( ( رب اغفر لي ( ، يعني تجاوز عني ، ) ولأخي ( هارون ،
)( وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ) [ آية : 151 ] .
تفسير سورة الآعراف آية [ 152 - 155 ]
الأعراف : ( 152 ) إن الذين اتخذوا . . . . .
) إن الذين اتخذوا العجل ) ) إلها ( ( سينالهم غضب ( ، يعني عذاب ، ) من ربهم
وذلة ( ، يعني مذلة ، ) في الحياة الدنيا ( ، فصاروا مقهورين إلى يوم القيامة ، ثم قال :
( وكذلك ( ، يعني وهكذا ) نجزى المفترين ) [ آية : 152 ] ، يعني الذين افتروا فزعموا
أن هذا إلهكم ، يعني العجل ، وإله موسى .
وكان السامرى جمع الحلى بعد خمسة وثلاثين يوما من يوم فارقهم موسى ، عليه
السلام ، وكان السامرى صائغا ، فصاغ لهم العجل في ثلاثة أيام ، وقد علم السامرى
أنهم يعبدونه ؛ لقولهم لموسى ، عليه السلام ، قبل ذلك : ( اجعل لنا إلها كما لهم(1/416)
صفحة رقم 417
آلهة ( ، فعبدوا العجل لتمام تسعة وثلاثين يوما ، ثم أتاهم موسى من الغد لتمام
الأربعين يوما .
الأعراف : ( 153 ) والذين عملوا السيئات . . . . .
) والذين عملوا السيئات ( ، يعني الشرك الذين عبدوا العجل ، ) ثم تابوا من
بعدها ( ، أي بعد الشرك ، ) وآمنوا ( ، يعني صدقوا بالله أنه واحد لا شريك له ، ) إن
ربك من بعدها ( ، يعني من بعد الشرك ، ) لغفور رحيم ) [ آية : 153 ] بهم .
الأعراف : ( 154 ) ولما سكت عن . . . . .
قوله : ( ولما سكت عن موسى الغضب ( ، يعني سكن ، ) أخذ الألواح ( بعدما
ألقاها ، ) وفي نسختها ( فيما بقى منها ، ) هدى ( من الضلالة ، ) ورحمة ) ) من العذاب ( ( للذين هم لربهم يرهبون ) [ آية : 154 ] ، يعني يخافون الله ، وأعطى موسى
التوراة يوم النحر يوم الجمعة ، فلم يطق حملهاا ، فسجد لله ، وجعل يدعو ربه ويتضرع ،
حتى خففت عليه ، فحملها على عاتقه .
الأعراف : ( 155 ) واختار موسى قومه . . . . .
) واختار موسى سبعين رجلا بميقاتنا ( ، من اثنى عشر سبطا ، ستة ستة ، فصاروا
اثنين وسبعين رجلا ، قال موسى : إنما أمرني ربي بسبعين رجلا ، فمن قعد عنى فلم يجيء
فله الجنة ، فقعد يوشع بن نون ، وكالب بن يوقنا ، ) لميقاتنا ( ، يعني لميعادنا ، يعني
الأربعين يوما ، فانطلق بهم ، فتركهم في أصل الجبل ، فلما نزل موسى إليهم : قالوا :
( أرنا الله جهرة ( ، فأخذتهم الرجفة ، يعني الموت عقوبة لما قالوا ، وبقى موسى وحده
يبكي ، ) فلما أخذتهم الرجفة قال رب ( ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقد
أهلكت خيارهم ، رب ) لو شئت أهلكتهم ( ، يعني أمتهم ، ) من قبل وإياي ( معهم
من قبل أن يصحبوني ، ) أتهلكنا ( عقوبة ) بما فعل السفهاء منا ( ، وظن موسى ، عليه
السلام ، إنما عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل ، فهم السفهاء ، فقال موسى : ( إن هي إلا
فتنتك ( ، يعني ما هي إلا بلاؤك ، ) تضل بها ( بالفتنة ) من تشاء وتهدى ( من الفتنة
) من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ) [ آية : 155 ] ، قال فلم يعبد
العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا .
تفسير سورة الأعراف آية [ 156 - 157 ](1/417)
صفحة رقم 418
الأعراف : ( 156 ) واكتب لنا في . . . . .
) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة ( يعني المغفرة ، ) وفي الآخرة ( حسنة ،
يعني الجنة ، ) إنا هدنا إليك ( ، يعني تبنا إليك ، ) قال ( الله : ( عذابي أصيب به من
أشاء ورحمتي وسعت كل شيء ( ، يعني ملأت كل شيء ، قال إبليس : فأنا من كل
شيء ، قال الله تعالى : ( فسأكتبها ( ، يعني الرحمة ، ) للذين يتقون ( ، فعزل إبليس ،
يعني للذين يوحدون ربهم ، ) ويؤتون الزكاة ( ، يعني أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) والذين هم بآياتنا يؤمنون ) [ آية : 156 ] ، يعني بالقرآن يصدقون أنه من الله ، قالت اليهود : فنحن
نتقى الله ، ونؤتى الزكاة ، فعزل إبليس واليهود .
الأعراف : ( 157 ) الذين يتبعون الرسول . . . . .
ثم نعتهم ، فقال : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ( على دينه ، يعني محمدا
( صلى الله عليه وسلم ) ، يعني بالأمى الذي لا يقرأ والكتب ، ولا يخطها بيمينه ، ) الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف ( ، يعني بالإيمان ، ) وينهاهم عن المنكر ( ، يعني الشرك ، ) ويحل لهم الطيبات ( ، يعني ما حرم الله من اللحوم
والشحوم ، ) ويحرم عليهم ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) الخبائث ( ، يعني الميتة ، والدم ، ولحم
الخنزير ، ) ويضع ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) عنهم إصرهم ( ، يعني مما عهد الله إليهم من تحريم
اللحوم ، والشحوم ، ولحم كل ذي ظفر ، ) و ( يضع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) والأغلال التي كانت عليهم ( واجبة من التغليظ والتشديد ، الذي منه أن يقتل قاتل العمد البتة ، ولا يعفى
عنه ، ولا يؤخذ منه الدية ، ويقتل قاتل الخطأ ، إلا أن يشاء ولى المقتول فيعفو عنه ونحوه ،
ولو صدقوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لوضع ذلك كله عنهم ، ) فالذين آمنوا به ( ، يعني صدقوا
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وعزروه ( ، يعني أعانوه على أمره ، ) ونصروه واتبعوا النور ( ، يعني
القرآن ، ) الذي أنزل معه ( ، فمن فعل هذا ف ) أولئك هم المفلحون ( ، [ آية :
157 ] ، فقال موسى عند ذلك : اللهم اجعلني من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
تفسير سورة الأعراف آية [ 158 - 166 ](1/418)
صفحة رقم 419
الأعراف : ( 158 ) قل يا أيها . . . . .
) قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحي ( الأموات ، ) ويميت ( الأحياء ، ) فآمنوا ( ، يعني فصدقوا
) بالله ( أنه واحد لا شريك له ، ) ورسوله ( ، عليه السلام ، ) النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ( ، يعني الذي يصدق بالله بأنه واحد لا شريك له ، وبآياته ،
يعني القرآن ، ) واتبعوه ( ، يعني محمدا ، عليه السلام ، ) لعلكم ( ، يعني لكي ،
)( تهتدون ) [ آية : 158 ] من الضلالة .
الأعراف : ( 159 ) ومن قوم موسى . . . . .
) ومن قوم موسى ( ، يعني بنى إسرائيل ، ) أمة يهدون بالحق ( ، يعني عصابة
يدعون إلى الحق ، ) وبه يعدلون ) [ آية : 159 ] ، يعني الذين من وراء الصين اليوم ،
القوم الذين أسرى بهم تحت الأرض ، وأخرج لهم نهرا من الأردن من رمل يسمى أردق
من وراء الصين يجري كجرى الماء ، وأسرى الله بهم تحت الأرض سنة ونصفا ، فإذا نزل
عيسى بن مريم كان معه يوشع بن نون ، وهم من آمن من أهل الكتاب .(1/419)
صفحة رقم 420
الأعراف : ( 160 ) وقطعناهم اثنتي عشرة . . . . .
) وقطعناهم ( ، يعني فرقناهم ، ) اثنتي عشرة أسباطا أمما ( ، يعني فرقا ، ) وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه ( في التيه ، ) أن اضرب بعصاك الحجر ( ، ففعل
وكان من الطور ، ) فانبجست ( ، يعني فانفجرت من الحجر ، ) منه اثنتا عشرة عينا ( ماء باردا فراتا رواء بإذن الله ، وكان الحجر خفيفا ، كل سبط من بني إسرائيل
لهم عين تجري لا يخالطهم غيرهم فيها ، فذلك قوله : ( قد علم كل أناس مشربهم ( ،
يعني كل سبط مشربهم ، ) وظللنا عليهم الغمام ( بالنهار ، يعني سحابة بيضاء ليس
فيها ماء تقيهم من حر الشمس وهم في التيه ، ) وأنزلنا عليهم المن ( ، يعني النرنجين ،
)( والسلوى ( طيرا أحمر يشبه السمان ، ) كلوا من طيبات ( ، يعني من حلال ،
)( ما رزقناكم ( من المن والسلوى ، ولا تطغوا فيه ، يعني لا ترفعوا منه لغد ، فرفعوا
وقددوا فدود عليهم ، يقول الله : ( وما ظلمونا ( ، يعني وما ضرونا ، يعني وما نقصونا
حين رفعوا وقددوا ودود عليهم ، ) ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) [ آية :
160 ] ، يعني يضرون وينقصون .
الأعراف : ( 161 ) وإذ قيل لهم . . . . .
) و ( اذكر ) وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية ( ، بيت المقدس ، ) وكلوا منها حيث شئتم وقولوا ( أمرنا ) حطة وادخلوا الباب ( ، أي باب القرية ،
)( سجدا ( سجود انحناء ، ) نغفر ( بالنون والتاء مبنيا للمفعول ، ) لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين ) [ آية : 161 ] بالطاعة ثوابا .
الأعراف : ( 162 ) فبدل الذين ظلموا . . . . .
) فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم ( ، فقالوا : حبة في شعره ،
ودخلوا يزحفون على استاهم ، ) فأرسلنا عليهم رجزا ( عذابا ) من السماء بما كانوا يظلمون ) [ آية : 162 ] .
الأعراف : ( 163 ) واسألهم عن القرية . . . . .
) وسئلهم عن القرية ( ، اسمها أيلة ، على مسيرة يومين من البحر بين المدينة
والشام ، مسخوا على عهد داود ، عليه السلام ، قردة ، يعني اليهود ، وإنما أمر الله النبي
( صلى الله عليه وسلم ) أن يسألهم : أمسخ الله منكم قردة وخنازير ؟ لأنهم قالوا : إنا أبناء الله وأحباؤه ، وإن
الله لا يعذبنا في الدنيا ولا في الآخرة ؛ لأنا من سبط خليله إبراهيم ، ومن سبط إسرائيل ،
وهو بكر نبيه ، ومن سبط كليم الله موسى ، ومن سبط ولده عزير ، فنحن من أولادهم ،
فقال الله لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وسئلهم عن القرية ( ) التي كانت حاضرة البحر ( ، إما
عذبهم الله بذنوبهم .(1/420)
صفحة رقم 421
ثم أخبر عن ذنوبهم ، فقال : ( إذ يعدون في السبت ( ، يعني يعتدون ، ) إذ تأتيهم حيتانهم ( ، يعني السمك ، ) يوم سبتهم شرعا ( ، يعني شارعة من
غمرة الماء إلى قريب من الحذاء ، يعني الشط أمنت أن يصدن ، ) ويوم لا يسبتون ( ،
يعني حين لا يكون يوم السبت ، ) لا تأتيهم كذلك ( ، يعني هكذا ، ) نبلوهم ( ،
يعني نبتليهم بتحريم السمك في السبت ، ) بما كانوا يفسقون ) [ آية : 163 ] ، جزاء
منا ، يعني بما كانوا يعصون .
الأعراف : ( 164 ) وإذ قالت أمة . . . . .
) وإذ قالت أمة منهم ( ، يعني عصابة منهم ، وهي الظلمة للواعظة ، ) لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ( ، وذلك أن الواعظة نهوهم عن الحيتان ، وخوفوهم
فلم ينتبهوا ، فردت عليهم الواعظة ، ) قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم ( ، يعني ولكي
ينتهوا فيؤخروا أو يعذبوا فينجوا ، ) ولعلهم ( ، يعني ولكى ) يتقون ( ] آية : 164 ]
المعاصي .
الأعراف : ( 165 ) فلما نسوا ما . . . . .
) فلما نسوا ما ذكروا به ( ، يعني فلما تركوا ما وعظوا به من أمر الحيتان ،
)( أنجينا ( من العذاب ) الذين ينهون عن السوء ( ، يعني المعاصي ، ) وأخذنا الذين ظلموا ( ، يعني وأصبنا الذين ظلموا ، ) بعذاب ( ، يعني المسخ ، ) بئيس ( ، يعني
شديد ، ) بما كانوا يفسقون ) [ آية : 165 ] ، يعني يعصون .
الأعراف : ( 166 ) فلما عتوا عن . . . . .
) فلما عتوا ( ، يعني عصوا ، ) عن ما نهوا عنه ( من الحيتان ، ) قلنا لهم ( ليلا :
( كونوا قردة خاسئين ) [ آية : 166 ] ، يعني صاغرين بعدما أصابوا الحيتان سنين ، ثم
مسخوا قردة ، فعاشوا سبعة أيام ، ثم ماتوا يوم الثامن .
تفسير سورة الأعراف آية [ 167 - 174 ](1/421)
صفحة رقم 422
الأعراف : ( 167 ) وإذ تأذن ربك . . . . .
) وإذ تأذن ربك ( ، يعني قال ربك : ( ليبعثن عليهم ( ، يعني بنى اسرائيل من
يسومهم سوء العذاب ، فبعث الله المسلمين عليهم ، ) إلى يوم القيامة ( ما دامت الدنيا ،
)( من يسومهم سوء العذاب ( ، يعني يعذبهم شدة العذاب ، يعني القتل ، والجزية ، ) إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) [ آية : 167 ] .
الأعراف : ( 168 ) وقطعناهم في الأرض . . . . .
) وقطعناهم ( ، يعني وفرقناهم ) في الأرض أمما ( ، يعني فرقا ، يعني بنى
إسرائيل ، ) منهم الصالحون ( ، يعني المؤمنين ، ) ومنهم دون ذلك ( ، يعني دون
الصالحين ، فهم الكفار ، ) وبلوناهم بالحسنات والسيئات ( ، يقول : ابتليناهم بالخصب
والشدة ، ) لعلهم ( ، يعني لكي ) يرجعون ) [ آية : 168 ] إلى التوبة .
الأعراف : ( 169 ) فخلف من بعدهم . . . . .
) فخلف من بعدهم ( ، يعني من بعد بني إسرائيل ، ) خلف ( السوء وهم اليهود ،
)( ورثوا الكتاب ( ، يعني ورثوا التوراة عن أوائلهم وآبائهم ، ) يأخذون عرض هذا الأدنى ( ، وهي الدنيا ؛ لأنها أدنى من الآخرة ، يعني الرشوة في الحكم ، ) ويقولون سيغفر لنا ( ، فكانوا يرشون بالنهار ، ويقولون : يغفر لنا بالليل ، ) وإن يأتهم عرض مثله ( ، يعني
رشوة مثله ليلاً ، ) يأخذوه ( ويقولون : يغفر لنا بالنهار ، يقول الله : ( ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ( ، يعني بغير ما يقولون ، لقد أخذ عليهم في التوراة أن لا يستحلوا
محرما ، و ) أن لا يقولوا على الله إلا الحق ( في التوراة ، ) ودرسوا ( ، يعني وقرأوا
) ما فيه ( ، ما في التوراة ، ) والدار الآخرة ( ، يعني الجنة ، ) خير للذين يتقون ( ،
استحلال المحارم ، ) أفلا تعقلون ) [ آية : 169 ] .
الأعراف : ( 170 ) والذين يمسكون بالكتاب . . . . .
ثم ذكر مؤمنيهم ، فقال : ( والذين يمسكون بالكتاب ( ، يعني يتمسكون بالتوراة ولا(1/422)
صفحة رقم 423
يحرفونه عن مواضعه ، ولا يستحلون محرما ، ) وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين (
[ آية : 170 ] ، نزلت في ابن شلام وأصحابه .
الأعراف : ( 171 ) وإذ نتقنا الجبل . . . . .
) وإذ نتقنا الجبل ( ، يعني وإذ رفعنا الجبل ) فوقهم كأنه ظلة ( ، وذلك أن
موسى ، عليه السلام ، حين أتاهم بالتوراة ، وجدوا فيها القتل ، والرجم ، والحدود ،
والتغليظ ، أبوا أن يقبلوا التوراة ، فأمر الله الجبل عند بيت المقدس ، فانقطع من مكانه ،
فقام فوق رءوسهم ، فأوحى الله إلى موسى أن قل لهم : إن لم يقروا بالتوراة ، طرحت
عليهم الجبل ، وأرضخ به رءوسهم ، فلما رأوا ذلك أقروا بالتوراة ، ورجع الجبل إلى
مكانه ، فذلك قوله : ( وظنوا أنه واقع بهم ( ، يعني وأيقنوا أن الجبل واقع بهم ، يعني
عليهم ، ) خذوا ما آتيناكم بقوة ( ، ما أعطيناكم من التوراة بالجد والمواظبة ، ) واذكروا ما فيه ( ، يقول : واحفظوا ما فيه من أمره ونهيه ، ) لعلكم ( ، يعني لكى ) تتقون (
[ آية : 171 ] المعاصي .
الأعراف : ( 172 ) وإذ أخذ ربك . . . . .
) وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ( ، يقول : وقد اخذ ربك من بنى آدم
بنعمان عند عرفات من ظهورهم ، ) ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ( بإقرارهم ، ) ألست بربكم قالوا بلى ( أنت ربنا ، وذلك أن الله عز وجل مسح صفحة ظهر آدم اليمنى ،
فأخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون ، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى ، فأخرج
منه ذرية سوداء كهيئة الذر ، وهم ألف أمة ، قال : يا آدم : هؤلاء ذريتك أخذنا ميثاقهم
على أن يعبدوني ولا يشركوا بنى شيئا وعلى رزقهم ، قال آدم : نعم يا رب ، فلما
أخرجهم ، قال الله : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ) شهدنا ( إنك ربنا ، قال الله للملائكة :
اشهدوا عليهم بالإقرار ، قالت الملائكة : قد شهدنا ، يقول الله في الدنيا لكفار العرب من
هذه الأمة : ( أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا ( الميثاق الذي أخذ علينا
) غافلين ) [ آية : 172 ] ، وأشهدهم على أنفسهم .
الأعراف : ( 173 ) أو تقولوا إنما . . . . .
) أو تقولوا ( لئلا تقولوا : ( إنما أشرك آباؤنا ( ونقضوا الميقاث ، ) من قبل (
شركنا ، ولئلا تقولوا : ( وكنا ذرية من بعدهم ( ، فاقتدينا بهم وبهداهم ، لئلا تقولوا :
( أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) [ آية : 173 ] ، يعني أفتعذبنا بما فعل المبطلون ، يعني
المكذبين بالتوحيد ، يعنون آباءهم ، كقوله : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) [ الزخرف : 23 ] .(1/423)
صفحة رقم 424
ثم أفاضهم إفاضة القدح ، فقال للبيض : هؤلاء في الجنة برحمتي ، فهم أصحاب
اليمين ، وأصحاب الميمنة ، وقال للسود : هؤلاء للنار ، ولا أبالي ، فهم أصحاب الشمال ،
وأصحاب المشأمة ، ثم أعادهم جميعا في صلب آدم ، عليه السلام ، فأهل القبور محبسون
حتى يخرج الله أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء ، ثم تقوم الساعة ،
فذلك قوله : ( لقد أحصاهم ( يوم القيامة ) وعدهم عدا ) [ مريم : 94 ] ، فمن
مات منهم صغيرا ، فله الجنة بمعرفته بربه ، ومن بلغ منهم العقل أخذ أيضا ميثاقه بمعرفته
لربه ، والطاعة له ، فمن لم يؤمن إذا بلغ العقل لم يغن عنه الميثاق الأول شيئا ، وكان العهد
والميثاق الأول حجة عليهم ، وقال فيمن نقض العهد الأول : ( وما وجدنا لأكثرهم من عهد ( ، يعني من وفاء ، يعني أكثر ولد آدم ، عليه السلام ، ) وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) [ الأعراف : 102 ] ، يعني لعاصين ،
الأعراف : ( 174 ) وكذلك نفصل الآيات . . . . .
) وكذلك نفصل الآيات ( ، يعني هكذا
نبين الآيات في أمر الميثاق ، ) ولعلهم ( ، يعني لكى ) يرجعون ) [ آية : 174 ] إلى
التوبة .
تفسير سورة الأعراف آية [ 175 - 177 ]
الأعراف : ( 175 ) واتل عليهم نبأ . . . . .
) واتل عليهم ( ، يعني أهل مكة ) نبأ ( يعني حديث ) الذي آتيناه آياتنا (
يعني أعطيناه الاسم الأعظم ، يعني بلعام بن باعورا بن ماث بن حراز بن آزر ، من أهل
عمان ، وهي البلقاء التي كان فيها الجبارون بالشام ، فإنما سميت البلقاء من أجل أن
ملكها رجل اسمه بالق ، وذلك أن الملك ، واسمه بانوس بن ستشروث ، قال لبلعام : ادع
على موسى ، فقال بلعام : إنه من أهل دين لا ينبغي أن يدعى عليه ، فأمر الملك أن تنحت
خشبة ليصلبه عليها ، فلما رأى ذلك ، خرج على أتان له ، ليدعو على موسى ، عليه
السلام ، فلما عاين عسكره ، قامت به الأتان فضربها ، فقالت الأتان : لم تضربني وهذه
نار تتوقد قد منعتني أن أمشى ، فارجع ، فرجع ، فأخبر الملك ، فقال له الملك : إما أن
تدعو ، وإما أن أصلبك ، فدعا على موسى ، عليه السلام ، باسم الله الأعظم ألا يدخل
المدينة ، فاستجاب الله له ، فبلغ موسى ، عليه السلام ، فدعا الله أن ينزع ذلك الاسم منه ،(1/424)
صفحة رقم 425
فنزع منه الاسم الأعظم ، فذلك قوله : ( فانسلخ منها ( ، فنزعها الله منه ، يعني
الآيات ، ) فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ) [ آية : 175 ] ، يعني من الضالين .
الأعراف : ( 176 ) ولو شئنا لرفعناه . . . . .
) ولو شئنا لرفعناه ( في الأخرة ) بها ( بما علمناه من آياتنا ، يعني الاسم الأعظم
في الدنيا ، ) ولكنه أخلد إلى الأرض ( ، يعني رضى الدنيا ، وركن إليها ، ) واتبع
هواه ، أي هوى الملك مع هواه ، ) فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه ( بنفسك
ودابتك تطرده ، ) يلهث أو تتركه ، فلا تحمل عليه شيء ، ) يلهث ( إذا أصابه
الحر ، فهذا مثل الكافر إن وعظته ، فهو ضال ، وإن تركته فهو ضال ، مثل بلعام والكفار ،
يعني كفار مكة ، ) ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ( ، يعني القرآن ، ) فاقصص القصص ( ، يعني القرآن عليهم ) لعلهم ( ، يعني لكي ) يتفكرون ) [ آية : 176 ]
في أمثال الله فيعتبروا فيؤمنوا .
الأعراف : ( 177 ) ساء مثلا القوم . . . . .
ثم قال : ( ساء ( ، يعني بئس ) مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا ( ، يعني القرآن ،
يعني كفارة مكة ، ) وأنفسهم كانوا يظلمون ) [ آية : 177 ] ، يعني أنفسهم ضروا
بتكذيبهم القرآن .
تفسير سورة الأعراف آية [ 178 - 185 ]
الأعراف : ( 178 ) من يهد الله . . . . .
) من يهد الله ( لدينه ، ) فهو المهتدي ومن يضلل ( عن دينه ، ) فأولئك هم الخاسرون ) [ آية : 178 ] ، يعنيهم .
الأعراف : ( 179 ) ولقد ذرأنا لجهنم . . . . .
ثم قال : ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ( ، لقول الله : ( ختم الله على قلوبهم وعلى(1/425)
صفحة رقم 426
سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ) [ البقرة : 7 ] ، فلم تفقه قلوبهم ، ولم تبصر أعينهم ،
ولم تسمع آذانهم الإيمان ، ثم ضرب مثلا ، فقال : ( أولئك كالأنعام ( يأكلون ويشربون
ولا يلتفتون إلى الآخرة ، كما تأكل الأنعام ، ليس للأنعام همة غير الأكل والشرب
والسفاد ، فهي لا تسمع ، ولا تعقل ، كذلك الكفار ، ثم قال : ( بل هم ( ، يعني كفار
مكة ) أضل ( ، يعني أضل سبيلا ، يعني الطريق من الأنعام ، ثم قال : ( أولئك هم
الغافلون ) [ آية : 179 ] ، لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره ، وهم لا يعرفون ربهم ولا
يوحدونه .
الأعراف : ( 180 ) ولله الأسماء الحسنى . . . . .
) ولله الأسماء الحسنى ( ، وذلك أن رجلا دعا الله في الصلاة ، ودعا الرحمن ، فقال
رجل من مشركي مكة ، وهو أبو جهل : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا
واحدا ، فما بال هذا يدعو ربين اثنين ، فأنزل الله : ( ولله الأسماء الحسنى ( ، يعني
الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ،
الخالق ، البارئ ، المصور ، ونحوها ، يقول : ( فادعوه بها ( ، فدعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الرجل ، فقال :
' ادع الله ، وادع الرحمن ، ورغما لأنف المشركين ، فإنك ما دعوت من هذه الأسماء ، فله
الأسماء الحسنى ' ، قال : ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ( ، يعني يميلون في أسمائه
عن الحق ، فيسمون الآلهة : اللات ، والعزى ، وهبل ، ونحوها ، وأساف ، ونائلة ، فمنعهم الله
أن يسموا شيئا من آلهتهم باسم الله ، ثم قال : ( سيجزون ( العذاب في الآخرة ) ما
كانوا يعملون ) [ آية : 180 ] .
الأعراف : ( 181 ) وممن خلقنا أمة . . . . .
) وممن خلقنا أمة يهدون بالحق ( ، يعني عصبة يدعون إلى الحق ، ) وبه
يعدلون ) [ آية : 181 ] ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : هذه لكم ، وقد أعطى الله موسى ، عليه
السلام ، مثلها .
الأعراف : ( 182 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
) والذين كذبوا بآياتنا ( ، يعني بالقرآن ، ) سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (
[ آية : 182 ] ، يعني سنأخذهم بالعذاب من حيث يجهلون ، نزلت في المستهزئين من
قريش .
الأعراف : ( 183 ) وأملي لهم إن . . . . .
) وأملى لهم ( ، يعني لا أعجل عليهم بالعذاب ، ) إن كيدي متين ) [ آية :
183 ] ، يعني إن أخذى شديد ، قتلهم الله في ليلة واحدة .
الأعراف : ( 184 ) أولم يتفكروا ما . . . . .
) أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ( ، يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، يعني من جنون ، وذلك أن(1/426)
صفحة رقم 427
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صعد الصفا ليلا ، فدعا قريشا إلى عبادة الله عز وجل ، قال : ( أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ( ) إن هو إلا نذير مبين ) [ آية : 184 ] ، يعني ما محمد إلا رسول
بين .
الأعراف : ( 185 ) أولم ينظروا في . . . . .
ثم وعظهم ليعتبروا في صنيعه فيوحدوه ، فقال : ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض و ( إلى ) وما خلق الله من شيء ( من الآيات التي فيها ، فيعتبروا أن الذي خلق
ما ترون لرب واحد لا شريك له ، ) وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ( ، يعني يكون
قد دنا هلاكهم ببدر ، ) فبأي حديث بعده ( ، أي بعد هذا القرآن ) يؤمنون ) [ آية :
185 ] ، يعني يصدقون .
تفسير سورة الأعراف آية 186 ]
الأعراف : ( 186 ) من يضلل الله . . . . .
) من يضلل الله ( عن الهدى ، ) فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ آية :
186 ] ، يعني في ضلالتهم يترددون .
تفسير سورة الأعراف آية [ 187 - 188 ]
الأعراف : ( 187 ) يسألونك عن الساعة . . . . .
) يسئلونك عن الساعة ( ، وذلك أن كفار قريش سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الساعة ، ) أيان مرساها ( ، يعني متى حينها ، ) قل ( لهم : ( إنما علمها عند ربي ( ، وما لي بها من علم ،
)( لا يجليها لوقتها ( ، يعني لا يكشفها ، ) إلا هو ( إذا جاءت ، ثم أخبر عن شأنها ،
فقال : ( ثقلت في السماوات والأرض ( ، يقول : ثقل على من فيهما علمها ، ) لا تأتيكم إلا بغتة ( ، يعني فجأة ، ثم قال : ( يسئلونك ( عنها في التقديم ، ) كأنك حفي عنها ( ،
يقول : كأنك قد استحفيت عناه السؤال حتى علمتها ، ) قل ( : وما لي بها من علم ،
)( إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) [ آية : 187 ] ، يعني أكثر أهل مكة لا
يعلمون أنها كائنة .
الأعراف : ( 188 ) قل لا أملك . . . . .
) قل ( لهم يا محمد : ( لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ( ، يقول : ' لا أقدر على أن
أسوق إليها خيراً ، ولا أدفع عنها ضرا ، يعني سوءا ، حين ينزل بي ، فكيف أملك علم(1/427)
صفحة رقم 428
الساعة ؟ ' ، ثم قال : ( إلا ما شاء الله ( ، فيصيبني ذلك ، ) ولو كنت أعلم الغيب ( ،
يعني أعلم غيب الضر والنفع إذا جاء ، ) لاستكثرت من الخير ( ، يعني من النفع ،
)( وما مسني السوء ( ، يعني ما أصابني الضر ، ) إن أنا إلا نذير ( من النار ) وبشير (
بالجنة ) لقوم يؤمنون ) [ آية : 188 ] ، يعني يصدقون .
تفسير سورة الأعراف آية 189 ]
الأعراف : ( 189 ) هو الذي خلقكم . . . . .
قوله : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ( ، يعني من نفس آدم ، عليه السلام ،
وحده ، ) وجعل منها زوجها ليسكن إليها ( ، يعني خلق من ضلع آدم زوجه حواء ، يوم
الجمعة وهو نائم ، فاستيقظ آدم وهي عند رأسه ، فقال لها : من أنت ؟ فقالت بالسريانية :
أنا امرأة ، فقال آدم : فلم خلقت ؟ قالت : لتسكن إلي ، وكان وحده في الجنة ، قالت
الملائكة : يا آدم ما اسمها ؟ قال : حواء ؛ لأنها خلقت من حي ، وسمى آدم ؛ لأنه خلق من
أديم الأرض كلها ، من العذبة ، والسبخة من الطينة السوداء ، والبيضاء ، والحمراء ، كذلك
نسله طيب وخبيث ، وأبيض ، وأسود ، وأحمر ، فذلك قوله : ( فلما تغشاها ( ، يعني
جامعها آدم ، ) حملت حملا خفيفا ( ، هان عليها الحمل ، ) فمرت به ( ، يعني
استمرت به بالولد ، يقول : تقوم ، وتقعد ، وتلعب ، ولا تكترث .
فأتاها إبليس وغير صورته ، واسمه الحارث ، فقال : يا حواء ، لعل الذي في بطنك
بهيمة ؟ فقالت : ما أدري ، ثم انصرف عنها ، ) فلما أثقلت ( ، يقول : فلما أثقل الولد في
بطنها ، رجع إبليس إليها الثانية ، فقال : كيف نجدك يا حواء ؟ وهي لا تعرفه ، قالت : إني
إني أخاف أن يكون في جوفي الذي خوفتني به ، ما أستطيع القيام إذا قعدت ، قال : أفرأيت
إن دعوت الله ، فجعله إنسانا مثلك ومثل آدم ، أتسمينه بي ؟ قالت : نعم ، ثم انصرف
عنها ، فقالت لآدم ، عليه السلام : لقد أتاني آت ، فزعم أن الذي في بطني بهيمة ، وإني
لأجد له ثقلا ، وقد خفت أن يكون مثل ما قال : فلم يكن لآدم وحواء هم غير الذي في
بطنها ، فجعلا يدعوان الله ، ) دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا ( ، يقولان : لئن أعطيتنا
هذا الولد سويا صالح الخلق ، ) لنكونن من الشاكرين ) [ آية : 189 ] في هذه النعمة ،
فولدت سويا صالحا .(1/428)
صفحة رقم 429
تفسير سورة الأعراف آية [ 190 - 197 ]
الأعراف : ( 190 ) فلما آتاهما صالحا . . . . .
فجاءها إبليس ، وهي لا تعرفه ، فقال : لم لا تسميه بي كما وعدتني ، قالت : عبد
الحرث فكذبها ، فسمته عبد الحارث ، فرضى به آدم ، فمات الولد ، فذلك قوله : ( فلما آتاهما صالحا ( ، يعني أعطاهما الولد صالح الخلق ، ) جعلا له شركاء ( ، يعني إبليس
شريكا في الاسم ، سمته عبد الحارث ، فكان الشرك في الطاعة من غير عبادة ، ولم يكن
شركا في عبادة ربهم ، ثم انقطع الكلام ، فذكر كفار ، فرجع إلى أول الآية ، فقال الله :
( فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ) [ آية : 190 ] ، يقول : ارتفع عظمة الله عما
يشرك مشركو مكة .
الأعراف : ( 191 ) أيشركون ما لا . . . . .
ثم قال : ( أيشركون ( الآلهة مع الله ، يعني : اللات ، والعزى ، ومناة ، والآلهة ، ) ما لا يخلق شيئا ( ذبابا ولا غيره ، ) وهم يخلقون ) [ آية : 191 ] ، يعني الآلهة ، يعني يصنعونها
بأيديهم وينحتونها ، فهي لا تخلق شيئا .
الأعراف : ( 192 ) ولا يستطيعون لهم . . . . .
ثم قال : ( ولا يستطيعون لهم نصرا ( ، يقول : لا تقدر الآلهة منع السوء إذا نزل بمن
يعبدها من كفار مكة ، ) ولا أنفسهم ينصرون ) [ آية : 192 ] ، يقول : ولا تمنع الآلهة
من أراد بها سوءا ، فكيف تعبدون من هذه منزلته وتتركون عبادة ربكم ؟ .
الأعراف : ( 193 ) وإن تدعوهم إلى . . . . .
ثم قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وإن تدعوهم ( ، يعني كفار مكة ، ) إلى الهدى لا يتبعوكم ( ،
يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحده ، ) سواء عليكم أدعوتموهم ( إلى الهدى ، ) أم أنتم صامتون (
[ آية : 193 ] ، يعني ساكتون ، يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ لأنهم لا يتبعوكم .
الأعراف : ( 194 ) إن الذين تدعون . . . . .
ثم أخبر عن الآلهة ، فقال : قل لكفار مكة : ( إن الذين تدعون ( ، يعني تعبدون(1/429)
صفحة رقم 430
) من دون الله ( من الآلهة ، إنهم ) عباد أمثالكم ( ، وليسوا بآلهة ، ) فادعوهم ( ، يعني
فاسألوهم ، ) فليستجيبوا لكم ( بأنهم آلهة ، ) إن كنتم صادقين ) [ آية : 194 ] بأنها آلهة .
الأعراف : ( 194 ) إن الذين تدعون . . . . .
ثم أخبر عن الآلهة ، فقال ) ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها ( ، ثم قال لكفار مكة : ( قل ادعوا شركاءكم ( ، يعني الآلهة ، ) ثم كيدون ( أنتم الآلهة جميعا بشر ، ) فلا تنظرون ) [ آية : 195 ] .
الأعراف : ( 196 ) إن وليي الله . . . . .
) إن ولى الله الذي نزل الكتاب ( ، يعني القرآن ، ) وهو يتولى الصالحين ) [ آية : 196 ] .
الأعراف : ( 197 ) والذين تدعون من . . . . .
ثم قال لكفار مكة : ( والذين تدعون ( ، يعني يعبدون ) من دونه ( من الآلهة ، ) لا يستطيعون نصركم ( ، يقدر الآلهة منع السوء إذا نزل بكم ، ) ولا أنفسهم ينصرون ) [ آية : 197 ] ، يقول :
ولا تمنع الآلهة من أرادها بسوء .
تفسير سورة الأعراف آية [ 198 - 200 ]
الأعراف : ( 198 ) وإن تدعوهم إلى . . . . .
ثم قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وإن تدعوهم إلى الهدى ( ، يعني كفار مكة : ( لا يسمعوا ( الهدى ) وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) [ آية : 198 ] الهدى .
الأعراف : ( 199 ) خذ العفو وأمر . . . . .
قوله : ( خذ العفو ( ، يقول للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : خذ ما أعطوك من الصدقة ، ) وأمر بالعرف ( ، يعني بالمعروف ،
)( وأعرض عن الجاهلين ) [ آية : 199 ] ، يعني أبا جهل حين جهل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : فنسخت العفو الآية التي
في براءة ، آية الصدقات ، ونسخ الإعراض آية السيف .
الأعراف : ( 200 ) وإما ينزغنك من . . . . .
قوله : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ( ، يعني وإما يفتننك من الشيطان فتنة في أمر أبى جهل ،
)( فاستعذ بالله إنه سميع ( بالاستعاذة ) عليم ) [ آية : 200 ] بها ، نظيرها في حم السجدة .
تفسير سورة الأعراف آية [ 201 - 203 ]
الأعراف : ( 201 ) إن الذين اتقوا . . . . .
ثم وعظ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أمر أبى جهل ، فأخبر عن مصير المؤمنين والكفار ، فقال : ( إن الذين اتقوا ( الشرك ) إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) [ آية : 201 ] ، يقول : إن
المتقين إذا أصابهم نزغ من الشيطان ، تذكروا وعرفوا أنها معصية ، ففزعوا منها من مخافة الله .
الأعراف : ( 202 ) وإخوانهم يمدونهم في . . . . .
ثم ذكر الكافر ، فقال : ( وإخوانهم ( ، يعني وأصحابهم ، يعني إخوان كفار مكة هم الشياطين في التقديم ،(1/430)
صفحة رقم 431
) يمدونهم ( ، يعني يلجونهم ، ) في الغي ( ، يعني الشرك والضلالة والمعاصي ، ) ثم لا يقصرون (
[ آية : 202 ] عنها ولا يبصرونها كما قصر المتقون عنها حين أبصروها .
الأعراف : ( 203 ) وإذا لم تأتهم . . . . .
) وإذا لم تأتهم بآية ( ، يعني بحديث من القرآن ، وذلك حين أبطأ التنزيل بمكة ، ) قالوا ( ،
قال كفار مكة : ( لولا اجتبيتها ( ، يعني هلا ابتدعتها من تلقاء نفسك يا محمد ؛ لقولهم : ائت بقرآن
غير هذا أو بدله من تلقاء نفسك ، ) قل ( لكفار مكة : ( إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ( إذا أمرت
بأمر اتبعته ، ) هذا بصائر من ربكم ( ، يعني برهان ، يعني هذا القرآن بيان من ربكم ، ) و ( القرآن
) وهدى ( من الضلالة ) ورحمة ( من العذاب ) لقوم يؤمنون ) [ آية : 203 ] ، يعني يصدقون
بأن القرآن من الله .
تفسير سورة الأعراف آية [ 204 - 206 ]
الأعراف : ( 204 - 205 ) وإذا قرئ القرآن . . . . .
) واذكر ربك ( ، يعني بالذكر القراءة في الصلاة ، ) في نفسك تضرعا ( مستكينا ، ) وخيفة ( ،
يعني وخوفا من عذابه ، ) ودون الجهر من القول ( ، يعني دون العلانية ، ) بالغدو والآصال ( ، يعني بالغداة
والعشى ، ) ولا تكن من الغافلين ) [ آية : 205 ] عن القراءة في الصلاة .
الأعراف : ( 206 ) إن الذين عند . . . . .
) إن الذين عند ربك ( من الملائكة ، وذلك حين قال كفار مكة : ( وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا (
[ الفرقان : 60 ] ، واستكبروا عن السجود ، فأخبر الله أن الملائكة ) لا يستكبرون ( ، يعني لا يتكبرون ) عن عبادته ( كفعل كفار مكة ، وأخبر عن الملائكة ، فقال : ( ويسبحونه ( ، يعني يذكرون ربهم ، ) وله يسجدون ) [ آية : 206 ] ، يقول : يصلون .
تم بحمد الله الجزء الأول ، ويليه بإذن الله الجزء الثاني وأوله سورة الأنفال(1/431)
صفحة رقم 3
( بسم الله الرحمن الرحيم )
( سورة الأنفال )
1 ( مدنية كلها ، غير آية واحدة : (
) وإذ يمكر بك الذين كفروا ) [ الآية : 30 ] الآية
1 ( وهي خمس وسبعون آية كوفية )
( بسم الله الرحمن الرحيم )
تفسير سورة الأنفال من آية [ 1 ]
الأنفال : ( 1 ) يسألونك عن الأنفال . . . . .
) يَسئلُونكَ عن الأنفال ( ، وذلك أن رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، قال يوم بدر : ' إن الله وعدني
النصر أو الغنيمة ، فمن قتل قتيلاً ، أو أسر أسيراً ، فله من عسكرهم كذا وكذا ، إن شاء
الله ، ومن جاء برأس ، فله غرة ' ، فلما تواقعوا انهزم المشركون وأتباعهم سرعان الناس ،
فجاءوا بسبعين أسيراً ، وقتلوا سبعين رجلاً ، فقال أبو اليسر الأنصاري : أعطنا ما وعدتنا
من الغنيمة ، وكان قتل رجلين ، وأسر رجلين ، العباس بن عبد المطلب ، وأبا عزة ابن عمير
بن هشام بن عبد الدار ، وكان معه لواء المشركين يوم بدر ، قال سعد بن عبادة
الأنصاري ، من بنى ساعدة ، للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما منعنا أن نطلب المشركين كما طلب هؤلاء(2/3)
صفحة رقم 4
زهادة في الآخرة ، ولا جبناً عن العدو ، ولكن خفنا أن نعرى صفك ، فتعطف عليك خيل
المشركين ، رجالنهم ، فتصاب بمصيبة ، فإن تعط هؤلاء ما ذكرت لهم ، لم يبق لسائر
أصحابك كبير شيء ، فأنزل الله عز وجل : ( يَسئلُونكَ عن الأنفال ( ، يعني النافلة التي
وعدتهم ، يعني أبا اليسر ، اسمه كعب بن عمرو الأنصاري ، من بنى سلمة بن جشم ابن
مالك ، ومالك بن دخشم الأنصاري ، من بنى عوف بن الخزرج .
فأنزل الله عز وجل : ( قل ( لهم يا محمد : ( الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ( ، يقول : ليرد بعضكم على بعض الغنيمة ، ) وأطيعوا الله ورسوله ( في
أمر الصلح ) إن كنتم مؤمنين ) [ آية : 1 ] ، يعنى مصدقين بالتوحيد ، فأصلحوا .
تفسير سورة الأنفال من آيه [ 2 - 3 ] .
الأنفال : ( 2 ) إنما المؤمنون الذين . . . . .
ثم نعتهم ، فقال : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم
ءايته ( في أمر الصلح ، ) زادتهم إيمانا ( ، يعني تصديقاً مع إيمانهم مع تصديقهم بما
أنزل الله عليهم قبل ذلك من القرآن ، ) وعلى ربهم يتوكلون ) [ آية : 2 ] ، يعنى وبه
يثقون .
الأنفال : ( 3 ) الذين يقيمون الصلاة . . . . .
ثم نعتهم ، فقال : ( الذين يقيمون الصلاة ( ، يعنى يتمون الصلاة ، ركوعها ،
وسجودها في مواقيتها ، ) ومما رزقنهم ( من الأموال ) ينفقون ) [ آية : 3 ] في طاعة
ربهم .
الأنفال : ( 4 ) أولئك هم المؤمنون . . . . .
) أولئك هم المؤمنون حقا ( ، لا شك في إيمانهم كشك المنافقين ، ) لهم ( بذلك
) درجت ( ، يعنى فضائل ) عند ربهم ( في الآخرة في الجنة ، ) ومغفرة (
لذنوبهم ، ) ورزق كريم ) [ آية : 4 ] ، يعني حسن في الجنة ، فلما نزلت هؤلاء
الآيات ، قالوا : سمعنا وأطعنا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلم تقسم الغنيمة حتى رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
إلى المدينة ، فقسم بينهم بالسوية ، ورفع الخمس منه .
تفسير سورة الأنفال من آية [ 5 - 8 ] .(2/4)
صفحة رقم 5
الأنفال : ( 5 ) كما أخرجك ربك . . . . .
قوله : ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ( ، وذلك أن عير كفار قريش جاءت
من الشام تريد مكة فيها أبو سفيان بن حرب ، وعمرو بن العاص ، وعمرو بن هشام ،
ومخرمة بن نوفل الزهري ، في العير ، فبلغهم أن رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] يريدهم ، فبعثوا عمرو بن
ضمضم الغفاري إلى مكة مستغيثاً ، فخرجت قريش ، وبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عدى بن أبي
الزغفاء عيناً على العير ؛ ليعلم أمرهم ، ونزل جبريل ، عليه السلام ، فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعير
أهل مكة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه : ' إن الله يعدكم إحدى الطائفتين ، إما العير ، وإما
النصر والغنيمة ، فما ترون ؟ ' ، فأشاروا عليه ، بل نسير إلى العير ، وكرهوا القتال ، وقالوا :
إنا لم نأخذ أهبة القتال ، وإنما نفرنا إلى العير ، ثم أعاد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المشورة ، فأشاروا عليه
بالعير .
فقال سعد بن عبادة الأنصاري : يا رسول الله ، انظر أمرك فامض له ، فوالله لو سرت
بنا إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار ، ففرح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، حتى عرف السرور في
وجهه ، فقال المقداد بن الأسود الكندي : إنا معك ، فضحك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقال لهم معروفاً ،
فأنزل الله عز وجل : ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ( ) وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ) [ آية : 5 ] للقتال ، فلذلك ) فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ( في أمر
الغنيمة ، فيها تقديم .
الأنفال : ( 6 ) يجادلونك في الحق . . . . .
ثم قال : ( يجدلونك في الحق بعدما تبين ( لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله ، ) كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) [ آية : 6 ] .
الأنفال : ( 7 ) وإذ يعدكم الله . . . . .
) وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين ( العير أو هزيمة المشركين وعسكرهم ، ) أنها(2/5)
صفحة رقم 6
لكم وتودون أن غير ذات الشوكة ( ، يعنى العير ، ) تكون لكم ويريد الله أن
يحق الحق بكلماته ( ، يقول : يحقق الإسلام بما أنزل إليك ، ) ويقطع دابر الكفرين (
[ آية : 7 ] ، يعني أصل الكافرين ببدر .
الأنفال : ( 8 ) ليحق الحق ويبطل . . . . .
) ليحق الحق ( ، يعنى الإسلام ، ) ويبطل البطل ( ، يعنى الشرك ، يعني عبادة
الشيطان ، ) ولو كره المجرمون ) [ آية : 8 ] ، يعنى كفار مكة .
تفسير سورة الأنفال من أية [ 9 - 14 ] .
الأنفال : ( 9 ) إذ تستغيثون ربكم . . . . .
قوله : ( إذ تستغيثون ربكم ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى المشركين يوم بدر ، وعلم
أنه لا قوة له بهم إلا بالله ، دعا ربه ، فقال : ' اللهم إنك أمرتنى بالقتال ، ووعدتنى بالنصر ،
وإنك لا تخلف الميعاد ' ، فاستجاب له ربه ، فأنزل الله : ( إذ تستغيثون ( في النصر ،
)( فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملئكة ( يوم بدر ، ) مردفين ) [ آية :
9 ] ، يعنى متتابعين ، كقوله في المؤمنين : ( رسلنا تترا ) [ المؤمنون : 44 ] ، وقوله :
( طيراً أبابيل ) [ الفيل : 3 ] ، وقوله : ( يرسل السماء عليكم مدراراً ) [ هود : 52 ] ،
يعنى متتابع قطرها .(2/6)
صفحة رقم 7
فنزل جبريل ، عليه السلام ، في ألف من الملائكة ، فقام جبريل ، عليه السلام ، في
خمسمائة ملك عن ميمنة الناس ، معهم أبو بكر ، ونزل ميكائيل ، عليه السلام ، في
خمسمائة على ميسرة الناس ، معهم عمر في صور الرجال ، عليهم البياض ، وعمائم
البيض ، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم ، فقاتلت الملائكة يوم بدر ، ولم يقاتلوا يوم
الأحزاب ، ولا يوم خيبر .
الأنفال : ( 10 ) وما جعله الله . . . . .
ثم قال ) وما جعله الله ( ، يعنى مدد الملائكة ، ) إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم ( ، يعنى لتسكن إليه قلوبكم ، ) وما النصر ( ، وليس النصر ، ) إلا من عند الله ( ، وليس النصر بقلة العدد ولا بكثرته ، ولكن النصر من عند الله ، ) أن الله عزيز حكيم ) [ آية : 10 ] ، ) عزيز ( ، يعني منيع ، ) حكيم ( في أمره ، حكم النصر .
الأنفال : ( 11 ) إذ يغشيكم النعاس . . . . .
وقوله : ( إذ يغشيكم النعاس ( ، وذلك أن كفار مكة سبقوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى ماء بدر ،
فخلفوا الماء وراء ظهورهم ، ونزل المسلمون حيالهم على غير ماء ، وبينهم وبين عدوهم
بطن واد فيه رمل ، فمكث المسلمون يوماً وليلة يصلون محدثين مجنبين ، فأتاهم إبليس ،
لعنة الله ، فقال لهم : أليس قد زعمتم أنكم أولياء الله على دينه ، وقد غلبتم على الماء
تصلون على غير طهور ، وما يمنع القوم من قتالكم إلا ما أنتم فيه من العطش والبلاء ،
حتى إذا انقطعت رقابكم من العطش ، قاموا إليكم فلا يبصر بعضكم بعضاً ، فيقرنونكم
بالحبال ، فيقتلون منكم من شاءوا ، ثم ينطلقون بكم إلى مكة .
فحزن المسلمون وخافوا ، وامتنع منهم النوم ، فعلم الله ما في قلوب المؤمنين من
الحزن ، فألقى الله عليهم النعاس أمنة من الله ليذهب همهم ، وأرسل السماء عليهم ليلاً ،
فأمطرت مطراً جواداً حتى سالت الأودية ، وملؤوا الأسقية ، وسقوا الإبل ، واتخذوا
الحياض ، واشتدت الرملة ، وكانت تأخذ إلى كعبي الرجال ، وكانت باعة المؤمنين رجال
لم يكن معهم إلا فارسان : المقداد بن الأسود ، وأبو مرثد الغنوى ، وكان معهم ستة
أدرع ، فأنزل الله ) إذ يغشيكم النعاس ( ) أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ( من الأحداث ، والجنابة ، ) ويُذهب عنكم رجز الشَّيطن ( ، يعني(2/7)
صفحة رقم 8
الوسوسة التي ألقاها في قلوبكم والحزن ، ) وليربط على قُلوبِكُم ( بالإيمان من تخويف
الشيطان ، ) ويثبت به ( ، يعنى بالمطر ، ) الأقدام ) [ آية : 11 ] .
الأنفال : ( 12 ) إذ يوحي ربك . . . . .
) إذ يوحي ربك ( ، ولما وصف القوم ، أوحى الله عز وجل ) إلى الملئكة أَني مَعَكُم
فَثبِتُوا ( ، ) الذين آمنوا ( بالنصر ، فكان الملك في صورة بشر في الصف
الأول ، فيقول : أبشروا ، فإنكم كثير ، وعددهم قليل ، فالله ناصركم ، فيرى الناس أنه
منهم ، ثم قال : ( سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ( بتوحيد الله عز وجل يوم
بدر ، ثم علمهم كيف يصنعون ، فقال : ( فاضربوا فوق الأعناق ( ، يعنى الرقاب ،
تقول العرب : لأضربن فوق رأسك ، يعنى الرقاب ، ) واضربوا ( بالسيف ) منهم كل بنان ) [ آية : 12 ] ، يعنى الأطراف .
الأنفال : ( 13 ) ذلك بأنهم شاقوا . . . . .
) ذلك ( الذي نزل بهم ) بأنهم شاقوا الله ورسوله ( ، يعنى عادوا الله ورسوله ،
)( ومن يشاقق الله ( ، يعنى ومن يعاد الله ) ورسوله فإن الله شديد العقاب ) [ آية :
13 ] إذا عاقب .(2/8)
صفحة رقم 9
الأنفال : ( 14 ) ذلكم فذوقوه وأن . . . . .
) ذلكم ( القتل ، ) فذوقوه ( يوم بدر في الدنيا ، ثم قال : ( وأن للكافرين (
بتوحيد الله عز وجل مع القتل ، وضرب الملائكة الوجوه ، والأدبار أيضاً ، لهم في الآخرة
) عذاب النار ) [ آية : 14 ] .
تفسير سورة الأنفال من الآية [ 15 - 18 ]
الأنفال : ( 15 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَأَيُها الذين ءامنوا إذا لقيتُم الذين كَفروُا ( بتوحيد الله عز وجل يوم بدر ،
)( زحفا فلا تولوهم الأدبار ) [ آية : 15 ] .
الأنفال : ( 16 ) ومن يولهم يومئذ . . . . .
) ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال ( ، يعنى مستطرداً يريد الكرة للقتال ،
)( أو متحيزا إلى فئة ( ، يقول : أو ينحاز إلى صف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) فقد باء بغضب من الله ( ، يقول : فقد استوجب من الله الغضب ، ) ومأواه جهنم ( ، يعنى ومصيره
جهنم ، ) وبئس المصير ) [ آية : 16 ] .
الأنفال : ( 17 ) فلم تقتلوهم ولكن . . . . .
) فلم تقتلوهم ( ، يعنى ما قتلتوهم ، وذلك أن الرجل من المؤمنين كان يقول : فعلت
وقتلت ، فنزلت : ( فلم تقتلوهم ( ) ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين صاف المشركين ، دعا بثلاث قبضات من حصى
الوادي ورمله ، فناوله علي بن أبي طالب ، فرمى بها في وجوه العدو ، وقال : ' اللهم
أرعب قلوبهم ، وزلزل أقدامهم ' ، فملأ الله وجوههم وأبصارهم من الرمية ، فانهزموا عند
الرمية الثالثة ، وتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم ، فذلك قوله : ( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ( ، يعنى القتل والأسر ، ) إن الله سميع ( لدعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( عليم ) [ آية : 17 ] به .
الأنفال : ( 18 ) ذلكم وأن الله . . . . .
) ذلكم ( النصر ، ) وأن الله موهن ( ، يعنى مضعف ، ) كيد الكافرين ) [ آية :
18 ] .(2/9)
صفحة رقم 10
تفسير سورة الأنفال من آية [ 19 ]
الأنفال : ( 19 ) إن تستفتحوا فقد . . . . .
) إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ( ، وذلك أن عاتكة بنت عبد المطلب رأت
في المنام ، كأن فارساً دخل المسجد الحرام ، فنادى : يا آل فهر من قريش ، انفروا في ليلة
أو ليلتين ، ثم صعد فوق الكعبة ، فنادى مثلها ، ثم صعد أبا قبيس ، فنادى مثلها ، ثم نقض
صخرة من الجبل فرفعها المنادى ، فضرب بها الجبل فانفلقت ، فلم يبق بيت بمكة إلا
دخلت قطعة منه فيه ، فلما أصبحت أخبرت أخاها العباس وجلاً ، وعنده أبو جهل ابن
هشام ، فقال أبو جهل : يا آل قريش ، ألا تعذرونا من بنى عبد المطلب ، إنهم لا يرضون
أن تنبأ رجالهم حتى تنبأت نساؤهم ، ثم قال أبو جهل للعباس : تنبأت رجالكم وتنبأت
نساؤكم ، والله لتنتهن ، وأوعدهم ، فقال العباس : إن شئتم ناجزناكم الساعة .
فلما قدم ضمضم بن عمرو الغفاري ، قال : أدركوا العير أو لا تدركوا ، فعمد أبو
جهل وأصحابه ، فأخذوا بأستار الكعبة ، ثم قال أبو جهل : اللهم انصر أعلى الجندين
وأكرم القبيلتين ، ثم خرجوا على كل صعب وذلول ليعينوا أبا سفيان ، فترك أبو سفيان
الطريق وأغز على ساحل البحر ، فقدم مكة وسبق أبو جهل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن معه من
المشركين إلى ماء بدر ، فلما التقوا ، قال أبو جهل : اللهم اقض بيننا وبين محمد ، اللهم أينا
كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره ، ففعل الله عز وجل ذلك ، وهزم المشركين
وقتلهم ، ونصر المؤمنين .
فأنزل الله في قول أبي جهل : ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ( ، يقول : إن
تستنصروا فقد جاءكم النصر ، فقد نصرت من قلتم ، ) وإن تنتهوا فهو خير لكم ( من
القتال ، ) وإن تعودوا ( لقتالهم ، ) نعد ( عليكم بالقتل والهزيمة بما فعلنا ببدر ، ) ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ( ، يعنى جماعتكم شيئاً ، ) ولو كثرت ( فئتكم ، ) وأن الله مع المؤمنين ) [ آية : 19 ] في النصر لهم .(2/10)
صفحة رقم 11
تفسير سورة الأنفال من آية [ 20 - 26 ]
الأنفال : ( 20 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله : ( يَأَيُها الذين ءامنوا ( ، يعني صدقوا بتوحيد الله عز وجل ، ) أطيعوا الله ورسوله ( في أمر الغنيمة ، ) ولا تولوا عنه ( ، يعنى ولا تعرضوا عنه ، يعنى أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وأنتم تسمعون ) [ آية : 20 ] المواعظ .
الأنفال : ( 21 ) ولا تكونوا كالذين . . . . .
ثم وعظ المؤمنين ، فقال : ( ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا ( الإيمان ) وهم لا يسمعون ) [ آية : 21 ] ، يعنى المنافقين .
الأنفال : ( 22 ) إن شر الدواب . . . . .
ثم قال : ( إن شر الدواب عند الله الصم ( عن الإيمان ، ) البكم ( ، يعنى الخرس
لا يتكلمون بالإيمان ولا يعقلون ، ) الذين لا يعقلون ) [ آية : 22 ] ، يعنى ابن عبد الدار
بن قصي ، وأبو الحارث بن علقمة ، وطلحة بن عثمان ، وعثمان ، وشافع ، وأبو الجلاس ،
وأبو سعد ، والحارث ، والقاسط بن شريح ، وأرطاة بن شرحبيل .
الأنفال : ( 23 ) ولو علم الله . . . . .
ثم أخبر عنهم ، فقال : ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ( ، يعني لأعطاهم الإيمان ،
)( ولو أسمعهم ( ، يقول : ولو أعطاهم الإيمان ، ) لتولوا ( ، يقول : لأعرضوا عنه ،
)( وهم معرضون ) [ الآية : 23 ] ، لما سبق لهم في علم الله من الشقاء ، وفيهم نزلت :
( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ( إلى آخر الآية [ الأنفال : 35 ] .
الأنفال : ( 24 ) يا أيها الذين . . . . .
) يأيُها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسُول ( في الطاعة في أمر القتال ، ) إذا دعاكم (
لما يُحييكُم ( ، يعنى الحرب التي وعدكم الله ، يقول : أحياكم بعد الذل ، وقواكم(2/11)
صفحة رقم 12
بعد الضعف ، فكان ذلك لكم حياء ، ) واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ( ،
يقول : يحول بين قلب المؤمن وبين الكفر ، وبين قلب الكافر وبين الإيمان ، ) وأنه إليه تحشرون ) [ آية : 24 ] في الآخرة ، فيجزيكم بأعمالكم .
الأنفال : ( 25 ) واتقوا فتنة لا . . . . .
) واتقوا فتنة ( تكون من بعدكم ، يحذركم الله ، تكون مع علي بن أبي طالب ،
)( لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ( ، فقد أصابتهم يوم الجمل ، منهم : طلحة ،
والزبير ، ثم حذرهم ، فقال : ( واعلموا أن الله شديد العقاب ) [ آية : 25 ] إذا عاقب .
الأنفال : ( 26 ) واذكروا إذ أنتم . . . . .
ثم ذكرهم النعم ، فقال : ( واذكروا إذ أنتم قليل ( ، يعنى المهاجرين خاصة ،
)( مستضعفون في الأرض ( ، يعنى أهل مكة ، ) تخافون أن يتخطفكم الناس ( ، يعنى
كفار مكة ، نزلت هذه الآية بعد قتال بدر ، يقول : ( فئاواكُم ( إلى المدينة والأنصار ،
)( وأيدكم بنصره ( ، يعنى وقواكم بنصره يوم بدر ، ) ورزقكم من الطيبات ( ، يعنى
الحلال من الرزق وغنيمة بدر ، ) لعلكم ( ، يعنى لكي ، ) تشكرون ) [ آية : 26 ]
تشكرون ربكم في هذه النعم التي ذكرها في هذه الآية .
تفسير سورة الأنفال من آية [ 27 - 35 ] .(2/12)
صفحة رقم 13
الأنفال : ( 27 ) يا أيها الذين . . . . .
) يأَيُها الذين ءامنوا لا تخونُوا الله والرسولَ ( ، يعنى أبا لبابة ، وفيه نزلت هذه الآية ،
نظيرها في المتحرم ) وتخونوا ) [ التحريم : 10 ] يعنى فخالفتاهما في الدين ، ولم يكن
في الفرج ، واسمه مروان بن عبد المنذر الأنصاري ، من بني عمرو بن عوف ، وذلك أن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة ، فسألوا الصلح على مثل صلح أهل
النصير ، على أن يسيروا إلى إخواتهم إلى أذرعات وأريحا في أرض الشام ، وأبى النبي ( صلى الله عليه وسلم )
أن ينزلوا إلا على الحكم ، فأبوا ، وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة ، وكان مناصحهم ، وهو
حليف لهم ، فبعثه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم ، فلما أتاهم ، قالوا : يا أبا لبابة ، أتنزل على حكم محمد
( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فأشار أبا لبابة بيده إلى حلقه إنه الذبح ، فلا تنزلوا على الحكم ، فأطاعوه ، وكان أبو
لبابة وولده مهم ، فغش المسلمين وخان ، فنزلت في أبي لبابة : ( يَأيُها الذين ءامنوا لا تخونوا الله والرسُولَ ( ) وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) [ آية : 27 ] أنها الخيانة .
الأنفال : ( 28 ) واعلموا أنما أموالكم . . . . .
ثم حذرهم ، فقال : ( واعلموا أَنما أمولكُم وأولادُكُم فتنةٌ ( ، يعنى بلاء ؛ لأنه ما
نصحهم إلا من أجل ماله وولده ؛ لأنه كان في أيديهم ، ) وأن الله عنده أجر ( ، يعنى
جزاء ) عظيم ) [ آية : 28 ] ، يعنى الجنة .
الأنفال : ( 29 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَأيُها الذين ءامنوا إِن تتقُوا اللهَ ( ، فلا تعصوه ، ) يجعل لكم فرقانا ( ، يعنى
مخرجاً من الشبهات ، ) ويكفر عنكم سيئاتكم ( ، يعنى ويمحو عنكم خطاياكم ،
)( ويغفر لكم ( ) ، يقول : ويتجاوز عنكم ، ) والله ذو الفضل العظيم ) [ آية : 29 ] .
الأنفال : ( 30 ) وإذ يمكر بك . . . . .
) وإذ يمكر بك الذين كفروا ( ، وذلك أن نفراً من قريش ، منهم : أبو جهل بن هشام ،
وعتبة بن ربيعة ، وهشام بن عمرو ، وأبو البحتري بن هشام ، وأُمية بن خلف ، وعقبة بن
أبي معيط ، وعيينة بن حصن الفزارى ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وأبي بن
خلف ، اجتمعوا في دار الندوة بمكة يوم ، وهو يوم السبت ليمكروا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأتاهم(2/13)
صفحة رقم 14
إبليس في صورة رجل شيخ كبير ، فجلس معهم ، فقالوا : ما أدخلك في جماعتنا بغير
إذننا ، قال : إنما أنا رجل من أهل نجد ، ولست من أهل تهامة ، قدمت مكة فرأيتكم حسنة
وجوهكم ، طيبة ريحكم ، نقية ثيابكم ، فأحببت أن أسمع من حديثكم ، وأستر عليكم ، فإن
كرهتم مجلسي خرجت من عندكم ، فقالوا : هذا رجل من أهل نجد ، وليس من أهل
تهامة ، فلا بأس عليكم منه ، فتعملوا بالمكر بمحمد .
فقال أبو البحتري بن هشام ، من بني أسد بن عبد العزى : أما أنا فرأيي أن تأخذوا
محمداً ، فتجعلوه في بيت ، وتسدوا بابه ، وتدعوا له كوة ، يدخل منها طعامه وشرابه حتى
يموت ، قال إبليس : بئس والله الرأي رأيتم ، تعمدون إلى رجل له فيكم صغو قد سمع به
من حولكم ، فتحبسونه فتطعمونه وتسقونه فيوشك الصغو الذي له فيكم أن يقاتلكم
عليه ، فيفسد جماعتكم ويسفك دماءكم ، فقالوا : صدق والله الشيخ .
فقال هشام بن عمرو ، من بني عامر بن لؤي : أما أنا ، فرأيي أن تحملوا محمداً على
بعير ، فيخرج من أرضكم ، فيذهب حيث شاء ، ويليه غيركم ، قال إبليس : بئس والله
الرأي رأيتم ، تعمدون إلى رجل قد شتت وأفسد جماعتكم ، واتبعه منكم طائفة ،
فتخرجوه إلى غيركم ، فيفسدهم كما أفسدكم ، فيوشك والله أن يقبل بهم عليكم ويتولى
الصغو الذي له فيكم ، قالوا : صدق والله الشيخ .
فقال أبو جهل بن هشام المخزومي : أما أنا ، فرأيي أن تعمدوا إلى كل بطن من قريش ،
فتأخذوا من كل بطن رجلاً ، ثم تعطوا كل رجل منهم سيفاً ، فيضربونه جميعاً بأسيافهم
فلا يدرى قومه من يأخذون به ، وتؤدى قريش ديته ، قال إبليس : صدق والله الشاب ، إن
الأمر لكما قال ، فتفرقوا على قول أبي جهل .
فنزل جبريل ، عليه السلام ، فأخبره بما ائتمر به القوم ، وأمره بالخروج ، فخرج النبي ( صلى الله عليه وسلم )
من ليلته إلى الغار ، وأنزل الله عز وجل : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ( من قريش
) ليثبتوك ( ، يعنى ليحبسوك في بيت ، يعنى أبا البحتري بن هشام ، ) أو يقتلوك (
يعنى أبا جهل ، ) أو يخرجوك ( من مكة ، يعني به هشام بن عمرو ، ) ويمكرون (
بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) الشر ، ) ويمكر الله ( بهم حين أخرجهم من مكة فقتلهم ببدر ، فذلك قوله :(2/14)
صفحة رقم 15
) والله خير الماكرين ) [ آية : 30 ] ، أفضل مكراً منهم ، أنزل الله : ( أم أبرموا أمرا ( ، يقول : أم أجمعوا على أمر ، ) فإنا مبرمون ( ، يقول : لنخرجنهم إلى بدر
فنقلتهم ، أو نعجل أرواحهم إلى النار [ الزخرف : 79 ]
الأنفال : ( 31 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
قوله : ( وإذا تُتلى عَليهم ءاياتُنا ( ، يعنى القرآن ، ) قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ( القرآن ، قال ذلك النضر بن الحارث بن علقمة ، من بني عبد الدار بن
قصي ، ثم قال : ( إن هذا ( الذي يقول محمد من القرآن ) إلا أساطير الأولين (
[ آية : 31 ] ، يعني أحاديث الأولين ، يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يحدث عن الأمم الخالية ، وأنا
أحدثكم عن رستم وأسفندباز ، كما يحدث محمد ، فقال عثمان بن مظعون الجمحي : اتق
الله يا نضر ، فإن محمداً يقول الحق ، قال : وأنا أقول الحق ، قال عثمان : فإن محمداً يقول :
لا إله إلا الله ، قال : وأنا أقول : لا إله إلا الله ، ولكن الملائكة بنات الرحمن .
فأنزل الله عز وجل في حم الزخرف ، فقال : ( قل ( يا محمد : ( إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) [ الزخرف : 81 ] ، أول الموحدين من أهل مكة ، فقال عند
ذلك : ألا ترون قد صدقنى : ( إن كان للرحمن ولد ( ، قال الوليد بن المغيرة : لا والله
ما صدقك ، ولكنه قال : ما كان للرحمن ولد ، ففطن لها النضر ،
الأنفال : ( 32 ) وإذ قالوا اللهم . . . . .
فقال : ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا ( ما يقول محمد ) هو الحق من عندك ( ، يعنى القرآن ، ) فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) [ آية : 32 ] ، يعنى وجيع .
الأنفال : ( 33 ) وما كان الله . . . . .
فأنزل الله : ( وما كان الله ليعذبهم ( ، يعنى أن يعذبهم ) وأنت فيهم ( بين
أظهرهم حتى يخرجك عنهم كما أخرجت الأنبياء عن قومهم ، ) وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) [ آية : 33 ] ، يعنى يصلون لله ، كقوله : ( وبالأسحار هم يستغفرون ) [ الذاريات : 18 ] ، يعنى يصلون ، وذلك أن نفراً من بنى عبد الدار ، قالوا :
إنا نصلى عند البيت ، فلم يكن الله ليعذبنا ونحن نصلى له .(2/15)
صفحة رقم 16
الأنفال : ( 34 ) وما لهم ألا . . . . .
ثم قال : ( وما لهم ألا يعذبهم الله ( إذ لم يكن نبى ولا مؤمن بعد ما خرج النبي
( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة من أهل مكة ، ) وهم يصدون عن المسجد الحرام ( المؤمنين ، ) وما كانوا أولياءه ( ، يعنى أولياء الله ، ) إن أولياؤه ( ، يعنى ما أولياء الله ) إلا المتقون ( الشرك ، يعنى المؤمنين أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ولكن أكثرهم لا يعلمون (
[ آية : 34 ] ، يقول : أكثر أهل مكة لا يعلمون توحيد الله عز وجل .
وأنزل الله عز وجل في قول النضر أيضاً حين قال : ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ( ، يعنى وجيع ، أنزل :
( سأل سائل بعذاب واقع ) [ المعارج : 1 ] إلى آيات منها .
الأنفال : ( 35 ) وما كان صلاتهم . . . . .
ثم أخبر عن صلاتهم عند البيت ، فقال : ( وما كان صلاتهم عند البيت ( ، يعنى
عند الكعبة الحرام ، ) إلا مكاء وتصدية ( ، يعني بالتصدية الصفير والتصفية ،
وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا صلى في المسجد الحرام ، قام رجلان من بنى عبد الدار بن
قصي من المشركين عن يمين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فيصفران كما يصفر المكاء ، يعنى به طيراً اسمه
المكاء ، ورجلان عن يسار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيصفقان بأيديهما ليخلطا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلاته
وقراءته ، فقتلهم الله ببدر هؤلاء الأربعة ، ولهم يقول الله ولبقية بنى عبد الدار : ( فذوقوا العذاب ( ، يعنى القتل ببدر ، ) بما كنتم تكفرون ) [ آية : 35 ] بتوحيد الله عز
وجل .
تفسير سورة الأنفال من آية [ 36 - 37 ] .
الأنفال : ( 36 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ( ، وذلك أن رءوس كفار قريش استأجروا(2/16)
صفحة رقم 17
رجالا من قبائل العرب أعواناً لهم على قتال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأطعموا أصحابهم كل يوم عشر
جزائر ويوماً تسعة ، فنزلت : ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ( ) ليصدوا عن سبيل الله ( ، يعنى عن دين الله ، ) فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ( ، يعنى ندامة ،
)( ثم يغلبون ( ، يقول : تكون عليهم أموالهم التي أنفقوها ندامة على إنفاقهم ، ثم
يهزمون ، ثم أخبر بمنزلتهم في الآخرة ، فقال : ( والذين كفروا ( بتوحيد الله ، ) إلى جهنم ( في الآخرة ) يحشرون ) [ آية : 36 ] .
الأنفال : ( 37 ) ليميز الله الخبيث . . . . .
) ليميز الله الخبيث من الطيب ( ، يعنى يميز الكافر من المؤمن ، ثم قال :
( ويجعل ( في الآخرة ) الخبيث ( أنفسهم ) بعضه على بعض فيركمه جميعاَ
فيجعله في جهنم أولئك هم الخسرون ) [ آية : 37 ] ، يعنى المطعمين في غزوة
بدر : أبا جهل والحارث ابنا هشام ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ، وأبا
البحتري بن هشام ، والنضر بن الحارث ، والحكم بن حزام ، وأبي بن خلف ، وزمعة بن
الأسود ، والحارث بن عامر بن نوفل ، كلهم من قريش .
تفسير سورة الأنفال من آية [ 38 - 40 ] .
الأنفال : ( 38 ) قل للذين كفروا . . . . .
) قل ( يا محمد ) للذين كفروا ( بالتوحيد ، ) إن ينتهوا ( عن الشرك
ويتوبوا ، ) يغفر لهم ما قد سلف ( من شركهم قبل الإسلام ، ) وإن يعودوا ( لقتال
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يتوبوا ، ) فقد مضت سنت الأولين ) [ آية : 38 ] ، يعنى القتل ببدر ،
فحذرهم العقوبة لئلا يعودوا فيصيبهم مثل ما أصابهم ببدر .
الأنفال : ( 39 ) وقاتلوهم حتى لا . . . . .
ثم قال للمؤمنين : ( وقتلوهم حتى لا تكون فتنةُُ ( ، يعنى شركاً ويوحدوا
ربهم ، ) ويكون ( ، يعنى ويقوم ) الدين كله لله ( ، ولا يعبد غيره ، ) فإن انتهوا ( عن الشرك فوحدوا ربهم ، ) فإن الله بما يعلمون بصيرُُ ) [ آية : 39 ] .
الأنفال : ( 40 ) وإن تولوا فاعلموا . . . . .
) وإن تولوا ( ، يقول : وإن أبوا أن يتوبوا من الشرك ، ) فاعلموا ( يا معشر المؤمنين ،(2/17)
صفحة رقم 18
) أن الله مولكم ( ، يعنى وليكم ، ) نعم المولى ( حين نصركم ، ) ونعم النصير (
[ آية : 40 ] ، يعنى ونعم النصير لكم كما نصركم ببدر ، وكانت وقعة بدر ليلة الجمعة في
سبع عشرة ليلة خلت من رمضان ، وكانت وقعة أحد في عشر ليال خلت من شوال يوم
السبت بينهما سنة .
تفسير سورة الأنفال من الآية [ 41 - 44 ] .
الأنفال : ( 41 ) واعلموا أنما غنمتم . . . . .
) واعلموا ( يخبر المؤمنين ) أنما غنمتم من شيءٍ ( يوم بدر ، ) فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ( ، يعنى قرابة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) واليتامى والمساكين وابن السبيل ( ، يعنى الضعيف نازل عليك ، ) إن كنتم ءامنتم بالله ( ، يعنى صدقتم بتوحيد
الله وصدقتم ب ) وما أنزلنا على عبدنا ( من القرآن ) يوم الفرقان ( ، يعنى يوم النصر
فرق بين الحق والباطل ، فنصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهزم المشركين ببدر ) يوم التقى الجمعان ( ،
يعنى جمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببدر ، وجمع المشركين ، فأقروا الحكم لله في أمر الغنيمة والخمس ،
وأصلحوا ذات بينكم ، ) والله على كل شيء قديرُ ) [ آية : 41 ] ، يعنى قادر فيما
حكم من الغنيمة والخمس .
الأنفال : ( 42 ) إذ أنتم بالعدوة . . . . .
ثم أخبر المؤمنين عن حالهم التي كانوا عليها ، فقال : أرأيتهم معشر المؤمنين : ( إذ أنتم بالعدوة الدنيا ( ، يعنى من دون الوادي على شاطىء مما يلي المدينة ، ) وهم بالعدوة القصوى ( من الجانب الآخر مما يلي مكة ، يعنى مشركى مكة ، فقال : ( والرَّكبُ(2/18)
صفحة رقم 19
أَسفل منكم ( ، يعنى على ساحل البحر أصحاب العير أربعين راكباً أقبلوا من الشام
إلى مكة ، فيهم : أبو سفيان ، وعمرو بن العاص ، ومخرمة بن نوفل ، وعمرو بن هشام ،
)( وَلَو تواعدتُم ( أنتم والمشركون ، ) لاختلفتم في الميعاد ولكن ( الله جمع بينكم
وبين عدوكم على غير ميعاد ، أنتم ومشركو مكة ، ) ليقضى الله أَمراً ( في علمه ،
)( كان مفعولاً ( ، يقول : أمراً لا بد كائناً ؛ ليعز الإسلام وأهله ، ويذل الشرك وأهله ،
)( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى ) ) بالإيمان ( ( من حي عن بينة وإن الله لسميع
عليم ) [ آية : 42 ] .
الأنفال : ( 43 ) إذ يريكهم الله . . . . .
) إذ يريكهم الله ( يا محمد في التقديم ) في منامك قليلاً ( ، وذلك أن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى في المنام أن العدو قليل قبل أن يلتقوا ، فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه بما رأى ،
فقالوا : رؤيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حق والقوم قليل ، فلما التقوا ببدر قلل الله المشركين في أعين
الناس ، لتصديق رؤيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قال : ( ولو أراكهم كثيراً ( حين عاينتموهم
) لفشلتم ( ، يعنى لجبنتم وتركتم الصف ، ) ولتنازعتم ( ، يعنى و اختلفتم ، ) في
الأمر ولكن الله سلم ( ، يقول : أتم المسلمون أمرهم على عدوهم ، فهزموهم ببدر ،
)( إنه ) ) الله ( ( عليم بذات الصدور ) [ آية : 43 ] ، عليم بما في قلوب المؤمنين من أمر
عدوهم .
الأنفال : ( 44 ) وإذ يريكموهم إذ . . . . .
) وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم ( يا معشر المسلمين ) في
أعينهم ( ، يعنى في أعين المشركين ، وذلك حين التقوا ببدر ، قلل الله العدو في أعين
المؤمنين ، وقلل المؤمنين في أعين المشركين ليجترئ بعضهم على بعض في القتال ،(2/19)
صفحة رقم 20
) ليقضي الله أمرا ( في علمه ) كان مفعولا ( ، ليقضى الله أمراً لابد كائناً ليعز
الإسلام بالنصر ويذل أهل الشرك بالقتل والهزيمة ، ) وإلى الله ترجع الأمور ) [ آية :
44 ] ، يقول : مصير الخلائق إلى الله عز وجل ، فلما رأى عدو الله أبو جهل وقتله .
تفسير سورة الأنفال من آية [ 45 - 49 ] .
الأنفال : ( 45 ) يا أيها الذين . . . . .
) يأيها الذين ءامنوا ( ، يعنى صدقوا بتوحيد الله عز وجل ، ) إذا لقيتم فئة ( ،
يعنى كفار مكة ببدر ، ) فاثبتوا ( لهم ، ) واذكروا الله كثيرا لعلكم ( ، يعنى لكي
) تفلحون ) [ آية : 45 ] .
الأنفال : ( 46 ) وأطيعوا الله ورسوله . . . . .
) وأطيعوا الله ورسوله ( فيما أمركم به في أمر القتال ، ) ولا تنزعوا ( ، يقول : ولا
تختلفوا عند القتال ، ) فتفشلوا ( ، يعنى فتجبنوا ، ) وتذهب ريحكم ( ، يعنى الصبا ؛ لأن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ' نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور ' ، ) واصبروا ( لقتال عدوكم ،
)( إن الله مع الصابرين ) [ آية : 46 ] ، يعنى في النصر للمؤمنين على الكافرين بذنوبهم
وبعملهم .
الأنفال : ( 47 ) ولا تكونوا كالذين . . . . .
ثم وعظ المؤمنين ، فقال : ( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ( ، ليذكروا بمسيرهم ، يعنى ابن أمية ، وابن المغيرة المخزومي ، وذلك أنهم كانوا
رءوس المشركين في غزوهم بدر ، فقال أبو جهل حين نجت العير وسارت إلى مكة ،
فأشاروا عليه بالرجعة ، قال : لا نرجع حتى ننزل على بدر فننحر الجزر ، ونشرب الخمر ،
وتعزف علينا القيان ، فتسمع العرب بمسيرنا ، فذلك قوله : ( بطرا ورئاء الناس ( ،(2/20)
صفحة رقم 21
ليذكروا بمسيرهم ) ويصدون عن سبيل الله ( ، يقول : ويمنعون أهل مكة عن دين
الإسلام ، ) والله بما يعملون محيط ) [ آية : 47 ] أحاط علمه بأعمالهم .
الأنفال : ( 48 ) وإذ زين لهم . . . . .
) وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس ( ، وذلك
أنه بلغهم أن العير قد نجت ، فأرادوا الرجوع إلى مكة ، فأتاهم إبليس في صورة سراقة بن
مالك بن جشعم الكناني ، من بنى مدلج بن الحارث ، فقال : لا ترجعوا حتى تستأصلوهم ،
فإنكم كثير وعدوكم قليل ، فتأمن عيركم ، ويسير ضعيفكم ، ) وإني جار لكم (
على بنى كنانة ، أنكم لا تمرون بحي منهم إلا أمدكم بالخيل والسلاح والرجال ، فأطاعوه
ومضوا إلى بدر لما أراد الله من هلاكهم ، فلما التقوا نزلت ملائكة ببدر مدداً للمؤمنين ،
عليهم جبريل ، عليه السلام ، ولما رأى إبليس ذلك ، نكص على عقبيه ، يقول : استأخر
وراءه .
فذلك قوله : ( فلما تراءت الفئتان ( فئة المشركين ، ) نكص على عقبيه ( ، يقول :
استأخر وراءه ، أنه لا طاقة له بالملائكة ، فأخذ الحارث بن هشام بيده ، فقال : يا
سراقة ، على هذا الحال تخذلنا ؟ ) وقال ( إبليس : ( إني بريءٌ منكم إني أرى ما لا
ترون ( فقال الحارث : والله ما نرى إلا خفافيش يثرب ، فقال إبليس : ( إني أخاف الله والله شديد العقاب ) [ آية : 48 ] ، وكذب عدوا الله ما كان به الخوف ، ولكن خذلهم
عند الشدة ، فقال الحارث لإبليس وهو في صورة سراقة : فهلا كان هذا أمس ، فدفع
إبليس في صدر الحارث ، فوقع الحارث ، وذهب إبليس هارباً ، فلما انهزم المشركون ،
قالوا : انهزم بالناس سراقة ، وهو بعض الصف ، فلما بلغ سراقة سار إلى مكة ، فقال :
بلغني أنكم تزعمون بأني انهزمت بالناس ، فوالذي يحلف به ما شعرت بمسيركم حتى
بلغني هزيمتكم ، قالوا له : ما أتيتنا يوم كذا وكذا ، فحلف بالله لهم أنه لم يفعل ، فلما
أسلموا علموا أنما ذلك الشيطان .
الأنفال : ( 49 ) إذ يقول المنافقون . . . . .
) إذ يقول المنفقون والذين في قلوبهم مرض ( ، يعنى الكفر ، نزلت في قيس بن
الفاكه ، ولم يتجمع جمع قط منذ يوم كانت الهزيمة أكثر من يوم بدر ، وذلك أن إبليس
جاء بنفسه ، وجاء كل شيطان موكل بالدنيا ، إلا شيطان موكل بآدمي ، وكفر الجن(2/21)
صفحة رقم 22
كلهم ، وسبعمائة من المشركين عليهم أبو جهل بن هشام ، وكان قبل ذلك في ألف
رجل ، فرد منهم أبى بن شريق ثلاثمائة من بنى زهرة ، وذلك أن أبى بن شريق خلا بأبي
جهل ، فقال : يا أبا الحكم ، أكذاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقال : والله ما يكذب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على
الناس ، فكيف يكذب على الله ، وكان يسمى قبل النبوة الأمين ؛ لأنه لم يكذب قط .
فقال أبو جهل : ولكن إذا كانت السقاية في بنى عبد مناف ، والحجابة والمشورة
والولاية ، حتى النبوة أيضاً ، فلما سمع أبى بن شريق قول أبى جهل : إن محمداً لم يكذب ،
رد أصحابه عن قتال محمد ، عليه السلام ، فخنس ، فسمى الأخنس بن شريق ؛ لأنه خنس
بثلاثمائة رجل من بنى زهرة يوم بدر عن قتال محمد ، عليه السلام ، وبقى سبعمائة عليهم
أبو جهل بن هشام ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، وسبعين من مؤمني
الجن ، وألف من الملائكة عليه جبريل ، عليه السلام ، فكان جبريل على خمسمائة على
ميمنة الناس ، وميكائيل على خمسمائة في ميسرة الناس ، ولم تقاتل الملائكة قتالاً قط إلا
يوم بدر ، وكانوا يومئذ على صور الرجال ، وعلى قوة الرجال على خيول بلق ، وكان
جبريل ، عليه السلام ، يسير أمام صف المسلمين ، ويقول : أبشروا ، فإن النصر لكم ، وما
يرى المسلمون إلا أنه رجل منهم .
) إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ( ، يعنى الكفر ، نزلت في قيس
بن الفاكه بن المغيرة ، والوليد بن الوليد بن المغيرة ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، والوليد بن
عتبة بن ربيعة ، والعلاء بن أمية بن خلف الجمحي ، وعمرو بن أمية بن سفيان بن أمية ،
كان هؤلاء المسلمون بمكة ، ثم أقاموا بمكة مع المشركين ، فلم يهاجروا إلى المدينة ، فلما
خرج كفار مكة إلى قتال بدر ، خرج هؤلاء النفر معهم ، فلما عاينوا قلة المؤمنين شكوا
في دينهم وارتابوا ، فقالوا : ( غر هؤلاء دينهم ( ، يعنون أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، يقول الله
عز وجل : ( ومن يتوكل على الله ( ، يعنى المؤمنين ، يعنى يثق به في النصر ، ) فإن الله عزيز ( ، يعنى منيع في ملكه ، ) حكيم ) [ آية : 49 ] في أمره حكم النصر .
تفسير سورة الأنفال من آية [ 50 - 54 ](2/22)
صفحة رقم 23
الأنفال : ( 50 ) ولو ترى إذ . . . . .
فلما قتل هؤلاء النفر من المشركين ، ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ، فذلك قوله
عز وجل : ( ولو ترى ( يا محمد ، ) إذ يتوفى الذين كفروا ( بتوحيد الله
) الملائكة ( ، يعنى ملك الموت وحده ، ) يضربون وجوههم وأدبارهم ( في الدنيا ،
ثم انقطع الكلام ، فلما كان يوم القيامة دخلوا النار ، تقول لهم خزنة جهنم : ( وذوقوا عذاب الحريق ) [ آية : 50 ] .
الأنفال : ( 51 ) ذلك بما قدمت . . . . .
) ذلك ( العذاب ) بما قدمت أيديكم ( من الكفر والتكذيب ، ) وأن الله ليس بظلام للعبيد ) [ آية : 51 ] ، يقول : ليس يعذبهم على غير ذنب .
الأنفال : ( 52 ) كدأب آل فرعون . . . . .
ثم نعتهم ، فقال : ( كدأب ءال فرعون ( ، يقول : كأشباه آل فرعون في
التكذيب والجحود ، ) و ( كأشباه ) والذين من قبلهم ( ، أي من قبل فرعون وقومه
من الأمم الخالية ، قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وإبراهيم ، وقوم شعيب ، ) كفروا بئايت
الله ( ، يعنى بعذاب الله بأنه ليس بنازل بهم في الدنيا ، ) فأخذهم الله ( ، يعنى
فأهلكهم الله ، ) بذنوبهم ( ، يعنى بالكفر والتكذيب ، ) إن الله قوي ( في أمره حين
عذبهم ، ) شديد العقاب ) [ آية : 52 ] إذا عاقب .
الأنفال : ( 53 ) ذلك بأن الله . . . . .
) ذلك ( العذاب ) بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم ( على أهل مكة ،
أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، ثم بعث فيهم محمداً رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فهذه النعمة
التي غيروها ، فلم يعرفوا ربها ، فغير الله ما بهم النعم ، فذلك قوله : ( حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ) [ آية : 53 ] .
الأنفال : ( 54 ) كدأب آل فرعون . . . . .
ثم قال : ( كدأب ( ، يعنى كأشباه ) ءال فرعون ( وقومه في الهلاك ببدر ،
)( والذين من قبلهم ( ، يعنى الذين قبل آل فرعون من الأمم الخالية ، ) كذبوا بئايت
ربهم ( ، يعنى بعذاب ربهم في الدنيا بأنه غير نازل بهم ، ) فأهلكنهم بذنوبهم ( ،(2/23)
صفحة رقم 24
يقول : فعذبناهم بذنوبهم في الدنيا وبكفرهم وبتكذيبهم ، ) وأغرقنا ءال فرعون
وكل ( ، يعنى آل فرعون والأمم الخالية الذين كذبوا في الدنيا ، ) كانوا ظلمين ) [ آية :
54 ] ، يعنى مشركين .
تفسير سورة الأنفال من آية [ 55 - 59 ] .
الأنفال : ( 55 ) إن شر الدواب . . . . .
) إن شر الدواب عند الله الذين كفروا ( ، يعنى بتوحيد الله ، ) فهم ( ، يعنى بأنهم ) لا يؤمنون ) [ آية : 55 ] ، وهم يهود قريظة ، فمنهم حيى بن أخطب اليهودي وإخوته ،
ومالك بن الضيف .
الأنفال : ( 56 ) الذين عاهدت منهم . . . . .
ثم أخبر عنهم ، فقال : ( الذين عهدت منهم ( يا محمد ، ) ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ( ، وذلك أن اليهود نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأعانوا
مشركى مكة بالسلاح على قتال النبى ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، ثم يقولون : نسينا وأخطأنا ، ثم
يعاهدهم الثانية ، فينقضون العهد ، فذلك قوله : ( ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ( ،
يعنى في كل عام مرة ، ) وهم لا يتقون ) [ آية : 56 ] نقض العهد .
الأنفال : ( 57 ) فإما تثقفنهم في . . . . .
) فإما تثقفنهم في الحرب ( ، يقول : فإن أدركتهم في الحرب ، يعنى القتال ،
فأسرتهم ، ) فشرد بهم من خلفهم ( ، يقول : نكل بهم لمن بعدهم من العدو وأهل عهدك ، ) لعلهم يذكرون ) [ آية : 57 ] ، يقول : لكي يذكروا النكال ، فلا ينقضون العهد .
الأنفال : ( 58 ) وإما تخافن من . . . . .
ثم قال : ( وإما تخافن ( ، يقول : وإن تخافن ) من قوم خيانة ( ، يعني بالخيانة(2/24)
صفحة رقم 25
نقض العهد ، ) فانبذ إليهم على سواء ( ، يقول : على أمر بين ، فارم إليهم بعهدهم ،
)( إن الله لا يحب الخائنين ) [ آية : 58 ] ، يعنى اليهود .
الأنفال : ( 59 ) ولا يحسبن الذين . . . . .
) ولا يحسبن الذين كفروا ( بتوحيد الله ، يعني كفار العرب ، ) سبقوا ( سابقي
الله بأعمالهم الخبيثة ، ) إنهم لا يعجزون ) [ آية : 59 ] ، يقول : إنهم لن يفوقوا الله بأعمالهم الخبيثة حتى يعاقبهم الله بما يقولون .
تفسير سورة الأنفال من آية [ 60 - 63 ] .
الأنفال : ( 60 ) وأعدوا لهم ما . . . . .
ثم قال : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ( ، يعنى السلاح ، وهو الرمي ، ) ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ( ، يعنى كفار العرب ، ) وءاخرين من
دونهم لا تعلمونهم ( ، يقول : لا تعرفهم يا محمد ، يقول : ترهبون فيما استعددتم به آخرين
من دون كفار العرب ، يعنى اليهود ، لا تعرفهم يا محمد ، ) الله يعلمهم ( ، يقول : الله
يعرفهم ، يعني اليهود ، ثم قال : ( وما تنفقوا من شيء ( من أمر السلاح والخيل ، ) في سبيل الله يوف إليكم ( ، يقول : يوفر لكم ثواب النفقة ، ) وأنتم لا تظلمون ) [ آية :
60 ] ، يقول : وأنتم لا تنقصون يوم القيامة .
الأنفال : ( 61 ) وإن جنحوا للسلم . . . . .
ثم ذكر يهود قريظة ، فقال : ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ( ، يقول : إن أرادوا(2/25)
صفحة رقم 26
الصلح فأرده ، ثم نسختها الآية التي في سورة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون ) [ محمد : 35 ] ، ثم قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وتوكل على الله ( ، يقول :
وثق بالله ، فإنه معك في النصر إن نقضوا الصلح ، ) إنه هو السميع ( لما أرادوا من
الصلح ، ) العليم ) [ آية : 61 ] به .
الأنفال : ( 62 ) وإن يريدوا أن . . . . .
ثم قال : ( وإن يريدوا أن يخدعوك ( يا محمد بالصلح لتكف عنهم ، حتى إذا جاء
مشركو العرب ، أعانوهم عليك ، يعنى يهود قريظة ، ) فإن حسبك الله هو الذي أيدك ( ، يعنى هو الذي قواك ) بنصره ( ، يعنى جبريل ، عليه السلام ، وبمن معه ،
)( وبالمؤمنين ) [ آية : 62 ] من الأنصار يوم بدر ، وهو فاعل ذلك أيضاً ، وأيدك على
يهود قريظة .
الأنفال : ( 63 ) وألف بين قلوبهم . . . . .
ثم ذكر الأنصار ، فقال : ( وألف بين قلوبهم ( بعد العداوة التي كانت بينهم في أمر
شمير وحاطب ، فقال : ( لو أنفقت ( يا محمد على أن تؤلف بين قلوبهم ) ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ( بعد العداوة في دم شمير
وحاطب بالإسلام ، ) إنه عزيز ( ، يعنى منيع في ملكه ، ) حكيم ) [ آية : 63 ] في
أمره ، حكم الألفة بين الأنصار بعد العداوة .
تفسير سورة الأنفال من آية [ 64 - 69 ] .
الأنفال : ( 64 ) يا أيها النبي . . . . .
) يا أيها النبي حسبك الله و ( حسب ) ومن اتبعك من المؤمنين ) [ آية : 64 ](2/26)
صفحة رقم 27
بالله عز وجل ، نزلت بالبيداء في غزاة بدر قبل القتال ، وفيها ، وفيها تقديم .
الأنفال : ( 65 ) يا أيها النبي . . . . .
) يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ( ، يعنى حضض المؤمنين على القتال
ببدر ، ) إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا ( ، يعنى يقاتلوا ، ) مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ( ، يعنى يقاتلوا ، ) ألفا من الذين كفروا ( بالتوحيد ، كفار مكة
ببدر ، ) بأنهم قوم لا يفقهون ) [ آية : 65 ] الخير ، فجعل الرجل من المؤمنين ، يقاتل
عشرة من المشركين ، فلم يكن فرصة الله لا بد منه ، ولكن تحريض من الله ليقاتل الواحد
عشرة .
الأنفال : ( 66 ) الآن خفف الله . . . . .
فلم يطق المؤمنون ذلك ، فخفف الله عنهم بعد قتال بدر ، فأنزل الله : ( الئن خفف
الله عنكم ( ، يعنى بعد قتال بدر ، ) وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم ( عدة
) مائه ( رجل ) صابرة يغلبوا مائتين ( ، يعنى يقاتلوا مائتين ، ) وإن يكن منكم ألف (
رجل ) يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ) [ آية : 66 ] في النصر لهم على عدوهم ، فأمر الله أن يقاتل الرجل المسلم وحده رجلين من المشركين ، فمن أشره
المشركون بعد التخفيف ، فإنه لا يفادى من بيت المال إذا كان المشركون مثل المؤمنين ،
وإن كان المشركون أكثر من الضعف ، فإنه يفادى من بيت المال ، فينبغي للمسلمين أن
يقاتلوا الضعف من المشركين إلى أن تقوم الساعة ، وكانت المنزلة قبل التخفيف لا يفتدى
الأسير إلا على نحو ذلك .
الأنفال : ( 67 ) ما كان لنبي . . . . .
) ما كان لنبي ( من قبلك يا محمد ) أن يكون له أسرى حتى يثخن ( عدوه
) في الأرض ( ويظهر عليهم ، ) تريدون عرض الدنيا ( ، يعنى المال ، وهو الفداء من
منيع في ملكه ، ) حكيم ) [ آية : 67 ] في أمره ، وذلك أن الغنائم لم تحل لأحد من(2/27)
صفحة رقم 28
الأنبياء ولا المؤمنين قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
الأنفال : ( 68 ) لولا كتاب من . . . . .
وأخبر الله الأمم : إني أحللت الغنائم للمجاهدين من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان المؤمنون
إذا أصابوا الغنائم جمعوها ثم أحرقوها بالنيران ، وقتلوا الناس والأسارى والدواب ، وهذا
في الأمم الخالية ، فذلك قوله : ( لولا كتاب من الله سبق ( في تحليل الغنائم لأمة محمد
( صلى الله عليه وسلم ) في علمه في اللوح المحفوظ ، ثم خالفتم المؤمنين من قبلكم ، ) لمسكم ( ، يعنى
لأصابكم ) فيما أخذتم ( من الغنيمة ) عذاب عظيم ) [ آية : 68 ] .
الأنفال : ( 69 ) فكلوا مما غنمتم . . . . .
ثم طيبها لهم وأحلها ، فقال : ( فكلوا مما غنمتم ( ببدر ، ) حلالا طيبا واتقوا الله (
ولا تعصوه ، ) إن الله غفور ( ذو تجاوز لما أخذتم من الغنيمة قبل حلها ، ) رحيم (
[ آية : 69 ] بكم إذ أحلها لكم ، وكان النبى ( صلى الله عليه وسلم ) جعل عمر بن الخطاب ، وخباب بن
ألأرت ، أولياء القبض يوم بدر ، وقسمها النبى ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة ، وانطلق بالأسارى فيهم
العباس بن عبد المطلب ، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وذلك أن العباس بن عبد
المطلب يوم أسر أخذ منه عشرين أوقية من ذهب ، فلم تحسب له من الفداء ، وكان فداء
كل أسير من المشركين أربعين أوقية من ذهب وكان أول من فدى نفسه أبو وديعة
ضمرة بن صبيرة السهمي ، وسهيل بن عمرو ، من عامر بن لؤى ، القرشيان .
فقال النبى ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أضعفوا الفداء على العباس ' ، وكلف أن يفتدى ابني أخيه ، فأدى
عنهما ثمانية أوقية من ذهب ، وكان فداء العباس بمثانين أوقية ، وأخذ منه عشرون أوقية ،
فأخذ منه يومئذ مائة أوقية وثمانون أوقية ، فقال العباس للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لقد تركتني ما حييت
أسأل قريشاً بكفي ، وقال له ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أين الذهب الذي تركته عند امرأتك أم الفضل ؟ ' ،
فقال العباس : أي الذهب ؟ فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إنك قلت لها : أني لا أدرى ما
يصيبني في وجهي هذا ، فإن حدث بي ما حدث ، فهو لك ولودك ' ، فقال : يا ابن أخي ،
من أخبرك ؟ قال : ' الله أخبرني ' ، فقال العباس : أشهد أنك صادق ، وما علمت أنك
رسول قط قبل اليوم ، قد علمت أنه لم يطلعك عليه إلا عالم السرائر ، وأشهد ألا إله إلا
الله وأنك عبده ورسوله ، وكفرت بما سواه .
تفسير سورة الأنفال من آية [ 70 - 71 ](2/28)
صفحة رقم 29
الأنفال : ( 70 ) يا أيها النبي . . . . .
وأمر ابني أخيه فأسلما ، ففيهما نزلت : ( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ( ، يعنى العباس وابني أخيه : ( إن يعلم الله في قلوبكم خيرا ( ، يعنى إيمانا ،
كقوله : ( لن يؤتيهم الله خيرا ) [ هود : 31 ] ، يعنى إيماناً ، وهذا في هود ، ) يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ( من الفداء ، فوعدهم الله أن يخلف لهم أفضل ما أخذ منهم ،
)( ويغفر لكم ( ذنوبكم ، ) والله غفور ( لما كان منهم من الشرك من ذنوبهم ، ذو
تجاوز ، ) رحيم ) [ آية 701 ] بهم في الإسلام .
الأنفال : ( 71 ) وإن يريدوا خيانتك . . . . .
) وإن يريدوا خيانتك ( ، يعنى الكفر بعد إسلامهم واستحيائك إياهم ، ) فقد خانوا الله من قبل ( ، يقول : فقد كفروا بالله من قبل هذا الذي نزل بهم ببدر ، ) فأمكن ( الله
) منهم ( النبي ، عليه السلام ، يقول : إن خانوا أمكنتك منهم فقتلتهم وأسرتهم كما
فعلت بهم ببدر ، ) والله عليم ( بخلقه ، ) حكيم ) [ آية : 71 ] في أمره ، حكم أن يمكنه
منهم .
فقال العباس بعد ذلك : لقد أعطاني الله خصلتين ، ما من شيء هو أفضل منهما ، أما
أحدهما : فالذهب الذي أخذ منى ، فآتاني الله خيراً منه عشرين عبداً ، وأما الثانية : فتنجيز
موعود الله الصادق ، وهو المغفرة ، فليس أحد أفضل من هذا . ومن كان من أسارى بدر
وليس له فدى ، فإنه يدفع إليه عشرة غلمان يعلمهم الكتاب ، فإذا حذقوا برئ الأسير من
الفداء وكان أهل مكة يكتبون ، وأهل المدينة لا يكتبون ، وكان النبى ( صلى الله عليه وسلم ) قد استشار
أصحابه في أسارى بدر ، فقال عمر بن الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : اقتلهم ، فإنهم رءوس الكفر
وأئمة الضلال ، وقال أبو بكر : لا تقتلهم ، فقد شفي الله الصدور وقتل المشركين
وهزمهم ، فآدهم أنفسهم ، ليكن ما نأخذ منهم في قوة المسلمين وعونا على حرب
المشكرين ، وعسى الله أن يجعلهم أعواناً لأهل الإسلام فيسلموا .
فأعجب النبى ( صلى الله عليه وسلم ) بقول أبى بكر الصديق ، وكان النبى ( صلى الله عليه وسلم ) رحيماً ، وأبو بكر أيضاً
رحيماً ، وكان عمر ماضياً ، فأخذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقول أبى بكر ، ففاداهم ، فأنزل الله عز وجل(2/29)
صفحة رقم 30
توفيقاً لقول عمر : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ( ، فقال
النبى ( صلى الله عليه وسلم ) لعمر : ' أحمد الله إن ربك وأتاك على قولك ' ، فقال عمر : الحمد لله الذي
وآتاني على قولي في أسارى بدر ، وقال النبى : ' لو نزل عذاب من السماء ، ما نجا
منا أحد إلا عمر بن الخطاب ، إنه نهاني فأبيت ' .
تفسير سورة الأنفال من آية [ 72 ] .
الأنفال : ( 72 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) إن الذين ءامنوا ( ، يعنى صدقوا بتوحيد الله ، ) وهاجروا ( إلى المدينة ،
)( وجهدوا ( العدو
) بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ( ، فهؤلاء المهاجرون ، ثم ذكر
الأنصار ، فقال : ( والذين ءاووا ( النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ونصروا ( النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ثم جمع
المهاجرين والأنصار ، فقال : ( أولئك بعضهم أولياء بعض ( في الميراث ؛ ليرغبهم بذلك في
الهجرة ، فقال الزبير بن العوام ونفر معه : كيف يرثنا غير أوليائنا ، وأولياؤنا على ديننا ،
فمن أجل أنهم لم يهاجروا لا ميراث بيننا ، فقال الله بعد ذلك : ( والذين ءامنوا ( ، يعنى
صدقوا بتوحيد الله ، ) ولم يهاجروا ( إلى المدينة ، ) ما لكم من وليتهم من شئٍ ( في
الميراث ) حتى يهاجروا ( إلى المدينة ، ثم قال : ( وإن استنصروكم في الدين ( يا معشر
المهاجرين إخوانكم الذين لم يهاجروا إليكم ، فأتاهم عدوهم من المشركين ، فقاتلوهم
ليردوهم عن الإسلام ، ) فعليكم النصر ( فانصروهم ، ثم استثنى ، فقال : ( إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ( ، يقول : إن استنصر الذين لم يهاجروا إلى المدينة على أهل
عهدكم ، فلا تنصروهم ، ) والله بما تعملون بصير ) [ آية : 72 ] .
تفسير سورة الأنفال من آية [ 73 - 74 ] .
الأنفال : ( 73 ) والذين كفروا بعضهم . . . . .
) والذين كفروا ( بتوحيد الله ، ) بعضهم أولياء بعض ( في الميراث والنضرة ، ) إلا(2/30)
صفحة رقم 31
تفعلوه ( ، أي إن لم تنصروهم على غير أهل عهدكم من المشركين في الدين ، ) تكن
فتنةٌ ( ، يعنى كفر ، ) في الأرض وَ ) ) يكن ( ( وفساد كبيرٌ ) [ آية : 73 ] في
الأرض .
الأنفال : ( 74 ) والذين آمنوا وهاجروا . . . . .
) والذين ءامنوا ( ، يعنى صدقوا بتوحيد الله ، ) وهاجروا ( من مكة إلى المدينة ،
)( وجهدوا ) ) العدو ( ( في سبيل الله ( ، يعنى في طاعة الله ، فهؤلاء المهاجرون ، وإنما سموا
لمهاجرين ؛ لأنهم هجروا قومهم من المشركين ، وفارقوهم إذ لم يكونوا على دينهم ، قال :
( والذين ءاووا ( ، يعنى ضموا النبى ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أنفسهم بالمدينة ، ) ونصروا ( النبى ( صلى الله عليه وسلم ) ،
فهؤلاء الأنصار ، ثم جمع المهاجرين والأنصار ، فقال : ( أولئك هم المؤمنون ( ، يعنى
المصدقين ) حقا لهم ( بذلك ) مغفرةٌ ) ) لذنوبهم ( ( ورزق كريم ) [ آية : 74 ] ، يعنى
رزقاً حسناً في الآخرة ، وهى الجنة .
تفسير سورة الأنفال من آية [ 75 ] .
الأنفال : ( 75 ) والذين آمنوا من . . . . .
ثم قال بعد ذلك : ( والذين ءامنوا من بعد ( هؤلاء المهاجرين والأنصار ، ) وهاجروا (
من ديارهم إلى المدينة ، ) وجهدوا ) ) العدو ( ( معكم فأولئك منكم ( في الميراث ، ثم نسخ
هؤلاء الآيات بعد هذه الآية ، ) وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ ( في الميراث ، فورث
المسلمون بعضهم بعضاً ، من هاجر ومن لميهاجر في الرحم والقرابة ، ) في كتب الله إن
الله بكل شئٍ عليمٌ ) [ آية : 75 ] في أمر المواريث حين حرمهم الميراث ، وحين أشركهم
بعد ذلك .
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني أبى ، قال : حدثنا الهذيل ، عن أبى يوسف ، عن الكلبي ،
عن أبى صالح ، قال : إن الخمس كان يقسم على عهد النبى ( صلى الله عليه وسلم ) خمسة أسهم : لله
ولرسوله سهم ، ولذي القربى سهم ، ولليتامى سهم ، وللمساكين سهم ، ولابن السبيل
سهم ، قال : وقسمه عمر ، وأبو بكر ، وعثمان ، وعلى ، على ثلاثة أسهم ، أسقطوا سهم
ذي القربى ، وقسم على ثلاثة أسهم ، وإنما يوضع من أولئك في أهل الحاجة والمسكنة ،
ليس يعطى الأغنياء شيئاً ، فهذا على موضع الصدقة .
حدثنا عبيد الله ، قال حدثنا أبى ، قال : حدثنا الهذيل ، عن محمد بن عبد الحق ، عن
أبى جعفر محمد بن على ، عليه السلام ، قال : قلت له : ما كان رأى علي ، عليه السلام ،(2/31)
صفحة رقم 32
في الخمس ؟ قال : رأى أهل بيته ، قال : قلت : فكيف لم يمضه على ذلك حين ولى ؟ قال :
كره أن يخالف أبا بكر وعمر .
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني أبى ، قال : حدثنا الهذيل ، عن مقاتل ، قال : كان النبى
( صلى الله عليه وسلم ) يأخذ من الغنيمة قبل أن تقسم صفياً لنفسه ، ويأخذ مع ذوى القربى ، ويأخذ سهم
الله تعالى ورسوله ، ثم يأخذ مع المقاتلة ، فكان يأخذ من أربعة وجوه ( صلى الله عليه وسلم ) .(2/32)
صفحة رقم 33
( سورة التوبة )
( سورة براءة مدينة كلها ، غير آيتين ، هما )
1 ( قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول ) [ آية : 128 ، 129 ] إلى آخر السورة ، ) 1 ( فإنهما مكيتان ، وهى مائة وسبع وعشرون آية كوفية )
سبب النزول
لما نزلت براءة ، بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر الصديق على حج الناس ، وبعث معه ببراءة ،
من أول السورة إلى تسع آيات ، فنزل جبريل ، فقال : يا محمد ، إنه لا يؤدي عنك إلا رجل
منك ، ثم اتبعه على بن أبي طالب ، فأدركه بذي الحليفة على ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ،
فأخذها منه ، ثم رجع أبو بكر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال له : بأبي أنت وأمي ، هل أنزل الله في
من شيء ؟ قال : ' لا ، ولكن لا يبلغ عني إلا رجل مني ، أما ترى يا أبا بكر أنك صاحبي
في الغار ، وأنك أخي في الإسلام ، وأنك ترد على الحوض يوم القيامة ؟ ' ، قال : بلى يا
رسول الله ، فمضى أبو بكر على الناس ، ومضى على ببراءة من أول السورة إلى تسع
آيات ، فقام على يوم النحر بمنى ، فقرأها على الناس .
تفسير سورة التوبة من الآية [ 1 - 2 ] .
التوبة : ( 1 ) براءة من الله . . . . .
) براءة من الله ورسوله ( من العهد غير أربعة أشهر ، ) إلى الذين عهدتم مَن
المشركينَ ) [ آية : 1 ] ، نزلت في ثلاثة أحياء من العرب ، منهم خزاعة ، ومنهم هلال بن
عويمر ، وفي مدلج ، منهم سراقة بن مالك بن خثعم الكناني ، وفي بني خزيمة بن عامر ،
وهما حيان من كنانة ، كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عاهدهم بالحديبية سنتين ، صالح عليهم المخش
بن
خويلد بن عمارة بن المخش ، فجعل الله عز وجل للذين كانوا في العهد أجلهم أربعة
أشهر من يوم النحر إلى عشر من ربيع الآخر .(2/33)
صفحة رقم 34
التوبة : ( 2 ) فسيحوا في الأرض . . . . .
فقال : ( فسيحوا في الأرض ( ، يقول : سيروا في الأرض ، ) أربعة أشهر ( آمنين
حيث شئتم ، ثم خوفهم ، فقال : ( واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين (
[ آية : 2 ] ، فلم يعاهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هذه الآية أحداً من الناس .
تفسير سورة التوبة من الآية : [ 2 - 5 ] .
التوبة : ( 3 ) وأذان من الله . . . . .
ثم ذكر مشركي مكة الذين لا عهد لهم ، فقال : ( وأذنٌ مِنَ اللهِ ورَسُولهِ إِلى النّاس
يَوم الحَج الأكَبَرِ ( ، يعني يوم النحر ، وإنما سمى الحج الأكبر ؛ لأن العمرة هي الحج
الأصغر ، وقال : ( أَن الله بَرِئٌ من المُشركينَ ورَسُولهِ ( من العهد ، ) فإن تبتم ( يا معشر
المشركين من الشرك ، ) فهو خير لكم ( من الشرك ، ) وإن توليتم ( ، يقول : إن
أبيتم التوبة فلم تتوبوا ، ) فاعلموا أنكم غير معجزي الله ( ، خوفهم كما خوف أهل
العهد أنكم أيضاً غير سابقي الله بأعمالكم الخبيثة حتى يجزيكم بها ، ثم قال : ( وبشر الذين كفروا ( بتوحيد الله ) بعذاب أليم ) [ آية : 3 ] ، يعني وجيع .
التوبة : ( 4 ) إلا الذين عاهدتم . . . . .
ثم جعل من لا عهد له أجله خمسين يوماً من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم ، ثم رجع
إلى خزاعة ، ونبي مدلج ، وبني خزيمة ، في التقديم ، فاستثنى ، فقال : ( إلا الذين عاهدتم من المشركين ( ، فلم يبين الله ورسوله من عهدهم في الأشهر الأربعة ، ) ثم لم ينقصوكم شيئا ( في الأشهر الأربعة ، ) وَلَم يُظهرواْ عليكم أحداً ( ، يعني ولم يعينوا(2/34)
صفحة رقم 35
على قتالكم أحداً من المشركين ، يقول الله : إن لم يفعلوا ذلك ، ) فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ( ، يعنى الأشهر الأربعة ، ) إن الله يحب المتقين ) [ آية : 4 ] الذين يتقون نقض
العهد .
التوبة : ( 5 ) فإذا انسلخ الأشهر . . . . .
ثم ذكر من لم يكن له عهد غير خمسين يوماً ، فقال : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم (
يعنى عشرين من ذي الحجة وثلاثين يوماً من المحرم ، ) فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ( ، يعنى هؤلاء الذين لا عهد لهم إلا خمسين يوماً أين أدركتموهم في الحل
والحرم ، ) وخذوهم ( ، يعنى وأسروهم ، ) واحصروهم ( ، يعنى والتمسوهم ، ) واقعدوا لهم كل مرصد ( ، يقول : وأرصدوهم بكل طريق وهم كفار ، ) فإن تابوا ( من
الشرك ، ) وأَقَامُواْ الصَلوةَ وَءاتوا الزكوة فخلواْ سَبِيلهُمُ ( ، يقول : فاتركوا طريقهم ، فلا
تظلموهم ، ) إن الله غفور ( للذنوب ما كان في الشرك ، ) رحيم ) [ آية : 5 ] بهم في
الإسلام .
تفسير من سورة التوبة : من الآية : [ 6 - 12 ](2/35)
صفحة رقم 36
التوبة : ( 6 ) وإن أحد من . . . . .
ثم قال ، يعنى هؤلاء الكفار من أهل مكة : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ( ، يقول : فإن استأمنك أحد من المشركين بعد خمسين يوماً فأمنه من القتل
) حتى يسمع كلام الله ( ، يعنى القرآن ، فإن كره أن يقبل ما في القرآن ، ) ثُم أبلغهُ
بأنهُم قَومٌ لا يعلمونَ ) [ آية : 6 ] بتوحيد الله .
التوبة : ( 7 ) كيف يكون للمشركين . . . . .
ثم ذكرهم أيضاً مشركي مكة ، فقال : ( كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ( ، ثم استثنى خزاعة ، وبني مدلج ، وبني خزيمة ، الذين أجلهم أربعة
أشهر ، فقال : ( إلا الذين عَهَدتُم عِندَ المَسجِدِ الحَرامِ ( بالحديبية ، فلهم العهد ،
)( فما استقاموا لكم ( بالوفاء إلى مدتهم ، يعنى تمام هذه أربعة الأشهر من يوم النحر ،
)( فاستقيموا لهم ( بالوفاء ، ) إن الله يحب المتقين ) [ آية : 7 ] .
التوبة : ( 8 ) كيف وإن يظهروا . . . . .
ثم حرض المؤمنين على قتال كفار مكة الذين لا عهد لهم ؛ لأنهم نقضوا العهد ، فقال :
( كيف ( لا تقاتلونهم ، ) وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة (
يقول : لا يحفظوا فيكم قرابة ولا عهداً ، ) يرضونكم بأفواههم ( ، يعنى بألسنتهم ،
)( وتأبى قلوبهم ( ، وكانوا يحسنون القول للمؤمنين ، فيرضونهم وفي قلوبهم غير ذلك ،
فأخبر عن قولهم ، فذلك قوله : ( يرضونكم بأفواههم ( ، يعنى بألسنتهم ، ) وتأبى قلوبهم ( ) وأكثرهم فاسقون ) [ آية : 8 ] .
التوبة : ( 9 ) اشتروا بآيات الله . . . . .
ثم أخبر عنهم ، فقال : ( اشترواْ بِئَايَتِ اللهِ ثمناً قَليلاً ( ، يعنى باعوا إيماناً بالقرآن
بعرض من الدنيا يسيراً ، وذلك أن أبا سفيان كان يعطي الناقة والطعام والشيء ليصد
بذلك الناس عن متابعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذلك قوله : ( فصدوا ( الناس ) عن سبيله ( ، أي
عن سبيل الله ، يعنى عن دين الله ، وهو الإسلام ، ) إنهم ساء ( ، يعنى بئس ) ما كانُوا(2/36)
صفحة رقم 37
يعملُونَ ) [ آية : 9 ] ، يعنى بئس ما عملوا بصدهم عن الإسلام .
التوبة : ( 10 ) لا يرقبون في . . . . .
ثم أخبر أيضاً عنهم ، فقال : ( لا يَرقبونَ في مؤمن إِلا وَلا ذِمةً ( ، يعنى لا يحفظون في
مؤمن قرابة ولا عهداً ، ) وَأُولئكَ هُمُ المُعتدُونَ ) [ آية : 10 ] .
التوبة : ( 11 ) فإن تابوا وأقاموا . . . . .
يقول : ( فَإن تابُواْ ( من الشرك ، ) وأَقامُواْ الصَلوة وَءاتوا الزَّكوة ( ، أي أقروا
بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ) فإخوانكُم في الدين ونُفصلُ ( ونبين ) الأيت لِقَومٍ يَعلَمُونَ ) [ الآية : 11 ] بتوحيد الله .
التوبة : ( 12 ) وإن نكثوا أيمانهم . . . . .
) وَإِن نكثُواْ أَيمنهُم مِن بَعدِ عَهدِهِم ( ، يعنى نقضوا عهدهم ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
واعد كفار مكة سنتين ، وأنهم عمدوا فأعانوا كنانة بالسلاح على قتال خزاعة ، وخزاعة
صلح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكان في ذلك نكث للعهد ، فاستحل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قتالهم ، فذلك قوله :
( وإِن نكثُوا أَيمنهُم ( ) وطَعَنُواْ في دِينكُم ( ، فقالوا : ليس دين محمد بشيء ،
)( فقَتلُواْ أَئمةَ الكُفرِ ( ، يعنى قادة الكفر كفار قريش : أبا سفيان بن حرب ،
والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، وغيرهم ، ) إِنهُم لاَ
أَيمَن لَهم ( ؛ لأنهم نقضوا العهد الذي كان بالحديبية ، يقول : ( لعلهُم ( ، يعنى لكي
) ينتهونَ ) [ آية : 12 ] عن نقض العهد ولا ينقضون .
تفسير سورة التوبة من الآية : [ 13 - 17 ]
التوبة : ( 13 ) ألا تقاتلون قوما . . . . .
ثم حرض المؤمنين على قتالهم ، فقال : ( أَلا تُقتلُونَ قَوماً نَكثُواْ أَيمنهُم ( ،
يعنى نقضوا عهدهم حين أعانوا كنانة بالسلاح على خزاعة ، وهم صلح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( وَهمُواْ بِإخراج الرَّسُول ( ، يعنى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة حين هموا في دار الندوة بقتل
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أو أو بوثاقه أو بإخراجه ، ) وَهُم بَدءوكُم أَول مَرَةٍ ( بالقتال حين(2/37)
صفحة رقم 38
ساروا إلى قتالكم ببدر ، ) أتخشونهم ( فلا تقاتلونهم ، ) فالله أحق أن تخشوه ( في
ترك أمره ، ) إن كنتم مؤمنين ) [ آية : 13 ] به ، يعنى إن كنتم مصدقين بتوحيد الله عز
وجل .
التوبة : ( 14 ) قاتلوهم يعذبهم الله . . . . .
ثم وعدهم النصر ، فقال : ( قتلُوهُم يُعذبهُمُ الله بِأيديكُم ( بالقتل ، ) ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ) [ آية : 14 ] ،
التوبة : ( 15 ) ويذهب غيظ قلوبهم . . . . .
وذلك أن بنى كعب قاتلوا
خزاعة ، فهزموهم وقتلوا منهم ، وخزاعة صلح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأعانوهم كفار مكة بالسلاح
على خزاعة ، فاستحل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قتال كفار مكة بذلك ، وقد ركب عمرو بن عبد مناة
الخزاعي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة مستيعناً به ، فقال له :
اللهم إني ناشد محمداً
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
كان لنا أبا وكنا ولداً
نحن ولدناكم فكنتم ولداً
ثمت أسلمنا ولم ننزع يداً
فانصر رسول الله نصراً أيداً
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا
في قليق كالبحر يجرى مزيداً
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكد
ونصبوا لي في الطريق مرصدا
وبيتونا بالوتين هجدا
وقتلونا ركعاً وسجداً
وزعموا أن لست أدعو أحداً
وهم أذل وأقل عدداً
قال : فدمعت عينا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ونظر إلى سحابة قد بعثها الله عز وجل ، فقال : ' والذي
نفسي بيده ، إن هذه السحابة لتستهل بنصر خزاعة على بني ليث بن بكر ' ، ثم خرج
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من المدينة ، فعسكر وكتب حاطب إلى أهل مكة بالعسكر ، وسار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى
مكة فافتتحها ، وقال لأصحابه : ' كفوا السلاح ، إلا عن بني بكر إلى صلاة العصر ' ، وقال
لخزاعة أيضاً : ' كفوا ، إلا عن بني بكر ' ، فأنزل الله تعالى : ( ويشف صدور قوم مؤمنين ( ، يعنى قلوب قوم مؤمنين ، يعنى خزاعة ، ) ويذهب غيظ قلوبهم ( ، وشفى
الله قلوب خزاعة من بني ليث بن بكر ، وأذهب غيظ قلوبهم ، ثم قال : ( ويتوب الله على من يشاء ( ، فيهديهم لدينه ، ) والله عليم ( بخلقه ) حكيم ) [ آية : 15 ] في أمره .(2/38)
صفحة رقم 39
التوبة : ( 16 ) أم حسبتم أن . . . . .
) أم حسبتم أن تتركوا ( على الإيمان ولا تبتلوا بالقتل ، ) ولما يعلم الله ( ، يعنى
ولما يرى الله ) الذين جهدوا ( العدو ) منكم ( في سبيله ، يقول : لا يرى جهادكم
حتى تجاهدوا ، ) ولم يتخذوا من دون الله ولا ( من دون ) رسوله ولا ( من دون
) المؤمنين وليجة ( يتولجها ، يعنى البطانة من الولاية للمشركين ، ) والله خبير بما تعملون ) [ آية : 16 ] .
التوبة : ( 17 ) ما كان للمشركين . . . . .
) ما كان للمشركين ( ، يعنى مشركى مكة ، ) أن يعمروا مسجد الله ( ، يعنى
المسجد الحرام ، ) شهدين على أنفسهم بالكفر ( ، نزلت في العباس بن عبد المطلب ،
وفي بنى أبي طلحة ، منهم : شيبة بن عثمان صاحب الكعبة ، وذلك أن العباس ، وشيبة ،
وغيرهم ، أسروا يوم بدر ، فأقبل عليهم نفر من المهاجرين ، فيهم على بن أبى طالب
والأنصار وغيرهم ، فسبوهم وعيروهم بالشرك ، وجعل علي بن أبى طالب يوبخ العباس
بقتال النبى ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبقطيعته الرحم ، وأغلط له القول ، فقال له العباس : ما لكم تذكرون
مساوئنا وتكتمون محاسننا ، قالوا : وهل لكم محاسن ؟ قال : نعم ، لنحن أفضل منكم أجراً ،
إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقى الحجيج ، ونفك العانى ، يعنى الأسير ،
فافتخروا على المسلمين بذلك ، فأنزل الله : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله
شهدين على أنفسهم بالكفر ( .
) أولئك حبطت أعملهم ( ، يعنى ما ذكروا من محاسنهم ، يعنى بطلت أعمالهم في
الدنيا والآخرة ، يقول : ليس لهم ثواب في الدنيا ولا في الآخرة ؛ لأنها كانت في غير
إيمان ، ولو آمنوا لأصابوا الثواب في الدنيا والآخرة ، كما قال نوح ، وهود ، لقومه :
( استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم ( بالمطر ) مدرارا ) [ هود :
[ 52 ] ، يعنى متتابعاً : ( ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهار ) [ نوح : 12 ] ، فهذا في الدنيا لو آمنوا ، ثم قال : ( وفي النار هُم خَلدين (
[ آية : 17 ] لا يموتون .(2/39)
صفحة رقم 40
تفسير سورة التوبة من الآية [ 18 ]
التوبة : ( 18 ) إنما يعمر مساجد . . . . .
) إنما يعمرُ مَسجِدَ الله من ءامن بِالله ( ، يعنى صدق بالله ، ) واليوم الآخر (
يعنى من صدق بتوحيد الله والبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، ) وأقام الصلاة ( لوقتها ،
أتم ركوعها وسجودها ، ) وَءاتَى الزَّكوة ( ، يعني وأعطى زكاة ماله ، ) ولم يخش إلا الله ( ، يعنى ولم يعبد إلا الله ، ) فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) [ آية : 18 ]
من الضلالة .
تفسير سورة التوبة من الآية : [ 19 - 22 ] .
التوبة : ( 19 ) أجعلتم سقاية الحاج . . . . .
ثم قال يعنيهم : ( أجعلتم سقاية الحاج ( ، يعنى العباس ، ) وعمارة المسجد الحرام ( ، يعنى شيبة ، ) كَمن ءامن بِاللهِ وَاليومِ الأخرِ ( ، يعنى صدق بتوحيد الله واليوم
الآخر ، وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، يعنى علياً ومن معه ، ) وَجَهدَ ( العدو
) في سَبيل اللهِ لا يَستونَ عند اللهِ ( في الفضل هؤلاء أفضل ، ) واللهُ لا يهدِي القومَ
الظلمين ) [ آية : 19 ] ، يعنى المشركين إلى الحجة فما لهم حجة .
التوبة : ( 20 ) الذين آمنوا وهاجروا . . . . .
ثم نعت المهاجرين علياً وأصحابه ، فقال : ( الذين ءامنواْ ( ، يعنى صدقوا بتوحيد الله ،
)( وهاجروا ( إلى المدينة ، ) وجهدواْ ) العدو ) في سَبيلِ الله ( ، يعنى طاعة الله ،
)( بِأَموالهم وَأنفسهم ) ) أولئك ( ( أعظمُ دَرَجة ( ، يعنى فضيلة ، ) عندَ اللهِ ( من الذين
افتخروا في عمران البيت وسقاية الحاج وهم كفار ، ثم أخبر عن ثواب المهاجرين ، فقال(2/40)
صفحة رقم 41
) وأولئك هم الفائزون ) [ آية : 20 ] ، يعنى الناجون من النار يوم القيامة .
التوبة : ( 21 ) يبشرهم ربهم برحمة . . . . .
) يبشرهم ربهم برحمة منه ( وهي الجنة ، ) ورضوان ( ، يعنى ورضى الرب
عنهم ، ) وجنتٍ لهُم فيها نعيمٌ مُقِيمُ ) [ آية : 21 ] يعنى لا يزول .
التوبة : ( 22 ) خالدين فيها أبدا . . . . .
) خلدِين فيها أَبداً ( لا يموتون ، ) أن الله عنده ( يعنى عند الله ) أجر ( ،
يعنى جزاء ، ) عظيم ) [ آية : 22 ] ، وهي الجنة .
تفسير سورة التوبة من الآية [ 23 - 24 ]
التوبة : ( 23 ) يا أيها الذين . . . . .
) يأَيُهَا الذين ءامنُواْ لا تتخذوا ءاباءَكُم وإخوانكُم أولياءَ إِن استحبواْ الكُفْرَ عَلَى
الإيمانِ ( ، يعنى اختاروا الكفر على الإيمان ، يعنى التوحيد ، نزلت في السبعة الذين
ارتدوا عن الإسلام ، فلحقوا بمكة من المدينة ، فنهى الله عن ولايتهم ، فقال : ( ومن يتولهم منكم ( يا معشر المؤمنين ، ) فأُولئِكَ هُمُ الظَّلمُونَ ) [ آية : 23 ] ، وهو منهم .
التوبة : ( 24 ) قل إن كان . . . . .
) قُل إِن كَانَ ءاباؤكُم وأبناؤكم وإخوانُكُم وأزواجُكُم وعشيرتُكُم وأَموالُ اقترفتُمُوها (
يعنى كسبتموها ، ) وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها ( ، يعنى ومنازل
ترضونها ، يعنى تفرحون بها ، ) أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ( في فتح مكة ، ) والله لا يهدي القوم الفاسقين (
[ آية : 24 ] .
تفسير سورة التوبة من الآية [ 25 - 27 ] .(2/41)
صفحة رقم 42
التوبة : ( 25 ) لقد نصركم الله . . . . .
) لَقد نَصَركُمُ اللهُ في مَوطِنَ كَثيرةٍ ( ، يعنى يوم بدر ، ويوم قريظة ، ويوم النضير ،
ويوم خيبر ، ويوم الحديبية ، ويوم فتح مكة ، ثم قال : ( و ( نصركم ) ويوم حنين ( ، وهو واد بين الطائف ومكة ، ) إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ( ، يعنى برحبها وسعتها ،
)( ثم وليتم مدبرين ) [ آية : 25 ] لا تلوون على شيء ، وذلك أن المسلمين كانوا
يومئذ أحد عشر ألفاً وخمسمائة ، والمشركون أربعة آلاف ، وهوازن ، وثقيف ، ومالك بن
عوف النضرى على هوازن ، وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقيفي ،
فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من كثرتنا على عدونا ، ولم يستثن في
قوله ، فكره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قوله ؛ لأنه كان قال ولم يستثن في قوله .
فاقتتلوا قتالاً شديداً ، وانهزم المشركون وجلوا عن الذراري ، ثم نادى المشركون تجاه
النساء : اذكروا الفضائح ، فتراجعوا وانكشف المسلمون ، فنادى العباس بن عبد المطلب ،
وكان رجلاً صبياً ثباتاً : يا أنصار الله وأنصار رسوله الذين آووا ونصروا ، يا معشر
المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة ، هذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فمن كان له فيه حاجة فليأته ،
فتراجع المسلمون ، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق ، فوقفوا ولم يقاتلوا ،
فانهزم المشركون ،
التوبة : ( 26 ) ثم أنزل الله . . . . .
فذلك قوله : ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها ( ، يعنى الملائكة ، ) وعذب الذين كفروا ( بالقتل والهزيمة ،
)( وذلك ( العذاب ) جَزاءُ الكَفِرِينَ ) [ آية : 26 ] .
التوبة : ( 27 ) ثم يتوب الله . . . . .
) ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ( ، يعنى بعد القتل والهزيمة ، فيهديه
لدينه ، ) والله غفور ( لما كان في الشرك ، ) رحيم ) [ آية : 27 ] بهم في الإسلام .
تفسير سورة التوبة من الآية [ 28 - 29 ] .(2/42)
صفحة رقم 43
التوبة : ( 28 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَأيُها الذين ءامنوا إِنما المُشركُونَ نَجسٌ ( ، يعنى مشركي العرب ، والنجس
الذي ليس بطاهر ، الأنجاس الأخباث ، ) فلا يقربوا المسجد الحرام ( ، يعنى أرض
مكة ، ) بعد عامهم هذا ( ، يعنى بعد عام كان أبو بكر على الموسم . قال ابن ثابت :
قال أبي : في السنة التاسعة من هجرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قال : ( وإن خفتم عيلة ( ،
و ذلك أن الله عز وجل أنزل بعد غزاة تبوك : ( فاقتلوا المشركين ( إلى قوله :
( كل مرصد ( ، فوسوس الشيطان إلى أهل مكة ، فقال : من أين تجدون ما تأكلون ،
وقد أمر أنه من لم يكن مسلماً أن يقتل ويؤخذ الغنم ، ويقتل من فيها ، فقال الله تعالى :
امضوا لأمري وأمر رسولى ، ) فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ( ، ففرحوا
بذلك ، فكفاهم الله ما كانوا يتخوفون ، فأسلم أهل نجد ، وجرش ، وأهل صنعاء ، فحملوا
الطعام إلى مكة على الظهر ، فذلك قوله : ( وإن خفتم عيلة ( ، يعنى الفقر ، ) فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ( ) إن الله عليم حكيم ) [ آية : 28 ] .
التوبة : ( 29 ) قاتلوا الذين لا . . . . .
قتلُوا الذين لا يُؤمنونَ بِالله ولاَ باليومِ الأخِرِ ( ، يعنى الذين لا يصدقون
بتوحيد الله ، ولا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، ) ولاَ يُحرمُونَ ما حَرم اللهُ ورَسُولهُ ( ،
يعنى الخمر ، ولحم الخنزير ، وقد بين أمرهما في القرآن ، ) وَلاَ يدِينُونَ دِينَ الحَقِ (
الإسلام ؛ لأن غير دين الإسلام باطل ، ) من الذينَ أُوتوا الكِتاب ( ، يعنى اليهود
والنصارى ، ) حَتى يُعطُوا الجِزية عَن يَدٍ ( ، يعنى عن أنفسهم ، ) وَهُم صَاغِرُون (
[ آية : 29 ] ، يعنى مذلون إن أعطوا عفواً لم يؤجروا ، وإن أخذوا منهم كرهاً لم يثابوا .
تفسير سورة التوبة من الآية [ 30 - 32 ] .(2/43)
صفحة رقم 44
التوبة : ( 30 ) وقالت اليهود عزير . . . . .
) وقالت اليهود عزير ابن الله ( ، وذلك أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى ، فرفع
الله عنهم التوراة ، ومحاها من قلوبهم ، فخرج عزيز يسيح في الأرض ، فأتاه جبريل عليه
السلام ، فقال له : أين تذهب ؟ قال : لطلب العلم ، فعلمه جبريل التوراة كلها ، فجاء عزيز
بالتوراة غضاً إلى بنى إسرائيل فعلمهم ، فقالوا : لم يعلم عزير هذا العلم إلا لأنه ابن الله
فذلك قوله : ( وقالت اليهود عزير ابن الله ( ، ثم قال : ( وقالت النصارى المسيح ابن الله ( ، يعنون عيسى ابن مريم ، ) ذلك قولهم بأفواههم ( ، يقول : هم
يقولون بألسنتهم من غير علم يعلمونه ، ) يُضهِئونَ ( ، يعنى يشبهون ) قول الذين كفروا ( ، يعنى قول اليهود ) من قبل ( قول النصارى لعيسى إنه ابن الله ، كما
قالت اليهود عزير ابن الله ، فضاهأت ، يعنى أشبه قول النصارى في عيسى قول اليهود في
عزير ، ) قاتلهم الله ( ، يعنى لعنهم الله ) أنى يؤفكون ) [ آية : 30 ] ، يعنى
النصارى من أين يكذبون بتوحيد الله .
التوبة : ( 31 ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم . . . . .
ثم أخبر عن النصارى ، فقال : ( اتخذُواْ أخبارَهُم ( ، يعنى علماءهم ،
)( ورهبانهم ( ، يعنى المجتهدين في دينهم أصحاب الصوامع ، ) أربابا ( ، يعنى
أطاعوهم ) من دون الله و ( اتخذوا ) والمسيح ابن مريم ( رباً ، يقول :
( وما أمروا ( ، يعنى وما أمرهم عيسى ، ) إلا ليعبدوا إلها واحدا ( ، وذلك
أن عيسى قال لبني إسرائيل في سورة مريم ، وفي حم الزخرف : ( إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ) [ الزخرف : 64 ] ، فهذا قول عيسى لبني
إسرائيل ، ثم قال : ( لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) [ آية : 31 ] ، نزه
نفسه عما قالوا من البهتان .
التوبة : ( 32 ) يريدون أن يطفئوا . . . . .
ثم أخبر عنهم ، فقال : ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ( ، يعنى دين الإسلام
بألسنتهم بالكتمان ، ) ويأبى الله إلا أن يتم نوره ( ، يعنى يظهر دينه الإسلام ، ) ولو كره الكافرون ) [ آية : 32 ] أهل الكتاب بالتوحيد .(2/44)
صفحة رقم 45
تفسير سورة التوبة من الآية [ 33 - 35 ]
التوبة : ( 33 ) هو الذي أرسل . . . . .
) هو الذي أرسل رسوله ( ، يعنى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالهدى ودين الحق ( ، يعنى دين
الإسلام ، لأن غير دين الإسلام باطل ، ) ليظهره على الدين كله ( ، يقول ليعلو بدين
الإسلام على كل دين ، ) ولو كره المشركون ) [ آية : 33 ] يعنى مشركي العرب .
التوبة : ( 34 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَأَيُها الذين ءامنوا إِن كثيراً من الأحبارِ ( ، يعنى اليهود ، ) والرهبان ( ،
يعنى مجتهد النصارى ، ) ليأكلون أموال الناس بالباطل ( ، يعنى أهل ملتهم ، وذلك
أنهم كانت لهم مأكله كل عام من سفلتهم من الطعام والثمار على تكذيبهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ،
ولو أنهم آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لذهبت تلك المأكلة ، ثم قال : ( ويصدون عن سبيل الله ( ، يقول : يمنعون أهل دينهم عن دين الإسلام ، ) والذين يكنزون الذهب والفضة ( ، يعنى بالكنز منع الزكاة ، ) ولا ينفقونها ( ، يعنى الكنوز ) في سبيل الله ( ، يعنى في طاعة الله ، ) فبشرهم بعذاب أليم ) [ آية : 34 ] ، يعنى وجيع في
الآخرة
التوبة : ( 35 ) يوم يحمى عليها . . . . .
ثم قال : ( يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) [ آية : 35 ] .
تفسير سورة التوبة من الآية [ 36 - 37 ](2/45)
صفحة رقم 46
التوبة : ( 36 ) إن عدة الشهور . . . . .
) إن عِدة الشُّهور عِندَ الله ( ، وذلك أن المؤمنين ساروا من المدينة إلى مكة قبل أن
يفتح الله على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا : إنا نخاف أن يقاتلنا كفار مكة في الشهر الحرام ، فأنزل
الله عز وجل ) إِن عدة الشهُورِ عند اللهِ ( ) اثنا عشرَ شَهراً في كِتابِ اللهِ (
يعنى اللوح المحفوظ ، ) يَومَ خَلَقَ السَّموات والأرض مِنْها أَربعة حُرُمٌ ( ، المحرم ،
ورجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، ) ذلِكَ الدين القيم ( ، يعنى الحساب ، ) فَلاَ
تَظلمُواْ فيِهنَ أَنفسكُم ( ، يعنى في الأشهر الحرام ، يعنى بالظلم ألا تقتلوا فيهن أحداً
من مشركي العرب ، إلا أن يبدءوا بالقتل ، ) ذلك الدين القيمُ ( ، يعنى بالدين الحساب
المستقيم ، ثم قال : ( وقَاتلُواْ المُشركينَ ( ، يعنى كفار مكة ، ) كَافَة ( ، يعنى
جميعاً ، ) كَما يُقتلونَكُم كافة ( ، يقول : إن قاتلوكم في الشهر الحرام ، فاقتلوهم
جميعاً ، ) واعلمُوا أن الله ( في النصر ) مَعَ المُتقينَ ) [ آية : 36 ] الشرك .
التوبة : ( 37 ) إنما النسيء زيادة . . . . .
) إنما النسئ زِيادة ( ، يعنى به في المحرم زيادة ) في الكُفر ( ، وذلك أن أبا
ثمامة الكنانى ، اسمه جبارة بن عوف بن أمية بن فقيم بن الحارث ، وهو أول من ذبح لغير
الله الصفرة في رجب ، كان يقف بالموسم ، ثم ينادي : إن آلهتكم قد حرمت صفر العام ،
فيحرمون فيه الدماء والأموال ، ويستحلون ذلك في المحرم ، فإذا كان من قابل نادى : إن
آلهتكم قد حرمت المحرم العام ، فيحرمون فيه الدماء والأموال ، فيأخذ به هوازن ،
وغطفان ، وسليم ، وثقيف ، وكنانة ، فذلك قوله : ( إِنما النسئُ ( ، يعنى ترك المحرم
) زِيادةٌ في الكفر ( ) يُضَلُ بِهِ الذين كفروا يُحلونَهُ عاماً وَيُحرمونَهُ عاماً ( ،
يقول : يستحلون المحرم عاماً ، فيصيبون فيه الدماء والأموال ، ويحرمونه عاماً ، فلا يصيبون
فيه الدماء والأموال ، ولا يستحلونها فيه ، ) ليواطئواْ عدةَ مَا حَرمَ اللهُ فيُحلواْ ( في المحرم
) مَا حَرم اللهُ ( فيه من الدماء والأموال ، ) زُين لَهُم سُوءُ أَعمالِهم واللهُ لا يَهدي
القوم الكَفرين ) [ آية : 37 ] .(2/46)
صفحة رقم 47
تفسير سورة التوبة من الآية [ 38 - 43 ] .
التوبة : ( 38 ) يا أيها الذين . . . . .
) يأيهُا الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكُم انفرواْ في سَبيل اللهِ ( ، نزلت في
المؤمنين ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر الناس بالسير إلى غزوة تبوك في حر شديد ، ) اثاقلتم إلى الأرض ( ، فتثاقلوا عنها ، ) أَرضيتُم بِالحيوة الدنيا من الآخرة فَمَا مَتَعُ
الحيوة الدُّنيا في الآخرة إِلا قَليلُ ) [ آية : 38 ] ، يعنى إلا ساعة من ساعات الدنيا .
التوبة : ( 39 ) إلا تنفروا يعذبكم . . . . .
ثم خوفهم : ( إلا تنفروا ( في غزاة تبوك إلى عدوكم ، ) يعذبكم عذابا أليما ( ، يعنى وجيعاً ، ) ويستبدل قوما غيركم ( أمثل منكم ، وأطوع لله منكم
) ولا تضروه شيئا ( ، يعنى ولا تنقصوا من ملكه شيئاً بمعصيتكم إياه إنما تنقصون
أنفسكم ، ) واللهُ عَلَى كُلِ شَيءٍ ( أراده ) قدير ) [ آية : 39 ] إن شاء عذبكم
واستبدل بكم قوماً غيركم .
التوبة : ( 40 ) إلا تنصروه فقد . . . . .
ثم قال للمؤمنين : ( إلا تنصروه ( ، يعنى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) فقد نصره الله ( ،
هذه أول آية نزلت من براءة ، وكانت تسمى الفاضحة ، لما ذكر الله فيها من عيوب(2/47)
صفحة رقم 48
المنافقين ، ) إذ أخرجه الذين كفروا ( بتوحيد الله من مكة ، ) ثاني اثنين ( ،
فهو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر ، ) إذ هما في الغار إِذ يقُولُ لِصَحِبِهِ لا تَحزن (
وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأبي بكر : ( لا تحزن ( ) إن الله معنا ( في الدفع عنا ،
وذلك حين خاف القافة حول الغار ، فقال أبو بكر : أتينا يا نبى الله ، وحزن أبو بكر ،
فقال : إنما أنا رجل واحد ، وإن قتلت أنت تهلك هذه الأمة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا تحزن ( .
ثم قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' اللهم اعم أبصارهم عنا ' ففعل الله ذلك بهم ، ) فأنزل الله سكينته عليه ( ، يعنى النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، ) وأيده بجنود لم تروها ( ، يعنى الملائكة
يوم بدر ، ويوم الأحزاب ، ويوم خيبر ، ) وجعل كلمة الذين كفروا ( ،
يعني دعوة الشرك ، ) السفلى وكلمة الله ( ، يعنى دعوة الإخلاص ، ) هي العليا ( ، يعنى العالية ) واللهُ عَزيزُ ) في ملكه ، ) حَكيم ) [ آية : 40 ] ، حكم
إطفاء دعوة المشركين ، وإظهار التوحيد .
التوبة : ( 41 ) انفروا خفافا وثقالا . . . . .
) انفروا ( إلى غزاة تبوك ) خفافاً وثقالاً ( ، يعنى نشاطاً وغير نشاط ،
)( وجهدُواْ ) ) العدو ( ( بأموالكُم وأنفسكم في سَبيل اللهِ ( ، يعنى الجهاد ، ) ذلكُم خير
لكمُ ( من القعود ، ) إن كنتم تعلمُونَ ) [ آية : 41 ] .
التوبة : ( 42 ) لو كان عرضا . . . . .
) لو كَان عَرَضَاً قَرِيباً ( ، يعني غنيمة قريبة ، ) وَسَفَراً قَاصِداً ( ، يعنى هيناً ،
)( لا تبعُوكَ ( في غزاتك ، ) ولكن بعدَت عَليهم الشُقَةُ وسيحلِفُونَ بِالله لو
استطعنا ( ، يعنى لو وجدنا سعة في المال ، ) لخرجنا معكم ( في غزاتكم ،
)( يهلكون أنفسهم واللهُ يعلم إنهم لكذبون ) [ آية : : 42 ] بأن لهم سعة في الخروج ،
ولكنهم لم يريدوا الخروج ، منهم : جد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وهما من الأنصار .(2/48)
صفحة رقم 49
التوبة : ( 43 ) عفا الله عنك . . . . .
ثم قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ( في القعود ، يعنى في
التخلف ، ) حتى يتبين لك الذين صدقوا ( في قولهم ، يعنى أهل العذر ، منهم : المقداد
ابن الأسود الكندي ، وكان سميناً ، ) وتعلم الكاذبين ) [ آية : 43 ] . في قولهم ، يعنى
من لا قدر لهم .
تفسير سورة التوبة من الآية : [ 44 - 50 ]
التوبة : ( 44 ) لا يستأذنك الذين . . . . .
) لا يستئذنك ( في القعود ) الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ( ، يعنى الذين
يصدقون بتوحيد الله ، وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن ، ) أن يُجهدُواْ (
العدو من غير عذر ، ) بأموالهم وأنفسهم ( كراهية الجهاد ، ) والله عليم بالمتقين (
[ آية : 44 ] الشرك .
التوبة : ( 45 ) إنما يستأذنك الذين . . . . .
ثم ذكر المنافقين ، فقال : ( إِنما يستئذنك ( في الجهاد وبعد الشقة ، ) الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ( ، لا يصدقون بالله ، ولا باليوم الآخر ، يعنى لا يصدقون
بالله ، ولا بتوحيده ، ولا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، ) وارتابت ( ، يعنى شكت
) قلوبهم ( في الدين ، ) فهم في ريبهم ( ، يعنى في شكهم ، ) يترددون ) [ آية :
45 ] ، وهم تسعة وثلاثون رجلاً .(2/49)
صفحة رقم 50
التوبة : ( 46 ) ولو أرادوا الخروج . . . . .
ثم أخبر عن المنافقين ، فقال : ( ولو أرادوا الخروج ( إلى العدو ، ) لأعدوا له عدة ( ، يعنى به النية ، ) ولكن كره الله انبعاثهم ( ، يعنى خروجهم ،
)( فثبطهم ( عن غزاة تبوك ، ) وقيل اقعدوا ( ، وحياً إلى قلوبهم ، ) مع
القَعِدينَ ) [ آية : 46 ] ألهمو ذلك ، يعنى مع المتخلفين .
التوبة : ( 47 ) لو خرجوا فيكم . . . . .
) لو خرجوا فيكم ( ، يعنى معكم إلى العدو ، ) ما زادوكم إلا خبالا ( ، يعنى
عياً ، ) ولأ وضَعُواْ خلالكُم ( ، يتخلل الراكب الرجلين حتى يدخل بينهما ، فيقول ما
لا ينبغى ، ) يبغونكم الفتنة ( ، يعنى الكفر ، ) وفيكم ( معشر المؤمنين ، ) سمعُونَ
لهم ( من غير المنافقين ، اتخذهم المنافقون عيوناً لهم يحدثونهم ، ) واللهُ عَليمُ بِالظلِمينَ (
[ آية : 47 ] ، منهم : عبد الله بن أبى ، وعبد الله بن نبيل ، وجد بن قيس ، ورفاعة بن
التابوت ، وأوليس بن قيظى .
التوبة : ( 48 ) لقد ابتغوا الفتنة . . . . .
ثم أخبر عن المنافقين ، فقال : ( لقد ابتغوا الفتنة من قبل ( يعنى الكفر في غزوة
تبوك ، ) وقلبوا لك الأمور ( ظهراً لبطن كيف يصنعون ، ) حتى جاء الحق ( ،
يعنى الإسلام ، ) وظهر أمر الله ( ، يعنى دين الإسلام ، ) وهم كارهون ) [ آية :
48 ] للإسلام .
التوبة : ( 49 ) ومنهم من يقول . . . . .
) ومنهم ( ، يعنى من المنافقين ، ) من يقول ائذن لي ولا تفتني ( ، ولذلك أن
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر الناس بالجهاد إلى غزاة تبوك ، وذكر بنات الأصفر لقوم ، وقال : ' لعلكم
تصيبون منهن ' قال ذلك ليرغبهم في الغزو ، وكان الأصفر رجلاً من الحبش ، فقضى الله
له أن ملك الروم ، فاتخذ من نسائهم لنفسه ، وولدن له نساء كن مثلاً في الحسن ، فقال
جد بن قيس الأنماري ، من بني سلمة بن جشم : يا رسول الله قد علمت الأنصار
حرصي على النساء وإعجابي بهن ، وإني أخاف أن أفتتن بهن ، فأذن لي ولا تفتني ببنات
الأصفر ، وإنما اععتل بذلك كراهية الغزو ، فأنزل الله عز وجل : ( ومنهم ( ، يعنى من
المنافقين ، ) من يقول ائذن لي ولا تفتني ( ، يقول الله : ( ألا في الفتنةِ(2/50)
صفحة رقم 51
سقطوا ( ، يقول : ألا في الكفر وقعوا ، ) وإن جهنم لمُحيطة بِالكُافرين (
[ آية : 49 ] .
التوبة : ( 50 ) إن تصبك حسنة . . . . .
ثم أخبر عنهم وعن المتخلفين بغير عذر ، فقال : ( إِن تُصبك حسنة
تسؤهم ( ، يعنى الغنيمة في غزاتك يوم بدر تسوءهم ، ) وإن تُصبكَ مُصيبةٌ (
بلاء من العدو يوم أُحد ، وهزيمة وشدة ، ) يَقُولُواْ قد أخذنا أمرنا ( في القعود ) من
قبلُ ( أن تصبك مصيبة ، ) ويتولواْ وهم فَرِحُون ) [ آية : 50 ] لما أصابك من
شدة .
تفسير سورة التوبة من الآية [ 50 - 59 ] .
التوبة : ( 51 ) قل لن يصيبنا . . . . .
يقول الله لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قُل لن يُصيبنا إِلا ما كَتَبَ اللهُ لَنَا ( من شدة أو
رخاء ، ) هُو مولانا ( ، يعنى ولينا ، ) وَعَلَى اللهِ فليتوكل المؤمنُون ) [ آية : 51 ] ،(2/51)
صفحة رقم 52
يعنى وبالله فليثق الواثقون .
التوبة : ( 52 ) قل هل تربصون . . . . .
) قُل هَل تَربصُونَ بِنا إِلا إحدى الحُسنين ( ، إما الفتح والغنيمة في الدنيا ، وإما
شهادة فيها الجنة في الآخرة والرزق ، ) ونحن نتربص بكم ( العذاب والقتل ، ) أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو ( عذاب ) بأيدينا ( فنقتلكم ، ) فتربصوا (
بنا الشر ، ) إنا معكم متربصون ) [ آية : 52 ] بكم العذاب .
التوبة : ( 53 ) قل أنفقوا طوعا . . . . .
) قل ( يا محمد للمنافقين : ( أنفقوا طوعا ( من قبل أنفسكم ، ) أو كرها ( مخافة
القتل ، ) لن يتقبل منكم ( النفقة ، ) إنكم كُنتم قَوما فَسِقينَ ) [ آية : 53 ] ، يعنى
عصاة .
التوبة : ( 54 ) وما منعهم أن . . . . .
) وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ( بالتوحيد ) و (
كفروا ) وبرسوله ( بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنه ليس برسول ، ) ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ( ، يعنى متثاقلين ولا يرونها واجبة عليهم ، ) ولا ينفقون ( يعنى المنافقين
الأموال ، ) إِلا وَهُم كَرِهُونَ ) [ آية : 54 ] غير محتسبين .
التوبة : ( 55 ) فلا تعجبك أموالهم . . . . .
) فلا تعجبك ( يا محمد ) أموالهم ولا أولادهم ( ، يعنى المنافقين ) إنما يُريدُ اللهُ
لِيُعذبهم بِهَا في الحيوة الدُّنيا ( بما يلقون في جمعها من المشقة ، وفيها من المصائب ،
)( وتزهق أنفسهم ( ، يعنى ويريد أن تذهب أنفسهم على الكفر فيميتهم كفاراً ، فذلك
قوله : ( وهُم كَفرونَ ) [ آية : 55 ] بتوحيد الله ومصيرهم إلى النار .
التوبة : ( 56 ) ويحلفون بالله إنهم . . . . .
) ويحلفُونَ بالله ( يعنيهم ، ) إنهم لمنكم ( معشر المؤمنين على دينكم ، يقول
الله : ( وما هُم مِنكم ( على دينكم ، ) ولكنهم قومٌ يفرقونَ ) [ آية : 56 ] القتل ،
فيظهرون الإيمان .
التوبة : ( 57 ) لو يجدون ملجأ . . . . .
ثم أخبر عنهم فقال : ( لو يجدُونَ ملجئاً ( ، يعنى حرزاً يلجأون إليه ، ) أَو
مغرتٍ ( ، يعنى الغيران في الجبال ، ) أو مُدخلاً ( ، يعنى سرباً في الأرض ، ) لوَلواْ
إليه ( وتركوك يا محمد ، ) وَهُم يجمحونَ ) [ آية : 57 ] ، يعنى يستبقون إلى الحرز .(2/52)
صفحة رقم 53
التوبة : ( 58 ) ومنهم من يلمزك . . . . .
ومنهم ، يعنى المنافقين ، ) من يلمزك في الصدقات ( ، يعنى يطعن عليك ،
نظيرها : ( ويل لكل همزة لمزة ) [ الهمزة : 1 ] وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قسم الصدقة ،
وأعطى بعض المنافقين ، ومنع بعضاً ، وتعرض له أبو الخواص ، فلم يعطه شيئاً ، فقال أبو
الخواص : ألا ترون إلى صاحبكم ، إنما يقسم صدقاتكم في رعاء الغنم ، وهو يزعم أنه
يعدل ، فقال النبى ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لا أبا لك ، أما كان موسى راعياً ، أما كان داود راعياً ' ، فذهب
أبو الخواص ، فقال النبى : ' احذروا هذا وأصحابه ، فإنهم منافقون ' ، فأنزل الله :
( ومنهم من يلمزك في الصدقات ( ، يعنى يطعن عليك بأنك لم تعدل في القسمة ،
)( فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) [ آية : 58 ] .
التوبة : ( 59 ) ولو أنهم رضوا . . . . .
) ولو أَنهم رضوا ما ءاتهُمُ ( ، يعنى ما أعطاهم ، ) الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله ( ، يعنى سيغنينا الله ، ) من فضله ورسوله ( ، فيها تقديم ، ) إنا إلى الله راغبون ) [ آية : 59 ] .
تفسير سورة التوبة من [ الآية : 60 - 66 ]
التوبة : ( 60 ) إنما الصدقات للفقراء . . . . .
ثم أخبر عن أبى الخواص ، أن غير أبى الخواص أحق منه بالصدقة ، وبين أهلها ، فقال :(2/53)
صفحة رقم 54
) إنما الصدقات للفقراء ( الذين لا يسألون الناس ، ) والمساكين ( الذين
يسألون الناس ، ) والعملينَ عليها ( يعطون مما جبوا من الصدقات على قدر ما جبوا من
الصدقات ، وعلى قدر ما شغلوا به أنفسهم عن حاجتهم ، ) والمؤلفة قلوبهم ( يتألفهم
بالصدقة ، يعطيهم منها ، منهم : أبو سفيان وعيينة بن حصن ، وسهل بن عمرو ، وقد
انقطع حتى المؤلفة اليوم ، إلا أن ينزل قوم منزلة أولئك ، فإن أسلموا أعطوا من الصدقات ،
تتألفهم بذلك ليكونوا دعاة إلى الدين ، ) وفي الرقاب ( ، يعنى وفي فك الرقاب ، يعنى
أعطوا المكاتبين ، ) والغارمين ( ، وهو الرجل يصيبه غرم في ماله من غير فساد ولا
معصية ، ) وفي سبيل الله ( ، يعنى في الجهاد ، يعطى على قدر ما يبلغه في غزاته ،
)( وابن السبيل ( ، يعنى المسافر المجتاز وبه حاجة ، يقول : ( فريضة من الله ( لهم
هذه القسمة ؛ لأنهم أهلها ، ) والله عليم ( بأهلها ، ) حكيم ) [ آية : 60 ] حكم
قسمتها .
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لا تحل الصدقة لمحمد ، ولا لأهله ، ولا تحل الصدقة لغنى ، ولا لذي
مرة سوى ' ، يعنى القوى الصحيح ، وكان المؤلفة قلوبهم ثلاث عشر رجلاً ، منهم : أبو
سفيان بن حرب بن أمية ، والأقرع بن حابس المجاشعي ، وعيينة بن حصن الفزارى ،
وحويطب بن عبد العزى القرشي ، من بنى عامر بن لؤي ، والحارث بن هشام المخزومي ،
وحكيم بن حزام ، من بنى أسد بن عبد العزى ، ومالك بن عوف النضرى ، وصفوان بن
أمية القرشي ، وعبد الرحمن بن يربوع ، وقيس بن عدي السهمي ، وعمرو بن مرداس ،
والعلاء بن الحارث الثقفي ، أعطى كل رجل منهم مائة من الإبل ليرغبهم في الإسلام
ويناصحون الله ورسوله ، غير أنه أعطى عبد الرحمن بن يربوع خمسين من الإبل ، وأعطى
حويطب بن عبد العزى القرشي خمسين من الإبل ، وكان أعطى حكيم بن حزام سبعين
من الإبل ، فقال : يا بني الله ، ما كنت أرى أن أحداً من المسلمين أحق بعطائك منى ،
فزاده النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكره ، ثم زاده عشرة ، فكره ، فأتمها له مائة من الإبل ، فقال حكيم : يا
رسول الله ، عطيتك الأولى التي رغبت عنها ، أهي خير أم التي قنعت بها ؟ فقال النبي
( صلى الله عليه وسلم ) : ' الإبل التي رغبت عنها ' ، فقال : والله لا آخذ غيرها ، فأخذ السبعين ، فمات وهو
أكثر قريش مالاً ، فشق على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تلك العطايا ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إني لأعطى رجلاً(2/54)
صفحة رقم 55
وأترك آخر ، وإن الذي أترك أحب إلي من الذي أعطى ، ولكن أتألف بالعطية ، وأوكل
المؤمن إلى إيمانه ' .
التوبة : ( 61 ) ومنهم الذين يؤذون . . . . .
) ومنهم ( ، يعنى من المنافقين ، ) الذين يؤذون النبي ( ( صلى الله عليه وسلم ) ، منهم : الجلاس بن
سويد ، وشماس بن قيس ، والمخش بن حمير ، وسماك بن يزيد ، وعبيد بن الحارث ، ورفاعة
بن زيد ، ورفاعة بن عبد المنذر ، قالوا ما لا ينبغي ، فقال رجل منهم : لا تفعلوا ، فإنا نخاف
أن يبلغ محمداً فيقع بنا ، فقال الجلاس : نقول ما شئنا ، فإنما محمد أذن سامعة ، فنأتيه بما
نقول ، فنزلت في الجلاس : ( ويقولون هو أذن ( ، يعنى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ( ، يعنى يصدق بالله ، ويصدق المؤمنين ، ) ورحمةٌ
للذين ءامنوا منكم ( ، يقول : محمد رحمة للمؤمنين ، كقوله : ( رؤوف رحيم ) [ التوبة :
128 ] ، يعنى للمصدقين بتوحيد الله ، ) رؤوف رحيم ( ) والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ) [ آية : 61 ] ، يعنى وجيع .
التوبة : ( 62 ) يحلفون بالله لكم . . . . .
) يحلفون بِالله لكم ليرضوكم ( بعد اليوم ، منهم : عبد الله بن أبى ، حلف ألا
نتخلف عنك ، ولنكونن معك على عدوك ، ) والله ورسولهُ أَحق أن يُرضُوهُ ( ، فيها تقديم ، ) إن كانوا مؤمنين ) [ آية : 62 ] ، يعنى مصدقين بتوحيد الله عز وجل .
التوبة : ( 63 ) ألم يعلموا أنه . . . . .
) أَلم يعلموا ( ، يعنى المنافقين ) أَنهُ من يحاددِ الله ورسولهُ ( ، يعنى يعادي الله
ورسوله ، ) فأن لهُ نار جهنم خلداً فيها ) ) لا يموت ( ( ذلك ) ) العذاب ( ( الخزىُ العظيم ) [ آية : 63 ] .
التوبة : ( 64 ) يحذر المنافقون أن . . . . .
قوله : ( يحذرُ المُنافقون ( ، نزلت في الجلاس بن سويد ، وسماك بن عمر ،
ووداعة بن ثابت ، والمخش بن حمير الأشجعي ، وذلك أن المخش قال لهم : والله لا أدرى
إني أشر خليقة الله ، والله لوددت أنى جلدت مائة جلدة ، وأنه لا ينزل فينا ما يفضحنا ،
فنزل : ( يحذَرُ المُنفقونَ ( ) أن تنزل عليهم سُورةٌ ( ، يعنى براءة ، ) تنبئهم بِمَا
في قُلوبهم ( من النفاق ، وكانت تسمى الفاضحة ، ) قُل استهزءوا إن الله مُخرجٌ ( مبين(2/55)
صفحة رقم 56
) ما تحذرون ) [ آية : 64 ] .
التوبة : ( 65 ) ولئن سألتهم ليقولن . . . . .
) ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ( ، وذلك حين انصرف
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من غزاة تبوك إلى المدينة ، وبين يديه هؤلاء النفر الأربعة يسيرون ، ويقولون : إن
محمداً يقول إنه نزل في إخواننا الذين تخلفوا في المدينة كذا وكذا ، وهم يضحكون
ويستهزءون ، فأتاه جبريل ، فأخبره بقولهم ، فبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عمار بن ياسر ، وأخبر النبي
( صلى الله عليه وسلم ) عماراً أنهم يستهزءون ويضحكون من كتاب الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإنك إذا سألتهم
ليقولن لك : ( إنما كنا نخوض ونلعب ( فيما يخوض في الركب إذا ساروا ، قال :
فأدركهم قبل أن يحترقوا فأدركهم ، فقال : ما تقولون ؟ قالوا : فيما يخوض فيه الركب إذا
ساروا ، قال عمار : صد الله ورسوله ، وبلغ الرسول ، عليه السلام ، عليكم غضب الله ،
هلكتم أهلككم الله .
ثم انصرف إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فجاء القوم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعتذرون إليه ، فقال المخشن :
كنت أسايرهم والذي أنزل عليك الكتاب ما تكلمت بشيء مما قالوا ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
ولم ينههم عن شيء مما قالوا ، وقبل العذر ، فأنزل الله عز وجل : ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ( ، يعنى ونتلهى ) قل ( يا محمد ) أبالله وءايتهِ
ورسوله كُنتم تستهزءون ) [ آية : 65 ] ، استهزءوا بالله لأنهما من الله عز وجل .
التوبة : ( 66 ) لا تعتذروا قد . . . . .
) لا تعتذرواْ قد كفرتُم بعد إيمانكم إِن تعفُ عن طائفة مِنكم ( ، يعنى المخش
الذي لم يخض معهم ، ) نعذب طائفة ( ، يعنى الثلاثة الذين خاضوا واستهزءوا ،(2/56)
صفحة رقم 57
) بأنهم كانوا مجرمين ) [ آية : 66 ] ، فقال المخش للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : وكيف لا أكون
منافقاً واسمي وأسمائي أخبث الأسماء ، فقال له النبى ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ما اسمك ؟ ' ، قال : المخش بن حمير الأشجعي حليف الأنصار لبنى سلمة بن جشم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أنت عبد الله بن
عبد الرحمن ، فقتل يوم اليمامة .
تفسير سورة التوبة من [ الآية : 67 - 69 ] .
التوبة : ( 67 ) المنافقون والمنافقات بعضهم . . . . .
ثم أخبر عن المنافقين ، فقال : ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ( ، يعنى أولياء
بعض في النفاق ، ) يأمرون بالمنكر ( ، يعنى بالتكذيب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وينهون عن المعروف ( ، يعنى الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبما جاء به ، ) ويقبضون أيديهم ( ، يعنى
يمسكون عن النفقة في خير ، ) نسوا الله فنسيهم ( ، يقول : تركوا العمل بأمر الله ،
فتركهم الله عز وجل من ذكره ، ) إن المُنفقينَ هُمُ الفسقون ) [ آية : 67 ] .
التوبة : ( 68 ) وعد الله المنافقين . . . . .
) وعد الله المنفقين والمنفقت والكفار ( ، يعنى مشركى العرب ، ) نار جَهنم
خَلدينَ فيها ( لا يموتون ، ) هي حسبهم ( ، يقول : حسبهم بجهنم شدة العذاب ،
)( ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ) [ آية : 68 ] ، يعنى دائم .
التوبة : ( 69 ) كالذين من قبلكم . . . . .
هؤلاء المنافقون والكفار ، ) كالذين من قبلكم ( ، يعنى من الأمم الخالية ،
)( كانوا أشد منكم قوة ( ، يعنى بطشاً ، ) وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم ( ، يعنى بنصيبهم من الدنيا ، ) فاستمتعتم بخلاقكم ( ، يعنى بنصيبكم من
الدنيا ، كقوله : ( لا خلاق لهم ) [ آل عمران : 77 ] ، يعنى لا نصيب لهم ، ثم قال :
( كما استمتع الذين من قبلكم ( من الأمم الخالية ، ) بخلقهم ( ، يعني(2/57)
صفحة رقم 58
بنصيبهم ، ) وخضتم ( أنتم في الباطل والتكذيب ، ) كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم ( ، يعنى بطلت أعمالهم ، فلا ثواب لهم ) في الدنيا و ( ولا في
) والآخرة ( ؛ لأنها كانت في غير إيمان ، ) وَأولئكَ هُمُ الخَسِرُونَ ) [ آية : 69 ] .
تفسير سورة التوبة من [ الآية : 70 - 71 ] .
التوبة : ( 70 ) ألم يأتهم نبأ . . . . .
ثم خوفهم ، فقال : ( ألم يأتهم نبأ ( ، يعنى حديث ) الذين من قبلهم ( ، يعنى
عذاب ) قَوم نُوحٍ وَعادٍ وثمودَ وقوم إبراهيم وأصحبِ مدينَ ( ، يعنى قوم
شعيب ، ) والمؤتفكتِ ( ، يعنى المكذبات ، يعنى قوم لوط القرى الأربعة ،
)( أتتهم رسلهم بالبينات ( تخبرهم أن العذاب نازل بهم في الدنيا ، فكذبوهم فأهلكوا
) فما كان الله ليظلمهم ( ، يعنى أن يعذبهم على غير ذنب ، ) ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) [ آية : 70 ] .
التوبة : ( 71 ) والمؤمنون والمؤمنات بعضهم . . . . .
ثم ذكر المؤمنين وتقاهم ، فقال : ( والمؤمنون والمؤمنتُ ( ، يعنى المصدقين بتوحيد
الله ، ) والمُؤمنت ( ، يعنى المصدقات بالتوحيد ، يعنى أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، منهم
على بن أبي طالب ، رضى الله عنه ، ) بعضهم أولياء بعض ( في الدين ، ) يأمرون بالمعروف ( ، يعنى الإيمان . بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ( ،
يعنى ويتمون الصلوات الخمس ، ) ويُؤتون الزكوة ( ، يعنى ويعطون الزكاة ،
)( ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز ( في ملكه ، ) حكيم (
[ آية : 71 ] في أمره(2/58)
صفحة رقم 59
تفسير سورة التوبة من الآية : [ 72 - 74 ] .
التوبة : ( 72 ) وعد الله المؤمنين . . . . .
قوله : ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ( ، يعنى قصور الياقوت والدر ، فتهب ريح طيبة من
تحت العرش بكثبان المسك الأبيض ، نظيرها في ) هل أتى ( : ( نعيما وملكا كبيرا (
يعنى
[ الإنسان : 20 ] عاليهم كثبان المسك الأبيض ، ثم قال : ( ورضوان من الله ( ، يعنى
ورضوان الله عنهم ، ) أكبر ( ، يعنى أعظم مما أعطوا في الجنة من الخير ، ) ذلك (
الذواب ) هو الفوز العظيم ) [ آية : 72 ] ، وفي ذلك أن الملك من الملائكة يأتي باب
ولى الله ، فلا يدخل عليه إلا بإذنه ، والقصة في : ( هل أتى على الإنسان ( .
التوبة : ( 73 ) يا أيها النبي . . . . .
قوله : ( يَأَيُها النبي جهدِ الكُفار والمُنافقين ( ، يعنى كفار العرب بالسيف ،
)( واغلظ عليهم ( على المنافقين باللسان ، ثم ذكر مستقرهم في الآخرة ، فقال :
( ومأواهم جهنم ( ، يعنى مصيرهم جهنم ، يعنى كلا الفريقين ، ) وبئس المصير (
[ آية : 73 ] ، يعنى حين يصيرون إليها .
التوبة : ( 74 ) يحلفون بالله ما . . . . .
) يحلفونَ بِاللهِ ما قالُواْ ( ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أقام غزاة تبوك شهرين ينزل
عليه القرآن ، ويعيب المنافقين المتخلفين ، جعلهم رجساً ، فسمع من غزا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من
المنافقين ، فغضبوا لإخوانهم المتخلفين ، فقال جلاس بن سويد بن الصامت ، وقد سمع عامر
بن قيس الأنصاري ، من بني عمرو بن عوف ، الجلاس يقول : والله لئن كان ما يقول
محمد حقاً كإخواننا الذين خلفناهم وهم سراتنا وأشرافنا ، لنحن أشر من الحمير ، فقال
عامر بن قيس للجلاس : أجل والله ، إن محمداً لصادق مصدق ، ولأنت أشر من الحمار .
فلما قدم النبى ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة ، أخبر عاصم بن عدى الأنصاري عن قول عامر بما قال
الجلاس ، فأرسل النبى ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عامر والجلاس ، فذكر النبى [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] للجلاس ما قال ، فحلف(2/59)
صفحة رقم 60
الجلاس بالله ما قال ذلك ، فقال عامر : لقد قاله وأعظم منه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' ما هو ؟
قال : أرادوا قتلك فنفر الجلاس من ذلك ، فقال النبى ( صلى الله عليه وسلم ) : ' قوما فاحلفا ' فقاما عند
المنبر فحلف الجلاس ما قال ذلك ، وأن عامراً كذب ، ثم حلف عامر بالله إنه لصادق
ولقد سمع قوله ، ثم رفع عامر بيده ، فقال : اللهم أنزل على عبد نبيك تكذيب الكاذب
وصدق الصادق ، فقال النبى ( صلى الله عليه وسلم ) : ' آمين ' ، فأنزل في الجلاس : ( يحلفون بالله ما قالوا ( .
) ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ( ، يعنى بعد إقرارهم بالإيمان ،
)( وهموا بما لم ينالوا ( من قتل النبى ( صلى الله عليه وسلم ) بالعقبة ، ) وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم ( ، فقال الجلاس : فقد عرض الله على التوبة ، أجل والله
لقد قلته ، فصدق عامراً ، وتاب الجلاس وحسنت توبته ، ثم قال : ( وهموا بما لم ينالوا (
من قتل النبى ( صلى الله عليه وسلم ) ، يعنى المنافقين أصحاب العقبة ليلة هموا بقتل النبى ( صلى الله عليه وسلم ) بالعقبة بغزوة
تبوك ، ، منهم عبد الله بن أبى ، رأس المنافقين ، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح ، وطعمة بن
أبيرق ، والجلاس بن سويد ، ومجمع بن حارثة ، وأبو عامر بن النعمان ، وأبو الخواص ،
ومرارة بن ربيعة ، وعامر بن الطفيل ، وعبد الله بن عتيبة ، ومليح التميمي ، وحصن بن نمير ، ورجل آخر ، هؤلاء اثنا عشر رجلاً ، وتاب أبو لبابة عن عبد المنذر ، وهلال بن أمية ،
وكعب بن مالك الشاعر ، وكانوا خمسة عشر رجلاً . ) وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم ( ) وإن يتولوا ( عن التوبة ، ) يعذبهم الله عذابا أليما ( ، يعنى شديداً ، ) في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ( يمنعهم
) ولا نصير ) [ آية : 74 ] ، يعنى مانع من العذاب .
تفسير سورة التوبة من الآية [ 75 - 85 ](2/60)
صفحة رقم 61
التوبة : ( 75 ) ومنهم من عاهد . . . . .
) ومنهم ( ، يعنى من المنافقين ، ) مَن عاهدَ اللهَ لَئِن ءاتانا من فضله
لنصدقن ( ولنصلن رحمى ، ) ولنكونن من الصلحينَ ) [ آية : 75 ] ، يعنى من المؤمنين
بتوحيد الله ؛ لأن المنافقين لا يخلصون بتوحيد الله عز وجل فأتاه الله برزقه ، وذلك أن
مولى لعمر بن الخطاب قتل رجلاً من المنافقين خطأ ، وكان حميماً لحاطب ، فدفع النبى
( صلى الله عليه وسلم ) دينه إلى ثعلبة بن حاطب ، فبخل ومنع حق الله ، وكان المقتول قرابة بن ثعلبة بن
حاطب .
التوبة : ( 76 ) فلما آتاهم من . . . . .
يقول الله : ( فَلما ءاتهُم مِن فَضلهِ ( ، يعنى أعطاهم من فضله ، ) يخلُواْ بِهِ وتولواْ
وهم مُعرضونَ ) [ آية : 76 ] .
التوبة : ( 77 ) فأعقبهم نفاقا في . . . . .
) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ( ، يعنى إلى يوم القيامة ، ) بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) [ آية : 77 ] ، لقوله : لئن آتانا الله ، يعنى أعطاني الله ،
لأصدقن ولأفعلن ، ثم لم يفعل .
التوبة : ( 78 ) ألم يعلموا أن . . . . .
ثم ذكر أصحاب العقبة ، فقال : ( ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم ( ،
يعنى الذي أجمعوا عليه من قتل النبى ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وأَنَ اللهَ عالمُ الغيوبِ ) [ آية : 78 ] .
التوبة : ( 79 ) الذين يلمزون المطوعين . . . . .
ثم نعت المنافقين ، فقال : ( الذين يلمزون المُطوعينَ منَ المُؤمنين في(2/61)
صفحة رقم 62
الصدقات ( وذلك أن النبى ( صلى الله عليه وسلم ) أمر الناس بالصدقة وهو يريد غزاة تبوك ، وهى غزاة
العسرة ، فجاء عبد الرحمن بن عوف الزهري بأربعة آلاف درهم ، كل درهم مثقال ، فقال
النبى ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أكثرت يا عبد الرحمن بن عوف ، هل تركت لأهلك شيئاً ؟ ' قال : يا رسول الله ، ما لي ثمانية آلاف ، أما أربعة آلاف فأقرضتها ربى ، وأما أربعة آلاف الأخرى
فأمسكتها لنفسي ، فقال له النبى ( صلى الله عليه وسلم ) : ' بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت ' ،
فبارك الله في مال عبد الرحمن ، حتى أنه يوم مات بلغ ثمن ماله لأمرأتيه ثمانين ومائة ألف ،
لكل امرأة تسعون ألفاً .
وجاء عاصم بن عدي الأنصاري ، من بنى عمرو بن عوف بسبعين وسقاً من تمر ،
وهو حمل بعير ، فنثره في الصدقة ، واعتذر إلى النبى ( صلى الله عليه وسلم ) من قلته ، وجاء أبو عقيل بن قيس
الأنصاري ، من بنى عمرو ، بصاع فنثره في الصدقة ، فقال : يا نبي الله ، بت ليلتي أعمل
في النخل أجر بالجرين على صاعين ، فصاع أقرته ربى ، وصاع تركته لأهلي ، فأحببت أن
يكون لي نصيب في الصدقة ، ونفر من المنافقين جلوس ، فمن جاء بشيء كثير ، قالوا :
مراء ، ومن جاء بقليل ، قالوا : كان هذا أفقر إلى ماله ، وقالوا لعبد الرحمن وعاصم : ما
أنفقتم إلا رياء وسمعة وقالوا لأبى عقيل : لقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع أبى
عقيل .
فسخروا وضحكوا منهم ، فأنزل الله عز وجل : ( والذين لا يجدونَ إِلا
جُهدَهُم ( ، يعنى أبا عقيل ، ) فيسخرونَ مِنهم ( ، يعنى من المؤمنين ، ) سخر اللهُ مِنهُم ( ،
يعنى سخر الله من المنافقين في الآخرة ، ) ولهم عَذَاب أليم ) [ آية : 79 ] ، يعنى وجيع ،
نظيرها : ( إن تسخروا مِنا فإنا نسخرُ مِنكم ) [ هود : 38 ] يعنى سخر الله من
المنافقين .
التوبة : ( 80 ) استغفر لهم أو . . . . .
) استغفر لهم ( ، يعنى المنافقين ، ) أو لا تستغفر لهم إِن تستغفر لهُم سَبعينَ مَرةً فَلَن
يغفر اللهُ لهم ذلك بأنهم كفروا بِالله ورسُولهُ واللهُ لا يهدي القومَ الفاسقينَ ) [ آية :(2/62)
صفحة رقم 63
[ 80 ] ، فقال عمر بن الخطاب : لا تستغفر لهم بعد ما نهاك الله عنه ، فقال النبى ( صلى الله عليه وسلم ) : ' يا
عمر ، أفلا استغفر لهم إحدى وسبعين مرة ' .
فأنزل الله عز وجل ) سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ) [ المنافقون : 6 ] من شدة غضبه عليهم ، فصارت
الآية التي في براءة منسوخة ، نسختها التي في المنافقين : ( أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ( .
التوبة : ( 81 ) فرح المخلفون بمقعدهم . . . . .
) فرح المخلفون بمقعدهم ( عن غزاة تبوك ، ) خِلَفَ رَسُول اللهِ ( وهم بضع
وثمانون رجلاً ، منهم من اعتل بالعسرة ، وبغير ذلك ، ) وكرهُواْ أن يجهدواْ بأمولهم وأنفسهم
في سَبيل اللهِ وقالُواْ ( بعضهم لبعض : ( لا تنفروا في الحر ( مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى غزاة تبوك
في سبعة نفر ، أبو لبابة وأصحابه ، قالوا بأن الحر شديد والسفر بعيد ، ) قل ( يا محمد :
( نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ) [ آية : 81 ] ، في قراءة ابن مسعود : لو كانوا
يعلمون .
التوبة : ( 82 ) فليضحكوا قليلا وليبكوا . . . . .
) فليضحكوا ( في الدنيا ) قليلا ( ، يعنى بالقليل الاستهزاء ، فإن ضحكهم ينقطع ،
)( وليبكوا كثيرا ( في الآخرة في النار ندامة ، والكثير الذي لا ينقطع ، ) جزاء بما كانوا يكسبون ) [ آية : 82 ] .
التوبة : ( 83 ) فإن رجعك الله . . . . .
) فإن رجعك الله ( من غزاة تبوك إلى المدينة ، ) إلى طائفة منهم فاستئذنوكَ لِلخُروجِ
فَقُل لن تخرجواْ معي أَبداً ( في غزاة ، ) ولن تقتلوا معَي عدوا إنكم رضيتُم بالقعُودِ أولَ
مَرةٍ ( ، يعنى من تخلف من المنافقين ، وهى طائفة وليس كل من تخلف عن غزاة تبوك
منافق ، ) فاقعدوا ( عن الغزو ) مَعَ الخلفين ) [ آية : 83 ] ، منهم : عبد الله بن أبى ،
وجد بن قيس ، ومعتب بن قشير .
التوبة : ( 84 ) ولا تصل على . . . . .
وذلك أن عبد الله بن أبى رأس المنافقين توفى ، فجاء ابنه إلى النبى ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : أنشدك(2/63)
صفحة رقم 64
بالله أن تشمت بي الأعداء ، فطلب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يصلي على أبيه ، فأراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن
يفعل ، فنزلت فيه : ( ولا تصل على أحد منهم ( ، يعنى من المنافقين ، ) مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ( ، يعنى بتوحيد الله ، ) و ( كفروا ب ) ورسوله ( بأنه ليس
برسول ، ) وماتوا وهم فاسقون ) [ آية : 84 ] ، فانصرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يصل عليه ، وأمر
أصحابه فصلوا عليه .
التوبة : ( 85 ) ولا تعجبك أموالهم . . . . .
) ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق ( ، يقول :
وتذهب ) أنفسهم ( كفاراً ، يعنى يموتون على الكفر ، فذلك قوله : ( وَهُم كَفِرُونَ (
[ آية : 85 ] .
تفسير سورة التوبة من الآية [ 86 - 92 ]
التوبة : ( 86 ) وإذا أنزلت سورة . . . . .
) وإذا أنزلت سورة ( ، يعنى براءة فيها ) أَن ءامنواْ بِاللهِ ( ، يعنى أن صدقوا بالله
وبتوحيده ، ) وجهدوا ( العدو ) مع رَسُولهِ استئذنك ( يا محمد ) أولوا الطول منهم ( ، يعنى أهل السعة من المال منهم ، يعنى من المنافقين ، ) وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ) [ آية : 86 ] ، يعنى مع المتخلفين عن الغزو ، منهم : جد بن قيس ، ومعتب بن
قشير .
التوبة : ( 87 ) رضوا بأن يكونوا . . . . .
يقول الله : ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ( ، يعنى مع النساء ، ) وطبع ( ، يعنى
وختم ) على قلوبهم ( بالكفر ، ) فهم لا يفقهون ) [ آية : 87 ](2/64)
صفحة رقم 65
التوبة : ( 88 ) لكن الرسول والذين . . . . .
ثم نعت المؤمنين ، فقال : ( لكن الرسول والذين ءامنوا معهُ جاهدوا ( العدو
) بأموالهم وأنفسهم ( في سبيل الله ، يعنى في طاعة الله ، ) وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون ) [ آية : 88 ] .
التوبة : ( 89 ) أعد الله لهم . . . . .
) أعد الله لهم ( في الآخرة ) جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ( لا
يموتون ، ) ذلك ( الثواب الذي ذكر هو ) الفوز العظيم ) [ آية : 89 ] .
التوبة : ( 90 ) وجاء المعذرون من . . . . .
) وجَاءَ المُعذرُونَ مِنَ الأعرابِ ( إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ليُؤذن لَهُم ( القعود ، وهم
خمسون رجلاً ، منهم أبو الخواص الأعرابي ، ) وقعد ( عن الغزو ) الذين كَذَبوا الله ( ،
يعنى بتوحيد الله ، ) و ) ) كذبوا ب ( ( وَرَسُولهُ ( أنه ليس برسول ، ) سَيُصيبُ الذين
كفرواْ مِنهم ( ، يعنى المنافقين ، ) عَذاب أَليمٌ ) [ آية : 90 ] ، يعنى وجيع .
التوبة : ( 91 ) ليس على الضعفاء . . . . .
ثم رخص ، فقال : ( ليس عَلَى الضعفاءِ ( ، يعنى الزمني والشيخ الكبير ، ) وَلاَ عَلَى
المرضَى وَلاَ عَلَى الذَّينَ لاَ يجِدونَ مَا ينفقُونَ حرجُ ( في القعود ، ) إِذا نَصَحُواْ للهِ
ورسولِهِ مَا عَلَى المُحسِنِينَ من سَبِيلٍ واللهُ غَفورٌ ( لتخلفهم عن الغزو ، ) رحيمٌ (
[ آية : 91 ] بهم ، يعنى جهينة ، ومزينة ، وبني عذرة .
التوبة : ( 92 ) ولا على الذين . . . . .
) وَلاَ ) ) حرج ( ( عَلَى الذَّينَ إِذا مَا أَتوكَ لتحملَهُم قُلتَ ( لهم يا محمد : ( لاَ
أَجِدُ ما أَحملُكم عَلَيهِ تَولواْ ( ، يعنى انصرفوا عنك ، ) وأعيُنُهُم تَفِيضُ منَ الدَّمعِ
حَزناً ألا يجدواْ مَا يُنفقونَ ) [ آية : 92 ] في غزاتهم ، نزلت في سبع نفر ، منهم : عمرو
بن عبسة من بني عمرو بن يزيد بن عوف ، وعلقمة بن يزيد ، والحارث من بني واقد ،
وعمرو بن حزام من بني سلمة ، وسالم بن عمير من عمرو بن عوف ، وعبد الرحمن بن
كعب من بني النجار ، هؤلاء الستة من الأنصار ، وعبد الله بن معقل المزني ، ويكنى أبا
ليلى عبد الله .
تفسير سورة التوبة من الآية : [ 93 - 96 ] .(2/65)
صفحة رقم 66
التوبة : ( 93 ) إنما السبيل على . . . . .
وذلك أنهم أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا : احملنا ، فإنا لا نجد ما نخرج عليه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
( لا أجد ما أحملكم عليه تولوا ( ، انصرفوا من عنده وأعينهم تفيض من الدمع حزناً
ألا يجدوا ما ينفقون ، ثم عاب أهل السعة ، فقال : ( إنما السَّبيلُ عَلَى الذَّينَ
يستئذِنُونكَ وهُم أَغنياءُ رضواْ بِأن يكُونُواْ مَعَ الخوالفِ ( ، يعنى مع النساء بالمدينة ، وهم
المنافقون ، ) وطبع الله على قلوبهم ( ، يعنى وختم على قلوبهم بالكفر ، يعنى المنافقين ،
)( فهم لا يعلمون ) [ آية : 93 ] .
التوبة : ( 94 ) يعتذرون إليكم إذا . . . . .
ثم أخبر عنهم ، فقال : ( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ( من غزاتكم ، يعنى
عبد الله بن أبي ، ) قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم ( ، يعنى لن نصدقكم بما تعتذرون ،
)( قد نبأنا الله من أخباركم ( ، يقول : قد أخبرنا الله عنكم وعن ما قلتم حين قال لنا :
( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ( ، يعنى إلا عياً ) ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ) [ التوبة : 47 ] ، فهذا الذي نبأنا الله من أخباركم ، ثم قال : ( وسيرى الله عملكم ورسوله ( فيما تستأذنون ، ) ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة ( ،
يعنى شهادة كل نجوى ، ) فينبئكم ( في الآخرة ، ) بما كنتم تعملون ) [ آية : 94 ]
في الدنيا .
التوبة : ( 95 ) سيحلفون بالله لكم . . . . .
) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم ( ، يعنى إذا رجعتم ) إليهم ( إلى المدينة ،
)( لتعرضوا عنهم ( في التخلف ، ) فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ) [ آية : 95 ] ، فحلف منهم بضع وثمانون رجلاً ، منهم : جد بن
قيس ، ومعتب بن فشير ، وأبو لبابة ، وأصحابه .
التوبة : ( 96 ) يحلفون لكم لترضوا . . . . .
) يحلفون لكم لترضوا عنهم ( ، وذلك أن عبد الله بن أبي حلف للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالله
الذي لا إله إلا هو ، لا نتخلف عنك ، ولنكونن معك على عدوك ، وطلب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم )
بأن يرضى عنه وأصحابه ، يقول الله : ( فإن ترضوا عنهم ( ، يعنى عن المنافقين
المتخلفين ، ) فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) [ آية : 96 ] ، يعنى العاصين .(2/66)
صفحة رقم 67
تفسير سورة التوبة من الآية : [ 97 - 104 ]
التوبة : ( 97 ) الأعراب أشد كفرا . . . . .
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين قدموا المدينة : ' لا تجالسوهم ، ولا تكلموهم ' ، ثم قال :
( الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ( ،
يعنى سنن ما أنزل الله على رسوله في كتابه ، يقول : هم أقل فهما بالسنن من غيرهم ،
)( والله عليم حكيم ) [ آية : 97 ] .
التوبة : ( 98 ) ومن الأعراب من . . . . .
) ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق ( في سبيل الله ) مغرما ( لا يحتسبها ، كان نفقته
غرم يغرمها ، ) ويتربص بكم الدوائر ( ، يعنى يتربص بمحمد الموت ، يقول : يموت فنستريح
منه ولا نعطيه أموالنا ، ثم قال : ( عليهم ( بمقالتهم ) دائرة السوء ( ، نزلت في
أعراب مزينة ، ) والله سميع ( لمقالتهم ، ) عليم ) [ آية : 98 ] بها .
التوبة : ( 99 ) ومن الأعراب من . . . . .
) ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ( ، يعنى يصدق بالله أنه واحد
لا شريك له ، ) واليوم الآخر ( ، يعنى يصدق بالتوحيد وبالبعث الذي فيه جزاء
الأعمال ، ) ويتخذ ما ينفق ( في سبيل الله ) قُرُبَتٍ عِند الله وَصَلَوات الرَّسُولِ ( ،(2/67)
صفحة رقم 68
يعنى واستغفار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويتخذ النفقة والاستغفار قربات ، يعنى زلفى عند الله ، فيها
تقديم يقول : ( ألا إنها قربة لهم ( عند الله ، ثم أخبر بثوابهم ، فقال : ( سيدخلهم الله في رحمته ( ، يعنى جنته ، ) إن الله غفور ( لذنوبهم ، ) رحيم ) [ آية : 99 ] بهم ،
نزلت في مقرن المزني
التوبة : ( 100 ) والسابقون الأولون من . . . . .
ثم قال : ( والسابقون ( إلى الإسلام ، ) الأولون من المهاجرين والأنصار (
الذين صلوا إلى القبلتين ، على بن أبي طالب ، عليه السلام ، وعشر نفر من أهل بدر
) والذين اتبعوهم ( على دينهم الإسلام ، ) بإحسان رضي الله عنهم ( بالطاعة ،
)( ورضوا عنه ( بالثواب ، ) وأعد لهم ( في الآخرة ) جنات تجري ( من ) تحتها الأنهار ( ، يعنى بساتين تجري تحتها الأنهار ، ) خالدين فيها أبدا ( لا يموتون ،
)( ذلك ( الثواب ) الفوز العظيم ) [ آية : 100 ] .
التوبة : ( 101 ) وممن حولكم من . . . . .
) وممن حولكم من الأعراب منافقون ( ، يعنى جهينة ، ومزينة ، وأسلم ، وغفار ،
وأشجع ، كانت منازلهم حول المدينة وهم منافقون ، ثم قال : ( ومن أهل المدينة (
منافقون ، ) مردوا على النفاق ( ، يعنى حذقوا ، منهم : عبد الله بن أبي ، وجد بن قيس
والجلاس ، ومعتب بن قشير ، ووحوج بن الأسلت ، وأبو عامر بن النعمان الراهب ، الذي
سماه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الفاسق ، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة ، ) لا تعلمهم ( يا محمد ، ) نحن نعلمهم ( ، يقول للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لا تعرف نفاقهم ، نحن نعرف نفاقهم ، ) سنعذبهم مرتين ( عند الموت تضرب الملائكة الوجوه والأدبار ، وفي القبر منكر ونكير ، ) ثم يردون إلى عذاب عظيم ) [ آية : 101 ] ، يعنى عذاب جهنم .
التوبة : ( 102 ) وآخرون اعترفوا بذنوبهم . . . . .
) وءاخرونَ اعترفُواْ بِذُنُوبِهِم خَلطُواْ عَمَلاً صَالحاً ( ، يعنى غزاة قبل غزاة تبوك مع النبي
( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وءاخَرَ سَيئاً ( تخلفهم عن غزاة تبوك ، نزلت في أبي لبابة ، اسمه مروان بن عبد(2/68)
صفحة رقم 69
المنذر ، وأوس بن حزام ، ووديعة بن ثعلبة ، كلهم من الأنصار ، وذلك حين بلغهم أن النبي
( صلى الله عليه وسلم ) قد أقبل راجعاً من غزاة تبوك ، وبلغهم ما أنزل الله عز وجل في المتخلفين ، أوثقوا
أنفسهم هؤلاء الثلاثة إلى سواري المسجد ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قدم من غزاة صلى في
المسجد ركعتين قبل أن يدخل إلى أهله ، وإذا خرج إلى غزاة صلى ركعتين ، فلما رآهم
موثقين ، سأل عنهم ، قيل : هذا أبو لبابة وأصحابه ، ندموا على التخلف ، وأقسموا ألا
يحلوا أنفسهم حتى يحلهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' وأنا أحلف لا أطلق عنهم حتى
أومر ، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله عز وجل ' ، فأنزل الله في أبي لبابة وأصحابه :
( وَءاخرُونَ اعترفُواْ بِذنُوبِهم خَلطُوا عَملاً صَلحاً ( ، يعنى غزوتهم قبل ذلك ، ) وَءاخَرَ
سيئاً ( ، يعنى تخلفهم بغير إذن ، ) عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور ( لتخلفهم ،
)( رحيم ) [ آية : 102 ] بهم .
التوبة : ( 103 ) خذ من أموالهم . . . . .
قال مقاتل : العسى من الله واجب ، فلما نزلت هذه الآية حلهم النبي ، عليه السلام ،
فرجعوا إلى منازلهم ، ثم جاءوا بأموالهم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا : هذه أموالنا التي تخلفنا من
أجلها عنك ، فتصدق بها ، فكره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأخذها ، فأنزل الله : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ( من تخلفهم ، ) وتزكيهم ( ، يعنى وتصلحهم ) بها وصل عليهم ( ،
يعنى واستغفر لهم ، ) إن صَلواتك سَكَنٌ لَهُم ( ، يعنى إن استغفارك لهم سكن لقلوبهم
وطمأنينة لهم ، ) والله سميع ( لقولهم : خذ أموالنا فتصدق بها ، ) عليم ) [ آية :
103 ] بما قالوا .
التوبة : ( 104 ) ألم يعلموا أن . . . . .
) ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ ( ، يعنى ويقبل ) الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم ) [ آية : 104 ] ، فأخذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أموالهم التي جاءوا بها
الثلث ، وترك الثلثين ؛ لأن الله عز وجل ، قال : ( خذ من أموالهم ( ، ولم يقل : خذ أموالهم ،
فذلك لم يأخذها كلها ، فتصدق بها عنهم .(2/69)
صفحة رقم 70
تفسير سورة التوبة من الآية [ 105 - 106 ]
التوبة : ( 105 ) وقل اعملوا فسيرى . . . . .
) وقل ( لهم يا محمد : ( اعملوا ( فيما تستأنفون ، ) فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) [ آية : 105 ] .
التوبة : ( 106 ) وآخرون مرجون لأمر . . . . .
) وءاخَرونَ مُرجَونَ لأَمرِ اللهِ ( ، يعنى التوبة عن أمر الله ، نظيرها : ( أرجه وأخاه (
[ الأعراف : 111 ] ، يعنى أوقفه وأخاه حتى ننظر في أمرهما ، ) وءاخَرونَ مُرجَونَ (
يعنى موقوفون للتوبة عن أمر الله مرارة بن ربيعة من بني زيد ، وهلال بن أُمية من
الأنصار من أهل قباء من بني واقب ، وكعب بن مالك الشاعر من بني سلمة ، كلهم من
الأنصار من أهل قباء ، لم يفعلوا كفعل أبي لبابة ، لم يذكروا بالتوبة ولا بالعقوبة ، فذلك
قوله : ( إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ( فيتجاوز عنهم ، ) والله عليم حكيم ) [ آية :
106 ] في قراءة ابن مسعود : والله غفور رحيم .
تفسير سورة التوبة من الآية [ 107 - 110 ] .
التوبة : ( 107 ) والذين اتخذوا مسجدا . . . . .
ثم قال : ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا ( ، يعنى مسجد المنافقين ، ) وكفرا (
في قلوبهم ، يعنى النفاق ، ) وتفريقا بين المؤمنين ( ، نزلت في أثنى عشر رجلاً من
المنافقين ، وهم من الأنصار كلهم ، من بني عمرو بن عوف ، منهم : حرج بن خشف ،
وحارثة بن عمرو ، وابنه زيد بن حارثة ، ونفيل بن الحرث ، ووديعة بن ثابت ، وحزام بن(2/70)
صفحة رقم 71
خالد ، ومجمع بن حارثة ، قالوا : نبني مسجداً نتحدث فيه ونخلوا فيه ، فإذا رجع أبو عامر
الراهب اليهودي من الشام أبو حنظلة غسيل الملائكة ، قلنا له : بنيناه لتكون إمامنا فيه .
فذلك قوله : ( وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ( ، يعنى أبا عامر الذي كان
يسمى الراهب ؛ لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم ، فمات كافراً بقنسرين لدعوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،
وأنهم أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا : يبعد علينا المشي إلى الصلاة ، فأذن لنا في بناء مسجد ، فأذن
لهم ، ففرغوا منه يوم الجمعة ، فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : من يؤمهم ؟ قال : ' رجل منهم ' فأمر
مجمع بن حارثة أن يؤمهم ، فنزلت هذه الآية ، وحلف مجمع : ما أردنا ببناء المسجد إلا
الخير ، فأنزل الله عز وجل في مجمع : ( وليحلفُنَّ إِن أَردنا إِلا الحُسنَى واللهُ يَشهَدُ إِنَّهُم
لَكَذِبونَ ) [ آية : 107 ] فيما يحلفون .
التوبة : ( 108 ) لا تقم فيه . . . . .
) لا تقم فيه أبدا ( ، يعنى في مسجد المنافقين إلى الصلاة أبداً ، كان النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] لا
يصلي فيه ، ولا يمر عليه ، ويأخذ غير ذلك الطريق ، وكان قبل ذلك يصلي فيه ، ثم قال :
( لمسجد ( يعني مسجد قباء ، وهو أول مسجد بني بالمدينة ، ) أسس ( ، يعني
بني ، ) على التقوى من أول يوم ( ، يعنى أول مرة ، ) أحق أن تقوم فيه ( إلى الصلاة ؛
لأنه كان بني من قبل مسجد المنافقين ، ثم قال : ( فيه رجال ( ، يعنى في مسجد قباء ،
)( يحبون أن يتطهروا ( ، من الأحداث والجنابة ، ) والله يحب المطهرين ) [ آية :
108 ] ، نزلت في الأنصار .
فلما نزلت هذه الآية ، انطلق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى قام على باب مسجد قباء ، وفيه
المهاجرون والأنصار ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأهل المسجد : ' أمؤمنون أنتم ؟ ' فسكتوا فلم
يجيبوه ، ثم قال ثانية : ' أمؤمنون أنتم ؟ ' ، قال عمر بن الخطاب : نعم ، فقال النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ' أتؤمنون بالقضاء ؟ ' قال عمر : نعم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أتصبرون على البلاء ؟ ' ، قال
عمر : نعم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أتشكرون على الرخاء ؟ ' ، فقال عمر : نعم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
' أنتم مؤمنون ورب الكعبة ' ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للأنصار : ' إن الله عز وجل قد أثنى عليكم
في أمر الطهور ، فماذا تصنعون ؟ ' ، قالوا : نمر الماء على أثر البول والغائط ، فقرأ النبي ( صلى الله عليه وسلم )
هذه الآية : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ( ، ثم إن مجمع بن(2/71)
صفحة رقم 72
حارثة حسن إسلامه ، فبعثه عمر بن الخطاب إلى الكوفة يعلمهم القرآن ، وهو علم عبد
الله بن مسعود ، لقنه القرآن .
التوبة : ( 109 ) أفمن أسس بنيانه . . . . .
) أفمن أسس بنينه ( ، يعنى مسجد قباء ، ) على تقوى من الله
ورضون ( ، يقول : مما يراد فيه من الخير ورضى الرب ، ) خير أم من أسس بنيانه (
أصل بنيانه ) على شفا جرف ( ، يعني على حرف ليس له أصل ، ) هار ( ، يعني وقع ،
)( فانهار به ( فجر به القواعد ، ) في نار جهنم ( ، يقول : صار البناء إلى نار جهنم ،
)( والله لا يهدى القوم الظلمين ) [ آية : 109 ] .
فلما فرغ القوم من بناء المسجد استأذنوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في القيام في ذلك المسجد ، وجاء
أهل مسجد قباء ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا نحب أن تأتي مسجدنا فتصلى فيه حتى
نقتدي بصلاتك ، فمشى رسول الله في نفر من أصحابه وهو يريد مسجد قباء ، فبلغ
ذلك المنافقون ، فخرجوا يتلقونه ، فلما بلغ المنتصف ، نزل جبريل بهذه ا ' لآية : ( أفمن
أسس بنينه على تقوى من الله ورضوان خير ( ، يعني أهل مسجد قباء ، ) أم من
أسس بنينه على شفاء جرفٍ ( ، فلما قالها جرف نظر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المسجد ، حتى تهور
في السابعة ، فكاد يغشى على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأسرع الرجوع إلى موضعه ، وجاء المنافقون
يعتذرون بعد ذلك ، فقبل علانيتهم ، ووكل أثرهم إلى الله عز وجل .
التوبة : ( 110 ) لا يزال بنيانهم . . . . .
فقال الله : ( لا يزال بنينهم الذي بنوا ريبة فى قلوبهم ( ، يعني حسرة وحزازة في
قلوبهم ؛ لأنهم ندموا على بنائه ، ) إلا أن تقطع قلوبهم ( يعني حتى الممات ، ) والله عليم حكيم ) [ آية : 110 ] فبعث النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] عمار بن ياسر ، ووحشي مولى المطعم بن
عدى ، فحزفاه فخسف به في نار جهنم ، وأمر أن يتخذ كناسة ويلقى فيه الجيف ، وكان
مسجد قباء في بنى بعد هجرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأيام .(2/72)
صفحة رقم 73
تفسير سورة التوبة من آية [ 111 - 115 ] .
التوبة : ( 111 ) إن الله اشترى . . . . .
ثم رغب الله في الجهاد ، فقال : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ( ،
يعنى بقية آجالهم ، ) وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون (
العدو ، ) ويقتلون ( ، ثم يقتلهم العدو ، ) وعدا عليه حقا ( حتى ينجز لهم ما
وعدهم ، يعنى ما ذكر من وعدهم في هذه الآية ، وذلك أن الله عهد إلى عباده أن من قتل
في سبيل الله فله الجنة ، ثم قال : ( في التوراة والإِنجِيل والقُرءانِ وَمن أَوفى بِعَهدِهِ
مِن اللهِ ( ، فليس أحداً أوفى منه عهداً ، ثم قال : ( فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ( الرب بإقراركم ، ) وذلك ( الثواب ) وَهُوَ الفَوزُ العَظيمُ ) [ آية : 111 ] ، يعنى
النجاء العظيم ، يعنى الجنة .
التوبة : ( 112 ) التائبون العابدون الحامدون . . . . .
ثم نعت أعمالهم ، فقال : ( التائبون ( من الذنوب ، ) العابدون ( ، يعنى
الموحدين ، ) الحامدون السائحون ( ، يعنى الصائمين ، ) الراكعون (
) الساجدون ( في الصلاة المكتوبة ، ) الآمرون بالمعروف ( ، يعنى بالإيمان بتوحيد
الله ، ) والناهون عن المنكر ( ، يعنى عن الشرك ، ) والحافظون لحدود الله (
يعنى ما ذكر في هذه الآية لأهل الجهاد ، ) وبشر المؤمنين ) [ آية : 112 ] ، يعنى(2/73)
صفحة رقم 74
الصادقين بهذا الشرط بالجنة .
التوبة : ( 113 ) ما كان للنبي . . . . .
) مَا كَانَ لِلنبي وَالذينَ ءامنواْ أَن يَستغفرواْ للمُشركِينَ ( إلى آخر الآية ، وذلك
أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سأل بعدما افتتح مكة : ' أي أبويه أحدث به عهداً ؟ ' ، قيل له : أمك آمنة
بنت وهب بن عبد مناف ، قال : ' حتى أستغفر لها ، فقد استغفر إبراهيم لأبيه وهو
مشرك ' ، فهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك ، فأنزل الله عز وجل : ( ما كان للنبي ( ، يعني ما ينبغي
للنبي ) والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ( ) ولو كانوا أولي قربى من بعد ما (
كانوا كافرين ف ) تبين لهم أنهم أصحب الجحيم ) [ آية : 113 ] حين ماتوا على
الكفر ، نزلت في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وعلى بن أبي طالب ، عليه السلام .
التوبة : ( 114 ) وما كان استغفار . . . . .
فقد استغفر إبراهيم لأبيه وكان كافراً ، فبين الله كيف كانت هذه الآية ، فقال : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ( ، وذلك أنه كان وعد
أباه أن يستغفر له ، فلذلك استغفر له ، ) فلما تبين له ( لإبراهيم ) أنه عدو لله (
حين مات كافراً ، لم يستغفر له ، و ) تبرأ منه إن إبراهيم لأوهُ ( ، يعني لموقن بلغة
الحبشة ، ) حليم ) [ آية : 114 ] ، يعنى تقي زكي .
التوبة : ( 115 ) وما كان الله . . . . .
) وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ( ،
وذلك أن الله أنزل فرائض ، فعمل بها المؤمنون ، ثم أنزل بعدما نسخ به الأمر الأول
فحولهم إليه ، وقد غاب أناس لم يبلغهم ذلك ، فيعملوا بالناسخ بعد النسخ ، وذكروا ذلك
للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا : يا نبي الله ، كنا عندك والخمر حلال ، والقبلة إلى بيت المقدس ، ثم غبنا
عنك ، فحولت القبلة ولم نشعر بها ، فصلينا إليها بعد التحويل والتحريم ، وقالوا : ما ترى
يا رسول الله ، فأنزل الله عز وجل : ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ( المعاصي ، يقول : ما كان الله ليترك قوماً حتى يبين لهم ما يتقون
حين رجعوا من الغيبة ، وما يتقون من المعاصي ، ) إن الله بكل شيء عليم ) [ آية : 115 ]
من أمرهم بنسخ ما يشاء من القرآن ، فيجعله منسوخاً ويقر ما يشاء فلا ينسخه .(2/74)
صفحة رقم 75
تفسير سورة التوبة من آية [ 116 - 117 ] .
التوبة : ( 116 ) إن الله له . . . . .
) إن الله له ملك السموات والأرض يُحي ويميت ( ، الأحياء ، ) وما لكم ( معشر
الكفار ) من دون الله من ولي ( ، يعني من قريب بنفسكم ، ) ولا نصير ) [ آية :
116 ] ، يعنى ولا مانع لقول الكفار : إن القرآن ليس من عند الله ، إنما يقوله محمد من تلقاء نفسه ، نظيرها في البقرة : ( ما ننسخ من آية ( إلى آخر الآية ، ) أن الله على
كل شيء قدير ) [ البقرة : 106 ] .
التوبة : ( 117 ) لقد تاب الله . . . . .
) لقد تاب الله ( ، يعنى تجاوز الله عنهم ، ) على النبي ( ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) والمهجرين
والأنصار ( ، ثم نعتهم ، فقال : ( الذين اتبعوه في ساعة العسرة ( ، يعنى غزاة تبوك ،
وأصاب المسلمين جهد وجوع شديد ، فكان الرجلان والثلاثة يعتقبون بعيراً سوى ما
عليه من الزاد ، وتكون التمرة بين الرجلين والثلاثة ، يعمد أحدهما إلى التمرة فيلوكها ، ثم
يعطيها الآخر فيلوكها ، ثم يراها آخر ، فيناشده أن يجهدها ، ثم يعطيها إياه ، ) من بعد ما كاد يزيغ ( ، يعنى تميل ، ) قلوب فريق منهم ( ، يعنى طائفة منهم إلى المعصية ،
ألا ينفروا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى غزاة تبوك ، فهذا التجاوز الذي قال الله : ( لقد تاب الله على
النبي والمهجرين والأنصار ( ) ثم تاب عليهم ( ، يعنى تجاوز عنهم ، ) إنه
بهم رءوف رحيم ) [ آية : 117 ] ، يعني يرق لهم ، حين تاب عليهم ، يعني أبا لبابة
وأصحابه .
تفسير سورة التوبة من آية [ 118 ] .
التوبة : ( 118 ) وعلى الثلاثة الذين . . . . .
ثم ذكر الذين خلفوا عن التوبة ، فقال : ( و ( تاب الله ، ) وعلى الثلاثة الذين(2/75)
صفحة رقم 76
خلفوا ( عن التوبة بعد أبي لبابة وأصحابه ، وهم ثلاثة : مرارة بن ربيعة ، وهلال بن أمية ،
وكعب بن مالك ، ولم يذكر توبتهم ، ولا عقوبتهم ، وذلك أنهم لم يفعلوا كفعل أبي لبابة
وأصحابه ، فلم ينزل فيهم شيء شهراً ، فكان الناس لا يكلمونهم ، ولا يخالطونهم ، ولا
يبايعونهم ، ولا يشترون منهم ، ولا يكلمهم أهلهم ، فضاقت عليهم الأرض ، فأنزل الله عز
وجل فيهم بعد شهور أو شهر : ( وَ ( تاب أيضاً ) وعلى الثلاثةِ الذين خلفوا ( عن
التوبة ، يعني بعد أبا لبابة ، وهم : مرارة بن ربيعة ، وهلال بن أمية ، وكعب بن مالك .
) حَتى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْضُ بِما رَحُبَت ( ، يقول : ضاقت الأرض بسعتها ؛ لأنه لم
يخالطهم أحد ، ) وضاقَتْ عَلَيْهِم أَنْفُسُهُمْ وظَنّوا أَنْ لاّ مَلْجَأَ مِنَ الله ( ، يعني وأيقنوا ألا حرز من الله ، ) إِلاّ إِلَيْهِ ثُمّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتوبُوا ( ، يعني تجاوز عنهم لكي يتوبوا ، ) إَنّ
اللهَ هوَ التَّوابُ ( على من تاب ، ) الرَّحِيمُ ) [ آية : 118 ] بهم .
تفسير سورة التوبة من [ آية : 119 - 121 ] .
التوبة : ( 119 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أَيُّها الَّذينَ آمنُوا ( ، يعني صدقوا بتوحيد الله عز وجل ، ) اتَّقُوا اللهَ ( ، ولا
تعصوه في الهجرة ، ) وكُونُوا مع الصّادِقينَ ) [ آية : 119 ] في إيمانهم ، وقد أخبر عن
الصادقين ، فقال : ( إِنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذينَ آمنُوا بِاللهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وجَاهَدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ ) [ الحجرات : 15 ] .
التوبة : ( 120 ) ما كان لأهل . . . . .
ثم ذكر المؤمنين الذين لم يتخلفوا عن غزاة تبوك ، فقال : ( ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ
ومَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرابِ أَن يَّتخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللهِ ( ، عن غزاة تبوك ، ) ولا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ
عَن نَّفْسِهِ ذلكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ( ، يعني عطشاً ، ) ولا نَصَبٌ ( ، يعني(2/76)
صفحة رقم 77
ولا مشقة في أجسادهم ، ) ولا مخمصة ( ، يعني الجوع والشدة ، ) في سبيل الله
ولا يطئون موطئاً ( ، من سهل ، ولا جبل ، ) يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو ( من عدوهم ، ) نيلا ( من قتل فيهم ، أو غارة عليهم ، ) إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ) [ الآية : 120 ] ، يعني جزاء المحسنين ،
ولكن يجزيهم بإحسانهم .
التوبة : ( 121 ) ولا ينفقون نفقة . . . . .
) ولا ينفقون نفقة ( في سبيل الله ، ) صغيرة ولا كبيرة ( ، يعني قليلاً ولا
كثيراً ، ) ولا يقطعون واديا ( من الأودية مقبلين ومدبرين ، ) إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما ( ، يعني الذي ) كانوا يعملون ) [ آية : 121 ] .
تفسير سورة التوبة من آية [ 122 - 124 ]
التوبة : ( 122 ) وما كان المؤمنون . . . . .
) وما كان المؤمنون لينفروا كافة ( ، وذلك أن الله عاب في القرآن من
تخلف عن غزاة تبوك ، فقالوا : لا يرانا الله أن نتخلف عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في غزاته ، ولا في
بعث سرية ، فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا بعث سرية ، رغبوا فيها رغبة في الأجر ، فأنزل الله عز
وجل : ( وما كان المؤمنون ( ، يعني ما ينبغي لهم أن ينفروا إلى عدوهم ،
)( كافة ( ، يعني جميعاً ، ) فلولا نفر ( ، يعني فهلا نفر ، ) من كل فرقة منهم (
يعني من كل عصبة منهم ، ) طائفة ( ، وتقيم طائفة مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فيتعلمون ما يحدث
الله عز وجل على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، من أمر ، أو نهي ، أو سنة ، فإذا رجع هؤلاء الغيب ، تعلموا
من إخوانهم المقيمين .
فذلك قوله : ( ليتفقهوا في الدين ( ، يعني المقيمين ، ) ولينذروا قومهم ( ، يعني
وليحذروا إخوانهم ) إذا رجعوا إليهم ( من غزاتهم ، ) لعلهم يحذرون ) [ آية :(2/77)
صفحة رقم 78
122 ] ، يعنى لكي يحذروا المعاصي لتي عملوا بها قبل النهي .
التوبة : ( 123 ) يا أيها الذين . . . . .
) يأيها الذين ءامنوا ( ، يعني صدقوا بالله عز وجل ، ) قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ( ، يعنى الأقرب فالأقرب ، ) وليجدوا فيكم غلظة ( ، يعنى شدة عليهم
بالقول ، ) واعلموا أن الله مع المتقين ) [ آية : 123 ] في النصر لهم على عدوهم .
التوبة : ( 124 ) وإذا ما أنزلت . . . . .
) وإذا ما أنزلت سورة ( على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) فمنهم ( ، من المنافقين ، ) من يقول أيكم زادته هذه ( السورة ) إيمانا ( ، يعنى تصديقاً مع تصديقه بما أنزل الله عز وجل
من القرآن من قبل هذه السورة ، ) فأما الذَّين ءامنوا فزادتهم إِيماناً وَهُم يَستبشرُون (
[ آية : 124 ] بنزولها .
تفسير سورة التوبة من الآية : [ 125 - 126 ]
التوبة : ( 125 ) وأما الذين في . . . . .
) وأما الذين في قلوبهم مرض ( ، يعنى الشك في القرآن ، وهم المنافقون ،
)( فزادتهم ( السورة ) رجسا إلى رجسهم ( ، يعنى إثما إلى إثمهم ، يعنى نفاقاً مع
نفاقهم الذي هم عليه قبل ذلك ، ) وماتُواْ وَهُم كَفرُونَ ) [ آية : 125 ] .
التوبة : ( 126 ) أو لا يرون . . . . .
ثم أخبر عن المنافقين ، فقال : ( ولاَ يَرون أنهُم يُفتنُونَ في كُل عَامٍ مَرةً أو
مَرتين ( ، وذلك أنهم كانوا إذا خلوا تكلموا فيما لا يحل لهم ، وإذا أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم )
أخبرهم بما تكلموا به في الخلاء ، فيعلمون أنه نبي رسول ، ثم يأتيهم الشيطان ، فيحدثهم
أن محمداً إنما أخبركم بما قلتم ؛ لأنه بلغه عنكم ، فيشكون فيه .
فذلك قوله : ( يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ( ، فيعرفون أنه نبي ،
وينكرون أخرى ، يقول الله : ( ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ) [ آية : 126 ] فيما
أخبرهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما تكلموا به ، فيعرفوا ولا يعتبروا .
تفسير سورة التوبة من الآية : [ 127 ] .
التوبة : ( 127 ) وإذا ما أنزلت . . . . .
) وإذا ما أنزلت سورة نظر ( المنافقون ) بعضهم إلى بعض ( يسخرون بينهم ، يعنى(2/78)
صفحة رقم 79
يتغامزون ، فقالوا : ( هل يراكم من أحد ( ، يعنى أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ثم انصرفوا ( عن الإيمان بالسورة ، يقول : أعرضوا عن الإيمان بها ، ) صرف الله قلوبهم ( عن الإيمان بالقرآن ، ) بأنهم قوم لا يفقهون ) [ آية : 127 ]
تفسير سورة التوبة من الآية [ 128 ] .
التوبة : ( 128 ) لقد جاءكم رسول . . . . .
) لقد جاءكم ( يا أهل مكة ) رسول من أنفسكم ( تعرفونه ولا
تنكرونه ، ) عزيز عليه ما عنتم ( ، يقول : يعز عليه أثمتم في دينكم ، ) حريص عليكم ( بالرشد والهدى ، ) بِالمُؤمنينَ رَءوفٌ رَحِيمٌ ) [ آية : 128 ] ، يعنى يرق
لهم ، رحيم بهم ، يعنى حين يودهم ، كقوله : الرأفة ، يعنى الرقة والرحمة ، يعنى مودة
بعضكم لبعض ، كقوله : ( رحماء بينهم ) [ الفتح : 29 ] ، يعنى متوادين .
تفسير سورة التوبة من الآية : [ 129 ] .
التوبة : ( 129 ) فإن تولوا فقل . . . . .
) فإن تولوا ( عنك ، يعنى فإن لم يتبعوك على الإيمان يا محمد ، ) فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت ( ، يعنى به واثق ، ) وهو رب العرش العظيم ) [ آية :
129 ] ، يعنى بالعظيم العرش ، فنزلت هاتان الآيتان بمكة ، وسائرها بالمدينة .(2/79)
صفحة رقم 80
( سورة يونس )
مقدمة
( سورة يونس كلها مكية ، غير آيتين ، وهما قوله تعالى : ( فإن كنت في شك (
( إلى قوله : ( فتكون من الخاسرين ) [ آية : 94 ، 95 ] ، فإنهما مدنيتان ، وجملتها
مائة وتسع آيات في عدد الكوفي )
( بسم الله الرحمن الرحيم )
تفسير سورة يونس من الآية : [ 1 - 2 ]
يونس : ( 1 ) الر تلك آيات . . . . .
) آلر تِلكَ ءاياتُ الكِتَبِ الحَكيم ) [ آية : 1 ] ، يعنى المحكم ، يقال : الألف واللام
والراء ، فهن آيات الكتاب ، يعنى علامات الكتاب ، يعنى القرآن الحكيم ، يعنى المحكم من
الباطل ، ولا كذب فيه ، لا اختلاف .
يونس : ( 2 ) أكان للناس عجبا . . . . .
) أكان للناس عجبا ( ، يعنى بالناس كفار أهل مكة عجباً ، ) أن أوحينا إلى رجل منهم ( يعنى بالرجل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يعرفونه ولا ينكرونه ، ) أن أنذر ( ، يعنى حذر
) الناس ( عقوبة الله عز وجل ونقمته إذا عصوه ، ) وَبَشِرِ الَّذين ءامنُواْ ( ، يعنى صدقوا
بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبما في القرآن من الثواب ، ) أن لهم ( بأعمالهم التي قدموها بين أيديهم ،
)( قدم صدق ( ، يعني سلف خير ) عند ربهم ( يعنى ثواب صدق يقدمون عليه ، وهو
الجنة ، ) قال الكافرون ( من أهل مكة ، يعنى أبا جهل بن هشام ، والوليد بن المغيرة ،
والعاص بن وائل السهمي ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأهل مكة ، ) قال الكافرون (
) إن هذا لسحر ( ، يعنى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) مبين ) [ آية : 2 ] ، يعنى بين قوله .(2/80)
صفحة رقم 81
تفسير سورة يونس من الآية : [ 2 - 4 ] .
يونس : ( 3 ) إن ربكم الله . . . . .
) إن ربكم الله الذي خلق السماوات ( يوم الأحد ويوم الاثنين ، ) و ( خلق
) والأرض ( يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ، وما بينهما يوم الخميس ويوم الجمعة ، ) في ستة أيام ثم استوى على العرش ( ، فيها تقديم ، ) ثم استوى على العرش ( ، ثم خلق السموات
والأرض ، ) يدبر الأمر ( ، يقضي القضاء وحده لا يدبره غيره ، ) ما من شفيع ( من
الملائكة لبني آدم ، ) إلا من بعد إذنه ( ، يعنى لا يشفع أحد إِلا بإذنه ، ولا يشفع إلا
لأهل التوحيد ، فذلك قوله : ( إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى (
[ النجم : 26 ] ، فرضي الله للملائكة أن يشفعوا للموحدين ، ثم قال : : ( ذلكم الله (
يعنى هكذا ) ربكم فاعبدوه ( ، يعنى فوحدوه ولا تشركوا به شيئاً ، ) أفلا ( ،
يعنى فهلا ) تذكرون ) [ آية : 3 ] في ربوبيته ووحدانيته .
يونس : ( 4 ) إليه مرجعكم جميعا . . . . .
ثم قال : ( إليه مرجعكم جميعا ( بعد الموت ، ) وَعَد اللهِ حَقاً إِنهُ يَبدؤا الخَلق ثُمَ
يُعِيدُهُ ( ، ولم يك شيئاً كذلك يعيده من بعد الموت ، ) ليجزي ( يعنى لكي يثيب
في البعث ، ) الذين ءامنواْ ( ، يعنى صدقوا ، ) وَعَمِلُواْ الصَلِحتِ ( ، يعنى وأقاموا الفرائض
) بالقسط ( ، يعني بالحق وبالعدل وثوابهم الجنة ، ) و ( يجزي ) والذين كفروا (
بتوحيد الله ، ) لهم شراب من حميم ( ، وذلك الشراب قد أوقد عليه مذ يوم خلقها الله
عز وجل إلى يوم يدخلها أهلها ، فقد انتهى حرها ، ) وعذاب أليم ( ، يعنى وجيع
نظيرها في الواقعة : ( فنزل من حميم ) [ الواقعة : 93 ] ، ) بما كانوا يكفرون (
[ آية : 4 ] بتوحيد الله عز وجل .
تفسير سورة يونس الآية : [ 5 - 10 ] .(2/81)
صفحة رقم 82
يونس : ( 5 ) هو الذي جعل . . . . .
) هو الذي جعل الشمس ضياء ( بالنهار لأهل الأرض ، يستضيئون بها ، ) والقمر نورا ( بالليل ، ) وقدره منازل ( ، يزيد وينقص ، يعنى الشمس سراجاً والقمر نوراً
) لتعلموا ( بالليل والنهار ، ) عَدَدَ السّينينَ والحِسَابَ ( ، وقدره منازل لتعلموا بذلك
عدد السنين ، والحساب ، ورمضان ، والحج ، والطلاق ، وما يريدون بين العباد ، ) ما خلق الله ذلك ( ، يعنى الشمس والعمر ، ) إلا بالحق ( ، لم يخلقهما عبثاً ، خلقهما لأمر هو
كائن ، ) يفصل ( يبين ) الأيتِ ( ، يعنى العلامات ، ) لقوم يعلمون ) [ آية : 5 ]
بتوحيد الله عز وجل أن الله لما يرون من صنعه .
يونس : ( 6 ) إن في اختلاف . . . . .
ثم قال : ( إن في اختلاف الليل والنهار ( عليكم ) وَمَا خَلَقَ اللهُ في السَّمواتِ والأرض
لآَيَتٍ لِقَومٍ يتقُونَ ) [ آية : 6 ] عقوبة الله عز وجل .
يونس : ( 7 ) إن الذين لا . . . . .
قوله : ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ( ، يعنى لا يخشون لقاءنا ، يعنى البعث
والحساب ، ) ورضُواْ بالحَيَوةِ الدُّنيا واطمأنوا بِهَا ( ، فعملوا لها ، ) وَالذين هُم عَن ءايتنا ( ،
يعنى ما أخبر في أول هذه السورة ، ) غافلون ) [ آية : 7 ] ، يعنى ما ذكر من صنيعه في
هؤلاء الآيات لمعرضون ، فلا يؤمنون .
يونس : ( 8 ) أولئك مأواهم النار . . . . .
ثم أخبر بما أعد لهم في الآخرة ، فقال : ( أُولئِكَ مأوهُمُ النَّارُ ( ، يعنى مصيرهم
النار ، ) بما كانوا يكسبون ) [ آية : 8 ] من الكفر والتكذيب .
يونس : ( 9 ) إن الذين آمنوا . . . . .
ثم أخبر بما أعد للمؤمنين ، فقال : ( إِن الذينَ ءامنُواْ ( ، يعنى صدقوا بالله
) وعملوا الصالحات ( ، وأقاموا فرائض الله ، ) يهديهم ربهم بإيمانهم ( ، يعنى
بتصديقهم وتوحيدهم كما صدقوا ووحدوا ، كذلك يهديهم ربهم إلى الفرائض ، ويثيبهم
الجنة ، ) تجري من تحتهم الأنهار ( ، يعنى تحت قصورهم نور في نور ، قصور الدر
والياقوت ، وأنها تجري من غرفهم ، ) في جنات النعيم ) [ آية : 9 ] ، لا يكلفون فيها(2/82)
صفحة رقم 83
عملاً أبداً ، ولا يصيبهم فيها مشقة أبداً .
يونس : ( 10 ) دعواهم فيها سبحانك . . . . .
) دعواهم فيها سبحانك اللهم ( فهذا علم بين أهل الجنة وبين الخدم إذاً أرادوا الطعام
والشراب دعواهم أن يقولوا في الجنة : ( سبحانك اللهم ( ، فإذا الموائد قد جاءت ،
فوضعت ميلاً في ميل ، قوائمها اللؤلؤ ، ودخل عليهم الخدم من أربعة آلاف باب معهم
صحاف الذهب سبعون ألف صحفة ، في كل صحفة لون من الطعام ليس في صاحبتها
مثله ، كلما شبع ألقى الله عليه ألف باب من الشهوة ، كما شبع أتى بشربة تهضم ما
قبلها بمقدار أربعين عاماً ، ويؤتون بألوان الثمار ، وتجئ الطير أمثال البخث ، مناقيرها
لون ، وأجنحتها لون ، وظهورها لون ، وبطونها لون ، وقوائمها لون ، تتلألأ نوراً ، حتى
تقف بين يديه في بيت طوله فرسخ في فرسخ ، في غرفة فيها سرر موضونة ، والوضن
مشبك وسطه بقضبان الياقوت والزمرد الرطب ، ألين من الحرير ، قوائهما اللؤلؤ ، حافتاه
ذهب وفضة ، عليه من الفرش مقدار سبعين غرفة في دار الدنيا ، لو أن رجلاً وقع من
تلك الغرف لم يبلغ قرار الأرض سبعين عاماً .
فيأكلون ويشربون ، وتقوم الطير وتصطف بين يديه ، وتقول : يا ولي الله ، رعيت في
روضة كذا وكذا ، وشربت من عين كذا وكذا ، فأيتهن أعجبه وصفها وقعت على
مائدته نصفها قديد سبعون ألف لون من الطير الواحد ، والنصف شواء فيأكل منها ما
أحب ، ثم يطير فينطلق إلى الجنة ؛ لأنه ليس في الجنة من يموت ، ) وتحيتهم فيها سلام ( ،
وذلك أن يأتيه ملك من عند رب العزة ، فلا يصل إليه حتى يستأذن له حاجب فيقوم بين
يديه ، فيقول : يا ولي الله ، ربك يقرأ عليك السلام ، وذلك قوله تعالى : ( وتحيتهم فيها سلام ( ، من عند الرب تعالى ، فإذا فرغوا من الطعام والشراب ، قالوا : الحمد لله رب
العالمين ، وذلك قوله عز وجل : ( وَءاخِرُ دَعواهُم ( ، يعنى قولهم حين فرغوا من الطعام
والشراب ) أن الحمد لله رب العالمين ) [ آية : 10 ] .
تفسير سورة يونس من الآية : [ 11 - 14 ] .(2/83)
صفحة رقم 84
يونس : ( 11 ) ولو يعجل الله . . . . .
) ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ( ، وذلك حين قال النضر
بن الحارث : ( فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) [ الأنفال : 32 ]
فيصيبنا ، فأنزل الله عز وجل : ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ( ،
إذا أرادوه فأصابوه ، يقول الله : ولو استجيب لهم في الشر ، كما يحبون أن يستجاب لهم
في الخير ، ) لقضي إليهم أجلهم ( في الدنيا بالهلاك إذا ، ) فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ( ، فنذرهم لا يخرجون أبداً ، فذلك قوله : ( في طغيانهم يعمهون ) [ آية :
11 ] ، يعنى في ضلالتهم يترددون لا يخرجون منها إلا أن يخرجهم الله عز وجل .
وأيضاً ولو يعجل الله للناس ، يقول : ابن آدم يدعو لنفسه بالخير ، ويحب أن يعجل الله
ذلك ، ويدعو على نفسه بالشر ، يقول : اللهم إن كنت صادقاً فافعل كذا وكذا ، فلو يجعل
الله ذلك لقضي إليهم أجلهم ، يعنى العذاب ) فنذر ( ، يعنى فنترك ، ) الذين لا يرجون لقاءنا ( ، يعنى لا يخشون لقاءنا ، ) في طغيانهم يعمهون ( ، يعنى في ضلالتهم
يترددون لا يخرجون منها .
يونس : ( 12 ) وإذا مس الإنسان . . . . .
) وإذا مس الإنسان الضر ( ، يعنى المرض بلاء أو شدة ، نزلت في أبي حذيفة ، اسمه
هاشم بن الغميرة بن عبد الله المخزومي ، ) دعانا لجنبه ( ، يعنى لمضجعه في مرضه ،
)( أو ( دعانا ) قاعدا أو قائما ( ، كل ذلك لما كان ، ) فَلمَّا كَشَفنَا عَنهُ ضُرَّهُ
إلى ضُرٍ مَّسَّهُ ( ، ولا يزال يدعونا ما احتاج إلى ربه ، فإذا أعطى حاجته أمسك عن
الدعاء ، قال الله تعالى عند ذلك : استغنى عبدي ، ) كذلك ( ، يعنى هكذا ) زين للمسرفين ( ، يعنى المشركين ، ) ما كانوا يعملون ) [ آية : 12 ] من أعمالهم السيئة ،
يعنى الدعاء في الشدة .
يونس : ( 13 ) ولقد أهلكنا القرون . . . . .
) ولقد أهلكنا القرون ( بالعذاب في الدنيا ، ) من قبلكم ( يا أهل مكة ، ) لما(2/84)
صفحة رقم 85
ظَلمُواْ ( ، يعنى حين أشركوا ، يخوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية لكي لا يكذبوا
محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) وَجَاءتُهم رُسُلُهُم بالبَيناتِ ( ، يقول : أخبرتهم رسلهم بالعذاب أنه نازل
بهم في الدنيا ، ثم قال : ( وَمَا كَانُواْ ليُؤمِنُواْ ( ، يقول : ما كان كفار مكة ليصدقوا بنزول
العذاب بهم في الدنيا ، ) كَذلِكَ ( ، يعنى هكذا ) تجزِى ) ) بالعذاب ( ( القَومَ
المُجرِمينَ ) [ آية : 13 ] ، يعنى مشركي الأمم الخالية .
يونس : ( 14 ) ثم جعلناكم خلائف . . . . .
ثم قال لهذه الأمة : ( ثُمَّ جَعَناكُم ( يا أمة محمد ، ) خَلَئف في الأرض مِن بعدِهم
لينظُرَ كَيفَ تَعمَلُونَ ) [ آية : 14 ] .
تفسير سورة يونس من الآية : [ 15 - 18 ] .
يونس : ( 15 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
) وَإِذا تُتلَى عَلَيهم ءاياتُنَا بَيناتٍ ( ، يعني القرآن ، ) قال الذَّين لا يَرجُونَ
لِقَاءَنَا ( ، يعني لا يحسبون لقاءنا ، يعنى البعث ، ) ائتِ بِقُرءانٍ غَيرِ هَذا ( ليس فيه
قتال ، ) أَو بَدِلهُ ( ، فأنزل الله عز وجل : ( قُل ( يا محمد : ( مَا يكونُ لِى أن أُبدّلَهُ مِن
تَلقآئ نَفسِيَ إِن أَتبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلىَّ إنّي أَخافُ إِن عَصَيتُ رَبّي عذابَ يَومٍ عَظيمٍ (
[ آية : 15 ] .
يونس : ( 16 ) قل لو شاء . . . . .
وذلك أن الوليد بن المغيرة وأصحابه أربعين رجلاً أحدقوا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة حتى أصبح ،
فقالوا : يا محمد ، اعبد اللات والعزى ، ولا ترغب عن دين آبائك ، فإن كنت فقيراً جمعنا
لك من أموالنا ، وإن كنت خشيت أن تلومك العرب ، فقل : إن الله أمرني بذلك ، فأنزل
الله عز وجل : ( قُل ( يا محمد : ( افغيرَ اللهِ تأمُرُونِّى اعْبُدُ . . . ( إلى قوله : ( . .
. بَل
الله فاعْبُدْ ( ، يعنى فوحد ، ) وَكُن مِّن الشَّاكِرينَ ) [ الزمر : 64 - 66 ] ، على
الرسالة والنبوة .(2/85)
صفحة رقم 86
وأنزل الله عز وجل : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل ( ، يعنى محمد ، فزعم أني
أمرته بعبادة اللات والعزى ، ) لأخذنا منه باليمين ( ، يعنى بالحق ، ) ثم لقطعنا منه الوتين ) [ الحاقة : 44 - 46 ] وهو الحبل المعلق به القلب ، وأنزل الله تعالى : ( قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) [ الأنعام : 15 ] .
ثم قال لكفار مكة : ( قل لو شاء الله ما تلوته ( ، يعنى ما قرأت هذا القرآن ،
)( عليكم ولا أدراكم به ( ، يقول : ولا أشعركم بهذا القرآن ، ) فقد لبثت فيكم عمرا ( طويلاً أربعين سنة ، ) من قبله ( ، من قبل هذا القرآن ، فهل سمعتموني
أقرأ شيئاً عليكم ؟ ) أفلا ( ، يعني فهلا ) تعقلون ) [ آية : 16 ] أنه ليس متقول
منى ، ولكنه وحي من الله إلي .
يونس : ( 17 ) فمن أظلم ممن . . . . .
) فمن أظلم ( ، يعنى فمن أشد ظلماً لنفسه ، ) ممن افترى على الله كذبا ( ،
فزعم أن مع الله آلهة أخرى ، ) أَو كَذَّبَ بِئايَتِهِ ( ، يعنى بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبدينه ،
)( إنه لا يفلح المجرمون ) [ آية : 17 ] ، يعنى إنه لا ينجي الكافرون من عذاب الله
عز وجل .
يونس : ( 18 ) ويعبدون من دون . . . . .
) ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ( إن تركوا عبادتهم ، ) ولا ينفعهم ( إن
عبدوها ، وذلك أن أهل الطائف عبدوا اللات ، وعبد أهل مكة العزى ، ومناة ، وهبل ،
وأساف ، ونائلة ، لقبائل قريش ، وود لكلب بدومة الجندل ، وسواع لهذيل ، ويغوث لبني
غطيف من مراد بالجرف من سبأ ، ويعوق لهمذان ببلخع ، ونسر لذي الكلاع من حمير ،
قالوا : نعبدها لتشفع لنا يوم القيامة ، فذلك قوله : ( وَيقولُونَ هَؤلاءِ شُفَعَؤُنا عِندَ اللهِ قُل
أَتنبِئونَ اللهَ بما لاَ يَعلمُ في السموات وَلاَ في الأَرض سُبحانَهُ وتَعَالىَ عَمَّا يُشرِكُونَ (
[ آية : 18 ] .
تفسير سورة يونس من الآية : [ 19 - 23 ](2/86)
صفحة رقم 87
يونس : ( 19 ) وما كان الناس . . . . .
) وما كان الناس ( في زمان آدم ، عليه السلام ، ) إلا أمة واحدة ( ، يعنى ملة
واحدة مؤمنين لا يعرفون الأصنام والأوثان ، ثم اتخذوها بعد ذلك ، فذلك قوله :
( فاختلفوا ( بعد الإيمان ، ) ولولا كلمة سبقت من ربك ( قبل الغضب ،
لأخذناهم عند كل ذنب ، فذلك قوله : ( لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ) [ آية :
19 ] ، يعنى في اختلافهم بعد الإيمان .
يونس : ( 20 ) ويقولون لولا أنزل . . . . .
) ويقولون لولا ( ، يعنى هلا ) أُنزِلَ عَلَيهِ ءايَةٌ مِن رَّبِهِ ( مما سألوا ، يعنى في
بني إسرائيل ، ) وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) [ الإسراء :
90 ] ، يعنى لن نصدقك حتى تخرج لنا نهراً ، فقد أعيينا من ميح الدلاء من زمزم ومن
رءوس الجبال ، وإن أبيت هذا فلتكن لك خاصة ، ) جنة من نخيل ) [ الإسراء :
91 ] ، إلى قوله : ( كسفا ) [ الإسراء : 92 ] ، حين قال : ( إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء ) [ سبأ : 9 ] ، يعني قطعاً ، ) أو تأتي بالله ( عياناً فننظر إليه ، ) والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف ( ، يعنى
من ذهب ، ) أو ترقى في السماء ( ، يعنى أو تضع سلماً فتصعد إلى السماء ، ) ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ) [ الإسراء : 92 ، 93 ] ، يقول : ولسنا
نصدقك ، حتى تأتي بأربعة أملاك ، يشهدون أن هذا الكتاب من رب العزة ، وهذا قول
عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة .
فأنزل الله في قوله : ( أو تأتي بالله ( عياناً فننظر إليه : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) [ البقرة : 108 ] ، إذ قالوا : ( أرنا الله جهرة (
[ النساء : 153 ] ، وأنزل الله فيها : ( بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة (
[ المُدثر : 52 ] ، لقوله : [ كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) ) وأنزل الله ( ( وَمَا مَنَعَنَا أن نُّرْسِلَ بِالآياتِ إلاَّ
إن كَذبَ بَهَا الأوَّلُونَ ) [ الإسراء : 59 ] لأني إذا أرسلت إلى قوم آية ، ثم كذبوا ، لم(2/87)
صفحة رقم 88
أناظرهم بالعذاب ، وإن شئت يا محمد أعطيت قومك ما سألوا ، ثم لم أناظرهم بالعذاب
قال : ' يا رب لا ' رقة لقومه لعلهم يتقون .
ثم قال : ( فقل إنما الغيب لله ( ، وهو قوله : ( إنما يأتيكم به الله إن شاء (
) هود : 33 ( ) فانتظروا ( بي الموت ، ) إني معكم من المنتظرين ) [ آية : 20 ]
بكم العذاب القتل ببدر .
يونس : ( 21 ) وإذا أذقنا الناس . . . . .
) وإذا أذقنا الناس ( ، يعنى آتينا الناس ، يعنى كفار مكة ، ) رحمة ( ، يعنى المطر ،
)( من بعد ضراء ( ، يعنى القحط وذهاب الثمار ، ) مستهم ( يعني المجاعة سبع سنين ،
)( إذا لَهُم مَكرٌ في ءاياتنا ( ، يعنى تكذيباً ، يقول : إذ لهم قول في التكذيب بالقرآن
تكذيباً واستهزاء ، ) قل الله أسرع مكرا ( ، يعنى الله أشد إخزاء ، ) إن رسلنا ( من
الحفظة ) يكتبون ما تمكرون ) [ آية : 21 ] ، يعنى ما تعلمون .
يونس : ( 22 ) هو الذي يسيركم . . . . .
) هو الذي يسيركم في البر ( على ظهور الدواب والإبل ، ويهديكم لمسالك الطرق
والسبل ، ) و ( يحملكم في ) والبحر ( في السفن في الماء ، ويدلكم فيه بالنجوم ،
)( حتى إذا كنتم في الفلك ( ، يعنى في السفن ، ) وجرين بهم ( ، يعنى بأهلها ،
)( بريح طيبة ( ، يعنى غير عاصف ، ولا قاصف ، ولا بطيئة ، ) وفرحوا بها جاءتها (
يعني السفينة ، ) ريح عاصف ( قاصف ، يعنى غير لين ، يعنى ريحاً شديدة ، ) وجاءهم الموج من كل مكان ( ، يعنى من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، ومن فوقهم ، ) وظنوا (
يعنى وأيقنوا ) أنهم أحيط بهم ( ، يعنى أنهم مهلكون ، يعنى مغرقون ، ) دعوا الله مخلصين له الدين ( ، وضلت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله ، فذلك قوله : ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ) [ الإسراء : 67 ] ، ) لئن أنجيتنا من هذه ( المرة ) لنكونن من الشاكرين ) [ آية : 22 ] ، لا ندعو معك غيرك .
يونس : ( 23 ) فلما أنجاهم إذا . . . . .
) فَلَمَا أَنجهُم إِذا هُم يبغُونَ في الأرض ( ، يعنى يعبدون مع الله غيره ، ) بغير الحق ( ، إذ عبدوا مع الله غيره ، ) يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ( ضرره في
الآخرة ، ) مَتاعَ الحيواة الدُّنيا ( ، تمتعون فيها قليلاً إلى منتهى آجالكم ، ) ثم إلينا مرجعكم ( في الآخرة ، ) فننبئكم بما كنتم تعملون ) [ آية : 23 ](2/88)
صفحة رقم 89
تفسير سورة يونس من [ آية 24 - 25 ]
يونس : ( 24 ) إنما مثل الحياة . . . . .
) إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَواة الدُّنيا كماءٍ أَنْزَلْناهُ من السَّماءِ فاختلطَ بهِ نَبَات الأرض مِمَّا يأكُلُ النَّاسُ
والأنعامُ ( ، يقول : مثل الدنيا كمثل النبت بينا هو أخضر ، إذا هو قد يبس ، فكذلك
الدنيا إذا جاءت الآخرة ، يقول : أنزل الماء من السماء فأنبت به ألوان الثمار لبني آدم ،
وألوان النبات للبهائم ، ) حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ( ، يعنى حسنها وزينتها ،
)( وازينت ( بالنبات وحسنت ، ) وظن أهلها ( ، يعنى وأيقن أهلها ) أنهم قادرون عليها ( في أنفسهم ، ) أتاها أمرنا ( ، يعنى عذابنا ) ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا ( ، يعنى ذاهباً ) كأن لم تغن بالأمس ( ، يعنى تنعم بالأمس ، ) كذلك ( ،
يعنى هكذا تجئ الآخرة ، فتذهب الدنيا ونعيمها وتنقطع عن أهلها ، ) نفصل الآيات (
يعنى نبين العلامات ) لقوم يتفكرون ) [ آية : 24 ] في عجائب الله وربوبيته .
يونس : ( 25 ) والله يدعو إلى . . . . .
) واللهُ يدعواْ إلى دَارِ السلام ( ، يعنى دار نفسه ، وهي الجنة ، والله هو السلام ،
)( ويهدي من يشاء ( ، يعنى من أهل التوحيد ، ) إلى صراط مستقيم ) [ آية : 25 ] ، يعنى
دين الإسلام .
تفسير سورة يونس من الآية : [ 26 - 30 ] .(2/89)
صفحة رقم 90
يونس : ( 26 ) للذين أحسنوا الحسنى . . . . .
) للذين أحسنوا ( ، يعنى وحدوا الله ، ) الحسنى ( ، يعنى الجنة ، ) وزيادة ( ،
يعنى فضل على الجنة النظر إلى وجه الله الكريم ، ) ولا يرهق وجوههم قتر ( ، يعنى ولا
يصيب وجوههم قتر ، يعنى سواد ، ويقال : كسوف ، ويقال : هو السود ، ) ولا ذلة ،
يعنى ولا مذلة في أبدانهم عند معاينة النار ، ) أٌ وْلئكَ ( الذين هم بهذه المنزلة ) أصحب
الجنة هم فيها خالدون ) [ آية : 26 ] لا يموتون .
يونس : ( 27 ) والذين كسبوا السيئات . . . . .
) والذين كسبوا السيئات ( ، يعنى عملوا الشرك ، ) جزاء سيئة بمثلها ( ، يعنى
جزاء الشرك جهنم ، ) وترهقهم ذلةٌ ( ، يعنى مذلة في مذلة في مذلة أبدانهم ، ) ما لهم من الله من
عاصم ( ، يعنى مانع يمنعهم من العذاب ، ) كأنما اغشيت وجوههم قطعاً من اليل مظلماً ( ، يعنى سواد الليل ، ) أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ آية : 27 ] لا
يموتون .
يونس : ( 28 ) ويوم نحشرهم جميعا . . . . .
قوله : ( ويوم نحشرهم جميعاً ( ، يعنى الكفار وما عبدوا من دون الله ، ) ثم نقول
للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم ( ، يعنى بهم الآلهة ، ) فزيلنا بينهم ( ، يعنى
فميزنا بين الجزاءين ، ) وقال شركاؤهم ( يعنى الآلهة وهم الأصنام : ( ما كنتم إيانا
تعبدون ) [ آية : 28 ] .
يونس : ( 29 ) فكفى بالله شهيدا . . . . .
) فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا ( ، يعنى لقد كنا ، ) عن عبادتكم ) ) إيانا ( ( لغفلين ) [ آية : 29 ] ، وقد عبدتمونا وما نشعر بكم .
يونس : ( 30 ) هنالك تبلو كل . . . . .
ثم قال : ( هنالك ( ، يعنى عند ذلك ، ) تبلوا ( ، يعنى تختبر ) كل نفس ما(2/90)
صفحة رقم 91
أسلفت ( ، يعنى ما قدمت ، ) وردوا إلى الله مولهم الحق وضل عنهم ما كانوا
يفترون ) [ آية : 30 ] ، يعنى يعبدون في الدنيا من الآلهة .
تفسير سورة يونس من آية [ 31 - 39 ] .
يونس : ( 31 ) قل من يرزقكم . . . . .
) قل ( لكفار قريش : ( من يرزقكم من السمآء ( ، يعنى المطر ، ) وَ ) ) من ( ( والأرض ( ، يعنى البنات والثمار ، ) أمن يملك السمع ( ، فيسمعها المواعظ ،
)( والأبصار ( ، فيريها العظمة ، ) ومن يخرج الحي من الميت ( ، يعنى النسمة الحية من
النطفة ، ) ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر ( ، يعنى أمر الدنيا ، يعنى القضاء
وحده ، ) فسيقولون ( ، فسيقول مشركو قريش : ( الله ( يفعل ذلك ، فإذا أقروا بذلك ،
)( فقل ( يا محمد : ( أفلا ( ، يعنى أفهلا ) تتقون ) [ آية : 31 ] الشرك ، يعنى فهلا
تحذرون العقوبة والنقمة .
يونس : ( 32 ) فذلكم الله ربكم . . . . .
) فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلل ( ، فماذا بعد عبادة الحق والإيمان
إلا الباطل ، ) فأنى تصرفون ) [ آية : 32 ] .
يونس : ( 33 ) كذلك حقت كلمة . . . . .
) كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ) [ آية : 33 ] ، فأخبر
بعلمه السابق فيهم أنهم لا يؤمنون .
يونس : ( 34 ) قل هل من . . . . .
ثم قال : ( قل هل من شركآئكم ( ، يعنى لآلهة التي عبدوا من دون الله ، ) من يبدؤُاْ(2/91)
صفحة رقم 92
الخلق ثم يعيده ( ، يقول : هل من خالق غير الله يخلق خلقاً جديداً من النطفة على غير مثال ولا
مشورة ، أمَّن يعيد خلقاً من بعد الموت ، ) فسيقولون ( في ) قد أفلح المؤمنون ) ) ( ( لله ) [ المؤمنون : 85 ] ، ) قل ( أنت يا محمد : ( الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى
تؤفكون ) [ آية : 34 ] ، يقول : فمن أين تكذبون بتوحيد الله إذا زعمتم أن مع الله إلها
آخر .
يونس : ( 35 ) قل هل من . . . . .
) قل ( للكفار يا محمد : ( هل من شركائكم ( ، يعنى اللات ، والعزى ، ومناة آلهتهم
التي يعبدون ، ) من يهدى إلى الحق ( ؛ يقول : هل منهم أحد إلى الحق يهدى ، يعنى إلى
دين الإسلام ، ) قل الله ( يا محمد ) يهدى للحق ( ، وهو الإسلام ، ) أفمن يهدى إلى
الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى ( ، وهي الأصنام والأوثان ، ) إلا أن يهدى ( ، وبيان
ذلك من النحل : ( وهو كل على مولاه ) [ النحل : 76 ] ، ثم عابهم ، فقال : ( فما لكم
كيف تحكمون ) [ آية : 35 ] ، يقول : ما لكم ، كيف تقضون الجور ؟ ونظيرها في ) ن
والقلم ( ، حين زعمتم أن معي شريكاً .
يونس : ( 36 ) وما يتبع أكثرهم . . . . .
يقول : ( وما يتبع أكثرهم إلا ظناً ( ، يعنى الآلهة ، يقول : إن هذه الآلهة تمنعهم من
العذاب ، يقول الله : ( إن الظن لا يغنى ) ) عنهم ( ( من الحق شيئاً ( ، يعنى من العذاب شيئاً ، ) إن الله عليم بما يفعلون ) [ آية : 36 ] .
يونس : ( 37 ) وما كان هذا . . . . .
) وما كان هذا القرءان أن يفترى من دون الله ( ، وذلك لأن الوليد بن المغيرة وأصحابه ،
قالوا : يا محمد ، هذا القرآن هو منك وليس هو من ربك ، فأنزل الله تعالى : ( وما كان
هذا القرآن أن يفترى من دون الله ( ) ولكن تصديق الذي بين يديه ( ، يقول : القرآن
يصدق التوراة ، والزبور ، والإنجيل ، ) وتفصيل الكتب لا ريب فيه ( ، يعنى تفصيل
الحلال والحرام لا شك فيه ، ) من رب العلمين ) [ آية : 37 ] .
يونس : ( 38 ) أم يقولون افتراه . . . . .
) أم يقولون افترهٌ ( ، يا محمد على الله ، ) قٌ ل ( إن زعمتم أنى افتريته وتقولته ) فأتوا بسورة مثله ) ) مثل هذا القرآن ( ( وادعوا ( ، يقول : استعينوا عليه ) من
استطعتم من دون الله ( ، يعنى الآلهة ، ) إن كنتم صدقين ) [ آية : 38 ] أن الآلهة تمنعهم
من العذاب .(2/92)
صفحة رقم 93
يونس : ( 39 ) بل كذبوا بما . . . . .
يقول الله : ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ( إذ زعموا أن لا جنة ، ولا نار ، ولا بعث ،
)( ولما يأتيهم تأويله ( ، يعنى بيانه ، ) كذلك كذب الذين من قبلهم ( من الأمم الخالية ،
)( فانظر كيف كان عقبة الظلمين ) [ آية : 39 ] ، يعنى المكذبين بالبعث .
تفسير سورة يونس من آية [ 40 - 44 ] .
يونس : ( 40 ) ومنهم من يؤمن . . . . .
) ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به ( ، يعنى لا يصدق بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ودينه ،
ثم أخبر الله أنه قد علم من يؤمن به ومن لا يؤمن به من قبل أن يخلقهم ، فذلك قوله :
( وربك أعلم بالمفسدين ) [ آية : 40 ] .
يونس : ( 41 ) وإن كذبوك فقل . . . . .
) وإن كذبوك ( بالقرآن ، وقالوا : إنه من تلقاء نفسك ، ) فقل ( للمستهزئين من
قريش عبد الله بن أبي أمية وأصحابه ، ) لي عملي ولكم عملكم ( ، يقول : دين الله أنا
عليه ، ولكم دينكم الذي أنتم عليه ، ) أنتم بريئون مما أعمل وأنا برىء مما تعملون (
[ آية : 41 ] ^ ، يقول : أنتم بريئون من ديني ، وأنا بريء من دينكم ، يعنى من كفركم ، مثلها
في هود : ( قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ) [ هود :
54 - 55 ] .
يونس : ( 42 ) ومنهم من يستمعون . . . . .
) ومنهم ( ، يعنى مشركي قريش ، ) من يستمعون إليك ( ، يعنى يستمعون قولك ،
)( أفأنت ( يا محمد ) تسمع الصم ( ، يقول : كما لا يسمع الصم ، لا يسمع المواعظ من
قد سبقت له الشقاوة في علم الله تعالى ، ) ولو ( ، يعنى إذ ) كانوا لا يعقلون ) [ آية :
24 ] الإيمان .
يونس : ( 43 ) ومنهم من ينظر . . . . .
) ومنهم من ينظر إليك ( يا محمد ، ) أفأنت تهدى العمى ولو ( ، يعنى إذ
) كانوا لا يبصرون ) [ آية : 43 ] الهدى .
يونس : ( 44 ) إن الله لا . . . . .
) إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) [ آية : 44 ] ، يقول :(2/93)
صفحة رقم 94
نصيبهم ينقصون بأعمالهم إذا حرموا أنفسهم ثواب المؤمنين .
تفسير سورة يونس من آية [ 45 - 46 ] .
يونس : ( 45 ) ويوم يحشرهم كأن . . . . .
) ويوم يحشرهم ( في قبورهم إلى القيامة ، ) كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار ( ، يعنى
يوماً واحداً من أيام الدنيا ، ) يتعارفون بينهم ( ، يعنى يعرفون بعضهم بعضاً ، وتبيان ذلك
في الفصل في ) سأل سائل ) [ المعارج : 1 ] ، ) يبصرونهم ) [ المعارج : 11 ] ، يعنى
يعرفونهم ، ) قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ( ، يعنى البعث ، ) وما كانوا مهتدين ) [ آية : 45 ] .
يونس : ( 46 ) وإما نرينك بعض . . . . .
) وإما نرينك بعض الذي نعدهم ( يوم بدر ، ) أو نتوفينك ( قبل يوم بدر ، ) فإلينا مرجعهم ( في الآخرة ، فأنتقم منهم ، ) ثم الله شهيد على ما يفعلون ) [ آية : 46 ] من
الكفر والتكذيب .
تفسير سورة يونس من آية [ 47 - 52 ] .
يونس : ( 47 ) ولكل أمة رسول . . . . .
) ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط ( . يعنى بالحق ، وهو
العدل ، ) وهم لا يظلمون ) [ آية : 47 ] ، وذلك أن الله بعث الرسل إلى أممهم يدعون إلى
عبادة الله وترك عبادة الأصنام والأوثان ، فمن أجابهم إلى ذلك أثابه الله الجنة ، ومن أبى
جعل ثوابه النار .
فذلك قوله : ( قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ( ، وذلك عند وقت العذاب ،
)( وهم لا يظلمون ( ، يعنى وهم لا ينقصون من محاسنهم ، ولا يزادون على مساوئهم ما لم
يعلموها ،
يونس : ( 48 ) ويقولون متى هذا . . . . .
) ويقولون ( ، يعنى الكفار لنبيهم : ( متى هذا الوعد إن كنتم صدقين ) [ آية :
48 ] ، وذلك قوله : ( ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ) [ العنكبوت : 29 ] .(2/94)
صفحة رقم 95
يونس : ( 49 ) قل لا أملك . . . . .
) قل لا أملك لنفسي ضرا ( ، يعنى سوءاً ، ) ولا نفعا ( ، يعنى في الآخرة ، ) إلا ما شاء الله لكل أمة أجل ( وقت ، يقول : لكل أجل وقت ؛ لأنه سبقت الرحمة الغضب ، ) إذا جاء أجلهم ( ، يعني وقت العذاب ، ) فلا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون ) [ آية : 49 ] ،
يقول : لا يؤخر عنهم ساعة ، ولا يصيبهم قبل الوقت .
يونس : ( 50 ) قل أرأيتم إن . . . . .
) قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بيتا ( ، يعنى صباحا ، ) أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون ) [ آية : 50 ] .
يونس : ( 51 ) أثم إذا ما . . . . .
) أثم إذا ما وقع ( ، يعنى قول القرآن ، ) ءامنتم به ءآلئن ( حين لم تنفعكم ، ) وقد كنتم به ( ، يعنى بالعذاب ، ) تستعجلون ) [ آية 51 ] .
يونس : ( 52 ) ثم قيل للذين . . . . .
) ثم قيل للذين ظلموا ( ، يعنى كفروا : ( ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ) [ آية : 52 ] من الشرك ، يقول : جزاء الشرك جهنم .
تفسير سورة يونس من آية [ 52 - 54 ] .
يونس : ( 53 ) ويستنبئونك أحق هو . . . . .
) ويستنبئونك ( ، يقول : يسألونك : ( أحق هو ( ؟ يعنى العذاب الذي تعدنا به ،
ويقال : القرآن الذي أنزل إليك ، ) أحق هو ( ؟ ) قل إي وربي ( ، يعنى نعم وإلهي ،
)( إنه ( ، يعنى العذاب ، ) لحق ( ، يعنى لكائن ، ) وما أنتم بمعجزين ) [ آية :
53 ] ، يعنى بسابقي بأعمالكم الخبيثة في الدنيا قبل الآخرة .
يونس : ( 54 ) ولو أن لكل . . . . .
قوله : ( ولو أن لكل نفس ( كافرة ) ظلمت ما في الأرض ( ما لا ) لافتدت به (
نفسها يوم القيامة م عذاب جهنم ، ) وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ( ، يعنى حين رأوا
العذاب ، ) وقضي بينهم بالقسط ( ، يعنى بالعدل ، وصاروا إلى جعنم بشركهم ،
وصار المؤمنون إلى الجنة بإيمانهم ، ) وهم لا يظلمون ) [ آية : 54 ] .
تفسير سورة يونس من آية [ 55 - 56 ] .
يونس : ( 55 ) ألا إن لله . . . . .
قوله : ( ألا إن لله ما في السماوات والأرض ( ، يقول : هو رب من فيهما ، ) ألا إن وعد الله حق ( ، أن من وحده أثابه الجنة ، ومن كفر به عاقبه بالنار ، ) ولكن أكثرهم لا(2/95)
صفحة رقم 96
يعلمون ) [ آية : 55 ] يعنى من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ، وواحد إلى الجنة .
يونس : ( 56 ) هو يحيي ويميت . . . . .
ثم أخبر بصنيعه ليوحد ، فقال : ( هو يحي ( من النطف ، ) ويميت ( من بعد الحياة ،
فاعبدوا من يحيي ويميت ، ) وإليه ترجعون ) [ آية : 56 ] من بعد الموت ، فيجزيكم في
الآخرة .
تفسير سورة يونس من آية [ 57 - 61 ] .
يونس : ( 57 ) يا أيها الناس . . . . .
) يا أيها الناس قد جاءتكم موعظةٌ ( ، يعنى بينه ، ) من ربكم ( ، وهو ما بين الله في
القرآن ، ) وشفآءٌ لما في الصُّدورِ ( من الكفر والشرك ، ) و ) ) هذا القرآن ( ( وهدى (
من الضلالة ، ) ورحمة للمؤمنين ) [ آية : 57 ] لمن أحل حلاله ، وحرم حرامه .
يونس : ( 58 ) قل بفضل الله . . . . .
) قل بفضل الله ( ، يعنى القرآن ، ) وبرحمته ) ) الإسلام ( ( فبذلك فليفرحوا (
معشر المسلمين ، ) هو خير مما يجمعون ) [ آية : 58 ] من الأموال ، فلما نزلت هذه الآية قرأها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مرات .
يونس : ( 59 ) قل أرأيتم ما . . . . .
) قل ( لكفار قريش ، وخزاعة ، وثقيف ، وعامر بن صعصعة ، وبني مدلج ، والحارث(2/96)
صفحة رقم 97
أبني عبد مناة ، قل لهم : ( أرءيتم ما أنزل الله لكم من رزق ( ، يعنى البحيرة ،
والسائبة ، والوصية ، والحام ) فجعلتم منه حراما وحلالا ( ، يعنى حرمتم منه ما شئتم ،
)( وحللاً ( ، يعنى وحللتم منه ما شئتم ، ) قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون (
[ آية : 59 ] .
يونس : ( 60 ) وما ظن الذين . . . . .
) وما ظن الذين يفترون ( في الدنيا ) على الله الكذب ( ، فزعموا أن له شريكاً ،
)( يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ( ، حين لا يؤاخذهم عند كل ذنب ،
)( ولكن أكثرهم لا يشركون ) [ آية : 60 ] هذه النعم .
يونس : ( 61 ) وما تكون في . . . . .
) وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرأن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم
شهوداً ( ، يعنى إلا وقد علمته قبل أن تعلموه ، ) إذ تفيضون فيه ( ، وأنا شاهدكم ،
يعنى إذ تعملونه ، ) وما يعزب ( ، يعنى وما يغيب ) عن ربك من مثقال ذرة ( ، يعنى
وزن ذرة ، ) في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (
[ آية : 61 ] ، يعنى اللوح المحفوظ .
تفسير سورة يونس من آية [ 62 - 70 ] .
يونس : ( 62 ) ألا إن أولياء . . . . .
) ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ( إن يدخلوا جهنم ، ) ولا هم يحزنون ((2/97)
صفحة رقم 98
[ آية : 62 ] أن يخرجوا من الجنة أبداً .
يونس : ( 63 ) الذين آمنوا وكانوا . . . . .
) الذين ءامنوا ( ، يعنى صدقوا ، ) وكانوا يتقون ) [ آية : 63 ] الكبائر .
يونس : ( 64 ) لهم البشرى في . . . . .
) لهم البشرى في الحيواة الدنيا ( ، الرؤيا الصالحات ، ) وفي الآخرة ( إذا
خرجوا من قبورهم ، ) لا تبديل لكلمات الله ( ، يعنى لوعد الله أن من اتقاه ثوابه الجنة ،
ومن عصاه عقابه النار ، ) ذلك ( البشرى ) هو الفوز العظيم ) [ آية 64 ] .
يونس : ( 65 ) ولا يحزنك قولهم . . . . .
) ولا يحزنك قولهم ( يا محمد ، يعنى إذاهم ، ) إن العزة لله ( ، يعنى إن القوة
لله ، ) جميعا ( في الدنيا والآخرة ، ) هو السميع ( لقولهم ، ) العليم ) [ آية : 65 ]
بهم .
يونس : ( 66 ) ألا إن لله . . . . .
) ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض ( ، يقول : هو ربهم وهم عباده ،
ثم قال : ( وما يتبع الذين يدعون ( ، يعني يعبدون ) من دون الله شركاء ( ،
يعنى الملائكة ، ) إن يتبعون ( ، يعنى ما يتبعون ) إلا الظن ( ، يعنى ما يستيقنون بذلك ، ) وإن هم إلا يخرصون ) [ آية : 66 ] الكذب .
يونس : ( 67 ) هو الذي جعل . . . . .
ثم دل على نفسه بصنعه ليعتبروا فيوحدوه ، فقال : ( هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ( ، يعنى لتأووا فيه من نصب النهار ، ) والنهار مبصرا ( ، ضياء
ونوراً لتتغلبوا فيه لمعايشكم ، ) إن في ذلك ( ، يعنى في هذا ) لايت ( ، يعنى
لعلامات ) لقوم يسمعون ) [ آية : 67 ] المواعظ .
يونس : ( 68 ) قالوا اتخذ الله . . . . .
) قالوا اتخذ الله ولدا ( ، فنزه نفسه عن ذلك ، فقال : ( سبحانه هو الغني (
أن يتخذ ولداً ، ) له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا ( ،
يقول : فعندكم حجة بما تزعمون أنه له ولد ، ) أتقولون على الله ما لا تعلمون ) [ آية :
68 ] .
يونس : ( 69 ) قل إن الذين . . . . .
) قل ( يا محمد : ( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) [ آية : 69 ] ،
يعنى لا يفوزون إذا صاروا إلى النار .(2/98)
صفحة رقم 99
يونس : ( 70 ) متاع في الدنيا . . . . .
) متعٌ في الدنيا ( ، يعنى بلاغ في الحياة الدنيا ، ) ثم إلينا مرجعهم ( في الآخرة ، ) ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ) [ آية : 70 ] ، بقولهم : إن الملائكة
ولد الله .
تفسير سورة يونس من آية [ 71 - 76 ] .
يونس : ( 71 ) واتل عليهم نبأ . . . . .
) واتل عليهم ( ، يعنى واقرأ عليهم ) نبأ نوح ( ، يعنى حديث نوح ، ) إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم ( ، يعنى عظيم عليكم ، ) مقامي ( ، يعنى طول مكثي
فيكم ، ) وَتَذكيرِي بِئايت اللهِ ( ، يعنى تحذيري إياكم عقوبة الله ، ) فعلى الله توكلت ( ، يعنى بالله احترزت ، ) فأجمعوا أمركم وشركاءكم ( وآلهتكم ، ) ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ( ، يعنى سوءاً ، ) ثم اقضوا إلي ( ، يعنى ميلوا إلى ، ) ولا تنظرون ) [ آية : 71 ] ، يعنى ولا تمهلون .
يونس : ( 72 ) فإن توليتم فما . . . . .
) فإن توليتم ( ، يعنى عصيتم ، ) فما سألتكم من أجر ( ، يعنى من جعل ، ) إن أجري ( ، يعنى ثوابي ، ) إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ) [ آية : 72 ] ، يعنى
من الموحدين .(2/99)
صفحة رقم 100
يونس : ( 73 ) فكذبوه فنجيناه ومن . . . . .
) فكذبوه فنجينه ومن معه ( من المؤمنين ، ) في الفلك ( ، يعنى السفينة ،
)( وجعلنهم خلئف ( في الأرض من بعد نوح ، ) وأغرقنا الذين كذبوا بئايتنا ( ، يعنى
بنوح وما جاء به ، ) فانظر ( يا محمد ) كيف كان عاقبة المنذرين ) [ آية : 73 ] يعنى
المحذرين .
يونس : ( 74 ) ثم بعثنا من . . . . .
) ثم بعثنا من بعده ( ، يعنى من بعد نوح ، ) رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات ( ،
ثم أخبر بعلمه فيهم ، فقال : ( فما كانوا ليؤمنوا ( ، يعنى ليصدقوا ) بما كذبوا به ( ،
يعنى العذاب ، ) من قبل ( نزول العذاب ، ) كذلك نطبع ( ، يعنى هكذا نختم ) على قلوب المعتدين ) [ آية : 74 ] ، يعنى الكافرين .
يونس : ( 75 ) ثم بعثنا من . . . . .
) ثم بعثنا من بعدهم ( من بعد الأمم ، ) موسى وهارون إلى فرعون وملإيْهِ
بئايتنا ( ، يعنى بعلاماتنا اليد والعصا ، ) فاستكبروا ( ، يعنى فتكبروا عن الإيمان ، ) وكانوا قوما مجرمين ) [ آية : 75 ] ، يعنى كافرين .
يونس : ( 76 ) فلما جاءهم الحق . . . . .
) فلما جاءهم الحق من عندنا ( ، يعنى موسى وما جاء به من الآيات ، ) قالوا إن هذا لسحر مبين ) [ آية : 76 ] ، يعنى بين .
تفسير سورة يونس من آية : [ 77 - 83 ] .
يونس : ( 77 ) قال موسى أتقولون . . . . .
) قال موسى أتقولون للحق ( اليد والعصا ، ) لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون ) [ آية : 77 ] في الدنيا والآخرة .
يونس : ( 78 ) قالوا أجئتنا لتلفتنا . . . . .
) قالوا أجئتنا لتلفتنا ( ، يعنى لتصدنا ، ) عما وجدنا عليه ءابآءنا ( ، يعنى عما كانت
آباؤنا تعبد ، ) وتكون لكما الكبرياء ( ، يعنى موسى وهارون ، الكبرياء يعنى الملك ، ) في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين ) [ آية : 78 ] ، يعنى بمصدقين .(2/100)
صفحة رقم 101
يونس : ( 79 ) وقال فرعون ائتوني . . . . .
) وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم ) [ آية : 79 ] .
يونس : ( 80 ) فلما جاء السحرة . . . . .
) فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ) [ آية : 80 ] ، يعنى الحبال
والعصي .
يونس : ( 81 ) فلما ألقوا قال . . . . .
) فلما ألقوا ( الحبال والعصي ، سحروا أعين الناس ، ) قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله ( ، يعنى إن الله سيدحضه ويقهره ، ) إن الله لا يصلح عمل المفسدين ) [ آية : 81 ] ، يعنى إن الله لا يعطي أهل الكفر والمعاصي الظفر .
يونس : ( 82 ) ويحق الله الحق . . . . .
) ويحق الله الحق بكلمته ( ، يقول : يحق الله الدين بالتوحيد ، والظفر لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ،
)( ولو كره المجرمون ) [ آية : 82 ] .
يونس : ( 83 ) فما آمن لموسى . . . . .
) فمآ ءامن لموسى ( ، يعنى فما صدق لموسى ) إلا ذرية من قومه ( ، يعنى أهل
بيت أمهاتهم من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط ، ) على خوف من فرعون
وملإيهم ( ، يعنى ومن معه الأشراف من قومه الأبناء ، ) أن يفتنهم ( ، يعنى أن
يقتلهم ، ) وإن فرعون لعال في الأرض ( ، يعنى جباراً في الأرض ، ) وإنه لمن المسرفين ) [ آية : 83 ] ، يعنى المشركين .
تفسير سورة يونس من آية : [ 84 - 92 ] .(2/101)
صفحة رقم 102
يونس : ( 84 ) وقال موسى يا . . . . .
) وقال موسى يقوم إن كتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا ( ، يعنى احترزوا ، ) إن كنتم مسلمين ) [ آية : 84 ] ، يعنى إن كنتم مقرين بالتوحيد .
يونس : ( 85 ) فقالوا على الله . . . . .
) فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) [ آية : 85 ] ، يعنى الذين
كفروا ، يقول : ولا تعذبهم من أجلنا ، يقول : إن عذبتم فلا تجعلنا لهم فتنة .
يونس : ( 86 ) ونجنا برحمتك من . . . . .
) ونجنا برحمتك من القوم الكفرين ) [ آية : 86 ] .
حدثنا عبيد الله قال : سمعت أبي ، عن الهذيل في قوله : ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ( ، قال : سمعت أبا صالح يقول : ربنا لا تظفرهم بنا ، فيظنوا أنهم على حق
وأنا على باطل . قال : سمعت مرة أخرى يقول : لا تختبرنا ببلاء ، فيشمت بنا أعداؤنا من
ذلك وعافنا منه . قال : وسمعته مرة أخرى يقول : لا تبسط لهم في الرزق وتفتنا بالفقر ،
فنحتاج إليهم ، فيكون ذلك فتنة لنا ولهم .
يونس : ( 87 ) وأوحينا إلى موسى . . . . .
) وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما ( بنى إسرائيل ، ) بمصر بيوتا ( ، يعنى
مساجد ، ) واجعلوا بيوتكم قبلة ( ، يقول : اجعلوا مساجدكم قبل المسجد
الحرام ، ) وأقيموا ( في تلك البيوت ) الصلاة ( لمواقيتها ، ) وبشر المؤمنين (
[ آية : 87 ] .
يونس : ( 88 ) وقال موسى ربنا . . . . .
) وقال موسى ربنا إنك ءاتيت فرعون وملأهُ زينةً ( ، يعنى الملك ، ) وأمولاً ( ،
يعنى أنواع الأموال ، ) في الحيوة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ( ، يعنى إنما أعطيتهم
ليشكروا ولا يكفروا بدينك ، قال موسى : ( ربنا اطمس على أموالهم ( ، قال هارون :
آمين ، ) واشدد ( ، يعنى اختم ) على قلوبهم ( ، قال هارون : آمين ، ) فلا يؤمنوا ( ،
يعنى فلا يصدقوا ، ) حتى يروا العذاب الأليم ) [ آية : 88 ] ، فإذا رأوا العذاب الأليم آمنوا ،
ولم يغن عنهم شيئاً(2/102)
صفحة رقم 103
يونس : ( 89 ) قال قد أجيبت . . . . .
) قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ( إلى الله ، فصار الداعي والمؤمن شريكين ،
)( ولا تتبعان سبيل ( ، يعنى طريق ) الذين لا يعلمون ) [ آية : 89 ] بأن الله وحده لا
شريك له ، يعنى أهل مصر .
يونس : ( 90 ) وجاوزنا ببني إسرائيل . . . . .
) وجوزنا ببني إسرائيل البحر ( بيان ذلك في طه : ( فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى ) [ طه : 77 ] ، لا تخاف أن يدركك فرعون ،
ولا تخشى أن تغرق ، ) فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا ( ظلماً ، ) وعدوا ( ، يعنى اعتداء ،
)( حتى إذا أدركه الغرقُ قال ءامنت ( ، يعنى صدقت ، وذلك حين غشيه الموت ، ) أنه
لا إله إلا الذي ءامنت به بنوا إسرائيل ( ، يعنى بالذي صدقت به بنو إسرائيل من التوحيد ،
)( وأنا من المسلمين ) [ آية : 90 ] .
يونس : ( 91 ) آلآن وقد عصيت . . . . .
فأخبر جبريل ، عليه السلام ، كفا من حصباء البحر ، فجعلها في فيه ، فقال :
( ءآلئن ( عند الموت تؤمن ، ) وقد عصيت قبل ( ، أي قبل نزول العذاب ، ) وكنت من المفسدين ) [ آية : 91 ] ، يعنى من العاصين .
يونس : ( 92 ) فاليوم ننجيك ببدنك . . . . .
) فاليوم ننجيك ببدنك ( ، وذلك أنه لما غرق القوم ، قالت بنو إسرائيل : إنهم لم
يعرفوا ، فأوحى الله إلى البحر فطفا بهم على وجهه ، فنظروا إلى فرعون على الماء ، فمنذ
يومئذ إلى يوم القيامة تطفوا الغرقى على الماء ، فذلك قوله : ( لتكون لمن خلفك
ءايةً ( ، يعنى لمن بعدك إلى يوم القيامة آية ، يعني علماً ، ) وإن كثيراً من الناس عن
ءايتنا ( ، يعنى عجائبنا وسلطاننا ) لغفلُون ) [ آية : 92 ] ، يعنى لاهون .
تفسير سورة يونس من آية : [ 93 - 100 ] .(2/103)
صفحة رقم 104
يونس : ( 93 ) ولقد بوأنا بني . . . . .
) ولقد بوأنا ( ، يعنى أنزلنا ) بني إسرائيل مبوأ صدق ( ، منزل صدق ، وهو بيت
المقدس ، ) ورزقنهم من الطيبت ( ، يعنى المطر والنبت ، ) فما اختلفوا ( ، يعنى أهل
التوراة والإنجيل في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) حتى جاءهم العلم ( ، حتى بعثه الله عز وجل ، فلما
بعث كفروا به وحسدوه ، ) إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) [ آية :
93 ] .
يونس : ( 94 ) فإن كنت في . . . . .
) فإن كنت في شك ( يا محمد ) مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتب من
قبلك ( ، عبد الله بن سلام وأصحابه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذلك : ' لا أشك ، ولا أسأل
بعد ، أشهد أنه الحق من عند الله ' ، ) لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) [ آية : 94 ] ، يعنى من المشركين في القرآن بأنه جاء من الله تعالى .
يونس : ( 95 ) ولا تكونن من . . . . .
ثم حذر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأوعز إليه حين قالوا : إنما يلقنه الري على لسانه ، فقال : ( ولاَ
تكونن من الذين كذبوا بئايت الله ( ، يعنى القرآن كما كذب به كفر مكة ،
)( فتكون من الخاسرين ) [ آية : 95 ] .
يونس : ( 96 ) إن الذين حقت . . . . .
ثم قال : ( إن الذين حقت عليهم كلمت ربك ( ، يعنى وجبت عليهم كلمة
العذاب ، يقول : أي سبقت لهم الشقاوة من الله عز وجل في علمه ، ) لا يؤمنون ) [ آية :
96 ] ، يعنى لا يصدقون .
يونس : ( 97 ) ولو جاءتهم كل . . . . .
) ولو جاءتهم كل ءايةٍ حتى يروا العذاب الأليم ) [ آية : 97 ] كما سألوا في بني
إسرائيل ) حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) [ الإسراء : 90 - 93 ] إلى آخر
الآيات ، وكقوله : ( فلولا كان من القرون من قبلكم ) [ هود : 116 ] قال : كل شيء
في القرآن فلولا : فهلا ، إلا ما في يونس وهود .
يونس : ( 98 ) فلولا كانت قرية . . . . .
) فلولا كانت قرية ءامنت فنفعهآ إيمنها ( الإيمان عند نزول العذاب ، ) إلا قوم
يونس لمآ ءامنوا ( ، يعنى صدقوا وتابوا ، وذلك أن قوم يونس ، عليه السلام ، لما نظروا إلى(2/104)
صفحة رقم 105
العذاب فوق رءوسهم على قدر ميل ، وهم في قرية تسمى نينوى من أرض الموصل تابوا ،
فلبس المسوح بعضهم ، ونثروا الرماد على رءوسهم ، وعزلوا الأمهات من الأولاد ،
والنساء من الزواج ، ثم عجوا إلى الله ، فكشف الله عنهم العذاب ، ) كشفنا عنهم عذاب
الخزي في الحيوة الدنيا ومتعنهم إلى حين ) [ آية : 98 ] ، إلى منتهى آجالهم ، فأخبرهم يا محمد
أن التوبة لا تنفعهم عند نزول العذاب .
يونس : ( 99 ) ولو شاء ربك . . . . .
) ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) [ آية : 99 ] ، هذا منسوخ ، نسختها آية السيف في براءة .
يونس : ( 100 ) وما كان لنفس . . . . .
ثم دل على نفسه بصنعه ليعتبروا فيوحدوه ، فقال : ( وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ( ، يعنى أن تصدق بتوحيد الله حتى يأذن الله في ذلك ، ) ويجعل الرجس ( ،
يعنى الإثم ، ) على الذين لا يعقلون ) [ آية : 100 ] .
تفسير سورة يونس من آية [ 101 - 103 ] .
يونس : ( 101 ) قل انظروا ماذا . . . . .
ثم وعظ كفار مكة ، فقال : ( قل انظروا ماذا في السماوات ( ، يعنى الشمس ، والقمر ،
والنجوم ، والسحاب ، والمطر ، ) والأرض ( والجبال ، والأشجار ، والأنهار ، والثمار ،
والعيون ، ثم أخبر عن علمه فيهم ، فقال : ( وما تغنى الأيت ( ، يعنى العلامات
) والنذر ( ، يعنى الرسل ، ) عن قوم لا يؤمنون ) [ آية : 101 ] .
يونس : ( 102 ) فهل ينتظرون إلا . . . . .
ثم خوفهم بمثل عذاب الأمم الخالية ، فقال : ( فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ( ، يعنى قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، والقرون المعذبة ، ) قل فانتظروا (
الموت ، ) إني معكم من المنتظرين ) [ آية : 102 ] بكم العذاب .
يونس : ( 103 ) ثم ننجي رسلنا . . . . .
) ثم ننجي رسلنا والذين ءامنوا ( معهم ، ) كذلك ( ، يعنى هكذا ، ) حقا علينا ننج المؤمنين ) [ آية : 103 ] في الآخرة من النار ، وفي الدنيا بالظفر .(2/105)
صفحة رقم 106
تفسير سورة يونس من آية : [ 104 - 105 ]
يونس : ( 104 ) قل يا أيها . . . . .
) قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني ( الإسلام ، ) فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ( ، من الآلهة ، ) ولكن أعبد الله ( ، يعنى أوحد الله ، ) الذي يتوفكم وأُمرت أن أكون
من المؤمنين ) [ آية : 104 ] ، يعنى المصدقين .
يونس : ( 105 ) وأن أقم وجهك . . . . .
) وأن أقم وجهك للدين حنيفا ( ، يعنى مخلصاً ، ) ولا تكونن من المشركين (
[ آية : 105 ] بالله .
تفسير سورة يونس من آية : [ 106 - 107 ] .
يونس : ( 106 ) ولا تدع من . . . . .
) ولا تدع من دون الله ( ، يعنى ولا تعبد مع الله إلهاً غيره ، ) ما لا ينفعك ( ، يقول :
ما إن احتجت إليه لم ينفعك ، ) ولا يضرك ( ، يعنى فإن تركت عبادته في الدنيا لا
يضرك ، وإن لم تعبده ، ) فإن فعلت ( فعبدت غير الله ، ) فإنك إذا من الظالمين ) [ آية :
106 ] ، يعنى من المشركين .
يونس : ( 107 ) وإن يمسسك الله . . . . .
ثم خوفهم ليتمسك بدين الله : ( وإن يمسسك الله بضر ( ، يعنى بمرض ، ) فلا كاشف له ( لذلك الضر ، ) إلا هو ( ، يعنى الرب نفسه ، ) وإن يردك بخير (
بعافية وفضل ، ) فلا راد لفضله ( ، يعنى فلا دافع لقضائه ، ) يصيب به ( بذلك
الفضل ) من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ) [ آية : 107 ] .
تفسير سورة يونس من آية : [ 108 - 109 ] .
يونس : ( 108 ) قل يا أيها . . . . .
) قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ( ، يعنى القرآن ، ) فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل ( عن إيمان بالقرآن ، ) فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل ) [ آية : 108 ] نسختها آية السيف .
يونس : ( 109 ) واتبع ما يوحى . . . . .
) واتبع ما يوحى إليك ( ، يعنى الحلال والحرام ، ثم أوعز إلى نبيه ، عليه السلام ، ليصبر(2/106)
صفحة رقم 107
على تكذيبهم إياه وعلى الأذى ، فقال : ( واصبر ( يا محمد على الأذى ، ) حتى يحكم
الله وهو خير الحكمين ) [ آية : 109 ] ، فحكم الله عليها بالسيف فقتلهم ببدر ، وعجل الله
أرواحهم إلى النار ، فصارت منسوخة ، نسختها آية السيف .(2/107)
صفحة رقم 108
( سُورة هُود )
مقدمة
( مكية كلها ، غير هذه الآيات الثلاث ، فإنهن نزلن بالمدينة ، فالأولى قوله تعالى :
( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ) [ آية : 12 ] ، قوله تعالى : ( أوْلَيْكَ يُؤْمِنُون
به . . . ) [ آية : 17 ] ، نزلت في ابن سلام وأصحابه ، وقوله : ( إن الْحَسنَاتِ يُذهِبْنَ
السَّيئاتِ . . . ) [ آية : 114 ] ، نزلت في رهبان النصارى ، والله أعلم ، وهي مائة
وثلاث وعشرون آية )
( بسم الله الرحمن الرحيم )
تفسير سورة هود من الآية : [ 1 - 4 ]
هود : ( 1 ) الر كتاب أحكمت . . . . .
) الر كتابُ أُحكمت ءايتُهُ ( من الباطل ، يعنى آيات القرآن ، ) ثم فصلت ( ، يعنى
بينت أمره ، ونهيه ، وحدوده ، وأمر ما كان وما يكون ، ) من لدن حكيم ( ، يقول : من
عند حكيم لأمره ، ) خبير ) [ آية : 1 ] بأعمال الخلائق .
هود : ( 2 ) ألا تعبدوا إلا . . . . .
) ألا تعبدوا ( ، يعنى ألا توحدوا ، ) إلا الله ( ، يعنى كفار مكة ، ) إنني لكم منه ( ،
يعنى من الله ، ) نذير ( من عذابه ، ) وبشير ) [ آية : 2 ] بالجنة .
هود : ( 3 ) وأن استغفروا ربكم . . . . .
) وأن استغفروا ربكم ( من الشرك ، ) ثم توبوا إليه ( منه ، ) يمتعكم متاعا حسنا ( ،
يعنى يعيشكم عيشاً حسناً في الدنيا في عافية ولا يعاقبكم بالسنين ولا بغيرها ، ) إلى أجل مسمى ( ، يعنى إلى منتهى آجالكم ، ) ويؤت ( في الآخرة ، ) كل ذي فضل ( في
العمل في الدنيا ، ) فضله ( في الدرجات ، ) وإن تولوا ( ، يعنى تعرضوا عن الإيمان ،
)( فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) [ آية : 3 ] ، يعني عظيم ، فلم يتوبوا ، فحبس الله عنهم
المطر سبع سنين ، حتى أكلوا العظام ، والموتى ، والكلاب ، والجيف .(2/108)
صفحة رقم 109
هود : ( 4 ) إلى الله مرجعكم . . . . .
) إلى الله مرجعكم ( في الآخرة لا يغادر منكم أحد ، ) وَهُوَ عَلَى كُلِ شَيء ( من
البعث وغيره ، ) قدير ) [ آية : 4 ] .
تفسير سورة هود من آية [ 5 - 6 ] .
هود : ( 5 ) ألا إنهم يثنون . . . . .
) ألا إنهم يثنون صدورهم ( ، يعنى يلوون ، وذلك أن كفار مكة كانوا إذا سمعوا
القرآن ، نكسوا رءوسهم على صدورهم كراهية استماع القرآن ، ) ليستخفوا منه (
يعنى من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فالله قد علم ذلك منهم ، ثم قال : ( ألا حين يستغشون ثيابهم ( ،
يعنى يعلم ذلك ، ) يعلم ( الله حين يغطون رءوسهم بالثياب ، ) ما يسرون ( في
قلوبهم ، وذلك الخفي ، ) وما يعلنون ( بألسنتهم ، ) إنه عليم بذات الصدور ) [ آية :
5 ] ، يعنى بما في القلوب من الكفر وغيره .
هود : ( 6 ) وما من دابة . . . . .
) وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ( حيثما توجهت ، ) ويعلم مستقرها (
بالليل ، ) ومستودعها ( حيث تموت ، ) كل ( نفس كل المستقر والمستودع ، ) في كتاب مبين ) [ آية : 6 ] ، يقول : هو بين في اللوح المحفوظ .
تفسير سورة هود من الآية : [ 7 ] .
هود : ( 7 ) وهو الذي خلق . . . . .
) وهو الذي خلق السماوات والأرض ( وما بينهما ، ) في ستة أيام ( ، ثم استوى
على العرش ، يعنى استقر على العرش ، ) وكان عرشه على الماء ( قبل خلق
السموات والأرض ، وقبل أن يخلق شيئاً ، ) ليبلوكم ( ، يعنى خلقهما لأمر هو خلقهما وما فيهما من الآيات ليختبركم ، ) أيكم أحسن عملا ( لربه ، ) ولئن قلت ( يا محمد لكفار مكة : ( إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا ((2/109)
صفحة رقم 110
من أهل مكة : ( إن هذا إلا سحر مبين ) [ آية : 7 ] ، يقول : ما هذا الذي يقول محمد
( صلى الله عليه وسلم ) إلا سحر بين ، حين يخبرنا أنه يكون البعث بعد الموت .
تفسير سورة هود من الآية : [ 8 - 11 ] .
هود : ( 8 ) ولئن أخرنا عنهم . . . . .
) ولئن أخرنا عنهم العذاب ( ، يعنى كفار مكة ، ) إلى أمة معدودة ( ، يعنى إلى سنين
معلومة ، نظيرها في يوسف : ( وَاذكرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) [ يوسف : 45 ] ، يعنى بعد سنين ، يعنى
القتل ببدر ، ) ليقولن ( يا محمد ) ما يحبسه ( عنا ، يعنون العذاب تكذيباً ، يقول الله :
( ألا يوم يأتيهم ( العذاب ) ليس مصروفا عنهم ( ، يقول : ليس أحد يصرف العذاب
عنهم ، ) وحاق ( ، يعنى ودار ) بهم ما كانوا به ( ، يعنى بالعذاب ) يستهزِءُونَ (
[ آية : 8 ] بأنهُ ليس بنازل بهم .
هود : ( 9 ) ولئن أذقنا الإنسان . . . . .
) ولئن أذقنا الإنسان ( ، يعنى آيتنا الإنسان ، ) منا رحمة ( يعنى نعمة ، يقول :
أعطينا الإنسان خيراً وعافية ، ) ثُم نَزعناها مِنهُ إِنَّهُ لَيُئوسٌ ( عند الشدة من الخير ،
)( كفور ) [ آية : 9 ] لله في نعمة الرخاء .
هود : ( 10 ) ولئن أذقناه نعماء . . . . .
) ولئن أذقناه نعماء ( ، يقول : ولئن آتيناه خيراً وعافية ، ) بعد ضراء مسته ( ،
يقول : بعد شدة وبلاء أصابه ، يعنى الكافر ، ) ليقولن ذهب السيئات عني ( الضراء
الذي كان نزل به ، ) إنه لفرح ( ، يعنى لبطر في حال الرخاء والعافية ، ثم قال :
( فخور ) [ آية : 10 ] في نعم الله عز وجل ، إذ لا يأخذها بالشكر .
هود : ( 11 ) إلا الذين صبروا . . . . .
ثم استثنى ، فقال : ( إلا الذين صبروا ( على الضر ، ) وعملوا الصالحات ( ليسوا
كذلك ، ) أولئك لهم مغفرة ( لذنوبهم ، ) وأجر كبير ) [ آية : 11 ] ، يعنى وأجر
عظيم في الجنة .
تفسير سورة هود من آية [ 12 - 14 ] .(2/110)
صفحة رقم 111
هود : ( 12 ) فلعلك تارك بعض . . . . .
) فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ( ، وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في
يونس : ( ائت بقرآن غير هذا ( ، ليس فيه ترك عبادة آلهتنا ولا عيبها ، ) أو بدله (
[ يُونس : 15 ] أنت من تلقاء نفسك ، فهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا يسمعهم عيبها رجاء أن
يتبعوه ، فأنزل الله تعالى : ( فَلعَك تَاركُ بَعضَ مَا يُوحَى إليكَ ( ، يعنى ترك ما أنزل
إليك من أمر الآلهة ، ) وضائق به صدرك ( في البلاغ ، أراد أن يحرضه على البلاغ ،
)( أن يقولوا لولا ( ، يعنى هلا ، ) أنزل عليه كنز ( ، يعنى المال من السماء فيقسمه بيننا ،
)( أو جاء معه ملك ( يعينه ويصدقه بقوله : إن كان محمد صادقاً في أنه رسول ، ثم
رجع إلى أول هذه الآية ، فقال : بلغ يا محمد ، ) إنَّما أَنت نَذيرٌ والله عَلَى كُل شَيءٍ
وَكِيلُ ) [ آية : 12 ] ، يعنى شهيد بأنك رسول الله تعالى .
هود : ( 13 ) أم يقولون افتراه . . . . .
) أم ( ، يعنى بل ، ) يقولون ( إن محمداً ) افتراه ( ، قالوا : إنما يقول محمد هذا
القرآن من تلقاء نفسه ، ) قل ( لكفار مكة : ( فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ( ، يعنى
مختلفات مثله ، يعنى مثل القرآن ، ) وادعوا ( ، يعنى واستعينوا عليه ، ) من استطعتم (
من الآلهة التي تعبدون ، ) من دون الله إن كنتم صادقين ) [ آية : 13 ] بأن محمداً تقوله
من تلقاء نفسه .
قال في هذه السورة : ( فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ( ، فلم يأتوا ، ثم قال في
سورة يونس : ( فأتوا بسورة مثله ) [ يونس : 38 ] واحدة ، وفي البقرة أيضاً : ( فأتوا بسورة من مثله ) [ البقرة : 23 ] ، فقال الله في التقديم : ولن تفعلوا البتة أن تجيئوا
بسورة : ( فإن لم تفعلوا ) [ البقرة : 24 ] ، يعنى فإذا لم تفعلوا ، فاتقوا النار التي أعدت
للكافرين ،
هود : ( 14 ) فإن لم يستجيبوا . . . . .
) فإلَّم يَستَجِيبُواْ لَكُم ( ، يعنى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحده ، يقول : فإن لم تفعلوا ذلك يا
محمد ، فقل لهم : يا معشر كفار مكة : ( فاعلموا أنما أنزل ( هذا القرآن ) بعلم الله ( ،
يعنى بإذن الله ، وقراءة ابن مسعود : أنما أنزل بإذن الله ، ) و ( اعلموا ) وأن لا إله إلا هو ( بأنه ليس له شريك ، إن لم يجيئوا بمثل هذا القرآن قل لهم : ( فهل أنتم مسلمون ) [ آية : 14 ] ، يعنى مخلصين بالتوحيد .(2/111)
صفحة رقم 112
تفسير سورة هود من الآية : [ 15 - 16 ] .
هود : ( 15 ) من كان يريد . . . . .
) من كان ( من الفجار ، ) يريد ( بعمله الحسن ) الحيوة الدُّنيا وزينتها ( لا يريد
وجه الله ، ) نوف ( ، يعني نوفي ) إليهم ( ثواب ) أعمالهم فيها ( ، يعنى في الدنيا من
الخير والرزق ، نظيرها في حم عسق ، ثم قال : ( وهم فيها لا يبخسون ) [ آية : 15 ]
نسختها الآية التي في بني إسرائيل : ( عجلنا له فيها ما نشاء ) [ الإسراء : 18 ] ،
يقول : وهم في الدنيا لا ينقصون من ثواب أعمالهم .
هود : ( 16 ) أولئك الذين ليس . . . . .
ثم أخبر بمنزلتهم في الآخرة ، فقال : ( أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها ( ، يقول : بطل في الآخرة ما عملوا في الدنيا ، ) وباطل ما كانوا يعملون ) [ آية : 16 ] ، فلم يقبل منهم أعمالهم ؛ لأنهم عملوها للدنيا ، فلم
تنفعهم .
تفسير سورة هود من الآية : [ 17 - 22 ] .
هود : ( 17 ) أفمن كان على . . . . .
) أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه ( ، يعنى القرآن ، ) شاهد منه ( ، يقول :
يقرؤه جبريل ، عليه السلام ، على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو شاهد لمحمد أن الذي يتلوه محمد من
القرآن أنه جاء من الله تعالى .
ثم قال : ( ومن قبله كتاب موسى ( ، يقول : ومن قبل كتابك يا محمد ، قد تلاه(2/112)
صفحة رقم 113
جبريل على موسى ، يعنى التوراة ، ) إماما ( يقتدي به ، يعنى التوراة ، ) ورحمة ( لهم
من العذاب ، لمن آمن به ، ) أولئك يؤمنون به ( ، يعنى أهل التوراة يصدقون بالقرآن
كقوله في الرعد : ( والذين آتيناهُم الْكتابَ يفْرحُونَ ) [ الرعد : 36 ] ، يعنى بقرآن
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنه من الله عز وجل .
) ومن يكفر به ( بالقرآن ) من الأحزاب ( ، يعنى ابن أمية ، وابن المغيرة ، وابن عبد
الله المخزومي ، وآل أبي طلحة بن عبد العزى ، ) فالنار موعده ( ، يقول : ليس الذي
عمل على بيان من ربه كالكافر بالقرآن موعده النار ليسوا بسواء ، ) فلا تك في مرية منه ( ، وذلك أن كفار قريش قالوا : ليس القرآن من الله ، إنما تقوله محمد ، وإنما يلقيه
الري ، وهو شيطان يقال له : الري ، على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأنزل الله : ( فلا تك في مرية منه ( ، يقول : في شك من القرآن ، ) إنه الحق من ربك ( ، إنه من الله عز وجل ، وأن
القرآن حق من ربك ، ) ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) [ آية : 17 ] ، يعنى ولكن
أكثر أهل مكة لا يصدقون بالقرآن أنه من عند الله تعالى .
هود : ( 18 ) ومن أظلم ممن . . . . .
ثم ذكرهم ، فقال : ( ومن أظلم ( ، يقول : فلا أحد أظلم ) ممن افترى ( ، يعنى
تقول ) على الله كذبا ( بأن معه شريكاً ، ) أولئك ( الكذبة ) يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد ( ، يعنى الأنبياء ، ويقال : الحفظة ، ويقال : الناس ، مثل قول الرجل :
على رءوس الأشهاد ، ) هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ( ، يعنى بالأشهاد ، يعنى
الأنبياء ، فإذا عرضوا على ربهم ، قالت الأنبياء : نحن نشهد عليكم أنا شهدنا بالحق
فكذبونا ، ونشهد أنهم كذبوا على ربهم ، وقالوا : إن مع الله شريكاً ، ) ألا لعنة الله على الظالمين ) [ آية : 18 ] ، يعنى المشركين ، نظيرها في الأعراف : ( أن لعنة الله على الظالمين ) [ الأعراف : 44 ] .
هود : ( 19 ) الذين يصدون عن . . . . .
ثم أخبر عنهم ، فقال : ( الذين يصدون عن سبيل الله ( ، يعنى دين الإسلام ،
)( ويبغونها عوجا ( ، يقول : ويريدون بملة الإسلام زيفاً ، ) وهم بالآخرة ( ، يعنى بالبعث
الذي فيه جزاء الأعمال ، ) هُمْ كَافِرُونَ ) [ آية : 19 ] ، يعنى بأنه ليس بكائن .
هود : ( 20 ) أولئك لم يكونوا . . . . .
ثم نعتهم ، فقال : ( أولئك لم يكونوا معجزين ( ، يعنى بسابقي الله ) في الأرض (
هرباً حتى يجزيهم بأعمالهم الخبيثة ، ) وما كان لهم من دون الله من أولياء ( ، يعنى أقرباء
يمنعونهم من الله ، ) يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع ( ، يعنى ما كانوا على(2/113)
صفحة رقم 114
سمع إيمان بالقرآن ، ) وما كانوا يبصرون ) [ آية : 20 ] الإيمان بالقرآن ؛ لأن الله جعل
في آذانهم وقراً ، وعلى أبصارهم غشاوة .
هود : ( 21 ) أولئك الذين خسروا . . . . .
ثم نعتهم ، فقال : ( أولئك الذين خسروا أنفسهم ( ، يعنى غبنوا أنفسهم ، ) وضل عنهم ما كانوا يفترون ) [ آية : 21 ] .
هود : ( 22 ) لا جرم أنهم . . . . .
) لا جرم ( حقاً ، ) أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) [ آية : 22 ] .
تفسير سورة هود من الآية : [ 23 - 24 ] .
هود : ( 23 ) إن الذين آمنوا . . . . .
ثم أخبر عن المؤمنين وما أعد لهم ، فقال : ( إِن الَّذين ءامنُواْ وَعَملُواْ الصالِحات وأَخبتُواْ
إِلى رَبِهِم ( ، يعنى وأخلصوا إلى ربهم ، ) أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (
[ آية : 23 ] لا يموتون .
هود : ( 24 ) مثل الفريقين كالأعمى . . . . .
ثم ضرب مثلاً للمؤمنين والكافرين ، فقال : ( مثل الفريقين ( المؤمن والكافر ،
)( كالأعمى ( عن الإيمان لا يبصر ، ) والأصم ( عن الإيمان ، فلا يسمعه ، يعنى
الكافر ، ثم ذكر المؤمن ، فقال : ( والبصير والسميع ( للإيمان ، ) هل يستويان مثلا ( ،
يقول : هل يستويان في الشبه ، فقالوا : لا ، فقال : ( أفلا تذكرون ) [ آية : 24 ] أنهما لا
يستويان فتعتبروا .
تفسير سورة هود الآية : [ 25 - 35 ](2/114)
صفحة رقم 115
هود : ( 25 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . . .
ولما كذب كفار مكة محمداً بالرسالة ، أخبر الله محمداً ، عليه السلام ، أنه أرسله رسولاً
كما أرسل نوحا ، وهودا ، وصالحاً ، ولوطاً ، وشعيباً ، في هذه السورة ، فقال : ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ( ، فقال لهم : ( إني لكم نذير ( من العذاب في الدنيا ، ) مبين (
[ آية : 25 ] ، يعنى بين ، نظيرها في سورة نوح .
هود : ( 26 ) أن لا تعبدوا . . . . .
ثم قال : ( أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم ( في الدنيا ، ) عذاب يوم أليم ) [ آية : 26 ] ، يعنى وجيع .
هود : ( 27 ) فقال الملأ الذين . . . . .
) فقال الملأ ( الأشراف ) الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا ( ، يعنى
إلا آدمياً مثلنا لا تفضلنا بشيء ، ) وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ( ، يعنى
الرذالة من الناس السفلة ، ) بادي الرأي ( ، يعنى بدا لنا أنهم سفلتنا ، ) وما نرى لكم علينا من فضل ( في مُلك ولا مال ولا شيء فنتبعك ، يعنون نوحاً ، ) بل نظنكم (
يعنى نحسبك من ال ) كاذبين ) [ آية : 27 ] حين تزعم أنك رسول نبي .
هود : ( 28 ) قال يا قوم . . . . .
) قال يا قَومِ أَرءيتُم إِن كُنتُ عَلَى بينَةٍ مِن رَّبِي ( ، يعنى بيان من ربي ، ) وءاتني
رحمةً ( ، يعنى وأعطاني نعمة ، ) من عنده ( ، وهو الهدى ، ) فعميت عليكم ( ، يعنى
فخفيت عليكم الرحمة ، ) أنلزمكموها وأنتم لها ( ، يعنى الرحمة ، وهي النعمة والهدى ،
)( كارهون ) [ آية : 28 ] .
هود : ( 29 ) ويا قوم لا . . . . .
) وَيا قَومٍ لا أَسئلُكُم عَليهِ مَالاً ( ، يعنى جُعلاً على الإيمان ، ) إن أجري ( ، يعنى
ما جزائي ، ) إلا على الله ( في الآخرة ، ) وَمَا أنا بِطَارِدِ الذَّين ءامَنُواْ ( ، يعنى وما أنا
بالذي لا أقبل الإيمان من السفلة عندكُم ، ثم قال : ( إِنَّهُم مُلَقُواْ رَبِهِم ( ، فيجزئهم
بإيمانهم ، كقوله : ( إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون ) [ الشعراء : 113 ] ، يعنى
لو تعلمون إذا لقوه ، ) ولكني أراكم قوما تجهلون ) [ آية : 29 ] ما آمركم به ، وما
جئت به .
هود : ( 30 ) ويا قوم من . . . . .
) ويا قوم من ينصرني ( يمنعني ) من الله إن طردتهم ( ، يعنى إن لم أقبل منهم الإيمان ،(2/115)
صفحة رقم 116
أي من السفلة ، ) أفلا ( ، يعنى أفهلا ) تذكرون ) [ آية : 30 ] أنه لا مانع لأحد من
الله .
هود : ( 31 ) ولا أقول لكم . . . . .
) ولا أقول لكم عندي خزائن الله ( ، يعنى مفاتيح الله بأنه يهدي السفلة دونكم ،
)( ولا أعلم الغيب ( ، يقول : ولا أقول لكم عندي غيب ذلك إن الله يهديهم ، وذلك
قول نوح في الشعراء : ( وما علمي بما كانوا يعملون ) [ الشعراء : 112 ] ، ثم قال
لهم نوح : ( ولا أقول ( لكم ) إني ملك ( من الملائكة ، إنما أنا بشر ، لقولهم : ( ما نراك إلا بشرا مثلنا ) [ هود : 27 ] إلى آخر الآية .
) ولا أقول للذين تزدري أعينكم ( ، يعنى السفلة ، ) لن يؤتيهم الله خيرا ( ، يعنى
إيماناً ، وإن كانوا عندكم سفلة ، ) الله أعلم بما في أنفسهم ( ، يعنى بما في قلوبهم ، يعنى
السفلة من الإيمان ، قال نوح : ( إني إذا لمن الظالمين ) [ آية : 31 ] إن لم أقبل منهم
الإيمان .
هود : ( 32 ) قالوا يا نوح . . . . .
) قَالواْ يا نُوحُ جَادلتَنَا ( ، يعنى ماريتنا ، ) فأكثرت جدالنا ( ، يعنى مراءنا ،
)( فأتنا بما تعدنا ( من العذاب ، ) إن كنت من الصادقين ) [ آية : 32 ] بأن العذاب
نازل بنا ، لقوله في هذه الآية الأولى : ( إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) [ هود :
26 ] .
هود : ( 33 ) قال إنما يأتيكم . . . . .
وذلك أن الله أمر نوحاً أن ينذرهم العذاب في سورة نوح فكذبوه ، فقالوا : ( فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( ، بأن العذاب نازل بنا ، فرد عليهم نوح : ( قال إنما يأتيكم به الله إن شاء ( ، وليس ذلك بيدي ، ) وما أنتم بمعجزين ) [ آية : 33 ] ، يعنى
بسابقي الله بأعمالكم الخبيثة حتى يجزيكم بها .
هود : ( 34 ) ولا ينفعكم نصحي . . . . .
) ولا ينفعكم نصحي ( فيما أحذركم من العذاب ، ) إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ( ، يعنى يضلكُم عن الهدى ، ف ) هو ربكم ( ، ليس له شريك ،
)( وإليه ترجعون ) [ آية : 34 ] بعد الموت ، فيجزيكم بأعمالكم .
هود : ( 35 ) أم يقولون افتراه . . . . .
ثم ذكر الله تعالى كفار أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل مكة ، فقال : ( أُم يَقُولُونَ
افترَهُ ( ، نظيرها في حم الزخرف : ( أم أنا خير ( ، يعنى بل أنا خير ) مِّن هَذا(2/116)
صفحة رقم 117
الذي هُوَ مَهِين ) [ الزخرف : 52 ] .
) افتراَهُ ( ، قالوا : محمد يقول هذا القرآن من تلقاء نفسه ، وليس من الله ، ) قُل إِن
افتريتُهُ ( ، يعنى تقولته من تلقاء نفسي ، ) فَعَلىَ إِجرامِي ( ، فعلى خطيئتي بافترائي على
الله ، ) وَأناْ بَريءٌ مِمَّا تُجرِمُونَ ) [ آية : 35 ] ، يعنى بريء من خطاياكم ، يعنى كفركم
بالله عز وجل .
تفسير سورة هود من الآية : [ 36 - 40 ] .
هود : ( 36 ) وأوحي إلى نوح . . . . .
ثم ذكر نوحاً ، فقال : ( وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤمِنَ مِن قومِكَ إِلا مَن قَد
ءامن ( ، يعنى إلا من صدق
بتوحيد الله ، ) فَلاَ تَبتَئِس ( ، يعنى فلا تحزن ، ) بِمَا كَانُواْ يَفعلُونَ ) [ آية : 36 ] ، يعنى
بكفرهم بالله عز وجل .
هود : ( 37 ) واصنع الفلك بأعيننا . . . . .
) واصنَعِ الفُلِكَ ( ، يعنى السفينة واعمل فيها ، ) بِأَعْيُنَنا ( ، يعنى بعلمنا ،
)( وَوحِينا ( كما نأمرك ، فعملها نوح في أربعمائة سنة ، وكانت السفينة من ساج ،
)( ولا تُخاطِبني ( ، يقول : ولا تراجعني ) في الذَّينَ ظَلمُواْ ( ، يعنى الذين أشركوا ، وهو
ابنه كنعان بن نوح ، فإنه من الذين ظلموا ، ) إِنَّهُم مُغَرقُونَ ) [ آية : 37 ] لقول نوح :
( رَبِّ إِن ابني مِن أَهلي وَإن وَعدَكَ الحَقُ وَأَنْتَ أَحكمُ الحاكِمينَ ) [ آية : 45 ] .
هود : ( 38 ) ويصنع الفلك وكلما . . . . .
) وَيَصنَعُ الفُلِكَ ( ، يعنى يعمل فيها ، ) وَكُلَّما مَرَّ عَلَيهِ ( ، يعنى كلما أتى عليه
) ملأٌ ( ، يعنى أشراف ) مِن قَومِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ ( حين يزعم أنه يصنع بيتاً يسير على
الماء ، ولم يكونوا رأوا سفينة قط ، ) قَالَ ( لهم نوح : ( إِن تسخَرُواْ مِنَّا ( لصنعنا
السفينة ، ) فإنا نَسخرُ مِنكم ( إذا نزل بكم الغرق ، ) كما تَسخرُونَ ) [ آية : 38 ] .
هود : ( 39 ) فسوف تعلمون من . . . . .
) فسوفَ تَعلَمُونَ ( هذا وعيد ) مَن يأتيه عَذَابٌ يُخزيهِ ( ، يعنى بذلة ، يعنى الغرق ،(2/117)
صفحة رقم 118
) ويحل عليه ( ، ويجب عليه ) عذاب مقيم ) [ آية : 39 ] ، يعنى في الآخرة دائماً لا
يزول عن أهله .
هود : ( 40 ) حتى إذا جاء . . . . .
) حتى إذا جاء أمرنا ( ، يعنى قولنا في نزول العذاب بهم ، ) وفار التنور ( ، فار
الماء من التنور الذي يخبز فيه ، وكان بأقصى دار نوح بالشام بعين وردة ، ) قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ( ، يعنى صنفين اثنين ذكراً وأنثى ، فهو زوجان ، ولولا أنه قال :
اثنين ، لكان الزوجان أربعة ، ) و ( احمل ) وأهلك ( واسمها والغة ، واسم امرأة لوط
والهة ، في السفينة ، ) إلا من سبق عليه القول ( ، يعنى العذاب في اللوح المحفوظ من
أهلك ، يعنى كنعان بن نوح ، فلا تحملهم معك ، فاستثنى من أهله ابنه وامرأته ، ) وَمِن
ءامَنَ ( ، يعني ومن صدق بتوحيد الله ، فاحمله في السفينة ، يقول الله تعالى : ( وَمَا ءامنَ
مَعَهُ ( مع نوح ، ) إلا قليل ) [ آية : 40 ] ، يقال : بأنهم أربعون رجلاً وأربعون امرأة
عددهُم ثمانون نفساً ، واسم القرية اليوم قرية الثمانين ، وهي بالجزيرة قريبة من الموصل
وهي بافردى .
تفسير سورة هود من الآية : [ 41 - 49 ] .(2/118)
صفحة رقم 119
هود : ( 41 ) وقال اركبوا فيها . . . . .
) وقال اركبوا فيها ( في السفينة ) بسم الله ( إذا ركبتموها ، فقولوا : بسم الله
) مجراها ( حين تجري ، ) ومرساها ( حين تحبس ، ) إن ربي لغفور ( للذُنوب ،
)( رحيم ) [ آية : 41 ] بنا حين نجانا من العذاب
هود : ( 42 ) وهي تجري بهم . . . . .
) وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه ( كنعان سبع مرات ، وكان
ابنه من صلبه ، ) وكان في معزل ( كان معتزلاً عنه ، ) يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ) [ آية : 42 ] فتغرق معهم .
هود : ( 43 ) قال سآوي إلى . . . . .
) قال ( ابنه ) سَئاوىَ ( ، يعنى سأنضم ، ) إلى جبل ( أصعده ) يعصمني ( ،
يعني يمنعني ) من ( غرق ) الماء قال ( نوح : ( لا عاصم اليوم ( ، يعنى لا مانع
اليوم ) من أمر الله ( ، يعنى به الغرق ، ثم استثنى ، فقال : ( إلا من رحم ( ربي ،
يقول : من عصم من المؤمنين فركب معي في السفينة ، فإنه لن يغرق ، يقول الله تعالى :
( وحال ( ، يعنى وحجز ) بينهما الموج ( ، يعنى بين نوح وابنه كنعان ، ) فكان من المغرقين ) [ آية : 43 ] ، وغضب الله على كنعان حين ظن أن الجبل يمنعه من الله فلا
يغرق .
هود : ( 44 ) وقيل يا أرض . . . . .
) وقيل يا أرض ابلعي ماءك ( بعدما غرقتهم أجمعين ، فابتلعت الأرض ما خرج منها
من الماء ، ) ويا سماء أقلعي ( ، يعني أمسكي ، قال : فلم تقع قطرة ، ) وغيض الماء ( ،
يعنى ونقص الماء وطهرت الجبال ، ) وقضي الأمر ( ، يعنى العذاب بالغرق على الكافرين
فغرقوا ، ) واستوت ( السفينة ) على الجودي ( شهراً ، وهو جبل قريب من الموصل ؛
لأن الجبال تطاولت وتواضع الجودي ، ) وقيل بعدا للقوم الظالمين ) [ آية : 44 ] ، يعنى
المشركين ، يعنى بالبعد الهلاك .(2/119)
صفحة رقم 120
هود : ( 45 ) ونادى نوح ربه . . . . .
) ونادى نوح ربه ( ، يعنى دعا نوح ربه ، فيها تقديم ، ) فقال رب إن ابني من أهلي ( الذين وعدتني أن تنجيهم من الغرق ، ) وإن وعدك الحق ( ، يعنى الصدق ، ولا
خلاف له في النجاة ، ) وأنت أحكم الحاكمين ) [ آية : 45 ] ، يعنى خير الحاكمين لا تجور
في القضاء .
هود : ( 46 ) قال يا نوح . . . . .
) قال ( الله تعالى : ( يا نوح إنه ليس من أهلك ( الذين وعدتك أن أنجيهم ، ) إنه عمل غير صالح ( ، يعنى عمل شركاً ، ) فَلا تسئلنِ مَا ليسَ لَكَ بِهِ عِلمُ إِني أَعظُكَ ( ، يعني
أؤدبك ) أن تكون من الجاهلين ) [ آية : 46 ] لسؤالك إياي .
هود : ( 47 ) قال رب إني . . . . .
) قَالَ رَبِ إِني أَعوذُ بِكَ أَن أَسئلَكَ ( بعد النهي ) ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي ( ذنبي ، يعنى مقالي ، ) وترحمني ( فلا تعذبني ، ) أكن من الخاسرين ) [ آية :
47 ] في العقوبة .
هود : ( 48 ) قيل يا نوح . . . . .
) قيل يا نوح اهبط ( من السفينة ) بسلام منا ( ، فسلمه الله ومن معه من الغرق ، ثم
قال : ( وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ( في السفينة ، يعنى بالبركة أنهم توالدوا
وكثروا بعدما خرجوا من السفينة ، ثم قال : ( وأمم سنمتعهم ( في الدنيا إلى آجالهم ،
)( ثم يمسهم منا ( يقول : يصيبهم منا ) عذاب أليم ) [ آية : 48 ] ، يعنى وجيع ، يعنى
بالأمم قوم هود ، وصالح وإبراهيم ولوط ، وشعيب ، الذين أهلكهم الله في الدنيا
بالعذاب بعد قوم نوح .
هود : ( 49 ) تلك من أنباء . . . . .
ثم قال : ( تلك ( القصة ) من أنباء ( ، يعنى من أحاديث ) الغيب ( غاب عنك ،
لم تشهدها يا محمد ، ولم تعلمها إلا بوحينا ، ) نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ( يا محمد
) ولا قومك من قبل هذا ( القرآن حتى أعلمناك أمرهم في القرآن ، يعنى الأمم الخالية
قوم نوح ، وهود ، وصالح ، وغيرهم ، ) فاصبر ( على تكذيب كفار مكة ، وعلى أذاهم
) إن العاقبة ( ، يعنى الجنة ) للمتقين ) [ آية : 49 ] الشرك .
تفسير سورة هود من الآية : [ 50 - 60 ] .(2/120)
صفحة رقم 121
هود : ( 50 ) وإلى عاد أخاهم . . . . .
) وإلى عاد ( أرسلنا ) أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ( ، يعني وحدوا الله ) ما لكم من إله غيره ( ، يعنى ليس لكم رب غيره ، ) إن أنتم ( ، يعنى ما أنتم ) إلا مفترون ) [ آية : 50 ] الكذب حين تقولون إن لله شريكاً ، وذلك أنهم قالوا لأنبيائهم :
تريدون أن تملكوا علينا في أموالنا ، فذلك قول الأنبياء لهم : ( يا قوم لا أسألكم عليه أجرا ) [ الشعراء : 127 ] ، يعنى ما جزائي إلا على الله .
هود : ( 51 ) يا قوم لا . . . . .
وذلك قول قوم هود : ( يقوم لاَ أَسئلكُم عَليهِ أَجراً إِن أجري ( ، يعنى ما جزائي
) إلا على الذي فطرني ( ، يعنى خلقني ، ) أفلا تعقلون ) [ آية : 51 ] أنهُ ليس مع الله
شريك .
هود : ( 52 ) ويا قوم استغفروا . . . . .
) ويقومِ استغفرواْ رَبِكُم ( من الشرك ، ) ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ( ، يعنى المطر متتابعاً ، وقد كان الله تعالى حبس عنهم المطر ثلاث سنين وحبس
عنهم الولد ، فمن ثم قال : ( ويزدكم قوة إلى قوتكم ( ، يعنى عدداً إلى عددكم
وتتوالدون وتكثرون ، ثم قال لهم هود : ( ولا تتولوا مجرمين ) [ آية : 52 ] ، يقول : ولا
تعرضوا عن التوحيد مشركين .
هود : ( 53 ) قالوا يا هود . . . . .
) قَالوا يهودُ مَا جِئتنَا بِبينَةٍ ( ، يعنى ببيان أنك رسول إلينا من الله ، ) وَمَا نَحنُ
بِتارِكي ءالِهَتِنَا عَن قَولِكَ ( ، يعنون عبادة الأوثان ، ) وما نحن لك بمؤمنين ) [ آية :
53 ] ، يعنى بمصدقين بأنك رسول .
هود : ( 54 ) إن نقول إلا . . . . .
) أن ( ، يعنى ما ) نقول إلا اعتراك ( ، يعنون جنوناً أصابك به ، ) بَعضُ ءالهتنا
بسُوءٍ ( ، يعنون أنه يعتريك من آلهتنا الأوثان بجنون أو بخبل ، ولا نحب أن يصيبك أو(2/121)
صفحة رقم 122
يعتريك ذلك فاجتنبها سالماً .
قال عبد الله : قال الفراء : الخبل مُسكنةُ الباء العلة المانعة من الحركة المعطلة للبدن ،
والخبل : الجنون محركة الباء ، فرد عليهم هود : ( قَالَ إِني أُشهِدُ اللهَ واشهَدُواْ أَني بَريءٌ مِمَّا
تُشرِكُونَ ) [ آية : 54 ] .
هود : ( 55 ) من دونه فكيدوني . . . . .
) من دونه ( من الآلهة ، ) فكيدوني جميعا ( أنتم والآلهة ، ) ثم لا تنظرون ) [ آية :
55 ] ، يعنى ثم لا تناظرون ، يعنى لا تمهلون .
هود : ( 56 ) إني توكلت على . . . . .
) إني توكلت على الله ( ، يعنى وثقت بالله ، ) ربي وربكم ( حين خوفوه آلهتهم أنها
تصيبه ، ) ما من دابة ( ، يعنى ما من شيء ، ) الآ ( و ) هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيتهَا ( ، يقول :
إلا الله يميتها ، ) إن ربي على صراط مستقيم ) [ آية : 56 ] ، يعنى على الحق المستقيم .
هود : ( 57 ) فإن تولوا فقد . . . . .
) فإن تولوا ( ، يعنى فإن تعرضوا عن الإيمان ، ) فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم (
من نزول العذاب بكم في الدنيا ، ) ويستخلف ربي ( بعد هلاككم ) قوما غيركم ( أمثل
وأطوع لله منكم ، ) ولا تضرونه شيئا ( يقول : ولا تنقصونه من ملكه شيئاً ، إنما تنقصون
أنفسكم ، ) إن رَبِي عَلى كُل شَيءٍ ( من أعمالكم ) حفيظ ) [ آية : 57 ] .
هود : ( 58 ) ولما جاء أمرنا . . . . .
) ولما جاء أمرنا ( ، يعنى قولنا في نزول العذاب ، ) نجينا هُوداً والذينَ ءامَنُوا مَعهُ (
من العذاب ) برحمة منا ( ، يعنى بنعمة منا عليهم ، ) ونجيناهم من عذاب غليظ ) [ آية :
58 ] ، يعنى شديد ، وهي الريح الباردة لم تفتر عنهم حتى أهلكتهم
هود : ( 59 ) وتلك عاد جحدوا . . . . .
) وتِلكَ عادٌ جَحَدُواْ بِئايتِ رَبِهم ( ، يعنى كفروا بعذاب الله بأنه غير نازل بهم في
الدنيا ، ) وعصوا رسله ( ، يعنى هوداً وحدهُ ، ) واتبعوا أمر كل جبار عنيد ) [ آية :
59 ] ، يعنى متعظماً عن التوحيد ، فهم الأتباع ، اتبعوا قول الكبراء في تكذيب هود ،
)( عنيد ( ، يعنى معرضاً عن الحق ، وكان هذا القول من الكبراء للسفلة في سورة
المؤمنين ) ما هذا ( ، يعنى هوداً ) إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ) [ المؤمنون : 33 ] من الشراب .
وقال للأتباع : ( ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ) [ المؤمنون : 34 ] ،
يعنى لعجزة ، فهذا قول الكبراء للسفلة ، فاتبعوهم على قولهم ،
هود : ( 60 ) وأتبعوا في هذه . . . . .
) وَأُتبِعُو في هذه الدنيا
لَعنةً ( ، يعنى العذاب ، وهي الريح التي أهلكتهم ، ) ويوم القيامة ( ، يعنى عذاب النار ،(2/122)
صفحة رقم 123
) ألا إن عادا كفروا ربهم ( ، يعنى بتوحيد ربهم ، ) ألا بعدا لعاد قوم هود ) [ آية : 60 ]
في الهلاك .
تفسير سورة هود من الآية : [ 61 - 68 ]
هود : ( 61 ) وإلى ثمود أخاهم . . . . .
) وإلى ثمود ( أرسلنا ) أَخاهُم صَلِحاً ( ليس بأخيهم في الدين ، ولكنه أخوهم
في النسب ، وهو صالح بن آسف ، ) قَالَ يقومِ اعبُدواْ الله ( ، يعنى وحدوا الله ، ) ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض ( ، يعنى هو خلقكم من الأرض ، ) واستعمركم فيها ( ،
يعنى وعمركم في الأرض ، ) فاستغفروه ( من الشرك ) ثم توبوا إليه ( منه ) إن ربي قريب ( منكم في الاستجابة ) مجيب ) [ آية : 61 ] للدعاء ، كقوله : ( فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) [ البقرة : 186 ] .
هود : ( 62 ) قالوا يا صالح . . . . .
) قَالوا يصلحُ قد كُنت فينا مَرجُواً قَبل هَذا ( ، يعنى مأمولاً قبل هذا كنا نرجو أن
ترجع إلى ديننا ، فما هذا الذي تدعونا إليه ؟ ) أَتنهنا أن نَّعبُدَ ما يَعبُدُ ءاباؤُنَا ( من الآلهة ،
)( وإننا لفي شك مما تدعونا إليه ( من التوحيد ) مريب ) [ آية : 62 ] ، يعنى بالمريب أنهم
لا يعرفون شكهم .
هود : ( 63 ) قال يا قوم . . . . .
) قال ( صالح ) يقوم أَرءيتُم إِن كُنتُ عَلَى بينَةٍ مِن رَّبِي ( ، يعنى على بيان من
ربي ، ) وءاتنى مِنهُ رَحمةً ( ، يقول : أعطاني نعمة من عنده ، وهو الهدى ، ) فمن ينصرني ( ، يعنى فمن يمنعني ) من الله إن عصيته ( ، يعنى إن رجعت إلى دينكم ،(2/123)
صفحة رقم 124
لقولهم صالح قد كنت فينا مرجو قبل هذا الذي تدعونا إليه ، ) فَما يزيدونني غير تخسير (
[ آية : 63 ] ، يقول : فما تزيدونني إلا خساراً . قال عبد الله : قال الفراء : المعنى كلما
دعوتكم زدتموني تباعداً مني ، فأنتم بذلك تخسرون ، يعنى تهلكون .
هود : ( 64 ) ويا قوم هذه . . . . .
) ويقوم هذه ناقةُ الله لَكُم ءاية ( ، يعنى عبرة ، ) فذروها تأكل في أرض الله ( ، لا تكلفكم مؤنة ، ولا علفاً ، ) ولا تمسوها بسوء ( ، يقول : ولا تصيبوها بعقر ،
)( فيأخذكم ( في الدنيا ، ) عذاب قريب ) [ آية : 64 ] منكم ، لا تمهلون حتى تعذبوا .
هود : ( 65 ) فعقروها فقال تمتعوا . . . . .
) فعقروها ( ليلة الأربعاء بالسيف فماتت ، ) فقال ( لهم صالح : ( تمتعوا في داركم ( ، يعنى محلتكم في الدنيا ، ) ثلاثة أيام ذلك ( العذاب ) وعد ( من الله
) غير مكذوب ) [ آية : 65 ] ليس فيه كذب بأن العذاب نازل بهم بعد ثلاثة الأيام
فأهلكهم الله صبيحة يوم الرابع يوم السبت .
هود : ( 66 ) فلما جاء أمرنا . . . . .
فذلك قوله : ( فلما جاء أمرنا ( ، يعنى قولنا في العذاب ، ) نجينا صَلحاً والَّذينَ
ءامَنُواْ مَعَهُ بِرحمةٍ مِنا ( ، يعنى بنعمة عليهم منا ، ) ومن خزي يومئذ ( ، يعنى
ونجيناهم من عذاب يومئذ ، ) إن ربك هو القوي ( في نصر أوليائه ، ) العزيز ) [ آية : 66 ] ، يعنى المنيع في ملكه وسلطانه حين أهلكهم .
هود : ( 67 ) وأخذ الذين ظلموا . . . . .
) وأخذ الذين ظلموا ( ، يعنى الذين أشركوا ) الصيحة ( ، صيحة جبريل ، عليه
السلام ، ) فأصبحوا في ديارهم جاثمين ) [ آية : 67 ] ، يعنى في منازلهم خامدين .
هود : ( 68 ) كأن لم يغنوا . . . . .
) كَأن لم يغنواْ فِها ( ، يقول : كأنهم لم يكونوا في الدنيا قط ، ) أَلا إِن ثَمُوداً
كَفَرُواْ ( بتوحيد ) ربهم ألا بعدا لثمود ) [ آية : 68 ] في الهلاك .
تفسير سورة هود من الآية : [ 69 - 83 ] .(2/124)
صفحة رقم 125
هود : ( 69 ) ولقد جاءت رسلنا . . . . .
) ولقد جاءت رسلنا ( ، وهو جبريل ومعه ملكان وهما ملك الموت وميكائيل ،
)( إبراهيم بالبشرى ( في الدنيا الولد بإسحاق ويعقوب ، ) قَالواْ سَلماً ( ، قالوا : تحية
لإبراهيم ، فسلموا على إبراهيم ، فرد إبراهيم عليهم ، ف ) قالَ سَلمٌ ( ، يقول : رد إبراهيم
خيراً ، وهو يرى أنهم من البشر ، ) فما لبث أن جاء ( إبراهيم ) بعجل حنيذ ) [ آية :
69 ] ، يعنى الحنيذ النضيج ؛ لأنه كان البقر أكثر أموالهم ، و الحنيذ الشواء الذي أنضج بحر
النار من غير أن تمسه النار بالحجارة تحمى تجعل في سرب فتشوى .
هود : ( 70 ) فلما رأى أيديهم . . . . .
) فَلما رَءا أَيدِيهُم لاَ تَصِلُ إِليهِ ( ، أي إلى العجل ، ) نكرهم ( ، يعنى أنكرهم
وخاف شرهم ، ) وأوجس منهم خيفة ( ، يقول : فوقع عليه الخوف منهم فرعد ،
)( قالوا ( ، أي قالت الملائكة : ( لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) [ آية : 70 ]
بهلاكهم ، ولوط بن حازان ، وامرأة سارة بنت حازان أخت لوط ، وإبراهيم عم لوط
وختنه على أخته .
هود : ( 71 ) وامرأته قائمة فضحكت . . . . .
) وامرأته ( ، وهي سارة ، ) قائمة ( وإبراهيم جالس ، ) فضحكت ( من خوف
إبراهيم ورعدته من ثلاثة نفر ، وإبراهيم في حشمه وخدمه ، فقال جبريل ، عليه السلام ،
لسارة : إنك ستلدين غُلاماً ، فذلك قوله : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (
[ آية : 71 ] .
هود : ( 72 ) قالت يا ويلتى . . . . .
) قالت ( سارة : ( يويلتي ءألدُ وأنا عَجُوزٌ وهذا بَعلي شَيخاً ( ، وهو ابن سبعين(2/125)
صفحة رقم 126
سنة ، ) إِن هذا لَشيءُ عَجيبٌ ) [ آية : 72 ] ، يعنى لأمر عجيب أن يكون الولد من
الشيخين الكبيرين .
هود : ( 73 ) قالوا أتعجبين من . . . . .
) قالوا ( ، قال جبريل لهما : ( أتعجَبِنَ مِن أَمرِ الله ( أن يخلق ولداً من الشيخين
) رحمتُ اللهِ وبَرَكَتُهُ ( ، يعنى نعمة الله وبركاته ، ) عليكم أهل البيت ( ، يعنى بالبركة
ما جعل الله منهم من الذرية ، ) إنه حميد ( في خلقه ، ) مجيد ) [ آية : 73 ] ، يعنى
كريم .
هود : ( 74 ) فلما ذهب عن . . . . .
) فلما ذهب عن إبراهيم الروع ( ، يعنى الخوف ، ) وجاءته البشرى ( في الولد
) ويجادِلُنَا ( ، يعنى يخاصمنا إبراهيم ) في قوم لوط ) [ آية : 74 ] ، كقوله في الرعد :
( يُجادلُونَ في الله ) [ الرعد : 13 ] ، ومثل قوله : ( قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ) [ هود : 32 ] .
وخصومة إبراهيم ، عليه السلام ، أنه قال : يا رب ، أتهلكهم إن كان في قوم لوط
خمسون رجلاً مؤمنين ؟ قال جبريل عليه السلام : لا ، فما زال إبراهيم ، عليه السلام ،
ينقص خمسة خمسة ، حتى انتهى إلى خمسة أبيات ،
هود : ( 75 ) إن إبراهيم لحليم . . . . .
قال تعالى : ( إن إبراهيم لحليم ( ، يعنى
لعليم ، ) اوة ( ، يعنى موقن ، ) منيب ) [ آية : 75 ] مخلص .
هود : ( 76 ) يا إبراهيم أعرض . . . . .
وقال جبريل لإبراهيم : ( يا إبراهيم أعرض عن هذا ( الجدال حين قال : أتهلكهم إن
كان فيهم كذا وكذا ، ثم قال جبريل ، عليه السلام : ( إنه قد جاء أمر ربك ( ، يعني قول
ربك في نزول العذاب بهم ، ) وَإِنهُم ءاتِيهِم عَذابُ غَيرُ مَردُودٍ ) [ آية : 76 ] ، يعنى غير
مدفوع عنهم ، يعنى الخسف والحصب بالحجارة .
هود : ( 77 ) ولما جاءت رسلنا . . . . .
قوله : ( ولما جاءت رسلنا ( جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، ) لُوطاً
سىء بِهِم ( ، يعنى كرههم لصنيع قومه بالرجال مخافة أن يفضحوهم ، ) وَضَاقَ بِهِم ذَرعاً
وَقالَ ( جبريل ) هَذا يَومُ عَصِيبٌ ) [ آية : 77 ] ، يعنى فظيع فاش شره عليه .
هود : ( 78 ) وجاءه قومه يهرعون . . . . .
) وَجاءهُ قَومِهُ يُهرَعُونَ إِليه ( ، يعنى يسرعون إليه مشاة إلى لوط ، ) ومن قبل ( أن
نبعث لوطاً ، ) كَانواْ يَعملونَ السيِئَاتِ ( ، يعنى نكاح الرجال ، و ) قال ( لوط :
( يَقومٍ هَؤلاءِ بناتِي ( ريثا وزعوثا ، فتزوجوهما ) هُنَّ أَطهرُ لَكُم ( ، يعنى أحل(2/126)
صفحة رقم 127
لكم من إتيان الرجال ، ) فاتقوا الله ( في معصيته ، ) وَلا تُحزُونِ في ضَيفي أَليسَ مِنكُم
رجلٌ رَشيدٌ ) [ آية : 78 ] ، يقول : ما منكم رجل مرشد .
هود : ( 79 ) قالوا لقد علمت . . . . .
) قَالواْ لَقَد عَلِمتَ مَا لنا في بناتِكَ مِن حَقٍ ( ، يعنون من حاجة ، ) وإِنكَ لَتعلَمُ مَا نُريدُ (
[ آية : 79 ] أنهم يريدون الأضياف .
هود : ( 81 ) قالوا يا لوط . . . . .
) قَالَ لَو أَنَّ لِي بِكُم قُوةً ( ، يعنى بطشاً ، ) أَو ءاوِىَ إِلى رُكَنٍ شَديدٍ ) [ آية : 80 ] ،
يعنى منيع ، يعنى رهط ، يعنى عشيرة لمنعتكم مما تريدون .
) قَالُواْ يَلُوطُ ( ، قال جبريل للوط : ( إِنَّا رُسُلُ رَبِكَ لَن يَصِلُواْ إِليكَ ( بسوء ؛ لأنهم
قالوا للوط : إنَّا نرى معك رجالاً سحروا أبصارنا ، فستعلم غداً ما تلقي أنت في أهلك ،
فقال جبريل ، عليه السلام : ( إِنَّا رُسُلُ رَبِكَ لَن يَصلُواْ إليكَ ( ) فأسرِ بِأَهلكَ ( ، يعني
امرأته وابنتيه ، ) بِقطعٍ مِنَ اليلِ ( ، يعنى ببعض الليل ، ) وَلا يلتفِت مِنكُم أَحدُ ( البتة
) إِلا امرأتكَ ( فإنها تلتفت ، يقول : لا ينظر منكم أحد وراءه ، ثم استثنى : ( إِلا
امرأَتكَ ( تلتفت ، ) إِنَّهُ مُصِيبُهَا ( من العذاب ) ما أصابهم ( ، يعنى قوم لوط ،
فالتفتت فأصابها حجر فقتلها ، ثم قال : ( إِن مَوعِدهُم الصُبحُ ( ، ثم يهلكون ، قال لوط
لجبريل : عجل على بهلاكهم الآن ، فرد عليه جبريل : ( أَليسَ الصُّبحُ بِقَريبٍ ( ؟ [ آية :
81 ] .
هود : ( 82 ) فلما جاء أمرنا . . . . .
يقول الله : ( فلما جاء أمرنا ( ، يعنى قولنا في نزول العذاب ، ) جَعلنَا عَليهَا
سَافِلها ( ، يعنى الخسف ، ) وَأَمطَرنَا عَلَيها ( ، يعنى على أهلها من كان خارجاً من
المدائن الأربع ، ) حِجَارةً مِن سِجِيلٍ ( ، يعنى حجارة خالطها الطين ، ) منضُودٍ (
[ آية : 82 ] ، يعنى ملزق الحجر بالطين .
هود : ( 83 ) مسومة عند ربك . . . . .
) مسومة ( ، يعنى معلمة ، ) عند ربك ( ، يعنى جاءت من عند الله عز وجل ، ثم
قال : ( وَمَا هِيَ مِن الظالمينَ بِبَعيدٍ ) [ آية : 83 ] ؛ لأنها قريب من الظالمين ، يعنى من
مشركي مكة ، فإنها تكون قريباً ، يخوفهم منها ، وسيكون ذلك في آخر الزمان ، يعنى ما
هي ببعيد ؛ لأنها قريب منهم ، والبعيد ما ليس بكائن ، فذلك قوله : ( إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ) [ المعارج : 6 ، 7 ] ، يعنى كائناً .(2/127)
صفحة رقم 128
تفسير سورة هود الآية : [ 84 - 90 ] .
هود : ( 84 ) وإلى مدين أخاهم . . . . .
قوله : ( وإلى مدين ( ، وهو ابن إبراهيم خليل الرحمن ، وشعيب بن نويب بن مدين
بن إبراهيم ، ) وإلى مدين أخاهم ( ، يعنى أرسلنا ، ) أخاهم شعيبا ( ، وليس بأخيهم في
الدين ، ولكن في النسب ، ) قال يقومِ اعبُدُواْ الله ( ، يعنى وحدوا الله ، ) ما لكم من إله غيره ( ، يقول : ليس لكم رب غيره ، ) وَلاَ تنقُصُواْ المِكيال والمِيزانَ ( إذا
كلتم ووزنتم ، ) إِني أَرَاكُم بِخيرٍ ( ، يعنى موسرين في نعمة ، ) وَإِني أَخافُ
عَليكُم ( ، في الدنيا ، ) عَذابَ يَومٍ مُحِيطٍ ) [ آية : 84 ] ، يعنى أحاط بهم العذاب ،
فلم ينج منهم أحد .
هود : ( 85 ) ويا قوم أوفوا . . . . .
) وَيقومٍ أَوفُواْ المِكيَال وَالمِيزَانَ بِالقِسطِ ( ، يعنى بالعدل ، ) ولا تبخسوا الناس أشياءهم ( ، يعنى ولا تنقصوا الناس حقوقهم ، ) ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) [ آية : 85 ] ، يقول : لا تعملوا فيها المعاصي ، يعنى بالفساد نقصان الكيل
والميزان .
هود : ( 86 ) بقية الله خير . . . . .
) بَقِيتُ اللهِ ( ، يعنى ثواب الله في الآخرة ) خير لكم إن كنتم مؤمنين ( ، يعنى
لو كنتم مؤمنين بالله عز وجل ، لكان ثوابه خير لكم من نقصان الكيل والميزان ، كقوله :
( ما عندكم ينفد وما عند الله باق ) [ النحل : 96 ] ، يعنى ثوابه باق ، ) وما أنا عليكم ( ، يعنى على أعمالكم ) بحفيظ ) [ آية : 86 ] ، يعنى برقيب ، والله الحافظ
لأعمالكم .(2/128)
صفحة رقم 129
هود : ( 87 ) قالوا يا شعيب . . . . .
) قالواْ يشُعيبُ أَصَلوتكَ تأَمُرُك أَن نَّترُكَ ( ، يعنى أن نعتزل ) ما ( كان ) يَعبُدُ
ءاباؤُنا ( ، وكانوا يعبدون الأوثان ، ) أَو أَن نفعَل في أَموالِنا مَا نَشَؤُاْ ( ، يعنون إن
شيئاً نقصنا الكيل والميزان ، وإن شئنا وفينا ، ) إِنكَ لأنتَ الحَلِيمُ ( ، يعنون السفيه ،
)( الرشيدُ ) [ آية : 87 ] ، يعنون الضال ، قالوا ذلك لشعيب استهزاء .
هود : ( 88 ) قال يا قوم . . . . .
) قَالَ يقومِ أَرءيتُم إِن كُنتُ عَلَى بَينَةٍ مِن رَبِي ورَزَقنِي مِنهُ رزقاً حَسَناً ( ، يعنى الإيمان ،
وهو الهدى ، ) وَمَا أُريدُ أَن أُخالِفَكُم إِلى مَا أَنهاكُم عَنْهُ ( ، يعنى وما أُريد أن أنهاكم
عن أمر ، ثم أركبه ، لقولهم لشعيب في الأعراف : ( أو لتعودن في ملتنا ) [ الأعراف :
88 ] .
ثم قال : ( إِن أُريدُ ( ، يعنى ما أريد ) إلا الإصلاح مَا استطعتُ وَما تَوفيقي ( في
الإصلاح بالخير ) إِلا بِاللهِ عَلَيهِ تَوكلتُ ( ، يقول : به وثقت ، لقولهم : ( لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ) [ الأعراف : 88 ] ، ) وإليْهِ أُنيبُ ) [ آية 88 ] ،
وإليه المرجع بعد الموت .
هود : ( 89 ) ويا قوم لا . . . . .
) ويقومٍ لاَ يجرِمَنكُم شِقَاقي ( ، يقول : لا تحملنكم عداوتي ) أن يصيبكم (
من العذاب في الدنيا ) مِثلُ مَا أَصَابَ قَومَ نُوحٍ ( من الغرق ، ) أو قَومَ هُودٍ ( من الريح ،
)( أَو قَومَ صَالحٍ ( من الصيحة ، ) وَمَا قَومُ لُوطٍ ( ، أي ما أصابهم من الخسف والحصب
) مِنكُم بِبعَيدٍ ) [ آية : 89 ] ، كان عذاب قوم لوط أقرب العذاب إلى قوم شعيب
من غيرهم .
هود : ( 90 ) واستغفروا ربكم ثم . . . . .
) وَاستغفُرواْ رَبَّكُم ( من الشرك ، ) ثم توبوا إليه ( منها ) إِنَّ ربي رحيمٌ (
لمن تاب وأطاعه ، ) وَدُودٌ ) [ آية : 90 ] ، يعنى مجيب .
تفسير سورة هود من الآية : [ 90 - 99 ](2/129)
صفحة رقم 130
هود : ( 91 ) قالوا يا شعيب . . . . .
) قَالواْ يَشُعيبُ مَا نفقَهُ ( ، يعنى ما نعقل ، ) كَثيراً مِمَّا تقُولُ ( لنا من التوحيد ، ومن
وفاء الكيل والميزان ، ) وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعيفاً ( ، يعنى ذليلاً لا قوة لك ولا حيلة ،
)( وَلولاَ رهطُكَ لَرَجمناك ( ، يعنى عشيرتك وأقرباءك لقتلناك ، ) وَمَا أَنت عَلَينَا ( ، يعنى
عندنا ) بِعزيزٍ ) [ آية : 91 ] ، يعنى بعظيم ، مثل قول السحرة : ( بعزة فرعون (
[ الشعراء : 44 ] ، يعنون بعظمة فرعون ، يقولون : أنت علينا هين .
هود : ( 92 ) قال يا قوم . . . . .
) قَال يقوم أَرهِطى أَعزُ عَليكُم مِنَ اللهِ ( ، يعنى أعظم عندكم من الله عز وجل ،
)( واتخذتُموهُ ورآءكُم ظِهرِياً ( ، يقول : أطعتم قومكم ونبذتم الله وراء ظهوركم ، فلم
تعظموه ، فمن لم يوحده لم يعظمه ، ) إِن رَبي بِمَا تَعملُونَ مُحيطٌ ) [ آية : 92 ] ، يعنى
من نقصان الكيل والميزان ، يعنى أحاط علمه بأعمالكم .
هود : ( 93 ) ويا قوم اعملوا . . . . .
) وَيقومِ اعملُواْ عَلَى مَكانتكُم ( هذا وعيد ، يعنى على جديلتكم التي أنتم عليها ،
)( إِني عامِلٌ سَوفَ تَعلَمُونَ ( ، هذا وعيد ، ) من يأتيه عذاب يخزيه ( ، يعنى يذله ،
)( وَمن هُوَ كاذِبٌ ( بنزول العذاب بكم أنا أو أنتم ، لقولهم : ليس بنازل بنا ،
)( وارتَقِبُواْ إِني مَعَكُم رَقيبٌ ) [ آية : 93 ] ، يعنى انتظروا العذاب ، فإني منتظر بكم
العذاب في الدنيا .
هود : ( 94 ) ولما جاء أمرنا . . . . .
) ولما جاء أمرنا ( ، يعنى قولنا في العذاب ، ) نجينا شُعيباً والذينَ ءامنُواْ مَعَهُ بِرحمةٍ
مِنَّا ( ، يعنى بنعمة منا عليهم ، ) وأَخذت الذَّين ظلمُواْ الصيحَةُ ( ، يعنى صيحة جبريل ،
عليه السلام ، ) فأصبحوا في ديارهم جاثمين ) [ آية : 94 ] ، يعنى في منازلهم موتى .
هود : ( 95 ) كأن لم يغنوا . . . . .
) كأن لم يغنوا فيها ( ، يعنى كأن لم يكونوا في الدنيا قط ، ) أَلا بُعداً لِمديَنَ ( في
الهلاك ، ) كَما بَعدِت ثَمودُ ) [ آية : 95 ] ، يعنى كما هلكت ثمود ، لأن كل واحدة(2/130)
صفحة رقم 131
منهما هلكت بالصيحة ، فمن ثم اختص ذكر ثمود من بين الأمم .
هود : ( 96 ) ولقد أرسلنا موسى . . . . .
) وَلَقد أَرسَلْنَا مُوسى بِئايتنِا ( ، يعنى اليد والعصى ، ) وَسُلطَنٍ مُبينٍ ) [ آية : 96 ] .
هود : ( 97 ) إلى فرعون وملئه . . . . .
) إلى فِرعَونَ وَملإيه ( ، يعنى أشراف قومه ، ) فاتبعُواْ أمر فِرعَونَ ( في المؤمن
حين قال : ( ما أريكم إلا ما أرى ) [ غافِر : 29 ] ، فأطاعوا فرعون في قوله ، يقول الله
عز وجل : ( وَمَا أَمر فِرعَونَ بِرشِيدٍ ) [ آية : 97 ] لهم ، يعنى بهدى .
هود : ( 98 ) يقدم قومه يوم . . . . .
) يقدم قَومِهُ ( القبط ) يوم القيامة ( ، يعنى فرعون قائدهم إلى النار ، ويتبعونه
كما يتبعونه في الدنيا ، ) فأوردَهم النَّار ( فأدخلهم ، ) وَبِئسَ الوِردُ المَورُودُ ) [ آية :
98 ] المدخل المدخول .
هود : ( 99 ) وأتبعوا في هذه . . . . .
) وأُتبِعُواْ في هذه لَعنَةً ( ، يعنى العذاب ، وهو الغرق ، ) ويوم القيامة ( لعنة أخرى
في النار ، ) بِئس الرفَدُ المَرفُودُ ) [ آية : 99 ] ، فكأن اللعنتين أردفت إحداهما الأخرى .
تفسير سورة هود من الآية : [ 100 - 105 ] .
هود : ( 100 ) ذلك من أنباء . . . . .
) ذلك ( ، يعنى هذا الخبر الذي أخبرت ، ) من أنباء ( ، يعنى من حديث ، ) الْقُرَى
نُقُصُهُ عَلَيكَ ( ، فحذر قومك مثل عذاب الأمم الخالية ، ) مِنهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ) [ آية :
100 ] ، يقول : من القرى ما ينظر إليها ظاهرة ، ومنها خامدة قد ذهبت ودرست .
هود : ( 101 ) وما ظلمناهم ولكن . . . . .
) وَمَا ظَلمناهُم ( فنعذبهم على غير ذنب ، ) وَلكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُم فَمَا أَغنَت عَنهُم
ءالهتُهُم التي يَدعُونَ من دُون اللهِ ( ، يعنى التي يعبدون من دون الله ) من شَيءٍ ( حين
عذبوا ، ) لِمَّا جَاءَ أَمرُ رَبِكَ ( ، يعنى حينما جاء قول ربك في العذاب ، ) وَمَا زَادُوهُم ( ،
يعنى الآلهة ) غَيرَ تَتبِيبٍ ) [ آية : 101 ] ، يعنى غير تخسير ، حيث لم ينفعوهم عند الله .
قال عبد الله : قال الفراء : نحن أعز من أن نظلم ، ) وَمَا ظَلمناهُم ( نحن أعدل من أن
نظلم .(2/131)
صفحة رقم 132
هود : ( 102 ) وكذلك أخذ ربك . . . . .
) وكذلِكَ أَخذُ رَبِكَ إِذا أَخَذَ القُرى وَهِىَ ظَالِمةُ ( ، أي مشركة ، ) إِنَّ أَخَذهُ ( ،
يعنى بطشه ، ) أليم ( ، يعنى وجيع ، ) شديد ) [ آية : 102 ] .
هود : ( 103 ) إن في ذلك . . . . .
) إن في ذلك لآية ( ، يعنى إن في هلاك القرى لعبرة ، ) لِمَن خَافَ عَذابَ الأخرة ذَلِكَ
يَومٌ مَجموعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يومٌ مَشهودٌ ) [ آية : 103 ] ، شهد الرب والملائكة لعرض
الخلائق وحسابهم .
هود : ( 104 ) وما نؤخره إلا . . . . .
) وَما نُؤخرهُ إِلا لأِجلٍ مَعدُودٍ ) [ آية : 104 ] ، يعنى وما نؤخر يوم القيامة إلا
لأجل موقوت .
هود : ( 105 ) يوم يأت لا . . . . .
) يوم يأت ( ذلكَ اليوم ، ) لا تكلمُ نَفسُ إِلا بإذنهِ ( بإذن الله تعالى ،
)( فمنهم ( ، يقول الله تعالى : فمن الناس ) شَقيٌ وسَعيدٌ ) [ آية : 105 ] .
تفسير سورة هود من الآية : [ 106 - 107 ] .
هود : ( 106 ) فأما الذين شقوا . . . . .
ثم بين ثوابهم فقال : ( فأما الَّذين شَقُواْ فِفي النَّارِ لَهُم فِيها ( في الخلود ، ) زَفيرٌ (
يعنى آخر نهيق الحمار ، قال : ( وَشَهِيق ) [ آية : 106 ] في الصدور ، يعنى أول نهيق
الحمار . قال أبو محمد ، يعنى عبد الله بن ثابت : قال أبو العباس ثعلب : الزفير من البدن
كله ، والشهيق من الصدر .
هود : ( 107 ) خالدين فيها ما . . . . .
) خالدين فيها ( لا يموتون ) مَا دَامَتِ السموات والأرضُ إِلا مَا شاءَ رَبُكَ ( ، يقول :
كما تدوم السموات والأرض لأهل الدنيا ، ولا يخرجون منها ، فكذلك يدوم الأشقياء في
النار ، ثم قال : ( إِلا ما شاءَ رَبُكَ ( ، فاستثنى الموحدين الذين يخرجون من النار لا
يخلدون ، يعنى الموحدين ، ) إِن رَبِكَ فَعَّالٌ لِما يُريدُ ) [ آية : 107 ] . قال عبد الله بن
ثابت : قال الفراء : ( إِلا مَا شاءَ رَبُكَ ( ، يعنى سوى ما شاء ربك من زيادة الخلق في
النار .
تفسير سورة هود من الآية : [ 108 ] .
هود : ( 108 ) وأما الذين سعدوا . . . . .
) وَأَمَّا الَّذين سُعِدُواْ فَفي الجنَّة خالدين فِيها مَا دَامتِ السَّموات والأرض ( كما تدومان
لأهل الدنيا ، ثم لا يخرجون منها ، وكذلك السعداء في الجنة ، ثم استثنى ، فقال : ( إِلا مَا(2/132)
صفحة رقم 133
شَاءَ ربُّكَ ( ، يعنى الموحدين الذين يخرجون من النار ، ثم قال : ( عَطاءً غَيرَ مَجذُوذٍ (
الآية : 108 ] ، يعنى غير مقطوع عنهم أبداً .
تفسير سورة هود من الآية : [ 109 ]
هود : ( 109 ) فلا تك في . . . . .
) فَلاَ تَكُ ( يا محمد ) في مِريةٍ ( ، يعنى في شك ، ) مِمَّا يَعبُدُ هَؤلاءِ ( ، يعنى
كفار مكة أنها ضلال ، ) مَا يَعبُدون إِلا كَمَا يَعبُدُ ءاباؤُهُم ) ) الأولون ( ( مِنْ قَبلُ ( ،
يعنى من قبلهم ، ) وَإنَّا لَمُوَفوهُم نَصِيبهُم ( ، يقول : إِنَّا لموفون لهم حظهم من العذاب ،
)( غَيرَ مَنقُوصٍ ) [ آية : 109 ] عنهم .
تفسير سورة هود من الآية : [ 110 - 113 ] .
هود : ( 110 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
) وَلَقد ءاتينا مُوسَى الكتابَ ( ، يعنى أعطينا موسى التوراة ، ) فاختُلفَ فِيهِ ( ،
يعنى من بعد موسى ، يقول : آمن بالتوراة بعضهم وكفر بها بعضهم ، ) وَلَولاَ كَلِمَةٌ
سَبَقَت مِن رَّبِكَ ( يا محمد في تأخير العذاب عنهم إلى وقت ، ) لَقُضِي بينهُم ( في الدنيا
بالهلاك حين اختلفوا في الدين ، ) وَإنَّهُم لَفِي شَكٍ مِنْهُ ( ، يعنى من الكتاب الذي أوتوه ،
)( مُريبٍ ) [ آية : 110 ] ، يعنى بالمريب الذين لا يعرفون شكهم .
هود : ( 111 ) وإن كلا لما . . . . .
ثم رجع إلى أول الآية ، فقال : ( وَإن كُلاً لَّمَا ليُوفِيَنَّهُم رَبُّكَ أَعمالَهُم ( ، ولما هاهنا
صلة ، يقول : يوفر لهم ربك جزاء أعمالهم ، ) إنَّهُ بِمَا يَعملُونَ خبِيرٌ ) [ آية : 111 ] .
هود : ( 112 ) فاستقم كما أمرت . . . . .
) فاستَقِم ( ، يعنى فامض يا محمد بالتوحيد ) كَمَا أُمرتَ وَمن تَابَ مَعَكَ ( من
الشرك ، فليستقيموا معك ، فامضوا على التوحيد ، ) وَلاَ تَطغواْ ( فيه ، يقول : ولا تعصوا
الله في التوحيد ، ) إِنَّهُ بِمَا تعملُونَ بَصِيرٌ ) [ آية : 112 ] .(2/133)
صفحة رقم 134
هود : ( 113 ) ولا تركنوا إلى . . . . .
) وَلاَ تَركَنواْ إِلى الَّذين ظَلمُواْ ( ، يعنى ولا تميلوا إلى أهل الشرك ، يقول : ولا
تلحقوا بهم ، ) فتمسكُمُ النَّار ( ، يعنى فتصيبكم النار ، ) وَما لكم من دون الله من
أولياء ( ، يعنى من أقرباء يمنعونكم ، يقول : لا يمنعونكم من النار ، ) ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (
[ آية : 113 ] .
تفسير سورة هود من الآية : [ 114 - 119 ] .
هود : ( 114 ) وأقم الصلاة طرفي . . . . .
) وَأقم الصلوة ( ، يعنى وأتم الصلاة ، يعنى ركوعها وسجودها ، ) طَرفَي النَّهار ( ،
يعنى صلاة الغداة ، وصلاة الأولى ، والعصر ، ثم قال : ( وَزُلَفاً من اليل ( ، يعنى صلاة
المغرب والعشاء ، ) إِنَّ الحَسناتِ ( ، يعنى الصلوات الخمس ) يذهبنَ السيئات ( ، يعنى
يكفرن الذنوب ما اجتنبت الكبائر ، نزلت في أبي مقبل ، واسمه عامر بن قيس الأنصاري ،
من بني النجار ، أتته امرأة تشتري منه تمراً فراودها ، ثم أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إني خلوت
بامرأة ، فما شيء يفعل بالمرأة إلا وفعلته بها ، إلا إني لم أجامعها ، فنزلت : ( وَأَقِمِ
الصلوة طَرفي النهار . . . ( إلى آخر الآية .
ثم عمد الرجل ، فصلى المكتوبة وراء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلما انصرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال له :
' أليس قد توضأت وصليت معنا ؟ ' ، قال : بلى ، قال : ' فإنها كفارة لما صنعت ' ، ثم قال :
( ذلك ( الذي ذكره من الصلاة طرفي النهار وزلفى من الليل من الصلاة ، ) ذِكرىَ
للذاكِرينَ ) [ آية : 114 ] ، كقوله لموسى : ( وأقم الصلاة لذكري ) [ طه : 14 ] .(2/134)
صفحة رقم 135
هود : ( 115 ) واصبر فإن الله . . . . .
) واصبر ( يا محمد على الصلاة ، ) فإن اللهَ لا يُضيعُ أَجر المُحسنينَ ) [ آية :
115 ] ، يعنى جزاء المخلصين .
هود : ( 116 ) فلولا كان من . . . . .
) فلولا كان ( ، يعنى لم يكن ) من القُرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن
الفساد ( ، يعنى الشرك ، ) في الأرض ( ، يقول : لم يكن من القرون من ينهى عن
المعاصي في الأرض بعد الشرك ، ثم استثنى ، فقال : ( إِلا قليلاً مِمن أنجينا مِنهم (
يعنى مع الرسل من العذاب مع الأنبياء ، فهم الذين كانوا ينهون عن الفساد في الأرض ،
)( واتبع الذين ظلموا ( ، يقول : وآثر الذين ظلموا دنياهم ، ) ما أُترفُوا فيه ( ،
يعنى ما أعطوا فيه من دنياهم على أخرتهم ، ) وكانوا مُجرمينَ ) [ آية : 116 ] ، يعنى
الأمم الذين كذبوا في الدنيا .
هود : ( 117 ) وما كان ربك . . . . .
) وَمَا كان ربك ليهلك ( ، يعنى ليعذب في الدنيا ، ) القرى بظلم ( ، يعنى
على غير ذنب ، يعني القرى التي ذكر الله تعالى في هذه السورة الذين عذبهم الله ، وهم :
قوم نوح ، وعاد وثمود ، وقوم إبراهيم ، وقوم لوط ، وقوم شعيب ، ثم قال : ( وَأَهلُها
مُصلحون ) [ آية : 117 ] ، يعنى مؤمنون ، يقول : لو كانوا مؤمنين ما عذبوا .
هود : ( 118 ) ولو شاء ربك . . . . .
) وَلو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ( ، يعنى على ملة الإسلام وحدها ، ثم قال :
( ولا يزالون مختلفين ) [ آية : 118 ] ، يقول : لا يزال أهل الأديان مختلفين في الدين ، غير
دين الإسلام .
هود : ( 119 ) إلا من رحم . . . . .
ثم استثنى بعضهم : ( إِلا من رحم ربك ( ، أهل التوحيد لا يختلفون في الدين ،
)( ولذلك خلقهم ( ، يعنى للرحمة خلقهم ، يعنى الإسلام ، ) وتمت ( ، يقول : وحقت
) كلمة ربك ( العذاب على المختلفين ، والكلمة التي تمت قوله : ( لأملأن جهنم من
الجنة والناس أجمعين ) [ آية : 119 ] ، يعنى الفريقين جميعاً .
تفسير سورة هود من الآية [ 120 ] .
هود : ( 120 ) وكلا نقص عليك . . . . .
) وَكلا نقص عليك من أنباء الرسلِ ( وأممهم ، وما يذكر في هذه السورة ، ) مَا نثبتُ
به فُؤادك ( ، يعنى قلبك أنه أحق ، فذلك قوله : ( وجاءكَ في هذه ( السورة ) الحق (
مما ذكر من أمر الرسل وأمر قومهم ، ) وموعظة ( ، يعنى ما عذب الله به الأمم الخالية ،(2/135)
صفحة رقم 136
وما ذكر في هذه السورة فهو موعظة ، يعنى مأدبة لهذه الأمة ، ) وذكرى ( ، يعنى
وتذكرة ) للمؤمنين ) [ آية : 120 ] ، يعنى للمصدقين بتوحيد الله .
تفسير سورة هود من الآية : [ 121 - 122 ] .
هود : ( 121 ) وقل للذين لا . . . . .
) وَقُل للذين لا يؤمنونَ ( ، يعنى لا يصدقون بما في القرآن : ( اعملوا على مكانتكم ( ،
هذا وعيد ، يقول : اعملوا على جديلتكم التي أنتم عليها ، ) إنا عاملون ) [ آية : 121 ]
على جديلتنا التي نحن عليها .
هود : ( 122 ) وانتظروا إنا منتظرون
) وانتظروا ( العذاب ) إنا منتظرون ) [ آية : 122 ] بكم العذاب ، يعني القتل ببدر ،
وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ، وتعجيل أرواحهم إلى النار .
تفسير سورة هود من الآية : [ 123 ]
هود : ( 123 ) ولله غيب السماوات . . . . .
) ولله غَيب السموات والأرض ( ، يقول : ولله غيب نزول العذاب ، وغيب ما في
الأرض ، ) وإليهِ يُرْجَعُ الأمرُ كُلُّه ( ، يعنى أمر العباد يرجع إلى الله يوم القيامة ، وذلك
قوله : ( وإلى الله ترجع الأمور ) [ البقرة : 210 ] ، يعنى أمور العباد ، ) فاعبدهُ (
يعنى وحده ، ) وتوكل عليه ( ، يقول : وثق بالله ، ) وما ربك بغافل عما تعملون (
[ آية : 123 ] ، هذا وعيد .(2/136)
صفحة رقم 137
( سورة يوسف )
1 ( مكية كلها ، وهي مائة وإحدى عشرة آية كوفي ) 1 ( وحسبنا الله ونعم الوكيل )
( بسم الله الرحمن الرحيم )
تفسير سورة يوسف من الآية : [ 1 - 2 ] .
يوسف : ( 1 ) الر تلك آيات . . . . .
) الر تِلك ءايت الكتاب المُبين ) [ آية : 1 ] ، يعنى بين ما فيه .
يوسف : ( 2 ) إنا أنزلناه قرآنا . . . . .
) إنا أنزلناه قرءاناً عربياً
لعلكم ( ، يعنى لكي ، ) تعقلون ) [ آية : 2 ] ما فيه لو كان القرآن غير عربي ما
فهموه ولا عقلوه .
تفسير سورة يوسف من الآية : [ 3 - 21 ] .(2/137)
صفحة رقم 138
يوسف : ( 3 ) نحن نقص عليك . . . . .
) نحن نقص عليك أحسن القصص ( ، يعنى القرآن ، ) بما أوحينا إليك ( ، بالذي
أوحينا إليك ، نظيرها في يس : ( بما غفر لي ربي ) [ يس : 27 ] ، ) هذا القُرءان وإن كُنتَ من قبله ( ، يعنى من قبل نزول القرآن عليك ، ) لمن الغافلين ) [ آية : 3 ]
عنه .
يوسف : ( 4 ) إذ قال يوسف . . . . .
) إذ قال يوسف لأبيه ( يعقوب : ( يا أبت إني رأيت ( في المنام ) أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ( هبطوا إلى الأرض من السماء ، ف ) رأيتهم لي ساجدين ) [ آية : 4 ] ،
فالكواكب الأحد عشر إخوته ، والشمس أم يوسف ، وهي راحيل بنت لاتان ، ولاتان هو
خال يعقوب ، والقمر أبوه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وقد علم تعبير ما رأى
يوسف .
يوسف : ( 5 ) قال يا بني . . . . .
) قال يا بُني لا تقصص رُءياك على إِخوتك ( فيحسدوك إضمار ، ) فيكيدوا لك كيدا ( ، فيعملوا بك شراً ، ) إن الشيطان للإنسان عدو مبين ) [ آية : 5 ] ، يعنى بين .
يوسف : ( 6 ) وكذلك يجتبيك ربك . . . . .
وقال يعقوب ليوسف : ( وكذلك يجتبيك ربك ( ، يقول : وهكذا يستخلصك ربك
بالسجود ، ) ويعلمك من تأويل الأحاديث ( ، يعنى ويعلمك تعبير الرؤيا ، ) ويتم نعمتَهُ
عليك وَعَلىءال يعقوب ( ، يعنى بآل يعقوب هو وامرأته وإخوته الأحد عشر ، بالسجود
لك ، ) كما أتمها ( ، يعنى النعمة ، ) وعلى أَبويك من قبلُ ( ، يعنى بأبويه ) إبراهيم ( حين
رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسحاق ، وألقى إبراهيم في النار ، فنجاه الله تعالى منها ، وأراد
ذبح ابنه ، فخلصه الله بالسجود ، ) وإسحاق ( في رؤيا إبراهيم في ذبح إسحاق ، ) إن ربك عليم ( بتمامها ، ) حكيم ) [ آية : 6 ] ، يعنى القاضي لها .(2/138)
صفحة رقم 139
يوسف : ( 7 ) لقد كان في . . . . .
) لقد كان في يوسف وإِخْوَتِهِ ءاياتٌ ( ، يعنى علامات ، ) للسائلين ) [ آية : 7 ] ،
وذلك أن اليهود لما سمعوا ذكر يوسف عليه السلام ، من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، منهم كعب بن
الأشرف ، وحيي ، وجدي ابنا أخطب ، والنعمان بن أوفى ، وعمرو ، وبحيرا ، وغزال بن
السموأل ، ومالك بن الضيف ، فلم يرمن بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) منهم غير جبر غلام بن الحضرمي ،
ويسار أبو فكيهه ، وعداس ، فكان ما سمعوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من ذكر يوسف وأمره ) ءايتٌ
للسَّائلين ( ، وذلك أن اليهود سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن أمر يوسف ، فكان ما سمعوا علامة لهم
وهم السائلون عن أمر يوسف ، عليه السلام ، وكان يوسف قد فضل في زمانه بحسنه
على الناس كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب .
يوسف : ( 8 ) إذ قالوا ليوسف . . . . .
) إذ قالوا ( إخوة يوسف ، وهو : روبيل أكبرهم سناً ، ويهوذا أكبرهم في العقل ،
وهو الذي قال الله : ( قال كبيرهم ) [ آية : 80 ] في العقل ، ولم يكن كبيرهم في
السن ، وشمعون ، ولاوى ، ونفتولن ، وربولن ، وآشر ، واستاخر ، وجاب ودان ، ويوسف
وبنيامين ، بعضهم لبعض : ( ليوسف وأخوه ( ، وهو بنيامين ) أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة ( ، يعنى عشرة ، ) إن أبانا لفي ضلال مبين ) [ آية : 8 ] ، يعنى خسران مبين يعنى
في شقاء بين ، نظيرها في سورة القمر : ( إن المجرمين في ضلال ) [ القمر : 47 ] ،
يعنى في شقاء ، من حب يعقوب لابنه يوسف وذكره .
يوسف : ( 9 ) اقتلوا يوسف أو . . . . .
ثم قال بعضهم لبعض : ( اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا ( بعيدة ، ) يخل لكم وجه أبيكم ( ، فيقبل عليكم بوجهه ، ) وتكونوا ( ، يعنى وتصيروا ) من بعده قوما صالحين ) [ آية : 9 ] ، يعنى يصلح أمركم وحالكم عند أبيكم .
يوسف : ( 10 ) قال قائل منهم . . . . .
) قال قائل منهم ( ، وهو يهوذا بن يعقوب : ( لا تقتلوا يوسف ( فإن قتله عظيم ،
)( و ( لكن ) وألقوهُ في غيابَتِ الجُب ( على طريق الناس ، فيأخذونه فيكفونكم أمره ،
يعنى الزائغة من البئر ما يتوراى عن العين ولا يراه أحد ، فهو غيابت الجب ، ) يَلتقطهُ(2/139)
صفحة رقم 140
بَعض السَّيارةِ ( . فيذهبوا به فيكفونكم أمره ، ) إِن كُنْتُم ( لا بد ) فاعِلينَ ) [ آية :
10 ] من الشر الذي تريدون به .
يوسف : ( 11 ) قالوا يا أبانا . . . . .
فأتوا يعقوب ، ف ) قالوا ياأبانا مَا لك لا تَأمنا على يُوسف وإنا لهُ لناصِحونَ ) [ آية :
11 ] .
يوسف : ( 12 ) أرسله معنا غدا . . . . .
) أَرسِلهُ مَعَنَا غَداً يَرتَع ويَلعب ( ، يعنى ينشط ويفرح ، والعرب تقول : رتعت لك ،
يعنى فرحت لك ، ) وَإنا لَهُ لحافِظونَ ) [ آية : 12 ] من الضيعة ، قال يعقوب لهم : إني
أخاف عليه ، فقالوا لأبيهم : ( مَا لك لا تَأمنا عَلَى يوسف وَإنا لَهُ لناصحُونَ ( في الحفظ
له .
يوسف : ( 13 ) قال إني ليحزنني . . . . .
) قَالَ ) ) أبوهم ( ( إِني ليحزنني أَن تذهبوا به وأَخافُ أن يأَكلَهُ الذئب وأَنتم عَنْهُ
غافلونَ ) [ آية : 13 ] ، لا تشعرون به ، وكانت أرضاً مذئبة ، فمن ثم قال يعقوب : إني
أخاف أن يأكله الذئب .
يوسف : ( 14 ) قالوا لئن أكله . . . . .
) قَالواْ ( ، أي العشرة : ( لئن أكلهُ الذئب ونحن عُصبةُ ( ، يعنى ونحن جماعة ،
)( إنا إِذاً لخسرون ) [ آية : 14 ] ، يعنى لعجزة .
يوسف : ( 15 ) فلما ذهبوا به . . . . .
) فلما ذهبوا بِهِ ) ) بيوسف ( ( وأجمعوا ) ) أمرهم ( ( أَن يجعلوه في غيابَتِ الجُب (
على رأس ثلاثة فراسخ ، فألقوه في الجب ، والماء يومئذ كدر غليظ ، فعذب الماء وصفا
حين ألقى فيه ، وقام على صخرة في قاصية البئر ، فوكل الله به ملكاً يحرسه في الجب
ويطعمه ، ) وأوحينا إِليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهُم لا يشعرون ) [ آية : 15 ] ، وذلك أن
الله أوحى إلى يوسف ، عليه السلام ، بعدما انصرف إخوته : إنك ستخبر إخوتك بأمرهم
هذا الذي ركبوا منك ، ثم قال : ( وَهُم لا يشعُرُونَ ( أنك يوسف حين تخبرهم ، فأنبأهم
يوسف بعد ذلك حين قال لهم وضرب الإناء ، فقال : إن الإناء ليخبرني بما فعلتم بيوسف
من الشر ونزع الثياب .
قال أبو محمد عبد الله بن ثابت : وسمعت أبي يحدثني عن الهذيل ، عن مقاتل في قوله :
( وأَوحينا إليه لَتُنَبِئَنَّهُمْ بِأمرهم هذا وَهُم لا يشعُرونَ ( ، قال : لا يشعرون أنك يوسف .
قال : وذلك أن يوسف لما استخرج الصاع من وعاء أخيه بنيامين ، قطع بالقوم
وتحيروا ، فأحضرهم وأخذ بنيامين مكان سرقته ، ثم تقدم إلى أمينه ، فقال له : أحضر(2/140)
صفحة رقم 141
الصاع إذا حضروا وانقره ثلاث نقرات ، واستمع طنين كل نقرة حتى تسكن ، ثم قل في
النقرة الأولى كذا ، وفي الثانية كذا ، وفي الثالثة كذا ، وأوهمهم أنك إنما تخبرني عن شيء
تفهمه من طنين الصاع ، قال : فأمر بهم فجمعوا ، ثم قال يوسف للذي استخرج الصاع ،
وهو أمينه : أحضر الصاع الذي سرقوه ، وتقدم إليه ألا يكتمنا من أخبارهم شئياً ، فإنه
غضبان عليهم ويوشك أن يصدق عنهم ، قال : فأحضره والقوم ، وقال له الأمين : أيها
الصاع ، إن الملك يأمرك أن تبين له أمر هؤلاء القوم ولا تكتمه شيئاً من أمرهم ، ثم نقره
نقرة شديد ، وأصغى إليه يسمعه ، كأنه يستمع منه شيئاً ، فقال : أيها الملك ، إن الصاع
يقول لك : إنهم أخبروك أنهم لأم واحدة ، وأنهم لأمهات شتى ، وذلك وقع بينهم ما يقع
بين الأولاد العتاة .
قال : قل له لا يكتمنا من أخبارهم شيئاً ، ثم نقره الثانية وأصغى إليه يسمعه ، فلما
سكن ، قال : أيها الملك ، إنهم أخبروك أن لهم أخاً مفقوداً ، ولن تنصرم الأيام والليالي حتى
يأتي ذلك الغلام فيتبين الناس أخبارهم .
قال : مرة ألا يكتمنا من أخبارهم شيئاً ، قال : فطن الثالثة ، فلما سكن قال : أيها الملك
إنه ما دخل على أبيهم غم ولا هم ولا حزن إلا بسببهم وجرائرهم ، قال : أوعز إليه ألا
يكتمنا من أخبارهم شيئاً
قال : فنظر بعضهم إلى بعض ، وخافوا أن يظهر عليهم ما كتموه من أمر يوسف عليه
السلام ، فقاموا إليه بجمعهم يقبلون رأسه وعينيه ، ويقولون : بالذي أشبهك بالنبيين
وفضلك على العالمين ، ألا أقلت العثرة ، وسترت العورة ، وحفظتنا في أبينا يعقوب ، فرق
لهم ، وقال : لولا حفاظي لكم في أبيكم لنكلت بكم ولألحقتكم بالسراق واللصوص ،
أغربوا عني ، فلا حاجة لي فيكم .
قال : فلما قدموا على أبيهم أخبروه بأخبارهم ، قال : فردهم بالبضاعة المزجاة ، وكتب
معهم كتاباً إليه ، فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح
الله ابن إبراهيم خليل الله ، إلى عزيز مصر ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني ما
سرقت ، ولا ولدت سارقاً ، ولكن أهل بيت البلاء موكل بنا ، أما جدي ، فألقى في النار ،
فجعلها الله عليه برداً وسلاماً ، وأما أبي ، فأضجع للذبح ، ففداه الله بذبح عظيم ، وأما أنا ،
فبليت بفقد حبيبي وقرة عيني يوسف .(2/141)
صفحة رقم 142
قال : فلما وصلوا إليه أوصلوا كتابه ، فلما قرأ كتابه انتحب ، فقيل له : كأنك صاحب
الكتاب ، قال : أجل فذلك قوله : ( لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ( ، ثم تعرف
إليهم فعرفوه .
يوسف : ( 16 ) وجاؤوا أباهم عشاء . . . . .
) وجاءو أباهُم ( يعقوب ) عشاء يبكون ) [ آية : 16 ] صلاة العتمة .
يوسف : ( 17 ) قالوا يا أبانا . . . . .
) قالوا ياأبانا إنا ذهبنا نستبِقُ ( ، يعنى نتصيد ، ) وتركنا يوسف عند متاعنا (
ليحفظه ، ) فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ( ، يعنى بمصدق لنا ، ) ولو كنا صادقين ) [ آية : 17 ] بما نقول .
يوسف : ( 18 ) وجاؤوا على قميصه . . . . .
) وجاءو عَلَى قميصهِ ( ، يعنى على قميص يوسف ) بدم كذب ( ، وذلك أنهم
حين ألقوه في البئر انتزعوا ثيابه ، وهو قميصه ، ثم عمدوا إلى سخلة فذبحوها على
القميص ليروا أباهم يعقوب ، فلما رأى أباهم القميص صحيحاً اتهمهم ، وكان لبيباً
عاقلاً ، فقال : ما أحلم هذا السبع حين خلع القميص كراهية أن يتمزق ، ثم بكي ،
ف ) قال بل سولت ( ، يقول : بل زينت ) لكم أنفسكم أمرا ( ، وكان الذي أردتم هو
منكم ، ) فصبر جميل ( ، يعنى صبري صبراً حسناً لا جزع فيه ، ) والله المستعان على ما تصفون ) [ آية : 18 ] ، يقول : بالله أستعين على ما تقولون حين تزعمون أن الذئب أكله ،
فبكي عليه يعقوب ، عليه السلام ، حتى امتنع عن النوم ومن أهل بيته ، فكان يبكي ويئود ،
فمن هناك تئود اليهود إذا قرأوا التوراة .
يوسف : ( 19 ) وجاءت سيارة فأرسلوا . . . . .
) وجاءت سيارة ( ، وهي العير ، وقالوا : رفقة من العرب ، فنزلوا على البئر يريدون
مصر ، ) فأرسلوا واردهم ( ، فبعثوا رجلين : مالك بن دعر ، وعود بن عامر ، إلى الماء
) فأدلى ( أحدهم ) دلوه ( ، واسمه مالك بن دعر بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن ،
فتعلق يوسف بالدلو ، فصاح مالك ) قال ( ، فقال : يا عود ، للذي يسقي ، وهو عود بن
عامر بن الدرة بن حزام ، ) يا بشرى ( ، يقول : ما مالك أبشر ، ) هذا غلام ( والجب
بواد في أرض الأردن يسمى ادنان .
فبكي يوسف ، عليه السلام ، وبكي الجب لبكائه ، وبكي مد صوته من الشجر والمدر(2/142)
صفحة رقم 143
والحجارة ، وكان اخوته لما دلوه في البئر ، تعلق يوسف في شفة البئر ، فعمدوا إليه
فخلصوا قميصه وأوثقوا يده ، فقال : يا إخوتاه ، ردوا على القميص أتوارى به في البئر ،
فقالوا له : ادع الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر يؤنسونك ، فلما انتصف في الجب
ألقوه ، حتى وقع في البئر ، فأدلوه في قعرها ، فأراد أن يموت ، فدفع الله عنه ، ودعا يوسف
ربه حين أخرجه مالك أن يهب لمالك ولداً ، فولد له أربعة وعشرون ولداً .
قوله : ( وأسَرُّوهُ بِضَعةً ( ، يعنى أخفوه من أصحابهم الذين مروا على الماء في
الرفقة ، وقالوا : هو بضاعة لأهل الماء نبيعه لهم بمصر ؛ لأنهم لو قالا : إنا وجدناهُ أو
اشتريناه ، سألوهما الشركة فيه ، ) والله عليم بما يعملون ) [ آية : 19 ] ، يعنى بما
يقولون من الكذب .
يوسف : ( 20 ) وشروه بثمن بخس . . . . .
يقول الله تعالى : ( وشروه ( ، يعنى وباعوه ) بثمن بخس ( بثمن حرام لا يحل
لهم بيعه ؛ لأنهُ حُر ، وثمن الحر حرام وبيعه حرام ، ) دراهم معدودة ( ، وهي عشرون
درهماً ، وكانت العرب تبايع بالأقل ، فإذا كانت أربعين فهي أوقية ، وما كان دون
الأربعين ، فهي دراهم معدودة ، ) وكانوا فيه ( ، يعنى الذين باعوه كانوا في يوسف
) من الزاهدين ) [ آية : 20 ] حين باعوه ، ولم يعلموا منزلة يوسف عند الله ، ومن أبوه ،
ولو علموا ذلك ما باعوه .
فانطلق القوم حتى أتوا به مصر ، فبينا هو قريب منها ، إذ مر براكب منها يقال له :
مالك بن دعر اللخمي ، قال له يوسف : أين تريد أيها الراكب ؟ قال : أريد أرض كنعان ،
قال : إذا أتيت كنعان ، فأت الشيخ يعقوب فأقرئه السلام ، وصفني له ، وقل له : إني لقيت
غلاماً بأرض مصر ، ووصفه له ، وهو يقرئك السلام ، فبكي يعقوب ، عليه السلام ، ثم
قال : هل لك إلى الله حاجة ؟ قال : نعم ، عندي امرأة ، وهي من أحب الخلائق إلي ، لم تلد
مني ولداً قط ، فوقع يعقوب ساجداً ، فدعا الله ، فولد له أربعة وعشرون ذكراً ، وكان
يوسف ، عليه السلام ، بأرض مصر ، فأنزل الله عليهم البركة ، ثم باعه المشتري من قطفير
بن ميشا ، فقال يوسف : من يشتري ويبشر ، فاشتراه قطفير بن ميشا بعشرين ديناراً(2/143)
صفحة رقم 144
وزيادة حلة ونعلين ، وأخذ البائع قيمة الدنانير دراهم .
يوسف : ( 21 ) وقال الذي اشتراه . . . . .
) وقال الذي اشتراه من مصر ( ، وهو قطفير بن ميشا ) لامرأته ( زليخا بنت
يمليخا : ( أكرمي مثواه ( ، يعني أحسني منزلته وولايته ، ) عسى أن ينفعنا ( أو
نصيب منه خيراً ، ) أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ( الملك
والسلطان في أرض مصر ، ) ولنعلمه من تأويل الأحاديث ( ، يعنى من تعبير الرؤيا ،
)( والله غالب على أمره ( ، يعنى والله متم ليوسف أمره الذي هو كائن مما لا يعلمه
الناس ، فذلك قوله : ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) [ آية : 21 ] . ذلك
تفسير سورة يوسف من الآية : [ 22 - 35 ] .(2/144)
صفحة رقم 145
يوسف : ( 22 ) ولما بلغ أشده . . . . .
) ولما بلغ أشده ( ، يعنى ثماني عشرة سنة ، ) ءاتينهُ حُكماً ( ، يقول : أعطيناه فهماً ،
)( وعلما وكذلك نجزي المحسنين ) [ آية : 22 ] ، يعنى وهكذا نجزي المخلصين بالفهم
والعلم .
يوسف : ( 23 ) وراودته التي هو . . . . .
) وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب ( على نفسها وعلى
يوسف في أمر الجماع ، ) وقالت هيت لك ( ، يعني هلم لك نفسي ، تريد المرأة
الجماع ، فغلبته بالكلام ، ) قال معاذ الله ( ، يعني أعوذ بالله ، ) إنه ربي أحسن مثواي ( ، يقول : إنه سيدي ، يعني زوجها ، أكرم مثواي ، يعني منزلتي ، ) إنه لا يفلح ( ، يعنى لا يفوز ) الظالمون ) [ آية : 23 ] إن ظلمته في أهله ، وألقى عليها
شهوة أربعين إنساناً .
يوسف : ( 24 ) ولقد همت به . . . . .
) ولقد همت به ( ، يقول : همت المرأة بيوسف حتى استلقت للجماع ، ) وهم بها ( يوسف حين حل سراويله وجلس بين رجليها ، ) لولا أَن رءا بُرهانَ رَبَهِ ( ، يعنى
آية ربه لواقعها ، والبرهان مثل له يعقوب عاض على إصبعه ، فلما رأى ذلك ، ولي دبراً
واتبعته المرأة ، ) كذلك ( ، يعنى هكذا ، ) لنصرف عنه السوء ( ، يعنى الإثم ،
)( والفحشاء ( ، يعنى المعاصي ، ) إنه من عبادنا المخلصين ) [ آية : 24 ] بالنبوة
والرسالة ، نظيرها : ( إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ) [ ص : 46 ] ، يعنى بالنبوة .
يوسف : ( 25 ) واستبقا الباب وقدت . . . . .
) واستبقا الباب ( ، يوسف أمامها هارب منها ، وهي ورائه تتبعه لتحبسه على
نفسها ، فأدركته قبل أن ينتهي إلى الباب ، ) وقدت قميصه من دبر ( ، يقول : فمزقت
قميصه من ورائه حتى سقط القميص عن يوسف ، ) وألفيا ( ، يقول : وجدا ، كقوله :
( ألفينا عليه آباءنا ) [ البقرة : 170 ] ، يعنى وجدا ) سيدها ( ، يعنى زوجها ، ) لَدا
البابِ ( ، يعنى عند الباب ومعه ابن عمها يملخا بن أزليخا ، ) قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ( ، يعنى الزنا ، ) إلا أن يسجن ( حبساً في نصب ، ) أو عذاب أليم (
[ آية : 25 ] ، يعنى ضرباً وجيعاً .
يوسف : ( 26 ) قال هي راودتني . . . . .
) قال ( يوسف للزوج ) هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها ((2/145)
صفحة رقم 146
وهو يمليخا ابن عم المرأة ، فتكلم بعقل ولب ، قال : ( إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ) [ آية : 26 ] ، أي إن كان يوسف هو الذي راودها ، فقدت ،
يعني فمزقت قميصه من قُبل ، يعنى من قدامه ، فصدقت على يوسف ، ويوسف من
الكاذبين في قوله .
يوسف : ( 27 ) وإن كان قميصه . . . . .
) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ) [ آية : 27 ] ، أي وإن كان
يوسف هو الهارب منها ، فأدركته فقدت قميصه من دبر ، فكذبت على يوسف ، ويوسف
من الصادقين في قوله ، وقد سمعا جلبتهما وتمزيق القميص من وراء الباب .
يوسف : ( 28 ) فلما رأى قميصه . . . . .
) فَلمَا رَءا ( الزوج ) قميصه قد من دبر ( ، يقول : مزق من ورائه ، ) قال ( لها :
( إنه من كيدكن ( ، يقول : تمزيق القميص من فعلكن ، يعنى امرأته ، ثم قال : ( إن كيدكن ( ، يعنى فعلكن ) عظيم ) [ آية : 28 ] ؛ لأن المرأة لا تزال بالرجل حتى يقع في
الخطيئة العظيمة .
يوسف : ( 29 ) يوسف أعرض عن . . . . .
ثم قال الشاهد ليوسف : ( يوسف أعرض عن هذا ( الأمر الذي فعلت بك ، ولا
تذكره لأحد ، ثم أقبل الشاهد على المرأة ، فقال : ( واستغفري لذنبك ( ، يعنى واعتذري
إلى زوجك واستعفيه ألا يعاقبك ، ) إنك كنت من الخاطئين ) [ آية : 29 ] .
يوسف : ( 30 ) وقال نسوة في . . . . .
) وقال نسوة في المدينة ( ، وهن خمس نسوة : امرأة الخباز ، وامرأة الساقي ،
وامرأة صاحب السجن ، وامرأة صاحب الدواب ، وامرأة صاحب الإذن ، قلن : ( امرأتُ
العزيزِ تُراودُ فَتَاها ( العبراني ، يعني عبدها الكنعاني ، ) عن نفسه قد شغفها حبا ( ،
يعني غلبها حباً شديداً هلكت عليه ، ) إنا لنراها في ضلال مبين ) [ آية : 30 ] ، يعنى في
خسران بين ، يعنى شقاء من حب يوسف ، عليه السلام ، حتى فشا عليها .
يوسف : ( 31 ) فلما سمعت بمكرهن . . . . .
) فلما سمعت ( زليخا ) بمكرهن ( ، يعنى بقولهن لها ، ) أرسلت إليهن ( فجئنها ،
)( وأعتدت لَهُنَّ مُتكئاً ( ، وهو الأترج ، وكل شيء يحز بالسكين فهو متكأ ، ) وءاتت (
يعني وأعطت ) كل واحدة منهن سكينا ( ، وأمرت يوسف ، عليه السلام ، فتزين وترجل ،(2/146)
صفحة رقم 147
وكان أعطى يوسف في زمانه ثلث الحسن ، وآتاه الحسن من قبل جده إسحاق من قبل
أمه سارة ، وورثت سارة حسنها من قبل حواء امرأة آدم ، عليه السلام ، وحسن حواء من
آدم ؛ لأنها خلقت منه .
وقال مقاتل : كل ذكر أحسن من الأنثى من الأشياء كلها ، وفضل يوسف في زمانه
بحسنه على الناس ، كفضل القمر ليلة البدر على الكواكب .
) وقالت ( ، أي ثم قال : يا يوسف : ( اخرج عليهن ( من البيت ، ) فلما رأينه أكبرنه ( ، يعنى أعظمته ، ) وقطعن أيديهن ( ، يعنى وحززن أصابعهن بالسكين حين نظرن
إليه ، ) وقلن حاش لله ( ، يعنى معاذ الله ، ) ما هذا بشرا ( إنساناً ، ) إن هذا إلا ملك كريم ) [ آية : 31 ] ، يعنى حسن ، فأعجبها ما صنعن وما قلن .
يوسف : ( 32 ) قالت فذلكن الذي . . . . .
) قالت ( زليخا : ( فذلِكن الَّذي لُمتني فِيهِ ( الذي افتتنتن به ، ) ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ( ، يعنى فامتنع عن الجماع ، ) وَلئن لَّم يفعل ما ءامُرُهُ لَيُسجنن وَليكُونا مِنَ
الصاغِرينَ ) [ آية : 32 ] ، يعنى المذلين .
يوسف : ( 33 ) قال رب السجن . . . . .
قالت النسوة : يا يوسف ، ما يمنعك أن تقضي لها حاجتها ؟ فدعي يوسف ربه ، ) قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ( من الزنا ، حين قلن ليوسف : ما يحملك على ألا
تقضي لها حاجتها ، ) وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن ( ، يقول : أفضي إليهن ،
)( وأكن من الجاهلين ) [ آية : 33 ] ، يعنى من المذنبين .
يوسف : ( 34 ) فاستجاب له ربه . . . . .
) فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن ( ، يعنى مكرهن وشرهن ، ) إنه هو السميع ( لدعاء يوسف ، ) العليم ) [ آية : 34 ] به .
يوسف : ( 35 ) ثم بدا لهم . . . . .
) ثم بدا لهم ( ، يعنى ثم بدا للزوج ) من بعد ما رأوا الآيات ( ، يعنى من بعد ما رأوا
العلامات في تمزيق القميص من دبر أنه برئ ، ) ليسجننه حتى حين ) [ آية : 35 ] ،
وذلك أنها قالت لزوجها حين لم يطاوعها يوسف : أحبس يوسف في السجن لا يلج
عليَّ ، فصدقها فحبسته ، فقال له صاحب السجن : من أنت ؟ قال : ولم تسألني من أنا ؟
قال : لأني أحبك ، قال : أعوذ بالله من حبك ، أحبني والدي ، فلقيت من اخوتي ما لقيت ،
وأحبتني امرأة العزيز ، فلقيت من حبها ما لقيت ، فلا حاجة لي في حب أحد إلا في إلهي
الذي في السماء ، قال : أخبرني من أنت ؟ قال : أنا يوسف نبي الله ، ابن يعقوب صفي الله ، ابن إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله ، وكان يوسف في السجن يؤنس
الحزين ، ويطمئن الخائف ، ويقوم على المريض ، ويعبر لهم الرؤيا .(2/147)
صفحة رقم 148
تفسير سورة يوسف الآية : [ 36 - 57 ] .(2/148)
صفحة رقم 149
يوسف : ( 36 ) ودخل معه السجن . . . . .
ورقي إلى الملك أن غلامه الخباز يريد أن يجعل في طعامه سماً ، ورقي إليه في غلامه
الساقي مثل ذلك ، فذلك قوله : ( ودخل معه السجن فتيان ( ، الخباز والساقي ، اسم
أحدهما شرهم أقم ، وهو الساقي ، واسم الخباز شرهم أشم ، ) قال أحدهما إني أراني (
في المنام كأني ) أعصر خمرا ( ، يعني عنباً ، قال : كأني دخلت البستان ، فإذا فيه أصل
كرم ، وعليه ثلاث عناقيد ، فكأني أعصرهن وأسقي الملك ، ) وقال الآخر إني أراني ( ،
رأيت في المنام كأني ) أحمل فوق رأسي خبزا ( ، ثلاث سلال ، وأعلاهن جفنة من خبز ،
فوق رأسي ، مثل قوله : ( فاضربوا فوق الأعناق ) [ الأنفال : 12 ] ، ومثل قوله :
( اجتثت من فوق الأرض ) [ إبراهيم : 26 ] ، يعني أعلا الأرض ، ) تأكل الطير منه نبئنا بتأويله ( ، يقول : أخبرنا بتفسير ما رأينا في المنام ، ) إنا نراك من المحسنين (
[ آية : 36 ] ، وكان إحسانه في السجن أنه كان يعود مرضاهم ويداويهم ، ويعزي
مكروبهم ، ورآه متعبداً لربه ، فهذا إحسانه .
يوسف : ( 37 ) قال لا يأتيكما . . . . .
) قال ( يوسف : ألا أخبركما بأعجب من الرؤيا التي رأيتما ، قال : ( لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله ( ، إلا أخبرتكما بألوانه ) قبل أن يأتيكما ( الطعام ،
فقالوا ليوسف : إنما يعلم هذا الكهنة والسحرة ، وأنت لست في هيئة ذلك ، فقال يوسف
لهما : ( ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم ( أولئك الكهنة والسحرة ، يعنى أهل
مصر ، ) لا يؤمنون بالله ( ، يعنى لا يصدقون بتوحيد الله ، ولا بالبعث الذي فيه جزاء
الأعمال ، ) وهم بالآخرة هم كافرون ) [ آية : 37 ] .
يوسف : ( 38 ) واتبعت ملة آبائي . . . . .
) واتبعتُ مِلةَ ءاباءي إِبراهيم وَإسحق وَيعقوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُشرِكَ بِالله مِن شَيءٍ
ذلك من فَضلِ الله عَلَينا وَعَلى النَّاس وَلَكِنَّ أَكثرَ النَّاس لا يشكُرُونَ ) [ آية : 38 ] .
يوسف : ( 39 ) يا صاحبي السجن . . . . .
ثم دعاهما إلى الإسلام وهما كافران ، فقال : ( يصحِبي السِجن ( ، يعني الخباز
والساقي ، ) ءاربابٌ مُتفرِقُونَ خَيرُ ( ، أآلهة شتى تعبدون خير ، يعنى أفضل ، ) أم الله ((2/149)
صفحة رقم 150
) الواحد القهار ) [ آية : 39 ] لخلقه ؛ لأن الآلهة مقهورة ، كقوله في النمل : ( آلله خير أما يشركون ) [ النمل : 59 ] من الآلهة .
يوسف : ( 40 ) ما تعبدون من . . . . .
ثم قال يوسف عليه السلام : ( ما تعبدون من دونه ( من الآلهة ) إلا أَسماءَ
سَمَّيتُمُوهَا أَنتم وءاباؤُكُم ( أنها آلهة ، ) ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم ( ،
يعنى القضاء ، ) إلا لله ( في التوحيد ، ) أمر ألا تعبدوا إلا إياه ( ، يقول : أمر الله أن
يوحد ، ويعبد وحده ، له التوحيد ، ) ذلك الدين القيم ( ، يعنى المستقيم ، وغيره من
الأديان ليس بمستقيم ، ) ولكن أكثر الناس ( ، يعنى أهل مصر ، ) لا يعلمون (
[ آية : 40 ] بتوحيد ربهم .
يوسف : ( 41 ) يا صاحبي السجن . . . . .
) يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا ( ، وهو الساقي ، قال له يوسف :
تكون في السجن ثلاثة أيام ، ثم تخرج فتكون على عملك ، فتسقي سيدك خمراً ، ) وأما الآخر ( ، وهو الخباز ، ) فيصلب فتأكل الطير من رأسه ( ، واسمه شرهم أشم ، قال
له يوسف : تكون في السجن ثلاثة أيام ، ثم تخرج فتصلب ، فتأكل الطير من رأسك ،
فكره الخباز تعبير رؤياه ، فقال : ما رأيت شيئاً ، إنما كنت ألعب ، فقال له يوسف : ( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) [ آية : 41 ] ، رأيتما أو لم تريا ، فقد وقع بكما ما عبرت
لكما .
يوسف : ( 42 ) وقال للذي ظن . . . . .
) وقال ( يوسف ) للذي ظن أنه ناج منهما ( من القتل إضمار ، وهو الساقي :
( اذكرني عند ربك ( ، يعنى سيدك ، فإنه يسرني أن يخرجني من السجن ، يقول
الله : ( فأنساه الشيطان ذكر ربه ( ، يعنى يوسف دعاء ربه ، فلم يدع يوسف
ربه الذي في السماء ليخرجه من السجن ، واستغاث بعبد مثله ، يعنى الملك ، فأقره الله في
السجن عقوبة حين رجا أن يخرجه غير الله عز وجل ، فذلك قوله : ( فلبث في السجن بضع سنين ) [ آية : 42 ] ، يعنى خمس سنين حتى رأى الملك الرؤيا ، وكان في السجن
قبل ذلك سبع سنين ، وعوقب ببضع سنين ، يعنى خمس سنين ، فكان في السجن اثنتا
عشر سنة ، فذلك قوله : ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين (
[ يوسف : 35 ] .(2/150)
صفحة رقم 151
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لو أن يوسف ذكر ربه ، ولم يستغث بالملك ، لم يلبث في السجن
بضع سنين ، ولخرج من يومه ذاك ' ، قال : وأتي جبريل يوسف حين استغاث بالملك وترك
دعاء ربه ، فقال له : إن الله يقول لك : يا ابن يعقوب ، من حببك إلى أبيك وأنت
أصغرهم ؟ قال : أنت يا إلهي ، قال : إن الله يقول : من عصمك من الخطيئة وقد هممت
بها ؟ قال : أنت يا إلهي ، قال : فكيف تركتني واستغثت بعبد مثلك ؟ فلما سمع يوسف
ذكر الخطيئة ، قال : يا إلهي ، إن كان خلق وجهي عندك من أجل خطيئتي ، فأسألك بوجه
أبي وجدي أن تغفر لي خطيئتي .
يوسف : ( 43 ) وقال الملك إني . . . . .
) وقال الملك ( ، وهو الريان بن الوليد ، للملأ من قومه : ( إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع ( ، أي بقرات ، ) عجاف و ( رأيت ) وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ( ، ثم قال : ( يَأيُها المَلأ أفتوني في رُءياي ( ، وهم علماء أهل الأرض ،
وكان أهل مصر من أمهر الكهنة والعرافين ، ) إِن كُنتُم للرُّءيا تَعبُرُونَ ) [ آية : 43 ] ،
ولم يعلموا تأويل رؤياه .
يوسف : ( 44 ) قالوا أضغاث أحلام . . . . .
ف ) قالوا أضغاث أحلام ( ، يعنى أحلام مختلطة كاذبة ، ثم عملوا أن لها تعبيراً ،
وأنها ليست من الأحلام المختلطة ، فمن ثم قالوا : ( وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين (
[ آية : 44 ] ، وجاءه جبريل ، عليه السلام ، فأخبره أنه يخرج من السجن غداً ، وأن الملك قد
رأى رؤيا ، فلما نظر يوسف إلى جبريل عليه البياض مكلل باللؤلؤ . قال مقاتل : قال له :
أيها الملك الحسن وجهه ، الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، أي رسل ربي
أنت ؟ قال : أنا جبريل ، قال : ما أتى بك ؟ قال : أبشرك بخروجك ، قال : ألك علم بيعقوب
أبي ما فعل ؟ قال : نعم ، ذهب بصره من الحزن عليك .
قال : أيها الملك الحسن وجهه ، الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، ما بلغ
من حزنه ؟ قال : بلغ حزنه حزن سبعين مثكلة بولدها ، قال : أيها الملك الحسن وجهه ،
الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم على ربه ، فما له من الأجر ؟ قال : أجر مائة شهيد ،
وألف مثكلة موجعة ، قال : أيها الملك الحسن وجهه ، الطيب ريحه ، الطاهر ثيابه ، الكريم
على ربه ، هل رأيت يعقوب ؟ قال : نعم ، قال : أيها الملك من ضم إليه بعدي ؟ قال : أخاك(2/151)
صفحة رقم 152
بنيامين ، قال يوسف : يا ليت السباع تقسمت لحمي ولم يلق يعقوب في سبيلي ما لقي .
فلما سمع الساقي رؤيا الملك ، ذكر تصديق عبارة يوسف ، عليه السلام ، في نفسه ،
وفي الخباز ، فذلك قوله :
يوسف : ( 45 ) وقال الذي نجا . . . . .
) وقال الذي نجا منهما ( من القتل ) وادكر بعد أمة ( ، يعني
وذكر بعد حين : ( أنا أنبئكم بتأويله ( ، يعنى بتعبيره ، ) فأرسلون ) [ آية : 45 ] إلى
يوسف .
يوسف : ( 46 ) يوسف أيها الصديق . . . . .
فلما أتى يوسف ، قال له الساقي : ( يوسف أيها الصديق ( ، يعنى أيها الصادق فيما
عبرت لي ولصاحبي ، ) أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ( ، قال : أما البقرات السبع السمان ، والسنبلات الخضر ، فهن سبع
سنين مخصبات ، وأما البقرات العجاف السبع ، والسنبلات السبع الأخر اليابسات ، فهن
المجدبات ، ثم قال الساقي : ( لعلي أرجع إلى الناس ( ، يعني أهل مصر ، ) لعلهم ( ، يعنى
لكي ) يعلمون ) [ آية : 46 ] تعبيرها ، يعنى تعبير هذه الرؤيا .
يوسف : ( 47 ) قال تزرعون سبع . . . . .
ثم عملهم كيف يصنعون ، ) قال تزرعون سبع سنين دأبا ( ، يعنى دائبين في الزرع ، ثم
علمهم يوسف ما يصنعون ، فقال : ( فما حصدتم ( من حب ، ) فذروه في سنبله ( ،
فإنهُ أبقي له لئلا يأكله السوس ، ) إلا قليلا مما تأكلون ) [ آية : 47 ] ، فتشقونه .
يوسف : ( 48 ) ثم يأتي من . . . . .
) ثم يأتي من بعد ذلك ( ، يعنى من بعد السنين المخصبات ، ) سبع شداد ( ، يعنى
مجدبات ، ) يأكلن ما قدمتم لهن ( ، يعني ما ذخرتم لهن في هذه السنين الماضية ،
)( إلا قليلا مما تحصنون ) [ آية : 48 ] ، يعنى مما تدخرون فتحرزونه .
يوسف : ( 49 ) ثم يأتي من . . . . .
) ثم يأتي من بعد ذلك ( ، يعنى من بعد السنين المجدبات ، ) عام فيه يغاث الناس ( ،
يعنى أهل مصر بالمطر ، ) وفيه يعصرون ) [ آية : 49 ] العنب ، والزيت من الخصب ، هذا
من قول يوسف ، وليس من رؤيا الملك ، فرجع الرسول فأخبره فعجب .
يوسف : ( 50 ) وقال الملك ائتوني . . . . .
) وقال الملك ( واسمه الريان بن الوليد : ( ائتوني به ( ، يعني بيوسف ، ) فلما جاءه الرسول ( ، يعنى رسول الملك ، وهو الساقي ، ) قال ( له : ( ارجع إلى ربك ( ، يعنى(2/152)
صفحة رقم 153
سديك ، ) فَسئلَهُ مَا بَالُ النسوةِ ( الخمس ) التي قطعنَ أَيديهن ( ، يعنى حززن
أصابعهن بالسكين ، ) إن ربي بكيدهن ( ، يعنى بقولهن ) عليم ) [ آية : 50 ] حين قلن :
ما يمنعك أن تقضي لها حاجتها ؟ وأراد يوسف ، عليه السلام ، أن يستبين عذره عند الملك
قبل أن يخرج من السجن ، ولو خرج يوسف حين أرسل إليه الملك قبل أن يبرئ نفسه ، لم
يزل متهماً في نفس الملك ، فمن ثم قال : ( قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ( ، فيشهدن أن امرأة العزيز قالت : ( ولقد
راودتُهُ عن نفسيه فاستعصم ) [ يوسف : 32 ] .
يوسف : ( 51 ) قال ما خطبكن . . . . .
فلما سألهن الملك ، ) قال ( لهن : ( ما خطبكن ( ، يعنى ما أمركن ، كقوله : ( فما خطبكم أيها المرسلون ) [ الحجر : 57 ] ، يعنى ما أمركم ، ) إذ راودتن يوسف عن نفسه ( ، وذلك أنهن قلن حين خرج عليهن يوسف من البيت : ما عليك أن تقضي لها
حاجتها ؟ فأبي عليهن ، فرددن على الملك ، ) قُلنَ حَشَ للهِ ( ، يعني معاذ الله ، ) ما علمنا عليه من سوء ( ، يعنى الزنا ، فلما سمعت زليخا قول النسوة ، ) قَالت امرأتُ
العزيز ( عند ذلك ، ) الئن حصحص ( ، يعنى الآن تبين ) الحق أنا راودته عن نفسه وإنه ( يوسف ) لمن الصادقين ) [ آية : 51 ] في قوله .
يوسف : ( 52 ) ذلك ليعلم أني . . . . .
فأتاه الروسل في السجن ، فأخبره بقول النسوة عند الملك ، قال يوسف : ( ذلك ليعلم ( ، يقول : هذا ليعلم سيده ) أني لم أخنه بالغيب ( في أهله ، ولم أخالفه فيهن ،
)( وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ) [ آية : 52 ] ، يعنى لا يصلح عمل الزناة ، يقول : يخذلهم ،
فلا يعصمهم من الزنا ، فأتاه الملك ، وهو جبريل ، بالبرهان الذي رأى ، فقال ليوسف : أين
ما هممت به أولاً حين حللت سراويلك وجلست بين رجليها ؟
فلما ذكر الملك ذلك ، قال عند ذلك :
يوسف : ( 53 ) وما أبرئ نفسي . . . . .
) وما أبرئ نفسي ( ، يعنى قلبي من الهم ،
لقد هممت بها ، ) أن النفس ( ، يعني القلب ) لأمارة بالسوء ( للجسد ، يعنى بالإثم ،
ثم استثنى ، فقال : ( إلا ما رحم ربي ( ، يعني إلا ما عصم ربي ، فلا تأمر بالسوء ، ) إن ربي غفور ( لما هم به من المعصية ، ) رحيم ) [ آية : 53 ] به حين عصمه .
يوسف : ( 54 ) وقال الملك ائتوني . . . . .
) وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي ( ، يعنى اتخذه ، ) فلما ( أتاه يوسف(2/153)
صفحة رقم 154
و ) كلمه ( ، أي كلم الملك ، ) قال ( ليوسف : ( إنك اليوم لدينا مكين ( ، يقول :
عندنا وجيه ، ) امين ) [ آية : 54 ] على ما وكلت به ، كقوله : ( عند ذي العرش مكين ) [ التكوير : 20 ] .
يوسف : ( 55 ) قال اجعلني على . . . . .
ثم ) قال ( يوسف للملك : ( اجعلني على خزائن الأرض ( بمصر ، ) إني حفيظ (
لما وكلتني به ) عليم ) [ آية : 55 ] ، يعنى عالم بلغة الناس كلها . قال مقاتل : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' لو قال : إني حفظ عليم إن شاء الله ، لملك من يومه ذلك ' ، وقال ابن عباس : لبث
بعد ذلك سنة ونصفاً ، ثم ملك أرض مصر . وقال مقاتل : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' عجبت من
صبر يوسف وكرمه ، والله يغفر له ، لو كنت أنا لبادرت الباب حين بعث إليه الملك
يدعوه ' .
يوسف : ( 56 ) وكذلك مكنا ليوسف . . . . .
) وكذلك مكنا ليوسف ( ، يعنى وهكذا مكنا ليوسف الملك ) في الأرض ( ، في
أرض مصر ، ل ) يتبوأ ( ، يقول : ينزل ) منها حيث يشاء نصيب برحمتنا ( ، يعنى سعتنا ،
)( من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ) [ آية : 56 ] ، يعنى نوفيه جزاءه ، فجزاه الله
بالصبر على البلاء ، والصبر على المعصية بأن ملكه على مصر .
يوسف : ( 57 ) ولأجر الآخرة خير . . . . .
ثم قال : ( ولأجر الآخرة خير ( ، يعنى أكبر ، يعنى جزاء الآخرة أفضل مما أعطى في
الدنيا من الملك ، ) للذين ءامنواْ ( ، يعنى صدقوا بالتوحيد ، ) وَكَانُواْ يتفقُونَ ) [ آية : 57 ] .
الشرك مثل الذي اتقى يوسف ، عليه السلام .
تفسير سورة يوسف من الآية : [ 58 - 81 ](2/154)
صفحة رقم 155
يوسف : ( 58 ) وجاء إخوة يوسف . . . . .
) وجاء إخوة يوسف ( من أرض كنعان ، ) فدخلوا عليه ( ، أي على يوسف بمصر ،
)( فعرفهم ( يوسف ، ) وهم له منكرون ) [ آية : 58 ] ، يقول : وهم لا يعرفون
يوسف ، فقال : من أنتم ؟ قالوا : نحن بنو يعقوب ، نحن من أهل كنعان ، قال : كم أنتم ؟
قالوا : نحن أحد عشر ، قال : ما لي لا أرى الأحد عشر ؟ قالوا : واحد منا عند أبينا ، قال :
ولم ذلك ؟ قالوا : إن أخاهُ لأمه أكله الذئب ، فلذلك تركناه عند أبينا ، فهو يستريح إليه .(2/155)
صفحة رقم 156
يوسف : ( 59 ) ولما جهزهم بجهازهم . . . . .
) ولما جهزهم ( يوسف ) بجهازهم ( ، يعنى في أمر الطعام ، ) قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ( ، يعنى بنيامين ، وكان أخاهم من أبيهم ، وكان أخا يوسف لأبيه وأمه ، ) ألا ترون أني أوفي ( ، يعنى أوفي لكم ) الكيل وأنا خير المنزلين ) [ آية : 59 ] ، وأنا أفضل
من يضيف بمصر .
يوسف : ( 60 ) فإن لم تأتوني . . . . .
) فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم ( ، يعنى فلا بيع لكم ) عندي ( من الطعام ، ) ولا تقربون ) [ آية : 60 ] بلادي .
يوسف : ( 61 ) قالوا سنراود عنه . . . . .
) قالوا سنراود عنه أباه ( يعقوب ، ) وإنا لفاعلون ) [ آية : 61 ] ذلك بأبيه .
يوسف : ( 62 ) وقال لفتيانه اجعلوا . . . . .
) وقال ( يوسف ) لفتيانه ( ، يعنى لخدامه وهم يكيلون لهم الطعام : ( اجعلوا بضاعتهم ( يعنى دراهمهم ) في رحالهم ( ، يعنى في أوعيتهم ، ) لعلهم ( ، يعنى لكي
) يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم ( ، يعنى لكي ) يرجعون ) [ آية : 62 ] إلينا
فلا يحبسهم عنا حبس الدراهم إذا ردت إليهم ؛ لأنهم كانوا أهل ماشية .
يوسف : ( 63 ) فلما رجعوا إلى . . . . .
) فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل ( ، يعنى منع كيل الطعام ، فيه
إضمار فيما يستأنف ، ) فأرسل معنا أخانا ( بنيامين ) نكتل ( الطعام بثمن ،
)( وإنا له لحافظون ) [ آية : 63 ] من الضيعة .
يوسف : ( 64 ) قال هل آمنكم . . . . .
) قال ( أبوهم : ( هَل ءامنُكُم عليه إِلا كما أمنتكم على أَخيه من قبل ( في قراءة
ابن مسعود : هل تحفظونه إلا كما حفظتم أخاه يوسف من قبل بنيامين ، ) فالله خير حافظا ( ، يعنى فالله خير حافظاً منكم ، ) وهو أرحم الراحمين ) [ آية : 64 ] ، يعنى أفضل
الراحمين .
يوسف : ( 65 ) ولما فتحوا متاعهم . . . . .
) ولما فتحوا متاعهم ( ، يعنى حلوا أوعيتهم ، ) وجدوا بضاعتهم ( ، يعنى
دراهمهم ، فيها إضمار ، ) ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي ( بعد ) هذه ( إضمار ،
فإنهم قد ردوا علينا الدراهم ، هذه ) بضاعتنا ( ، يعنى دراهمنا ) ردت إلينا ونمير أهلنا ( الطعام ، ) ونحفظ أخانا ( بنيامين من الضيعة ، ) ونزداد ( من أجله ) كيل بعير ( ، وكان أهل مصر يبيعون الطعام على عدة الرجال ، ولا يبيعون على عدة
الدواب ، وكان الطعام عزيزاً ، فذلك قوله : ( كيل بعير ( من أجله ، ) ذلك كيل يسير ) [ آية : 65 ] سريع لا حبس فيه .
يوسف : ( 66 ) قال لن أرسله . . . . .
) قال ( أبوهم : ( لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله ( ، يعنى تعطوني(2/156)
صفحة رقم 157
عهداً من الله ، ) لتأتيني بِهِ ( ، يعني بنيامين ولا تضيعوه كما ضيعتم أخاه يوسف ،
)( إلا أن يحاط بكم ( ، يعنى يحيط بكم الهلاك فتهلكوا جميعاً ، ) فلما ءاتوهُ موثقهُم ( ،
يعنى عهدهم ، ) قال ( يعقوب : ( الله على ما نقول وكيل ) [ آية : 66 ] ، يعنى شهيداً بيني
وبينكم ، نظيرها في القصص : ( والله على ما نقول وكيل ) [ القصص : 28 ] .
يوسف : ( 67 ) وقال يا بني . . . . .
فلما سرح بنيامين معهم ، خشي عليهم العين ، وكان بنوه لهم جمال وحسن ، ) وقال يا بني لا تدخلوا ( مصر ) من باب واحد ( ، يعنى من طريق واحدة ، ) وادخلوا من أبواب متفرقة ( ، من طرق شتى ، ثم قال : ( وما أغني عنكم ( إذا جاء قضاء الله ، ) مِنَ اللهِ
من شيءٍ إِن الحُكم إِلا لله ( ، يعنى ما القضاء إلا لله ، ) عليه توكلت ( ، يقول : به أثق ،
)( وعليه فليتوكل المتوكلون ) [ آية : 67 ] ، يعنى به فليثق الواثقون .
يوسف : ( 68 ) ولما دخلوا من . . . . .
) ولما دخلوا ( مصر ) من حيث أمرهم أبوهم ( من طرق شتى ، أخذ كل واحد
منهم في طريق على حدة ، يقول الله تعالى ) ما كان ( يعقوب ) يُغني عَنهُم مِنَ
الله من شيءٍ إِلا حَاجة في نَفس يعقوب قضها ( ، كقوله : ( ولا يجدون في صدورهم حاجة ) [ الحشر : 9 ] ، وهذا من كلام العرب ، يعنى إلا أمر شجر في نفس يعقوب ،
)( وإنه ( ، يعنى أباهم ) لذو علم لما علمناه ( ؛ لأن الله تعالى علمه أنه لا يصيب بنيه
إلا ما قضي الله عليهم ، ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) [ آية : 68 ] .
يوسف : ( 69 ) ولما دخلوا على . . . . .
) وَلما دَخلواْ عَلَى يُوسُف ءاوى إِليه أَخاهُ ( ، يعنى ضم إليه أخاه ، ) قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون ) [ آية : 69 ] ، يقول : فلا تحزن بما سرقوك
وجاءوا بالدراهم التي كانت في أوعيتهم فردوها إلى يوسف ، عليه السلام .
يوسف : ( 70 ) فلما جهزهم بجهازهم . . . . .
) فلما جهزهم بجهازهم ( ، يقول : فلما قضي في أمر الطعام حاجتهم ، ) جعل السقاية ( ، وهي الإناء الذي يشرب به الملك ، ) في رحل أخيه ( بنيامين ، ) ثم أذن مؤذن ( ، يعنى نادى مناد ، اسمه بعرايم بن بربري ، من فتيان يوسف : ( أيتها العير ( ،
يعني الرفقة ، ) إِنكم لسرِقُونَ ) [ آية : 70 ] فانقطعت ظهورهم وساء ظنهم .
يوسف : ( 71 ) قالوا وأقبلوا عليهم . . . . .
ف ) قالوا وأقبلوا عليهم ( ، فيها تقديم وأقبلوا على المنادي ، ثم قالوا : ( ماذا تفقدون ) [ آية : 71 ] .(2/157)
صفحة رقم 158
يوسف : ( 72 ) قالوا نفقد صواع . . . . .
) قالوا ( المنادي ومن معه لإخوة يوسف : ( نفقد صواع الملك ( ، يعنى إناء
الملك ، وكان يكال به كفعل أهل العساكر ، ) ولمن جاء به حمل بعير ( ، يعنى وقر
بعير ، ) وأنا به زعيم ) [ آية : 72 ] ، يعنى به كفيل .
يوسف : ( 73 ) قالوا تالله لقد . . . . .
فرد الاخوة القول على المنادي ، ) قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض ( ، يعنى أرض مصر بالمعاصي ، ) وما كنا سارقين ) [ آية : 73 ] ، وقد رددنا
عليكم الدراهم التي كانت في أوعيتنا ، ولو كنا سارقين ما رددناها عليكم .
يوسف : ( 74 ) قالوا فما جزاؤه . . . . .
) قالوا ( ، أي المنادي ومن معه : ( فما جزاؤه ( ، أي السارق ، ) إن كنتم كاذبين ) [ آية : 74 ] .
يوسف : ( 75 ) قالوا جزاؤه من . . . . .
) قالوا جزاؤه من وجد في رحله ( ، يعنى في وعائه ، يعنى المتاع ، ) فهو جزاؤه ( ،
يعنى هو مكان سرقته ، ) كذلك نجزي الظالمين ) [ آية : 75 ] ، يعنى هكذا نجزي
السارقين ، كقوله في المائدة : ( فمن تاب من بعد ظلمه ) [ المائدة : 39 ] ، يعنى بعد
سرقته ، وكان الحكم بأرض مصر أن يغرم السارق عبداً يستخدم على قدر ضعف ما
سرق ويترك ، وكان الحكم بأرض كنعان أن يتخذ السارق عبداً يستخدم على قدر
سرقته ، ثم يخلى سبيله ، فيذهب حيث شاء ، فحكموا بأرض مصر بقضاء أرضهم .
يوسف : ( 76 ) فبدأ بأوعيتهم قبل . . . . .
) فبدأ ( المنادي ) بأوعيتهم ( ، فنظر فيها ، فلم ير شيئاً ، ) قبل وعاء أخيه ( ، ثم
انصرف ولم ينظر في وعاء بنيامين ، فقال : ما كان هذا الغلام ليأخذ الإناء ، قال إخوته :
لا ندعك حتى تنظر في وعائه ، فيكون أطيب لنفسك ، فنظر ، فإذا هو بالإناء ، ) ثم استخرجها من وعاء أخيه ( ، يعنى من متاع أخيه ، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه ،
)( كذلك كدنا ( ، يعنى هكذا صنعنا ) ليوسف ( أن يأخذ أخاه خادماً بسرقته
في دين الملك ، يعنى في سلطان الملك ، فذلك قوله : ( ما كان ليأخذ أخاه ( ، يعنى
ليحبس أخاه ، ) في دين الملك ( ، يعنى حكم الملك ، لأن حكم الملك أن يغرم السارق(2/158)
صفحة رقم 159
ضعف ما سرق ثم يترك ، ) إلا أن يشاء الله ( ذلك ليوسف ، ) نرفع درجات من نشاء ( ، يعنى فضائل يوسف حين أخذ أخاه ، ثم قال : ( وفوق كل ذي علم عليم (
[ آية : 76 ] ، يقول الرب تعالى عالم ، ) وفوق كل ذي علم عليم ( ، يقول : يوسف
أعلم اخوته .
يوسف : ( 77 ) قالوا إن يسرق . . . . .
ثم قال إخوة يوسف : ( قالوا إن يسرق ( بنيامين ، ) فقد سرق أخ له من قبل ( بنيامين يعنون يوسف ، عليه السلام ، وذلك أن جد يوسف أبا أمه كان اسمه
لاتان ، كان يعبد الأصنام ، فقالت راحيل لأبنها يوسف ، عليه السلام : خذ الصنم ففر به
من البيت ، لعله يترك عبادة الأوثان ، وكان من ذهب ، ففعل ذلك يوسف ، عليه السلام ،
فتلك سرقة يوسف التي قالوا ، فلما سمع يوسف مقالتهم ، ) فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم ( ، ولم يظهرها لهم ، ) قال ( في نفسه : ( أنتم شر مكانا ( ، ولم
يسمعهم ، قال : أنتم أسوأ صنعاً فيما صنعتم بيوسف ، ) والله أعلم بما تصفون ) [ آية :
77 ] ، يعنى بما تقولون من الكذب أن يوسف سرق .
فعندها قالوا : ما لقينا من ابني راحيل يوسف وأخيه ؟ فقال بنيامين : ما لقي ابنا راحيل
منكم ؟ أما يوسف ، فقد فعلتم به ما فعلتم ، وأما أنا فسرقتموني ، قالوا : فمن جعل الإناء
في متاعك ؟ قال : جعله في متاعي الذي جعل الدراهم في أمتعتكم ، فلما ذكر الدراهم
شتموه ، وقالوا : لا تذكر الدراهم ، مخافة أن يؤخذوا بها .
يوسف : ( 78 ) قالوا يا أيها . . . . .
) قالوا ( ، أي اخوة يوسف ليوسف : ( يا أيها العزيز ( ، وذلك أن أرض مصر
صارت إليه ، وهو خازن الملك ، ) أن له ( ، يعنى بنيامين ، ) أبا شيخا كبيرا ( ، حزيناً
على ابن مفقود ، ) فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين ) [ آية : 78 ] إلينا إن
فعلت بنا ذلك .
يوسف : ( 79 ) قال معاذ الله . . . . .
) قال ( يوسف : ( معاذ الله ( ، يقول : نعوذ بالله ) أن تأخذ ( ، يعنى أن نحبس
بالسرقة ) إِلا مَن وَجدنا متاعنا عِندهُ إِنا إِذا لظلمُونَ ) [ آية : 79 ] أن نأخذ البرئ
مكان السقيم .
يوسف : ( 80 ) فلما استيأسوا منه . . . . .
) فَلما استيئسوا مِنْهُ ( ، يقول : يئسوا من بنيامين ، ) خلصوا نجيا ( ، يعنى خلوا
يتناجون بينهم على حدة ، وقال بعضهم لبعض : ( قال كبيرهم ( ، يعنى عظيمهم في
أنفسهم وأعلمهم ، وهو يهوذاً ، ولم يكن أكبرهم في السن : ( أَلم تعلمُواْ أَن أَباكُم قد(2/159)
صفحة رقم 160
أخَذَ عَليكُم موثقاً مِنَ الله ( ، يعنى في أمر بنيامين لتأتينه به ، ) وَمِن قبلُ ( بنيامين ) مَا
فرطتُم في يُوسُف ( ، يعنى ضيعتم ، ) فَلن أَبرحَ الأرض ( ، يعنى أرض مصر ، ) حَتى
يَأَذنَ لي أَبي ( في الرجعة ، ) أَو يَحكُم اللهُ لي ( فيرد على بنيامين ، ) وَهُوَ خَيرُ
الحاكمينَ ) [ آية : 80 ] ، يعنى أفضل القاضين .
يوسف : ( 81 ) ارجعوا إلى أبيكم . . . . .
) ارجعوا إلى أَبيكم فقُولُوا يأبانا إِن ابنكَ سَرق ( ، يعنى بنيامين ، ) وَمَا شهدَنا
إِلا بِمَا عَلِمنَا ( ، يعنى رأينا الصواع حين أخرج من متاعه ، ) وَمَا كُنا للغيبِ
حافِظينَ ) [ آية : 81 ] ، يعنى وما كنا نرى أنه يسرق ، ولو علمنا ما ذهبنا به معنا .
تفسير سورة يوسف من الآية : [ 82 - 98 ] .
يوسف : ( 82 ) واسأل القرية التي . . . . .
) وَسئَل القريةَ ( ، يعنى مصر ، ) التي كُنَّا فِيها ( أنه سرق ، ) والعِير التي أقبلنا(2/160)
صفحة رقم 161
فيها وإنا لصدِقُونَ ) [ آية : 82 ] فيما نقول ، قال لهم يعقوب : كلما ذهبتم نقص منكم
واحد ، وكان يوسف ، عليه السلام ، حبس بنيامين ، وأقام شمعون ويهوذا ، فأتهمهم
يعقوب ، عليه السلام .
يوسف : ( 83 ) قال بل سولت . . . . .
ف ) قَال بَل سَولت لكُم ( ، يعنى ولكن زينت لكم ) أَنفسُكُم أمراً ( ، كان هو منكم
هذا ، ) فصبرٌ جَميل ( ، يعنى صبراً حسناً لا جزع فيه ، ) عَسى اللهُ أن يأتيني بِهم
جميعاً ( ، يعنى بنيه الأربعة ، ) إِنَّهُ هُوَ العَليمُ ) ) بخلقه ( ( الحَكيمُ ) [ آية : 83 ] ،
يعنى الحاكم فيهم ، ولم يخبر الله يعقوب بأمر يوسف ليختبر صبره .
يوسف : ( 84 ) وتولى عنهم وقال . . . . .
) وتولى عَنهُم ( ، يعنى وأعرض يعقوب عن بنيه ، ثم أقبل على نفسه ، ) وَقال
يأَسفي ( ، يعنى يا حزناه ) عَلَى يُوسُف وابيضت عَيناهُ ( ست سنين لم يبصر بهما ،
)( مِنَ الحُزنِ ) ) على يوسف ( ( فَهُوَ كَظِيمٌ ) [ آية : 84 ] ، يعنى مكروب يتردد
الحزن في قلبه .
يوسف : ( 85 ) قالوا تالله تفتأ . . . . .
) قَالواْ ( ، أي قال بنوه يعيرونه : ( تالله تفتؤاْ ( ، يعنى والله ما تزال ) تَذكرُ
يُوسف حَتى تَكُونَ حَرَصاً ( ، يعنى الدنف ، ) أَو تكُونَ مِنَ الهالِكينَ ) [ آية : 85 ] ، يعنى الميتين .
يوسف : ( 86 ) قال إنما أشكو . . . . .
) قال ( لهم أبوهم : ( إِنَّما أشكُوا بثي ( ، يعنى ما بثه في الناس ، ) وَحُزني ( ،
يعني ما بطن ، ) إِلى اللهِ وَأَعلمُ مِنَ الله ( ، يعنى من تحقيق رؤيا يوسف أنه كائن ،
)( مَا لا تعلمُونَ ) [ آية : 86 ] .
يوسف : ( 87 ) يا بني اذهبوا . . . . .
) يا بني اذهبوا فتحسسواْ من ( ، يعنى فابحثوا عن ) يُوسُفَ وَأَخيه ( بنيامين ، ) وَلاَ
تايئسُوا من رَوحِ الله ( ، يعنى من رحمة الله ، ) إِنهُ لا يأيئس من روح الله ( ، يعنى من
رحمة الله ، ) إِلا القومُ الكافرونَ ) [ آية : 87 ] ، وذلك أن يعقوب ، عليه السلام ، رأى
ملك الموت في المنام ، فقال له : هل قبضت روح يوسف ؟ قال : لا ، وبشره ، فلما أصبح ،
قال : ( يا بني اذهبُوا فتحسسُواْ مِن ( .
يوسف : ( 88 ) فلما دخلوا عليه . . . . .
) فَلما دَخلواْ عليه ( يوسف ، ) قالوا يَأَيُها العَزيز مَسنا وأهلنا الضُّرُ ( ، يعنى الشدة
والبلاء من الجوع ، ) وجئنا ببضاعةٍ مزجاة ( يعنى دراهم نفاية فجوزها عنا ،
)( فأوفِ ( ، يعنى فوفو ) لَنَا الكَيل ( بسعر الجياد ، ) وتصديق عَلينا ( ، يقول : تكون
هذه صدقة منك ، يعنون معروفاً أن تأخذ النفاية وتكيل لنا الطعام بسعر الجياد ، ) إن اللهَ(2/161)
صفحة رقم 162
يَجزى المُتصدقينَ ) [ آية : 88 ] لمن كان على ديننا إضمار ، ولو علموا أنه مسلم
لقالوا : إن الله يجزيك بصدقتك .
يوسف : ( 89 ) قال هل علمتم . . . . .
فلما سمع ما ذكروا من الضر ، ) قَالَ ) ) لهم ( ( هَل عَلمتُم مَّا فَعَلتُم بِيُوسُف وأخيه ( ،
يعنى بي وبأخي بنيامين ، ) إِذ أَنتم جاهِلونَ ) [ آية : 89 ] ، يعنى مذنبين .
يوسف : ( 90 ) قالوا أئنك لأنت . . . . .
) قَالوا أَءنكَ لأنتَ يُوسُفُ قال أنا يُوسُف وهذا أخي قد من الله علينا ( ، يقول :
قد أنعم الله علينا ، ) إِنَّهُ مَن يتقِ ( الزنا ، ) وَيصبِر ( على الأذى ، ) فإن الله لا
يُضيعُ أَجر المُحسِنينَ ) [ آية : 90 ] ، يعنى جزاء من أحسن حتى يوفيه جزاءه .
يوسف : ( 91 ) قالوا تالله لقد . . . . .
) قَالواْ تاللهِ ( ، يعنى والله ، ) لقد ءاثركَ اللهُ علينا ( ، يعنى اختارك ، كقوله في
طه : ( لَن نؤثِرَكَ ) [ طه : 72 ] ، يعنى لن نختارك علينا عند يعقوب ، وأعطاك وملكك
الملك ، ) وَ إِن كُنَّا لَخَاطِئين ) [ آية : 91 ] في أمرك ، فأقروا بخطيئتهم .
يوسف : ( 92 ) قال لا تثريب . . . . .
) قَالَ ( يوسف : ( لا تثريبَ عليكُمُ اليَوم ( ، يقول : لا تعيير عليكم ، لم يثرب
عليهم بفعلهم القبيح ، ) يغفرُ اللهُ لكُم ) ) ما فعلتم ( ( وَهُو أَرحم الراحمينَ (
[ آية : 92 ] من غيره .
يوسف : ( 93 ) اذهبوا بقميصي هذا . . . . .
) اذهبُواْ بِقميصي هذا فألقوهُ عَلى وجِهِ أَبِي يأتِ بَصيراً ( بعد البياض ، ) وَأَتُوني
بأهلكُم أَجمعينَ ) [ آية : 93 ] ، فلا يبقى منكم أحد .
يوسف : ( 94 ) ولما فصلت العير . . . . .
) وَلما فَصَلتِ العِير ( من مصر إلى كنعان ثمانين فرسخاً ، ) قالَ أبوهُم (
يعقوب لنبي بنيه : ( إِني لأجِد ريحَ يُوسفَ لَولا أَن تفتدُونِ ) [ آية : 94 ] ، يعنى لولا
أن تجهلون .
يوسف : ( 95 ) قالوا تالله إنك . . . . .
) قَالواْ ( بنو بنية : ( تالله ) ) والله ( ( إِنك لَفي ضَلالكِ القديم ) [ آية : 95 ] ،
مثل قوله : ( إِنَّا إذا لَّفي ضَلالٍ وسُعُرٍ ) [ القمر : 24 ] ، يقول : في شقاء وعناء ، يعني
في شقاء من حب يوسف وذكره ، فما تنساه وقد أتى عليه أربعون سنة .
يوسف : ( 96 ) فلما أن جاء . . . . .
) فَلما أَن جَاء البشيرُ ألقاهُ عَلى وجُهه ( ، فلما أتاه البشير ، وهو الذي ذهب
بالقميص الأول الذي كان عليه الدم ، وألقى القميص على وجه يعقوب ، ) فارتد ((2/162)
صفحة رقم 163
يعنى فرجع ) بصيرا ( بعد البياض ) قال ( يعقوب : يا بني ، ) ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ) [ آية : 96 ] ، وذلك أن يعقوب قال لهم : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) [ يوسف : 86 ] ، من تحقيق رؤيا
يوسف .
يوسف : ( 97 ) قالوا يا أبانا . . . . .
) قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ) [ آية : 97 ] في أمر يوسف .
يوسف : ( 98 ) قال سوف أستغفر . . . . .
) قال ( أبوهم : إني ) سوف أستغفر لكم ربي ( سحراً من الليل ) إنه هو الغفور ( للذنوب ، ) الرحيم ) [ آية : 98 ] بالمؤمنين .
تفسير سورة يوسف من الآية : [ 99 - 100 ] .
يوسف : ( 99 ) فلما دخلوا على . . . . .
) فلما دخلوا ( ، يعنى يعقوب وأهله أرض مصر ، ) عَلى يُوسفَ ءاوى ( ، يعنى ضم
) إليه أبويه وقال ( لهم : ( ادخلوا مصر إن شاء الله ءامنينَ ) [ آية : 99 ] من الخوف ،
فدخل منهم اثنان وسبعون إنساناً من ذكر وأنثى .
يوسف : ( 100 ) ورفع أبويه على . . . . .
) ورفع ( يوسف ) أبويه على العرش ( ، يعني على السرير ، وجعل أحدهما عن
يمينه والآخر عن يساره ، وكانت أمه راحيل قد ماتت وخالته تحت يعقوب ، عليه
السلام ، وهي التي رفعها على السرير ، ) وخروا له سجدا ( ، أبوه وخالته واخوته قبل
أن يرفعهما على السرير في التقديم . قال أبو صالح : هذه سجدة التحية ، لا سجدة
العبادة ، ) وقال ( يوسف : ( يا أبت هذا ( السجود ) تأويل ( ، يعنى تحقيق ) رُءياي
من قبلُ قد جعلها ربي حقاً ( ، يعنى صدقاً ، وكان بين رؤيا يوسف وبين تصديقها أربعون
سنة ، ) وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو ( ، كانوا أهل عمود
مواشي ، ) من بعد أن نزغ ( ، يعني أزاغ ) الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء ( ، حين أخرجه من السجن ومن البئر ، وجمع بينه وبين أهل بيته بعد التفريق ، فنزع(2/163)
صفحة رقم 164
من قلبه نزع الشيطان على اخوته بلطفه ، ) إنه هو العليم الحكيم ) [ آية : 100 ] .
مات يعقوب قبل يوسف بسنتين ، ودفن يعقوب والعيص بن إسحاق في قبر واحد ،
وخرجا من بطن واحد ، في ساعة واحدة ، فلما جمع الله ليوسف شمله ، فأقر بعينه ، وهو
مغموس في الملك والنعمة ، اشتاق إلى الله وإلى آياته ، فتمنى الموت .
تفسير سورة يوسف الآية : [ 101 - 104 ] .
يوسف : ( 101 ) رب قد آتيتني . . . . .
حدثنا عبيد الله ، قال : حدثني أبي ، قال : سمعت أبا صالح ، قال : قال مقاتل ، عن
الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : لم يتمن الموت نبي قط غير يوسف ، عليه السلام ، قال :
( رَبِّ قد ءاتيتني ( ، يعني قد أعطيتني ) من الملك ( على أهل مصر ثمانين سنة ،
)( وعلمتني من تأويل الأحاديث ( ، من هاهنا صلة ، يعني تعبير الرؤيا ، ) فاطر السماوات والأرض ( ، يعنى خالق السموات والأرض ، كن ) أَنت وَلي في الدُّنيا والأخرةِ توفني
مُسلماً ( ، يعنى مخلصاً بتوحيدك ، ) وألحقني بالصالحين ) [ آية : 101 ] ، يعنى أباه
يعقوب ، وإسحاق ، وإبراهيم .
يوسف : ( 102 ) ذلك من أنباء . . . . .
) ذلك ( الخير ) من أنباء ( ، يعنى من أحاديث ) الغيب ( ، غاب يا محمد أمر
يوسف ويعقوب وبنيه عنك حتى أعلمناك ، ) نوحيه إليك ( ، لم تشهده ولم تعلمه ،
)( وما كنت لديهم ( ، يعنى عند إخوة يوسف ، ) إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) [ آية : 102 ] بيوسف ، عليه السلام .
يوسف : ( 103 ) وما أكثر الناس . . . . .
) وما أكثر الناس ( ، يعنى كفار مكة ، ) ولو حرصت بمؤمنين ) [ آية :
103 ] ، يعنى بمصدقين ، فيها تقديم .
يوسف : ( 104 ) وما تسألهم عليه . . . . .
) وَما تسئلهُم عَليه من أَجرٍ ( ، يعنى على الإيمان من جُعل ، ) ان هو ( ، يعنى
القرآن ، ) إلا ذكر للعالمين ) [ آية : 104 ] .
تفسير سورة يوسف من الآية : [ 105 - 108 ] .(2/164)
صفحة رقم 165
يوسف : ( 105 ) وكأين من آية . . . . .
) وكأين ( ، يعنى وكم ، ) مِن ءايةٍ في السموات ( الشمس ، والقمر ، والنجوم ،
والسحاب ، والرياح ، والمطر ، ) والأرض ( الجبال ، والبحور ، والشجر ، والنبات عاماً
بعد عام ، ) يمرون عليها ( ، يعنى يرونها ، ) وهم عنها معرضون ) [ آية : 105 ] ، أفلا
يتفكرون فيما يرون من صنع الله فيوحدونه .
يوسف : ( 106 ) وما يؤمن أكثرهم . . . . .
) وما يؤمن أكثرهم ( ، أي أكثر أهل مكة ، ) بالله إلا وهم مشركون ) [ آية :
106 ] في إيمانهم ، فإذا سئلوا : من خلقهم وخلق الأشياء كلها ؟ قالوا : الله ، وهم في ذلك
يعبدون الأصنام .
يوسف : ( 107 ) أفأمنوا أن تأتيهم . . . . .
فخوفهم ، فقال : ( أفأمنوا أن تأتيهم غاشية ( ، يعنى أن تغشاهم عقوبة ، ) من عذاب الله ( في الدنيا ، ) أو تأتيهم الساعة بغتة ( ، يعنى فجأة ، ) وهم لا يشعرون ) [ آية : 107 ] يأتيانها ، هذا وعيد .
يوسف : ( 108 ) قل هذه سبيلي . . . . .
) قل هذه ( ملة الإسلام ، ) سبيلي ( ، يعنى سنتي ، ) أَدعوا إِلى الله ( ، يعنى إلى
معرفة الله ، وهو التوحيد ، ) على بصيرة ( ، يعنى على بيان ، ) أنا ومن اتبعني ( على
ديني ، ) وسبحان الله ( ، نزه الرب نفسه عن شركهم ، ) وما أنا من المشركين ) [ آية :
108 ]
تفسير سورة يوسف من الآية : [ 109 - 110 ] .
يوسف : ( 109 ) وما أرسلنا من . . . . .
) وَمَا أَرسلنا مِن قبلك إِلا رِجالاً نُّوحي إليهم من أَهلي القُرى ( ؛ لأن أهل الريف
أعقل وأعلم من أهل العمود ، وذلك حين قال كفار مكة بألا بعث الله ملكاً رسولاً ،
)( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ( ، يعنى من قبل
أهل مكة ، كان عاقبتهم الهلاك في الدنيا ، يعنى قوم عاد ، وثمود ، والأمم الخالية ، ) ولدار الآخرة خير ( ، يعنى أفضل من الدنيا ) للذين اتقوا ( الشرك ، ) أفلا تعقلون ( َ(2/165)
صفحة رقم 166
[ آية : 109 ] أن الآخرة أفضل من الدنيا .
يوسف : ( 110 ) حتى إذا استيأس . . . . .
) حَتى إِذا استيئس الرُّسُلُ ( من إيمان قومهم ، أو عدتهم رسلهم العذاب في الدنيا بأنه
نازل بهم ، ) وَظنواْ أنهُم كُذِبُواْ ( حسب قوم الرسل قد كذبوهم العذاب في
الدنيا بأنه نازل بهم ، يقول : ( جاءهم ( ، يعني الرسل ، ) نصرنا فنجي من نشاء ( من
المؤمنين من العذاب مع رسلهم ، فهذه مشيئته ، ) ولا يرد بأسنا ( ، يقول : لا يقدر أحد
أن يرد عذابنا ، ) عن القوم المجرمين ) [ آية : 110 ] .
تفسير سورة يوسف من الآية : [ 111 ] .
يوسف : ( 111 ) لقد كان في . . . . .
) لقد كان في قصصهم ( ، يعنى في خبرهم ، يعنى نصر الرسل ، وهلاك قومهم حين
خبر الله عنهم في كتابه في طسم الشعراء ، وفي اقتربت الساعة ، وفي سورة هود ، وفي
الأعراف ، ماذا لقوا من الهلاك ، ) عبرة لأولي الألباب ( ، يعنى لأهل اللب والعقل ، ) ما كان ( هذا القرآن ) حديثا يفترى ( ، يعنى يتقول لقول كفار مكة : إن محمداً تقوله
من تلقاء نفسه ، ) ولكن تصديق ( الكتاب ) الذين بينَ يدَيهِ ( ، يقول : يصدق
القرآن الذي أنزل على محمد الكتب التي قبله كلها أنها من الله ، ) وتفصيل ( ، يقول :
فيه بيان ) كُل شَيء وَ ( هو ) وهدى ( من الضلالة ، ) ورحمة ( من العذاب ،
)( لقوم يؤمنون ) [ آية : 111 ] ، يعنى يصدقون بالقرآن أنه من الله عز وجل .(2/166)
صفحة رقم 167
( سورة الرعد )
1 ( مكية ، ويقال : مدنية ، وهي ثلاث وأربعون آية كوفية )
( بسم الله الرحمن الرحيم )
تفسير سورة الرعد [ الآية 1 ]
الرعد : ( 1 ) المر تلك آيات . . . . .
) المر تلك ءايت الكتب والذي أنزل إليك من ربك الحق ( ، لقول كفار مكة : إن
محمداً تقول القرآن من تلقاء نفسه ، ) ولكن أكثر الناس ( ، يعنى أكثر كفار ، ) لا يؤمنون ) [ آية : 1 ] بالقرآن أنه من الله .
تفسير سورة الرعد من آية : [ 2 - 4 ] .
الرعد : ( 2 ) الله الذي رفع . . . . .
) الله الذي رفع السموت بغير عمدٍ ترونها ( ، فيها تقديم ، ) ثم استوى على العرش ( قبل
خلقهما ، ) وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ( ، يعنى إلى يوم القامة ،
)( يدبر الأمر ( ، يقضى القضاء ، ) يفصل الأيت ( ، يعنى يبين صنعه الذي ذكره في
هذه الآية ، ) لعلكم بلقاء ربكم توقنون ) [ آية : 2 ] بالبعث إذا رأيتم صنعه في الدنيا ،
فتعتبروا في البعث .
الرعد : ( 3 ) وهو الذي مد . . . . .
) وهو الذي مد الأرض ( ، يعنى بسط الأرض من تحت الكعبة ، فبسطها بعد الكعبة
بقدر ألفى سنة ، فجعل طولها مسيرة خمسمائة عام ، وعشرها مسيرة خمسمائة عام ،
)( وجعل فيها رواسي ( ، يعنى الجبال أثبت بهن الأرض ؛ لئلا تزول بمن عليها ، ) وأنهرا(2/167)
صفحة رقم 168
ومن كل الثمرت جعل فيها ) ) من كل ( ( زوجين اثنين يغشى اليل النهار ( ، يعنى ظلمة الليل
وضوء النهار ، ) إن فى ذلك لأيت ( ، يعنى فيما ذكر من صنعه عبرة ، ) لقوم
يتفكرون ) [ آية : 3 ] في صنع فيوحدونه .
الرعد : ( 4 ) وفي الأرض قطع . . . . .
) وفى الأرض قطع ( ، يعنى بالقطع الأرض السبخة ، والأرض العذبة ،
)( متجورت ( ، يعنى قريب بعضها من بعض ، ) وجنت من أعنب ( ، يعنى الكرم ،
)( وزرع ونخيل صنوان ( ، يعنى النخيل التي رءوسها متفرقة وأصلها في الأرض واحد ،
)( وغير صنوان ( ، وهي النخلة أصلها وفرعها واحد ، ) يسقى ( هذا كله ) بماء وحد
ونفصل بعضها على بعض فى الأكل ( ، يعنى في الحمل ، فبعضها أكبر حملاً من بعض ،
)( إن فى ذلك لأيت ( ، يعنى ما ذكر من صنعه لعبرة ، ) لقوم يعقلون ) [ آية : 4 ]
فيوحدون ربهم .
تفسير سورة الرعد من آية : [ 5 - 7 ] .
الرعد : ( 5 ) وإن تعجب فعجب . . . . .
) وإن تعجب ( يا محمد بما أوحينا إليك من القرآن ، كقوله في الصافات : ( بل عجبت ويسخرون ) [ الصافات : 12 ] ، ثم قال : ( فعجب قولهم ( ، يعنى كفار مكة ،
يقول : لقولهم عجب ، فعجبه من قولهم ، يعنى ومن تكذيبهم بالبعث حين قالوا :
( أءذا كنا ترباً أءنا لفى خلق جديدٍ ( ، تكذيباً بالبعث ، ثم نعتهم ، فقال : ( أولئك
الذين كفرو بربهم وأولئك الأغلل فى أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (
[ آية : 5 ] لا يموتون .
الرعد : ( 6 ) ويستعجلونك بالسيئة قبل . . . . .
) ويستعجلونك ( ، وذلك أن النصر بن الحارث قال : ( اللهم إن كان هذا هو
الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) [ الأنفال :
32 ] ، فقال الله عز وجل : ( ويستعجلونك ( ، يعنى النضر بن الحارث ، ) بالسيئة قبل
الحسنة ( ، يعنى بالعذاب قبل العافية ، كقول صالح لقومه : ( لم تستعجلون(2/168)
صفحة رقم 169
بالسيئة ( ، يعنى بالعذاب ) قبل الحسنة ) [ النمل : 46 ] ، يعنى العافية ، ) وقد خلت
من قبلهم ( ، يعنى أهل مكة ، ) المثلت ( ، يعنى العقوبات في كفار الأمم الخالية ،
فسينزل بهم ما نزل بأوائلهم .
ثم قال : ( وإن ربك لذو مغفرة ( ، يعنى ذو تجاوز ، ) للناس على ظلمهم ( ، يعنى
على شركهم بالله في تأخير العذاب عنهم إلى وقت ، يعنى الكفار ، فإذا جاء الوقت
عذبناهم بالنار ، فذلك قوله : ( وإن ربك لشديد العقاب ) [ آية : 6 ] إذا عذب وجاء
الوقت ، نظيرها في حم السجدة .
الرعد : ( 7 ) ويقول الذين كفروا . . . . .
) ويقول الذين كفروا ( بتوحيد الله : ( لولا ( ، يعني هلا ) أنزل عليه ) ) على محمد ( ( ءايَةٌ مِن رَبِهِ ( محمد ، يقول الله : ( إنما أنت منذر ( يا محمد هذه الأمة ،
وليست الآية بيدك ، ) ولكل قومٍ هادٍ ) [ آية : 7 ] ، يعنى لكل قوم فيها خلا داع مثلك
يدعو إلى دين الله ، يعنى الأنبياء .
تفسير سورة الرعد من آية : [ 8 - 11 ] .
الرعد : ( 8 ) الله يعلم ما . . . . .
) الله يعلم ما تحمل كل أنثى ( من ذكر وأنثى ، كقوله في لقمان : ( ويعلم ما في
الأرحام ) [ لقمان : 34 ] سوياً أو غير سوى ، ذكراً أو أنثى ، ثم قال : ( وما تغيض ( ،
يعنى وما تنقص ) الأرحام ( ، كقوله : ( وغيض الماء ) [ هود : 44 ] ، يعنى ونقص
الماء ، يعنى وما تنقص الأرحام من الأشهر التسعة ، ) وما تزداد وكل شىءٍ ( من تمام الولد والزيادة في بطن أمه ، ) عنده بمقدارٍ ) [ آية : 8 ] ، يعنى قدر خروج الولد من
بطن أمه ، وقدر مكنه في بطنها إلى خروجه ، فإنه يعلم ذلك كله .
الرعد : ( 9 ) عالم الغيب والشهادة . . . . .
ثم قال : ( علم الغيب ( ، يعنى غيب الولد في بطن أمه ، ويعلم غيب كل شيء ،
)( والشهدة ( ، يعنى شاهد الولد وغيره ، يقول الله : إذا علمت هذا ، فأنا ) الكبير
المتعال ) [ آية : 9 ] ، يعنى العظيم ، لا أعظم منه ، الرفيع فوق خلقه .
الرعد : ( 10 ) سواء منكم من . . . . .
) سواءٌ منكم ) ) عند الله ( ( من أسر القول ومن جهر به ( ، يعنى بالقول ، ) ومن(2/169)
صفحة رقم 170
هو مستخف باليل وسارب بالنهار ) [ آية : 10 ] ، يقول : من هو مستخف بالمعصية في
ظلمة الليل ، ومنتشر بتلك المعصية بالنهار معلن بها ، فعلم ذلك كله عند الله تعالى سواء .
الرعد : ( 11 ) له معقبات من . . . . .
ثم قال لهذا الإنسان المستخفى بالليل ، السارب بالنهار مع علمى بعمله ) له
معقبت ) ) من الملائكة ( ( من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ( ، يعنى بأمر
الله من الإنس والجن مما يقدر أن يصيبه حتى تسلمه المقادير ، فإذا أراد الله أن يغير ما به
لم تغن عنه المعقبات شيئاً ، ثم قال : ( إن الله لا يغير ما بقوم ( من النعمة ، ) حتى
يغيروا ما بأنفسهم ( ، يعني كفار مكة ، نظيرها من الأنفال : ( ذلك بأن الله . . . (
[ الأنفال : 53 ] إلى آخر الآية .
والنعمة أنه بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ، وأطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ،
فغيروا هذه النعمة ، فغير الله ما بهم ، فذلك قوله : ( وإذا أراد الله بقوم سوءاً ( ، يعنى
بالسوء العذاب ، ) فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ ) [ آية : 11 ] ، يعنى ولى يرد
عنهم العذاب .
تفسير سورة الرعد من آية : [ 12 - 14 ] .
الرعد : ( 12 ) هو الذي يريكم . . . . .
) هو الذى يريكم البرق خوفاً ( ، للمسافر من الصواعق ، ) وطمعاً (
للمزارع المقيم في رحمته ، يعنى المطر ، ) وينشئ ( ، يعنى ويخلق ، مثل قوله : ( وله
الجوار المنشآت ) [ الرحمن : 24 ] ، يعنى المخلوقات ، ) السحاب الثقال ) [ آية :
12 ] من الماء .
الرعد : ( 13 ) ويسبح الرعد بحمده . . . . .
) ويسبح الرعد بحمده ( ، يقول : ويذكر الرعد بأمره يحمده ، والرعد ملك من
الملائكة اسمه الرعد ، وهو موكل بالسحاب ، صوته تسبيحه ، يزجر السحاب ويؤلف(2/170)
صفحة رقم 171
بعضه إلى بعض ، ويسوقه بتسبيحه إلى الأرض التى أمر الله تعالى أن تمطر فيها ، ثم قال :
( و ( تسبح ) والملئكة ( بزجرته ) من خيفته ( ، يعنى من مخافة الله تعالى ، فميز
بين الملائكة وبين الرعد ، وهما سواء كما ميز بين جبريل وميكائيل في البقرة ، وكما
ميز بين الفاكهة ، وبين النخل والرمان وهما سواء .
ثم قال : ( ويرسل الصوعق ( ، هذا أنزل في أمر عامر ، والأربد بن قيس ، حين أراد
قتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وذلك أن عامر بن الطفيل العامرى دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال :
أسلم على أن لك المدر ولى الوبر ؟ فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' إنما أنت امرؤ من المسلمين ، لك
ما لهم ، وعليك ما عليهم ' ، قال : فلك الوبر ولى المدر ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مثل ذلك ، قال :
فلى الأمرين من بعدك ، قال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مثل قوله الأول : ' لك ما لهم ، وعليك ما
عليهم ' ، فغضب عامر ، فقال : لأملانها عليك خيلاً ، ورجالاً ، ألف أشقر ، عليها ألف
أمرد .
ثم خرج مغضباً ، فلقى ابن عمه أربد بن قيس العامرى ، فقال عامر لأربد : ادخل بنا
على محمد ، فألهيه في الكلام ، وأنا أقتله ، وإن شئت ألهيته بالكلام وقتلته أنت ، قال أربد :
ألهه أنت وأنا أقتله ، فدخلا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأقبل عامر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحدثه وهو ينظر إلى
أربد متى يحمل عليه فيقتله ، ثم طال مجلسه ، فقام عامر وأربد فخرجا ، فقال عامر لأربد :
ما منعك من قتله ؟ قال : كلما أرادت قتله وجدتك تحول بيني وبينه ، وأتى جبريل النبي
( صلى الله عليه وسلم ) ، فأخبره بما أرادا ، فدعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عليهما ، فقال : ' الهم اكفني عامراً وأربدا ، واهد
بني عامر ' ، فأما أربد ، فأصابته صاعقة فمات ، فذلك قوله تعالى : ( ويرسل الصواعق (
) فيصيب بها من يشآء ( ، يعني أربد بن قيس ، ) وهم يجدلون في الله ( ، يعني
يخاصمون في الله .
وذلك أن عامراً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أخبرني عن ربك ، أهو من ذهب ، أو من فضة ، أو من
نحاس ، أو من حديد ، أو ما هو ؟ فهذا القول خصومته ، فأنزل الله تعالى : ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) [ سورة الإخلاص ] ، يقول :
ليس هو من نحاس ولا من غيره ، وسلط الله عليه الطاعون في بيت امرأة من بني سلول ،
فجعل يقول : عامر قتيل بغير سلاح ، غدة كغدة البعير ، وموت في بيت سلولية ، أبرز يا
ملك الموت حتى أقاتلك : فذلك قوله : ( وهو شديد المحال ) [ آية : 13 ] ، يعنى الرب(2/171)
صفحة رقم 172
تعالى نفسه ، يعني شديد الأخذ إذا أخذ ، نزلت في عامر بن الطفيل ، وأربد بن قيس .
الرعد : ( 14 ) له دعوة الحق . . . . .
) له دعوة الحق ( ، يعني كلمة الإخلاص ، ) والذين يدعون من دونه ( ، يعني والذين
يعبدون من دون الله من الآلهة ، وهي الأصنام ، ) لا يستجيبون لهم بشىء إلا كباسط كفيه إلى
المآء ( ، يقول : لا تجيب الآلهة من يعبدها ولا تنفعهم ، كما لا ينفع العطشان الماء يبسط
يده إلى الماء وهو على شفير بئر ، يدعوه أن يرتفع إلى فيه ، ) ليبلغ فاه وما هو ببلغه ( ،
حتى يموت من العطش ، فكذلك لا تجيب الأصنام ، ثم قال : فادعوا ، يعنى فادعوا
الأصنام ، ) وما دعاء الكفرين ( ، يعنى وما عبادة الكافرين ، ) إلا في ضلل ) [ آية : 14 ] ،
يعنى خسران وباطل .
تفسير سورة الرعد من آية : [ 15 - 16 ] .
الرعد : ( 15 ) ولله يسجد من . . . . .
ولله يسجد من في السماوات ، يعني الملائكة ، ) والأرض طوعا ( ، يعني المؤمنين ، ثم
قال : ( وكرهاً وظلالهم ( ، يعنى ظل الكافر كرهاً يسجد لله ، وهو ) بالغدو ( حين تطلع
الشمس ، ) والآصال ) [ آية : 15 ] ، يعني بالعشى إذا زالت الشمس يسجد ظل الكافر
لله ، وإن كرهوا .
الرعد : ( 16 ) قل من رب . . . . .
) قل ( يا محمد لكفار مكة : ( من رب السموت والأرض قل الله ( ، في قراءة أبي بن
كعب ، وابن مسعود : قالوا الله ، ) قل أفاتخذتم من دونه ( الله ) أولياء ( تعبدونهم ، يعنى
الأصنام ، ) لا يملكون لأنفسهم ( ، يعني الأصنام لا يقدرون لأنفسهم ) نفعاً ولا ضراً قل هو
يستوى الأعمى ( عن الهدى ، ) والبصير ( بالهدى ، يعنى الكافر والمؤمن ، ) أم هل تستوى
الظلمت ( ، يعني الشرك ، ) والنور ( ، يعني الإيمان ، ولا يستوي من كان في ظلمة كمن
كان في النور ، ثم قال يعنيهم : ( أم جعلوا ( ، يعني وصفوا ) لله شركاء ( من الآلهة ،
)( خلقوا كخلقه ( ، يقول : خلقوا كما خلق الله ، ) فتشبه الخلق عليهم ( ، يقول : فتشابه ما
خلقت الآلهة والأصنام وما خلق الله عليهم ، فإنهم لا يقدرون أن يخلقوا ، فكيف يعبدون
ما لا يخلق شيئاً ، ولا يملك ، ولا يفعل كفعل الله عز وجل ، ) ق ل ( لهم يا محمد : ( الله
خلق كل شىءٍ وهو الواحد ( ، لا شريك له ، ) القهر ) [ آية : 16 ] والآلهة مقهورة وذليلة .(2/172)
صفحة رقم 173
تفسير سورة الرعد من آية : [ 17 - 18 ] .
الرعد : ( 17 ) أنزل من السماء . . . . .
ثم ضرب الله تعالى مثل الكفر والإيمان ، ومثل الحق والباطل ، فقال : ( أنزل من السمآء
مآءً فسالت أوديةُ بقدرها ( ، وهذا مثل القرآن الذي علمه المؤمنون ، وتركه الكفار ، فسال
الوادي الكبير على قدر كبره ، منهم من حمل منهم كبيراً ، والوادي الصغير على قدره ،
)( فاحتمل السيل ( ، يعني سيل الماء ، ) زبداً رابياً ( ، يعني عالياً ، ) ومما يوقدون عليه في
النار ( أيضاً ، ) ابتغآء حليةٍ ( ، يعني الذهب ، والفضة .
ثم قال : ( أو متع ( ، يعني المشبه ، والصفر ، والحديد ، والرصاص ، له أيضاً ) زبدُ
مثله ( ، فالسيل زبد لا ينتفع به ، و الحلى والمتاع له أيضاً زبد ، إذا أدخل النار أخرج
خبثه ، ولا ينتفع به ، والذهب والفضة والمتاع ينتفع به ، ومثل الماء مثل القرآن ، وهو الحق ،
ومثل الأودية مثل القلوب ، ومثل السيل مثل الأهواء ، فمثل الماء والحلى والمتاع الذي
ينتفع به مثل الحق الذي في القرآن ، ومثل زبد الماء ، وحيث المتاع الذي لا ينتفع به مثل
الباطل ، فكما ينتفع بالماء ، وما خلص من الحلى ، والمتاع الذي ينتفع به أهله في الدنيا ،
فكذلك الحق ينتفع به أهله في الآخرة ، وكما لا ينتفع بالزبد وخبيث الحلى والمتاع أهله
في الدنيا ، فكذلك الباطل لا ينتفع أهله في الآخرة ، ) كذلك يضرب الله الحق والبطل فأما
الزبد فيذهب جفآءً ( ، يعني يابساً لا ينتفع به الناس كما ينتفع بالسيل ، ) وأما ما ينفع
الناس فيمكث في الأرض ( ، فيستقون ويزرعون عليه وينتفعون به ، يقول : ( كذلك يضرب
الله الأمثال ) [ آية : 17 ] ، يعني الأشباه ، فهذه الثلاثة الأمثال ضربها الله في مثل واحد .
الرعد : ( 18 ) للذين استجابوا لربهم . . . . .
) للذين استجابوا لربهم الحسنى ( ، لهم في الآخرة ، وهي الجنة ، ) والذين لم
يستجيبوا له ( بالإيمان وهم الكفار ، ) لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ( ،
فقدروا على أن يفتدوا به أنفسهم من العذاب ، ) لافتدوا به أولئك لهم سوء
الحساب ( ، يعني شدة الحساب حين لا يتجاوز عن شئ من ذنوبهم ، ) ومأواهم ((2/173)
صفحة رقم 174
يعني مصيرهم ) جهنم وبئس المهاد ) [ آية : 18 ] ، يعني بئس ما مهدوا لأنفسهم .
تفسير سورة الرعد من آية : [ 20 - 24 ] .
الرعد : ( 19 ) أفمن يعلم أنما . . . . .
ثم ضرب مثلاً آخر ، فقال : ( أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق ( ، يعني القرآن
نزل في عمار بن ياسر ، ) كمن هو أعمى ( عن القرآن لا يؤمن بما أنزل من القرآن ، فهو
أبو حذيفة بن المغيرة المخزومي لا يستويان هذان ، وليسا بسواء ، ثم قال : ( إنما يتذكر (
في هذا الأمر ) أولوا الألبب ) [ آية : 19 ] ، يعني عمار بن ياسر يعني أهل اللب
والعقل ، نظيرها في الزمر : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) [ لزمر :
9 ] ، نزلت في عمار ، وأبي حذيفة بن المغيرة الاثنين جميعاً .
الرعد : ( 20 ) الذين يوفون بعهد . . . . .
ثم نعت الله أهل اللب ، فقال : ( الذين يوفون بعهد الله ( في التوحيد ، ) ولا ينقضون
الميثق ) [ آية : 20 ] الذي أخذ الله عليهم على عهد آدم ، عليه السلام ، ويقال : هم
مؤمنوا أهل الكتاب .
الرعد : ( 21 ) والذين يصلون ما . . . . .
) والذين يصلون ما أمر الله أن يوصل ( ، من إيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والنبيين والكتب
كلها ، ) ويخشون ربهم ( في ترك الصلة ، ) ويخافون سوء الحساب ) [ آية : 21 ] ، يعني
شدة الحساب حين لا يتجاوز عن شئ من ذنوبهم .
الرعد : ( 22 ) والذين صبروا ابتغاء . . . . .
) والذين صبروا ( على ما أمر الله ، نزلت في المهاجرين والأنصار ، ) ابتغاء وجه ربهم
وأقاموا الصلوة وأتفقوا مما رزقنهم ( من الأموال ، ) سراً وعلانيةً ويدرءون ( ، يعني
ويدفعون ، ) بالحسنة السيئة ( إذا أذاهم كفار مكة ، فيردون عليهم معروفاً ، ) أولئك لهم
عقبى الدار ) [ آية : 22 ] ، يعنى عاقبة الدار .
الرعد : ( 23 ) جنات عدن يدخلونها . . . . .
فقال : ( جنت عدن يدخلونها ومن صلح ( ، يعني ومن آمن بالتوحيد بعد هؤلاء ، ) من
ءابآئهم وأزواجهم وذريتهم ( يدخلون عليهم أيضاً ، معهم جنات عدن ، نظيرها في حم
المؤمن ، ثم قال : ( والملئكة يدخلون عليهم من كل باب ) [ آية : 23 ] على مقدار أيام الدنيا(2/174)
صفحة رقم 175
ثلاث عشرة مرة ، معهم التحف من الله تعالى ، من جنة عدن ما ليس في جناتهم ، من
كل باب .
الرعد : ( 24 ) سلام عليكم بما . . . . .
فقالوا لهم : ( سلم عليكم بما صبرتم ( في الدنيا على أمر الله ، ) فنعم عقبى الدار (
[ آية : 24 ] ، يثنى الله على الجنة عقبى الدار ، عاقبة حسناهم دار الجنة .
تفسير سورة الرعد من آية : [ 25 - 29 ] .
الرعد : ( 25 ) والذين ينقضون عهد . . . . .
ثم قال : ( والذين ينقضون عهد الله ( ، يعني كفار أهل الكتاب ، ) من بعد ميثقه ( ،
يعنى من بعد إقرارهم بالتوحيد يوم آدم ، عليه السلام ، ) ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ( ، من الإيمان بالنبيين ، وبالتوحيد ، وبالكتاب ، ) ويفسدون في الأرض ( هؤلاء ،
يعنى يعلمون فيها المعاص ، ) أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) [ آية : 25 ] ، يعنى شر
الدار جهنم .
الرعد : ( 26 ) الله يبسط الرزق . . . . .
) الله يبسط الرزق لمن يشاء ( ، يعني يوسع الرزق على من يشاء ، ) ويقدر ( ، يعنى
ويقتر على من يشاء ، ) وفرحوا ( ، يعني ورضوا ، ) بالحيوة الدنيا وما الحيوة الدنيا في الآخرة
إلا متع ) [ آية : 26 ] ، يعنى إلا قليل .
الرعد : ( 27 ) ويقول الذين كفروا . . . . .
) ويقول الذين كفروا ( من أهل مكة ، وهم القادة ، ) لولا أنزل ( ، يعني هلا أنزل ،
)( عليه ( ، يعنى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ) ءاية من ربه قل إن الله يضل من يشآء ( عن الهدى ،
)( ويهدى إليه ( إلى دينه ) من أناب ) [ آية : 27 ] ، يعني من راجع التوبة .
الرعد : ( 28 ) الذين آمنوا وتطمئن . . . . .
ثم نعتهم ، فقال : ( الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ( ، يقول : وتسكن قلوبهم
بالقرآن ، يعنى بما في القرآن من الثواب والعقاب ، يقول الله تعالى : ( ألا بذكر الله
تطمئن القلوب ) [ آية : 28 ] ، يقول : ألا بالقرآن تسكن القلوب .
الرعد : ( 29 ) الذين آمنوا وعملوا . . . . .
ثم أخبر بثوابهم ، فقال : ( الذين ءامنوا وعملوا الصلحت طوبى لهم ( ، يعنى(2/175)
صفحة رقم 176
حسنى لهم ، وهى بلغة العرب ، ) وحسن مئاب ) [ آية : 29 ] ، يعني وحسن مرجع ،
وطوبى شجرة في الجنة ، لو أن رجلاً ركب فرساً أو نجيبةً ، وطاف على ساقها ، لم يبلغ
المكان الذي ركب منه حتى يقتله الهرم ، ولو أن طائراً طار من ساقها ، لم يبلغ فرغها
حتى يقتله الهرم ، كل ورقة منها تظل أمة من الأمم ، على كل ورقة منها ملك يذكر الله
تعالى ، ولو أن ورقة منها وضعت في الأرض لأضاءت الأرض نوراً كما تضئ الشمس ،
تحمل هذه الشجرة لهم ما يشاءون من ألوان الحلى والثمار ، غير الشراب .
تفسير سورة الرعد من آية : [ 30 ]
الرعد : ( 30 ) كذلك أرسلناك في . . . . .
) كذلك ( ، يعنى هكذا ) أرسلناك في أمةٍ قد خلت من قبلها أمم ( ، يعني قد مضت
قبل أهل مكة ، يعني الأمم الخالية ، ) لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك ) ، يعني لتقرأ
عليهم القرآن ، ) وهم يكفرون بالرحمن ( ، نزلت يوم الحديبة ، حين صالح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أهل
مكة ، فكتبوا بينهم كتاباً ، وولى الكتاب على بن أبي طالب ، فكتب : بسم الله الرحمن
الرحيم ، فقال سهيل بن عمرو القرشي ، ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة ، ولكن اكتب :
باسمك اللهم ، فأمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكتب : باسمك اللهم ، ثم قال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أهل مكة ' ، فقالوا : ما نعرف أنك رسول الله ،
لقد ظلمناك إذا إن كنت رسول الله ، ثم نمنعك عن دخول المسجد الحرام ، ولكن اكتب :
هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله .
فغضب أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : دعنا نقاتلهم ، فقال : ' لا ' ثم قال
لعلي : ' اكتب الذي يريدون ، أما أن لك يوماً مثله ' ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ' أما محمد بن عبد الله ، وأشهد أنى رسول الله ' ، فكتب : هذا صالح محمد بن عبد الله أهل مكة ، على أن
ينضرف محمد من عامه هذا ، فإذا كان القابل دخل مكة ، فقضى عمرته وخلى أهل مكة
بينه وبين مكة ثلاث ليال ، فأنزل الله تعالى في قول سهيل وصاحبيه مكرز بن حفص بن
الأحنف ، وحويطب بن عبد العزى ، كلهم من قريش حين قالوا : ما نعرف الرحمن ، إلا
مسيلمة ، فقال تعالى ) وهم يكفرون بالرحمن ( .
) قل هو ربي ( يا محمد قول : الرحمن الذي يكفرون به هو ربي ، ) لا إله إلا هو
عليه توكلت ( ، يقول : به أثق ، ) وإليه متاب ) [ آية : 30 ] ، يعني التوبة ، نظيرها في(2/176)