تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ
لسَمَاحَةِ الشَّيْخِ العلاّمةِ
د. عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جِبْرِيْنٍ
ـ سَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ
[ أشرطة مفرغة، لم يراجعها الشَّيْخ ]
قام بتنسيق الكتاب ونشره :
سَلمَانُ بْنُ عَبْدِ القَادِرِ أبُوْ زَيْدٍ
غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ،ولِوَالدَيْهِ ،ولِمَشَايخِهِ ،ولجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الدَّرْسُ الأَوَّلُ
[ مُقَدِّمَة ]
" تَعَدُّد التَّفَاسِير " :
السَّلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، صلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لما نعلم، ولما رأينا سابقا، ورأينا لاحقا من محبة إخواننا وأبنائنا للعلم وللاستفادة ورغبتهم الشديدة؛ لبينا هذا الطلب -والحمد لله- أن ليس هناك صعوبات وليس هناك مشقة. وإذا رأينا من يتقبل ومن يحرص على التعلم؛ زاد ذلك في نشاطنا وفي رغبتنا، ونعتذر بأننا لا نأتي بجديد، ولكن من باب التذكير.(1/1)
فقد خُدِمَ القرآن -والحمد لله- خدمة كاملة؛ فسره الصحابة، ثم التابعون ومن بعدهم، وإلى يومنا والمفسرون يفسرونه، ويستنبطون ما فيه من الأحكام، وما فيه من الفوائد والعوائد التي لها تأثيرها، وما يدل على إعجازه وقوة أسلوبه؛ لذلك كل من أتى بالتفسير قد يتجدد له شيء في هذه الآيات ونحوها؛ وإن كان الغالب والكثير أنه الغالب أنه يتكرر ما في تلك التفاسير، وأنه يغني بعضها عن بعض، ولكن لكل أسلوبه، ولكل فهمه وإدراكه؛ فهذا هو السبب في تعدد التفاسير ويمكن أن يقال: إن التفاسير تبلغ أو تزيد على عشرة آلاف تفسير، ولكن لا شك أن كثيرا منهم فسروه بما يهوون؛ فنجد أن المعتزلة كالزمخشري وغيره أدخلوا في تفسيره معتقداتهم الاعتزالية ، ونجد أن الأشاعرة أولوا الآيات التي تخالف معتقدهم؛ تفاسيرهم كثيرة، ونجد أن الرافضة أولوه بتأويلات بعيدة؛ لتوافق معتقدهم ومذهبهم السيئ، وكل طائفة من المبتدعة؛ فإنهم أدخلوا في التفسير ما يوافق معتقداتهم؛ وإن كان ذلك تكلفا شديدا، ولكنهم يحاولون أن يصرفوا دلالات الآيات إلى ما يريدونه.
وهكذا أيضا: الكثير من العصريين يحرصون على أن يطبقوه على المخترعات الجديدة؛ فيفسرونها بحسب ما رأوه، وفي ذلك لا شك تكلف وصرف للقرآن وللآيات عما يتبادر منها، وعما سيقت له.
" حول سورة الحجرات " :
اختير لنا في هذه الحلقات تفسير سورة الحجرات؛ وذلك لما فيها من الأحكام؛ هي من السور المدنية، أي نزلت في المدينة ويمكن أنه تأخر نزولها؛ وذلك لأنها اشتملت على ذكر بعض القبائل الذين ما وفدوا إلا بعد سنة الفتح؛ فنزلت في شأنهم.
كان بعض المشائخ يقول: يسمونها سورة بني تميم؛ لأن أولها نزل في شأنهم، ولكن لا شك أن فيها سياقا وأحكاما ودلالات يستفاد منها فوائد جمة.
" التَّفسير بالمأثور وتفسير ابن كثير " :(1/2)
من أحسن التفاسير تفسير ابن كثير رحمه الله؛ كان شافعي المذهب، ولكنه في العقيدة تأثر بابن تيمية ؛ وابن تيمية حنبلي المذهب؛ فلما تأثر به سلك مسلكه في باب الأسماء والصفات؛ قرأ عليه وقرأ كتبه، ويسمى حنبلي الشافعية؛ أنه شافعي ولكن كان يميل إلى الحنابلة؛ ولذلك اشتغل بمسند الإمام أحمد .
تجدون في تفسيره يذكر سياق الأحاديث عن مسند أحمد إذا جاء .. الأحاديث قال: الإمام أحمد حدثنا؛ ذكره باسم الإمام، ثم ينقل الأحاديث إن كانت في الصحيحين ينقلها بإسناد الإمام أحمد ولعله لأن الإمام أحمد شيخ البخاري ومسلم ولأن إسناده أقرب من إسناد البخاري فالبخاري يكون إسناده مثلا خمسة رجال أو ستة، ينقص الإمام أحمد برجل، كذلك أيضا لما كتب التاريخ كان يترجم للحنابلة، وأطال في ترجمة الإمام أحمد في تأريخه بما لم يبطل في غيره؛ مما يدل على مودته له.
يمر بنا في هذا التفسير أحاديث كثيرة؛ يستشهد بها؛ مما يدل أيضا على أنه رحمه الله كان متوغلا في حفظ الحديث، وكذلك في روايته ومحبته، يحب الأحاديث وينقلها بأسانيدها؛ مما يدل على سعة اطلاعه.
قد يلاحظ الذي يقرأ في تفسيره أنه كان يطيل في أول التفسير؛ يعني في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة كان يطيل في الآيات، وأنه في الأخير لم يعد يطيل، وقد وعد في أماكن بذكر بعض الأحاديث، واختصرها؛ لما أتى على.. أظنه تفسير قوله تعالى: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } [ سورة الأنعام، الآية : 103 ] قال: وسنذكر الأحاديث التي تدل على إثبات الرؤية عند قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ سورة القيامة، الآية : 22 ـ 23 ] ولما جاء عند هذه الآية لم يذكرها؛ اعتذر بأنها قد تكررت.(1/3)
صحيح أنه ذكرها في مواضع لمناسبات؛ فاختصر ذكرها، وقد ذكرها غيره من المحققين والعلماء الذين كتبوا فى ذلك رحمهم الله كابن القيم والحاصل أن تفسيره تفسير منقح منقى سالم من التأويلات، ومن أقوال المعتزلة والمبتدعة، سالم من التكلفات. قد ينقصه كثرة الاستنباط؛ أعني: الاستنباطات التي يذكرها بعض المفسرين؛ كأنه يرى عدم الحاجة إليها، وكذلك أيضا وجوه الدلالات، وكذلك إعجاز الآيات لا يشتغل بها غالبا؛ يذكر أحيانا الحكم التي لأجلها تتكرر بعض القصص وبعض الآيات، ولا يذكر ذلك دائما؛ فنحب أن نقرأ هذه السورة؛ ونقرأ منها ما تيسر، ونبين خلاصة ما يذكره ابن كثير رحمه الله.
تفسير قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }
إلى قوله تعالى : { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيم }
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ *إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيم } [ سورة الحجرات : 1 ـ 3 ] .(1/4)
الخطاب للمؤمنين. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ذكر ابن كثير عند قوله تعالى في سورة البقرة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } [ سورة البقرة، الآية : 104 ] قال ابن مسعود إذا سمعت الله يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ؛ فأصغ لها سمعك ؛ فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه. وهكذا فالخطاب للمؤمنين، ويكون تعليمات؛ أي: تعليمات للأمة؛ خير يأمر به؛ كحكم من الأحكام، أو أمر من الأوامر، أو نهي وشر تنهى عنه. قالوا: علامة السورة المدنية أن يكون فيها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وأما يَا أَيُّهَا النَّاسُ } ؛ فجاءت في سور مدنية وسور مكية؛ منها هذه السورة، جاء فيها: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } [ سورة البقرة، الآية : 21 ] في آخرها. قوله: { لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } .
روى البخاري وغيره أن وفد بني تميم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال أبو بكر أمر الأقرع بن حابس فقال عمر أمر عيينة بن حصن أو كان ذلك بالعكس؛ فقال أبو بكر ما أردت إلا خلافي. فقال عمر ما أردت خلافك؛ فتجادلا؛ فلذلك يقول الراوي: كاد الخيران أن يهلكا؛ يعني في هذه المجادلة؛ فأنزل الله تعالى تأديبا لهم ولغيرهم: { لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه } .
أي لا تتقدموا بهذه الاقتراحات ولا بهذه الآراء الذي تختلفون فيها { بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه } أي: الأمر يكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أنتم فإن عليكم الإشارة إذا استشاركم. كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرهم كثيرا ؛ عملا بقوله تعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } [ سورة آل عمران، الآية : 159 ] ؛ فكانوا إذا استشارهم يشيرون فيقولون: نرى كذا وكذا، فأمروا أن يشيروا عليه بما يرونه، ثم كذلك أمروا بأن لا يتقدموا بين يديه: { لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه } .(1/5)
أي: لا تتقدموا برأي تقترحونه قبل أن يرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم رأيه؛ عليكم أن تسلموا لأمره وألا تخالفوه. هل هذا خاص بحياة النبي صلى الله عليه وسلم ؟
الصحيح أنه ليس خاصا، بل لا يجوز لأحد أن يتقدم برأي أو بأمر في مسألة إذا كان فيها نص، أو دليل من كتاب الله تعالى، أو من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يقول: هذا رأي استحسنته؛ فإننا نرده ونقول: كلام الله مقدم على كلامك، كلام النبي صلى الله عليه وسلم مقدم؛ فلا تتقدم برأيك ولا بإشارتك ولا بنظرك قبل أن تنظر في الدليل؛ الدليل مقدم على قول كل أحد. هذا هو الرأي، وهذا هو النظر: { لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه } .
وكذلك أيضا لا تتقدموا قبل حكم الله تعالى وحكم رسوله ، ولا تقدموا حكمكم ولا اختياركم ولا رأيكم ونظركم قبل أن تعرضوا الأمر على شرع الله تعالى وعلى حكمه وأمره؛ فإذا وجد في الكتاب والسنة رأي ونظر، أو حكم من الأحكام؛ فلا يلتفت إلى ما يخالف ذلك من الأحكام، قضاء الله أحق؛ كما جاء في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قضاء الله أحق، وشرع الله أوثق، والولاء لمن أعتق " .
ثم الآية بعدها؛ ذكروا أن ثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما جاء وفد بني تميم جاءوا معهم بخطيب وبشاعر؛ فخطيبهم خطب خطبته التي أرادها، فجاء ثابت وخطب خطبة بليغة، جاء شاعرهم وأنشد قصيدة له، فجاء شاعر النبي صلى الله عليه وسلم حسان وأنشد قصيدة له؛ فقالوا: شاعرك أبلغ من شاعرنا، وخطيبكم أبلغ من خطيبنا.(1/6)
ثم إن الله تعالى أنزل هذه الآية: { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } فسمع بها ثابت ؛ فظن أنها فيه، وأن عمله قد حبط؛ فبقي في بيته معتزلا يبكي؛ يخشى أن عمله حابط، أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد نزلت هذه الآية { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } وأنا جهوري الصوت، وأخشى أنه حبط عملي وأني من أهل النار. فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أخبروه بأنه من أهل الجنة ".
يقول الراوي: فكنا نراه من أهل الجنة يمشي على الأرض بيننا.
{ لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ } يعني: بمجرد الكلام، لا ترفعوا { فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } أي: لا تجهروا بالكلام الذي فيه شيء من الجفاء أو نحو ذلك؛ كما يجهر بعضكم لبعض، بل غضوا أصواتكم عنده، ولا ترفعوا صوتكم؛ فإن في ذلك شيئًا من الجفاء، وشيئًا من غلظ الطبع؛ فلذلك ذكروا أنهم تأدبوا؛ فكانوا إذا تكلم أحدهم لا يكاد يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حرصا منهم على التأدب، وخوفا من حبوط الأعمال.
{ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } أي: لا تعلمون، ( تحبط ) يعني: تبطل أعمالكم؛ بسبب رفعكم أصواتكم عند النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على عدم الاحترام له، وعدم الإصغاء إلى كلامه.(1/7)
يقول بعد ذلك: { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } يعني يبطل أجرها، ويبطل ثوابها. ولا شك أن المسلم يحرص على الاهتمام ببقاء عمله وبصلاحه وبعدم بطلانه ؛ فلذلك خاف ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه أن يكون قد حبط عمله؛ لأن الله تعالى ذكر حبوط الأعمال في قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ سورة مُحمَّد، الآية : 28 ] وقال تعالى: { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ سورة الأنعام، الآية : 88 ] ؛ مما يدل على أن العمل إذا جاء ما يفسده وحبط؛ بطل العمل كله قليله وكثيره.
قد جاء ما يدل على أن هناك أسبابا تحبط الأعمال؛ كالشرك: { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ سورة الزّمر، الآية : 65 ] كذلك أيضا : ترك بعض الصلوات: جاء في الصحيح: " من ترك صلاة العصر حبط عمله " ظاهره: أن من تركها يعني تركا كليا؛ لم يقضها ولم يهتم بها " حبط عمله " ؛ فجعل رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب إحباط العمل ؛ وما ذاك إلا أنه يدل على عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قد تقول : هل هذا خاص بحياة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ليس خاصا؛ بل ينطبق على ما بعده، كيف يكون ؟ إذا قرئت أحاديثه فلا يجوز رفع الصوت عند قراءتها، ولا الاعتراض عليها، ولا يجوز أيضا الخوض في الكلام الدنيوي، أو الذي لا أهمية له مع وجود من يقرأ الأحاديث أو نحوها.
يعني : على المسلم أن يحترمها؛ يحترم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وليقدر أنه يسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتكلم بذلك؛ ذكروا أن أهل الحديث الذين يروونه ويهتمون به يصدق عليهم أنهم قد صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ يقول بعض الشعراء:(1/8)
أهل الحديث همُ صحب النبي وإن *** لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
ما صحبوا نفسه، ولكن صحبوا أنفاسه؛ هذا الكلام الذي يتكلم به كان مصحوبا بأنفاسه؛ يعني: أنه يتكلم ثم يتنفس مع ذلك الكلام؛ فكأنهم صحبوا أنفاسه يعني: نغماته وكلماته وأنفاسه التي يتنفس بها.
هكذا؛ فعلى هذا إذا كان هناك قارئ يقرأ الحديث؛ فلا يجوز لأحد أن يرفع صوته عند قراءة الأحاديث، بل يغض صوته ويخفضه؛ فلا يجوز له أن يرفعه؛ فيكون قد رفع صوته فوق صوت النبي؛ يعني: فوق حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقول: ما رفعت صوتي فوق صوته، إنما رفعت صوتي فوق صوت هذا القارئ؛ القارئ يقرأ كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنك تسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ تسمعه منه؛ فأنصت لسماعه، واحترمه؛ كما لو كنت تسمعه يتكلم به في حياته؛ فإنك تحترمه وتصغي له وتستمع له، فكذلك بعد موته إذا سمعت من يقرأ حديثه؛ فإنك أيضا تحترمه.
يقول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } .
{ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ } ؛ إذا كانوا عنده فإنهم يغضون أصواتهم عنده، ولا يرفعونها؛ فيكونون بذلك قد شوشوا عليه، واستهانوا بكلامه، ولم يلتفتوا إليه. لا شك أن هذا كله غير صفة المؤمنين.(1/9)
{ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ } يعني: يخفضونها عند رسول الله؛ يعني: في حياته، وعند كلامه بعد موته؛ يكون لهم هذا الأجر. وألحق بعض العلماء رفع الصوت عند قبره، وروي أن عمر رضي الله عنه سمع اثنين في المسجد النبوي وهما يتجادلان فدعاهما وقال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتم من هاهنا لأوجعتكما ضربا، ترفعان أصواتكما عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو عند منبر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فدل أيضا على أن الذين يرفعون أصواتهم عند المنبر أو عند القبر؛ أنهم يدخلون في هذا؛ في الذين يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي.
فالحاصل: أنك إذا سمعت الأحاديث النبوية تقرأ فإياك أن تعترض عليها؛ فتكون من الذين يقدمون بين يدي الله ورسوله، وإذا سمعت الذين يرفعون أصواتهم فوق حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فحذرهم من ذلك، وخوفهم أنها سوف تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون، وإذا رأيت الذين يغضون أصواتهم عنده فبشرهم بأنهم من أهل الخير؛ حيث إنهم احترموا كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
{ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } يعني: امتحنها؛ الامتحان يراد به الاختبار، { امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } أي: لتقوى الله تعالى؛ فلما امتحنها ظهر أنها ممتلئة بالتقوى، ودل على ذلك غضهم أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم الله في هذه الآيات بقوله :
{ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وهذا خير كثير؛ يعني: إذا حصل لهم؛ حصلت لهم المغفرة، وحصل لهم الأجر الكبير. فإن في هذا خيرا كثيرا.(1/10)
المغفرة: ستر الذنوب، وإزالة أثرها، والأجر: الثواب؛ الثواب الذي يحصل عليه المؤمن مقابل عملٍ عمله؛ أي أجر؛ العامل يؤتى أجره؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل رمضان قال: " ويغفر لهم في آخر ليلة. قيل: يا رسول الله؛ أهي ليلة القدر ؟. قال: لا، ولكن العامل إنما يؤتى أجره بعد قضاء عمله " فإذا كان عمل عملا، وانتهى من عمله وفاه الله تعالى أجره دنيا أو أخرى.
الأجر هاهنا وصف بأنه أجر عظيم؛ مما يدل على أنه كثير، والأصل أنه في الآخرة أعلى أجر هو دخوله الجنة، ونجاته من النار. ومن الأجر أيضا أجر دنيوي: الصحة والتوسعة والغنى والأمن وما أشبه ذلك؛ { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } ولا شك أن المغفرة من نتيجتها استحقاق الأجر ؛ من غفر الله تعالى له ذنوبه؛ فإنه يحصل على الأجر، من غفر الله له حصل على أجر عظيم، ولكن مع ذلك الأجر قد يكون بزيادة الأعمال؛ لأنك قد تقول: المغفرة إنما تكون للذنوب؛ فهؤلاء ما هي ذنوبهم التي يغفرها الله لهم ؟ فالجواب؛ أن تقول: إن المغفرة هي رحمة من الله تعالى، وإن المغفرة هي غفره لتقصيرهم ونقصهم، فقد يكون بعضهم عليه نقص وخلل؛ فكانت المغفرة لذلك النقص.
وأما الأجر فهو جزاء الأعمال، ومن جملة أعمالهم احترامهم النبي صلى الله عليه وسلم، فالحاصل أن هذه الآيات ليست خاصة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم. التقديم بين يديه: التقديم بين يدي سنته وشريعته، وغض الصوت عنده ليس خاصا بحياته، بل يدخل فيه غض الصوت عند كلامه؛ إذا سمع يقرأ فيغض الصوت عنده ليكون ذلك دليلا على أن الله امتحن قلب ذلك الذي يغض صوته وأن له مغفرة وله أجر عظيم.
تفسير قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ } إلى قوله تعالى: { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(1/11)
{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ*وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . [ سورة الحجرات : 4 ـ 5 ]
وهذه أيضا في وفد بني تميم، وكان معهم شيء من الجفاء وغلظ الطبع، لما وفدوا؛ ذكرنا أنهم جاءوا يفاخرون النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم من آثار ذلك جاءوا بشاعرهم وجاءوا بخطيبهم؛ فكان ذلك من اعتزازهم بأنفسهم وترفعهم على غيرهم؛ فلذلك ذكروا أنهم وقفوا عند بابه من الخارج، وأخذوا ينادونه ويقولون: يا محمد اخرج إلينا؛ فإن مدحنا زين وذمنا شين. ينادونه وهو في داخل حجرته، ويرفعون صوتهم بذلك، ويستحثون خروجه، ويستعجلونه، ويتكلمون .. فيه شيء من الجفاء؛ فنزلت فيهم هذه الآيات: { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون } .
ينادونه وهو في داخل حجرته، ولم يقتصروا على النداء فقط؛ بل أخذوا يقرعون الباب، وأخذوا أيضا يستحثون يقولون: اخرج إلينا، اخرج إلينا، إن مدحنا زين وذمنا شين. فخرج إليهم وهو يقول: " ذلكم الله، ذاك الله. الله تعالى هو الذي مدحه زين " إذا مدح أحدا؛ فإنه يدل على أنه من أهل السعادة ومن أهل الخير والفلاح " وذمه شين " ؛ أي: ذمه لما يذمه من الخلق يلحقه به شين وقبح وعذاب أليم.
والحاصل : أن الله سبحانه وتعالى أنكر على هؤلاء الذين هم جفاة من جفاة الأعراب، في ذلك الوقت كانوا أعرابا؛ يعني: يرحلون ويتنقلون من مكان لمكان، ومن المعلوم أن جفاء الأعراب متمكن، أن الأعراب فيهم الجفاء المتمكن، وفيهم غلظ الطبع، وفيهم القساوة، ولا سيما إذا كان عندهم شيء من الفخر، ولهم شيء من الاعتزاز، وفي نظرهم أنهم أهل شجاعة وأهل كرم وأهل قوة وأهل منعة، وعندهم جنود وعندهم قوة ونحو ذلك.(1/12)
لما كانوا كذلك افتخروا بهذا الفخر، وصاروا يرفعون أصواتهم بهذه الكلمات. الله تعالى ذكر أن جنس الأعراب معهم جفاء في قوله تعالى: { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } [ سورة التّوبة، الآية : 97 ] يعني: أنهم أحرى بالجهل، أجدر وأحرى وأقرب أن يبقوا على جهلهم؛ وذلك لبعدهم عن العلم، وعن التعلم؛ فهم أحرى بأن يكونوا جفاة، وأحرى بأن يبقوا جهلة؛ لا يعلمون شيئا من حدود الله، ولا يعلمون شيئا من أوامره ونواهيه.
قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ النداء: هو دعاء الإنسان من بعيد أو من قريب، يقول قائلهم -العرب-
دعوت لما نابني مسورا *** فلبى فلبى يدي مسور
دعوته: يعني ناديته، والنداء يسمى أيضا دعاء؛ في قول بعض الشعراء:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت جهرة *** لعل أبي المغوار منك قريب
الدعاء والنداء بمعنى، وكذلك قول الشاعر:
فقلت ادعي وأدعو إن أندى *** لصوت أن ينادي داعيان
فسمى الدعاء نداء، فقوله: يُنَادُونَكَ يعني: يدعونك، يدعونه أيضا باسمه، وذلك دليل على غلظ طبعهم وجفائهم، ما قالوا: يا رسول الله، وقد أمر الله تعالى أن يدعى بصفته التي تميز بها؛ في سورة النور: { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } [ سورة النّور، الآية : 63 ] أي: لا تنادوه باسمه العلم؛ لا تقولوا: يا محمد ؛ بل قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله؛ هكذا أدبهم الله تعالى وعلمهم، ولكن هؤلاء الأعراب لا شك أن معهم هذا الجفاء؛ فلأجل ذلك دعوه باسمه يا محمد .(1/13)
{ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } يعني: نفي العقل هاهنا؛ إما أن يراد نفي العقل كله؛ لا عقول لهم؛ معلوم أن عندهم عقولا، ولكن عقول معيشية { أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } ؛ يدل على أن فيهم من هم عقلاء، ولكن الأكثرية لغير العقلاء أي للذين عقولهم ناقصة.
ثم يقول: { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } يدل على أنهم ما صبروا؛ بل أخذوا يصيحون، ويكررون: يا محمد ؛ اخرج، يا محمد اخرج إلينا؛ يكررون ذلك؛ فدل ذلك على أن عندهم شيئا من الجفاء؛ لأنهم نشئوا في البوادي وفي البراري، وهذه عادة أهل البراري.
وكذلك أيضا كانوا أصحاب مواشي يسيرون خلف مواشيهم إبلهم وبقرهم ونحوها؛ يتبعون آثارها، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الذين يتبعون ذلك معهم غلظ الطبع؛ ثبت عنه أنه قال: " إن الفظاظة وغلظ الطبع في الفدادين أصحاب الإبل، والسكينة في أصحاب الغنم " فأكثر أولئك البوادي رعاة إبل، وصفوا في هذا الحديث بأنهم أهل فظاظة، وأهل غلظ طبع. الفظاظة: كون أحدهم فظا غليظ الطبع، والله تعالى قد نزه نبيه عن ذلك في قوله :
{ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [ سورة آل عمران، الآية : 159 ] ؛ فكذلك هؤلاء كان معهم هذه الصفة؛ فلذلك ما صبروا.(1/14)
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } يعني: لو انتظروا كلمة واحدة. انتظروا { حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } جاء في الحديث أن الذي يستأذن؛ يستأذن ثلاث مرات، ولا يزيد. في الحديث: " إذا استأذن أحدكم ثلاث مرات فلم يؤذن له؛ فلينصرف " فيمكن أن هؤلاء كرروا الاستئذان: يا محمد يا محمد يمكن عشر مرات، أو عشرين مرة، وهم يستأذنونه ويقولون: اخرج إلينا؛ فلذلك ما صبروا. { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ } أي تكلموا بالثالثة أو الرابعة؛ اقتصروا على الثالثة ونحوها: { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } ولكنهم ما صبروا.
يقول: { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وعدهم بالمغفرة مع ما حصل منهم من هذا الجفاء، وذلك دليل على أن الله تعالى تسبق رحمته غضبه ؛ كتب على نفسه : " إن رحمتي غلبت غضبي " { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } بعض العلماء يقول: إن المغفرة والرحمة خاصة بمن استغفر وتاب، أو من كان أَهْلًا، لكن الآية دليل، دلالتها ظاهرة من سياقها على أنه يغفر لهم إذا استغفروا، يتوب عليهم إذا تابوا، يرحمهم إذا استرحموه؛ كما هذا هو واقع الأمة؛ كل من تاب إلى الله تعالى وأناب إليه؛ فإن الله يتوب عليه، ويغفر ذنبه.
لعلنا نقف عند هذه الآية، ونكمل الباقي إن شاء الله في الأيام الآتية.
[ سؤال وجواب ] :
- س: سائل يسأل يا شيخ ويقول: ما رأيك فيمن يذكر عنده حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: لا تذكر هذا فهو قديم، وهل عليه كفارة ؟(1/15)
ج : معنى ذلك : أن أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعمل بها؛ لكونها قد مضى عليها مثلا ألف وأربعمائة سنة في نظرهم؛ فلا تناسب هذا الوقت. إذا كان يعتقد أنه لا يجوز العمل بها لقدمها فذلك كفر، إنكار لشمولها؛ أحاديثه -صلى الله عليه وسلم- وسنته باقية يعمل بها إلى قيام الساعة.
¹
الدَّرْسُ الثَّانِيُّ
تفسير قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا }
إلى قوله تعالى: { فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم }
الطّالب : الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم الله تسليما كثيرا.
حيا هذا في روضة من رياض الجنة؛ روضة ذكر، نسأل الله أحبتي في الله ألا يفرقنا من هذا المكان المبارك إلا بذنب مغفور، وعيب مستور، وتجارة لن تبور.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. وهاهو يتجدد اللقاء بسماحة الوالد، نسأل الله أن يعلي منزلته وأن يجزيه عنا خير الجزاء. اقرأ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ *وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون *فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم } [ سورة الحجرات : 6 ـ 8 ].
السَّلام عليكم ورحمة اللَّهِ وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/16)
قد عرفنا أن هذه السورة من السور المكية، وأنها مشتملة على كثير من الأحكام، ومن الأحكام التي اشتملت: النهي عن التقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ ويدخل في ذلك: التقدم على أقواله؛ من الأحكام: غض الصوت عنده، وكذا غض الصوت عند كلامه. من الأحكام: النهي عن الجفاء والغلظ في ندائه من وراء الحجرات، وأن هذا يدخل فيه أيضا: التقدم بين يدي سنته، وعدم احترامها، ونحو ذلك.
من الأحكام: ما ذكر في هذه الآية؛ وهو التثبت في الأخبار ؛ سيما إذا كان ذلك المخبر ليس موثوقا بل يتهم بالفسوق:
{ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } وفي قراءة: { فتثبتوا } أَنْ تُصِيبُوا أي: مخافة أن تصيبوا، قَوْمًا بِجَهَالَةٍ أي: تتسرعون فتصيبوهم، ولا يكونون مستحقين لتلك الإصابة فتصبحوا نادمين على ما فعلتم.
ذكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط أبوه من الذين قتلوا في بدر أو قتلوا في الطريق بين بدر والمدينة ؛ لأنه كان من المؤذين للنبي صلى الله عليه وسلم.(1/17)
أسلم هو، ثم إنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليجبي الصدقة؛ ليجبي الزكاة من بني المصطلق، وكانوا قد أسلموا، وتزوج منهم النبي صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث المصطلقية؛ فكانوا قد أسلموا، وحسن إسلامهم. فلما أقبل إليهم لأخذ الزكاة فقد استقبلوه؛ قابلوه في الطريق؛ فخيل إليه أنهم يقتلونه؛ لإحن قديمة بينهم في الجاهلية، فرجع هاربا إلى المدينة وقال: منعوا الزكاة، وكادوا يقتلونني، كادوا أن يقتلوني، فصدقوه، وهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم، واجتمع الصحابة، وقالوا: إذا منعوا الزكاة فإنا نغزوهم؛ حتى نقبض منهم، وبينما هو كذلك إذ جاء وفدهم؛ وفد بني المصطلق، وقالوا: يا رسول الله، إننا استقبلنا رسولك، وإنه رجع بعدما قابلنا، فقال: هل منعتم؟. قالوا : ما منعنا وإنما فرحنا بقدومه فعند ذلك نزلت الآية وفيها التثبت، إذا جاءكم إنسان بخبر، وذلك الإنسان ليس بثقة؛ يتهم بالتسرع؛ فعليكم أن تتثبتوا في خبره، وعليكم أن تتأنوا ولا تعجلوا؛ حتى تظهر لكم حالتهم وحالة ما جاءكم به من الخبر، وتعرفوا هل ما جاء به صحيح أم ليس بصحيح.
هذا هو السبب أعني: الأمر بالتثبت، { فَتَبَيَّنُوا } أو { فتثبتوا } فيقال: عن كل من جاء بخبر؛ فإن كان ذلك المخبر موثوقا عدلا ثبتا في خبره قبل خبره، وإن كان معروفا بالتسرع، أو غير ثقة؛ كما ذكر في هذه الآية؛ وصفه بأنه فاسق؛ يعني: خارج عن العدالة؛ فلا تقبلوا خبره، بل تبينوا؛ يتبين لكم الخبر الحقيقي وتعرفوا صحة ما جاء به أو خطأه في ذلك؛ حتى لا تتسرعوا؛ مخافة { أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } يعني: أن تغزوا قوما بموجب ذلك الخبر، وتقتلوهم وتقاتلوهم؛ وهم مسلمون ليسوا من أهل الكفر والفسوق ونحو ذلك.(1/18)
وقد نزل مثل هذه الآية في سورة النساء، كان بعض الصحابة غزاة في سرية، فمر بهم رجل يسوق غنما فسلم عليهم؛ فقالوا: هذا ليس بمسلم ما هذا إلا كافر؛ فتسرعوا وقتلوه؛ مع أنه قد سلم عليهم وأظهر الإسلام، فلما قتلوه أخذوا غنمه؛ فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ سورة النّساء، الآية : 94 ] يعني: سافرتم في سبيل الله، { فَتَبَيَّنُوا } أو { فتثبتوا }
{ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا } [ سورة النّساء، الآية : 94 ] يعني: تكذبونه إذا قال: السلام عليكم؛ بل اقبلوا منه، { لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ سورة النّساء، الآية : 94 ] تريدون أخذ غنيمته، وهي من عرض الحياة الدنيا، { فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } [ سورة النّساء، الآية : 94 ] يغنيكم عن هذه الغنيمة؛ ما قتلتموه إلا رغبة في ماله: { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } [ سورة النّساء، الآية : 94 ] قد كنتم من قبل على الكفر؛ فهداكم الله تعالى. فهذا؛ لعله قد هداه الله، وأنتم تسرعتم، { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا } [ سورة النّساء، الآية : 94 ] أو { فتثبتوا } يعني: لا تعجلوا؛ فدل على أن من جاء بخبر ووقع الشك في خبره؛ فلا يجوز التسرع فيه، ولا يجوز أن يقبل قوله لأول مرة، بل يتثبت في خبره، والمعنى: مخافة { أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } يعني: أن تبطشوا بهم وتقتلوهم عن جهل تظنون صدق ذلك الخبر.
{ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } أي تندمون بعدما يقع الخبر، بعدما يقع قتلهم أو سبيهم، وتعرفون بعد ذلك أنهم لا يستحقون؛ فتندمون بعدما يفوت الأوان { فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } .(1/19)
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ } يعني: من بينكم؛ فلا تعجلوا حتى تشاوروه، ولا تتسرعوا بالأمر قبل أن يأمركم به. وإذا شاوركم فاعرضوا عليه ما تريدون، ولا تعرضوا عليه قبل أن يشاوركم؛ { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } .
كثير منهم يشيرون؛ ويقولون: أرسلنا إلى كذا، أرسلنا إلى غزوة كذا وكذا، أو اقتل هذا، أو احبس هذا، أو اضرب هذا، أو اقطع يده أو نحو ذلك، أو هذا منافق فاقتله، أو هذا قد نافق أو ما أشبه ذلك.
يقترحون أمورا قد يكون فيها شيء من التسرع؛ نظرا إلى حدتهم وشدتهم وغيرتهم على حدود الله تعالى، فيقول: عليكم أن تتثبتوا وألا تعجلوا فإن: { فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ } وهو أعلم منكم. ولو يطيعكم في كثير من الأمور التي تقترحون وتشيرون بها لوقعتم في عنت.
{ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } العنت هو الشدة والمشقة والصعوبات. أي: وقعتم في صعوبات؛ فقد يقتل بريء، وقد يكفر مؤمن، وقد يسلب مسلم، وما أشبه ذلك، ذلك بلا شك من آثار التسرع. { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } العنت؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه لأمته قال الله تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } [ سورة التّوبة، الآية : 128 ] يعني: شاق عليه الشيء الذي يعنتكم، يعني: يكلفكم ويضركم.
فكذلك { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } .(1/20)
هذه ميزة للصحابة، وشهادة لهم بأن الله تعالى حبب إليهم الإيمان؛ ملأ به قلوبهم. الإيمان الصحيح الذي هو الإيمان بالله والإيمان ببقية الأركان؛ وذلك لأنهم رأوا الآيات، وشاهدوا عجائب المخلوقات، ونظروا إلى المعجزات وإلى الآيات البينات؛ فامتلأت قلوبهم بالإيمان، وأحبوا الإيمان وأحبوا الأعمال الصالحة التي هي نتيجة الإيمان؛ فالله تعالى حببه إليهم؛ حتى رغبوا فيه وصاروا مؤمنين. وهذه نعمة كبيرة، وميزة للصحابة الذين حبب الله إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم.
يدخل في الإيمان: الأعمال الصالحة، يعني: حبب إليكم الصلوات والصدقات والأذكار والأدعية، والأمر بالمعروف والجهاد في سبيل الله، والتفكر في آيات الله تعالى، والإحسان إلى عباد الله، والنصيحة للمؤمنين. حبب إليكم آثار الإيمان، وزينه في قلوبكم؛ حتى امتلأت قلوبكم بذكر الله تعالى وبالإيمان به.
{ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ } أي: بغض إليكم الكفر بأنواعه: الكفر العملي والكفر الاعتقادي؛ فكرهتموه. وذلك لأن القلب إذا امتلأ بالإيمان انطلقت الجوارح بالأعمال الصالحة، إذا امتلأ القلب بالإيمان؛ نفر القلب عن الكفر، أبغض الكفر وأبغض أهله وابتعد عنه وعن أسبابه؛ فيبغض سب الدين، ويبغض الشرك بأنواعه، ويكره المعاصي والمحرمات؛ بغض { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } .
قد يقال: إنه لا فرق كثير بين الفسوق والعصيان، ولكن من باب تنويع العبارات، قد عرفنا أن الكفر هو الجحد والإنكار؛ إنكار وحدانية الله، وإنكار استحقاقه للعبادة، وإنكار فرائضه التي فرضها.(1/21)
الفسوق: الأصل فيه الخروج؛ يقولون: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، وكل شيء خرج عن طبعه فإنه فسوق. ويسمى العصاة: فاسقين، والمعاصي: فسوقا. فذكر الله تعالى أنواعًا من المعاصي وسماها فسوقا؛ من ذلك قوله تعالى: { وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } [ سورة البقرة، الآية : 282 ]. جعل هذه المضارة فسوقا. ومنها: ما يأتينا في هذه السورة؛ قوله تعالى: { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } ؛ ذلكم فسق. { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } فسماه فسوقا. يعني: التنابز { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ } .
ومنها: استحلال بعض المحرمات في قوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } [ سورة المائدة، الآية : 3 ] إلى قوله: { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } [ سورة المائدة، الآية : 3 ] بعد قوله: { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ } [ سورة المائدة، الآية : 3 ] فجعل الاستقسام وما أشبهه؛ جعله فسقا.
ومنها: الذبح لغير الله؛ قال تعالى :
{ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [ سورة الأنعام، الآية : 145 ] .
فجعل الذبح لغير الله فسقا مع أنه شرك، وفي الحديث: " لعن الله من ذبح لغير الله ".
وأنواع الفسوق كثيرة، وقد يصل إلى الكفر؛ قال تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا } [ سورة السّجدة، الآية : 20 ] فجعل الله تعالى هذا العمل كفرا بعد قوله: { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } [ سورة السّجدة، الآية : 18 ].(1/22)
فهذا من أنواع الفسوق؛ فالله تعالى كره إلى الصحابة الفسوق؛ بحيث إنهم مقتوه وإنهم أبغضوا الفسوق. وكذلك العصيان أي جميع المعاصي. وهذا من علامات الخير. كون الإنسان يكره المعاصي وينفر منها طبعه ويبغضها، ويبغض أهلها؛ فإن هذا من أسباب محبة الخير.
إذا أبغض الشر أحب الخير؛ فيقول الله تعالى: { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } يعني: جعلها ثقيلة في نفوسكم تكرهونها وتبغضونها، وتبغضون أهلها، ومن المعلوم أنك إذا أحببت المعاصي كرهت الطاعة، وإذا أبغضت المعاصي أحببت الطاعة. فأما أن تكون محبا لهما؛ فلا. لا يمكن أن الإنسان يحب الطاعة والمعصية جميعا؛ بل لا بد أن يحب إحداهما أكثر من الأخرى؛ فهذا دليل على ما فضل الله تعالى به الصحابة من هذه الميزة، ثم نقول ليس هذا خاصا بالصحابة بل غيرهم. من كان كذلك فإنه منهم؛ ولهذا يستحب لك أن تدعو؛ أن تدعو بهذه الآية؛ فتقول: اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين؛ حتى تحصل لك هذه الميزة، تحب الإيمان ويمتلأ به قلبك والأعمال الصالحة، وتنفر من الكفر وتبغضه وتبغض أهله، وتنفر أيضا من الفسوق، وتمقت العصاة والفسقة وتبغضهم وتبتعد عنهم.
روي عن بعض السلف كذي النون المصري ؛ أنه قيل: له متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يبغضه أمر عندك من الصبر. يعني: إذا كانت المعاصي كريهة عندك؛ كل المعاصي؛ ولو كانت تهواها النفس؛ ولو كانت تميل إليها وتحبها؛ فإن علامة المؤمن أن يكره المعاصي، أن يكون الله كره إليه الفسوق والمعاصي؛ بحيث إنها تنفر منها نفسه. النفوس بطبعها تميل إلى بعض مشتهياتها؛ فتميل النفس ضعيفة الإيمان إلى محبة سماع الغناء والتلذذ من حبه، وإلى محبة شرب الخمر والتلذذ بطعمه، وإلى محبة الزنا والتلذذ به وما أشبه ذلك. ولكن إذا علم المؤمن بأن الله حرمه؛ فإنه ينفر منه، ويبتعد عنه، ويكرهه كراهة شديدة.(1/23)
هكذا يكون المؤمن؛ إذا كان ما يبغضه أمر عندك من الصبر. ذكر أن ابن عمر مرة كان في سفر، فمر براعي غنم ومعه زمارة يزمر بها لغنمه؛ فسد أذنيه؛ حتى لا يسمع صوت الزمارة، وما زال يمشي إلى أن ابتعد، فقال لنافع هل تسمع صوتها؟ قال: لا. فعند ذلك فتح أذنيه. هناك من يتلذذ بصوتها؛ صوت المزامير ونحوها، ولكن المؤمن حقا يتأفف منها، وينفر منها، ولا يحبها. لا شك أن هذا دليل على أن الله إذا حبب إلى الإنسان الإيمان؛ كره إليه الكفر والفسوق والمعاصي.
{ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } الرشد: ضد الغي، الإنسان إما راشدا وإما غاويا؛ يقول الله تعالى: { قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [ سورة البقرة، الآية : 256 ] فجعلهما متقابلين، وذكر أن هناك من يؤثر الغي؛ يقول الله تعالى: { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } [ سورة الأعراف، الآية : 146 ] فأهل الرشد: هم أهل الرشاد المسترشدون، الذين أرشدهم الله يعني: دلهم وهداهم، وأهل الغي هم المنحرفون ...
فالله تعالى جعل هؤلاء من الراشدين؛ فكل من آمن بالله إيمانا كاملا، وأحب الإيمان وامتلأ به قلبه، وكره الكفر والفسوق والمعاصي؛ فإنه حري أن يوصف بالرشد؛ أن يكون من الراشدين.
ثم قال: { فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم } ؛ دل على أن هذا فضل الله؛ أنه تفضل على عباده، ولما تفضل عليهم كان من آثار هذا الفضل أنه: حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم.
الفضل والتفضل: هو المن على من يشاء، تفضل عليكم يعني: من عليكم؛ من عليكم بأن:(1/24)
{ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ } وفضلكم بأن زينه في قلوبكم، وفضلكم بأن كره إليكم الكفر والفسوق والمعاصي؛ العصيان؛ فمن كان كذلك فإنه من الراشدين، ومن نقص من ذلك فإنه من الغاوين؛ لم يتصف بمحبة الإيمان ولا ببغض الكفر؛ يخاف عليه أنه من جملة الغاوين؛ الغاوي هو ضد الراشد. ومن كان غاويا فإنه تهوي به غوايته إلى الضلال.
{ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ } تعالى، { وَنِعْمَةً } منه. { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وفي هذه الآية أو هذه الآيات من الفوائد: التثبت في الأخبار، وأن الإنسان لا يتسرع إذا سمع خبرا؛ فكل ما سمعت من الأخبار لا تنقله، ولا تقول: سمعت كذا وكذا؛ فقد يكون بعض الأخبار غير صحيح، قد يتكلم البعض في بعض المجالس عن طريق الظن؛ فيقول: حدث كذا ووقع كذا، وهو يظن ظنا؛ و " الظن أكذب الحديث ".
وفيها بيان أن العدل يقبل قوله ولو كان واحدا يحتج بها على قبول خبر الواحد أو خبر الآحاد؛ خلافا لبعض المعتزلة والإباضية ونحوهم؛ فإنهم يردون خبر الواحد. يردون الأحاديث التي في الصحيح، ويقولون: إنها أخبار آحاد، ولا نقبلها، ويتسلطون على الأحاديث التي في الصفات؛ فيردونها، ويقولون -ولو كانت في الصحيح- إنها أخبار آحاد؛ فلا نقبلها؛ مع أن الأمة تلقتها بالقبول. في هذه الآية: قبول خبر الواحد إذا كان عدلا.
وفيها أن التسرع قد يؤدي إلى الندم { أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } وفيها: أن الصحابة عليهم أن يرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كان بين أظهرهم، وأن عليهم ألا يتسرعوا بالقول قبله، وألا يأمروه بأمر لم يكن ثبتا، وأنهم قد يقعون في العنت إذا أطاعهم في شيء من هذه الأمور التي يقترحونها.(1/25)
ثم فيها أيضا: فضيلة الصحابة. زكاهم الله؛ حيث ذكر أنه حبب إليهم الإيمان، وهذه ميزة عظيمة. وفيها بيان أن الإيمان ما تمتلئ به القلوب { وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } يعني: امتلأت به؛ وهو دليل على أن أهل الإيمان يتفاوتون ؛ أي: يكون بعضهم أقوى إيمانا من بعض؛ فخلافا للمرجئة الذين يقولون: إن الإيمان واحد، والناس كلهم مستوون. فالإيمان أهله في أصله سواء، لا فرق بين إيمان جبريل والملائكة، وبين إيمان أفسق الناس؛ وهذا من الخطأ؛ فالله تعالى ذكر أنه زين الإيمان في قلوبهم يعني: رسخه حتى صار قويا راسخا.
وفيها أيضا: أن المعاصي تتفاوت حيث بدأ بالكفر وهو أكبر المعاصي، ثم بالفسوق لأنه قد يطلق على الكفر، ثم بالعصيان وهو أخفها. فبدأ بالأصعب الذي هو الكفر { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } .
وفيها: بيان أن هداية المؤمنين بفضل الله ؛ أنه هو الذي تفضل عليهم، ومع ذلك فإن هناك أسبابا للهداية؛ قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ سورة الشّورى، الآية : 52 ] ؛ فجعل للهداية أسبابا؛ فيتبين أن من أتى بالأسباب وفقه الله تعالى، وهناك أيضا أسباب خارجية وهي من غيره؛ يعني: أنك قد تدعوه فتكون دعوتك سببا إن كان الله تعالى هو الذي يقذف الإيمان في قلبه، وقد يستمع إلى قصة، أو يستمع إلى قراءة قارئ، أو يحضر خطبة، أو نحو ذلك مما يكون سببا في هدايته. فلا جرم نقول: إن الفضل من الله تعالى؛ ومع ذلك فإنه جعل له أسبابا، نقرأ الآية بعدها.
تفسير قوله تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } إلى قوله تعالى: { فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }(1/26)
{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ سورة الحجرات : 9 ـ 10 ].
في هذه الآيات أيضا حكم من الأحكام. وهي: العمل إذا وقع القتال بين المسلمين ، وبيان أن هذا القتال لا يخرجهم من الإيمان؛ بل إن وصف الإيمان باق معهم؛ فالله تعالى أمر بالإصلاح بينهم؛ إذا تقاتل طائفتان من المؤمنين، وكذلك لو تقاتل اثنان؛ اثنان من المؤمنين؛ فإنه يجب الإصلاح بينهما، { وَإِنْ طَائِفَتَانِ } يعني: فرقتان أو قبيلتان من المؤمنين { اقْتَتَلُوا } أي: حصل بينهم ما يسبب القتال، أو ما يوجب الاختلاف إلى أن يؤدي ذلك إلى الاقتتال؛ فمهمة بقية المؤمنين السعي في الإصلاح، السعي في الصلح بينهم؛ حتى يزول ذلك الخلاف، وينقطع ذلك القتال.(1/27)
هذا قد لا يقال: إنه خاص بالقتال؛ بل إذا حصل أية خلاف، وخيف أنه يقع منه غير القتال؛ من آثاره كالمقاطعة والتفاجر والتباغض والسباب ونحو ذلك؛ فعلى البقية أن يسعوا في الإصلاح بينهم؛ أن يسعوا في الصلح بين المسلمين؛ حتى تزول تلك العداوة، وتلك المقاطعة؛ مثلا إذا حصل بين طائفتين تهاجر بسبب كلام، أو بسبب تهم أو بسبب أموال. هؤلاء يقولون: هاتوا ما أخذتموه بغير حق، والآخرون يقولون: إنها لنا، وإننا أخذناها بحق؛ فيحصل بينهم البغضاء والتقاتل، أو لا يصلون إلى القتال، ولكن يحصل بينهما الهجران؛ أي: التهاجر والتعادي والتقاطع. وقد يكون أيضا بينهم قرابات ورحم؛ ومع ذلك يتقاطعون وهم أقارب فيكون ذلك من الفتن؛ فالله تعالى أمرنا بأن نسعى في الصلح بينهما: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } هكذا أصلحوا بينهما.
الصلح هو السعي في المؤاخاة ، وإزالة ما بينهما من العداوة، والحرص على تأليف القلوب فيما بينهم، وجمعها، وإزالة العداوة والشحناء والقطيعة.
هذا من أفضل الأعمال، ذكره الله تعالى؛ قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } [ سورة الأنفال، الآية : 1 ] أصلحوا فيما بينكم، إذا رأيتم بعض إخوتكم الذين هم من المؤمنين؛ رأيتموهم قد تقاطعوا فأصلحوا بينهم؛ حتى يتآخوا؛ كذلك قال تعالى: { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } [ سورة النّساء، الآية : 114 ] يعني أو سعيا في الصلح بين الناس؛ فإن ذلك مما يحبه الله تعالى، ومما يرغب فيه، ونحو ذلك من الآيات.(1/28)
أمر الله تعالى في هذه الآيات بالصلح بين المتخاصمين والمتقاتلين، وفي آية أخرى: أمر بالصلح بين الزوجين قال الله تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } [ سورة النّساء، الآية : 35 ] يعني: إذا كان الزوجان يريدان الإصلاح؛ وفق الله تعالى بينهما بواسطة الحكمين؛ كذلك أيضا قال تعالى:
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ من بعلها نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا } [ سورة النّساء، الآية : 128 ] ؛ قرأها بعضهم: { أن يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } الصلح خير، فيسعى في الصلح بينهما -بين الزوجين- إذا كان بينهما شيء ممن العداوة حتى تثبت حالتهما، وحتى يصلح ما بينهما. الصلح خير. فهذا دليل على أن الشرع جاء بالسعي في الصلح.
وجاء في الحديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا " ؛ كأنه يحث على الإصلاح بين المسلمين، وجاء في حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في شيئا مما يقال إنه كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها ".
هكذا أخبر بأن الصلح يكون بين المسلمين، وأنهم إذا سعوا في الصلح؛ في الحرب مثلا ولو كان ذلك فيه شيء من الكذب، أو كذلك سعوا في الصلح بين المسلمين يجوز الكذب يجوز للذي يسعى في الصلح أن يقول شيئا يقرب به بينه وبين الآخر؛ فيأتي إلى هؤلاء ويقول لهم: آمركم بالصلح؛ فإن خصومكم قد تنازلوا، وقد أحبوا منكم أن تتنازلوا عن بعض الشيء؛ مع أنهم ما تنازلوا، ثم إذا التزموا وقالوا: نعم، نحن نتنازل عن بعض حقنا، جاء إلى الآخرين ورغبهم وقال: تنازلوا كما تنازل هؤلاء فهذه إقراراتهم قد تنازلوا؛ حتى تصلح القلوب، وحتى تجتمع الأفئدة.(1/29)
فكذلك إذا حصل بينهم قتال أو خيف أن يحصل الفساد؛ فإن أهل البلد أو بقية القبيلة أو بقية المسلمين أو القضاة أو الأمراء ونحوهم يصلحون؛ يصلحون بينهم؛ يسعون في الإصلاح
{ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } .
{ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } ؛ إذا قدر أن إحداهما امتنعت من الصلح، قالت: لا نقبل، ولا بد أننا نقاتلهم ونشن الحرب عليهم؛ فإنهم أخافونا وإنهم اعتدوا علينا وبخسونا حقنا وظلمونا وعيرونا بكذا، وأعابونا بكذا وكذا؛ فلا نرضى بل لا بد أننا نقاتلهم، أو نستمر في التهاجر بيننا وبينهم، أو ما أشبه ذلك.
قوله: { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } البغي هو التعدي، البغي هو العدوان، البغي هو مجاوزة الحد ؛ وهو مما حرمه الله؛ قال الله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } [ سورة الأعراف، الآية : 33 ] يعني: البغي الذي هو الاعتداء بغير الحق؛ فهؤلاء هم الذين يقاتلون؛ يقاتلهم بقية المؤمنين.
كيف يكون القتال ؟ إذا احتيج إلى القتال الأكبر الذي هو القتال بالسيف، قوتلوا إلى أن يرجعوا إلى أمر الله، وإن استولي عليهم عذبوا بغير القتل؛ فيجلدون مثلا ويسجنون، وينكلون ويؤخذ من أموالهم تنكيلا وما أشبه ذلك؛ فيكون هذا هو قتالهم؛ حتى يرجعوا { حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } يعني حتى ترجع هذه الطائفة الممتنعة { فَإِنْ فَاءَتْ } ورجعت فعند ذلك أصلحوا بينهما { فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } ؛ لا تميلوا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } [ سورة النّساء، الآية : 58 ] .(1/30)
العدل هو المساواة بينهما، وعدم الميل والحيف؛ فإذا كانت إحدى الطائفتين أقرب لكم نسبا؛ فلا تميلوا إليها؛ اعدلوا؛ يقول الله تعالى: { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ } [ سورة المائدة، الآية : 2 ] يعني: لا يحملنكم
{ شَنَآنُ قَوْمٍ } [ سورة المائدة، الآية : 2 ] يعني: بغضهم. أي: لا يحملنكم بغض قوم؛
{ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ سورة المائدة، الآية : 8 ] ويقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ } [ سورة النّساء، الآية : 135 ] يعني: أدوا الشهادة لله، { وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } [ سورة النّساء، الآية : 135 ] يعني ولو كانت الشهادة يعود ضررها على أنفسكم، أو على ذوي أقاربكم؛ فهكذا إذا سعوا في الصلح؛ فإنهم يصلحون بينهما بالعدل ولا يجورون في الحكم، ولا يظلمون هؤلاء لمصلحة خاصة.
{ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا } والقسط أيضا: هو المساواة؛ يقول الله تعالى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } ؛ في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: { ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ سورة المائدة، الآية : 93 ] فالمحسنون والمقسطون والعادلون يحبهم الله تعالى.
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } ولو تقاتلوا فلا يخرجهم تقاتلهم عن كونهم مؤمنين؛ فهم إخوة لكم جميعا؛ يعني الأخوة هاهنا الأخوة الإيمانية؛ يعني إنما المؤمنون جميعا إخوة لكم في الإيمان.(1/31)
{ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } جعل هؤلاء إخوانكم، وهؤلاء إخوانكم؛ مع أنهم يتقاتلون فيما بينهم؛ فلم تخرجهم هذه المقاتلة عن كونهم إخوة؛ فهم إخوتكم يعني هؤلاء وهؤلاء، وكذلك بعضهم إخوة بعض، نقول لهؤلاء: ارجعوا إلى إخوانكم واصطلحوا معهم، ونقول لهؤلاء: راجعوا أنفسكم واصطلحوا مع إخوانكم؛ فأنتم جميعا إخوة في الإيمان؛ وأخوة الإيمان أقوى قد تكون أقوى من أخوة الولادة، أقوى من أخوة النسب ونحوه؛ وذلك لأن الإيمان لا تزول الأخوة معه حتى يزول سببه وهو الإيمان؛ فما داموا مؤمنين فإن الوصف يجمعهم، كونهم إخوانا في دين الله تعالى؛ أكد ذلك قول الله تعالى: { فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } وقوله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن أخو المؤمن " وقوله: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " وقوله: " كونوا عباد الله إخوانا " فكل ذلك دليل على أننا نسعى في الصلح بين إخواننا؛ فنستفيد من هذه الآيات: أنه إذا تقاتلوا فإنهم يصدق عليهم أنهم مؤمنون: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أنهم جميعا باقون على الإيمان.
ونستفيد: أن قتال المؤمنين بينهم حرام ؛ وذلك لأنه يفت في عضد المؤمنين، والواجب أنهم يجتمعون، ويجعلون قوتهم لأعدائهم.
ونستفيد: أنهم إذا تقاتلوا؛ فلا يجوز تركهم، بل نسعى في الصلح بينهم؛ حتى تزول تلك العداوة.
ونستفيد: أن الصلح قد يكون بالرأي، ولو كان فيه شيء من الكذب ونحوه.
ونستفيد: أن من عتا وتجبر واعتدى وبغى بغيا ظاهرا أنه يقاتل؛ يقاتله بقية المسلمين إلى أن يرجع.
ونستفيد: أنهم إذا رجعوا حرصنا على تثبيت الأخوة بينهم.
ونستفيد: وجوب العدل بينهم، وأنا لا نميل في الصلح مع إحدى الطائفتين؛ بل نحكم بينهم بالعدل، ونسوي بينهم، ولا نميل مع هذه دون هذه.
ونستفيد: أن أخوة الإيمان سببها الإيمان { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } .(1/32)
ختم الله تعالى الآية بأمر بتقواه: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } يعني يعم ذلك التقوى في طاعته من حيث العموم، وتقوى الله تعالى في إخواننا المؤمنين؛ بل علينا أن نؤلف بينهم؛ فنتقي الله في تركهم على هذه العداوات والمقاطعات.
ونستفيد: أن هذا يكون سببا للرحمة؛ السعي في الصلح يكون سببا في رحمة الله تعالى لمن سعى في الصلح بين المسلمين.
نكتفي بهذا والله أعلم.
¹
الدَّرْسُ الثَّالِثُ
الطّالب :
( الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على سيدنا محمّد ) وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراّشدين.
أيها الأحبة، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وهاهو يتجدد اللقاء ونحن وإياكم نرتشف من معين الفوائد الجامعة التي سقي روضها سماحة والدنا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن جبرين نسأل الله أن يعلي منزلته، وأن يجزيه عنا خير الجزاء.
تفسير قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ } إلى قوله تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ }
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ }(1/33)
[ سورة الحجرات : 11 ـ 12 ].
السَّلام عليكم ورحمة اللَّهِ وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذه أو هاتان الآيتان من الآيات التي فيها التأديب والتعليم للحقوق التي هي الحقوق الإنسانية التي بين المسلمين؛ حق المسلم على المسلم أن يرسل إليه الخير وأن يدفع عنه الضرر والشر، وأن يكف عنه آذاه ويبذل له نداه، ويحبه ويظهر أسباب الحب ويبتعد عن أسباب البغضاء والعداوة والشحناء؛ وذلك لأن الناس إذا كانوا على دين واحد فلا بد أن يكونوا متفقين فيما بينهم: دينهم واحد، نبيهم واحد، دليلهم واحد، ربهم واحد، وجهتهم واحدة؛ يتوجهون إلى القبلة ويدينون بالإسلام، فإذا كانوا كذلك فلا بد أنهم يتآخون؛ يصيرون إخوة.
في الآية التي تقدمت قبل هاتين الآيتين: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } فإذا كانوا إخوة فإنهم يجب عليهم أن يتحابوا وأن يتآلفوا وأن يتعاونوا وأن يتناصروا وأن يتباذلوا في ذات الله وأن يؤيد بعضهم بعضا، ولا يجوز لهم التقاطع ولا التهاجر ولا التخاذل فيما بينهم، ولا الإضرار من بعضهم لبعض، ومتى كانوا متآخين ومتحابين في ذات الله تعالى فإنهم ولا بد يتناصرون؛ ينصر بعضهم بعضا، يؤيد بعضهم بعضا، يقوي بعضهم بعضا، ويكونون بذلك أمة واحدة؛ كما أمرهم الله : { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [ سورة المؤمنون، الآية : 52 ] فهكذا أخبر بأن أمتهم أمة واحدة، ومتى تعاونوا وتناصروا واجتمعت كلمتهم فإنه يهابهم عدوهم، ويخاف منهم، يكون لهم وقع في نفوس الأعداء؛ فلا يقدم على الكيد لهم، ولا يقدم على البطش بهم، ولا غير ذلك.(1/34)
وأما إذا تفرقت كلمتهم واستبد كل منهم برأيه، وعاب كل منهم الآخر، وتخاذلوا فيما بينهم فإنه ولا بد تضعف معنويتهم؛ تضعف كلمتهم ويضعف احترامهم، ويقل قدرهم عند غيرهم؛ فيتهاون بهم الأعداء، ويكيدون لهم، وينتقمون منهم ويقاتلونهم، وهكذا .
كان المؤمنون في العهد النبوي وفي عهد الخلفاء الراشدين ثبتت بينهم الأخوة والمودة والمحبة، ذكرهم الله تعالى بذلك؛ قال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } [ سورة آل عمران، الآية : 103 ] هكذا ذكرهم الله { كُنْتُمْ أَعْدَاءً } [ سورة آل عمران، الآية : 103 ] أي: في أول، أي في الجاهلية؛ { فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } [ سورة آل عمران، الآية : 103 ] ألف الله تعالى بينكم، وأزال ما كان بينكم من العداوة، وتآلفت القلوب، وتقاربت الأفئدة، وزالت الإحن والعداوات والشحناء، ألف الله تعالى بينهم بسبب الإيمان الذي وقر في قلوبهم؛ فعرف كل منهم حقه وعرف حق أخيه، واقتنع كل منهم بما له، ولم يتقدم أحد منهم على أخيه بشيء ولم يظلمه، بل إذا شك في شيء فإنه يتخلى عنه، وبذلك لم يكن بينهم عداوات، ولم يكن هناك خصومات حتى إنه لا يترافع اثنان إلا عند اختلاف يسير؛ لما كان أي في عهد أبي بكر جعل عمر كقاض على الناس، ولما جعله قاضيا كان يمر عليه الشهر والشهران لا يترافع إليه أحد للقضاء بينهم في مسألة خلافية، كل منهم يقنع بحقه أو يتنازل عن حقه لأخيه، وربما يتنازل هذا وهذا أو يقتسمان الشيء الذي يختلفان فيه؛ هذا بسبب قوة الأخوة التي أكدها الله تعالى بين المسلمين، ثم إن الله تعالى أدبهم بهذه الآداب الدينية في هذه الآيتين؛ ذكر الله تعالى فيها جملا مما نهاكم عنه:(1/35)
الجملة الأولى: النهي عن السخرية ؛ قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } .
السخرية: هي الاستهزاء الذي يقصد به التنقص، وقد ذكر الله تعالى أن هذه السخرية من علامات الكفر ، ومن أعمال الكفار بالمؤمنين: أنهم يهزءون بهم ويستضعفون عقولهم؛ يقول الله تعالى في سورة البقرة: { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا }
[ سورة البقرة، الآية : 212 ] الذين كفروا يسخرون من الذين آمنوا، هذا أي: في الزمان القديم.
وقد ازداد الأمر شدة فإنهم لا يزالون يسخرون من أهل الإسلام، ويدعون أنهم جهلة وضعفاء العقول، وأن الإسلام هو الذي كبتهم، وهو الذي أضعف معنويتهم وأضعف قوتهم، يسخرون من الذين آمنوا، قال تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ سورة البقرة، الآية : 212 ] يعني: أنهم يسخرون منهم في الدنيا، ولكن للمتقين منزلة رفيعة عند الله تعالى فلا يضرهم أن هؤلاء يسخرون منهم.
الآية الثانية في سورة التوبة قال الله تعالى: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ سورة التّوبة، الآية : 79 ].(1/36)
ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة؛ فجاء رجل بصاع، بصاع من طعام فسخر منه بعضهم، فقالوا: الله غني عن صاع فلان، وجاء رجل بمال كثير، فقالوا: هذا يرائي؛ ما تصدق بهذا إلا رياء؛ فأنزل الله أن هذا من السخرية التي تحبط الأعمال: { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } أي: سخروا من هذا، وقالوا: مرائي، وسخروا من هذا وقالوا: إن الله غني عن صاعه وما علموا أن هذا جهد المقل، أن هذا هو قدرته التي قدر عليها فتصدق مما أعطاه الله؛ قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على الصدقة ويرغب فيها ولو كانت قليلة، فيقول:
" تصدق رجل من صاع بره، من ديناره، من صاع تمره " حتى قال: " ولو بشق تمرة " فكيف تسخرون من هذا الذي تعب في يومه يكدح ويعمل حتى حصل على صاع فجاء به متبرعا؟! فهذا من سخرية المنافقين ونحوهم { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } [ سورة التّوبة، الآية : 79 ] سخر الله من هؤلاء أي: هم أولى بأن يكونوا محل السخرية.
كذلك الموضع الثالث: في سورة قد أفلح المؤمنون؛ قال الله تعالى يخاطب أهل النار:
{ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ *إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ *فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ } [ سورة المؤمنون، الآية : 108 ـ 110 ].
فهذا من جملة السخرية: أنهم يضحكون منهم، ويهزءون بهم، ويقولون: هؤلاء ضعفاء العقول، هؤلاء المتأخرون، هؤلاء الرجعيون، هؤلاء الذين لا خير فيهم ولا تأثير فيهم لمجتمعهم؛ وجودهم كالعدم، لو لم يوجدوا لكان خيرا، لماذا يعيبونهم ؟!! يعيبون من هم أولى بالمدح والثناء عليهم !! وهكذا هم ورثتهم بكل ما هو من شعائر الدين، ويمدحون بما هو من المخالفات، وما هو من علامات الشقاء والحرمان والعياذ بالله.(1/37)
السخرية: تعم السخرية بالحالات التي يتصف بها أهل الخير، وتعم أيضا ما جاءت سخريتهم بخصائص الشريعة ونحو ذلك؛ فمن ذلك:
سخريتهم بأهل اللحى، الذين يوفرون لحاهم، فتجد أولئك المخالفين لهم يعيبونهم ويسخرون منهم، فيعيبون السنة النبوية، ويقدحون فيهم، ويعيبونهم بهذا. إذا رأوا الملتحي عابوه بذلك ويشبهونه بتشبيهات بعيدة عن الحق؛ كقول بعضهم: لحيته كأنها ذنب تيس أو كأنه عاض على .. أو كأنها مكنسة بلدية أو نحو ذلك، لا شك أن هذا سخرية بالشريعة: { لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ } هؤلاء الذين تعيبونهم قد يكونون خيرا منكم.
كذلك أيضا يسخرون من صلاتهم فيقولون: انظروا إليه يرفع عجزه ويخفض رأسه ويطأطئ رأسه كأنه غراب أو كأنه طير أو نحو ذلك يسخرون بهذه الصلاة، كذلك أيضا يسخرون بشيء من السنة ويتمدحون بعادات سيئة أو محرمة فيسخر كثير منهم بالسواك، ولا يسخرون بسجائر الدخان يتمدح أحدهم إذا شرب، أولع، سيجارته فيتمدح بأن هذا هو الرقي؛ لأنه يتشبه بأهل الثروة وبأهل الفكر وبأهل كذا وكذا، وإذا رأى من يستاك أو من يحمل السواك يعيبه؛ ويقول: هذا حمل هذا أي هذه الأعواد، ما فائدته؟ ما كذا وكذا ؟!!
نتذكر قبل أكثر من ثلاثين سنة: كان بعض الشباب الذين عندهم شيء من التطرف أخذوا يعيبون أهل اللحى ونحوهم، ويهزءون بهم، وكذلك أيضا يعيبون العادات السيئة، وأنشئوا قصيدة نبطية يعيبون بها الشيوخ وأكابر الأسنان، ويمدحون أنفسهم ويذكرون أفعالهم وأنهم وأنهم..، وهي التي يقولون فيها..، لا أقدر على حفظها، ولكن رد عليهم أحد المشائخ بقصيدة فصيحة يقول في أولها :
خفافيش هذا الوقت كان لها ضرر *** وأوباشها بين الورى شرها ظهر
يعيبون أهل الدين من جهلهم بهم *** كما عابت الكفار من جاء من مضر
يقولون رجعيون لما تمسكوا *** بنص من الوحيين كان له الأثر
وإعفائهم تلك اللحى لجمالها *** وترك سواد حين كان به غرر(1/38)
وحملهم تلك العصي لأنها *** لديهم حماقات ومسواك مطهر
فيا ليت شعري أين يقضى بهم إذا *** مهاوٍ سحيقات بها الشر والضرر؟
كشربهم تلك الخمور سفاهة *** مع الفعلة الشنعا بإتيانهم ذكر
ومكهم التنباك وهو هلاكهم .. ***................................
نسيت الباقي، وبكل حال لما ذكر هذه الأحوال منهم دل على أنهم أولى بالعيب، وأولى بالتنقص، وبكل حال فهذا مما يعيبونهم به؛ يعيبونهم بحمل العصي، ويعيبونهم بالسواك، ويعيبونهم باللحى، وأشباه ذلك يقولون، أو يشبهونهم بهذه التشبيهات؛ هذا من السخرية:
{ لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ } وكذلك أيضا: يؤذونهم بالأفعال التي هم أولى بأن يكونوا هم أهلها، ككونهم يقولون: رجعيون، يقولون رجعيون ويعيبونهم بما تمسكوا به من السنة، لا شك أن ذلك أولى بأن يكونوا هم أولى به؛ فلذلك يقول الله:
{ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ } .
يعني: أن هؤلاء الذين تهزءون بهم هم أولى بأن يكونوا أفضل، وأن يكونوا أقدم، وأن يكونوا خيرا منكم عند الله تعالى وعند عباده؛ فهم يقيمون الصلاة، وهم يؤدون الزكاة، وهم يقرءون القرآن وهم يقرءون العلم، وأنتم وقعتم في هذه المحرمات وعدلتم عن العلم الصحيح، وعدلتم عن الشريعة، وعملتم بالمحرمات، فأنتم أولى بالعيب: { عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ } .(1/39)
{ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ } يعني: ولا يسخر نساء من نساء { عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } يقع هذا أيضا في النساء يدخلون في قوله: ( قوم ) ولكن خصوا؛ لأن هناك عادات يتصف بها بعض النساء وتدعي الحضارة وتدعي التمدن، وإذا رأت غيرها قالت: هذه بدوية، هذه جاهلة، هذه متأخرة، ونحو ذلك. عادات يفعلها النساء في هذه الأزمنة يدعين أنها تقدم؛ فمن ذلك: إذا رأين اللاتي يلبسن اللباس الفضفاض الواسع قالوا: هذه متأخرة أو هذه بدوية أو نحو ذلك، التقدم عندهن هو اللباس الضيق التي تعقده على صدرها، فيتبين الصدر والنحر والثديان، ويتبين الأضلاع، ويتبين مفاصل الظهر والمنكبان ونحوهما، هذا هو الحضارة عندهن، كذلك إذا رأت التي تجدل رأسها قرونا، قالت: هذه متأخرة، هذه بدوية، هذه جاهلة.
التقدم عندهن أن تقص شعرها أو تجعله مدرجات أو نحو ذلك؛ لأنها تقتدي بالذين وفدوا إلينا من الغرب؛ نساء الكفار أو نحوهم. هذا هو التقدم عندهن، وكذلك أيضا ما يعملنه بوجوههن مما يسمى بالمكياج أو بالنمص أو بالوشم أو نحو ذلك، عندهن أن هذا حضارة وأن ترك ذلك تأخر ورجعية وجهل وجهالة. لا شك أن هذا من أفعال الكفار ونحوهم، نقول: إن التقدم الحقيقي هو اتباع السنة، وما كان عليه نساء الصحابة رضي الله عنهن من التستر والاحتشام ونحو ذلك.(1/40)
الجملة الثانية: قوله: { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } أي: لا يلمز بعضكم بعضا اللمز هو العيب، وقد ذمه الله تعالى وذم أهله؛ اقرءوا الآية التي ذكرنا قريبا، وهي قوله تعالى: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } [ سورة التّوبة، الآية : 79 ] يلمزونهم: يعيبونهم، يعيبونهم بأي شيء؟ يعيبونهم بهذا التبرع، ويعيبونهم بهذه الصدقة، والأولى أن يمدحوا بذلك ويثنى عليهم؛ لأنهم تصدقوا بما ينفع الإسلام والمسلمين، كذلك اقرءوا قول الله تعالى: { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } [ سورة القلم، الآية : 11 ].
الهمز: هو العيب أيضا؛ هكذا وصف الله هذا الوليد الذي هو الوليد بن المغيرة نزلت فيه هذه الآيات، وكذلك آيات في سورة المدثر؛ فمن صفاته: أنه { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } كذلك قال تعالى: { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَة } [ سورة الهمزة، الآية : 1 ].
الهمز واللمز هو العيب، والإشارات الخفية التي يقصد بها تنقص أخيه المسلم، يسمى ذلك همزا ولمزا، فيدخل في ذلك عيبه بالأقوال وعيبه بالأفعال، فمن ...... مثلا:
أن يقلد مشيته على وجه التنقص بأن يمشي يقول: هذه مشية فلان كذا وكذا، ومن ذلك: أن إذا ذكره، ذكره بصفة قبيحة أو إذا رآه مثلا أشار إليه إشارة توحي بأنه متنقص له؛ كأن يظهر لسانه أو يشير بعينه، يغمز بعينه غمزا وهمزا ولمزا، هذا أيضا من اللمز: { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } يعني: إخوانكم وتعيبونهم؛ فإن ذلك من التنقص الذي يكون عيبا للمسلم وهو ليس بعيب، فإذا كانت فيه خصال منتقدة فإنك ترشده، وتقول: رأيت فيك خصلة كذا وكذا، فأما أن تذكره في حالة غيبته وتقصد بذلك التنقص، والعيب له؛ حتى يحمل الحاضرون عليه حملة شديدة، لا شك أن هذا من اللمز: { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } .(1/41)
الجملة الثالثة: قوله تعالى: { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } اللقب: هو الاسم الذي يشعر بذم أو بمدح، يذكر تارة للتعريف وتارة للتنقص، وإذا كان للتنقص وكان ذلك المسمى به يكرهه؛ فلا يجوز أن يذكر به، ينادى الإنسان باسمه أو بكنيته ولا ينادى بلقبه؛ يقول بعض الشعراء:
أكنيه حين أناديه لأكرمه *** ولا ألقبه فالسوءة اللقب
يعني: أن اللقب يعتبر سوءة ؛ وذلك لأنه غالبا يكون عيبا له، فيذكر باسم زائد عن اسمه الأصل، لكن إذا لم يكن فيه عيب وكان يوافق عليه ويرضى به فلا مانع، لا مانع من ذكره من باب العلم، لا من باب التنقص.
اشتهر كثيرون من رواة الأحاديث ببعض الألقاب منهم: أحد مشائخ البخاري ومسلم محمد بن الفضل السدوسي لقبه عارم فيذكرونه حتى يعرف به، ومنهم: محمد بن جعفر تلميذ شعبة لقبه غندر يذكر به حتى يميز، وتلميذه محمد بن بشار العبدي لقبه بندار يذكر به أحيانا .
أما مسلم رحمه الله فإنه يختار الأسماء فتجدونه يقول: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر ولا يقول: بندار ولا يقول: غندر وكأنه يخشى الوقوع في هذا التنابز: { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } ولو كان ذلك لا يعاب به، ولو كان قد يذكر به؛ لأجل أن يعرف.(1/42)
كذلك أيضا من الألقاب: سليمان بن مهران يلقب بالأعمش يذكر به؛ لأجل أن يتميز يوجد في كتب الحديث فيقال: عن الأعمش حدثنا الأعمش وإن كان ذلك لقبا ولكن اشتهر به وليس فيه عيب له وقد يكون صفة له، والعمش: هو ضعف في البصر، الأعمش هو الذي يكون بصره ضعيفا هذه صفة، وقد يكون اللقب مدحا مثل: زين العابدين وهو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب هذا لقب فيه مدح أنه من العابدين، وأنه زين لهم، زين العابدين ولأولاده ألقاب أيضا فمنهم: الصادق ومنهم: الباقر ومنهم الراضي أو الرضا ونحوهم، هذه ألقاب يستعملها الرافضة؛ لأنهم يغلون فيهم، ويدعون أنهم أئمتهم فيذكرونهم بهذه الألقاب، وبكل حال فإذا كان اللقب فيه ما يسيء إلى صاحبه فلا يجوز ذكره، بل يذكر بالاسم الذي سمي به إلا إذا كان لقبا حسنا؛ كأسماء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يقول: " لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا المقفي وأنا العاقب " الذي ليس بعده نبي ، فهذه صفات يمدح بها. فأما إذا كان اللقب فيه شيء من التنقص، فإنه سوأة ولا يجوز التنابز به، الله تعالى ذم هذه الفعلة، فقال: { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } .
يعني: هذا الاسم، يعني: التنابز بالألقاب من أسماء الفسقة أو من أعمالهم فبئس الاسم، كونك تلقب أخاك وتدعوه أو تذكره باللقب، هذا من الفسوق. وقد عرفنا أن الفسوق هي المعاصي في قول الله تعالى: { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } فعلى المسلم أن يبتعد عن كل شيء من الفسوق.(1/43)
{ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وعيد شديد؛ كأنه يقول: توبوا من هذه السخرية، وتوبوا من هذا اللمز، وتوبوا من هذا التنابز، فإذا لم يتب أحدكم واستمر على ذلك اعتبر من الظالمين سواء كان ظلما أكبر وهو الكفر، أو ظلما أصغر وهو التعدي على حقوق العباد، وظلم العباد فيما بينهم؛ فإن المظالم فيما بينهم لا بد لها من القصاص؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لتؤدن الحقوق " يعني حقوق العباد من بينهم: " حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء " وقال في حقوق العباد القصاص فيها لا محالة فمن اغتبته أو نبذته أو عبته أو سخرت منه أو لمزته فإنه يأخذ من أعمالك، ولا بد فعلى الإنسان أن يكون بخيلا بأعماله حتى لا يعطيها إلى أعدائه ونحوهم.
الآية الثانية : قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } .
جاء في الحديث: " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " والمراد بالظن: هو التخرص ثم يبني على ذلك الظن وذلك الخرص أشياء ليس لها حقيقة، فيسبب ذلك قطيعة بين المسلمين، ويسبب ذلك عداوة وبغضاء، ولا شك أن هذا من أمر الجاهلية، وأن هذا مما يسبب الفرقة بين المؤمنين.(1/44)
نذكر لذلك بعض الأمثلة؛ فقد تتهم هذا بأنه يبغضك فتبني على هذا وتقول: أظنه يبغضني فتبغضه بدون مبرر، وهذا من الظن السيئ، ما هناك أسباب يقينية تدل على أنه يحقد عليك، كذلك أيضا: قد تتهم فلانا بأنه يتنقص إخوانه ويعيبهم، فتقول: إن فلانا يتنقصكم، وإنه يؤذيكم، وإنه.. وإنه..؛ فتقع بينهم العداوة، ومبناها على ظن ليس بيقين، وكذلك أيضا: قد تظن خبرا، وليس له حقيقة، تظن، تقول: إن فلانا قد كان .. جاهلا وأنت لست عالما بجهله، فتبني على هذا الظن، ويجهلونه إن فلانا يتسرع في الفتاوى وهو ليس من أهلها، وأنت لا تعرفه فتظن ظنا، فيكون ذلك من ظن الجاهلية الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك أيضا: قد تتهمه بأنه يغتاب أحدا، وليس كذلك فتبني على هذا الظن، وهذه التهمة التي لا مبرر لها؛ فتقع في الإثم وتقع في السوء وأنت لم تبن على يقين، أو قد ينقل لك إنسان خبرا ولا يكون صادقا بل يكون من الأعداء، فيقول: إن فلانا يبغضك فتبني على كلامه وليس بصادق، وهذا من الظن الذي هو أكذب الحديث.
قد ينقل لك أن فلانا مثلا: أنه متهم في دينه وهذا ليس بصحيح؛ فتبغضه لأجل ذلك، قد ينقل أن هؤلاء أهل معصية أو أنهم يأكلون المال بغير حق أو أنهم سراق أو أنهم قطاع أو أنهم فجرة وكفرة أو أنهم ظلمة أو نحو ذلك، على أي شيء تبني هذا؟ تبنيه على الظن؛ فتفشي أخبارهم وتقول: لا تتعاملوا مع فلان فإنه غشاش مع أنه قد يكون صادقا، وقد ترتب على هذا الظن وعلى هذه الأخبار السيئة، ترتب على ذلك مفاسد كثيرة وأكاذيب كثيرة نتج عنها كفر وفسق وضلال وظلم لعباد الله الصالحين؛ وقع ذلك حتى في العهد النبوي وفي عهد الأئمة ونحوهم؛ فمثلا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أعداؤه لما كان يخالفهم في العقيدة صاروا ينقلون عنه أشياء ما قالها، فيقولون: إنه كذا وكذا، مع أن مستندهم الظن أو الأخبار الوهمية.(1/45)
كذلك مثلا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما كان له أعداء أخذوا يكذبون عليه، وأخذوا يلصقون به تهما، وصدقها آخرون على طريق الظن، يعني يقولون: نظن أنه كذا وكذا، فصاروا بعد ذلك يلفقون به هذه الأكاذيب؛ تجدونها في كتب الردود التي رد بها أئمة الدعوة على أولئك وناقشوهم، وبينوا كذبهم؛ كقولهم مثلا: إنه يكفر الناس قبل ستمائة سنة يقول: كل الذين قبل ستمائة سنة كفار، وهذا من البهتان؛ معتمده الظن، ويقولون مثلا: إنه إذا جاءه أحد ليبايعه قال: اشهد على نفسك أنك كنت كافرا، واشهد على أبويك أنهما كانا كافرين وماتا على الكفر، هذا صحيح ؟!! ليس بصحيح بل يعذرهم بالجهل ولا يكفر من مات، ويقول: أمرهم إلى الله تعالى.(1/46)
والحاصل أن الظن والتخرص أوقع كثيرين في العداوة والبغضاء ، ففشت بينهم الأحقاد، وساءت المعاملات فيما بينهم، وظهر الحسد وظهرت الشنآن والبغضاء ونحوهم، كل ذلك مبناه على أخبار وهمية ظنوها صادقة وليس لها حقيقة؛ فلذلك قال: { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم } فالآية ليس فيها اجتناب الظن كله؛ لأن هناك ظنا قد يكون صحيحا؛ قيل في قول الله تعالى: { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ سورة البقرة، الآية : 46 ] أن الظن هاهنا ظن يقين، وأما قوله تعالى: { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } [ سورة آل عمران، الآية : 154 ] فإن هذا ظن كاذب؛ ولذلك قال: { إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم } يعني: ليس كل الظن، فإذا قويت التهمة فإنك تبني عليها، ولو كان مبناها على ظن أو ظن غالب، وكذلك إذا احتفت قرائن بالخبر، وكان مبناه ظنا فإنه قد ينقلب إلى يقين، ثم في حديث عتبان بن مالك لما كان عنده النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا رجلا يقال له: مالك بن الدخشن فظن بعضهم أنه منافق، فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ووبخهم على ذلك، وأنكر عليهم، وذلك لأنه ليس مبناه إلا على الظن؛ كأنهم يقولون: إننا نراه يميل إلى المنافقين أو نحو ذلك، فهذا ظن خاطئ.(1/47)
وكذلك قصة حاطب لما كتب إلى أهل مكة يفشي إليهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم واعتذر، أراد أن يقتله عمر وقال: إن الرجل قد نافق، مبنى ذلك على الظن: لما رأى منه هذا الفعل، ولكن قبل النبي صلى الله عليه وسلم منه، ومنع عمر من البناء على ذلك الظن؛ لأنه ظن خاطئ؛ فإذا قويت التهمة رأيت مثلا هذا يجالس الفسقة، ورأيته يبتعد عن مجالسة الصالحين، ورأيته لا يذكر الله إلا قليلا، وإذا ذكر الفسقة أثنى عليهم ونحو ذلك؛ ففي هذه الحال لك أن تبني على هذا الظن، وتقول: إنه لا يحب أهل الخير، ولو كنت لم تطلع على قلبه.
يقول الله تعالى: { وَلَا تَجَسَّسُوا } التجسس والتحسس: هو تتبع الأخبار الخفية والبناء عليها؛ كأن تتبع أخبار فلان وتستمع إلى كلماته الخفية، وقد لا يحب أنك تسمع كلماته؛ تقول: فلان متهم بأنه ثوري؛ فأنا سوف أتجسس عليه وأنظر أحواله وأستمع إلى كلماته، وكذلك أيضا تقول: فلان يتهم بأنه منافق؛ فأنا سوف أتتبعه وأتحسس وأتجسس وآتيه بخفية وأنصت إلى كلامه إذا دخل بيته ونحو ذلك؛ فتجد هذا المتجسس أو هذا الجاسوس يلصق مثلا أذنه بباب صاحب هذا البيت، ويقول: أستمع إليه لعله أن يكون سبابا أو لعله أن يكون محتالا أو لعله أن يكون مبغضا لنا أو للدولة أو نحو ذلك.(1/48)
فهذا التجسس من الأذى ومن البناء على الظن، نحن نبني على الظاهر؛ النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبره الله تعالى عن المنافقين، ومع ذلك ما عاقبهم ولا قتلهم؛ وذلك لأنه ليس على يقين من أن هذا منافق أو هذا منافق، وإنما علمهم عند الله؛ قال الله تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [ سورة التّوبة، الآية : 101 ] فأخبر بأنه لا يعلمهم، ما قال: يا فلان اذهب فتجسس عليهم، ويا فلان اذهب فتجسس عليهم؛ لأن الله تعالى نهانا: { وَلَا تَجَسَّسُوا } أي: لا تتبعوا الأخبار بخفية، إذا رأيتم الكفر ظاهرا فإنكم تعملون به وتعاملون هذا بهذا الخبر بأنه ليس بصادق في الإيمان أو نحو ذلك، وأما إذا أخفى ذلك فإياكم أن تبنوا على ما تظنون.
قوله تعالى: { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } الغيبة حرام. الغيبة هي، فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ".(1/49)
والبهتان: هو الكذب؛ { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ سورة النّور، الآية : 16 ] فهذا معنى الغيبة. إذا كنت مثلا في مجلس وأخذت تذكر فلانا، وتتكلم فيه بكلام لو كان حاضرا لما تكلمت به ولاستحييت، أو لو كان حاضرا وتكلمت به لرد عليك وقال: كذبت أو قال: ظلمتني أو نحو ذلك أو نهاك عن ذلك، فإذا كان الإنسان حاضرا مدحه بعضهم وذكروه بالثناء ونحوه، وإذا غاب أخذوا يذكرون أفعالا له سيئة ويسكتون عن أفعاله الحسنة ونحو ذلك؛ فهذا من الغيبة، وعادة المغتابين أنهم يتتبعون أخباره السيئة فيذكرونه بها ولو كانت واقعية، ويتغافلون عن أفعاله الحسنة؛ عن محاسنه، وعن فضائله وما أشبه ذلك؛ ينطبق عليهم قول الشاعر:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به *** وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
يعني: إذا ذكرت بالحسن وبالمدح؛ فإنهم كأنهم صم لا يذكرون ذلك ولا يفرحون به، وإذا ذكروني أو ذكرني أحد بسوء أصغوا إلى ذلك أو فتحوا آذانهم :
إن يسمعوا سيئا طاروا به فرحا *** وما سمعوا عني من صالح دفنوا
هذه عادة المغتابين أنهم لا يذكرون إلا المساوئ ويسكتون عن المصالح وعن الفضائل وما أشبهها، ويقول أيضا بعض الشعراء :
ينسى من المعروف طودا شامخا *** وليس ينسى ذرة ممن أسا
إذا كانوا يبغضون إنسانا وله فضائل نسوها ولو كانت أمثال الجبال ولو كانت كالطود العظيم :
ينسى من المعروف طودا شامخا *** وليس ينسى ذرة ممن أسا
هذه عادة أهل البغض، وعادة أهل الغيبة والنميمة ونحوهم، وتعرفون أيضا قول الشاعر :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا
فالغيبة: هي محرمة؛ شبهها الله تعالى بهذا التشبيه البليغ في قوله تعالى: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } .(1/50)
بئس المثل، يعني: أنك لو رأيت لحمه ميتا قد أنتن وأكلته كان ذلك أسهل من الغيبة، اغتبته فكأنك أكلت لحمه وهو ميت، والأحاديث في ذم الغيبة كثيرة؛ ذكر ابن كثير منها عددا كثيرا من الأحاديث، ولا يتهاون بأدنى كلمة؛ ففي حديث أن حفصة بنت عمر قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا تعني: أنها قصيرة فكانت هذه غيبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ".
أي: لغيرته، هذه الكلمة السهلة اليسيرة التي يتهاون فيها تعيبها بأنها قصيرة مع أنها ضرتها، وكذلك أيضا ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من إحدى نسائه أن تسمح لحفصة بشيء من نصيبها فقال...
¹
الدَّرْسُ الرَّابِعُ
تفسير قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى }
إلى قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، نحمده سبحانه تعظيما لشانه، وأصلي وأسلم على الحبيب الداعي إلى رضوانه نبينا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- اللهم تسليما كثيرا اللهم اسقنا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبدا، اللهم احشرنا في لوائه.
أحبتي في الله وهذا آخر موعد لدرس التفسير مع فضيلة الشيخ الوالد عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين نسأل الله أن يعلي منزلته وأن يغفر لنا وله، ونحن على أمل بإذن الله عز وجل أن تتكرر هذه الزيارة من الشيخ فنحن على لهف للجلوس معه وسماع الفوائد التي سبر غورها، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم :(1/51)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ* قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم* يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
[ سورة الحجرات : 13 ـ 18 ].
السَّلام عليكم ورحمة اللَّهِ وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الآية الأولى من هذا المقطع من بقية الآداب وما بعدها يتعلق بالاعتقاد أدب الله- تعالى- المؤمنين وعلمهم الأخوة فيما بينهم في قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } وفي تعليمه لهم عدم السخرية وعدم اللمز وعدم التنابز بالألقاب، وعدم العمل بالظن أو بكل الظنون، والنهي عن التجسس والنهي عن الغيبة، بعد ذلك نهاهم عن التفاخر عن الفخر بالآباء والأجداد ونحو ذلك.(1/52)
في ضمن هذه الآية خاطب الله- تعالى- فيها الناس كلهم ما خص الخطاب كما في الآيتين قبلها بالمؤمنين؛ وذلك ليدخل فيها المؤمن والكافر.
فيتبين لكل أحد أنه لا فخر إلا بالتقوى، وأنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بتقوى الله تعالى.
ففي هذه الآية يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى } قيل: إن المراد خلقهم من أصل واحد من آدم وزوجته، أي أن أصلكم كلكم يرجع إلى أصل وأب واحد؛ ولهذا يناديهم يا بني آدم في قوله: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ } [ سورة يسن، الآية : 60 ] وفي قوله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ } [ سورة الأعراف، الآية : 31 ] ،
{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا } [ سورة الأعراف، الآية : 26 ] ، { يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ } [ سورة الأعراف، الآية : 27 ] ؛ ليدخل فيه جميع البشر.(1/53)
{ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى } أي من رجل خلق من تراب وهو آدم { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ سورة النّساء، الآية : 1 ] خلق زوجته منه وإذا كان الأصل واحدا فلا فخر، لا فخر بالحسب ولا بالنسب ولا بغير ذلك، إنما الفخر بالتقوى؛ ولهذا قال: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وردت أحاديث في النهي عن مثل هذا الفخر مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا أو ليكونن أهون على الله من الجُعل " وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد أذهب عنكم عُبية الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي الناس كلهم بنو آدم وآدم من تراب " وقد أخبر- صلى الله عليه وسلم- ببقاء هذا الفخر في أمته في قوله صلى الله عليه وسلم: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالأنواء، والنياحة " فجعل من أمر الجاهلية الفخر بالأحساب وجعل منها الطعن في الأنساب.
لا شك أن ذكر الجاهلية يعد تنفيرا من هذه الخصال.
ومنها: الفخر؛ فالتفاخر بأفعال الآباء والأجداد لا يفيد، لا يفيد الإنسان إنما يفيده فعله وعمله هو؛ ولهذا يوبخ من يفتخر بآبائه يقول بعضهم :
كن ابن من شئت واكتسب أدبا *** يغنيك محموده عن النسب
أي إذا اكتسبت أدبا واكتسبت علما أغناك عن أن تقول أنا ابن فلان أو آبائي فيهم كذا وكذا فلا فخر إلا بالتقوى، ثم لا شك أن الآباء إذا كان لهم شرف فينتسب إليهم ويدعوا لهم وله أن يذكرهم ذكرا حسنا، ولهذا ورد أي في حديث أبي سفيان أول ما سأله هرقل عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال كيف نسبه فيكم ؟
فقال: هو فينا ذو نسب، يعني أنه من أصل شريف وذلك ليكون له رفعة في قومه وإن كان لا ينفعه في الأصل أو في الآخرة إلا فعله.(1/54)
ولما أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- بالدوافع للنكاح قال: " تنكح المرأة لأربع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك " المراد بالحسب شهرة النسب شهرة الآباء والأجداد وأفعالهم ونحو ذلك.
وهذا مما يتفاخر به بعض من يتقدم إلى قوم ليخطب منهم ولكن قد يُفسدها حسبها وشرفها، وكذلك الرجل فعلى هذا يقول الله:
{ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } يعني أن الله- تعالى- جعلهم قبائل قبيلة آل فلان قبيلة تميم وقبيلة أسد وقبيلة خزيمة وقبيلة مضر وقبيلة ربيعة وهكذا لماذا؛ لأجل التعارف لا لأجل التفاخر، أن يُعرف هذا الإنسان فيقال مثلا: هذا من ربيعة، وهذا من مُضر، وهذا من أسد، وهذا من تميم وهذا من غسان.
العرب العاربة والعرب المستعربة هم الذين احتفظوا بأنسابهم فمنهم من يفتخر بنسبه ومنهم من يحفظ نسبه؛ لأجل أن يُعرف ويتميز عن غيره، أما غير العرب فالأكثر أنهم لا يتميزون لا يميزون أنسابهم إنما فقط يمكن الرجل يعرف آباه وجده وجد أبيه، ولا يدري ما بعدهم ولا يتميز قبيلة عن قبيلة إلا القليل.
ومع اختلاط العرب بالترك وبالفرس في صدر الإسلام لما انتقل كثير من العرب وسكنوا في خراسان وفي كثير من البلاد، بلاد فارس وفي الهند وغيرها، ضاعت أنسابهم فاحتاج الرواة إلى أن ينسبوهم إلى البلدان منهم من احتفظ بنسبه ومنهم من نسب إلى بلده كالبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم.
مسلم احتفظ بنسبه أي بأنه من قبيلة قشير، قبيلة عربية. وكثر- أيضا- في رواة الحديث الموالي الذين ليس لهم نسب بالعربية وإنما هم من العتقاء وصاروا- أيضا- ينسبون إلى بلدانهم أو نحو ذلك.(1/55)
وبكل حال فالله- تعالى- ذكر الحكمة من جعلهم شعوبا وقبائل، القبيلة يراد بها الأقربون ويقال لهم العشيرة والفخذ، في العشيرة قال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } [ سورة التّوبة، الآية : 24 ] يعني أقاربكم، وهذا بيان أن الإنسان يحتفظ بعشيرته ويعرفهم ومعرفة عشيرته وأقاربه؛ لأجل صلة الرحم أي لأجل الصلة ولأجل البر بهم لا لأجل الافتخار بهم.
وكذلك القبيلة لأجل الانتساب إليهم وكذلك الشعوب.
الشعوب هم القبائل الكبيرة.
شعوبا يعني قبائل كبيرة مثل ربيعة ومضر وتميم وحنظلة وحنيفة ويربوع.
ذكروا أن قبائل العرب المستعربة هم ذرية إسماعيل الذين أخذوا العربية عن غيرهم ولكنهم أصبحوا عربا.
وأما العرب العاربة فأصلهم في اليمن ثم امتدوا إلى الشام ذكر ابن كثير في تفسير قوله تعالى:
{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } [ سورة سبأ، الآية : 15 ] حديثا فيه أن سبأ رجل ولد له من العرب ولد له عشرة من الولد فتشاءم منهم أربعة، وتيامن منهم ستة، فأما الذين تشاءموا يعني صاروا في الشام فلخم وجزام وعاملة وغسان، وأما الذين تيامنوا فملحج وكندة والأزد والأشعريون وحمير وأنمار.
فاحتفظوا بها؛ لأجل أن يعرفوا { لِتَعَارَفُوا } ثم قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
هذا بيان لما يفتخر به، أي لا تفتخروا بالآباء والأجداد ولكن افتخروا بالتقوى جاء في حديث: " أن قوما قالوا: يا رسول الله أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم. قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا: ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألوني قالوا: نعم، قال فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " يعني أن الخصال التي كانوا في الجاهلية يتمادحون بها تبقى في الإسلام.(1/56)
خيارهم في الإسلام هم خيارهم في الجاهلية بشرط أن يكونوا فقهاء، يعني عالمين بما ينفعهم وعالمين بما يلزمهم من أمر الله تعالى.
فالخصال التي كانوا يتمدحون بها في الجاهلية إذا كانت خصال حميدة فإنها- أيضا- يمدح بها في الإسلام، فيمدح في الجاهلية والإسلام بالكرم والجود ونحوه.
يقول بعضهم:
ويظهر عيب الناس في المرء بخله *** ويستره عنهم جميعا سخاؤه
فالكرم والجود مما يمدح به في الإسلام والجاهلية، كذلك الشجاعة والإقدام يمدح بها في الجاهلية وهكذا في الإسلام، كذلك الأخلاق والآداب، كذلك لين الجانب وحسن الخلق هذه من الخصال التي يتأدب بها، يقول تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } التقوى: هي توقي عذاب الله- تعالى- وتوقي غضبه ومعصيته والبعد عن ذلك.
وفسرت بتفاسير، ذكرها ابن كثير - رحمه الله- في أول سورة البقرة عند قوله: { الم *ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } [ سورة البقرة : 1 ـ 2 ].
ومنها تفسير بعضهم بقوله: التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
وفسرها بعضهم بمثال، يعني مثال حسي، قال: إذا كنت حافيا ومشيت في أرض فيها شوك فكيف تمشي؟
قال: أتوقى ذلك وأنظر مواضع قدمي فلا أضع قدمي إلا في مكان ليس فيه شوك ولا أذى.
فقال: هذا هو التقوى، يعني توقي هذا الأذى ونحوه، نظم ذلك بعضهم بقوله :
خلِّ الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التقى
.. وكن كماشٍ فوق أرض *** الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة *** إن الجبال من الحصى
فهذا بيان حقيقة التقوى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } .
أما الآية والآيات بعدها:(1/57)
ففي حقيقة الإسلام والإيمان ذكر الله- تعالى- عن الأعراب يعني البوادي { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } .
هكذا أخبر الله { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } .
الأعراب- غالبا- أنهم يدخلون في الإسلام من باب الطمع، طمعا في مال أو طمعا في غنيمة أو ما أشبه ذلك؛ ولهذا قال الله تعالى: { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } [ سورة الفتح، الآية : 11 ].
وقال بعد ذلك: { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ }
[ سورة الفتح، الآية : 15 ] ما لهم قصد إلا أن يأخذوا من المغانم.
{ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } .
فدل على أن أكثر قصدهم المغانم ونحوها، ولكن منهم من كان إيمانه قويا كما في قوله تعالى: { وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ } [ سورة التّوبة، الآية : 99 ] فمنهم هؤلاء، ومنهم شبه المنافقين.
{ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ } [ سورة التّوبة، الآية : 98 ] فهؤلاء كأنه وصف أغلبيٌ للأعراب، يعني البوادي أنهم لم يدخل الإيمان في قلوبهم، الإيمان الحقيقي، وإنما أسلموا إسلاما ظاهرا استسلموا، وانقادوا خوفا من القتال، ورغبة في المال؛ ولهذا قال:
{ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا } أي ما آمنتم إيمانا حقيقيا، { وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } .(1/58)
الإسلام هو في الأصل الانقياد والإذعان، يعني أسلمنا ظاهرا. الإسلام في الأصل أن الإنسان يستسلم لمن يرأسه، ويكون على حالته استسلمنا أسلمنا واستسلمنا وانقدنا دون أن يكون هناك رغبة حقيقة في الإسلام، فهكذا قال: { وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } .
يعرف أو ورد حديث في بعض الكتب: مثل المؤمن كمثل الجمل الُأنخ إن قيد انقاد وإن أنيخ ولو على صخرة استناخ ولذلك سمي مسلما بمعنى أنه استسلم، وانقاد لما يطلب منه، وهكذا الذين يسلمون خوفا.
تذكرون قول بعض الصحابة:
دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب *** وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف سلطا في كفه *** له أسلموا واستسلموا وأنابوا
فالاستسلام هو الإذعان والانقياد، يعني فيفسر الإسلام بأنه الانقياد الظاهر، سواء كان قد وقر الإيمان في القلب، أو لم يقر فيه فيكون هو الأعمال الظاهرة، وفي حديث جبريل المشهور أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لما كان فسر الإسلام والإيمان في حديث واحد، فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، بالأركان الخمسة والإيمان بأعمال القلب، فيدل على أنهما إذا جمعا فإن أحدهما وهو الإسلام يكون بالأعمال المشاهدة، والإيمان يكون بأعمال القلب، ومع ذلك فقد فسر النبي- صلى الله عليه وسلم- الإيمان في حديث عبد القيس الذي رواه البخاري عن ابن عباس قال: " آمركم بالإيمان بالله أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم " فجعل ذلك تفسيرا للإيمان.
فلذلك قال كثير من العلماء، ومنهم ابن رجب في شرح الأربعين: إذا ذُكر الإسلام وحده دخلت فيه أعمال القلوب، دخل فيه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده دخلت فيه أعمال الجوارح، وإذا ذكرا جميعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بأعمال القلب.
ويقول بعضهم في ذلك: إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.(1/59)
إذا ذُكر أحدهما دخل فيه الآخر، فيجتمعان أعمال القلب وأعمال البدن، وإذا ذكرا جميعا فإن الإسلام له تفسير والإيمان له تفسير.
ومع ذلك فإنه لا يجوز الجزم لإنسان بأنه مؤمن؛ وذلك لأن الإيمان خفي، في حديث سعد الذي في البخاري يقول: " قسم النبي- صلى الله عليه وسلم- مالا فأعطى رجالا وترك رجلا هو أعجبهم إليه فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا قال: أو مسلم" كرر ذلك سعد ثلاث مرات يزكيه بأنه مؤمن، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:
" أو مسلما "، يعني لا تجزم بأنه مؤمن، ولكن قل مسلم؛ لأنك لا ترى إلا الأعمال الظاهرة، الحديث.
فهذا فيه دليل على أننا نقول: هذا مسلم، ولا نجزم بأنه مؤمن، لكن إذا عرفنا أنه من أولياء الله وأتقيائه نمدحه بما نعرف منه ونقول أمر عقله وقلبه وضميره إلى الله تعالى.
أخبر الله عن هؤلاء بقوله: { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي لم يدخل، ما دخل دخولا حقيقيا فلذلك أنكر عليهم { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } هذا قيل سبب، قيل: إنه يدل على أنهم منافقون لم يكونوا حقا المؤمنين.
لو كانوا كذلك لكان الإيمان قد دخل في قلوبهم؛ وذلك لأن كثير من الأعراب على النفاق لقوله تعالى: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ } [ سورة التّوبة، الآية : 101 ] لم يقل والأعراب كلهم، ومنهم { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ } .
وقيل: إن الأصل أننا نعامل بالظاهر، فنقول: لا تقل إني مؤمن ولكن قل إني مسلم إلا في ضميرك أنت.
وكذلك- أيضا- نحن لا نقول: هؤلاء مؤمنون، بل نقول إنهم مسلمون على ما نعلم، وأمر قلوبهم إلى الله تعالى.(1/60)
ثم قال بعد ذلك: { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } هذا خطاب لهم- أيضا- أي قل لهم: لم تؤمنوا الإيمان الحقيقي، ولم يدخل الإيمان في قلوبكم، ولكن اعترفوا بأنكم مسلمون، ثم قال لهم: إذا أطعتم الله ورسوله فاعلموا أن أعمالكم لا تضيع وأن الله- تعالى- يعطيكم بقدر ما تستحقون من الأعمال.
{ لَا يَلِتْكُمْ } يعني لا ينقص أعمالكم شيئا فلا يحمل عليكم شيئا من السيئات لم تعملوها، ولا يضيع شيء من أعمالكم الحسنة إلا إذا أبطلتموها، أبطلتموها بما يحبطها كالشرك ونحوه كما في قوله: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ سورة الزّمر، الآية : 65 ].
فأما إذا لم يأت ما يبطلها فإنها مدونة فإن الله- تعالى- يجازيكم عليها عاجلا أو آجلا.
لا يلتكم إذا أطعتم الله ورسوله، الطاعة هاهنا لا بد أن تكون طاعة كاملة؛ حتى يثيب الله- تعالى- العبد ويعطيه ما وعده، طاعته في كل دقيق وجليل، وأما الذي يطيع في بعض دون بعض فإنه كالذين قال الله فيهم: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [ سورة البقرة، الآية : 85 ] ، { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .(1/61)
وبعد ذلك ذكر المؤمنين حقا، ذكروا في هذه الآية وفي آيات غيرها { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } يعني المؤمنون حقا، قال- تعالى- في سورة الأنفال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [ سورة الأنفال، الآية : 2 ـ 4 ] وقال- تعالى- في سورة السجدة: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ* تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ سورة السّجدة : 15 ـ 16 ] ذكر أن هذا كله هم المؤمنون حقا، المؤمنون بآيات الله. فكذلك في هذه الآية المؤمنون حقيقة
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } يعني صدقوا تصديقا جازما، كان من آثار التصديق الطاعة.
{ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } ما وقع في قلوبهم شيء من الريب ولا من الشك ولا من التوقف.
لم يرتابوا وجاهدوا، هذا- أيضا- عمل.
جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فجمع بين الإيمان الذي هو العقيدة وبين الإيمان الذي هو العمل، وبهذا استدل أهل السنة على أن الإيمان تدخل فيه الأعمال، فإن الله أدخل فيه الصلاة وأدخل فيه الزكاة، وأدخل فيه الطاعة الظاهرة، وأدخل فيه قيام الليل، وأدخل فيه الذكر والتسبيح، وأدخل فيه الجهاد، فدل على أن هذه كلها من خصال الإيمان.(1/62)
{ وَجَاهَدُوا الجهاد } في الأصل بذل الجهد، ويراد به هاهنا قتال الكفار.
{ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } يعني بذلوا أموالهم في سبيل الله لقتال الكفار، وبذلوا أنفسهم وكان ذلك في سبيل الله، يعني في طاعة الله وحده.
{ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } يعني هؤلاء حقا هم الذين صدقوا في إيمانهم في قولهم: آمنا، فصدقهم، بمعنى أن الله- تعالى- مدحهم وصدقهم؛ لأنه هو الذي يعلم أسرارهم، ويعلم ما في ضمائرهم، علم بأنهم آمنوا بالله ورسوله إيمانا حقيقيا، علم الله ما في قلوبهم وعلم أنهم لم يشُكوا ولم يتطرق إليهم ريب ولا شك كالمنافقين الذين هم الأعراب الذين قال الله فيهم:
{ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا } [ سورة الفتح، الآية : 12 ] يعني ظننتم بأن الرسول والمؤمنين سيغلبون أو يقتلون ولا يرجعون إلى أهليهم أبدا، وهذا ظن سوء.
ولهذا قال: { وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا } [ سورة الفتح، الآية : 12 ] فهذا حقا هو هؤلاء هم المؤمنون بعد ذلك قال: { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } توبيخ لهم لأنهم كأنهم يمدحون أنفسهم ويقولون: آمنا يعلمون الله أو يعلمون الناس { أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } إن الله عالم بكم. { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } يعلم الله جميع ما في الكون فلا حاجة إلى أن تعلموه وتخبروه بشيء هو أعلم به منكم.
دينكم يعني ما تدينون به أو ما في ضمائركم وما تخفيه أنفسكم لا تعلموه فإنه عالم بكم وبأحوالكم وبعقائدكم.
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } في هذا إثبات صفة العلم وأن الله- تعالى- بكل شيء عليم، وأنه عالم بالجلي والخفي، يعلم كل ما في السماوات، وكل ما يحدث في الأرض.(1/63)
{ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم } بعد ذلك قال: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ } يمنون، يعني يظهرون أن لهم المنة كأن منتهم أنهم يمتنون على النبي- صلى الله عليه وسلم- يقولون: نحن أجبناك واستجبنا لدعوتك، وقبلنا ما جئت به وأسلمنا وآمنا ودخلنا في دينك، والتزمنا بطاعتك وبالجهاد معك، والتزمنا بأن نتبع ما جئت به ولا نرد شيئا مما جئت به.
هذا أصل امتنانهم، ولا يجوز لأحد أن يمن على الله- تعالى- ولا على رسوله، بل يعترف أن المنة لله عليه.
في قصة الأنصار- رضي الله عنهم- بعد وقعة حنين لما أنهم قالوا : " يغفر الله لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعطي أجلاف العرب من هذه الغنائم، ويتركنا وأسيافنا تقطر من دمائهم لِلَّهِ ".
-فعند ذلك- جمعهم وقال لهم : " ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ ألم أجدكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ وأخذ يذكرهم وهم يقولون: الله ورسوله أمنّ، فقال ألا تجيبون لو شئتم لقلتم: جئتنا وحيدا فأويناك، وجئتنا طريدا فنصرناك وأخذ يعدد وهم يقولون الله ورسوله أمن" يعني المنة لله ورسوله، لله المنة علينا فهو الذي هدانا وهو الذي نصرنا وأغنانا وهو الذي جمعنا بعد أ ن كنا متعادين، وألف بين قلوبنا بعد أن كنا متخالفين.
فهكذا نقول: لله المن على عباده؛ حيث أنه الذي هداهم، وأنه الذي أقبل بقلوبهم على طاعته، فليس لهم أن يفتخروا ولا أن يعتزوا بأنفسهم، ولا أن يفتخروا بأعمالهم.
الله ورسوله أمن..
{ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا } يمتنون عليك بإسلامهم.
{ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } الله تعالى هو الذي هداكم فهو الذي يمن على .... هداية.
منَّ عليكم بالإيمان إذا كنتم صادقين في أنكم مؤمنون وبالإسلام الذي تنتمون إليه ظاهرا(1/64)
{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي لا تدَّعوا شيئا غير ما يعلمه الله.
فالله- سبحانه- يعلم غيب السماوات والأرض يعلم كل ما خفي وكل ما تجلى غيب السماوات والأرض.
{ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ سورة آل عمران، الآية : 153 ]، { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
فالحاصل أن في هذا دليل على أن الإيمان الذي في القلب لا يعلمه إلا الله- تعالى- وأن الناس يحكمون بما ظهر لهم ولا يزكون أحدا إلا من زكاه الله تعالى.
فلا يجوز أن نقول: هذا نشهد له بأنه مؤمن وأنه تقي وأنه ثقة وأنه عابد، بل نقول: يظهر لنا منه أنه مسلم وأنه مستسلم وأنه مطيع، وأما سره فهو إلى الله- سبحانه وتعالى- ولا نزكيه لقول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } [ سورة النّساء، الآية : 49 ] ولقوله تعالى: { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [ سورة النّجم، الآية : 32 ].
التزكية هي التمدح، مدح الإنسان نفسه بأني مسلم، وبأني مؤمن وبأني تقي، وبأني منفق، وبأني، وبأني...
فهذا مما نهى الله- تعالى- عنه في هذه الآيات، وكذلك في هذه السورة؛ حيث أنكر على هؤلاء الذين يزكون أنفسهم.
في هذه الآية دلالة على الفرق بين الإسلام والإيمان، فمن العلماء من قال: إنهما- كما ذكرنا- يدخل أحدهما في الآخر، ومنهم من لم يصرح بذلك وهو شيخ الإسلام في كتاب الإيمان- مع توسعه- لم يصرح بأن الإسلام يحتوي على الإيمان، وكأنه اعتمد هذه الآية واعتمد حديث سعد لما قال: إني أراه مؤمنا، قال: أو مسلم أن الإسلام إذا أطلق وحده فلا يدخل فيه الإيمان، فلا بد أن الإيمان هو الذي تنبعث منه الأعمال.(1/65)
فلا يكفي أن يقال: مسلم مؤمن، الإسلام إذا أطلق هل تدخل فيه أعمال القلوب أم لا؟ ثم إن كثيرا من العلماء ذكروا- لما تكلموا على حديث جبريل عليه السلام- قالوا: الإسلام أعم والإيمان أخص من الإسلام، والإحسان أخص من الإيمان.
فقالوا: مثال ذلك لو أن قوما حُشروا في حائط كبير، قيل: يدخل في ذلك كل من ينتمي إلى الإسلام، ولما دخلوا كان في هذا الحائط حائط أصغر منه في داخله، أُدخل في ذلك الحائط أهل الإيمان جُعلوا في وسط ذلك الحائط الكبير، ثم في وسط ذلك الحائط الصغير حائط- أيضا- أصغر منه نُقي فيه أهل الإحسان من هؤلاء. وأدخلوا في هذا الحائط الصغير الذي في وسط حائط أكبر منه، فيقال: أهل هذا الحائط الصغير هم المحسنون، والصغير الذي أكبر منه هم المؤمنون، والحائط الكبير هم المسلمون.
ومثل بعضهم بالرتب والأدوار التي بعضها فوق بعض، فإذا كانت الدور الأرضي أوسع أدخلوا فيه كلهم، ثم يُنقى أهل الإيمان فيصعدون في الدور الثاني، ثم يُنقى أهل الإحسان فيصعدون في الدور الثالث.
فيكون كل محسن مؤمن ومسلم، من اتصف بالإحسان اتصف بأنه محسن ومؤمن ومسلم، ومن اتصف بالإيمان اتصف بأنه مؤمن ومسلم وليس بمحسن، ومن اتصف بالإسلام اتصف بأنه مسلم وليس بمؤمن ولا بمحسن.
أي لم يصل إلى درجة الإحسان فضلا عن درجة الإيمان.
فعلى هذا كل محسن مؤمن مسلم، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنا، وليس كل مسلم مؤمنا ولا محسنا.
هكذا يفهم من كلام الشُّراح والمتكلمين على مثل هذه الآية؛ حيث فرق الله- تعالى- فيها بين أهل الإيمان، وأهل الإسلام فجعل هؤلاء مسلمين وليس بمؤمنين.
وقد اختلف فيهم قال بعضهم: إنهم منافقون، علم الله- تعالى- أنهم منافقون، وإنما دخلوا في الإسلام تقية.(1/66)
هذا حصل- كثيرا- في أول الإسلام، نزل فيهم قول الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [ سورة العنكبوت، الآية : 10 ] يعني أنه يقول آمنا بالله ولكن إيمانه ليس بحقيقي فإذا أصابه أذى أو فتنة أو عذاب أو محن فإنه يخاف من الناس كما يخاف من الله، ويخاف من عذاب الناس كما يخاف من عذاب الله. وهذه الآية قول الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } [ سورة الحجّ، الآية : 11 ] يعني ليس متمكنا { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } [ سورة الحجّ، الآية : 11 ] يعبد الله ولكن عبادته غير متمكنة والإيمان في قلبه ليس بمتمكن، فيدخل فيه مثل هؤلاء الذين قالوا آمنا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، إذا أصابهم خير استمروا في إسلامهم واستمروا في عبادتهم، وإذا ابتلوا إذا أصيبوا بأمراض أو عاهات أو نكبات أو خسران انقلبوا وارتدوا على أدبارهم، { انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [ سورة الحجّ، الآية : 11 ] فهذا ونحوه مما استنبط من هذه الآية الكريمة، نتوقف هنا، والله أعلم.
جزى الله شيخنا خير الجزاء وأعلى الله منزلته، ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما نسمع وبما نقول.
- س: أحبتي في الله، هذا سائل يسأل فضيلة الشيخ فيقول: ما معنى الأثر الذي ورد اختاروا أنسابكم أو لأنسابكم فإن العرق دساس؟
ج : لتختاروا لنكوحكم، يعني اختاروا للنكاح فإن العرق دساس، معناه مثل ما جاء في الحديث: " فاظفر بذات الدين تربت يداك " يعني أن تختار المرأة الصالحة التقية النقية، ويمكن- أيضا- أن يدخل فيه اختيار أهل الخير، أن تكون من أناس معروفين بالعفة ومعروفين بالديانة والصيانة والأمانة.(1/67)
فهذا يفيد أن الأولاد قد يتأثرون بأقاربهم، فإن كانوا صالحين وأهل خير تأثروا بهم، إذا سمعوا بأن آباءهم وأجدادهم أهل علم وأهل دين وأهل عبادة فيكون هذا معنى كون العرق دساس، وإذا كانوا بضد ذلك تأثروا بما يسمعون، هذا هو الظاهر.
لكن قد يقال إن ظاهره أن العرق يؤثر في الفروع، إذا كانت الأصول خيرة أو منحرفة أثر في ذلك، لكن يظهر أن هذا ليس بمراد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ".
- س: أثابكم الله، فضيلة الشيخ في هذا الزمن كثرت المغريات فما هو الضابط لصلة الرحم يا شيخ في هذا الزمان ؟
ج : صلة الرحم يعني صلة الأقارب الذين بينك وبينهم قرابة من جهة الأب ومن جهة الأم، يدخل فيهم الأعمام وبنوهم وأعمام الأب وأخوال، وأخوال الأبوين ونحوهم، صلتهم يعني زيارتهم واستزارتهم وإكرامهم والإهداء إليهم، وقبول هداياهم، ودعوتهم وقبول دعواتهم، والتودد إليهم، والهدية لهم وما أشبه ذلك.
هذا يدخل في صلة الرحم، قطيعتها هو الجفاء والمقاطعة والهجران والبغضاء والعداوة ونحو ذلك.
- س: شيخ بس .. يا شيخ الواجب أيش اللي يعني ما يكفي يا شيخ للصلة في هذا الزمان يا شيخ؟
ج :ما لا يكون قطيعة إذا لم يعد قاطعا فإنه يصير واصلا فإذا كانوا مثلا أغنياء وأثرياء ليسوا بحاجة إلى مواساتهم فلا يقال: إنك هجرتهم وقطعتهم، ولكن تظهر لهم المودة والمحبة وتنصحهم وتعلمهم.
- س: فضيلة الشيخ هذا سائل يسأل ويقول: ما معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم :
" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ؟(1/68)
ج : جاء فيه يحب لأخيه من الخير، ويفسر الخير بأنه الخير الديني والخير الدنيوي، وإذا أحب لإخوانه المسلمين الخير الديني والدنيوي فإنه يدلهم عليه، وإذا أحب لهم الخير فلا يحسدهم، لا يحسدهم على ما أعطاهم الله- تعالى- فإن الحسد محرم وصف الله به اليهود قال تعالى: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ }
[ سورة البقرة، الآية : 109 ]الحب محبة الخير هو الإرشاد إليه والدلالة عليه.
- س: أثابكم الله، شيخ هذا سائل يسأل ويقول: يوجد بديل للأطفال من أشرطة الأفلام أو الرسوم المتحركة يا شيخ فمدى صلاحيتها يا شيخ هل يدخل فيها ..الصور يا شيخ؟
ج : لا شك أن الأطفال بحاجة إلى ما يشغلهم، وإذا لم ينشغلوا بمثل شيء يسليهم وينشغلون به حصل منهم أذى، وربما يخرجون ويتعرضون للحوادث وللمصائب وما أشبه ذلك، وربما- أيضا- يذهبون إلى أناس عندهم أفلام خليعة وصور فاتنة، فإذا كان لا بد بعض الشر أهون من بعض، فينشغلون بالشيء الذي هو أخف.
من قواعد الفقهاء: ارتكاب أخف المفسدتين؛ لتفويت أعلاهما.
إذا كان ولا بد من إحدى المفسدتين فإنهم يختارون ما هو أخف، يدخل في ذلك هذه الأفلام إذا لم يكن منها بد، وإن كان الأولى صيانتهم وتعويدهم على سماع القرآن والذكر والخير إذا استطاع الأبوان ذلك.
- س: أثابكم الله، أيضا نفس السائل يا شيخ يسأل يقول: ما هو الضابط في معرفة الصورة المهانة وغير المهانة هل هو حجمها و..مكان وضعها؟
ج : ما ذكروا أن الإهانة إلا الامتهان لها تقول عائشة في ذلك القرام كانت سترت فرجة لها بقرام يعني ستارة فيها صور فهتكه النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: فجعلت منه وسادتين منبوذتين توطئان.
فإذا كانت توطأ هذه الصور، ويجلس عليها وتوطأ بالأقدام فلعل ذلك هو المراد بأنها مهانة ممتهنة.(1/69)
- س: أثابكم الله هذا السائل يسأل يا شيخ ويتكرر السؤال في هذا المقام يقول: هل على الزوجة شرعا القيام بواجبات الزوج من غسل وطبخ غير الفراش وهل عدم قيامها بهذه الأشياء يدخلها في المحظور الشرعي؟
ج : يرجع هذا إلى العرف، وقيل: إنه- أيضا- داخل في الشرع.
العرف أن المرأة تخدم زوجها، أنها تصلح له الطعام والشراب وتغسل ثيابه وتغسل أوانيه، وتنظف منزله وتصلح فرشه، وغير ذلك مما العادة أنها تخدم به هذا هو المعتاد كثيرا، ثم يدل على ذلك الواقع في عهد الصحابة فإن فاطمة - رضي الله عنها- طحنت حتى مجلت يداها، يعني حتى تنفطت وصار فيها مجل، يعني مثل النفط.
وكذلك أسماء بنت أبي بكر كانت تخدم الزبير كان له فرس في مكان بعيد مسيرة فرسخ فكانت تطبخ النوى ترضحه ثم تطبخه ثم تحمله على رأسها ثم توصله إلى ذلك المكان إلى ذلك الفرس.
هذا دليل على أن النساء يخدمن أزواجهن الخدمة المعتادة.
فالفقهاء- رحمهم الله- ذكروا أنه يأتي لها بخادم إذا كان قادرا على ذلك، وأنه لا يلزمها أن تخدم زوجها، وخالف في ذلك ابن القيم في زاد المعاد فذكر أنها تخدم زوجها الخدمة المعتادة، وهذا هو الذي عليه العمل.
- س: أثابكم الله، شيخ هذا سائل من الإخوة الذين يعملون في المستشفى يا شيخ في توعية الجاليات فيقول: تسلم ممرضة مسيحية وغير ذلك، لكن يا شيخ يكرهون أن تفارق زوجها مباشرة؛ لأنها إن فارقت زوجها مباشرة ربما ترتد فما هو توجيهكم ..يا شيخ ؟
ج : إذا كان زوجها موجودا معها في هذه البلاد فلا بد أنه يتجنبها وعليهم في هذه الحال أن يدعوا زوجها قبلها.
فإن زوجها إذا أسلم وكان كتابيا بقيت معه يجوز بقاء الكتابية مع زوجها المسلم، لكن إذا كان غائبا إذا كان في بلاده مثلا في الفلبين أو في تايلاند أو سيريلانكا أو بعض البلاد التي تغلب عليها النصرانية فالأولى لهم أن يكاتبوه ويدعوه إلى الإسلام.(1/70)
وهي- أيضا- تكاتبه وتقول له: إني قد أسلمت وإنك إذا أسلمت وأنا في العدة فإني سأبقى في عصمتك وذمتك، يرغبونها في ذلك. وهو لعله يهتدي إذا أرسلت إليه رسائل أو يعني مترجمة أو أشرطة مترجمة فيها مدح الإسلام.
- س: السؤال الأخير يا شيخ يقول: الآن يا شيخ في المجلس ربما يذكر الأخ أو يعدد أعماله الدعوية والخيرة فهل هذا من المن يا شيخ؟
ج : هذا ليس من المن على الله- تعالى- قد يكون من التزكية إذا كان يذكره للتمدح، وأما إذا كان يذكره لأجل البشرى يبشر زملاءه ويبشر جلساءه بأنه قد نفع وأنه قد دعا وأنه قد أثر؛ ليحثهم على أن يقوموا بمثل ما يقوموا به فإن ذلك عمل خير، ومنه قول الله تعالى: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ سورة البقرة، الآية : 271 ] بمعنى أنك إذا قصدت من إبداء الصدقة أن يقتدي بك الناس وأن يسارعوا إلى الصدقة؛ حتى يكون لك مثل أجورهم فإن ذلك ممدوح، يدل عليه الحديث الذي فيه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- مرة رغب في الصدقة وأخذ يحث عليها، ويقرأ الآيات التي تحث عليها حتى قرأ قوله تعالى: { وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } [ سورة الحشر، الآية : 18 ] وبعد ذلك جاء رجل بصُرة من النقود كادت يده أن تعجز عن حملها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس لما رأوه ابتدأهم بهذا المال تتابعوا.
يقول الراوي: " حتى رأيت كومين، كوم من تمر وكوم من طعام ورأيت- أيضا- أكواما من النقود، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها " يعني أن هذا الذي ابتدأ وجاء بذلك المال الكثير هو الذي سن هذه السنة الحسنة حتى اقتدى به غيره، أما إذا كان يقصد بذلك الفخر أو المن، فإن ذلك يبطل صدقته لقول الله تعالى:(1/71)
{ لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } [ سورة البقرة، الآية : 264 ] والله أعلم، وصلى الله على محمد .
أثابكم الله، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .(1/72)