بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة تيسير التفسير
تفسير سورة ق
تفسير مختار من : تفسير ابن كثير - وتفسير ابن جرير - وتفسير السعدي - وتفسير الشنقيطي
وغيرها من كتب التفسير الموثوقة .
مع ذكر فوائد تربوية وعلمية للآيات
بقلم
الشيخ/ سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية / رفحاء
الموقع على الانترنت
www.almotaqeen.net
مقدمة
" هذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح وقيل من الحجرات ، وأما ما يقوله العوام إنه من (عم) فلا أصل له ولم يقله أحد من العلماء رضي الله عنهم المعتبرين فيما نعلم . [ قاله ابن كثير ] .
" هذه السورة تعالج قضايا العقيدة كالبعث ، والرسالة وغيرها .
" سورة ق سورة مكية .
" ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين أنه كان يقرأ بها كل جمعة .
عن أم هشام بنت حارثة قالت ( ما أخذتُ ( ق ، والقرآن المجيد ) إلا على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس ) رواه مسلم .
( قَ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوَاْ أَن جَآءَهُمْ مّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هََذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذّبُواْ بِالْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيَ أَمْرٍ مّرِيجٍ ) .
---------------------------------
( قَ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) ق حرف من حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور كقوله تعالى (ص ، ن ، ألم ، حم ) ونحو ذلك .
" وقد اختلف العلماء في هذه الحروف اختلافاً كثيراً في معناها على أقوال كثيرة :
فقيل : لها معنى ، واختلف في معناها : فبعض العلماء : قال هي أسماء للسور ، وبعضهم قال : هي أسماء لله ، وبعضهم قال غير ذلك .(1/1)
وقيل : هي حروف هجائية ليس لها معنى ، ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين وقال : وحجة هذا القول : أن القرآن نزل بلغة العرب ، وهذه الحروف ليس لها معنى في اللغة العربية .
وأما الحكمة منها : فأرجح الأقوال أنها إشارة إلى إعجاز القرآن العظيم ، ورجح هذا القول ابن كثير في تفسيره فقال :وقال آخرون إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وإليه ذهب الشيخ أبو العباس بن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية . [ تفسير ابن كثير : 1 / 51 ] .
وقد رجح هذا الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان حيث قال بعد أن ذكر الخلاف : أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو : أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله .... ثم قال رحمه الله : ووجه استقراء القرآن لهذا القول : أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائماً عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وأنه حق ، قال تعالى في البقرة ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه )، وقال في آل عمران ( الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق )، وقال في الأعراف ( المص كتاب أنزل إليك ) ، وقال في يونس (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) ، وقال في هود ( الر كتاب أحكمت آياته .. ) ، وقال في يوسف ( الر تلك آيات الكتاب المبين . إنا أنزلناه قرآناً عربياً ) .
ثم ذكر رحمه الله بقية السور .(1/2)
ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فقال بعد ما رجح هذا القول : ... إن هذا القرآن لم يأت بكلمات ، أو بحروف خارجة عن نطاق البشر ، وإنما هي من الحروف التي لا تعدو ما يتكلم به البشر ، ومع ذلك فقد أعجزهم .
" وأما قول من قال إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور ، فهذا ضعيف ، لأن الفصل حاصل بدونها .
" وقول من قال : بل ابتدىء بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين إذا تواصوا بالإعراض عن القرآن إذا تُلي عليهم ، وهذا ضعيف ، لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها [ تفسير ابن كثير : 1 / 51 ] .
" عدد هذه الحروف المقطعة ( 14 ) حرفاً يجمعها قولهم : نص حكيم قاطع له سر .
" افتتح الله عز وجل ( 29 ) سورة بالحروف المقطعة .
" وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا: ق جبل محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف, وكأن هذا, والله أعلم, من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس [ قاله ابن كثير ] .
( وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) أي الكريم العظيم الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) .
قال بعض العلماء : معنى المجيد هو كتاب شريف ، أشرف من كل كتاب ، عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى ، وسيع المعاني عظيمها ، كثير الوجوه ، كثير البركات ، جزيل المبرّآت ، واسع الأوصاف وعظيمها ، متناهٍ في الشرف والكرم والبركة ، لكونه بياناً لما شرعه الله لعباده من أحكام الدين والدنيا .
" أقسم تعالى بالقرآن ، لأن الله تعالى يقسم بما شاء ، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به تعالى.
" واختلفوا في جواب القسم ما هو ؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله تعالى ( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ) وفي هذا نظر ، بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم, وهو إثبات النبوة وإثبات المعاد وتقريره وتحقيقه .
" وصف القرآن الكريم بالمجد ، وله صفات كثيرة سأذكرها بالفوائد .(1/3)
" فيه أن من أسماء القرآن هذا الاسم ( القرآن ) وهو أشهر أسمائه .
" قوله ( المجيد ) نستفيد أن من تمسك به نال المجد والعظمة .
( بَلْ عَجِبُوَاْ أَن جَآءَهُمْ مّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هََذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) أي تعجبوا من إرسال رسول إليهم من البشر .
كقوله جل جلاله ( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) أي وليس هذا بعجيب فإن الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس .
وقد جاءت آيات كثيرة تبين أن من أسباب كفرهم تعجبهم من إرسال رسول من البشر .
كقوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) .
وقال تعالى (فَقَالُوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ) .
وقال تعالى (وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ) .
وقال تعالى (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً ) .
" قال قتادة : عجبهم أنْ دُعُوا إلى إله واحد .
ثم قال عز وجل مخبراً عنهم في تعجبهم أيضاً من المعاد واستبعادهم لوقوعه :
( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ) أي يقولون أئذا متنا وبلينا وتقطعت الأوصال منا وصرنا تراباً, كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى هذه البنية والتركيب ؟
كما قال تعالى عنهم (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ) .
" (ضللنا في الأرض) : أي هلكنا وصارت عظامنا ولحومنا تراباً مختلطاً بتراب الأرض حتى غابت فيه ولم تتميز عنه .
((1/4)
ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) أي بعيد الوقوع ، والمعنى أنهم يعتقدون استحالته وعدم إمكانه .
" وما ذكره تعالى هنا من إنكار الكفار للبعث ذكره في مواضع أخر :
قال تعالى (قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) .
وقال تعالى (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) .
وقال تعالى (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ) .
وقال تعالى (وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) .
وقال تعالى (وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ) .
وقال تعالى ( ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ) .(1/5)
قال ابن القيم : "وتأمل كيف دلت السورة صريحاً على أن الله سبحانه يعيد هذا الجسد بعينه ، الذي أطاع وعصى ، فينعّمه ويعذبه كما ينعم الروح التي آمنت بعينها ، ويعذب التي كفرت بعينها ، لا أنه سبحانه يخلق روحاً أخرى غير هذه فينعمها ويعذبها كما قاله من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل ، حيث زعم أن الله سبحانه يخلق بدناً غير هذه البدن من كل وجه ، عليه يقع النعيم والعذاب ، وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل ودل عليه القرآن والسنة وسائر كتب الله تعالى ، وهذا في الحقيقة إنكار للمعاد وموافقة لقول من أنكره من المكذبين ، فإنهم لم ينكروا قدرة الله على خلْق أجسام أُخَرَ غير هذه الأجسام يعذبها وينعمها ، كيف وهم يشاهدون النوع الإنساني يخلق شيئاً بعد شيء ، فكيف يتعجبون من شيء يشاهدونه عياناً ؟ وإنما تعجبوا من عوْدهم بأعيانهم مبعوثين للجزاء ولهذا قالوا (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) وقالوا ( ذلك رجع بعيد ) ولو كان الجزاء إنما هو لأجسام غير هذه، لم يكن بعْثاً ولا رجعاً ، بل يكون ابتداءً، ولم يكن لقوله ( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ) كبير معنى " انتهى .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : البعث إعادة وليس تجديداً ، بل هو إعادة لما زال وتحول ، ومن زعم بأن الأجساد تخلق من جديد ، فإن هذا زعْم باطل يرده الكتاب والسنة والعقل .
فإن الله يقول (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) أي يعيد ذلك الخلق الذي ابتدأه .
وفي الحديث القدسي : يقول الله تعالى ( ليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته ) فالكل على الله هيّن .
وقال تعالى (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) .(1/6)
وقال تعالى (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ )
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( يحشر الناس حفاة عراة ) فالناس هم الذين يحشرون وليس سواهم .
قال الله تعالى رداً عليهم :
( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظ ( أي ما تأكل من أجسادهم في البلى نعلم ذلك ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان وأين ذهبت وإلى أين صارت .
قال ابن القيم : أنه سبحانه يميز تلك الأجزاء التي اختلطت بالأرض واستحالت إلى العناصر بحيث لا تتميز ، فأخبر سبحانه أنه قد علم ما تنقصه الأرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم ، وأنه كما هو عالم بتلك الأجزاء ، فهو قادر على تحصيلها وجمعها بعد تفرقها ، وتأليفها خلقاً جديداً
(وعندنا كتاب حفيظ) أي حافظ لذلك فالعلم شامل والكتاب أيضاً فيه كل الأشياء مضبوطة .
ثم بين تبارك وتعالى سبب كفرهم وعنادهم واستبعادهم ما ليس ببعيد فقال :
( بَلْ كَذّبُواْ بِالْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيَ أَمْرٍ مّرِيجٍ ) أي وهذا حال كل من خرج عن الحق مهما قال بعد ذلك فهو باطل, والمريج : المختلف المضطرب الملتبس المنكر خلاله كقوله تعالى (إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك).
الفوائد :
1- عظمة القرآن وإعجازه ، حيث أنه من هذه الحروف التي يعرفونها ومع ذلك لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله .
وقد وقع التحدي بالقرآن الكريم على أوجه :
الوجه الأول : تحداهم بالقرآن كله .
كما قال تعالى ( ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) .
الوجه الثاني : تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله .(1/7)
كما قال تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ...) .
الوجه الثالث : تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله .
كما قال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ ... ) .
2- الثناء على هذا القرآن بأنه مجيد ، وقد سبق بيان وجه كونه مجيد : ومما وصف به القرآن :
العزيز :كما قال تعالى : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) .
ومعناه : أي منيع من الشيطان ، لا يجد إليه سبيلاًَ ، ولا يستطيع أن يغيره ، أو يزيد فيه أو ينقص منه ، وعديم النظير منيع من الباطل ، ومن كل من أراده بتحريف أو سوء ، ويمتنع على الناس أن يقولوا مثله ، فهو غالب وقاهر .
قال ابن عطية : ووصف تعالى الكتاب بالعزة، لأنه بصحة معانيه ممتنع الطعن فيه، والإزراء عليه، وهو محفوظ من الله تعالى .
الكريم : قال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) .
ومعناه : الكريم اسمه جامع لما يحمد ، وذلك أن فيه البيان والهدى والحكمة ، وهو معظم عند الله تعالى .
وقيل : كريم لما فيه من كريم الأخلاق ومعالي الأمور . وقيل : لأنه يكرّم حافظه ، ويعظم قارئه . تفسير القرطبي : 17/216
3- أن من أسماء القرآن هذا الاسم ( القرآن ) ومن أسمائه :
الاسم الأول : الفرقان ، كما قال تعالى ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ) .
وقال تعالى ( وأنزل الفرقان ) .
وسمي بذلك : قيل : لأنه يفرق بين الحق والباطل ، والخير والشر ، وقيل : لأنه نزل متفرقاً في حين أن سائر الكتب نزلت جملة واحدة ، وقيل : الفرقان هو النجاة ، وذلك لأن الخلق في ظلمات الضلالات فبالقرآن وجدوا النجاة . [ مفاتيح الغيب : 2 / 14]
وكل هذه الأقوال صحيحة .(1/8)
الاسم الثاني : القرآن ، كما قال تعالى ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) ، وقال تعالى ( لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ) .
الاسم الثالث : الكتاب ، كما في قوله تعالى ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ) ، وقوله تعالى
( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً ) .
وسمي بذلك : لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي السفرة الكرام البررة ، ومكتوب في المصاحف التي في أيدينا .
الاسم الرابع : الذكر ، كما قال تعالى ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ، وقال تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر ) .
قال ابن جرير في وجه تسميته بالذكر : إنه محتمل معنيين :
أحدهما : أنه ذكر من الله جل ذكره ، ذكّر به عباده ، فعرفهم فيه حدوده وفرائضه ، وسائر ما أودعه من حكمه .
والآخر : أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به وصدق بما فيه ، كما قال جل ثناؤه ( وإنه لذكر لك ولقومك ) يعني أنه شرف لك ولقومك . [ تفسير الطبري : 1 / 70 ]
4- حكمة الله في إرسال الرسل من البشر .
5- أن من ينكر البعث فهو كافر .
كما قال تعالى ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) .
6- وجوب الإيمان بالبعث ، وهو أحد أركان الإيمان .
7- عموم علم الله تعالى لكل شيء .
((1/9)
أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ . وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَىَ لِكُلّ عَبْدٍ مّنِيب وَنَزّلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً مّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنّاتٍ وَحَبّ الْحَصِيدِ وَالنّخْلَ بَاسِقَاتٍ لّهَا طَلْعٌ نّضِيدٌ رّزْقاً لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ) .
-----------------------------------
يقول تعالى منبهاً للعباد على قدرته العظيمة التي أظهر بها ما هو أعظم مما تعجبوا مستبعدين لوقوعه :
( أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا ) أي بالمصابيح .
( وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ) قال مجاهد: يعني من شقوق, وقال غيره: فتوق, وقال غيره: صدوع, والمعنى متقارب كقوله تبارك وتعالى: (الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور . ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير) أي كليل عن أن يرى عيباً أو نقصاً .
كما قال تعالى (وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ ) .
وقال تعالى (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا . رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ) .
( وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا ) أي وسعناها وفرشناها .
كما قال تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً ) .
وقال تعالى ( ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً ) .
وقال تعالى (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ) .
وقال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) .
((1/10)
وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ) وهي الجبال لئلا تميد بأهلها وتضطرب, فإنها مقرة على تيار الماء المحيط بها من جميع جوانبها .
كما قال تعالى : (وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ) .
وقال تعالى (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) .
وقال تعالى (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ ) .
( وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) أي من جميع الزروع والثمار والنبات والأنواع ، ذات المنظر الحسن .
كما قال تعالى ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .
وقال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) .
وقال تعالى (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) .
وقال تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).
( تَبْصِرَةً وَذِكْرَىَ لِكُلّ عَبْدٍ مّنِيب ( أي ومشاهدة خلق السموات والأرض وما جعل الله فيهما من الاَيات العظيمة تبصرة ودلالة وذكرى لكل عبد منيب أي خاضع خائف وجل رجاع إلى الله عز وجل.
( وَنَزّلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً مّبَارَكاً ( أي نافعاً .
( فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنّاتٍ ) أي حدائق من بساتين ونحوها .
( وَحَبّ الْحَصِيدِ ) وهو الزرع الذي يراد لحبه وادخاره .
كما قال تعالى (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ . فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) .
( وَالنّخْلَ بَاسِقَاتٍ ) أي طوالاً شاهقات .
( لّهَا طَلْعٌ نّضِيدٌ ) أي منضود .
( رّزْقاً لّلْعِبَادِ ) أي للخلق .
((1/11)
وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً ) وهي الأرض التي كانت هامدة, فلما نزل الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج من أزاهير وغير ذلك, مما يحار الطرف في حسنها, وذلك بعد ما كانت لا نبات بها فأصبحت تهتز خضراء .
( كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ) أي أن خروج الناس أحياء من قبورهم بعد الموت كخروج النبات من الأرض بعد عدمه ، بجامع استواء الجميع في أنه جاء بعد عدم .
كما قال تعالى : (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وقال تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ . ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) .
وقال سبحانه : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
الفوائد :
1- وجوب النظر في آيات الله الكونية ليعرف الإنسان قدرة الله على كل شيء ومن ذلك البعث .
2- أن من أدلة إثبات البعث ، لفت الأنظار إلى خلق السموات والأرض .
وقد تنوعت طرق القرآن في إثبات البعث ، وهي سبعة طرق :
الطريقة الأولى :
آيات صريحة في إثبات ذلك :
قال تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) .
وقال تعالى : (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ) .
وقال تعالى : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) .(1/12)
وقال تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) .
وقال تعالى : (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
وأمر نبيه أن يقسم به على المعاد :
فقال تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ) .
وقال تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) .
وقال تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) .
وذم الله المكذبين بالمعاد :
فقال تعالى : ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) .
وقال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ) .
الطريقة الثانية :
التذكير بنشأة الإنسان الأولى :
قال تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ . خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ . يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ . إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) .
وقال تعالى : (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) .
الطريقة الثالثة :
الاستدلال بإنبات النبات على إحياء الأموات :(1/13)
قال تعالى : (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وقال تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ . ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) .
وقال سبحانه : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
الطريقة الرابعة :
الإشارة ولفت الانتباه إلى خلق السماوات :
قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
الطريقة الخامسة :
تنزيه الله سبحانه عن العبث .
فلو فرضنا أنه لا جزاء ولا حساب ولا بعث ، فما فائدة الأوامر والنواهي .
قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ . فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ) .
وقال تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) . أي : لا يؤمر ولا ينهى ، وقيل لا يبعث .
الطريقة السادسة :
تنزيه الله عن الظلم :
فلو لم يكن هناك بعث لا استوى الناس ، فاستوى المؤمن الذي ترك كثيراً من الشبهات مخافة ربه ، والكافر لا يعرف ربه أصلاً .
قال تعالى : (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) .
الطريقة السابعة :(1/14)
ذكر وقائع وأحداث يستدل بها على البعث .
كما في قصة قتيل بني إسرائيل .
وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت .
وقصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها .
وقصة إبراهيم - عليه السلام - والطيور الأربعة .
وقصة أصحاب الكهف ، فقد أماتهم الله في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين ، قال تعالى في قصتهم : (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ ... ) .
3- كمال قدرة الله على كل شيء ، فلا يعجزه سبحانه شيء .
4- أن من يتأمل في مخلوقات الله وعظمتها ، فإن ذلك من علامة العقل .
( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .
-----------------------------------
يقول تعالى مهدداً لكفار قريش بما أحله بأشباههم ونظرائهم وأمثالهم من المكذبين قبلهم من النقمات والعذاب الأليم في الدنيا فقال تعالى :
( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ) الذين عذبهم الله بالغرق العام لجميع أهل الأرض .
( وَأَصْحَابُ الرَّسِّ ) أي وأهلك أصحاب الرس .
وقد اختلف العلماء في المراد بهم ، فقيل : إنهم أهل قرية من قرى ثمود ، وقيل : إنهم قوم رسّوا نبيهم أي دفنوه ، وقيل : المراد بهم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج واختار ذلك ابن جرير .
( وَثَمُودُ ) ونبيهم صالح ، فقد أهلكهم الله بعد أن كذبوه وقالوا ( ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) .
( وَعَادٌ ) ونبيهم هود ، وقد أهلكهم الله تعالى بالريح العقيم ( مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) .
((1/15)
وَفِرْعَوْنُ ) بعد أن أرسل الله له موسى وهارون فكفر وطغى فأهلكه الله وأغرقه .
( وَإِخْوَانُ لُوطٍ ) أي قوم لوط ، وقد أرسل الله لهم النبي لوط ، فكذبوه ، فأهلكهم الله .
( وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ ) وهم قوم شعيب ، والأيكة الشجر الملتف ، كانت تحيط بهم البساتين والأشجار الكثيرة ، الملتف بعضها على بعض ، أرسل الله إليهم شعيباً ، وكان ظلمهم بشركهم بالله ، وقطعهم الطريق ، ونقصهم المكيال والميزان ، فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة ، وقد كانوا قريباً من قوم لوط بعدهم في الزمان ، ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في نذارته إياهم (وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ) .
( وَقَوْمُ تُبَّعٍ ) قال المفسرون : هو ملِك كان باليمن ، أسلم ودعا قومه إلى الإسلام ، فكذبوه وهو تبع اليماني .
( كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ ) أي كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذب رسولهم .
" قوله ( كل كذب الرسل ) لأن من كذب رسولاً فقد كذب بجميع الرسل بدليل قوله تعالى
( كذبت قوم نوح المرسلين ) وإنما جاءهم رسول واحد ، فهم في نفس الأمر لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم .
( فَحَقَّ وَعِيدِ ) أي فحق عليهم ما أوعدهم الله تعالى على التكذيب من العذاب والنكال ، فليحذر المخاطبون أن يصيبهم ما أصابهم ، فإنهم قد كذبوا رسولهم كما كذب أولئك .
( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ) أي أفأعجزنا ابتداء الخلق حتى هم في شك من الإعادة ، والمعنى : أن ابتداء الخلق لم يعجزنا والإعادة أسهل منه كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) .
وقال تعالى (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .(1/16)
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( يقول تعالى : يؤذيني ابن آدم : يقول لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون من إعادته ) .
" قال القرطبي : هو توبيخ لمنكري البعث وجواب لقولهم ( ذلك رجع بعيد ) .
" فهذه الآية من أدلة إثبات البعث .
( بَلْ هُمْ ) أي هؤلاء المنكرون للبعث .
( فِي لَبْسٍ ) في شك وتردد .
( مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) أي إعادة الخلق .
" وحالهم عجب : يقرون بأول الخلق ، ثم ينكرون البعث بعد الموت .
الفوائد :
1- أن كثيراً من الأمم كذبت رسلها .
2- أن تكذيب الرسل سبب للهلاك .
3- وجوب الحذر من تكذيب الرسل ، حتى لا يصيبنا ما أصاب الأمم الماضية .
4- أن العبرة بالإيمان والعمل الصالح ، لا بالأحساب والأنساب ، فكل من كذب أهلكه الله .
5- أن من أساليب الدعوة ، تذكير الناس بهلاك الأمم الماضية بسبب ذنوبها .
6- أن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب بجميع الرسل .
7- شدة عقوبة الله للمكذبين .
8- تنزيه الله عن النقص والتعب والعجز .
9- وجوب إثبات صفات الكمال لله تعالى .
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) .
-----------------------------------
((1/17)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأنه خالقه وعلمه محيط بجميع أموره ، حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشر .
" وإذا كان الله يعلم ذلك فإنه ينبغي علينا ألا نحدّث أنفسنا بما يكرهه الله ويبغضه .
( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه.
" فالمراد بقوله ( ونحن أقرب إليه ) الملائكة ، كقوله تعالى ( ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرن ) أي ملائكته ، وقوله تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر .. ) والملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن بإذن الله .
" حبل الوريد : هو الأوداج ، وهما العرقان العظيمان المحيطان بالحلقوم .
( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ ) يعني الملكين اللذين يكتبان عمل الإنسان .
عَنِ الْيَمِينِ) يكتب الحسنات .
( و َ) الآخر .
( عَنِ الشِّمَالِ ) يكتب السيئات .
( قَعِيدٌ ) مترصد متهيئ لعمله الذي أعد له ملازم لذلك .
( مَا يَلْفِظُ ) أي ابن آدم .
( مِن قَوْلٍ ) من خير أو شر .
( إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) إلا ولها من يرقبها معد لذلك ، يكتبها لا يترك كلمة ولا حركة .
" وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن الملكان يكتبان كل شيء من الكلام ، وهذا ظاهر الآية وهو الصحيح ، وذهب بعضهم إلى أنه إنما يكتبان ما فيه ثواب أو عقاب .
( وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ) يقول عز وجل : وجاءت أيها الإنسان سكرة الموت بالحق ، أي كشف لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه .
( ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) أي هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك ، فلا محيد ولا مناص ولا فكاك ولا خلاص .
" واختلف من المخاطب بالآية ، فقيل : الكافر ، وقيل : المخاطب الإنسان من حيث هو ورجحه ابن كثير .
((1/18)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) أي ونفخ إسرافيل النفخة الثانية لقيام الناس من قبورهم .
" والمراد بالنفخة هذه : النفخة الثانية وهي نفخة البعث ، بدليل قوله تعالى ( ذلك يوم الوعيد ) .
( ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) أي ذلك اليوم الذي وعد الله الكفار به بالعذاب .
( وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) أي ملَك يسوقه إلى المحشر ، وملك يشهد عليه بأعماله ، قال ابن كثير : وهذا هو الظاهر من الآية الكريمة ، وهو اختيار ابن جرير .
( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا) أي لقد كنت أيها الإنسان في غفلةٍ من هذا اليوم العصيب.
" وقد اختلف في المراد بهذا الخطاب ، فقيل : المراد بذلك الكافر ، وقيل : المراد بذلك كل أحد من بَر وفاجر ، وهذا اختيار ابن جرير ، وقيل : المراد بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والراجح ما رجحه ابن جرير .
(فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ) أي فأزلنا الحجاب الذي كان على قلبك وسمك وبصرك في الدنيا.
( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) أي قوي ، لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصراً حتى الكفار في الدنيا ، يكونون يوم القيامة على الاستقامة ، لكن لا ينفعهم ذلك .
قال تعالى (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ) .
وقال تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) .
الفوائد :
1- عموم علم الله تبارك وتعالى بالإنسان ، حتى إنه سبحانه يعلم ما توسوس به نفسه .
2- وجوب الحذر من أن يكتم الإنسان شيئاً يكرهه الله .
3- إثبات الملائكة عن يمين الإنسان وشماله .
4- وجوب الحذر من القول أو العمل السيء ، لأن هناك ملائكة يكتبون على الإنسان .
5- وجوب حفظ اللسان من الكلام المحرم ، فإن كل كلمة ينطق بها الإنسان تكتب عليه .(1/19)
قال - صلى الله عليه وسلم - ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) متفق عليه .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( من صمت نجا ) رواه الترمذي .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( المسلم من سلم المسلون من لسانه ويده ) متفق عليه .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة ) متفق عليه .
قال سعيد بن عبد العزيز : لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين : صموت واعٍ ، وناطق عارف .
وقال عمرو بن العاص : الكلام كالدواء ، إن أقللتَ منه نفع ، وإن أكثرت منه قتل .
وقال لقمان لابنه : يا بني لِلَّهِ إذا افتخر الناس بحسن كلامهم ، فافتخر أنت بحسن صمتك .
وقال الحسن : اللسان أمير البدن ، فإذا جنا على الأعضاء شيئاً جنت ، وإذا عفا عفت .
قال الشاعر :
احفظ لسانك أيها الإنسانُ لا يلدغنك إنه ثعبانُ
كم في المقابرِ من قتيلِ لسانه كانت تهابُه الشجعانُ
6- وجوب الاستعداد للموت قبل قدومه فجأة .
7- إثبات النفخ في الصور .
والنفخ في الصور ثابت بالكتاب والسنة والإجماع .
من الكتاب قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) .
وقال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) .
وقال تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً) .
وقال تعالى : (وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) .
ومن السنة :
عن عبد الله بن عمرو قال : جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما الصور ؟ قال : ( قرن ينفخ فيه ) .(1/20)
وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً ، ثم لا يبقى أحد إلا صعق ... ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) .
وأجمع المسلمون على ثبوته .
" النافخ في الصور هو إسرافيل - عليه السلام - .
أجمع العلماء أن الذي موكل بنفخ الصور هو إسرافيل .
" عدد النفخات :
اختلف العلماء في عدد النفخات على قولين :
القول الأول : أنها نفختان : نفخة الصعق ونفخة البعث .
ويدل لهذا قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) .
وقال تعالى : (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ . فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ . وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) .
فقوله تعالى : (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ) . هذه النفخة الأولى .
وقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) هذه هي النفخة الثانية .
وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما بين النفختين أربعون ) قالوا : يا أبا هريرة : أربعون يوماً ؟ قال : أبيت . قالوا : أربعون شهراً ؟ قال : أبيت . قالوا : أربعون سنة : قال : أبيت ) . متفق عليه
القول الثاني : أنها ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة البعث .
واحتجوا : في قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) وهذه نفخة الفزع .(1/21)
وقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ ... ) هذه نفخة الصعق .
وقوله تعالى : (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) هذه نفخة البعث .
قالوا : إن الفزع مغاير للصعق .
" صاحب الصور مستعد للنفخ .
عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( كيف أنعم ، وقد التقم صاحب القرنِ القرنَ ، وحنى جبهته وأصغى سمعه ، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ ، فينفخ ) رواه الترمذي .
8- أن يوم القيامة يوم وعيد شديد على الكفار .
9- أن الإنسان يوم القيامة يعرف حقيقة الأمر، ويعرف أنه كان مكابراً معانداً ، لكنه لا ينفعه ذلك.
كما قال تعالى (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) .
( وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) .
-----------------------------------
(وَقَالَ قَرِينُهُ) يقول تعالى مخبراً عن الملك الموكل بعمل ابن آدم أنه يشهد عليه يوم القيامة ويقول:
(هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي قد أحضرت ما جعلت عليه، من حفظه وحفظ عمله ، فيجازى بعمله .
قال ابن القيم : والآية تتضمن الأمرين : أي هذا الشخص الذي وكلتُ به ، وهذا عمله الذي أحصيته عليه .(1/22)
فحينئذٍ يقال للملكين السائق والشهيد :
( ألقيا في جهنم ) أي اقذفا في جهنم .
ثم ذكر صفات الملقي :
( كُلَّ كَفَّارٍ ) أي كثير الكفر والتكذيب بالحق .
قال ابن القيم : إنه كفار لنعم الله وحقوقه ، كفار بدينه وتوحيده وأسمائه وصفاته ، كفار برسله وملائكته ، كفار بكتبه ولقائه .
( عَنِيدٍ ) معاند للحق ، معارض له بالباطل مع علمه بذلك .
( مناع للخير ) أي لا يؤدي ما عليه من الحقوق ولا برٌ فيه ولا صلة ولا صدقة .
قال ابن القيم : مناع للخير : وهذا يعم منعه للخير الذي هو إحسان إلى نفسه من الطاعات ، والقرب إلى الله ، والخير الذي هو إحسان إلى الناس ، فليس فيه خير لنفسه ولا لبني جنسه كما هو حال أكثر الخلق .
( مُعْتَدٍ ) أي مع منعه للخير ، معتدٍ على الناس ، ظلوم غشوم ، معتد عليهم بيده ولسانه .
( مُّرِيبٍ ) أي شاك في أمره ، مريب لمن نظر في أمره .
( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ ) أي أشرك بالله ، فعبد معه غيره ، يعبده ويحبه ويغضب له ويرضى له .
( فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ) أي فألقياه في نار جهنم ، وكرر اللفظ [ فألقياه ] للتوكيد .
( قَالَ قَرِينُهُ) وهو شيطانه الذي وكل به .
( رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ ) أي لم يكن لي قوة أن أضلّه وأطغيه ، فيتبرأ منه شيطانه .
( ولَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ) أي بل كان هو في نفسه ضالاً قابلاً للباطل معانداً للحق .
كما قال تعالى (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم ).(1/23)
" وقيل : قرينه هو الملك فيدّعي عليه أنه زاد عليه فيما كتبه عليه وطغى ، وأنه لم يفعل ذلك ، وأنه أعجله بالكتابة عن التوبة ولم يمهله حتى يتوب ، فيقول الملك : ما زدت في الكتابة على ما عمل ولا أعجلته عن التوبة ولكن كان في ضلال بعيد .
( قَالَ ) الله تبارك وتعالى للإنسي وقرينه الجني .
( لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ) أي عندي .
( وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ ) أي وقد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل ، وأنزلت الكتب ، وقامت عليكم الحجج والبينات والبراهين .
( مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) قال مجاهد : يعني قد قضيت ما أنا قاض .
( وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) أي لست أعذب أحداً بذنب أحد ، ولكن لا أعذب أحداً إلا بذنبه بعد قيام الحجة عليه .
الفوائد :
1- أن كل عمل ابن آدم يحصى عليه ويكتب .
2- وجوب الحذر من القول أو الفعل السيء .
3- إثبات اسم جهنم اسم من أسماء النار .
4- في الآيات صفات أهل النار ، فيجب معرفتها والحذر منها وتجنبها .
5- تحريم اتخاذ آلهة أخرى مع الله تعالى ، وأن من فعل ذلك فهو كافر مصيره جهنم .
قال تعالى (وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .
وقال تعالى (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) .
وقال تعالى (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ) .
وقال تعالى (لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً ) .
وقال تعالى (وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً ) .
وبيّن تعالى استحالة تعدد الآلهة عقلاً :
فقال تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) .(1/24)
وقال تعالى (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) .
6- أن الشيطان يتبرأ ممن عبده وأطاعه .
7- أن الله قد أنذر المكذبين بإرسال الرسل وإنزال الكتب .
8- أن الله منزه عن الظلم .
( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ )
----------------------------
( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ ) يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة ، هل امتلأت ؟ وذلك لأنه تبارك وتعالى وعدها أنه سيملؤها من الجِنة والناس أجمعين ، فهو سبحانه يأمر بمن يأمر به إليها ويلقى وهي تقول :
( وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ) أي هل بقي شيء تزيدوني ؟
عن أنس . قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط وعزتك وكرمك ) متفق عليه .
( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ ) أي أدنيت وقربت الجنة .
( لِلْمُتَّقِينَ ) الذين اتقوا الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه .
( غَيْرَ بَعِيدٍ ) وذلك يوم القيامة ، ولبس ببعيد لأنه واقع لا محالة ، وكل ما هو آت قريب .
( هَذَا مَا تُوعَدُونَ ) أي هذا الذي ترونه من النعيم هو ما وعده الله للمتقين ، ثم ذكر صفات هؤلاء المتقين :
( لِكُلِّ أَوَّابٍ ) أي رجاع تائب مقلع ، يرجع إلى الله من معصيته إلى طاعته ، ومن الغفلة عنه إلى ذكره .
((1/25)
حَفِيظٍ ) قال ابن عباس : لما ائتمنه الله عليه وافترضه ، وقال قتادة : حافظ لما استودعه الله من حقه ونعمته .
قال ابن القيم : ولما كانت النفس لها قوتان : قوة الطلب وقوة الإمساك ، كان الأواب مستعملاً لقوة الطلب في رجوعه إلى الله ومرضاته وطاعته ، والحفيظ مستعملاً لقوة الحفظ في الإمساك عن معاصيه ونواهيه ، فالحفيظ : الممسك عما حُرّم عليه ، والأواب : المقبل على الله بطاعته .
( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ ) أي من خاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلا الله ، كقوله - صلى الله عليه وسلم -
( ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ) .
( وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ) أي ولقي الله يوم القيامة بقلب منيب سليم خاضع لديه .
ثم ذكر الله تعالى جزاء من قامت به هذه الأوصاف بقوله :
( ادْخُلُوهَا ) أي الجنة .
( بِسَلَامٍ ) قال قتادة : سلموا من عذاب الله .
(ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي يخلدون في الجنة فلا يموتون أبداً ، ولا يظعنون أبداً ولا يبغون عنها حِولاً.
( لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا ) أي مهما اختاروا ووجدوا من أي أصناف الملاذ طلبوا أحْضِر لهم .
( وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) فسره بعض العلماء برؤية الله تعالى ، وهي من أعظم نعيم الجنة .
الفوائد :
1- أن جهنم لا تمتلئ حتى يضع الجبار سبحانه قدمه عليها .
2- التحذير من النار .
قال تعالى ( فاتقوا النار ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( اتقوا النار ) متفق عليه .
3- فضل التقوى وأهلها ، وأن الجنة تقرب لهم .
وللتقوى فضائل كثيرة منها :
أولاً : أنها سبب لتيسير الأمور .
قال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً } .
ثانياً : أنها سبب لإكرام الله .
قال تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } .
ثالثاً : العاقبة لأهل التقوى .
قال تعالى : { والعاقبة للمتقين } .
رابعاً : أنها سبب في دخول الجنة .
قال تعالى : { وأزلفت الجنة للمتقين } .
خامساً : أنها سبب لتكفير السيئات .(1/26)
قال تعالى : { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً } .
سادساً : أنها سبب لحصول البشرى لهم .
قال تعالى : { الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا } .
سابعاً : أنها سبب للفوز والهداية .
قال تعالى : { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } .
ثامناً : أنها سبب للنجاة يوم القيامة .
قال تعالى : { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً } .
تاسعاً : أنها سبب لتفتيح البركات من السماء والأرض .
قال تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } .
عاشراً : أنها سبب للخروج من المأزق .
قال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } .
الحادي عشر : أنها سبب لمحبة الله .
قال تعالى : { إن الله يحب المتقين } .
4- في الآيات صفات أهل الجنة ، فينبغي معرفتها والاجتهاد في تطبيقها والعمل بها .
5- أن الجنة دار السلام من كل آفة وبلية ومكروه .
كما قال تعالى (لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) .
وقال تعالى (وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) .
6- إثبات رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى في الجنة .
وعقيدة أهل السنة والجماعة : هو الاعتقاد الجازم بأن المؤمنين يرون ربهم عياناً بأبصارهم في عرصة القيامة وفي الجنة ، ويكلمهم ويكلمونه . وقد تواترت الأدلة على ذلك :
قال تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة ) . ( ناضرة ) أي حسنة ، من النضارة . ( ناظرة ) من النظر .
قال شارح الطحاوية : وهي من أظهر الأدلة .
وقال تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) .(1/27)
قال شارح الطحاوية : احتج الشافعي وغيره من الأئمة رحمهم الله تعالى بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة، وسئل مالك عن هذه الآية فقال: لما حجب أعداؤه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى يروه.
" في الآية : أن أعظم عذاب الكفار هو الحجاب عن ربهم .
" أعظم نعيم الجنة هو رؤية الله عز وجل .
وقال تعالى : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) .
فالحسنى : الجنة ، والزيادة : هي النظر إلى وجهه الكريم فسرها بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما روى مسلم في صحيحه :
عن صهيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى : تريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ، وتجنبنا النار ، قال : فيكشف الحجاب ، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم ، ثم تلا هذه الآية : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) .
وعن جرير بن عبد الله قال : كنا جلوساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال : ( إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ) متفق عليه ، يعني العصر والفجر . ( لا تضامون ) أي لا يلحقكم ضيم ولا مشقة في رؤيته .
معنى [ كما ترون هذا القمر ] يعني يراه المؤمنون في الجنة كما يرون هذا القمر ، فليس المعنى أن الله مثل القمر ، لأن الله ليس كمثله شيء ، بل هو أعظم وأجل ، لكن المراد من المعنى تشبيه الرؤية بالرؤية ، فكما أننا نرى القمر ليلة البدر رؤية حقيقية ليس فيه اشتباه ، فإننا سنرى ربنا عز وجل كما نرى هذا القمر رؤية حقيقية بالعين دون اشتباه .(1/28)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن أناساً قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ ) قالوا : لا يا رسول الله . قال : ( هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب ؟ ) قالوا : لا . قال : ( فإنكم ترونه كذلك ) . متفق عليه .
وعن أبي موسى . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ) متفق عليه .
وأحاديث الرؤية متواترة كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم ، منهم :
ابن القيم في حادي الأرواح، وابن أبي العز في شرح الطحاوية ، والحافظ ابن حجر في فتح الباري.
( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) .
--------------------------
( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم ) يقول تعالى وكم أهلكنا قبل هؤلاء المكذبين .
( كم ) للتكثير .
( مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً ) أي كانوا أكثر منهم قوة وأثاروا الأرض ، وعمروها أكثر مما عمروها .
( فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ ) أي طافوا بالبلاد وفتشوا .
((1/29)
هَلْ مِن مَّحِيصٍ ) أي هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره ، وهل نفعهم ما جمعوه ، وردّ عنهم عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل ، فأنتم أيضاً لا مفر لكم ولا محيد ولا مناص ولا محيص .
" مباحث هلاك القرى ؟
أولاً : أخبر الله أنه أهلك كثيراً من القرى .
قال تعالى ( وكم من قرية أهلكناها .... ) .
وقال تعالى ( وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة ) .
وقال تعالى ( وكم قصمنا من قرية .. ) .
ثانياً : أخبر الله أن هلاك القرى والأمم بسبب ذنوبهم وكفرهم .
قال تعالى ( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً ) .
قال تعالى ( فكلاً أخذنا بذنبه ) .
وقال تعالى ( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم ) .
وقال تعالى (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ ) .
وقال تعالى ( وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ) .
ثالثاً : أن الله لا يهلك القرى حتى يرسل إليهم الرسل .
قال تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) .
وقال تعالى ( وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ) .
وقال تعالى ( وما ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً ) .
رابعاً : أن الله يقص خبر الأمم السابقة للعبرة والاتعاظ .
قال تعالى (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ . أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )
وقال تعالى ( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) .
وقال تعالى (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .(1/30)
وقال تعالى (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ) .
خامساً : أخبر تعالى أن أهل الترف والغنى هم من يكذب بالرسل من القرى .
قال تعالى (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُون ) .
وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) .
سادساً : أخبر تعالى لو أن أهل القرى آمنوا لكان خيراً لهم .
قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ) .
( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ) أي لعبرة .
( لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) أي لب يعي به .
( أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) أي استمع الكلام فوعاه وتعقله بعقله وتفهمه بلبه .
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ) يخبر تعالى أنه خلق السموات السبع في ارتفاعها وعظمتها ، والأرض في كثافتها وسعتها ، وما بينهما من المخلوقات البديعة في ستة أيام ، وما مسنا من تعب ولا إعياء .
" قال بعض العلماء : هذه الآية رد على اليهود حيث زعموا أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة ، وأنه تعب فاستراح يوم السبت .
( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) أي اصبير يا محمد على ما يقوله اليهود وغيرهم من المكذبين من كفار قريش ، واهجرهم هجراً جميلاً .
((1/31)
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ) أي ونزّه ربك عما لا يليق به ، وصل له واعبده وقتي العصر والمغرب ، وخصهما بالذكر لزيادة فضلهما وشرفهما .
( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) قيل : التسبيح بعد الصلاة .
( وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) قيل : هما الركعتان بعد المغرب .
الفوائد :
1- أن الله أهلك كثيراً من القرون والأمم بسبب ذنوبها .
2- أن الله لا يعجزه شيء .
3- التهديد الشديد لمن كذب بالرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الله قد أهلك قبلهم من هم أقوى منهم وأشد عدة وعتاداً .
4- وجوب الاعتبار بهلاك الأمم الماضية .
5- من علامات كمال العقل أن يعتبر الإنسان بأخبار من مضى وهلاكهم .
6- أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام .
7- تنزيه الله عن صفات النقص كالتعب والعجز .
8- الرد على اليهود الذين قالوا إن الله تعب فاستراح السبت .
واليهود - عليهم لعائن الله - وصفوا الله بأقبح الأوصاف .
فقد قالوا (لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ) .
ونسبوا له الولد (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ ) .
9- وجوب الصبر على مشاق الدعوة ، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين .
وقد قال تعالى ( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ) .
10- أن الصلاة وكثرة ذكر الله من أسباب توفيق الله للعبد على الصبر وتحمل المشاق .
( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ) .(1/32)
--------------------------
( وَاسْتَمِعْ ) يا محمد .
( يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ) قال قتادة : قال كعب الأحبار : يأمر تعالى ملكاً أن ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء .
( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ) يعني النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون .
( ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) أي من الأجداث .
( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ) أي هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ، وإليه مصير الخلائق كلهم ، فيجازي كلاً بعمله ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر .
( يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ) أي يوم تنشق الأرض عنهم فيخرجون من القبور مسرعين إلى موقف الحساب استجابة لنداء المنادي .
( ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ) أي تلك إعادة سهلة علينا ، يسيرة لدينا .
كما قال تعالى (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) .
وقال تعالى (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) .
( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ) أي نحن علمنا محيط بما يقول لك المشركون من التكذيب ، فلا يهولنك ذلك .
كقوله تعالى(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) .
( وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ) أي ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى ، وليس ذلك مما كلفت به ، إنما أنت مبلغ .
( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ) أي بلغ يا محمد رسالة ربك ، فإنما يتذكر من يخاف الله ، ويخاف وعيده ويرجو وعده كقوله ( إنما عليك البلاغ ) .
وقوله تعالى ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ . لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) .
الفوائد :(1/33)
1- إثبات البعث والجزاء والحساب .
2- إثبات النفخ في الصور .
3- قدرة الله العظيمة بالإحياء والممات .
4- أن المرجع إلى الله ، فيجازي كلاً بعمله .
5- سهولة الحشر على الله .
6- إثبات الحشر لجميع العباد .
مباحث الحشر :
" تعريفه : هو جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم .
" والحشر ثابت بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ . لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) .
وقال تعالى ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) .
وقال تعالى (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) .
وقال تعالى (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) .
وقال تعالى (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) .
وقال تعالى ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفْراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد ) متفق عليه .
" ويحشر كل شيء حتى البهائم .
ودل على حشر البهائم عدة أدلة :
أ- قوله تعالى (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) .
ب_ قوله تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) .
ج_ وحديث أبي ذر .( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى شاتين ينتطحان فقال : يا أباذر أتدري فيما ينتطحان ؟ قال : قلت : لا ، قال : لكن الله يدري وسيقضي بينهما ) رواه أحمد .
د- وحديث ( مانع صدقة الإبل والبقر والغنم وأنها تجيء يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطأوه بأظلافها ) متفق عليه .(1/34)
هـ- الآثار الواردة في قوله تعالى (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً) وأن الله تعالى يجمع الوحوش ثم يقتص من بعضها لبعض ، ثم يقول لها: كوني تراباً ، فتكون تراباً ، فعندها يقول الكافر ( يا ليتني كنت تراباً ) .
" كيف يحشر الناس ؟
يحشرون حفاة عراة غرلاً .
لحديث عائشة . قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً ، قالت : يا رسول الله لِلَّهِ الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض ) متفق عليه .
وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( إنكم تُحشرون حفاة عراة غُرلاً ، ثم قرأ ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ) وأول من يُكسَى يوم القيامة إبراهيم ) متفق عليه .
حفاة : جمع حاف وهو من ليس عليه نعال .
عراة : جمع عار وهو من ليس عليه ثياب .
غرلاً : أي غير مختونين .
" أول من يكسى إبراهيم .
للحديث السابق ( وأول من يكسى إبراهيم عليه السلام ) .
والحكمة في ذلك :
قيل : لم يكن في الأولين والآخرين لله عز وجل عبد أخوف من إبراهيم فتعجل له كسوته أماناً له ليطمئن قلبه .
وقيل : لأنه أول من أمر بلبس السراويل إذا صلى مبالغة في التستر .
وقيل : أن الذين ألقوه في النار جردوه ونزعوا عنه ثيابه على أعين الناس ، فلما صبر واحتسب وتوكل على الله جازاه على ذلك بأن جعله أول من يدفع عنه العرى يوم القيامة ، وهذا أحسنها .
" أرض المحشر الشام .
عن سهل بن سعد . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ، ليس فيها معلم لأحد ) رواه البخاري .
عفراء : أي ليس بياضها ناصع . كقرصة النقي : الدقيق الخالص من الغش .
ليس فيها معلم لأحد : أي : شيء من العلامات التي يهتدى بها في الطرقات كالجبل والصخرة والبناء .(1/35)
7- التهديد للكفار الذي يتكلمون بالرسول ويكذبونه ، فإن الله محيط بهم ومطلع عليهم وسيجازيهم على ذلك .
8- أن الهداية بيد الله .
9- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يملك أن يهدي أحداً ، وإنما عليه البلاغ وهداية الدلالة .
10- تسلية للدعاة بأن لا يغتموا بعدم إيمان بعض أقاربهم ، فلله الحكمة البالغة .
11- أنه لا يستفيد من القرآن إلا من اتبعه وخاف وعيده وعمل به .
12- ليس كل أحد يستفيد من القرآن .
كما قال تعالى ( قلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) .
وقال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ) .
وقال تعالى (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ) .
انتهى التفسير بحمد الله
المراجع
تفسير ابن جرير الطبري - تفسير ابن كثير - أضواء البيان للشنقيطي - تفسير السعدي - تفسير القرطبي
تفسير فتح القدير للشوكاني - كتب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله المنوعة .(1/36)