تفسير سورة الفتح
جزء : 8 رقم الصفحة : 527
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
سورة الفتح سبع وعشرون آية مدنية بلا خلاف نزلت في رجع رسول الله عن مكة عام الحديبية وقال الزهري نزلت سورة الفتح من أولها إلى آخرها بين مكة والمدينة في شأن الحديبية قال البقاعي نزلت بضجنان بفتح الضاد المعجمة والجيم والنونين.
في القاموس ضبجنان كسكران جبل قرب مكة وفي إنسان العيون نزلت بكراع الغميم وهو موضع على ثلاثة أميال من عسفان وهو كعثمان موضع عن مرجلتين من مكة فإن قلت إذا لم تنزل بالمدينة كيف تكون مدنية قلت المدني في الاصطلاح ما نزل بعد الهجرة نزل بالمدينة أو غيرنا كما أن المكي ما نزل قبلها كما في حواشي سعدي المفتي {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} فتح البلد عبارة عن الظفر به عنوة أو صلحاً بحرب أو بدونه فإنه ما لم يظفر منغلق مأخوذ من فتح باب الدار قال في عين المعاني الفتح هو الفرج المزيل للهم لأن المطلوب كالمنغلق فإذا نيل انفتح وفي المفردات الفتح إزالة الإغلاق والإشكال وذلك ضربان أْدهما يدرك بالبصر نحو فتح الباب والغلق والغفل والمتاع نحو قوله ولما فتحوا متاعهم والثاني ما يدرك بالبصيرة كفتح الهم وهو إزالة الغم وذلك ضربان أحدهما في الأمور الدنيوية كغم يفرج وفقر يزال بإعطاء المال ونحوه والثاني فتح المستغلق من العلوم نحو قولك فلان فتح من العلم باباً مغلقاً انتهى وءسناده إلى نون العظمة لاستناد أفعال العباد إليه تعالى خلقاً وإيجاداً والمراد فتح مكة وهو المروي عن أنس رضي الله عنه بشربه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند انصرافه من الحديبية والتعبير عنه بصيغة الماضي على سنن سائر الأخبار الربانية للإيذان تحققه لا محالة تأكيداً للتبشير كما أن تصدير الكلام بحرف التحقيق كذلك وفيه من الفخامة
2(9/1)
المنبئة عن عظمة شأن المخبر جل جلاله وعز سلطانه ما لا يخفى وحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل والإيذان بأن مناط التبشير نفس الفتح الصادر عنه سبحانه لا خصوصية المفتوح قال الإمام الراغب إنا فتحنا لك يقال عنى فتح مكة ويقال بل عنى ما فتح على النبي عليه السلام من العلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقام المحمود التي صارت سبباً لغفران ذنوبه انتهى وسيجيء غير هذا {فَتْحًا مُّبِينًا} أي بينا ظاهر الأمر مكشوف الحال أو فارقاً بين الحق والباطل وقال بعضهم المراد بالفتح المبين هو الصلح مع قريش في غزوة الحديبية وهي كدوهية وقد تشدد بئر قرب مكة حرسها الله تعالى أو شجرة حدباء كانت هنالك كما في القاموس سمى المكان باسمها وسببها أنه صلى الله عليه وسلّم رأى في المنام أنه دخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين أي بعضهم محلق وبعضهم مقصر وإنه دخل البيت وأخذ مفتاحه وطاف هو وأصحابه واعتمر وأخبر بذلك أصحابه فلرحوا ثم أخبر أصحابه أنه يريد الخروج للعمرة فتجهزوا للسفر وخرج عليه السلام بعد أن اغتسل ببيته ولبس ثوبين وركب راحلته القصوى من عند بابه ومعه ألف وأربعمائة من المسلمين على الصحيح وأبطأ عليه كثير من أهل البوادي خشية قريش وساق عليه السلام معه العدى سبعين بدنة وكان خروجه يوم الاثنين غرة ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة فلما وصل إلى ذي الحليفة وهو ميقات المدنيين صلى بالمسجد الذي ركعتين وأحرم بالعمرة وأحرم معه غالب أصحابه ومنهم من لم يحرم إلا من الجحفة وهو ميقات أهل الشام وإنما خرج معتمراً ليأمن أهل مكة ومن حولها من حربه وليعلموا أنه عليه السلام إنما خرج زائر للبيت فلما كان الأصحاب في بعض المحال أقبلوا نحوه عليه السلام وكان بين يديه ركوة يتوضأ منها فقال : مالكم فقالوا : يا رسول الله ليس عندنا ماء نشرب ولا ماء نتوضأ منه إلا في ركوتك فوضع رسول الله يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه الشريفة أمثال العيون فشربوا وتوضأوا حتى قال جابر رضي الله عنه : لو كنا مائة ألف فكفانا وهو أَجب من نبع الماء لموسى عليه السلام من الحجر فءن نبعه من الحجر متعارف معهود وأما من بين اللحم والدم فلم يعهد وإنما لم يخرجه عليه السلام بغير ملامسة ماء تأدباً مع الله لأنه المنفرد بإبداع المعدومات من غير أصل وأرسل عليه السلام بشر بن سفيان إلى مكة عيناً له فلما كانوا بعسفان جاء وقال : يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بخروجك فلبسوا جلود النمر أي أظهروا العداوة والحقد واستنفروا من أطاعهم من الأحابيش وهي قبيلة عظيمة من العرب ومعهم زادهم ونساؤهم وأولادهم ليكون ادعى لعدم الفرار وقد نزلوا بذي طوى وهو موضع بمكة مثلث الطاء ويصرف كما في القاموس يعاهدون الله أن لا ندخلها عليهم عنوة أبداً فقال عليه السلام : أشيروا علي أيها الناس أتريدون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه وقال المقداد : يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنوا إسرائيل لموسى عليه السلام : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فقال عليه السلام فامضوا على اسم الله فساروا ثم قال : هل من رجل يخرجنا عن طريق إلى غير طريقهم التي هم بها؟ فقال رجل من أسلم وهو ناجية بن جندب :
3
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/2)
أنا يا رسول الله فسلك بهم طريقاً وعراً ثم أفضوا إلى أرض سهلة ثم أمر رسول الله أن يسلكوا طريقاً يخرجهم على مهبط الحديبية من أسفل مكة فسلكوا ذلك الطريق فلما نزلوا بالحديبية نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ماء فاشتكى الناس إلى رسول الله العطش وكان الحر شديداً فأخرج عليه السلام سهماً من كنانته ودفعه إلى البراء بن عازب وأمره أن يغرزه في جوف البئر أو تمضمض رسول الله ثم مجه في البئر فجاش الماء ثم امتلأت البئر فشربوا جميعاً ورويت إبلهم وفي التفاسير ولم ينفد ماؤها بعد وفي "إنسان العيون" : فلما ارتحلوا من الحديبية أخذ البراء السهم فجف الماء كان لم يكن هناك شيء فلما اطمأن رسول الله بالحديبية أتاه بديل بن ورقاء وكان سيد قومه فسأله ما الذي جاء به فأخبره أنه لم يأت يريد حرباً إنما جاء زائراً للبيت فلما رجع إلى بريش لم يستمعوا وأرسلوا الحليس بن علقمة وكان سيد الأحابيش فلم يعتمدوا عليه أيضاً وأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي عظيم الطائف ومتمول العرب ولما قام عروة بالخبر من عنده عليه السلام وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يغسل يديه إلا ابتدروا وضوءه أي كادوا يقتتلون عليه ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه أي يدلك به من وقع في يده وجهه وجلده ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ولا يجدون النظر إليه تعظيماً له فقال : يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه أخاف أن لا تنصروا عليه فقالت له قريش : لا تتكلم بهذا يا أبا يعفور ولكن نرده عامنا هذا ونرجع من قابل فقال : ما أراكم إلا ستصيبكم قارعة ثم انصرف هو ومن معه إلى الطائف وأسلم بعد ذلك ودعا عليه السلام خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش وحمله عليه السلام علي بعير له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقر وأجمل رسول الله وأرادوا قتل خراش فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله وأخبره بما لقى ثم دعا رسول الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي وما بمكة من نبي عدي ابن كعب أحد بمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان رضي الله عنه فإن بني عمه يمنعونه فدعا عليه السلام عثمان فبعثه إلى أشراف قريش يخبرهم بالخبر وأمر عليه السلام عثمان أن يأتي رجالاً مسلمين بمكة ونساء مسلمات ويدخل عليهم ويخبرهم أن الله قرب أن يظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإيمان فخرج عثمان رضي الله عنه إلى مكة ومعه عشرة رجال من الصحابة بإذن رسول الله ليزوروا أهاليهم هناك فلقي عثمان قبل أن يدخل مكة أبان بن سعيد فأجازه حتى يبلغ رسالة رسول الله وجعله بين يديه فأتى عظماء قريش فبلغهم الرسالة وهم يرددون عليه أن محمداً لا يدخل علينا أبداً فلما فرغ عثمان من تبليغ الرسالة قالوا له : إن شئت فطف بالبيت فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله وكانت قريش قد احتبست عثمان عندها ثلاثة أيام فبلغ رسول الله أن عثمان قد قتل وكذا من معه من العشرة فقال عليه السلام لا نبرح حتى نناجز القوم أي نقاتلهم فأمره الله بالبيعة فنادى مناديه أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس
4
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
فأخرجوا على اسم الله فثاروا إلى رسول الله وهو تحت شجرة من أشجار السمر بضم الميم شجر معروف فبايعوه على عدم الفرار وإنه إما الفتح وإما الشهادة وبايع عليه السلام عن عثمان أي : على تقدير عدم صحة القوم بقتله فوضع يده اليمنى على يده اليسرى وقال : اللهم إن هذه عن عثمان فإنه في حاجتك وحاجة رسولك وسيجيء معنى المبايعة وقيل لها بيعة الرضوان لأن الله تعالى رضي عنهم وقال عليه السلام : "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة وقال أيضاً : لا يدخل النار من شهد بدراً والحديبية" وأول من بايع سنان ابن أبي سنان الأسدي فقال للنبي عليه السلام : أبايعك على ما في نفسك؟ قال : وما في نفسير قال : اضرب بسيفي بين يديك حتى يظهرك الله أو أقتل وصار الناس يقولون : نبايعك على ما بايعك عليه سنان.
(9/3)
ـ روي ـ أن عثمان رضي الله عنه رجع بعد ثلاثة أيام فبايع هو أيضاً وكان محمد بن مسلمة على حرس رسول الله فبعث قريش أربعين رجلاً عليهم مكرز بن حفص ليطوفوا بعسكر رسول الله ليلاً رجاء أن يصيبوا منهم أحداً ويجدوا منهم غرة أي غفلة فأخذهم محمد بن مسلمة إلا مكرزاً فإنه أفلت وأتى بهم إلى رسول الله فحبسوا وبلغ قريشاً حبس أصحابهم فجاء جمع منهم حتى رموا المسلمين بالنبل والحجارة وقتل من المسلمين ابن رسم رمى بسهم فأسر المسلمون منهم اثني عشر رجلاً وعند ذلك بعثت قريش إلى رسول الله جمعاف فيهم سهيل بن عمرو فلما رآه عليه السلام قال لأصحابه : سهل أمركم وكان يحب الفأل بمثل هذا فقال سهيل : يا محمد إن ما كان من حبس أصحابك أي عثمان والعشرة وما كان من قتال من قاتلك لم يكن من رأى ذوي رأينا بل كنا كارهين له حين بلغنا ولم نعلم وكان من سفهائنا فابعث إلينا من أصحابنا الذين أسروا أولاً وثانياً فقال عليه السلام : "إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي" فقالوا : نفعل فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بذلك فبعثوا من كان عندهم وهو عثمان والعشرة فأرسل رسول الله أصحابهم ولما علمت قريش بهذه البيعة كبرت عليهم وخافوا أن يحاربوا وأشار أهل الرأي بالصلح على أن يرجع ويعود من قابل فيقيم ثلاثاً فبعثوا سهيل بن عمرو ثانياً ومعه مكرز بن حفص وحويط بن عبد العزي إلى رسول الله ليصالحه على أن يرجع من عامه هذا لئلا يتحدث العرب بأنه دخل عنوة ويعود من قابل فلما رآه عليه السلام مقبلاً قال : أراد القوم الصلح حيث بعثوا هذا الرجل أي ثانياً فالتأم الأمر بينهم على الصلح وإن كان بعض الأصحاب لم يرضوا به في أول الأمر حتى قالوا علام نعطي الدنية بفتح الدال وكسر النون وتشديد الياء النقيصة والخصلة المذمومة في ديننا وهم مشركون ونحن مسلمون فأشار عليه السلام بالرضى ومتابعة الرسول ثم دعا عليه السلام علياً فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل : لا أعرف هذا أي الرحمن الرحيم ولكن اكتب باسمك اللهم فكتبها لأن قريشاً كانت تقولها ثم قال رسول الله : "اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن غمرو" فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أصدك عن البيت ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فقال عليه السلام لعلي رضي الله عنه : "امح رسول الله" فقال : والله ما أمحوك أبداً فقال : "أرنيه" فأراه إياه فمحاه رسول الله بيده الشريفة وقال : "اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو وقال أنا والله رسول الله وإن كذبتموني وأنا محمد بن عبد الله وكان الصلح على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيه الناس ويكف
5
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/4)
بعضهم عن بعض ومن أني محمداً من قريش ممن هو على دين محمد بغير إذن وليه رده إليه ذكراً كان أو أنثى ومن أتى قريشاً ممن كان مع محمد أي مرتداً ذكراً كان أو أنثى لم ترده إليه" وسبب الأول أن في رد المسلم إلى مكة عمارة للبيت وزيادة خير له في الصلوة بالمسجد الحرام والطواف بالبيت فكان هذا من تعظيم حرمات الله وسبب الثاني أنه ليس من المسلمين فلا حاجة إلى رده وشرطوا أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه وأن بيننا وبينكم عيبة مكفوفة أي صدوراً منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة بل منطوية على الوفاء بالصلح وأنه لا إسلال ولا إغلال أي لا سرقة ولا خيانة قال سهيل : وأنك ترجع عامك هذا فلا تدخل مكة وأنه إذا كان عام قابل خرج منها قريش فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثة أيام معك سلاح الراكب السيوف في القرب والقوس لا تدخلها بغيرهما وكان المسلمون لا يشكون في دخولهم مكة وطوافهم بالبيت ذلك العام للرؤيا التي رآها رسول الله فلما رأوا الصلح وما تحمله رسول الله في نفسه دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون خصوصاً من اشتراط أن يرد إلى المشركين من جاء مسلماً منهم وكانت بيعة الرضوان قبل الصلح وأنها سبب الباعث لقريش عليه ولما فرغ رسول الله من الصلح وأشهد عليه رجالاً من المسلمين قام إلى هديه فنحره وفرق لحم الهدى على الفقراء الذين حضروا الحديبية وفي رواية بعث إلى مكة عشرين بدنة مع ناجية رضي الله عنه حتى نحرت بالمروة وقسم لحمها على فقراء مكة ثم جلس رسول الله في قبة من أديم أحمر فحلق رأسه خداش الذي بعض إلى قريش كما تقدم ورمى شعره على شجرة فأخذه الناس تبركاً وأخذت أم عمارة رضي الله عنها طاقات منه فكانت تغسلها للمريض وتسقيه فيبرأ بإذن الله تعالى فلما رأوا رسول الله قد نحر رافعاً صوته باسم الله والله أكبر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون وقصر بعضهم كعثمان وأبي قتادة رضي الله عنهما وقال عليه السلام : "اللهم ارحم المحلقين دون المقصرين قال" قال : لأنهم لم يرجوا أن يطوفوا بالبيت بخلاف المقصرين أي لأن الظاهر من حالهم أنهم أخروا بقية شعورهم رجاء أن يحلقوا بعد طوافهم وأرسل الله ريحاً عاصفة احتملت شعورهم فألقتها في قرب الحرم وإن كان أكثر الحديبية في الحرم فاستبشروا بقبول عمرتهم وأقام عليه السلام بالحديبية تسعة عشر أو عشرين يوماً ثم انصرف قافلاً إلى المدينة فلما كان بين الحرمين وأتى بكراع الغميم على ما في "إنسان العيون" وغيره أنزلت عليه سورة الفتح وحصل للناس مجاعة هموا أن ينحروا ظهورهم فقال عليه السلام : "ابسطوا أنطاعكم وعباءكم ففعلوا ثم قال : من كان عنده بقية من زاد أو طعام فلينشره" ودعا لهم ثم قال : "قربوا أوعيتكم" فأُذوا ما شاء الله وحشوا أوعيتهم وأكلوا حتى شبعوا وبقي مثله وقال عليه السلام لرجل من أصحابه : "هل من وضوء" بفتح الواو وهو ما يتوضأ به فجاء بأداوة وهي الركوة فيها ماء قليل فأفرغها في قدح ووضع راحته الشريفة في ذلك الماء قال الراوي : فتوضأنا كلنا أي الألف والأربعمائة نصبه صباً شديداً ولما أنزلت سورة الفتح قال عليه السلام لأصحابه : "أنزلت علي سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" وفي رواية لقد أنزلت علي
6
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
سورة ما يسرني بها حمر النعم والحمر بسكون الميم جمع أحمر والنعم بفتحتين تطلق على جماعة الإبل لا واحد لها من لفظها والمراد بحمر النعم الإبل الحمل وهي من أنفس أموال العرب يضربون بها المثل في نفاسة الشيء وأنه ليس هناك أعظم منها ثم قرأ السورة عليهم وهنأهم وهنأوه يعني إيشانرا تهنيه كفت وأصحاب نيزويرا مبارك بادكفتند.
وتكلم بعض الصحابة وقال : هذا ما هو بفتح لقد صدونا عن البيت وصد هدينا فقال عليه السلام لما بلغه يئس الكلام بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالبراح عن بلادهم وسألوك القضية أي الصلح والتجأوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا وظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتوح أنسيتم يوم يحد وأنا أدعوكم في أخراكم أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون فقال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وبأمره منا وقال له عمر رضي الله عنه : ألم تقل أنك تدخل مكة آمناً قال : بلى أفقلت لكم من عامي هذا قالوا لا قال : فهو كما قال جبريل فإنكم تأتونه وتطوفون به أي لأنه جاءه الوحي بمثل ما رأى وذكر بعضهم أنه عليه السلام لما دخل مكة في العام العاقل وحلق رأسه قال هذا الذي وعدتكم فلما كان يوم الفتح وأخذ المفتاح قال هذا الذي قلت لكم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2(9/5)
يقول الفقير : لا شك أن الأصحاب رضي الله عنهم لم يشكوا في أمر النبي عليه السلام ولم يكن كلامهم معه من قبيل الاعتراض عليه وإنما سألوه استعلاماً لما دخلهم شيء مما لا يخلو عنه البشر فإن الأمر عميق وإلا فأدنى مراتب الإرادة في باب الولاية ترك الاعتراض فكيف في باب النبوة ولله تعالى حكم ومصالح في إيراد إنا فتحنا بصيغة الماضي فإنه بظاهره ناطق بفتح الصلح وبحقيقته مشير إلى فتح مكة في الزمان الآتي وكل منهما فتح أي فتح وحاصل ما قال العلماء أنه سمي الصلح فتحاً مع أنه ليس بفتح لا عرفاً لأنه ليس بظفر على البلد ولا لغة لأنه ليس بظفر للمنغلق كيف وقد أحصروا ومنعوا من البيت فنحروا وحلقوا بالحديبية وأي ظفر في ذلك فالجواب أن الصلح مع المشركين فتح بالمعنى اللغوي لأنه كان منغلقاً ومتعذراً وقت نزولهم بالحديبية إلا أنه لما آل الأمر إلى بيعة الرضوان وظهر عند المشركين اتفاق كلمة المؤمنين وصدق عزيمتهم على الجهاد والقتال ضعفوا وخافوا حتى اضطروا إلى طلب الصلح وتحقق بذلك غلبة المسلمين عليهم مع أن ذلك الصلح قد كان سبباً لأمور أخر كانت منغلقة قبل ذلك منها إن المشركين اختلطوا بالمسلمين بسببه فسمعوا كلامهم وتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في مدة قليلة خلق كثير كثر بهم سواد أهل الإسلام حتى قالوا دخل في تلك السنة في الإسلام مثل من دخل فيه قبل ذلك وأكثر وفرغ عليه السلام بهذا الصلح لسائر العرب فغزاهم وفتح مواضع خصوصاً خيبر واغتنم المسلمون واتفقت في تلك السنة ملحمة عظيمة بين الروم وفارس غلبت فيها الروم على فارس وكانت غلبتهم عليهم من دلائل النبوة حيث كان عليه السلام وعد بوقوع تلك الغلبة في بضع سنين وهو ما بين الثلاث إلى التسع فكانت كما وعد بها فظهر بها صدقه عليه السلام فكانت من جملة الفتح وسر به عليه السلام والمؤمنين لظهور أهل الكتاب على المجوس إلى غير ذلك من
7
فتوحات الله الجليلة ونعمه العظيمة {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} غاية للفتح من حيث أنه مترتب على سعيه عليه السلام في إعلاء كلمة الله مكابدة مشاق الحروب واقتحام موارد الخطوب قال بعضهم لما لم يظهر وجه تعليل الفتح بالمغفرة جعل الفتح مجازاً مرسلاً عن أسباب الفتح ليغفر لك فالفتح معلول مترتب على الأفعال المؤدية إلى المغفرة وإن المغرفة علة حاملة على تلك الأفعال فصح جعلها علة لما ترتب على تلك الأفعال وهو الفتح وجعل الزمخشري فتح مكة علة للمغفرة وهو أوفق للمذهب الحق لأن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض على مذهبم فليست اللام على حقيقتها بل هي إما للصيرورة والعاقبة أو لتشبيه مدخولها بالعلة الغائبة في ترتبها على متعلقها وأيضاً أن العلة الغائبة لها جهتا علية ومعلولية على ما تقرر فلا لوم على من نظر إلى جهة المعلولية كالزمخشري لظهور صحته كما في حواشي سعدي المفتي والالتفات إلى اسم الذات المستتبع لجميع الصفات للإشعار بأن كل واحد مما انتظم في سلك الغاية من أفعاله تعالى صادر عنه تعالى من حيثية غير حيثية الآخر مترتبة على صفة من صفاته تعالى قال ابن الشيخ في إظهار فاعل قوله ليغفر لك وينصرك إشعار بأن كل واحد من المغفرة والنصرة متفرع على الألوهية وكونه معبوداً بالحق والمغفرة ستر الذنوب ومحوها قال بعض الكبار : المغفرة أشد عند العارفين من العقوبة لأن العقوبة جزاء فتكون الراحة عقيب الاستيفاء فهو بمنزلة من استوفى حقه والغفران ليس كذلك فإنك تعرف أن الحق عليك متوجه وأنه أنعم عليك بترك المطالبة فلا تزال خجلاً ذا حياء ولهذا إذا غفر الله تعالى للعبد ذنبه أحال بينه وبين تذكره وأنساه إياه وأنه لو تذكره لاستحيى ولا عذاب على النفوس أعظم من الحياء حتى يود صاحب الحياء أنه لم يكن شيئاً كما قالت مريم الكاملة : يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً هذ حياء من المخلوقين فكيف بالحياء من الله تعالى فيما فعل العبد من المخالفات ومن هذا الباب ما حكي أن الفضيل قدس سره وقف في بعض حجاته ولم ينطق بشيء فلما غربت الشمس قال : واسوأتاه وإن عفوت ، قال الصائب :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
هركز نداد شرم مرا رخصت نكاه
در هجر ووصل روى بديوار داشتم
{مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} أي : جميع ما فرط منك من ترك الأولى وتسميته ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين على ما قاله أبو سعيد الخراز قدس سره : وفي المثنوي :
آنكه عين لطف باشد برعوام
قهر شد برعشق كيشان كرام
(9/6)
قال بعضهم : أي جميع ما صدر منك قبل النبوة وبعدها مما يطلق عليه الذنب قال في شرح المواقف : حمله على ما تقدم على النبوة وما تأخر عنها لا دلالة للفظ عليه إذ يجوزان أن يصدر عنه قبل النبوة صغيرتان إحداهما متقدمة على الأخرى انتهى.
وفيه أنه يصح أن يطلق على كل من الصغيرتين أنهما قبل النبوة قان التقدم والتأخر إضافي وهو اللائح قال أهل الكلام : إن الأنبياء معصومون من الكفر قبل الوحي وبعده بإجماع العلماء ومن سائر الكبائر عمداً بعد الوحي وإما سهواً فجوزه الأكثرون وإما الصغائر فتجوز عمداً عند الجمهمر وسهوراً بالاتفاق وإما قبل الوحي فلا دليل بحسب السمع أو العقل على امتناع صدور الكبيرة وقال عطاء الخراساني ما تقدم من ذنبك أي ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك روي أن آدم لما اعترف
8
بالخطيئة قال : يا رب بحق محمد أن تغفر لي فقال الله : يا آدم كيف عرفت محمداً ولم أخلفه قال : لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله فعرفت أنك لم تضف إلى إسمك إلا اسم أحب الخلق إليك فقال الله : صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي فغفرت لك ولولا محمد لما خلقتك رواه البيهقي في دلائله وما تأخر من ذنوب أمتك بدعوتك وشفاعتك : (سلمى قدس سره فرمودكه ذنب آدم رابوى اضافت كرده ذر وقت زلت در صلب وى بوده وكناه امت را بوى اسناد فرموده أو يش رودكار ساز ايشانست).
وقال ابن عطاء قدس سره لما بلغ عليه السلام سدرة المنتهى ليلة المعراج قدم هو وأخر جبريل فقال لجبريل تتركني في هذا الموضع وحدي فعاتبه الله حين سكن إلى جبريل فقال : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيكون كل من الذنبين بعد النبوة وقال سفيان الثوري رحمه الله ما تقدم ما عملت في الجاهلية وما تأخر ما لم تعمله قال في كشف الأسرار ويذكر مثل ذلك على طريق التأكيد كما يقال أعطى من رآه ومن لم يره وضرب من لقيه ومن لم يلقه انتهى لكن فيه أنه خارج من أدب العبارة فالواجب أن يقال ما تقدم أي ما عملت قبل الوحي وقيل ما تقدم من ذنب يوم بدر وما تأخر من ذنب يوم حنين حيث قال يوم بدر : اللهم أن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبداً وكرره مراراً فأوحى الله إليه من أين تعلم أني لو أهلكتها لا أعبد أبداً؟ فكان هذا الذنب المتقدم وقال يوم حنين بعد أن هزم الناس ورجعوا إليه لو لم أرمهم أي الكفار بكف الحصى لم يهزموا فأنزل الله وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وهو الذنب المتأخر لكن فيه أن المتأخر متأخر عن الوقعة فيكون وعداً بغفران ما سيقع منه قال في بحر العلوم وأبعد من هذا قول أبي على الرود بادي رحمه الله : لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
يقول الفقير أبو علي قدس سره من كبار العارفين : فكيف يصدر عنه ما هو أبعد عند العقول بل كلامه من قبيل قوله : من عرف الله عرف كل شيء يعني لاو تصورت معرفة الله لأحد وهي لا تتصور حقيقة وكذا لو تصور منه عليه السلام ذهب لغفر له لكنه لا يتصور لأنه في جميع أحواله إما مشتمل بواجب أو بمندوب لا غير فهو كالملائكة في أنه لا يصدر منه المخالفة ولي معنى آخر في هذا المقام وهو أن المراد بالمغفرة الحفظ والعصمة أزلاً وأبداً فيكون المعنى ليحفظك الله ويعصمك من الذنب المتقدم والمتأخر فهو تعالى إنما جاء بما تقدم إشارة إلى أنه عليه السلام محفوظ معصوم في اللاحق كما في السابق فاعرفه وفي الفتوحات المكية استغفار الأنبياء لا يكون عن ذنب حقيقة كذنوبنا وإنما هو عن أمر يدق عن عقولنا لأنه لا ذوق لنا في مقامهم فلا يجوز حمل ذنوبهم على ما نتعقله نحن من الذنب انتهى.
ومؤاخذة الله عباده في الدنيا والآخرة تطهير لهم ورحمة وف يحق الأنبياء من جهة العصمة والحفظ والعقاب لا يكون إلا في مذنب والعقوبة تقتضي التأخر عن المتقدم لأنها تأتي عقبه فقد تجد العقوبة الذنب في المحل وقد لا تجده إما بأن يقلع عنه وإما أن يكون الاسم العفو والغفور استوليا عليه بالاسم الرحيم فزال فترجع العقوبة حاسرة ويزول عن المذنب اسم المذنب لأنه لا يسمى مذنباً إلا
9
(9/7)
في حال قيام الذنب به كما في كتاب الجواهر والدرر للشعراني وقال الشعراني في الكبريت الأحمر قلت : ويجوز حمل نحو قوله ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر على نسبة الذنب إليه من حيث أن شريعته هي التي حكمت بأنه ذنب فلولا أوحي به إليه ما كان ذنباً فجميع ذنوب أمته يضاف إليه وإلى شريعته بهذا التقدير وكذلك ذنب كل نبي ذكره الله وقد قالوا لم يعص آدم وإنما عصى بنوه الذين كانوا في ظهره فما كان قوله ليغفر لك إلخ إلا تطميناً له عليه السلام أن الله قد غفر جميع ذنوب أمته التي جاءت بها شريعته ولو بعد عقوبة بإقامة الحدود عليهم في دار الدنيا كما وقع لما عز ومن الواجب على كل مؤمن انتحال الأجوبة للأكابر جهده وذلك ما يحبه الله ويحبه من أحبنا عنه فافهم هذا اعتقادنا الذي نلقي الله عليه إن شاء الله تعالى انتهى.
وفي التأويلات النجمية : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً يشير إلى فتح باب قلبه عليه السلام إلى حضرة ربوبيته بتجلي صفات جماله وجلاله وفتح ما انغلق على جميع القلوب ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك أي : ليستر لك بأنوار جلاله ما تقدم من ذنب وجودك من بدأ خلق روحك وهو أول شيء تعلقت به القدرة كما قال أول ما خلق الله روحي وفي رواية نوري وما تأخر أي : من ذنب وجودك إلى الأبد وذنب الوجود هو الشركة في الوجود وغفره ستره بنور الوحدة لمحو آثار الاثنينية انتهى.
وقال بعض الأكابر :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
اعلم أن فتوح رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثلاثة : أولها : الفتح القريب وهو فتح باب القلب بالترفي في مقام النفس وذلك بالمكاشفات الغيبية والأنوار اليقينية وقد شاركه في ذلك أكثر المؤمنين ، وثانيها : الفتح المبين بظهور أنوار الروح وترقي القلب إلى مقامه وحينئذٍ تترقى النفس إلى مقام القلب فتستتر صفاتها المظلمة بالأنوار القلبية وتنتفي بالكلية وذلك معنى قوله تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فالسابقة الهيئات المظلمة على فتح باب القلب والمتأخرة الهيئات النورانية المكتسبة بالأنوار القلبية التي تظهر في التلوينات فيخفى حالها ولا تنتفي هذه بالفتح القريب وإن انتفت الأولى لأن مقام القلب لا يكمل إلا بعد الترقي إلى مقام الروح واستيلاء أنواره على القلب فيظهر تلوين القلب وينتفي تلوين النفس بالكلية ويحصل في هذا الفتح مغانم المشاهدات الروحية والمسامرات السرية ، وثالثها : الفتح المطلق المشار إليه بقوله : إذا جاء نصر الله والفتح وهو فتح باب الوحدة بالفناء المطلق والاستغراق في عين الجمع بالشهود الذاتي.
وظهور النور الإحدى فمن صحت له متابعة النبي عليه السلام أثابه الله مغانم كثيرة وفتوحات فإن حسن المتابعة سبب لفيضان الأنوار الإلهية بواسطة روحانية النبي عليه السلام.
قال الشيخ سعيد قدس سره :
خلاف يميبر كسى ره كزيد
كه هركز بمنزل نخواهد رسيد
مندار سعدى كه راه صفا
توان رفت جزبرى مصطفى
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
وذلك أن الفلاسفة والبراهمة والرهابنة ادعوا معرفة الله والوصول إليه بطريق العقل والرياضة والمجاهدة من غير متابعة الأنبياء وإرشاد الله تعالى فانقطعوا دون الوصول إليه ويتم نعمته عليك بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوة وغيرهما مما أفاضه عليه من النعم الدينية والدنيوية {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرياسة وأصل الاستقامة وإن كانت حاصلة قبل الفتح لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبل الحق واستقامة مناهجه ما لم يكن حاصلاً قبل
10
(9/8)
{وَيَنصُرَكَ اللَّهُ} إظهار الاسم الجليل لكونه خاتمة الغايات ولإظهار كمال العناية بشأن النصر كما يعرب عنه تأكيده بقوله تعالى : {نَصْرًا عَزِيزًا} أي : نصراً فيه عزة ومنعة فعزيزاً للنسبة أي ذا عز قال في فتح الرحمن : النصر العزيز هو الذي معه غلبة العدو والظهور عليه والنصر غير العزيز هو الذي معه الحماية ودفع العدو فقط انتهى أو نصراً قوياً منيعاً على وصف المصدر بوصف صاحبه أي المنصور مجازاً للمبالغة ولم يجعل وصفاً بوصف الناصر لقلة الفائدة فيه لأن القصد بيان حال المخاطب لا المتكلم أو نصراً عزيزاً صاحبه ثم الظاهر إن المراد من ذلك النصر هو ما ترتب على فتح مكة من النصر على الأعداء كهوازن وغيرهم ونصر أمته على الأكاسرة والقياصرة وكانت الحكمة في قتال بعض الرسل لمن خالفهم إنما هي لمخالفة ما فطروا عليه من التوحيد الموجبة تلك المخالفة لفساد ذلك الفطر الذي هم فيه بأعمالهم وأحوالهم الفاسدة التي لا يحصل منها إلا حل نظام الأسباب وتبديد ما ذلك الشخص مأمور بحفظه عن ذلك كله فالنبي رحمة للخلق ولو بعث بالسيف وقس عليه سائر من تصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال ابن عطاء قدس سره : جمع الله لنبيه في هذه السورة نعماً مختلفة من الفتح المبين وهو من أعلام الإجابة والمغفرة وهي من أعلام المحبة وإتمام النعمة وهي من أعلام الاختصاص والهداية وهي من أعلام التحقق بالحق والنصر وهو من أعلام الولاية فالمغفرة تبرئة من العيوب وإتمام النعمة إبلاغ الدرجة الكاملة والهداية هي الدعوة إلى المشاهدة والنصرة هي رؤية الكل من الحق من غير أن يرجع إلى ما سواه نسأل الله أن ينصرنا ببذل الوجود المجازي في وجوده الحقيقي {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ} بيان لما أفاض عليهم من مبادي الفتح من الثبات والطمأنينة يعني أنزلها {فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} بسبب الصلح والأمن بعد الخوف لأنهم كانوا قليلي العدة بسبب أنهم معتمرون وكان العدو مستعدين لقتالهم مع مالهم من القوة والشوكة وشدة البأس فثبتوا وبايعوا على الموت بفضله الله تعالى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
وقال الكاشفي ونحوه :
ون در صلح حديببه صحابه خالى ازدغدغه وترددى نبودند حق سبحانه وتعالى فرمود هو الذي إلخ.
فالمراد ثبتوا واطمأنوا بعد أن ماجوا وزلزلوا حتى عمر الفاروق رضي الله عنه على ما عرف في القصة وذلك القلق والاضطراب إنما هو لما دهمهم من صد الكفار ورجوعهم دون بلوغ مقصودهم وكانوا يتوقعون دخول مكة في ذلك العام آمنين للرؤيا التي رآها عليه السلام على ما سبق {لِيَزْدَادُوا} تازيادت كند {إِيمَانًا} مفعول يزدادوا كما في قوله تعالى : وازدادوا تسعاً {مَّعَ إِيمَانِهِمْ} أي : يقيناً منضماً إلى يقينهم الذي هم غليه بر سوخ العقيدة واطمئنان النفس عليها ومن ثمة قال عليه السلام : لو وزن إيمان أبي بكر مع الثقلين لرجح وكلمة مع في إيمانهم ليست على حقيقتها لأن الواقع في الحقيقة ليس انضمام يقين إلى يقين لامتناع اجتماع المثلين بل حصول نوع يقين أقوى من الأول فإن له مراتب لا تحصى من أجلى البديهيات إلى أخفى النظريات ثم لا ينفي الأول ما قلنا وذلك ما في مراتب البياض ما حقق في مقامه ففيها استعارة أو المعنى أنزل فيها السكون إلى ما جاء به النبي عليه السلام من الشرائع ليزدادوا إيماناً بها مقروناً مع إيمانهم بالوحدانية واليوم الآخر فكلمة القرآن حينئذٍ على حقيقتها والقرآن في الحقيقة
11(9/9)
لتعلق الإيمان بزيادة متعلقه فلا يلزم اجتماع المثلين وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أول ما أتاهم به النبي عليه السلام التوحيد ثم الصلاة والزكاة ثم الحج والجهاد حتى أكمل لهم دينهم كما قال : اليوم أكملت لكم دينكم فازدادوا إيماناً مع إيمانهم فكان الإيمان يزيد في ذلك الزمان بزيادة الشرائع والأحكام وأما الآن فلا يزيد ولا ينقص بل يزيد نور ويقوى بكثرة الأعمال وقوة الأحوال فهو كالجوهر الفرد فكما لا يتصور الزيادة والنقصان في الجوهر الفرد من حيث هو فكذا في الإيمان وأما قوله تعالى : ومن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فالكفر بالطاغوت هو عين الإيمان بالله في الحقيقة فلا يلزم أن يكون الإيمان جزءاً قال بعض الكبار الإيمان الحقيقي هو إيمان الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لها ويتحقق بالخاتمة وما بينهما يزيد الإيمان فيه وينقص والحكم للخاتمة لأنها عين السابقة فيحمل قول من قال أن الإيمان لا يزيد ولا ينقض على إيمان الفطرة الذي حقيقته ما مات عليه ويحمل قول من قال أن الإيمان يزيد وينقص على الحالة التي بين السابقة والخاتمة من حين يتعقل التكاليف فتأمل ذلك فإنه نفيس انتهى وقال حضرة الهدائي قدس سره في مجالسة المنيفة ليزداد إيماناً وجدانياً ذوقياً عينياً مع إيمانهم العلمي الغيبي فإن السكينة نور في القلب يسكن به إلى ما شاهده ويطمئن وهو من مبادي عين اليقين بعد علم اليقين كأنه وجدان يقيني معه لذة وسرور وفي المفردات قيل إن السكينة ملك يسكن قلب المؤمن ويؤمنه كما ورد أن السكينة لتنطق على لسان عمر وقال بعض الكبار : السكينة تطلق على ثلاثة أشياء بالاشتراك اللفظي أو لها ما أعطى بنوا إسرائيل في التابوت كما قال تعالى أن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم قال المسرون هي ريح ساكنة طبيعة تخلع قلب العدو بصوتها رعباً إذا التقى الصفان وهي معجزة لأنبيائهم وكرامة لملوكهم والثاني شيء من لطائف صنع الحق يلقى على لسان المحفث الحكمة ما يلقى الملك الوحي على قلوب الأنبياء مع ترويح الأسرار وكشف السر والثالث هي التي أنزلت على قلب النبي عليه السلام وقلوب المؤمنين وهي شيء يجمع نوراً وقوة وروحاً يسكن إليه الخائف ويتسلى به الحزين كما قال تعالى فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين انتهى وقال بعض الكبار إن الأنبياء والأولياء مشتركون في تنزل الملائكة عليهم ومختلفون فيما نزلت به فأن ملك الإلهام لا ينزل على الأولياء بشرع مستقل أبداً وإنما ينزل عليهم بالانباع وبإفهام ما جاء بهم نبيهم مما لم يتحقق الأولياء بالعلم به فكل فيض ونور وسكينة إنما ينزل من الله تعالى بواسطة الملك أو بلا واسطته وإن كان فرق عظيم بين حال النبي والولي فأنه كما أن النبي أفضل وأولى فكذا وارده أقوى وأولى نسأل الله فضله وسكينته.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 2 من صفحة 12 حتى صفحة 24
هرآنكه يافت زفضل خدا سكينت دل
نماند در حرم سينه اش تردد وغل
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} الجنود جمع جند بالضم وهو جمع معد للحرب أي مختص به تعالى جنود العالم يدبر أمرها كيفما يشاء يسلط بعضها على بعض تارة ويوقع فيما بينها السلم أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح.
وقال الكاشفي : ومرخدا يراست لشكرهاى آسمانها از ملائكة وجنود زمين ازمؤمنان مجاهد س اى أهل إيمان جهاد كنيد ربنصرت الهي واثق باشيدكه
12
هركه لشكر آسمان وزمين در حكم وى بود بلكه ذرات كون ساه وى بوده باشند اولياى خودرا در وقت غزابا عداى خود فرونكذارد.
نصرت از وطلب كه بميدان قدرتش
هرذره بهلواني وهرشه صدريست
(9/10)
قال بعضهم : كل ما في السموات والأرض بمنزلة الجند له لو شاء لا تنصر به كما ينتصر بالجند وتأويل الآية لم يكن صد المشركين رسول الله عن قلة جنود الله ولا عن وهن نصره لكن عن علم الله واختياره انتهى وفي فتح الرحمن ولله جنود السموات والأرض فلو أراد نصر دينه بغيركم لفعل وقال بعضهم : همم سموات أرواح العارفين وقصور أرض قلوب المحبين وأنفاسهم جنوده ينتقم بنفس منهم من جميع أعدائه فيقهرهم دعا نوع عليه السلام على قومه فقال لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً فهلك به أهل الأرض جميعاً إلا من آمن ودعا موسى عليه السلام على القبط فقال : ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فصارت حجارة ولم يؤمنوا حتى رأوا العذاب الأليم وقال سيد البريات عليه أفضل التحيات حين رمى الحصى على وجوه الأعداء شاهت الوجوه فانهزموا بإذن الله تعالى وكذا حال كل ولي وارث قاهر من أهل الأنفاس بل كل ذرة من العرش إلى النرى جند من جنوده تعالى حتى لو سلط نملة على حية عظيمة لهلكت وقد قيل الدبة إذا ولدت ولدها رفعته في الهواء يومين خوفاً من النمل لأنه تضعه لحمة كبيرة غير متميزة الجوارح ثم تميز أولاً فأولاً وإذا جمع بين العقرب والفارة في إناء زجاج قرضت الفأرة إبرة العقرب فتسلم منها ويكفي قصة البعوض مع نمرود.
وفي المثنوي :
جمله ذرات زمين وآسمان
لشكر حفندكاه امتحان
بادرا ديديكه باعادان ه كرد
آب را ديديكه باطوفان ه كرد
آنه برفرعون زدآن بحركين
وآنه باقارون نموداست اين زمين
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
آنه باآن يلبانان يل كرد
وآنه شه كله نمرود خورد
وآنكه سنك انداخت داودى بدست
كشف ششصد اره ولشكر شكست
سنك مى باريد با عداى لوط
تاكه درآب سيه خوردند غوط
دست بركافر كواهى مى دهد
لشكر حق مى شود سرمى نهد
كربكويد شم راكور افشاره
دردشم از توبرآرد صددمار
كربدندان كويد اوبنما وبال
س به بينى توزندان كوشمال
فلا بد من التوكل على الله فإنه عون كل ضعيف وحسب كل عاجز قال بعضهم ما سلط الله عليك فهو من جنوده أن سلط عليك نفسك أهلك بنفسك وإن سلط عليك جوارحك أهلك حوارحك بجوارحك وإن سلط نفسك على قلبك قادتك في متابعة الهوى وطاعة الشيطان وإن سلط قلبك على نفسك وجوارحك زمها بالأدب فألزمها العبادة وزينها بالإخلاص في العبودية {وَكَانَ اللَّهُ} از لاو ابدا {عَلِيمًا} مبالغاً في العلم بجميع الأمور {حَكِيمًا} في تقديره وتدبيره فكان بمعنى كان ويكون أي دالة على الاستمرار والوجود بهذه الصفة لا معينة وقتاً ماضياً وقال بعض الكبار ولله جنود السموات من الأنوار القدسية والامدادات الروحانية وجنود الأرض من الصفات النفسانية والقوى الطبيعية فيغلب بعضها على بعض فإذا غلب الأولى على الأخرى حصلت السكينة وكمال اليقين وإذا عكس وقع الشك والريب وكان الله عليماً بسر آثرهم ومقتضيات استعداداتهم وصفاء فطرة الفريق الأول وكدورة نفوس الفريق
13
الثاني حكيماً فيما فعله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/11)
وفي التأويلات النجمية : ولله جنود السموات والأرض أي كلها دالة على وحدانيته تعالى وهي جنود الله بالنصرة لعبادة في الظفر بمعرفته وكان الله عليماً بمن هوا أهل النصرة للمعرفة حكيماً فيما حكم في الأزل لهم {لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا} متعلق بما يدل عليه ما ذكر من كون جنود السموات والأرض له تعالى من معنى التصرف والتدبير أي دبر ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة الله في ذلك ويشكروها فيدخلهم الجنة {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ} هذا بإزاء قوله ليغفر لك الله أي يغطيها ولا يظهرها قبل أن يدخلهم الجنة ليدخلوها مطهرين من الآثام وتقديم الإدخال على التكفير مع أن الترتيب في الوجود على العكس من حيث أن النخلية قبل التحلية للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى {وَكَانَ ذَالِكَ} أي ما ذكر من الإدخال والتكفير {عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} لا يقادر قدره لأنه منتهى ما يمتد إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر والفوز الظفر مع حصول السلامة وعند الله حال من فوزا لأنه صفته في الأصل فلما قدم عليه صار حالاً أي كائناً عند الله تعالى أي في علمه وقضائه {وَيُعَذِّبَ الْمُنَـافِقِينَ وَالْمُنَـافِقَـاتِ} من أهل المدينة {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَـاتِ} من أهل مكة عطف على يدخل والتعذيب هو ما حصل لهم من الغيظ بنصر المؤمنين وفي تقديم المنافقين على المشركين ما لا يخفى من الدلالة على أنهم أحق منهم بالعذاب وقد تثاقل كثير منهم فلم يخرجوا معه عليه السلام ثم اعتذروا فقالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ولو صدقوا عند الناس فما صدقوا عند الله وقد قال تعالى يوم ينفع الصادقين صدقهم أي صدقهم عند الله لا عند الخلق ولذلك قال عليه السلام : "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم إشارة إلى مقام التحقيق والتصديق فإن الدعوى بغير برهان كذب".
برهان ببايد صدق را
ورنه زعواها ه سود
{الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} صفة لطائفتي أهل النفاق وأهل الشرك وظن السوء منصوب على المصدر والإضافة فيه كالإضافة في سيف شجاع من حيث أن المضاف إليه في الحقيقة هم موصوف هذا المجرور والتقدير سيف رجل شجاع فكذا التقدير هنا ظن الأمر السوء وهو أن الله لا ينصر رسوله ولا يرجعهم إلى مكة فاتحين وإلى المدينة سالمين كما قال بل ظننتم أن لن ينقلب الرسل والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وبالفارسية : كمان بردند بخدا كمان بد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
وقال في كشف الكشاف أن ظن السوء مثل رجل صدق أي الظن السيء الفاسد المذموم انتهى وعند البصريين لا يجوز إضافة الموصوف إلى صفته ولا عكسها لأن الصفة والموصوف عبارتان عن شيء واحد فإضافة أحدهما إلى الآخر إضافة الشيء إلى نفسه.
وفي التأويلات النجمية : الظانين بالله ظن السوء في ذاته وصفاته بالأهواء والبدع وفي أفعاله وأحكامه بالظلم والعبث قال بعض العارفين مثال من أحسن في الله ظنه مثال من سلط الله عليه الشيطان ليفتنه ويمتحنه فلما جاءه الشيطان أخبره بأنه رسول من عند الله وأنه رسول رحمة وقال : جئتك لأشد عضدك في الخير وألهمك رشدك لتكون عند ربك في درجة العرش فحسن بربه ظنه وخر ساجداً فصبر الله له الشيطان ملكاً كما ظن كما روى أن الجن صنعت لسليمان عليه السلام أرضاً وصفحتها بالزمرد الأخضر وخصبتها باللؤلؤ والجواهر
14
(9/12)
لتفتنه بها وهو لا يعلم فرأى ان ذلك من مواهب ربه له في دار الدنيا فخر ساجداًفأثبتها الله له أرضاً مقدسة كما ظن الى أن مات على حسن ظنه بربه ومثال من أساء بربه ظنه مثال من أرسل الله إليك ملك رحمة ليرشده للخير فقال إنما أنت شيطان حيث تغويني فصير الله له الملك شيطاناً كما ظن وفي الحديث أنا عند ظن عبدي بي وقال عليه السلام قبل موته بثلاثة أيام : "لا يموتن أحد إلا وهو يحسن الظن بالله وهو من إمارات اليقين".
در روايت آمده است از بعض صحابه رسول عليه السلام كه رسول اورا خبر داده بودكه تو والى شوى در مصر حكم كنى وقتى قلعه را حصار كرده بودند وآن صحابي نيز در ميان بو دسائر اصحابرا كفت مردار كفه منجنيق نهيدو بسوى كفار در قلعه اندازيد ون من آنجا رسم قتال كنم ودر حصار بكشايم ون از سبب اين جرأت رسيدند كفت رسول صلى الله عليه وسلّم مراخبرداده است كه من والى مصر شوم وهنوز نشدم يقين ميدانم كه نميرم تا والى نشوم فهم كن كه قوت ايمان اينست والا ازروى عرف معلوم است كه ون كسى را در كفه منجنيق نهند وبيندازند حال اوه باشد.
ظاهر وباطن ما آينه يكديكرند.
سينه صاف ترازاب روانم دادند {عَلَيْهِمْ دَآاـاِرَةُ السَّوْءِ} أي ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم فقد أكذب الله ظنهم وقلب ما يظنونه بالمؤمنين عليهم بحيث لا يتخطاهم ولا يظفرون بالنصرة أبداً وهذا كقوله تعالى ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء وبالفارسية : وبرين كمان برند كانست كردش بديعنى ايشان منكوب ومغلوب خواهندشد.
قال المولى أبو السعود في التوبة قوله عليهم دائرة السوء دعاء عليهم بنجوما ار ادوا بالمؤمنين على نهج الاعتراض كقوله تعالى : غلبت أيديهم بعد قول اليهود ما قالوا انتهى فإن قلت كيف يحمل على الدعاء وهو للعاجز عرفا والله منزله عن العجز قلت هذا تعليم من الله لعباده إنه يجوز الدعاء عليهم كقوله : قاتلهم الله ونحوه قال ابن الشيخ السوء بالفتح صفة مشبهة من ساء يسوء بضم العين فيها سوأ فهو سوء ويقابله من حيث المعنى قولك حسن يحسن حسناً فهو حسن وهو فعل لازم بمعنى قبح وصار فاسداً رديئاً بخلاف ساءه يسوءه سوأ ومساءة أي أحزنه نقيض سره فإنه متعد ووزنه في الماضي فعل بفتح العين ووزن ما كان لازماً فعل بضم العين وفعل يأتي فاعله على فعل كصعب صعوبة فهو صعب والسوء بضم السين مصدر لهذا اللازم والسوء بضم السين مصدر لهذا اللازم والسوء بالفتح مشترك بين اسم الفاعل من اللازم وبين مصدر المتعدى وقيل السوء بالفتح والضم لغتان من ساء بمعنى كالكره والكره والضعف والضعف خلا أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء وإما المضموم فجار مجرى الشر المناقض للخير ومن ثمة أضيف الظن إلى المفتوح لكونه مذموماً وكانت الدائرة محمودة فكان حقها أن لا تضاف إليه إلا على التأويل المذكور وإما دائرة السوء بالضم فلأن الذي أصابهم مكروه وشدة يصح أن يقع عليه اسم السوء كقوله تعالى إن أراد بكم أو أراد بكم رحمة كما في بعض التفاسير والدائرة عبارة عن الخط المحيط تعالى إن أراد بكم سوأ أو أراد بكم رحمة كما في بعض التفاسير والدائرة عبارة عن الخط المحيط بالمركز ثم استعملت في الحادثة والمصيبة المحيطة لمن وقعت هي عليه فمعنى الآية يحيط بهم السوء إحاطة الدائرة بالشيء أو بمن فيها بحيث لا سبيل إلى الانفكاك عنها بوجه إلا أن أكثر استعمالها
15
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/13)
أي الدائرة في المكروه كما أن أكثر استعمال الدولة في المحبوب الذي يتداول ويكون مرة لهذا ومرة لذاك والإضالة في دائرة السوء من إضافة العام إلى الخاص للبيان كما في خاتم فضة أي دائرة من شر لا من خير وقال أبو السعود في التوبة السوء مصدر ثم أطلق على كل ضرر وشر وأضيفت إليه الدائرة ذماً كما يقال رجل سوء لأن من درات عليه يذمها وهي من إضافة الموصوف إلى صفته فوصفت في الأرض بالمصدر مبالغة ثم أضيفت إلى صفتها كقوله تعالى : ما كان أبوك امرأ سوء وقيل معنى الدائرة يقتضي معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه فإنما هو إضافة بيان وتأكيد كما قالوا شمس النهار ولحيا رأسه {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} عطف لما استحقوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا قال بعضهم غضبه تعالى إرادة العقوبة لهم في الآخرة وكونهم على الشرك والنفاق في الدنيا وحقيقته أن للغضب صورة ونتيجة إما صورة فتغير في الغضبان يتأذى به ويتألم وإما نتيجة فإهلاك المغضوب عليه وإيلامه فعبر عن ننتيجة الغضب بالغضب على الكناية بالسبب على المسبب {وَلَعَنَهُمْ} طردهم من رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} وآماده كرديم براى ايشان دوزخ را.
والواو في الفعلين الآخيرين مع أن حقهما الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها إذ اللعن سبب الإعداد والغضب سبب اللعن للإيذان باستقلال كل منهما في الوعيد وأصالته من غير استتباع بعضهما لبعض {وَسَآءَتْ مَصِيرًا} أي جهنم والمصير المرجع وبالفارسية وبدباز كشتيست دوزخ {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} أي بليغ العزة والقدرة على كل شيء {حَكِيمًا} بليغ الحكمة فيه فلا يفعل ما يفعل الأعلى مقتضى الحكمة والصواب وهذه الآية إعادة لما سبق قالوا فائدتها التنبيه على أنتعالى جنوداً للرحمة ينزلهم ليدخل بهم المؤمنين الجنة معظماً مكرماً وأن له تعالى جنوداً للعذاب يسلطهم على الكفار يعذبهم بهم في جهنم والمراد ههنا جنود العذاب كما ينبىء عنه التعرض لوصف العزة فإن عادته تعالى أن يصف نفسه بالعزة في مقام ذكر العذاب والانتقام قال في برهان القرآن الأول متصل بإنزال السكينة وازدياد إيمان المؤمنين فكان الموضع موضع علم وحكمة وقد تقدم ما اقتضاه الفتح عند قوله وينصرك الله نصراً عزيزاً وأما الثاني والثالث الذي بعده فمتصلان بالعذاب والغضب وسلب الأموال والغنائم فكان الموضع موضع عز وغلبة وحكمة وفي كشف الأسرار يدفع كيد من عادى نبيه والمؤمنين بما شاء من الجنود هو الذي جند البعوض على نمرود والهدهد على بلقيس وروى أن رئيس المنافقين عبد الله ابن أبي ابن سلول قال : هب أن محمداً هزم اليهود وغلب عليهم فكيف استطاعته بفارس والروم فقال الله تعالى : ولله جنود السموات والأرض أكثر عدداً من فارس والروم.
(
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
وقال الكاشفي) : ومرخد ايراست لشكرهاى آسمان وزمين يعني هركه در آسمانها وزمينهاست همه مملوك ومسخر ويند نانه لشكريان مرسردار خودرا تكرار اين سخن جهت وعده مؤمنانست تابنصرت الهي مستظهر باشند وبراى وعيد مشركان ومنافقان تا از تكذيب رباني خائف كردند وفي الآية إشارة إلى ما أعد الله من عظائم فضله وعجائب صنعه في سموات القلوب وأرض النفوس يمد بها أولياءه وينصرهم بها على أنفسهم ليفوزوا بكمال قربه ويخذله بها أعداءه ويهلكهم في أودية
16
الأهوية ليصيروا إلي كما بعده وكان الله عزيز أذل أعداءه حكيماً فيما يعز أولياءه كما في التأويلات النجمية.
واعلم أن الله تعالى قد جعل في النار مائة دركة في مقابلة درج الجنة ولكل دركة قوم مخصوصون لهم من الغضب الإلهي الحال بهم آلام مخصوصة تصل إليهم من أيدي الملائكة الموكلين بهم نعوذ بالله من سخطه وعذابه ونسأله الأولى من نعيمه وثوابه وللغضب درجات منها وقطع الإمداد العلمي المستلزم لتسليط الجهل والهوى والنفس والشيطان والأحوال الذميمة لأنه موقت إلى النفس الذي قبل آخر الأنفاس في حق من يختم له بالسعادة ومنها ما يتصل إلى حين دخولهم جهنم وفتح باب الشفاعة ومنها ما يقتضي الخلود في النار.
(قال الحافظ) :
دارم از لطف ازل جنت فردوس طمع
كره دربانىء ميخانه فراوان كردم
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/14)
والله غفور رحيم لمن تاب ورجع إلى الصراط المستقيم {إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا} أي على أمتك لقوله تعالى ويكون الرسول عليكم شهيدا يعني على تصديق من صدقه وتكذيب من صدقه وتكذيب من كذبه أي مقبولا قوله في حقهم يوم القيامة عند الله تعالى سواء شهد لهم أو عليهم كلما يقبل قول الشاهد العدل عند الحاكم وهو حال مقدرة فإنه عليه السلام إنما يكون شاهداً وقت التحمل والأداء وذلك متأخر عن زمان الإرسال بخلاف غيره مما عطف عليه فإنه ليس من الأحوال المقدرة {وَمُبَشِّرًا} على الطاعة بالجنة والثواب وعلى أهل الطلب بالوصول {نَذِيرًا} على المعصية بالنار والعذاب وعلى أهل الاعراض بالقطية وفي التوراة ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرز اللاميين أنت عبدي ورسولي سميتك بالمتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح لها أعيناً عميا وآذاناً صماً وقلوباً غلناً سرخيل انبيا وسهدار اتقيا.
سلطان باركاه دنى قائدامم {لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الخطاب للنبي عليه السلام ولأمته فيكون تعميماً للخطاب بعد التخصيص لأن خطاب أرسلناك للنبي خاصة ومثله قوله تعالى : ياأيها النبي إذا طلقتم النساء خصه عليه السلام بالنداء ثم عمم الخطاب على طريق تغليب المخاطب على الغائبين وهم المؤمنون فدلت الآية على أنه عليه السلام يجب أن يؤمن برسالة نفسه كما ورد في الحديث أنه عليه السلام أشهد أني عبد الله ورسوله قال اسليلي في الأمالي إنما عرف نبوة نفسه بعد معرفته بجبريل وإمانه به أي بالعلم الضروري فإذا عرف نبوة نفسه وآمن بها وجب عليه أن يؤمن بما أنزل إليه من ربه كما قال تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ويجوز أن يكون الخطاب للأمة فقط فإن قلت كيف يجوز تخصيصهم الخطاب الثاني بالأمة في مقام توجيه الخطاب الأول إليه عليه السلام بخصوصه قلت إن خطاب رئيس القوم بمنزلة خطاب من معه من اتباعه فجاز أن يخاطب الأتباع في مقام تخصيص الرسل بالخطاب لأن المقصود سماعهم {وَتُعَزِّرُوهُ} وتقووه تعالى بتقوية دينه ورسوله قال في المفردات التعزير النصرة من التعظيم قال تعالى وتعزروه والتعزير دون الحد وذلك يرجع الأول فإٌّ ذلك تأديب والتأديب نصرة بقهر عدوه فإن أفعال الشر عدو الإنسان فمتى قمعته عنها فقد نصرته وعلى هذا الوجه قال النبي عليه السلام : انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقال : أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً قال : تكفه عن الظلم انتهى وفي القاموس
17
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/15)
التعزير ضرب دون الحد أو هو أشد الضرب والتفخيم والتعظيم ضد والإعانة كالعزر والتقوية والنصر انتهى وقال بعضهم : أصله المنع ومنه التعزير فإنه منع من معاودة القبيح يعني وتمنعوه تعالى أي دينه ورسوله حتى لا يقوى عليه عدو {وَتُوَقِّرُوهُ} وتعظموه باعتقاد أنه متصف بجميع صفات الكمال منزه عن جميع وجوه النقصان قال في القاموس : التوقير التبجيل والوقار كسحاب الرزانة انتهى يعني السكون والحلم فأصله من الوقر الذي هو الثقل في الأذن {وَتُسَبِّحُوهُ} وتنزهوه تعالى عما لا يليق به ولا يجوز إطلاقه عليه من الشريك والولد وسائر صفات المخلوقين أو تصلوا له من السبحة وهي الدعاء وصلاة التطوع قال في القاموس : التسبيح الصلاة ومنه فلولا أنه كان من المسبحين أي من المصلين {بُكْرَةً وَأَصِيلا} أي غدوة وعشيا فالبكرة أول النهار والأصيل آخره أو دائماً فإنه يراد بهما الدوام وعن ابن عباس رضي الله عنهما صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة العصر وفي عين المعاني البكرة صلاة الفجر والأصيل الصلوات الأربع فتكون الآية مشتملة على جميع الصلوات المفروضة وجوز بعض أهل التفسيران يكون ضمير وتعزروه وتوقروه للرسول عليه السلام ولا وجه له لأنه تفكيك إذ ضمير رسوله وتسبحوه تعالى قطعاً وعلى تقدير أن يكون له وجه فمعنى تعظيم رسول الله وتوقيره حقيقة اتباع سنته في الظاهر والباطن والعلم بأنه زبدة الموجودات وخلاصتها وهو المحبوب الأزلي وما سواه تبع له ولذا أرسله تعالى شاهداً فإنه لما كان أول مخلوق خلقه الله كان شاهداً بوحدانية الحق وربوبيته وشاهداً بما أخرج من العدم إلى الوجود من الأرواح والنفوس والإجرام والأركان والأجسام والأجساد والمعادن والنبات والحيوان والملك والجن والشيطان والإنسان وغير ذلك لئلا يشذ عنه ما يمكن للمخلوق دركه من أسرار أفعاله وعجائب صنع وغرائب قدرته بحيث لا يشاركه فيه غيره ولهذا قال عليه السلام : "علمت ما كان وما سيكون لأنه شاهد الكل وما غاب لحظة وشاهد خلق آدم عليه السلام ولأجله قال : كنت نبياً وآدم بين الماء والطين أي كنت مخلوقاً وعالماً بأني نبي وحكم لي بالنبوة وآدم بين أن يخلق له جسد وروح ولم يخلق بعد واحد منهما فشاهد خلقه وما جرى عليه من الإكرام والإخراج من الجنة بسبب المخالفة وما تاب الله عليه إلى آخر ما جرى عليه وشاهد خلق إبليس وما جرى عليه من امتناع السجود لآدم والطرد واللعن بعد طول عبادته ووفور علمه بمخالفة أمر واحد فحصل له بكل حادث جرى على الأنبياء والرسل والأم فهوم وعلوم ثم أنزل روحه في قالبه ليزداد له نور على نور فوجود كل موجود من وجود وعلوم كل نبي وولي من علومه حتى صحف آدم وإبراهيم وموسى وغيرهم من أهل الكتب الإلهية" وقال بعض الكبار أن مع كل سعيد رقيفة من روح النبيّ صلى الله عليه وسلّم هي الرقيب العتيد عليه فإعراضه عنها بعدم إقباله عليها سبب لانتهاكه ولما قبض الروح المحمدي عن آدم الذي كان به دائماً لا يضل ولا ينسى جرى عليه ما جرى من النسيان وما يتبعه وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلّم "إذا أراد الله أنفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم وإليه ينظر قوله عليه السلام لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن أي ينزع منه الإيمان ثم يزني".
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
واعلم أن كل نبي له الولاية
18
والنبوة فإن كان رسولاً فله الولاية والنبوة والرسالة فعالم رسالته هو كونه واسطة بين الله وخلقه وكذلك إن كان رسولاً إلى نفسه أو أهله أو قومه أو إلى الكافة فليس مع الرسول من عالم الرسالة إلا قدر ما يحتاج إليه المرسل إليهم وما عدا ذلك فهو عالم ولايته فيما بينه وبين الله ولما تفاضلت الأمم تفاضلت الرسل ويأتي النبي يوم القيامة ومعه أمته وآخر معه قومه وآخر معه رهطه وهو ما دون العشرة وآخر معه ابنه وآخر معه رجل وآخر استتبع فلم يتبع ودعا فلم يجب لإتيانه في الوقت الشديد الظلمة ولما جاء نبينا عليه السلام نوراً من الله نور العالم ظواهرها وبواطنها فكانت أمته أسعد الأمم وأكثرها ولذا تجيء في ثمانين صفا وباقي الأمم من لدن آدم عليه السلام في أربعين صفا وقد قال تعالى في حقه مبشراً فإنه لما أرسله إلى الأحمر والأسود بشرهم بأن لهم في متابعته الرتبة المحبوبية التي هي مخصوصة به من بين سائر الأنبياء والمرسلين فقد قال تعالى ونذيراً لئلا ينقطعوا عنه تعالى بشيء من الدارين كما انقطع أكثر الأمم ولم يكونوا على شيء.
قال الكمال الخجندي :
مرد تاروى نيارد زدو عالم بخداى
مصطفى وراكزين همه عالم نشود
(9/16)
نسأل الله أن يجعلنا على حظ وافر من الإقبال إليه والوقوف لديه {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} المبايعة باكسى بيع ويا بيعت وعهد كردن اي يعاهدونك على قتال قريش تحت الشجرة وبالفارسية : بدرستي كه آنانكه بيعت ميكنند باتودر حديبية سميت المعاهدة مبايعة تشبيهاً بالمعاوضة المالية أي مبادلة المال بالمال في اشتمال كل واحد منهما على معنى المبادلة فهم التزموا طاعة النبي عليه السلام والثبات على محاربة المشركين والنبي عليه السلام وعدلهم بالثواب ورضىقال بعض الأنصار عند بيعة العقبة : تكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت فقال عليه السلام : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ولنفسي أن تمنعوني ومما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم فقال ابن رواحة رضي الله عنه : فإذا فعلنا فما لنا فقال : لكم الجنة قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} يعني أن من بايعك بمنزلة من بايع الله كأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة كما قال تعالى أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وذلك لأن المقصود ببيعة رسوله هو وجه الله وتوثيق العهد بمراعاة أوامره ونواهيه قال ابن الشيخ لما كان الثواب إنما يصل إليهم من قبله تعالى كان المقصود بالمبايعة منه عليه السلام المبايعة مع الله وأنه عليه السلام إنما هو سفير ومعبر عنه تعالى وبهذا الاعتبار صاروا كأنهم يبايعون الله وبالفارسية جزين نيست كه بيعت ميكنند باخداى ه مقصود بيعت اوست وبراى طلب رضاى اوسث.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
قال سعدي المفتي : الظاهر والله أعلم أن المعنى على التشبيه أي كأنهم يبايعون الله وكذا الحال في قوله : {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي كأن يد الله حين المبايعة فوق أيديهم حذف أداة التشبيه للمبالغة في التأكيد وذكر اليد لأخذهم بيد رسول الله حين البيعة على ما هو عادة العرب عند المعاهدة والمعاقدة وفيه تشريف عظيم ليد رسول الله التي تعلو أيدي المؤمنين المبايعين حيث عبر عنها بيد الله كما أن وضعه عليه السلام يده اليمنى على يد اليسرى لبيعة عثمان رضي الله عنه تفخيم لشأن عثمان حيث وضعت يد رسول الله موضع يده ولم ينل تلك الدولة العظمى أحد من الأصحاب فكانت غيبته رضي الله عنه في تلك الوقعة خيراً له من الحضور وقال بعضهم : فيه استعارة تخييلية لتنزهه تعالى
19
عن الجارحة وعن سائر صفات الأجسام فلفظ الله في يد الله استعارة بالكناية عن مبايع من الذين يبايعون بالأيدي ولفظ اليد استعارة تخييلية أريد به الصورة المنتزعة الشبيهة باليد مع أن ذكر اليد في حقه تعالى لاجتماعه مع ذكر الأيدي في حق الناس مشاكلة ازداد بها حسن التخييلية ثم إن قوله يد الله فوق أيديهم على كل من القولين تأكيد لما قبله والمقصود تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما وحقيقته أن الله تعالى لو كان من شأنه التمثيل فتمثل للناس لفعل معه عين ما فعل مع نبيه من غير فرق فكان العقد مع النبي صورة العقد مع الله بل حقيقته كما ستجيء الإشارة إليه وقال الراغب في المفردات يقال فلان يد فلان أي وليه وناصره ويقال لأولياء الله هم أيدي الله وعلى هذا الوجه قال الله تعالى : إن الذين يبايعونك الآية ويؤيد ذلك ما روى لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ويده التي يبطش بها انتهى فيكون المعنى قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم كأنه قيل ثق يا محمد بنصرة الله لك لا بنصرة أصحابك ومبايعتهم على النصرة والثبات وقال بعضهم : اليد في الموضعين بمعنى الإلأحسان والصنيعة فالمعنى نعمة الله عليهم في الهداية إلى الإيمان وإلى بيعة الرضوان فوق ما صنعوا من البيعة كقوله تعالى : بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان وقال السدي يأخذون بيد رسول الله ويبايعونه ويد الله أي حفظ تلك المبايعة عن الانتقاض والبطلان فوق أيديهم كما أن أحد المتبايعين إذا مديده إلى الآخر لعقد البيع يتوسط بينهما ثالث فيضع يده على يديهما ويحفظ يديهما إلى أن يتم العقد لا يترك واحداً منهما أن يقبض يده إلى نفسه ويتفرق عن صاحبه قبل انعقاد البيع فيكون وضع الثالث يده على يديهما سبباً لحفظ البيعة فلذلك قال تعالى : يد الله فوق أيديهم يحفظهم ويمنعهم عن ترك البيعة ما يحفظ المتوسط أيدي المتبايعين وقال أهل الحقيقة : هذه الآية كقوله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله فالنبي عليه السلام قد فنى عن وجوده بالكلية وتحقق بالله في ذاته وصفاته وأفعاله فكل ما صدر عنه صدر عن الله فمبايعته مبايعة الله كما أن إطاعته إطاعة الله سلمى قدس سره فرموده كه ابن سخن در مقام جمعست وحق سبحانه مرتبه جمع را براى هي كس تصريح نكرده الا براى آنكه اخص واشرف موجوداتست.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/17)
ولهذا السر يقول عليه السلام يوم القيامة : "أمتي أمتي" دون نفسي نفسي لأنه لم يبق بقية الوجود أصلاً وفيه أسوة حسنة للكمل من أفراد أمته فاعرف جداً فمعنى يد الله فوق أيديهم أي قدرته الظاهرة في سورة قدرة النبي عليه السلام فوق قدرتهم الظاهرة في صور أيديهم لأنه مظهر الاسم الأعظم المحيط الجامع وكل الأسماء تحت حيطة هذا الاسم الجليل فيد النبي عليه السلام مع غيره كيد السلطان مع ما سواه وهو أي قوله يد الله فوق أيديهم زيادة التصريح في مقام عين الجمع لحصول هذا المعنى الإطلاقي مما قبله والحاصل أن الله تعالى جعل نبيه صلى الله عليه وسلّم مظهراً لكمالاته ومرآة لتجلياته ولذا قال عليه السلام : "من رآني فقد رأى الحق" ولما فنى عليه السلام عن ذاته وصفاته وأفعاله كان نائباً عن الحق في ذاته وصفاته وأفعاله كما قيل (ع) نائبست ودست اودست خداى.
وفي هذا المقام قال الحلاج : أنا الحق وأابو بزيد سبحاني سبحاني ما أعظم شاني وأبو
20
سعيد الخراز ليس في الجبة غير الله قال الواسطي : أخبر الله بهذه الآية أن البشرية في نبيه عارية وإضافة لا حقيقة يعني فظاهره مخلوق وباطنه حق ولذا يجوز السجدة لباطنه دون ظاهره إذ ظاهره من عالم التقييد وباطنه من عالم الإطلاق وإذا كانت الصلاة جائزة على الموتى فما ظنك بالأحياء فاعرف جداً فإنه إنما جازت الصلاة على الموتى لاشتمالهم على حصة من الحقيقة المحمدية الجامعة الكلية {فَمَن نَّكَثَ} لنكث نقض نحو الحبل والغزل استعير لنقض العهد أي فمن نقض عهده وبيعته وأزال إبراهيم وأحكامه {فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} فإنما يعود ضرر نكثه على نفسه لأن الناكث هو لا غير {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} بضم الهاء فإنه أبقى بعد حقد الواو إذ أصله هو توسلاً بذلك إلى تفخيم لام الجلالة أي ومن أوفى بعهده وثبت عليه وأتمه {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} هي الجنة وما فيها من رضوان الله العظيم والنظر إلى جماله الكريم ويحتمل أن يراد بنكث العهد ما يتناول عدم مباشرته ابتداء ونقضه بعد انعقاده لما روى عن جابر رضي الله عنه أنه قال : بايعنا رسول الله بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفر فما نكث أحد منا البيعة الا جد ابن قيس وكان منافقاً احتبأ تحت إبط بعيره ولم يسر مع الفوم أي إلى المبايعة حين دعوا إليها.
در موضح آورده كه سه يز راجع باهل آن ميشوديكى مكركه ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله دوم ستم كه إنما يغيكم على أنفسكم سيوم نقض عهدكه فمن نكث على نفسه ودر عهد ويمان كفته اند.
يمان مشكن كه هركه يميان بشكست.
ازاى درافتاد وبرون رفت زدست.
آنرا كه بدردست بوديميان الست.
نشكسته بهي حال هرعهدكه بست.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
كما قال الحافظ :
ازدم صبح ازل تا آخر شام ابد
دوستى ومهر بريك عهد ويك ميثاق بود
وقال :
يميان شكن هر آينه كردد شكسته حال
ان العهود لدى اهل النهى ذمم
قال بعض الكبار : هذه البيعة نتيجة العهد السابق المأخوذ على العباد في بدء الفطرة فيضرهم النكث وينفعهم الوفاء قال الشيخ إسمعيل بن سودكين في شرح التجليات الأكبرية قدس الله سرهما : المبايعون ثلاثة : الرسل والشيوخ والورثة والسلاطين والمبايع في هؤلاء الثلاثة على الحقيقة واحد وهو الله تعالى وهؤلاء الثلاثة شهود الله تعالى على بيعة هؤلاء الاتباع وعلى هؤلاء الثلاثة شروط يجمعها القيام بأمر الله وعلى الاتباع الذين بايعوهم شروط يجمعها المتابعة فيما أمروا به فأما الرسل والشيوخ فلا يأمرون بمعصية أصلاً فإن الرسل معصومون من هذا والشيوخ محفوظون وأما السلاطين فمن الحق منهم بالشيوخ كان محفوظاً وإلا كان مخذولاً وما هذا فلا يطاع في معصية والبيعة لازمة حتى يلقوا الله تعالى ومن نكث الاتباع من هؤلاء فحسبه جهنم خالداً فيها لا يكلمه الله ولا ينظر إليه وله عذاب أليم هذا كما قال أبو سليمان الداراني قدس سره : هذا حظه في الآخرة وأما في الدنيا فقد قال أبو يزيد البسطامي قدس سره في حق تلميذه لما خالفه : دعوا من سقط من عين الله فرؤي بعد ذلك مع المخنثين وسرق فقطعت يده هذا لما نكث أين هو ممن وفي بيعته مثل تلميذ الداراني قيل له : ألق نفسك في التنور فألقى نفسه فيه فعاد عليه برداً وسلاماً هذه نتيجة الوفاء انتهى.
يقول الفقير : ثبت بهذه الآية سنة المبايعة وأخذ التلقين من المشايخ الكبار وهم الذين جعلهم الله قطب إرشاد بأن أوصلهم إلى التجلي
21(9/18)
العيني بعد التجلي العلمي إذ لا فائدة في مبايعة الناقصين المحجبين لعدم اقتدارهم على الإرشاد والتسليك وعن شداد بن أوس وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما قالا : كنا عند رسول الله عليه السلام فقال : "فيكم غريب" يعني : أهل كتاب قلنا : لا يا رسول الله فأمر بغلق الباب فقال : "ارفعوا أيديكم فقولوا لا إله إلا الله" فرفعنا أيدينا ساعة ثم وضع رسول الله يده ثم قال : "الحمد اللهم إنك بعثتني بهذا الكلمة وأمرتني بها ووعدتني عليها الجنة إنك لا تخلف الميعاد" ثم قال : "أبشروا فإن الله قد غفر لكم" كما في ترويح القلوب لعبد الرحمن البسطامي قدس سره وعن عبد الرحمن بن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال : كنا عند رسول الله تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال ألا تبايعون رسول الله وكنا حديثي عهد بيعته فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله قال : ألا تبايعون رسول الله فبسطنا أيدينا وقلنا : على مم نبايعك؟ قال : "أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وتقيموا الصلوات الخمس وتطيعوا واسر كلمة خفية ولا تسألوا الناس ولقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحداً يناوله إياه" رواه مسلم والترمذي والنسائي كما في الترغيب والترهيب للإمام المنذري رحمه الله وعن عبادة بن الصامت قال : أخبرني أبي عن أبيه قال : بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول بالحق حيث كنا ولا نخاف في الله لومة لائم كما في عوارف المعارف للسهروردي قدس سره وقوله وأن لا ننازع الأمر أهله أي إذا فوض أمر من الأمور إلى من هو أهل لذلك الأمر لا ننازع فيه ونسلم ذلك الأمر له وقوله : حيث كنا أي عند الصديق والعدو والأقارب وإلا باعد كما في حواشي زين الدين الحافي رحمه الله وأخذ من التقرير المذكور أخذ اليد في المبايعة وذلك بالنسبة إلى الرجال دون النساء لما روى أن النساء اجتمعن عند النبي عليه السلام وطلبن أن يعادهن باليد فقال : لا تمس يدي يد المرأة ولكن قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة فبايعهن بالكلام ثم طلبن منه البركة فوضع يده الشريفة في الماء ودفعه إليهن فوضعن أيديهن فيه كذا ذكره الشيخ عبد العزيز الديرني في الروضة الانيفة وكذا في ترجمة الفتوحات حيث قال ورسول عليه السلام وفات كرد ودست او بهي زن نا محرم نرسيد وبازنان مبايعه بسخن مى كرد وقول اوبايك زن نان بودكه باهمه انتهى وقال في انسان العيون بايعه عليه السلام ليلة العقبة الثانية السبعون رجلاً وبايعه المرأتان من غير مصافحة لأنه صلى الله عليه وسلّم كان لا يصافح النساء إنما كان يأخذ عليهن فإذا أحرزن قال : اذهبن فقد بايعتكن انتهى وفي الاحياء ويجب منع النساء من حضور المساجد للصلاة ولمجالس الذكر إذا خيفت الفتنة إذ منعتهن عائشة رضي الله عنها فقيل لها : إن رسول الله ما منعهن من الجماعات فقالت : لو علم رسول الله ما أحدثن بعده لمنعهن انتهى فحضورهن مجالس الوعظ والذكر من غير حائل يمنع من النظر إذا كان محظوراً منكراً فيكف مس أيديهن كما في مشيخة هذا الزمان ومبتدعته وربما يمسون المسك لأجل النساء اللاتي يحضرن مجالسهم ويبايعنهم كما سمعنا من الثقات والعياذ بالله تعالى ولنعد إلى تحرير المقام قال أبو يزيد البسطامي قدس سره : من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان وحكي الأستاذ أبو القاسم القشيري عن شيخه أبي علي الدقاق قدس
22
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
سرهما أنه قال : الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس فإنها تتورق ولا تثمر وهو كما قال ويجوز أنها تمثر كالأشجار التي في الأودية والجبال ولكن لا يكون لفاكهتها طعم فاكهة البساتين والغرس إذا نقل من موضع إلى موضع آخر يكون أحسن وأكثر ثمرة لدخول التصرف فيه وقد اعتبر الشرع وجود التعليم في الكلب المعلم وأحل ما يقتله بخلاف غير المعلم وسمعت كثيراً من المشايخ يقولون : من لم ير مفلحاً لا يفلح ولنا في رسول الله أسوة حسنة فأصحاب رسول الله تلقوا اعلوم والآداب من رسول الله كما روى عن بعض الصحابة علمنا رسول الله كل شيء حتى الخراءة بكسر الخاء المعجمة يعني قضاء الحاجة فلا بد لطالب الحق من أديب كامل وأستاذ حاذق يبصره بآفات النفوس وفساد الأعمال ومداخل العدو فإذا وجد مثل هذا فليلازمه وليصحبه وليتأدب بآدابه ليسري من باطنه إلى باطنه حال قوى كسراج يقتبس من سراج ولينسلخ من إرادة نفسه بالكلية فإن التسليم له تسليمولرسوله لأن سلسلة التسليم تنتهي إلى رسول الله وإلى الله "في المثنوي" :
كفت طوبى من رآني مصطفى
والذي يبصر لمن وجهي رأى
ون راغى نور شمعى را كشيد
هركه ديدانرا يقين آن شمع ديد
همنين تاصد راغ ارنقل شد
ديدن آخر لقاى اصل شد
خواه نوراز واسين بستان بجان
هي فرقى نيست خواه ازشمعدان
(9/19)
وفي الحديث الحجر الأسود يمين الله في أرضه فمن لم يدرك بيعة رسول الله فمسح الحجر فقد بايع الله ورسوله وفي رواية الركن يمين الله في الأرض يصافح بها عباده كما يصافح أحدكم أخاه قال السخاوي معنى الحديث : أن كل ملك إذا قدم عليه قبلت يمينه ولما كان الحاج والمعتمر يتعين لهما تقبيله نزل منزلة يمين الملك ويده ولله المثل الأعلى وكذلك من صافحه كان له عند الله عند كما أن الملك يعطي الهدية والعهد بالمصافحة انتهى.
يقول الفقير : لا شك أن الكعبة عند أهل الحقيقة إشارة إلى مرتبة الذات الأحدية والذات الأحدية قد تجلت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بجميع أسمائها وصفاتها فكانت الكعبة صورة رسول الله والحجر الأسود صورة يده الكريمة وأما حقيقة سر الكعبة والحجر فذاته الشريفة ويمينه المباركة ومن هنا نعرف أن الإنسان الكامل أفضل من الكعبة وكذا يده أولى من الحجر ولما انتقل النبي عليه السلام خلفه ورثته بعده فهم مظاهر هذين السرين فلا بد من تقبيل الحجر في الشريعة ومن تقبيل يد الإنسان الكامل في الحقيقة فإنه المبايعة الحقيقة فإنها عين المبايعة مع الله ورسوله ثم إذا وقعت المبايعة للمبايع في ذلك أو أن ارتضاع وزمان انفطام فلا يفارق من بايعه إلا بعد حصول المقصود بأن ينفتح له باب الفهم من الله ومتى فارق قيل أو أن انقطام يناله من الإعلال في الطريق بالرجوع إلى الدنيا ومتابعة الهوى ما ينال المفطوم لغير أوانه في الولادة الطبيعية وكذا الحال في العلم الظاهر فإنه لا بد فيه من التكميل ثم الإذن من الأستاذ للتدريس قال في الأشباه لما جلس أبو يوسف للتدريس من غير إعلام أبي حنيفة أرسل إليه أبو حنيفة رجلاً فسأله عن مسائل خمس :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
الأولى : قصار جحد الثوب ثم جاء به مقصوراً هل يستحق الأجر أو لا؟ فأجاب أبو يوسف : يستحق الأجر فقال له الرجل : أخطأت فقال : لا يستحق فقال : أخطأت ثم قال له الرجل : إن كانت القصارة قبل الجحود استحق وإلا لا.
23
الثانية : هل الدخول في الصلاة بالفرض أو بالسنة؟ فقال : أخطأت فقال : بالسنة فقال : أخطأت فتحير أبو يوسف فقال الرجل : بهما لأن التكبير فرض ورفع اليدين سنة.
الثالثة : طير سقط في قدر على النار فيه لحم ومرق هل يؤكلان أو لا؟ فقال : يؤكلان فخطأه فقال : لا يؤكلان فخطأه ثم قال : إن كان اللحم مطبوخاً قبل سقوط الطير يغسل ثلاثاً ويؤكل وترمى المرقة وإلا يرمى الكل.
الرابعة : مسلم له زوجة ذمية ماتت وهي حامل منه تدفن في أي المقابر؟ فقال أبو يوسف : في مقابر المسلمين فخطأه فقال : في مقابر أهل الذمة فخطأه فتحير فقال : تدفه في مقابر اليهود ولكن يحول وجهها عن القبلة حتى يكون وجه الولد إلى القبلة لأن الولد في البطن يكون وجهه إلى ظهر أمه.
الخامسة : أم ولد لرجل تزوجت بغير إذن مولاها فمات المولى هل تجب العدة من المولى؟ فقال : تجب فخطأه فقال : لا تجب فخطأه ثم قال : الرجل إن كان الزوج دخل بها لا تجب وإلا وجبت فعلم أبو يوسف تقصيره فعاد إلى أبي حنيفة فقال : تزببت قبل أن تحصرم.
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 3 من صفحة 24 حتى صفحة 34
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/20)
قال الشيخ سعدي : يكى درصنعت كشتى كيرى بسر آمده بود وسيصد وشصت بند فاخر درين علم بدانستى وهر روز بنوعى كشتى كرفتى مكر كوشه خاطرش باجمال يكى از شاكردان ميل داشت سيصدو نجاه ونه بند اورا آموخت مكريك بندكه در تعليم آن دفع انداختى وتهاون كردى في الجملة سر درقوت وصنعت بسر آمد وكسى را با او مجال مقاومت نماند تا بحدى كه يش ملك كفت استادرا فضيلتي كه برمنست ازروى بزركيست وحق تر بيت وكرنه بقوت ازوكمتر نيستم وبصنعت با وبرابر ملك را اين سخن سنديده نيامد بفرمود تا مصارعه كنند مقامى متسع ترتيب كردند واركان دولت واعيان حضرت وزور آلأران آن اقليم حاضر شدند سر ون يل مست در آمد بصدمتى كه اكركوه آهنين بودى ازجاى بركندى استاد دانست كه جوان ازو بقوت برترست بدان بند غريب كه ازونهان داشته بود بر اودر آويخت وبدودست بر كرفت از زمين بر بالاى سر بردو بر زمين زدغريو از خلق برخاست ملك فرمود تا استادرا خلعت ونعمت بى قياس دادندو سررا زجرو ملامت كردكه بارورنده خويش دعوى مقاومت كردى وبسر نبردى كفت اى خداوند مرا بزور دست ظفر نيافت بلكه ازعلم كشتى دقيقه مانده بودكه زمن دريغ همى داشت امر وزبدان دقيقه برمن دست يافت استاد كفت ازبهر نين روزنهان داشتم فعلم أن التلميذ لا يبلغ درجة استاذه في زمانه فللاستاذ العلو من كل وجه.
مريدان بقوت زطفلان كمند.
مشايخ و ديوار مستحكمند.
قال في كشف النور عن أصحاب القبور وأما هذا الزي المخصوص الذي اتخذه كل فريق من الصوفية كلبس المرقعات ومئازر الصوف والميلويات فهر امر قصدوا به التبرك بمشايخهم الماضية فلا ينهون عنه ولا يؤمرون به فإن غالب ملابس هذا الزمان من هذا القيل كالعمائم التي اتخذها الفقهاء والمحدثون والعمائم التي اتخذها العساكر والجنود والملابس التي يتخذها عوام الناس وخواصهم فإنها جميعها مباحة وليس فيها شيء يوافق السنة إلا القليل ولا نقول إنها بدعة أيضاً لأن البدعة هي الفعلة المخترعة في الدين على خلاف ما كان عليه النبي عليه السلام وكانت عليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم وهذه الهيئات والملابس والعمائم
24
(9/21)
ليست مبتدعة في الدين بل هي مبتدعة في العادة ولا هي مخالفة للسنة ايضاً على حسب ما عرف الفقهاء السنة بأنها كل فعلة فعلها النبي عليه السلام على وجه العبادة لا العبادة ولم يكن النبي عليه السلام يلبس العمامة على سبيل العبادة ولا يلبس الثياب المخصوصة على طريق العادة وإنما القصد بذلك ستر العولة ودفع أذية الحر والبرد ولهذا ورد عنه لبس الصوف والقطن وغير ذلك من الثياب العالية والسافلة فليس مخالفته في ذلك لمخالفة سنة وإن كان الاتباع في جميع ذلك أفضل لأنه مستحب انتهى قال في العوارف لبس الخرقة أي من يد الشيخ علامة التفويض والتسليم ودخوله في حكم الشيخ دخوله في حكم الله تعالى وحكم رسوله عليه السلام وإحياء سنة المبايعة مع رسول الله قالت أم خالد : أتى النبي عليه السلام بثياب فيها خمص سوداء صغيرة وهي كساء أسود مربع له علمان فإن لم يكن معلماً فليس بخميصة عليه السلام من ترون أكسو هذه فكست القوم فقال عليه السلام : "ائتوني بأم خالد" قالت : فأتى بي فألبسنيها بيده فقال : إبلي واخلقي يقولها مرتين وجعل ينظر إلى علم الخميصة أصفر وأحمر ويقول : يا أم خالد هذا سناء والسناء هو الحسن بلسان الحبشة ولا خفاء بأن لبس الخرقة على الهيئة التي يعمدها الشيوخ في هذا الزمان لم يكن في زمن رسول الله وهذه الهيئة والاجتماع لها والاعتداد بها من استحسان الشيوخ وقد كان طبقة من السلف الصالحين لا يعرفون الخرقة ولا يلبسونها المريدين فمن يلبسها فله مقصد صحيح وأصل من السنة وشاهد من الشرع ومن لا يلبسها فله رأي وله في ذلك مقصد صحيح وكل تصاريف المشايخ محمولة على السداد والصواب ولا تخلو عن نية خالصة فيها انتهى كلام العوارف باختصار وقال الشيخ زين الدين الحافي في حواشيه قد صح واشتهر بنقل الأولياء كابراً عن كابر على ما هو مسطور في إجازات المشايخ أن رسول الله ألبس علياً الخرقة الشريفة وهو ألبس الحسن البصري وكميل بن زياد رضي الله عنهما وفي المقاصد الحسنة أن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعاً فضلاً عن أن يلبسه الخرقة قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : الضرورة من اللباس الظاهر ما يستر السوآت والرياش ما يزيد على ذلك مما تقع به الزينة والضروري من اللباس الباطن وهو تقوى المحارم مطلقاً ما يواري سوأة الباطن والريش لباس مكارما لأخلاق مثل نوافل العبادات كالصفح والإصلاح فأراد أهل الله أن يجمعوا بين اللبستين ويتيزنوا بالزينتين ليجمعوا بين الحسنيين فيثابوا من الطرفين فلبسوا الخرقة وألبسوها ليكون تنبيهاً على ما يريدونه من لباس بواطنهم وجعلوا ذلك أصلاً وأصل هذا اللباس عندي ما ألقي في سري أن الحق لبس قلب عبده فإنه قال ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي فإن الثوب وسع لابسه وظهر هذا الجمع بين اللبستين في زمان الشبلي وابن حفيف إلى هلم جرا فجرينا على مذهبهم في ذلك فلبسناها من أيدي مشايخ جمة سادات بعد أن صحبناهم وتأدبنا بآدابهم ليصح اللباس ظاهراً وباطناً انتهى باختثار نسأل الله سبحانه أن يجعل لباس التقوى لباساً خيراً لنا وأن يصح نياتنا وعقائدنا وأعمالنا وأحوالنا أنه هو المعين لأهل الدين إلى أن يأتي اليقين
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الاعْرَابِ} السين للاستقبال يقال خلفتة بالتشديد تركته خلفي وخلفوا أثقالهم تخليفاً خلوها وراء ظهورهم والتخليف بالفارسية :
25
(9/22)
واس كذشتن ودر اينجا مراد از مخلفون بازس كردكان خداى يعني ايشان كه باز س كرده انداز صحبث رسول عليه السلام ازباديه نشينان.
خلفهم الله عن رسول الله كما قال كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع الخالفين قال في المفردات العرب أولاد اسمعيل عليه السلام والأعراب جمعه في الأصل وصار ذلك اسماً لسكان البادية وقيل في جميع الأعراب أعاريب والأعرابي صار اسماً في التعراف للمنسوبين إلى سكان البادية انتهى وفي القاموس العرب بالضم وبالتحريك خلاف العجم مؤنث وهم سكان الأمصار والأعراب منهم سكان البادية ويجمع على أعاريب انتهى وفي مختار الصحاح العرب جيل من الناس والنسبة إليهم عربي وهم أهل الأمصار والأعراب منهم سكان البادية خاصة والنسبة إليهم أعرابي وليس الاعراب جمعاً لعرب بل هو اسم جنس انتهى وقال ابن الشيخ في سورة التوبة : العرب هو الصنف الخاص من بني آدم سواء سكن البادي أم القرى وأما الأعراب فإنه لا يطلق إلا على من يسكن البوادي فالأعراب جمع أعرابي كما أن العرب جمع عربي والمجوس جمع مجوسي واليهود جمع يهودي بحذف ياء النسبة في الجمع ويدل على الفرق بين العرب والأعراب قوله عليه السلام : "حب العرب من الإيمان" وقوله تعالى : أشد كفراً ونفاقاً حيث مدح العرب وذم الأعراب الذين هم سكان البادية فعلى هذا يكون العرب أعم من الأعراب وقيل العرب هم الذين استوطنوا المدن والقرى والأعراب أهل البدو فعلى هذا القول يكونان متباينين انتهى والمراد هنا هم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والدئل بالكسر تخلفوا عن رسول الله عليه السلام حين استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه عند إرادته المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً حذراً من قريش أن يتعرضوا له بحرب ويصدوه عن البيب واحرم عليه السلام وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد الحرب وتثاقلوا عن الخروج وقالوا : أنذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم فأوحى الله إليه عليه السلام بأنهم سيعتلون أي عند وصولك إلى المدينة ويقولون : {شَغَلَتْنَآ} مشغول كرد مارا.
والشغل العارض الذي يذهل الإنسان وقد شغل فهو مشغول {أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} ولم يكن لنا من يخلفنا فيهم ويقوم بمصالحهم ويحميهم من الضياع والأموال جمع مال وهو كل ما يتملكه الناس من دارهم أو دنانير أو ذهب أو فضة أو حنطة أو خبز أو حيوان أو ثياب أو سلاح أو غير ذلك والمال العين هو المضروب وسمي المال مالاً لكونه بالذات تميل القلوب إليه وفي التلويح المال ما يميل إليه الطبع ويدخر لوقت الحاجة أو ما خلق لمصالح الآدمي ويجري فيه الشح والضنة انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
والأهلون جمع أهل وأهل الرجل عشيرته وذوو أقرباه وقد يجمع الأهل على أهال وآهال واهلات ويحرك كأرضات على تقدير تاء التأنيث أي على أن أصله أهلة كما في أرض فحكمه حكم تمرة حيث يجوز في تمرات تاء التأنيث أي على أن أصله أهلة كما في أرض فحكمه حكم تمر حيث يجوز في تمرات تحريم الميم {فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك حيث لم يكن ذلك باختيار بل عن اضطرار {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} تكذيب لهم في الاعتذار وسؤال الاستغفار يعني أنه تكذيب لهم فيما يتضمنه من الحكم من أنا مؤمنون حقاً معترفون بذنوبنا فالشك والنفاق هو الذي خلفهم لا غير وفي الآية إشارة إلى أن القلوب
26
وفي التلويح المال ما يميل إليه الطبع ويدخر لوقت الحاجة أو ما خلق لمصالح الآدمي ويجري فيه الشح والضنة انتهى والأهلون جمع أهل وأهل الرجل عشيرته وذو واقرباه وقد يجمع الأهل على أهال وآهال وأهلات ويحرك كأرضات على تقدير تاء التأنيث أي على أن أصله أهلة كما في أرض فحكمه حكم تمرة حيث يجوز في تمرات تحريك الميم {فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك حيث لم يكن ذلك باختيار بل عن اضطرار {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} تكذيب لهم في الاعتذار وسؤال الاستغفار يعني أنه تكذيب لهم فيما يتضمنه من الحكم من أنا مؤمنون حقاً معترفون بذنوبنا فالشك والنفاق هو الذي خلفهم لا غير وفي الآية إشارة إلى أن القلوب الغافلة عن الله يقولون أي أهلها بألسنتهم ما ليس له حقيقة ولا شعور لقلوبهم على حقيقة ما يقولون فإنهم يقولون ويريدون به معنى آخر كقولهم شغلتنا أموالنا وأهولونا مجازاً يريدون به اعتذاراً لتخلفهم ولقولهم شغلتنا حقيقة وذلك أن أموالهم وأهليهم شغلتهم عن ذكر الله والائتمار بأوامره وعن متابعة النبي عليه السلام وهم مأمورون بها.
قال المولى الجامي :
مكن تعلق خاطر بنقش صفحه دهر
جريده وارهمى زى وساده وش مى باش
جزء : 9 رقم الصفحة : 2(9/23)
{قُلْ} رداً لهم عند اعتذارهم إليك بأباطيلهم {فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْـاًا} أي فمن يقدر لأجلكم من مشيئة الله وقضائه على شيء من النفع {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} أي ما يضركم من هلاك الأهل والمال وضياعهم حتى تتخلفوا عن الخروج لحفظهما ودفع الضرر عنهما {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعَا} أي ومن يقدر على شيء من الضرر إن أراد بكم ما ينفعكم من حفظ أموالكم وأهليكم فأي حاجة إلى التخلف لأجل القيام بحفظهما {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرَا} أي ليس الأمر كما تقولون بل كان الله خبيراً بجميع ما تعملون من الأعمال التي من جملتها تخلفكم وما هو من مباديه فمن ترك أمر الله ومتابعة رسوله وقعد طلباً للسلامة دخل في الآية ثم لم يجد خلاصاً من الضرر والبلاء فإن الله تعالى قادر على إيصال المكروه ولو بغير صورة القتال فلا بد من الصدق والعمل بالإخلاص والتوكل على الله تعالى فإن فيه الخلاص.
تقلست كه بكروز كسان حجاج ظالم حسن بصري را رضي الله عنه طلب كردند حسن در صومعه حبيب عجمي قدس سره نهان شد حبيب را كفتند امروز حسن را ديدى كفت ديدم كفتند كجاست كفث درين صومعه شد در صومعه رفتند ندانكه طلب كردند حسن رانيا فتند نانكه حسن كفت هفت باردست برمن نهادند ومرانديدند وبيرون آمدند وكفتند اي حبيب آنه حجاج باشما كند سزاي شماست تارا دروغ ميكوييد حبيب كفت او دريش من درين جاشدا كر شمانمي دانيد ونمى بينيد مراه جرم عوانان ديكر باره طلب كردند نيا فتند حسن از صومعه بيرون آمد كفت اي حبيب حق استاذي نكاه داشتى ومرابعوانان غمز مكيردى كفت اي استاذ بروكه براست كفتن خلاص يا فتى كه اكر دروغ ميكفتمى هردو كرفتار خواستيم شدن.
قال الحافظ :
بصدق كوش كه خورشيد زايد ازنفست
كه از دروغ سيه روى كشث صبح نخست
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
حسن كفت ه كردى كه مرانديديند كفت نه بار آية الكرسي ونه بار آمن الرسول ونه بار قل هو الله أحد بخواندم وباز كفتم كه خدايا حسن را بتو سردم كه نكاهش دارى وهكذا يحفظ الله أولياءه الصادقين وينصرهم ويترك أعداءه الكافرين ويخذلهم {بَلْ ظَنَنتُمْ} الخ بدل من كان الله الخ مفسر لما فيه من الابهام أي بل ظننتم أيها المخلفون {أَن لَّن يَنقَلِبَ} لن برجع وبالفارسية : بلكه كمان ميبرديد آنكه باز نكردد {الرَّسُولُ} صلى الله عليه وسلّم {وَالْمُؤْمِنُونَ} الذين معه وهم ألف وأربعمائة {إِلَى أَهْلِيهِمْ} بسوى أهالى خود بمدينه {أَبَدًا} هركزاي بأن يستأصلهم المشركون بالكي فخشيتم إن كنتم معهم أن يصيبكم ما أصابهم فلأجل ذلك تخلفكم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة {وَزُيِّنَ ذَالِكَ فِى قُلُوبِكُمْ} وراسته شد اين كمان دردلهاى شما يعني شيطان بياراست.
وقبلتموه واشتغلتم بشأن أنفسكم
27
غير مبالين بهم {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} وكمان برد ديد كمان بد.
المراد به إما الظن الأول والتكرير لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء وإلا فهو من عطف الشيء على نفسه أو ما يعمه وغيره من الظنون الفاسدة التي من جملتها الظن بعدم الصحة رسالته عليه السلام فإن الجازم بصحتها لا يحوم حول فكره ما ذكر من الاستئصال فبهذا التعميم لا يلزم التكرار {وَكُنتُمْ قَوْمَا بُورًا} أي هالكين عند الله مستوجبين سخطه وعقابه على أنه جمع بائر من بار بمعنى هلك كعائذ وعوذ وهي من الإبل والخيل الحديثة النتاج أو فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم فإن البور الفاسد في بعض اللغات وقيل البور مصدر من بار كالهلك من هلك بناء ومعنى ولذا وصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث فيقال رجل بورو قوم بوروفي المفردات البوار فرط الكساد ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد عبر بالبوار عن الهلاك وكانوا قوماً بوراً أي هلكى انتهى وفيه إشارة إلى أن كل من ظن أنه يصيبه في الغزو قتل أو جراحة أو ما يكره من المصائب ثم يتخلف عن الغزو فإنه من الهالكين وقد استولى الشيطان على قلبه فزين في قلبه الحياة الدنيا ليؤثرها على الحياة الأخروية التي أعدت للشهداء والدرجات العلي في الجنة والقربات في جوار الحق تعالى.
مكن زغصه شكايت كه در طريق طلب.
براحتى نرسيد آنكه زحمتى نرسيد آنكه زحمتى نكشيد
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/24)
{وَمَن لَّمْ يُؤْمِنا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} كلام مبتدأ من جهته تعالى ومن شرطية أو موصولة أي ومن لم يؤمن بهما كدأب هؤلاء المخلفين {فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ سَعِيرًا} أي لهم وإنما وضع موضع الضمير العائد إلى من الكافرون إيذاناً بأن من لم يجمع بين الإيمان بالله ورسوله وهو كافر فإنه مستوجب السعير أي النار الملتهبة وتنكيره للتهويل للدلالة على أنه سعير لا يكتنه كنهها أو لأنها نار مخصوصة كما قال ناراً تلظى فالتنكير للتنويع {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وما فيهما يتصرف في الكل كيف يشاء وبالفارسية : مرخدا يراست ادشاهى آسمانها وزمينها زمام أمور ممالك علوى وسفلى در قبضه قدرت اوست {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} أن يغفر له وهو فضل منه {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أن يعذبه وهو عدل من غير دخل لأحد في شيء منهما وجوداً وعدماً وفيه حسم لأطماعهم الفارغة في استغفاره عليه السلام لهم {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} مبالغاً في المغفرة والرحمة لمن يشاء ولا يشاء إلا لمن تقتضي الحكمة مغفرته ممن يؤمن به وبرسوله وأما من عداه من الكافرين فهم بمعزل من ذلك قطعاً فالآية نظير قوله تعالى في الأحزاب ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفوراً رحيماً أي يعذب المنافقين إن شاء تعذيبهم أي إن لم يتوبوا فإن الشرك لا يغفر البتة أو يتوب عليهم أي يقبل توبتهم إن تابوا فالله تعالى يمحو بتوبة واحدة ذنوب العمر كله ويعطي بدل كل واحدة منها حسنة وثواباً قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد ومن الظمئان الوارد ومن العقيم الوالد ومن تاب إلى الله توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه وبقاع أرضه خطاياه وذنوبه"
كرآيينه ازآه كردد تباه
شود روشن آيينة دل بآه
تويش از عقوبت در عفو كوب
كه سودى
28
ندارد فغان زير وب
وفي هذا المعنى قال الكمال الخجندي :
تراه سود بروز جزا وقايه وحرز
كه از وقاية عفوش حمايتي نرسيد
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
وفي الآية إشارة إلى أن من أطفأ سعير نفسه وشعلة صفاتها بماء الذكر وترك الشهوات يؤمن قلبه وينجو من سعير النفس وهو حال من آمن بالله ورسوله وإلا فيكون سعير نفسه وشعلة صفاتها مستولية على القلب فتحرقه وما تبقى من آثاره شيئاً وهو حال من لم يؤمن بالله ورسوله ولله ملك سموات القلوب وأرض النفوس يغفر لنفس من يشاء ويزكيها عن الصفات الذميمة ويجعلها مطمئنة قابلة لجذبة ارجعي ويعذب قلب من يشاء باستيلاء صفات النفس عليه ويقلبه كما لم يؤمن به وكان الله غفوراً لقلب من يشاء رحيماً لنفس من يشاء يؤتى ملك نفس من يشاء لقلبه وينزع ملك قلب من يشاء ويؤتيه لنفسه {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} المذكورون {إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} ظرف لما قبله لا شرط لما بعده وانطلقتم أي ذهبتم يقال انطلق فلان إذا مر متخلفاً وأصل الطلاق النخلية من وثاق كما يقال حبس طلقاً ويضم أي بلا قيد ولا وثاق والمغانم جمع مغنم بمعنى الغنيمة أي الفتى أي سيقولون عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر لنحوزوها حسبما وعدكم إياها وخصكم بها عوضاً عما فاتكم من غنائم مكة إذا انصرفوا منها على صلح ولم يصيبوا منها شيئاً فالسين يدل على القرب وخيبراً قرب مغانم انطلقوا إليها فهي هي فإن قيل كيف يصح هذا الكلام وقد ثبت أنه عليه السلام أعطى من قدم مع جعفر رضي الله عنه من مهاجري الحبشة وكذا الدوسيين والأشعريين ولم يكونوا ممن حضر الحديبي قلنا كان ذلك باستنزال أهل الحديبية عن شيء من حقهم ولولا أن بعض خيبر كانت صلحاً لما قال موسى بن عقبة ومن تبعه ما قالوا وكان ما أعطاهم من ذلك كما في حواشي سعدى المفتي {ذَرُونَا} بكذاريد مارا.
أمر من يذر الشيء أي يتركه ويقذفه لقلة اعتداره به ولم يستعمل ماضيه إلى خيبر ونشهد معكم قتال أهلها {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَـامَ اللَّهِ} بأن يشاركوا في المغانم التي خصها بأهل الحديبية فإنه عليه السلام رجع من الحديبية في ذي الحجة من سنة ست وأقام بالمدينة بقيتها واوآئل المحرم من سنة سبع ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالاً كثيرة فخصها بهم حسبما أمره الله تعالى فالمراد بكلام الله ما ذكر من وعده تعالى غنائم خيبر لأهل الحديبية خاصة لا قوله تعالى لن تخرجوا معي أبداً فإن ذلك في غزوة تبوك {قُلْ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/25)
اقنا طالهم {لَّن تَتَّبِعُونَا} أي لا تتبعونا فإنه نفى في معنى النهي للمبالغة وقال سعدي المفتي : لن ليس للتأكيد سيما إذا أريد النهي والمراد لن تتبعونا في حيبر أو ديمومتهم على مرض القلوب وقال أبو الليث : لن تتبعونا في المسير إلى خيبر إلا متطوعين من غير أن يكون لكم شركة في الغنيمة {كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ} همنين كفته است خداي تعالى {مِن قَبْلُ} أي عند الانصراف من الحديبية {فَسَيَقُولُونَ} للمؤمنين عند سماع هذا النهي {بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي ليس ذلك النهي حكم الله بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنائم الحسد تمني زوال النعمة عمن يستحق لها وربما يكون من ذلك سعي في إزالتها وروى المؤمن يغبط والمنافق يحسد وقال بعض الكبار : لا يكون الحسد على المرتبة إلا بين الجنس الواحد لا بين الجنسين ولذلك كان أول ابتلاء ابتلى الله به
29
عباده بعثة الرسول إليهم منهم لا من غيرهم لتقوم الحجة على من جحد قال تعالى : ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً يعني لو كان الرسول إلى البشر ملكاً لنزل في صورة رجل حتى لا يعرفوا أنه ملك لأنهم لو رأوه ملكاً لم يقم بهم حسد {بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ} أي لا يفهمون قال الراغب الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم والفقه بأحكام الشريعة وفقه أي فهم فقهاً {إِلا قَلِيلا} أي إلا فهماً قليلاً وهم فطنتهم لأمور الدنيا وهو وصف لهم بالجهل المفرط وسوء الفهم في أمور الدين وعن علي رضي الله عنه أقل الناس قيمة أقلهم علماً.
واعلم أن العلم إنما يزداد بصحبة أهله ولما تخلف المنافقون عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصفهم الله بعدم الفقه فلا بد من مجالسة العلماء العاملين حتى تكون الدنيا وراء الظهر ويجعل الرغبة في الآخرة وقد قال عليه السلام : "اطلبوا العلم ولو بالصين" فكلما بعد المنزلة كثر الخطى وعن بعضهم قال : رأيت في الطواف كهلاً قد أجهدته العبادة وبيده عصا وهو يطوف معتمداً عليها فسألته عن بلده فقال خراسان ثم قال لي : في كم تقطعون هذا الطريق : قلت في شهرين أو ثلاثة فقال : أفل تحجون كل عام؟ فقلت له : وكم بينكم وبين هذا البيت؟ قال : مسيرة خمس سنين قلت : هذا والله هو الفضل المبين والمحبة الصادقة فضحك وأنشأ يقول :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
زرمن هويت وان شطت بك الدار
وخال من دونه حجب واستار
لا يمنعك بعد عن زيارته
إن المحب لمن يهواه زوار
وفي الآية إشارة إلى أن الدنيا من مظان الحسد وهو من رذائل النفس وفي الحديث "ولا تحاسدوا" أي على نعم الله تعالى مالاً أو علماً أو غير ذلك إلا أن يقع الغبطة على المال المبذول وفي سبيل الله والعلم المعمول به المنشور "ولا تناجشوا" النجش هو أن تزيد في ثمن سلعة ولا رغبة لك في شرآثها وقيل هو تحريض الغير على شر "ولا تباغضوا" إلا أن يكون البغض في الله قال الشيخ الكلاباذي معنى لا تباغضوا ولا تختلفوا في الأهواء والمذاهب لأن البدعة في الدين والضلال عن الطريق يوجب البغض عليه "ولا تدابروا" أي لا تقاطعوا فإن التدابر التقاطع وإن يولي الرجل صاحبه دبره فيعرض عنه كما في الفائق أو لا تغتا بواو صفة الأخوة التقابل كما قال تعالى : إخواناً على سرر متقابلين وكما قال عليه السلام : "وكونوا عباد الله إخوانا" قال الحافظ :
رحمى نه برادر ببرادر دارد
هي شوقى نه در رابه سرمى بينم
دختر انراهمه جنكست وجدل بامادر
سرا نراهمه بدخواه در مى بينم
نسأل الله السلامة والعافية {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاعْرَابِ} كرر ذكرهم بهذا العنوان لذمهم مرة بعد أخرى فإن التخلف عن صحبة الرسول عليه السلام شناعة أي شناعة {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ} بحرب كروهى {أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي أولى قوة في الحرب وبالفارسية : كروهى بازور سخت.
وهم بنوا حنيفة كسفينة أبو حي كما في القاموس والمراد أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب أو هم غيرهم ممن ارتدوا بعد رسول الله والمشركون لقوله تعالى : {تُقَـاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} استئناف كأنه قيل : لماذا فأجيب ليكون أحد الأمرين إما المقاتلة أبداً أو الإسلام لا غير وإما من عدا المرتدين
30
(9/26)
والمشركين من العرب فينتهي قتالهم بالجزية كما ينتهي بالإسلام يعني أن المراد بقوم أولى بأس شديد هم المرتدون والمشركون مطلقاً سواء كانوا مشركي العرب أو العجم بناء على أن من عدا الطائفتين المذكورتين وهم أهل الكتاب والمجوس ليس الحكم فيهم أن يقتلوا إلى أن يسلموا بل تقبل منهم الجزية بخلاف المرتدين ومشركي العرب والعجم فإنه لا تقبل منهم الجزية بل يقاتلون حتى يسلموا وهذا عند الشافعي وإما عند أبي حنيفة رحمه الله فمشركوا العجم تقبل منهم الجزية كما تقبل من أهل الكتاب والمجوس والذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف إنما هم مشركوا العرب والمرتدون فقط عنده وفي الآية دليل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه إذ لم يتفق دعوة المخلفين إلى قتال أولى الباس الشديد لغيره من الخلفاء وقد وعدهم الثواب على طاعته وأوعدهم على مخالفته بقوله فإن تطيعوا الخ ومن أوجب الله طاعته يكون إماماً حقاً فيكون أبو بكر إماماً حقاً إلا إذا ثبت أن المراد بأولى البأس أهل حنين وهم ثقيف وهوازن فلا دلالة للآية حينئذ على إمامة أبي بكر لأن الدعوة إلى قتالهم كانت في حياته عليه السلام لأنه غزاهم عقيب فتح مكة فيكون المخلفون ممنوعين من خيبر مدعوين إلى قتال أهل حنين أي فيخص دوام نفي الاتباع بما فيه غزوة خيبر كما قال محيي السنة وقيل : هم فارس والروم ومعنى يسلمون ينقادون فإن الروم نصارى وفارس مجوس تقبل منهم الجزية فتكون الآية دليلاً على إمامة عمر رضي الله عنه لأنه هو الذي قاتلهم ودعا الناس إلى قتالهم
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{فَإِن تُطِيعُوا} س اكر فرمان بريد كسى راكه خواننده شماست بقتال آن كروه {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ} بدهد شمارا خداى {أَجْرًا حَسَنًا} هو الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة {وَإِن تَتَوَلَّوْا} أي تعرضوا عن الدعوة وبالفارسية واكر روى باكردنانيد وشت بر داعى كنيد {كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ} في الحديبية {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} لتضاعف جرمكم وبيان المقام إنه عليه السلام لما قال لهم لن تتبعونا دعت الحاجة إلى بيان قبول توبة من رجع منهم عن النفاق فجعل تجعلى لهذا القبول علامة وهو أنهم يدعون بعد وفاته عليه السلام إلى محاربة قوم أولى قوة في الحرب فمن أجاب منهم دعوة إمام ذلك الزمان وحاربهم فإنه يقبل توبته ويعطي الأجر الحسن فلولا هذا الامتحان لاستمر حالهم على النفاق كما استمرت حالة ثعلبة عليه فإنه قد امتنع من أداء الزكاة ثم أتى بها ولم يقبل منه النبي عليه السلام واستمر عليه الحال ولم يقبل منه أحد من الصحابة فلعله تعالى علم من ثعلبة أن حاله لا تتغير فلم يبين لتوبته علامة وعلم من أحوال الأعراب أنها تتغير فبين لتغيرها علامة وقال بعضهم : إن عثمان رضي الله عنه قد قبل من ثعلبة وهو مجتهد معذور في ذلك ولعله وقف على إخلاصه والعلم عند الله تعالى ولما حكم داود وسليمان عليهما السلام في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم والنفش الرعي بالليل فحكم داود بشيء وحكم سليمان بأمر آخر وقال الله تعالى : ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً فأخذنا من هنا وأمثاله إن كل مجتهد مصبب وإن لم يكن نصافي الباب قال بعضهم : لا تنكروا على أحد حاله ولا لباسه ولا طعامه ولا غير ذلك إلا بإجازة الشرع وسلموا لكل أحد حاله وما هو فيه ففيهم سائحون وتائبون وعابدون وحامدون وساجدون ومسبحون ومستغفرون ومحققون فقد يكون الإنكار سبب الإيحاش
31
والوحشة سبب انقطاعهم عن باب الخالق ويرحم البعض بالبعض.
قال الحافظ :
عيب رندان مكن اى زاهد اكيزه سرشت
كه كناه دكران بر تونخوا هند نوشت
من اكرنيكم وكربد توبرو خودرا باش
هركسى آن درود عاقبت كاركه كشت
نا ميدم مكن از سابقه لطف ازل
توه دانى فلم صنع بنامت ه نوشت
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/27)
وفي الآية إشارة إلى أن النفوس المتخلفة عن الطاعات والعبادات من الفرائض والنوافل لو دعيت إلى الجهاد في سبيل الله أو الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس والشيطان والدنيا تقاتلونهم بنهى النفس عن الهوى وترك الدنيا وزينتها فإن أجابوا وأطاعوا فقد استوجبوا الأجر الحسن وإن أعرضوا عن الطاعات والعبادات يعذبهم الله بعذاب أليم يتألمون به في الدنيا والآخرة {لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى} لما وعد على التخلف نفي الحرج عن الضعفاء والمعذورين فقال : ليس على الأعمى وهو فاقد البصر {حَرَجٌ} إثم في التخلف عن الغزو لأنه كالطائر المقصوص الجناح لا يمتنع عن من قصده والتكليف يدور على الاستطاعة وأصل الحرج والحراج مجتمع الشيء كالشجر وتصور منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج وللاثم حرج {وَلا عَلَى الاعْرَجِ حَرَجٌ} لما به من العلة اللازمة إحدى الرجلين أو كليتهما وقد سقط عمن ليس له رجلان غسلهما في الوضوء فكيف بالجهاد والأعرج بالفارسية لنك.
من العروج لأن الأعرج ذاهب في صعود بعد هبوط وعرج كفرح إذا صار ذلك خلقة له وقيل للضبع عرجاء لكونها في خلقتها ذات عرج وعرج كدخل ارتقى وأصابه شيء في رجليه فمشى مشي العارج أي الذاهب في صعود وليس ذلك بخلقة أو يثلث في غير الخلقة كما في القاموس {وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} لأنه لا قوة به وفي نفي الحرج عن كل من الطوائف الممدودة مزيد اعتناى بأمرهم وتوسيع لدائرة الرخصة {وَمَنْ} وهركه {يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي فيما ذكر من الأوامر والنواهي في السر والعلانية {يُدْخِلْه جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} قال بعض الكبار : إنما سميت الجنة جنة لأنها ستر بينك وبين الحق تعالى وحجاب فإنها محل شهوات الأنفس وإذا أراد أن يريك ذاتك حجبك عن شهوتك ورفع عن عينيك سترها فغبت عن جنتك وأنت فيها ورأيت ربك والحجاب عليك منك فأنت الغمامة على شمسك فاعرف حقيقة نفسك {وَمَن يَتَوَلَّ} عن الطاعة وبالفارسية : وهركه اعراض كند از فرمان خدا ورسول {يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} لا يقادر قدره وبالفارسية عذابي دردناك كه دردان منقطع نكر ددوالم آن منقضى نشود وآن عذاب حرمانست ه بمخالفت امر خدا از دولت لقامهجور وبنافرمانى رسول از سعادت شفاعت محروم خواهدماند.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
مسوز آتش محروميم كه هي عذاب.
زروى سوزو الم ون عذاب حرمان نيست.
وفي الآية إشارة إلى أصحاب الأعذار من أرباب الطلب فمن عرض له مانع يعجزه عن السير بلا عزيمة منه وهمته في الطلب ورغبته في السير وتوجهه إلى الحق باق فلا حرج عليه فيما يعتريه فيكون أجره على الله وذلك قوله تعالى : ومن يطع الله ورسوله يعني بقدر الاستطاعة يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يغني يعرض عن الله وينقض عهد الطلب
32
بعذبه عذاباً أليماً كما قال أوحد المشايخ في وقته أبو عبد الله الشيرازي قدس سره : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المنام وهو يقول : من عرفه طريقاً إلى الله فسلكه ثم رجع عنه عذبه الله بعذاب لم يعذب به أحداً من العالمين وقد قالوا مرتد الطريقة أعظم ذنباً من مرتد الشريعة وقال الجنيد : لو أقبل صديق على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله وقال بعضهم في الآية إشارة إلى الأعمى الحقيقي وهو من لا يرى غير الله لا الآخرة التي أشير إليها بالعين ولا الدنيا التي أشير إليها بالعين اليسرى وهو معذور باستعمال الرخص والدخول في الرفاهية كما قال بعض الكبار : إن المحقق لا يجوع نفسه إلا اضطراراً سيما إذا كان في مقام الهيبة وكسر الصفات فإنه يكثر أكثله لشدة سطوات نيران الحقائق في قلبه بالعظمة وشهودها وهي حالة المقربين ولكن قد يقلل عمداً على قصد المحاق بأهله الأنس بالله فهو بذلك يجتمع بالسالك انتهى وإلى الأعرج الحقيقي وهو من وصل إلى منزل المشاهدة فضرب بسيوف الوحدة والإطلاق على رجل الاثنينية والتقيد فتعطل آلاته بالفناء فتقاعد هناك وهم الأفراد المشاهدون فلا حرج لهم أن لا ينزلوا إلى مقام المجاهدين أيضاً ومن هنا يعرف سر قولهم الصوفي من لا مذهب له فإن من لا مذهب له لا سير له ومن لا سير له لا يلزم له آلة وإلى المريض الحقيقي وهو الذي أسقمه العشق والمحبة وهو معذور إذا باشر الروحانيات مثل السماع واستعمال الطيب والنظر إلى المستحسنات فإن مداواته أيضاً تكون من قبيل العشق والمحبة لأن العشق أمرضه فيداوي بالعشق أيضاً كما قيل :
تداويت من ليلي بليلي من الهوا
كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/28)
وقال بعضهم : من كان له عذر في المجاهدة فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه فاعرف ذلك {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} رضى العبد عن الله أن لا يكره ما يجري به قضاؤه ورضي الله عن العبد هو أن يراه مؤتمراً لأمره منتهياً عن نهيه وهم الذين ذكر شأن مبايعتهم وكانوا ألفاً وأربعمائة على الصحيح وقيل ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين وبهذه الآية سميت بيعة الرضوان وقال بعض الكبار : سميت بيعة الرضوان لأن الرضى فناء الإرادة في إرادته تعالى وهو كمال فناء الصفات وذلك أن الذات العلية محتجبة بالصفات والصفات بالأفعال والأفعال بالأكوان والآثار فمن تجلت عليه الأفعال بارتفاع حجب الأكوان توكل ومن تجلت عليه الصفات بارتفاع حجب الأفعال رضي وسلم ومن تجلت عليه الذات بانكشاف حجب الصفات فني في الواحدة فصار موحداً مطلقاً فاعلاً ما فعل وقارئاً ما قرأ ما دام هذا شهوده فتوحيد الأفعال مقدم على توحيد الصفات وتوحيد الصفات مقدم على توحيد الذات وإلى هذه المراتب الثلاث أشار صلى الله عليه وسلّم بقوله في سجوده : وأعوذ بعفوك عن عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك فاعلم ذلك فإنه من لباب المعرفة {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} منصوب برضى وصيغة المضارع لاستحضار صورتها وتحت الشجرة متعلق به والشجر من النبت ماله ساق والمراد بالشجر هنا سمرة أي أم غيلان وهي كثيرة في بوادي الحجاز وقيل سدرة وكان مبايعتهم على أن يقاتلوا قريشاً ولا يفروا
33
وروى على الموت دونه قال أبو عيسى الحديثين صحيح فبايعه جماعة على الموت أي لا نزال نقاتلهم بين يديك ما لم نقتل وبايعه آخرون وقالوا : لا نفر.
يقول الفقير : عدم الفرار لا يستلزم الموت فلا تعارض وآن أصحاب را أصحاب الشجرة كويند وكان علامة أصحاب رسول الله معه في الغزاة أن يقول : يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة وآن ساعت كه دست عهد بيعت كرفتند يا رسلو فرمان آمد از حق تعالى تادر هاى آسمان بكشادند وفرشتكان از ذروه فلك نظاه كردند واز حق فرمان آمد بطريق مباهات كه أي مقربان افلاك نظر كنيد بآن كروه كه از بهر اعزاز دين اسلام والاى كلمه حق ميكوشند جان بذل كرده وتن سبيل ودل فدا ودر وقت قتال روى نشانه نيزه كرده وسينه سر ساخته :
شراب ازخون وجام ازكاسه سر
بجاى بانك رود آوازاسان
بجاى دسته كل دشنه وتيغ
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
بجاى قرطه برتن درع وخفتان
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 4 من صفحة 34 حتى صفحة 42
كواه باشيد اى مقربان كه من از ايشان خشنودم ودر قيامت هريكى را ازايشان در امت محمد ندان شفاعت دهم كه ازمن خشنود كردند وازين عهدتا آخر دور هر مؤمنى كه آن بيعت بشنود وبدل بامر ايشان درقبول آن بيعت موافق بود من آن مؤمن راهمان خلعت دهم كه اين مؤمنا نرا دادم.
وعند تلك المبايعة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أنتم اليوم خير أهل الأرض" واستدل بهذا الحديث على عدم حياة الخضر عليه السلام حينئذ لأنه يلزم أن يكون غير النبي أفضل منه وقد قامت الأدلة الواضحة على ثبوت نبوته كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : يقول الفقير : نبوة الخضر منقضية كنبوة عيسى عليهما السلام فعلى تقدير حياته يكون من اتباعه عليه السلام وأمته كما قال عليه السلام : لو كان أخي موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي وثبت أن عيسى من أصحابه عليه السلام وعند نزوله في آخر الزمان يكون من أمته فإن قلت بحضور الخضر بين الأصحاب في تلك المبايعة وإن لم يعرفه أحد فإلا أمر ظاهر وإن قلت بعدم الحضور فلا يلزم رجحان الأصحاب عليه من كل وجه إذ بعض من هو فاضل مفضول من وجه قال في إنسان العيون : صارت تلك الشجرة التي وقعت عندها البيعة يقال لها شجرة الرضوان وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمان خلافته أن ناساً يصلون عندها فتوعدهم وأمر بها فقطعت خوف ظهور البدعة انتهى وروى الإمام النسفي رحمه الله في التيسير إنها عميت عليهم من قابل فلم يدروا اين ذهبت.
يقول الفقير : يمكن التوفيق بين الروايتين بأنهم لما عميت عليهم ذهبوا يصلون تحت شجرة على ظن أنها هي شجرة البيعة فأمر عمر رضي الله عنه بقطعها وفي كشف النور لابن النابلسي : إما قول بعض المغرورين بأننا نخاف على العوام إذا اعتقد وأولياً من الأولياء وعظموا قبره والتمسوا البركة والمعونة منه أن يدركهم اعتقاد أن الأولياء تؤثر في الوجود مع الله فيكفرون ويشركون بالله تعالى فننهاهم عن ذلك ونهدم قبور الأولياء ونرفع البنايات الموضوعة عليها ونزيل الستور عنها ونجعل الإهانة للأولياء ظاهراً حتى تعلم العوام الجاهلون أن هؤلاء الأولياء لو كانوا مؤثرين في الوجود مع الله تعالى لدفعوا عن أنفسهم هذه الإهانة التي نفعلها معهم فاعلم أن هذا الصنيع
34(9/29)
كفر صراح مأخوذ من قول فرعون على ماحكاه الله تعالى لنا في كتابه القديم وقال فرعون ذووني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وكيف يجوز هذا الصنيع من أجل الأمر الموهوم وهو خوف الضلال على العامة انتهى.
يقول الفقير : التوفيق بين هذا وبين ما فعله عمر رضي الله عنه أن الذي يصح هو اتباع الظن لا الوهم
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ} عطف على يبايعونك لما عرفت من أنه بمعنى بايعوك لا على رضى فإن رضاه تعالى عنهم مترتب على علمه تعالى بما في قلوبهم من الصدق والإخلاص عند مبايعتهم له عليه السلام قال بعضهم : إن من الفرق بين علم الحق وعلم عبيده أن علمهم لم يكن لهم إلا بعد ظهورهم وحصول صورتهم وأما علم الحق تعالى فكان قبل وجود الخلق وبعدهم فليس علمه تعالى بعناية من غيره بخلاف العبد {فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} عطف على رضى أي فأنزل عليه الطمأنينة وسكون النفس بالربط على قلوبهم وقيل بالصلح قال البقلى في عرائسه رضي الله عنهم في الأزل وسابق علم القدس ويبقى رضاه إلى الأبد لأن رضاه صفته الأزلية الباقية الأبدية لا نتغير بتغير الحدثان ولا بالوقت والزمان ولا بالطاعة والعصيان فإذا هم في اصطفائيته باقون إلى الأبد لا يسقطون من درجاتهم بالزلات ولا بالشرية والشهوات لأن أهل الرضى محروسون برعايته لا يجري عليهم نعوت أهل البعد وصاروا متصفين بوصف رضاه فرضوا عنه كما رضي عنهم وهذا بعد قذف أنوار الأنس في قلوبهم بقوله : فأنزل السكينة عليهم قال ابن عطاء رضي الله عنهم فأرضاهم وأوصلهم إلى مقام الرضى واليقين والاطمئنان فأنزل سكينته عليهم لتسكن قلوبهم إليه {وَأَثَابَهُمْ} واداش داد ايشانرا فإن الاثابة بالفارسية اداش دادن.
والثواب ما يرجع إلى الانسان من جواء عمل يستعمل في الخير والشر لكن الأكثر المتعارف في الخير والإثابة تستعمل في المحبوب وقد قيل ذلك في المكرون نحو فأثابكم غماً بغم على الاستعارة {فَتْحًا قَرِيبًا} وهو فتح خيبر غب انصرافهم من الحديبي {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} أي وأثابهم مغانم خيبر وكانت ذات عقار وأشجار أخذوها من اليهود مع فتح بلدتهم فقسمت عليهم {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} غالباً {حَكِيمًا} مراعياً لمقتضى الحكمة في أحكامه وقضاياه وقال ابن الشيخ حكيماً في أمره حكم لهم بالظفر والغنيمة ولأهل خيبير بالسبي والهزيمة {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} هي ما يفيئه على المؤمنين إلى يوم القيامة والإفاءة مال كسى غنيمت كردن {تَأْخُذُونَهَا} في أوقاتها المقدرة لكل واحد مناه
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{فَعَجَّلَ لَكُمْ هَاذِهِ} أي غنائم خيبر {وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ} أي أيدي أهل خيبر وهم سبعون ألفاً وحلفاؤهم من بني أسد وغطفان حيث جاءوا لتصرتهم فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا والحلفاء بالحاء المهملة جمع حليف وهو المعاهد للنصر فإن الحلف العهد بين القوم وقيل أيدي أهل مكة بالصلح وبالفارسي ودست مردمانرا از شما كوتاه كرد.
وقال في المفردات الكف كف الناس وهي ما بها يقبض ويبسط وكففته دفعته بالكف وتعورف الكف باردفع على أي وجه كان بالكف وبغيرها حتى قيل رجل مكفوف لمن قبض بصره قال سعدي المفتي إن كان نزولها بعد فتح خيبر كما هو الظاهر
35
لا تكون السورة بتمامها نازلة في مرجعه عليه السلام من الحديبي وإن كان قبله على أنها من الإخبار عن الغيب فالإشارة بهذه تنزيل المغانم منزلة الحاضرة المشاهدة والتعبير بالمضي للتحق {وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} عطف على علة أخرى محذوفة من أحد الفعلين أي فعجل لكم هذه أو كف أيدي الناس عنكم لتغتنموها ولتكون إنارة للمؤمنين ويعرفون بها صدق الرسول في وعده إياه عند رجوعه من الحديبية ما ذكر من المغانم وفتح مكة وهو دخول المسجد الحرام ويجوز أن تكون الواو واعتراضية على أن تكون اللام متعلقة بمحذوف مؤخر أي ولتكون آية لهم فعل ما فعل من التعجيل والكف {وَيَهْدِيَكُمْ} بتلك الآية {صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} هو الثقة بفضل الله تعالى والتوكل عليه في كل ما تأتون وما تذرون وفي الآية إشارة إلى ما وعد الله عباده من المغانم الكثيرة بقوله : ادعوني أستجب لكم فكل واحد يأخذها بحسب مطمح نظره وعلو همته فمن كانت همته الدنيا فهي له معجلة وماله في الآخرة من خلق ومن كانت همته الآخرة فله نصيب من حظ الدارين وربما يكف الله أيدي دواعي شهوات النفس عن المؤمنين ليكونوا من أهل الجنة كما قال تعالى ونهى النفس عن الهوا فإن الجنة هي المأوى ولو وكلهم إلى أنفسهم لاتبعوا الشهوات وهي دركات الجحيم إذ حفت الناس بالشهوات وفي ترك الدنيا وشهوات النفس آية للمؤمنين حيث يهتدي بعضهم بهدي بعض ويصلون على هذا الصراط المستقيم إلى حضرة ربوبية.
قال الشيخ سعدي :
ي نيك مردان ببايدشتافت(9/30)
هران كين سعادت طلب كردايافت
وليكن تودنبال ديوخسى
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
ندانم كه در صالحان كى رسى
يمبر كسى راشفاعت كرست
كه برجاده شرع يغمبرست
ثم إن خيبر حصن معروف قرب المدينة على ما في القاموس وقال في إنسان العيون هو على وزن جعفر سميت باسم رجل من العماليق نزلها يقال له خيبر وهو اخو يثرب الذي سميت باسمه المدينة وفي كلام بعض خيبر بلسان اليهود الحصن ومن ثم قيل لها خيابر لاشتمالها على الحصون وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع ونخل كثير بينها وبين المدينة الشريفة ثمانية برد والبريد أربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال.
يقول الفقير : وكل ميلين ساعة واحدة بالساعات النجومي لأنه عد من المدينة إلى قبا ميلان وهي ساعة واحدة فتكون الثمانية البرد ثماني وأربعين ساعة بتلك الساعات وفي القاموس البرد فرسخان واثنا عشر ميلاً انتهى ولما رجع عليه السلام من الحديبية أقام شهراً أي بقية ذي الحجة وبعض المحرم من سنة سبع ثم خرج إلى خيبر وقد استنفر من حوله ممن شهد الحديبية يغزون معه وجاءه المخلفون عنه في غزوة الحديبية ليخرجوا معه رجاء الغنيمة فقال عليه السلام : لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد أما الغنيمة فلا ، أي لا تعطون منها شيئاً ثم أمر منادياً ينادي بذلك فنادى به وأمر أيضاً أنه لا يخرج الضعيف ولا من له مركب صعب حتى أن بعضهم خالف هذا الأمر فنفر مركوبه فصرعه فاندقت فخذه فمات فأمر عليه السلام بلالاً رضي الله عنه أن ينادي في الناس الجنة لا تحل العاص ثلاثاً وخرج معه
36
عليه السلام من نسائه أم سلمة رضي الله عنها ولما أشرف على خيبر وكان وقت الصبح رأى عمالها وقد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم وهي القفف الكبيرة قالوا : محمد والخميس أي : الجيش العظيم معه قيل له : الخميس لأنه خمسة أقسام : المقدمة والساقة والميمنة والميسرة وهما الجناحان والقلب وادبروا أي العمال هرباً إلى حصونهم وكانوا لا يظنون أن رسول الله يغزوهم وكان بها عشرة آلاف مقاتل فقال عليه السلام : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين وإنما قاله بالوحي كما نطق به قوله تعالى فعجل لكم هذه وابتدأ من حصونهم بحصون النطاة وأمر بقطع نخلها فقطعوا اربعمائة نخلة ثم نهاهم عن القطع ومكث عليه السلام سبعة أيام يقاتل أهل حصون النطاة فلم يرجع من أعطى له الراية بفتح ثم قال : لأعطين الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبانه يفتح الله على يديه فتطاولها أبو بكر وعمر وبعض الصحابة من قريش فدعا عليه السلام علياً رضي الله عنه وبه رمد فتفل في عينيه ثم أعطاه الراية وكانت بيضاء مكتوب فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله بالسواد فقال علي : علام أقاتلهم يا رسول الله؟ قال : أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلوا فقد حقنوا دماءهم وأموالهم وألبسه عليه السلام درعه الحديد وشد سيفه ذا الفقار في وسطه ووجهه إلى الحصن وقال لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم أي من الإبل النفيسة التي تصدق بها في سبيل الله فخرج علي رضي الله عنه بالراية يهرول حتى ركزها تحت الحصن الحارث أحو مرجب وكان معروفاً بالشجاعة فتضاربا فقتله علي وانهزم اليهود إلى الحصن :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
صعوه كريا عقاب سازدجنك
دهد ازخون خودرش رارنك
ثم خرج إليه مرحب سيد اليهود وهو يرتجز ويقول :
قد علمت خيبر أني مرحب
شاكي السلاح البطل المجرب
أي تام السلاح معروف بالشجاعة وقهر الفرسان وارتجر علي رضي الله عنه وقال :
أنا الذي سمتني أمي حيدره
ضرغام آجام وليث قسوره
وضرب علياً فطرح ترسه من يده فتناول علي بابا كان عند الحصن فتترس به عن نفسه فلم يزل في يده يقاتل حتى قتل مرحباً وفتح الله عليه الحصن وهو حصن ناعم من حصون النطاة وألقى الباب من يده وراء ظهره ثمانين شبراً وذلك بالقوة القدسية وفيه بيان شجاعة علي حيث قتل شجيعاً بعد شجيع ونعم ما قيل :
كرله شاطر بود خروس بجنك
ه زند يش بازروبين نك
كربه شيرست كرفتن موش
ليك موشست درمصاف لنك
ثم انتقل عليه السلام من حصن ناعم إلى حصن العصب من حصون النطاق فأقاموا على محاصرته يومين حتى فتح الله وما بخيبر حصن أكثر طعاماً منه كالشعير السمن والتمر والزيت والشحم والماشية والمتاع ثم انتقلوا إلى حصن قلة وهو حصن بقلة وهو آخر حصرن النطاق فقطعوا عنهم ماءهم ففتحه الله ثم سار المسلمون إلى حصار الشق بفتح الشين المعجمة وهو أعرف عند الله اللغة من الكسر ففتحوا الحصن الأول من حصونه ثم حاصروا حصن البرآء وهو
37
(9/31)
الحصن الثاني من حصني الشق فقاتلوا قتالاً شديداً حتى فتحه الله ثم حاصروا حصون الكثيبة وهي ثلاثة حصون : القموص كصبور والوطيح وسلالم بضم السين المهملة وكان أعظم حصون خيبر القموص وكان منيعاً حاصره المسلمون عشرين ليلة ثم فتحه الله على يد علي رضي الله عنه ومنه سبيت صفية رضي الله عنها وانتهت المسلمون إلى حصار الوطيح بالحاء المهملة سمي باسم الوطيح بن مارن رجل من اليهود وسلالم آخر حصون خبر ومكثروا على حصارهما أربعة عشر يوماً وهذان الحصنان فتحا صلحاً لأن أهلهما لما أيقنوا بالهلاك سألوا رسول الله عليه السلام الصلح على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم وأن لا يصحب أحداً منهم إلا ثوب واحد على ظهره فصالحهم عليه ووجدوا في الحصنين المذكورين مائة درع وأربعمائة سيف وألف رمح وخمسمائة قوس عربية بجعابها وأشياء أخر غالية القيمة وهي ما في الخزانة أبي الحقيق مصغراً وأرسل عليه السلام إلى أهل فدك وهي محركة قرية بخيبر يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم فتصالحوا معه عليه السلام على أن يحقن دماءهم ويخليهم ويخلون بينه وبين الأموال ففعل ذلك رسول الله وقيل تصالحوامعه على أن يكون لهم النصف في الأرض ولرسول الله النصف الآخر وكان فدك الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلى الثاني كان له نصفها لأن لم تؤخذ بمقاتلة وكان عليه السلام ينفق منها ويعود منها على صغير بني هاشم ويزوج منها أيمهم ولما مات عليه السلام وولى أبو بكر رضي الله عنه الخلافة سألته فاطمة رضي الله عنها أن يجعل فدك أو نصفها لها فأبى وروي لها أنه عليه السلام قال : أنا معاشر الأنبياء لا نورث أي لا نكون مورثين ما تركناه صدقة أي على المسلمين ثم إن النبي عليه السلام أمر بالغنائم التي غنمت قبل الصلح فجمعت وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم سبايا منها صفي بنت ملكهم حي بن أخطب من سبط هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام فهداها الله فأسلمت ثم أعتقها رسول الله وتزوجها وكانت رأيت أن القمر وقع في حجرها فكان ذلك رسول الله وجعل وليمتها حيساً في نطع الحيس تمر وأقط وسمن ودخل بها رسول الله في منزل الصهباء في العود والصهباء موضع قرب خيبر كما في القاموس وبات تلك الليلة أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه متوشحاً سيفه يحرسه ويطوف حول قبته حتى أصبح رسول الله فرأى مكان أبي أيوب فقال مالك : يا أبي أيوب قال : يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة قتلت أباها وزوجها وقومها وهي حديثة عهد بجاهلية فبت أحفظك فقال عليه السلام : اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني قال السهيلي رحمه الله فحرس الله تعالى أبا أيوب بهذه الدعوة حتى أن الروم لتحرس قبره ويستسقون به فيسقون فإنه غزا مع يزيد بن معاوي سنة خمسين فلما بلغوا القسطنينية مات أبو أيوب هناك فأوصى يزيد أن يدفنه في أقرب موضع من مدينة الروم فركب المسلمون ومشوا به حتى إذا لم يجدوا مساغاً دفنوه فسألتهم الروم عن شأنهم فأخبروهم أنه كبير من أكابر المسلمين الصحابة فقالت ليزيد : ما حمقك وأحمق من أرسلك آمنت أن ننبشه بعدك فخرق عظامه فحلف لهم يزيد لئن فعلوا ذلك ليهد من كل كنيسة بأرض العرب وينبش قبورهم فحينئذ حلفوا له بنبيهم ليكرمن قبره وليحرسنه ما استطاعوا وقال صاحب روضة الأخبار : مات
38
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/32)
أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه بالقسطنطينية سنة إحدى وخمسين مرابطاً مع يزيد بن معاوية مرض فلما ثقل مرضه قال لأصحابه : إذا أنا مت فاحملوني فإذا صادفتهم العدو فادفنوني تحت أقدامكم ففعلوا وقبره قريب من سورها معروف معظم وكان الروم يتعادون قبره ويستشفون به انتهى.
يقول الفقير : ثبت أن قبر أبي أيوب إنما تعين بإشارة الشيخ الشهير بآق شمس الدين قدس سره وقد كان مع الفاتح السلطان محمد العثماني في زمان الفتح وهذا يقتضى أن يكون محل قبره المنيف مندرساً بمرور الأيام ولنعد إلى تمام القصة ونهى النبي عليه السلام عن إتيان الحبالى حتى تضع وعن غير الحبالة حتى تستبرأ بحيضة ونهى عن إتيان المسجد لمن أكل الثؤم والبصل وعن بعضهم ما أكل نبي قط ثؤماً ولا بصلاً يقول الفقير : يدخل فيه الدخان الشائع شربه في هذا الزمان بل رأى تحته أكره من رائحة الثؤم والبصل فإذا كان دخول المسجد ممنوعاً مع رائحتهما دفعا لاذى الناس والملائكة فمع رائحة الدخان أولى وظاهر أن الثؤم والبصل من جنس الأغذية ولا كذلك الدخان ومحافظة المزاج بشربه إنما عرفت بعد الإدمان المولد للأمراض الهائلة فليس لشاربه دليل في ذلك أصلاً فكما أن شرب الخمر ممنوع أولاً وآخراً حتى لو تاب منها ومرض لا يجوز أن يشربها ولو مات من ذلك المرض يؤجر ولا يأثم فكذا شرب الدخان وليس استطابته إلا من خباثة الطبع فإن الطباع السليمة تستقذره لا محالة فتب إلى الله وعد حتى لا يراك حيث نهاك ووقت عليه السلام قص الشارب وتقليم الأظفار واستعمال النورة بأن لا يترك ذلك أربعين يوماً وقدم عليه صلى الله عليه وسلّم بعد فتح خيبر ابن عمه جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة وقد كان هاجر إليها معه الأشعريون فقام عليه السلام إلى جعفر وقبله بين عينيه واعتنقه وقال : والله ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر وليس حديث القيام معارضاً لحديث من سره أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار لأن هذا الوعيد إنما توجه للمشركين ولمن يغضب أن لا يقام له وكان من جملة من قدم معهم من الحبشة أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي عليه السلام وذلك أن أم حبيبة كانت ممن هاجر إلى الحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش فارتد عن الإسلام هناك وتنصر ومات على ذلك وبقيت هي على إسلامها ورأت في المنام كان قائلاً يقول لها : يا أم المؤمنين فعلمت بأن رسول الله يتزوجها فأرسل عليه السلام في المحرم افتتاح سنة سبع إلى النجاشي بالتخفيف ملك الحبشة وكان مؤمناً ليزوجها منه عليه السلام فزوجها وأصدقها أربعمائة دينار ولما قدم رسول الله خيبر كان الثمر أخضر فأكثر الصحابة من أكله فأصابتهم الحي فشكوا ذلك إلى رسول الله فقال : بردوا لها الماء في الشنان أي في القرب ثم صبوا منه عليكم بين أذاني الفجر واذكروا اسم الله عليه ففعلوا فذهبت عنهم وفي هذا الغزوة أراد عليه السلام أن يتبرز فأمر إلى شجرتين متباعدتين حتى اجتمعتا فاستتر بهما ثم قام فانطلقت كل واحدة إلى مكانها وفي خيبر كان أكله من الشاة المسمومة وذلك أن زينب ابنة الحارث أخي مرحب سمتها وأكثرت في الذراعين والكتف لما عرفت أنه عليه السلام كان يحب الذراع والكتف لكونهما أبعد من الأذى واحدتها له
39
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
عليه السلام وكان قد صلى المغرب بالناس فلما انتهش من الذراع وازدرد لقمة ازدرد بشر ما في فيه ومات من أكل معه وهو بشر بن البراء واحتجم رسول الله بين الكفتين في ثلاثة مواضع وقال الحجامة في الرأس هي المعينة أمرني بها جبرائيل حين أكلت طعام اليهودية وقد احتجم في غير هذه الواقعة مراراً واحتجم وسط رأسه وكان يسمها منقذاً وذلك أنه لما سحره اليهودي ووصل المرض إلى الذات المقدسة أمر بالحجامة على قبة رأسه المباركة واستعمال الحجامة في كل متضرر بالسحر غاية الحكمة ونهاية حسن المعالجة وفي الحديث الحجامة في الرأس شفاء من سبع من الجنون والصداع والجذام والبرص والنعاس ووضع الضرس وظلمة يجدها في عينيه والحجامة في البلاد الحارة أنفع من الفصد والأولى أن تكون في الربع الثالث من الشهر لأنه وقت هيجان الدم وعن أبي هريرة مرفوعاً من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كانت شفاء من كل داء والحجامة على الريق دواء وعلى الشبع داء ويكره في الأربعاء والسبت ثم أرسل رسول الله إلى تلك اليهودية فقال : أسممت هذه الشاة فقالت : من أخبرك؟ قال : أخبرتني هذه التي في يدي أي الذراع قالت : نعم قال : ما حملك على ما صنعت؟ قالت : قتلت أبي وعمر وزوجي ونلت من قومي ما نلت فقلت : إن كان ملكاً استرحنا منه وإن كان نبياً فسيخبر فعفا عنها :
زخوان معجزا وكرنوا له طلبي
حديث بره برياشنوكه ما حضرست
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/33)
فلما مات بشر أمر بها فقتلت وصليت وقى الأحياء أطعم عليه السلام السم فمات الذي أكل معه وعاش هو عليه السلام بعده أربع سنين انتهى قال الشيخ الشهير بأفتاده قدس سره : إنما لم يؤثر السم في عمر حين جاء من قيصر لأنه رضي الله عنه إنما شرب بحقيقته لا ببشريته وإنما أثر في النبي عليه السلام بعد تنزله إلى حالة بشريته وذلك إرشاده عليه السلام وإن كان في عالم التنزل غير أن تنزله كان في مرتبة الروح وهي أعدل المراتب فلم يؤثر فيه حتى مضى عليه اثنتا عشرة سنة فلما احتضر عليه السلام تنزل إلى أدنى المراتب لأن الموت إنما يجري على البشرية فلما تنزل إلى تلك المرتبة أثر فيه انتهى فانتقل عليه السلام من الدنيا بالشهادة فأحرز جميع المراتب من النبوة والرسالة والصديقية والشهادة يقول الفقير قوله اثنتا عشرة سنة وهكذا قال صاحب المحمدية وهو مخالف لما سبق عن الإحياء والحق ما في الإحياء لأن قصة السم كانت في خيبر وقصة خيبر في السنة السابعة من الهجرة فغير هذا وجهه غير ظاهر كما لا يخفى ولما كان زمان خلافة عمر رضي الله عنه ظهر خيانة أهل خيبر فأجلى يهود فدك ونصارى نجران لأنه عليه السلام قال : لا يبقى دينان في جزيرة العرب وجزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام ثم دجلة والفرات أو ما بين عدل أبين إلى أطراف الشام طولاً ومن جدة إلى ريف العراق عرضاً كما في القاموس {وَأُخْرَى} عطف على هذه أي فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} وهي مغانم هوازن في غزوة حنين فإنهم لم يقدروا عليها إلى عام الحديبية وإنما قدروا عليها عقيب فتح مكة ومصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من الجولة أي من تكرار الهزيمة والرجوع إلى
40
القتال قبل ذلك لزيادة ترغيبهم فيها يقال جال القوم جولة انكشفوا ثم كروا {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} صفة أخرى لأخرى مفيدة لسهولة تأتيها بالنسبة إلى قدرته تعالى بعد بيان صعوبة مثالها بالنظر إلى قدرتهم أي قد قدر الله عليها واستولى وأظهركم عليها وقيل : حفظها عليكم لفتحكم ومنعها من غيركم يعني جميع فتوح المسلمين قال ابن عباس رضي الله عنهما ومنه فتح قسطنطينية ورومية وعمورية ومد آثم فارس والروم والشام أما قسطنطينية فمشهورة وهي الآن دار السلطنة للسلاطين العثمانية وأما رومية ويقال لها رومية الكبرى فمدينة عظيمة من مدن الروم مثل قسطنطينية وما عمورية بفتح العين المهملة وضم الميم المشددة وبالراء فقد قال الإمام اليافعي في المرآة هي التي يسميها أهل الروم انكورية وهي مدنية كبيرة كانت مقر ملوكهم فتحها المعتصم بالله قال الراغب : الإحاطة على وجهين أحدهما في الأجسام نحو احطت بمكان كذا وتستعمل في الحفظ نحو كان الله بكل شيء محيطاً أي حافظاً له في جميع جهاته وتستعمل في المنع نحو إلا أن يحاط بكم أي إلا أن تمنعوا والثاني في العلم نحو أحاط بكل شيء علماً فالإحاطة بالشيء علماً هو أن يعلم وجوده وجنسه وقدره وكيفيته وغرضه المقصود به وبإيجاده وما يكون به ومنه وذلك ليس يكون إلاوقال : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه فنفى عنهم ذلك {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرًا} لأن قدرته تعالى ذاتية لا تختص بشيء دون شيء أي منتهية عند غير متجاوزة عنه لأن علتها لا تنتهي فتأمل.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/34)
اعلم أن المغازي غزوة حنين وهو اسم موضع قريب من الطائف ويقال لها لغزوة حنين غزوة هوازن ويقال لها غزوة أوطاس باسم الموضع الذي كانت به الواقعة في آخر الأمر وسببها أنه لما فتح الله على رسوله مكة أطاعت له قبائل العرب إلا هوازن وثيفاً فإن أهلهما كانوا طغاة مردة فاجتمعوا إلى حنين فلما وصل خبرهم إلى رسول الله عليه السلام تبسم وقال تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله تعالى فأجمع على السير إلى هوازن وخرج في اثني عشر ألفاً فلما قربوا من محل العدو صفهم وأعطى لواء المهاجرين علياً رضي الله عنه ولواء الخزرج الحباب بن المنذر رضي الله عنه ولواء الأوس أسيد بن حضير رضي الله عنه وركب عليه السلام بغلته الشهباء التي يقال لها فضة قد أهداها له صاحب البلقاء وقيل هي دلدل التي أهداها له المقوقس ولبس درعين والمغفر والدرعان هما ذات الفضول والسغدية بالسين المهملة والغين المعجمة وهي درع داود عليه السلام التي لبسها حين قتل جاروت فلما كان بحنين وذلك عند غبش الصبح أي ظلمته وانحدروا في الوادي خرج عليهم القوم وكانوا كمنوا لهم في شعاب الوادي ومضايقه فحملوا عليهم حملة رجل واحد ورموهم بالنيل وكانوا رماة لا يسقط لهم سهم فأخذ المسلمون راجعين منهزمين لا يلوي أحد على أحد وانحاز رسول الله ذات اليمين ومعه نفر قليل منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل فقال عليه السلام : يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار يا أصحاب السمرة يعني الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان وكان صيحاً يسمع صوته من ثمانية أميال فأجابوا لبيك لبيك حتى انتهى إليه جمع فاقتتلوا ثم قبض عليه السلام قبضة من تراب واستقبل بها وجوههم فقال : شاهت الوجوه حم لا ينصرون انهزموا ورب محمد ورماهم
41
بالتراب فملئت أعينهم من التراب فولوا مدبيرن فتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم ولما انهزم القوم عسكر بعضهم بأوطاس فبعث النبي عليه السلام في آثارهم أبا عامر الأشعري رضي الله عنه ورجع رسول الله إلى معسكر يمشي في المسلمين ويقول : من يدلني على رجل خالد بن الوليد حتى دل عليه فوجده قد أسند إلى مؤخرة رحله لأنه أثقل بالجراحة فتفل عليه السلام في جرحه فبرىء وأمر عليه السلام بالسبي والغنائم أن تجمع فجمع ذلك كله وأخذوه إلى الجعرانة بالكسر والعين المهملة موضع بين مكة والطائف سمي بريطة بنت سعد وكانت تلقب بالجعرانة وهي المرادة في قوله تعالى : ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها وكانت بها إلى أن انصرف رسول الله من غزوة الطائف ثم لما أتاها قسم تلك الغنائم وكان السبي ستة آلاف رأس والإبل أربعة وعشرين ألفاً والغنم أكثر من أربعين ألفاً والفضة أربعة آلاف أوقية وأحرم من الجعرانة بعمرة بعد أن أقام بها ثلث عشرة ليلة وقال : اعتمر منها سبعون نبياً وقد اعتمر عليه السلام بعد الحجرة أربع عمر أولادها عمرة الحديبية والثانية عمرة القضاء من العام المقبل والثالثة عمرة الجعرانة والرابعة عمرته عليه السلام مع حجة الوداع وباقي البيان في غزوة حنين وما يتصل بها قد سبق في أوائل التوبة عند قوله : لقد نصركم الله الخ
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{وَلَوْ قَـاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُوا} أي أهل مكة ولم يصالحوكم وقيل حلفاء خيبر من بني أسد وغطفان {لَوَلَّوُا الادْبَـارَ} أي لانهزموا ولم يكن قتال وبالفارسية هر آينه بر كردانيدندى شتهارا بكريز يعني هزيمت كردندى.
فإن تولية الأدبار كناية عن الانهزام وكذا في الفارسية كما قال.
آن نه من باشم كه روز جنك بيني شت من.
ودبر الشيء خلاف القبل كالظهر والخلف {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا} يحرسهم {وَلا نَصِيرًا} ينصرهم {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} أي سن الله غلبة أنبيائه سنة قديمة فيمن خلا ومضى من الأمم وهو قوله لأغلبن أنا ورسلي فسنة الله مصدر مؤكد لفعله المحذوف {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} أي تغييراً بنقل الغلبة من الأنبياء إلى غيرهم :
محالست ون دوست داردترا
كه دردست دشمن كذا ردترا
هره در ازل مقر رشده لا محاله كائن خواهد شد ودست تصرف هيكس رقم تغيير وتبديل بر صفحات آن نخواهد كشيد :
تغيير بحكم ازلي راه نيابد
تبديل بفرمان قضا كار ندارد
در دائرة أمركم وبيش نكنجد
باسر قدر جون ورا كارندارد
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 5 من صفحة 42 حتى صفحة 52
(9/35)
وفي الآية إشارة إلى مقاتلة النفوس المتمردة فالله تعالى ناصر السالكين على قتال النفوس وقد قدر النصرة في الأزل فلا تبديل لها إلى الأبد فالمنصور من نصره الله والمقهور من قهره الله ونصرة الله على أنواع فمنها نصرة في الظالم فمن بعضهم كنا في المدينة يتكلم في بعض الأوقات في آيات الله تعالى المنعم بها على أوليائه وكان رجل ضرير بالقرب منا يسمع ما نقول فتقدم إلينا وقال : أنست بكلامكم اعلموا أنه كان لي عيال وأطفال فخرجت إلى البقيع احتطب فرأيت شاباً عليه فميص كتان ولعله في أصبعه فتوهمت أنه تائه فقصدت أن
42
أسلبه ثوبه فقلت له : انزع ما عليك فقال لي : مر في حفظ فقلت له الثانية والثالثة فقال ولا بد قلت : ولا بد فأشار بأصبعيه إلى عيني فسقطتا فقلت : بالله عليك من أنت فقال : أنا ابراهيم الخواص وإنما دعا إبراهيم الخواص على اللص بالعمى ودعا ابراهيم بن أدم للذي ضربه بالجنة لأن الخواص شهد من اللص أنه لا يتوب إلا بعد العقوبة فرأى العقوبة أصلح له وابن أدهم لم يشهد توبة الضارب في عقوبته فتفضل عليه بالدعاء له فتوة منه وكرماً فحصلت البركة والخير بدعائه للضارب فجاءه مستغفراً معتذراً فقال له إبراهيم : الرأس الذي يحتاج إلى الاعتذار تركته ببلخ يعني أن نخوة الشرف وكبر الرياسة الواقعة في رأسي حين كنت ببلخ قد استبدلت بها تواضع المسكنة والانكسار ومنها نصرة في الباطن فعن أحمد ابن أبي الحواري رحمه الله قال : كنت مع أبي سليمان الداراني قدس سره في طريق مكة فسقطت مني السطيحة أي المزادة فأخبرت أبا سليمان بذلك فقال : يا راد الضالة فلم ألبث حتى أتى رجل يقول : من سقطت منه سطيحته فإذا هي سطيحتي فأخذتها فقال أبو سليمان : حسبت أن يتركنا بلا ماء يا أحمد فمشينا قليلاً وكان برد شديد وعلينا الفراء فرأينا رجلاً عليه طمران رثان وهو يترشح فقال له أبو سليمان : نواسيك ببعض ما علينا فقال الحر والبرد خلقان من خلق الله تعالى أن أمرهما غشياني وأن أمرهما تركاني وأنا أسير في هذه البادية منذ ثلاثين سنة ما ارتعدت ولا انتفضت يلبسني فيحاً من محبته في الشتاء ويلبسني في الصيف مذاق برد محبت :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
جمعى كه شت كرم بعشق نيند
ناز سمور ومنت سنجاب مى كشند
يا داراني أشير إلى ثوب وتدع الزهد تجد البرد ياداراني تبكي وتصيح وتستريح إلى الترويح فمضى أبو سليمان وقال : لم يعرفني غيره قيل في هذه الحكاية ما معناه إنه لما حقق الله يقين أبي سليمان في رد السطيحة صانه من العجب بما رأه من حال هذا الرجل حتى صغر في عينيه حال نفسه وتلك سنة الله في أوليائه يصونهم من ملاحظة الأعمال ويصغر في أينهم ما يصفو لهم منا لأحوال وينصرهم في تذكي نفوسهم عن سفساف الأخلاق رضي الله عنهم ونفعنا بهم وسلك بنا مسالك طريقتهم إنه هو الكريم المحسان {وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ} أي كفار مكة {عَنكُمْ} أي بأن حملهم على الفرار منكم مع كثرة عددهم وكونهم في بلادهم بصدد الذنب عن أهليهم وأولادهم {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم} بأن حملكم على الرجوع عنهم وتركهم {بِبَطْنِ مَكَّةَ} أي في داخلها {مِنا بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ} أي جعلكم ظافرين غالبين {عَلَيْهِمْ} وبالفارسية : س ازانكه ظفر داد شمار او غالب ساخت.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
مع أن العادة المستمرة ظفره وذلك أن عكرمة ابن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية فبعث رسول الله عليه السلام خالد بن الوليد على جند وسماه يومئذ سيف الله فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد ذكره الطبراني وابن أبي حاتم في تفسيريهما قال سعدي المفتي : لم يصح هذا والمذكور في كتب السير وغيرها من الصحاح أن خالد بن الوليد كان يوم الحديبية طليعة للمشركين أرسلوه في مائتي فارس فدنا في خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله فأمر رسول الله عباد بن بشر رضي الله عنه
43
(9/36)
فتقدم في خيله فقام بإزائه وصف أصحابه وحانت العصر فصلى رسول الله بأصحابه صلاة الخوف فكيف يصح ما يذكره وقد صح أن إسلام خالد بن الوليد كان بعد الحديبية في السنة الثامنة أو قبلها انتهى وكذا قال في انسان العيون خالد بن الوليد أسلم بعد وقعة الحديبية وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أظهر المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت يعني أن جماعة من أهل مكة خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين فرماهم المسلمون بالحجارة حتى أدخلوهم بيوت مكة فلما كان الكف عن الوجه المذكور في غاية البعد قال تعالى وهو الذي الخ على طريق الحصر استشهاداً به على ما تقدم من قوله ولو قاتلكم الخ أو هم ثمانون رجلاً طلعوا على رسول الله من قبل التنعيم عند صلاة الصبح ليأخذوه بغتة ويقتلوا الأصحاب فأخذهم رسول الله فخلى سبيلهم فيكون المراد ببطن مكة وادي الحديبية لأن بعضها من الحرم وفي المفردات أصل البطن الجارعة ويقال للجهة السفلى بطن وللجهة العليا ظهر وبه شبه بطن الأمر وبطن الوادي والبطن من العرب اعتباراً بأنهم شخص واحد فإن كل قبله منهم كعضو بطن وفخد وكاهل انتهى يقول الفقير : لا شك أن وادي الحديبية واقع في الجهة السفلى من مكة لأنه في جانب جدة المحروسة فيكون المراد بالبطن تلك الجهة لا داخل مكة والمعنى والله تعالى أعلم أن الله هو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم من الحديبية التي هي الجهة السفلى من مكة من بعد أن أقدركم عليهم بحيث لو قاتلتموهم غلبتهم عليهم بإذنه تعالى على ما كان في علمه كما قال ولو قاتلكم الخ وسيأتي سر الكف في الآية التي تلي هذه {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من مقاتلتكم وهزمكم إياهم أو لا طاعة لرسوله وكفكم عنهم ثانياً لتعظيم بيته الحرام وصيانة أهل الإسلام {بَصِيرًا} عالماً لا يخفى عليه شيء فيجازيكم بذلك وقال بعض العلماء من بعد أن أظفركم عليهم يوم الفتح وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً وأما أن السورة نزلت قبله فلا يخالف لأنه من الأخبار عن الغيب كقوله : إنا فتحنا لك نعم يرد عليه منع دلالته على العنوة فقد يكون الظفر على البلد بالصلح وكذلك قال الزمخشري في أول السورة الفتح الظفر بالبلد عنوة أو صلحاً بحرب أو بغير حرب كما في حواشي سعدي المفتي وقال في بحر العلوم ويدل على أنها فتحت عنوة قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً لأن لفظ الفتح إذا ورد مطلقاً لا يقع إلا على ما فتح عنوة انتهى.
يقول الفقير : هذا ليس من قبيل الفتح المطلق ولو سلم فالفتح المطلق لا يدل عليه ولذا قارنه تعالى بالنصرة في سورة النصر فإن النصر يقتضي القهارية لا الفتح وقال في عين المعاني وقد فتحت صلحاً عند الشافعي قلنا بل عنوة لقوله عليه السلام لأصحابه احصدوهم بالسيف حصداً إلا أنه لم يضع الجزية على أهلها ولا الخراج على أراضيها كما هو مذهبنا فيما يفتح عنوة لأن مشركي العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف عندنا وأما سواد الكوفة أرض العجم انتهى وقصة فتح مكة على الإجمال أن الفتح كان في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة وكان السبب في ذلك نقض عهد وقع من جانب قريش وذلك أن شخصاً من بني بكر هجا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصار
44
جزء : 9 رقم الصفحة : 2(9/37)
يتغنى به فسمعه غلام من خزاعة وكانوا مسلمين فضربه فشبحه فثار الشر بين الحيين وأمد قريش لبني بكر على خزاعة فبيتوا خزاعة أي أتوهم ليلاً على غفلة فقتلوا منهم عشرين ولم يكن ذلك برأي أبي سفيان رئيس قريش وعند ما بلغه الخبر قال حديثني زوجتي هند أنهار رأت رؤيا كرهتها رأت دماً أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة بالخاء العمجمة بمكة والحاء المهملة جبل بمعلاة مكة وقال : ليغزو يا محمد فكره القوم ذلك وخرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم المدينة وقص على رسول الله القصة فقال عليه السلام : "نصرت يا عمرو بن سالم" ودمعت عينا رسول الله وكان يقول خزاعة مني وأنا منهم قالت عائشة رضي الله عنها : أترى قريشاً تجترىء على نقض العهد الذي بينك وبينهم فقال عليه السلام : "ينقضون العهد الأمر يريده الله" فقلت : خير قال : خير ولما ندمت قريش على نقض العهد أرسلوا أبا سفيان ليشدّ العقد ويزيد في المدة فقال عليه السلام : "نحن على مدتنا وصلحنا" ولم يقبل ذلك من أبي سفيان ولا أحد من أصحابه فرجع إلى مكة وأخبر القصة وقال : والله قد أبى علي وقد تتبعت أصحابه فما رأيت قوماً لملك عليهم أطوع منهم له ثم إن رسول الله تشاور مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في السير في مكة وأخفى الأمر عن غيرهما فقال أبو بكر هم قومك يا رسول الله فأشار إلى عدم السير وحضه عمر حيث قال : هم رأس الكفرة زعموا أنك ساحر وأنك كذاب وذكر له كل سوء كانوا يقولونه وأيم الله لا تذل العرب حتى تذل أهل مكة فعند ذلك ذكر عليه السلام أن أبا بكر كإبراهيم وكان في الله ألين من اللبن وأن عمر كنوح وكان في الله أشد من الحجر وأن الأمر أمر عمر وأشار عليه السلام بطي السر وأمر أصحابه بالجهاز وأرسل إلى أهل البادية ومن حوله من المسلمين في كل ناحية يقول لهم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة ولما قدموا قال عليه السلام : "اللهم خذ العيون والاخبار من قريش حتى نبغتها في بلادها" ثم مضى لسفره لعشر خلون من رمضان أو غير ذلك وكان العسكر عشرة آلاف فيهم بالمهاجرون والأنصار جميعاً وأفطر عليه السلام في هذا السفر بالكديد وهو كأمير محل بين عسفان وقديد كزبير مصغراً وأمر بالإفطار وعد مخالفته في ذلك عصياناً لحرارة الهواء ولما فيه من القوة على مقاتلة العدو وفي قديد عقد عليه السلام الألوهية والرايات ودفعها للقبائل ثم سار حتى مر بمر الظهران وهو موضع على مرحلة من مكة وقد أعمى الله الاخبار عن قريش إجابة لدعائه فلم يعلموا بوصوله وكان ذلك منه عليه السلام شفقة على قريش حتى لا يضنوا بالمقاتلة وأمر عليه السلام أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار وجعل على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان العباس عم النبي عليه السلام قد خرج قبل ذلك بعياله مسلماً أي مظهراً للإسلام مهاجراً فلقي رسول الله بالجحفة وهو بتقديم الجيم ميقات أهل الشأم فرجع معه إلى مكة وأرسل أهله وثقله إلى المدينة وقال له عليه السلام : "هجرتك يا عم آخر هجرة كما أن نبوتي آخر نبوة" وبعث قريش أبا سفيان يتجسس الأخبار وقالوا : إن لقيت محمداً فخذلنا منه أماناً فلما وصل ءلى مر الظهران ليلاً قال : ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكرا هذ كيران عرفة وكان بينه وبين العباس مصادقة فلما لقيه أخذ بيده وذهب به إلى رسول الله ليأخذ منه أماناً له فلما أتاه قال عليه السلام : اذهب به يا عباس
45
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/38)
إلى رحلك فإذا أصبحت فائتني به فلما أتى به عرض النبي عليه السلام عليه الإسلام فتوقف فقال العباس له : ويحك أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن يضرب عنقك فهداه الله فشهد شهادة الحق فأسلم ثم قال : يا رسول الله أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها آمنون هم قال عليه السلام : نعم من كف يده وأغلق داره فهو آمن فقال العباس : يا رسول الله إن أبا سفيان يحب الفخر فاجعل له شيئاً قال : "نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل دار حكيم بن حزام وهو من أشراف قريش في الجاهلية والإسلام فهو آمن" وعقد عليه السلام لأبي رويحة الذي آخى بينه وبين بلال رضي الله عنه لواء وأمره أن ينادي : "من ينادي من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن" وذلك توسعة للأمان أضيق المسجد ودار أبي سفيان واستثنى عليه السلام جماعة من النساء والرجال أمر بقتلهم وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة منهم ابن خل ونجوه لأن الكعبة لا تعيذ عاصياً ولا تمنع من إقامة حد واجب وكانوا طعاة مردة مؤذين لرسول الله لسلام أشد الأذى فعفا عمن آمن وقتل من أصر وقال عليه السلام للعباس : احبس أبا سفيان في مضيق الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها فأول من مر خالد بن الوليد في بني سليم مصغراً ثم قبيلة بعد قبيلة براياتهم حتى مر رسول الله ومعه المهاجرون والأنصار وعمر رضي الله عنه يقول : رويداً حتى يلحق أولكم آخركم قال أبو سفيان : سبحان الله يا عباس من هؤلاء هذا رسول الله في الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية ثم نزعت منه وأعطيت لابنه قيس وكان من دهاة العرب وأهل الرأي والمكيدة في الحرب مع النجدة والبالة وكان المهاجرون سبعمائة ومعهم ثلاثمائة فرس وكانت الأنصار أربعة آلاف ومعهم خمسمائة فرس فقال أبو سفيان ما لا حد بهؤلاء قبل ولا طاقة وقال : يا عباس لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً فقال العباس : إنها النبوة وأمر عليه السلام خالد بن الوليد أن يدخل مع جملة من قبائل العرب من أسفل مكة وقال : لا تقاتلوا إلا من قاتلكم وجمع قريش نساً بالخدم ليقاتلوا ولما لقيهم خالد منعوه الدخول ورموه بالنبل فصاح خالد في أصحابه فقتل من قتل وانهزم من لم يقلت حتى وصل خالد إلى باب المسجد وقال عليه السلام في ذلك اليوم : احصدوهم حصداً حتى توافوني بالصفا ودخل عليه السلام مكة وهو راكب على ناقته القصواء مردفاً أسامة بن زيد بكرة يوم الجمعة وعن بعضهم يوم الاثنين معتماً بعمامة سوداء وقبل غير ذلك والأول أنسب بمقام المعرفة والفناء واضعاً رأسه الشريف على رحله تواضعاً تعالى حتن رأى ما رأى من فتح الله مكة وكثرة المسلمين ثم قال : اللهم إن العيش عيش الآخرة وعن عائشة رضي الله عنها : دخل رسول الله يوم الفتح من كداء وهو كسماء بأعلى مكة واغتسل لدخول مكة وسار وهو يقرأ سورة الفتح حتى جاء البيت وطاف به سبعاً على راحلته ومحمد بن مسلمة آخذ بزمامها واستلم الحجر بمحجن في يده وهو العصا المعوجة ولم يطف ماشياً لتعليم الناس كيفية الطواف وصلى عليه السلام بالمقام ركعتين وهو يومئذ لاصق بالكعبة في جابن الباب ثم أخره إلى المحل المعروف الآن بمقام إبراهيم والظاهر أن مقام إبراهيم وهو الحجر الذي انغمس فيه قدم إبراهيم عليه السلام عندما بنى البيت قد محى أثره بكثرة مسح الأيدي ثم فقد ومقام ابراهيم الآن مخل ذلك الحجر
46
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
وأما الحجر الموضوع هناك فموضوع وكان في داخل الكعبة وخارجها وفوقها يومئذ ثلاثمائة وستون صنماً لكل حي من أحياء العرب صنم وكان هبل أعظم الأصنام وكان من عقيق إلى جنب البيت من جهة بابه وهو الآن مطروح تحت باب السلام القديم يطأه الناس إلى يوم القيامة لقول أبي سفيان يوم أحد مفتخراً بذلك أعل هبل اعل هبل وذلك لأن من أعزه الناس أذله الله فجاء عليه السلام ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منهم فيخر لوجهه وكان يقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً وأمر علياً رضي الله عنه فصعد الكعبة وكسر ما فوقها ودخل عليه السلام الكعبة بعد أن أرسل بلالاً إلى عثمان ابن أبي طلحة يأتي بمفتاح الكعبة فدخلها عليه السلام وصلى ركعتين ودعا في نواحيها كلها وكان في الكعبة كثيره حتى صورة ابراهيم واسماعيل ومريم وصور الملائكة فأمر عليه السلام عمر رضي الله عنه فمحاها كلها وكانت الكعبة بيت الأصنام ألف سنة ثم صارت مسجد أهل الاسلام ألف سنة أخرى وكانت تشكو إلى الله تعالى مما فعله الناس من الشرك حتى أنجز الله وعده لها وفيه إشارة إلى كعبة القلب فإنها كانت بيت الاصنام قبل الفتح والأمداد الملكوتي وأعظم الأصنام الوجود.
قال الشيخ المغربي :
بود وجود مغربي لات ومنات او بود
نيستبتي وود او درهمه سومنات تو
وقال الحجندي :
بشكن بت غرور كه دردين عاشقان
بك بت كو كنندبه از صد عبادتست
وقال :
مدعى نيست محرم دريار
خادم كعبه بولهب نبود
جزء : 9 رقم الصفحة : 2(9/39)
وجلس رسول الله يوم الفتح على الصفا يبايع الناس فجاء الكبار والصغار والرجال والنساء فبايعهم على الإسلام أي على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وعلى سائر الأحكام ودخل الناس في دين الله أفواجاً وعفا عليه السلام عمن كان مؤذياً له منذ عشرين سنة ودعا له بالمغفرة وقال عليه السلام : "يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم حلق السموات والأرض ويوم خلق الشمس والقمر ووضع هذين الجبلين فهي حرام ءلى يوم القيامة فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ولا يعضد فيها شجرة لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد يكون بعدي ولا تحل لي إلا هذه الساعة أي من صبيحة يوم الفتح إلى العصر غضباً على أهلها ألا قد رجعت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب وأقام بمكة بعد فتحها تسعة عشر أو ثمانية عشر يوماً يقصر الصلاة في مدة إقامة" ثم خرج إلا هوازن وثقيف كما مر وولى أمر مكة عتاب بن أسيد رضي الله عنه وعمره إحدى وعشرون سنة وأمره أن يصلي بالناس وهو أول أمير صلى بمكة بعد الفتح جماعة وترك معاذ بن جبل رضي الله عنه معه معلماً للناس السنن والفقه وبه ثبت الاستخلاف وعليه العمل إلى يومنا هذا فإن النبي إنما يبعث لرفع الجهل وقس عليه أولى جعلنا الله وإياكم من الوراثين {هُمُ} أي قريش {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي منعوكم عن أن تطوفوا به {وَالْهَدْىَ} أي وصدوا الهدى وهو بالنصب عطف على الضمير المنصوب في صدوكم والهدي بسكون الدال جمع هدية كتمر وتمرة
47
وجدي وجدية وهو مختص بما يهدي إلى البيت تقرباً إلى الله تعالى من النعم أيسره شاة وأوسطه بقرة وأعلاه بدنة يقال أهديت له وأهديت إليه ويجوز تشديد الباء فيكون جمع هدية (معكوفاً) حال من الهدي أي محبوساً يقال عكفته عن كذا إذا حبسته ومنه العاكف في المسجد لأنه حبس نفسه {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} بدل اشتمال من الهدي أو منصوب بنزع الخافض أي محبوساً من أن يبلغ مكانه الذي يحل فيه نحره أي يجب فالمحل اسم للمكان الذي ينحر فيه الهدي فهو من الحلول لا من الحل الذي هو ضد الحرمة قال في المفردات حل الدين حلولاً وجب أداؤه وحللت نزلت من حل الأحمال عند النزول ثم جرد استعماله للنزول والمحلة مكان النزول انتهى وبه استدل أبو حنيفة على أن المحصر محل هديه الحرم فإن بعض الحديبية كان من الحرم قال في بحرالعلوم : الحديبية طرف الحرم على تسعة أميال من مكة وروى أن خيامه عليه السلام كانت في الحل ومصلاه في الحرم وهناك نحرت هداياه عليه السلام وهي سبعون بدنة والمراد صدها عن محلها المعهود الذي هو مني للحاج وعند الصفا للمعتمر وعند الشافعي لا يختص دم الاحصار بالحرم فيجوز أن يذبح في الموضع الذي احصر فيه.
بين تعالى استحقاق كفار مكة للعقوبة بثلاثة أشياء : كفرهم في أنفسهم وصد المؤمنين عن إتمام عمرتهم وصد هديهم عن بلوغ المحل فهم مع هذه الأفعال القبيحة كانوا يستحقون أن يقاتلوا أو يقتلوا إلا أنه تعالى كف أيدي كل فريق عن صاحبه محافظة على ما في مكة من المؤمنين المستضعفين ليخرجوا منها أو يدخلوها على وجه لا يكون فيه إيذاء من فيها من المؤمنين والمؤمنات كما قال تعالى :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/40)
{وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَـاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم وهو صفة الرجال ونساء جميعاً وكانوا بمكة وهم اثنان وسبعون نفساً يكتمون إيمانهم {أَن تَطَـاُوهُمْ} بدل اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في تعلموهم أي توقعوا بهم وتهلكوهم فإن الوطأ عبارة عن الإيقاع والإهلاك والإبادة على طريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم لأن الوطأ تحت الأقدام مستلزم للاهلاك ومنه قوله عليه السلام : "اللهم اشدد وطأتك على مضر أي خذهم أخذاً شديداً" وفي المفردات أي ذللهم ووطىء امرأته كناية عن المجامعة صار كالتصريح للعرف {فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم} أي من جهتهم معطوف على قوله أن تطأوهم {مَّعَرَّةُ} مفعلة من عره إذا عراه ودهاه بما يكرهه ويشق عليه وفي المفردات العر الجرب الذي يعر البدن أي يعترضه ومنه قيل للمضرة معرة تشبيهاً بالعر الذي هو الجرب والمعنى مشقة ومكروه كوجوب الدية أو الكفارة بقتلهم والتأسف عليهم وتعيير الكفار وسوء حالتهم والإثم بالتقصير في البحث عنهم قال سعدي المفتي : قلت في المذهب الحنفي : لا يلزم بقتل مثله شيء من الدية والكفارة وما ذكره الزمخشري لا يوافق مذهبه انتهى وقال بعضهم : أوجب الله على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة فقال تعالى : فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق بأن تطأوهم أي غير عالمين بهم فيصيبكم بذلك مكروه لما كف أيديكم عنهم وفي هذا الحذف دليل على شدة غضب الله تعالى على كفار مكة كأنه قيل : لولا حق المؤمنين موجود لفعل بهم ما لا يدخل تحت الوصف والقياس بناء على أن
48
الحذف للتعميم والمبالغة {لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ} متعلق بما يدل عليه الجواب المحذوف كأنه قيل عقيبه لكن كفها عنهم ليدخل بذلك الكف المؤدي إلى الفتح بلا محذور في رحمته الواسعة بقسيمها {مَن يَشَآءُ} وهم المؤمنون فإنهم كانوا خارجين من الرحمة الدنيوية التي من جملتها الأمن مستضعفين تحت أيدي الكفرة وأما الرحمة الأخروية فهم وإن كانوا غير محرومين منها بالكلية لكنهم كانوا قاصرين في إقامة العبادة كما ينبغي فتوفيقهم لإقامتها على الوجه الأتم إدخال لهم في الرحمة الأخروية
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{لَوْ تَزَيَّلُوا} الضمير للفريقين أي لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض من زاله يزيله فرقه وزيلته فتزيل أي فرقته فتفرق {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها وفي الآية إشارتان إحداهما : أن من خاصية النفس أن تصد وجه الطالب عن الله تعالى وتشوب الخيرات والصدقات التي يتقرب بها إلى الله بالرياء والسمعة والعجب لئلا تبلغ محل الصدق والإخلاص والقبول والثانية أن استبقاء النفوس لاستخلاص الأرواح وقواها مع أن بعض صفات النفس قابلة للقبض الإلهي فيلزم الحذر من إفساد استعدادها لقبول الفيض وعند التزكية فصفة لا يصلح إلا قلعها كالكبر والشره والحسد والحقد وصفة تصلح للتبديل كالبخل بالسخاوة والحرص بالقناعة والغضب بالحلم والجبانة بالشجاعة والشهوة بالمحبة قال البقلي : انظر كيف شفقة الله على المؤمنين الذين يراقبون الله في السراء والضراء ويرضون ببلائه كيف حرسهم من الخطرات وكيف أخفاهم بسره عن صدمات قهره وكيف جعلهم في كنفه حتى لا يطلع عليه أحد وكيف يدفع ببركتهم البلاء عن غيرهم فعلى المؤمن مراعاتهم في جميع الزمان والتوسل بهم إلى الله المنان فإنهم وسائل الله الخفية :
بخود سرفرو برده همون صدف
نه ما نند در يا بر آورده كف
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/41)
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} منصوب باذكر على المفعولية أي اذكر وقت جعل الكافرين يعني أهل مكة {فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} أي الأنفة والتكبر فعيلة من حمى من كذا حمية إذا أنفق منه وفي المفردات عبر عن القوة الغضبي إذا ثارت وكثرت بالحمية يقال حميت على فلان أي غضبت عليه انتهى وذلك لأن في الغضب ثوران دم القلب وحرارته وغليانه والجار والمجرور إما متعلق بالجعل على أنه بمعنى الإلقاء أو بمحذوف أو مفعول ثان على أنه بمعنى التصيير أن جعلوها ثابتة راسخة في قلوبهم {حَمِيَّةَ الْجَـاهِلِيَّةِ} بدلمن الحمية أي حمية الملة الجاهلية وهي ما كانت قبل البعثة والحمية الناشئة من الجاهلية التي تمنع إذعان الحق قال الزهري : حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم أو منعهم من دخول مكة وقال مقاتل : قال أهل مكة قد قتلوا بناءنا وإخوننا ثم يدخلون علينا فتتحدث العرب إنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا واللات والعزى لا يدخلون علينا فهذه حمية الجاهلية التي دخلت في قلوبهم {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} عطف على جعل والمراد تذكير حسن صنيع الرسول والمؤمنين بتوفيق الله تعالى وسوء صنيع الكفرة أي فأنزل الله عليهم الثبات والوقار فلم يلحق بهم ما لحق الكفار فصالحوهم ورضوا أن يكتب الكتاب على ما أرادوا
49
يروى أنه لما أبى سهيل ومن معه أن يكتب في عنوان كتاب الصلح البسملة وهذا ما صالح عليه رسول أهل مكة بل قالوا : كتب باسمك اللهم وهذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة قال عليه السلام لعلي رضي الله عنه : "اكتب ما يريدون فهم المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا بهم فأنزل الله السكينة عليهم فتوقروا وحلموا مع أن أصل الصلح لم يكن عندهم بمحل من القبول في أول الأمر على ما سبق في أول السورة مفصلاً" {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} أي لكمة الشهادة حتى قالوها وهذا إلزام الكرم واللطف لا إلزام الإكراه والعنف وأضيفت إلى التقوى لأنها سببها إذ بها يتوقى من الشرك ومن النار فإن أصل التقوى الاتقاء عنها وقد وصف الله هذه الأمة بالمتقين في مواضع من القرآن العظيم باعتبار هذه الكلمة وبسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله من شعار هذه الأمة وخواصها اختارها لهم وصار المشركون محرومين منها حيث لم يرضوا بأن يكتب في كتاب الصلح ذلك وعن الحسن كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد فإن المؤمنين وفوا حيث نقضوا العهد وعاونوا من حارب حليف المؤمنين والمعنى على هذا وألزمهم كلمة أهل التقوى وهي العهد الواقع في ضمن الصلح ومعنى إلزامها إياهم تثبيتهم عليها وعلى الوفاء بها قال أهل العربية الكلمة قد تستعمل في اللفظة الواحدة ويراد بها الكلام الكثير الذي ارتبط بعضه ببعض فصار ككلمة واحدة كتسميتهم القصيدة بأسرها كلمة ومنه يقال كلمة الشهادة قال الرضي وقد تطلق الكلمة مجازاً على القصيدة والجملة يقال كلمة شاعر وقال تعالى وتمت كلمة ربك والكلمة عند أهل العربية مشتقة من الكلم بمعنى الجرح وذلك لتأثيرها في النفوس وعند المحققين عبارة عن الأرواح والذوات المجردة عن المواد والزمان والمكان لكون وجودها بكلمة كن في عالم الأمر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب والدليل على ذلك قوله تعالى : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ولمراد بكلمة التقوى ههنا حقيقة التقوى وماهيتها فإن الحقيقة من حيث هي مجردة عن اللهوا حق المادية والتشخصات فالله تعالى ألزم المؤمنين حقيقة التقوى لينالوا بها قوة اليقين والتجرد التام وصفاء الفطرة الأصلية
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} متصفين بمزيد استحقاق لها في سابق حكمه وقدم علمه على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقاً وقيل : أحق بها من الكفار {وَأَهْلَهَا} عطف تفسير أي المستأهل لها عند الله والمختص بها من أهل الرجل وهو الذي يختص به وينسب إليه قيل : إن الذين كانوا قبلنا لا يمكن د منهم أن يقول لا إله إلا الله في اليوم والليلة إلا مرة واحدة لا يستطيع أن يقولها أكثر من ذلك وكان قائلها يمد بها صوته حتى ينقطع النفس التماس بركتها وفضلها وجعل الله لهذه الأمة أن يقولوها متى شاءوا وهو قوله وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها من الأمم السالفة وقال مجاهد ثلاث لا يحجبن عن الرب : لا إله إلا الله من قلب مؤمن ، ودعوة الوالدين ، ودعوة المظلوم كما في كشف الأسرار.
وفي المثنوي :
بحرو حدانست جفت وزوج نيست
كوهر وما هيش غير موج نيست
أي محال وأي محال اشراك أو
دورازان دريا وموج اك أو
{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} بليغ العلم بكل شيء من شأنه أن يتعلق به العلم فيعلم حق كل شيء
50
(9/42)
فيسوقه إلى مستحقه ومن معلوماته أنهم أحق بها أي من جميع الأمم لأن النبي عليه السلام كان خلاصة الموجودات وأصلها وهو الحبيب الذي خلقت الموجودات بتبعيته والكلمة هي صورة الجذبة التي توصل الحبيب بالحبيب والمحب بالمحبوب فهي بالنبوة أحق لأنه هو الحبيب لتوصله إلى حبيبه وأمته أحق بها من الأمم لأنهم المحبوب لتوصل المحب بالمحبوب وهم أهلها لأن أهل هذه الكلمة من يفني بذاته وصفاته ويبقى بإثباتها معها بلا أنانيته وما بلغ هذا المبلغ بالكمال إلا النبيّ صلى الله عليه وسلّم فيقول : "أما أنا فلا أقول أنا وأمته" لقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وكان الله بكل شيء عليماً في الأزل فبنى وجود كل إنسان على ما هو أهله فمنهم أهل الدنيا ومنهم أهل الآخرة ومنهم أهل الله وخاصته.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
كذا في التأويلات النجمية قال أبو عثمان كلمة التقوى كلمة المتقين وهي شهادة أن لا إله إلا الله ألزمها الله السعداء من أولياء المؤمنين وكانوا أحق بها وأهلها في علم الله إذ خلقهم لها وخلق الجنة لأهلها وقال الواسطي كلمة التقوى صيانة النفس عن المطامع ظاهراً وباطناً وقال الجنيد : من أدركته عناية السبق في الأزل جرى عليه عيون المواصلة وهو أحق بها لما سبق إليه من كرامة الأزل وقال بعض العارفين : اعلم أن الله تعالى أسند الفعل في جانب الكفار إليهم فقال : إذ جعل الذين كفروا وفي جانت المؤمنين أسنده إلى نفسه فقال : فأنزل الله سكينته إشارة إلى أن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولاً لهم فليس لهم من يدبر أمرهم وأما المؤمنون فالله تعالى وليهم ومدبر أمرهم وأيضاً فالحمية الجاهلية ليست إلا من النفس لأن النفس مقر الأخلاق الذميمة وأما السكينة والوقار والثبات والطمأنينة فمن الله ثم إن الله تعالى قال : فأنزل الله بالفاء لا بالواو إشارة إلى أن أنزل السكينة بمقابلة جعل الحمية كما تقول أكرمني فأكرمته إشارة إلى أن إكرامك بمقابلة إكرامه ومجازاته وفي ذلك تنبيه على أن قوماً إذا طغوا وظلموا فالله تعالى يحسن إلى المظلومين وينصرهم فيعطيهم السكينة والوقار وكمال اليقين وذلك عين النعيم في مقابلة انزعاج الظالمين وحقدهم واضطرابهم وذلك هو العذاب الأليم فهم اختاروا ذلك العذاب لأنفسهم فالله تعالى اختار للمؤمنين النعيم الدائم والمراد بكلمة التقوى كل كلمة تقي النفس عما يضرها من الأذكار كالتوحيد والأسماء الإلهية ولذلك ورد في الحديث من أحصاها دخل الجنة وأفضلها لا إله إلا الله كما قال عليه السلام : "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي شهادة أن لا إله إلا الله" ثم إن قوله تعالى وكانوا أحق بها وأهلها إشارة إلى أنا لأسماءا لإلهية ينبغي أن لا تعلم ولا تلقن إلا أهلها ممن استعد لها واستحقها بالأمانة والديانة والصلاح روى أن الحجاج أحضر أنساً رضي الله عنه فقال : أنت الذي تسبني؟ قال : نعم لأنك ظالم وقد خالفت سنة رسول الله عليه السلام فقال : كيف لو قتلتك أسوء قتلة قال : لو علمت أن ذلك بيدك لعبدتك ولكنك لا تقدر فإن رسول الله علمني دعاء من قرأه كان في حفظ الله وقد قرأته فقال الحجاج : ألا تعلمني إياه فقال : لا أعلمك ولا أعلمه أحداً في حياتك حتى لا يصل إليك ثم خرج فقالوا : لم لم تقتله فقال : رأيت وراءه أسدين عظيمين فخفت منهما وروى أن عالماً طلب من بعض المشايخ أن يعلمه الاسم الأعظم فأعطاه شيئاً مغطى وقال أو صله إلى مريدي فلان فأخذه ثم إنه فتحه في الطريق لينظر ما فيه
51
فخرج منه فأرة فرجع بكمال الغيظ فلما رآه الشيخ تبسم وقال : يا خائن الآن لم تكن أميناً لفأرة فكيف تكون أميناً للاسم الأعظم فالكبار يحفظون الأسماء والأدعية من غير أهلها لئلا يجعلوها ذريعة إلى الأغراض الفاسدة النفسانية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
قال سعدي :
كسى رابا خواجه نست جنك
مدستش جرامى دهى وب وسنك
سنك آخر كه باشد كه خواش نهند
بقرماى تا استخوانش نهند
وفي المثنوي :
ند دزدى حرف مردان خدا
تا فروشى وستانى مرحبا
ون رخت رانيست در خوبى اميد
خواه كلكونه نه وخواهى مديد
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 6 من صفحة 52 حتى صفحة 61
(9/43)
{لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا} صدق بتعدي إلى مفعولين إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرف الجر يقال صدقك في كذا أي ما كذبك فيه وقد يحذف الجار ويوصل الفعل كما في هذها لآية أي صدقه عليه السلام في رؤياه وتحقيقه أراه الرؤيا الصادقة وهي ما سبق في أول السورة من أنه عليه السلام رأى قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا رؤوسهم وقصروا فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم هذا فلما تأخر ذلك قال بعض المنافقين : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت وهو دليل قاطع على أن الرؤيا حق وليس بباطل كما زعم جمهور المتكلمين والمعتزلة فتباً لهم كما في بحر العلوم قالوا : إن خلت الرؤيا عن حديث النفس وكان هيئة الدماغ صحيحة والمزاج مستقيماً كانت رؤيا من الله مثل رؤيا الأنبياء والأولياء والصلحاء وفي الحديث الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة {بِالْحَقِّ} أي صدقاً ملتبساً بالغرض الصحيح والحكمة البالغة التي هي التمييز بين الراسخ في الإيمان والمتزلزل فيه أو حال كون تلك الرؤيا ملتبسة بالحق ليست من قبيل أضغاث الأحلام لأن ما رآه كائن لا محالة في وقته المقدور له وهو العام القابل وقد جوز أن يكون قسماً بالحق الذي هو من أسماء الله أو بنقيض الباطل وقوله : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} جواب وهو على الأولين جواب قسم محذوف أي والله لتدخلنه في العام الثاني {إِن شَآءَ اللَّهُ} تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد لكي يقولوا في عداتهم مثل ذلك لا لكونه تعالى شاكاً في وقوع الموعود فإنه منزه عن ذلك وهذا معنى ما قال ثعلب استثنى الله فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون وفيه أيضاً تعريض بأن دخولهم مبني على مشيئته تعالى ذلك لا على جلادتهم وقوتهم كما قال في الكواشي استثنى أعلاماً أنه لأفعال إلا الله انتهى أو للاشعار بأن بعضهم لا يدخلونه لموت أو غيبة أو غير ذلك فكلمة أن للتشكيك لا للشك وقال الحدادي الاستثناء قد يذكر للتحقيق تبكراً كقولهم قد غفر الله لك إن شاء الله ولا تعلق لمن يصحح الأيمان بالاستثناء لأنه خير عن الحال فالاستثناء فيه محال كما في عين المعاني وروى أن النبي عليه السلام كان إذا دخل المقابر يقول : السلام عليكم أهل القبور وأنا إنشاء الله بكم لاحقون فيستثنى على وجه التبرك وإن كان اللحوق مقطوعاً به وقيل معناه لاحقون بكم في الوفاة على الإيمان فإن شرطية
52
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
ويمكن ان يقال تعليق اللحوق بالمشيئة بناء على ان اللحوق بخصوص المخاطبين ويتحصل من هذا ان الاستثناء من الأمن لا من الدخول لأن الدخول مقطوع لا إلا من حال الدخول وقال بعضهم إن هنا بمعنى إذ كما في قوله إن أردن تحصناً وقال ابن عطية وهذا احسن في معناه لكن كون أن بمعنى إذ غير موجود في لسان العرب وفيه وجه آخر وهو أنه حكاية لما قاله ملك الرؤيا لرسول الله فقوله لتدخلن الآية تفسير للرؤيا كأنه قيل هو قول الملك له عليه السلام في منامه لتدخلن وإذا كان التعليق من كلام الملك لتبرك فلا إشكال أو حكاية لما قاله عليه السلام لأصحابه كأنه قيل قال النبي بناء على تلك الرؤيا التي هي وحي لتدخلن الخ يعني لما قص رؤياه على أصحابه استأنف بأن قال لتدخلن الخ {ءَامِنِينَ} من الأعادي حال من فاعل لتدخلن والشرط معترض وكذا قوله : {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} أي جميع شعورها والتحليق والتحلاق بسيار ستردن سركما في تاج المصادر والحلق العضو المخصوص وحلقه قطع حلقه ثم جعل الحلق لقطع الشعر وجزه فقيل حلق شعره وحلق رأسه أي أزال شعره {وَمُقَصِّرِينَ} بعض شعورها والقصر خلاف الطول وقص شعره حز بعضه أي محلقاً بعضكم ومقصراً آخرون وإلا فلا يجتمع الحلق والتقصير في كل واحد منهم فالنظم من نسب حال البعض إلى الكل يعني أن الواو ليست لاجتماع الأمرين في كل واحد منهم بل لاجتماعهما في مجموع القوم ثم إن قوله محلقين ومقصرين من الأحوال المقدرة فلا يرد أن حال الدخول هو حال الإحرام وهو لا يجامع الحلق والتقصير وقدم الحلق على التقصير وهو قطع أطراف الشعر لأن الحلق أفضل من التقصير وقد حلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأسه بمعنى وأعطى رأسه أبا طلحة الأنصاري وهو زوج أم سليم وهي والدة أنس بن مالك فكان آل أنس يتهادون به بينهم وروى أنه عليه السلام حلق رأسه أربع مرات والعادة في هذا الزمان في أكثر البلاد حلق الرأس للرجل عملاً بقوله عليه السلام تحت كل شعرة نجاس فخللوا الشعر وانقوا البشرة وإنما قلنا للرجل لأن حلق شعر المرأة مثلة وهي حرام كما أن حلق لحية الرجل كذلك {لا تَخَافُونَ} حال مؤكدة من فاعل لتدخلن أو استئناف جواباً عن سؤال أنه كيف يكون الحال بعد الدخول أي لا تخافون بعد ذلك من أحد {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا}
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/44)
عطف على صدق والفاء للترتيب الذكري فالتعرض لحكم الشيء إنما يكون بعد جري ذكره والمراد بعلمه تعالى العلم الفعلي المتعلق بأمر حادث بعد المعطوف عليه أي فعل عقيب ما أراه الرؤيا الصادقة ما لم تعلموا من الحكمة الداعية إلى تقديم ما يشهد بالصدق علماً فعلياً {فَجَعَلَ} لأجله {مِن دُونِ ذَالِكَ} أي من دون تحقق مصداق ما أراه من دخول المسجدالحرام الخ وبالفارسية س ساخت براى شما يعني مقرر كرد يش ازين يعني قبل از دخول در مسجد حرام بجهت عمره قضا {فَتْحًا قَرِيبًا} هو فتح خيبر مضى عليه السلام بعد خمس عشرة ليلة كما في عين المعاني والمراد بجعله وعده وإنجازه من غير تسويف ليستدل به على صدق الرؤيا حسبما قال ولتكون آية للمؤمنين وأما جعل ما في قوله ما لم تعلموا عبارة عن الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل
53
كما جنح إليه الجمهور فتأباه الفاء فإن علمه تعالى بذلك متقدم على إراءة الرؤيا قطعاً كما في الإرشاد وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى امتحن المؤمن والمنافق بهذه الرؤيا إذ لم يتعين وقت دخولهم فيه فأخر الدخول تلك السنة فهلك المنافقون بتكذيب النبي عليه السلام فيما وعدهم بدخول المسجد الحرام وازداد كفرهم ونفاقهم وازداد إيمان المؤمنين بتصديق النبي عليه السلام مع إيمانهم وانتظروا صدق رؤياه فصدق الله رسوله الرؤيا بالحق فهلك من هلك عن بينة وحي من حي عن بينة ولذلك قال تعالى لعلم ما لم تعلموا يعني من تربية نفاق أهل النفاق وتقوية إيمان أهل الإيمان فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً من فتوح الظاهر والباطن فلا بد من الصبر فإن الأمور مرهونة بأوقاتها :
صد هزاران كميا حق آفريد
كيميايي همو صبر آدم نديد
نيست هر مطلوب از طالب دريغ
جفت تابش شمس وجفت آب ميغ
وقد صبر عليه السلام على أذى قومه وهكذا حال كل وارث قال معروف الكرخي قدس سره : رأيت في المنام كأني دخلت الجنة ورأيت قصراً فرشت مجالسه وأرخيت ستوره وقام ولدانه فقلت لمن هذا؟ فقيل : لأبي يوسف فقلت : بم استحق هذا؟ فقالوا : بتعليمه الناس العلم وصبره على أذاهم ثم إن الصدق صفة الله تعالى وصفة خواص عباده وأنه من أسباب الهداية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
ـ حكي ـ عن إبراهيم الخواص قدس سره أنه كان إذا أراد سفراً لم يعلم أحداً ولم يذكره وإنما يأخذ ركوته ويمشي قاد حامد الأسود : فبينما نحن معه في مسجد تناول ركوته ومشى فإتبعته فلما وافينا القادسي قال لي : يا حامد إلى أين؟ قلت : يا سيدي خرجت لخروجك قال : أنا أريد مكة إن شاء الله قلت : وأنا أريد إن شاء الله مكة فلما كان بعد أيام إذا بشام قد انضم إلينا فمشى معنا يوماً وليلة لا يسجدسجدة فعرفت إبراهيم وقلت : إن هذا الغلام لا يصلي فجلس وقال : يا غلام مالك لا تصلي والصلاة أوجب عليك من الحج؟ فقال : يا شيخ ما علي صلاة قلت : ألست بمسلم؟ قال : لا قلت فأي شيء أنت؟ قال : نصراني ولكن إشارتي في النصرانية إلى التوكل وادعت نفسي أنها قد أحكمت حال التوكل فلم أصدقا فيما ادعت حتى أخرجتها إلى هذه الفلاة التي ليس فيها موجود غير المعبود أثير ساكني وامتحن خاطري فقام إبراهيم ومشى وقال : دعه معك فلم يزل يسايرنا حتى وفينا بطن مرو فقام إبراهيم ونزع خلقانه فطهرها بالماء ثم جلس وقال له : ما اسمك؟ قال : عبد المسيح فقال : يا عبد المسيح هذا دهليز مكة يعني الحرم وقد حرم الله على أمثالك الدخول فيه قال : تعالى إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا والذي أردت أن تستكشفه من نفسك قد بان لك فاحذر أن تدخل مكة فإن رأيناك بمكة أنكرنا عليك قال حامد : فتركناه ودخلنا مكة وخرجنا إلى الموقف فبينما نحن جلوس بعرفات إذ به قد أقبل عليه ثوبان وهو محرم يتصفح الوجوه حتى وقف علينا فأكب على إبراهيم يقبل رأسه فقال له : ما وراءك يا عبد المسيح فقال له : هيهات أنا اليوم عبد من المسيح عبده فقال له إبراهيم : حدثني حديثك قال : جلست مكاني حتى أقبلت قافلة الحاج وتنكرت في زي المسلمين كأني محرم فساعة وقعت عيني على
54
(9/45)
الكعبة اضمحل عندي كل دين سوى دين الإسلام فأسلمت واغتسلت وأحرمت وها أنا أطلبك يومي فالتفت إلي إبراهيم وقال : يا حامد انظر إلى بركة الصدق في النصرانية كيف هداه إلى الإسلام ثم صحبنا حتى مات بين الفقراء ومن الله الهداية والتوفيق {هُوَ} أي الله تعالى وحده {الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ} يعني إن الله تعالى بجلال ذاته وعلو شأنه اختص بإرسال رسوله الذي لا رسول أحق منه بإضافته إليه {الْهُدَى} أي كونه ملتبساً بالتوحيد وهو شهادة أن لا إله إلا الله فيكون الجار متعلقاً بمحذوف أو بسببه ولأجله فيكون متعلقاً بأرسل {وَدِينِ الْحَقِّ} أي وبدين الإسلام وهو من قبيل إضافة الموصوف إلى صفته مثل عهذا بالحريق والأصل الدين الحق والعذاب المحرق ومعنى الحق الثابت الذي هو ناسخا لأديان ومبطلها {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} اللام في الدين للجنس أي ليعلى الدين الحق ويغلبه على جنس الدين بجميع أفراده التي هي الأديان المختلفة بنسخ ما كان حقاً من بعض الأحكام المتبدلة بتبدل الأعار وإظهار بطلان ما كان باطلاً أو بتسليط المسلمين على أهل سائر الأديان ولق أنجز الله وعده حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام ولا يبقى إلا مسلم أو ذمة للمسلمين وكم ترى من فتوح أكثر البلاد وقهر الملوك الشداد ما تعرف به قدرة الله تعالى وفي الآية فضل تأكيد لما وعد من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنه سيفتح لهم من البلاد ويعطيهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون إليه فتح مكة وقد أنجز كما أشير إليه آنفاء.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
واعلم أن قوله ليظهره إثبات السبب الموجب للإرسال فهذه اللام لام الكمة والسبب شرعاً ولام العلة عقلاً لأن أفعال الله تعالى ليست بمعللة بالأعراض عند الأشاعرة لكنها مستتبعة لغايات جليلة فنزل ترتب الغاية على ما هي ثمرة له منزلة ترتب الغرض على ما هو غرض له {وَكَفَى بِاللَّهِ} أي الذين له الإحاطة بجميع صفات الكمال {شَهِيدًا} على أن ما وعده كائن لا محالة أو على نبوته عليه السلام بإظهار المعجزات وإن لم يشهد الكفار وعن ابن عباس رضي الله عنهما شهد له بالرسالة وهو قوله : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} فمحمد مبتدأ ورسول الله خبره وهو وقف تام والجملة مبينة للمشهود به وقيل محمد خبر مبتدأ محذوف وقوله رسول الله بدل أو بيان أو نعت أي ذلك الرسول المرسل بالهدي ودين الحق محمد رسول الله قال في تلقيح الأذهان : أعلم الله سبحانه محمداً عليه السلام أنه خلق الموجودات كلها من أجله أي من أجل ظهوره أي من أجل تجليه به حتى قال : ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله غير عاصي الإنس والجن وقال الشيخ الشهير : فاتاده قدس سره لما تجلى الله وجد جميع الأرواح فوجد أولاً روح نبينا صلى الله عليه وسلّم ثم سائر الأرواح فلقن التوحيد فقال : لا إله إلا الله فكرمه الله بقوله : محمد رسول الله فأعطى الرسالة في ذلك الوقت ولذا قال عليه السلام : كنت نبياً وآدم بين الماء والطين انتهى ومعنى الحديث أنه كان نبياً بالفعل ولا عالماً بنبوته إلا حين بعث بعد وجوده ببدنه العنصري واستكمال شرائط النبوة فكل من بدا بعد وجود المصطفى عليه السلام فهم نوابه وخلفاؤه مقدمين
55
كالأنبياء والرسل أو مؤخرين كأولياء الله الكمل قال عليه السلام : "أنا من نور الله والمؤمنون من فيض نوري فهو الجنس العالي والمقدم وما عداه التالي والمؤخر كما قال كنت أولهم خلقاً وآخرهم بعثاً" فرسول الله هو الذي لا يساوي رسول لأنه رسول إلى جميع الخلق من أدرك زمانه بالفعل في الدنيا ومن تقدمه بالقوة فيها وبالفعل بالآخرة يوم يكون الكل تحت لوائه وقد أخذ على الأنبياء كلهم المثاق بأن يؤمنوا به أن أدركوه وأخذه الأنبياء على أممهم وي الحديث أنا محمد وأحمد ومعنى محمد كثير الحمد فإن أهل السماء والأرض حمدوه ومعنى أحمد أعظم حمداً من غير لأنه حمد الله بمحامد لم يحمد بها غيره كما في شرح المشارق لابن الملك.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
قال الجامي :
محمدت ون بلا نهايه زحق
يافت شد نام آواز ان مشتق
(9/46)
واسمه في العرش أبو القاسم في السموات أحمد وفي الأرض محمد قال علي رضي الله عنه : ما اجتمع قوم في مشورة فلم يدخلوا فيها من اسمه إلا لم يبارك لهم فيها وأشار ألف أحمد إلى كونه فاتحاً ومقدماً لأن مخرجه مبدأ المخارج وأشار ميم محمد إلى كونه خاتماً ومؤخر الان مخرجها ختام المخارج كما قال : نحن الآخرون السابقون وأشار الميم أيضاً إلى بعثته عند الأربعين قول بعضهم أكرم الله من الصبيان أربعة بأربعة أشياء : يوسف عليه السلام بالوحي في الجب ويحيى عليه السلام بالحكمة في الصباوة وعيسى عليه السلام بالنطق في المهد وسليمان عليه السلام السلام بالفهم وأما نبينا عليه السلام فله الفضيلة العظمى والآية الكبرى حيث أن الله أكرمه بالسجدة عند الولادة والشهادة بأنه رسول الله وكل قول يقبل الاختلاف بين المسلمين إلا قول لا إله إلا الله محمد رسول الله فإنه غير قابل للاختلاف فمعناه متحقق وإن لم يتكلم به أحد وكذا أكرمه بشرح الصدر وختم النبوة وخدمة الملائكة والحور عند ولادته وأكرمه بالنبوة في عالم الأرواح قبل الولادة وكفاه بذلك اختصاصاً وتفصيلاً فلا بد للمؤمن من تعظيم شرعه وإحياء سنته والتقرب إليه بالصلوات وسائر القربات لينال عند الله الدرجات وكانت رابعة العدوية رحمها الله تصلي في اليوم والليلة ألف ركعة وتقول : ما أريد بها ثواباً ولكن ليسر بها رسول الله عليه السلام ويقول للأنبياء : انظروا إلى امرأة من أمتي هذا عملها في اليوم والليلة ومن تعظيمه عمل المولد إذا لم يكن فيه منكر قال الإمام السيوطي قدس سره يستحب لنا إظهار الشكر لمولده عليه السلام انتهى.
وقد اجتمع عند الإمام تقي الدين السبكي رحمه الله جمع كثير من علماء عصره فأنشد منشد قول الصرصري رحمه الله في مدحه عليه السلام :
قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب
على ورق من خط أحسن من كتب
وأن تنهض الأشراف عند سماعه
قياماً صفوفاً أو جثياً على الركب
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
فعند ذلك قام الإمام السبكي وجميع من بالمجلس فحصل أنس عظيم بذلك المجلس ويكفي ذلك في الاقتداء وقد قال ابن حجر الهيثمي أن البدعة الحسنة متفق على ندبها وعمل المولد واجتماع الناس له كذلك أي بدعة حسنة قال السخاوي لم يفعله أحد من القرون الثلاثة
56
وإنما حدث بعد ثم لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر من بركاته عليهم كل فضل عظيم قال ابن الجوزي من خواصه أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام وأول من أحدثه من الملوك صاحب أربل وصنف له ابن دحية رحمه الله كتاباً في المولد سماه التنوير بمولد البشير النذير فأجازه بألف دينار وقد استخرج له الحافظ ابن حجر أصلاً من السنة وكذا الحافظ السيوطي ورداً على الفاكهاني المالكي في قوله : إن عمل المولد بدعة مذمونة كما في إنسان العيون {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي مع رسول الله عليه السلام وهو مبتدأ خبره قوله : {أَشِدَّآءُ} غلاظ وهو جمع شديد {عَلَى الْكُفَّارِ} كالأسد على فريسته {رُحَمَآءُ} أي متعاطفون وهو جمع رحيم {بَيْنَهُمْ} كالوالد مع ولده يعني أنهم يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلاب ولمن وافقهم في الدين الرحمة والرأفة كقوله تعالى : أذلة على المؤمنين عزة على الكافرين فلو اكتفى بقوله : أشداء على الكفار لربما أوهم الفظاظة والغلظة فكمل بقوله رحماء بينهم فيكون من أسلوب التكميل وعن الحسن بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثبابهم ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه وذكر في التوراة في صفة عمر رضي الله عنه قرن من حديد أمين شديد وكذا أبو بكر رضي الله عنه فإنه خرج لقتال أهل الردة شاهراً سيفه راكباً راحلته فهو من شدته وصلابته على الكفار.
قال الشيخ سعدي :
نه ندان درشتي كن كه از توسير كردند
ونه ندان نرمى كن كه برتود ليرشوند
درشتى ونرمي بهم دربهست
ور كزن كه جراج ومرهم نهست
وقال بعضهم :
هست نرمى آفت جان سمور
وزدرشتى ميبردجان خار شت
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
(9/47)
وفي الحديث المؤمنون هينون لينون مدح النبي بالسهولة واللين لأنهما من الأخلاق الحسنة فإن قلت : من أمثال العرب لا تكن رطباً فتعصر ولا يابساً فتكسر وعلى وفق ذلك ورد قوله عليه السلام : "لا تكن مراً فتعقى ولا حلواً فتسترط" يقال : أعقيت الشيء إذا أزلته من فيك لمرارته واسترطه أي ابتلعه وفي هذا نهى عن اللين فما وجه كونه جهة مدح قلت لا شبهة في أن خير الأمور أوسطها وكل طرفي الأمور ذميم أي المذموم هو الإفراط والتفريط لا الاعتدال والاقتصاد نسأل الله العمل بذلك {تَرَاـاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} جمع راكع وساجد أي تشاهدهم حال كونهم راكعين ساجدين لمواظبتهم على الصلوات فهما حالان لأن الرؤية بصرية وأريد بالفعل الاستمرار والجملة خبر آخر أو استئناف {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} إما خبر آخر أو استئناف مبني على سؤال نشأ عن بيان مواظبتهم على الركوع والسجود كأنه قيل ماذا يريدون بذلك فقيل : يبتغون فضلاً من الله ورضواناً أي ثواباً ورضى وقال بعض الكبار قصدهم في الطاعة والعبادة الوصول والوصال وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قال الراغب : الرضوان الرضى الكثير {سِيمَاهُمْ} فعلى من ساه إذا أعلمه أي جعله ذا علامة والمعنى علامتهم وسمتهم وقرىء سيمياؤهم
57
بالياء بعد الميم والمد وهما لغتان وفيها لغة ثالثة هي السيماء بالمد وهو مبتدأ خبر قوله : {فِى وُجُوهِهِم} أي ثابتة في وجوههم من أثر السجود
حال من المستكن في الجار وأثر الشيء حصول ما يدل على وجوده كما في المفردات أي من التأثير الذي تؤثره كثرة السجود وما روى عن النبي عليه السلام من قوله : لا تعلموا صوركم أي لا تسموها إنما هو فيما إذا اعتمد بجبهته على الأرض ليحدث فيها تلك السمة وذلك محض رياء ونفاق والكلام فيما حدث في جبهة السجاد الذين لا يسجدون إلا خالصاً لوجه الله وكان الإمام زين العابدين رضي الله عنه وهو علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم وكذا علي بن عبد الله بن العباس يقال لهما : ذو الثفنات لما أحدثت كثرة سجودهما في مواضعة منهما أشباه ثفنات البعير والثفنة بكسر الفاء من البعير الركبة وما مس الأرض من أعضائه عند الإناخلاة وثفنت يده ثفناً إذا غلظت عن العمل وكانت له خمسمائة أصل زيتون يصلي عند كل أصل ركعتين كل يوم قال قائلهم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
ديار علي والحسين وجعفر
وحمزة والسجاد ذي الثفنات
قال عطاء : دخل في الآية تن حافظ على الصلوات الخمس وقال بعض الكبار سيما المحبين من أثر السجود فإنهم لا يسجدون لشيء من الدنيا والعقبى إلامخلصين له الدين وقيل صفرة الوجوه من خشية الله وقيل ندى الطهور وتراب الأرض فإنهم كانوا يسجدون على التراب لا على الأثواب وقيل استنارة وجوههم من طول ما صلوا بالليل قال عليه السلام : من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ألا ترى أن من سهر بالليل وهو مشغول بالشراب واللعب لا يكون وجهه في النهار كوجه من سهر وهو مشغول بالطاعة وجاء في باب الإمامة أنه يقدم إلا علم ثم ألا قرأتم الأورع ثم الأسن ثم الأصبح وجهاً أي أكثرهم صلاة بالليل لما روي من الحديث قيل لبعضهم ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً قال : لأنهم خلوا بالرحمن فأصابهم من نوره كما يصيب القمر نور الشمس فينور به.
در نفحات مذكوراست كه ون ارواح ببركت قرب الهي صافي شد انوار موافقت بر اشباخ ظاهر كردد :
درويش را كواه ه حاجت كه عاشقت
رنك رخش زدوربه بين وبدان كه هست
وقال سهل المؤمن من توجهمقبلاً عليه غير معرض عنه وذلك سيما المؤمنون وقال عامر بن عبد القيس كادوجه المؤمن يخبر عن مكتون عمله وكذلك وجه الكافر وذلك قوله سيماهم في وجوههم وقال بعضهم : ترى على وجوههم هيبة القرب عهدهم بمناجاة سيدهم وقال ابن عطاء : ترى عليهم خلع الأنوار لائحة وقال عبد العزيز المكي : ليست هي النحولة والصفرة لكنها نور يظهر على وجوه العابدين يبدو من باطنهم على ظاهرهم يتبين ذلك للمؤمنين ولو كان ذلك في زنجي أو حبشي انتهى ولا شك أن هذه الأمة يقومون يوم القيامة غراً مخجلين من آثار المضوء وبعضهم يكون وجوههم من أثر السجود كالقمر ليلة البدر وكل ذلك من تأثير نور القلب وانعكاسه ولذا قال :
آن سياهى كزى ناموس حق ناقوس زد
در عرب بو الليل بوداندر قيامت بوالنهار
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{ذَالِكَ} إشارة إلى ما ذكر من نعوتهم الجليلة {مَثَلُهُمْ} أي وصفهم العجيب الشان الجاري في الغرابة مجرى الأمثال {فِى التَّوْرَاـاةِ} حال من مثلهم والعامل معنى الإشارة والتوراة اسم
58
(9/48)
كتاب موسى عليه السلام قال : من جوز أن تكون التوراة عربية أنها تشتق من ورى الزند فوعلة منه على أن التاء مبدلة من الواو سمي التوراة لأنه يظهر منه النور والياء لبني إسرائيل وفي القاموس وورية النار وريتها ما تورى به من خرقة أو حطبة والتوراة تفعلة منه انتهى وقال بعضهم : فوعلة منه لا تفعله لقلة وجود ذلك {وَمَثَلُهُمْ فِى الانجِيلِ} عطف على مثلهم الأول كأنه قيل ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل وتكرير مثلهم لتأكيد غرابته وزيادة تقريرها والإنجيل كتاب عيسى عليه السلام يعني بهمين نعمت در كتاب موسى وعيسى مسطور ندتاكه معلوم امم كردند وبايشان مده ورشوند.
والانحيل من نجل الشيء أظهره سمى الانجيل انجيلا لأنه أظهر الدين بعدما درش أي عفا رسمه {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـاَهُ} يقال زرع كمنع طرح البذر وزرع الله أنبت والزرع الولد والمزروع والجمع زروع وموضعه المزرعة مثلثة الراء وهو الخ تمثيل مستأنف أي هم كزع اخرج افراخه أي فروعه وأغصانه وذلك إن أول ما نبت من الزرع بمنزلة الأم وما تفرع وتشعب منه بمنزلة أولاده وأفراخه وفي المفردات شطأه فروع الزرع وهو ما خرج منه وتفرع في شاطئيه أي جانيه وجمعه أشطاء وقوله : أخرج شطأه أي أفراخه انتهى وقيل هو أي الزرع الخ تفسير لقوله ذلك على أنه إشارة مبهمة وقيل خبر لقوله تعالى ومثلهم في الإنجيل على أن الكلام قد تم عند قوله تعالى مثلهم في التوراة {فَـاَازَرَهُ} المنوى في آزره ضمير الزرع أي فقوى الزرع ذلك الشطأ وبالفارسية : س قوى كرد كشت آن بك شاخ را.
إلا أن الإمام النسفي رحمه الله جعل المنوى في آزر ضمير الشطأ قال فآزره أي فقوى الشطأ أصل الزرع بالتفافه عليه وتكاتفه وهو صريح في أن الضمير المرفوع للشطأ أي فقوى الشطأ أصل الزرع بالتفافه عليه وتكاثفه وهو صريح في أن الضمير المرفوع للشطأ والمنصوب للزرع وهو من الموازرة بمعنى المعاونة فيكون وزن آزر فاعل من الأزر وهو القوة أو من الإيزار وهي الإعانة فيكون وزنه أعل وهو الظاهر لأنه لم يسمع في مضارعه يوازر بل يوزر
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
{فَاسْتَغْلَظَ} فصار غليظاً بعدما كان دقيقاً فهو من باب استحجر الطين بعني أن السين للتحول {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} فاستقام على قصبته جمع ساق وهو أصوله {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} حال أي حال كونه يعجب زراعه الذين زرعوه أي يسرهم بقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره وطول قامته وبالفارسية بشكفت آردمزارعانرا وهناتم المثل وهو مثل ضربه الله لأصحابه رسول الله قلوا في بدء الإسلام ثم كروا واستحكما فترقى أمرهم يوماً فيوماً بحيث أعجب الناس وقيل مكتوب في التوراة سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وفي الأسئلة المقحمة كيف ضرب الله المثل لأصحاب النبي عليه السلام بالزرع الذي أخرج شطأه ولماذا لم يشبههم بالخيل والأشجار الكبار المثمرة والجواب لأن أصحاب النبي كانوا في بدء الأمر قليلين ثم صاروا يزدادون ويكثرون كالزرع الذي يبدو ضعيفاً ثم ينمو ويخرج شطأه ويكثر لأن الزرع يحصد ويزرع كذلك المسلمون منهم من يموت ثم يقوم مقامه غيره بخلاف الأشجار الكبار فإنها تبقى بحالها سنين ولأنه تنبت من الحبة الواحدة سنابل وليس ذلك في غير الزرع انتهى فكما أن أعمالهم نامية فكذا أجسادهم ألا ترى أنه قتل مع الإمام الحسين رضي الله عنه عامة أهل بيته لم ينج إلا ابنه زين العابدين علي رضي الله عنه لصغره فأخرج الله من صلبه الكثير
59
الطيب وقيل يزيد بن المهلب وإخوتهم وذراريهم ثم مكث من بقي منهم نيفاً وعشرين سنة لا يولد فيهم أنثى ولا يموت منهم غلام وعن عكرمة أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي رضي الله عنهم {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} الغيظ أشد غضب وهو الحرارة التي بجدها الإنسان من ثوران دم قلبه غاظه يغيظه فاغتاظ وغليظه فتغيظ وأغاظه وغايظه كما في القاموس وهو علة لما يعرب عنهالكلام من تشبيههم بالزرع في زكائه واستحكامه أي جعلهم الله كالزرع في النماء والقوة ليغيظ بهم مشركي مكة وكفار العرب والعجم وبالفارسية : تا لله رسول خويش وياران اوكافر انرا بدرد آرده.
ومن غيظ الكفار قول عمر رضي الله عنه لأهل مكة بعدما أسلم : لا نعبد الله سراً بعد اليوم وفي الحديث : أرح أمتي بأمتي أبو بكر وأقواهم في دين الله عمر وأصدقم حياء عثمان وأقضاهم علي وأقرأهم أبي بن كعب وأفرضهم زيد بن ثابت وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ولكل أمة أمين هذه الأم أبو عبيدة ابن الجراح وقيل قوله ليغيظ بهم الكفار وعلة لما بعده من قوله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمَا} فإن الكفار إذا سمعوا بما أعد للمؤمنين في الآخرة مع مالهم في الدنيا من العزة غاظهم ذلك أشد غيظ.
(9/49)
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
يقول الفقير : نظير الكفار مقصور على ما في الدنيا مما يتنافس يه ويتحاسد وكيف لا يغيظم ما أعد للمؤمنين في الآخرة وليسوا بمؤمنين باليوم الآخر ومنهم للبيان كما في قوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان يعني همه ايشانرا وعد فرمود آمر زش كناه ومزدى بزرك.
وهو الجنة ودرجاتها فلا حجة فيه للطاعنين في الأصحاب فإن كلهم مؤمنون ولما كانوا يبتغون من الله فضلاً ورضواناً وعدهم الله بالنجاة من المكروه والفو بالمحبوب وعن الحسن محمد رسول الله والذين معه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنه كان معه في الغار ومن أنكر صحبته كفر أشداء على الكفار عمر بن الخطاب لأنه كان شديداً غليظاً على أهل مكة رحماء بينهم عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه كان رؤفاً رحيماً ذا حياء عظيم تراهم ركعاً سجداً علي بن أبي طالب رضي الله عنه تاحدى كه هرشب آوازهزار تكبير احرام ازخلوت وى باسماع خادمان عتبه عليه اش ميرسيد يبتغون فضلاً من الله ورضواناً بقية العشرة المبشرة بالجنة وفي الحديث يا علي أنت في الجنة وشيعتك في الجنة وسيجيء بعدي قوم يدعون ولايتك لهم لقب يقال له الرافضة فإذا أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشركون قال : يا رسول الله ما علامتهم قال : يا علي إنه ليست لهم جمعة ولا جماعة يسبون أبا بكر وعمر قال : مالك بن أنس رضي الله عنه : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقد أصابته هذه الآية قال أبو العالية : العمل الصالح في هذه الآية حب الصحابة وفي الحديث : يا علي إن الله أمرني أن أتخذ أبا بكر والداً وعمر مشيراً وعثمان سنداً وأنت يا علي ظهراً فأنتم أربعة قد أخذ ميثاقكم في الكتاب لا يحبكم إلا مؤمن ولا يبغضكم إلا فاجر أنتم خلائف نبوتي وعقدة ذمتي لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تغامزوا كما في كشف الأسرار وفي الحديث : لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه المدربع الصاع والنصيف نصف الشيء والضمير في نصيفه راجع إلى أحدهم إلا إلى المد والمعنى أن أحدكم لا يدرك بإنفاق
60
مثل أحد ذهباً من الفضيلة ما أدرك أحدهم بإنفاق مد من الطعام أو نصيف له وفي حديث آخر الله الله في أصحابي لا تتخدوهم غرضاً من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذ أي يأخذه الله للتعذيب والعقاب وفي الصواعق لابن حجر وكان للنبي عليه السلام مائة ألف وأربعة عشر ألف صحابي عند موته انتهى وفي حديث الأخوة قال أصحابه : نحن إخوانك يا رسول الله قال : لا أنتم أصحابي وإخواني الذين يأتون بعدي آمنوا بي ولم يروني وقالللعامل منهم أجر خمسين منكم قالوا : بل منهم يا رسول الله قال : بل منكم رددوها ثلاثاً ثم قال : لأنكم تجدون على الخير أعواناً كما في تلقيح الأذهان.
يقول الفقير : يلزم من هذا الخبر أن يكون الاوان أفضل من الأصحاب وهو خلاف ما عليه الجمهور قلت : الذي في الخبر من زيادة الأجر للعامل من الاخوان عند فقدان الأعوان لا مطلقاً فلا يلزم من ذلك أن يكونوا أفضل من كل وجه في كل زمان قال في فتح الرحمن وقد اجتمع حروف المعجم التسعة والعشرون في هذه الآية وهي محمد رسول الله إلى آخر السورة أول حرف المعجم فيها ميم من محمد وآخرها صاد من الصالحات وتقدم نظير ذلك في سورة آل عمران في قوله ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاساً الآية وليس في القرآن آيتان في كل آية حروف المعجم غيرهما من دعا الله بهما استجيب له وعن النبيّ صلى الله عليه وسلّم من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد رسول الله فتح مكة وقال ابن مسعود رضي الله عنه : بلغني أنه من قرأ سورة الفتح في أول ليلة من رمضان في صلاة التطوع حفظه الله تعالى ذلك العام ومن الله العون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
يقول الفقير : نظير الكفار مقصور على ما في الدنيا مما يتنافس يه ويتحاسد وكيف لا يغيظم ما أعد للمؤمنين في الآخرة وليسوا بمؤمنين باليوم الآخر ومنهم للبيان كما في قوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان يعني همه ايشانرا وعد فرمود آمر زش كناه ومزدى بزرك.
(9/50)
وهو الجنة ودرجاتها فلا حجة فيه للطاعنين في الأصحاب فإن كلهم مؤمنون ولما كانوا يبتغون من الله فضلاً ورضواناً وعدهم الله بالنجاة من المكروه والفو بالمحبوب وعن الحسن محمد رسول الله والذين معه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنه كان معه في الغار ومن أنكر صحبته كفر أشداء على الكفار عمر بن الخطاب لأنه كان شديداً غليظاً على أهل مكة رحماء بينهم عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه كان رؤفاً رحيماً ذا حياء عظيم تراهم ركعاً سجداً علي بن أبي طالب رضي الله عنه تاحدى كه هرشب آوازهزار تكبير احرام ازخلوت وى باسماع خادمان عتبه عليه اش ميرسيد يبتغون فضلاً من الله ورضواناً بقية العشرة المبشرة بالجنة وفي الحديث يا علي أنت في الجنة وشيعتك في الجنة وسيجيء بعدي قوم يدعون ولايتك لهم لقب يقال له الرافضة فإذا أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشركون قال : يا رسول الله ما علامتهم قال : يا علي إنه ليست لهم جمعة ولا جماعة يسبون أبا بكر وعمر قال : مالك بن أنس رضي الله عنه : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقد أصابته هذه الآية قال أبو العالية : العمل الصالح في هذه الآية حب الصحابة وفي الحديث : يا علي إن الله أمرني أن أتخذ أبا بكر والداً وعمر مشيراً وعثمان سنداً وأنت يا علي ظهراً فأنتم أربعة قد أخذ ميثاقكم في الكتاب لا يحبكم إلا مؤمن ولا يبغضكم إلا فاجر أنتم خلائف نبوتي وعقدة ذمتي لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تغامزوا كما في كشف الأسرار وفي الحديث : لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه المدربع الصاع والنصيف نصف الشيء والضمير في نصيفه راجع إلى أحدهم إلا إلى المد والمعنى أن أحدكم لا يدرك بإنفاق
60
مثل أحد ذهباً من الفضيلة ما أدرك أحدهم بإنفاق مد من الطعام أو نصيف له وفي حديث آخر الله الله في أصحابي لا تتخدوهم غرضاً من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذ أي يأخذه الله للتعذيب والعقاب وفي الصواعق لابن حجر وكان للنبي عليه السلام مائة ألف وأربعة عشر ألف صحابي عند موته انتهى وفي حديث الأخوة قال أصحابه : نحن إخوانك يا رسول الله قال : لا أنتم أصحابي وإخواني الذين يأتون بعدي آمنوا بي ولم يروني وقالللعامل منهم أجر خمسين منكم قالوا : بل منهم يا رسول الله قال : بل منكم رددوها ثلاثاً ثم قال : لأنكم تجدون على الخير أعواناً كما في تلقيح الأذهان.
يقول الفقير : يلزم من هذا الخبر أن يكون الاوان أفضل من الأصحاب وهو خلاف ما عليه الجمهور قلت : الذي في الخبر من زيادة الأجر للعامل من الاخوان عند فقدان الأعوان لا مطلقاً فلا يلزم من ذلك أن يكونوا أفضل من كل وجه في كل زمان قال في فتح الرحمن وقد اجتمع حروف المعجم التسعة والعشرون في هذه الآية وهي محمد رسول الله إلى آخر السورة أول حرف المعجم فيها ميم من محمد وآخرها صاد من الصالحات وتقدم نظير ذلك في سورة آل عمران في قوله ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاساً الآية وليس في القرآن آيتان في كل آية حروف المعجم غيرهما من دعا الله بهما استجيب له وعن النبيّ صلى الله عليه وسلّم من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد رسول الله فتح مكة وقال ابن مسعود رضي الله عنه : بلغني أنه من قرأ سورة الفتح في أول ليلة من رمضان في صلاة التطوع حفظه الله تعالى ذلك العام ومن الله العون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 2
تفسير سورة الحجرات
ثماني عشرة آية مدنية بإجماع من أهل التأويل
جزء : 9 رقم الصفحة : 60
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} تصدير الخطاب بالنداء لتنبيه المخاطبين على أن ما في حيزه أمر خطير يستدعي مزيد اعتنائهم بشأنه وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم والإيذان بأنه داع إلى المحافظة ورادع عن الإخلال به {لا تُقَدِّمُوا} أمراً من الأمور {بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ولا تقطعوه إلا بعد أن يحكما به ويأذنا فيه فتكونوا إما عاملين بالوحي المنزل وإما مقتدين بالنبي المرسل ولفظ اليدين بمعنى الجهتين الكائنتين في سمت يدي الإنسان وبين اليدين بمعنى بين الجهتين والجهة التي بينهما هي جهة الإمام والقدام فقولك جلست بين يديه بمعنى جلست أمامه وبمكان يحاذي يديه قريباً منه وإذا قيل بين يدي الله امتنع أن يراد الجهة والمكان فيكون استعارة تمثيلية شبه ما وقع من بعض الصحابة من القطع في أمر من الأمور الدينية قبل أن يحم به الله ورسوله بحال من يقتدم في المشي في الطريق مثلاً لوقاحته على من يجب أن يتأخر عنه ويقفو أثره تعظيماً له فعبر عن الحالة المشبهة بما يعبر به عن المشبه بها {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في كل ما تأتون وما تذررن من الأقوال والأفعال {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُ}(9/51)
61
لأقوالكم {عَلِيمٌ} بأدعالكم فمن حقه أن يتقي ويراقب ويجوز أن يكون معنى لا تقدموا لا تفعلوا التقديم بالكلية على أن الفعل لم يقصد تعلق بمفعوله وإن كان متعدياً قال المولى أبو السعود وهو أوفى بحق المقام لإفادة النهي عن التلبس بنفس الفعل الموجب لانتفائه بالكلية المستلزم لانتفاء تعلقه بمفعوله بالطريق البرهاني وقد جوز أن يكون التقديم لازماً بمعنى التقدم ومنه مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منهم ومنه وجه بمعنى توجه وبين بمعنى تبين نهى عن التقدم لأن التقدم بين يدي المرء خروج عن صفة المتابعة واستقلال في الامر فيكون التقدم بين يدي الله ورسوله منافياً للإيمان وقال مجاهد والحسن : نزلت الآية في النهي عن الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة كأنه قيل : لا تذبحوا قبل أن يذبح النبي عليه السلام وذلك أن ناساً ذبحوا قبل صلاة النبي عليه السلام فأمرهم أن يعيدوا الذبح وهو مذهبنا إلا أن تزول الشمس وعند الشافعي يجوز إذا مضى من الوقت ما يسع الصلاة وعن البراء رضي الله عنه خطبنا النبي عليه السلام يوم النحر فقال : إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس في النسك في شيء وعن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم قال مسروق كنا عند عائشة يوم الشك فأتى بلبن فنادتني وفي بحر العلوم قالت للجارية : اسقيه عسلاً فقلت : إني صائم فقالت : قد نهى الله عن صوم هذا اليوم وتلت هذه الآية وقالت : هذه في الصوم وغيره وقال قتادة إنا ناساً كانوا يقولون : لو أنزل في كذا أو صنع في كذا ولو نزل كذا وكذا في معنى كذا ولو فعل الله كذا وينبغي أن يكون كذا فكره الله ذلك فنزلت وعن الحسن لما استقر رسول الله بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل فنهوا أن يبتدئوا بالمسألة حتى يكون المبتدىء والظاهر أن الآية عام في كل قول وفعل ولذا حذف مفعول لا تقدموا ليذهب ذهن السامع كل مذهب مما يمكن تقديمه من قول أو فعل مثلاً إذا جرت مسألة في مجلسه عليه السلام لا تسبوه بالجواب وإذا حضر الطعام لا تبدئوا بالأكل قبله وإذا ذهبتم إلى موضع لا تمشوا أمامه إلا لمصلحة دعت إليه ونحو ذلك مما يمكن فيه التقدم قيل : لا يجوز تقدم الأصغار على الأكابر إلا في ثلاثة مواضع إذا ساروا ليلاً أو رأوا خيلاً أي جيشاً أو دخلوا سيلاً أي ماء سائلاً وكان في الزمان الأول إذا مشى الشاب أمام الشيخ يخسف الله به الأرض ويدخل في النهي المشي بين يدي العلماء فإنهم ورثة الأنبياء دليله ما روى عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : رآني رسول الله عليه السلام أمشي أمام أبي بكر رضي الله عنه فقال : تمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير أو أفضل من أبي بكر رضي الله عنه كما في كشف الأسرار وأكثر هذه الروايات يشعر بأن المراد بين يدي رسول الله وذكر الله لتعظيمه والإيذان بجلالة محل عنده حيث ذكر اسمه تعالى توطئة وتمهيداً لذكر اسمه عليه السلام ليدل على قوة اختصاصه عليه السلام برب العزة وقرب منزلته من حضرته تعالى فإن إيقاع ذكره تعالى موقع ذكره عليه السلام بطريق العطف تفسير للمراد يدل عليها لا محالة كما يقال : أعجبني زيد وكرمه
62
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
في موضع أن يقال اعجبني كرم زيد للدلالة على قوة اختصاص الكرم به وقال ابن عباس رضي الله عنهما معنى الآية لا تقولوا الاف الكتاب والسنة.
يقول الفقير : لعله من باب الاكتفاء والمقصو ولا تفعلوا خلافهما أيضاً فإن كلاً منهما من قبيل التقدم لحدود الله وحدود رسوله وبهذا المعنى في هذه الآية ألهمت بين النوم واليقظة والله أعلم وفي الآية بيان رأفة الله على عباده حيث سماهم المؤمنين مع معصيتهم فقال : ياأيها الذين آمنوا ولم يقل ياأيها الذين عصوا وهذا نداء مدح كما في تفسير أبي الليث وأيضاً فيها وعيد لمن حكم بخاطره بغير علم بالفرق بين الإلهام والوسواس ويقول : إنه الحق فألزموه ومقصوده الرياء والسمعة ومن شرط المؤمن أن لا يرى رأيه وعقله واختباره فوق رأي النبي والشيخ ويكون مستسلماً لما يرى فيه مصلحة ويحفظ الأدب في خدمته وصحبته ومن أدب المريدان أن يتكلم بين يدي الشيخ فإنه سبب سقوطه من أعين الأكابر قال سهل : لا تقولوا قبل أن يقول وإذا قال فاقبلوا منه منصتين له مستمعين إليه واتقوا الله في إهمال حقه وتضييع حرمته أن الله سميع لما تقولون عليم بما تعملون وقال بعضهم : لا تطلبوا وراء منزلته منزلة فإنه لا يوازيه أحد بل لا يدانيه.
شم اواز حيا كوش اواز حكمت زبان اوز ثنا وتسبيح ودل اواز رحمت دست اواز سخاموى اواز مشك بويا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/52)
قيمت عطار ومشك اندر جهان كاسد شود.
ون برافشاند صبا زلفين عنبر ساى تو يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ} شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي عليه السلام بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل والصوت هو الهواء المنضغط عن قرع جسمين فإن الهواء الخارج من داخل الإنسان إن خرج بدفع الطبع يسمى نفساً بفتح الفاء وإن خرج بالإرادة وعرض له تموج بتصادم جسمين يسمى صوتاً والصوت الاختياري الذي يكون للإنسان ضربان ضرب باليد كصوت العود وما يجري مجراه وضرب بالفم فالذي بالفم ضربان نطق وغيره فغيره النطق كصوت الناي والنطق إما مفرد منا لكلام وإما مركب كأحد الأنواع من الكلام والمعنى لا تبلغوا بأصواتكم وراء حد يبلغه عليه السلام بصوته والباء للتعدية وقال في المفردات تخصيص الصوت بالنهي لكونه أعم من النطق والكلام ويجوز أنه خصه لأن المكروه رفع الصوت لا رفع الكلام وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن الأقرع بن حابس من بني تميم قدم على النبيّ عليه السلام فقال أبو بكر رضي الله عنه : استعمله على قومه أي بتقديمه عليهم بالرياسة فقال عمررضي الله عنه : لا تستعمله يارسول الله بل القعقاع بن معبد فتكلما عند النبي عليه السلام حتى ارتفعت أصواتهما فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي فقال : ما أردت خلافك فنزلت هذه الآية فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي لم يسمع كلامه حتى يستفهمه وقال أبو بكر : آليت على نفسي أن لا أكلم النبي أبداً إلا كأخي السرار يعني سوكند ياد كردم كه بعد ازين هركز بارسول خدا سخن بلند نكويم مكر نانكه باهمرازي نهان سخن كويند {وَلا تَجْهَرُوا لَه بِالْقَوْلِ} إذا كلمتموه وتكلم هو أيضاً
63
والجهر يقال لظهور الشيء بإفراد الحاسة البصر نحو رأيته جهاراً أو حاسة السمع نحو سواء منكم من أسر القول ومن جهر به {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أي جهراً كائناً كالجهر الجاري فيما بينكم بل اجعلوا صوتكم أخفض من صوته وتعهدوا في مخاطبته اللين القريب من الهمس كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظم وحافظوا على مراعاة جهالة النبو فنهوا عن جهر مخصوص مقيد وهوالجهر المماثل لجهر اعتادوه فيما بينهم لا عن الجهر مطلقاً حتى لا يسوغ لهم إلا أن يتكلموا بالهمس والمخافتة فالنهي الثاني أيضاً مقيد بما إذا نطق ونطقوا والفرق مدلول النهي الأول حرمة رفع الصوت فوق صوته عليه السلام ومدلول الثاني حرمة أن يكون كلامهم معه عليه السلام في صفة الجهر كالكلام الجاري بينهم ووجوب كون أصواتهم أخفض من صوته عليه السلام بعد كونه ليست بأرفع من صوته وهذا المعنى لا يستفاد من النهي الأول فلا تكرار والمفهوم من الكشاف في الفرق بينهما أن معنى النهي الأول أنه عليه السلام إذا نطق نطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم فوق الحد الذي يبلغ إليه صوته عليه السلام وأن تغضوا من أصواتكم بحيث يكون صوته عالياً على أصواتكم ومعنى الثاني أنكم إذا كلمتموه وهو عليه السلام ساكت فلا تبلغوا بالجهر في القول الجهر الدائر بينكم بل لينوا لقول ليناً يقارب الهمس الذي يضاد الجهر
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/53)
{أَن تَحْبَطَ أَعْمَـالُكُمْ} تا باطل نشود عملهاى شما بسبب اين جرأت.
وهو علة إما للنهي على طريق التنازع فإن كل واحد من قوله لا ترفعوا ولا تجهروا يطلبه من حيث المعنى فيكون علة للثاني عند البصريين وللأول عند الكوفيين كأنه قيل انتهوا عما نهيتم عنه لخشية حبوط أعمالكم أو كراهته كما في قوله تعالى يبين الله لكم أن تضلوا فحذف المضاف ولام التعليل وإما علة للفعل المنهى كأنه قيل انتهوا عن الفعل الذي تفعلونه لأجل حبوط أعمالكم فاللام فيه لام العاقبة فإنهم لم يقصدوا بما فعلوه من رفع الصوت والجهر حبوط أعمالهم إلا أنه لما كان بحيث قد يؤدي إلى الكفر المحبط جعل كأنه فعل لأجله فأدخل عليه لام العلة تشبيهاً لمؤدي الفعل بالعلة الغائية وليس المراد بما نهى عنه من الرفع والجهر ما يقارنه الاستخفاف والاستهانة فإن ذلك كفر بل ما يتوهم أن يؤدي إليه مما يجري بينهم في أثناء المحاورة من الرفع والجهر خلا أن رفع الصوت فوق صوته عليه السلام لما كان منكراً محضاً لم يقيد بشيء يعني أن الاستخفاف به عليه السلام كفر لا الاستخفاف بأمر الرفع والجهر بل هو المؤدي إلى المنكر لأنهم إذا اعتادوا الرفع والجهر مستخفين بأمرهما ربما انضم إلى هذا الاستخفاف قصد الإهانة به عليه السلام وعدم المبالاة وكذا ليس المراد ما يقع الرفع والجهر في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو نحو ذلك فإنه مما لا بأس به إذ لا يتأذى به النبي عليه السلام فلا يتناوله النهي ففي الحديث أنه قال عليه السلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين إصرخ بالناس وكان العباس أجهر الناس صوتاً ـ يروى ـ أن غارة أتتهم يوماً أي في المدينة فصاح العباس : يا صباحاه فأسقط الحوامل لشدة صوته وكان يسمع صوته من ثماني أميال ما هو في الفتح وعن ابن العباس رضي الله عنهما
64
نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في إذنه وقر وكان جهوري الصوت أي جهيره ورفيعه وربما كان يكلم رسول الله فيتأذى بصوته وعن أنس لما نزلت الآية فقد ثابت وتفقده عليه السلام فأخبر بشأنه فدعاه عليه السلام فسأله فقال : يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية وأنه رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط فقال عليه السلام : "لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة وصدق رسول الله فإن ثابتاً مات بخير حيث قتل شهيداً يوم مسيلمة الكذاب وعليه درع فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام فقال له : اعلم أن فلاناً لرجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهو في ناحية من العسكر وعنده فرس مشدود يرعى وقد وضع على درعي برمة فائت خالد بن الوليد فأخبره حتى يسترد درعي وائت أبا بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله وقل له أن علي ديناً لفلان حتى يقضي ديني وفلان من عبيدي حر فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن أنس رضي الله عنه : لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه الوصية
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/54)
{وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} " حال من فاعل تحبط أي والحال أنكم لا تشعرون بحبوطها والشعور العلم والفطنة والعشر العلم الدقيق.
ودانستن از طريق حس.
وفيه مزيد تحذير لما نهوا عنه استدل الزمخشري بالآية على أن الكبيرة تحبط الأعمال الصالحة إذ لا قائل بالفصل والجواب أنه من باب التغليظ والمراد أنهم لا يشعرون أن ذلك بمنزلة الكفر المحيط وليس كسائر المعاصي وأيضاً أنه من باب ولا تكونن ظهيراً للكافرين يعني أن المراد وهو الجهر والرفع والمقرونان بالاستهانة والقصد إلى التعريض بالمنافقين قال الراغب : حبط العمل على اضرب أحدها أن تكون الأعمال دنيوية فلا تغني في القيامة غناء كما أشار إليه تعالى بقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منيوراً والثاني أن تكون أعمالاً أخروية لكن لم يقصد صاحبها بلا وجه كما روى يؤتى برجل يوم القيامة فيقال له : بم كان اشتغالك قال : بقارءة القرآن فيقال له : كنت تقرأ ليقال فلان قارىء وقد قيل ذلك فيومر به إلى النار والثالث أن تكون أعمالاً صالحة لكن بأزارئها سيئات توفي عليها وذلك هو المشار إليه بخفة الميزان انتهى وحبط عمله كسمع وضرب حبطاً وحبوطاً بطل وأحبطه الله أبطله كما في القاموس وقال الراغب : أصل الحبط من الحبط وهو أن تكثر الدابة من الكلأ حتى تنتفخ بطنها فلا يخرج منها شيء قال البقلي في العرائس اعلمنا الله بهذا التأديب أن خاطر حبيبه من كمال لطافته ومراقبة جمال ملكوته كان يتغير من الأصوات الجهرية وذلك من غاية شغله بالله وجمع همومه بين يدي الله فكان إذا جهر أحد عنده يتأذى قلبه ويضيق صدره من ذلك كأنه يتقاعد سره لحظة عن السير في ميادين الأزل فخوفهم الله من ذلك فإن تشويش خاطره عليه السلام سبب بطلان الأعمال ومن العرش إلى الثرى لا يزن عند خاطره ذرة واجتماع خاطر الأنبياء والأولياء في المحبة أحب إلى الله من أعمال الثقلين وفيه حفظ الحرمة لرسول الله وتأديب المريدين بين يدي أولياء الله.
يقول الفقير ولكمال لطافته عليه السلام كان الموت عليه
65
أشد إذ اللطيف يتأثر مما لا يتأثر الكثيف كما قال بعضهم قد شاهدنا أقواماً من عرب البوادي يسلخ الحكام جميع جلد أحدهم ولا يظهر ضجراً ولو سلخ أكبر الأولياء لصاح إلا أن يؤخذ عقله بمشاهدة تمنع إحساسه انتهى ومن هنا عرف أن لكل من الجهر والخفاء محلاً فشديد النفس له الجهر ولينه له الإخفاء كما في حال النكر وليس كل أحد صاحب مشاهد وقال سهل : لا تخاطبوه إلا مستفهمين ثم إن الأصحاب رضي الله عنهم كانوا بعد هذه الآية لا يكلمونه عليه السلام إلا جهراً يقرب من السر والهمس وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام لأنه حي في قبره وكذا القرب منه عليه السلام في المواجهة عند السلام بحيث كان بينه وبينه عليه السلام أقل من أربعة أذرع وكره بعضهم رفع الصوت في مجالس الفقهاء تشريفاً لهم إذ هم ورثة الأنبياء قال سليمان بن حرب ضحك إنسان عند حماد بن زيد وهو يحدث بحديث عن رسول الله فغضب حماد وقال : إني أرى رفع الصوت عند حديث رسول الله وهو ميت كرفع الصوت عنده وهو حي وقام وامتنع من الحديث ذلك اليوم وحاصله أن فيه كراهة الرفع عند الحديث وعند المحدث مع أن الضحك لا يخلو من السخرية والهزل ومجلس الجد لا يحتمل مثل ذلك ولو دخل السلف مجالس هذا الزمان من مجلس الوعظ والدرس واجتماع المولد ونحو ذلك خرجوا من ساعتهم لما رأوا من كثرة المنكرات وسوء الأدب.
بزركان كفته اند من ترك الاداب رد عن الباب نهصد هزار ساله طاعت ابليس بيك بي ادبى ضايع شد :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
نكاه دار ادب در طريق عشق ونياز
كه كفته اند طريقت تمام آدابست
نسأل الله الكريم أن يجعلنا متحلين بحلية الأدب العظيم {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} الخ ترغيب في الانتهاء عما نهوا عنه بعد الترهيب من الإخلال به والغض النقصان من الطرف والصوت وما في الإناء يقال غض طرفه خفضه وغض السقاء نقص مما فيه والمعنى أن الذين يخفضون أصواتهم عند رسول الله مراعاة للأدب وخشية من مخالفة النهي {أولئك} مبتدأ خبره قوله : {الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} أخلصها للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه وميزا بريزه من خبثه فهو من إطلاق المقيد وهو إخلاص الذهب وإرادة المطلق :
دربوته امتحان كرم بكدازى
منت دارم كه بي غشم ميسازى
(9/55)
وقال في الأساس محن الأديم مدده حتى وسعه وبه فسر قوله تعالى : امتحن الله قلوبهم أي شرحها ووسعها وعن عمر رضي الله عنه : اذهب عنها الشخزتن أي نزع عنها محبة الشهوات وصفاها عن دنس سوء الأخلاق وحلاها بمكارمها حتى انسلخوا عن عادات البشرية {لَهُمْ} في الآخرة {مَغْفِرَةٍ} عظيمة لذنوبهم {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} التنكير للتعظيم أي ثابت لهم غفران وأجر عظيم لا يقادر لغضهم وسائر طاعاتهم فهو استئناف لبيان جزاء الغاضين مدحاً لحالهم وتعريضاً بسوء حال من ليس مثلهم وفي الآية إشارة إلى غض الصوت عند الشيخ المرشد أيضاً لأنه الوارث وله الخلافة ولا يقع الغض إلا من أهل السكينة والوقار وقال الحسين قدس سره : من امتحن الله قلبه بالتقوى كان شعاره القرآن ودثاره الإيمان وسراجه التفكر
66
وطيبه التقوى وطهارته التوبة ونظافته الحلال وزينته الورع وعلمه الآخرة وشغله بالله ومقامه مع الله وصومه إلى الممات وإفطاره من الجنة وجمعه الحسنات وكنزه الإخلاص وصمته المراقبات ونظره المشاهدات قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر التقوى كل عمل يقيك من النار وإذا وقاك من النار وقاك من الحجاب وإذا وقاك من الحجاب شاهدت العزيز الوهاب روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لن يزال قلب ابن آدم ممتلئاً حرصاً إلا الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى قال الراوي فلقد رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله لا يركب إلى زراعة له وأنها منه على فراسخ وقد أتى عليه سبعون سنة وروي أنه عليه السلام قال : لا يزال قلب ابن آدم جديداً في حب الشيء وإن التفت ترقوتاه من الكبر إلا الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى وهم قليل.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
يعني هميشه دل آدم نوى باشد درجب يزى واكره نكرسته باشد هردو نبر كردنش ازيرى وبزركى مكر آتانكه امتحان كرداست خدا قلوب ايشان ازبراى تقوى واند كند ايشان :
وجود تو شهريست رنيك وبد
تو سلطان ودستور دانا خرد
هما نا كه دونان كردن فراز
درين شهر كبرست وسودا وآز
و سلطان عنايت كند بابدان
كجا ماند آسايش بخردان
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} المناداة والنداء خواندن {مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ} أي من خارجها من خلفها أو قدامها لأن وراء الحجرة عبارة عن الجهة التي يواريها شخص الحجرة بجهتها أي من أي ناحي كانت من نواحيها ولا بد أن تكون تلك الجهة خارج الحجرة لأن ما في داخلها لا يتوارى عمن فيها بحثة الحجرة واشتراك الوراء في تينك الجهتين معنوي لا لفظي لكن جعله الجوهري وغيره من الأضداد فيكون اشتراكه لفظياً ومن ابتدائية دالة على أن المناداة نشأت من جهة الوراء وأن المنادى داخل الحجرة لوجوب اختلاف المبدأ والمنتهى بحسب الجهة وإذا جرد الكلام عن حرف الابتداء جاز أن يكون المنادى أيضاً في الخارج لانتفاء مقتضى اختلافهما بالجهة والمراد حجرات أمهات المؤمنين وكانت لكل واحدة منهما حجرة فتكون تسعاً عددهن جمع حجرة بمعنى محجورة كقبضة بمعنى مقبوضة وهي الموضع الذي يحجره الإنسان لنفسه بحائط ونحوه ويمنع عبره من أن يشاركه فيه من الحجر وهو المنع وقيل للعقل حجر لكون الإنسان في منع منه مما تدو إليه نفسه ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه عليه السلام من ورائها أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له عليه السلام لأنهم لم يتحققوا إمكانه فناداه بعض من وراء هذه وبعض من وراء تلك فأسند فعل الإبعاض إلى الكل وقيل الذي ناداه عينة بن حصين الفزاري وهو الأحمق المطاع وكان من الجرارين يجر عشرة آلاف قناة أي تتبعه والأقرع بن حابس وهو شاعر بني تميم وفدا على رسول الله في سبعين رجلاً من بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد فقالا : يا محمد اخرج إلينا فنحن الذين مدحنا زين وذمنا شين فاستيقظ فخرج وقال لهم : ويحكم ذلك أي الله الذي مدحه زين وذمه شين وإنما أسند النداء إلى الكل وإنما أسند النداء إلى الكل لأنهم رضوا بذلك أو أمروا به أو لأنه وجد فيما بينهم وقال سعدي المفتي : إنما يحتاج إلى التأويل إذا أريد باستغراق الجمع
67
الاستغراق الإفرادي وأما لو أريد الاستغراق المجوعي فلا ولذلك قالوا مقابلة الجمع بالجمع تفيد انقسام الآحاد بالآحاد وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنهم فقال : هم جفاة بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالاً للأعور الدجال لدعوت الله أن يهلكهم فنزلت الآية ذماً لهم وبقي هذا الذم إلى الأبد وصدق رسول الله في قوله ذلكم الله
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/56)
{أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} قال في بحر العلوم في قوله أكثر دلالة على أنه كان فيهم من قصد بالمحاشاة وهو بالفارسية استثنا كردن.
وعلى قلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل إذا القلة تجري مجرى النفي في كلامهم ويؤيده الحديث السابق فيكون المعنى كلهم لا يقعلون إذ لو كان لهم عقل لما تجاسروا على هذه المرتبة من سوء الأدب بل تأدبوا معه بأن يجلسوا على بابه حتى يخرج إليهم كما قال تعالى الفا : {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} الصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها {حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} لو مختص بالفعل على ما ذهب إليه المبرد والزجاج والكوفيون فما بعد لو مرفوع على فاعلية لا على الابتداء على ما قاله سيبويه والمعنى ولو تحقق صبرهم وانتظارهم حتى تخرج إليهم وحتى تفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مغياً بخروجه عليه السلام فإنها مختصة بما هو غاية للشيء في نفسه ولذلك تقول : أكلت السمكة حتى رأسها ولا تقول حتى نصفها وثلثها بخلاف إلى فإنها عامة وفي إليهم إشعار بأنه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم {لَكَانَ} أي الصبر المذكور {خَيْرًا لَّهُمْ} من الاستعجال لما فيه من رعاية حسن الأدب وتعظيم الرسول الموجبين للثواب والثناء والإسعاف بالمسئول إذ روى أنهم وفدوا شافعين في أساري بني العنبر قال في القاموس : العنبر أبو حي من تميم قال ابن عباس رضي الله عنهما : بعث رسول الله عليه السلام سرية إلى حي بني العنبر وأمر عليهم عينية بن حصين فلما علموا أنه توجه نحوهم هبروا وتركوا عيالهم فسباهم عيينة وقدم بهم على رسول الله فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله قائلاً في أهله فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون والإجهاش كريستن راساختن.
يقال : اجهش إليه إذا فزع إليه وهو يريد البكاء كالصبي يفزع إلى أمه وكان لكل امرأة من نساء رسول الله بيت وحجرة فجعلوا ينادون يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم فقالوا : يا محمد فادنا عيالنا فنزل جبرائيل فقال : إن الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلاً فقال عليه السلام لهم : أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم قالوا : نعم قال سبرة : أنا لا أحكم بينهم وعمى شاهد وهو أعور بن بشامة بن ضرار فرضوا به فقال الأعور : فأنا أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال عليه السلام : قد رضيت ففادى نصفهم وأعتق نصفهم وقال مقاتل : لكان خيراً لهم لأنك كنت تعتقهم جميعاً وتطلقهم بلا فداء {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بليغ المغفرة والرحمة واسعهما فلن تضيق ساحتهما عن هؤلاء المسيئين للأدب إن تابوا وأصلحوا قال الكاشفي : والله غفور وخداى تعالى آمرزنده است كسى راكه توبه كند ازبى ادبى رحيم مهربانست باهل ادب كه تعظيم سيد اولوا الألباب ميكنند ه ادب جاذب رحمتست وحرمت جالب نعمت :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
سرمايه ادب بكف آوركه اين متاع
آنراكه هست سوء ادب نايدش بكف
68
وفي هذا المقام أمور :
الأول : أن في هذها لآية تنبيهاً على قدره قدره عليه السلام والتأدت معه بكل حال فهم إنما نادوه لعدم عقل يعرفون به قدره ولو عرفوا قدره لكانوا كما في الخبر يقرعون بابه بالأظافير وفي المناداة إشارة إلى أنهم رأوا من ورأوه من وراء الحجاب ولو كانوا من أهل الحضور والشهود لما نادوه كما قال بعضهم :
كارنادان كوته انديش است
يا دكردن كسى كه دريش است
قال أبو عثمان المغربي قدس سره : الأدب عند الأكابر وفي مجلس السادات من الأولياء يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلي والخير في الأولى والعقبى فكما لا بد من التأدب معه عليه السلام فكذا مع من استن بسنته كالعلما العالمين وكان جماعة من العلماء يجلسون على باب غيرهم ولا يدقون عليه بابه حتى يخرج لقضاء حاجته احتراماً قال أبو عبيدة القاسم بن سلام : ما دققت الباب على عالم قد كنت أصبر حتى يخرج إلي لقوله تعالى : ولو أنهم الخ وفي الحديث أدبني ربي فأحسن تأديبي إلى أدبني أحسن تأديب فالفاء تفسير لما قبله قال بعض الكبار من الحكمة توقير الكبير ورحمة الصغير ومخاطبة الناس باللين وقال إن كان خليلك فوقك فاصحبه بالحرمة وإن كان كفؤك ونظيرك فاصحبه بالوفاء وإن كان دونك فاحصبه بالمرحمة وإن كان عالماً فاحسبه بالخدمة والتعظيم وإن كان جاهلاً فاحصبه بالسياسة وإن كان غنياً فاحصبه بالزهد وإن كان فقيراً فاحصبه بالجود وإن صحبت صوفياً فاحسبه بالتسليم قال بعض الحكماء عاشروا الناي معاشرة إن متم بكوا عليكم وإن غبتم حنوا إليكم.
(9/57)
والثاني ذم الجهل ومدح العقل والعلم فإن شرف العقل مدرك بضرورة العقل والعلم والحسن حتى إن أكبر الحيوانات شخصاً وأقواها أبداً إذا رأى الإنسان احتشمه وخاف منه لإحساسه بأنه مستول عليه بحيلته وأقرب الناس لي يا أرجة بهائم أجلاف العرب والترك تراهم بالطبع يبالغون في توقير شيوخهم لأن التجربة دميزتهم عنهم بمزيد علم ولذلك روى في الأثر الشيخ في قوله كالنبي في أمته نظراً إلى قوة علمه وعقله لا بقوة شخصه وجماله وشوكته وثروته.
وفي المثنوي :
كشتى بي لنكر آمد مردشر
كه زباد كنيابد او حذر
لنكر عقلست عاقل را امان
لنكرى دريوزه كن از عاقلان
قال بعض الكبار العاقل كلامه وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم به أمره على قلبه فينظر فيه فإن كان له أي لنفعه أمضاه وإن كان عليه أي لضره أمسكه والأحمق كلامه على طرف لسانه وعقله في حجره إذا قام سقط قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : لسان العاقل في قلبه وقلب الأحمق في فمه والأدب صورة العقل ولا شرف مع سوء الأدب ولاداء اعيى من الجهل وإذا تم العقل نقص الكلام :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
هركرا اندكست مايه عقل
بيهده كفتنش بودسيار
مردوا عقل ون بيفزايد
درمجامع بكاهدش كفتار
وفي الحديث كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر وفي حديث آخر وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم.
والثالث ما قال بعض الكار
69
تدبر سر قوله تعالى ولو أنهم صبروا الآية ولا تنظر إلى سبب النزول وانتظر خروجه مرة ثانية لقيام الساعة وفتح باب الشفاعة في هذه الدار نوماً أو يقظة في الآخرة وهو الشافع فيهما وفي الحافرة وقد ثبت أن الناس يلتجئون يوم القيامة إلى الأنبياء ثم وثم إلى أن يصلوا إليه فلا يصلون إلى المراد إلا عنده وفي الحديث أنا أول ولد آدم خروجاً إذا بعثوا وأنا قائدهم إذا وفدوا وخطيهم إذا أنصتوا وأنا مبشرهم إذا إبلسوا وأنا شفيعهم إذا حشروا ولواء الكرم بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر يطوف على ألف خادم كأنهم لؤلؤ مكنون :
سرخيل انبياء وسهدار اتقيا
سلطان باركاه دنى قائد الأمم
وإنما كان خدامه ألفاً لتحققه بألف اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ} أي فاسق كان {يُنَبَّؤُا} أي نبأ كان والنبأ الخبر.
يعني خبري بياردكه موحش بود وموجب تألم خاطر.
فالتنكير للتعميم وفيه إيذان بالاحتراز عن كل فاسق وإنما قال إن جاءكم بحرف الشك دون إذا ليدل على أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا على هذه الصفة لئلا يطمع فاسق في مكالمتهم بكذب ما وقال ابن الشيخ إخراج الكلام بلفظ الشرط المحتمل الوقوع لندرة مثله فيما بين أصحابه عليه السلام {فَتَبَيَّنُوا} أي إن جاءكم فاسق بخبر يعظم وقعه في القلوب فتعرفوا وتفحصوا حتى يتبين لكم ما جاء به أصدق هوام كذب ولا تعتمدوا على قوله المجرد لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه روى أن الوليد بن عقبة بن أبي معبط أخا عثمان لأمه وهو الذي ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعاً ثم قال : هل أريدكم فعزله عثمان عنهم بعثه عليه السلام مصدقاً إلى بني المصطلق أي آخذاً وقابضاً لصدقاتهم وزكاتهم وكان بينه وبينهم أحنة أي حقد وبغض كأمن في الجاهلية بسبب دم فلما سمعوا بقدومه استقبلوه ركباناً فحسب أنهم مقاتلوه فرجع هارباً وقال لرسول الله عليه السلام : قد رتدوا ومنعوا الزكاة وهموا بقتلي فهم عليه السلام بقتالهم فنزلت وقيل : بعث إليهم خالد بن الوليد بعد رجوع الوليد بن عقبة عنهم في عسكر وقال له : أخر عنهم قومك إليهم بالعسكر وادخل عليهم ليلاً متجسساً هل ترى شعائر الإسلام وآدابه فإن رأيت منهم ذلك فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما يفعل بالكفار ففعل ذلك خالد وجاءهم وقت المغرب فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء ووجدهم مجتهدين باذلين وسعهم ومجهودهم في امتثال أمر الله فأخذ منهم صدقاتهم وانصرف إلى رسول الله وأخبره الخبر فنزلت
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
{أَن تُصِيبُوا} حذار أن تصيبوا {قَوْمَا بِجَهَـالَةٍ} حال من ضمير تصيبوا أي ملتبسين بجهالة بحلهم وكنة قصتهم {فَتُصْبِحُوا} أي فتصيروا بعد ظهور براءتهم مما أسند إليهم {عَلَى مَا فَعَلْتُمْ} في حقهم {نَـادِمِينَ} مغتمين غماً لازماف متمنين أنه لم يقع فإن تركيب هذه الأحرف الثلاثة يدور مع الدوام مثل أدمن الأمر إذا أدامه ومدن المكان إذا أقام به ومنه المدينة يعني إن الندم غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام على ما وقع مع تمني
70
(9/58)
أنه لم يقع ولزومه قد يكون لقوته من أول الأمر وقد يكون لعدم غيبة موجبه وسببه عن الخاطر وقد يكون لكثرة تذكره ولغير ذلك من الأسباب وفي الآية دلالة على أن الجاهل لا بد أن يصير نادماً على ما فعله بعد زمان وفي ترتيب الأمر بالتبين على فسق المخبر إشارة إلى قبول خبر الواحد العدل في بعض المواد ورد عليه السلام شهادة رجل في كذبة واحدة وقال : إن شاهد الزور مع العشار في النار وقال عليه السلام : من شهد شهادة زور فعليه لعنة الله ومن حكم بين اثنين فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله وما شهد رجل على رجل بالكفر إلا باء به أحدهما إن كافراً فهو كما قال وإن لم يكن كافراً فقد كفر بتكفيره إياه كما في كشف الأسرار وفي الآية أيضاً إشارة إلى ترك الاستماع إلى كلام الساعي والنمام والمغتاب للناس :
كسى يش من درجهان عاقلست
كه مشغول خود وز جهان غافلست
كسى راكه نام آمد اندرميان
به نيكوترين نام ونعتش بخوان
ازان همنشين تاتوانى كربز
كه مرفتنه خفته را كفت خيز
ميان دوكس جنك ون آتش است
سخن ين بدبخت هيزم كش است
ميان دوتن آتش آفروختن
نه عقلست خود درميان سوختن
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 8 من صفحة 71 حتى صفحة 81
فلا بد من النبيين والتفحص ليظهر حقيقة الحال ويسلم المرء من الوبال ويفتضح الكذاب الدجال وفي الحديث التبين من الله والعجلة من الشيطان وفيها أيضاً إشارة إلى تسويلات النفس الفاسقة الأمارة بالسوء ومجيئها كل ساعة بنبأ شهوة من شهوات الدنيا فتبينوا ربحها وخسرانها من قبل أن تصيبوا قوماً من القلوب وصفاتها بجهالة ما فيهامن شفاء النفوس وحياتها ومرض القلوب ومماتها فتصبحوا صباح القيامة وأنتم على ما فعلتم نادمون {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} وبدانيدكه درميان شماست رسول الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
وفائدة الأمر الدلالة على أنهم نزلوا منزلة الجاهلين لمكانه لتفريطهم فيما يجب من تعظيم شأنه فيكون قوله تعالى : {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الامْرِ لَعَنِتُّمْ} استئنافاً وقال بعضهم : إن بما في حيزها ساد مسد مفعولي اعلموا باعتبار ما بعده من قوله تعالى لو يطيعكم الخ فإنه حال من أحد الضميرين في فيكم الأول المرفوع المستتر فيه العائد إلى رسول الله المنتقل إليه من عامله المحذوف لأن التقدير كائن فيكم أو مستقر والثاني المجرور البارز والمعنى أي على الحال أن فيكم رسول الله كائناً على حالة يجب عليكم تغييرها أو كائنين على حالة الخ وهي أنكم تريدون أن يتبع عليه السلام رأيكم في كثير من الحوادث ولو فعل ذلك لوقعتم في الجهد والهلاك فعلى هذا يكون قوله لو يطيعكم الخ دليل وجوب تغيير تلك الحال أقيم مقام الحال وفيه إيذان بأن بعضهم زينوا لرسول الله الإيقاع بيني المصطلق تصديقاً لقول الوليد وإنه عليه السلام لم يطع رأيهم والعنت محركة الفساد والإثم والهلاك ودخول المشقة على الإنسان كما في القاموس يقال عنت فلان إذا وقع في أمر يخاف منه التلف كما في المفردات فهو من الباب الرابع مثل طرب يطرب طرباً وقال الزمخشري : هو الكسر بعد الجبر كما في تاج المصادر العنت بزه مند شدن ودركارى افتيدن كه ازان بيرون نتواند آمد وشكسته شدن استخوان س ازبر وقوله لمن خشي
71
العنت منكم يعني الفجور والزنى ومنه الأسير من المسلمين في دارالحرب إذا خشي العنت على نفسه والفجور لا بأس بأن يتزوج امرأة منهم والتركيب يدل على مشقة وصيغة المضارع في لو يطيكم للدلالة على أن امتناع عنتهم لامتناع استمرار طاعته عليه السلام لأن عنتهم إنما يلزم من استمرار الطاعة فيما يعن لهم من الأمور إذ فيه اختلال أمر الإيالة وانقلاب الرئيس مرؤوساً لا من إطاعته في بعض ما يرونه نادراً بل فيها استمالتهم بلا معرة قال في علم البلاغة : لو للشرط في الماضي أي لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط فرضا مع القطع بانتفاء الشرط فيلزم انتفاء الجزاء فيلزم عدم الثبوت والمضي في جملتها إذا الثبوت ينافي التعليق والاستقبال ينافي الماضي فلا يعدل في جملتيها عن الفعلية لما ضوية إلا لنكتة فدخولها على المضارع نحو لو يطيعكم الخ لقصد استمرار الفعل فيما مضى وقتاً فوقتاً والفعف هو الإطاعة يعني أن امتناع عنتكم بسبب امتناع استمراره على إطاعتكم فإن المضارع يفيد الاستمرار ودخول لو عليه امتناع الاستمرار
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/59)
{وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ} الخ تجريد للخطاب وتوجيه له إلى بعضهم بطريق الاستدراك بياناً لبراءتهم من أوصاف الأولين وإحماداً لأفعالهم وهم الكاملون الذين لا يعتمدون على كل ما سمعوه من الإخبار والتحبيب دوست كردانيدن.
اي ولكنه تعالى جعل الإيمان محبوباً لديكم {وَزَيَّنَهُ} وحسنه {فِي قُلُوبِكُمْ} حتى رسخ حبه فيها ولذلك أتيتم بما يليق به من الأقوال والأفعال وفي عين المعاني في قلوبكم دون ألسنتكم مجردة رداً على الكرامية وقيل دون جوارحكم رداً على الشفعوية {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} ولذلك اجتنبتم ما لا يليق به مما لا خير فيه من آثارها وأحكامها والتكريه هنا بمعنى التبغيض والبغض ضد الحب فالبغض نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه والحب انجذاب النفس إلى شيء الذي ترغب فيه ولما كان في التحبيب والتكريه معنى إنهاء المحبة والكراهة وإيصالهما إليهم استعملا بكلمة إلى قال في فتح الرحمن معنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفيق والكفر تغطية نعم الله بالجحود والفسوق الخروج عن القصد أي العدل بظلم نفسه والعصيان الامتناع من الانقياد وهو شامل لجميع الذنوب والفسوق مختص بالكبائر {أولئك} المستثنون بقوله ولكن الله الخ {هُمُ الراَّشِدُونَ} أي السالكون إلى الطريق السوي الموصل إلى الحق وفي الآية عدول وتلوين حيث ذكر أولها على وجه المخاطبة وآخرها على المغايبة حيث قيل أولئك هم الراشدون ليعلم أن جميع من كان حاله هكذا فقد دخل في هذا المدح كما قال أبو الليث {فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} أي وإنعاماف تعليل لحبب وكره وما بينهما اعتراض لا للراشدين فإن الفضل فعل الله والرشد وإن كان مسبباً عن فعله وهو التحبيب والتكريه مسند إلى ضميرهم يعني أن المراد بالفاعل من قام به الفعل وأسند هو إليه لا من أوجده ومن المعلوم أن الرشد قائم بالقوم والفضل والإنعام قائمان به تعالى فلا اتحاد {وَاللَّهُ عَلِيمُ} مبالغ في العلم فيعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل والتمايز {حَكِيمٌ} يفعل كل ما يفعل بموجب الحكمة.
وقال الكاشفي : والله عليم وخداى تعالى داناست بصدق وكذب حكيم محكم كارست درامور بند كان وازحكمتهاى
72
اوست كه بتحقيق اخبار ميفر ما يدكه از خبرهاى ناراست انواع فتنهامى زايد :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
هركز سخنان فتنة انكيزمكو
وآن راست كه هست فتنه ان نيزمكو
خامش كن وكراره ندارى زسخن
شوخى مكن وتند مشو تيزمكو
وفي الآية دليل على أن من كان مؤمناً لا يحب الفسق والمعصة وإذا ابتلى بالمعصي فإن شهوته وغفلته تحمله على ذلك ل لحبه للمصية بل ربما يعصى حال الحضور لأن فيه نفاذ قضائه تعالى.
شيخ أكبر قدس سره الأطهرمى فرمايدكه بعضى ازصالحان مراخبر دادكه بفلان عالم در آمدم واو برنفس خود مسرف بود شيخ فرمودكه من آن عالم مسرف رانيزمى دانم وباوى اجتماع اتفاق افتاده بودآن عزيز صالح ميكويدكه ون بدر خانه اورسيدم ابا كردازان سبب كه برصورتى نا مشروع نشسته بود كفتم اره نيست ازديدن او كفت بكوييدكه من بره حالم كفتم لا بداست دستورى داد در آمدم وآن خمرايشان تمام شده بود بعضى ازحاضران كفت بفلاني رقعه بنويس كه قدرى بفرستدآن عالم كفت نكنم ونمى خواهم برمعصيت حق تعالى مصر باشم والله والله كه هي كاسه نمى خورم الاكه درعقب آن توبه ميكنم ومنتظر كاس ديكر نباشم وبانفس خوددر ان باب سخن نمى كويم وق بارديكر دورمى رسد وساقى مى آيد در نفس خودنكاه ميكنم اكرراى من بران قرار ميكيردكه بكيرم مى ستانم ووق فارغ شدم باز بحق رجوع ميكنم وتوبه مى آدم در مرور اوقات درخاطر من نيست كه عصيان كنم آن عزيز مى كويدكه باوجود عصيان واسراف او تعجب نمودم كه كونه ازمثل اين حضور غافل نشد س حذر كنى ازاصرار كردن بركناه بلكه درهر حالت توبه كنى وبحق تعالى بازكرد وبراثر هرعصيانى عذرى بخواه :
طريقى بدست آروصلحى بجوى
شفيعى برانكيز وعذرى بكوى
كه يكلحظه صورت نبندد امان
ويمانه رشد بدور زمان
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/60)
{وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} أي تقاتلوا والجمع حيث لم يقل اقتتلتا على التثنية والتأنيث باعتبار المعنى فإن كل طائفة جمع والطائفة من الناس جماعة منهم لكنها دون الفرقة كما دل عليه قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وطائفتان فاعل فعل محذول وجوباً لا مبتدأ لأن حرف الشرط لا يدخل إلا على الفعل لفظاً أو تقديراً والتقدير وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فحذف الأول لئلا يلزم اجتماع المفسر والمفسر وأصل القتل إزالة الروح عن الجسد {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} تنى الضمير باعتبار اللفظ والصلاح الحصول على الحالة المستقيمة النافعة والإصلاح جعل الشيء على تلك الحالة وبالفارسية بإصلاح آوردن.
أي فأصلحوا بين تينك الطائفتين بالنصح والدعاء إلى حكم الله قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : من وصل أخاه بنصيحة في دينه ونظر له في صلاح دنياه فقد أحسن صلته وقال مطرف : وجدنا أنصح العبادالملائكة ووجدنا أغش العبادالشياطين يقال : من كتم السلطان نصحه والأطباء مرضه والإخوان بثه فقد خان نفسه والإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا من أعظم الطاعات وأتم القربات وكذا نصرة المظلوم وفي الحديث إلا أخبركم بأفضل من درجة الصيام
73
والصلاة والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال : "إصلاح ذات البين" وقال لقمان يا بني كذب من يقول إن الشر يطفي الشر فإن كان صادقاً فليوقد نارين ثم لينظر هل تطفىء إحداهما الأخرى وإنما يطفىء الماء النالا وفي الحديث : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له منها ولا يشتري لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها وقال بعض العارفين : سعى الإنسان في مصالح غيره من أعظم القربات إلى الله تعالى وتأمل في موسى عليه السلام لما خرج يمشي في الظلمة في حق أهله ليطلب لهم ناراً يصطلون بها ويقضون بها إلا أمر الذي لا يقضي إلا بها في العادة كيف أنتج له ذلك الطلب سماع كلام ربه من غير واسطة ملك فكلمه الله في عين حاجته وهي النار ولم يكن يخطر له هذا المقام بخاطر فلم يحصل له إلا في وقت السعي في مصالح العيال وذلك ليعلمه الله بما في قضاء حوائج العائلة من الفضل فيزيد حرصاً في سعيه في حقهم لأنهم عبيده على كل حال وكذلك لما وقع لموسى الفرار من الأعداء الذين طلبوا قتله أنتج له ذلك الفرار الحكم والرسالة كما قال ففرت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين وذلك لأن فراره كان سعياً في حق الغير الذي هو النفس الناطقة المالكة تدبير هذا البدن فإن فرار الأكابر دائماً إنما يكون في حق الغير لا في حق أنفسهم فكان الفار من موسى النفس الحيوانية وكذلك لما خرج الخضر عليه السلام يرتاد الماء للجيش الذي كان معه حين فقدوا الماء فوقع بعين الحياة فشرب منها عاش إلى زمننا هذا والحال أنه كان لا يعرف ما خص الله به شارب ذلك الماء من الحياة فلما عاد وأخبر أصحابه بالماء سارعوا إلى ذلك الموضع ليستقوا منه فأخذ الله بأبصارهم عنه فلم يهتدوا إلى موضعه كما قال الحافظ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
سكندر رانمى بخشند آبى
بزور وزر ميسر نيست اين كار
فانظر ما أنتج له سعيه في حق الغير واعمل عليه والآية نزلت في قتال أحدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه السلام بالسعف وهي أغصان النخل إذا يبست والنعال فقال ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام مر يوماً على ملأ من الأنصار فيهم عليه السلام بن أبي المنافق ورسول الله عليه السلام على حماره فوقف عليهم يعظهم فبال حماره أوراث فأمسك عليه السلام بن أبي أنفه وقال : نح عنا نتن حمارك فقد آذيتنا بنتنه فمن جاءك منا فعظه فسمع ذلك عليه السلام بن رواحة رضي الله عنه فقال : ألحمار رسول الله تقول هذا؟ والله إن بول حمار رسول الله أطيب رائحة منك فمر عليه السلام رطال الكلام بين عليه السلام بن أبي المنافق الخزرجي وعليه السلام بن رواحة الأوسي حتى استبا وتجالدا وجاء قوم كل واحد منهما من الأوس والخزرج وتجالدوا بالعصي أو بالنعال والأيدي أو بالسيف أيضاً فنزلت الآية فرجع إليهم رسول الله فقرأها عليهم وأصلح بينهم فإن قيل عبد الله بن أبي كان منافقاً والآية في طائفتين من المؤمنين قلنا إحدى الطائفتين هي عبد الله بن أبي وعشيرته ولم يكن كلهم منافقين فالآية تتناول المؤمنين منهم أو المراد بالمؤمنين من أظهر الإيمان سواء كان مؤمناً حقيقة أو ادعاء وقيل في سبب
74
(9/61)
النزول غير هذا ويحتمل أن تكون الروايات كلها صحيحة ويكون نزول الآية عقيب جميعها وقال ابن بحر : القتال لا يكون بالنعال والأيدي وإنما هذا في المنتظر من الزمان انتهى.
يقول الفقير : فسروا القتل بفعل يحصل به زهوق الروح كالضرب بآلة الحرب والمحدد ولو من خشب ونحو ذلك مما يفرق الا جزاء ولا شك أن السعف من قبل الخشب المحدد وأما النعال فإن بعضها يعمل عمل الخشب المحدد كما شاهدنا في نعال بعض الأعراب على أن التقال قد يستعمل مجازاً في المحاربة والمضاربة فقد وقع القتال مطلقاً في زمن النبي عليه السلام وأما حرف الشرط فإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يصدر القتال من المؤمنين إلا فرضاً مع أن خصوص السبب لا ينافي عموم الحكم فالآية عامة في جميع المسلمين إلى يوم القيامة على تقدير القتال فاعرف {فَإِنا بَغَتْ} أي تعدت يقال بغى عليه بغياً علا وظلم وعدل عن الحق واستطال كما في القاموس وأصل البغي طلب ما ليس بمستحق فإن البغي الطلب {إِحْدَاـاهُمَا} وكانت مبطلة
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
{عَلَى الاخْرَى} وكانت محقة ولم تتأثر أي الباغية بالنصيحة {فَقَـاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى} أي قاتلوا الطائفة الباغية {حَتَّى تَفِىاءَ} أي ترجع فإن الفيء الرجوع إلى حالة محمودة {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي إلى حكمه الذي حكم به في كتابه العزيز وهو المصالحة ورفع العداوة أو إلى ما أمر به وهو الإطاعة المدلول عليها بقوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الا امر منكم فأمر الله على الأول واحد الأمور وعلى الثاني واحدا لأوامر وإنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس أي إزالتها إياه فإن الشمس كلما ازدادت ارتفاعاً ازداد الظل انتساخاً وزوالاً وذلك إلى أن توازي الشمس خط نصف النهار فإذا زالت عنه وأخذت في الانحطاط أخذ الظل في الرجوع والظهور فلما كان الزوال سبباً لرجوع ما اتسخ من الظل أضيف الظل إلى الزوال فقيل فيء الزوال وأطلق أيضاً على الغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين وتلك الأموال وإن لم تكن أولاً للمسلمين لكنها لما كانت حقهم ليتوسلوا بها إلى طاعته تعالى كانت كأنها لهم أولاً ثم رجعت.
ومر الأصمعي بحي من أحياء العرب فوجد صبياً يلعب مع الصبيان في الصحراء ويتكلم الفصاحة فقال الأصمعي : أين أباك يا صبي فنظر إليه الصبي ولم يجب ثم قال : أين أبيك فنظر إليه ولم يجب كالأول ثم قال أين أبوك فقال : فاء إلى الفيفاء لطلب الفيىء فإذا فاء الفيىء فاء أي رجع {فَإِن فَآءَتْ} إليه وأقلعت عن القتال حذاراً من قتالكم {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} والإنصاف بفصل ما بينهما على حكم الله ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر.
قال الحافظ :
جويبار ملك راآب سر شمشيرتست
خوش درخت عدل بنشان بيخ بدخواهان بكن
قال كيخسرو : أعظم الخطايا محاربة من يطلب الصلح وتقييد الإصلاح بالعدل ههنا دون الأول لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة وهي تورث الأحن في الغالب وقد أكد ذلك حيث قيل : {وَأَقْسِطُوا} أي وأعدلوا في كل ما تأتون وما تذرون من أقسط إذا أزال القسط بالفتح أي الجور يقال إذا جاء القسط بالكسر أي العدل زال القسط بالفتح أي الجور وقال بعضهم : الاقساط أن يعطي قسط غيره أي نصيبه وذلك إنصاف {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
75
أي العادلين الذين يؤدون لكل ذي حق حقه فيجازيهم بأحسن الجزاء.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
قال الكاشفي :
عدل راشكر هست جان افزاى
عدل مشاطه ايست ملك اراى
عدل كن زانكه در ولايت دل
در يغمبرى زند عادل
وقال الحافظ :
شاه رابه بود از طاعت صد ساله وزهد
قدر يكساعته عمرى كه درو داد كند
قال بعض الكبار : كل من كان فيه صفة العدل فهو ملك وإن كان الحق ما ستخلفه بالخطاب الإلهي فإن من الخلفاء من أخذ المرتبة بنفسه من غير عهد إلهي إليه بها وقام بالعدل في الرعايا استناداً إلى الحق كما قال عليه السلام : ولدت في زمان الملك العادل يعني كسرى فسماه ملكاً ووصفه بالعدل ومعلوم أن كسرى في ذلك العدل على غير شرع منزل لكنه نائب للحق من وراء الحجاب وخرج بقولنا وقام بالعد في الرعايا من لم يقم بالعدل كفرعون وأمثاله من المنازعين لحدود الله والمغالبين لجنابه بمغالبة رسله فإن هؤلاء ليسوا بخلفاء الله تعالى كالرسل ولا نواباً له كالملوك العادلة للهم إخوان الشياطين قال بعضهم :
شه كرى از ظلم ازان ساده است
كه در عهد او مصطفى زاده است
(9/62)
أي كان عدله من انعكاس نور أنيته صلى الله عليه وسلّم فاعرف جداً وفي الآية دلالة على أن الباغي لا يخرج بالبغي عن الإيمان لأن إحدى الطائفتين فاسقة لا محالة إذ اقتتلتا وقد سماهما مؤمنين وبه يظهر بطلان ما ذهب إليه المعتزلة والخوارج من خروج مرتكب الكبيرة عن الإيمان ويدل عليه ما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل وهو القدوة في قتال أهل البغي أعلمنا أهل الجمل وصفين أمشركون هم فقال لا من الشرك فروا فقيل أمنافقون هم فقال : لا إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل : فما حالهم قال إخواننا بغوا علينا وأيضاً فيها دلالة على أن الباغي إذا أمسك عن الحرب ترك لأنه فاء إلى أمر الله وأنه يجب معاونة من بغى عليهم بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة بدلالة قوله فأصلحوا بينهما فإن النصح والدعاء إلى حكم الله إذا وجب عند وجود البغي من الطائفتين فلأن يجب عند وجوده من إحداهما أولى لأن ظهور أثره فيها أرحى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
واعلم أن الباغي في الشرع هو الخارج على الإمام العادل وبيانه في الفقه في باب البغاة قال سهل رحمه الله في هذه الآية : الطائفتان هما الروح والقلب والعقل والطبع والهوى والشهوة فإن بغى الطبع والهوى والشهوة على العقل والقلب والروح فيقاتل العبد بسيوف المراقبة وسهام المطالعة وأنوار الموافقة ليكون الروح والعقل غالباً والهوى والشهوة مغلوباً وقال بعضهم : النفس إذا ظلمت على القلب باستيلاء شهواتها واستعلائها في فسادها يجب أن تقاتل حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة فإن استجابت بالطاعة فيعفى عنها لأنها هي المطية إلى باب الله ولا بد من العدل بين القلب والنفس لئلا يظلم القلب على النفس كما لا يظلم النفس على القلب لأن لنفسك عليك حقاً نسأل الله إصلاح البال واعتدال الحال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} جمع الآ(لأخ وأصله المشارك الآخر في الولادة من الطرفين أو من أحدهما أو من الرضاع ويستعار في كل مشارك لغيره
76
في القبيلة أو في الدين أو في صنعة أو في معاملة أو في مودة أو في غير ذلك من المناسبات والفرق بين الخلة والأخوة أن الصداقة إذا قويت صارت إخوة فإن ازدادت صارت خلة كما في إحياء العلوم وسئل الجنيد قدس سره عن الأخ فقال : هو أنت في الحقيقة إلا أنه غيرك في الشخص قال بعض أهل اللغة : الأخوة جمع الأخ من النسب والإخوان جمع الأخ من الصداقة ويقع أحدهما موقع الآخر وفي الحديث وكونوا عباد الله إخواناً والمعنى إنما المؤمنون منتسبون إلى أصل واحد هو الإيمان الموجب للحياة الأبدية كما أن الأخوة من النسب منتسبون إلى أصل واحد هو الأب الموجب للحياة الفانية فالآية من قبيل التشبيه البليغ المبتني على تشبيه الإيمان بالأب في كونه سبب الحياة كالأب {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} الفاء للإيذان بأن الأخوة الدينية موجبة للإصلاح ووضع المظهر مقام المضمر مضافاً إلى المأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولوية لتضاعف الفتنة والفساد فيه {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في كل ما تأتون وما تذرون من الأمور التي من جملتها ما أمرتم به منا لإصلاح وفي التأويلات النجمية واتقوا الله في إخوتكم في الدين بحفظ عهودهم ورعاية حقوقهم في المشهد والمغيب والحياة والممات {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} راجين أن ترحموا على تقواكم كما ترحمون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
واعلم أن أخوة الإسلام أقوى من أخوة النسب بحيث لا تعتبر أخوة النسب إذا خلت عن أخوة الإسلام ألا ترى أنه إذا مات المسلم وله أخ كافر يكون ماله للمسلمين لا لأخيه الكافر وكذا إذا مات أخ الكافر وذلك لأن الجامع الفاسد لا يفيد الأخوة وأن المعتبر الأصلي الشرعي لا يرى أن ولدي الزنى من الرجل واحد لا يتوارثان وهذا المعنى يستفاد من الآية أيضاً لأن إنما للحصر فكأنه قيل : لا أخوة إلا بين المؤمنين فلا إخوة بين المؤمن والكافر وكسب المرتد حال إسلامه لوارثه المسلم لاستناده إلى ما قبل الردة فيكون توريث المسلم من المسلم وأما كسبه حال ردته فهو فيىء يوضع في بيت المال لأنه وجد بعد الردة فلا يتصور إسناده إلى ما قبلها وفي الحديث كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسيب.
مراد باين نسب دين وتقواست نه نسب آب وكل والا ابو لهب رادر ان نصيب بودى.
(9/63)
كما في كشف الأسرار قال بعض الكبار : القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ثلاثة أقسام لأنها إا قرابة في الصورة فقط أو في المعنى فقط أو في الصورة والمعنى فأما القرابة في الصورة فلا يخلو إا أن تكون بحسب طينته كالسادات الشرفاء أو بحسب دينه وعلمه كالعلماء والصالحين والعباد وسائر المؤمنين وكل منهما نسبة صورية وأما قرابته عليه السلام في المعنى فهم الأولياء لأن الولي هو ولده الروحي القائم بما تهيأ لقبوله من معناه ولذلك قال صلى الله عليه وسلّم سلمان منا أهل البيت إشارة إلى القرابة المعنوية وأما القرابة في الصورة والمعنى معافهم الخلفاء والأئمة القائمون مقامه سواء كان قبله كأكابر الأنبياء الماضين أو بعده كالأولياء الكاملين وهذه أعلى مراتب القرابة وتليها القرابة الروحية ثم القرابة الصورية الدينية ثم قرابة الطينية فإن جمعت ما قبلها فهي الغاية وقال بعضهم إن الله خلق الأرواح من عالم الملكوت والأشباح من عالم الملك
77
ونفخ فيها تلك الأرواح وجعل بينها النفوس الأمارة التي ليست من قيل الأرواح ولا من قبيل الأشباح وجعلها مخالفة للأرواح ومساكنها أي الأشباح فأرسل عليها جند العقول ليدفع بها شرها وهي العقول المجردة والأخروية وإلا فالعلوق الغريزية والدينوية لا تقدر عن الدفع بل هي معينة للنفس فإذا امتحن الله عباده المؤمنين هيج نفوسهم الأمارة ليظهره حقائق درجاتهم من الإيمان والأخوة وأمرهم أن يعينوا العقل والروح والقلب على النفس حتى تنهزم لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً فهم كنفس واحدة لأن مصادرهم مصدر واحد وهو آدم عليه السلام ومصدر روح آدم نور الملكوت ومصدر جسمه تربة الجنة في بعض الأقوال ولذلك يصعد الروح إلى الملكوت الجسم إلى الجنة ما قال عليه السلام : "كل شيء يرجع إلا أصله".
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
وفي التأويلات النجمية : اعلم أن أخوة النسب إنما تثبت إذا كان منشأ النطف صلباً واحداً فكذلك أخوة الدين منشأ نطفها صلب النبوة وحقيقة نطفها نور الله فإصلاح ذات بينهم برفع حجب أستار البشرية عن وجوه القلب ليتصل النور بالنور من روزنة القلب ليصيروا كنفس واحدة كما قال عليه السلام : "المؤمنون كنفس واحدة إن اشتكى عضو واحد تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر" :
بني آدم أعضاى يكديكرند
كه در آفرينش زيك جوهرند
و عضوى بدر دآورد روزكار
دكر عضوها رانماند قرار
ومن حق الأخوة في الدين أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك ويسرك ما سره ويسوءك ما ساءه وأن لا تحوجه إلى الاستعانة بك وإن استعان تعنه وتنصره ظالماً أو مظلوماً فمنعك إياه عن الظلم فذلك نصرك ءياه وفي الحديث : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ومن حقه أن لا تقصر في تفقد أحواله بحيث يشكل عليك موضع حاجته فيحتاج إلى مسألتك وأن لا تلجئه إلى الاعتذار بل تبسط عذره فإن أشكل عليك وجهه عدت باللائمة على نفسك في خفاء عذره وتتوب عنه إذا أذنب وتعوده إذا مرض وإذا أشار إليك بشيء فلا تطالبه بالدليل وإيراد الحجة كما قالوا :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهمو
لأية حرب أم باى مكان
والاستنجاد يارى خواستن.
قيل لفيلسوف : ما الصديق؟ فقال : اسم بلا مسمى وقال فضيل لسفيان : دلني على من أركن إليه فقال : ضالة لا توجد وقال أبو إسحاق الشيرازي :
سألت الناس عن خل وفي
فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسك إن ظفرت بود حر
فإن الحر في الدنيا قليل
قيل : أبعد الناس سفراً من كان سفره في طلب أخ صالح قال أعرابي : اللهم احفظني من الصديق فقيل له في ذلك قال الحذر منه أكثر من الحذر من العدو قال علي رضي الله عنه : إخوان هذا الزمان
78
جواسيس العيوب وقد أحسن من قال : الأخ الصالح خير لك من نفسك لأن النفس أمارة بالسوء والأخ لا يأمرك إلا بخير وقيل : الدنيا بأسرها لا تسع متباغضين وشبر بشبر يسع المتحابين كما قال الحكماء : ده درويش در كليمى بخسبند ودو ادشاه در اقليمي نكنجند.
(9/64)
واعلم أن المواخاة أمر مسنون من لدن النبي عليه السلام فإنه آخى بين المهاجرين والأنصار يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا يَسْخَرْ} السخرية أن يحقر الإنسان أخاه ويستخفه ويسقطع عن درجته ويعده ممن لا يلتفت إليه أي لا يستهزىء {قَوْمٍ} أي منكم وهو اسم جمع لرجل {مِن قَوْمٍ} آخرين أيضاً منكم والتنكير إما للتعميم أو للتبعيض والقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض لما أنها مما يجري بين بعض وبعض فإن قلت : المنهى عنه هو أن يسخر جماعة من جماعة فيلزم أن لا يحرم سخرية واحد من واحد قلت : اختيار الجمع ليس للاحتراز عن سخرية الواحد من الواحد بل هو لبيان الواقع لأن السخرية وإٌّ كانت بين اثنين إلا أن الغالب أن تقع بمحضر جماعة يرضون بها ويضحكون بسببها بدل ما وجب عليهم من النهي شركاء الساخر في تحمل الوزر ويكونون والإنكار ويكونون بمنزلة الساخرين حكماً فنهوا عن ذلك يعني أنه من نسبة فعل البعض إلى الجميع لرضاهم به في الأغلب أو لوجوده فيما بينهم والقوم مختص بالرجاء لأنهم قوامون على النساء ولهذا عبر عن الإناث بما هو مشتق من النسوة تفتح النون وهو ترك العمل ويؤيده قول زهير :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
وما أدري ولست أخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء
{عَسَى} شايد {أَن يَكُونُوا} باشند {خَيْرًا مِّنْهُمْ} تعليل للنهي أي عسى أن يكون المسخور منهم خيراً عند الله من الساخرين ولا خبر لعسى لإغناء الاسم عنه {وَلا نِسَآءٌ} أي ولا تسخر نساء من المؤمنات وهو اسم جمع لامرأة {مِّن نِّسَآءٍ} منهن وإنما لم يقل امرأة من رجل ولا بالعكس للإشعار بأن مجالسة الرجل المرأة مستقبح شرعاً حتى منعوها عن حضور الجماعة ومجلس الذكر لأن الإنسان إنما يسخر ممن يلابسه غالباً {عَسَى أَن يَكُنَّ} أي المسخور منهن {خَيْرًا مِّنْهُنَّ} أي من الساخرات فإن مناط الخميرية في الفريقين ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال ولا الأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالباً بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب فلا يجترىء أحد على استحقار أحد فعله أجمع منه لما نيط به من الخيرية عند الله فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله واستهانة من عظمه الله.
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى أنه لا عبرة بظاهر الخلق فلا تنظر إلى أحد بنظر الازراء والاستهانة والاستخفاف والاستحقار لأن في استحقار أخيك عجب نفسك مودع كما نظر إبليس بنظر الحقارة إلى آدم عليه السلام فأعجبه نفسه فقال : أناخ ير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فلعن إلى الأبد لهذا المعنى فمن حقر أخاه المسلم وظن أنه خير منه يكون إبليس وقته وأخوه آدم وقته ولهذا قال تعالى : عسرى أن يكونوا خيراً منهم فبالقوم يشير إلى أهل المحبة وأرباب السلوك فإنهم مخصوصون بهذا الاسم كما قال تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه يعني لا ينظر المنتهى من أرباب الطلب بنظر الحقارة إلى المبتدىء والمتوسط عسى
79
أن يكونوا خيراً منهم فإن الأمور بخواتيمها ولهذا قال أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري وقال عليه السلام : رب أشعت أغبر ذي طمرين لا يوبه به لو أقسم على الله لا يره قال معروف الكرخي يوماً لتلميذه السري السقطي قدس الله سرهما : إذا كانت لك إلى الله حاجة فأقسم عليه بي ومن هنا أخذوا قولهم على ظهر المكاتيب بحرمة معروفالكرهي والله أعلم.
يقول البغداديون : قبر معروف ترياق مجرب وبالنساء يشير إلى عوام المسلمين لأنه تعالى عبر عن الخواص بالرجال في قوله : رجال لا تلهيهم تجارة وقوله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه يعني لا ينبغي لمسلم ما أن ينظر إلى مسلم ما بنظر الحقارة عسى أن يكن خيراً منهن إلى هذا المعنى يشير.
ثم نقول إن للملائكة شركة مع إبليس في قولهم لآدم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك كان في نظرهم إليه بالحقارة إعجاب أنفسهم مودعاً ولكن الملائكة لم يصروا على ذلك الأعجاب وتابوا إلى الله ورجعوا مما قالوا فعالجهم الله تعالى بإسجادهم لآدم لأن في السجود غاية الهوان والذلة للساجد وغاية العظمة والعزة للمسجود فلما كان في تحقير آدم هو أنه وذلته وعزة الملائكة وعظمتهم أمرهم بالسجود لأن علاج العلل بأضدادها فزال عنهم علة العجب وقد أصر إبليس على قوله وفعله ولم يتب فأهلكه الله بالطرد واللعن فكذلك حال من ينظر إلى أخيه المسلم بنظر الحقارة.
قال الحافظ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
من بشم حقارت نكاه بر من مست
كه نيست معصيت وزهدبى مشيت او
(9/65)
قال ابن عباس رضي الله عنه : نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه : كان في إذنه وقر فكان إذا أتى مجلس رسول الله عليه السلام وقد سبقوه بالمجلس وسعوا له حتى يجلس إلى جنبه عليه السلام يسمع ما يقول فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر فلما انصرف النبي عليه السلام من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم فضن كل رجل بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد فكان الرجل إذا جاء لا يجد مجلساً فيقوم على رجليه فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله يتخطى رقاب الناس وهو يقول تفسحوا تفسحوا فجعلوا يتفسحون حتى انتهى إلى رسول الله بينه وبينه رجل فقال له : تفسخ فلم يفعل فقال : من هذا؟ فقال له الرجل : أنا فلان فقال : بل أنت ابن فلانة يريد اماله كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل ونكس رأسه فأنزل الله هذه الآية.
ـ وروي ـ أن قوله تعالى ولا نساء من نساء نزل في نساء النبي عليه السلام عيرن أم سلمة بالقصر أو أن عائشة رضي الله عنها قالت : إن أم سلمة جميلة لولا أنها قصيرة وقيل : إن الآية نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلماً بعد فتح مكة فكان المسلمون إذا رأوه قالوا : هذا ابن فرعون هذه الأمة فشكا ذلك للنبي عليه السلام فقال عليه السلام : لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات ونزلت الآية :
هميشه در صدد عيب جويى خويشم
نبوده ايم ى عيب ديكران هركز
قال أبو الليث ثم صارت الآية عامة في الرجال والنساء فلا يجوز لأحد أن يسخر من صاحبه أو من أحد من خلق الله وعن ابن مسعود البلاء موكل بالقول وإني لأخشى لو سخرت
80
من كلب أن أْول كلباً وذلك لأن المؤمن ينبغي أن ينظر إلى الخالق فإنه صنع لا إلى المخلوق فإنه ليس بيده شيء في الحسن والقبح ونحوهما قيل للقمان : ما أقبح وجهك فقال : تعيب بهذا على النقش أو على النقاش نسأل الله الوقوف عند أمره ونعوذ به من قهره.
قال الحافظ :
نظر كردن بدرويشان منافى بزركى نيست
سليمان بانان حشمت نظرها كرد بامورش
يشير إلى التواضع والنظر إلى الأدانى بنظر الحكمة {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} اللمز الطعن باللسان وفي تاج المصادر عيب كردن.
والإشارة بالعين ونحوه والغابر يفعل ويفعل ولم يخص السخرية بما يكون باللسان فالنهي الثاني من عطف الخاص على العام بجعل الخاص كأنه جنس آخر للمبالغة ولهذا قيل :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
جراحات السنان لها التئام
ولا يلتام ما جرح اللسان
والمعنى أولا يعب بعضكم بعضاً فإن المؤمنين كنفس واحدة والأفراد المنتشرة بمنزلة أعضاء تلك النفس فيكون ما يصيب واحداً منهم كأنه يصيب الجميع إذا اشتكى عضو واحد من شخص تداعى سائر الأعضاء إلى الحمى والسهر فمتى عاد مؤمناً فكأنما عاب نفسه كقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم (ع) عيب هركس كه كنى هم بتومى كردد باز.
وفي التأويلات النجمية إنما قال أنفسكم لأن المؤمنين كنفس واحدة إن عملوا شراً إلى أحد فقد عملوا إلى أنفسهم وإن عملوا خيراً إلى أحد فقد عملوا إلى أنفسهم كما قال تعالى : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها.
قال الحافظ :
عيب رندان مكن اى زاهد اكيزه سرشت
كه كناه دكران برتو نخوا هند توشت
ويجوز أن يكون معنى الآية ولا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه أي تسبب للمز نفسه وإلا فلا طعن باللسان لنفسه منه فهو من إطلاق المسبب وإرادة السبب وقال سعدي المفتي : ولا يبعد أن يكون المعنى لا تلمزوا غيركم فإن ذلك يكون سبباً لأن يبحث الملموز عن عيوبكم فيلمزكم فتكونوا لامزين أنفسكم فالنظم حينئذ نظير ما ثبت في الصحيحين من قوله عليه السلام : "من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال : "نعم يسب ابا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه" انتهى.
يقول الفقير : هو مسبوق في هذا المعنى فإن الإمام الراغب قال في المفردات : اللمز الاغتياب وتتبع المعايب أي لا تلزموا الناس فيلمزوكم فتكونوا في حكم من لمز نفسه انتهى ولا يدخل في الآية ذكر الفاسق لقوله عليه السلام : اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس.
يقول الفقير : إشارة التعليل في الحديث إلى أن ذكر الفاجر بما فيه من العيوب إنما يصح بهذا الغرض الصحيح وهو أن يحذر الناس منه ومن عمله وإلا فالإمساك مع أن في ذكره تلويث اللسان الطاهر ولذا نقل عن بعض المشايخ أنه لم يلعن الشيطان إذ ليس فيه فائدة سوء اشتغال اللسان بما لا ينبغي فإن العداوة له إنما هي بمخالفته لا بلعنته فقط وفي الحديث طوبى لمن يشغله عيبه عن عيوب الناس وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان لا يخلو عن العيب قيل لسقراط : هل من ءنسان لا عيب فيه قال : لو كان إنسان لا عيب فيه لكان لا يموت ولذا قال الشاعر :
81
ولست بمستبق أخاً لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/66)
أي لا مهذب في الرجال يخلو من التفرق والعيوب فمن أراد أخاً مهذباً وطلت صديقاً منقحاً لا يجده فلا بد من الستر.
قال الصائب :
زديدن كرده ام معزول شم عيب بينى را
اكر برخارمى يم كل بيخارمى بينم
وقال :
بعيب خويش اكراره بردمى صائب
بعيب جويى مردم ه كارداشتمى
{وَلا تَنَابَزُوا بِالالْقَـابِ} النبز بسكون الباء مصدر نبزه بمعنى لقبه وبالفارسية لقب نهادن.
وتنابزوا بالألقاب لقب بعضهم بعضاً فإن التنابز بالفارسي يكد يكررا بقلب خواندن.
وبفتحها اللقب مطلقاً أي حسناً كان أو قبيحاً ومنه قيل في الحديث قوم نبزهم الرافضة أي لقبهم ثم خص في العرف باللقب القبيح وهو ما يكره المدعو أن يدعى به وللقب ما سمي به الإنسان بعد اسمه العلم من لفظ يدل على المدح أو الذم لمعنى فيه والمعنى ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء قالوا : وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه وليس فيه قصد استخفاف ولا أذى وفيه ءشارة إلى أن اللقب الحسن لا ينهى عنه مثل محيى الدين وشمس الدين وبهاء الدين وفي الحديث من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه {بِئْسَ اسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الايمَـانِ} الاسم هنا ليس ما يقابل اللقب والكنية ولا يقابل الفعل والحرف بل بمعنى الذكر المرتفع لأنه من السمو يقال : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم أي ذكره والفسوق هو المخصوص بالذم وفي الكلام مضاف مقدر وهو اسم الفسوق أي ذكره والمعنى بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإيمان واشتهارهم به.
وفي التأويلات النجمية بئس الاسم اسم يخرجهم من الإيمان والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسوق إلى المؤمنين خصوصاً إذ روى أن الآية نزلت في صفية بنت حيى رضي الله عنها أتت رسول الله باكية فقالت : إن النساء يقلن لي وفي عين المعاني قالت لي عائشة رضي الله عنها : يا يهودية بنت يهوديين فقال عليه السلام : هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد عليه السلامم السلام أو الدلالة على أن التنابز مطلقاً لا بالكفر والفسوق خصوصاً وخالد الفاسق ونحو ذلك والعجب من العرب يقولون للمؤمنين من أهل الروم نصارى فهم داخلون في الذم ولا ينفعهم الافتخار بالأنساب فإن التفاضل بالتقوى كما سيجيء ونعم ما قيل :
وما ينفع الأصل من هاشم
إذا كانت النفس من باهله
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
وما قيل :
ه غم زمنقصت صورت اهل معنى را
و جان زروم بود كوتن ازحبش مى باش
وفي الحديث من عير مؤناً بذنب تاب منه كان حقاً على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة وفي الفقه لو قال رجل لصالح : يا فاسق ويا ابن الفاسق ويا فاجر ويا خبيث ويا مخنث ويا مجرم ويا مباحى ويا جيفة ويا بليد ويا ابن الخبيثة ويا ابن الفاجرة ويا سارق ويا لص ويا
82
كافر ويا زنديق ويا ابن القحبة ويا ابن قرطبان ويا لوطى ويا ملاعب الصبيان ويا آكل الربا ويا شارب الخمر وهو بريء منه ويا ديوث ويأبي نماز ويا منافق ويا خائن ويا مأوى الزواني ويا مأوى اللصوص ويا حرام زاده يعزر في هذا كله في الفتاوي الزيني سئل عن رجل قال لآخر يا فاسق وأراد أن يثبت فسقه بالبينة ليدفع التعزير عن نفسه هل تسمع بينته بذلك انتهى وهو ينافي ظاهر ما قالوا من أن المقول له لو لم يكن رجلاً صالحاً وكان فيه ما قيل فيه من الأوصاف لا يلزم التعزير {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} عما نهى عنه {فَأُوالَـائِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب والظالم أعم من الفاسق والفاسق أعم من الكافر.
وفي التأويلات النجمية ومن لم يتب يعني من مقالة إبليس وفعاله بأن ينظر إلى نفسه بالعجب وإلى غيره بالحقارة فأولئك هم الظالمون فيكونون منخرطين في سلك اللعنة والطرد مع إبليس ما قال تعالى ألا لعنة الله على الظالمين انتهى وفيه دلالة بينة على أن الرجل بترك التوبة يدخل مدخل الظلمخة فلا بدمن توبة نصوح من جميع القبائح والمعاصي لا سيما ما ذكر في هذا المقام.
قال الصائب :
سرماية نجات بودتوبه درست
باكشتى شكسته بدرياه ميروى
ومن أصر أخذ سريعاً لأن أقرب الأشياء صرعة الظلوم وأنفذ السهام دعوة المظلوم وتختلف التوبة على حسب اختلاف الذنب فبعض الذنوب يحتاج إلى الاستغفار وهو ما دون الكفر وبعضها يحتاج معه إلى تجديد الإسلام والنكاح إن كانت له امرأة وكان بعض الزهاد يجدد عند كل ذنب إيماناً بالله وتبرئاً من الكفر احتياطاً كما في زهرة الرياض.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/67)
يقول الفقير يشير إليه القول المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم ولا شك أن الأنبياء معصومون من الكفر قبل الوحي وبعده بإجماع العلماء ومن سائر الكبائر عمداً بعد الوحي فاستغفارهم لا يكون إلا عما لا يليق بشأنهم من ترك الأولى ونحوه على ما فصل في أول سورة الفتح فدل قوله واستغفرك لما لا أعلم على أنه قد يصدر من الإنسان الذنب وهو لا يشعر وذلك بالنسبة إلى الأمة قد يكون كفراً وقد يكون غيره فكما لا بد من الاستغفار بالنسبة إلى عامة الذنوب فكذا لا بد من تجديد الإسلام بالنسبة إلى الكفر وإن كان ذلك احتياطاً إذ باب الاحتياط مفتوح في كل شأن إلا نادراً وقد صح أن إتيان كلمة الشهادة على وجه العادة لا يرفع الكفر فلا بد من الرجوع قصداً عن قول وفعل ليس فيهما رضى الله وهو باستحضار الذنب إن علم صدوره منه أو بالاستغفار مطلقاً إن صدر عنه ولو كان ذلك كفراً على أنا نقول إن إمكان صدور الكفر عام للعوام والخواص ما داموا لم يصلوا إلى غاية العايات وهي مرتبة الذات الأحدية وإليه يشير قول سهل التستري قدس سره ولوصلوا ما رجعوا ألا ترى أن إبليس كفر بالله مع تمكن يده في الطاعات خصوصاً في العرفان فإنه أفحم كثيراً من أهل المعرفة لكنه كان من شأنه الكفر والرجوع إلى المعصية لأنه لم يدخل عالم الذات ولو دخل لم يتصور ذلك منه إذ لا كفر بعد الإيمان العياني ولهذا قال عليه السلام : "اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً ليس بعده كفر" فاعرف يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ}
83
أي كونوا على جانب منه وأبعدوا عنه فإن الاجتناب بالفارسية بايك سوشدن.
والظن اسم لما يحصل من أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم ومتى ضعفت جداً لم تتجاوز حد التوهم وإبهام الكثير لإيجاب الاحتياط والتأمل في كل ظن ظن حتى يعلم أنه من أي قبيل وتوضيح المقام أن كثيراً لما بين بقوله من الظن كان عبارة عن الظن فكان المأمور باجتنابه بعض الظن إلا أنه علق الاجتناب بقوله كثيراً لبيان أنه كثير في نفسه ولا بد لنا من الفرق بين تعريف الظن الكثير وتنكيره فلو عرف وقيل اجتنبوا الظن الكثير يكون التعريف للإشارة إلى ما يعرفه المخاطب بأنه ظن كثير غير قليل ولو نكر يكون تنكيره للأفراد والبعضية ويكون المأمور باجتنابه بعض أفراد الظن الموصوف بالكثرة من غير تعيينه أي بعض هو وفي التكليف على هذا الوجه فائدة جليلة وهي أن يحتاط المكلف ولا يجترىء على ظن ما حتى يتبين عنده أنه مما يصح اتباعه ولا يجب الاجتناب عنه ولو عرف لكان المعنى اجتنبوا حقيقة الظن الموصوف بالكثرة أو جميع أفراده لا ما قل منه وتحريم الظن المعرف تعريف الجنس والاستغراق لا يؤدي إلى احتياط المكلف لكون المحرم معيناً فيجتنب عنه ولا يجتنب عن غيره وهو الظن القليل سواء كان ظن سوء وظن صدق ومن المعلوم أن هذا المعنى غير مراد بخلاف ما لو نكر الظن الموصوف بالكثرة فإن المحرم حينئذ اتباع الفرد المبهم من أفراد تلك الحقيقة وتحريمه يؤدي إلى احتياط المكلف إلى ين يتبين عنده أن ما يخطر بباله من الظن من أي نوع من أنواع الظن فإن من الظن ما يجب اتباعه كحسن الظن بالله تعالى وفي الحديث أن حسن الظن من الإيمان والظن فيما لا قاطع فيه من العمليات كالوتر فإنه لما ثبت بخبر الواحد لم يكن مقطوعاً به فقلنا بالوجوب فلا يكفر جاحده بل يكون ضالاً وبمتدعاً لرده خبر الواحد ويقتص لكونه فرضاً عملياً وفي الأشباه ويكفر بإنكار أصل الوتر والأضحية انتهى ومن الظن ما يحرم كالظن في الإلهيات أي بوجود الإله وذاته وصفاته وما يليق به من الكمال وفي النبوات فمن قال آمنت بجميع الأنبياء ولا أعلم آدم نبي أم لا يكفر وكذا من آمن بأن نبينا عليه السلام رسول ولم يؤمن بأنه خاتم الرسل لا نسخ لدينه إلى يوم القيامة لا يكون مؤمناً وكالظن حيث يخالفه قاطع مثل الظن بنبوة الحسنين أو غيرهما من خلفاء هذه الأمة وأوليائها مع وجود قوله تعالى وخاتم النبيين وقوله عليه السلام : "لا نبي بعدي" أي لا مشرعاً ولا متابعاً فإن مثل هذا الظن حرام ولو قطع كان كفراً وكظن السوء بالمؤمنين خصوصاً بالرسول عليه السلام وبورثته الكمل وهم العلماء بالله تعالى قال تعالى : وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً وقال عليه السلام : "إن الله حرم من المسلم عرضه ودمه وأن يظن به ظن السوء" والمراد بعضه جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويتحامى أن ينتقص.
قال الصائب :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
بدكمانى لازم بد باطنان افتاده است
كوشه از خلق جا كردم كمين ند اشتند
ومن الظن ما يباح كالظن في الأمور المعاشية يعني ظن درامور دنيا ومهمات معاش ودرين صورت بدكمانى موجب سلامت وانتظام مهام است واز قبيل حزم شمرده اند كما قيل :
بدنفس مباش وبد كمان باش
وزفتنه ومكردر امان باش
84
(9/68)
وفي كشف الأسرار المباح كالظن في الصلاة والصوم والقبلة أمر صاحبه بالتحري فيها والبناء على غلبة الظن وفي تفسير الكاشفي تحردرى أمر قبله وبنا نهادن بر غلبه ظن در امور اجتهاديه مندوبست.
ومعنى التحري لغة الطلب وشرعا طلب شيء من العبادات بغالب الرأي عند تعذر الوقول على حقيقته {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} يستحق العقاب عليه وذلك البعض كثير وهو تعليل للأمر بالاجتناب بطريق الستئناف التحقيقي والاثم الذنب يستحق العقوبة عليه وهمزته منلقلبة من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكثرها فإن قلت أليس هذا ميلاً إلى مذهب الاعتزال؟ قلت : بلى لولا التشبيه أي في كأنه قاله سعدي المفتي وقال أيضاً تبع المصنف في ذلك الزمخشري واعترض عليه بأن تصريف هذه الكلمة لا تنفك عنه الهمزة بخلاف الواوي وأنها من باب علم والواوي من باب ضرب قلت والزمخشري نفسه ذكرها في الأساس في باب الهمزة انتهى ودلت الآية على أن أكثر الظنون من قبيل الإثم لأن الشيطان يلقى الظنون في النفس فتظن النفس الظن الفاسد وعلى أن بعض الظن ليس باثم بل هو حقيقته وهو ما لم يكن من قبيل النفس بل كان باللراسة الصحيحة بأن يرى القلب بنور اليقين ما جرى في الغيب وفي الحديث أن في كل أمة محدثين أو مروعين على الشك من الراوي فإن يكن في هذها لأمة فإن عمر منهم والمحدث المصيب في رأيه كأنما حدث بالأمر المروع الذي يلقى الأمر في روعه أي قلبه وفي فتح الرحمن ولا يقدم على الظن إلا بعد النظر في حال الشخص فإن كان موسوماً بالصلاح فلا يظن به السوء بأدنى توهم بل يحتاط في ذلك ولا تظنن السوء إلا بعد أن لا تجد إلى الخير سبيلاً.
قال الصائب :
سيلاب صاف شدزهم آغوشيء محيط
باسينه كشاده كدورت ه ميكند
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
وأما الفساق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم وفي منهاج العابدين للإمام الغزالي قدس سره إذا كان ظاهر الإنسان الصلاح والستر فلا حرج عليك في قبول صلاته وصدقته ولا يلزمك البحث بأن تقول قد فسد الزمان فإن هذا سوء ظن بذلك الرجل المسلم بل حسن الظن بالمؤمنين مأمور به انتهى وفي الحديي من أتاه رزق من غير مسألة فرده فإنما يرده على الله قال الحسن : لا يرد جو آئز الأمراء الأمرائى أو أحمق وكان بعض السلف يستقرض لجميع حوائجه ويأخذ الجوائز ويقضي بها دينه والحيلة فيه أن يشتري بمال مطلق ثم ينقد ثمنه من أي مال شاء وعن الإمام الأعظم أن المبتلي بطعام السلطان والظلمة يتحرى إن وقع في قلبه حله قبل وأكل وإلا لا لقوله عليه السلام استفت قلبك قال الشيخ أبو العباس قدس سره : من كان من فقراء هذا الزمان أكالاً لأموال الظلمة مؤثراً للسماع ففيه نزغة يهودية قال تعالى : سماعون للكذب أكالون للسحت قال سفيان الثوري رضي الله عنه : الظن ظنان أحدهما إثم وهو أن تظن وتتكلم به والآخر ليس بإثم وهو أن تظن ولا تتكلم به والمراد بأن بعض الظن إثم ما أعلنته وتكلمت به من الظن وعن الحسن كنا في زمان الظن بالناس حرام فيه وأنت اليوم في زمان أعمل وأسكت وظن بالناس ما شئت أي لأنهم أهل لذلك والمظنون موجود فيهم وعنه أيضاً أن صحبة الأشرار تورث حسن الظن بالأخيار وطلب المتوكل اجارية
85
الدقاق بالمدينة وكان من أقران الجنيد ومن أكابر مصر فكاد يزول عقله لفرط حبها فقالت لمولاها : أحسن الظن بالله وبي فإني كفيلة لك بما تحب فحملت إليه فقال لها المتوكل : اقرئي فقرأت أن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ففهم المتوكل ما أرادت فردها.
(9/69)
ـ وروي ـ عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلم إحدى نسائه فمر به رجل دعاه رسول الله فقال : يا فلان هذه زوجتي صفية وكانت قد زارته في العشر الأول من رمضان فقال : يا رسول الله إن كنت أظن بغيرك فإني لم أكن أظن بك فقال عليه السلام : "إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم" كما في الاحياء وفيه إشارة إلى الحذر من مواضع التهم صاينة لقلوب الناس عن سوء الظن ولألسنتهم من الغيبة وإلى الاتقاء عن تزكية النفس فإن النفس والشيطان لهما شأن عجيب في باب المكر والإغواء وإلقاء الفتنة والفساد نسأل الله المنان أن يجعلنا في أمان {وَلا تَجَسَّسُوا} أصله لا تتجسسوا حذف منه إحدى التاءين أي ولا تبحثوا عن عورات المسلمين وعيوبهم تفعل من الجس لما فيه من معنى الطلب فإن جس الخبر طلبه والتفحص عنه فإذا نقل إلى باب التفعل يحدث معنى التكلف منضماً إلى ما فيه من معنى الطلب يقال جسست الأخبار أي تفحصت عنها وإذا قيل تجسستها يراد معنى التكليف كالتلمس فإنه تفعل من اللمس وهو المس باليد لتعرف حال الشيء فإذا قيل تلمس يحدث معنى التكلف والطلب مرة بعد أخرى وقد جاء بمعنى الطلب في قوله وأنا لمسنا السماء وقرىء بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ولتقاربهما بثال للمشاعر الحواس بالحاء والجيم وفي المفردات أصل الجس مس العرق وتعرف نبضه للحكم به على الصحة والسقم ومن لفظ الجس اشتق الجاسوس وهو أخص من الحس لأنه تعرف ما يدرك الحس والجس تعرف حال ما من ذلك وفي الإحياء التجسس بالجيم في تطلع الأخبار وبالحاء المهملة في المراقبة بالعين وفي إنسان العيون التحسس للإخبار بالحاء المهملة أن يفحص الشخص عن الأخبار بنفسه وبالجيم أن يفحص عنها بغيره وجاء تحسسوا ولا تجسسوا انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
وفي تاج المصادر التجسس والتحسس خبر جستن.
وفي القاموس : الجس تفحص الأخبار كالتجسس ومنه الجاسوس والجسيس لصاحب سر الشر ولا تجسسوا أي خذوا ما ظاهر ودعوا ما ستر الله تعالى أو لا تبحصوا عن بواطن الأمور أو لا تبحثوا عن العورات والحاسوس الجاسوس أو هو في الخير وبالجيم في الشر انتهى وفي الحديث لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته.
قال الصائب :
خيانتهاى نهان ميكشد آخر برسوايى
كه دزد خانكى راشحنه در يازار ميكيرد
وعن جبرائيل قال يا محمد لو كانت عبادتنا على وجه الأرض لعلمنا ثلاث خصال : سقي الماء للمسلمين وإعانة أصحاب العيال وستر الذنوب على المسلمين وعن زيد بن وهب قلنا لابن مسعود رضي الله عنه : هل لك في الوليد بن عقبة بن أبي معيط يعني ه ميكويى در حق او.
تقطر لحيته خمراً فقال ابن مسعود رضي الله عنه : أنا قد نهينا عن التجسس فإن يظهر لنا شيء نأخذه به وفي الحديث اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا والعورات بالتسكين جمع عورة
86
وهي عورة الإنسان وما يستحي منه من العثرات والعيوب وفي الحديث اللهم لا تؤمنا مكرك ولا تنسنا ذكرك ولا تهتك عنا سترك ولا تجعلنا من الغافلين وعنه عليه السلام من قال عند منامه هذا الدعاء بعث الله إليه ملكاً في أحب الساعات إليه فيوقظه كما في المقاصد الحسنة قال في نصاب الاحتساب ويجوز للمحتسب أن يتفحص عن أحوال السوقية من غير أن يخبره أحد بخيانتهم فإن قيل ينبغي أن لا يجوز لأنه تجسس منهي فنقول التجسس طلب الخير للشر والأذى وطلب الخبر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس كذلك فلا يدخل تحت النهي.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/70)
يقول الفقير وهو مخالف لما سبق عن ابن مسعود رضي الله عنه فإن قلت ذلك لكونه غير آمر ومأمور قلت : دل قوله تأخذوه به على ولايته من أي وجه كان إذ لا يأخذه إلا الوالي أو وكيله ويجوز أن يقال : لو طلب ابن مسعود خبر الوليد لنفسه للنهي عن المنكر لكان له وجه فلما جاء خبره في صورة السعاية والهتك أعرض عنه أو رأى الستر في حق الوليد أولى فلم يستمع إلى القائل وكان عمر رضي الله عنه يعس ذات ليلة فنظر إلى مصباح من خلل باب فاطلع فإذا قوم على شراب لهم فلم يدر كيف يصنع فدخل المسجد فأخرج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فجاء به إلى الباب فنظر وقال له : كيف ترى أن نعمل فقال : أرى والله أنا قد أتينا ما نهانا الله عنه لأنا تجسسنا واطلعنا على عورة قوم ستروا دوننا وما كان لنا أن نكشف ستر الله فقال : ما أراك إلا قد صدقت فانصرفا فالمحتسب لا يتجسس ولا يتسور ولا يدخل بيتاً بلا إذن فإن قيل ذكر في باب من يظهر البدع في البيوت أنه يجوز للمحتسب الخول بلا إذن فنقول ذلك فيما ظهر وأما إذا خفي فلا يدخل فإن ما ستره الله لا بد وأن يستره العبد هذا في عيوب الغير وأما عيوب النفس فالفحص عنها لازم للإصلاح والتزكي وقد عدوا انكشاف عيوب النفس أولى من الكرامات وخوارق العادات فإنه ما دام لم تحصل التزكي للنفس لا تفيد الكرامة شيئاً بل ربما يوقعها في الكبر والعجب والتطاول فنعوذ بالله تعالى من شرورها وفجورها وغرورها {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} الاغتياب غيبت كردن والغيبة بالكسر اسم من الاغتياب وفتح الغين غلط إذ هو بفتحها مصدر بمعنى الغيبوبة والمعنى ولا يذكر بعضكم بعضاً بالسوء في غيبته وخلفه وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنها فقال : أن تذكر أخاك بما يكره فإن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته أي قلت عليه ما لم يفعله والحاصل أن الغيبة والاغتياب هو أن يتكلم إنسان خلف إنسان مستور بما فيه من عيب أي بكلام صادق من غير ضرورة قوية إلى ذكره ولو سمعه لغمه وإن كان ذلك الكلام كذباً يسما بهتاناً وهو الذي يتر الديار بلاقع أي خرابا {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} انتصاب ميتاً عتلى الحالية من اللحم واللحم المنفصل عن الحي يوصف بأنه ميت لقوله عليه السلام ما أبين من حي فهو ميت وقيل من الأخ على مذهب من يجوز الحال من المضاف إليه مطلقاً وشدده نافع أي قرأ ميتاً بالتشديد والكلام تمثيل وتصوير لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعاً وعقلاً وشرعاً يعني شبه الاغتياب من حيث اشتماله على تناول عرض المغتاب بأكل لحم
87
الإنسان ميتاً تشبيهاً تمثيلياً وعبر بالهيئة المشبه بها عن الهيئة المشبهة ولا شك أن الهيئة المشبه بها أفحش جنس التناول وأقبحه فيكون التمثيل المذكور تصويراً للاغتياب بأقبح الصور وذلك أن الإنسان يتألم قلبه من قرض عرضه كما يتألم جسمه من قطع لحمه بل عرضه أشرف من لحمه ودمه فإذا لم يحسن للعاقل أكل لحوم الناس لم يحسن له قرض عرضهم بالطريق الأولى خصوصاً أن أكل الميتة المتاهى في كراهة النفوس ونفور الطباع ففيه إشارة إلى أن الغيبة عظيمة عند الله وفي قوله ميتاً إشارة إلى دفع وهم وهو أن يقال الشتم في الوجه يؤلم فيحرم وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلمه فكيف يحرم فدفعه بأن أكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً لا يؤلمه ومع هذا هو فيي غاية القبح لكونه بمراحل عن رعاية حق الأخوة كذا في حواشي ابن الشيخ.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
يقول الفقير : أن يقال أن الاغتياب وإن لم يكن مؤلماً للمغتاب من حيث عدم اطلاعه عليه لكنه في حكم الإيلام إذ لو سمعه لغمه على أنا نقول أن الميت متألم وإن لم يكن فيه روح كما أن السن وهو الضرس متألم إذا كان وجعاً وإن لم يكن فيه حياة فاعرف {فَكَرِهْتُمُوهُ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من التمثيل كأنه قيل وحيث كان الأمر كما ذكر فقد كرهتموه فأضمر كلمة قد لتصحيح دخول الفاء في الجزاء فالمقصود من تحقيق استكراههم وتقذرهم من المشبه به الترغيب والحث على استكراه ما شبه به وهو الغيبة كأنه قيل إذا تحققت كراهتكم له فليتحقق عندكم كراهة نظيره الذي هو الاغتياب {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما صدر عنكم من قبل وهو عطف عتلى ما تقدم من الأوامر والنواهي {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} مبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة حيث يجعل التائب كمن لم يذنب ولا يخص ذلك بتائب دون تائب بل يعم الجميع وإن كثرت ذنوبهم فصيغة المبالغة باعتبار المتعلقات.
(9/71)
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدم لهما إلى المنزل فيهيىء لهما طعامهما وشرابهما فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فلم يهيىء لهما شيئاً فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئاً فقال : لا غلبتني عيناي قالا له : انطلق إلى رسول الله فاطلب لنا منه طعاماً فجاء سلمان إلى رسول الله وسأله طعاماً فقال عليه السلام : انطلق إلى أسامة بن زيي وقل له إن كان عنده فضل من طعام فليعطك وكان أسامة خازن رسول الله على رحله وطعامه فأتاه فقال : ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا : كان عند أسامة شيء ولكن بخل به فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عنهم شيئاً فلما رجع قالوا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها وسميحة كجهينة بالحاء المهملة بئر بالمدينة غزيرة الماء على ما في القاموس ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله من الطعام فلما جاءا إلى رسول الله قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما والعرب تسمي الأسود أخرض والأخضر أسود وخضرة اللحم من قبيل الأول كأنه عليه السلام أراد باللحم لحم الميت وقد اسود بطول المكث تصوير الاغتياب بهما بأقبح الصور ويحتمل أنه عليه السلام أراد بالخضرة النضارة أي نضارة اللحم أو نضارة تناوله وفي الحديث الدنيا حلوة
88
خضرة نضرة أي غضة طرية ناعمة قالا : والله يا رسول ما تناولنا يومنا هذا لحماً قال عليه السلام ظللتما تأكلان لحم أسامة وسلمان أي أنكما قد اغتبتماهما فأنزل الله الآية :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
آنكس كه لواء غيبت افراخته است
از كوشت مردكان غدا ساخته است
وانكس كه بعيب خلق رداخته است
زانكست كه عيب خويش نشتاخته است
وفي الحديث الغيبة أشد من الزنى قالوا : وكيف؟ قال : إن الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه ما فيي كشف الأسرار وعن ابن عباس رضي الله عنهما الغيبة أدام كلاب الناس وكان أبو الطيب الطاهري يهجو بني سامان فقال له نضر بن أحمد : إلى متى تأكل خبزك بلحوم الناس فخجل ولم يعد.
قال الصائب :
كسى كه اك نسازد دهن زغيبت خلق
همان كليتد در دوزخست مسواكش
قال الشيخ سعدي في كتاب الكلستان : ياد دارم كه در عهد طفوليت متعب بودم وشب خيز ومولع زهد ويرهيز تاشبي درخدمت در نشسته بودم وهمه شب ديده بهم نبسته ومصحف عزيز دركنار كرفته وطائفة كردما خفته در را كفتم كه ازاينان يكى سر برنمى آردكه دو ركعت نماز بكزارد ودر خواب غفلت نان رفته اندكه كويى نخفته اند بلكه مره كفت اى جان درا كر تونيز بحفتى به كه دروستين خلق افتى :
اكر شم دلت را بركشايى
نه بينى هي كس عاجز تراز خويش
وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل فقال : هم الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" وفي الحديث خمس يفطرون الصائم الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة رواه أنس وأول من اغتاب إبليس اغتاب آدم وكان ابن سيرين رحمه الله قد جعل على نفسه إذا اغتاب أن يتصدق بنار ومما يجب التنبيه له أن مستمع الغيبة كقائلها فوجب على من سمعها أن يردها كيف وقد قال النبي عليه السلام : "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة" وقال عليه السلام : "المغتاب والمستمع شريكان في الإثم" وعن ميمون أنه أتى بجية زنجي في النوم فقيل له : كل منها فقال : لم قيل : لأنك اغتبت عب فلان فقال : ما قلت فيه شيئاً قيل : لكنك استمعت ورضيت فكان ميمون لا يغتاب أحداً ولا يدع أحداً أن يغتاب عنده أحداً وعن بعض المتكلمين ذكره بما يستخف به إنما يكون غيبة إذا قصد الأضرار والشماتة به أما إذا ذكره تأسفاً لا يكون غيبة وقال بعضهم : رجل ذكر مساويء أخيه المسلم على وجه الاهتمام ومثله في الواقعات وعلل بأنه إنما يكون غيبة أن لو أراد به السب والنقص قال السمرقندي في تفسيره قلت : فيما قالوه خطر عظيم لأنه مظنة أن يجر إلى ما هو محض غيبة فلا يؤمن فتركها رأساً أقرب إلى التقوى وأحوط انتهى.
وفي هدية المهديين رجل لو اغتاب فريقاً لا يأثم حتى يغتاب قوماً معروين ورجل يصلي ويؤذي الناس بالي أو اللسان لا غيبة له إن ذكر بما فيه وإن أعلم به السلطان حتى يزجره لا يأثم انتهى وفي
89
المقاصد الحسنة ثلاثة ليست لهم غيبة الإمام الجائر والفاسق المعلن بفسقه والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته انتهى وعن الحسن لا حرمة لفاجر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/72)
ـ وروي ـ من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له واذكر الفاجر بما فيه ليحذره الناس كما في الكواشي وإذا جاز نقص عرض الفاسق بغيبته فأولى أن يجوز نقص عرض الكافر كما في شرح المشارق لابن الملك وسلك بعضهم طريق الاحتياط فطرح عن لسانه ذكر الخلق بالمساوي مطلقاً كما حكي أنه قيل لابن سيرين : مالك لا تقول في الحجاج شيئاً فقال : أقول فيه حتى ينجيه الله بتوحيده ويعذبني باغتيابه ومن هنا أمسك بعضهم عن لعن يزيد وكان فضيل يقول : ما لعنت إبليس قط أي وإن كان ملعوناً في نفس الأمر كما نطق به القرآن فكيف يلعن من اشتبه حاله وحال خاتمته وعاقبته يا اأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى} أي من آدم وحواء عليهما السلام أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء في الانتساب إلى ذكر وأنثى أياً كانا فلا وجه للتفاخر بالنسب :
الناس من جهة التمثال اكفاه
ابو همو آدم والام حواء
فان يكن لهمو من أصلهم نسب
يفاخرون به فالطين والماء
از نسب آدمياني كه تفاخر ورزند
ازره دانش وانصاف ه دور افتادند
نرسد فخر كسى رابنسب برد كرى
ونكه دراصل زيك آدم وحوازادند
نزلت حين أمر النبي عليه السلام بلالاً رضي الله عنه ليؤذن بعد فتح مكة فعلا ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسيد وكان من الطلقاء : الحمد الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم وقال الحارث بن هشام : أما وجد رسول الله سوى هذا الغراب يعني بلالاً وخرج أبو بكر بن أبي داود في تفسير القرآن أن الآية نزلت في أبي هند حين أمر رسول الله بني بياضة أن يزوجوه امرأة منهم فقالوا : يا رسول الله تتزوج بناتنا مواليها فنزلت وفيه إشارة إلى أن الكفاءة في الحيقة إنما هي بالداينة أي الصلاح والحسب والتقوى والعدالة ولو كان مبتدعاً والمرأة سنية لم يكن كفؤاً لها كما في النتف وسئل الرستغفني عن المناكحة بين أهل السنة وبين أهل الاعتزال فقال : لا يجوز كما في مجمع الفتاوى {وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآاـاِلَ} وشمارا شاخ شاخ كرديم وخاندان خانان.
والشعب بفتح الشين الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد وهو يجمع القبائل والقبيلة تجمع العمائر والعمارة بكسر العين تجمع البطون والبطون تجمع الأفخاذ والفخذ تجمع الفضائل والفضيلة تجمع العشائر وليس بعد العشيرة حييوصف به كما في كشف الأسرار فخزيمة شعب وكنانة وقبيلة وقريش عمارة وقصى بطن وهاشم فخذوا العباس فضيلة وسميت الشعوب لأن القبائل تتشعب منا كتشعب أغصان الشجرة وسميت القبائل لأنها يقبل بعضها على بعض من حيث كونها من أب واحد وقيل الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب والأسباط من بني إسرائيل والشعوب من قحطان والقبائل من عدنان {لِتَعَارَفُوا} أصله لتتعارفوا حذفت إحدى التاءين أي ليعرف بعضكم بعضاً بحسب الإنسان فلا يعتزي أحد إلى غير آبائه لا لتتفاخروا بالآباء والقبائل وتدعوا التفاوت
90
والتفاضل في الأنساب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
وقال الكاشفي : يعني دوكس كه بنام منتحد باشن بقيله متميز ميشوند نانه زيد تميمي از زيد قرشي {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ} تعليل للنهي عن التفاخر بالأنساب المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف التحقيقي كأن قيل إن الأكرم عنده تعالى هو الأتقى وإن كان عبداً حبشياً أسود مثل بلال فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى وبفضل الله ورحمته بل بالله تعالى ألا ترى إلى قوله عليه السلام : "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" أي ليس الفخر ليس بالسيادة والرسالة بل العبودية فإنها شرف أي شرف وكفى شرفاً تقديم العبد على الرسول في قوله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(9/73)
ـ وروي ـ أن رسول الله عليه السلام مر في سوق المدينة فرأى غلاماً أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله فاشتراه رجل فكان رسول الله يراه عند كل صلاة ففقده فسأل عنه صاحبه فقال : محموم فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقيل هو كابه أي متهيىء للموت الذي هو لاحق به فجاءه وهو في بقية حركته وروحه فتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت الآية {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ} بكم وبأعمالكم {خَبِيرٌ} ببواطن أحوالكم قال ابن الشيخ في حواشيه والنسب وإن كان معتبراً عرفاً وشرعاً حتى لا تتزوج الشريفة بالنبطي قال في القاموس النبط محركة جيل ينزلون بالبطائح بين العراقين وهو نبطي محركة انتهى إلا أنه لا عبرة به عند ظهور ما هو أعظم قدراً منه وأعز وهو الإيمان والتقوا كما لا تظهر الكواكب عند طلوع الشمس فالفاسق وإنك ان قرشي النسب وقارون النشب لا قدر له عند المؤمن التقي وإن ك ان عبداً حبشياً والأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لكن النسب أعلاها من حيث أنه ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له ذلك بخلاف غيره كالمال مثلاً فإنه قد يحصل للفقير مال فيبطل افتخار المفتخر به عليه وكذا الأولاد والبساتين ونحوها فلذلك خص الله النسب بالذكر وأبطل اعتبار غيره بطريق الأولى انتهى وفي الحديث أن ربكم واحد وأبوكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى وعلى هذا إجماع العلماء كما في بحر العلوم هركرا تقوى بيشتر قدم أودر مرتبه فضل يشتر.
الشرف بالفضل والأدب لا بالأصل والنسب :
با دب باش تا بزرك شوى
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
كه بزركى نتيجة ادبست
قال بعض الكبار : المفاضلة بين الخلق عند الله لنسبتهم فهم من حيث النسبة واحد ومن حيث النسب متفاضلون إن أرمكم عند الله أتقاكم ولا يصح التفاضل بالأعمال فقد يسبق التابع المتبوع ولوك ان الشرف للأشياء من حيث شأنها أو مواطنها لكان الشرف لإبليس على آدم في قوله : خلقتني من نار وخلقته من طين ولكن لما كان الشرف اختصاصاً إلهياً لا يعرف إلا من جانب الحق تعالى جهل إبليس في مقالته تلك وصح الشرف لآدم عليه السلام والخيرية وسئل عيسى عليه السلام : أي الناس أشرف فقبض قبضتين من تراب ثم قال : أي هذين أشرف ثم جمعهما وطرحهما وقال الناس : كلهم من تراب وأكرمهم عند الله أتقاكم قال سليمان الفارسي رضي الله عنه :
91
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم
وفي الحديث أن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم :
ره راست باينه بالاى راست
كه كافر هم از روى صورت وماست
وقال عليه السلام : "ياأيها الناس إنما الناس رجل مؤمن تقي كريم على الله وفاجر تقي هين على الله" وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى.
ـ وروي ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس يحشرون يوم اليامة ثم يوقفون ثم يقول الله لهم : طالما كنتم تكلمون وأنا ساكت فاسكتوا اليوم حتى أتكلم إني رفعت نسبي وأبيتم إلا أنسابكم قلت : إن أكرمكم عني أتقاكم وأبيتم أنتم فقلتم لا بل فلان ابن فلان وفلان ابن فلان فرفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم سيعاهل الجمع اليوم من أصحاب الكرم أين المتقون كما فيي كشف الأسرار قال الكاشفي : أربعة لا يعبأ الله بهم يوم القيامة : زهد خصى وتقوى جندي وأمانة امرأة وعبادة صبي وهو محمول على الغالب كما في المقاصد الحسنة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/74)
قال في التأويلات النجمية يشير بقوله تعالى : ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى إلى خلق القلوب إنها خلقت من ذكر وهو الروح وأنثى وهي النفس وجعلناكم شعوباً وقبائل أي جعلناها صنفين : صنف منها شعوب وهي التي تميل إلى أمها وهي النفس والغالب عليها صفات النفس وصنف منها قبائل وهي التي تميل إلى أبيها وهو الروح والغالب عليها صفات الروح لتعارفوا أي لتتعارفوا أصحاب القلوب وأرباب النفوس لا لتتكاثروا وتتنافسوا وتباهوا بالعقول والأخلاق الروحانية الطبيعية فإنها ظلمانية لا يصلحج شيء منها للتفاخر به ما لم يقرن به الإيمان والتقوى فإن تنورت الأفعال والأخلاق والأحوال بنور الإيمان والتقوى فلم تكن الأفعال مشوبة بالرياء ولا الأخلاق مصحوبة بالأهواء ولا الأحوال منسوبة إلى الإعجاب فعند ذلك تصلح للتفاخر والمباهاة بها كما قال تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقال عليه السلام : "الكرم التقوى فأتاهم من يكون أبعدهم من الأخلاق الإنسانية وأقربهم إلى الأخلاق الربانية والتقوى هو لتحرز والمتقي من يتحرز عن نفسه بربه وهو أكرم على الله من غيره" انتهى.
{قَالَتِ الاعْرَابُ ءَامَنَّا} الأعراب أهل البادية وقد سبق تفصيله في سورة الفتح وإلحاق التاء بالفعل المسند إليهم مع خلوه عنها في قوله وقال نسوة في المدينة للدلالة على نقصان عقلهم بخلاهن حيث لمن امرأة العزيز في مراودتها فتاها وذلك يليق بالعقلاء نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدب فأظهروا الشهادتين فكانوا يقولون لرسول الله عليه السلام : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وأتيناك بالأثقال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك بنوا فلان يرون الصدق ويمنون عليه عليه السلام ما فعلوا {قُلْ} رداً لهم {لَّمْ تُؤْمِنُوا} إذ الإيمان هو التصديق بالله وبرسوله المقارن للثقة بحقيقة المصدق وطمأنينة القلب ولم يحصل لكم ذلك وإلا لما مننتم على ما ذكرتم من الإسلام وترك المقاتلة كما ينبىء عنه آخر السورة يعني أن التصديق الموصوف مسبوق بالعلم بقبح الكفر وشناعة المقاتلة وذلك بأبي المن وترك المقاتلة فإن العاقل لا يمن
92
بترك ما يعلم قبحه {وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} أسلم بمعنى دخل في السلم كأصبح وأمسى وأشتى أي قولوا دخلنا في السلم والصلح والانقياد مخافة أنفسنا فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادة وترك المحاربة مشعر به أي بالانقياد والدخول المذكور وإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا أولم تؤمنوا ولكن أسلمتم ليتقابل جملتا الاستدراك للاحتراز عن النهي عن التلفظ بالإيمان فإن ظاهره مستقبح سيما ممن بعث للدعوة إلى القول به وللتفادي عن إخراج قولهم مخرج التسليم والاعتداد به مع كونه تقولاً محضاً قال سعدي المفتي والظاهر أن النظم من الاحتباك حذف من الأول ما يقابل الثاني ومن الثاني ما يقابل الأول والأصل قل لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا ولكن أسلمتم فقولوا أسلمنا وهذا من اختصارات القرآن
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
{وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ} حال من ضمير قولوا أي ولكن قولوا أسلمنا حال عدم مواطأة قلوبكم لألسنتكم وما في لما من معنى التوقع مشعر بأن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد {وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بالإخلاص وترك النفاق {لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَـالِكُمْ شَيْـاًا} أي لا ينقصكم شيئاً من أجورها من لات يليت ليتا إذا نقص قال الإمام معنى قوله لا يلتكم أنكم إن أتيتم بما يليق بضعفكم من الحسنة المقرونة بالإخلاص وترك النفاق فهو تعالى يأتكم بما يليق بفضله من الجزاء لا ينقص منه نظراً إلى ما في حسناتكم من النقصان والتقصير وهذا لأن من حمل إلى ملك فاكهة طيبة يكون ثمنها في السوق درهماً مثلاً وأعطاه الملك درهماً أو ديناراً انتسب الملك إلى قلة العطاء بل إلى البخل فليس معنى الآية أن يعطي من الجزاء مثل عملكم من غير نقص بل المعنى يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص ويؤيد ما قاله قوله تعالى : {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لما فرط من المطيعين {رَّحِيمٌ} بالتفضل عليهم قال في بحر العلوم في الآية إيذان بأن حقيقة الإيمان التصديق بالقلب وإن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالإيذان ليس بأيمان.
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن حقيقة الإيمان ليست مما يتناول باللسان بل هو نور يدخل القلوب إذا شرح الله صدر العبد للإسلام كما قال تعالى فهو على نور من ربه وقال عليه السلام في صفة ذلك النور إذا وقع في القلب انفسخ له واتسع قيل يا رسول الله هل لذلك النور علامة يعرف بها؟ قال : بلى التجا في عن دارالغرور والإنابة إلى دار الخلود واستعداد الموت قبل نزوله ولهذا قال تعالى ولما يدخل الإيمان في قلوبكم فهذا دليل على أن محل الإيمان القلب انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/75)
وفي علم الكلام ذهب جمهور المحققين إلى أن الإيمان التصديق القلب وإنما الإقرار شرط لا جزؤه لإجراء الأحكام في الدنيا كالصلاة عليه في وقت موته لما أن تصديق القلب أمر باطن لا يطلع عليه أحد لا بد له من علامة فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن عند الله لوجود التصديق القلبي وإن لم يكن مؤمناً في أحكام الدنيا لانتفاء شرطه وأما من جعل الإقرار ركناً من الإيمان فعنده لا يكون تارك الإقرار مؤمناً عند الله ولا يستحق النجاة من خلود النار ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق هو مؤمن في أحكام الدنيا وإن لم يكن مؤمناً عند الله وهذا المذكور من أن الإيمان هو التصديق القلبي والإقرار باللسان لإجراء الأحكام هو اختيار الشيخ أبي
93
منصور رحمه الله والنصوص معاضدة لذلك قال الله تعالى : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وقال الله تعالى وقلبه مطمئن بالإيمان وقال الله تعالى ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وقال عليه السلام : "اللهم ثبت قلبي على دينك أي على تصديقك" وقال عليه السلام لعلي رضي الله عنه حين قتل : "من قاللا إله إلا الله هل شققت قلبه" وفي فتح الرحمن حقيقة الإيمان لغة التصديق بما غاب وشرعاً عند أبي حنيفة رحمه الله تصديق بالقلب وعمل باللسان وعند الثلاثة عقد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالأركان فدخل كل الطاعات انتهى قال ابن الملك في شرح المشارق ثم الإقرار باللسان ليس جزء من الإيمان ولا شرطاً له عند بعض علمائنا بل هو شرط لإجراء أحكان المسلمين على المصدق لأن الإيمان عمل القلب وهو لا يحتاج إلى الإقرار وقال بعضهم : إنه جزء منه لدلالة ظواهر النصوص عليه إلا أن الإقرار لما كان جزءاً له شائبة العرضية والتبعية اعتبروا في حالة الاختيار جهة الجزئية حتى لا يكون تاركه مع تمكنه منه مؤمناً عند الله وإن فرض أنه مصدق وفي حالة الاضطرار جهة العرضية فيسقط وهذا معنى قولهم الإقرار ركن زائد إذ لا معنى لزيادته إلا أن يحتمل السقوط عند الإكراه على كلمة الكفر فإن قيل ما الحكمة في جعل عمل جارحة جزء من الإيمان ولم عين به عمل اللسان دون أعمال سائر الأركان قلنا لما اتصف الإنسان بالإيمان وكان التصديق عملاً لباطنه جعل عمل ظاهره داخلاً فيه تحقيقاً لكمال اتصافه به وتعين له فعل اللسان لأنه مجبول للبيان أو لكونه أخف وأبين من عمل سائر الجسد نعم يحكم بإسلام كافر لصلاته بجماعة وإن لم يشاهد إقراره لأن الصلاة المسنونة لا تخلو عنه وقال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام المقدسي : النطق بكلمتي الشهادة واجب فمن علم وجوبها وتمكن من النطق بهما فلم ينطق فيحتمل أن يجعل امتناعه من النطق بهما كامتناعه من الصلاة فيكون مؤمناً غير مخلد في النار لأن الإيمان هو التصديق المحض بالقلب واللسان ترجمانه وهذا هو الأظهر إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان" ولا يعدم الإيمان من القلب بالسكوت عن النطق الواجب كما لا يعدم بترك الفعل الواجب انتهى.
وقال سهل رضي الله عنه : ليس في الإيمان أسباب إنما الأسباب في الإسلام والمسلم محبوب للخلق والمؤمن غني عن الخلق وقال بعض الكبار : المسلم في عموم الشريعة من سلم الناس من لسانه ويده وفي خصوصها من سلم كل شيء من لسانه بما يعبر عنه ويده فيما له فيه نفوذ اقتدار والمؤمن منور الباطن وإن عصى والكافر مظلم الباطن وإن أتى بمكارم الأخلاق ومن قال أنا مؤمن إن شاء الله فما عرف الله كما ينبغي وقال بعض الكبار : كل من آمن عن دليل فلا وثوق بإيمانه لأنه نظري لا ضروري فهو معرض للشبه القادحة فيه بخلاف الإيمان الضروري الذي يجده المؤمن في قلبه ولا يقدر على دفعه وكذا القول في كل علم حصل عن نظر وفكر فإنه مدخول لا يسلم من دخول الشبه عليه ولا من الحيرة فيه ولا من القدح في الأمر الموصل إليه ولا بد لكل محجوب من التقليد فمن أراد العلم الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فليكثر من الطاعات والنوافل حتى يحبه الحق فيعرف الله بالله ويعرف جميع أحكام الشريعة بالله لا بعقله ومن لم يكثر مما ذكر
94
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/76)
فليقلد ربه فيما أخبر ولا يؤول فإنه أولى من تقليد العقل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} أي آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لمن صدقوه واعترفوا بأن الحق معه من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك في الخبر مع التهمة للمخبر فظهر الفرق بين الريب والشك فإن الشك تردد بين نقيضين لا تهمة فيه وفيه إشارة إلى أن فيهم ما يوجب نفي الإيمان عنهم وهو الاتياب وثم للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس في حال إنشائه فقط بل وفيما يستقبل فهي كما في قوله تعالى ثم استقاموا {وَجَـاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} في طاعته على تكثير فنونها من العبادات البدنية المحضة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معاً كالحج والجهاد {أولئك} الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجميلة {هُمُ الصَّـادِقُونَ} أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا غيرهم فهو قصر أفراد وتكذيب لأعراب بني أسد حيث اعتقدوا الشركة وزعموا أنهم صادقون أيضاً في دعوى الإيمان.
واعلم أن الآية الكريمة شاملة لمجامع القوى التي وجب على كل أحد تهذيبها وأصلاحها تظهيراً لنفسه الحاصل به الفوز بالفلاح والسعادة كلها كما قال تعالى : قد أفلح من زكاها وهي قوة التفكر وقوة الشهوة وقوة الغضب اللاتي إذا أصلحت ثلاثتها وضبطت حصل العدل الذي قامت به السموات والأرض فإنها جميع مكارم الشريعة وتزكية النفس وحسن الخلق المحمود ولأصالة الأولى وجلالتها قدمت على الأخيرتين فدل بالإيمان بالله ورسوله مع نفي الارتياب على العلم اليقيني والحكمة الحقيقية التي لا يتصور حصولها إلا بإصلاح قوة التفكر ودل بالمجاهدة بالأموال على العفة والجود التابعين بالضرورة لإصلاح قوة الشهوة وبالمجاهدة بالأنفس على الشجاعة والحلم التابعين لإصلاح قوة الحمية الغضبي وقهرها وإسلامها للدين وعليه دل قوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين فإن العفو عمن ظلم هو كمال الحلم والشجاعة وإعطاء من حرم كمال العفة والجود ووصل من قطع كمال الفضلة والإحسان.
واعلم أيضاً أن جميع كمالات النفس الإنسانية محصورة في القوى الثلاث وفضائلها الأربع إذ العقل كماله العلم والعفة كالها الورع والشجاعة كمالها المجاهدة والعدل كماله الإنصاف وهي أصول الدين على التحقيق وفي الآية رد للدعوى وحث على الاتصاف بالصدق قال بعضهم : لولا الدعاوى ما خلقت المهاوي فمن ادعى فقد هوى فيها وإن كان صادقاً ألا تراه يطالب بالبرهان ولو لم يدع ما طولب بدليل.
قال الحافظ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
حديث مدعيان وخيال همكاران
همان حكايت زرد وزو بور يابافست
وفي الحديث يا أبا بكر عليك بصدق الحدث والوفاء بالعهد وحفظ الأمانة فإنها وصية الأنبياء.
قال الحافظ :
طريق صدق بياموز ازاب صافي دل
بر استى طلب آزادكى وسر ومن
وأتى رسول الله التجار فقال : يا معشر التجار إن الله باعثكم يوم القيامة فجاراً إلا من صدق ووصل وأدى الأمانة وفي الحديث التجار هم الفجار قيل ولم يا رسول الله وقد أحل الله البيع فقال : لأنهم يحلفون فيأثمون ويتحدثون فيكذبون.
قال الصائب :
95
كعبه دركام نخستين كند استقبالت
از سر صدق اكر همنفس دل باشى
فإذا صدق الباطن صدق الظاهر إذ كل إناء يترشح بما فيه وكل أحد يظهر ما فيه بفيه {قُلْ} .
ـ روي ـ أنه لما نزلت الآية السابقة جاء الأعراب وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون فنزل لتكذيبهم قله تعالى : قل يا محمد لهم : {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} دخلت الباء لأن هذا التعليم بمعنى الإعلام والإخبار أي أتخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه بقولكم آمنا والتعبير عنه بالتعليم لغاية تشنيعهم والاستفهام فيه للتوبيخ والإنكار أي لا تعرفوا الله بدينكم فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء وفيه إشارة إلى أن التوقيف في الأمور الدينية معتبر واجب وحقيقتها موكولة إلى الله فالأسامي منه تؤخذ والكلام منه يطلب وأمره يتبع {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} حال من فاعل تعلمون مؤكدة لتشنيعهم {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يحتاج إلى إخباركم تذييل مقرر لما قبله أي مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان وفيه مزيد تجهيل وتوبيخ لهم حيث كانوا يجتهدون في ستر أحوالهم وإخفائها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
(9/77)
وفي التأويلات التجمية والله يعلم ما في سموات القلوب من استعدادها في العبودية وما في أرض النفوس من تمردها عن العبودية والله بكل شيء جبلت القلوب والنفوس عليه عليم لأنه تعالى أودعه فيها عند تخمير طينة آدم بيده انتهى قال بعض الكبار : لا تضف إلى نفسك حالاً ولا مقاماً ولا تخبر أحداً بذلك فإن الله تعالى كل يوم هو في شأن في تغيير وتبديل يحول بين المرء وقلبه فربما أزالك عما أخبرت به وعزلك عما تخليت ثباته فتخجل عند من أخبرته بذلك بل احفظ ذلك ولا تعلمه إلى غيرك فإن كان الثبات والبقاء علمت أنه موهبة فلتشكر الله ولتسأله التوفيق للشكر وإن كان غير ذلك كان فيه زيادة علم ومعرفة ونور تيقظ وتأديب انتهى فظهر من هذا أن الإنسان يخبر غالباً بما ليس فيه أو بما سيزول عنه والعياذ بالله من سوء الحال ودعوى الكمال قال بعضهم : إياكم ثم إياكم والدعوات الصادقة والكاذبة فإن الكاذبة تسود الوجه والصادقة تطفى نور الإيمان أو تضعفه وإياكم والقول بالمشاهدات والنظر إلى الصور المستحسنات فإن هذا كله نفوس وشهوات ومن أحدث في طريق القوم ما ليس فيها فليس هو منا ولا فينا فاتبعوا ولا تبتدعوا وأطيعوا ولا تمرقوا ووحدوا ولا تشركوا وصدقوا الحق ولا تشكوا واصبروا ولا تجزعوا واثبتوا ولا تتفرقوا واسألوا ولا تسأموا وانتظروا ولا تيأسوا وتواخوا ولا تعادوا واجتمعوا على الطاعة ولا تفرقوا وتطهروا من الذنوب ولا تلطخوا وليكن أحدكم بواب قلبه فلا يدخل فيه إلا ما أمره الله به وليحذر أحدكم ولا يركن وليخف ولا يأمن وليفتش ولا يغفل {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} أي يعدون إسلامهم منة عليك وهي النعمة التي لا يطلب موليها ثواباً ممن أنعم بها عليه من المن بمعنى القطع لأن المقصود به قطع حاجته مع قطع النظر أن يعوضه المحتاج بشيء وقيل : النعمة الثقيلة من المن الذي يوزن به وهو رطلان يقال من عليه منة أي أثقله بالنعمة قال الراغب : المنة النعمة الثقيلة ويقال ذلك على وجهين : أحدهما أن يكون ذلك بالفعل فيقال من فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة وعلى ذلك قوله
96
تعالى لقد منّ الله على المؤمنين وذلك في الحقيقة لا يكون إلا تعالى والثاني أن يكون ذلك بالقول وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة ولقبح ذلك قيل : المنة تهدم الصنيعة ولحسن ذكرها عند الكفران قيل إذا كفرت النعمة حسنت المنة وقوله تعالى يمنون عليك الخ فالمنة منهم بالقول ومنة الله عليكم بالفعل وهو هدايته إياهم
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
{قُل لا تَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلَـامَكُمْ} أي لا تعدوا إسلامكم منة علي أو لا تمنوا علي بإسلامكم فنصبه بنزع الخافض {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاـاكُمْ لِلايمَـانِ} على ما زعمتم من أنكم أرشدتم إليه وبالفارسية بلكه خداي تعالى منت مينهد برشما كه راه نموده است شمار بايمان {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في ادعاء الإيمان وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم وفي سياق النظم الكريم من اللطف ما لا يخفى فإنهم لما سمعوا ما صدر عنهم ءيماناً ومنوا به نفى كونه إيماناً وسماه إسلاماً فقال : يمنون عليك بما هو في الحقيقة إسلام أي دخول في السلم ولي بجير بالمنة لأنه ليس له اعتداد شرعاً ولا يعد مثله نعمة بل لو صح ادعاؤهم للإيمان فلله المنة عليهم بالهداية إليه لا لهم وسئل بعض الكبار عن قوله تعالى : بل الله يمن عليكم مع أنه تعالى جعل المن إذا وقع منا على بعضنا من سفساف الأخلاق فقال في جوابه : هذا من علم التطابق ولم يقصد الحق به المن حقيقة إذ هو الكريم الجواد على الدوام على من أطاع وعلى من عصى وفي الحديث ما كان الله ليدلك على مكارم الأخلاق ويفعل معكم خلاف ذلك وفي الحديث أيضاً ما كان الله لينهاكم عن الرياء ويأخذه منكم قال ذلك لمن قال له يا رسول الله إني صليت بالتيمم ثم وجدت الماء أفأصلي ثانياً فمعنى الآية إذا دخلتم في حضرة المن على رسولكم بإسلامكم فالمنلا لكم وإن وقع منكم شيء من سفساف الأخلاق رد الحق أعمالكم عليكم لا غير.
وفي التأويلات النجمية : يمنون عليك إن استسلموا لك ظاهرهم قل لا تمنوا على إسلامكم أي تسليم ظاهركم لي لأنه ليس هذا من طبيعة نفوسكم المتمردة بل الله يمن عليكم إن هداكم للإيمان إذا كتب في قلوبكم الإيمان فانعكس نور الإيمان من مصباح قلوبكم إلى مشكاة نفوسكم فتنورت واستضاءت بنور الإسلام فإسلامكم في الظاهر من فرع الإيمان الذي أودعته في باطنكم إن كنتم صادقين أي إن كنتم صادقين في دعوى الإيمان انتهى قال الجنيد رحمه الله : المن من العباد تقريع وليس من الله تقريعاً وإنما هو من الله تذكير النعم وحث على شكر المنعم.
قال الشيخ سعدي :
شكر خداى كن كه موفق شدى بخير
زانعام وفضل اونه معطل كذاشت
منت منه كه خدمت سلطان همي كنى
منت شناس ازوكه بخدمت بداشتت
(9/78)
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه {وَاللَّهُ بَصِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} في سركم وعلانيتكم فيكف يخفى عليه ما في ضمائركم وقال بعض الكبار : والله بصير بما تعملون في الظاهر أنه من نتائج ما أودعه في باطنكم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
درزمين كرنى شكرور خودنى است
ترجمان هرزمين نبت وى است
فمن لاحظ شيئاً من أعماله وأحواله فإن رآها من نفسه كان شركاً وإن رآها لنفسه كان مكراً وإن رآها من ربه بربه لربه كان توحيداً وفقنا الله لذلك بمنه وجوده قال البقلى ليس لله
97
غيب إذ الغيب شيء مستور غيب إذ الغيب شيء مستور وجميع الغيوب عيان له تعالى وكيف يغيب عنه وهو موجده يبصره ببصره القديم والبصر هناك واحد قال في كشف الأسرار إز سورة الحجرات تا آخر قرآن مفصل كويند.
وبه قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم أن الله أَطاني السبع الطول مكان التوراة والسبع الطول كصرد من البقرة إلى الأعراف والسابعة سورة يونس أو الأنفال وبراءة جميعاً لأنهما سورة واحدة عنده كما في القاموس وأعطاني الما بين مكان الإنجيل وأعطاني مكان الزبور والمثاني وفضلني ربي بالمفصل وفي رواية أخرى قال عليه السلام إني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى عليه السلام وأعطيت فواتح الكتاب وخواتيم البقرة من تحت العرش والمفصل ناقلة أي عطية.
وفي فتح الرحمن سورة الحجرات أول المفصل على الراجح من مذهب الشافعي وأحد الأقوال المعتمدة عن أبي حنيفة وعنه قول آخر معتمدات أو له قوله ق قاله عليه السلام : "فضلني ربي بالمفصل" والمفصل من القرآن ما هو بعد الحواميم من قصار السور إلى آخر القرآن وسميت مفصلاً لكثرة المفصولات فيها بسطر بسم الله الرحمن الرحيم لأنها سور قصار يقرب تفصيل كل سورة من الأخرى فكثر التفصيل فيها انتهى وقال بعضهم : المفصل السبع السابع سمي به لكثرة فصوله وهو من سورة محمد أو الفتح أو ق إلى آخر القرآن وطوال المفصل إلى البروج والأوساط منها إلى لم يكن والقصار منها إلى الآخر وقيل :
طوال از لا تقدم تا عبس دان
س اوسط از عبس تالم يكن خوان
قصار از لم يكن تا آخر آيد
بخوان اين نظم را تا كردد آسان
والذي عليه الجمهور أن طوال المفصل من سورة الحجرات إلى سورة البروج والأوساط من سورة البروج إلى سورة لم يكن والقصار من سورة لم يكن إلى آخر القرآن.
ـ روي ـ أن القراء لما قسموا القرآن في زمن الحجاج إلى ثلاثين جزاء قسموه أيضاً إلى سبعة أقسام وعن السلف الصالحين من ختم على هذا الترتيب الذي نذكره ثم دعا تقبل حاجته وهو الترتيب الذي كان يفعله عثمان رضي الله عنه يقرأ يوم الجمعة من أوله إلى سورة الأنعام ويوم السبت من سورة الأنعام إلى سورة يونس ويوم الأحد من سورة يونس إلى سورة طه ويوم الاثنين من سورة طه إلى سورة العنكبوت ويوم الثلاثاء من سورة العنكبوت إلى سورة الزمر ويوم الأربعان من سورة الزمر إلى سورة الواقعة ويوم الخميس من سورة الواقعة إلى آخره وقيل أحزاب القرآن سبعة الحزب الأول ثلاث سور والثاني خمس سورة والثالث سبع سور والرابع تسع سور والخامس إحدى عشرة سورة والسادس ثلاث عشرة سورة والسابع المفصل من ق وفي فتح الرحمن وأحزاب القرآن ستون قيل إن الحجاج لما جد في نقط المصحف زاد تحزيبه وأمر الحسن ويحيى بن يعمر بذلك وأما وضع الأعشار فيه فحكي أن المأمون العباسي أمر بذلك وقيل إن الحجاج فعل ذلك وكانت المصاحف العثمانية مجردة من النقط والشكل فلم يكن فيها أعراب وسبب ترك الأعراب فيها والله أعلم استغناؤهم عنه فإن القوم كانوا عرباً لا يعرفون اللحن ولم يكن في زمنهم نحو وأول من وضع النحو وجعل الأعراب في المصاحف أبو الأسود الدؤلي التابعي البصري.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
ـ حكي ـ أنه سمع قارئاً أن الله بريء من المشركين ورسوله بكسر
98
(9/79)
اللام فأعظمه ذلك وقال عز وجه الله أن يبرأ من رسوله ثم جعل الأعراب في المصاحف وكان علاماته نقطاً بالخمر غير لون المداد فكانت علامة الفتحة نقطة فوق الحرف وعلامة الضمة نقطة في نفس الحرب وعلامة الكسرة نقطة تحت الحرف وعلامة الغنة نقطتين ثم أحدث الخليل بن أحمد الفراهيدي بعد هذا هذه الصور الشدة والمدة والهمزة وعلامة الكون وعلامة الوصل ونقل الأعراب من صورة النقط إلى ما هو عليه الآن وأما النقط فاول من وضعها بالمصحف نصر بن عاصم الليثي بأمر الحجاج بن يوسف أمير العراق وخراسان وسببه أن الناس كانوا يقرأون في مصحف عثمان نيفاً وأربعين سنة إلى يوم عبد الملك بن مروان ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق فأمر الحجاج أن يضعوا لهذه الأحرف المشتبهة علامات فقام بذلك نصر المذكور فوضع النقط أفراداً وأزواجاً وخالف بين أماكنها وكان يقال له نصر الحروف وأول ما أحدثوا النقط على الباء والتاء وقالوا لا بأس به هو نور له ثم أحدثوا نقطاً عند منتهى الآي ثم أحدثوا الفواتح والخواتم فأبوا الأسود هو السابق إلى أعرابه والمبتدىء به ثم نصر بن عاصم وضع النقط بعده ثم الخليل بن أحمد نقل الأعراب إلى هذه الصورة وكان مع استعمال النقط والشكل يقع التصحيف فالتمسوا حبلة فلم يقدروا فيها إلا على الآخذ من أفواه الرجال بالتلقين فانتدب جهابذة علماء الأمة وصناديد الأئمة وبالغوا في الاجتهاد وجمعوا الحروف والقراءات حتى بينوا الصواب وأزالوا الأشكال رضي الله عنهم أجمعين وأول من خط بالعربية يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وأول من استخرج الخط المعروف بالنسخ ابن مقلة وزير المقتدر بالله ثم القاهر بالله فإنه أول من نقل الخط الكوفي إلى طريقة العربية ثم جاء ابن البواب وزاد في تعريب الخط وهذب طريقة ابن مقله وكساها بهجة وحسنا ثم ياقوت المستعصمي الخطاب وختم فن الخط وأكمله ثم جاء الشيخ حمد الله إلا ما سيوي فأجاد الخط بحيث لا مزيد عليه إلى الآن ولله در القائل :
خط حسن جمال مرأى
إن كان لعالم فأحسن
الدر من النبات أحلى
والدر مع البنات ازين
ومن الله التوفيق للكمالات والحتم بأنواع السعادات.
جزء : 9 رقم الصفحة : 61
تفسير سورة ق
خمس وأربعون آية مكية
جزء : 9 رقم الصفحة : 98
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
أي هذه سورة ق أي مسماة بق وقال ابن عباس رضي الله عنهما هو قسم وهو اسم من أسماء الله تعالى وقال محمد بن كعب هو مفتاح أسماء الله تعالى مثل القادر والقدير والقديم والقاهر والقهار والقريب والقابض والقاضي والقدوس والقيوم أي أنا القادر الخ وقيل اسم من أسماء القرآن وقيل قسم أقسم الله به أي القائم بالقسط وقيل معناه قل يا محمد والقرآن
99
المجيد وقيل قف يا محمد على أداء الرسالة وعند أمرنا ونهينا ولا نتعدهما والعرب تقتصر من كلمة على حرف قال الشاعر : قلت لها قفي فقالت : ق أي وقفت وقيل هو أمر من مفاعلة قفا أثره أي تبعه والمعنى اعمل بالقرآن وأتبعه وقيل معناه قضى الأمر وما هو كائن كما قالوا في حم وقيل المراد بحق القلب الذي يرقم القرآن في اللوح المحفوظ وفي الصحائف.
وقال الكاشفي : حروف مقطعه جهت فرقت است ميان كلام منظوم ومنثور أمام علم الهدى فرموده كه سامع بمجرد استماع اين حروف استدلال ميكند برآنكه كلامه كه بعد ازومى آيد منثورست نه منظوم س در ايراد اين حروف رد جما اعتيست كه قرآنرا شعر كفتند.
وقال الأنطاكي ق عبارة عن قربه لقوله ونحن أقرب إليه يعني قسم است بقرب الهي كه سر ونحن أقرب إليه بدين سوره ازان خبر ميدهد.
وقال ابن عطاء : اقسم بقوة قلب حبيبه حيث تحمل الخطاب والمشاهدة ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله أي بخلاف موسى عليه السلام فإنه خر صعقاً في الطور من سطوة تجلي النور.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99(9/80)
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى أن لكل سالك من السائرين إلى الله تعالى مقاماً في القرب إذا بلغ إلى مقامه المقدر له يشار إليه بقوله ق أي قف مكانك ولا تجاوز حدك والقسم قوله والقرآن المجيد أي قف فإن هذا مكانك والقرآن المجيد فلا تجاوز عنه وقال بعض الكبار ق إشارة إلى قول هو الله أحد أي إلى مرتبه الأحدية التي هي التعين الأول وص إشارة إلى الصمد أي إلى مرتبة الصمدية التي هي التعين الثاني والصافات إشارة إلى التعينات الباقية التابعة للتعين الثاني.
يقول الفقير أشار بقوله ق إلى قيامه عليه السلام بين يدي الله تعالى في الصف الأول قبل كل شيء مفارقاً لكل تركيب منفرداً عن كل كون منقطعاً عن كل وصف ثم إلى قدومه من ذلك العالم الغيبي الروحاني إلى هذا المقام الشهادي الجسماني كما أشار إليه المجيء الآتي وقد جاء في حديث جابر رضي الله عنه حين خلقه : أي نور نبيك يا جابر أقامه قدامه في مقام القرب اثني عشر ألف سنة وهو تفصيل عدد حروف لا إله إلا الله وحروف محمد رسول الله فإن عدد حروف كل منهما اثنا عشر وكذا أفاد أنه أقامه في مقام الحب اثني عشر ألف سنة وفي مقام الخوف والرجاء والحياء كذلك ثم خلق الله اثني عشر ألف حجاب فأقام نوره في كل حجاب ألف سنة وهي مقامات العبودية وهي حجاب الكرامة والسعادة والهيبة والرحمة والرأفة والعلم والحلم والوقار والسكينة والصبر والصدق واليقين فعبد ذلك النور في كل حجاب ألف سنة فكل هذا العدد من طريق الإجمال اثنان وسبعون وإذا انضم إليه المنازل الثماني والعشرون على ما أشير إليه في الجلد الأول يصير المجموع مائة وإليه الإشارة بالقاف فهو مائة رحمة ومائة درجة في الجنة اختص بها الحبيب عليه السلام في الحقيقة إذ كل من عداه فهو تبع له فكما أنهم تابعون له عليه السلام في مقاماته الصورية الدورية المائة لأنه أول من خلقه الله ثم خلق المؤمنين من فيض نوره فكذلك هم تابعون له في الدرجات العلوية المبنية على المراتب السلوكية السيرية وفي كل هذه المنازل دار بالقرآن لأن الكلام النفسي تنزل إليه مرتبة بعد مرتبة إلى أن أنزله روح القدس على قلبه في هذا العالم الشهادي تشريفاً له من الوجه العام والخاص وإلى كل هذا المقامات رقي بالقرآن كما يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا وإن منزلك
100
عند آخر آية تقرأها ولا شك أنه كان خلقه القرآن فلذا مجد وشرف بمجد القرآن وشرفه فاعرف هذا فإنه من مواهب الله تعالى ويجوز أن يكون معنى ق من طريق الإشارة احذروا قاف العقل والزموا شين العشق كما قال بعضهم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
قفل در نشاط وسرورست قاف عقل
دندانه كليد بهشت است شين عشق
وقال جماعة من العلماء قاف جبل محيط بالأرض كأحاطة العين بسوادها وهو أعظم جبال الدنيا خلقه الله من زمرد أخضر أو زبر جد أخضر منه خضرة السماء والسماء ملتزقة به فليست مدينة من المدائن وقرية من القرى إلا وفيها عرق من عروقه وملك موكل به واضع يديه على تلك العروق فإذا أراد الله بقوم هلاكاً أوحى إلى ذلك الملك فحرك عرقاً فخسف بأهلها والشياطين ينطلقون ءلى ذلك الزبرجد فيأخذون منه فيبثونه في الناس فمن ثم هو قليل.
وفي المثنوي :
رفت ذو القرنين سوى كوه قاف
ديداورا كز زمرد بود صاف
كرد عالم خلقه كشته او محيط
ماند حيران اندران خلق بسيط
كفت توكوهى دكرها يستند
كه به يش عظم توبازيستند
كفت ركهاى من اندان كوهها
مثل من نبوند در حسن وبها
من بهر شهرى ركى درام نهان
بر عروقم بسته اطراف جهان
حق و خواهد زلزل شهر مرا
كويد أو من برجهانم عرق را
س بجنبانم من آن رك را بقهر
كه بدان رك متصل كشتست شهر
ون بكويد بس شود ساكن ركم
ساكنم وزروى قفل اندرتكم
همو مرهم ساكن بس كاركن
ون خردساكن وزوجنبان سخن
نزد آنكس كه نداند عقاش اين
زلزله هست از بخارات زمين
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/81)
قال أبي بن كعب الزلزلة لا تخرج إلا من ثلاثة إما لنظر الله بالهيبة إلى الأرض وإما لكثرة ذنوب بني آدم وإما لتحريك الحوت الذي عليه الأرضون السبع تأديباً للخلق وتنبيهاً ، قال ذو القرنين : يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله تعالى فقال أن شأن ربنا لعظيم وأن من ورائي مسيرة خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضها بعضاً لولا ذلك لاحترقت من نار جهنم والعياذ بالله تعالى منها يعني اسكندر كفت يا قاف از عظمة الله باما يزى بكوى كفت ياذا القرنين كار خداوند ما عظيم است واز اندازه وهم وفهم بيرونست بعظمت او خبر كجارسد وكدام عبارت بوصف اورسد كفت آخر آنه كمتراست ودرتحت وصف آيد يزى بكوى كعفت وراى من زميني است آفريده انصد ساله راه طول آن وانصد ساله راه عرض آن همه كوهها اندربران برد واكرنه آن برف بودى من از حرارت دوزخ ون ارزيز بكدا ختمى ذو القرنين كفت ردنى يا قاف نكته ديكر بكوى ازعظمت وجلال او كفت جبريل امين كمر بسته در حجب هببت ايستاده هرساعتى ازعظمت وسياست دركاه جبروت برخود يلرز درعده بروى افتد رب العالمين ازان رعده وى صد هزار ملك بيافريند
101
صفها بركشيده در حضرت بنعت هيبت سردريش افكنده وكوش برفرمان نهاده تايكبار از حضرت عزت ندا آيدكه سخن كوبيد همه كويند لا إله إلا الله وبيش ازاين نكويند اينست كه رب العالمين كفت يوم يقوم الروح والملائكة صفاً إلى قوله وقال صوايا يعني لا إله إلا الله وقيل خضرة السماء من الصخرة التي تحت الأرض السفلي تحت الثور وهو المشار إليه بقوله تعالى : إنها إن تك مثقال حية من خردل فتكن في صخرة الآية وجعل الله السماء خضراء لتكون أوفق للأبصار لأن النظر إلى الخضرة يقوي البصر في الحكمة وكل صنع الله لحكمة فائدة لأهل العالم وفي الحديث ثلاث يجلون البصر : النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري وإلى الوجه الحسن قال ابن عباس رضي الله عنهما : والأثمد عند النوم وبالجملة أن الألوان سوى البياض مما يعين البصر على النظر وعن خالد بن عبد الله أن ذا القرنين لما بنى الاسكندرية رخمها بالرخام الأبيض جدرها وأرضها فكان لباسهم فيها السواد من نصوع بياض الرخام فمن ذلك لبس الرهبان السواد كما في أوضح المسالك لابن ساهى قال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر لما خلق الله الأرض على الماء تحركت ومالت فخلق الله تعالى من الأبخرة الغليظة الكثيفة الصاعدة من الأرض بسبب هيجانها الجبال فسكن ميل الأرض وذهبت تلك الحركة التي لا يكون معها استقرار فطوق الأرض بجبل محيط بها وهو من صخرة خضراء وطوق الجبل بحية عظيمة رأسها بذنبها رأيت من الابدال من صعد جبل قاف فسألته عن طوله علواً فقال : صليت الضحى في أسفله والعصر في أعلاه يعني بخطوة الابدال فالخطوة عند الابدال من المشرق إلى المغرب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
يقول الفقير : لعل هذا من قبيل البسط في السير وإلا فقد ثبت أن السماء الدنيا متصلة به وما بين السماء والأرض كما بين المشرق والمغرب وهي مسيرة خمسمائة عام فكيف تسع هذه المسيرة تلك الخطوات المتضاعفة وفي الخبر أن لقاف في السماء سبع شعب لكل سماع شعبة منها فالسموات السبع مقببة على شعبه وخلق الله ستة جبال من وراء قاف وقاف سابعها وهي موتودة بأطراف الأرض على الصخرة وقاف وراءها على الهواء وقيل خلق الله جبل قاف كالحصن المشرف على الملك ليحفظ أهل الأرض من فيح جهنم التي تحت الأرض السابعة.
يقول الفقير فيه إشارة إلى حال قطب الأقطاب رضي الله عنه فإنه مشرف على جميع الرجال من حيث جمعية اسمه وعلو رتبته وبه يحفظ الله العالم من الآفات الصورية والمعنوية كما أن جبل قاف مشرف على سائر الجبال وبه يحفظ الله أهل الأرض بالغدو والآصال ومن خلف ذلك الجبل بحر محيط بجبل قاف وحوله جبل قاف آخر والسماء الثانية مقببة عليه وكذلك من وراء ذلك بحار محدقات بجبل قاف على عدد السموات وأن كل سماء منها مقببة عليه وأن في هذه البحار وفي سواحلها ويبسها المحدقة بها ملائكة لا يحصى عددهم إلا الله ويعبدون الله حق عبادته ومن جبل قاف ينفجر جميع عيون الأرض فيشرب منه كل بر وفاجر فيجده العبد حيث توجه وفي البعض مثل ذلك وما رآه جبل قال فهو من حكم الآخرة لا من حكم الدنيا وقال بعض المفسرين أنسبحانه من وراء جبل قاف أرضاً بيضاء كالفضة المجلاة طولها مسيرة أربعين يوماً للشمس
102
وبها ملائكة شاخصون إلى العرش لا يعرف الملك منهم من إلى جانبه من هيبة الله تعالى ولا يعرفون ما آدم وما إبليس هكذا إلى يوم القيامة وقيل أن يوم القيامة تبدل أرضنا هذه بتلك الأرض.
ـ وروي ـ أن الله تعالى خلق ثمانية آلاف عالم الدنيا منها عالم واحد وأن الله تعالى خلق في الأرض ألف أمة سوى الجن والأنس ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وكل مستفيض منه تعالى :
نان هن خوان كرم سترد
كه سيمرغ درقاف قسمت خورد
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/82)
{وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ} أي ذي المجد والشرف على سائر الكتب على أن يكون للنسب كلابن وتامر أو لأنه كلام المجيد يعني أن وصف القرآن بالمجد وهو حال المتكلم به مجاز في الإسناد أو لأن من علم معانيه وعمل بما فيه مجد عند الله وعند الناس وشرف على أن يكون مثل بنى الأمير المدينة في الإسناد إلى السبب قال الإمام الغزالي رحمه الله : المجيد هو الشريف ذاته الجميل أفعاله الجزيل عطاؤه ونواله فكان شرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمي مجيداً وهو الماجد أيضاً ولكن أحدهما أدل على المبالغة وجواب القسم محذوف أي أنك يا محمد لنبي منذر أي مخوف من عذاب الله تعالى {بَلْ عَجِبُوا} أي فراعنة قريش ومتعنتوهم {أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} أي لأن جاءهم منذر من جنسهم لا من جنس الملك وهو إضراب عما ينبىء عنه الجواب أي أنهم شكوا فيه ولم يكتفوا بالشك والتردد بل جزموا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة وقال بعضهم : جواب القسم محذوف ودليل ذلك قوله بل لأنه لنفى ما قبله فدل على نفي مضمر وتقديره أقسم بجبل قاف الذي به بقاء دنياكم وبالقرآن الذي به بقاء دينكم ما كذبوك ببرهان وبمعرفة بكذبك بل عجبوا الخ والعجب نظر النفس لأمر خارج عن العادة {فَقَالَ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} تفسير لتعجبهم وبيان لكونه مقارناً لغاية الإنكار وهذا إشارة إلى كونه عليه السلام منذراً بالقرآن وحاصله كون النذير منا خصص بالرسالة من دوننا وكون ما أنذر به هو البعث بعد موت كل شيء بليغ في الخروج عن عادة إشكاله وهو من فرط جهلهم لأنهم عجبوا أن يكون الرسول بشراً وأوجبوا أن يكون الإله حجراً وأنكروا البعث مع أن أكثر ما في الكون مثل ذلك من إعادة كل من الملوين بعد ذهابه وإحياء الأرض بعد موتها وإخراج النبات والأشجار والثمار وغير ذلك ثم أن إضمار الكافرين أولاً للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم من المقال وأنه إذا ذكر شيء خارج عن سنن الاستقامة انصرف ءليهم إذ لا يصدر إلا عنهم فلا حاجة إلى إظهار ذكرهم وءظهارهم ثانياً للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} أي أحين نموت فتفارق أرواحنا أشباحنا ونصير تراباً لا فرق بيننا وبين تراب الأرض نرجع ونبعث كما ينطق به النذير والمنذر به مع كمال التباين بيننا وبين الحياة حينئذ والهمزة للإنكار أي لا نرجع ولا نبعث
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
{ذَالِكَ} إشارة إلى محل النزاع أي مضمون الخبر برجوعها {رَجْعُ} الرجع متعد بمعنى الرد بخلاف الرجوع أي رد إلى الحياة وإلى ما كنا عليه {بَعِيدٌ} جداً عن الأوهام أو العادة أو الإمكان أو عن الصدق غير كائن لأنه لا يمكن تمييز
103
(9/83)
ترابنا من بقية التراب {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الارْضُ مِنْهُمْ} رد لاستبعادهم وإزاحة له أي نحن على ذلك في غاية القدرة فإن من عم علمه ولطفه حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكل من لحومهم وعظامهم كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا عبر بمن لأن الأرض لا تأكل عجب الذنب فإنه كالبذر لأجسام بني آدم وفي الحديث كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب فمنه خلق وفيه يركب والعجب بفتح العين وسكون الجيم أصل الذنب ومؤخر كل شيء وهو ههنا عظم لا جوف له قدر ذرة أو خردلة يبقى من البدن ولا يبلى فإذا أراد الله الإعادة ركب على ذلك العظم سائر البدن وأحياه أي غير أبدان الأنبياء والصديقين والشهداء فإنها لا تبلى ولا تتفسخ إلى يوم القيامة على ما نص به الأخبار الصحيحة قال ابن عطية وحفظ ما تنقص الأرض إنما هو ليعود بعينه يوم القيامة وهذا هو الحق وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأجساد المبعوثة يجوز أن تكون غير هذه قال ابن عطية وهذا عندي خلاف لظاهر كتاب الله ولو كانت غيرها فكيف كانت تشهد الجلود والأيدي والأرجل على الكفرة إلى غير ذلك مما يقتضي أن أجساد الدنيا هي التي تعود وسئل شيخ الإسلام ابن حجر : هل الأسجدا إذا بليت وفنيت وأراد الله تعالى إعادتها كما كانت أولاً هل تعود الأجسام الأول أم يخلق الله للناس أجساداً غير الأجساد الأول فأجاب أن الأجساد التي يعيدها الله هي الأجساد الأول لا غيرها قال وهذا هو الصحيح بل الصواب ومن قال غيره عندي فقد أخطأ فيه لمخالفته ظاهر القرآن والحديث قال أهل الكلام أن الله تعالى يجمع الأجزاء الأصلية التي صار الإنسان معها حال التولد وهي العناصر الأربعة ويعيد روحه إليه سواء سمي ذلك الجمع إعادة المعدوم بعينه أولم يسم فإن قيل البدن الثاني ليس هو الأول لما ورد في الحديث من أن أهل الجنة جرد مرد وأن الجهنمي ضرسه مثل أحد فيلزم التناسخ وهو تعلق روح الإنسان ببدن إنسان آخر وهو باطل قلنا إنما يلزم التناسخ إن لو لم يكن البدن الثاني مخلوقاً من الأجزاء الأصلية للبدن الأول يقول الفقير : البدن معاد على الأجزاء الأصلية وعلى بعض الفضلة أيضاً وهو العجب المذكور فكأنه البدن الأول فلا يلزم التناسخ جداً والتغاير في الوصف لا يوجب التغايئر في الذات فقد ثبت أن الخضر عليه السلام يصير شاباً على كل مائة سنة وعشرين سنة مع أن البدن هو البدن الأول وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما أن إبليس إذا مرت عليه الدهور وحصل له الهرم عاد ابن ثلاثين سنة واختلف القائلون بحشر الأجسام فمنهم من ذهب إلى أن الإعادة تكون في الناس مثل ما بداهم بنكاح وتناسل وابتداء بخلق من طين ونفخ كما جرى من خلق آدم وحواء وخلق البنين من نسل ونكاح إلى آخر مولود في العالم البشرى كل ذلك في مدة قصيرة على حسب ما يقدره الحق تعالى وإليه ذهب الشيخ أبو القاسم بن قسي في كتاب خلع النعلين له في قوله تعالى كما بدأكم تعودون ومنهم من قال وهو القول الأصح بالخبر المروي أن السماء تمطر مطراً شبه المني فينشأ منه النشأة الآخرة كما أن النشأة الدنيا من نقطة تنزل من بحر الحياة إلى أصلاب الآباء ومنها إلى أرحام الأمهات فيتكون من قطر بحر الحياة تلك النقطة جسد في الرحم
104
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/84)
وقد علمنا أن النشأة الأول أوجدها الله تعالى على غير مثال سبق وركبها في أي صورة شاء وهكذا النشأة الآخرة يوجدها الحق على غير مثال سبق مع كونها محسوسة بلا شك فينشىء الله النشأة الآخرة على عجب ألذنب الذي بيقى من هذه النشأة الدنيا وهو أصلها فعليه تتركب النشأة الآخرة فقوله تعالى كما بدأكم تعودون راجع إلى عدم مثال سابق كما في النشأة الأولى مع كونها محسوسة بلا شك إذ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم من صفة نشأة أهل الجنة والنار ما يخالف هذه النشأة الدنيا وقوله وهو أهون عليه : لا يقدح فيما قلنا لأن البدء إن كان عن اختراع فكر وتدبير كانت إعادته إلى أن يخلق خلقاً آخر مما يقارب ذلك ويزيد عليه أقرب إلى الاختراع في حق من يستفيد الأمور بفكرة والله متعال عن ذلك علواً كبيراً فهو الذي يفيد العالم ولا يستفيد ولا يتجدد له علم بشيء بل هو عالم بتفاصيل ما لا يتناهى بعلم كلي فعلم التفصيل في عين الإجمال وهكذا ينبغي لجلاله أن يكون قال أبو حامد الغزالي رحمه الله أن العجب المذكور في الخبر والنفس وعليها ينشأ النشأة الآخرة أي كلما يتكون شجر كثير الأصول والأغصان من الحبة الصغيرة في الطين كذلك جسد الإنسان من حبة العجب الذي لا يقبل البلى فعبر عنه الإمام بالنفس لأنه مادتها وعنصرها هكذا أوله البعض وقال غيره مثل أبي يزيد الرقراقي المراد من العجب جوهر فرد وجزء واحد لا يقبل القسمة والبلى فيه قوة القابلية الهيولانية بل هو صورة هيولي النفس الحيوانية الحاملة لاجزاء العناصر التي في الهيكل المحسوس فيبقيه الخالق ويعصمه من التغير والبلى في عالم الكون والفساد بل خلقه من أول خلق النشأة الدنيوية إلى الأبدان الجنانية وعليه مدار الهيكل يبقى من هذه النشأة الدنيا لا يتغير وعليه ينشأ النشأة الآخرة وكل ذلك محتمل لا يقدح في شيء من الأصول الشرعية في الأحكام الأخروية وتوجيهات معقولة يحتمل أن يكون كل منها مقصود الشارع بقوله عجب الذنب وقال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر والذي وقع لي به الكشف الذي لا أشك فيه أن المراد بعجب الذنب هو ما يقوم عليه النشأة ونو لا يبلى أي لا يقبل البلى والفناء فإن الجواهر والذوات الخارجة إلى الوجود من العدم لا تنعدم أعيانها ولكن تختلف عليها الصور الشهادية والبرزخية بالامتزاجات التي هي أعراض تعرض لها بتقدير العزيز العليم فإذا تهيأت هذه الصور بالاستعداد لقبول الأرواح كاستعداد الحشيش بالنارية التي هي فيه لقبول الاشتعال والصور البرزخية كالسرج مشتعلة بالأرواح التي فيها فينفخ اسرافيل نفخة واحدة فتمر تلك النفخة على تلك الصور البرزخية فتطفئها وتمر النفخة التي تليها وهي الأخرى إلى الصور المستعدة للاشتعال وهي النشأة الأخرى فتشعل بأرواحها فإذا هم قيام ينظرون نسأل الله تعالى أن يبعثنا آمنين بجاه النبي الأمين
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
{وَعِندَنَا كِتَـابٌ حَفِيظُ} بالغ في الحفظ لتفاصيل الأشياء كلها أو محفوظ من التغير والمراد إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم من عنده كتاب محيط يتلقى منه كل شيء أو تأكيد لعلمه بها بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} اضراب وانتقال من بيان شناعتهم السابقة إلى بيان ما هو أشنع منه وأفظع وهو تكذيبهم للنبوة الثابتة
105
بالمعجزات الباهرة فالأفظعية لكون الثاني تكذيباً للأمر الثابت من غير تدبر بخلاف الأول فإنه تعجب {لَمَّا جَآءَهُمْ} من غير تأمل وتفكر تقليداً للآباء وبعد التأمل تمرداً وعناداً وجاء بكلمة التوقع إشعاراً بأنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه الشاهد على حقيقته فكذبوا به بغياً وحسداً {فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ} من مرج الخاتم في أصبعه إذا جرج بالجيمين كفرح أي قلق وجال واضطرب من سعته بسبب الهزال أي في أمر مضطرب لإقرار له من غلبات آفات الحس والوهم والخيال على عقولهم فلا يهتدون إلى الحق ولذا يقولون تارة إنه شاعر وتارة ساحر وأخرى كاهن ومرة مفتر لا يثبتون على شيء واحد وهذا اضطرابهم في شأن النبي عليه السلام صريحاً وبتضمن اضطرابهم في شأن القرآن أيضاً فإن نسبتهم إياه إلى الشعر ونحوه إنما هي بسببه واعلم أن الاضطراب موجب للاختلاف وذلك أدل دليل على البطلان كما أن الثبات والخلوص موجب للاتفاق وذلك أدل دليل على الحقيقة فإن الحسن ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم وكذا قال قتادة وزاد والتبس عليهم دينهم وعن علي رضي الله عنه قال له يهودي ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فقال إنما اختلفنا عنه لا فيه ولكنكم ما جفت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيكم اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وسئل بزرجمهر الحكيم : كيف اضطربت أمور آل ساسان وفيهم مثلك؟ قال : استعانوا بأصاغر العمال على أكابر الأعمال فآل أمرهم إلى ما آل.
كما قال الشيخ سعدي :
ندم اكر بشنوى اى ادشاه
درهمه دفتر به ازين ند نيست
جز بخر مند مفر ما عمل
كره عمل كار خردمند نيست
(9/85)
واضطربوا في حق الحلاج رضي الله عنه وكذبوا بالحق فافتوا بالقتل فمرج أمرهم حيث أحرفت دار الوزير وقتل ثم دار الأمر على الخليفة ففعل به ما فعل واضطربوا في شأن سلطان العلماء والد المولى جلال الدين الرومي فنفوه من بلخ ثم نفاهم الله من الأرض وأوقعهم في ويل طويل من تسلط عدو مستأصل وكان فيهم صاحب التفسير الكبير فاختلفى لكنه ظهر أمر الله عليه أيضاً وما نفع الاختفاء وفيه يقول المولى جلال الدين قدس سره :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
درنان ننكى وانكه اين عجب
فخر دين خواهد كه كويندش لقب
واضطربوا في شأن الرسول عليه السلام حتى قتلهم الله تعالى وجعل مكة خالصة للمؤمنين {أَفَلَمْ يَنظُرُوا} أي أغفلوا فلم ينظروا حين كفروا بالبعث {إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ} بحيث يشاهدونها كل وقت أي إلى آثار قدرة الله في خلق العالم وإيجاده من العدم إلى الوجود وفوقهم ظرف لينظروا أو حال من السماء {كَيْفَ بَنَيْنَـاهَا} أي رفعناها بغير عمد {وَزَيَّنَّـاهَا} بما فيها من الكواكب المرتبة على نظام بديع {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} من فتوق لملاستها وسلامتها من كل عيب وخلل كما قال : هل ترى من فطور وهذا لا ينفي وجود الأبواب والمصاعد فإنها ليست من قبيل العيب والخلل ولعل تأخير هذا لمراعاة الفواصل والفروج جمع فرج وهو الشق بين الشيئين كفرجه الحائط والفرج ما بين الرجلين وكنى به عن السوئة وكثر حتى صار كالصريح فيه واستعير الفرج للثغر وكل مخافة وسمي القباء المشقوق
106
فروجاً ولبس رسول الله عليه السلام فروجاً من حرير ثم نزعه {وَالارْضَ مَدَدْنَـاهَا} أي بسطناها وفرشناها على وجه الماء مسيرة خمسمائة عام من تحت الكعبة وهذا دليل على أن الأرض مبسوطة وليست على شكل الكرة كما في كشف الأسرار وفيه أنه لا منافاة بين بساطتها وكريتها لسعتها كما عرف في محله {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ} جبالاً ثوابت أرسيت بها الأرض إذ لو لم تكن لكانت مضطربة مائلة إلى الجهات المختلفة كما كانت قبل إذ روى أن الله لما خلق الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة : ما هي بمقر أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت من رسا الشيء أي ثبت والتعبير عنها بهذا الوصف للإيذان بأن القاءها لإرساء ارض بها وفيه إشارة إلى رجال الله فإنهم أوتاد الأرض والعمد المعنوي للسماء فإذا انقرضوا ولم يوجد في الأرض من يقول الله الله فسدت السموات والأرض {وَأَنابَتْنَا} وأخرجنا {فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج} صنف وقوله أزواجاً من نبات شتى أي أنواعاً متشابهة {بَهِيجٍ} حسن طيب من الثمار والنباتات والأشجار كما قال في موضع آخر ذات بهجة أي يبتهج به لحسنة أي يسر والبهجة حسن اللون وظهور السرور فيه وابتهج بكذا أي سر به سروراً بأن أثره على وجهه كما في المفردات
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} علتان للأفعال المذكورة معنى على التنازع وإن انتصبتا عن الفعل الأخير أو بفعل مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ما فعلنا تبصيراً وتذكيراً.
يعني از براى بينايى يعني بنظر اعتبار واستدلال نكرستن واز براى ياد كردن وندكر فتن ويجوز أن يكونا نصبا على المصدرية من فعلهما المقدر أي نبصرهم ونذكرهم {لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أي راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنائعه وفيه إشارة إلى أن الوصول إلى مقام التبصرة والذكرى إنما هو بالعبودية والإنابة التي هي مبنى الطريقة وأساسها قال بعضهم : التبصرة معرفة منن الله عليه والذكرى عدها على نفسه في كل حال ليشتغل بالشكر فيما عومل به عن النظر إلى شيء من معاملته.
كفته اند تبصرة وذكرى دونام اند شريعت وحقيقت را تبصره حقيقت است وذكرى شريعت بواسطه وحقيقت بمكاشفه شريعت خدمت است بر شريطه وحقيقت غربت است بر مشاهده شريعت بى يدي است وحقيقت في خورى اهل شريعت فريضه كزاران ومعصيت كدازان أهل حقيقت از خويشت كريزان وبيكى تازان قبله اهل شريعت كعبه است قبله أهل حقيقت فوق العرش ميدان حساب أهل شريعت موقف است وميدان حساب أهل حقيقت حضرة سلطان ثمره اهل شريعت بهشت ثمره اهل حقيقت لقا ورضاى رحمن.
فعلى العاقل أن يتبصر بالذكر الحكيم ويتفكر في صنعه العظيم ويوحده توحيداً يليق بجنابه الكريم وينيب إليه إنابة لا رجوع بعدها إلى يوم مقيم.
نقلست كه يرى يش شقيق بالخى رحمه الله آمد وكفت كناه بسياردارم وميخوا هم كه توبه بكنم وى كفت دير آمدى بر كفت زود آمدم كفتارا كفت از بهر آنكع هركه يش ازمرك بيايد بتوبه زود امده باشد شقيق كفت نيك آمدى ونيك كفتى :
بارهاى خويش رايزى سبك كردان كه نيست
تنكناى مرك را كنجايى اين بارها
107
وقال الشيخ سعدى :
بياتا بر آريم دستى زدل
كه نتوان بر آورد فردا زكل
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/86)
أيقظنا الله تعالى وإياكم من نوم الغفلة {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَـارَكًا} أي كثير النافع حياة الاناسي والدواب والأرض الميتة وفي كشف الأسرار مطراً يثبت في أجزاء الأرض فينبع طول السنة {فَأَنابَتْنَا بِهِ} أي بذلك الماء {جَنَّـاتٍ} كثيرة أي أشجاراً ذوات ثمار فذكر لمحل وأراد الحال كما قال فأخرجنا به ثمرات وبالفارسية بوستانها مشتمل بر اشجار وأثمار {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} من حذف الموصوف للعلم به على ما هو اختيار البصريين في باب مسجد الجامع لئلا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه وأصل الحصيد قطع الزرع والحصيد بمعنى المحدود وهو هنا مجاز باعتبار الأول والمعنى وحب الزرع الذي شأنه أن يحصد من البر والشعير وأمثالهما مما يقتات به وتخصيص انبات حبه بالذكر لأنه المقصود بالذات {وَالنَّخْلَ} عطف على جنات وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في الجنات لبيان فضلها على سائر الأشجار وقد سبق بعض أوصافها في الصورة يس وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية مع ما فيه من مراعاة الفواصل {بَاسِقَـاتٍ} طوالا في السماء عجيبة الخلق وهو حال مقدرة فإنها وقت الانبات لم تكن طوالا يقال بسقت الشجرة بسوقا إذا طالت وفي المفردات الباسق هو الذاهب طولا من جهة الانقطاع ومنه بسق فلان على أصحابه علاهم ويجوز أن يكون معنى باسقات حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون من باب أفعل فهو فاعل {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} أي منضود بعضه فوق بعض والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من الثمر والجملة حال من النخل يقال نضدت المتاع بعضه على بعض ألقيته فهو منضود ومنضد والمنضد السرير الذي ينضد عليه المتاع ومنه استعير طلع نضيد كما في المفردات والنضد والتنضيد وبالفارسية برهم نهادن.
والطلع شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود والطرف محدد أو ما يبدو من ثمرته في أول ظهورها وقشره يسمى الكفرى بضم الكاف والفاء معاً وتشديد الراء وما في داخله الاغريض لبياضه كما في القاموس قال في بحر العلوم : الطلع ما يطلع من النخلة وهو لكم قبل أن يشق ويقال لما يظهر منا لكم طلع أيضاً وهو شيء أبيض يشبه بلونه الأسنان وبرائحته المنى {رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ} أي لرزقهم علة لقوله تعالى فأنبتنا وفي تعليله بذلك بعد تعليل أنبتنا الأول بالتبصرة والتذكرة تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار أهم وأقدم من تمتعه به من حيث الرزق :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
خوردن براى زيستن وذكر كردنست
تو معتقدكه زيستن از بهر خوردنست
يقول الفقير المقصود من الآية الأولى هو الاستدلال على القدرة بأعظم الأجرام كما دل عليه النظر وذكر الانبات فيها بطريق التبع فناسب التعليل بالتبصرة والتذكير ومن الثانية بيان الانتفاع بمنافع تلك الأجرام فناسب التعليل بالرزق ولذا أخرت عن أولى لأن منافع الشيء مترتبة على خلفه قال أبو عبيدة : نخل الجنة نضيد ما بين أصلها إلى فرعها بخلاف نخل الدنيا فإن ثمارها رؤوسها كلما نزعت رطبة عادت ألين من الزبد وأحلى من العسل فنخل الدنيا تذكير لنخل
108
الجنة وفي كل منهما رزق للعباد كما قال تعالى : ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} أي بذلك الماء {بَلْدَةً مَّيْتًا} تذكير ميتا باعتبار البلد والمكان أي أرضا جدبة لانماء فيها أصلاً بأن جعلنا بحيث ربت وأنبتت أنواع النبات والأزهار فصارت تهتز بها بعدما كانت جامدة هامدة.
ـ روي ـ أبو هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا جاءهم المطر فسالت الميازيب قال لا محل عليكم العام أي لا جدب.
يعني تنكى نيست بر شما امسال {كَذَالِكَ الْخُرُوجُ} جملة قدم فيها الخبر للقصد الى القصر وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الأحياء إلى مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور لا شيء مخالف لها وقد روي أن الله يمطر السماء أربعين ليلة كمني الرجال يدخل في الأرض فينبت لحومهم وعروقهم وعظامهم ثم يحييهم ويخرجهم من تحت الأرض وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء عن حياة الموتى بالخروج تفخيم لشأن الانبات وتهوين لأمر البعث وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه إلى إفهام الناس.
قال الكاشفي : واكر كسى تأمل كند در احياى دانه ما نند مرده درخاك مدفونست وظهور او بعد ازخفا دور نيست كه بشمه از حيات اموات ى نواند برد :
كدام دانه فروشدكه برنيا مدباز
رابدانه انسانيت كمان باشد
فروشدن وبديدى بر آمدن بنكر
غروب شمس وقمر رارا زيان باشد
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 12 من صفحة 109 حتى صفحة 118
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/87)
وفي الآية إشارة إلى تنزيل ماء الفيض الإلهي من سماء الأرواح فإن الله ينبت به حبات القلوب وحب المحبة المحصود به محبة ما سوى الله من القلوب وشجرة التوحيد لها طلع نضيد من أنواع المعارف رزقاً للعباد الذي يبيتون عند ربهم يطعمهم ويسقيهم ويحيي بذلك الفيض بلدة القلب الميت من نور الله كما قال أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نور الآية كذلك الخروج من ظلمات الوجود إلى نور واجب الوجود فافهم جدا {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} أي قبل أهل مكة {قَوْمُ نُوحٍ} قوم نوح كه بني شيت وبني قابيل بودند تكذيب كردند مر نوح {وَأَصْحَـابُ الرَّسِّ} قبل كانت الرس بئراً بعدن لامة من بقايا ثمود وكان لهم ملك عدل حسن السيرة يقال له العنيس كزبير وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك لأنها كانت بكرات كثيرة منصوبة عليها جمع بكرة بالفتح وهي خشبة مستديرة في وسطها محز يستقى عليها ورجال كثيرون موكلون بها وأبازن بالزاي والنون من رخام وهي تشبه الحياص كثيرة تملأ للناس قال في القاموس إلا بزن مثلثة الأول حوض يغتسل فيه وقد يتخذ من نحاس معرب آب زن انتهى وآخر للدواب وآخر للبقر والغنم والهوام يستقون عليها بالليل والنهار يتداولون ولم يكن لهم ماء غيره فطال عمر الملك فلما جاءه الموت طلى بدهن لتبقى صورته ولا تتغير وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت وكان ممن يكرم عليهم فلما مات شق ذلك عنهم ورأوا أن أمرهم قد فسد وضبحوا جميعاً بالبكاء واغتنمها الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة فكلمهم وقال : إني لم أمت ولكني قد تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم بعدي ففرحوا أشد الفرح وأمر لخاصته أن يضربوا حجاباً بينه وبينهم ويكلمهم من ورائه كيلا يعرف الموت في صورته فنصبوه صنماً
109
من وراء حجاب لا يأكل ولا يشرب وأخبرهم أنه لا يموت أبداً وأنه اله لهم وذلك كله ويتكلم به الشيطان على لسانه فصدق كثير منهم وارتاب بعضهم وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق فكلما تكلم بأصح منهم زجر وقهر فاتفقوا على عبادته فبعث الله لهم نبياً كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة وكان اسمه حنظلة ابن صفوان فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له وأن الشيطان فيه وقد أضلهم الله وأن الله تعالى لا يتمثل بالخلق وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكاًوأوعدهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته فآذوه وعادوه وهو يتعدهم بالموعظة والنصيحة حتى قتلوه وطرحوه في بئر وعند ذلك حلت عليهم النقمة فباتوا أشباعي رواء من الماء وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها وهو بالكسر الحبل فصاحوا بأجمعهم وضبح النساء والولدان وضبحت البهائم عطشا حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك وخلفهم في أرضهم السباع وفي منازلهم الثعالب والضباع وتبدلت لهم جناتهم وأموالهم بالسدر والشوك شوك العضاة والقتاد الأول بالكسر أم غيلان أو نحوه والثاني كسحاب شجر صلب شوكه كالابر فلا تسمع فيها إلا عزيف الجن أي صوتهم وهو جرس يسمع في المفاوز بالليل والازئير الاسد أي صوته من الصدر نعوذ بالله من سطواته ومن الاصرار على ما يوجب نقماته كذا في التكملة نقلاً عن تفسير المقرى وقيل الرس بئر قرب اليمامة أو بئر بأذربيجان او واد كما قال الشاعر فهن لوادي الرس كاليد للفهم.
وقد سبق بعض الكلام عليه في سورة الفرقان فارجع
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/88)
{وَثَمُودُ} وقوم ثمود صالح راو هو ثمود بن عاد وهو عاد الآخرة وعاد هو عاد ارم وهو عاد الأولى {وَعَادٌ} وقوم عاد هودرا {وَفِرْعَوْنُ} وفرعون موسى را وهرون را والمراد هو وقومه ليلائم ما قبله وما بعده من الجماعة {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} يعني اصهار او مراورا والصهر زوج بنت الرجل وزوج اخته وقيل اخوانه قومه لاشتراكهم في النسب لا في الدين قال عطاء ما من أحد من الأننبياء إلا ويقوم معه قومه إلا لوطاً عليه السلام يقوم وحده {وَأَصْحَـابُ الايْكَةِ} هم من بعث إليهم شعيب عليه السلام غير أهل مدين وكانوا يسكنون أيكة أي غيضة تنبت السدر والاتراك وقد مر في سورة الحجر {وَقَوْمُ تُّبَّعٍ} الخميري ملك اليمن وقد سبق شرح حالهم في سورة الدخان {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي فيما أرسلوا به من الشرائع التي من جملتها البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة أي كل قوم من الاقوام المذكورين كذبوا رسلهم وكذب جميعهم جميع الرسل بالمعنى المذكور وافراد الضمير باعتبار لفظ الكل أو كل واحد منهم كذب جميع الرسل لانفاقهم على التوحيد والإنذار بالبعث والحشر فتكذيب واحد منهم تكذيب للك وهذا على تقدير رسالة تبع ظاهر وإما على تقدير عدمها وهو الأظهر فمعنى تكذيب قومه الرسل تكذيبهم لمن قبلهم من الرسل المجمعين على التوحيد والبعث إلى ذلك كان يدعوهم تبع {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي فوجب وحل عليهم وعيدي وهي كلمة العذاب والوعيد يستعمل في الشر خاصة بخلاف الوعد فإنه يكون في الخير والشر وفي الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم يعني لا تحزن بتكذيب الكفار إياك لأنك لست بأول نبي كذب وكل أمة كذبت رسولها واصبر على أذاهم كما صبروا تظفر بالمراد كما ظفروا وتهديد لأهل مكة يعني احذروا
110
يا أهل مكة من مثل عذاب الأمم الخالي فلا تكذبوا رسول الله فإن الاشتراك في العمل يوجب الاشتراك في الجزاء.
واعلم أن عموم أهل كل زمان الغالب عليهم الهوى والطبيعة الحيواني فهم أهل الحس لا أهل العقل ونفوسهم متمردة بعيدة عن الحق قريبة إلى الباطل كلما جاء إليهم رسول كذبوه وعلى ما جاء به قاتلوه فحق عليهم عذاب ربهم بما كفروا بأنعم الله فما أعباه إهلاكهم وفيه تسلية للأولياء أيضاً من طريق الإشارة وتهديد لأهل الإنكار ولعمري إنهم في أيديهم كالأنبياء في أيدي الكفار ولكن الصبر مفتاح الفرج فكما أن الكفار مسخوا وخسفوا وأخذوا بأنواع النكال فكذا أهل الإنكار مسخ الله بواطنهم وخسف بهم الأرض يعني أرض البشرية الكثيفة الظلمانية وأخذوا بأصناف الخذلان وهم لا يدرون أنهم كذلك بل يحسبون أنهم ناجون من كل المهالك لزيادة عماهم وحيرتهم نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المصدقين ويثبتنا على طريق أهل اليقين ويفيض علينا من بركاتهم ويشرفنا بآثار حركاتهم {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاوَّلِ} العي بالأمر العجز عنه يقال عي بالأمر وعيى به إذا لم يهتد لوجه عمله وقد مر في قوله ولم يعي بخلقهن والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينبىء عنه العي من القصد والمباشرة كأنه قيل اقصدنا الخلق الأول وهو الإبداء فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الخلق الثاني وهو الإعادة وبالفارسية أياماً عاجز شده ايم ورنج يافته بآفرينش اول خلق تافرومانيم از آفرينش ثاني.
وفي عين المعاني الخلق الأول آدم عليه السلام وهم يقرون به.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وفي التأويلات النجمية أفاغتاص علينا فعل شيء حتى نعيى بالبعث أو يشق علينا البعث أي ليس كذلك {بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} يقال جددت الثوب إذا قطعته على وجه الإصلاح وثوب جديد أصله المقطوع ثم جعل لكل ما أحدث إنشاؤه وخلق جديد إشارة إلى النشأة الثانية وقوبل الجديد بالخلق لما كان المقصود بالجديد القريب العهد بالقطع من الثواب ومنه قيل لليل والنهار الجديدان والأجدان كما في المفردات والجملة عطف على مقدر يدل عليه ما قبله كأنه قيل هم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأول بل هم في خلط وشبهة في خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة إذ لم تجر العادة بالإعادة في هذه الدار وهذا قياس فاسد كما لا يخفى.
قال الكاشفي : مشركان مكه معترف بودند بانكه حق تعالى مبدع خلق است در اول س ما يدكه كسى كه قادر بودبر آفرنش جمعى بي ماده ومددى راتوا ناتوا نانبود بر اعاده ايشان بجمع مواد ورد حيات بآن وبي شبهه ما بران قوت داريم بلكه كافران درشك وشبهه اند بسبب وساوس شيطاني از آفريدن نويعنى بعث وحشره آنرا مخالف عادت مى بينند.
وتنكير خلق لتفخيم شأنه والإشعاد بخروجه عن حدود العادات أو الإيذان بأنه حقيق بأن يبعث عنه ويهتم بمعرفته ولا يقعد على لبس.
(9/89)
واعلم أن هذا الخلق الجديد حاصل في الدنيا أيضاً سواء كان في الاعراض أو في الأجسام وهو مذهب الصوفية ومذهب المتكلمين فإنهم جوزوا انتفاء الأجسام في كل آن ومشاهدة بقائها بتجدد الأمثال أي الأجسام الأخر كما جوزوا انتفاء الاعراض في كل آن ومشاهدة بقائها بتجده الأمثال أي الأعراض الأخرى كما أنه جائز في الأعراض التي هي غير قائمة بذواتها كذلك جائز في الجواهر
111
التي هي قائمة بذواتها وفي هذا المعنى.
قال في المثنوي :
صورت از معنى و شيراز يشه دان
ياوآ واز وسخن زانديشه دان
اين سخن وآزازاو ازاوا نديشه خواست
توندانى بحر انديشه كجاست
ليك ون موج سخن ديدى لطيف
بحرآن دانى كه باشدهم شريف
ون زدانش موج انديشه بتاخت
از سخن وآوازاو صورت بساحت
از سخن صورت بزاد وبازمرد
موج خودرا باراندر بحر برد
صورت از بى صورتى آمد برون
بازشدكه انا اليه راجعون
س ترا هر لحظه مرك ورجتيست
مصطفى فرمود دنيا ساعتيست
فكر ماتيريست ازهودر هوا
درهواكى ايه آيد تاخدا
هر نفس نومى شود دنيا وما
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
بى خبر ازنوشدن اندربقا
عمر همون جوى نوتوميرسد
مستمرى مى نمايد درجسد
آن زتيزى مستمر شكل آمدست
ون شرركش تيز نبانى بدست
شاخ آتش را بنبانى بساز
درنظر آتش نما يدس دراز
اين درازى مدت ازتيزى صنع
مى نمايد سرعت انكيزى صنع
قال الإمام الشعراني رضي الله عنه في كتاب الجواهر تقليب العالم واقع في كل نفس من حال إلى حال فلا يثبت على حالة واحدة زمانا فردا لكن التغيير إنما يقع في الصفات لا في الأعيان فلم يزل الحق تعالى خلاقاً على الدوام انتهى ومنه يعرف طواف الكعبة ببعض الرجال واستقبالها لهم كما وقع ذلك لرابعة العدوية رضي الله عنها وغيرها وحقيقة هذا المقام لا تتضح إلا بالكشف التام ومن الله الملك العلام الفيض والإلهام {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِه نَفْسُهُ} أي ما تحدث به نفسه وهو ما يخطر بالبال والوسوسة الصوت الخفي والخطرة الرديئة ومنه وساوس الحلى وبالفارسية وميدانيم آن يزى راكه وسوسه ميكندمر اورابدان نفس اوار انديشهاى بد.
والضمير لما أن جعلت موصولة والباء كما في صوت بكذا وهمس به يعني أنها صلة أو للإنسان إن جعلت مصدرية والباء للتعدية أي ما تجعله موسوساً فإن النفس تجعل الإنسان قائماً به الوسوسة قال في الكشاف ما مصدرية لأنهم يقولون حدث نفسه بكذا كما يقولون حدثته به نفسه وفيه إشارة إلى أن الله تعالى كما يعلم حال الإنسان قبل خلقه علماً ثبوتياً كذلك يعلمه بعد خلقه علماً فعلياً فيه ما توسوس به نفسه فإنه مخلوق الله أيضاً لا يخفى عليه مخلوقه مطلقاً ودخل فيما توسوس به نفسه شهواته المطلوب لاستيفاؤها وسوء خلقه واعتقاده الفاسد وغير ذلك من أوصاف النفس توسوس بذلك لتشوش عليه قلبه ووقته وفيه دخل آدم عليه السلام فإن الله تعالى خلقه وعلم ما وسوست به نفسه في أكل الشجرة وذلك بإلقاء الشيطان قال بعض الكبار ليس للشيطان على باطن الأنبياء من سبيل فخواطرهم لا حظ للشيطان فيها فهو يأتيهم في ظاهر الحس فقط ولا يعملون بما يقول لهم ثم إن من الأولياء من يحفظ من الشيطان في علم الله تعالى فيكون بهذه المثابة في العصمة مما يلقى لا في العصمة من وصول ذلك إلى قلبه لأن الأولياء ليسوا بمشرعين بخلاف الأنبياء عصمت بواطنهم لكونهم
112
أصحاب الشرائع قال بعض الكبار ما في شخص من بني آدم إلا ويخطر له كل يوم سبعون ألف خاطر لا تزيد ولا تنقص عدد الملائكة الذي يدخلون البيت المعمور كل يوم فما من شخص إلا ويخلق من خواطره كل يوم سبعون ألف ملك ثم يرتفعون إلى جهة البيت المعمور فإذا خرج السبعون ألفاً من البيت المعمور كل يوم يجتمعون بالملائكة المخلوقين من الخواطر فيكون ذكرهم استغفاراً لأصحابهم إلى يوم القيامة ولكن من كان قلبه معموراً بذكر الله دائماً فالملائكة المخلوقون من خواطره يمتازون عن الملائكة الذين خلقوا من خواطر قلب ليس له هذا المقام وسواء كان الخاطر فيما ينبغي أو فيما لا ينبغي فالقلوب كلها من هذا البيت المعمور خلقت فلا تزال معمورة دائماً وكل ملك يتكون من الخاطر يكون صورة صالحة في علم الله لما نظر وإن كان هو في نفسه ملكاً سبح وقد لا يعلم ما خطر {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} أي إلى الإنسان {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ازرك جان وى بوى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/90)
أي اعلم بحاله ممن كان اقرب إليه من حبل الوريد وعبر عن قرب العلم بقرب الذات تجوزاً لأنه موجب له فاطلق الملزوم على اللازم وحبل الوريد مثل في فرط القرب كقولهم هو مني بمقعد الإزار والحبل العرق شبه بواحد من الحبال من حيث الهيئة وإضافته بيانية وجوز الزمخشري كونها بمعنى اللام ويجوز أن تكون كإضافة لجين الماء على أن يكون الحبل على حقيقته والوريدان عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين وهو عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه يردان من الرأس إليه فالوريد بمعنى الوارد وقيل سمي وريداً لأن الروح الحيواني يرده فالوريد حينئذ بمعنى المورود وفي المفردات الوريد عرق متصل بالكبد والقلب وفيه مجاري الروح وقوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد أي من روحه انتهى.
ما وردى فرموده كه حبل الوريد ركيست متصل بدل وعلم خداى تعالى ببنده نزديكتر نيست ازعلم دل وى.
وفي التأويلات النجمية حبل الوريد أقرب أجزاء نفسه إلى نفسه يشير به إلى أنه تعالى أقرب إلى العبد من نفس العبد إلى العبد فكما أنه كل وقت يطلب نفسه يجدها لأنها قريب منه فكذلك كل وقت يطلب ربه يجده لأنه قريب منه كما قال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب وفي الزبور ألا من طلبني وجدني :
نحن أقرب كفت من حبل الوريد
توبكندى بئر فكرت را بعيد
أي كمان تيرها رساخته
صيد نزديك وتودور انداخته
وقال الشيخ سعدي :
دوست نزديكتر ازمن بمنست
وين عجبتركه من ازوى دورم
كنم باكه توان كفت كه او
دركنار من ومن مهجورم
قال بعض الكبار : شدة القرب حجاب كما أن غاية البعد حجاب وإذا كان الحق أقرب إلينا من حبل الوريد فأين السبعون ألف حجاب التي بيننا وبينه فتأمل وقال البقلى ولو يرى الإنسان نفسه لرأى هو أن نفسه ألا ترى كيف أخبر عن كمال قربه بنعت الاتحاد بقوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ولذلك قال عليه السلام : من عرف نفسه فقد عرف ربه إذ لا نفس إلا هوان فهمت ما قلت وإلا فاعلم أن الفعل قائم بالصفة والصفة قائمة بالذات فمن
113
حيث عين الجمع ما هو إلا هو ولا تظن الحلول فإنه بذاته وصفاته منزه عن أن يكون له محل في الحوادث هذا رمز العاشقين ألا ترى إلى قول المجنون :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
وقال الواسطي : أي نحن أولى به وأحق أنا جمعناه بعد الافتراق وأنشأناه بعد العدم ونفخنا في الروح فالأقرب إليه من هو أعلم به منه بنفسه وقال أيضاً بي عرفت روحك بي عرفت نفسك كل ذلك لإظهار النعوت على قدر طاقة الخلق فأما الحقيقة فلا يتحملها العبد سماعاً.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وقال الكاشفي : وببايد دانست كه قرب حق تعالى بى ون وكونه باشد أي عزيز كيفيت قرب جانراكه يوسته است بتن درنمى توان يافت قرب حق راكه يوسته از كيفيت مقدس ومنزه است كونه ادراك توان كرد وهمين در مثنوى معنوي مذكوراست :
قرب بيونست جانترابتو
قرب حق داون بدانى اي عمو
قرب نى بالاوستي رفتن است
قرب حق ازحبس هستى رستن است
دركشف الاسرار آورده كه قرب حق بحق آنست كه فرمود واسجد واقترب ودر احاديث قدسية واردست كه لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل وأين قرب أول بايمانست وتصديق وآخر باحسانست وتحقيق يعني مقام مشاهده كه أن تعبد الله كأنك تراه وقرب حق تعالى مر بنده را دوقسمست يكى كافه خلق رابعلم وقدرت كقوله وهو معكم أينما كنتم ديكر خواص دوكاه را بخصائص برو شواهد لطف كه ونحن أقرب إليه أول اورا قربتي دهد غيبى تا ازجهانش برها ندس قرب بحد حقيقى تا ازآب وكلش باز برداز هستى موهوم بنده مى كاهد وازنيستى اصلى زياده ظهور ميكند تانانه در اول خود بود درآخر خود باشد انجا علايق مرتفع كردد واسباب منقطع ورسوم باطل وحدود متلاشى وإشارات متناهى وعبارات منتهفي وخبر منمحق وحق يكتا بخود باقى والله خير وأبقى :
رأيت حبي بعين قلبي
فقال من أنت قلت أنتا
أنا الذي جزت كل حد
بمحو أينى فأين انتا
أنا الذي جزت كل حد
بمحو أينى فأين انتا
موج بحر لمن الملك برايد نا كاه
غرقه كردند دران بحره درويش وه شاه
خرمن هستى موهوم نان سوزاند
آتش عشق كه نه دانه بماند نه كاه
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
قال ابو يزيد البسطامي قدس سره انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها فنظرت فإذا أنا هو أي إن من انسلخ من شهوات نفسه وهواها وهمها فلا يبقى فيه متسع لغير الله ولا يكون له هم سوى الله تعالى وإذا لم يحل في القلب إلا جلال الله وجماله حتى صار مستغرقاً يصير كأنه هو لا أنه هو تحقيقاً وفرق بين قولنا كأنه هو وبين قولنا هو هو لكن قد يعبر بهو هو عن قولنا كأنه هو كما يقال زيد أسد في مقام التشبيه مبالغة في الشجاعة فإن قلت ما معنى السلوك وما معنى الوصول قلت معنى السلوك هو تهذيب الأخلاق والأعمال والمعارف وذلك اشتغال بعمارة الظاهر والباطن والعبد في جميع ذلك مشغول بنفسه عن ربه إلا أنه مشتغل
114
(9/91)
بتصفية باطنه ليستعد للوصول وإنما الوصول هو أن ينكشف له جلية الحق ويصير مستغرقاً به فإن نظر إلى معرفته فلا يعرف إلا الله وإن نظر إلى همه فلا هم له سواه فيكون كله مشغولاً بكله مشاهدة وهما لا يلتفت في ذلك إلى نفسه ليعمر ظاهره بالعبادة وباطنه بتهذيب الأخلاق وكل ذلك طهارة وهي البدائة وإنما النهاية أن ينسلخ عن نفسه بالكلية ويتجرد له فيكون كأنه هو وذلك هو الوصول كما في شرح الأسماء الحسنى للإمام الغزالي رحمه الله {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} منصوب باذكر وهو أولى لبقاء قوله ونحن الخ على إطلاقه أو بما في أقرب من معنى الفعل والتلقي الأخذ والتلقن بالحفظ والكتابة والمعنى أنه لطيف يتوصل علمه ءلى ما لا شيء أخفى منه وهو أقرب إلى الإنسان من كل قريب حين يتلقى ويتلقن ويأخذ الحفيظان أي الملكان الموكلان بالإنسان ما يتلفظ به وفيه أي على الوجه الثاني إيذان بأنه تعالى غني عن استحفاظهما لإحاطة علمه بما يخفى عليهما وإنما ذلك لما في كتبهما وحفظهما لأعمال العبد وعرض صحائفهما يوم يقوم الإشهاد وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطته تعالى بتفاصيل أحواله خبراً من زيادة اللطف له في الكف عن السيئات والرغبة في الحسنات وعنه عليه السلام أن مقعد ملكيك على ثنيتيك ولسانك قلمهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعينك لا تستحي من الله ولا منهما وقد جوز أن يكون تلقي الملكين بياناً للقرب على معنى أنا أقرب إليه مطلعون على أعماله لأن حفظتنا وكتبتنا موكلون به {عَنِ الْيَمِينِ} هو أشرف الجوارح وفيه القوة التامة {وَعَنِ الشِّمَالِ} هو مقابل اليمين
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
{قَعِيدٌ} أي عن جانب اليمين قعيد أي مقاعد كالجليس بمعنى المجالس لفظاً ومعنى فحذف الأول لدلالة لا الثاني عليه وقيل يطلق الفعيل على الواحد والمعتدد كما في قوله والملائكة بعد ذلك ظهير {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} ما يرمى به من فيه من خير أو شر والقول أعم من الكلمة والكلام {إِلا لَدَيْهِ} مكر نزديك أو {رَقِيبٌ} ملك يرقب قوله ذلك ويكتبه فإن كان خيراً فهو صاحب فاليمين بعينه وإلا فهو صاحب الشمال {عَتِيدٌ} ءلى معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر فهو حاضر أينما كان وبالفارسية رقيب نكهباني وديده بانى بود عتيد آماده في الحال نويسد.
والافراد حيث لم يقل رقيبان عتيدان مع وقوفهما معاً على ما صدر عنه لما أن كلاً منهما رقيب لما فوض إليه لا لما فوض إلى صاحبه كما ينبىء عنه قوله تعالى عتيد وتخصيص القول بالذكر لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص واختلف فيما يكتبانه فقيل يكتبان كل شيء حتى أتيته في مرضه وقيل إنما يكتبان ما فيه أجر ووزر وهو الأظهر كما ينبىء عنه قوله عليه السلام كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل وكاتب الحسنات أمير أمين على كاتبالسيئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشراً وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر قيل إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعة لذاكره الكلام في الخلاء وعند قضاء الحاجة أشد كراهة لأن الحفظة تتأذى بالحضور في ذلك الموضع الكريه لأجل كتابة الكلام فإن سلم عليه في هذه الحالة قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله : يرد السلام بقلبه لا بلسانه لئلا يلزم كتابة الملائكة
115
فإنهم لا يكتبون الأمور القلبية وكذا يحمد الله بقلبه عند العطاس في بيت الخلاء وكذا يكره الكلام عند الجماع وكذا الضحك في هذه الحالة فلا بد من حفظ اللسان وفي الحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه :
ابلهى از صرفه زر ميكنى
صرفه كفتار كن ار ميكنى
مصلحت تست زبان زيركام
تيغ سنديده بود درنيام
وفي الحديث أن ملائك الليل وملائكة النهار يصلون معكم العصر فتصعد ملائكة النهار وتمكث ملائكة الليل فإذا كان الفجر نزل ملائكة النهار ويصلون الصبح فتصعد ملائكة الليل وتمكث ملائكة النهار وما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيراً وفي آخرها خيراً إلا قال الملائكة اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة كما في كشف الأسرار وفي الحديث نظفوا لثاتكم جمع لثة بالكسر وفتح الثاء المخففة وهي اللحمة التي فوق الأسنان ودون الأسنان وهي منابتها والعمور اللحمة القليلة بين السنين وأحدها عمر بفتح العين فأمر بتنظيفها لئلا يبقى فيها وضر الطعام فتتغير منه النكهة وتتنكر الرائحة ويتأذى المكان لأنه طريق القرآن ومقعد الملكين عندنا بيه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/92)
ـ وروي ـ في الخبر في قوله ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد قال عندنا بيه كما في تفسير القرطبي في سورة البقرة وفي الحديث نقوا براجمكم وهي مفاصل الأصابع والعقد التي على ظهرها يجتمع فيها من الوسخ واحدها برجمة بضمتي الباء والجيم وسكون الراء بينهما وهو ظهر عقدة كل مفصل فظهر العقدة يسمي برجمة وما بين العقدتين يسمى راجبة وجمعها رواجب وذلك مما يلي ظهرها وهو قصبة الأصابع فلكل أصبع برجمتان وثلاث راجب إلا الإبهام فإن له برجمة وراجبتين فأمر بتنقيته لئلا يدرن فيبقى فيه الجنابة ويحول الدرن بين الماء والبشرة والجنب لا تقر به ملائكة الرحمن إلى أن يتطهر وعن مجاهد قال : أبطأ جبريل عليه السلام على النبي عليه السلام ثم أتاه فقال له عليه السلام : ما حبسك يا جبريل قال : وكيف آتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ولا تنقون براجمكم ولا تستاكون ثم قرأ وما نتنزل إلا بأمر ربك كما في سفينة الأبرار وفي الخبر النبوي قال عليه السلام : نقوا أفواهكم بالخلال فإنها مجلس الملكين الكريمين الحافظين وإن مدادهما الريق وقلمهما اللسان وليس عليهما شيء أمر من بقايا الطعام بين الأسنان كما في أسئلة الحكم قال الإمام حجة الإسلام : أليس الله منع الجنب والمحدث عن الدخول إلى بيته ومس كتابه فقال عز من قائل : ولا جنبا إلا عابري سبيل وقال تعالى : لا يمسه إلا المطهرون مع أنهما أثر مباح فكيف بمن هو منغمس في قذر الحرام ونجاسة السحت والشبهة مع من يدعى إلى خدمة الله العزيز وذكره الشريف وصحبته الطاهرة سبحانه كلا لا يكون ذلك أبداً كما في الأسرار المحمدية إخواني فكر القلب في المباحات يحدث له ظلمة فكيف تدابير الحرام إذا غير المسك الماء منع الوضوء به فكيف ولوغ الكلب كما في درياق الذنوب لأبي الفرج ابن الجوزي وفي الحديث أن الله ملكاً على بيت المقدس ينادي كل ليلة ألا كل من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل فالصرف النافلة والعدل
116
الفريضة كما في الأحياء وإطلاق الآية يدل على أن للكفار كتاباً وحفظة فإن قيل فالذي يكتب عن يمينه إذا أي شيء يكتب ولم يكن لهم حسنات يقال له الذي عن شماله يكتب بإذن صاحبه ويكون شاهداً على ذلك وإن لم يكتب كما في بستان العارفين وفائدة حضور صاحب اليمين احتمال الإيمان وهو اللائح بالبال وفي الحديث أن الله تبارك وتعالى وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به يكتبان عمله قد مات فلان فتأذن لنا فنصعد إلى السماء فيقول الله تعالى يمائي مملوءة من ملائكتي يسبحون فيقولان فأين فيقول قوماً على قبر عبدي فكبراني وهللاني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة قال بعض الكبار من أهل البرزخ : من يخلق الله تعالى من همتهم من يعمل في قبورهم بغالب أعمالهم في الدنيا ويكتب الله تعالى لعبده ثواب ذلك العمل إلى آخر البرزخ كما وقع لثبات المنائي قدس سره فإنهم وجدوا في قبره شخصاً في صورته يصلي فظنوا أنه هو وإنما هو مخلوق من همته وكذلك المثالات المتخلية في صور أهل البرازخ لأهل الدنيا في النوم واليقظة فإذا رؤي مثال أجدهم فهو إما ملك خلقه الله تعالى من همة ذلك الولي وإما مثال أقامه الله تعالى على صورته لتنفيذ ما شاء الله من حوائج الناس وغيرها فأرواح الأولياء في البرزخ مالها خروج منه أبداً وأما أرواح الأنبياء عليهم السلام فإنها مشرفة على وجود الدنيا والآخرة كما في كتاب الجواهر للشعراني ومن ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ضرب بعض الصحابة خبائه على قبر وهو لا يشعر أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ سورة الملك فأتى النبي عليه السلام فأخبره فقال عليه السلام : هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر كما في حل الرموز.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
يقول الفقير بعض الآثار يدل على أن بعضا لأرواح يطوف في الأرض كالصديق والفاروق رضي الله عنهما كل إشارة إليه قوله عليه السلام : "إن لي وزيرين في الأرض : أبا بكر وعمر وأيضاً إن المهدي رضي الله عنه إذا خرج يستصحب أصحاب الكهف وروحانية شخصين من كمل هذه الأمة وأيضاً قد اشتهر في الروايات خروج بعض الأرواح من القبور في بعض الأيام والليالي والشهور بإذن الملك الغفور إلا أن يأول كل ذلك والعلم عند الله تعالى".
(9/93)
وفي التأويلات النجمية يشير أن من لم يعرف قدر قربي إليه ويكون بعيداً مني بخصاله الذميمة وفعاله الردئية ولم أرض بأن أكون رقيبه أوكل عليه رقيقين ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد يكتب بقلم حركاته ومدادنيته على صحيفة قلبه فإن كانت حركاته شرعية ونيته صافية تجيىء كتابته نورانية وإن كانت حركاته طبيعية حيوانية ونيته هو آثية شهوانية تجيىء كتابته ظلمانية نفسانية فمن هنا تبيض وجوه وتسود وجوه وفيه أيضاً إشارة إلى كمال عنايته في حق عباده إذ جعل على كل واحد رقيبين من الملائكة المقربين ليحفظوه بالليل والنهار إذا كان قاعداً فواحد عن يمينه وواحد عن شماله وإذا نام فواحد عن رأسه وواحد عن قدمه وإذا كان ماشياً فواحد بين يديده وآخر خلفه ويقال هما اثنان بالليل لكل واحد واثنان بالنهار ويقال بل الذي يكتب الخيرات كل يوم آخران والذي يكتب الشر والزلة كل يوم هو الذي كان بالأمس ليكثر شهود الطاعة غداً وتقل شهود المعصية ويقال بل الذي يكتب المعصية كل يوم اثنان آخران لئلا يعلم
117
من مساويك إلا القليل منهم فيكون علم المعاصي متفرقاً فيهم انتهى {وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} السكرة استعارة لشدة الموت وغمرته الذاهبة بالعقل إنما لم يجعل الموت استعارة بالكناية ثم إثبات السكرة له تخييلاً لأن المقام أدعى للاستعارة التحقيقية وعبر عن وقوعها بالماضي إيذاناً بتحققها وغاية اقترابها حتى كأنها قد أتت وحضرت كما قيل قد أتاكم الجيش إلى قرب إتيانه والباء إما للتعدية كما في قولك جاء الرسول بالخبر والمعنى حضرت سكرة الموت أي شدته التي تجعل الإنسان كالسكران بحيث تغشاه وتغلب على عقله حقيقة الأمر الذي نطق به كتاب الله ورسله أو حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته وإما للملابسة كالتي في قوله تعالى تنبت بالدهن أي ملتبسة بالحق أي بحقية الأمر أو بالحكمة والغاية الجميلة وقال بعضهم : أتت وحضرت بأمر الله الذي هو حق.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
ـ وحكي ـ أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه فقال : إني أحب الفتنة وأكره الحق وأشهد بما لم أره فحبسه عمر رضي الله عنه فبلغت قصته علياً رضي الله عنه فقال : يا عمر حبسته ظلماً فقال : كيف ذلك قال : لأنه يحب المال والولد قال تعالى : إنما أموالكم وأوردكم فتنة ويكره الموت وهو الحق قال تعالى : وجاءت سكرة الموت بالحق ويشهد بأن الله لواحد لم يره فقال عمر : لولا علي لهلك عمر {ذَالِكَ} أي يقال للميت بلسان الحال وإن لم يكن بلسان القال أو تقول ملائكة ذلك الموت يا إنسان {مَآ} موصولة أي الأمر الذي {كُنتَ} في الدنيا {مِنْهُ} متعلق بقوله : {تَحِيدُ} من حاد عنه يحيد حيداً إذا مال عنه أي تميل وتهرب منه وبالفارسية مى كريختى ومى ترسيدى واورا مكروه ميداشتى.
بل تحسب أنه لا ينزل عليك بسبب محبتك الحياة الدنيا كما في قوله أولم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال أي أقسمتم بألسنتكم بطراً وأشراً وجهلاً وسفهاً أو بألسنة الحال حيث بنيتم مشيداً وأملتم بعيداً ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة فكأنكم ظننتم أنكم مالكم من زوال مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنيوية فالخطاب في الآية للإنسان المتقدم على طريق الالتفات فإن النفرة عن الموت شاملة لكل فرد من أفراده طبعاً ويعضده ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : أخذت أبا بكر غشية من الموت فبكيت عليه فقلت :
من لا يزال دمعه مقنعا
لا بد يوماً أنه مهراق
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 13 من صفحة 118 حتى صفحة 127
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
فأفاق أبو بكر رضي الله عنه فقال : بل جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد وما روي أنها قالت : إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم توفي في بيتي وبين سحري ونحري وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه علي وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك فقلت : آخذه لك فأشار برأسه أن نعم فتناوله فاشتد عليه فقلت : ألينه لك فأشار برأسه أن نعم فلينته فأمره وبين يديه ركوة فيها ماء فجعل يدخل به يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول : لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يده فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده.
وجوز في الكشاف أن تكون الإشارة إلى الحق والخطاب للفاجر وهذا هو الظاهر لأن الكلام
118
(9/94)
في الفجار قاله سعدي المفتي وفي الحديث القدسي : "وما رددت في شيء أنا فاعله" بتشديد الدال يعني ما رددت ملائكتي الذين يقبضون الأرواح "ما رددت في قبض نفس عبدي المؤمن" أي مثل ترديدي إياهم في قبض أرواح المؤمنين بأن أقول اقبضوا روح فلان ثم أقول لهم أخروه وفي بعض النسخ ما ترددت ولما كان التردد وهو التحير بين الشيئين لعدم العلم بأن الأصلح أيهما محالاً في حق الله تعالى حمل على منتهاه وهوالتوقف يعني ما توقفت فيما أفعله مثل توقفي في قبض نفس المؤمن فإني أتوقف فيه وأريه ما أعددت له من النعم والكرامات حتى يميل قلبه إلى الموت شوقاً إلى لقائي {سَكْرَةُ الْمَوْتِ} استئناف عمن قال ما سبب ترددك أراد به شدة الموت لأن الموت نفسه يوصل المؤمن إلى لقاء الله فكيف يكرهه المؤمن "وأنا أكره مساءته" إذا أذاه بما يلحقه من صعوبة الموت وكربه "ولا بد منه" أي للعبد من الموت لا أنه مقدر لكل نفس كذا في شرح المشارق لابن الملك قال في كشف الأسرار جندكه حالت مرك بظاهر صعب مي نمايد لكن دوستانرا اندران حال درباطن همه عزوناز باشد وازدوست هر لمحه راحتى ودر هر ساعتى خلعتى آيد مصطفى عليه السلام زينجا كفته "تحفة المؤمن الموت" هي صاحب صدق از مرك نترسد حسين بن علي رضي الله عنهما بدررا ديدكه يراهن حرب ميكرد كفت ليس هذا زي المحاربين على كفت ما يبالى ابوك أسقط على الموت أم سقط الموت عليه صدق زاد سفر مرك است ومرك راه بقاست وبقا سبب لقاست من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه عمار بن ياسر رضي الله عنه عمروى به نودسال رسيدنيزه دردست كرفتى ودستش مى لرزيدى مصطفة عليه السلام اورا كفته بود آخر قوت تواز طعام دنيا شربتى شير باشددر حرب صفين عمار حاضر بوزنيزه دردست كرفته وتشنكى بروى افتاده شربتى آب خواست قدحى شيربوى دادنديادش آمد حديث مصطفى كه امروز روز دولت عمارست آن شربت بكشيد ويش رفت وميكفت اليوم نلقي الأحبة محمداً وحزبه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وفي المثنوي :
همنين باد اجل باعارفان
نرم وخوش همون نسيم يوسفان
آتش ابراهيم را دندان نزد
ون كزيده حق بود ونش كزد
س رجال ازنقل عالم شادمان
وزبقايش شادمان ابن كود كان
ونكه آب خوش نديدآن مرغ كور
يش اوكوثر نمايد آب شور
وعن صاحب المثنوي أنه لما حضره الموت ورأى ملك الموت عند الباب قال :
يش ترايش ترجان من
يك در حضرت سلطان من
قالوا ينزل عند الموت أربعة من الملائكة : ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى ، وملك يجذبها من قدمه اليسرى ، وملك يجذبها من يده اليمنى ، وملك يجذبها من يده اليسرى فيجذبونها من أطراف البنان ورؤوس الأصابع ، ونفس المؤمن المطيع تنسل انسلال القطرة من السقاء وأما الفاجر فينسل روحه كالسفود من الصوف المبلول وهو يظن أن بطنه قد ملئت شوكاً وكأن نفسه تخرج من ثقب ابرة وكأن السماء انطبقت على الأرض وهو بينهما فإن قلت مع وجود هذه السكرات لم لا يصيح المحتضر كما يصيح من به ألم من الضرب وغيره قلت إنما يستغيث المضروب ويصيح
119
لبقاء قوته في قلبه وفي لسانه وإنما ينقطع صوت الميت وصياحه مع شدته لأن الكرب قد بولغ فيه وتصاعد على قلبه وغلب على كل موضع منه أَني البدن فهد كل قوة وأضعف كل جارحة فلم يترك له قوة الاستغاثة قال وهب بن منبه : بلغنا أنه ما من ميت يموت حتى يرى الملكين اللذين كانا يحفظان عمله في الدنيا فإن صحبهما بخير قالا : جزاك الله خيراً فرب مجلس خير قد أجلستنا وعمل صالح قد أحرضتنا وإن كان رجل سوء قالا جزاك الله شراً فرب مجلس قد أجلستنا ورب كلام سوء قد أسمعتنا قال فذلك الذي يشخص بصر الميت ثم لا يرجع إلى الدنيا أبداً.
قال الشيخ سعدي :
دريغست فرموده ديوزشت
كه دست ملك برتو خواهد نوشت
روا دارى از جهل ونا كيت
كه ا كان نويسند نا كيت
وربما كشف للميت عن الأمر الملكوتي قبل أن يغر غرفاين الملائكة على حقيقة عمله أي على صور هي حقائق أعماله فإن كانت أعماله حسنة يراهم على صورة حسنة وإن كانت سيئة فعلى صور قبيحة ثم مراتب الحسن والقبح متفاوتة بحسب حسن الأعمال وقبحها وبحسب أنواعها فالملائكة لا يراهم البشر على ما يتحيزون إليه من عالمهم إلا ما كان من النبي عليه السلام من رؤية جبريل مرتين على صورته الأصلية.
وفي التأويلات النجمية إذا أشرف الناس على الخروج من الدنيا فأحوالهم تختلف فمنهم من يزداد في ذلك الوقت خوفه ولا يتبين حاله إلا عند ذهاب الروح ومنهم من يكاشف قبل خروجه فيسكن روعه ويحفظ عليه قلبه ويتم له حضوره تمييزه فيسلم الروح على مهل من غير استكراه وعبوس ومنهم ومنهم وفي معناه يقول بعضهم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
أنا إن مت فالهوى حشو قلبي
وابتداء الهوى بموت الكرام
(9/95)
قال بعض الكبار : إن السيد عبد القادر الجيلي قدس سره لما حضرته الوفاة وضع خده على الأرض وقال : هذا هو الحق الذي كنا عنه في حجاب فشهد على نفسه بأن مقام الإدلال الذي كان فيه نقص بالنسبة إلى حاله الذي ظهر له عند الموت وتمم الله حاله عند الموت ومات على الكمال وعكس هذا ما حكي أن مولانا حميد الدين أخذه اضطراب عظيم في مرض موته فقيل له : أين علومك ومعارفك؟ فقال : يطلبون منا القلب وأحوال القلب وذلك غير موجود عندنا فالاضطراب من تلك الجهة.
ـ وروي ـ لبعضهم كلمات عالية ثم رؤي حالة الرحلة في غاية التشوش وقد ذهب عنه التحقيقات وذلك لأن الأمر الحاصل بالتكلف لا يستقر حال المرض والهرم فكيف حال مفارقة الروح فلذا انتقل البعض في مقام القبض والهيبة وقد روي أن بعضهم ضحك عند الموت وقال لمثل هذا فليعمل العاملون وبعضهم بكى وقال : ما لهذا نسعى طول عمرنا وأراد تجلي الله تعالى عند ذلك فإذا كان حال أرباب الأحوال هكذا فما ظنك بأحوال غيرهم وقد قالوا : إن سكرات الموت بحسب الأعمال ولا حول وقد تظهر صفات حسنها وقبحها عندالموت فالمغتاب تقرض شفاهه بمقاريض من نار والسامع للغيبة يسلك في أذنيه نار جهنم وآكل الحرام يقدم له الزقوم كذلك إلى آخر أعمال العبد كل ذلك يظهر عند سكرات الموت فالميت يجوزها سكرة بعد سكرة فعند آخرها يقبض روحه وكان عليه
120
السلام يقول اللهم هون على محمد سكرات الموت وإنما لا يستعيذ أكثر الناس من الموت ومن أِواله وسكراته لما غلب عليهم من الجهل فإن الأشياء قبل وقوعها إنما تدرك بنور النبوة والولاية ولذلك عظم خوف الأنبياء والأولياء من الموت :
يا من بدنياه اشتغل
وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة
والقبر صندوق العمل
قال الحافظ :
سهر برشده رويزنيست خون افشان
كه ريزه اش سركسرى وتاج رويزست
بدان اي جوانمردكه از عهد آدم تافناى عالم كس ازمرك نرست تونيز نخواهى رست الموت كاس وكل الناس شاربه :
خانه ر كندم ويك جو نفرستاده بكور
غم مركت وغم برك زمستانى نيست
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} هي النفخة الثانية وهي نفخة البعث والنشور والنافخ اسرافيل عليه السلام وقد سبق الكلام في الصور {ذَالِكَ} أي وقت ذلك النفخ على حذف المضاف {يَوْمُ الْوَعِيدِ} أي يوم إنجاز الوعيد الواقع في الدنيا وتحقيقه والوعيد التهديد أو يوم وقوع الوعيد على أنه عبارة عن العذاب الموعود وتخصيص الوعيد بالذكر مع أنه يوم الوعد أيضاً لتهويله ولذا بدىء ببيان حال الكفرة {وَجَآءَتْ} ومى آيد دران روز بعرصه محشر {كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس البرة والفاجرة {مَّعَهَا} الخ محله النصب على الحالية من كل لإضافته إلى ما هو في حكم المعرفة كأنه قيل كل النفوس {سَآاـاِقٌ وَشَهِيدٌ} وإن اختلف كيفية السوق والشهادة حسب اختلاف النفوس عملاً أي معها ملكان أحدهما يسوق إلى المحشر والآخر يشهد بعملها خيراً أو شراً وفي كشف الأسرار يسوق الكافر سائقه إلى النار ويشهد الشهيد عليه بمعصيته ويسوق السائق المؤمن إلى الجنة ويشهد الشهيد له بطاعته انتهى وهل الملكان الكاتبان في الدنيا هما اللذان ذكرهما الله في قوله سائق وشهيد أو غيرهما فيه خلاف كما في فتح الرحمن أو معها ملك جامع بين الوصفين كأنه قيل معها ملك يسوقها ويشهد لها أو عليها وقال الواسطي سائقها الحق وشهيدها الحق أي بالنظر إلى الحقيقة في الدنيا والآخرة {لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَـاذَا} الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور وفي المفردات سهو يعتري من قلة التحفظ والتيقظ والمعنى يقال له يوم القيامة أو وقت النشور أو وقت العرض لقد كنت أيها الشخص في الدنيا في غفلة من هذا اليوم وغوائله وفي فتح الرحمن من هذا النازل بك اليوم وقال ابن عباس رضي الله عنهما من عاقبة الكفر وفي عين المعاني أي من السائق والشهيد وخطاب الكل بذلك لما أنه ما من أحد إلا وله غفلة ما من الآخرة وقيل الخطاب للكافر وقرىء كنت بكسر التاء على اعتبار تأنيث النفس وكذا الخطابات الآتية {فَكَشَفْنَا} أي أزلنا ورفعنا {عَنكَ غِطَآءَكَ} الذي كان على بصرك ولغطاء الحجاب المغطى لأمور المعاد وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والإلفة بها وقصر النظر عليها قال في المفردات : الغطاء ما يجعل فوق الشيء
121
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/96)
من لباس ونحوه كما أن الغشاء كذلك وقد استعير للجهالة قال تعالى : فكشفنا الآية.
يعني برداشتيم ازديده تووشش جهل وغفلت تراتا هره شنوده بودى معاينه بيني وحقيقتش ادراك ميكنى.
وفي الكواشي أو الغطاء القبر أي آخرجناك منه {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أي نافذ وبالفارسية تيزست.
تبصر ما كنت تنكره وتستبعده ف يالدنيا لزوال المانع للابصار ولكن لا ينفعك وهذا كقوله أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا يقال : حددت السكين رققت حدها ثم يقال لكل حاذق في نفسه من حيث الخلقة أو من حيث المعنى كالبصر والبصيرة حديد فيقال هو حديد النظر وحديد الفهم ويقال لسان حديد نحو لسان صارم وماض وذلك إذا كان يؤثر تأثير الحديد وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان وإن خلف من عالمي الغيب والشهادة فالغالب عليه في البداية الشهادة وهي العالم الحسي فيرى بالحواس الظاهرة العالم المحسوس مع اختلاف أجناسه وهو بمعزل عن إدراك عالم الغيب فمن الناس من يكشف الله غطائه عن بصر بصيرته فيجعل بصره حديداً يبصر رشده ويخذر شره وهم المؤمنون من أهل السعادة ومنهم من يكشف الله عن بصر بصيرته يوم القيامة يوم لا ينفع نفساً إيمانها وهم الكفار من أهل الشقاوة :
كرت رفت ازاندازه بيرون بدى
و كفتى كه بدرفت نيك آمدى
فراشوا و بينى در صلح باز
كه ناكه درتوبه كردد فراز
كنون باخردبايد انباز كشت
كه فردا نماند ره باز كشت
ومن كلمات امير المؤمنين علي رضي الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً :
حال خلد وجحيم دانستم
بيقين آننانكه مى بايد
كر حجاب ازميانه بركيرند
آن يقين ذره نيفزايد
يعني أن عين اليقين الحاصل لأهل الحجاب في الآخرة حاصل لأهل الكشف في الدنيا فإنهم ترقوا من علم اليقين إلى عين اليقين في هذه الدار فطابوا وقتاً فكأنهم في الجنان في الحال وكل يوم لهم يوم المزيد وفيه إشارة إلى سر عظيم وهو أن أهل النار يزول عن أبصارهم الحجب المانعة عن اليقين والعيان وذلك بعد احتراق ظواهرهم وبواطنهم أحقاباً كثيرة فيرون إذ ذاك من أثر الجمال ما رآه العارفون في هذه الدار فحينئذ لا يبقى للعذاب خطر إذ الاحتراق على الشهود ألا ترى إلى النسوة اللاتي قطعن أيديهن كيف لم يكن لهن حس بالقطع على شهود يوسف ولكن ليس لأهل النار نعيم كأكل وشرب ونكاح فاعرف {وَقَالَ قَرِينُهُ} وكويد همشين او.
يعني الشيطان المقيض له مشيراً له {هَـاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} أي هذا ما عندي وفي ملكتي ومقدوري عتيد لجهنم قد هيأنه لها باغوائي وإضلالي وقيل : قال الملك الموكل به يعني الرقيب الذي سبق ذكره مشيراً إلى ما هو من كتاب عمله هذا مكتوب عندي عتيد مهيأ للعرض فإن كان العبد من أهل الإيمان والجنة أحضر كتاب حسناته لأن سيئاته قد كفرت وإن كان من أهل الكفر والنار أحضر كتاب سيئاته لأن حسناته حبطت بكفره وما أن جعلت موصوفة فعتيد صفتها وإن جعلت موصولة فهي بدل منها أو خبر بعد خبر أو خبر لمبتدأ محذوف فعلى العاقل أن لا يطع الشيطان ولا يلتفت إلى إغوائه في كل زمان ومكان فإنه يدعو إلى النار
122
وقهر الجبار.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/97)
ـ روي ـ أن النبي عليه السلام سار ليلة المعراج فرأى عجوزاً على جنب الطريق فقال : ما هذه يا جبريل؟ فقال : سر يا محمد فسار ما شاء الله فإذا بشيء يدعوه متنحياً عن الطريق يقول : هلم يا محمد وأنه عليه السلام مر بجماعة فسلموا عليه وقالوا : السلام عليك يا أول السلام عليك يا آخر فقال جبريل اردد عليهم السلام فرد ثم قال جبريل أما العجوز فالدنيا ولم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز أما لو أجبتها لاختار أمتك الدنيا على الآخرة وأما الذي دعاك فإبليس وأما الذي سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام قال بعض العارفين : خلق الله إبليس ليميز به العدو من الحبيب والشقي من السعيد فخلق الله الأنبياء ليقتدي بهم السعداء وخلق إبليس ليقتدي به الأشقياء ويظهر الفرق بينهما فإبليس دلال وسمسار على النار والخلاف وبضاعته الدنيا ولما عرضها على الكافرين قيل ما ثمنها قال : ترك الدين فاشتروها بالدين وتركها الزاهدون وأعرضوا عنها والراغبون فيها لم يجدوا في قلوبهم ترك الدين ولا ترك الدنيا فقالوا له : أعطنا مذاقة منها حتى ننظر ما هي فقال إبليس : أعطوني رهناً فأعطوه سمعهم وأبصارهم ولذا يحب أرباب الدنيا استماع أخبارها ومشاهدة زينتها لأن سمعهم وأبصارهم رهن عند إبليس فأعطاهم المذاقة بعد قبض الرهن فاستمعوا من الزهاد عيب الدنيا ولم يبصروا قبائحها بل استحسنوا زخارفها ومتاعها فلذلك قيل : حبك الشيء يعمي ويصم وقال بعضهم : خلق الله إبليس ليكون المؤمن في كنف رعاية المولى وحفظه لأن لولا الذئب لم يكن للغنم راع وخلق الله إبليس من ظلمة وخبث وطبعه على العداوة نسأل الله الحفظ والعصمة منه {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ} خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد أو لملكين من خزنة النار أولو احد وهو الملك الجامع للوصفين أو خازن النار على تنزيل تثنية الفاعل تثنية الفعل وتكريره للتأكيد كأنه قيل ألق ألق حذف الفعل الثاني ثم أتى بفاعله وفاعل الفعل الأول على صورة ضمير الاثنين متصلاً بالفعل الأول أو على أن الألف بدل من نون التأكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف ويؤيده أنه قرىء ألقين بالنون الخفيفة مثل لنسفعن فإنه إذا وقف على النون تنقلب ألفاً فتكتب بالألف على الوقف ووجه آخر هو أن العرب أكثر ما يرافق الرجل منهم اثنان يعني أدنى الأعوان في السفر اثنان فكثر في ألسنتهم أن يقولوا خليلي وصاحبي وقفا وأسعدا حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين كما قال امرؤ القيس :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
خليلي مر بي على أم جندب
لتقضي حاجات الفؤاد المعذب
ألم تر أني كلما جئت طارقاً
وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
فثنى في البيت الأول ووحد في البيت الثاني {كُلَّ كَفَّارٍ} كل مبالغ في الكفر بالمنعم والنعم جاحد بالتوحيد معرض عن الإيمان وقيل كل كافر حالم غيره على الكفر {عَنِيدٍ} معاند للحق يعرف الحق فيجحده والعناد أقبح الكفر وقال قتادة منحرف عن الطاعة وقال السدي مشتق من العند وهو عظم يعترض في الحلق أو معجب بما عنده كأنه من قولهم عندي كذا كما في عين المعاني وقال في المفردات العنيد المعجب بما عنده والمعاند المتباهى بما عنده والعنود الذي يعند عن القصد أي يميل عن الحق ويرده عارفاً به {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} كثير المنع للمال
123
(9/98)
عن تفرقه مفروضة زكاة أو غيرها إن طبع على الشر والإمساك كما أن الكافر طبع على الكفر والعيد طبع على العياد ومناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله يحول بينه وبينهم والمنع ضد العطية يقال : رجل مانع ومناع أي بخيل وقد يقال في الحماية ومنه مكان منيع وقيل المراد بالخير الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لما منع بني أخيه منه وكان يقول : من دخل منكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت {مُعْتَدٍ} الاعتداء مجاوزة الحق أي ظالم متخط للحق معاد لأهله {مُّرِيبٍ} شاك في الله وفي دينه فهو صيغة نسبة بمعنى ذي شك وريب أي موقع في الريبة وقبل متهم {الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} مبتدأ متضمن معنى الشرط خبره قوله : {فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} أو بدل من كل كفار وقوله فألقياه تكرير للتوكيد والفاء للاشعار بأن الالقاء للصفات المذكورة وفي الحديث بينما الناس ينتظرون الحساب إذ بعث الله عنقاً من النار يتكلم فيقول : أمرت بثلاثة بمن دعا مع الله إلهاً آخر وبمن قتل بغير حق وبجبار عنيد فيلقطهم من الناس كما يلقط الطير الحب ثم بصيرهم في نار جهنم وفي تفسير الفاتحة للفنارى يخرج عنق من النار أي قبل الحساب والناس وقوف قد ألجمهم العرق واشتد الخوف وتصدعت القلوب لهول المطلع فإذا أشرف على الخلائق له عينان ولسان فصيح يقول يا أهل الموقف إني وكلت منكم بثلاثة وذلك ثلاث مرات إني وكلت بكل جبار عنيد فيلقطهم من بين الصفوف كما يلقط الطائر حب السمسم فإذا لم يترك أحداً منهم في الموقف نادى نداء ثانياً يا أهل الموقف إني وكلت بمن أذى الله ورسوله فيلقطهم كما يلقط الطائر حب السمسم بين الخلائق فإذا لم يترك منهم أحداً نادى ثالثاً يا أهل الموقف إني وكلت بمن ذهب بخلق كخلق الله فيلقط أهل التصاوير وهم الذين يصورون الكنائس لتعبد تلك الصور والذين يصورون الأصنام وهو قوله : أتعبدون ما تنحتون وكانوا ينحتون لهم الأخشاب والأحجار ليعبدوها من دون الله فيلقطهم من بين الصفوف كما يلقط الطائر حب السمسم فإذا أخذهم الله عن آُرهم وبقي الناس وفيهم المصورون الذين لا يقصدون بتصويرهم عباداتها حتى يسألوا عنها لينفخوا فيها أرواحاً تحيي بها وليسوا بنفافخين كما ورد في الخبر في المصورين فيقفون ما شاء الله ينتظرون ما يفعل الله بهم والعرق قد ألجمهم وفي الآية إشارة إلى الهوى والدنيا فمن عبدهما وجعلهما إلهين آخرين مع الله عذب بطلب الدنيا بالحرص والغفلة.
قال العطار قدس سره :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
شم كرسنه سير زنعمت نمى شود
غربال را زكثرت حاصل ه فائده
{قَالَ قَرِينُهُ} بغير واو لأن الأول خطاب للإنسان من قرينه ومتصل بكلامه والثاني استئناف خاطب الله سبحانه من غير اتصال بالمخاطب وهو قوله ربنا ما أطغيته وكذلك الجواب بغير واو وهو قال لا تختصموا لدى وكذلك ما يبدل القول لدي فجاء الكل على نسق واحد كما في برهان القرآن أي قال الشيطان المقيض للكافر.
قال الكاشفي : ون خواهندكه كافر را در دوزخ افكنند كويد مراه كناهست كه ديوبرمن مسلط بود ومراكمراه كردانيد دبورا حاضر سازند تكذيب ميكند.
ودل على هذا التقاول والسؤال المحذوف قوله لا تختصموا {رَبَّنَا} أي بروكارما {مَآ أَطْغَيْتُهُ} أي ما جعلته طاغياً وما أوقعته في الطغيان
124
(9/99)
وهو تجاوز الحد في العصيان {وَلَـاكِن كَانَ} هو بالذات {فِى ضَلَـالا بَعِيدٍ} من الحق طويل لا يرجع عنه فأعنته عليه بالإغواء والدعوة ءليه من غير قسر والجاء كما في قوله تعالى : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي وذلك فإن إغواى الشيطان إنما يوثر فيمن كان مختل الرأي مائلاً إلى الفجور ضالاً عن طريق الحق واقعاً دونه بمراحل وفي الحديث إنما أنا رسول وليس إلى من الهداية شيء ولو كانت الهداية إلي لآمن كل من في الأرض وإنما إبليس مزين وليس له من الضلالة شيء وهو كانت الضلالة إليه لا ضل كل من في الأرض ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء {قَالَ} كأنه قيل فماذا قال الله لابن آدم وشيطانه المقيض له في الدنيا فقيل قال تعالى : {لا تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ} أي في موقف الحساب والجزاء إذ لا فائدة في ذلك قال بعضهم : هذا الخطاب في الكفار وأما قوله ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ففي المؤمنين في الظالم فيما بينهم لأن الاختصام في الظالم مسموع وهذا في الموقف وأما قوله إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ففي جهنم فظهر التوفيق بين الآيات {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} على الطغيان في دار الكسب والتكليف في كتبي وألسنة رسلي فما تركت لكم حجة علي فلا تطمعوا في الخلاص منه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة والجملة حال فيها تعليل للنهي على معنى لا تختصموا وقد صح عندكم وعلمتم أني قدمت إليكم بالوعيد حيث قلت لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين فاتبعتموه معرضين عن الحق فلا وجه للاختصام في هذا الوقت وإنما قدر المعنى هكذا ليصح جعله حالاً فإن مقارنة الحال لذيها في الزمان واجبة لا مقارنة بين تقديم الوعيد في الدنيا والاختصام في الآخرة والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ} أي لا يغير قولي في الوعد والوعيد فما يظهر في الوقت هو الذي قضيته في الأزل لا مبدل له والعفو عن بعض المذنبين لأسباب داعية إليه ليس بتبذليل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد يعني ولا مخصص في حق الكفار فالوعيد على عمومه في حقهم قال الجلال الدواني في شرح العضد ذهب بعض العلماء إلى أن الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى لا في الوعد وبهذا وردت السنة حيث قال عليه السلام : "من وعد لاحد على عمله ثواباً فهو منجز له ومن أوعده على عمله عقاباً فهو بالخيار والعرب لا تعد عيباً ولا خلفاً أن يعد شراً ثم لا يفعله بل ترى ذلك كرماً وفضلاً وإنما الخلف أن يعد خيراً ثم لا يفعله" كما قال :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف ايعادي ومنجز موعدي
وأحسن يحيى بن معاذ رضي الله عنه في هذا المعنى حيث قال الوعد والوعيد حق فالوعد حق العباد على الله ضمن لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم كذا ومن ولى بالوفاء من الله والوعيد حقه على العباد قال : لا تفعلوا كذا فأعذبكم ففعلوا فإن شاء عفا وإن شاء آخذ لأنه حقه وأولاهما العفو والكرم لأنه غفور رحيم فالله تعالى لا يغفر أن يشرك به فينجز وعيده في حق المشركين ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فيجوز أن يخلف وعيده في حق المؤمنين ولأهل الحقائق كلام آخر مذكور في محله عافانا الله وإياكم من بلائه {وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} أي وما
125
(9/100)
أنا بمعذب للعبيد بغير ذنب من قبلهم والتعبير عنه بالظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلاً عن كونه ظلماً مفرطاً لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه من الظلم وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في معرض المبالغة في الظلم وقيل هي لرعاية جمعية العبيد من قولهم فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده على أنها مبالغة كما لا كيفا وقال بعضهم يفهم من ظاهر العبارة جواز الظلم المحال منه تعالى إذا النفي مسلط على القيد الذي هو الظلامية والجواب على ما اختاره كثير من المحققين أن المبالغة مسلطة على النفي لا على القيد كما في قوله ما أنا بكذوب يعني أن أصله ليس بظالم ثم نقل مع نفيه إلى صيغة المبالغة فكانت المبالغة راجعة إلى النفي على معنى أن الظل منفي عنه نفياً مؤكداً مضاعفاً ولو جعل النفي داخلاً على صيغة المبالغة بأن ضعف ظالم بدون نفيه ثم أدخل عليه النفس لكان المعنى أن ضعف الظلم منفي عنه تعالى ولا يلزم منه نفي أصله والله تعالى منزه عن الظلم مطلقاً يقول الله تعالى إني حرمت الظلم على نفسي وحرمته على عبادي فلا تظالموا ويقول الله تعالى اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري وعن بعض السلف دعوتان أرجو إحداهما كما أخشى الأخرى : دعوة مظلوم أعنته ودعوة ضعيف ظلمته وكان من ديدن السلطان بسمرقند الامتحان بنفسه مرات لطلبة مدرسته المرتبين أعالي وأواسط وأداني بعد تعيين جماعة كثيرة من العدول غير المدرس للامتحان من الأفاضل حذراً من الحيف وكان يعد الحيف في الرتبة بين المستعدين من قبيل الكفر في الدين.
4
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
قال الشيخ سعدي :
وخواهى كه فردا برى مهترى
مكن دشمن خويشتن كهترى
كه ون بكذرد برتواين سلطنت
بكيرد بقهرآن كدا دامنت
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى قال هؤلاء في الجنة ولا إبالي وهؤلاء في النار ولا إبالي فلا يبدل قوله تعالى فلا بد للجنة من أهلها وللنار من أهلها ولو عكس وجعل أهل الجنة في النار وأهل النار في الجنة لكان مخالفاً للحكمة لأن الجنة دار الجمال فهي مقر للمؤمنين والنار دار الجلال فهي مقر للكافرين كما أن القلب مقر الأوصاف الحميدة والنفس مقر الأوصاف الذميمة ولذا لا يدخل أهل النفس جنة القلب لأن النور والظلمة لا يجتمعان فاعرف {يَوْمَ} أي اذكر يا محمد لقومك ويشمل كل من شأنه الذكر يوم {نَقُولُ} بما لنا من العظمة {لِجَهَنَّمَ} دار العذاب وسبحان الله للعصاة {هَلِ امْتَاتِ} بمن ألقى فيك وهل أوفيك ما وعدتك وهو قوله لأملأن جهنم وقوله لكل واحدة منكما ملؤها فهذا السؤال من الله لتصديق خبره وتحقيق وعده والتقريع لأهل عذابه والتنبيه لجميع عباده {وَتَقُولُ} جهنم مجيبة بالاستفهام تأدباً وليكون الجواب وفق السؤال {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} أي من زيادة من الجن والإنس فيكون مصدراً كالمحيد أو من يزاد فيكون مفعولاً كالمبيع ويجوز أن يكون يوم ظرف المقدر مؤخر أي يكون من الأحوال والأهوال ما يقصر عنه المقال واختلف الناس في أن الخطاب والجواب هل هما على الحقيقة أولاً فقال بعضهم : هما على الحقيقة فينطقها الله بذلك كما ينطق الجوارح وهو المختار فإن الله على كل شيء قدير
126
وأمور الآخرة كلها أو جلها على خلاف ما تعورف في الدنيا وقد دلت الأحاديث على تحقق الحقيقة فلا وجه للعدول إلى المجاز كما روي من زفرتها وهجومها على الناس يوم الحشر وجرها الملائكة بالسلاسل وقولها جزيا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي ونحو ذلك مما يدل على حياتها الحقيقية وإدراكها فإن مطلق الجمادات لها تلك الحياة في الحقيقة فكيف بالدارين المشتملين على الشؤون العجيبة والأفعال الغريبة وأن الدار الآخرة لهي الحيوان وقال بعضهم : سؤال وجواب جيىء بهما على منهاج التمثيل والتخييل لتهويل أمرها يعني أن المقصود تصوير المعنى في القلب وتبيينه فهي بحيث لو قيل لها ذلك وهي ناطقة لقالت ذلك وأيضاً دلت بحالها على النطق كقولهم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
امتلأ الحوض وقال قطني
مهلاً رويداً قد ملأت بطني
(9/101)
يعني أنها مع اتساعها وتباعد أطرافها وأقطارها بطرح فيها الجنة والناس فوجاً بعد فوج حتى تمتلىء بهم وتصير بحيث لا يسعها شيء ولا يزاد فيها فالاستفهام على معنى التقرير ونفي المزيد أي وهل عندي موضع يزاد فيه شيء أي قد امتلأت وحصل في موعودك وصرت بحيث لا أسع ابرة وبالفارسية لا مزيد رشدم وزيادتي را كنجايش نيست.
فالمعنى الممثل هو الامتلاء وهو كقوله تعالى : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين فإنه سؤال تقرير لا سؤال استفهام وكقوله عليه السلام يوم فتح مكة هل بقي لنا عقيل داراً أي ما بقي لنا داراً ويجوز أن يكون المعنى أنها لغيظها على الكفار والعصاة كأنها تطلب زيادتهم وتستكثرهم ويجوز أن يكون السؤال استدعاء للزيادة في الحقيقة لأن ما يلقي فيها كحلقة تلقي في اليم.
يعني زيادتي كن وحق تعالى ديكر كافر بوي فرستاد تا رشود.
ويجوز أن يكون المعنى أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعد محل فارغ وموضع زيادة فإن قلت هذا يخالف قوله تعالى لأملأن جهنم قلت : ورد في الحديث لا تزال جهنم يلقي فيها وتقول هل من مزيد حتى نضع الجبار فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض يعني فيحصل الامتلاء وبه تندفع المخالفة :
اين قدم حق را بود كورا كشد
غير حق را كه كمان او كشد
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 14 من صفحة 127 حتى صفحة 138
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وفي رواية حتى يضع فيها رب العزة أو رب العرش قدمه فتقول قط قط أي حسبي حسيب وعزتك.
قوله ويزوي بالزاي المعجمة على بناء المجهول أي يضم ويجمع من غاية الامتلاء وآخر الحديث ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشيء الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة كما في كشف الأسرار وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله عليه السلام : تحاجت الجنة والنار فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة : فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله تعالى للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فإنهم يلقون فيها وتقول هل من مزيد فلا تمتلىء حتى يضع الله فيها رجله فتقول قط قط فهنالك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحداً وأما الجنة فينشىء الله لها خلقاً وفي القاموس
127
(9/102)
حتى يضع رب العزة فيها قدمه أي الذين قدمهم من الأشرار فهم قدم الله للنار كما أن الأخيار قدمه إلى الجنة أو وضع القدم مثل للردع والقمع أي يأتيها أمر يكفها عن طلب المزيد انتهى كما قال في بحر العلوم وضع القدم على الشيء مثل للردع والكف وقال بعضهم : يضربها من جبروته بسوط إهانة ويستمرون بين دولتي الحر والزمهرير وعامة عذاب إبليس بالزمهرير لأنه ينقاض ما هو الغالب عليه في أصل خلقته وقال ابن ملك وضعها كناية عن دفعها وتسكين سورتها كما تقول وضعت رجلي على فلان إذا قهرته وفي الكواشي قدمه أي ما قدمه في قوله سبقت رحمتي على غضبي أي يضع رحمته انتهى أو المراد من القدم قوم مسمى بهذا الاسم وأيضاً المراد بالرجل جماعة من الناس وهو وإن كان موضوعاً لجماعة كثيرة من الجراد لكن استعارته لجماعة من الناس غير بعيدة ومنهم من يقول المراد به قدم بعض مخلوقاته أضافها إلى الله تعظيماً كما قال فنفخنا فيه من روحنا وكان النافخ جبريل وفي عين المعاني القدم جمع قديم كأديم وأدم أي على كل ما تقدم أو قوم قدمهم إلى النار ويروى قدمه بكسر القاف أي قوماً قدموا بني آدم في الدنيا وروي رجل وهو الجماعة من الناس وقيل قدمه أهل قدمه الذين لهم قدم صدق عند ربهم يعني العاصين من أهل التوحيد انتهى ومنهم من قال القدم اسم لقوم يخلقهم الله لجهنم قال القاضي عياض هذا أظهر التأويلات لعل وجهه أن أماكن أهل الجنة تبقى خالية في جهنم ولم ينقل أن أهلها يرثون تلك الأماكن ويقال لهم أن الله يختص بنقمته من يشاء كما يرث أهل الجنة أماكن أهل النار في الجنة غير جنة أعمالهم ويقال لهم أن الله يختص برحمته من يشاء وهذا من نتائج قوله تعالى سبقت رحمتي على غضبي فيخلق الله خلقاً على مزاج لو دخلوا به الجنة لعذبوا فيضعهم فيها فإن قلت إذ لائم مزاجهم النار فأنى يتصور التعذيب قلنا الموعود ملؤها لا تعذيب كل من فيها وقال بعض الأكابر ليس في النار دركات اختصاص الهي ولا عذاب اختصاص الهي من الله فإن الله ما عرفنا قط أنه اختص بنقمته من يشاء كما أخبرنا أنه يختص برحمته من يشاء فأهل النار معذبون بأعمالهم لا غير وأهل الجنة ينعمون بأعمالهم وبغير أعمالهم في جنات الاختصاص فلأهل السعادة ثلاث جنات جنة الأعمال كما لأهل الشقاوة جحيم الأعمال ولهم خاصة جنات الاختصاص وجنات الميراث وهي التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة كما قال تعالى تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً وذلك أنه ما من شخص من الجن والإنس إلا وله في الجنة موضع وفي النار موضع وذلك لا مكانه الأصلي فإنه قبل كونه يمكن أن يكون له البقاء في العدم أو يوجد فمن هذه الحقيقة له قبول النعمة وقبول العذاب قال تعالى : ولو شاء لهداكم أجمعين أي أنتم قابلون لذلك ولكن حقت الكلمة وسبق العلم ونفذت المشيئة فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه ولم يقل في أهل النار أنهم يرثون من النار أماكن أهل الجنة لو دخلوا النار وهذا من سبق الرحمة بعموم فضله سبحانه فما نزل من نزل في النار إلا بأعمالهم ولهذا يبقى فيها أماكن خالية وهي الأماكن التي لو دخلها أهل الجنة عمروها فيخلق الله خلقاً يعمرونها على مزاج لو دخلوا به الجنة لعذبوا وهو قوله عليه السلام ليضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط أي حسبي حسبي فإنه تعالى يقول لها : هل امتلأت وتقول هل من مزيد وقد قال للجنة والنار لكل واحدة منكما ملؤها فما اشترط
128
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/103)
لها إلا أن يملأهما بهم ولا نعيمهم وأن الجنة أوسع من النار بلا شك فإن عرضها السموات والأرض فما ظنك نظولها فهي للنار كمحيط الدائرة والنار عرضها قدر الخط الذي يميز قطري دائرة فلك الكواكب الثابتة فأين هذا الضيق من تلك السعة وسبب هذا الاتساع جنات الاختصاص الإلهي فورد في الخبر أنه يبقى أيضاً في الجنة أماكن ما فيها أحد فيلخق الله خلقاً للنعيم يعمرها بهم وهو أن يضع الرحمن فيها قدمه أي آخر وجود يعطيه وليس ذلك إلا في جنات الاختصاص فالحكمالعلي الكبير فمن كرمه أنه ما أنزل أهل النار إلا على أعمالهم خاصة وأما قوله تعالى زدناهم عذاباً فوق العذاب فذلك لطائفة مخصوصة هم الأئمة المضلون ثم لا بد لأهل النار من فضله ورحمته في نفس النار بعد انقضاء المدة موازنة ازمان العمل فيفقدون الإحساس بالآلام في نفس النار فتتخلد جوارحهم بإزالة الروح الحساس منها إذ ليسوا بخارجين منها فلا يموتون فيها ولا يحيون وثم طائفة يعطيهم الله بعد انقضاء موازنة المدد بين العذاب والعمل نعيماً خيالياً ثم ما يراه النائم ونضج جلودهم خدرها فزمان النضج والتبديل يفقدون الآلام لخمود النار في حقهم فيكونون في النار كالأمة التي دخلتها وليست من أهلها فأماتهم الله فيها إماتة فلا يحسون بما تفعله النار في أبدانهم الحديث بكماله ذكره مسلم في صحيحه وهذا من فضل الله ورحمته يقول الفقير للإنسان الكامل قدمان قدم الجلال وقدم الجمال وبالأولى تمتلىء جهنم وبالثانية تمتلىء الجنة وبيان ذلك أن جهنم مقام أهل الطبيعة والنفس أنها مظهر قدم الجلال والجنة مقام أهل الروح والسر يعني أنها مظهر قدم الجمال والأعراف مقام أهل القلب لمناسبة بين الأعراف والقلب من حيث أنه مقام بين الجنة والنار كما أن القلب برزخ بين الطبيعة والنفس وبين الروح والسر وللإنسان الكامل نشأة جنانية روحاني ونشأة دنيوية جسمانية فهو لا يدخل الجنة إلا بمرتبة الروح والسر فتبقى صورته الطبيعية والنفسية المتعلقة بنشأته العنصرية فيملأ الله سبحانه جهنم بهذه البقعة يعني يظهر مظاهر جلاليته من تلك البقية فيملأها بها حتى تقول قط قط فما دام لم يظهر هذا التجلي من الإنسان الكامل لا تزال جهنم تقول هل من مزيد وهو المراد بقدم الجبار كذا في الحديث وإليه أشار الشيخ الكبير رضي الله عنه في الفكوك بقوله وأخبرت من جانب الحق أن القدم الموضوع في جهنم هو الباقي في هذا العالم من صور الكمل مما لا يصحبهم في النشأة الجنانية وكني عن ذلك الباقي بالقدم لمناسبة شريفة لطيفة فإن القدم من الإنسان آخر أعضائه صورة فكذلك نفس صورته العنصرية آخر أعضاء مطلق الصورة الإنسانية لأن صور العالم بأجمعها كالأعضاى لمطلق صورة الحقيقة الإنسانية وهذه النشأة آخر صورة ظهرت منها الحقيقة الإنسانية وبها قامت الصور كلها التي قلت أنها كالأعضاء انتهى وقال أيضاً أن الجنة لا تسع إنساناً كاملاً وإنما منه في الجنة ما يناسب الجنة وفي كل عالم ما يناسب ذلك العالم وما يستدعيه ذلك العالم من الحق من حيث ما في ذلك العالم من الإنسان بل أقول ولو خلت جهنم منه لم تبق وبه امتلأت وإليه الإشارة بقدم الجبار المذكور في الحديث انتهى أيضاً وقال الشيخ روزبهان البقلي في عرائس البيان أن جهنم لتشتاق إلى الله كما تشتاق إليه الجنة فإذا رأى
129
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
سبحانه حالها من الشوق إليه يضع أثقال سطوات قهر القدم عليها بنعت التجلي فتملأ من العظمة وتصير عند عظمة الله كلا شيء ورب طيب في قلوب الجههنميين في تلك الساعة من رؤية جلال عظمته ومن رؤية أنوار قدم القدم فتصير نيرانها ورداً وريحاناً من تأثير بركة ظهوره لها انتهى وفي الآية إشارة إلى أن جهنم صورة النفس الإنسانية فكما أن النفس لا يشبعها شيء وهي في طلب المزيد مطلقاً فكذا صورتها دار العذاب تطلب المزيد فهما على نسق واحد كاللفظ والمعنى يعني أن النفس الإنسانية حريصة على الدنيا وشهواتها فكلما ألقى فيها نوع منها ويقال لها هل امتلأت تقول هي هل من مزيد من أنواع الشهوات فلا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب :
آن شنيد ستى كه در صحراى غور
بارسالارى درافتاد ازستور
كفت سم تنك دنيا داررا
ياقناعت ركند ياخاك كور
(9/104)
وأيضاً أن الحرص الإنساني قشر محبة الله بل هو عين المحبة إذا كان متوجهاً إلى الدنيا وشهواتها يسمى الحرص وإذا كان متوجهاً إلى الله وقربانه يسمى محبة فاعلم أن ما زاد في الحرص نقص في المحبة وما نقص من الحرص زاد في المحبة وإذا اشتعلت نار المحبة فلا تسكن يائرتها بما يلقى فيها من محبوبات الدنيا والآخرة بل يكون حطبها وتزيد بعضها إلى بعد وتقول قط قط كما في التأويلات النجمية {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} الإزلاف نزديك كردانيدن اى قربت {لِلْمُتَّقِينَ} عن الكفر والمعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف ويقفون على ما فيها من فتون المحاسن فيبتهجون بأنهم محشورون إليها فائزون بها {غَيْرَ بَعِيدٍ} تأكيد للازلاف أي مكاناً غير بعيد بحيث ينظرون إليها قبل دخولها فيكون انتصابه على الظرفية أو هو حال مؤكدة أي حال كونها غير بعيد أي شيء غير بعيد كقولك هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل إلى غير ذلك من أمثلة التوكيد فالأزلاف تقريب الرؤية وغير بعيد تقريب الدخول فإنهم يحاسبون حساباً يسيراً ومنهم من لا يحاسب أصلا ويجوز أن يكون التذكير لكونه على زنة المصدر الذي يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث كالزئير والصليل والتأويل الجنة بالبستان وفي إشارة إلى جنة قلوب خواص المتقين أنها قربت لهم في الدنيا بالأجساد وهم في الآخرة بالقلوب.
جنت نقدست اينجا عشرت وعيش وحضور.
ويقال أن الجنة تقرب من المتقين كما أن النار تجر بالسلاسل إلى المحشر للمجرمين ويقال بل تقرب الجنة بأن يسهل على المتقين مسيرهم إليها ويراد بهم الخواص من المتقين ويقال هم ثلاثة أصناف قوم يحشرون إلى الجنة مشاة وهم الذين قال فيهم وسبق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً وهم عوام المؤمنين وقوم يحشرون إلى الجنة ركباناً على طاعتهم المصورة لهم بصورة حيوان وهؤلاء هم الخواص وأما خاص الخاص فهم الذين قال فيهم وأزلفت الجنة للمتقين فقرب الجنة منهم غير بعيد أي الجنة غير بعيد عنهم وهم البعداى عن الجنة في مقعد صدق عند مليك مقتدر {هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ} أي حال كون أولئك المتقين مقولاً لهم من قبل الله أو على ألسنة الملائكة عندما شاهدوا الجنة ونعيمها هذا المشاهد أو هذا الثواب أو الازلاف والتذكير لتذكير الخبر أو إشارة
130
إلى الجنة والتذكير لما أن المشار إليه هو المسمى من غير أن يخطر بالبال لفظ يدل عليه فضلاً عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أْكام اللفظ العربي كما في قوله تعالى فلما رأى الشمس بازغة قال : هذا ربي وقوله ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وفي التأويلات النجمية هذا إشارة إلى مقعد صدق ولو كانت الإشارة إلى الجنة لقال هذا {لِكُلِّ أَوَّابٍ} بدل من المتقين بإعادة الجار أي رجاع إلى الله فأولاً يرجع من الشرك إلى التوحيد وثانياً من المعصية إلى الطاعة وثالثاً من الخلق إلى الحق قال ابن عمر رضي الله عنهما : لا يجلس مجلساً فيقوم حتى يستغفر وفي المفردات الأواب كالتواب وهو الراجع إلى الله بترك المعاصي وفعل الخيرات ومنه قيل للتوبة أوبة والفرق بين الأوب والرجوع أن الأوب ضرب من الرجوع وذلك أنه لا يقال إلا في الحيوان الذي له إرادة والرجوع يقال فيه وفي غيره آب أو باو ايابا ومآبا والمآب مصدر منه واسم الزمان والمكان {حَفِيظُ} حافظ لتوبته من النقض ولعهده من الرفض.
قال في التأويلات النجمية : مقعد صدق هو في الحقيقة موعود للمتقين الموصوفين بقوله لكل اواب حفيظ وهو الراجع إلى الله في جميع أحواله لا إلى ما سواه حافظاً لأنفاسه مع الله لا يصرفها إلا في طلب الله يعني درهر نفس از حق تعالى غافل نباشد :
اكر تواس دارى اس انفاس
بسلطاني رسانندت ازين اس
ترا يك ند بس درهر دو عالم
كه برنايد زجانت بى خدادم
(9/105)
وقال سهل رضي الله عنه هو الراجع إلى الله تعالى بقلبه من الوسوسة إلى السكون إلى الله الحفيظ المحافظ على الطاعات والأوامر وقال المحاسبي الأواب الراجع بقلبه إلى ربه والحفيظ الحافظ قلبه في رجوعه إليه أن لا يرجع منه إلى أحد سواه وقال الوراق هو المحافظ لأوقاته وخطراته أي الخطرات القلبية والالهامات وفي الحديث من حافظ على أربع ركعات في أول النهار كان أواباً حفيظاً {مِنَ} هركه.
وهو وما بعده بدل بعد بدل {خَشِىَ الرَّحْمَـانَ} الخشي خوف يشوبه تعظيم وفي عين المعاني انزعاج القلب عند ذكر السيئة وموجبها وقال الواسطي الخشية ارق من الخوف لأن الخوف للعامة من العقوبة والخشية من نيران الله في الطبع فيها نظافة للعلماء ومن رزق الخشية لم يعدم الإنابة ومن رزق الإنابة لم يعدم التفويض والتسليم ومن رزق التفويض والتسليم لم يعدم الصبر على المكاره ومن رزق الصبر على المكاره لم يعدم الرضى وقال بعضهم : أوائل العلم الخشية ثم الإجلال ثم التعظيم ثم الهيبة ثم الفناء وعن بعضهم الخشية من الرحمن خشية الفراق ومن الجبار والقهار خشية العقوبة {بِالْغَيْبِ} متعلق بمحذوف هو حال من فاعل خشي أو من مفعوله أو صفة لمصدره أي خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب عنه أو العقاب بعد غيب يعند ناديده اورا وعذاب اورا.
أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد يعني نهان واشكار اي او يكى باشد.
وقال بعض الكبار بالغيب أي بنور الغيب يشاهد شواهد الحق فيخشى منه والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه راجعون رحمته أو بأن علمهم بسعة رحمته لا يصدهم عن خشيته وأنهم عاملون بموجب قوله نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم {وَجَآءَ} وبياورد
131
{بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} وصف القلب بالإنابة مع أنها وصف المكلف لما أن العبرة برجوعه إلى الله تعالى أي لا عبرة للإنابة والرجوع إلا إذا كان من القلب والمراد بها الرجوع إلى الله تعالى بما يحب ويرضى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
قال في المفردات النوب رجوع الشيء مرة بعد أخرى والإنابة إلى الله الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل.
وفي التأويلات النجمية بقلب منيب إلى ربه معرض عما سواه مقبل عليه بكلية {ادْخُلُوهَا} بتأويل يقال لهم ادخلوها والجمع باعتبار معنى من {بِسَلَـامٍ} متعلق بمحذوف هو حال من فاعل ادخلوها أي ملتبسين بسلامة من العذاب وزوال النعم وحلول النقم أو بسلام من جهة الله وملائكته {ذَالِكَ} إشارة إلى الزمان الممتعد الذي وقع في بعض منه ما ذكر من الأمور {يَوْمُ الْخُلُودِ} والبقاء في الجنة إذا انتهاء له أبداً قال الراغب : الخلود هو تبري الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها ولك ما يتباطأ عنه التغيير والفساد تصفه العرب بالخلود كقولهم الأيام خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها من غير اعتراض الكون والفساد عليها وقال سعدي المفتي ولا يبعد والله أعلم أن تكون الإشارة إلى زمان السلم فتحصل الدلالة على أن السلامة من العذاب وزوال النعم حاصلة لهم مؤيداً مخلداً لا أنها مقتصرة على وقت الدخول {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ} من فنون المطالب كائناً ما كان سوى ما تقتضي الحكمة حجره وهو ما كان خبيثاً في الدنيا أبداً كاللواطة ونحوها فإنهم لا يشاءونها كما سبق من أن الله يعصم أهل الجنة من شهوة محال أو منهى عنه {فِيهَا} متعلق بيشاءون أو حال من الموصول قال قال القشيري يقال لهم قد قلتم في الدنيا ما شاء الله كان فاليوم ما شئتم كان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان {وَلَدَيْنَا} وعندنا {مَّزِيدٍ} أي زيادة في النعيم على ما يشاءون وهو ما لا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من أنواع الكرامات التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فإنهم يسألون الله حتى تنتهي مسألتهم فيعطيهم ما شاءوا ثم يزيدهم من عنده ما لم يسألوه ولم تبلغه أمانيهم وقيل أن السحاب تمر بأهل الجنة فتمطرهم الحور فتقول نحن المزيد الذي قال تعالى ولدينا مزيد وقال الراغب : الزيادة أن ينضم إلى ما عليه الشيء من نفسه شيء آخر وروي من طرق مختلفة أن هذه الزيادة النظر إلى وجه الله إشارة إلى أنعام وأحوال لا يمكن تصورها في الدنيا انتهى وكذا قال غيره المختار أن المزيد هو النظر إلى وجه الله الكريم فيجتمعون في كل يوم جمعة فلا يسألون شيئاً إلا أعطاهم وتجلى لهم ويقال ليوم الجمعة في الجنة يوم المزيد وفي الحديث أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال بعض الكبار هي المشاهدة الذاتية وما ينتج من دخول الجنة في الدار الآخرة نتيجة الطاعات في هذه الدار لمن اختصه الله فنتيجنتنا في هذه الدار طاعات ومجاهدات توصل إلى تجليات ومشاهدات.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/106)
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن من يريدنا ويعبر عن نعيم الجنة للوصول إلينا فيصل إلينا ولدينا يجد بالمزيد ما يشاء أهل الجنة منها وهذا كما قال : من كان لي كنت له ومن كنت له يكون له ما كان لي وقال تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه فإن قيل الزيادة في الدنيا تكون أقل من رأس المال قلت المراد
132
بالزيادة في الآية الكريمة هو الزيادة على موعود الجنة لا من درجات الجنة لأن الزيادة هنا ليست من جنس المزيد عليه حتى يلزم ذلك بخلافه في قوله عليه السلام : أن الله زادكم صلاة ألا وهي الوتر فإن الزيادة هنا من جنس المزيد عليه وقضيته الفرضية إلا أنه لما ثبت بخبر الواحد لم يكن مقطوعاً به فقيل بالوجود فالزيادة من الله العزيم الأكبر أكبر وأعز كما أن الرضوان من الكريم الأجود أكبر وأجل والنظر إلى وجهه الكريم كمال الرضى ومزيد فضل وعناية وقال الحسن البصري أن الله ليتجلى لأهل الجنة فإذا رأوه نسوا نعيم الجنة ثم يقول الله لملائكته ردوه إلى قصورهم إذ لا يهتدون بأنفسهم لأمرين لما طرأ عليهم من سكر الرؤية ولما زاد من الخير في طريقهم فلم يعرفوها فلولا أن الملائكة تدل بهم ما عرفوا منازلهم فإذا وصلوا إلى منازلهم تلقاهم أهلهم من الحور والولدان فيرون جميع ملكهم قد اكتسب بهاء وجمالاً ونوراً من وجوههم أفاضوه إفاضة ذاتبة على ملكهم فيقولون لهم لقد زدتم نوراً وبهاء وجمالاً على ما تركناكم عليه فيقول لهم أهلهم وكذلك أنتم قد زدتم من البهاء والجمال ما لم يكن فيكم فافهم أسرار تسمي الرؤية بالزيادة لأنها تورث زيادة الجمال والعلوم والكمال ويتفاوت الناس بالرؤية تفاوتاً عظيماً على قدر عملهم قال بعض الكبار إذا أخذ الناس منازلهم في الجنة استدعاهم الحق تعالى إلى رؤيته على مقام الكثيب وهو مسك أبيض في جنة عدن وجعل في هذا الكثيب منابر وأسرة وكراسي ومراتب فيسارعون إلى قدر عممهم ومراكبهم ومشيهم هنا في طاعة ربهم فمنهم السريع والبطيء والمتوسط فيجتمعون في الكثيب فكل شخص يعرف مرتبته علماً ضرورياً يهوى إليها ولا ينزل إلى فيها كما يهوى الطفل إلى الثدي والحديد إلى المغناطيس لورام أن ينزل في غير مرتبته لما قدر ولو رام أن يتعشق بغير منزلته ما استطاع بل يرى في منزلته أنه قد بلغ منتهى أمله وقصده فهو يتعشق بما فيه من النعيم تعشقاً طبيعياً ذاتياف لا يقوم بنفسه بما هو عنده أحسن من حاله ولولا ذلك لكانت دار ألم وتنغيص ولم تكن جنة ولا نعيماً فكل شخص مقصور عليه نعيمه :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
بعلم نظر كوش جامى كه نيست
زتحصيل علم دكر حاصلي
وقال المغربي :
نخست ديده طلب كن س آنكهة ديدار
ازانكه يار كند جلوه بر اولوا الابصار
وقال الخجندي :
باروى تويست جنت وحور
هريز نكو نمايد ازدور
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا} كم للتكثير هنا وهي خبرية وقعت مفعول أهلكنا ومن قرن مميزها وبين لأنها مها {قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ} القرن القوم المقترنون أي وكثيراً من القرون الذين كذبوا رسلهم أهلكنا قبل قومك وهم كفار مكة وبالفارسية وبس كسان كه هلاك كرده ايم يش ازقوم تواز اهل قرن وكروه كروه جهانيان كه بحسب واقع {هُمْ} ايشان {أَشَدُّ مِنْهُم} سخت تربودنداز كفار مكه {بَطْشًا} ازروى قوت وعظيم تر بودند از روى جسد ون عاد وثمود وفرعون ومحل الجملة النصب على أنها صفة لكم وفيه إشارة
133
إلى إهلاك النفوس المتمردة في القرون الماضية إظهاراً لكمال القدرة والحكمة البالغة لتتأدب به النفوس القابلة للخير وتتعظ به القلوب السلمة {فَنَقَّبُوا فِى الْبِلَـادِ} قال في القاموس نقب في الأرض ذهب كأنقب ونقب وعن الأخبار بحث عنها أو أخبر بها والنقب الطريق في الجبل وفي تاج المصادر التنقيب شب در راهها كرديدن وفي المصادر شدن اندر شهرها.
والمعنى خرقوا فيها أي أوقعوا الخرق فيها والجوب وقطع المفازة ودوخوا أي أذلوها وقهروا أهلها واستولوا عليهم وتصرفوا في أقطارها أو جالوا في أكناف الأرض كل مجال حذار الموت فالفاء على الأول لتسبب والدلافة على أن شدة بطشهم ابطرتهم واقدرتهم على التنقيب وعلى الثاني لمجرد التعقيب وأصل التنقيب والنقب التنقير عن الأمر والبحث والطلب ولذا قال في كشف الأسرار أي أبعدوا فيها السير وبحثوا عن الأمور والأسباب قال امرؤ القيس :
لقد نقبت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالاياب
(9/107)
وبالفارسية س دور شدند وفراوان رفتند درزمين وراه بريدند درشهرها يعني رفتند تجارت وسفرها كردند ومال ومتاع بسيار بدست آوردند.
وفي فتح الرحمن أي طافوا في نقوبها أي طرقها {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} حال من واو نقبوا وأصله من قولهم وقع في حيص بيص أي في شدة وحاص عن الحق يحيص أي حاد عنه إلى شدة ومكروه وفي القاموس المحيص المهرب أي فنقبوا في البلاد قائلين هل من محيص أي هل لهم من مفر ومخلص من أمر الله وعذابه أو من الموت فمحيص مبتدأ خبره مضمر وهو لهم ومن زائدة وبالفارسية هي بودمر ايشانرا كريز كاهى ازمرك ياناهى از قضاى خداى تعالى كه حكم فنا نازل شد هي يز دستكيرىء ايشان نكرد.
ويجوز أن تكون الجملة كلا ما مستأنفاً وارد النفي أن يكون لهم محيص يعني نكريد تاهي ازمرك رستند يعني نرستند واز عقوبت حق خلاص نشدند.
فإن أصر أهل مكة فليحذروا من مثل ما حل بالأمم الماضية فإن الغاية هو الهلاك والنهاية هو لعذاب روز كارى كه آدم را وفانداشت تراكى وفا دارد عمرى كه برنوح بايان رسيد باتوكى بقادارد اجلى كه برنوح بايان رسيد باتوكى بقادارد اجلى كه بر خليل تاختن آورد تراكى فرو كذارد مركى كه بر سليمان كمين ساخته بانوكى مساحت كند :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
نه برباد رفتى سحر كاه وشام
سرير سليمان عليه السلام
بآخر نديدى كه برباد رفت
خنك آنكه بادانش ودادرفت
مؤكلى كه جان مصطفى را صلى الله عليه وسلّم تقاضا كرد باتوكى مدارا كند اكر عمر نوح ومال قارون وملك سليمان بدست آرى بدرد مرك سودندارد وباتو محابا نكند هفت هزار سال كه كسرى كذشت تا آدميان اندرين سفرنداز اصلاب بارحام مى آيند واز ارحام به شت زمين وان شت زمين بشكم زمين ميروندهمه عالم كور ستانست زيرا وهمه حست زيرا وهمه درحيرت سر برآور از آسمان برس كه ند ادشاه ياد دارى شم بر زمين افكن وباز رس كه درشكم ند نازنين دارى :
134
سل الطارم العالي الذرى عن قطينه
نجاما نجا من بؤس عيش ولينه
فلما استوى في الملك واستعبد الورى
رسول المنايا تله لجبينه
جهان اى سر ملك جاويد نيست
زدنيا وفادارى اميد نيست
أي سخره امل أي غافل از اجل كارى كه لا محاله بودنيست ازان نه انديشى وراهى كه على الحقية رفتنيست زاد آن راه برنكيرى شغل دنيا راست ميدارى وبرك مرك مى نسازى أي مسكين مركت درقفاست ازو ياد دار منزلت كورست آباد دار حطام دنيا جمع ميكنى واز مستحق منع ميكنى ه طمع دارى كه جاويد بان بمانى باش تا ملك الموت در آيد وجانت غارت كند و وارث درآيد مالت غارت كند وخصم درآيد طاعت غارت كند وكرم در آيد وست وكوشت غارت كند وآه اكر باين غفلت دشمن درآيد وايمان غارت كنده نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المتيقظين ومن الثابتين على الدين واليقين ومن رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين {إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي فيما ذكر من قصتهم أو فيما ذكر في هذه السورة من العبر والاخبار وإهلاك القرى {لَذِكْرَى} لتذكرة وعظة وبالفارسية ند {لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ} أي قلب سليم يدرك به كنه ما يشاهده من الأمور ويتفكر فيها كما ينبغي فإن من كان له ذلك يعلم أن مدار دمارهم هو الكفر فيرتدع عند بمجرد مشاهدة الآثار من غير تذكير قال الراغب قلب الإنسان سمي به لكثرة تقلبه ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح ولعلم والشجاعة وسائر ذلك وقوله لمن كان له قلب أي علم وفهم انتهى وفسره ابن عباس رضي الله عنهما بالعقل وذلك لأن العقل قوة من قوى القلب وخادم من خدامه كما في كتاب الجواهر للشعراني فمن له أدنى عقل فله ذكرى كما قال تعالى : أفلا تعقلون أي أدنى تعقل وقال أبو الليث لمن كان له قلب أي عقل لأنه يعقل بالقلب فكنة عنه انتهى وفي الأسئلة المقحمة كيف قال لمن كان له قلب ومعلوم أن لكل إنسان قلباً قلت أن المراد ههنا بالقلب عقل كنة بالقلب عن العقل لأنه محله ومنبعه كما قال تعالى فإنه نزله على قلبه وسمعت بعض الشيوخ يقول لمن كان له قلب مستقر على الإيمان لا ينقلب بالسراء والضراء انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/108)
وفي تفسير الكاشفي : آنكس راكه اورا دلى زنده است وفي كشف الأسرار دلى متفكر در حقايق اخبار يا عقلى بيدار كننده از خواب غفلت شبلى قدس سره فرمود موعظه قرآنرا دلى بايد باخداى تعالى كه طرفة العيني غافل نباشد {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي إلى ما يتلى عليه من الوحي الناطق بما جرى عليهم فإن من فعله يقف على جلية الأمر فينزجر عما يؤدي إليه من الكفر فكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع فإن القاء السمع لا يجدي بدون سلامة القلب كما يلوح به قوله {وَهُوَ} أي والحال أن ذلك الملقى فهو حال من الفاعل {شَهِيدٌ} من الشهود بمعنى الشاهد أي حاضر بذعنه ليفهم معانيه لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب أو شاهد بصدقه فيتعظ بظواهره وينزجر بزواجره وقال سعدي المفتي أو لتقسيم المتفكر إلى التالي السامع أو إلى الفقيه والمتعلم وبعبارة أخرى إلى العالم المجبول على الاستعداد الكامل فهو بحيث يحتاج إلى التعليم فيتذكر بشرط أن
135
يقبل بكليته ويزيد الموانع كلها وقال بعض الكبراء من العارفين أن في ذلك أي القرآن الناطق بإثبات أمور متخالفة للحق سبحانه من التنزيه والتشبيه لذكرى أي تذكراً لما هو الحق عليه في نفسه من التقلب في الشؤون لمن كان له قلب سمي به لتقلبه في أنواع الصور والصفات المتخالفة لاختلاف التجليات ولم يقل لمن كان له عقل فإن العقل قيد لغة وحقيقة أما لغة فإنه يقال عقل البعير بالعقال أي قيده وعقل الدواء البطن أي عقده وأما حقيقة فلأن العقل يقيد العاقل بما يؤدي نظره وفكره إليه فيحصر الأمر في نعت واحد والحقيقة تأبى الحصر فليس القرآن ذكرى لمن كان له عقل يقيده بما يؤيده الكفر إليه فإنه ليس ممن يتذكر بما وقع في القرآن من الآيات الدالة على التنزيه والتشبيه جميعاً بل يؤول ما وقع على خلاف ما يؤديه فكره إليه كالآيات الدالة على التشبيه مثلاً وهم أي من كان له عقل هم أصحاب الاعتقادات الجزئية التقييدية الذين يكفر بعضهم الذي يؤديه فكره إلى عقد مخصوص بعضاً آخر يؤديه فكره إلى خلاف ما أدى إليه فكر البعض الأول ويلعن بعضهم بعضاً والحق عند العارف الذي يتقلب قلبه في أنواع الصور والصفات لأنه يعرف أن لا غير في الوجود وصور الموجودات كلها صورته فلاختصاص معرفة الحق في جميع الصور في الدنيا والآخرة بالعارف الناتج معرفته عن تقلب قلبه قال تعالى لمن كان له قلب فإنه قد تقلب قلبه في الاشكال فعلم تقلب الحق في الصور وهذا النوع من المعرفة الذي لا يعقبه نكرة حظ من عرف الحق من التجلي والشهود أي من تجليه في الصور وشهوده فيها حال كونه مستقراً في عين مقام الجميع بحيث لا يشغله صور التفرقة عن شهوده وأما أهل الإيمان الاعتقادي الذين لم يعرفوا الحق من التجلي والشهود فهم المقلدة الذين قلدوا الأنبياء والرسل فيما أخبروا به عن الحق من غير طلب دليل عقلي لا من قلبد أصحاب الأفكار والمتأولين للاخبار الواردة الكاشفة عن الحق كشفاً مبيناً يحملها على أدلتهم العقلية وارتكاب احتمالاتها البعيدة فهؤلاء الذين قلدوا الرسل عليهم السلام حق التقليد هم المرادون بقوله أو ألقى السمع لاستماع ما وردت به الاخبار الإلهية عن ألسنة الأنبياء وهو حاضر بما يسمعه مراقب له في حضرة خياله يعني ينبغي لملقى السمع أن يجهد في إحضار ما يسمعه في خياله لعله يفوز بالتجليات المثالية لا أن يكون صاحب تلك التجليات بالفعل وإلا بقي بعض ملقدة الانبياء خارجاً عن هذا الحكم فليس المراد بالشهود ههنا الرؤية البصرية بل ما يشابهها كمال المشابهة وهو مشاهدة الصور المتمثلة في حضرة الخيال ليس إلا ومن قلد صاحب نظر فكري فليس هو الذي ألقى السمع وهو شهيد فالمقلدون لأصحاب الافكار هم الذين قال الله فيهم از تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا لأن المتبوعين دعوا التابعين إلى خلاف الواقع فتبعوهم ورجع نكال متابعتهم إلى متبوعيهم فتبرأوا منهم والرسل لا يتبرأون من اتباعهم الذين اتبعوهم لأنهم دعوهم إلى الحق والصدق فتبعوهم فانعكست أنوار متابعيهم اليهم فلم يتبرأوا منهم فاعرف.
درلباب آورده كه صاحب قلب مؤمن عريست وشهيد مؤمن أهل كتاب كه كواهى دارد بركفت حضرت يغمبر عليه السلام شيخ أبو سيعد خراز قدس
136
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
سره فرموده كه القاى سمع بوقت شنيدن قرآن نان بايدكه كويا از حضرت يغمبر مى شنود س در فهم بالاتر رود ونان داندكه از جبرائيل استماع ميكند س فهم را بلند ترسازد ونان داندكه از خداى تعالى مى شنود شيخ الاسلام قدس سره فرموده كه اين سخن تامست وبرو در قرآن كواهى هست وآن لفظ شهيدست وشهيد از كوينده شنودنه ازخبر دهنده ه غائب ازمخبر مى شنود وحاضر بامتكلم واز امام جعفر رضي الله عنه منقولست كه تكرار ميكردم قرء آنرا تا وقتى كه از متكلم آن شنودم.
(9/109)
وفي التأويلات النجمية القلوب أربعة : قلب يائس وهو قلب الكافر وقلب مقفول وهو قلب المنافق وقلب مطمئن وهو قلب المؤمن وقلب سليم من تعلقات الكونين وهو قلب المحبين المحبوبين الذي هو مرآة صفات جمال الله وجلاله كما قال لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن وقوله أو ألقي السمع وهو شهيد يعني من لم يكن له قلب بهذه الصفة يكون له سمع يسمع بالله وهو حاضر مع الله فيعتبر مما يشير إليه الله في إظهار اللطف أو القهر وقال ابن عطاء قلب لاحظ الحق بعين التعظيم فذاب له وانقطع عما سواه وإذا لاحظ القلب الحق بعين التعظيم لان وحسن وقال بعضهم : القلب مضغة وهو محل الأنوار ومورد الزوائد من الجبار وبه يصح الاعتبار جعل الله القلب للجسد اميراً وقال : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ثم جعله لربه أسيراً فقال يحول بين المرء وقلبه وقال بعضهم : للقلوب مراتب : فقلوب في قبضة الحق مأسورة وقلوب والهة وقلوب طائرة بالشوق إليه وقلوب إلى ربها ناظرة وقلوب صاحبت الآمال في الله وقلوب تبكي من الفراق وشدة الاشتياق وقلوب ضاقت في دار الفناء وقلوب خاطبها في سرها فزال عنها مرارة الأوجاع وقلوب سارت إليه بهمتها وقلوب صعدت إليه بعزائم صدقها وقلوب تقدمت لخدمته في الحلوات وقلوب شربت بكأس الوداد فاستوحشت من جميع العباد إلى غير ذلك ويدل على شرف القلب قوله عليه السلام : تفكر ساعة خير من عبادة الثقلين.
ون بنده بدركاه آيد ودل اوكرفتار شغل دنيا رقم خذلان بران طاعت كشند وبروى اوباز زنندكه كفته اند من لم يحضر قلبه في الصلاة فلا تقبل صلاته ومن لم يحصل درجة الرؤية في الصلاة فما بلغ غايتها ولا كان له فيها قرة عين لأنه لم ير من يناجيه فإن لم يسمع ما يرد عليه من الحق في الصلاة من الواردات الغيبية فما هو ممن ألقى سمعه ومن لم يحضر فيها مع ربه مع كونه لم يسمع ولم ير فليس بمصل ولا هو ممن ألقى السمع وهو شهيد يعني أدنى مرتبة الصلاة الحضرو مع الرب فمن لا يرى ربه فيها ولا يشهده شهوداً روحانياً أو رؤية عيانية قلبية أو مثالية خيالية أو قريباً منها المعبر عنه بقوله عليه السلام : أن تعبد الله كأنك تراه ولا يسمع كلامه المطلق بغير واسطة الروحانيات أو بواسطة منهم ولا حصل له الحضور القلبي المعبر عنه بقوله فإن لم تكن تراه فاعلم أنه يراك فليس بمصل وصلاته أفادت له الخلاص من القتل لا غير وبقدر خوف المرء من ربه وقربه منه يكون حضوره :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
نزديكانرا بيش بود حيرانى
كايشان دانند سياست سلطانى
137
آن وزير يوسته از مراقبت سلطان هراسان بود وآن ستوردار راهراسى نه زيرا كه سينه وزير خزينه اسرار سلطانست ومهر خزينه شكستن خطرناك بود وكان عليه السلام يصلي ولصدره ازيز كأزيز المرجل من البكاء والأزيز الغليان وقيل صوته والمرجل قدر من النحاس :
خوشا نماز ونياز كسى كه از سردرد
بآب ديده وخون جكر طهارت كرد
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 15 من صفحة 138 حتى صفحة 148
(9/110)
حذيفه يماني رضي الله عنه صاحب سر رسول الله عليه السلام بود كفتا روزى شيطانرا ديدم كه مى كريست كفتم أي لعين ابن ناله وكريه تويست كفت ازبراى دومعنى يكى آنكه دركاه لعنت برما كشاده ديكر آنكه دركاه دل مؤمنان برمايسته بهر وقتى كه قصد دركاه دل مؤمن كنم بآتش هيبت سوخته كردم بداود عليه السلام وحى آمدكه يا داود زبانت دلالى است برسربازار دعوى اورا در صدر دار الملك دين محلى نيست محلى كه هست دلراست كه ازو بوى اسرار أحديت وأزليت آيد عزيز مصر بابرادران كفت رخت برداريد وبوطن وقراركاه خود باز شويدكه ازدلهاى شما بوى مهر بوسفى مى نيايد اينست سر آنه رب العالمين فرمود أن في ذلك لذكرى الآية قال بعض الكبار حقيقة السمع الفهم عن الله فيما يتلوه عليك في الأنفس والآفاق فإن الحق تارة يتلو عليك الكتاب من الكبير الخارج وتارة من نفسك فاسمع وتأهب لخطاب مولاك إليك في أي مقام كنت وتحفظ من الوقر والصمم فالصمم آفة تمنعك عن إدراك تلاوته عليك من الكتاب الكبي المعبر عنه بالفرقان والوقر آفة تمنعك من إدراك تلاوته عليك من نفسك المختصرة وهو الكتاب المعبر عنه بالقرآن إذ الإنسان محل الجمع لما تفرق في العالم الكبير {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} من أصناف المخلوقات {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} درشش روز آن يكشنبه تاشنبه الأرض.
في يومين ومنافعها في يومين والسموات في يومين ولو شاء لكان ذلك في أقل من لمح البصر ولكنه سن لنا التأني بذلك فإن العجلة من الشيطان إلا في ستة مواضع أداى الصلاة إذا دخل الوقت ودفن الميت إذا حضر وتزويج البكر إذا أدركت وقضاء الدين إذا وجب وحل وإطعام الضيف إذا نزل وتعجيل التوبة إذا أذنب قال بعض العارفين : إذا فتح الله عليك بالتصريف فائت البيوت من أبوابها وإياك والفعل بالهمة من غير الة وانظر إلى الحق سبحانه كيف خمر طينة آدم بيديه وسواه وعدله ثم نفخ فيه الروح وعلمه الأسماء فأوجد الأشياء على ترتيب ونظام وكان قادراً أن يكون آدم ابتداى من غير تخمير ولا شيء مما ذكر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وفي التأويلات النجمية ولقد خلقنا سموات الأرواح وأرض الأشباح وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار وسر الأسرار في ستة أيام أي في ستة أنواع من المخلوقات وهي محصورة فيما ذكرناه من الأرواح والأشباح والنفوس والقلوب والأسرار وسر الأسرار فلا مخلوق إلا وهو داخل في جملتها فافهم جداً {وَمَا مَسَّنَا} بذلك مع كونه مما لا تفي به القوى والقدر وبالفارسية ونرسيد مارا از آفرينش آنها {مِن لُّغُوبٍ} قال الراغب اللغوب : التعب والنصب يقال آتانا ساعياً لاغياً خائفاً تعباً وفي القاموس لغب ولغوباً كمنع وسمع وكرم
138
أعيى أشد الإعياء وفي تاج المصادر اللغوب مانده شدن.
وفعل يفعل فعولاً وفعلاً أيضاً لغة ضعيفة والمعنى من إعياء ولا تعب في الجملة وبالفارسية هي رنجى وماندكى.
فإنه لو كان لاقتضى ضعفاً فاقتضى فساداً فكان من ذلك شيء على غير ما أردناه فكان تصرفنا فيه غير تصرفنا في الباقي وأنتم تشاهدون الكل على حذ سواء من نفوذ الأمر وتمام التصرف.
وفي التأويلات النجمية : وما مسنا من لغوب لأنها خلقت بإشارة أمركن كما قال تعالى وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر فأنى يمسه اللغوب وإنه صمد لا يحدث في ذاته حادث انتهى وهذا رد عى جهلة اليهود في زعمهم أن الله بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش سبحانه عما يقولون علواً كبيراً قال العلماء : إن الذي وقع من التشبيه لهذه الأمة إنما وقع من اليهود ومنهم أخذ.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/111)
يقول الفقير : هذه الآية نظير قوله تعالى أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي مخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى يدل عليه ما بعد الآية وهو قوله : {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي ما يقوله المشركون في شأن البعث من الأباطيل المبنية على الإنكار واستبعاد فإن من فعل هذه الأفاعيل بلا فتور قادر على بعثهم والانتقام منهم أوما يقوله اليهود من مقالات الكفر والتشبيه وغيرهم وفي تفسير المناسبات لما دل سبحانه على شمول العلم وإحاطة القدرة وكشف فيهما الأمر أتم كشف وكان علم الحبيب القادر بما يفعل العدو أعظم نذارة للعدو وبشارة للولي سبب عن ذلك قوله فاصبر على ما يقولون أي على جميع الذي يقوله الكفرة وغيرهم انتهى وفيه إشارة إلى تربية النفوس بالصبر على ما يقول الجاهلون من كل نوع من المكروهات وتزكيتها من الصفات المذمومات ملازمة للذكر والتسبيحات والتحميدات كما قال {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي نزهه تعالى عن العجز عما يمكن وعن وقوع الخلف في أخباره التي من جملتها الإخبار بوقوع البعث وعن وصفه بما يوجب التشبيه حال كونك ملتبساً بحمده على ما أنعم عليك من إصابة الحق وغيرها قال سهل في الأمالي : سر اقتران الحمد بالتسبيح أبداً كما في الآية وفي قوله : وإن من شيء إلا يسبح بحمده إن معرفة الله تنقسم قسمين : معرفة ذاته ومعرفة أسمائه وصفاته ، ولا سبيل ءلى إثبات أحد القسمين دون الآخر وإثبات وجود الذات من مقتضى العقل وإثبات الأسماء والصفات من مقتضى الشرع فبالعقل عرفت المسمى وبالشرع عرفت المسمى ولا يتصور في العقل إثبات الذات إلا مع نفي سمات الحدوث عنها وذلك هو التسبيح ومقتضى العقل مقدم على مقتضى الشرع وإنما جاء الشرع المنقول بعد حصول النظر والعقول فنبه العقول على النظر فعرفت ثم علمها ما لم تكن تعلم من الأسماء فانضاف لها إلى التسبيح الحمد والثناء فما أمرنا إلا بتسبيحه بحمده {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} هما وقتا الفجر والعصر وفضيلتهما مشهورة فالتسبيح فيهما بمكان وفي طه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها راعى القياس لأن الغروب للشمس كما أن الطلوع لها {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أي وسبحه بعض الليل فقوله من الليل مفعول لفعل مضمر معطوف على سبح بحمد ربك يفسره فسبحه ومن للتبعيض ويجوز أن يعمل فيه الذكور أيضاً
139
ولا تمنع الفاء عن عمل ما بعدها فيما قبلها كما يجيىء في سورة قريش وقال بعض الكبار قبل طلوع الشمس يعني من أول النهار وقبل الغروب يعني إلى آخر النهار ومن الليل فسبحه يعني من جميع الليل بقدر الوسع والطاقة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/112)
يقول الفقير : ثبت أن بعض أهل الرياضة لم ينم سنين فيمكن له دوام الذكر والتسبيح كما قال تعالى والذين هم على صلاتهم دائمون ويمكن أن يقال أن ذلك حال القلب لا حال القالب فإن أكثر أهل الله ينامون ويقومون على ما فعله النبي عليه السلام لكن قلوبهم يقظى وصلاتهم أي توجههم دائمة فهم في الذكر في جميع آناء الليل والنهار {وَأَدْبَـارَ السُّجُودِ} وأعقاب الصلوات وأواخرها جمع دبر من أدبرت الصلاة إذا انقضت والركوع والسجود يعبر بهما عن الصلاة لأنهما أعظم أركانها كما يعبر بالوجه عن الذات لأنه أشرف أعضائها وفي تفسير المناسبات وسبح ملتبساً بحمد ربك قبل طلوع الشمس بصلاة الصبح وما يليق به من التسبيح وغيره وقبل الغروب بصلاة العصر والظهر كذلك فالعصر أصل في ذلك الوقت والظهر تبع لها ولما ذكر ما هو أدل على الحب في المعبود لأنه وقت الانتشار إلى الأمور الضرورية التي بها القوام والرجوع لقصد الراحة الجسدية بالأكل والشرب واللعب والاجتماع بعد الانتشار والانضمام مع ما في الوقتين من الدلالة الظاهرة على طي الخلق ونشرهم اتبعه ما يكون وقت السكون المراد به الراحة بلذيذ الاضطجاع والمنام فقال : ومن الليل أي في بعض أوقاته فسبحه بصلاتي المغرب والعشاء وقيام الليل لأن الليل وقت الخلوات وهي ألذ المناجاة ولما ذكر الفرائض التي لا مندوحة عنها على وجه يشمل النوافل من الصلاة وغيرها أتبعها النوافل المقيدة بها فقال وأدبار السجود أي الذي هو الأكمل في بابه وهو صلاة الفرض بما يصلي بعده من الرواتب والتسبيح بالقول أيضاً والمعنى والله أعلم أن الاشتغال استمطار من المحمود المسبح للنصر على المكذبين وأن الصلاة أعظم ترياق للنصر وإزالة النصب ولهذا كان النبي عليه السلام إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة انتهى.
يقال حزبه الأمر نابه واشتد عليه أو ضغطه وفزع إليه لجأ وعن عمر وعلي رضي الله عنهما أدبار السجود الركعتان بعد صلاة المغرب وأدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر وعليه جمهور المفسرين وعن النبي عليه السلام : من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين وعنه عليه السلام ركعتا الفجر أي سنة الصبح خير من الدنيا وما فيها وكان عليه السلام يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل صلاة الفجر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد قاله ابن مسعود وعن مجاهد وأدبار السجود هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبة وفي الحديث من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وكبر الله ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين فذلك تسع وتسعون ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الوفور بالدرجات والنعيم المقيم قال : وكيف ذلك؟ قالوا : صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال قال : أفلا أخبركم بأمر تدركون به
140
(9/113)
من كان قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله تسبحون في دبر كل صلاة عشراً وتحمدون عشراً وتكبرون عشراً كما في كشف الأسرار يقول الفقير : لعل سر التثليث في بياعه عليه السلام دائر على التثليث في بيانهم فإنهم قالوا صلوا وجاهدوا وأنفقوا فقال عليه السلام : تسبحون وتحمدون وتكبرون وفي تخصيص العشر في هذه الحديث رعاية لسر قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها فإن كل عشر إذا ضوعف أفرادها بعشرة الأمثال تبلغ إلى المائة المشيرة إلى الأسماء الحسنى التسعة والتسعين مع أحديتها فإذا كان كل عشر مائة يكون المجموع ثلاثمائة لكنه عليه السلام أراد أن يبلغ الأعداد المضاعفة إلى الألف لتكون إشارة إلى ألف اسم من أسمائه تعالى فزاد في كل من التسبيح والتحميد والتكبير باعتبار أصوله حتى جعله ثلاثاً وثلاثين وجعل تمام المائة القول المذكور في الحديث الأول فيكون أصول الأعداد مائة بمقابلة المائة المذكورة وفروعها وهي المضاعفات ألفاً ليكون بمقابلة الألف المذكور فإن قلت فأهل الوفور لا يخلو من أن يقولوا ذلك في أعقاب الصلوات فإذا لا فضل للفقراء عليهم قلت : جاء في حديث آخر إذا قال الفقير : سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر مخلصاً وقال الغني مثل ذلك لم يلحق الغني الفقير في فضله وتضاعف لثواب وإن أنفق الغني معها عشرة آلاف درهم وكذلك إهمال البر كلها فظهر فضلهم عليهم والحمدتعالى وفي الآية بيان فضيلة النوافل قال عليه السلام : خطاباً لأبي الدرداء رضي الله عنه : يا عويمر اجتنب مساخط الله وأد فرائض الله تكن عاقلاً ثم تنفل بالصحالحات من الأعمال تزدد من ربك قرباً وعليه عزاً وفي الحديث حسنوا نوافلكم فيها تكمل فرائكم وفي المرفوع النافلة هدية المؤمن إلى ربه فليحسن أحدكم هديته وليطبها وفي الحديث ازدلفوا إلى الله بركعتين أي تقربوا وفي الحديث القدسي ما تقرب عبد إلي بمثل أداء ما افترضت عليه وأنه ليتقرب إلى بعد ذلك بالنوافل حتى أحبه والمراد بالنوافل نوافل الصلوات وغيرها ومنها سلوك الصوفية فإنه يتقرب به السالك إلى الله بإزالة الحجب المانعة عن النظر إلى وجه الله الكريم قال الراغب : القرب إلى الله قرب روحاني بإزالة الأوساخ من الجهل والطيش والغضب والحاجات البدنية بقدر طاقة البشر والتخلق بالأخلاق الإلهية من العلم والحكمة والرحمة وفي ترجمة الفتوحات المكية دراد أي فرائض عبوديت اضطرارست ودر نوافل عبوديت اختبار ونفل در ركعت زائد را كويند وتودر اصل خود زائدي بر وجود حق تعالى ه اوبودوتو نبودى وبوجود تووجود حادث زياده شدس عمل نقل أشارت بوجود تست كه زائدست واصل تست وعمل فرض اشارت بوجود حق است كه اصل كلى است س دراد اى فرائض بنده براى اوست ودر اداى نوافل براى خود وقتى كه دركار اوباشى هرآينه دوسترازان داردكه دركار خود باشى وثمرة اين حب كه دركار خودى است كه كنت سمعه وبصره ثمره آن حب كه دركار او باشى اعني الأعمال فرائض قياص كن كه ه كونه باشد وبدان كه درنفس نفل فرائض ونوافل هست اكر در فرض نقصانى واقع شده باشد بدان فرائض كه درضمن نفل است تمام كرده شود در خبر
141
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
(9/114)
صحيح آمده است كه حق تعالى فرمايد كه درنماز بنده نكاه كنيد اكر تمام باشد تمام نويستد واكر ناقص باشد فرمايدكه ببينيدكه اين بنده را هي تطوعى هست اكر باشد فرمايدكه فريضه بنده رابدان تطوعات تمام سازيد ون ركوع وسجود وسائر افعال كه نفل بى آن درست نيست كه سادمسد فرض شود حق تعالى اين فروض را درميانه نوافل نهاد تاجبر فرض بفرض باشد انتهى.
قال بعض الكبار : من أراد العلم الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فليكثر من الطاعات والنوافل حتى يحبه الحق فيعرف الله با لله ويعرف جميع الأحكام الشرعية بالله لا بعقله ومن لم يكثر مما ذكر فليقلد ربه فيما أخبر إلا يأولا فإنه أولى من تقليد العقل.
يقول الفقير : دخل في أدبار السجود والنوافل مثل صلاة الرغائب وصلاة البراءة وصلاة القدر فإن صلاة الرغائب تصلي بعد المغرب في ليلة الجمعة الأولى من شهر الله رجب والثانية بعد العشاء في ليلة النصف من شعبان والثالثة بعد العشاء أيضاً في ليلة القدر وتلك الصلوات من مستحسنات المشايخ المحققين لأنها النوافل أي زوائد على الفرائض والسنن وهذا على تقدير أن لا يكون لها أصل صحيح في الشرع وقد تكلم المشايخ عليها والأكثر على أنه عليه السلام صلاها فلها أصل صحيح لكن ظهورها حادث ولا يقدح هذا الحدوث في أصالتها على أن عمل المشايخ يكفي سنداً فإنهم ذووا الجناحين وقد أفردت لهذا الباب جزاء واحداً شافياً {وَاسْتَمِعْ} يا محد بما يوحى إليك من أحوال القيامة وفي حذف مفعول استمع وإبهامه ثم تفسيره بقوله يوم الخ تهويل وتفظيع للمخبر به كما يروى عن النبي عليه السلام أنه قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل رضي الله عنه : يا معاذ اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك والسمع إدراك المسموع بالاصغاء والفرق بين المستمع والسامع أن المستمع من كان قاصداً للسماع مصغياً إليه والسامع من أنفق سماعه من غير قصد إليه فكل مستمع سامع من غير عكس {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} أصله ينادي المنادى قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير المنادى بالياء في الوصل وهو الأصل في اللغة والباقون بغير ياء لأن الكسر يدل عليه واكتفى به والمنادى هو الملك النافخ في الصور وهو إسرافيل عليه السلام والنداء نفخه سمي نداء من حيث أنه جعله علمنا للخروج وللحشر وإنما يقع ذلك النداء كأذان المؤذن وعلامات الرحيل في العساكر وقيل هو النداء حقيقة فيقف على الصخرة ويضع اصبعه في أذنيه وينادي أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إلى الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء وقيل اسرافيل ينفخ وجبرائيل ينادي بالحشر
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
{مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} إلى السماء وهو صخرة بيت المقدس فإن بيت المقدس أقرب من جميع الأرض إلى السماء باثني عشر ميلاً أو ثمانية عشر ميلاً وهو وسط الأرض كما قاله علي رضي الله عنه أو من مكان قريب يصل نداؤه إلى الكل على سواء.
يعني آواز او بهمه جا برسد واز هي موضعى دور نبود.
وفي كشف الأسرار سمي قريباً لأن كل إنسان يسمعه من طرف أذنه وقيل من تحت أقدامهم وقيل من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة ولعل ذلك في الإعادة مثل كن في البدء {يَوْمَ} الخ بدل من يوم ينادي
142
(9/115)
الخ {يَسْمَعُونَ} أي الأرواح وقيل الأجساد لأنه يمدها أآبعين سنة كما في عين المعاني {الصَّيْحَةَ} وهي صيحة البعث التي هي النفخة الثانية والصبحة والصباح الصوت بأقصى الطاقة {بِالْحَقِّ} متعلق بالصيحة على أنه حال منها والعامل في الظرف ما يدل عليه وقوله تعالى {ذَالِكَ} أين روز {يَوْمُ الْخُرُوجِ} من القبور وهو من أسماء يوم القيامة وسمي يوم العيد يوم الخروج أيضاً تشبيهاً به والمعنى يوم يسمعون الصيحة ملتبسة بالحق الذي هو البعث يخرجون من القبور إلى المحاسبة ثم إلى إحدى الدارين إما إلى الجنة وإما إلى النار قال في كشف الأسرار : ون اين ندا درعالم دهد در خلق اضطرار افتدآن كوشتهاى ووستهاى وسيده واستخوانها ويزيده وخاك كشسته وذره ذره بهم برآميخته بعضى بشرق بعضي يغرب بعضي به بربعضي به بحر بعضي كركان خورده وبعضي مرفان رده همه باهم مى آيد وذره ذره بجاى خود باز ميشود هره درهفت اقليم خاكى جانور بوده از ابتداء دور عالم تاروز رستا خيز همه باهم آيدتنها راست كردد وصورتها يدا شود اعضا واجزاى مرتب ومركب كردد ذره كم نه وذره يش نه موى ازين بان نياميزد وذره ازان به اين نه يوندد آه صعب روزى كه حشر ونشرست روز جزاء خير وشرست ترازوى راستى آو يخته كرسى قضا نهاده بساط هيبت باز كسترده همه خلق بزانو در آمده كه وترى كل امة جاثية دوزخ مى غردكه تكاد تميز من الغيظ زبانيه در عاصى آو يخته كه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه هركس بخود درمانده واز خويش ويوند بكريخته لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه آورده اندكه يش از آمدن خلق ازخاك جبريل وميكائيل بزمين آيند براق مى آرندو حله وتاج ازبهر مصطفى صلوات الله عليه واز هول آن روز ندانندكه روضه سيد كجاست اززمين مى برسند وزمين ميكويد من ازهول رستا خيز ندانم كه دربطن خود ه دارم جبريل بشرق وغرب همى نكرد از آنجا كه خوابكاه سيدست نورى برآيد جبريل آنجا شتابد سيد عالم صلوات الله عليه ازخاك بر آيد نانكه درخبرست انا اول من تنشق عنه الأرض أول سخن اين كويد اى جبرائيل حال امتم يست خبر ه دارى كويد اى سيد اول تو برخاسته ايشان درخاك اند اى سيد توحله دروش وتاج بر سرنه وبر براق نشين وبمقام شفاعت رو تا مت در رسند مصطفى عليه السلام همى رودنا بحضرت عزت سجده آرد وحق راجل جلاله بستايد وحمد كويد از حق تعالى خطاب آيدكه اى سيد امروزنه روز خدمت است كه روز عطا ونعمت است نه روز سجود است كه روز كرم وجودست بردار وشفاعت كن هره توخواهى آن كنم تودر دنياهمه آن كردى كه ما فرموديم ما امروز ترا آن دهيم كه توخواهى ولسوف يعطيك ربك فترضى قال المولى الجامي في سلسلة الذهب :
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
سويم افكن زمر حمت نظري
باز كن بر رخم زفضل درى
لب بنبان ى شفاعت من
منكر دركناه وطاعت من
مانده ام زير بار عصيان ست
افتم ازاى اكر نكيرى دست
رحم كن برمن وفقيرىء من
دست ده بهر دستكيرىء من
143
{إِنَّا نَحْنُ نُحْى وَنُمِيتُ} في الدنيا من غير أن يشاركنا في ذلك أحد فتكرير الضمير بعد ايقاعه اسما للتأكيد والاختصاص والتفرد.
قال الكاشفي : يعني نطفه مرده راحيات مى دهيم وميرانيم ايشانرا دردنيا {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} للجزاء في الآخرة لا إلى غيرنا لا استقلالاً ولا اشتراكاً فليستعدوا للقائنا وفيه إشارة إلى مراقبة القلوب بعد انقضاء أوقات الذكر لاستماع نداء الهواتف الغيبية والإلهامات الربانية والإشارات الإلهية من مكان قريب وهو القلب يوم يسمع النفوس الصيحة من جانب الحق بتجلي صفاته ذلك يوم الخروج من ظلمات البشرية إلى نور الروحانية والربانية إنا نحن نحيي القلوب الميتة ويميت النفوس الحية وإلينا المصير لمن ماتت نفسه وحيى قلبه.
(9/116)
واعلم أن الحشر حشر عام وهو خروج الأجساد من القبور إلى المحشر يوم النشور وحشر خاص وهو خروج الأرواح الأخروية من قبور الأجسام الدنيوية بالسير والسلوك في حال حياتهم إلى العالم الرواحاني وذلك بالموت بالإرادة عن الصفات الحيوانية النفسانية قبل الموت بالاضطرار عن الصورة الحيوانية وحشر أخص وهو الخروج من قبور الأنانية الروحانية إلى الهوية الربانية وكما أن الموت نوعان : اضطراري واختباري فكذا الولادة الاضطرارية بخلق الله تعالى لا مدخل فيها الكسب العبد واختياره وأما الاختيارية فإنما تحصل بالكسب وهو الذي أشار إليه عيسى عليه السلام بقوله : لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين {يَوْمَ تَشَقَّقُ الارْضُ عَنْهُمْ} بحذف إحدى التاءين من تتشقق أي تتصدع قال في تاج المصادر التشقق شكافته شدن والمعنى بالفارسية بياد آر روزى راكه بشكافد زمين ودور شود ز آدميان يعني مردكان س بيرون آبيد ازقبرها {سِرَاعًا} حال من المجرور وهو جمع سريع والسرعة ضد البطىء ويستعمل في الأجسام والأفعال ويقال سرع فهو سريع وأسرع فهو مسرع والمعنى حال كونهم مسرعين إلى إسجابة الداعي من غير التفات يميناً وشمالاً هذا كقوله مهطعين إلى الداع {ذَالِكَ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
أين إحياى ايشان ازقبور {حَشْرٌ} بعث وجمع وسوق {عَلَيْنَا يَسِيرٌ} أي هين علينا نقول له كن فيكون وهو كلاء معادل لقول الكفرة ذلك رجع بعيد وتقديم الجار والمجرور لتخصيص اليسر به تعالى فإن ذلك لا يتيسر إلا على العالم القادر لذاته الذي لا يشغله شأن من شأن كما قال ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} من نفي البعث وتكذيب الآيات الناطقة به وغير ذلك مما لا خير فيه وهو تسلية لرسول الله عليه السلام وتهديد لهم {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} بمسلط تقسرهم على الإيمان أو تفعل بهم ما تريد وإنما أنت مذكر هذا كقوله إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر أي لست بمتسلط عليهم تجبرهم بما تريد وأصل الجبر إصلاح الشيء بضرب من القهر والجبار في اسم الله تعالى هو الذي جبر العباد على ما أراد {فَذَكِّرْ} س ندكوى {بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} أي عظم بمواعظه فإنهم المنتفعون به كما قال فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وأما من عداهم فنفعل بهم ما يوجبه أقوالهم وتستدعيه أعمالهم من ألوان العقاب وفنون العذاب كقوله إنما تنذر من أتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب والوعيد التخويف بالعذاب ويستعمل
144
في نفس العذاب كما مر قال بعض العارفين أمر الله نبيه عليه السلام أن يذكر الخاشعين من عظمته والخائفين من كبرائيه بالقرآن لأنهم أهله وأهل القرآن أهل الله وخاصته هم يعرفون حقائق الخطاب بنعت العبودية وهم بالقرآن يرتقون إلى معادنه فيرون الحق بالحق بلا حجاب ويصعدون به إلى الأبد وقال أحمد بن همدان رحمه الله : لا يتعظ بمواعظ القرآن إلا الخائفون على إيمانهم وإسلامهم وعلى كل نفس من أنفاسهم وقال بعضهم : إنما يؤثر التخويف والإنذار والتذكير في الخائفين فأما من لا يخاف فلا ينجح فيه ذلك وطير السماء على أوكارها تقع وقال بعضهم : وما أنت عليهم بجبار هذا خطاب مع القلب يعني ما أنت على النفس وصفاتها بمتسلط بنفسك إلا بنا فذكر بالقرآن أي بدقائق وعانيه وحقائق أسراره من يخاف وعيد يعني بعض النفوس القابلة لتذكير القرآن ووعيده فإنه ليس لك نفس قابلة له.
قال الشيخ سعدي :
درخير بازست هركز وليك
نه هركس تواناست برفعل نيك
كسى راكه ندار درسر بود
جزء : 9 رقم الصفحة : 99
مندار هركز كه حق بشنود
زعلمش ملال آيداز وعظ ننك
شقايق بباران نرويد زسنك
بكوشش نرويد كل ازشاخ بيد
نه زنكى به كرمابه كرد دسفيد
نيايد نكوكارى از بدر كان
وليكن نيايد زسنك آينه
كان رسول الله عليه السلام يخطب بسورة ق في كثير من الأوقات لاشتمالها على ذكر الله تعالى والثناء عليه ثم على علمه بما توسوس به النفوس وما تكتبه الملائكة على الإنسان من طاعة وعصيان ثم تذكير الموت وسكرته ثم تذكير القيامة وأهوالها والشهادة على الخلائق بأعمالهم ثم تذكير الجنة والنار ثم تذكير الصيحة والنشور والخروج من القبور ثم بالمواظبة على الصلوات قال السيوطي في كتاب الوسائل : أول من قرأ في آخر الخطبة أن الله يأمل بالعدل والإحسان الآية عمر بن عبد العزيز ولزمها الخطباء إلى عصرنا هذا وكان النبي عليه السلام يقرأ ق وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ إذا الشمس كورت إلى قوله ما أحضرت وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقرأ آخر سورة النساء يستفتونك الآية وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ الكافرون والإخلاص ذكر ذلك ابن الصلاح وفي الحديث من قرأ سورة ق هون الله عليه تارات الموت وسكراته قيل تارات الموت إفاقاته وغشياته كما في حواشي سعدي المفتي رحمه الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 99(9/117)
تفسير سورة الذاريات
ستون آية مكية
جزء : 9 رقم الصفحة : 144
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} الواو للقسم والذاريات وما بعدها صفات حذفت موصوفاتها وأقيمت
145
هي مقامها والتقدير والرياح الذاريات وذروا مصدر عامله الذاريات يقال ذرت الريح الشي ذرواً وأذرته أطارته وأذهبته قال في تاج المصادر الذرى داميدن.
والمراد الرياح التي تذرو التراب وغيره ودانه را ازكاه جدا كنند كما في تفسير الكاشفي روى عن كعب الأحبار قال : لو حبس الله الريح عن الأرض ثلاثة أيام ما بقي على الأرض شيء إلا نتن وعن العوام بن حوشب قال : تخرج الجنوب من الجنة فتمر على جهنم فغمها منها وبركاتها من الجنة وتخرج الشمال من جهنم فتمر على الجنة فروحها من الجنة وشرها من النار وقيل الشمال تمر بجنة عدن فتأخذ من عرف طيبها فتمر على أرواح الصديقين وعن عبد الله بن شداد قال : إن الريح من روح الله فإذا رأيتموها فاسألوا الله خيرها وتعوذوا من شرها وعن جابر رضي الله عنه قال : هاجت ريح كادت تدفن الراكب من شدتها فقال عليه السلام : هذه ريح أرسلت لموت منافق فقدمنا المدينة فإذا رأس من رؤوس المنافقين قد مات.
ـ وروي ـ عن علي رضي الله عنه أن مساكين الريح تحت أجنحة الكروبيين حملة الكرسي فتهيج من ثمة فتقع بعجلة الشمس ثم تهيج من عجلة الشمس فتقع برؤوس الجبال فتقع في البر فتأخذ الشمال وحدها من كرسي بنات النعش إلى مغرب الشمس والنعش أربعة كواكب على شكل مربع مستطيل وخلفها ثلاثة كواكب تسمى البنات وتأتي الدبور وحدها من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل وتأتي الجنوب وحدها من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس وتأتي الصبا وحدها من مطلع الشمس إلى كرسي بنات النعش فلا تدخل هذه في حد هذه ولا هذه في حد هذه قال ابن عمر الرياح ثمان : أربع منها عذاب وأربع منها رحمة ما الرحمة فالناشرات والمبشرات والذاريات والمرسلات وأما العذاب فالعاصفات والقاصف والصرصر والعقيم وأراد ابن عمر ما في القرآن من ألفاظ الرياح وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله عليه السلام ليبيتن قوم من أتي على أكل وشرب ولهو ولعب ثم ليمسخن قردة وخنازير وليصببن أقواماً من أمتي خسف وقذف باتخاذهم القيان وشربهم الخمور وضربهم بالدف ولبسهم الحرير ولتنسفن أحياء من أمتي الريح كما نسفت عادا كما في كتاب الامتاع في أحكام السماع والنسف بركندن بنا وكياه وداميدن يزى.
وفي الآية إشارة إلى الرياح الصبحية بحمل أنين المشتاقين المتعرضين لنفحات الالطاف إلى ساحات العزة ثم تأتي بتنسم نفحات الحق إلى مشام أسرار المحبة فيجدون راحة من غلبات اللوعة وفي معناه أنشدوا :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
وإني لآستهدي الرياح نيسمكم
إذا أقبلت من أرضكم بهبوب
وأسألها حمل السلام إليكمو
فإن هي يوماً بلغت فأجيبي
قال المولى الجامي :
نسيم الصبح زرمني ربي نجدو قبلها
كه بوى دوست مى آيد ازان اكيزه منزلها
وقال الكمال الخجندي :
صبا زدوست يامى بسوى ما اورد
بهمد مان كهن دوستى بجا آورد
براى شم ضعيف رمد كرفته ما
زخاك مقدم محبوب توتيا آورد
146
وقال بعضهم : المراد بالذاريات النساء الولود فإنهن يذرين وهو بضم الياء بمعنى يذرون يقول الفقير : من لطف هذا المعنى مجاورته للفظ الحاملات والجاريات على أن من وجوه الحاملات النساء الحوامل وفيه بيان لفضل المولود على العقيم كما قال عليه السلام : سوداء ولود خير من حسناء عقيم ودل لفظ السوداء على سيادة الولود كسواد الحجر الأسود فإنه من السيادة وذلك أن الولود مظهر الآثار ومطلع الأنوار وكذلك ولود الإنسان وهو الإنسان الكامل وهو كالمصدر للأفعال والجامد وهو الإنسان الناقص لا يصلح إلا لأن يكون آية يستدل بها كسائر الآيات التكوينية ومثاله لفظ إنما فإنه للتأكيد والحصر لا غير وذلك باعتبار الكف عن العمل فافهم الإشارة {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} الوقر بالكسر اسم لما توقر أي تحمل والمراد هنا المطر ووقرا مفعول الحاملات والمعنى فالسحت الحاملة للمطر وبالفارسية س بردارندكان باركران يعني ابرها كه ببارند.(9/118)
ـ روي ـ عن خالد بن معدان قال : إن في الجنة شجرة تثمر السحاب فالسوداء التي نضجت تحمل المطر والبيضاء النبيء لا تحمل المطر وقال كعب السحاب : غربال المطر ولولا السحاب لأفسد المطر ما أصاب من الأرض وعن الحسن أنه كان إذا نظر إلى السحاب قال لأصحابه فيه : والله رزقكم ولكن تحرمونه بخطاياكم وأَمالكم وعن عكرمة قال : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة وفي المطر حياة الأرض فكأنه روحها وكذا في الفيض الإلهي حياة القلب والروح وفيه إشارة إلى أن سحاب الطاف الربوبية تحمل أمطار مراحم الألوهية فتمطر على قلوب الصدقين {فَالْجَـارِيَـاتِ يُسْرًا} يسرا صفة لمصدر محذوف أي فلسفن الجارية في البحر جرياً يسيراً إلى ذا يسر وسهولة وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : البحر رزق بيد ملك لم يغفل عنه ولو غفل عنه الملك لطم على الأرض يعني دريا خيكى است بدست فرشته غافل نمنة شودازوى فرشته واكر غافل شود برمى كند زمين را وفرومي كيرد وفي الحديث لا يركبن رجل البحر إلا غازياً أو حاجاً أو معتمر فإن تحت البحر ناراً وإن تحت النار بحراً وإن تحت البحر ناراً وقال كعب : ما من ليلة إلا والبحار تشرف على الخلائق فتقول : يا رب ائذن لنا حتى نغرق الخطائين فيأمرها تعالى بالسكون فتسكن وسأل سليمان بن داود عليهما السلام عن ملك البحر فخرجت إليه دابة من البحر فجعلت تنسل من حيث طلعت الشمس حتى انتصف النهار تقول هذا ولما يخرج نصفي بعد فتعوذ بالله من البحر ومن ملكه يعني برسيد سليمان بن داود ازفرشته بحر س بيرون آمد بسوى وى جانورى ازبحر بشتاب ازان زمان كه آفناب برآمد تانيم رمز كفت هنوز نيم من بيرون نيامده است س ناه كرفت سليمان بخدا ازبحر ازملك وى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
وفيه إشارة إلى أن سفن وجود المحبين المحبوبين شراعها مرفوعة إلى مهب رياح العناية فتجري بها في بحر التوحيد على أيسر حال {فَالْمُقَسِّمَـاتِ أَمْرًا} الأمر واحد الأمور أريد به معنى الجمع وهو منصوب على المفعولية والمراد بالقمسمات الملائكة وإيراد جمع المؤنث السالم فيهم بتأويل الجماعات أي فالملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها وفي كشف الأسرار هذا كقوله فالمدبرات امرا قال عبد الرحمن بن سابط
147
(9/119)
يدبر أمر الأرض أربعة من الملائكة : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام فجبريل على الجنود والرياح وميكائيل على القطر والنبات وملك الموت على قبض الأرواح وإسرافيل يبلغهم ما يؤمرون به وأضاف هذه الأفعال إلى هذه الأشياء لأنها أسباب لظهورها كقوله تعالى خبراً عن جبريل لأهب إليه والفاء لترتيب الأقسام بها باعتبار ما بينها من التفاوت في الدلالة على كمال القدرة يعني أن المقصود من الأقسام بها ظاهراً هو تأكيد المحلوف عليه وهو البعث وكونه محقق الوقوع والمقصود الأصلي تعظيم هذه الأشياء لما فيها من الدلالة على كمال قدرته فيكون في المعنى استدلالاً على المحلوف عليه فكأنه قيل : فمن قدر على إنشاء هذه الأشياء ألا يقدر على إعادة ما أنشأه أولاً كقول القائل لمن أنعم عليه وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك أتى بصورة القسم الدال على تعظيم النعم استدلالاً به على أنه مواظب لشكرها فإذا كان كذلك فالمناسب أن يقدم ما هو أدل على كمال القدرة والرياح أدل عليه بالنسبة إلى السحب لكون الرياح أسباباً لها والسحب لغرابة ماهيتها وكثرة منافعها ورقة حاملها الذي هو الريح أدل عليه من السفن وهذه الثلاث لكونها من قبيل المحسوسات أدل عليه من الملائكة الغائبين عن الحسن لأنه كلام من المنكر فربما ينكر وجود من هو غائب عن الحسن فلا يتم الاستدلال وقال سعدي المفتي في بيان التفاوت المذكور فأما على التنزل كما في قوله عليه السلام : رحم الله المحلقين والمقصرين بأن يقال الرياح أظهر في الدلالة على كمال القدرة من السحب وهي من السفن والثلاث من الملائكة المقسمة لأنه كلام مع الجاحد ويمكن أن ينكرها فكيف يجعلها أظهر مما هو محسوس على ما اختاره صاحب الكشف وأما على الترقي والقول بأن كلاً منها آخره أدل على كمال القدرة مما قبله ولا اعتبار بإنكار من لا عبرة به فالمقسمات يدل على أقدار الروحانيات مع لطافتها على التصرف في الجسمانيات مع كثافتها ثم الجاريات المتألفة من جميع العناصر على ما فيها من الصنعة البديعة والأمور العجيبة من حمل الأثقال مع خفة الحامل ورقة المحمل وقطع المسافة الشاسعة في زمان يسير بهبوب الرياح العاصفة ثم الحاملات تتألف من الأجزاء المائية والهوائية وقليل من الأجزاء النارية والأرضية وفيها غرائب من الآثار العلوية ولا تتم إلا بواسطة الرياح وعليك بالتأمل انتهى.
يقول الفقير : سر الترتيب هو أن الرياح فوق السحاب الحاملة للمطر وهي فوق الماء الحامل للسفن وهو فوق الأرض الظاهر أثر تدبير الملائكة فيها فأشار تعالى إلى أن كل أمر إنما ينزل من السماء وكل تأثير في الأرض إنما يظهر من جانب العلو ومن ذلك وقوع البعث من القبور فمن قدر على إظهار الآثار في الأرض بالتأثيرات العلوية كان قادراً على البعث لأنه من الآثار الأرضية أيضاً والله أعلم وفيه إشارة إلى من ينزل من الملائكة المقربين لتفقد أهل الوصلة والقيام بأنواع من الأمور لأهل هذه القصة فهؤلاء القوم يسألونهم عن أحوالهم هل عندهم خبر من فراقهم ووصالهم ويقولون :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
بربكما يا صاحبي قفاليا
اسائلكما عن حالكم فاسألانيا
148
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 16 من صفحة 149 حتى صفحة 158
(9/120)
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} جواب للقسم وما موصولة والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه من البعث والحساب أو من الثواب والعقاب لصادق.
يعني هرآينه راست ودرست است ودران هي خلافى نيست قال في الإرشاد ووصف الوعد بالصدق كوصف العيشة بالرضى في أن اسم الفاعل مسند إلى المفعول به إذا الوعد مصدوق والعيشة مرضية وقال ابن الشيخ أي لذو صدق على أن البناء للنسب كتامر لأن الموعود لا يكون صادقاً بل الصادق هو الوعد ويجوز أن تكون ما مصدرية أي وعدكم أو وعيدكم إذ يحتمل توعدون أن يكون مضارع وعد وأوعد والثاني هو المناسب للمقام فالكلام مع المنكرين {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} أي وإن الجزاء على الأعمال الحاصل وكائن لا محالة فإن من قدر على هذه الأمور البديعة المخالفة لمقتضى الطبيعة فهو قادر على البعث الموعود قال بعضهم : قد وعد الله المطيعين بالجنة والتائبين بالمحبة والأولياء بالقربة والعارفين بالوصلة والطالبين بالوجدان كما قال ألا من طلبني وجدني ووعد الله واقع البتة ومن أوفى بعهده من الله وأوعد الفاسقين بالنار والمصرين بالبغضاء والأعداء بالبعد والجاهلين الغافلين بالفراق والبطالين بالفقدان قال بعضهم : ما الحكمة في معنى القسم منفإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن يصدق بمجرد الأخبار من غير قسم وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده والجواب أن القرآن نزل بلغة العرب ومن عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمراً والحكم يفصل باثنين إما بالشهادة وإما بالقسم فذكر الله في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجة فقال : شهد الله الآية ولا يكون القسم إلا باسم معظم وقد أقسم الله بنفسه في القرآن في سبعة مواضع والباقي من القسم القرآني قسم بمخلوقاته كما في عنوان هذه السورة ونحوه والتين والزيتون والصافات والشمس والليل والضحى وغير ذلك فإن قلت ما الحكمة في أن الله تعالى قد أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله تعالى قال في ترجمة الفتوحات حذركن كه بغير دين إسلام بديني دير سوكند يادكنى ياكويى اكر نين باشد از دين اسلام بيزارم ودرين صورت ازبهر احتياط تجديد ايمان كن ونهى آمده است ازانكه كسى بغير الله سوكند يادكند انتهى.
قلت فيه وجوه الأول أنه على حذف المضاف أي ورب الذاريات ورب التين ورب الشمس والثاني أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون والثالث أن الأقسام إنما يكون بما يعظمه المقسم أو يجله وهو فوقه والله تعالى ليس شيء فوقه فاقسم تارة بنفسه وتارة بمصنوعاته لأنها تدل على بارىء وصانع حكيم وقال بعضهم : القسم بالمصنوعات يستلزم بالصانع لأن ذكر المفعول يسلتزم ذكر الفاعل إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل وقال بعضهم : إن الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلا بالله وقال بعضهم : القسم إما لفضيلة أو منفعة ولا تخلو المصنوعات عنهما
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} جمع حباك أو حبيكة كمثال ومثل وطريقة وطرق والمراد بالحبك الطرائق أي الطرائق المحسوسة التي هي مساير الكواكب أو المعقولة التي يسلكها النظار ويتوصل بها إلى المعارف كما قال الراغب الحبك هي الطرائق فمن الناس من تصور منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرة وهي بالفارسية كهكشان.
وعن علي رضي الله عنه أن السماء تنشق من المجرة
149
(9/121)
يوم القيامة ومنهم من اعتبر ذلك بما فيه من الطرائق المعقولة المدركة بالبصيرة وإلى هذا أشار بقوله أن في خلق السموات والأرض إلى قوله ربنا ما خلقت هذا باطلاً وعن ابن عباس رضي الله عنهما ذات الخلق الحسن المستوى.
درتبيان از ابن عمر رضي الله عنهما نقل ميكندكه مراد آسمان هفتم است وحق تعالى يد وسوكند ياد كنه {أَنَّكُمْ} يا أهل مكة {لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} في القرآن أي متخالف متناقض وهو قولهم أنه شعر وسحر وافتراء وأساطير الأولين وفي الرسول شاعر وساحر ومفتر ومجنون وفي القيامة فإن من الناس من يقطع القول بأقرار ومنهم من يقطع القول بأنكار ومنهم من يقول أن نظن إلا ظناً وهذا من التحير والجهل الغليظ فيكم وفي هذا الجواب تأييد لكون الحبك عبارة عن الاستواء كما يلوح به ما نقل عن الضحاك أن قول الكفرة لا يكون مستوياً إنما هو مناقض مختلف يقول الفقير : لعل الوجه في هذا القسم أن القرآن نازل من السماء وأن النبوة أمر سماوي فهم اختلفوا في هذا الأمر السماوي وظنوا أنه أمر أرضي مختلف وليس كذلك وفي الآية إشارة إلى سماء القلب ذات الطريق إلى الله إنكم أيها الطالبون الصادقون لفي قول مختلف في الطلب فمنكم من يطلب منا ما عندنا من كمالات القربات ومنكم من يطلب منا ما لدينا من العلوم والمعارف ومنكم من يطلبنا بجميع صفاتنا فلو استقمتم على الطريقة وتبتم ملازمين في طلبه لبلغ كل قاصد مقصده {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يقال أفكه عنه يأفكه افكاً صرفه وقلبه أو قلب رأيه كما في القاموس ورجل مأفوك مصروف عن الحق إلى الباطل كما في المفردات أي يصرف عن القرآن أو الرسول من صرف إذ لا صرف أفظع منه وأشد فكأنه لا صرف بالنسبة إليه أن تعريف مصدر أفك للحقيقة وكلمة من للعموم فالمعنى كل من اتصف بحقيقة المصروفية يصرف عنه ويلزمه بعكس النقيض كل من لم يصرف عنه لم يتصف بتلك الحقيقة فكان كل صرف يغايره لا صرف بالقياس إليه لكماله وشدته وقال بعضهم : يصرف عنه من صرف في علم الله وقضائه يعني هركه در علم خداى محروم باشد ازايمان بكتاب ويغمبر هرآينه محرومست :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
دلهاهمه محزون وحكرها خونست
تاحكم ازل درحق هركس ونست
وفيه إشارة إلى أن في قطاع الطريق على أرباب الطلب لكثرة فمن يصرفه عن طلبه قاطع من القطاع من النفس والهوى والدنيا وزينتها وشهواتها وجاهها ونعيماً فصرف فقد حرم من متمناه وأهلكه هواه كما قيل نعوذ بالله من الحور بعد الكور وينادي عليه منادي العزة وكم مثلها فارقتها وهي تصفر {قُتِلَ الْخَراَّصُونَ} دعاء عليهم كقوله قتل الإنسان ما أكفره وأصله الدعاء بالقتل والهلاك ثم جرى مجرى لعن وقبح والخرص تقدير القول بلا حقيقة ومنه خرص الثمار أي تقديرها مثلاً تقدير ما على النخل من الرطب تمراً وكل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له خرص سواء كان ذلك مطابقاً للشيء أي مخالفاً له من حيث أن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع بل اعتمد فيه على الظن والتخمين كفعل الخارص في خرصه وكل من قال قولاً على هذا النحو يسمى كاذباً وإن كان قوله مطابقاً للقول المخبر به
150
كما قال تعالى في شهادة المنافقين لكاذبون فالخراصون الكذابون المقدرون ما لا صحة له وهم أصحاب القول المختلف كأنه قيل قتل هؤلاء الخراصون فاللام للعهد إشارة إليهم وعن مجاهدهم الكهنة {الَّذِينَ هُمْ} لفظ هم مبتدأ وخبره قوله {فِى غَمْرَةٍ} من الجهل والضلال تغمرهم وتغشاهم عن أمر الآخرة قال الراغب أصل الغمر إزالة أثر الشيء ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيد أثر مسيله غمر وغامر وبه شبه الرجل السخي والفرس الشديد العد وقيل لهما غمركما شبها بالبحر والغمرة معظم الماء الساترة لمقرها وجعلت مثلاً للجهالة التي تغمر صاحبها وإلى نحوه أشار بقوله فأغشيناهم وقيل للشدائد غمرات قال تعالى في غمرات الموت وقال الشاعر :
قال العواذل انني في غمرة
صدقوا ولكن امرتي لا تنجلي
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/122)
خبر بعد خبر أي غافلون عما امروا به قال بعضهم : الغمرة فوق الغفلة والسهو دون الغفلة قال الراغب : السهو خطأ عن غفلة وذلك ضربان أحدهما أن لا يكون من الإنسان جوالبه ومولداته كمجنون سب اسناناً والثاني أن يكون مولداته كمن شرب خمراً ثم ظهر منه منكر لا عن قصد إلى فعله فالأول معفو عنه والثاني مأخوذ به وعلى الثاني ذم الله تعالى فقال الذين هم في غمرة ساهون وفي كشف الأسرار الخراصون هم المقتسمون الذين اقتسموا عقاب مكة واقتسموا القول في النبي عليه السلام ليصرفوا الناس عن دين الإسلام يعني أن أهل مكة أقاموا رجالاً على عقاب مكة يصرفون الناس يعني بوقت ورود قوافل برعقاب مكة نشستندى وهريك درحق مصطفى عليه السلام بآينده ورونده دروغ كفتندى ومرد مانرا ازصحبت شريف وى باز داشتندى حق تعالى ايشانرا لعنت كرد.
قال ابو الليث فمنهم من يأخذ بقولهم ويرجع ومنهم من لا يرجع وفي الآية إشارة إلى أهل الدعوى الذين هم في غمرة الحسبان والغرور وهم ملعونون أي مطرودون عن مقامات أهل الطلب فإنه ليس لهم طلب ولو طلبوا الوجدان ما وجد أهل الطلب قال سهل رضي الله عنه : توضأت في يوم الجمعة فمضيت إلى الجامع في أيام البداية فوجدته قد امتلأ بالناس وهم الخطيب أن يرقى المنبر فأسأت الأدب ولم أزل أتخطى رقاب الناس حتى وصلت إلى الصف الأول فجلست فإذا هو عن يميني شاب حسن المنظر طيب الرائحة عليه أطمار صوف فلما نظر إلي قال : كيف نجدك يا سهل؟ قلت : بخير أصلحك الله وبقيت متفكراً في معرفته لي وأنا لم أعرفه فبينما أنا كذلك إذ أخذني حرقان بول فأكرني فبقيت على وجل خوفاً أن أتخطى رقاب الناس وإن جلست لم تكن لي صلاة فالتفت إلي وقال : يا سهل أخذك حرقان بول؟ قلت : أجل فنزع إحرامه عن منكبه فغشاني به ثم قال اقض حاجتك واسرع فالحق الصلاة قال : فغمي علي وفتحت عيني وإذا بباب مفتوح وسمعت قائلاً يقول : لج الباب يرحمك الله فولجت وإذا بقصر مشيد عالي البناء شامخ الأركان وإذا بنخلة قائمة وإلى جنبها مطهرة مملوءة ماء أحلى من الشهد ومنزل إراقة الماء ومنشقة معلقة وسواك فحللت لباسي وأرقت الماء ثم اغتسلت وتنشفت بالمنشفة فسمعته يناديني فيقول : إن كنت قضيت أربك فقل نعم فقلت : نعم فنزع الإحرام
151
عني فإذا أنا جالس في مكاني ولم يشعر بي أحد فبقيت متفكراً في نفسي وأنا مكذب نفسي فيما جرى فقامت الصلاة وصلى الناس فصليت معهم ولم يكن لي شغل إلا الفتى لأعرفه فلما فرغ تبعت أثره فإذا به قد دخل على درب فالتفت إلي وقال : يا سهل كأنك ما أيقنت بما رأيت قلت : كلالج الباب يرحمك الله فنظرت الباب بعينه فولجت القصر فنظرت النخلة والمطهرة والحال بعينه ولمنشفة مبلولة فقلت : آمنت بالله فقال : يا سهل من أطاع الله أطاعه كل شيء يا سهل اطلبه تجده فتغرغرت عيناي بالدموع فمسحتهما وفتحتهما فلم أر الفتى ولا القصر فبقيت متحسراً على ما فاتني منه ثم أخذت في العبادة
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/123)
{يَسْـاَلُونَ} أي الكفار فيقولون {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} بحذف المضاف من اليوم وإقامة المضاف إليه مقامه فلا يردان ظرف الزمان لا يقع خبراً إلا عن الحدث وفي النظم أخبر به عن الزمان أي متى وقوع يوم الجزاء لكن لا بطريق الاستعلام حقيقة بل بطريق الاستعجال استهزاء {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} جواب للسؤال وانتصب يوم يفعل مضمر دل عليه السؤال أي يقع يوم هم على النار يحرقون ويعذبون بها كما يفتن الذهب بالنار يقال : فتنت الشيء أي أحرقت خبثه لتظهر خلاصته فالكافر كله خبث فيحرق كله ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف أي هو يوم هم والفتح لإضافته إلى غير متمكن {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي مقولاً لهم هذا القول إذا عذبوا والقائل خزنة النار أو ذوقوا جزاء تكذيبكم كما في قوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم أي كفرهم مراداً به عاقبته قال الراغب أصل الفتن إدخال الذهب النار ليظهر جودته من رداءته ويستعمل في إدخال الإنسان النار وقوله تعالى ذوقوا فتنتكم أي عذابكم وتارة يسمون ما يحصل منه العذاب فيستعمل فيه نحو قوله تعالى ألا في الفتنة سقطوا وتارة في الاختبار نحو قوله وفتناك فتوناً {هَـاذَا الَّذِى كُنتُم بِه تَسْتَعْجِلُونَ} جملة من مبتدأ وخبر داخلة تحت القول المضمر وهذا إشارة إلى ما في الفتنة من معنى العذاب أي هذا العذاب ما كنتم تستعجلون به في حياتكم الدنيا وتقولون متى هذا الوعد بطريق الاستهزاء ويجوز أن يكون هذا بدلاً من فتنتكم بتأويل العذاب والذي صفته وفيه إشارة إلى أهل المكر والدعوى الذين استبطأوا حصول المرام فيسألون أيان يوم الدين وهم في ظلمة ليل الدنيا مستعجلين في استحباح نهار الدين فأجابتهم عزة الجبروت عن الكبرياء والعظموت يوم هم على نار الشهوات يفتنون بعذاب البعد والقطيعة يعذبون ذوقوا عذاب فتنتكم التي قطعت عليكم طريق الطلب هذا الذي كنتم به تملون من الطلب وتستعجلون الظفر بالمقصود.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي : كنت أنا صاحب لي قد أوينا إلى مغارة نطلب الدخول إلى الله وأقمنا فيها ونقول يفتح لنا غداً أو بعد غد فدخل علينا يوماً رجل ذو هيبة علمنا أنه من أولياء الله فقلنا له : كيف حالك؟ فقال : كيف يكون حال من يقول يفتح لنا غداً أو بعد غد يا نفس لم لا تعبدين اللهفتيقظنا وتبنا إلى الله فبعد ذلك فتح علينا ففيه إشارة إلى ترك الاستعجال في طريق الطلب وإلى الأخذ بالإخلاص وإلى العمل وفق إشارة المرشد ودلالة الأنبياء حتى يتخلص الطالب من عذاب الوجود ويرتفع الحجاب ويحصل الشهود بكمال الفيض والجود وأما العمل بالنفس فيزيد في وجودها :
152
واقف نمى شوندكه كمركرده اندراه
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
تارهروان براهنمايى نمى رسند
فالمرشد إذاً لا بد منه فإن المريد ضعيف والشيخ كالحائط المستحكم.
كما قال الشيخ سعدي :
مريدان زطفلان بقوت كمند
مشايخ و ديوار مستحكمند
وقال الصائب :
برهدف دستى ندارد تيربى زور كمان
همت يران جوانانرا بمنزل ميبرد
(9/124)
نسأل الله سبحانه أن يدلنا على سلوك طريقه ويوصلنا إلى جنابه بتوفيقه أنه هو الكريم الرحيم {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} عن الكفر والمعصية والجهل والميل إلى ما سوى المولى والمتصفين بالإيمان والطاعة والمعرفة والتوجه إلى الحضرة العليا {فِى جَنَّـاتٍ} أي بساتين لا يعرف كنهها فالتنكير للتعظيم ويجوز أن يكون للتكثير كما في قوله إن له لا بلا وإن له لغنما والعرب تسمى النخيل جنة {وَعُيُونٍ} أي أنهار جارية أي تكون الأنهار بحيث يرونها وتقع عليها أبصارهم لا أنهم فيها وعن سهل رضي الله عنه التقى في الدنيا في جنات الرضى يتقلب وفي عيون الناس يسبح وقال بعضهم في جنات قلوبهم وعيون الحكمة في عاجلهم وفي جنات الفضل وعيون الكرم فغدا تجلى ودرجات واليوم مناجاة وقربات {ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ} حال من الضمير في الجار أي قابلين لكل ما أعطاهم من الثواب راضين به على معنى أن كل ما أعطاهم حسن مرضي متلقى بالقبول ليس فيه ما يرد لأنه في غاية الجودة ومنه قوله ويأخذ الصدقات أي يقبلها ويرضاها قال بعضهم : آخذين ما آتاهم ربهم اليوم بقلوب فارغة إلى الله من أصناف ألطافه وغداً يأخذون وما يعطيهم ربهم في الجنة من فنون العطاء والرفد ثم علل استحقاقهم ذلك بقوله : {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ} قبل دخول الجنة أي في الدنيا {مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلا مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} الهجوع النوم بالليل دون النهار وما مزيدة لتأكيد معنى التقليل فإنها تكون لإفادة التقليل كما في قولك أكلت أكلاً ما وقليلاً ظرف ويهجعون خبر كانوا أي كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل أو صفة مصدر محذوف أي كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً من أوقات الليل يعني يذكرون ويصلون أكثر الليل وينامون أقله ولا يكونون مثل البطالين الغافلين النائمين إلى الصباح وقال بعض أهل الإشارة فيه إشارة إلى أن أهل الإحسان وهم أهل المحبة والمشاهدة لا ينامون بالليل لأن القلة عبادة عن العدم ومعنى عدم نومهم ما أشار إليه صلى الله عليه وسلّم بقوله : نوم العالم عبادة فمن يكون في العبادة لا يكون نائماً قيل : نزلت الآية في شأن الأنصار رضي الله عنهم حيث كانوا يصلون في مسجد النبي عليه السلام ثم يمضون إلى قبا وبينهما ميلان وهما ساعة واحدة بالساعة النجومية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
وقال الكاشفي : اشهر آنست كه خواب نكردندى تا نماز خفتن ادا نفر مودندى ووقت آنرا دراز كشيدندى.
وعن جعفر بن محمد أنه قال : من لم يهجع ما بين المغرب والعشاء حتى يشهد العشاء فهو منهم وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي صلاة الليل أفضل قال في نصل الليل وقليل فاعله.
قال بعضهم :
نركس اندر خواب غفلت يافت بلبل صد وصال
خفته نابينا بوددولت به بيداران رسد
153
وفي المثنوي :
درد شتم داد حق تامن زخواب
برهم درنيم شب باسوز وتاب
درد درها بخشيد حق ازلطف خوبش
تانخسبم جمله شب ون كاو ميش
قال داود بن رشيد من أصحاب محمد بن الحسن قمت ليلة فأخذني البرد فبكيت من العرى فنمت فرأيت قائلاً يقول : يا داود أنمناهم وأقمناك فتبكي علينا فما نام داود بعد تلك الليلة.
روزى شاكردى از شاكردان ابو حنيفة رحمه الله اوراكفت مردمان مى كويندكه ابو حنيفه هي بشب نمى خسبد كفت نيت كردم كه هركز ديكر نخسبم لما قال تعالى ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ومن نخواهم كه ازان قوم باشم كه ايشانرا بيزى كه نكرده باشند ياد كنند بعد ازان سى سال نماز بامداد بطهارت نماز خفتن كزارد.
قال الشيخ ابو عمرو في سبب توبته : سمعت ليلة حمامة تقول : يا أهل الغفلة قوموا إلى ربكم رب كريم يعطي الجزيل ويغفر الذنب العظيم فلما سمت ذلك ذهبت عني ثم لما جئت إلي وجدت قلبي خالياً عن حب الدنيا فلما أصبحت لقيت الخضر عليه السلام فدلني على مجلس الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه فدخلت عليه وسلمت نفسي إليه ولازمت بأنه حتى جمع الله لي كثيراً من الحير {وَبِالاسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} السحر السدس الأخير من الليل لاشتباهه بالضياء كالسحر يشبه الحق وهو باطل أي هم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار في الأسحار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم.
واين دليل آنست كه بعمل خود معجب نبوده اند وازان حساب نداشته :
طاعت ناقص ما موجب غفران نشود
راضيم كر مدد علت عصيان نشود
وفي بناء الفعل على الضمير المفيد للتخصيص إشعار بأنهم الأحقاء يوصفوا بالاستغفار كأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه وفي بحر العلوم تقديم الظرف للاهتمام ورعاية الفاصلة وعن الحسن كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله وربما نشطوا فمدوا إلى السحر ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/125)
وفي التأويلات النجمية يستغفرون من رؤية عبادات يعملونها في سهرهم إلى الأسحار بمنزلة العاصين يستغفرون استصغاراً لقدرهم واستحقاراً لفعلهم :
عذر تقصير خدمت آوردم
كه ندارم بطاعت استظهار
عاصيان ازكناه توبه كنند
عارفان ازعبادت استغفار
أي من التقصير في العبادة أو من رؤيتها قيل : يا رسول الله كيف الاستغفار؟ قال : قولوا اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم وقال عليه السلام : توبوا فإني أتوب إلى الله في كل يوم مائة مرة وفي الحديث إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح فيقول : يا رب أنى لي هذه فيقول بالاستغفار ولدك لك أي بأن قال رب اغفر لي ولوالدي وفي بعض الأخبار أن أحب أحبائي إلى الذين يستغفرون بالأسحار أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض شيئاً ذكرتهم فصرفت بهم عنهم.
قال الحافظ :
هر كنج سعادت كه خداداد بحافظ
ازيمن دعاى شب وورد سحرى بود
154
وقال :
دركوى عشق شوكت شاهى نمى خرند
اقرار بندكى كن ودعوى اكرى
وفي المثنوي :
كفت آنكه هست خورشيد راه او
حرف طوبى هركه زلت نفسه
ظل ذلت نفسه خوش مضجعست
مستعدان صفارا مهجعست
كرازين سايه روى سوى منى
زود طاغى كردى وره كم كنى
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
وقال الكلبي ومجاهد وبالأسحار هم يصلون وذلك إن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة وفي الحديث : "من تعار من الليل" هذا من جوامع الكلم لأنه يقال تعار من الليل إذا استيقظ من نومه مع صوت كذا في الصحاح وهذه اليقظة تكون مع كلام غالباً فأحب النبي عليه السلام أن يكون ذلك الكلام تسبيحاً وتهليلاً ولا يوجد ذلك إلا ممن استأنس بالذكر فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير الحمدوسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال : اللهم اغفر لي أو دعا.
أي بدعاء آخر غير قوله الللهم اغفر لي : أستجيب له.
هذا الجزاء مترتب على الشروط المذكورة والمراد بها الاستجابة اليقينية لأن الاحتمالية ثابتة في عير هذا الدعاء ولو لم يدع المتعار بعد هذا الذكر كان له تواب لكنه عليه السلام لم يتعرض له.
قال : توضأ وصلى قبلت صلاته.
فريضة كانت أو نافلة وهذه المقبولية اليقينية مترتبة على الصلاة المتعقبة لما قبلها وفي الخبر الصحيح ينزل الله السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول : أنا الملك من الذي يدعوني فأستجيب له من الذي يسألني فأعطيه من الذي يستغفرني فأغفر له وكان النبي عليه السلام إذا قام من الليل يتهجد قال : اللهم لك الحمد أنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك قال داود عليه السلام : يا جبرائيل أي الليل أفضل؟ قال : لا أدري إلا أن العرش يهتز وقت السحر ولا يهتز العرش إلا لكثرة تجليات الله إما تلقياً وفرحاً لأهل السهر وإما طرباً لأنين المذنبين والمستغفرين في ذلك الوقت وإما تعجباً لكثرة عفو الله ومغفرته وإجابته للأدعية في ذلك الوقت وإما تعجباً من حسن لطف الله في تحننه على عباده الآبقين الهاربين منه مع غناه عنهم وكثرة احتياجهم إليه تعالى ثم مع ذلك هم غافلون في نومهم وهو يتوجه إليهم ويدعوهم بقوله : هل من سائل هل من مستغفر هل من تائب هل من نادم وقوله : من يقرض غير عدوم ولا ظلوم وإما تعجباً من غفلات أهل الغفلة بنومهم في مثل ذلك الوقت وحرمانهم من البركة وإما لأنواع قضاء الله وقدره في ذلك الوقت من الخيرات والشرور والليل إما للأحباب في أنس المناجاة وإما للعصاة في طلب النجاة والسهر لهم في لياليهم دائم أو لفرط أسف ولشدة لهف وإما للاشتياق أو للفراق كما قالوا :
155
كما ليلة فيك لا صباح لها
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
افنيتها قابضا على كبدي
قد غصت العين بالدموع وقد
وضعت خدي على بنان يدي
وإما لكمال أنس وطيب روح كما قالوا :
سقى الله عيشاً نضيراً مضى
زمان الهوى في الصبي والمجنون
لياليه تحكي انسداد اللحا
ظ للعين عند ارتداد الجفون
واعلم أن الله سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم بأحياء الليل لأن هذه الطريقة أقرب طريق إلى الله للمقبل الصادق وما يطيقها إلا المتمكن الصابر العابر من كل عائق وفي الحديث فرض على قيام الليل ولم يفرض عليكم وذلك لا أنه روح العالم ومداره فكيف يكون الله ولي بخيل بنفسه على الله متكاسل وبتكاسله يخرب العالم ويشتد جهل أهله كما أن الروح إذا ضعف اختل الجسد وقواه ومن هنا عرفت شدة توعل الأتقياء في العبادات وكلما قرب الإنسان من الكمال اشتد تكليفه فاعرف هذا.
(9/126)
ـ وروي ـ أن الياس النبي عليه السلام أتى إليه ملك الموت ليقبضه فبكى فقال له : أتبكي وأنت راجع إلى ربك فقال : بل أبكي على ليالي الشتاء ونهار الصيف الأحباب يقومون ويصومون ويخدمون ويتلذذون بمناجاة محبوبهم وأنا رهين التراب فأوحى الله إليه قد أجلناك إلى يوم القيامة لحبك خدمتنا فتمتع.
قال الحافظ : دع التكاسل تغنم.
فقد جرى مثل كه زاد را هروان جستيست والاكى {وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} أي نصيب وافر يستوجبونه على أنفسهم أي يعدونه واجباً عليهم ويلزمونه تقرباً إلى الله وإشفاقاً على الناس فليس المراد بالحق ما أوجبه الله عليهم في أموالهم فاندفع به ما عسى يقال كيف يمدح المرء بأنه يثبت في ماله حق للفقراء فمن يمنع الزكاة من الأغنياء يوجد فيهم هذا المعنى ولا يستحقون المدح {لِّلسَّآاـاِلِ} لحاجة المستجدي أي طالب الجدوى والنفع {وَالْمَحْرُومِ} أي المتعفف الذي يحسبه الناس غنياً فيحرم الصدقة وفي القاموس المحروم الممنوع من الخير ومن لا ينمي له مال وفي المفردات أي الذي لم يوسع عليه في الرزق كما وسع على غيره بل منع من جهة الخير وفي بحر العلوم وإنما خصصه بالسائل والمحروم ولم يذكر سائر المستحقين لأن ذلك حق سوى الصدقة المفروضة بدليل قوله عليه السلام إن في المال حقاً سوى الزكاة انتهى يعني في المال حق واجب سوى الزكاة وهو الحقوق التي تلزم عندما يعرض من الأحوال من النفقة على الوالدين إذا كانا فقيرين وعلى ذي الرحم المحرم وما يجب من طعام المضطر وحمل المنقطع ونحو ذلك وفي الحديث ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا فيقول الله لأقربنكم اليوم ولأبعدنهم وتلا الآية فلا بد من الإنفاق وهو من أحسن الأخلاق.
قال الحافظ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
ه دوزخى ه بهشتى ه آدمى ه ملك
بمذهب همه كفر طريقتست امساك
وقال الشيخ سعدي :
از زر وسيم راحتى برسان
خويشتن هم تمتعى بركير
ونكه اين خانه ازتو خواهد ماند
خشتى ازسيم وخشتى اززر كير
156
وفي الحديث أنثلاثمائة وستين خلقاً من لقبه يخلق منها مع التوحيد دخل الجنة قال أبو بكر رضي الله عنه هل في منها يا رسول الله قال : كلها فيك يا أبا بكر واحبها إلى الله السخاء.
ـ حكي ـ أن الشيخ الشبلي قدس سره أشار إلى أصحابه بالتوكل فلم يفتح عليهم بشيء ثلاثة أيام ثم قال لهم : إن الله تعالى قد أباح الكسب بقوله : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه فخرج واحد منهم فأعياه الجوع وجلس عند حانوت طبيب نصراني فعرف الطبيب جوعه من نبضه فأمر غلامه بالطعام فقال الفقير : قد ابتلى بهذه العلة أربعون رجلاً فأمر غلامه بحمل الطعام إليهم ومشى خلفه فلما وصل الطعام إليهم قال الشبلي : لا ينبغي أن تأكولوا قبل المكافأة بالدعاء فدعوا له فلما سمع الطبيب دعاءهم دخل وأسلم فظهر معنى قوله هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فجزاء إحسان الطبيب النصراني بالطعام الإحسان من عباد الله بالدعاء ومن الله بتوفيق الإسلام وفي الآية إشارة إلى ما آتاهم الله من فضله من المقامات والكمالات إنه فيها حق للطالبين الصادقين إذا قصدوهم من أطراف العالم في طلبها إذا عرفوا قدرها والمحروم من لم يعرف قدر تلك المقامات والكمالات فما قصدوهم في طلبها فلهم في ذمة كرم هؤلاء الكرام حق التفقد والنصح فإذا الدين النصيحة فإنهم بمنزلة الطبيب والمحروم بمنزلة المريض فعلى الطبيب أن يأتي إلى المريض ويرى نبضه ويعرف علته ويعرفه خطره ويأمره بالاحتماء من كل ما يضره ويعالجه بأدوية تنفعه إلى أن يزيل مرضه وتظهر صحته كذا في التأويلات النجمية {وَفِى الارْضِ ءَايَـاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} الإيقان بي كمان شدن.
أي دلائل واضحة على وجود الصانع وعلمه وقدرته وارداته ووحدته وفرط رحمته من حيث أنها مدحوة كالبساط الممهد وفيها مسالك وفجاج للمتقلبين في أقطارها والسالكين في مناكبها وفيها سهل وجبل وبر وبحر وقطع متجاورات وعيون متفجرة ومعادن متفننة وأنها تلقح بألوان النبات وأنواع الأشجار وأصناف الثمار والختلفة الألوان والطعوم والروائح وفيها دواب منبثة قد رتب كلها ودبر لمنافع ساكنيها ومصالحهم في صحتهم واعتلالهم وقال الكلبي عظات من آثار من تقدم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/127)
وفي التأويلات النجمية منها أي من تلك الآيات أنها تحمل كل شيء فكذا الموقن العارف يحمل كل حمل من كل أحد ومن استثقل حملاً أو تبرم برؤية أحد ساقه الله إليه فلغيبته عن الحقيقة ومطالعته الحق بعين التفرقة وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة ومنها أنها يلقى عليها قذارة وقمامة فتنبت كل زهر ونور وورد وكذلك العارف يتشرب ما يسقى من الجفاء ولا يترشح إلا بكل خلق على وشيمة زكية ومنها أن ما كان منها سبخاً يترك ولا يعمر لأنه لا يحتمل العمارة كذلك من الإيمان له بهذه الطريقة يهمل فإن سره الأطهر ولا تبذر السمراء في الأرض عميان.
يعني بيان الحقائق الذي هو غذاء القلب والروح كالسمراء يعني الحنطة للجسم وقوله في الأرض عميان يعني في أرض استعداد هذه الطوائف الذين لا يبصرون الحق ولا يشاهدونه في جميع الأشياء وفي حقائق البقلى آيات الأرض ظهور تجلي ذاته وصفاته في مرآة الأكوان كما ظهر من الطور لموسى عليه السلام
157
وما ظهر من المصيصة لعيسى عليه السلام وهي بكسر الميم مدينة على ساحل البحر الرومي بجوار طرسوس والسيس وما ظهر لمحمد صلى الله عليه وسلّم من جبال مكة ألا ترى إلى قوله عليه السلام جاء الله من سينا واستعين بساعة وأشرق من جبال فاران أي جبال مكة وفي القاموس فاران جبال مذكورة في التوراة منها بكر ابن القاسم.
وفي أنفسكم : أي في أنفسكم آيات إذ ليس في العالم شيء إلا وفي الأنفس له نظير يدل دلالته على ما سبق تطبيق العالم الصغير بالكبير في أواخر حم السجدة عند قوله سنريهم آياتنا الخ مع ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة وفي بحر العلوم وفي الأرض دلائل من أنواع الحيوان والأشجار والجبال والأنهار وفي أنفسكم آيات لهم من عجائب الصنع الدالة على كمال الحكمة والقدرة والتدبير والإرادة فيكون تخصيصاً بعد تعميم لأن أنفس الناس مما في الأرض كأنه قيل في الأرض آيات للموحدين العاقلين وفي أنفسكم خصوصاً آيات لهم لأن أقرب المنظور فيه من كل عاقل نفسه ومن ولد منها وما في بواطنها وظواهرها من الدلائل الواضحة على الصانع وفي نقلها من هيئة وحال إلى حال من وقت الميلاد إلى وقت الوفاة قال بعضهم :
ففي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وذلك لأن كل شيء بجسمه واحد وكذا بروحه ولا عبرة بكثرة الأجزاء والأعضاء وما من عدد إلا ويصح وصفه بالوحدة فيقال عشرة واحدة ومائة واحدة على أن كل جسم فهو منتهى إلى الجزء الذي لا يتجزى وهو النقطة وكل ألف فهو إما مركب من نقاط ثلاث أو خمس أو سبع وقس عليه سائر التركيبات الحروفية والفعلية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن نفس الإنسان مرآة جميع صفات الحق ولهذا قال عليه السلام : من عرف نفسه فقد عرف ربه فلا يعرف أحد نفسه إلا بعد كمالها وكمالها في أن تصير مرآة تامة مصقولة قابلة لتجلي صفات الحق لها فيعرف نفسه بالمرآتية ويعرف ربه بالمتجلى فيها كما قال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق :
جهان مرآت حسن شاهد ماست
فشاهد وجهه في كل ذرات
{أَفَلا تُبْصِرُونَ} أي ألا تنظرون فلا تبصرون بعين البصيرة حتى تعتبروا وتستدلوا الصنعة على الصانع وبالنقش على النقاش وكذا على صفاته.
قال الكاشفي : استفهام كنيددر حقايق سلمى مذكور است كه هركه اين آيتها در نفس خودبيند ودر صفحه وجود آثار قدرت مطالعه ننمايد حظ خودرا ضايع كرده باشد واز زندكانى هي بهره نيابد :
نظري بسود خودكن كه توجان دلربايى
مفكن بخاك خودراكه تواز بلند جايى
تو زشم خود نهانى توكمال خود ه دانى
ودراز صدف برون آكه توبس كران بهايى
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 17 من صفحة 158 حتى صفحة 168
قال الواسطي تعرف إلى قوم بصفاته وأفعاله وهو قوله وفي أنفسكم أفلا تبصرون وتعرف
158
إلى الخواص بذاته فقال : ألم تر إلى ربك.
ـ روي ـ أن علياً رضي الله عنه صعد المنبر يوماً فقال : سلوني عما دون العرش فإن ما بين الجوانح علم جم هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في فمي هذا ما رزقني الله من رسول الله رزقاً فوالذي نفسي بيده لو أذن للتوراة والإنجيل أن يتكلما فأخبرت بما فيهما لصدقاني على ذلك وكان في المجلس رجل يماني فقال : ادعى هذا الرجل دعوى عريضة لأفضحنه فقام وقال : يا علي اسأل قال : سل نفقها ولا تسأل تعنتاً فقال : أنت حملتني على ذلك هل رأيت ربك يا علي قال : ما كنت أعبد رباً لم أره فقال : كيف رأيت قال : لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأت القلوب بحقيقة الإيمان ربي واحد لا شريك له أحد لا ثاني له فرد لا مثل له لا يحويه مكان ولا يداوله زمان لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالقياس فسقط اليماني مغشياً عليه فلما أفاق قال : عاهدت الله أن لا أسأل تعنتاً.
(9/128)
ـ وحكي ـ عن بعض الصالحين أنه رأى في المنام وعروفاً فالكرخي شاخصاً نحو العرش قد اشتغل عن حور الجنة وقصورها فسألت رضوان : من هذا قال معروف الكرخي مات مشتاقاً إلى الله فأباح له أن ينظر إليه وهذا النظر هناك من نتائج النظر بالقلب في الدنيا لقوله تعالى : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأما النظر بالبصر في الدنيا فلما لم يحصل لموسى عليه السلام لم يحصل لغيره إذ ليس غيره أمل قابلية منه إلا ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد كان في خارج حد الدنيا إذ كان فوق العرش والعرش من العالم الطبيعي وملاق لعالم الأرواح.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
واعلم أن رؤية العوام في مرتبة العلم ورؤية الخواص في مرتبة العين ولهم مراتب في التوحيد كالأفعال والصفات والذات فليجتهد العاقل في الترقي من مرتبة العلم إلى مرتبة العين ومن الاستدلال إلى الشهود والحضور {وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ} أي أسباب رزقكم على حذف المضاف يعني به الشمس والقمر وسائر الكواكب واختلاف المطالع والمغارب التي يترتب عليه اختلاف الفصول التي هي مبادي حصول الأرزاق.
كما قال الشيخ سعدي :
ابر وباد ومه وخورشيد وفلك دركارند
تاتوناني بكف آرى وبغفلت نخوري
همه از بهر توسر كشته وفرمان برادر
شرط انصاف نباشدكه توفر مان نبرى
أو في السماء تقدير رزقكم وقال ابن كيسان يعني على رب السماء رزقكم كقوله تعالى ولأصلبنكم وفي جذوع النخل {وَمَا تُوعَدُونَ} من الثواب لأن الجنة على ظهر السماء السابعة تحت العرش قرب سدرة المنتهى أو أراد أن كل ما توعدون من الخير والشر والثواب والعقاب والشدة والرخاء وغيرها مكتوب مقتدر في السماء.
ودرتبيان كفته مكتوبست درلوحى كه در آسمان هارم است.
يقول الفقير : أمر العقاب ينزل من السماء ونفسه أيضاً كالصيحة والقذف والنار والطوفان على ما وقع في الأمم السالفة {فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالارْضِ} اقسم الله بنفسه وذكر الرب لأنه في بيان التربية بالرزق {إِنَّهُ} أي ما توعدون أو ما ذكر من أمر الآيات والرزق على أنه مستعار لاسم الإشارة {لَحَقٌّ} هر آينه راستست.
وفي الحديث أبى ابن آدم أن يصدق ربه حتى أقسم له فقال : فورب الخ وقال الحسن في هذه الآية بلغني أن رسول الله عليه السلام قال : قاتل الله أقواماً أقسم الله لهم بنفسه فلم يصدقوه انتهى ولو وعد
159
يهودي لإنسان رزقه وأقسم عليه لاعتمد بوعده وقسمه فقاتله الله كيف لا يعتمد على الرزق قال هرم بن سنان لأويس القرني رضي الله عنه : أين تأمرني أن أكون فأومأ إلى الشام فقال هرم : كيف المعيشة بها؟ قال اويس : اف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها العظة {مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} أي كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقيقته وبالفارسي همنانكه شك نيست شمارادر سخن خودشك نيست در روزى دادن من وغير او.
ونصبه على الحالية من المستكن في الحق أو على أنه وصف لمصدر محذوف أي أنه لحق حقاً مثل نطقكم فإنه لتوغله في الإبهام لا يتعرف بإضافته إلى معرفته وما زائدة أو عبارة عن شيء على أن يكون ما بعدها صفة لها بتقدير المبتدأ أي نو أنكم تنقطون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/129)
وفي التأويلات النجمية كما نطقكم الله فتنطقون بقدرته بلا شك كذلك حق على الله أن يرزقكم ما وعدكم وإنما اختص التمثيل بالنطق لأنه مخصوص بالإنسان وهو أخص صفاته انتهى وفي الآية دليل للتوكل على الله وحث على طلب الحوائج منه وأحوالهم على رؤية الوسائط ولو كانوا على محل التحقيق لما أحالهم على السماء ولا على الأرض فإنه لو كانه السماء من حديد والأرض من نحاس فلم تمطر ولم تنبت وكان رزق جميع العباد على رقبة ولي من أولياء الله الكمل ما يبالي لأنه خرج من عالم الوسائط ووصل إلى صاحب الوسائط والله تعالى إنما يفعل عند الأسباب لا بالأسباب ولو رفع الأسباب لكان قادراً على إيصال الرزق فإنه إنما يفعل بأمركن وبيده الملكوت وهذا مقام عظيم فلما سلمت النفوس فيه من الاضطراب والقلق لعل الفتاح أدخلنا في دائرة الفتوح آمين وعن الأصمعي أقبلت في البصرة من الجامع بعد الجمعة فطلع أعرابي على قعود وهو بالفتح من الإبل ما يقتعده الراعي في كل حاجة فقال : من الرجل؟ قلت : من بني أصمع قال : من أين أقبل؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن أي من بيت الله الحرام قال : اتل علي فتلوت والذاريات فلما بلغت قوله وفي السماء رزقكم قال : حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم فاستقرأ السورة فلما بلغت الآية صاح فقال : قد وجدنا ما وعد ربنا حقاً ثم قال : وهل غير هذا فقرأت فورب السماء والأرض إنه لحق فصاح وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الخليل حتى حلف لم يصدقوه بالقول حتى ألجأوه اليمين قالها ثلاثاً وخرجت معه نفسه نسأل الله التوكل والاعتماد {هَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} تفخيم لشأن الحديث لأنه استفهام معناه التعجب والتشويق إلى استماعه ومثله لا يكون إلا فيما فيه فخامة وعظيم شأن وتنبيه على أنه ليس مما علمه رسول الله عليه السلام بغير طريق الوحي إذ هو أمي لم يمارس الخط وقراءته ولم يصاحب أصحاب التواريخ ففيه إثبات نبوته وقال ابن الشيخ الاستفهام للتقرير أي قد أتاك وقيل إن لم يأتك نحن نخبرك والضيف في الأصل مصدر ضافه إذا نزل به ضيفاً ولذلك يطلق على الواحد والجماعة كالزور والصوم وقد يجمع فيقال أضياف وضيوف وضيفان قال الراغب أصل الضيف الميل يقال ضفت إلى كذا وأضفت كذا إلى كذا والضيف من مال إليك نزولاً بك وصارت الضيافة متعارفة في القرى كانوا اثني عشر ملكاً منهم جبرائيل وميكائيل وزقائيل
160
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
وتسميتهم ضعيفاً لأنهم كانوا في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك {الْمُكْرَمِينَ} صفة للضيف أي المكرمين عند الله بالعضمة والتأييد والاصطفاء والقربة والسفارة بين الأنبياء كما قال بل عباد مكرمون أو عند ابراهيم بالخدمة حيث خدمه بنفسه وبزوجته وأيضاً بطلاقة الوجه وتعجيل الطعام وبأنهم ضيف كريم لأن ابراهيم أكرم الخليقة وضيف الكريم لا يكون إلا كريماً وفي الحديث من آمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه قيل إكرامه تلقيه بطلاقة الوجه وتعجيل قراه والقيام بنفسه في خدمته وقد جاء في الرواية أن الله تعالى أوحى إلى ابراهيم عليه السلام أكرم أضيافك فأعد لكل منهم شاة مشوية فأوحى إليه أكرم فجعله ثوراً فأوحى إليه أكرم فجعله جملاً فأوحى إليه أكرم فتحير فيه فعلم أن إكرام الضيف ليس في كثرة الطعام فخدمهم بنفسه فأوحى إليه الآن أكرمت الضيف وقال بعض الحكماء لا عار للرجل ولو كان سلطاناً أن يخدم ضيفه وأيام ومعلمه ولا تعتبر الخدمة بالإطعام.
قال الشيخ سعدي :
شنيدم كه مرديست اكيزه يوم
شناسا ورهرو دراقصاى روم
من وند سالوك صحرا نورد
برفتيم قاصد بديدار مرد
سروشم هريك ببوسيد ودست
بتميكن وعزت نشاند ونشست
زرش ديدم وزرع وشاكر دورخت
ولي بي مروت وبى بردرخت
بخلق ولطف كرم رومرد بود
ولي ديكدانش قوي سرد بود
همه شب نبودش قرار وهجوع
زتسبيح وتهليل ومار از جوع
سحر كه ميان بست ودر باز كرد
همان لطف دوشنيه آغاز كرد
يكى بدكه شيرين وخوش طبع بود
كه باما مسافر دران ربع بود
مرا بوسه كفته بتصحيف ده
كه درويش را توشه ازبوسه به
بخدمت منه دست بر كفش من
مرا نان ده وكفش بر سربزن
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/130)
{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} ظرف للحديث فالمعنى هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه {فَقَالُوا سَلَـامًا} أي نسلم عليك سلاماً والفاء هناك إشارة إلى أنهم لم يخلوا بأدب الدخول بل جعلوا السلام عقيب الدخول {قَالَ} ابراهيم {سَلَـامًا} أي عليكم سلام يعني سلام برشماباد.
فهو مبتدأ خبره محذوف وترك العطف قصداً إلى الاستئناف فكأن قائلاً قال : ماذا قال ابراهيم في جواب سلامهم فقيل : قال سلام أي حياهم بتحية أحسن من تحيتهم لأن تحيتهم كانت بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث حيث نصبوا سلاماً وتحيته بالإسمية الدالة على دوام السلام وثباته لهم حيث عدل به إلى الرفع بالابتداء {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} يقال نكرت الرجل بكسر الكاف نكراً وأنكرته واستنكرته إذا لم تعرفه فالكل بمعنى وأصله أن يرد على القلب ما لا يتصوره وذلك ضرب من الجهل قال تعالى فعرفهم وهم له منكرون كما في المفردات أي قال ابراهيم في نفسه من غير أن يشعرهم بذلك هؤلاء قوم لا نعرفهم فهم منكرون عند كل أحد وقوله فنكرهم أي بنفسه فقط فأحدهما غير الآخر وكانوا على
161
أوضاع وأشكال خلاف ما عليه الناس وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض لأن السلام لم يكن تحيتهم لأنه كان بين أظهر قوم كافرين لا يحيي بعضهم بعضاً بالسلام الذي هو تحية المسلمين.
وقال الكاشفي : يعني هركز ون شما قومى نديدم در صورت وقامت مرا بكوييد ه كسانيد ايشان كفته اند مهما نانيم {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} يقال راغ إلى كذا أي مالي إليه سراً فالاختفاء معتبر في مفهوم الروغ أي ذهب إليهم على خفية من ضيفه فإن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذراً من أن يكفه الضيف ويعذبه أو يصير منتصراً.
ـ وحكي ـ أنه نزل ببعض المشايخ ضيف فأشار إلى مريد له بإحضار الطعام فاستبطأ فلما جاء سأله عن وجهه فقال المريد : وجدت على السفرة نملاً فتوقفت إلى أن خرجت منها فقال الشيخ : أصبت الفتوة ولما اطلع على هذه الحال بعض من هو أعلى حالاً من ذلك الشيخ قال : لم يصب الفتوة فإن الأدب تعجيل القرى وحق الضيف أحق من حق النمل فكان الواجب على المريد أن يلقيها على الأرض ويجييء بالسفرة مستعجلاً {فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} الفاء فصيحة مفصحة عن جمل محذوفة والياء للتعدية والعجل ولد البقرة لتصور عجلته التي تعدم منه إذا صار ثوراً أو بقرة والسمن لكونه من جنس السمن وتولده عنه والمعنى فذبح عجلاً سميناً لأنه كان عامة ماله البقر واختار السمين زيادة في إكرامهم فحنذه أي شواه فجاء به يعني س بياورد كوساله فربه بريان كرده {فَقَرَّبَه إِلَيْهِمْ} بأن وضعه لديهم حسبما هو المعتاد ليأكلوا فلم يأكلوا ولما رأى منهم ترك الأكل {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} منه إنكاراً لعدم تعرضهم للأكل وحثا عليه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
ـ وروي ـ أنهم قالوا : نحن لا نأكل بغير ثمن قال ابراهيم : كلوا وأعطوا ثمنه قالوا : وما ثمنه قال : إذا أكلتم فقولوا بسم الله وإذا فرغتم فقولوا الحمدفتجب الملائكة من قوله فلما رآهم لا يأكلون {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ} الوجس الصوت الخفي كالإيجاس وذلك في النفس أي أضمر في نفسه {خِيفَةً} أي خوفاً فتوهم أنهم أعداء جاءوا بالشر فإن عادة من يجيء بالشر والضرر أن لا يتناول من طعام من يريد إضراره قال في عين المعاني : من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك.
يقول الفقير : يخالفه سلامهم فإن السلم لا بد وأن يكون من أهل السلم وقيل وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا لعذاب {قَالُوا} حين أحسوا بخوفه {لا تَخَفْ} إنا رسل الله وقيل مسح جبريل العجل بجناحه فقام يمشي حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم {وَبَشَّرُوهُ} وبشارت ومده دادند مراورا.
وفي سورة الصافات وبشرناه أي بواسطتهم {بِغُلَـامٍ} هو إسحاق والغلام الطار الشارب والكهل ضده أو من حين يولد إلى أن يشب كما في القاموس {عَلِيمٍ} عند بلوغه واستوائه ولم تلد له سارة غيره {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ} سارة لما سمعت بشارتهم إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم قال ابن الشيخ فأقبلت إلى أهلها وكانت مع زوجها في خدمتهم فلما تكلموا بولادتها استحيت وأعرضت عنهم فذكر الله ذلك بلفظ الإقبال على الأهل ولم يذكره بلفظ الإدبار عن الملائكة قال سعدي المفتي كذا في التفسير الكبير ولا يناسبه قوله كذلك قال ربك فإنه يقتضي كونها عندهم فالإقبال إليهم
162
(9/131)
{فِى صَرَّةٍ} حال من فاعل أقبلت والصرة الصيحة الشديدة يقال صر يصر صريراً إذا صوت ومنه صرير الباب وصرير القلم أي حال كونها في صيحة وهو صوت شديد وقيل صرتها قولها اوه و يا ويلتي أورنتها.
وقال الكاشفي : درفرياد وميكفت الليلاء الليلاء اين كلمه بود در كفت ايشان كه وقت تعاظم أمور برزبان راندندى.
والصرة أيضاً الجماعة المنضم بعضها إلى بعض كأنهم صروا أي جمعوا في إناء وبها فسرها بعضهم أي أقبلت في جماعة من النساء كن عندها وهي واقفة متهيئة للخدمة {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} الصك ضرب الشيء بالشيء العريض يقال صكه أي ضربه شديداً بعريض أو عام كما في القاموس أي لطمته من الحياء لما أنها وجدت حرارة دم الحيض وقيل ضربت بأطراف أصابعها جبينها كما يفعله المتعجب وهي عادة النساء إذا أنكرن شيئاً.
وقال الكاشفي : س طبانه زدروى خودرا نانه زنان در وقت تعجب كنند
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
{وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي أنا عجوز عاقر لم ألد قط في شبابي فكيف ألد الآن ولي تسع وتسعون سنة سميت العجوز عجوزاً لعجزها عن كثير من الأمور وأصل العقم اليبس المانع من قبول الأثر والعقيم من النساء التي لا تقبل ماء الفحل قال في القاموس : العقم بالضم هزمة تقع في الرحم فلا تقبل الولد وفي عين المعاني العقيم من سد رحمها ومنه الداء العقام الذي لا يرجى برؤه وبمعناه العاقر وهي المرأة التي لا تحبل ورجل عاقر أيضاً لمن لا يولد له وكانت سارة عقيماً لم تلد قط فلما لم تلد في صغرها وعنفوان شبابها ثم كبر سنها وبلغت سن الأياس استبعدت ذلك وتعجبت فهو استبعاد بحكم العادة لا تشكك في قدرة الله سبحانه وتعالى {قَالُوا كَذَالِكِ} أي مثل ذلك الذي بشرناه {قَالَ رَبُّكِ} وإنما نحن معبرون نخبرك به عنه تعالى لا أنا نقول من تلقاء أنفسنا فالكاف في كذلك منصوب المحل على أنه صفة لمصدر قال الثانية أي لا تستبعدي ما بشرناه به ولا تتعجبي منه فإنه تعالى قال مثل ما أخبرناك به {إِنَّه هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} فيكون قوله حقاً وفعله محكماً لا محالة :
كسى كوبكار تودانا بود
براتمام اوهم توانا بود
بجزدر كهش رومكن سوى كس
مراددل خويش از وجوى وبس
روي أن جبريل عليه السلام قال لها : انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة فأيقنت ولم تكن هذه المفاوضة مع سارة فقط بل مع ابراهيم أيضاً حسبما شرح في سورة الحجر وإنما لم يذكر هنا اكتفاء بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هناك سارة اكتفاء بما ذكر ههنا وفي سورة هود وفي الآية إشارة إلى أنه لا يجوز اليأس من فضل الله تعالى فإن المقدور كائن ولو بعد حين وقد أورقت وأثمرت شجرة مريم عليها السلام أيضاً وكانت يابسة كما مر في سورة مريم وقد اشتغل أفراد في كبرهم ففاقوا على أقرانهم في العلم فبعض محرومي البداية مرزوقون في النهاية فمنهم ابراهيم بن أدهم وفضيل بن عياض ومالك بن دينار قدس الله أسرارهم فإنهم وإن بعدوا عن الفطرة الأصلية بسبب الأحوال العارضة لكنهم لما سبقت العناية في حقهم انجذبوا ءلى الله فتقربوا لديه وأزالوا عن الفطرة الغواشي فمن استعجز قدرة الله تعالى فقد كفر وأما قولهم الصوفي بعد الأربعين بارد فهو يحسب
163
الغالب لأن المزاج بعد الأربعين في الانحطاط لغلبة اليبوسة والرودة لكن الله يحيي ويميت فيحيى في الكبر ما أماته في الصغر أي في حال الشباب ويميت في الكبر ما أحياه في الصغر بأن يميت النفس في الكبر بعدما كانت حية في الشباب ويحيي القلب في الكبر بعدما كان ميتاً في الشباب ومن الله نرجو جزيل الفيض والعطاء.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
الجزء السابع والعشرون من الاجزاء الثلاثين
(9/132)
{قَالَ} ابراهيم عليه السلام لما علم أنهم ملائكة أرسلوا لأمر {فَمَا خَطْبُكُمْ} أي شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة فإن الخطب يستعمل في الأمر العظيم الذيم يكثر في التخاطب وقلما يعبر به عن الشدائد والمكاره حتى قالوا خطوب الزمان ونحو هذا والفاء فيه للتعقيب المتفرع على العلم بكونهم ملائكة {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} أي فرستاده شد كان {قَالُوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} متمادين في إجرامهم وآثامهم مصرين عليها وفي فتح الرحمن المجرم فاعل الجرم آثم وهي صعاب المعاصي والمراد بهم قوم لوط {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ} أي بعدما قلبنا قراهم وجعلنا عاليها سافلها حسبما فصل في سائر السور الكريمة {حِجَارَةً مِّن طِينٍ} أي طين متحجر وهو ما طبخ فصار في صلابة الحجر وهو السجيل يعني أن السجيل حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب عليها أسماء القوم ولو لم يقل من طين لتوهم أن المراد من الحجارة البرد بقرينة إرسالها من السماء فلما قيل من طين اندفع ذلك الوهم {مُّسَوَّمَةً} مرسلة من سومت الماشية أي أرسلتها لترعى لعدم الاحتياج إليها قال سعدي المفتي فيه أن الظاهر حينئذ من عند ربك بإثبات من الجارة انتهى أو معلمة للعذاب من السومة وهي العلامة أو معلمة ببياض وحمرة أو بسيما تتميز بها عن حجارة الأرض أو باس من يرمي بها ويهلك {عِندَ رَبِّكَ} في خزائنه التي لا يتصرف فيها غيره تعالى {لِلْمُسْرِفِينَ} أي المجاوزين الحد في الفجور إذ لم يقنعوا بما أبيح لهم من النسوان للحرث بل أتوا الذكران وعن ابن عباس أي للمشركين فإن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها {فَأَخْرَجْنَا} الفاء فصيحة مفصحة عن محذوف كأنه قبل فباشروا ما أمروا به فأخرجنا بقولنا فأسر بأهلك الخ فهو أخبار من الله وليس بقول جبريل.
قال الكاشفي : ون ابراهيم معلوم فرمودكه بمؤتفكه مى روند بهلاك كردن قوم لوط دل مباركش بجهت برادر زاده متألم شدكه آيا حال او دران بلا كونه كذرد ملائكه كفتند غم مخوركه لوط عليه السلام ودختران او نجات خواهند يافت.
وذلك قوله تعالى فأخرجنا {مَن كَانَ فِيهَا} أي في قرى قوم لوط وهي خمس على ما في تفسير الكاشفي وإضمارها بغير ذكرها لشهرتها {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} من آمن بلوط {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ} أي غير أهل بيت {مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} قيل هم لوط وابنتاه وأما امرأته فكانت كافرة وإليه الإشارة بقول الشيخ سعدي :
164
بابدان يار كشت همسر لوط
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
خاندان نبوتش كم شد
سك اصحاب كهف روزي ند
ى نيكان كرفت ومردم شد
(9/133)
وقيل كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر.
وكفته انديك كس ازان قوم بلوط ايمان آورده بود درمدت بيست سال.
قال العلماء يأتي النبي يوم القيامة ومعه أمته وآخر معه قومه وآخر معه رهطه وآخر معه ابنه وآخر معه رجل وآخر استتبع ولم يتبع ودعا فلم يجب وذلك لإتيانه في الوقت الشديد الظلمة وفي الآية إشارة إلى أن المسلم والمؤمن متحدان صدقاً وذاتاً لا مفهوماً والمسلم أعم من المؤمن فإنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم من غير عكس والعام والخاص قد يتصادقان في مادة واحدة وقال بعضهم : الإيمان هو التصديق بالقلب أي إذعان الحكم المخبر وقبوله وجعله صادقاً والإسلام هو الخضوع والإنقياد بمعنى قبول الأحكام والإذعان وهذا حقيقة التصديق كما لا يخفى على من له أدنى عقل وتأمل وإنكار ذلك مكابرة {وَتَرَكْنَا فِيهَآ} أي في تلك القرى {ءَايَةً} علامة دالة على ما أصابهم من العذاب هي تلك الحجارة أو ماء أسود منتن خرج من أرضهم {لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الالِيمَ} أي من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من ذوي القلوب القاسية فإنهم لا يعتدون بها ولا يعتدونها آية كما شاهدنا أكثر الحجاج حين المرور بمدائن صالح عليه السلام وكان عليه السلام يبكي حين المرور بمثل هذه المواضع وينكس رأسه ويأمر بالبكاء والتباكي ودلت الآية على كمال قدرته تعالى على إنجاء من يؤيد دينه والانتقام من أعدائه ولو بعد حين وعلى أن المعتبر في باب النجاة والحشر مع أهل الفلاح والرشاد هو حبهم وحسن اتباعهم وهو الاتصال المعنوي لا الاختلاط الصوري وإلا لجنت امرأة نوح ولوط وقد قال تعالى في حقهما ادخلا النار مع الداخلين فعلى العاقل باتباع الكامل والاحتراز عن أهل الفساد والقصور سيما الناقصات في العقل والدين والشهادة والميراث والنفسانية والشيطانية غالبة فيهن فإذا اقترن بمضل آخر فسدت وفي الآية إشارة إلى أن القوم المجرمين المسرفين هم النفس وصفاتها الذميمة والاذكار والأوراد والمجاهدات والرياضات مهلكة للنفس وأوصافها وليس في مدينة الشخص الإنساني من المسلمين لا القلب السليم وأوصافه الحميدة فهي سالمة من الهلاك وإذا أهلكت النفس وأوصافها بما ذكر يكون تزكيتها وتهذيب أخلاقها آية وعبرة للذين يخافون العذاب الأليم بوعيد قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ثم هذه التزكية وإن كان حصولها في الخارج بالأسباب والوسائط لكنها في الحقيقة فضل من الله سبحانه وإلا لنالها كل من تشبث بالأسباب نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أهل النفوس المطمئنة الراضية المرضية الصافية
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
{وَفِى مُوسَى} عطف على قوله وفي الأرض آيات للموقنين فقصة إبراهيم ولوط عليهما السلام معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه تسلية لرسول الله عليه السلام من تكذيبهم ووعداً له بإهلاك أعدائه الأفاكين كما أهلك قوم لوط أو على قوله وتركنا فيها آية على معنى وجعلنا في إرسال موسى إلى فرعون وإنجائه مما لحق فرعون وقومه من الغرق آية كقول من قال علفتها تبناً وماء باراً أي وسقيتها ماء
165
بارداً وإلا فقوله في موسى : لا يصح معمولاً لتركنا إذ لا يستقيم أن يقال تركنا في موسى آية كما يصح أن يقال تركنا في تلك القرية آية لأن الترك ينبىء عن الإبقاء فإذا لم يبق موسى كيف يبقى ما جعل فيه {إِذْ أَرْسَلْنَـاهُ} منصوب بآية محذوفة أي كائنة وقت أرسلنا وعلى الثاني ظرف لجعلنا المقدر {إِلَى فِرْعَوْنَ} صاحب مصر {بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} هو ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة كالعصا واليد البيضاء وغيرهما والسلطان مصدر يطلق على المتعدد {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أي ثني عطفه وهو كناية عن الأعراض أي فأعرض عن الإيمان به وازور فالتولي بمعنى الإعراض والباء في بركنه للتعدية كما في قوله ونأى بجانبه فإنها معدية لنأى بمعنى بعد فيكون الركن بمعنى الطرف والجانب والمراد بهما نفسه فإنه كثيراً ما يعبر بطرف الشيء وجانبه عن نفسه وفي الصحاح ركن الشيء جانبه إلا قوي كالمنكب بالنسبة إلى الإنسان وقيل فتولى بما يتقوى به من ملكه وعساكره فإن الركن اسم لما يركن إليه الإنسان وليكن من مال وجند وقوة فالركن مستعار لجنوده تشبيهاً لهم بالركن الذي يتقوى به البنيان وعلى هذه الباء للسببية أو للملابسة والمصاحبة {وَقَالَ} هو أي موسى {سَـاحِرٌ} جادوست بشم بندى خوارق عادات مينمايد {أَوْ مَجْنُونٌ} أو ديوانه است عاقبت كار خود نمى انديشد.
(9/134)
والمجنون ذو الجنون وهو زوال العقل وفساده كأنه نسب ما ظهر على يديه من الخوارق العجيبة إلى الجن وتردد في أنه حصل باختياره وسعيه أو بغيرهما وقال أبو عبيدة أو بمعنى الواو إذ نسبوه إليهما جميعاً كقوله إلى مائة ألف أو يزيدون محققان كفته اندطعن وى بر موسى دليل كمال جهل اوست ه اورابد ويز متضاد طعن زد ومقررست كه سحررا عقلي تمام وذهني دراك وحذاقتي وافربايد وديوانكى دليل زوال عقلست وكمال عقل وزوال أن ضدانند {فَأَخَذْنَـاهُ وَجُنُودَه فَنَبَذْنَـاهُمْ فِى الْيَمِّ} النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به أي فطرحناهم في بحرالقلزم مع كثرتهم كما يطرح أحدكم فيه حصيات أخذهن في كفه لا يبالي بها وبزوالها عنه {وَهُوَ مُلِيمٌ} أي أخذناه والحال أنه آت بما يلام عليه صغيرة أو كبيرة إذ كل صاحب ذنب ملوم على مقدار ذنبه.
قال الكاشفي : مليم مستحق ملامت بوديا ملامت كنند خودراكه را اعراض كردم ازموسى وبر وطعنه زدم وبدين سبب كفت آمنت انه الخ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
بكوى آنه دانى سخن سود مند
وكر هي كس رانيايد سند
كه فردا شيمان بر آرد خروش
كه آوخ را حق نكردم بكوش
وفي الآية إشارة إلى موسى القلب إذ أرسله الله إلى فرعون النفس بسلطان وهو عصا لا إله إلا الله مبين إعجازها بأن تلفف ما يأفكون من يحر تمويهات سحرة صفات فرعون النفس فأعرض عن رؤية الإعجاز والإيمان بجميع صفاته فأهلكه الله في يم الدنيا والقهر والجلال ونعوذ بالله من غضب الملك المتعال وقد كان ينسب موسى القلب إلى السحر أو الجنون فإن من خالف أحداً فهو عنده مجنون وليس موسى القلب مجنوناً بل مجذوباً والفرق بينهما أن المجنون ذهب عقله باستعمال مطعوم كوني أو غير ذلك والمجذوب ذهل عقله لما شاهد
166
من عظم قدرة الله تعالى فعقله مخبوء عند الحق منعم بشهوده عاكف بحضرته متنزه في جماله فهم أصحاب عقول بلا عقول وهم في ذلك على ثلاث مراتب : منهم من يكون وارده أعظم من القوة التي يكون في نفسه عليها فيحكم الوارد عليه فيغلب عليه الحال فيكون تحت تصرف الحال ولا تدبير له في نفسه ما دام في ذلك الحال ومنهم من يمسك عقله هناك ويبقى عليه عقل حيوانيته فيأكل ويشرب ويتصرف من غير تدبير ولا رؤية ويسمى هذا من عقلاء المجانين لتناوله العيش الطبيعي كسائر الحيوانات ومنهم من لا يدوم له حكم الوارد فيزول عنه الحال فيرجع إلى الناس بعقله فيدبر أمره ويعقل ما يقول ويقال له ويتصرف عن تدبير ورؤية مثل كل الإنسان وذلك هو صاحب القدم المحمدي فإنه صلى الله عليه وسلّم كان يؤخذ عن نفسه عند نزول الوحي ثم يسري عنه فيلقي ما أوحي به إليه على الحاضرين.
واعلم أن المجاذيب لا يطالبون بالآداب الشرعية لذهاب عقولهم بما طرأ عليها من عظيم أمر الله تعالى :
هركه كرد ارجام حق بكجرعه نوش
نه ادب ماند درونه عقل وهوش
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
بكوى آنه دانى سخن سود مند
وكر هي كس رانيايد سند
كه فردا شيمان بر آرد خروش
كه آوخ را حق نكردم بكوش
وفي الآية إشارة إلى موسى القلب إذ أرسله الله إلى فرعون النفس بسلطان وهو عصا لا إله إلا الله مبين إعجازها بأن تلفف ما يأفكون من يحر تمويهات سحرة صفات فرعون النفس فأعرض عن رؤية الإعجاز والإيمان بجميع صفاته فأهلكه الله في يم الدنيا والقهر والجلال ونعوذ بالله من غضب الملك المتعال وقد كان ينسب موسى القلب إلى السحر أو الجنون فإن من خالف أحداً فهو عنده مجنون وليس موسى القلب مجنوناً بل مجذوباً والفرق بينهما أن المجنون ذهب عقله باستعمال مطعوم كوني أو غير ذلك والمجذوب ذهل عقله لما شاهد
166
من عظم قدرة الله تعالى فعقله مخبوء عند الحق منعم بشهوده عاكف بحضرته متنزه في جماله فهم أصحاب عقول بلا عقول وهم في ذلك على ثلاث مراتب : منهم من يكون وارده أعظم من القوة التي يكون في نفسه عليها فيحكم الوارد عليه فيغلب عليه الحال فيكون تحت تصرف الحال ولا تدبير له في نفسه ما دام في ذلك الحال ومنهم من يمسك عقله هناك ويبقى عليه عقل حيوانيته فيأكل ويشرب ويتصرف من غير تدبير ولا رؤية ويسمى هذا من عقلاء المجانين لتناوله العيش الطبيعي كسائر الحيوانات ومنهم من لا يدوم له حكم الوارد فيزول عنه الحال فيرجع إلى الناس بعقله فيدبر أمره ويعقل ما يقول ويقال له ويتصرف عن تدبير ورؤية مثل كل الإنسان وذلك هو صاحب القدم المحمدي فإنه صلى الله عليه وسلّم كان يؤخذ عن نفسه عند نزول الوحي ثم يسري عنه فيلقي ما أوحي به إليه على الحاضرين.
واعلم أن المجاذيب لا يطالبون بالآداب الشرعية لذهاب عقولهم بما طرأ عليها من عظيم أمر الله تعالى :
هركه كرد ارجام حق بكجرعه نوش
نه ادب ماند درونه عقل وهوش
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/135)
وحكمهم عند الله حكم من مات على حالة شهود ونعت استقامة وحالهم في الدنيا حكم الحيوان ينال جميع ما يطلب حكم طبيعته من أكل وشرب ونكاح من غير تقييد ولا مطالبة عليه عند الله مع وجود الكشف وبقائه عليهم كما تكشف البهائم وكل دابة حياة الميت على النعش وهو يحور ويقول : قدموني إن كان سعيداً ويقول : أين تذهبون بي إن كان شقياً فذاهب العقل معدود في الأموار لذهاب عقله معدود في الأحياء بطبعه فهو من السعداء الذين رضي الله عنهم وأكثر المجانين من غلبة المكاشفات والمشاهدات يعني أنهم يكاشفون الأمور الغيبية والأحوال الملكوتية ويشاهدون ما خفي عن أعين العامة وذلك من غير سبق المجاهدة منهم فبذلك يخرجون عن دائرة العقل إذ لا يتحملون الفتح الفجائي لعدم تهيئهم قبله ثم يتعسر إدخالهم في دائرة العقل إلا أن أراد الله تعالى ذلك فالمقبول البقاء على العقل وأن يكون المرء غالباً على حاله لا أن يكون الحال غالباً والأول من أحوال أهل النهاية والثاني من أحوال أهل البدية والله الغالب على أمره {وَفِى عَادٍ} أي وفي قوم هود آيات إن كان معطوفاً على وفي الأرض أو وجعلنا فيهم آية على تقدير كونه معطوفاً على قوله وتركنا فيها آية {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} أي على أنفسهم أصالة وعلى دورهم وأموالهم وأنعامهم تبعاً {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} العقم بالضم هزمة تقع في الرحم فلا تقبل الولد كما في القاموس وصفت بالعقم لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم فالعقيم بمعنى المعقم أو العاقم وفيه استعارة تبعية شبه إهلاكهم وقطع دابرهم بأعقام النساء التي لا يلدن ولا يعقبن ثم أطلق المشبه به على المشبه واشتق منه العقيم أو وصفت به لأنها لم تتضمن خيراً ما من إنشاء مطر أو القاح شجره يعني شبه عدم تضمنها منفعة بعقم المرأة ثم أطلق عليه فالعقيم بمعنى الفاعل من اللازم وفي بحر العلوم ولعله سماها عقيماً لأنها كانت سبب قطع الأرحام من الولادة بإهلاكها إياهم وقطعها دابرهم وهي من رياح العذاب والهلاك وهي النكباء على قول علي رضي الله عنه وهي التي انجرفت ووقعت بين ريحين أو بين الصبا والشمال وهي الدبور على قول ابن عباس رضي الله عنهما ويؤيده
167
قوله عليه السلام : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور وهي ريح تقابل الصبا أي ريح تجيىء من جانب المغرب فإن الصبا تجيء من جانب المشرق وقال ابن المسيب : الريح العقيم هي الجنوب مقابل الشمال وهي ريح تجيىء من شمال من يتوجه إلى المشرق
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
{مَا تَذَرُ} أي ما تترك يقال ذره أي دعه يذره تركاً ولا تقل وذراً وأصله وذره يذره نحو وسعه يسعه لكن ما نطقوا بماضيه ولا بمصدره ولا باسم الفاعل {مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} أي جرت عليه من أنفسهم ودورهم وأموالهم وأنعامهم {إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} كالشيء البالي المتفتت فهو كل ما رم وبلي وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك وبالفارسية مثل كياه خشك يا استخوان كهنه شده ريزيده.
وفي القاموس رم العظم يرم رمة بالكسر ورما ورميما وارم بلي فهو رميم وفي المفردات الرمة بالكسر تختص بالعظم والرمة بالضم بالحبل البالي والرم بالكسر بالفتات من الخشب والحشيش والتبن وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما أرسل على عاد من الريح إلا مثل خاتمي هذا يعني إن الريح العقيم تحت الأرض فأخرج منها مثل ما يخرج من الخاتم من الثقب فأهلكهم الله به وفيه إشارة إلى شدة تلك الريح وأشير بكونها تحت الأرض إلى ريح الهوى التي تحت أرض الوجود فهي أيضاً شديدة جداً فإنها حيث هبت تركت الديار بلا قع وأيضاً هي ريح جلال الله تعالى وقهره فإنها إذا هبت تميت النفوس عن أوصافها فلا يبقى منها شيء فالعقيم في بر الجسد والعاصف والقاصف في بحر الروح وكان عليه السلام يتعوذ بالله تعالى حين تهب الرياح الشديدة فليتعوذ العاقل من المهلكات فإنه إذا هلكت النفس بالهلاك الصوري قبل الكمال خسرت التجارة وكذا إذا هلك القلب فإن حياة المرى حينئذ لا فائدة فيها.
سأال كردنداز حسن بصري رحمه الله كه يا شيخ دلهاى ما خفته است سخن تودروى كار واثر نمى كنده كنيم كفت كاشكى خفته بودى كه خفته رابجنباني بيدار شود امادلهاى شما مرده است كه هرجند مى جنبانى بيدار نمى كردد.
قال المولى الجامي :
أي بمهد بدن و طفل صغير
مانده دردست خواب غفلت اسير
يش ازان كت اجل كند بيدار
كرنمردى زخواب سر برادر
(9/136)
قال محمد بن حامد رحمه الله وكان جالساً عند أحمد بن حضرويه وهو في النزع وقد أتى عليه خمس وتسعون سنة هو ذا يفتح لي الساعة لا أدري أيفتح بالسعادة أم بالشقاوة وعن خلف بن سالم رحمه الله قال : قلت لأبي علي بن المعتوه : أين مأواك؟ قال : دار يستوي فيها العزيز والذليل قلت : وأين هذه الدار؟ قال : المقابر قلت : أما تستوحش في ظلمة الليل قال : إني أذكر ظلمة اللحود ووحشتهن فتهون علي ظلمة الليل قلت له : فربما رأيت في المقابر شيئاً تنكره قال : ربما ولكن في هول الآخرة ما يشغل عن هول المقابر ووجد مكتوباً على بعض القبور :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
مقيم إلى أن يبعث الله خلقه
لقاؤك لا يرجى وأنت قريب
يزيد بلاء كل يوم وليلة
ويبلى كما تبلى وأنت حبيب
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 18 من صفحة 168 حتى صفحة 179
{وَفِى ثَمُودَ} أي وفي قوم صالح آيات أو وجعلنا فيهم آية {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا} في انتفعوا بالحياة الدنيا {حَتَّى حِينٍ} إلى وقت العذاب وهو آخر ثلاثة أيام : الأربعاء ،
168
والخميس ، والجمعة ، فإنهم عقروا الناقة يوم الاربعاء وهلكوا بالصيحة يوم السبت وقد فسر بقوله تمتعوا في داركم ثلاثة أيام قيل : قال لهم صالح عليه السلام : تصبح وجوهكم غداً مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب فكان كذلك وإنما تبدلت ألوانهم بما ذكر لأنهم كانوا كل يوم في الترقي إلى سوء الحال ولا شك أن الأبيض يصير أصفر ثم أحمر ثم أسود والسواد من ألوان الجلال والقهر وأيضاً لون جهنم فإنها سوداء مظلمة فعند الهلاك صاروا إلى لون جهنم لأنها مقرهم ونعوذ بالله منها {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي فاستكبروا عن الامتثال به وبالفارسية س سر كشيدند ازفرمان آفريد كار خود وبتدارك كارخود مشغول نكشتند.
يقال عتا عتواً وعتياً وعتياً استكبر وجاوز الحد فهو عات وعتي وأمر ربهم هو ما أمروا به على لسان صالح عليه السلام من قوله اعبدوا الله وقوله فذروها تأكل في أرض الله أو شأن ربهم وهو دينه أو صدر عتوهم عن أمر ربهم وبسببه كان أمر ربهم بعبادته وترك الناقة كان هو السبب في عتوهم كما في بحر العلوم والفاء ليست للعطف على قيل لهم فإن العتوا لم يكن بعد التمتع بل قبله وإنما هو تفسير وتفصيل لما أجمله في قوله وفي ثمود الخ فإنه يدل إجمالاً على أنه تعالى جعل فيهم آية ثم بين وجه الآية وفصلها قال في شرح الرضي إن الفاء العاطفة للجمل قد تفيد كون المذكور بعدها كلاماً مرتباً على ما قبلها في الذكر لأن مضمونها عقيب مضمون ما قبلها في الزمان {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـاعِقَةُ} قيل لما رأوا العلامات التي بينها صالحا من اصفرار وجوههم واحمرارها واسودادها عمدوا إلى قتله عليه السلام فنجاه الله إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا وتكفنوا بالانطاع فإتتهم صيحة جبريل عليه السلام كما صرح بها في قوله وأخذ الذين ظلموا الصيحة فهلكوا فالمراد بالصاعقة الصيحة لا حقيقتها وهي نار تنزل من السماء فتحرق ما أصابته وقيل : أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم وقال بعضهم : اهلكوا بالصاعقة حقيقة بأن جاءت نار من السماء فأهلكتهم جميعاً
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
{وَهُمْ يَنظُرُونَ} إليها ويعاينونها لأنها جاءتهم معاينة بالبهار فينظرون من النظر بالعين وفيه ترجيح لكون المراد بالصاعقة حقيقة النار لأنها حين ظهرت رأوها بأعينهم والصيحة لا ينظر إليها وإنما تسمع بالأذن والظاهر أن الصاعقة لا تنافي أن يكون معها صيحة جبريل وقيل هو من الانتظار أي ينتظرون ما وعدوا به من العذاب حيث شاهدوا علامات نزوله من تغير ألوانهم في تلك الأيام ويقال سمعوا الصيحة وهم ينظرون أي يتحيرون {فَمَا اسْتَطَـاعُوا مِن قِيَامٍ} كقوله تعالى : فأصبحوا في دارهم جاتمين أي لاصقين بمكانهم من الأرض لا يقدرون على الحركة والقيام فضلاً عن الهرب فالقيام ضد القعود {وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} بغيرهم كما لم يمتنعوا بأنفسهم قال في تاج المصادر الانتصار داد بستدن {وَقَوْمَ نُوحٍ} أي وأهلكنا قوم نوح فإن ما قبله يدل عليه ويجوز أن يكون منصوباً باذكر المقدر {مِّن قَبْلُ} أي من قبل هؤلاء المهلكين {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَـاسِقِينَ} خارجين عن الحدود فيما كانوا فيه من الكفر والمعاصي وهو علة لإهلاكهم.
واعلم أن الله تعالى قد أرسل الرسل وشرع الشرائع
169
(9/137)
وحد الحدود فمتى تعديت الحد الذي حد لك الشارع صرت فاسقاً واطعلت الشيطان وتنحى عنك عند العصيان الملك المؤيد للمؤمنين فإذا وكل العبد إلى نفسه وإلى الشيطان فقد هلك وكل نار وعذاب وبلاء فإنما يأتي من الداخل لا من الخارج إذ لا خارج من وجود الإنسان فالعذاب صورة أوصافه وأفعاله وأخلاقه عادت إليه حين عصى الله تعالى وكذا الثواب صورة ذلك عادت إليه حين أطاع الله تعالى فإن قلت كل ذلك إذا كان من أحوال العين الثابتة للعبد فكل عبد فإنما يمر على طريقه في الهداية والضلالة فما معنى دعوة الأنبياء وإرشاد الأولياء قلت تلك الدعوة أيضاً من أحوال أعيان المدعوين فخلاف المخالفين وإن كان من التجلي لكن حقائق الأنبياء اقتضت التجلي بموافقة التجلي من وجه والرد عليه من آخر فكان أمرهم حيرة فلو كانوا يخدمون التجلي مطلقاً لما ردوا على أحد فإذا ورد الأمر التكليفي فإما أن يوافقه الأمر الإرادي أو لا فإن وافقه فالمكلف منتقل من دائرة الاسم المضل إلى دائرة الاسم الهادي وذلك الانتقال من أحوال عينه وإن لم يوافقه فمعنى التكليف أنه من أحوال عينه ولا بد وأيضاً فيه تمييز الشقي من السعيد وبالعكس فاعرف هذه الجملة تسعد واجتهد حتى ينقلك الله من دائرة الجانب إلى دائرة الأحباب ولا تغتر بكثرة الدنيا وطول العمر كما فعل الكفار والفساق حتى لا يحل بك ما حل بهم من الصاعقة والطوفان مع أن صاعقة الموت وطوفان الحوادث لا بد وأن تحل بكل أحد بحيث لا يستطيع القيام من مكانه فيموت في مقامه قال الشيخ سعدي في البستان :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
كهن سالي آمد بنزد طبيب
زنا ليدنش تابمردن قريب
كه دستم برك برنه اى نيك راى
كه ايم همى برنيايد زجاى
بدان ماند اين قامت جفته ام
كه كويى بكل در فرو رفته ام
بدو كفت دست ازجهان دركسل
كه ايت قيامت برايد زكل
نشاط جوانى زيران مجوى
كه آب روان بازنايد بجوى
اكر درجوانى زدى دست واى
درايام يرى بهش باش وراى
ودوران عمر از هل در كذشت
مزن دست وا كابت از سر كذشت
نشاط ازمن آنكه رميدن كرفت
كه شامم سيده دميدن كرفت
ببايد هوس كردن از سر بدر
كه روز هو سبازى آمد بسر
بسبزى كجا تازه كردد دلم
كه سبزه بخواهد دميد از كلم
تفرج كنان درهوا وهوس
كذشيتم برخاك بسيار كس
كسايكه ديكر بغيب اندراند
بيايند وبرخاك ما بكذرند
دريغا كه فصل جواني برفت
بلهو ولعب زند كانى برفت
ديغا نين روح رور زمان
كه بكذشت بر ما و برق يمان
زسود اى آن وشم واين خورم
نردا ختم تاغم دين خورم
دريغا كه مشغول باطل شديم
زحق دور مانديم وغافل شديم
170
ه خوش كفت با كودك آموزكار
كه كارى نكرديم وشد روز كار
أي ضاع زماننا ومضى بلا فائدة {وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَـاهَا} نصب السماء على الاشتغال أي وبنينا السماء بنيناها حال حوننا ملتبسين {بِأَيايْدٍ} أي بقوة فهو حال من الفاعل أو ملتبسة بقوة فيكون حالاً من المفعول ويجوز أن تكون الباء للسببية أي بسبب قدرتنا فتتعلق ببنيناها لا بالمحذوف لا بالمحذوف والقوة هنا بمعنى القدرة فإن القوة عبارة عن شدة البنية وصلابتها المضادة للضعف والله تعالى منزه عن ذلك والقدرة هي الصفة التي بها يتمكن الحي من الفعل وتركه بالإرادة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/138)
قال الكاشفي : بقوت الوهيت وكفته اند بقدرتي بر آفر ينش داشتيم يقال آديئيد أيدا أي اشتد وقوى قال في القاموس الآد الصلب والقوة كالأيد وآيدته مؤايدة وأيدته تأييداً فهو مؤيد قويته انتهى قال الراغب ولما في اليد من القوة قيل أنا يدك وأيدتك قويت يدك {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة والموسع القادر على الاتفاق قال في تاج المصادر الإيساع توانكر شدن وتمام فراشيدن ويقال أوسع الله عليك أي أغناك انتهى فيكون قوله وأنا لموسعون حالاً مؤكدة أو تذييلاً إثباتاً لسعة قدرته كل شيء فضلاً عن السماء أو لموسعون السماء أي جاعلوها واسعة أو ما بينها وبين الأرض أو الرزق على خلقنا لقوله تعالى وفي السماء رزقكم وفيه إشارة إلى أن وسعة البيت والرزق من تجليات الاسم الواسع {وَالارْضِ} أي وفرشنا الأرض {فَرَشْنَـاهَا} مهدناها وبسطناها من تحت الكعبة مسيرة خمسمائة عام ليستقروا عليها ويتقلبوا كما يتقلب أحدهم على فراشه ومهاده {فَنِعْمَ الْمَـاهِدُونَ} أي نحن وهو المخصوص بالمدح المحذوف أي هم نحن فحذف المبتدأ والخبر من غير أن يقوم شيء مقامهما وقد اختلف القدماء في هيئة الأرض وشكلها فذكر بعضهم أنها مبسوطة مستوية السطح في أربع جهات : المشرق والمغرب والجنوب والشمال وزعم آخرون أنها كهيئة المائدة ومنهم من زعم أنها كهيئة الطبل وذكر بعضهم أنها تشبه نصف الكرة كهيئة القبة وأن السماء مركبة على أطرافها وزعم قوم أن الأرض مقعرة وسطها كالجام والذي عليه الجمهور أن الأرض مستديرة كالكرة وأن السماء محيطة بها من كل جانب إحاطة البيضة بالمح فالصغرة بمنزلة الأرض وبياضها بمنزلة السماء وجلدها بمنزلة السماء الأخرى غير أن خلقها ليس فيه استطالة كاستطالة البيضة بل هي مستديرة كاستدارة الكرة المستوية الخرط حتى قال مهندسوهم : لو حفر في الوهم وجه الأرض لأدى إلى وجه الآخرة ولو ثقب مثلاً ثقب بأرض الأندلس لنفذ الثقب بأرض الصين واختلف في كنية عدد الأرضين فروي في بعض الأخبار أن بعضها فوق بعض وغلظ كل أرض مسيرة خمسمائة عام حتى عد بعضهم لكل أرض أهلاً على صفة وهيئة عجيبة وسمي كل أرض باسم خاص كما سمي كل سماء باسم خاص وزعم بعضهم أن في الأرض الرابعة حيات أهل النار وفي الأرض السادسة حجارة أهل النار وعن عطاء بن يسار في قوله تعالى خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن قال في كل أرض آدم كآدمكم ونوح مثل نوحكم وإبراهيم مثل إبراهيمكم وليس هذا القول بأعجب من قوله الفلاسفة أن الشموس شموس كثيرة والأقمار أقمار كثيرة ففي كل أقليم شمس وقمر ونجوم وقالت القدماء الأرض
171
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/139)
سبع على المجاورة والملاصقة وافتراق الأقاليم لا على المطابقة والمكابسة وأهل النظر من المسلمين يميلون إلى هذا القول ومنهم من يقول سبع على الانخفاض والارتفاع كدرج المراقي ويزعم بعضهم أن الأرض مقسومة لخمس مناطق وهي المنطقة الشمالية والجنوبية والمستوية والمعتدلة والوسطى واختلفوا في مبلغ الأرض وكميتها فروى عن مكحول أنه قال ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها مسيرة خمسمائة سنة مائتان من ذلك في البحر ومائتان ليس يسكنها أحد وثمانون فيها يأجوج ومأجوج وعشرون فيها سائر الخلق وعن قتادة قال : الدنيا أربعة وعشرون ألف فرسخ فملك السودان منها اثنا عشر ألف فرسخ وملك الروم ثمانية آلاف فرسخ وملك العجم والترك ثلاثة آلاف فرسخ وملك العرب ألف فرسخ وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ربع من لا يلبس الثياب من السودان أكثر من جميع الناس وقال بطليموس بسيط الأرض كلها مائة واثنان وثلاثون ألف ألف وستمائة ألف ميل فتكون مائتي ألف وثمانية وثمانين ألف فرسخ فإن كان حقاً فهو وحي من الحق أو إلهام وإن كان قياساً واستدلالاً فهو قريب من الحق أيضاً وأما قوله قتادة ومكحول فلا يوجب العلم اليقيني الذي يقطع على الغيب به كذا في خريدة العجائب {وَمِن كُلِّ شَىْءٍ} أي من أجناس الموجودات فالمراد بالشيء الجنس وقيل من الحيوان {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} صنفين ونوعين مختلفين كالذكر والأنثى والسماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والصيف والشتاء والبر والبحر والسهل والجبل والإنس والجن والنور والظلمة والأبيض والأسود والدنيا والآخرة والإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحق والباطل والحلو والمر والموت والحياة والرطب واليابس والجامد والنامي والمدر والنبات والناطق والصامت والحلم والقهر والجود والبخل والعر والذلة والقدرة والعجز والقوة والضعف والعلم والجهل والصحة والسقم والغنى والفقر والضحك والبكاء والفرح والغم والفوق والتحت واليمين والشمال والقدام والخلف والحرارة والبرودة وهلم جرا قال الراغب : يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوان المتزاوج زوج ولكل قرينين فيها وفي غيرها زوج كالخف والنعل ولكل ما يتقرن بالآخر مماثلاً له أو مضاداً زوج وفي قوله ومن كل شيء خلقنا زوجين تنبيه على أن الأشياء كلها مركبة من جوهر وعرض ومادة وصورة وأن لا شيء يتعرى منها إذ الأشياء كلها مركبة من تركيب يقتضي كونه مصنوعاً وأنه لا بد له من صانع تنبيهاً على أنه تعالى هو الفرد فبين بقوله ومن كل شيء الخ أن كل ما في العالم فإنه زوج من حيث أن له ضداً ما أو مثلاً ما أو تركيباً ما بل لا ينفك من وجه من تركب وإنما ذكر ههنا زوجين تنبيهاً على أنه وإن لم يكن له ضد ولا مثل فإنه لا ينفك من تركب صورة ومادة وذلك زوجان قال الخراز قدس سره : اظهر معنى الربوبية والوحدانية بأن خلق الأزواج ليخلص له الفردانية {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي فعلنا ذلك كله من البناء والفرش وخلق الأزواج كي تتذكروا فتعرفوا أنه خالق الكل ورازقه وأنه المتحق للعبادة وأنه قادر على إعادة الجميع فتعلموا بمقتضاه وبالفارسية باشد كه شما بند بذير شويد ودانيد كه وجدانيت از خواص
172
ممكنات نيست ومن واجب بالذاتم وواجب قابل تعدد وانقسام نيست :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
ذاتش از قسمت وتعدد اك
وحدت او مقدس از اشراك
از عدد دم مزن كه او فردست
كى عدد بهر فردد رخوردست
احدست وشمار از ومعزول
صمدست وتبار از ومخذول
(9/140)
وفيه إشارة إلى أنه تعالى خلق لكل شيء من عالم الملك وهو عالم الأجسام زوجاً من عالم الملكوت وهو عالم الأرواح ليكون ذلك الشيء الجسماني قائماً بملكوته وملكوته قائماً بيد القدرة الإلهية لعلكم تذكرون أنكم بهذا الطريق جئتم من الحضرة وبهذا الطريق ترجعون إلى الله سبحانه {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} أي قول لقولمك يا محمد إذا كان الأمر كذلك فاهربوا إلى الله الذي هذه شؤونه بالإيمان والطاعة كي تنجوا من عقابه وتفوزوا بثوابه يعني إن في الأمر بالإيمان وملازمة الطاعة بلفظ الفرار تنبيهاً على أن وراء الناس عقاباً يجب أن يفروا منه قال بعض الكبار : ياأيها الذين فررتم من الله بتعلقات الكونين ففروا بنعت الشوق والمحبة والتجرد إلى الله يقطع التعلقات عن الوجود وعما سواه تعالى مطلقاً ومن صح فراره إلى الله صح قراره مع الله وأيضاً ففروا منه إليه حتى تفنوا فيه قال : فإن الحادث لا يثبت عند رؤية القديم وقال سهل رضي الله عنه : ففروا مما سوى الله إلى الله ومن المعصية إلى الطاعة ومن الجهل إلى العلم ومن العذاب إلى رحمة ومن سخطه إلى رضوانه وقال محمد بن حامد رحمه الله حقيقة الفرار ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال : وألجأت ظهري إليك وما روي عنه في حديث عائشة رضي الله عنها وأعوذ بك منك فهذه غاية الفرار منه إليه وقال الواسطي رحمه الله ففروا إلى الله معناه لما سبق لهم من الله لا إلى علمهم وحركاتهم وأنفسهم وسئل بعضهم عن قول النبي عليه السلام سافروا تصحوا قال : سافروا إلينا تجدونا في أول قدم ثم قرأ ففروا إلى الله هيكس درتونيا ويخت كه ازخود نكريخت.
هيكس باتونه يوست كه ازخود نبريد وفي كشف الأسرار فرار مقامي است از مقامات روندكان ومنزلي از منازل دوستى كسى راكه اين مقام درست شود نشانش آنست كه همه نفس خود غرامت بيند همه سخن خود شكايت بيندهمه كرده خودجنايت بيند اميد از كردار خوديبر دوبر اخلاص خودتهمت نهدوا كر دولتى آيد در راه وى از فضل حق بيند واز حكم ازل نه از جهد وكردار خود وهذا موت عن نفسه وهمه خلق زنده ازمرده ميراث برد مكر اين طائفه كه مرده از زنده ميراث برد.
وفي الحديث : من أراد أن ينظر ءلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى أبي بكر {إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي إني لكم من جهته تعالى منذرين كونه منذراً منه تعالى بالمعجزات الباهرة أو مظهر لما يجب إظهاره من العذاب المنذر به وفي أمره للرسول عليه السلام بأن يأمرهم بالهرب إليه من عقابه وتعليله بأنه عليه السلام ينذرهم من جهته تعالى لا من تلقاء نفسه وعد كريم بنجاتهم من المهروب وفوزهم بالمطلوب {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} نهى موجب للفرار من سبب العقاب بعد الأمر بالفرار نفسه كأنه قيل وفروا من أن تجعلوا معه تعالى اعتقاداً أو تقولوا إلهاً آخر {إِنِّى لَكُم مِّنْهُ}
173
أي من الجعل المنهى عنه {نَذِيرٌ مُّبِينٌ} وفيه تأكيد لما قبله من الفرار من العقاب إليه تعالى لكن لا بطريق التكرير بل بالنهي عن سببه وإيجاب الفرار منه قال في برهان القرآن الأول متعلق بترك الطاعة والثاني متعلق بالشرك بالله فلا تكرار.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/141)
وفي التأويلات النجمية ولا تجعلوا مع الله في المعرفة بوحدانيته إلهاً آخر من النفوس والهوى والدنيا والآخرة فتعبدونها بالميل إليها والرغبة فيها فإن التوحيد في الإعراض عنها وقطع تعلقاتها والفرار إلى الله منها لأن من صح فراره إلى الله صح قراره مع الله وهذا كمال التوحيد إني لكم نذير مبين أخوفكم اليم عقوبة البعد وعذاب الأثنينية إذا أشركتم به في الوجود فإنه لا يغفر أن يشرك به {كَذَالِكِ} أي الأمر وهو أمر الأمم السالفة بالنسبة إلى رسلهم من ما ذكر من تكذيب قريش ومشركي العرب الرسول صلى الله عليه وسلّم وتسميتهم له ساحراً أو مجنوناً ثم فسره بقوله : {مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ} من رسل الله {إِلا قَالُوا} في حقه هو {سَـاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} يعني اكر معجزه بديشان نمود عمل اورا سحر خواندند واكر ازبعث وحشر خبرداد قول اورا بسخن اهل جنون تشبيه كردند أي فلا تأس على تكذيب قومك إياك {وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ} إنكار وتعجيب من حالهم وإجماعهم على تفرق ازمانهم على تلك الكلمة الشنيعة التي لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء فضلاً عن التفوه بها في حق الأنبياء أي أوصى الألون الآخرين بعضهم بعضاً بهذا القول حتى اتفقوا عليه {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} آضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك لبعد الزمان وعدم تلاقيهم في وقت واحد وإثبات لكونه أمراً أقبح من التواصي وأشنع منه وهو الطغيان الشامل للكل الدال على أن صدور تلك الكلمة الشنيعة عن كل واحد منهم بمقتضى جبلته الخبيثة لا بموجب وصية من قبلهم بذلك من غير أن يكون ذلك مقتضى طباعهم وفيه إشارة إلى أن أرباب النفوس المتمردة من الأولين والآخرين مركوزة في جبلتهم طبيعة الشيطنة من التمرد والآباء والاستكبار فما أتاهم رسول من الأنبياء في الظاهر أو من الإلهامات الربانية في الباطن إلا أنكروا عليه وقالوا ساحر يريد أن يسحرنا أو مجنون لا عبرة بقوله كأن بعضهم أوصى بعضهم بالتمرد والإنكار والجحود لأنهم خلقوا على طبيعة واحدة بل هم قوم طاغون بأنهم وجدوا أسباب الطغيان من السعة والتنعم والبطر والغنى قال الشاعر :
إن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمراء أي مفسده
فعكسوا الأمر وكان ينبغي لهم أن يصرفوا العمر والشباب والغنى في تحصلي المطلوب الحقيقي.
كما قال الحافظ :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
عشق وشباب ورندى مجموعه مرادست
ون جمع شد معاني كوى بيان توان زد
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأعرض عن جدالهم فقد كررت عليهم الدعوة فأبوا إلا الاباء والاستكبار وبالفارسية س روى بكردان از مكافات ايشان تاوقتى كه مأمور شوى بقتال وفي فتح الرحمن فتول عن الحرص المفرط عليهم وذهاب النفس حسرات وقال الواسطي ردهم إلى ما سبق عليهم في الأزل من السعادة والشقاوة {فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} على التولي بعدما
174
(9/142)
بذلت المجهود وجاوزت في الإبلاغ كل حد معهود واللوم والملامة العذل وبالفارسية نكوهيدن وقال بعض الكبار فتول عنهم فإنك لا تهدي من احببت منهم فما أنت بملوم بالعجز عن هدايتهم لأنك مبلغ وليس إليك من الهداية شيء وقال بعضهم فتول عنهم بسيرك إلينا فما أنت بملوم في إبلاغ رسالتك واشتغالك في الظاهر بهم وإعلامهم بأسباب نجاتهم فأنت مستقيم لا يحجبنك إبلاغ الرسالة عن شهود العين {وَذَكِّرْ} أي افعل التذكير والموعظة ولا تعدهما بالكلية أو فذكرهم وقد حذف الضمير لظهور الأمر {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} أي الذين قدر الله إيمانهم أو الذين آمنوا بالفعل فإنها تزيدهم بصيرة وقوة في اليقين يعني بعناد كافران وجحود ايشان دست از تربيت مسلمانان بازمدار وهمنان بر تذكير خود ثابت باش كه وعظ را فوائد بسارست ومنافع بي شمار فإن النصيحة تلين القلوب القاسية وفي الحديث "ما من مؤمن إلا وله ذنب قد اعتاده الفينة بعد الفينة" أي الساعة بعد الساعة والحين بعد الحين "إن المؤمن خلق مفتوناً ناسياً فإذا ذكر ذكر" وقال بعضهم : ذكر المطيعين جزيل ثوابي وذكر العارفين ما صرفت عنهم من بلائي وقال بعضهم : ذكر العاصين منهم عقوبتي ليرجعوا عن مخالفة أمري وذكر المطيعين جزيل ثوابي ليزداد وإطاعة وعبادة لي وذكر المحبين ما شاهدوا من أنوار جمالي وجلالي في الغيب وغيب الغيب ليزيد وافي بذل الوجود وطلب المفقود.
ودر فصول آورده كه كلام مذكور بايدكه برده خير مشتمل باشد تاسا معانرا سودمند بود اول نعمت خداى باياد مردم دهد تاشكر كزارى نمايند دوم ثوابي محنت وبلا ذكر كند تادران شكيبايى ورزند سوم عقوبت كناهان برشمرد تا ازان باز ايستند وتوبه كنند هارم مكائد ووساوس شيطاني بيان فرما يدتا ازان حذر نما يندنجم فنا وزوال وبي اعتباري دنيا بر ايشان روشن كرداند تادل درونه بندند ششم مركرا يوسته ياد كند تارفتن را آماده شوند هفتم قيامت را آماده وذكر آن بسيار كويد تاكار آنروز بسازند هشتم دركات دوزخ وانواع عقوبتهاى آن بيان كندتا ازان بترسند نهم درجات بهشت واقسام نعمتهاى آنرا بر شمارد تابدان راغب كردند دهم بناى كلام برخوف ورجانهد يعني كاهى ازعظمت وكبريا وهيبت الهي سخن راندتا ازوى بترسند ووقتى از رحمت ومغفرت مهربانى او تقرير كند تابوى اميدوار شوند س هر موعظه كه مشتمل برين سخنانست منفعت مؤمنانست خصوصا اذا كان المذكر عاملاً بما ذكرهم به غير ناس نفسه فإن تأثيره أشد من تأثير تذكير الغافلين :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
عالم كه كامرانى وتن رورى كند
او خويشتن كم است واكرا رهبرى كند
وإنما قلنا من تأثيره فإنهم قالوا :
مرد بايدكه كيرداندر كوش
ورنوشتست ند برديوار
فلا كلام إلا في الاستعداد والتهيىء للاستماع ولذا قال تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} قرأ يعقوب ليعبدوني وكذا يطعموني ويستعجلوني كما سيأتي باثبات ياء المتكلم فيهن وصلا ووقفاً وحذفها الباقون في الحالين والعبادة إبلغ من العبودية لأن العبودية إظهار التذلل والعبادة غاية
175
(9/143)
التذلل ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال قال بعض الكبار العبادة ذاتية للمخلوق لأنها ذلة في اللغة العربية وإنما وقع التكليف بالأفعال المخصوصة التي هي العبادة الوصفية للتنبيه على تلك الذلة الذاتية حتى يتذللوا ويتخضعوا لربهم وخالقهم بالوجه المشروع ولعل تقديم خلق الجن في الذكر لتقدمه على خلق الإنس في الوجود ومعنى خلقهم لعبادته تعالى خلقهم مستعدين لها أتم استعداد ومتمكنين منها أكمل تمكين مع كونها مطلوبة منهم بتنزيل ترتيب الغاية على ما هي ثمرة له منزلة ترتب الفرض على ما هو غرض له فإن استتباع أفعاله تعالى لغايات جليلة مما لا نزاع فيه قطعاً كيف لا وهي رحمة منه تعالى وتفضل على عباده وإنما الذي لا يليق بجنابه تعالى تعليلها بالغرض بمعنى الباعث على الفعل بحيث لولاه لم يفعل لإفضائه إلى استكماله بفعل وهو الكامل بالفعل من كل وجه وأما بمعنى نهاية كمالية يفضي إليها فعل الفاعل الحق فغير منفي من أفعاله تعالى بل كلها جارية على ذلك المنهاج وعلى هذا الاعتبار يدر وصفه تعالى بالحكمة ويكفي في تحقق معنى التعليل على ما يقوله الفقهاء ويتعارفه أهل اللغة هذا المقدار وبه يتحقق مدلول اللام وأما إرادة الفاعل لها فليست من مقتضيات اللام حتى يلزم عن عدم صدور العبادة عن البعض تخلف المراد عن الإرادة فإن تعوق البعض عن الوصول إلى الغاية مع تعاضد المبادي وتأخر المقدمات الموصلة إليها لا يمنع كونها غاية كما في قوله تعالى كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ونظائره كذا في الأرشاد قال سعدي المفتي فاللام حينئذ على حقيقتها فتأمل انتهى والحاصل أن قوله إلا ليعبدون إثبات السبب الموجب للحق فهذه اللام لام الحكمة والسبب شرعاً ولام العلة عقلاً قال المولى رمضان في شرح العقائد واستكماله تعالى بفعل نفسه جائز بل واقع فإنه تعالى حين أوجد العالم قد استكمل بكمال الموجدية والمعروفية على ما نطق به قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي ليعرفون وهو كمال إضافي يجوز الخلو عنه انتهى مقصود إلهي ازهمه كمال جلا واستجلاست كه در انسان كامل جمعاً وتفصيلاً بظهور رمد ودر عالم تفصيلاً فقط سؤال طلب ابن مقصودنه استكمالست كه مستدعى سبق نقصاً نست نانكه اهل كلام ميكويندكه افعال الله معلل بأغراض نشايد بودن جواب آنه محذورست استكمال بغير است واين استكمال بصفات خوداست نه بغير كذا في تفسير الفاتحة للشيخ صدر الدين القنوي قدس سره وكذا قال في بعض شروح الفصوص أن للحق سبحانه كمالاً ذاتياً وكمالاً إسمائياً وامتناع استكماله بالغير إنما هو في الكمال الذاتي لا الأسمائي فإن ظهور آثار الأسماء ممتنع بدون المظاهر الكونية انتهى.
قال المولى الجامي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
وجود قابل شرط كمال اسمائيست
وكرنه ذات نباشد بغير مستكمل
وقال أيضاً :
أي ذات رفيع تونه جوهر نه عرض
فضل وكرمت نيست معلل بغرض
يعني حق سبحانه وتعالى بحسب كمال ذاتي ازوجود عالم وعالميان مستغنيست كما قال تعالى والله هو الغني وون ظهور كمال اسمائي موقوفست بروجود اعيان ممكنات س آنرا ايجاد كرد :
176
تاخود كردد بجمله اوصاف عيان
واجب باشد كه ممكن آيد بميان
ورنه بكمال ذاتي از آدميان
فردست وغنى نانكه خود كرد بيان
(9/144)
والأشاعرة أنكروا صحة توجيه تعليل أفعال الله تعالى معنى وإن كان واقعاً لفظاً تمسكاً بأن الله تعالى مستغن عن المانع فلا يكون فعله لمنفعة راجعة إليه ولا إلى غيره لأنه تعالى قادر على إيصال تلك المنفعة من غير توسيط العمل فلا يصلح أن يكون غرضاً فعندهم لام التعليل يكون استعارة تبعية تشبيهاً لعبادة العباد بما يفرض علة لخلقه في الترتب عليه وأكثر الفقهاء والمعتزلة قالوا بصحته لمنفعة عائدة إلى عباده تمسكاً بأن الفعل الخالي عن الغرض عبث والعبث من الحكيم محال كما في شرح المشارق لابن الملك رحمه الله قال ابن الشيخ : استدلت المعتزلة بقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون على أن أفعال الله معللة بالأغراض وعلى أن مراد الله جائزان يتخلف عن إرادته إذا كان المراد من الأفعال الاختيارية للعباد وجه دلالته عليها هو أن وضع اللام لأن تدخل على ما هو غرض من الفعل فتكون العبادة غرضاً من خلق الجن والإنس والغرض يكون مراداً فينتج أن العبادة غرض من جميع الجن والإنس وظاهر أن بعضاً منهم لم يعبده فتخلف مراده عن إرادته وهو المطابق والجواب عن الأول أنه لما دل الدليل القطعي على أنه تعالى لا يفعل فعلاً لغرض وجب أن يؤول اللام في مثل هذه المواضع بأن يقال أن الحكم والمصالح التي تترتب على فعله تعالى وتكون هي غاية له لما كانت بحيث لو صدر ذلك الفعل من غيره تعالى لكانت هي غرضاً لفعله شبهت بالغرض الحقيقي فدخلت عليها اللام الدالة على الغرض لأجل ذلك التشبيه وأطلق عليها اسم الغرض لذلك حتى قيل الغرض من خلق ما في الأرض انتفاع الناس به لقوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً وهذا الجواب إنما يتأتى في اللام الداخلة على ما هو غاية مترتبة على الفعل ولا ينفع في قوله تعالى إلا ليعبدون لأن العبادة لم تكن غاية مترتبة على خلق كثير من الجن والإنس حتى يقال أنها شبهت بالغرض من حيث كون الفعل مؤدياً إليها وكونها مترتبة عليه فأطلق عليها اسم الغرض ودخل عليها لام الغرض لذلك ولكنه لو تم لكان جواباً عن الاستدلال الثاني لأنه مبني على كون مدلول اللام غرضاً في نفس الأمر وما كان غرضاً على طريق التشبيه لا يكون مراداً فلا يلزم من عدم ترتبه على الفعل تخلف المراد عن الإرادة فلا يتم الاستدلال وأشار المصنف إلى جوابه بقوله لما خلقهم على صورة متوجهة إلى العبادة مستعدة لها جعل خلقهم مغيابها وتقريره أن العبادة ليست غاية مترتبة على خلقهما
177
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/145)
فضلاً عن أن تكون غرضاً ومراداً حتى يلزم من عدم ترتتبها على خلقهما تخلف المراد عن الإرادة وإنما دخلت عليها اللام التي حقها أن تدخل لعى الغرض أو على ما شبه به في كونه مترتباً على الفعل وحاملاً عليه في الجملة تشبيهاً لها بالغاية المترتبة من حيث أن الجن والإنس خلقوا على صورة متوجهة إلى العبادة أي صالحة قابلة لها مغلبة أي قادرة عليها متمكنة منها وقد انضم إلى خلقهم على تلك الصورة إن هدوا إلى العبادة بالدلائل السمعية والعقلية فصاروا بذلك كأنهم خلقوا للعبادة وأنها غاية مترتبة على خلقهم فلذلك أطلق عليها اسم الغاية ودخلت عليها لام الغاية مبالغة في خلقهما على تلك الصورة ولما وجه الآية بإخراج اللام عن ظاهر معناها بجعلها للمبالغة في خلقهم بحيث تتأتى منهم العبادة أشارة إلى وجه العدول عن الظاهر بقوله ولو حمل على ظاهره لتطرق إليه المنع والإبطال وللزم تعارض الآيتين لأن من خلق منهم لجهنم لا يكون مخلوقاً للعبادة انتهى ما في حواشي ابن الشيخ وقال في بحر العلوم أي وما خلقت هذين الفريقين إلا لأجل العبادة وهي قيام العبد بما تبعد به وكلف من امتثال الأوامر والنواهي أو الا لأطلب العبادة منهم وقد طلب من الفريقين العبادة في كتبه المنزلة على أنبيائه وهذا التقدير صحيح لا تقدير الإرادة لأن الطلب لا يستلزم المطلوب بخلاف الإرادة كما تقرر في موضعه فيكون حاصله ما قال بعضهم في تصوير المعنى إلا ليؤمروا بعبادتي كما في قوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً وهذا مستمر على مذهب أهل السنة فلو أنهم خلقوا للعبادة ما عصوا طرفة عين لكنهم خلقوا للأمر التكليفي الطلبي دون الأمر الإرادي وإلا لم يتخلف المراد عن الإرادة ولما كان لعين العاصي الثابتة في الحضرة العلمية استعداد التكليف توجه إليها الأمر التكليفي ولما لم يكن لتلك العين استعداد الإتيان بالمأمور به لم يتحقق منها المأمور به ولهذا تقع المخالفة والمعصية فإن قلت ما فائدة التكليف والأمر بما يعلم عدم وقوعه قلت فائدة تمييز من له استعداد القبول ممن ليس له استعداد ذلك لتظهر السعادة والشقاوة وأهلهما وقيل المراد سعداء الجنسين كما أن المراد بقوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس أشقياؤهما ويعضده قراءة من قرأ وما خلقت الجن والإنس الؤمنين بدليل أن الصبيان والمجانين مستثنون من عموم الآية بدليل قوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس قال ابن الملك فإن قلت كيف تكون العبادة علة للخلق ولم تحصل تلك في أكثر النفوس قلنا يجوز أن يراد من التفوس نفوس المؤمنين لقراءة ابن عباس رضي الله عنهما وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون وأن يراد مطلقها بأن يكون المراد بالعبادة قابلية تكليفها كما قال عليه السلام : ما من مولود يولد إلا على الفطرة وإما أن أريد منها المعرفة فلا إشكال لأنها حاصلة للكفرة أيضاً كما قال الله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله انتهى وقال مجاهد واختاره البغوي معناه إلا ليعرفون ومداره قوله عليه السلام فيما يحكيه عن رب العزة كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف ولعل السر في التعبير عن المعرفة بالعبادة على طريق إطلاق اسم السبب على المسبب التنبيه على أن المعتبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة كما في الإرشاد وقال بعضهم : لم أخلقهم إلا لأجل العبادة باختيارهم لينالوا الشرف والكرامة عندي ولم أقسرهم عليها إذ لو قسرتهم عليها لوجدت منهم وأنا غني عنهم وعن عبادتهم والحاصل أنهم خلقوا للعبادة تكليفاً واختيار الأجبلة وإجباراً فمن وفقه وسدده أقام العبادة التي خلق لها ومن خذله وطرده حرمها وعمل بما خلق له وفي الحديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له كما في عين المعاني وقال الشيخ نجم الدين دايه في تأولاته وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون لأن ذرة معرفتي مودعة
178
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/146)
في صدف عبوديتي وإن معرفتي تنقسم قسمين : معرفة صفة جمالي ومعرفة صلة جلالي ولكل واحد منهما مظهر والعبودية مشتملة على المظهرين بالانقياد لها والتمرد عنها فمن انقاد لها بالتسليم والرضى كما أمر به فهو مظهر صفات جمالي ولطفي ومن تمرد عليها بالإباء والاستكبار فهو مظهر صفات جلالي وقهري فحقيقة معنى قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي خلقت المقبولين منهم ليعبدوا الله فيكونوا مظهر صفات لطفه وخلقت المردودين منهم ليعبدوا الهوى فيكونوا مظهر صفات قهره هذا المعنى الذي أردت من خلقهم انتهى والحكمة لا تقتضي اتقاق الكل على التوحيد والعبادة والإخلاص والإقبال الكلي على الله فإن ذلك مما يخل بأمر المعاش ولذلك قيل لولا الحمقى لخربت الدنيا ولا بد من الغضب لتكميل مرتبة قبضة الشمال فإنه وإن كان كلتا يديه يميناً مباركة لكن حكم كل واحدة يخالف الأخرى فالأرض جميعاً قبضته والسموات مطويات بيمينه فاقتضت الحكمة الإلهية ظهور ما أضيف إليه كل من اليدين فللواحدة المضاف إليها عموم السعداء الرحمة والجنان والأخرى القهر والغضب ولوازمهما وقد وجد كلا المقتضيين والمقصود الأصلي وجود الإنسان الكامل الذي هو مرآة جماله تعالى وكماله وقد وجد والسواد الأعظم هو الواحد على الحق وقال الواحدي مذهب أهل المعاني في الآية إلا ليخضوا لي ويتذللوا ومعنى العبادة في اللغة الذل والانقياد وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله تعالى مذلل لمشيئته خلقه على ما أراد ورزقه كما قضى لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق عليه وقال ابن عباس رضي الله عنهما إلا ليقروا بالعبودية طوعاً أو كرهاً يعني أن المؤمنين يقرون له طوعاً والكافرون يقرون له بما جبلهم عليه من الخلقة الدالة على وحدانية الله وانفراده بالخلق واستحقاق العبادة دون غيره فالخلق كلهم بهذا له عابدون وعلى هذا قوله تعالى وله ما في السموات والأرض كل له قانتون على معنى ما يوجد منهم من دلائل الحدوث الموجبة لكونها مربوبة مخلوقة مسخرة كما في التيسير فهذه جملة الأقوال في هذا الباب وفي خلقهم للعبادة بطريق الحصر إشارة إلى أن الرروبية الله تعالى أن العبودية للمخلوقين وهي أخص أوصافهم حتى قالوا إنها إفضل من الرسالة ولذا قال تعالى أسري بعبده لا برسوله وقدم العبد في أشهد أن محمداً عبده ورسوله فمن ادعى البروبية من المخلوق فليخذر من تهديد الآية وجميع الكمالاتتعالى وأن ظهرت من العبد فالعبد مظهر فقط والظاهر هو الله وكماله والعبادات عشرة أقسام : الصلاة والزكاة والصوم والحج وقراءة قرآن وذكر الله في كل حال وطلب الحلال والقيام بحقوق المسلمين وحقوق الصحبة والتاسع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعاشر اتباع السنة وهو مفتاح السعادة وإمارة محبة الله كما قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
قال المولى الجامي :
يا نبي الله السلام عليك
إنما الفوز والفلاح لديك
كرنرفتم طريق سنت تو
هستم از عاصيان امت تو
مانده ام زير بار عصيان ست
افتم ازاى اكر نكيرى دست
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 19 من صفحة 179 حتى صفحة 188
فينبغي للعبد أن يعبد ربه ويتذلل لخالقه بأي وجه كان من الفرائض والواجبات والسنن
179
(9/147)
والمستحبات على الوجه الذي أمره أن يقوم فيه فإذا أكملت فرائضه وكماله فرض عليه فيتفرغ فيما بين الفرضين لنوافل الخيرات كانت ما كانت ولا يحقر شيئاً من عمله فإن الله ما احتقره حين خلقه وأوجبه فإن الله ما كلفك بأمر إلا وله بذلك الأمر اعتناء وعناية حتى كلفك به وإذا واظب على أداء الفرائض فإنه يتقرب إلى الله بأخت الأمور المقربة إليه وورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى ما تقرب من عبد بشيء أحب إلي مما افترضته وما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحببته فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع وبصره الذي به يبصر ويده التي بها يبطش ورجله بها يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته فالقرب الأول هو قرب الفرائض والقرب الثاني هو قرب النوافل فانظر إلى ما تنتجه محبة الله من كون الحق تعالى قوي العبد من السمع والبصر واليد والرجل فواظب على أداء ما يصح به وجود هذه المحبة الإلهية من الفرائض والنوافل ولا يصح نفل إلا بعد تكملة الفرائض وفي النفل عينه فروض ونوافل فبما فيه من الفروض تكمل الفرائض ورد في الخبر الصحيح أنه تعالى يقول : انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيء قال : انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال الله تعالى : أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ثم يؤخذ الأعمال على ذاكم وليست النوافل إلا مالها أصل في الفرائض وما لا أصل له في فرض فذلك إنشاء عبادة مستقلة يسميها علماء الظاهر بدعة قال الله تعالى ورهبانية ابتدعوها وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلّم سنة حسنة والذي سنها له أجرها وأخر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء ولما لم يكن في قوة النفل أن يسد مسد الفرض جعل في نفس النفل فروض ليجبر الفرائض بالفرائض كصلاة النفل بحسب حكم الأصل ثم أنها تشتمل على فرائض من ذكر وركوع وسجود مع كونها في الأصل نافلة وهذه الأقوال والأفعال فرائض فيها ثم اعلم أن أمرنا بالاقتداء بالنبي سنة حسنة فإن لنا أجرها وأجر من عمل بها وإذا تركنا تسنينها اتباعاً لكون رسول الله عليه السلام لم يسنها فإن أجرك في اتباعك له في ترك التسنين أعظم من أجرك في التسنين فإن النبي عليه السلام كان يكره كثرة التكليف على أمته ومن سن فقد كلف وكان النبي عليه السلام أولى بذلك ولكن تركه تخفيفاً فلهذا قلنا الاتباع في الترك أولى وأعظم أجراً من التسنين فاجعل حالك كما ذكرنا لك ولقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أنه ما أكل البطيخ فقيله له في ذلك فقال : ما بلغني كيف كان رسول الله عليه السلام يأكله فلما لم تبلغ إليه الكيفية في ذلك تركه وبمثل هذا يقدم علماء هذه الأمة على علماء سائر الأمم فهذا الإمام علم وتحقق قوله تعالى عن نبيه عليه السلام فاتبعوني يحببكم الله وقوله لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة والاشتغال بما سن من فعل وقول وحال أكثر من أن نحيطه به ونحصيه فكيف أن نتفرغ لنسن فلا نكلف الأمة أكثر مما ورد
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
{مَآ أُرِيدُ مِنْهُم} أي من الجن والإنس في وقت من الأوقات {مِّن رِّزْقٍ} لي ولا لأنفسهم ولا لغيرهم يحصلونه بكسبهم {وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ}
180
(9/148)
ولا أنفسهم ولا غيرهم وأصله أن يطعموني بياء المتكلم وهو بيان لكون شأنه تعالى مع عباده متعالياً عن أن يكون كسائر السادة مع عبيدهم حيث يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وتهيئة أرزاقهم فإن منهم من يحتاج إلى كسب عبده في نيل الرزق ومنهم من يكون له مال وافر يستغنى به عن حمل عبده على الاكتساب لكنه يطلب من العبد قضاء حوائجه من طبخ الطعام وإصلاحه وإحضاره بين يديه وهو تعالى مستغن عن جميع ذلك ونفع العباد وغيره إنما يعود عليهم والمعنى ما أريد أن أصرفهم في تحصيل رزقي ولا رزقهم ولا في تهيئة بل أتفضل عليهم برزقهم وبما يصلحهم ويعيشهم من عندي فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي وفي الآية تعريض بأصنامهم فإنهم كانوا يحضرون لها المأكل فربما أكلتها الكلاب ثم بالت على الأصنام ثم لا يصدهم ذلك وهذا لآية دليل على أن الرزق أعم من الأكل كما في تفسير المناسبات وقال بعضهم معنى أن يطعمون أن يطعموا أحداً من خلقي وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه كما جاء في الحديث يقول الله استطعمتك فلم تطعمني أي لم تطعم عبدي وذلك إن الاستطعام وسؤال الرزق يستحيل في وصف الله {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} تعليل لعدم إرادة الرزق منهم وهو من قصر الصفة على الموصوف أي لأرزاق إلا الله الذي يرزق كل ما يفتقر إلى الرزق وفيه تلويح بأنه غني عنه {ذُو الْقُوَّةِ} على جميع ما خلق تعليل لعدم إرادته منهم أن يعملوا ويسعوا في أطعامه لأن من يستعين يغيره في أموره يكون عاجزاً لا قوة له {الْمَتِينُ} الشديد القوة لأن القوة تمام القدرة والمتانة شدتها وهو بالرفع على أنه نعت للرزاق أو لذو أو خبر يعد خبر.
وفي التأويلات النجمية أن الله هو الرزاق لجميع الخلائق ذو القوة المتين في خلق الأرزاق والمرزوقين وفي المفردات القوة تستعمل تارة في معنى القدرة وتارة للتهيىء الموجود في الشيء وتارة في البدن وفي القلب وفي المعاون من خارج وفي القدرة الإلهية وقوله ذو القوة المتين عام فيما اختص الله به من القدرة وما جعله للخلق انتهى.
يقول اللفقير : قد سبق أن القوة في الأصل عبارة عن شدة البنية وصلابتها المضادة للضعف والله تعالى منزه عن ذلك فهي في حقه تعالى بمعنى القدرة التامة ويجوز أن يعتبر قوي مظاهر أسمائه وصفاته أيا ما كانت والمتنان مكتنفا الصلب وبه شبه المتن من الأرض ومتنته ضربت متنه ومتن قوي متنه فصار ميتناً ومنه قيل حبل متين.
ودر ترجمة رشف در معنى قوى ومتين آورده قدرت قاهره اش دليل قوت بالغه كشسته وشدت قوتش حجت متانت قدرت شده نه دركار سازى متانتش رافتورى ونه در روزى وبنده نوازي قدرتش راقصورى :
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
رساند رزق بر وجهى كه شايد
بسازد كارها نوعى كه بايد
بروزى بى نوا يا نرا نوازد
برحمت بى كسانرا كارسازد
قال بعضهم رزق الله بالتفاوت رزق بعضهم الإيمان وبعضهم الإيقان وبعضهم العرفان وبعدهم وبعضهم البيان وبعضهم العيان فهؤلاء أهل اللطف والسعادة وبعضهم الخذلان وبعضهم الحرمان وبعضهم الطغيان وبعضهم الكفران فهؤلاء أهل القهر والشقاوة وقال بعضهم : اعتبروا باللبيب الطالب الأرزاق وحرمانه وبالطفل العاجز وتواتر الأرزاق عليه
181
لتعلموا أن الرزق طالب وليس بمطلوب قال الإمام الغزالي رحمه الله في شرح الأسماء الرزاق هو الذي خلق الأرزاق والمرتزقة وأوصلها إليهم وخلق لهم أسباب التمنع بها والرزق رزقان ظاهر وهي الأقوات والأطعمة وذلك للظاهر وهي الأبدان وباطن وهي المعارف والمكاشفات وذلك للقلوب والأسرار وهذا أشرف الرزقين فإن ثمرتها حياة الأبد وثمرة الرزق الظاهر قوة الجسد إلى مدة قريبة الأمد والله تعالى هو المتولى لخلق الرزقين والمتفضل بالإيصال أنى كلا الفريقين ولكنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وغاية حظ العبد من هذا الوصف أمران :
أحدهما أن يعرف حقيقة هذا الوصف وأنه لا يستحقه إلا الله تعالى فلا ينتظر الرزق إلا منه ولا يتوكل فيه إلا عليه كما روى عن حاتم الأصم أنه قال له رجل : من أين تأكل؟ فقال : من خزانته فقال الرجل يلقي عليك الخبز من السماء؟ لقال : لو لم تكن الأرض له لكان يلقيه من السماء فقال الرجل : أنتم تقولون الكلام فقال : لم ينزل من السماء إلا الكلام فقال الرجل : أنا لا أقوى لمجادلتك فقال : لأن الباطل لا يقوم مع الحق.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/149)
والثاني أن يرزقه علماً هادياً ولساناً مرشداً ويداً منفقة متصدقة ويكون سبباً لوصول الأرزاق الشريفة إلى القلوب بأقواله وأعماله وإذا أحب الله تعالى عبداً أكثر حوائج الخلق إليه ومهما كان واسطة بين الله وبين العباد في وصول الأرزاق إليهم فقد نال حظاً من هذه الصفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به طيبة به نفسه أحد المتصدقين وأيدي العباد خزائن الله فمن جعلت يده خزانة أرزاق الأبدان ولسانه خزانة أرزاق القلوب فقد أكرم بشوب من هذه الصفة انتهى كلام الغزالي فعبد الرزاق هو الذي وسع الله رزقه فيؤثر به على عباده ويبسط على من يشاء الله أن يبسط له لأن الله جعل في قدمه السعة والبركة فلا يأتي إلا حيث يبارك فيه ويفيض الخير وخاصية هذا الاسم لسعة الرزق أن يقرأ قبل صلاة الفجر في كل ناحية من نواحي البيت عشراً يبدأ باليمين من ناحية القبلة ويستقبلها في كل ناحية من أن أمكن وفي الأربعين الإدريسية سبحانك يا رب كل شيء وورائه ورازقه قال السهر وردي المداوم عليه تقضي حاجته من الملوك ولاة الأمر فإذا أراد ذلك وقف مقابلة المطلوب وقرأه سبع عشرة مرة ومن تلاه عشرين يوماً على الريق رزق ذهناً يفهم به الغوامض وقال الغزالي في شرح الإسمين القوي المتين القوة تدل على القدرة التامة والمتانة تدل على شدة القوة والله تعالى من حيث أنه بالغ القدرة تامها قوي ومن حيث أنه شديد القوة متين وذلك يرجع إلى معنى القدرة انتهى وعبد القوى هو الذي يقوى بقوة الله على قهر الشيطان وجنوده التي هي قوى نفسه من الغضب والشهوة والهوى ثه على قهر أعدائه من شياطين الإنس والجن فلا يقاويه شيء من خلق الله إلا قهره ولا يناويه أحد إلا غلبه وعبد المتين هو القوي في دينه الذي لم يتأثر ممن أراد إغواءه ولم يكن لمن أزله عن الحق بشدته لكونه أمتن كل متين فعبد القوى هو المؤثر في كل شيء وعبد المتين هو الذي لم يتأثر من شيء وقال أبو العباس : الزروقي القوي هو الذي لا يلحقه ضعف في ذاته وفي صفاته ولا في أفعاله فلا يمسه نصب ولا تعب ولا يدركه قصور ولا عجز
182
في نقض ولا إبراهيم وقال بعض المشايخ من القوة وهي وسط ما بين حال باطن الحول وظاهر القدرة لأن أول ما يوجد في الباطن من منة العمل يسمى حولاً ثم يحس به في الأعضاء مثلاً يسمى قوة وظهور العمل بصورة البطش والتناول يسمى قدرة ولذلك كان في كلمة لا حول ولا قوة إلا بالله وهو تمثيل للتقريب إلى الفهم وإلا فالله تعالى منزه عن صفات المخلوقين ومن عرف أنه القوي رجع بحوله وقوته في كل شيء إلى حوله وقوته والتقريب بهذا الاسم تعلقاً من حيث إسقاط التدبير وترك منازعة المقادير ونفي الدعوى ورؤية المنة له تعالى ونفي خوف الخلق وهموم الدنيا وتخلقاً أن يكون قوياً في ذات الله حتى لا يخاف فيه لومة لائم ولا يضعف عن أمره بحال وخاصية هذا الاسم ظهور القوة في الوجود فما تلاه ذو همة ضعيفة إلا وجد القوة ولا ذو جسم ضعيف إلا كان له ذلك ولو ذكره مظلوم بقصد إهلاك الظالم ألف مرة كان له ذلك وكفى أمره والميتن هو الذي له كمال القوة بحيث لا يعارض ولا يشارك ولا يداني ولا يقبل الضعف في قوته ولا يمانع في أمره بل هو الغالب الذي لا يغالب ولا يغلب ولا يحتاج في قوته لمادة ولا سبب ومن عرف عظمة قوته ومتانتها لم يخف من شيء ولم يقف بهمته على شيء دونه استناداً إليه واعتماداً عليه وخاصية هذا الاسم ظهور القوة لذاكره مع اسمه القوي ولو ذكر على شابة فاجرة عشر مرات وكذلك الشاب لتابا
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
(9/150)
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو وضعوا مكان التصديق تكذيباً وهم أهل مكة {ذَنُوبًا} أي نصيباً وافراً من العذاب {مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} مثل انصباء نظرائهم من الأمم المحكية وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنور وهو الدلو العظيم المملوء قال : لنا ذنوب ولكم ذنوب.
فإن أبيتم فلنا القليب.
قال في المفردات : الذنوب الدلو الذي ذنب واستعير للنصيب كما استعير السجل وهو الدلو العظيم وفي القاموس الذنوب الفرس الوافر الذنب ومن الأيام الطويل الشر والدلو أو فيها ماء أو الملأى أو دون الملأى والحظ والنصيب والجمع أذنبة وذنائب وذناب انتهى {فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} أصله يستعجلوني بياء المتكلم أي لا يطلبوا مني أن أعجل في المجيىء به لأن له أجلاً معلوماً فهو نازل بهم في وقته المحتوم يقال استعجله أي حثه على العجلة وأمره بها ويقال استعجله أي طلب وقوعه بالعجلة ومنه قوله تعالى أتى أمر الله فلا تستعجلوه وهو جواب لقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادذين وكان النضر بن الحارث يستعجل بالعذاب فأمهل إلى بدر ثم قتل في ذلك اليوم وصار إلى النار فعذب أولاً بالقتل ثم بالنار {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} س واى مرانا نراكه كافر شدند والويل أشد من العذاب والشقاء والهم ويقال واد في جهنم وضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بما في حز الصلة من الكفر وإشعاراً بعلة الحكم والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أن لهم عذاباً عظيماً كما أن الفاء الأولى لترتيب النهي عن الاستعجال على ذلك {مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} من للتعليل أي يوعدونه من يوم بدر وقيل يوم القيامة وهو الأنسب لما في صدر السورة الآتية والأول هو الأوفق لما قبله من حيث أنهما من العذاب الدنيوي وأياً
183
ما كان فالعذاب آت وكل آت قريب كما قالوا.
كره قيامت دير آيدولى مى آيد عمر اكره دراز يود ون مرك روى نمود ازان درازى ه سود نوح هزار سال درجهان يسر برده است امروز ند هزار سالست كه مرده است فعلى العاقل أن يتعجل في التوبة والإنابة حتى لا يلقى الله عاصياً ولا يتعجل في الموت فإنه آت البتة وفي الحديث لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً أي فإنه إن كان محسناً فلعله إن يزداد خيراً وإن كان مسيئاً فلعل الله يرزقه الإنابة :
أي كه نجاه رفت ودر خوابى
مكر اين نج روز دريابى
وفي التأويلات النجمية فإن للذين ظلموا من أهل القلوب على قلوبهم بأن جعلوها ملوثة بحب الدنيا بعد أن كانت معدن محبة الله ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم من أرباب النفوس بجميع صفاتها يعني أن فساد القلب بمحبة الدنيا يوازي فساد النفس بجميع صفاتها لأن القب إذا صلح صلح به سائر الجسد وإذا فسد فسد به سائر الجسد فلا تستعجلون في إفساد القلب فويل للذين كفروا بنعمة ربهم في إفساد القلب من يومهم الذي يوعدون بإفساد سائر صفات الجسد ومن الله العصمة والحفظ.
جزء : 9 رقم الصفحة : 145
تفسير سورة الطور
مكية وآيها تسع وأربعون
جزء : 9 رقم الصفحة : 183
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
{وَالطُّورِ} الواو للقسم والطور بالسريانية الجبل وقال بعضهم هو عربي فصحيح ولذا لم يذكره الجواليقي في المعربات وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الطور كل جبل ينبت قال :
لو مر بالطور بعض ناعقة
ما أنبت الطور فوقه ورقه
كويند مراد اينجا مطلق كوهست كه اوتاد ارض اند.
وفيه منابع ومنافع وقيل بل هو جبل محيط بالأرض والأظهر الأشهر أنه اسم جبل مخصوص هو طور سينين يعني الجبل المبارك وهو جبل بمدين واسمه زبير سمع فيه موسى عليه السلام كلام الله تعالى ولذا أقسم الله تعالى به لأنه محل قدم الأحباب وقت سماع الخطاب وورد على محل القدم كثير من الأولياء فظهر عليهم الخال تلك الساعة وقال في خريدة العجائب جبل طورسينا هو بين الشام ومدين قيل إنه بالقرب من أيلة وهو المكلم عليه موسى عليه السلام كان إذا جاءه موسى للمناجاة ينزل عليه غمام فيدخل في الغمام ويكلم ذا الجلال والإكرام وهو الجبل الذي دل عند التجلي وهناك خر موسى صعقاً وهذا الجبل إذا كسرت حجارته يخرج من وسطها شجرة العوسج على الدوام وتعظيم اليهود لشجرة العوسج لهذا المعنى ويقال لشجرة العوسج شجرة اليهود انتهى كلام الخريدة والعوسج جمع عوسجة وهي شوك كما في القاموس {وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ} مكتوب على وجه الانتظام فإن السطر ترتيب الحروف
184(9/151)
المكتوبة والمراد به القرآن أو ألواح موسى وهو الأنسب بالطور أو ما يكتب في اللوح وآخر سطر في اللوح المحفوظ سبقت رحمتي على غضبي من أتاني بشهادة أن لا ءله إلا الله أدخلته الجنة أو ما يكتبه الحفظة يخرج إليهم يوم القيامة منشوراً فآخذ بيمينه وآخذ بشماله نظيره قوله تعالى ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً {فِى رَقٍّ مَّنشُورٍ} الرزق الجلد الذي يكتب فيه شبه كاغد استعير لما يكتب فيه الكتابة من الصحيفة وسمي رقاً لأنه مرقق وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان كما في فتح الرحمن وقال في القاموس الرق ويكسر جلد رقيق يكتب فيه وضد الغليظ كالرقيق الصحيفة البيضاء انتهى والمنشور المبسوط وهو خلاف المطوى قال الراغب نشر الثوب والصحيفة والسحاب والنعمة والحديث بسطها وقيل منشور مفتوح لا ختم عليه وتنكيرهما للتفخيم إو الإشعار بأنهما ليسا مما يتعارفه الناس والمعنى بالفارسية وسوكند بكتاب نوشته در صحيفه كه كشاده كردد بوقت خواندن وعلى تقدير أن يكون ما يكتب في اللوح يكون الرق المنشور مجازاً لأن اللوح خلقه الله من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور عرضه كما بين السماء والأرض ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق الله بكل نظرة يحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} أي الكعبة وعمارتها بالحجاج والعمار والمجاورين أو الضراح يعني اسم البيت المعمور الضراح قال السهيلي رحمه الله وهو في السماء السابعة واسمها عروبا قال وهب بن منبه : من قال سبحان الله وبحمده كان له نور يملأ ما بين عروبا وحربيا وحريبا هي الأرض السابعة انتهى وهو خيال الكعبة وعمرانه كثرة غاشيته من الملائكة يزوره كل يوم سبعون ألف ملك بالطواف والصلاة ولا يعودون إليه أبداً وحرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض وهو عدد خواطر الإنسان في اليوم والليلة ومنه قيل أن القلب مخلوق من البيت المعمور وقيل باطن الإنسان كالبيت المعمور والأنفاس كالملائكة دخولاً وخروجاً وفي أخبار المعراج رأيت في السماء السابعة البيت المعمور وإذا أمامه بحر وإذا يؤمر الملائكة فيخوضون في البحر يخرجون فينفضون أجنحتهم فيخلق الله من كل قطرة ملكاً يطوف فدخلته وصليت فيه وسمي بالضراح بضم الضاد المعجمة لأنه ضرح أي رفع وأبعد حيث كان في السماء السابعة والضرح هو الإبعاد والتنحية يقال ضرحه أي نحاه ورماه في ناحية واضرحه عنك أي أبعده والضريح البعيد وقيل : كان بيتاً من ياقوتة أنزله الله موضع الكعبة فطاف به آدم وذريته إلى زمان الطوفان فرفع إلى السماء وكان طوله كما بين السماء والأرض وذهب بعضهم إلى أنه في السماء الرابعة ولا منافاة فقد ثبت أن في كل سماء بحيال الكعبة في الأرض بيتاً.
يقول الفقير : والذي يصح عندي من طريق الكشف أن البيت المعمور في نهاية السماء السابعة فإنه إشارة إلى مقام القلب فكما أن القلب بمنزلة الأعراف فإنه برزخ بين الروح والجسد كما أن الأعراف برزخ بين الجنة والنار فكذا البيت المعمور فإنه برزخ بين العالم الطبيعي الذي هو الكرسي والعرش وبين العالم العنصري الذي هو السموات السبع وما دونها وهذا لا ينافي أن يكون في كل سماء بيت على حدة هو على صورة البيت المعمور كما أنه لا ينافي كون الكعبة في مكة أن يكون في كل بلدة من بلاد الإسلام مسجد على حدة على صورتها فكما أن الكعبة أم المساجد وجميع المساجد صورها وتفاصيلها فكذا البيت المعمور أصل البيوت التي في السموات
185
فهو الأصل في الطواف والزيارة ولذا رأى النبي عليه السلام ليلة المعراج ابراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور الذي هو بإزاء الكعبة وإليه تحج الملائكة وقال بعضهم : المراد بالبيت المعمور قلب المؤمين وعمارته بالمعرفة والإخلاص فإن كل قلب ليس فيه ذلك فهو خراب ميت فكأنه لا قلب {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} يعني السماء المرفوع عن الأرض مقدار خمسمائة عام قال تعالى : وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً.
قال الكاشفي : يعني آسمان كه مجمع انوار حكمت ومخزن اسرار فطرتست ويا عرش عظيم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/152)
وذلك لأن العرش سقف الجنة وهو محيط بعالم الأجسام كما أن سقف البيت محيط بالجدران ولا يخفى حسن موقع العنوان المذكور من حيث اجتماع السقف مع البيت ومن حيث أن العرض على التقدير الثاني والبيت المعمور متقاربان تقارب السقف بالبيت {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} أي المملوء وهو البحر المحيط الأعظم الذي منه مادة جميع البحار المتصلة والمنقطعة وهو بحر لا يعرف له ساحل ولا يعلم عمقه إلا الله تعالى والبحار التي على وجه الأرض خلجان منه وفي هذا البحر عرش إبليس لعنه الله وفيه مدائن تطفو على وجه الماء وهي آهلة من الجن في مقابلة الربع الخراب من الأرض وفيه قصور تظهر على وجه الماء طافية ثم يغيب وتظهر فيه الصور العجيبة والأشكال الغريبة ثم تغيب في الماء وفي هذا البحر ينبت شجر المرجان كسائر الأشجار في الأرض وفيه من الجزائر المسكونة والخالية ما لا يعلمه إلا الله تعالى قال في القاموس سجر التنور أحماه والنهر ملأه والمسجور الموقد والساكن ضد والبحر الذي ماؤه أكثر منه انتهى وقال بعض المفسرين والبحر المسجور أي الموقد من قوله تعالى وإذا البحار سجرت والمراد به الجنس وعدد البحار العظيمة سبعة كما أن عدد الأنهار العظيمة كذلك وكل ماء كثير بحر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
ـ روي ـ أن الله تعالى يجعل البحار يوم القيامة ناراً يسجر بها نار جهنم وفي الحديث : "لا يركبن رجل بحراً إلا غازياً أو معتمراً أو حاجاً" فإن تحت البحر ناراً أو تحت النار بحراً والبحر نار في نار وهذا على أن يكون البحر بحر الدنيا وبحر الأرض وقال علي وعكرمة رضي الله عنهما : هو بحر تحت العرش عمقه كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان وهو بحر مكفوف أي عن السيلان يمطر منه على الموتى ماء كالمني بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتون في قبورهم وحمله بعض المشايخ على صورة إحياء الله تعالى يعني كما أنه ينبت النبات بماء المطر فيظهر من الأرض فكذا الموتى يخلقهم الله خلقاً جديداً فيظهرون من الأرض كالنبات ولكن هذا لا ينافي أن يكون هناك ماء صوري فإن الإنسان من المني خلق وبصورة ماء كالمني سينبت ولله في كل شيء حكمة بديعة وقيل هو بحر سماء الدنيا وهو الموج المكفوف لولاه لأحرقت الشمس الدنيا.
ونزد أرباب تحقيق مراد طور نفس است كه موسى القلب بران باحق سبحانه مناجاة ميكند وكتاب مسطور ايمانست كه دررق منشور قلب بقلب رحمت ازلي نوشته شده كه كتب في قلوبهم الإيمان وبيت سرعا رفانست كه بنظرات تجليات سبحاني آبادني يافته وسقف مرفوع روح رفيع القدر والدرجات إلى الحضرة است كه سقف خانه دلست وبحر مسجور دلى است بآتش محبت تافته.
وقال عبد العزيز المكي قدس سره : أقسم الله بالطور وهو الجبل وهو النبي صلى الله عليه وسلّم كان في أمته كالجبال في الأرض استقرت به الأمة على
186
(9/153)
دينهم إلى يوم القيامة كما تستقر الأرض بالجبال وأقسم بالكتاب المسطور وهو الكتاب المنزل عليه المسطور في اللوح المحفوظ في رق منشور هو المصاحف وأقيم بالبيت المعمور وهو النبي عليه السلام كان الله بيتاً بالكرامة معموراً وعند الله مسروراً مشكوراً وأقسم بالسقف المرفوع وهو رأس النبي عليه السلام كان والله سقفاً مرفوعاً وفي الدارين مشهوراً وعلى المنابر مذكوراً وأقسم بالبحر المسبحور وهو قلب محمد عليه السلام كان والله من حب الله مملوءاً فأقسم بنفس محمد عموماً وبرأسه خصوصاً وبقلبه ضياء ونوراً وبكتابه حجة وعلى المصاحف مسطوراً فأقسم الحبيب بالحبيب فلا وراءه قسم وقال شيخي وسندي روح الله روحه في كتاب اللائحات البرقيات له والطور أي طور الهوية الذاتية الأحدية الفردية المجردة عن الكل والحقيقة الجمعية الصمدية المطلقة عن الجميع وكتاب أي كتاب الوجود مسطور فيه حروف الشؤون الذاتية الكمالية الوجودية والإمكانية وكلمات الأعيان العلمية الجلالية والجمالية الوجوبية والإمكانية وآيات الأرواح والعقول المجردة القهرية واللطيفة وسور الحقائق والصور المثالية الحية المقربة والمبعدة في رق أي رق النفس الرحمانية والأمر الرباني منشور على ماهيات الممكنات وحقائق الكائنات مبسوط على أعيان المجردات وصور الممثلات بالفيض الأقدس والتجلي الذاتي أو لا الحاصل به كليات التعينات والظهورات وبالفيض المقدس والتجلي الصافاتي والأفعالي ثانياً المتحقق به جزئيات التشخصات والتميزات والقرآن والفرقان اللفظي الرسمي بجميع حروفه وكلماته وآياته وسوره إن هو إلا ذكر وقرآن مبين وهذا مكتوب بيد المخلوق ومسطور بخطه وذلك مكتوب بيد الخالق ومسطور بخطه فلذا كان واجب التعظيم ولازم التكريم بحيث لا يمسه إلا المطهرون من الحدث مطلقاً فيا شقاوة من عقل الكتاب الإلهي الرسمي وأقبل عليه بالتعظيم والتوقير وغفل عن الكتاب الإلهي الحقيقي وأهمله عن التعظيم والتوقيل بل أقدم عليه بالإهانة والتحقير ويا سعادة من عقلهما ولم يغفل عن واحد منهما ولم يهمل شأنهما بل أقبل على كل منهما بالتعظيم والتكريم انقياداً للشريعة في تكريم القرآن والفرقان اللفظي وإذعاناً للحقيقة في تحريم القرآن والفرقان الوجودي أداء لحق كل مرتبة وقضاء لدين كل منزلة قائماً في كل مقام بالعدل والإنصاف مجانباً في كل حال عن الجور والاعتساف.
يقول الفقير في ذلك الكتاب تفصيل عريض آخر لكل من الكتابين الحقيقي والمجازي واقتصرت هنا على شيء يسير مما ذكره لمناسبة المقام والمسؤول من الله الجامع الانتفاع بعلمه النافع "إن عذاب ربك لواقع" أي لنازل حتماً وهو جواب للقسم قال في فتح الرحمن المراد عذاب الآخرة للكفار لا العذاب الدنيوية وإليه الإشارة في الإرشاد في آخر السورة المتقدمة "ماله من دافع" يدفعه وهو كقوله تعالى لا مرد له من الله وبالفارسية نيست مران عذاب را هي دفع كننده بلكه بهمه حال واقع خواهد بود.
وهو خبر ثان لأن قال بعضهم : الفرق بين الدفع والرفع أن الدفع بالدال يستعمل قبل الوقوع والرفع بالراء يستعمل بعد الوقوع وتخصيص هذه الأمور بالأقسام بها لما أنها من أمور عظام تنبىء عن عظم قدرة الله وكمال علمه وحكمته الدالة على إحاطته بتفاصيل أعمال العبادة وضبطها الشاهدة بصدق أخباره التي
187
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
من جملتها الجملة المقسم عليها وقال جبير بن مطعم قدمت المدينة لأكلم رسول الله عليه السلام في أساري بدر فلقيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور وصوته يخرج من المسجد فلما بلغ إلي قوله أن عذاب ربك لواقع فكأنما صاع قلبي حين سمعته فكان أول ما دخل في قلبي الإسلام فأسلمت خوفاً من أن ينزل العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب ومثل هذا التأثير وقع لعمر رضي الله عنه حين بلغ دار الأرقم فسمع النبي عليه السلام يقرأ سورة طه فلان قلبه وأسلم فالقلوب المتهيئة للقبول تتأثر بأدنى شيء خصوصاً إذا كان الواعظ هو القرآن العظيم أو التالي هو الرسول الكريم أو وارثه المستقيم وأما القلوب القاسية فلا ينجع فيها الوعظ كما لم ينجع في قلب أبي جهل ونحوه.
قال الشيخ سعدي :
آهنى راكه موريانه بخورد
نتوان برداز وبصيقل زنك
باسيه دل ه سود كفتن وعظ
نرود ميخ آهنين درسنك
(9/154)
وفي التأويلات النجمية : العذاب لأهل العذاب واقع بالفقد لأن أشد العذاب ذل الحجاب وكان من دعاء السرى السقطى قدس سره : اللهم مهما عذبتني بذل الحجاب والحجاب واقع فإن أعظم الحجاب حجاب النفس ماله من دافع من قبل العبد بل دافع حجاب النفس هو رحمة الله تعالى كما قال تعالى : إلا ما رحم ربي.
عبد الله المغاوري مردى بوداز نواحي اشبيليه دربلاد غرب دربعضى اوقات تشويش ورا كندكى بخلق راه يافته بود زنى نزدوى آمد وكفت البتة مرا باشبيليه رسان وازدست ابن قوم خلاص كن اوزن را بر كردن كرفت وبيرون آمد واو ازشطار بود وقوتى عظيم داشت ون بجاى خلوت رسيد واين زن بغاية جميله بود شيطان اورا بمجامعت با آن زن وسوسه داد ونفس تقاضا كفرت.
فكان حال المرأة حينئذ نظير الحكاية التي قال الشيخ سعدي فيها :
شنيدم كوسفندى را بزركى
رها نيداز دهان ودست كركى
شبانكه كارد بر حلقش بماليد
روان كوسفند ازوى بناليد
كه ازنكال كركم درر بودى
وديدم عاقبت كركم تو بودى
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 20 من صفحة 188 حتى صفحة 199
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
عبد الله باخود كفت اي نفس اين بدست من أمانت است وخيانت كردن روانمى دارم ونفس البته بر عصيان حرص مى نمود واو ترسيدكه نفس غالب شود وكارى ناشايست در وجود آيد آلت مردى خودرا درميان دوسنك بكوفت وكفت النار ولا العارى سبب رجوع او بطريق حق اين بودودر هما وقت روى بحج نهاد ودر عهد خود يكانه روز كار بود فقد رحمه الله تعالى رحمة خاصة حيث نجاه من يد النفس الأمارة ولو وكله إلى نفسه لصدر عنه ذلك القبيح وكان سبباً لوقوعه في العذاب في الدنيا والآخرة أما في الآخرة فظاهر وأما في الدنيا فلان التلبس بسبب الشيء تلبس به وكل فعل قبيح ووصف ذميم فهو عذاب حكمى ونار معنوية والعذاب الصوري أثر ذلك فليس من خارج عن الإنسان {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْرًا} ظرف لواقع مبين لكيفية الوقوع منبىء عن كمال هوله وفظاعته لا لدافع لأنه يوهم أن أحداً يدفع عذابه في غير ذلك اليوم والغرض أن عذاب الله لا يدفع في كل وقت والمور الاضطراب
188
والتردد في المجيء والذهاب والجريان السريع أي تضطرب وتجيء وتذهب وبالفارسية در اضطراب آيد آنكاه بشكافد.
قيل تدور السماء كما تدور الرحى وتتكفأ بأهلها تكفأ السفينة وقيل يختلج أجزاؤها بعضها في بعض ويموج أهلها بعضهم في بعض ويختلطون وهم الملائكة وذلك من الخوف {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} أي تزول عن وجه الأرض فتصير هباء وقال بعضهم تسير الجبال كما تسير السحاب ثم تنشق أثناء السير حتى تصير آخره كالعهن المنفوش لهول ذلك اليوم ومثله وجود السالك عند تجلي الجلال بالفناء فإنه لا يبقى منه أثر وتأكيد الفعلين بمصدريهما للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة أي موراً عجيباً وسيراً بديعاً لا يدرك كنههما {فَوَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} الفاء فصيحة والجملة جواب شرط محذوف أي إذا وقع ذلك المور والسيرا وإذا كان الأمر كما ذكر فويل وشدة عذاب يوم إذ يقع لهم ذلك وهو لا ينافي تعذيب غير المكذبين من أهل الكبائر لأن الويل الذي هو العذاب الشديد إنما هو للمكذبين بالله ورسوله وبيوم الدين لا لعصاة المؤمنين {الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ} أي اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب وبالفارسي در شروع كردن بأقوال باطلة كه استهزا بقرء آنست وتكذيب نبي عليه السلام وإنكار بعث.
قال في فتح الرحمن : الخوض التخبط في الأباطيل شبه بخوض الماء وغوصه وفي حواشي الكشاف الخوض من المعاني الغالية فإنه يصلح في الخوض في كل شيء إلا أنه غلب في الخوض في الأباطيل كالإحضار لأنه عام في كل شيء ثم غلب استعماله في الإحضار للعذاب قال : لكنت من المحضرين وقوله الذين هم في خوض ليس صفة قصد بها تخصيص المكذبين وتمييزهم وإنما هو للذم كقولك الشيطان الرجيم
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/155)
{يَلْعَبُونَ} يلهون ويتشاغلون بكفرهم {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} الدع الدفع الشديد وأصله أن يقال للعاثر دع دع أي يدفعون إليها فدعاً عنيفاً شديداً بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار دفعاً على وجوههم وفي أقفيتهم حتى يردوها ويوم إما بدل من يوم تمور أو ظرف لقول مقدر قبل قوله تعالى {هَـاذِهِ النَّارُ} أي يقال لهم من قبل خزنة النار هذه النار {الَّتِى كُنتُم} في الدنيا وقوله {بِهَا} متعلق بقوله : {تُكَذِّبُونَ} أي تكذبون الوحي الناطق بها {أَفَسِحْرٌ هَـاذَآ} توبيخ وتقريع لهم حيث كانوا يسمونه سحراً وتقديم الخبر لأنه محط الإنكار ومدار توبيخ كأنه قيل كنتم تقولون للقرآن الناطق بهذا سحر فهذا المصداق أي النار سحر أيضاً وبالفارسية آيا سحرست اين كه مى بينيد.
فالفاء سببية لا عاطفة لئلا يلزم عطف الإنشاء على الإخبار فهذا الاستفهام لم يتسبب عن قولهم للوحي هذا سحر والمصداق ما يصدق الشيء وأحوال الآخرة ومشاهدتها تصدق أقوال الأنبياء في الإخبار عنها يعني أن الذي ترونه من عذاب النار حق {أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ} أي أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر أو أم سدت أبصاركم كما سدت في الدنيا على زعمكم حيث كنتم تقولون إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون {اصْلَوْهَا} أي أدخلوها وقاسوا حرها وشدائدها {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه فإنه لا خلاص لكم منها وهذا على جهة قطع رجائهم
189
{سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ} خبر مبتدأ محذوف دل عليه اصبروا أو لا تصبروا وسواء وإن كان بمعنى مستو لكنه في الأصل مصدر بمعنى الاستواء والمعنى سواء عليكم الأمر إن أجزعتم أم صبرتم في عدم النفع لا بدفع العذاب ولا بتخفيفه إذ لا بد أن يكون الصبر حين ينفع وذلك في الدنيا لا غير فمن صبر هنا على الطاعات لم يجزع هناك إذ الصبر وإن كان مراً بصلاً لكن آخره حلو عسل {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تعليل للاستواء فإن الجواء على كفرهم وأعمالهم القبيحة حيث كان واجب الوقوع حتماً بحسب الوعيد لامتناع الكذب على الله كان الصبر وعدمه سواء في عدم النفع.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
وفي التأويلات النجمية إنما تجزون ما كنتم تعملون في الدنيا من الخير والشر لا الذي تعملون في الآخرة من الصبر والخضوع والخشوع والتضرع والدعاء فإنه لا ينفع شيء منها والحاصل أن يقال اخسأوا فيها ولا تكلمون انتهى ثم النار ناران النار الصورية لأهل الشرك الجلي ومن لحق بهم من العصاة والنار المعنوية لأهل الشرك الخفي ومن اتصل بهم من أهل الحجاب فويل لكل من الطائفتين يوم يظفر الطالب بالمطلوب ويصل المحب إلى المحبوب من عذاب جهنم وعذاب العبد والقطيعة والحرمان من السعادة العظمى والرتبة العليا فليحذر العاقل من الخوض في الدنيا واللعب بها فإن الغفلة عن خالق البريات توقد نيران الحسرات وفي الآية إشارة إلى مرتبة الخوف كما أن الآية التي تليها إشارة إلى مرتبة الرجاء فإن الأمن والقنوط كفر.
زيراكه امن از عاجزان بود واعتقاد عجز در الله كفرست وقنوط ازلئيمان بود واعتقاد لؤم در الله كفرست راغى كه درو روغن نباشد روشنايى ندهد وون روغن باشد وآتش نباشد ضياندهد س خوف بر مثال آتش است ورجاء بر مثال روغن وايمان برمثال فتيله ودل بر شكل راغ دان ون خوف ورجا مجتمع كشت راغى حاصل آمدكه دروى هم روغن است كه مدد بقاست هم آتش است كه ماده ضياست آنكه ايمان ازميان هردو مدد ميكير دازيكى ببقا وازيكى بضياء ومؤمن ببدرقه ضياراه ميرود وبمدد بقاقدم مى زند والله ولي التوفيق {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} عن الكفر والمعاصي {فِى جَنَّـاتٍ وَنَعِيمٍ} النعيم الخفض والدعة والتنعم الترفه والاسم النعمة بالفتح قال الراغب النغيم النعمة الكثيرة وتنعم تناول ما فيه النعمة وطيب العيش ونعمه تنعيماً جعله في نعمة أي لين عيش وفي البحر التنعم استعمال ما فيه النعوم واللين من المأكولات والملبوسات والمعنى في جنات ونعيم أي في آية جنات وأي نعيم بمعنى الكامل في الصفة على أن التنوين للتفخيم أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين على أنه للتنويع والجنة مع كونها أشرف المواضع قد يتوهم أن من يدخلها إنما يدخلها ليعمل فيها ويصلحها ويحفظها لصاحبها كما هو شأن ناطور الكرم أي مصلحه وحافظه كما قال في القاموس الناطور أي بالطاء المهملة حافظ الكرم والنخل أعجمي انتهى فلما قال ونعيم أفاد أنهم فيها متنعمون كما هو شأن المتفرج بالبستان لا كالناطور والعمال {فَـاكِهِينَ} ناعمين متلذذين وبالفارسي شادمان ولذات يابندكان.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/156)
وفي القاموس : الفاكة صاحب الفاكهة وطيب النفس الضحوك والناعم الحسن العيش كما أن الناعمة والمنعمة الحسنة العيشة {فَـاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَـاـاهُمْ} از كرا متهاى جاودانى وفي فتح الرحمن من أنعامه ورضاه عنهم وذلك أن المتنعم قد يستغرق في النعم الظاهرة وقلبه مشغول بأمر ما فلما قال
190
فاكهين تبين أن حالهم محض سرور وصفاء وتلذذ ولا يتناولون شيئاً من النعيم إلا تلذذاً لا لدفع ألم جوع أو عطش {وَوَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} الوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره والجحمة شدة تأجج النار ومنه الجحيم أي جهنم لأنه من أسمائها وهو عطف على آتاهم على أن ما مصدرية أي متلذذين بسبب إيتاء ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم فإنها إن جعلت موصولة يكون التقدير بالذي وقاهم ربهم عذاب الجحيم فيبقى الموصول بلا عائد وإظهار الرب في موضع الإضمار مضافاً إلى ضميرهم للتشريف والتعليل {كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي يقال لهم من قبل خزانة الجنة دائماً كلوا واشربوا كلا واشربا {هَنِيائَا} فهنيئاً صفة لمصدر محذوف أو طعاماً وشراباً هنيئاً فهو صفة مفعول به محذوف فإن ترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما والهنيىء والمريىء صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغاً يعني كوارنده لا تكدير فيه أي كان بحيث لا يورث الكدر من التخم والسقم وسائر الآفات كما يكون في الدنيا قال ابن الكمال ومنه يهني المشتهر في اللسان التركي باللحم المطبوخ {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بسببه أو بمقابلته قال في فتح الرحمن معناه إن رتب الجنة ونعيمها هي بحسب الأعمال وأما نفس دخولها فهو برحمة الله وتغمده والأكل والشرب والتهني ليس من الدخول في شيء وأعمال العباد الصالحة لا توجب على الله التنعيم إيجاباً لكنه قد جعلها أمارة على من سبق في علمه تنعيمه وعلق الثواب والعقاب بالتكسب الذي في الأعمال.
إمام زاهد رحمه الله فرمود كه هرند وعده بكدار بنده است أما أصل فضل الهيست واكرنه يداست كه فردامز دكر دار ماه خواهد بود :
ندارد فعل من از زور بازو
كه بافضل تو كرددهم ترازو
بفضل خويش كن فضل مرايار
بعدل خود بكن بافعل من كار
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
وفي القاموس : الفاكة صاحب الفاكهة وطيب النفس الضحوك والناعم الحسن العيش كما أن الناعمة والمنعمة الحسنة العيشة {فَـاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَـاـاهُمْ} از كرا متهاى جاودانى وفي فتح الرحمن من أنعامه ورضاه عنهم وذلك أن المتنعم قد يستغرق في النعم الظاهرة وقلبه مشغول بأمر ما فلما قال
190
فاكهين تبين أن حالهم محض سرور وصفاء وتلذذ ولا يتناولون شيئاً من النعيم إلا تلذذاً لا لدفع ألم جوع أو عطش {وَوَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} الوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره والجحمة شدة تأجج النار ومنه الجحيم أي جهنم لأنه من أسمائها وهو عطف على آتاهم على أن ما مصدرية أي متلذذين بسبب إيتاء ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم فإنها إن جعلت موصولة يكون التقدير بالذي وقاهم ربهم عذاب الجحيم فيبقى الموصول بلا عائد وإظهار الرب في موضع الإضمار مضافاً إلى ضميرهم للتشريف والتعليل {كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي يقال لهم من قبل خزانة الجنة دائماً كلوا واشربوا كلا واشربا {هَنِيائَا} فهنيئاً صفة لمصدر محذوف أو طعاماً وشراباً هنيئاً فهو صفة مفعول به محذوف فإن ترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما والهنيىء والمريىء صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغاً يعني كوارنده لا تكدير فيه أي كان بحيث لا يورث الكدر من التخم والسقم وسائر الآفات كما يكون في الدنيا قال ابن الكمال ومنه يهني المشتهر في اللسان التركي باللحم المطبوخ {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بسببه أو بمقابلته قال في فتح الرحمن معناه إن رتب الجنة ونعيمها هي بحسب الأعمال وأما نفس دخولها فهو برحمة الله وتغمده والأكل والشرب والتهني ليس من الدخول في شيء وأعمال العباد الصالحة لا توجب على الله التنعيم إيجاباً لكنه قد جعلها أمارة على من سبق في علمه تنعيمه وعلق الثواب والعقاب بالتكسب الذي في الأعمال.
إمام زاهد رحمه الله فرمود كه هرند وعده بكدار بنده است أما أصل فضل الهيست واكرنه يداست كه فردامز دكر دار ماه خواهد بود :
ندارد فعل من از زور بازو
كه بافضل تو كرددهم ترازو
بفضل خويش كن فضل مرايار
بعدل خود بكن بافعل من كار
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/157)
قال سهل جزاء الأعمال الأكل والشرب ولا يساوي أعمال العباد أكثر من ذلك وأما شراب الفضل فهو قوله وسقاهم ربهم شراباً طهوراً وهو شراب على رؤية المكاشفة والمشاهدة {مُتَّكِـاِينَ} حال من الضمير في كلوا واشربوا أي معتمدين ومستندين {عَلَى سُرُرٍ} جمع سرير وهو الذي يجلس عليه وهو من السرور إذا كان ذلك لا ولي النعمة وسرير الميت تشبيه به في الصورة وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى الله وخلاصة من سجنه المشار إليه بقوله عليه السلام : الدنيا سجن المؤمن {مَّصْفُوفَةٍ} مصطفة قد صف بعضها إلى جنب بعض أو مرمولة أي معينة بالذهب والفضة والجواهر وبالفارسية بر تختهاى بافته بزر.
والظاهر أن جمع السرر مبني على أن يكون لكل واحد منهم سرر متعددة مصطفة معدة لزائريهم فكل من اشتاق إلى صديقه يزوره في منزله قال الكلبي صف بعضها إلى بعض طولها مائة ذراع في السماء يتقابلون عليها في الزيارة وإذا أراد أحدهم القعود عليها تطامنت واتضعف فإذا قعد عليها ارتفعت إلى أصل حالها {وَزَوَّجْنَـاهُم بِحُورٍ عِينٍ} واحد الحور حوراء وواحد العين عيناى وإنما سمين حور ألان الطرف يحار في حسنهن وعينا لأنهن الواسعات إلا عين مع جمالها والباء للتعدية مع أن التزويج مما يتعدى إلى
191
مفعولين بلا واسطة قال تعالى : زوجنا كنا لما فيه من معنى الوصل والالصاق أو للسببية والمعنى صيرناهم أزواجاً بسببهن فإن الزوجية لا تتحقق بدون انضمامهن إليهم يعني أن التزويج حينئذ ليس على أصل معناه وهو النكاح وعقد النكاح بل بمعنى تصييرهم أزواجاً فلا يتعدى إلى مفعولين وبالفارسية وجفت كردانيم ايشانرا برنان سفيد روى كشاده شم.
قال الراغب وقرناهم بهن ولم يجيء في القرآن زوجناهم حوراً كما يقال زوجته امرأة تنبيهاً على أن ذلك لم يكن على حسب التعارف فيما بيننا من المناكح انتهى قال في فتح الرحمن وقرناهم ولبس في الجنة تزويج كالدنيا انتهى يعني أن الجنة ليست بدار تكليف فشأن تزويج أهل الجنة بالحور بقبول بعضهم بعضاً لا بأن يعقد بينهم عقد النكاح قال في الواقعات المحمودية أن لأهل الجنة بيوت ضيافة يعملون فيها الضيافة للأحباب ويتنعمون ولكن أهليهم لا يظهرن لغير المحارم انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
يقول الفقير : الظاهر أن عدم ظهورهن ليس من حيث الحرمة بل من حيث الغيرة يعني أن أهل الرجل إشارة إلى سره المكتوم فاقتضت الغيرة الإلهية أن لا تظهر لغير المحارم كما أن السر لا يفشي لغير الأهل وإلا فالحل والحرمة من توابع التكليف ولا تكليف هنالك وإنما كان ذلك ونحوه من باب التلذذ {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} مبتدأ خبره الحقنا بهم {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم} عطف على آمنوا أي نسلهم {بِإِيمَـانٍ} متعلق بالاتباع والتنكير للتقليل أي بشيء من الإيمان وتقليل الإيمان ليس مبنياً على دخول الأعمال فيه بل المراد قلة ثمراته ودناءة قدره بذلك فالتقليل فيه بمعنى التحقير والمعنى واتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصرين عن رتبة إيمان الآباء واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل أصالة لا إلحاقاً {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي أولادهم الصغار والكبار في الدرجة كما روي أنه عليه السلام قال : إنه تعالى يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقربهم عينه أي يكمل سروره ثم تلا هذه الآية وفيها دلالة بينة على أن الولد الصغير يحكم بإيمانه تبعاً لأحد أبويه وتحقيقاً للحوقه به فإنه تعالى إذا جعلهم تابعين لآبائهم ولاحقين بهم في أحكام الآخرة فينبغي أن يكون تابعين لهم ولاحقين بهم في أحكام الدنيا أيضاً قال في فتح الرحمن : إن المؤمنين أولادهم الكبار والصغار بسبب إيمانهم فكبارهم بإيمانهم بأنفسهم وصغارهم بأن اتبعوا في الإسلام بآبائهم بسبب إيمانهم لأن الولد يحكم بإسلامه تبعاً لأحد أبويه إذا أسلم وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وقال مالك يحكم بإسلامه تبعاً لإسلام أبيه دون أمه وأما إذا مات أحد أبويه في دار الإسلام فقال أحمد يحكم بإسلامه وهو من مفردات مذهبه خلافاً للثلاثة واختلفوا في إسلام الصبي المميز وردته فقال الثلاثة يصحان منه وقال الشافعي لا يصحان وفي هدية المهديين إسلام الصبي العاقل وهو من كان في البيع سالباً وفي الشراء جالباً صحيح استحساناً حتى لا يرث من أقاربه الكفار ويصلى عليه إذا مات وارتداده ارتداد استحساناً في قول أبي حنيفة ومحمد إلا أنه يجبر على أحسن الوجوه ولا يقتل لأنه ليس من أهل العقوبة وفي الأشياء إن قيل أي مرتد لا يقتل فقل من كان إسلامه تبعاً أو فيه شبهة وأي رضيع يحكم بإسلامه بلا تبعية فقل لقيد في دار الإسلام وفي الهدية أيضاً صبي
192
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/158)
وقع من الغنيمة في سهم رجل في دار الحرب أو بيع به فمات يصلى عليه لأنه يصير مسلماً حكماً تبعاً لمولاه بخلاف ما قبل القسمة فإنه حينئذ يكون على دين أبويه وفي الفتوحات المكية الطفل المسبي في دار الحرب إذا مات ولم يحصل منه تمييز ولا عقل يصلى عليه فإنه على فطرة الإسلام وهذا أولى ممن قال لا يصلى عليه لأن الطفل مأخوذ من الطفل وهو ما ينزل من السماء غدوة وعشية وهو أضعف من الرش والويل فلما كان بهذا الضعف كان مرحوماً والصلاة رحمة فالطفل يصلى عليه إذا مات بكل وجه انتهى وإن دخل الصبي في دار الإسلام فإن كان معه أبواه أو أحدهما فهو على دينهما وإن مات الأبوان بعد ذلك فهو على ما كان كما في العدية وإن لم يكن معه واحد منهما حين دخل الإسلام يصير مسلماً تبعاً للدار وللمولى ولو أسلم أحد الأبوين في دار الحرب يصير الصبي مسلماً بإسلامه وكذا لو أسلم أحد الأبوين في دار الإسلام ثم سبى الصبي بعده من دار الحرب فصار في دار الإسلام كان مسلماً بإسلامه {وَمَآ أَلَتْنَـاهُم} وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق وإلا لأبغضوهم في الدناي شحاً كما في عين المعاني من ألت يألت كضرب يضرب قال في القاموس ألته حقاً يألته نقصه كآلته إيلاناً {مِّنْ عَمَلِهِم} من ثواب عملهم {مِّن شَىْءٍ} من الألوى متعلقة بألتناهم والثانية زائدة والمعنى ما نقصناهم من عملهم شيئاً بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنتقص مثوبتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى درجتهم ومنزلتهم بمحض التفضل والإحسان.
يعني بلكه بفضل وكرم خود اولاد را رفعت درجه ارزاني فرمودم شيخ الإسلام حسين مروزي از استاد خود احمد بن أبي علي سرخسي رحمهما الله نقل ميكند كه ايمان وعمل جز بفضل لم يزلي نيست :
در فضل خدا بند دل خويش مدام
تا فضل نباشد نبود كار تمام
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
وسألت خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال عليه السلام : هما في النار فكرهت فقال عليه السلام : لو رأيت مكانهما لأبغضتهما قالت : فالذي منك قال في الجنة إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار كما في عين المعاني وقال الإمام محمد : إن الإمام الأعظم توقف في أطفال المشركين والمسلمين والمختار إن أطفال المسلمين في الجنة وأما ما روي أنه توفي صبي من الأنصار فدعي النبي عليه السلام إلى جنازته فقالت عائشة رضي الله عنها : طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال عليه السلام : أو غير ذلك أتعتقدين ما قلت والحق غير الجزم به إن الله خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلاً فإنما نهاها عن الحكم على معين بدخول الجنة كما في شرح المشارق لابن الملك وقال مولى رمضان في شرح العقائد ولا يشهد بالجنة والنار لأحد بعينه بل يشهد بأن المؤمنين من أهل الجنة والكافرين من أهل النار وكذا أطفالهم تبعاً لهم وقيل هم في الجنة إذ لا إثم لهم وقيل هم في الأعراف ووجهه إن عدم التيقن لعدم العلم بخاتمته وإذا مات ولد المؤمن طفلاً فخاتمته الإيمان لا محالة تبعاً لأبيه إلا أن يكون تابعاً الخاتمة أبيه وهي غير معلومة انتهى واختار البعض في أطفال المشركين كونهم خدام أهل الجنة كما في هدية المهديين والأكثرون على أنهم في النار تبعاً لآبائهم وقال آخرون إنهم في الجنة لكونهم غير مكلفين وتوقف فيه
193
(9/159)
طائفة وهو الظاهر كما في شرح المشارق لابن الملك وبقي قول آخر وهو أن الصبيان والمجانين وأهل الفترة يرسل إليهم يوم القيامة رسول من جنسهم ويدعون إلى الإيمان ويمتحن المؤمن بإيقاع نفسه في نار هناك فمن قبل الدعوة ولم يمتنع عن الإيقاع المذكور خلص لأنها ليست بنار حقيقة وإلا دخل النار أي جهنم وقال الشيخ روز بهان البقلي في عرائس البيان عند الآية هذا إذا وقعت فطرة الذرية من العدم سليمة طيبة طاهرة صالحة لقبول معرفة الله ولم تتغير من تأثير صحبة الأضداد لقوله عليه السلام : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فإذا بقيت على النعت الأول ووصل إليها فيض مباشرة نور الحق ولم تتم عليها الأعمال يوصلها الله إلى درجة آبائهم وأمهاتهم الكبار من المؤمنين إذ هناك تتم أرواحهم وعقولهم وقلوبهم ومعرفتهم بالله عند كشف مشاهدته وبروز أنوار جلاله ووصاله وكذلك حال المريدين عند العارفين يبلغون إلى درجات كبرائهم وشيوخهم ما آمنوا بأحوالهم وقبلوا كلامهم كما قال رويم قدس سره : من آمن بكلامنا هذا من وراء سبعين حجاباً فهو من أهلنا وقال عليه السلام : من أحب قوماً فهو منهم وقال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ولا تعجب من ذلك فإنه تعالى مبلغهم إلى أعلى الدرجات فإذا كانوا في منازل الوحشة يصلون إلى الدرجات العلية فكيف لا يصلون إليها في مقام الوصلة انتهى.
يقول الفقير : يظهر من هذا أن لحوق الأبناء الصورية والمعنوية بالآباء في درجاتهم مشروط بالإيمان الشرعي والتوحيد العقلي وليس لأطفال المشركين شيء من ذلك فكيف يلتحقون بأهل الجنة مطلقاً فإنما يلتحق المؤمن بالمؤمن لمجانستهما وأما الإيمان الفطري فلا يعتبر في دار التكليف وكذا في دار الجزاء والله أعلم بالأسرار ومنه نرجو الالتحاق بالأخبار
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
{كُلُّ امْرِى} هر مردى بالغ عاقل مكلف {بِمَا كَسَبَ} بانه كرده باشد ازخير وشر {رَهِينٌ} در كروست روز قيامت يعني وابست است باداش كردار خود وزان رهايى ندارد ويعمل ديكرى مؤاخذه نيست وزن مكلفه نيز همين حكم دارد.
كما في في تفسير الكاشفي والرهن ما يوضع وثيقة للدين ولما كان الرهن يتصور منه حبسه استعير ذلك للمجتبس أي شيء كان وقال ابن الشيخ ما مصدرية والفعيل بمعنى المفعول والعمل الصالح بمنزلة الدين الثابت على المرء من حيث أنه مطالب به ونفس العبد مرهونة به فكما أن المرتهن ما لم يصل إليه الدين لا ينفك منه الرهن كذلك العمل الصالح ما لم يصل إلى الله لا تتخلص نفس العبد المرهونة فالمعنى كل امرىء مرهون عند الله بالعمل الصالح الذي هو دين عليه فإن عمله واداه كما هو المطلوب منه فك رقبته من الرهن وإلا أهلكها وفي هذا المعنى قال عليه السلام لكعب بن عجرة رضي الله عنه : لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت النار أولى به يا كعب بن عجرة الناس صنفان فمبتاع نفسه فمعتقها وبائع نفسه فموبقها وقال مقاتل : كل امرىء كافر بما عمل من الشرك مرهون في النار والمؤمن لا يكون مرتهناً لقوله تعالى كل نفس بما كسبت رهينة إلا بأصحاب اليمين وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون الرهين فعيلاً بمعنى الفاعل فيكون المعنى كل امرىء مما كسب رهين أي
194
دائم ثابت مقيم أحسن ففي الجنة مؤيد أو إن أساء ففي النار مخلداً لائن في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان فإن العرض لا يبقى إلا في جوهر ولا يوجد إلا فيه وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإن الله يبقى أعمالهم لكونها عند الله من الباقيات الصالحات وما عند الله باق والباقي من الأعيان يبقى ببقاء عمله.
قال في الإرشاد : وهذا المعنى أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء فالجملة تعليل لما قبلها انتهى.
{وَأَمْدَدْنَـاهُم} أصل المد الجر وأكثر ما جاء الإمداد في المحبوب والمد في المكروه والإمداد بالفارسية مدد كردن ومدد دادن.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/160)
وفي القاموس الإمداد تأخير الأجل وإن تنصر الأجناد بجماعة غيرك والإعطاء والإغاثة {بِفَـاكِهَةٍ} هي الثمار كلها {وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} وإن لم يصرحوا بطلبه والمعنى وزدناهم على ما كان من مبادي التنعم وقتا فوقتا مما يشتهون من فنون النعماء وضرور الآباء.
وذلك أنه تعالى لما قال وما ألتناهم ونفي النقصان يصدق بإيصال المساوي دفع هذا الاحتمال بقوله وأمددناهم أي ليس عدم النقصان بالاقتصار على المساوي بل بالزيادة على ثواب أعمالهم والإمداد وتنوين فاكهة للتكثير أي بفاكهة لا تنقطع كلما أكلوا ثمرة عاد مكانها مثلها وما في ما يشتهون للعموم لأنواع اللحمان وفي الحبر أنك لتشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديك مشوياً وقيل يقع الطائر بين يدي الرجل في الجنة فيأكل منه قديداً ومشوياً ثم يطير إلى النهر {يَتَنَـازَعُونَ فِيهَا} نزع الشيء جذبه من مقره كنزع القوس من كبدها والتنازع والمنازعة المجازبة ويعبر بها عن المخاصمة والمجادلة والمراد بالتنازع هنا التعاطي والتداول على طريق التجاذب يعني تجاذب الملاعبة لفرط السرور والمحبة وفيه نوع لذة إذ لا يتصور في الجنة التنازع بمعنى التخاصم والمعنى يتعاطون في الجنات ويتداولون هم وجلساؤهم بكمال رغبة واشتياق كما ينبىء عنه التعبير بالتنازع وبالفارسية بايكديكر داد وستد كنند دربهشت يعني بهم دهند وازهم ستانند {كَأْسًا} كأسه مملو ازخمر بهشت.
والكأس قدح فيه شراب ولا يسمى كأساً ما لم يكن فيه شراب كما لا تسمى مائدة ما لم يكن عليها طعام والمعنى كأساً أي خمراً تسمي لها باسم محلها ولما كانت الكأس مؤنثة مهموزة أنث الضمير في قوله {لا لَغْوٌ فِيهَا} أي في شربها حيث لا يتكلمون في أثناء الشرب بلغوا الحديث وسقط الكلام قال ابن عطاء أي لغو يكون في مجلس محله جنة عدن والساقي فيها الملائكة وشربهم ذكر الله وريحانهم تحية من عند الله مباركة طيبة والقوم أضياف الله قال الراغب اللغو من الكلام ما لا يعتد به وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرا اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور {وَلا تَأْثِيمٌ} ولا يفعلون ما يأثم به فاعله أي ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف من الكذب والسب والفواحش كما هو ديدن المنادمين في الدنيا وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام لأن عقولهم ثابتة غير زائلة وذلك كسكارى المعرفة في الدنيا فإنهم إنما يتكلمون بالمعارف والحقائق.
قال البقلى : وصفهم الله في شربهم لكاسات شراب وصله بالمنازعة والشوق إلى مزيد القرب ثم وصف شرابهم أنه يورثهم التمكين والاستقامة في السكر لا يؤول حالهم إلى الشطح والعربدة وما
195
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
يتكلم به سكارى المعرفة في الدنيا عند الخلق ولا يشابه حال أهل الحضرة حال أهل الدنيا من جميع المعاني ثم إنه قد يقع الأكل والشرب في المنام فيسري حكمه إلى الجسد لغلبة الروحانية كما قال بعض الكبار : العيش مع الله هو القوت الذي من أكله لا يجوزع وإليه أشار عليه السلام بقوله : إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني والمراد بذلك الشبع والري الذي يعود من ثمرة الأكل والشراب يعني يبيت جائعاً فيرى في منامه أنه يأكل فيصبح شبعاناً وقد اتفق ذلك لبعضهم بحكم الإرث وبقي رائحة ذلك الطعام حين استيقظ نحو ثلاثة أيام والناس يشمونها منه وأما غير النبي وغير الوارث فإذا رأى أنه يأكل استيقظ وهو جيعان مثل ما نام فصح قوله صلى الله عليه وسلّم أن المبشرات جزء من أجواء النبوة انتهى.
يقول الفقير : فرب شبعان في دعواه جيعان في نفس الأمر ألا ترى حال من أكل في منامه حتى شبع ثم استيقظ وهو جائع وكذلك حال أهل التلوين فإن من شرب شراراً من هذه المعرفة يقع في الدعاوى العريضة كما شاهدناه في بعض المعاصرين ولا يدري أن حاله بالنسبة إلى حال أهل التمكين كحال النائم فمن سكر من رائحة الخمر ليس كمن سكر من شرب نفسها فأين أنت من الحقيقة فاعرف حدك ولا نتعد طورك فإن التعدي من قبيل اللغو والتأثيم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/161)
قال الخجندي : از عشق دم مزن ونكشتى شهيد عشق.
دعواي اين مقام درست از شهادتست {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} الطواف المشي حول الشيء ومنه الطائف لمن يدور حول البيوت حافظاً أي ويدور على أهل الجنة بالكأس وقيل بالخدمة {غِلْمَانٌ لَّهُمْ} مع غلام وهو الطار الشارب أي مماليك مخصوصون بهم لم يضفهم بأن يقول غلمانهم لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدمه أحداً في الدنيا أن يكون خادماً له في الجنة فيحزن لكونه لا يزال تابعاً وأباد التنكير أن كل من دخل الجنة وجد له خدم لم يعرفهم كما في حواشي سعدي المفتي {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} حال من غلمان لأنهم قد وصفوا أي كأنهم في البياض والصفاء لؤلؤ مصون في الصدق لأنه رطباً أحسن وأصفى إذ لم تمسه الأيدي ولم يقع عليه غبار وبالفارسية كويا ايشان در صفا ولطافت مرواريد وشيده انددر صدف كه دست كس بديشان نرسيده.
او مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة قيل لقتادة : هذا الخادم فكيف المخدوم فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وعنه عليه السلام أن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه لبيك لبيك {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وروي مي آرند بعضي ازبهشتيان بربعض ديكر {يَتَسَآءَلُونَ} أي يسأل كل بعض منهم بعضاً آخر عن أحواله وأعماله وما استحق به نيل ما عند الله من الكرامة وذلك تلذذاً واعترافاً بالنعمة العظيمة على حسب الوصول إليها على ما هو عادة أهل المجلس يشرعون في التحادث ليتم به استئناسهم فيكون كل بعض سائلاً ومسؤولاً لا أنه يسأل بعض معين منهم بعضاً آخر معيناً {قَالُوا} أي المسؤول وهم كل واحد منهم في الحقيقة {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ} أي قبل دخول الجنة {فِى أَهْلِنَا} درميان اهل خود يعني بوديم
196
دردنيا {مُشْفِقِينَ} ارقاء القلوب خائفين من عصيان الله تعالى معتنين بطاعته أو وجلين من العاقبة قيد بقوله في أهلنا فإن كونهم بين أهليهم مظنة الامن فإذا خافوا في تلك الحال فلأن يخافوا في سائر الأحوال والأوقات أولى وقال سعدي المفتي : ولعل الأولى أن يجعل إشارة إلى معنى الشفقة على خلق الله كما أن قوله إنا كنا من قبل ندعوه إشارة إلى التعظيم لا أمر الله وترك العاطف لجعل الثاني بياناً للأول ادعاء للمبالغة في وجوب عدم انفكاك كل منهما عن الآخر انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
يقول الفقير : الظاهر أن هذا الكلام وارد على عرف الناس فإنهم يقولون شأننا بين قومنا وقبيلتنا كذا فهم كانوا في الدنيا بين قبائلهم وعشائرهم على صفة الإشفاق وفيه تعريض بأن بعض أهلهم لم يكونوا على صفتهم ولذا صاروا محرومين ويدل على هذا أن الأهل يفسر بالازواج والأولاد وبالعبيد والإماء وباوقارب وبالأصحاب وبالمجموع كما في شرح المشارق لابن الملك {فَمَنَّ اللَّهُ} أي أنعم {عَلَيْنَا} بالرحمة والتوفيق للحق.
(9/162)
يقول الفقير : الظاهر أن المن والإنعام ءنما هو بالجنة ونعيمها كما دل عليه قوله : {وَوَقَـاـانَا عَذَابَ السَّمُومِ} أي حفظنا من عذاب النار النافذة في المسام أي نقب الجسد كالمنخر والفم والأذن نفوذ السموم وهي الريح الحارة التي تدخل المسام فأطلق على جهنم لنفوذ حرها في المسام كالسموم وفي المفردات السموم الريح الحارة التي تؤثر تأثير السم وقال البقلي : هذا شكر من القوم في رؤية الحق سبحانه أي كنا مشفقين من الفراق في الدنيا والبعد في يوم التلاق فمن الله علينا ووقانا من ذلك العذاب المحرق المفني هذا في أوائل الرؤية أما إذا استقاموا في الوصال نسوا ما كان فيهم من ذكر الإشفاق وغيره والإشفاق وصف الأرواح والخوف صفة القلوب وقال الجليد قدس سره الإشفاق أرق من الخوف والخوف اصلب وقال بعضهم : الإشفاق للأولياء والخوف لعامة المؤمنين وقال الواسطي قدس سره لاحظوا دعاءهم وشفقتهم ولم يعلموا أن الوسائل قطعت المتوسلين عن حقيقة وحجبت من إدراك من لا وسيلة إلا به {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ} أي من قبل لقاء الله والمصير إليه يعنون في الدنيا {نَدْعُوهُ} أي نعبده أو نسأله الوقاية {إِنَّه هُوَ الْبَرُّ} أي المحسن {الرَّحِيمُ} الكثير الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب قال الراغب البر خلاف البحر وتصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوسع في فعلي الخير وينسب ذلك تارة إلى الله تعالى نحو أنه هو البر الرحيم وإلى العبد تارة فيقال بر العبد ربه أي توسع في طاعته فمن الله الثواب ومن العبد الطاعة وذلك ضربان : ضرب في الاعتقاد وضرب في الأعمال الفرائض والنوافل وبر الوالدين التوسع في الإحسان إليهما وضده العقوق قال في شرح الأسماء : من عرف أنه هو البر الرحيم رجع إليه بالرغبة في كل حقير وعظيم فكفاه ما أهمه ببره ورحمته وقد قال في حكم ابن عطاء : متى أعطاك أشهدك بره وإحسانه وفضله ومتى منعك أشهدك قهره وجلاله وعظمته فهو في كل ذلك متعرف إليك تارة بجماله وأخرى بجلاله ومقبل بوجود لطفه عليك اذوجه لك ما يوجب توجهك إليه ولكن إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه إذ لو فهمت عنه كنت تشكره على ما واجهك منه فقد قال ابو عثمان
197
المغربي قدس سره الخلق كلهم مع الله في مقام الشكر وهم يظنون أنهم في مقام الصبر وقال ابراهيم الخواص قدس سره : لا يصح الفقر للفقير حتى يكون فيه خصلتان : إحداهما الثقة بالله والثانية الشكر له فيما روي عنه في الدنيا مما ابتلي به غيره ولا يكمل الفقير حتى يكون نظر الله له في المنع أفضل من نظره له في العطاء وعلامة صدقه في ذلك أن يجد للمنع من الحلاوة ما لا يجد للعطاء والتقرب باسم البر تعلقاً وجود محبته لإحسانه وترك التدبير معه لما توجه من إكرامه وكثرة الدعاء كما قال : إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم وتخلقاً بالنفع لعباد الله والشفقة عليهم فإن البر هو الذي لا يؤذي الذر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
وفي التأويلات النجمية وأقبل بعضهم يعني القلب والروح على بعض يعني النفس يتساءلون قالوا : إنا كنا قبل أي قبل السير والسلوك في أهلنا أي في عالم الإنسان مشفقين أي خائفين من سموم الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية والشهوات الدنيوية فإنها مهب سموم قهر الحق فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم أي سموم قهره ولولا فضله ما تخلصنا منه بجهدنا وسعينا بل إنا كنا من قبل ندعوه ونتضرع إليه بتوفيقه في طلب النجاة وتحصيل الدرجات إنه هو البر بمن يدعوه الرحيم بمن ينيب إليه {فَذَكِّرْ} قال ابن الشيخ لما بين الله : إن في الوجود قوماً يخافون الله ويشفقون في أهلهم والنبي عليه السلام مأمور بتذكير من يخاف الله فرع عليه قوله فذكر بالفاء.
وقال الكاشفي : آورده اندكه جماعتى مقتسمان برعقبات مكه حضرت رسول را عليه السلام نزد قبائل عرب بكهانت وجنون وسحر وشعر منسوب ميساختند وآن حضرت اندوهناك ميشد آيت آمدكه فذكر أي فأثبت على ما أنت عليه من تذكير المشركين بما أنزل إليك من الآيات والذكر الحكيم ولا تكثرت بما يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل {فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} نعمت رسمت بالتاء ووقف عليها بالهاء أين كثري وبو عمرو والكسائي ويعقوب أي بسب إنعامه بصدق النبوة وزيادة العقل.
(9/163)
وقال الكاشفي : بإنعام روردكار خود يعني بحمد الله ونعمته أو ما أنت بكاهن حال كونك منعماً عليك به فهو حال لازمة من المنوي في كاهن لأنه عليه السلام لم يفارق هذه الحال فتكون الباء للملابسة والعامل هو معنى النفي ويجوز أن يجعل الباء للقسم {بِكَاهِنٍ} كما يقولون قاتلهم الله وهو من يبتدع القول ويخبر عما سيكون في غد من غير وحي وفي المفردات الكاهن الذي يخبر بالاخبار الماضية الخفية بضرب من الظن كالعراف الذي يخبر بالاخبار المستقبلة على نحو ذلك ولكون هاتين الصناعتين مبنيتين على الظن الذي يخطىء ويصيب قال عليه السلام : من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما قال فقد كثر بما أنزل الله على محمد ويقال كهن فلان كهانة إذا تعاطى ذلك وكهن إذا تخصص بذلك وتكهن تكلف ذلك وفي القاموس كهن له كجعل ونصر وكرم كهانة بالفتح وتكهن تكهناً وتكهناً قضى له بالغيب فهو كاهن والجمع كهنة وكهان وحرفته الكهانة بالكسر انتهى قال ابن الملك في قوله عليه السلام : من سأل عرافاً لم تقبل صلاته أربعين ليلة العراف من يخبر بما أخفى من المسروق أو الكاهن وأما من سألهم لاستهزائهم أو لتكذيبهم فل يلحقه ما ذكر في الحديث بقرينة حديث آخر من صدق كاهناً لم تقبل منه صلاة أربعين ليلة فإن قلت هذا
198
مخالف لقوله عليه السلام : من صدق كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد قلت : اللائح لي في التوفيق أن يقال مصدق الكاهن يكون كافراً إذا اعتقد أنه عالم بالغيب وأما إذا اعتقد أنه ملهم من الله أو أن الجن يلقون مما يسمعون من الملائكة فصدقه من هذا فلا يكون كافراً انتهى كلام ابن الملك وفي هدية المهديين من قال أعلم المسروقات يكفر ولو قال أنا أخبر عن أخبار الجن يكفر أيضاً لأن الجن كالإنس لا يعلم غيباً {وَلا مَجْنُونٍ} وهو من به جنون وهو زوال العقل أو فساده وفي المفردات الجنون الحائل بين النفس والعقل وفي التعريفات الجنون هو اختلاف العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادراً وهو عند أبي يوسف إن كان حاصلاً في أكثر السنة فمطبق وما دونه فغير مطبق.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن طبيعة الإنسان متنفرة من حقيقة الدين مجبولة على حب الدنيا وزينتها وشهواتها وزخارفها والجوهر الروحاني الذي جبل على فطرة الإسلام في الإنسان مودع بالقوة كالجوهر في المعدن فلا يستخرج إلى الفعل إلا بجهد شهيد وسعي تام على قانون الشريعة ومتابعة النبي عليه السلام وإرشاده وبعده بإرشاد ورثة علمه وهم العلماء الربانيون الراسخون في العلم من المشايخ المسلكين وفي زمان كل واحد منهم والخلق مع دعوى إسلامهم ينكرون على سيرهم في الأغلب ويستبعدون ترك الدنيا والعزلة والانقطاع عن الخلق والتبتل إلى الله وطلب الحق إلا من كتب الله في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وهو الصدق في الطلب وحسن الإرادة المنتجة من بذر يحبهم ويحبونه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وإلا فمن خصوصية طبيعة الإنسان أن يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية وإن كانوا يصلون ويصومون ويزعمون أنهم مسلمون ولكن بالتقليد لا بالتحقيق اللهم إلا من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه انتهى.
يقول الفقير في الآية تشريف للنبي عليه السلام جداً حيث أن الله تعالى ناب عنه في الجواب ورد الكافرين بنفسه وهو أيضاً تصريح بما علم التزاماً فإن الأمر بالتذكير الذي هو متعلق بالوحي وإن كان مقتضاء كمال العقل والصدق في القول يقتضي أن لا يكون عليه السلام كاهناً ولا مجنوناً فهذا النفي بالنسبة إلى ظاهر الحال فإنه لا يخلو من دفع الوهم وتميكين التصديق ونظيره كلمة الشهادة فإن قوله لا إله نفي للوجود التوهم الذي يتوهمونه وإلا فلا شيء غير الإثبات فافهم والله المعين :
سيدى كزو هم قدرش بر ترست
خاك ايش رخ را تاج سرست
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 21 من صفحة 199 حتى صفحة 209
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
{أَمْ يَقُولُونَ} بلكه مى كويند درحق تو ام المكررة في هذه الآيات منقطعة بمعنى بل والهمزة ومعنى الهمزة فيها الإنكار ونقل البغوي عن الخليل أنه قال ما في سورة الطور من ذكر أم كله استفهام وليس بعطف يعني ليست بمنقطعة وقال في برهان القرآن اعا دام خمس عشرة مرة وكلها إلزامات وليس للمخاطبين بها عنها جواب وفي عين المعاني أم ههنا خمسة عشر وكله استفهام أربعة للتحقيق على التوبيخ بمعنى بل أم يقولون شاعر أم يقولون تقوله وقد قالوهما وأم هم قوم طاغون وأم يريدون كيداً وقد فعلوهما وسائرهما للإنكار وفي فتح الرحمن جميع ما في هذه السورة من ذكر أم استفهام غير عاطفة واستفهم تعالى مع علمه بهم تقبيحاً عليهم وتوبيخاً لهم كقول الشخص لغيره : أجاهل
199
(9/164)
أنت مع علمه بجهله {شَاعِرٌ} أي هو شاعر وقد سبق معنى الشعر والشاعر في أواخر سورة يس مفصلاً قال الإمام المرزوقي شارح الحماسة تأخر الشعراء عن البلغاء لتأخر المنظوم عند العرب لأن ملوكهم قبل الإسلام وبعده يتحجون بالخطابة ويعدونها أكمل أسباب الرياسة ويعدون الشعر دناءة ولأن الشعر كان مكسبة وتجارة وفيه وصف اللئيم عند الطمع بصفة الكريم والكريم عند تأخر صلته بوصف اللئيم ومما يدل على شرف النثر أن الإعجاز وقع في النثر دون النظم لأن زمن النبي عليه السلام زمن الفصاحة كذا ذكره صاحب روضة الاخبار فإن قلت فإذا كان الإعجاز وقعاً في النثر فكيف قالوا في حق القرآن شعر وفي حقه عليه السلام شاعر قلت ظنوا أنه عليه السلام كان يرجو الأجر على التبليغ ولذا قال تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر فكان عليه السلام عندهم بمنزلة الشاعر حيث أن الشاعر إنما يستجلب بشعره في الأغلب المال وأيضاً لما كانوا يعدون الشعر دناءة حملوا القرآن عليه ومرادهم عدم الاعتداد به فإن قلت كيف كانوا يعدون الشعر دناءة وقد اشتهر افتخارهم بالقصائد حتى كانوا يعقلونها على جدار الكعبة قلت : كان ذلك من كمال عنادهم أو جرياً على مسلك أهل الخطابة من الأوائل فاعرف فإن هذا زائد على ما فصل في سورة يس وقد لاح بالبال في هذا المقام قال ابن الشيخ قوله أم يقولون الخ من باب الترقي إلى قولهم فيه أنه شاعر لأن الشاعر أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقد قيل أحسن الشعر أكذبه وكانوا يقولون : لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره وإنا نصبر ونتربص موته وهلاكه كما هلك من قبله من الشعراء وحينئذ تتفرق أصحابه وأن أباه مات شاباً ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه وذلك قوله سبحانه وتعالى {نَّتَرَبَّصُ بِه رَيْبَ الْمَنُونِ} التربص الانتظار والريب ما يقلق النفوس أي يورث قلقاً واضطراباً لها من حوادث الدهر وتقلبات الزمان فهو بمعنى الرائب من قولهم رابه الدهر وأرابه أي أقلقه وقيل سميت ريباً لأنها لا تدوم على حال كالريب وهو الشك فإنه لا يبقى بل هو متزلزل وفي المفردات ريب الدهر صروفه وإنما قيل ريب لما يتوهم فيه من المنكر وفيه أيضاً الريب أن تتوهم بالشيء أمراً ما فينكشف عما توهمته ولهذا قال تعالى : لا ريب فيه والإرابة أن تتوهم فيه أمراً فلا ينكشف عما تتوهمه وقوله تتربص به ريب المنون سماه ريباً لا من حيث أنه مشكك في كونه بل من حيث أنه يشكك في وقت حصوله فالإنسان أبداً في ريب المنون من جهة وقته لا من جهة كونه وعلى هذا قال الشاعر :
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
الناس قد علموا أن لا بقاء لهم
لو أنهم عملوا مقدار ما علموا
انتهى والمنون الدهر والموت والكثير لامتنان كالمنونة والتي تزوجت لما لها فهي تمن على زوجها كالمنانة انتهى وقيل في الآية المنون الموت وربيه أوجاعه وهو في الأصل فعول من منه إذا قطعه لأن الدهر يقطع القوى والموت يقطع الأماني والعمر وفي المفردات قيل : المنون للمنية لأنها تنقص العدد وتقطع المدد انتهى وريب منصوب على أنه مفعول به والمعنى بل أيقولون ننتظر به نوائب الدهر فيهلك كما هلك غيره من الشعراء زهير والنابغة وطرفة
200
(9/165)
وغيرهم أو ننتظر أوجاع الموت كما مات أبوه شاباً وذلك كما تتمنة الصبيان في المكتب موت معلمهم ليتخلصوا من يده فويل لمن أراد هلام معلمه في الدين وكان محروماً من تحصيل اليقين {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي والأمر بالتربص للتهديد قال الراغب : التربص انتظار الشخص سلعة كان يقصد بها غلاء أو رخصاً أو أمراً ينتظر زواله أو حصوله انتهى وفيه عدة كريمة بإهلاكهم وجاء في التفسيران جميعهم ماتوا قبل رسول الله تعالى عليه وسلم وقد وقع في زماننا أن بعض الوزراء أهان بعض الأولياء فأجلاه وكان ينتظر هلاكه فهلك قبله هلاكاً هائلاً حيث قتل وقتل معه ألوف وفي الآية إشارة إلى التربص في الأمور ودعوة الخلق إلى الله والتوكل على الله فيما يجري على عباده والتسليم لأحكامه في المقبولين والمردودين إذ كل يجري على ما قضاه الله {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَـامُهُم} أي دع تفوههم بهذه الأقوال الزائغة المتناقضة وفيهم ما هو أقبح من ذلك وهو أنهم سفهاء ليسوا من أهل التمييز والأحلام العقول قال الراغب : وليس الحلم في الحقيقة هو العقل لكن فسروه بذلك لكونه من مسببات العقل والحلم ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب {بِهَـاذَآ} أي بهذا التناقض في المقال فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر في الأمور والمجنون مغطى عقله مختل فكره والشاعر ذو كلام موزون متسق مخيل فكيف يجتمع هؤلاء في واحد وأمر الأحلام بذلك مجاز عن أدائها إلى التناقض بعلاقة السببية كقوله أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا لا أنه جعلت الأحلام آمرة على الاستعارة المكنية وفي الحواشي جعلت الحلوم آمرة مجازاً ولضعفها جمعت جمع القلة قال في القاموس : الحلم بالضم وبضمتين الرؤيا والجمع أحلام والحلم بالكسر الأناة والعقل والجمع أحلام وحلوم ومنه أم تأمرهم أحلامهم وهو حليم والجمع حلماء وأحلام انتهى.
وكان قريش يدعون أهل الأحلام والنهي فأزرى الله بعقولهم حين لم تثمرهم معرفة الحق من الباطن وقيل لعمرو بن العاص رضي الله عنه : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقول فقال تلك عقول كادها الله أي لم يصحبها التوفيق وفي الخبر أن الله لما خلق العقل قال له : ادبر فأدبر ثم قال له : أقبل فأقبل.
يعني كفت بوى شت بركن شت بركرد س كفت روي بازكن روي بازكرد.
فإني لم أخلق خلقاً أكرم علي منك بك أعبد وبك أعطي وبك آخذ قال ابو عبد الله المغربي لما قال له ذلك تداخله العجب فعوقب من ساعته فقيل له : التفت فلما التفت نظر إلى ما هو أحسن منه فقال : من أنت؟ قال أنا الذي لا نقوم إلا بي قال : ومن أنت؟ قال التوفيق.
وفي المثنوي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
جز عنايت كي كشايد شم را
جز محبت كي نشاند خشم را
جهد بي توفيق خودكس را مباد
در جهان والله أعلم بالرشاد
روي أن صفوان بن أمية فخر على رجل فقال : أنا صفوان بن أمية بن خلف ابن فلان فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأرسل إليه وغضب فلما جاء قال : ثكلتك أمك ما قلت فهاب عمر أن يتكلم فقال عمر : إن كان لك تقوى فإن لك
201
كرماً وإن كان لك عقل فإن لك أصلاً وإن كان لك خلق حسن فإن لك مروءة وإلا فأنت شر من الكلب {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} مجاوزون الحدود في المكابرة والعناد مع ظهور الحق لا يحومون حول الرشد والسداد ولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب الخارجة عن دائرة العقول والظنون.
قال ابن الشيخ : ثم قيل لا بل ذلك من طغيانهم لأنه أدخل في الذم من نقصان العقل وأبلغ في التسلية لأن من طغى على الله فقد باء بغضبه {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} هو ترق إلى ما هو إبلغ في كونه منكراً وهو أن ينسبوا إليه عليه السلام أنه يختلق القرآن من تلقاء نفسه ثم يقول : إنه من عند الله افتراء عليه والتقول تكلف القول ولا يستعمل إلا في الكذب والمعنى اختلق القرآن من تلقاء نفسه وليس الأمر كما زعموا {بَل لا يُؤْمِنُونَ} البتة لأن الله ختم على قلوبهم وفي الإرشاد فلكفرهم وعنادهم يرمونه بهذه الأباطيل التي لا يخفى على أحد بطلانها كيف لا وما رسول الله إلا واحد من العرب أتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم وفي كون ذلك مبنياً على العناد إشارة إلى أنهم يعلمون بطلان قولهم وتناقضه {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} أي إذا كان الأمر كما زعموا من أنه كاهن أو مجنون أو شاعر ادعى الرسالة وتقول القرآن من عند نفسه فليأتوا بكلام مثل القرآن في النعوت التي استقل بهم من حيث النظم ومن حيث المعنى قال في التكملة : المشهور في القرآن بحديث مثله بالتنوين فيكون الضمير راجعاً إلى القرآن.
(9/166)
ـ روي ـ عن الجحدري أنه قرأ بحديث مثله بالإضافة فيكون الضمير راجعاً إلى النبي عليه السلام {إِن كَانُوا صَـادِقِينَ} فيما زعموا فإن صدقهم في ذلك يستدعى قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه السلام في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والإشعار وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الأنياب به ودواعي الأمر بذلك.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
واعلم أن الإعجاز إما أن يتعلق بالنظم من حيث فصاحته وبلاغته أو يتعلق بمعناه ولا يتعلق به من حيث مادته فإن مادته ألفاظ العرب وألفاظه ألفاظهم قال تعالى : قرآناً عربياً تنبيهاً على اتحاد العنصر وأنه منظم من عين ما ينظمون به كلامهم والقرآن معجز من جميع الوجوه لفظاً ومعنى ومتميز من خطبة البلغاء ببلوغه حد الكمال في اثني عشر وجهاً إيجاز اللفظ والتشبيه الغريب والاسعارة البديعة وتلاؤم الحروف والكلمات وفواصل الآيات وتجانس الألفاظ وتعريف القصص والأحوال وتضمين الحكم والأسرار والمبالغة في الأسماء والأفعال وحسن البيان في المقاصد والأغراض وتمهيد المصالح والأسباب والأخبار عما كان وما يكون {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ} من لابتداء الغاية أي أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع والشكل العجيب من غير محدث ومقدر وقيل أم خلقوا من أجل لا شيء من عبادة وجزاء فمن للسببية.
وقال الكاشفي : آيا آفريده شده اند ايشان بى يزى يعني بى در ومادر مراد آنست كه ايشان آدمى انداز آدميان زاده شده نه جمادندكه تعقل خود نكند {أَمْ هُمُ الْخَـالِقُونَ} لأنفسهم فلذلك لا يعبدون الله تعالى {أَمْ خَلَقُوا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَا بَل لا يُوقِنُونَ} أي إذا سئلوا من خلقكم وخلق السموات والأرض
202
قالوا الله وهم غيره موقنين بما قالوا وإلا لما أعرضوا عن عبادته تعالى والإيقان بي كمان شدن {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآاـاِنُ رَبِّكَ} جمع خزانة بالكسر وهو مكان الخزن يقال خزن المال أحرزه وجعله في الخزانة وهو على حذف المضاف أي خزائن رزقه ورحمته حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ويمسكوها عمن شاءوا أي أعندهم خزائن علمه وحكمته حتى يختاروا لها من اقتضت الحكمة اختياره {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآاـاِنُ} أي الغالبون على الأمور يدبرونها كيفما شاءوا حتى يدبروا أمر الربوبية وبينوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم وفي عين المعاني أي الأرباب المسلطون على الناس فيجبرونهم على ما شاءوا من السطر كأنه يخط للمسلط عليه خطا لا يجاوزه وفي كشف الأسرار المسيطر المسلط القاهر الذي لا يكون تحت أمر أحد ونهيه ويفعل ما يشاء يقال تصيطر عى فلان بالسين والصاد أي سلط انتهى قال في القاموس : المسيطر الرقيب الحافظ والمتسلط والسطر الصف من الشيء الكتاب والشجر وغيروا الخط والكتابة ويحرك في الكل والصطر بالصاد ويحرك السطر وتصيطر تسيطر
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/167)
{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} منصوب إلى السماء وبالفارسية آيامر ايشانراست نردبانى كه بدان با آسمان بروند قال الراغب : السلم ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل إسماً لما يتوصل به إلى كل شيء رفيع كالشيب قال ابن الشيخ لما أبطل من الاحتمالات العقلية جمية ما يتوهم أن ببينوا عليه تكذيبهم وإنكارهم لم يبق لهم إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم وقال بل ألهم سلم {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} ضمن يستمعون معنى الصعود فاستعمل بفي وفيه متعلق بمحذوف هو حال من فاعل يستمعون أي يستمعون صاعدين في ذلك السلم ومفعول يستمعون محذوف أي إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلخوا ما هو كائن من الأمور التي يتقولون فيها رجماً بالغيب ويعلقون بها أطماعهم الفارغة وفي كشف الأسرار فيه أي عليه كقوله في جذوع النخل أي عليها {فَلْيَأْتِ} س ببايد كه بيارد.
فالباء الآتي للتعدية وهو أمر تعجيز {مُسْتَمِعُهُم} شنونده ايشان كه بر آسمان برفتند ويغام غيب شنيدند {بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} بحجة واضحة تصدق استماعه وبالفارسية حجتي روشن كه كواه باشد بر صدق استماع وى {أَمْ لَهُ الْبَنَـاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} هذا إنكار عليهم حيث جعلوا الله ما يكرهون أو تسفيه لهم وتركيك لعقولهم وإيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعد من العقلاء فضلاً عن الترقي بروحه إلى عالم الملكوت والتطلع على الأسرار الغيبية وذلك أن من جعل خالقه أدون حالاً منه بأن جعل له ما لا يرضى لنفسه كما قال تعالى : وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم فإنه لم يستبعد منه أمثال تلك المقالات الحمقاء والالتفات إلى الخطاب لتشديد ما في أم المنقطعة من الإنكار والتوبيخ {أَمْ تَسْـاَلُهُمْ أَجْرًا} رجوع إلى خطابه عليه السلام وإعراض عنهم أي بل أتسألهم أجراً على تبليغ الرسالة تاتاوان زده شدند {فَهُم} لأجل ذلك {مِّن مَّغْرَمٍ} من التزام غرامة فادحة فالمغرم مصدر ميمي بمعنى الغرم والمضاف مقدر وفي الكشاف المغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه وفي الفتح الرحمن المغرم ما يلزم أداؤه وفي المفردات الغرم
203
ما ينوب الإنسان من ماله من ضرب بغير جناية منه وكذا المغرم والغريم يقال لمن له الدين ولمن عليه الدين انتهى {مُّثْقَلُونَ} محملون الثقل وبالفارسية كران بارشوند فلذلك لا يتبعونك يعني لا عذر لهم أصلاً والدين لا يباع بالدنيا :
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
زيان ميكند مرد تفسيردان
كه علم وادب ميفروشد بنان
فالأجر على الله تعالى كما قال إن أجرى إلا على الله وقد سبق تحقيقه في مواضع متعددة {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ} أي اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ما فيه حتى يتكلموا في ذلك بنفي أو إثبات.
وقال الكاشفي : س ايشان مى نويسند ازان كه خبر يغمبر عليه السلام از امر قيامت وبعث باطلست يا كتابت كنندكه موت توكى خوهد بود {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} أي لا يكتفون بهذه المقالات الفاسدة ويريدن مع ذلك أن يكيدوا بك كيداً وإساءة وهو كيدهم برسول الله عليه السلام في دار الندوة ومكرهم بالقتل والحبس والإخراج فإن الكيد هو الأمر الذي يسوء من نزل به سواء كان في نفسه حسناً أو قبيحاً فالستفهام في المعطوف للتقرير وفي المعطوف عليه للإنكار وقال بعضهم : الكيد ضرب من الاحتيال وفي التعريفات الكيد إرادة مضرة الغير خفية وهو من الخلق الحيلة السيئة ومن الله التدبير بالحق لمجازاة أعمال الخلق وقال سعدي المفتي : الظاهر أنه من الاخبار بالغيب فإن السورة مكية وذلك الكيد كان وقوعه ليلة الهجرة فإن قيل فليكن نزول الطور في تلك الليلة قلنا قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نزل بعدها بمكة تبارك الملك وغيرها من السور {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} القصر إضافي أي هم الذين يحيق بهم كيدهم أو يعود عليهم وباله لا من أرادوا أن يكيدوه فإنه المظفر الغالب عليهم قولاً وفعلاً حجة وسيفاً أو هم المغلوبون في الكيد من كايدته فكذته والمراد ما أصالهم يوم بدر من القتل يعني عند انتهاى سنين عدتها عدة كلمة أم وهي خمس عشرة فإن غزوة بدر كانت في الثانية من الهجرة وهي الخامسة عشرة من النبوة {أَمْ لَهُمْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ} بعينهم ويحسرهم من عذابه {سُبْحَـانَ اللَّهِ} نزهه تعالى {عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي عن شراكهم فما مصدرية أو عن شركة ما يشركونه فما موصول والمضاف مقدر وكذا العائد :
بر ذيل عزتش ننشيند غبار شرك
با وحدتش كسى دم شركت ه سان زند
هركاه افكنند بوصفش خيال را
دست كمالش آتش غيرت دران زند
(9/168)
{وَإِن يَرَوْا كِسْفًا} أي قطعة {مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطًا} عليهم لتعذيبهم وفي عين المعاني قطعة من العذاب أو من السماء أو جانباً منها من الكسف وهو التغطية كالكسوف وفي القاموس الكسفة بالكسر القطعة من الشيء والجمع كسف وكسف وفي المختار وقيل الكسف والكسفة واحد {يَقُولُوا} من فرط طغيانهم وعنادهم {سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} غليظ أو متراكب أي هم في طغيان بحيث لو أسقطناه عليهم حسبما قالوا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً لقالوا : هذا سحاب تراكم أي ألقى بعضها على بعض يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
وفي التأويلات النجمية يعني أنهم وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها كما قال تعالى : ولو فتحنا عليهم باباً
204
من السماء حتى شاهدوا بالعين لقالوا إنما سكرت أبصارنا وليس هذا عياناً ومشاهدة {فَذَرْهُمْ} س دست بدار از ايشان يعني حرب مكن با ايشان كه هنوز بقتال مأمور نيستى ومكافات ايشان بكذار {حَتَّى يُلَـاقُوا} يعاينوا وبالفارسي تا وقتى كه بينند معاينه {يَوْمَهُمُ} مفعول به لا ظرف {الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ} أي يهلكون وبالفارسي هلاك كرده شوند وهو على البناء للمفعول من صعقته الصاعقة أو من أصعقته أماتته وأهلكته قال في المختار : صعق الرجل بالكسر صعقة غشى عليه وقوله تعالى فصعق من في السموات ومن في الأرض أي مات وهو يوم يصيبهم الصعقة بالقتل يوم بدر لا النفخة الأولة كما قيل إذ لا يصعق بها إلا من كان حياً حينئذٍ قال ابن الشيخ المقصود من الجواب عن الاقتراح المذكور بيان أنهم مغلوبون بالحجة مبهوتون وإن طعنهم ذلك ليس إلا للعناد والمكابرة حتى لو أجبناهم في جميع مقترحاتهم لم يظهر منهم إلا ما يبتنى على العناد والمكابرة فلذلك رتب عليه قوله فذرهم بالفاء {يَوْمَ لا يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـاًا} أي شيء من الإغناء في رد العذاب وبالفارسية روزى كه نفع نكند وباز ندارد از ايشان مكر ايشان يزى را از عذاب.
وهو بدل من يومهم {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} من جهة الغير في رفع العذاب عنهم {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي وإن لهؤلاء الظلم أبي جهل وأصحابه {عَذَابًا} آخر {دُونَ ذَالِكَ} غير ما لاقوه من القتل أي قبله وهو القحط الذي أصابهم سبع سنين كما مر في سورة الدخان أو وراءه وهو عذاب القبر وما بعده من فنون عذاب الآخرة {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} إن الأمر كما ذكر لفرط جهلهم وغفلتهم أو لا يعلمون شيئاً أصلاً وفيه إشارة إلى أن منهم من يعلم ذلك وإنما يصر على الكفر عناداً فالعالم العامل والجاهل سواء فعلى العاقل أن يحصل علوم الآخرة ويعمل بها قال بعض الكبار : العلم علمان علم تحتاج منه مثل ما تحتاج من القوت فينبغي الاقتصاد والاقتصار على قدر الحاجة منه وهو علم الأحكام الشرعية فلا ينبغي النظر فيه إلا بقدر ما تمس الحاجة إليه في الوقت فإن تعلق تلك العلوم إنما هو بالأحوال الواقعة في الدنيا لا غير وعلم ليس له حد يوقف عنده وهو العلم المتعلق بالله ومواطن القيامة إذ العلم بمواطنها يؤدي العالم بها إلى الاستعداد لكل موطن بما يلق به لأن الحق تعالى بنفسه هو المطالب في ذلك اليوم بارتفاع الوسائط وهو يوم الفصل فينبغي للإنسان العاقل أن يكون على بصيرة من أمره معداً للجواب عن نفسه وعن غيره في المواطن التي يعلم أنه يطلب منه الجواب فيها فلهذا ألحقنا علم مواطن القيامة بالعلم بالله انتهى وفي الآية إثبات عذاب القبر فإن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره ويرد الحياة إليه ويجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه وما يجيب به ويفهم ما أتاه من ربه وما أعد له من كرامة وهوان ولقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أخبر عليه السلام بفتنة الميت في قبره وسؤال منكر ونكير وهما الملكان : يا رسول الله أيرجع إلي عقلي؟ قال : نعم قال : إذا أكفيكهما والله لئن سألاني لأسألنهما وأقول لهما أنا ربي الله فمن ربكما أنتما وأنكرت الملحدة ومن نمذهب من الإسلاميين بمذهب الفلاسفة عذاب القبر وأنه ليس له حقيقة وقد رؤي أبو جهل
205
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
في جانب مصرعه في بدر أنه خرج من الأرض وفي عنقه سلسلة من نار يمسك أطرافها أسود وهو يطلب الماء حتى أدخله الأسود في الأرض بجذب شديدة واختلاف أحوال العصاة في عذاب القبر بحسب اختلاف معاصيهم وأكثر عذاب القبر في البول فلا بد من التنزه عنه وسمع البهائم عذاب القبر وإنما لم يسمع من يعقل من الجن والإنس وكان عليه السلام يدعو ويقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال وينجي المؤمن من أهوال القبر وفتنته وعذابه خمسة أشياء :
الأول : الرباط في سبيل الله ولو يوماً وليلة.
والثاني : الشهادة بأن يقتل في سبيل الله.
والثالث : سورة الملك فإن من قرأها كل ليلة لم يضره الفتان.
(9/169)
الرابع : الموت مبطوناً فإنه لا يعذب في قبره والمراد بالمبطون صاحب الإسهال والاستطلاق.
والخامس : الوقت ففي الحديث : من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وفي فتنة القبر نسأل الله سبحانه أن يعصمنا من الزلل ويحفظنا من الخلل ويجعلنا في القبر والقيامة من الآمنين ويبشرنا عند الموت برحمة منه وفضل مبين بجاه النبي الأمين والأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} بإمهالهم إلى يومهم الموعود وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان والشدائد ولا تكن في ضيق مما يمكرون.
يقول الفقير : أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بالصبر لحكمه لا لأذى الكفار وجعفائهم تسهيلاً للأمر عليه لأن في الصبر لحكمه حلاوة ليست في الصبر للأذى والجفاء وإن كان الصبر له صبراً للحكم فاعرف {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي في حفظنا وحمايتنا بحيث نراقبك ونكلأك وجمع العين لجمع الضمير وًّلإيذان بغاية الاعتناء في الحفظ وبكثرة أسباره إظهاراً للتفاوت بين الحبيب والكليم حيث أفرد فيه العين والضمير كما قال ولتصنع على عيني.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
وفي التأويلات النجمية أي : لا حكم في الأزل فإنه لا يتغير حكمنا الأزلي إن صبرت وإن لم تصبر ولكن إن صبرت على قضائي فقد جزيت ثواب الصابرين بغير حساب فإنك بأعيننا نعينك على الصبر لأحكامنا الأزلية كما قال تعالى : واصبر وما صبر إلا بالله وفي عرائس البيان للبقلي ذكر قوله ربك بالغيبة لأنه في مقام تفرقة العبودية والرسالة تقتضي حالة المشقة ولذلك أمره بالصبر ولما ثقل عليه الحال نقله من الغيبة إلى المشاهدة بقوله : فإنك بأعيننا أي نحفظك من الإعوجاج والتغير في جريان أحكامنا عليك حتى تصير مستقيماً بنا لنا فينا ونحن نراك بجمبع عيون الصفات والذات بنعت المحبة والعشق ننظر بها إليك شوقاً إليك وحراسة لك نحرسك بها حتى لا يغيرك غيرها من الحدثان عنا ونرفع بها عنك طوارق قهرنا فإنك في مواضع عيون محبتنا وأنت في أكناف لطفنا انظر كيف ذكر الأعين وليس في الوجوه أشرف من العيون ومن احتصن بالله كان في حفظه ومن كان في حفظه كان في مشاهدته ومن كان في مشاهدته استقام معه ووصل إليه ومن وصل إليه انقطع عما سواه ومن انقطع عما سواه عاش معه عيش الربانيين قال بعضهم : كنا مع ابراهيم بن أدهم قدس سره فأتاه الناس يا أبا إسحق إن الأسد وقف على طريقنا فأتى ابراهيم إلى الأسد وقال له : يا أبا الحارث إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أمرت به وإن لم تؤمر بشيء فتنح عن طريقنا فأدبر الأسد وهو يهمهم والهمهمة
206
ترديد الصوت في الصدر فقال ابراهيم : وما على أحدكم إذا أصبح وأمسى أن يقول : اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام واحفظنا بركنك الذي لا يرام واحرمنا بقدرتك علينا فلا نهلك وأنت ثقتنا ورجاؤنا وقال الخواص قدس سره : كنت في طريق مكة فدخلت إلى خربة بالليل وإذا فيها سبع عظيم فخفت فهتف بي هاتف أثبت فإن حولك سبعين ألف ملك يحفظونك يقول الفقير : يحتمل أن يكون هذا الحفظ الخواصي بسبب بعض الأدعية وكان يلازمه وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن من قال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثلاث مرات وقرأ ثلاث آيات آخر سورة الحشر هو الله الذي لا إله إلا هو إلى آخر السورة حين يصبح وكل الله به سبعين ألف ملك يحرسونه وكذلك إذا قرأها حين يمسي وكل الله به سبعين ألف ملك يحرسونه ويحتمل أن يكون ذلك بسبب أن الخواص من أحباب الله والحبيب يحرس حبيبه كما روي أنه ينزل على قبر النبي عليه السلام كل صباح سبعون ألف ملك ويضربون أجنحتهم عليه ويحفظونه إلى المساء ثم ينزل سبعون ألفاً غيرهم فيفعلون به إلى الصباح كما يفعل الأولون وهكذا إلى يوم القيامة
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
(9/170)
{وَسَبِّحْ} أي نزهه تعالى عما لا يليق به حال كونك ملتبساً {بِحَمْدِ رَبِّكَ} على نعمائه الفائتة للحصر {حِينَ تَقُومُ} من أي مقام قمت قال سعيد بن جبير وعطاء أي قل حين تقوم من مجلسك سبحانك اللهم وبحمدك أي سبح الله ملتبساً بحمده فإن كان ذلك المجلس خيراً ازددت إحساناً وإن كان غير ذلك كان كفارة له وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه وهو بالغين المعجمة والطاء المهملة الكلام الرديء القبيح واختلاط أصوات الكلام حتى لا يفهم فقال قبل أن يقوم : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك كان كفارة لما بينهما وفي فتح القريب فقد غفر له يعني من الصغائر ما لم تتعلق بحق آدمي كالغيبة وقال الضحاك والربيع : إذا قمت إلى الصلاة فقل : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى ولا إله غيرك وقال الكلبي : هو ذكر الله باللسان حين يقوم من الفراش إلى أن يدخل في الصلاة لما روي عن عاصم بن حميد أنه قال : سألت عائشة رضي الله عنها : بأي شيء يفتتح رسول الله عليه السلام قيام الليل؟ قالت : كان إذا قام كبر عشرةً وحمد الله عشراً وسبح وهلل عشراً واستغفر عشراً وقال : اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أفراد بعض الليل بالتسبيح والصلاة لأن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما يلوح به تقديمه على الفعل.
يقول الفقير : ولأن الليل زمان المعراج والصلاة هو المعراج المعنوي فمن أراد أن يلتحق برسول الله عليه السلام في معراجه فليصل بالليل والناس نيام أي في جوفه حين غفلة الناس ولشرف ذلك الوقت كما معراجه عليه السلام فيه لا قرب الصباح لأن في قربه قد يستيقظ بعض النفوس للحاجات وإن كان السحر إلا على مماله خواص كثيرة {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} بكسر الهمزة مصدر أدبر والجنوم جمع نجم وهو الكوكب الطالع يقال نجم نجوماً ونجماً أي طلع والمعنة ووقت أدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح
207
وقيل : التسبيح من الليل صلاة العشاءين وإدبار النجوم صلاة الفجر وفي الآية دليل على أن تأخير صلاة الفجر أفضل لأنه أمر بركعتي الفجر بعدما أدبر النجوم وإنما أدبر النجوم بعدما يسفر قاله أبو الليت في تفسيره وقال أكثر المفسرين أدبار النجوم يعني الركعتين قبل صلاة الفجر وذلك حين تدبر النجوم بضوء الصبح وفي الحديث ركعتا الفجر أي سنة الصبح خير من الدنيا وما فيها وفيها بيان عظم ثوابهما.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184
يقول الفقير في قولهم وذلك حين الخ نظر لأن السنة في سنة الفجر أنه يأتي بها في أول الوقت لأن الأحاديث ترجحة فالتأخير إلى قرب الفرض مرجوح وأول وقتها نو وقت الشافعي وليس للنجوم أدبار إذ ذاك وإٌّما ذلك عند الأسفار جداً وقال سهل قدس سره صل المكتوبة بالإخلاص لربك حين تقوم إليها ولا تغفل صباحاً ولا مساء عن ذكر من لا يغفل عن برك وحفظك في كل الأوقات.
وفي التأويلات النجمية قوله : وسبح الخ يشير إلى مداومته على الذكر وملازمته له بالليل والنهار انتهى وقد سبق بيانه في آخر سورة ق قال بعض الكبار من سوء أدب المريد أن يقول لشيخه : اجعلني في بالك فإن في ذلك استخداماً للشيخ وتهمة له وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلّم لمن قال له أسألك مرافقتك في الجنة حيث قال للسائل : أعني على نفسك بكثرة السجود فحوله إلى غير ما قصد من الراحة فعلم الرياضة وأجب تقديمه على الفتح في طريق السالكين إلا المجذوب والله عليم حكيم اتهى وفي الحديث من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل.
يقول الفقير : كان التهجد فرضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإنما كان يؤخر الوتر إلى آخر الليل إما لما ذكر من شهود الملائكة في ذلك الوقت وإما لأن الوتر صلاها عليه السلام أولاً ليلة المعراج بعد المنام فناسب فصلها عن العشاء وتأخيرها وفي ختم هذه السورة بالنجوم وافتتاح السورة الآتية بالنجم أيضاً من حسن الانتهاء والابتداء ومن الأسرار ما لا يخفة على أهل التحقيق.
جزء : 9 رقم الصفحة : 184(9/171)
سورة النجم
مكية وآيها إحدى أو ثنتان وستون
جزء : 9 رقم الصفحة : 207
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
{وَالنَّجْمِ} سورة النجم أول سورة أعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجهر بقراءتها في الحرم والمشركون يستمعون نزلت في شهر رمضان من السنة الخامسة من النبوة ولما بلغ عليه السلام السجدة سجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب في رواية فإنه رفع حفنة من تراب إلى جهته وقال : يكفيني هذا في رواية كان ذلك الوليد بن المغيرة فإنه رفع تراباً إلى جبهته فسجد عليه لأنه كان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود وفي رواية صححت أمية بن خلف وقد يقال : لا مانع أن يكونوا فعلوا ذلك جميعاً بعضهم فعل ذلك تكبراً وبعضهم فعل ذلك عجزاً وممن فعل ذلك تكبراً أبو لهب ولا يخالف ذلك ما نقل عن
208
ابن مسعود رضي الله عنه ولقد رأيت الرجل أي الفاعل لذلك قتل كافراً لأن يجوز أن يكون المراد بقتل مات وإنما سجد المشركون لأن النبي عليه السلام لما بلغ إلى قوله أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى الحق الشيطان به قوله تلك الغرانيق العلي وإن شفاعتهن لترتجي كما سبق في سورة الحج فسمعه المشركون وظنوا أنه من القرآن فسجدوا لتعظيم آلهتهم ومن ثم عجب المسلمون من سجود المشركين من غير إيمان إذ هم لم يسمعوا ما ألقى الشيطان في آذان المشركين وأآادوا بالغرانيق العلى الأصنام شبهت الأصنام بالغرانيق التي هي طائر الماء جمع غرنوق بكسر الغين المعجمة وإسكان الراء ثم النون بالمفتوحة أو غرنوق بضم الغين والنون أيضاً أو غرنيين بضم الغين وفتح النون وهو طير طويل العنق وهو الكركي أو ما يشبهه ووجه الشبه بين الأصنام وتلك الطيور إن تلك الطيور تعلو وترفع في السماء فالأصنام مشبعة بها في علو القدر وارتفاعه قال بعضهم : والنجم أول سورة نزلت جملة كاملة فيها سجدة فلا ينافي ان اقرأ باسم ربك أول سورة نزلت فيها سجدة لأن النازل منها أوائلها لا مجموعها دفعة والواو للقسم.
أصحاب معاني كفتند قسم درقرآن بردو وجه است يكة قسم بذات وصفات خالق جل جلاله نانكه فوربك فبعزتك والقرآن المجيد وهمنين حروف تهجي در أوائل سور هر حرفي أشارتست بصفتي از صفات حق وقسم بران يا دكرد وجه دوم قسمست بمخلوقات وآت برهار ضربست يكة إظهار قدرت رانانكه والذاريات والملاسلات والنازعات هذا وأمثاله نبه العباد على معرفة القدرة فيها ديكر قسم برستاخيز اظهار هيبت را كقوله لا أقسم بيوم القيامة أقسم بها ليلعم هيبته فيها سوم قسم ياد ميكند إظهار نعمت را تا بندكان نعمت خود از الله بشناسند وشكر آن بكذارند كقوله والتين والزيتون هارم قسم است ببعض مخلوقات بيان تشريف راتا خلق عز وشرف آن يز بدانندكه قسم بوى ياد كرده كقوله لا أقسم بهذا البلد يعني مكة وكذلك قوله وطور سينين وهذا البلد الأمين ومن ذلك قوله للمصطفة عليه السلام : لعمرك وهذا على عادة العرب فإنها تقسم بكل ما تستعظمه وتريد إظهار تعظيمه وقيل كل موضع أقسم فيه بمخلوق فالرب فيه مضمر كقوله والنجم ورب النجم ورب الذاريات وأشباه ذلك والمراد بالنجم إما الثريا فإنه اسم غالب عليها ومنه قوله عليه السلام ما طلع النجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا رفع يريد بالنجم الثريا بالتفاق العلماء وقال السهيلي رحمه الله وتعرف الثريا بالنجم أيضاً وبألية الحمل لأنها تطلع بعد بطن الحمل وهي سبعة كواكب ولا يكاد يرى السابع منها لخفائه وفي الحقيقة إنها اثنا عشر كوكباً وإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يراها كلها القوة جعلها الله في بصره وقال في عين المعاني وهي سبعة أنجم ظاهرة والسابع تمتحن به الأبصار وكانت قريش بتجلها وتقول أحسن النجم في السماء الثريا والثريا في الأرض زين السماء وكانت رحلتاها عند طلوعها وسقوطها فإذا طلعت بالغداة عدوها من الصيف وإذا طلعت بالعشي عدوها من الشتاء قال الشاعر :
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
طلع النجم غديه
ابتغى الراعي شكيه
209
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 22 من صفحة 210 حتى صفحة 219(9/172)
وأما جنس الجنم وهويه كما قال تعالى : {إِذَا هَوَى} غربه وطلوعه يقال هوى يهوى من الثاني هويا بوزن قبول إذا غرب فإن الهوى سقوط من علو إلى أسفل ونويا بوزن دخول إذا علا وصعد والعامل في إذا القسم أي أقسم فإنه بمعنى مطلق الوقت منسلخ عن معنى الاستقبال كما في قولك آتيتك إذا احمر البسر فلا يلزم علم فعل الحال في المستقبل يعني إن فعل القسم إنشاء والإنشاء خال وإذا لما يستقبل من الزمان فيكون المعنى أقسم الآن بالنجم وقت هوى بعد هذا الزمان ثم إن الله تعالى أقسم بالنجم حين هوى أي وقت هويه لأن شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسالك الدنيا كأنه قيل والنجم الذي يهتدى به السابلة في البر والجارية في البحر إلى سواء السبيل والسمت {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} هو جواب القسم أي ما عدل عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة وهذا دليل على أن قوله ووجدك ضالاً ليس من ضلال الغي فإنه عليه السلام قبل الوحي وبعده لم يزل يعبد ربه ويوحده ويتوقى مستقبحات الأمور وفيه بيان فضل النبي عليه السلام حيث أن الله تعالى قال في حق آدم عليه السلام وعصة آدم ربه فغوى وقال في حقه ما ضل صاحبكم {وَمَا غَوَى} الغي هو الجهل المركب قال الراغب الغي جهل من اعتقاد فاسد وذلك أن الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد أصلاً لا صالحاً ولا فاسداً وقد يكون من اعتقاد شيء فاسد وهذا الثاني يقال له غي فعطفه على ما ضل من عطف الخاص على العام للاهتمام بشأن الاعتقاد بمعنى أنه فرق بين الغي والضلال وليسا بمعنى واحد فإن الغواية هي الخطأ في الاعتقاد خاصة والضلال أعم منها يتناول الخطأ في الأقوال والأفعال والأخلاق والعقائد التي شرعها الله وبينها لعباده فالمعنة وما اعتقد باطلاً قط أي هو في غاية الهدة والرشد وليس مما تتوهمونه من الضلال والغواية في شيء أصلاً وكانوا يقولون ضل محمد عن دين آبائه وخرج عن الطريق وتقول شيئاً من تلقاء نفسه فرد الله عليهم بنفسه بتنزيل هذه السورة تعظيماً له والخطاب لقريش وإيراده عليه السلام بعنوان صاحبيته لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله وإحاطتهم خبراً ببراءته عليه السلام مما نفي عنه بالكلية وباتصافه بغاية الهدى والرشاد فإن طول صحبتهم له ومشاهدتهم محاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتماً كما في الإرشاد وقال الكاشفي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وتسميه صاحب بجهت آنست كه حضرت يغمبر عليه السلام مأمور بود بصحبت كافران جهت دعوت ايشان.
ويؤيد ما في الإرشاد قول الراغب في المفردات لا يقال الصاحب في العرف إلا لمن كثرت ملازمته وقوله تعالى ثم تفكروا ما بصاحبكم من جنة سمي النبي عليه السلام صاحبهم تنبيهاً أي أنكم صحبتموه وجربتموه وعرفتم ظاهره وباطنه ولم تجدوا به خبلاً وجنة وتقييد القسم بوقت الهوى لأن النجم لا يهتدى به الساري عند كونه في وسط السماء ولا يعلم المشرق من المغرب ولا الشمال من الجنوب وإنما يهتدي به عند هبوطه أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكى من تدلي جبريل من الأفق الأعلى ودنوه منه عليهما السلام وقال سعدي المدتي ثم التقييد بوقت الهوى أي الغروب لكونه أظهر دلالة على وجود الصانع وعظيم قدرته كما قال الخليل عليه السلام لا أحب الآفلين قال ابن الشيخ
210
(9/173)
في حواشيه وفيه لطيفة وهي أن القسم بالنجم تعظيمه وقد كان فيهم من يعبده فنبه بهويه على عدم صلاحيته للإلهية بأفوله وقيل خص الهوى دون الطلوع فإن لفظة النجم دلت على طلوعه فإن أصل النجم الكوكب الطالع وقال الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه : أراد بالنجم محمداً عليه السلام إذا نزل ليلة المعراج والهوى النزول.
كفته اند آن روزكه اين آيت فرى آمد ورسول خدا بر قريش آشكارا كرد عتبة بن أبي لهب كفت كقرت برب النجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ودختر رسول عليه السلام زن او بود طلاق داد رسول خدا دعا كرد وكفت اللهم سلط عليه كلباً من كلابك بعد ازان عتبه بتجارت شام رفت بادر خويش ابو لهب در منزلى ازمنازل راه فرو آمدند وآنجا ديرى بود راهبى ازدير فر وآمد وكفت هذه أرض مسبعة درين منزل سباع فراوان بود نكريد تا خويش را از سباع نكاه داريد ابو لهب أصحاب خويش را كفت اين سر مرا نكاه داريد كه من مى ترسم كه دعاى محمد دروى رسد ايشان همه كردوى در آمدند واورا درميان كرفتند واس اومى داشتند درميانه شب رب العالمين خواب برايشان افكند وشير بيامد وبايشان در كذشت ولطمه برعتبه زد واورا هلاك كرد.
ولم يأكله لنجاسته ويحتمل من التأويل المصلى إذا سجد والغازي إذا قتل شهيداً والعالم إذا مات ووضع في قبره فإن هؤلاء نجوم والأخبار ناطقة بها قال عليه السلام علماء أمتي كالنجوم بها يهتدي في البر والبحر وقال إمام الغزالي رحمه الله هم الصحابة إذا ماتوا لقوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وعلماء الإسلام لقوله عليه السلام العلماء نجوم الأرض وقال بعضهم : هو قسم بنور المعرفة إذا وقع ف يالقلب قال تعالى مثل نوره كمشكاة فيها مصباح.
وقال الكاشفي : ونزد محققان سوكند ياد كرده بستاره دل حضرت محد عليه السلام برفلك توحيد منقطع شد ازما سوى الله تعالى.
وأيضاً أقسم الله بنجم الهام حين سقط من صحائف الغيوب إلى معادن القلوب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية قال الأخفش : النجم نبت لا ساق له فيكون هويه سقوطه على الأرض كما قال والنجم والشرج يسجدان يشير إلى أن الله تعالى ينبت حبة المحبة الدائمة المنزهة عن التغير المقدسة عن التبدل التي وقعت وسقطت من روض سماء ذاته المطلقة الكلية الجمعية الإحاطية في أرض قلب نبيه وحبيبه القابل لا نبات نباتات الولاية والنبوة والرسالة الموجبات لظهور رياحين الحقائق القرآنية وشقائق التجليات الربانية وازهار التنزلات الحقانية وعرارا للطائف الإحسانية العرفانية كالمشاهدات والمكاشفات والمعانيات وأمثالها وجواب القسم ما ضل صاحبكم وما غوى وبه يشير إلى أن وجود النبي عليه السلام لما كان أول نور وحداني بسيط علوي لطيف شعشاني تجلى به الحق وتعلقت به القدرة القديمة الأزلية من غير واسطة كما أخبر عنه بقوله أنا من الله والمؤمنون مني وليست فيه ظلمة الوسائط الإمكانية الموجبة للضلالة المنتجة للغي بل هو على نوريته الأصلية البسيطة الشعشعانية المقتضية للهدة والتقوى المستدعية للرشد والنهي باق كما هو ما أثرت فيه مصاحبتكم الطبيعية ولا مخالطتكم الصورية العنصرية وما ضل بأمر الطبيعة وما غوى بحكم البشرية فإنه صلى الله عليه وسلّم
211
قائم بالحق خارج عن الطبع كما أخبر عن نفسه الشريفة القدسية بقوله : لست كأحدكم أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني وهذا يدل على قيامه بالحق وخروجه عن الطبع وأحكامه انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/174)
يقول الفقير : أمده الله القدير لفظ النجم نون هي خمسون بحساب أبجد وجيم هي ثلاثة فالمجموع ثلاثة وخمسون وميم هي أربعيون فأشار إلى أن النبي عليه السلام بعث عند الأربعين وجعل خاتم الأنبياء والمرسلين ومكث في مكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة والمجموع ثلاثة وخمسون وقد سماه الله تعالى بالنجم في هذه الآية كما سماه سراجاً منيراً في آية أخرى لأنه يستضاء بنور وجهه وضياء علمه وهداه وهوى هذا النجم العالي غروبه من مكة بعد المدة المذكورة وهجرته إلى المدينة ولذا أقسم الله على عدم ضلاله وغيه لأنه في غروبه ذلك وحركته راشد مهدي حيث كان بأمر الله تعالى وإذنه فلما غرب من مكة أظلمت الدنيا على قريش وصاروا في ظلمة شديدة ولما طلع على المدينة أشرقت الأآض على المؤمنين حتى أنهم وقعوا في البدر التام في السنة الثانية من الهجرة حيث نورهم الله تحت لواء حبيبه بنور النصرة على الأعداء ببدر وصال حال الأعداء إلى ظلمة العدم وبهذا يظهر سر قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كن الله معذبهم وهم يستغفرون وسر قوله عليه السلام لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله أي ينقطع أهل الذكر المتصل وكان هو النبي عليه السلام في مكة وبخروجه عنها بمقارقته عن أرضها وإصرار القوم على الشرك والعناد وقع عليهم الطامة الكبرى ببدر كما تقوم الساعة عند انقطاع أهل الذكر الدائم من الأرض ففيه الناس يعني الناسين لا يعرفون قدر أهل الذكر والحضور فيما بينهم بل يعادونهم ويؤذونهم مع أن في ذلك هلاكهم لأنهم ملكوتهم وبانقطاع الملكوت والأرواح عن الملك والأجسام يزول الملك وتخرب الأجسام لانقطاع سبب البقاء ومن هنا قالوا إنرجالاً متصرفين في أقطار الدنيا ولو في دار الحرب فإنه لا بد للوجود من قبض البقاء والإمداد أمدنا الله وإياكم بمزيد فضله وجوده وشرفنا بوصاله وشهوده بحرمة النجم وهويه وسجوده آمين آمين {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} يقال نطق ينطق نطقاً ومنطقاً ونطوقاً تكلم بصوت وحروف يعرف بها المعاني كما في القاموس فلا يستعمل في الله تعالى لأن التكلم بالصوت والحروف من خواص المخلوق والهوى مصدر هويه من باب علم إذا أحبه واشتهاه ثم غلب على الميل إلى الشهوات والمستلذات من غير داعية الشرع ومنه قيل صاحب الهوى للمبتدع لأنه مائل إلى ما يهواه في أمر الدين فالهوى هو الميل المخصوص المذموم ولهذا أنهى الله أنبياءه فقال لداود عليه السلام ولا تتبع الهوى ولنبينا عليه السلام ولا تتبع أهواءهم ولم يمل أحد من الأنبياء إليه بدليل قوله عليه السلام ما أطلى نبي قط يقال أطلى الرجل إذا مال إلى هواه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
ـ حكي ـ عن بعض الكبار أنه قال : كنت في مجلس بعض الغافلين فتكلم إلى أن قال لا مخلص لأحد من الهوى ولو كان فلاناً عنى به النبي عليه السلام حيث قال حبب إلي من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة فقلت له : أما تستحيي من الله تعالى فإنه ما قال أحببت بل قال حبب فكيف يلام العبد على ما كان
212
من عند الله تعالى ثم حصل لي غم وهم أفرأيت النبي عليه السلام في المنام فقال لا تغتم فقد كفينا أمره ثم سمعت أنه خرج ضيعة له فقتل في الطريق نعوذ بالله من الإطالة على الأنبياء وورثتهم الأولياء وضمن ينطق معنة الصدور فتعدى بكلمة عن فالمعنة وما يصدر نطقه بالقرآن عن هواه ورأيه أصلاً فإن المراد استمرار نفي النطق عن الهوى لا نفي استمرار النطق عنه وقد يقال عن هنا بمعنى الباء أي وما ينطق بالهوى كما يقال رميت عن القوس أي بالقوس وفي التنزيل وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك أي بقولك قال ابن الشيخ قال أولا ما ضل وما غوى بصيغة الماضي ثم قال وما ينطق عن الهوى بصيغة المستقبل بياناً لحاله قبل البعثة وبعطها أي ما ضل وما غوى حين اعتزلكم وما تعبدون قبل أن يبعث رسولاً وما ينطق عن الهوى الآن حين يتلو عليكم آيات ربه انتهى.
(9/175)
يقول الفقير فيه بعد كما لا يخفى والظاهر أن صيغة الماضي باعتبار قولهم قد ضل وغوى إشارة إلى تحقق ذلك في زعمهم وأما صيغة المضارع فباعتبار تجدد النطق في كل حال والله أعلم بكل حال {إِنْ هُوَ} أي ما الذي ينطق به من القرآن {إِلا وَحْىٌ} من الله تعالى {يُوحَى} إليه بواسطة جبريل عليهما السلام وهو صفة مؤكدة لوحي رافعة لاحتمال المجاز مفيدة للاستمرار التجددي يعني أن فائدة الوصف التنبيه على أنه وحي حقيقة لا أنه يسمى به مجازاً والوحي قد يكون إسماً بمعنى الكتاب الإلهي وقد يكون مصدراً وله معان الإرسال والإلهام والكتابة والكلام والإشارة والإفهام وفيه إشارة إلى أن النبي عليه السلام قد فنة عن ذاته وصفاته وأفعاله في ذات الله وصفاته وأفعاله بحيث لم يبق منه لا اسم ولا رسم ولا أثر ولا عين فكان ناطقاً بنطق الحق لا بنطق البشرية فلا يتوهم فيه أن يجري عليه الخطرات الشيطانية والهواجس النفسانية ولذا قالوا ما يصدر عن الواصل شريعة إذ هو محفوظ كما أن النبي عليه السلام معصوم قال بعض الكبار : من وضع من الفقراء وردا من غير الوارد في السنة فقد أساء الأدب مع الله ورسوله إلا أن يكون ذلك بتعريف من الله تعالى فيعرفه خصائص كلمات يجمعها فيكون حينئذ ممتثلاً لا مخترعاً وذلك مثل حزب البحر للشاذلي قدس سره فإنه سافر في بحر القلزم مع نصراني يقصد الحج فتوقف عليهم الريح أياماً فرأى النبي عليه السلام في مبشرة فلقنه إياه فقرأه وأمر النصراني بالسفر فقال وأين الريح فقال : افعل فإنه الآن يأتيك فكان الأمر كما قال وأسلم النصراني بعد ذلك وقس عليه الإلهام والتعريف في اليقظة وقد أخبر أبو يزيد البسطامي قدس سره أنه يولد بعد وفاته بمدة طويلة نفس من أنفاس الله وهو الشيخ أبو الحسن الخرقاني قدس سره فكان كما قال.
وكذا قال صاحب المثنوي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
لوح محفوظست اورا يشوا
ازه محفوظست محفوظ ازخطا
نى نجومست ونى رملست ونه خواب
وحى حق والله أعلم بالصواب
ازى رووش عامه در بيان
وحى دل كويند اورا صوفيان
وحى دل كيرش كه منظر كاه اوست
ون خطا باشد و دل آكاه اوست
مؤمنا ينظر بنور الله شدى
از خطا وسهو ايمن آمدى
213
{عَلَّمَهُ} أي القرآن الرسول أي نزل به عليه وقرأه عليه وبينه له هذا على أن يكون الوحي بمعنى الكتاب وإن كان بمعنى الإلهام فتعليمه بتبليغه إلى قلبه فيكون كقوله نزل به الروح الأمين على قلبك {شَدِيدُ الْقُوَى} من إضافة الصفة إلى فاعلها مثل حسن الوجه والموصوف محذوف أي ملك شديد قواه وهو جبريل فإنه الواسطة في إبداء الخوارق ويكفيك دليلاً على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلام وصياح الديكة ثم قلبها وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين ورأى إبليس يكلم عيسة عليه السلام على بعض عقبات الأرض المقدسة فنفخه نفخة بجناحه يعني بادزد ويرا بجناح خود بادى وألقاه في أقصى جبل في الهند وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام وصعوده في أسرع من رجعة الطرف أي حصافة يعني استحكام في عقله ورأيه ومتانة في دينه قال الراغب : أمررت الحبل إذا فتلته والمرير والممر المفتول ومنه فلان ذو مرة كأنه محكم الفتل وفي القاموس المرة بالكسر قوة الخلق وشدة والجمع مرر وامرار والعقل والأصالة والأحكام والقوة وطاقة الحبل كالمريرة وذو مرة جبريل عليه السلام والمريرة الحبل الشديد الفتل {فَاسْتَوَى} عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله ما أوحى بيان لكيفية التعليم أي فاستقام جبريل واستقر على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح موشحاً أي مزيناً بالجواهر دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي كصورة دحية أمير العرب وكما أتى إبراهيم عليه السلام في صورة الضيف وداود عليه السلام في صورة الخصم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بجبل حراى وهو الجبل المسمى بجبل النور في قرب مكة فقال : إن الأرض لا تسعى ولكن انظر إلى السماء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض من المغرب وملأ الأفق فخر رسول الله كما خر موسى في جبل الطور فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه وذلك فإن الجسد وهو في الدنيا لا يتحمل رؤية ما هو خارج عن طور العقل فمنها رؤية الملك على صورة جبل عليها وأعظم منها رؤية الله تعالى في هذه الدار قيل ما رآه أحد من الأنبياء في صورته غير نبينا عليه السلام فإنه رآه فيها مرتين : مرة في الأرض ومرة في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى لما سيأتي.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/176)
ـ وروي ـ أن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : يا رسول الله أرني جبرائيل في صورته فقال : إنك لا تستطيع أن تنظر إليه قال : بلة يا رسول الله أرنيه فقعد ونزل جبرائيل على خشبة في الكعبة كان المشركون يضعون ثيابهم عليها إذا طافوا فقال عليه السلام : ارفع طرفك يا حمزة فانظر فرفع عينيه فإذا قدماه كالزبرجد الأخضر فخر مغشياً عليه.
ـ وروي ـ أنه رآه على فرسع والدنيا بين كلكلها وفي وجهه أخدود من البكاء لو ألقيت السفن فيه لجزت وإنما رآه عليه السلام مرتين ليكمل له الأمر مرة في عالم الكون والفساد وأخرى في المحل الأنزه الأعلى وإنما قام بصورته ليؤكدان ما يأتيه في صورة دحية هو هو فإنه إذا رآه في صورة نفسه عرفه حق معرفته ولم يبق عليه إشتباه
214
بوجه ما وفي كشف الأسرار فإن قيل : كيف يجوز أن يغير الملك صورة نفسه وهل يقدر غير الله على تغيير صورة المخلوقين وقد قلتم أن جبرائيل أتى رسول الله مرة في صورة رجل ومرة في صورته التي ابتدأه الله عليها وأن إبليس أتى قريشاً في صورة شيخ من أهل نجد فالجواب عنه تغيير الصور الذي هو تغيير التركيب والتأليف لا يقدر عليه إلا الله وأما صفة جبرائيل ففعل الله تعالى تنبيهاً للمصطفة عليه السلام وليعلم أنه أمر من الله إذ رآه في صور مختلفة فإن ذلك لا يقدر عليه إلا الله وهو أن يراه مرة قد سد الأفق وأخرى يجمعه مكان ضيق وأما إبليس فكان ذلك منه تخييلاً للناظرين وتمويهاً دون التحقيق كفعل السحرة بالعصي والحبال قال الله تعالى : فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى انتهى ما في الكشف وقال في آكام المرجان قال القاضي أبو يعلى ولا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور أي صور الإنس والبهائم والطير وإنما يجوز أن يعلمهم الله تعالى كلمات وضرباً من ضروب الأفعال إذا فعله وتكلم به نقله الله من صورة إلى صورة فيقال إنه قادر على التصور والتخييل على معنى أنه قادر على قول إذا قاله أو على فعل إذا فعله نقله الله من صورته إلى صورة أخرى بجري العادة وإما يصور نفسه فذلك محال لأنه انتقالها من صورة إلى صورة إنما يكون بنقض البنية وتفريق الأجواء وإذا انتقضت بطل الحياة واستحال وقوع الفعل من الجملة فكيف ينقل نفسه قال والقول في تشكيل الملائكة من ذلك انتهى.
وقال والهى الاسكوبي فيه أن من قال تمثل جبريل وتصور إبليس ليس مراده أنهما أحدثا تلك الصورة والمثال عن قدرة أنفسهما بل بأقدار الله على التمثيل والتصوير كيف يشاء فلا منافاة بين القولين غاية ما في الباب أن العامل عن طريق أقدار الله به من الأسباب المخصوصة انتهى وقال في إنسان العيون : فإن قيل إذا جاء جبريل على صورة الآدمي دحية أو غيره بل هي الروح تتشكل بذلك الشكل وعليه على يصير جسده الأصلي حياً من غير روح أو ميتاً أجيب بأن الجائي يجوز أن لا يكون هو الروح بل الجسد لأنه يجوز أن الله تعالى جعل في الملائكة قدر على التطور والتشكل بأي شكل أرادوه كالجن فيكون الجسد واحداً ومن ثمة قال الحافظ ابن حجر : إن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيساً لمن يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط وأخذ من ذلك بعض غلاة الشيعة أنه لا مانع ولا بعد أن الخق تعالى يظهر في صورة علي وأولاده الإثني عشر رضي الله عنهم ويجوز أن يكون الجسد للملك متعدداً وعليه فمن الممسكن أن يجعل الله لروح الملك قوة يقتدر بها على التصرف في جسد آخر غير جسدها المعهود مع تصرفها في ذلك الجسد المعهود كما هو شأن الإبدال لأنهم يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحاً آخر شبيهاً لشبحهم الأصلي بدلاً منه وقد ذكر ابن السبكي في الطبقات أن كرامات الأولياء أنواع وعد منها أن يكون له أجساد متعددة قال وهذا هو الذي يسميه الصوفية بعالم المثال ومنه قصة قضيب البان وغيره أي كواقعة الشيخ عبد القادر الطبحطوطي فقد ذكر الجلال السيوطي أنه رفع إليه سؤال في رجل حلف بالطلاق إن ولى الله الشيخ عبد القادر
215
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/177)
الطبحطوطي بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده تلك الليلة بعينها فهل يقع الطلاق على أحدهما فأرسلت قاصدي إلى الشيخ عبد القادر فسأله عن ذلك فقال : لو قال أربعون إني بت عندهم لصدقوا فأفتيت بأنه لا حنث على واحد منهما لأن تعدد الصور بالتخيل والتشكل ممكن كما يقع ذلك للجان قال الشعراني وأخبرني من صحب الشيخ محمد الخضري أنه خطب في خمسين بلدة في يوم واحد خطبة الجمعة وصلى بهم إماماً وأما الشيخ حسين أبو علي المدفون بمصر المحروسة فأخبرني عنه أصحابه أن التطور كان دأبه ليلاً ونهاراً حتى في صور السباع والبهائم ودخل عليه بعض أعدائيه ليقتلوه فوجدوه فقطعوه بالسيوف ليلاً ورموه في كوم بعيد ثم أصبحوا فوجدوه قائماً يصلي وفي جواهر الشعراني وصورة التطور أن يقدر الله الروح على تدبير ما شاءت من الأجسام المتعددة بخلعة كن فللأولياء ذلك في الدنيا بحكم خرق العادة وأما في الآخرة فإن نفس نشأة أهل الجنة تعطي ذلك فيدبر الواحد الأجسام المتعددة كما يدبر الروح الواحد سائر أعضاء البدن فتكون تسع وأنت تبصر وتبطش وتمشي ونحو ذلك وفي الفتوحات المكية والذي أعطاه الكشف الصحيح أن أجسام أهل الجنة تنطوي في أرواحهم فتكون الأرواح ظروفاً للأجسام عكس ما كانت في الدنيا فيكون الظهور والحكم في الدار الآخرة للجسم لا للروح ولهذا يتحولون في أي صورة شاءوا كما هو اليوم عندنا للملائكة وعالم الأرواح انتهى وفي إنسان العيون عالم المثال عالم متوسط بين عالم الأجساد والأرواح ألطف من عالم الأجساد وأكثف من عالم الأرواح فالأرواح تتجسد وتظهر في صور مختلفة من عالم المثال وهذا الجواب أولى من جواب ابن حجر بأن جبرائيل كان يندمج بعضه في بعض وهل مجيىء جبرائيل في صورة دحية كان في المدينة بعد إسلام دحية وإسلامه كان بعد بدر فإنه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها إذ يبعد مجيئه على صورة دحية قبل إسلامه قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه : دحية الكلبي كان أجمل أهل زمانه وأحسنهم صورة فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد في صورته إعلاماً من الله تعالى أنه ما بيني وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال وهي التي عندي فيكون ذلك بشرى له عليه السلام ولا سيما إذا أتى بأمر الوعيد والزجر فتكون تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحرك ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه وهو واضح لو كان لا يأتيه إلا على تلك الصورة إلا أن يدعى أنه من حين أتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمي غيره بقي هنا كلام وهو أن السهيلي رحمه الله ذكر أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة ملكية وقوة روحانية وليست كأجنحة الطير ولا ينافي في ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسد ما بين المشرق والمغرب انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : هنا كلام عقلي ولا منع من أن يجمع الملك بين قوة روحانية وبين جناح يليق بعالمه سواء كان ذلك كجناح الطير أو غيره فإن المعقولات مع المحسوسات تدور والجمع أنسب بالحكمة والصق بالقدرة وقد أسلفنا مثل هذا في أوائل سورة الملائكة فلا كلام فيه عند أولى الألباب وإنما يقتضي المقام أن يبين وجه كون جناح جبريل ستمائة لا أزيد ولا أنقص ولم أظفر ببيانه لا في كلام أهل الرسوم ولا في إشارات أهل الحقائق والذي
216
(9/178)
يدور بالبال إلهاماً من الله تعالى لا تعملاً وتأملاً أن النبي عليه السلام إنما عرج ليلة الإسراء بالفناء التام ولذا وقع الإسراء في الليل الذي هو مظهر الفناء دون النهار الذي هو مظهر البقاء وكان مراتب الفناء سبعاً على مراتب الأسماء السبعة التي آخرها القيوم القهار وللإشارة إلى هذه جعلت منارات الحرم المكي سبعاً لأن سر البقاء إنما ظهر في حرم النبي عليه السلام ولذا جعلت مناراته خمساً على عدد مراتب البقاء التي أشير إليها بالأسماء الخمسة الباقية من الإثني عشر التي آخرها الأحد الصمد وكل واحد من تلك الأسماء السبعة مائة على حسب تفصيلها إلى الأسماء الحسنى مع أحدية جمعها فيكون مجموعها بهذا الحسب سبعمائة ولما كان جبريل دون النبي عليه السلام في الفناء لم يتجاوز تلك الليلة مقامه الذي هو سدرة المنتهى حتى قال : لو دنوت أنملة لاحترقت وتجاوزه النبي عليه السلام إلى مستوى العرش وقهره وغلب عليه في ذلك فانتهى سير جبريل إلى الاسم القيوم فصار مقهوراً تحت سير النبي عليه السلام وقائماً في مكانه وقائماً بوحيه للقلوب ولذا سمي بروح القدس لحياة القلوب بوحيه كحياة الأجساد بالأرواح فله من تلك الأجنحة السبعمائة ستمائة صورة ومعنى وانتهى سير النبي عليه السلام إلى الاسم القهار فصار ما حصر الكل من دونه فله سبعمائة جناح معنوية فظهر أن القوة النبوية أزيد من القوة الملكية لأنها القوة الإلهية وقد قال تعالى : يد الله فوق أيديهم وإن جبريل لكونه من الأيدي إنما يستفيد اليد والقوة من يد النبي عليه السلام وقوته فاعرف ذلك وكن من الموقنين {وَهُوَ بِالافُقِ الاعْلَى} حال من فاعل استوى والأفق هي الدائرة التي تفصل بين ما يرى من الفلك وما لا يرى والأفق الأعلى مطلع الشمس كما أن الأفق الأدنى مغربها والمعنى والحال أن جبريل بأفق الشمس أي أقصى الدنيا عند مطلع الشمس وبالفارسية وبكناره بلند تربود از آسمان يعني نزديك مطلع آفتاب.
ومنه يعلم أن مطلع الشمس ومغربها كرأس الإنسان ورجله وإن كانت الدنيا كالكرة على ما سلف وأيضاً مثل روح الإنسان وجسده فإن الروح علوي والجسد سفلي وقد طلع من عالم الأرواح وغرب في عالم الأجساد
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
{ثُمَّ دَنَا} أي أراد الدنو من النبي عليه السلام حال كونه في جبل حراء والدنو القرب بالذات أو بالحكم ويستعمل في الزمان والمكان والمنزلة كما في المفردات {فَتَدَلَّى} التدلي استرسال مع تعلق أي استرسل من الأفق الأعلى مع تعلقه به فدنا من النبي عليه السلام يقال : تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير وفي الحديث : لو دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله أي على علمه وقدرته وسلطانه في كل مكان وأدلى دلوه والدوالي الثمر المعلق وبالفارسية أونك {فَكَانَ} أي مقدار امتداد ما بينهما وهو المسافة {قَابَ قَوْسَيْنِ} من قسى العرب أي مقدارهما في القرب وذكر القوس لأن القرآن نزل بلغة العرب والعرب تجعل مساحة الأشياء بالقوس وفي معالم التنزيل معنى قوله كان بين جبرائيل ومحمد عليهما السلام مقدار قوسين أنه كان بينهما مقدار ما بين الوتر والقوس كأنه غلب القوس على الوتر وهذا إشارة إلى تأكيد القرب وأصله أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد
217
منهما عن صاحبه وقيل قدر ذراعين ويسمى الذراع قوساً لأنه يقاس به المذروع أي يقدر فلم يكن قريباً قرب التصاق ولا بعيداً بحيث لا يتأتى معه الإفادة والاستفادة وهو الحد المعهود في مجالسة الأحباء المتأدبين {أَوْ أَدْنَى} أي على تقديركم أيها المخاطبون كما في قوله أو يزيدون فإن التشكيك لا يصح على الله فأو للشك من جهة العباد كما أن كلمة لعل كذلك في مواضع من القرآن أي لو رآهما رأى منكم لقال هو قدر قوسين في القرب أو أدنى أي لالتبس عليه مقدار القرب والمراد أي من قوله ثم دنا إلى قوله أو أدنى تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما أوحى إليه بنفي البعد الملبس وحمله بعضهم على حقيقته حيث قال فكلما دنا جبريل من النبي عليهما السلام انتقص فلما قرب منه مقدار قوسين رآه على صورته التي كان يراه عليها في سائر الأوقات حتى لا يشك أنه جبريل وهنا كلام آخر يجيء بعد تمام الآيات {فَأَوْحَى} أي جبرائيل {إِلَى عَبْدِهِ} أي عبد الله تعالى وإضماره قبل الذكر لغاية ظهوره كما في قوله تعالى ما ترك على ظهرها من دابة أي على ظهر الأرض والمراد بالعبد المشرف بالإضافة إلى الله هو الرسول عليه السلام كما في قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/179)
{مَآ أَوْحَى} أي من الأمور العظيمة التي لا تفي بها العبارة أو فأوحى الله حينئذ بواسطة جبريل ما أوحى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} أي فؤاد محمد عليه السلام وما نافية {مَا رَأَى} ما موصولة وعائدها محذوف أي ما رآه ببصره من صورة جبريل أيل ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذباً لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره قال بعضهم : كذب مخففاً ومشدداً بمعنى واحد وقال بعضهم : من خفف كذب جعل ما في موضع النصب على نزع الخافض وإسقاطه أي ما كذب فؤاده فيما رآه ببصره أي لم يقل فيه كذباً وإنما يقول ذلك إن لو قال له لا أعرفك ولا أعتقد بك {أَفَتُمَـارُونَه عَلَى مَا يَرَى} أي أتكذبون محمداً عليه السلام فتجادلونه على ما يراه معاينة من صورة جبريل فالفاء للعطف على محذوف أو أبعد ما ذكر من أحواله المنافية للمماراة فتمارونه فالفاء للتعقيب وذلك أن النبي عليه السلام لما أخبر برؤية جبريل تعجبوا منه وأنكروا والمماراة والمراء المجادلة بالباطل فكان حقه أن يتعدى بفي يقال جادلته في كذا لكنه ضمن معنى العلبة فتعدى تعديتها لأن الممارى يقصد بفعله غلبة الخصم واشتقاقه من مرى الناقة كأن كلا من المجادلين يمري ما عند صاحبه يقال مريت الناقة مرياً مسحت ضرعها لتدور مريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري أو غيره.
يقول الفقير : كان الظاهر أن يقال على ما رأى وجوابه أنه لما كان أثر الرؤية باقياً صح أن يقال يرى وأيضاً أن رؤية جبريل مستمرة إلى وقت الانتقال ولو على غير صورته الأصلية وقال الحسن البصري رحمه الله وجماعة علمه شديد القوى أي علمه الله وهو وصف من الله نفسه بكمال القدرة والقوة ذو مرة أي ذو أحكام الأمور والقضايا وبين المكان الذي فيه علمه بلا واسطة فاستوى أي محمد عليه السلام وهو بالأفق الأعلى أي فوق السموات ثم دنا.
س نزديك شد حضرت محمد بحضرت احديث يعني مقرب دركاه الوهيت كشت بمكانت ومنزلت نه بمنزل ومكان فتدلى س فروتنى كرد يعني سجده خدمت آورد خدايرا وون اين مرتبه بواسطه
218
خدمت يافته بود ديكر باره وظيفه خدمت افزود ودر سجده وعده قرب نيزهست كه اقرب ما يكون العبد من ربه أن يكون ساجداً فكان قاب قوسين أو أدنى كنايتست از تأكيد قربت وتقرير محبت وبواسطة تقرب بإفهام در صورت تمثيل مؤدي شده ه عادت عظماى عرب آن مى بوده كه ون تأكيد عهدي وتوثيق عهدي خواستندى كه بغض بدان راه نيابد هريك از متعاقدان كمان خود حاضر ساخته بايكديكر انضمام دادندى وهردو بيكبار قبضتين راكفرفته وبيكبار كشيده باتفاق يك تيرازان بيند اختندى واين صورت زيايشان اشارت بدان معنى بودى كه موافقت كلي ميان ما تحقق ذيرفت ومصادقت واتحاد أصلي بر وجهى ثبوت يافت كه بعد ازان رضا وسخط يكى عين رضا وسخط آن ديكرست س كوييا درين آيت باعنايت آن معنى مؤدي شده كه محبت وقربت حضرت يغمبر باحق سبحانه وتعالى بمثابه تأكيد يافته كه مقبول رسول مقبول خداوندست ومردود مصطفى مردود دركاه خداست وعلى هذا القياس ونزد محققان دنا اشارت نفس مقدس اوست وتدلى بمنزله دل مطهراو فكان قاب قوسين مقام روح مطيب او أدنى بمرتبه سر منوراو ونفس او در مكان خدمت بود ودل او در منزل محبت وروح او درمقام قربت وسر او در مرتبه مشاهدت شيخ ابو الحسين نورى را قدس سره از معنى اين آيت رسيدند جواب داد جايى كه جبرائيل نكنجند نورى كيست كه ازان سخن تواند كفت :
،
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
خيمه برون زد ز حدود وجهات
رده او شد تتق نور ذات
تيركى هستى ازو دور كشت
ردكى رده آن نور كشت
كيست كزان رده شود رده ساز
زمزمه كويد ازان رده باز
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 23 من صفحة 219 حتى صفحة 229
ويدل على أن ضمير دنا يعود إليه عليه السلام أنه قال في رواية لما أسري بي إلى السماء قربني ربي حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى قيل لي قد جعلت أمتك آخر الأمم لأفضح الأمم عندهم أي بوقوفهم على إخبارهم ولا أفضحهم عند الأمم لتأخرهم عنهم وقال بعض الكبار : ثم دنا إشارة إلى العروج والوصول وقوله فتدلى إلى النزول والرجوع وقوله فكان قاب قوسين بمنزلة النتيجة إشارة إلى الوصول إلى عالم الصفات المشار إليه بقوله تعالى الله الصمد وقوله أو أدنى إشارة إلى الوصول إلى عالم الذات المشار إليه بقوله تعالى الله أحد في صورة الإخلاص فحاصل المعنى ثم دنا أي إلى الحق من الخلق فتدلى إلى الخلق من الحق فكان قاب قوسين في مرتبة الوحدة الواحدية الجامعة بين شهادة الصفات والخلق وبين غيب الذات والحق أو أدنى في الوحدة الأحدية المختصة بغيب ذات الحق وإذن هنا أمران :
الأول : الوصول إلى مربة قاب قوسين وذلك بفناء في الصفات فقط.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/180)
والثاني : الوصول إلى مرتبة أو أدنى وذلك بفناء في الصات والذات معاً فإن يسر الله النزول والبقاء يكمل الأمر في هاتين الجهتين ولعمري عزيز أهل هذا المقام جداً وقال بعضهم : ضمير دنا إلى آخره يعود إلى الله تعالى قال في كشف الأسرار دنو الله من العبد على نوعين : أحدهما بإجابة الدعوة وإعطاء المنية ورفع المنزلة كما في قوله فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان والثاني بمعنى القرب
219
في الحقيقة دون هذه المعاني كقوله ثم دنا فتدلى انتهى فالمعنى ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى أي زاد في القرب حتى كان من محمد عليه السلام قاب قوسين أو أدنى فمعنى الدنو والتدلي الواقعين من الله تعالى كمعنى النزول منه إلى السماء الدنيا كل ليلة في ثلث الليل الأخير وهو أن ذلك عند أهل الحقائق من مقام التنزل بمعنى أنه تعالى يتلطف بعباده ويتنزل في خطابه لهم فيطلق على نفسه ما يطلقونه على أنفسهم فهو في حقهم حقيقة وفي حقه تعالى مجاز كما في إنسان العيون قال القاضي أبو الفضل في كتاب الشفاء أعلم أن ما وقع في إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى بل كما ذكرنا عن جعفر الصادق ليس بدنو حد وإنما دنو النبي من ربه وقربه منه إبانة عظيم منزلته وتشريف رتبته وإشراق أنوار معرفته ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته ومن الله له مبرة وتأنيس وبسط وإكرام قال في فتح الرحمن : فمن جعل الضمير عائداً إلى الله لا إلى جبريل على هذا كان قوله فكان الخ عبارة عن نهاية القرب ولطف المحل واتضاح المعرفة والإشراف على الحقيقة من محمد عليه السلام وعبارة إجابة الرغبة وقضاء المطالب قرب بالإجابة والقبول وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول فأوحى إلى عبده ما أوحي قال في الأسئلة المقحمة أجمل ولم يفسره لأنه كان يطول ذكر جميع ما أوحي إليه فذكره جملة من غير تعرض إلى التفصيل فقال : أوحي إلى عبده ما أوحي إليه فذكره جملة من غير تعرض إلى التفصيل فقال : فأوحي إلى عبده ما أوحي وقالت الشيوخ : ستر الله بعض ما أوحي إلى عبده محمد عليه السلام عن الخلق ستراً إلى حاله لئلا يطلع عليه غيره فإن ذلك لا يتعلق بغيره وإنما ذلك من خواص محبته ومعرفته وعلو درجاته إذ بين الأحباب يجري من الأسرار ما لا يطلع عليه الأجانب والأخيار قال عليه السلام : لي وقت مع الله لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل وسمعت الشيخ أبا علي الفارسي رحمه الله يقول في هذه الآية قولاً يطول شرحه وقصاراه يرجع إلى أنه تعالى ستر بعض ما أوحي إلى نبيه عن الخلق لما علم أن علمهم بذلك يفتر عن السير في صراط العبودية اتكالاً على محض الربوبية ولهذا قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال معاذ أأخبر الناس بذلك يا رسول الله؟ فقال : لا تخبرهم بذلك لئلال يتكلوا انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
لا يكتم السر إلا كل ذي خطر
والسر عند كرام الناس مكتوم
والسر عندي في بيت له غلق
قد ضاع مفتاحه والباب مختوم
وقيل :
بين المحبين سر ليس يفشيه
قول ولا عمل للخلق يحكيه
سر يمازجه إنس يقابله
نور تحير في بحر من التيه
وقيل :
دردى كه من از عشق تو دارم حاصل
دل داند ومن دانم ومن دانم ودل
قال الكاشفي : بعض عليما كويند كه اولى آنست كه تعرض آن وحي نكنيم ودر رده بكذا ريم وجمعي كويند آنه ازان وحي دريزى ويا اثري بما رسيده ذكر أن هي نقصان ندارد ودامانت بسيار واقع شده ودر تفسير جواهر بسطى تمام يافته اينجابسه وجه اختصاص مى يابد اول آنكه مضمون وحي اين بودكه يا محمد لولا أني أحب معاتبة أمتك لما حاسبتهم يعني اكرنه آنست كه دوست ميدارم معاتبه با امت تو والابساط محاسبه ايشان
220
طى مى كردم دوم آنكه اى محمد أنا وأنت وما سوى ذلك خلقته لأجلك آن حضرت عليه السلام در جواب فرمودند أنت وأنا وما سوى ذلك تركته لأجلك سوم آنكه امت تو طاعت من بجاى مى آرند وعصان نيزمى ورزند طاعت ايشان برضاى منست ومعصيت ايشان بقضاى من س آنه برضاى من از ايشان ثابت شود اكره اندك وبا قصور بود قبول كنم زيراكه كريمم وآنه بقضاى من از ايشان در وجود آيد اكره بزرك وبيسار باشد عفو كنم زيرا كه رحيمم.
وقيل : أوحي إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك وقيل كن آيسا من الخلق فليس بأديهم شيء واجعل صحبتك معي فإن مرجعك إلي ولا تجعل قلبك معلقاً بالدنيا فإني ما خلقتك لها وقيل أوحي إليه ألم يجدك يتيماً فآوى إلى قوله ورفعنا لك ذكرك وقيل أوحي إليه آمن الرسول الخ بغير واسطة جبريل وقيل أوحي إليه عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزى به.
ـ وروي ـ إنه عليه السلام قال : شكا إلى الله ليلة المعراج من أمتي شكايات :
الأولى : لم أكلفهم عمل الغد وهم يطلبون مني رزق الغد.
والثاني : لا أدفع ارزاقهم إلى غيرهم وهم يدفعون عملهم إلى غيري.
والثالثة : أنهم يأكلون رزقي ويشكرون غيري ويخونون معي ويصالحون خلقي.
(9/181)
والرابعة : أن العزة لي وأنا المعز وهم يطلبون العزة من سواي.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
والخامسة : أني خلقت النار لكل كافر وهم يجتهدون أن يوقعوا أنفسهم فيها قال : قل لأمتك إن أحببتم أحداً لإحسانه إليكم فأنا أولى به لكثرة نعمي عليكم وإن خفتم أحداً من أهل السماء والأرض فأنا أولى بذلك لكمال قدرتي وإن أنتم رجوتم أحداً فأنا أولى به لأني أحب عبادي وإن أنتم استحببتم من أحد لجفائكم إياه فأنا أولى به لأن منكم الجفاء ومني الوفاء وإن آثرتم أحداً بأموالكم وأنفسكم فأنا أولى بذلك لأني معبودكم وإن صدقتم أحداً في وعده فأنا أولى بذلك لأني أنا الصادق وقيل أوحى الله إليه يا محمد لم أكثر مال أمتك لئلا يطول حسابهم في القيامة ولم أطل أعمارهم لئلا تقسو قلوبهم ولم أفجأهم بالموت لئلا يكون خروجهم من الدنيا بدون التوبة وأخرتهم في الدنيا عن الآخرين لئلا يطول في القبور حبسهم قال بعضهم : إن ما أوحي إليه مفسر في الأخبار ونطقت به الروايات من أهوال القيامة وغيرها ولهذا قال عليه السلام : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً قال جعفر الصادق رضي الله عنه : فأوحي إلى عبده ما أوحي بلا واسطة فيما بينه وبينه سراً إلى قلبه لا يعلم به أحداً سواه بلا واسطة أي في العقبى حين يعطيه الشفاعة لأمته وقال البقلى : أبهم الله سر ذلك الوحي الخفي على جميع فهوم الخلائق من العرش إلى الثرى بقوله : ما أوحي لأنه لم يبين أي شيء أوحي إلى حبيبه لأنه بين المحب والمحبوب سراً لا يطلع عليه غيرهما وأظن أنه لو بين كلمة من تلك الأسرار لجميع الأولين والآخرين لماتوا جميعاً من ثقل ذلك الوارد الذي ورد من الحق على قلب عبده احتمل ذلك المصطفى عليه السلام بقوة ربانية ملكوتية لاهوتية ألبسه الله إياها ولولا ذلك لم يحتمل ذرة منها لأنها أنباء عجيبة وأسرار أزلية لو ظهرت كلمة منها لتعطلت الأحكام ولفنيت الأرواح والأجسام واندرست الرسوم
221
واضمحلت العقول والفهوم والعلوم.
يقول الفقير : لا شك أن ما أوحي إليه عليه السلام تلك الليلة على أقسام قسم أداه إلى الكل وهو الأحكام والشرائع وقسم أداه إلى الخواص وهو المعارف الإلهية وقسم أداه إلى أخص الخواص وهو الحقائق ونتائج العلوم الذوقية وقسم آخر بقي معه لكونه مما خصه الله به وهو السر الذي بينه وبين الله المشار إليه بقوله لي مع الله وقت الخ فإنه تحل مخصوص وسر مكتوم لا يفشي وهكذا كل ورثته فإن لهم نصيباً من هذا المقام حيث أن بعض علومهم يرتحل معهم إلى الآخرة ولا يوجد له محل يؤدي إليه إما لكونه من خصائصهم وإما لفقدان من يستعد لأدائه وذلك يحسب الزمان ولذا جاء نبي في الأولين وبقي معه الرسالة ولم يقبلها أحد من أمته لعدم الاستعداد فيهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية في هذه الآية يشير إلى أن الله تعالى من مقام جمعيته الجامعة لجميع المظهريات من غير واسطة جبريل وواسطة ميكائيل أوحي أو تجلى في صورة الوحي لعبده المضاف إلى هاء هويته المطلقة بحقائق من مقتضى حكم الوحدة والموحى به هوان وجودك يا محمد عين وجود المتعين بأحدية جمع جميع الأعيان الظاهرة المشهودة والحقائق الباطنة الغيبية المفقودة في عين كونها موجودة مطلقاً عن هذا التعين والجمع والإطلاق ما كذب الفؤاد ما رأى.
اعلم أن المرئى إن كان صورة جبريل عليه السلام فالرؤية من رؤية العين وإن كان هو الله تعالى على ما ذهب إليه البعض فقد اختلفوا في أنه عليه السلام رأى الله تعالى ليلة الإسراء بقلبه أو بعين رأسه فقال بعضهم : جعل بصره في فؤاده فرآه في فؤاده فيكون المعنى ما كذب الفؤاد ما رآه الفؤاد أي لم يقل فؤاده له إن ما رأته هاجس شيطاني وأنه ليس من شأنه أن ترى الرب تعالى بل تيقن إن ما رآه بفؤاده حق صحيح وقال بعضهم : رآه بعينه لقوله عليه السلام : إن الله أعطى موسى الكلام وأعطاني الرؤية وقوله عليه السلام : رأيت ربي في أحسن صورة أي صفة.
قال في الكواشي : هذا لا حجة فيه لأنه يجوز أنه أراد الرؤية بالقلب بأن زاده معرفة على غيره.
(9/182)
يقول الفقير : إيراد الرؤية في مقابلة الكلام يدل على رؤية العين لأن موسى عليه السلام قد سألها ومنع منها فاقتضى أن يفضل النبي عليه السلام عليه بما منع منه وهو الرؤية البصرية ولا شك أن الرؤية القلبية الحاصلة بالانسلاخ يشترك فيها جميع الأنبياء حتى الأولياء وقد صح أن موسى رأى ربه بعين قلبه حين خر في الطور مغشياً عليه وحملها على زيادة المعرفة لا يجدي نفعاً وكانت عائشة رضي الله عنها تقول : من زعم بأن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله قال في كشف الأسرار قول عائشة نفي وقول ابن عباس بأنه رأى إثبات والحكم للمثبت لا للنافي فالنافي إنما نفاه لأنه لم يسمعه والمثبت إنما أثبته لأنه سمعه وعلمه انتهى وقول أبي ذر رضي الله تعالى عنه للنبي عليه السلام : هل رأيت ربك؟ قال : نوراني أراه بالنسبة إلي تجرد الذات عن النسب والإضافات أي النور المجرد لا يمكن رؤيته على ما سبق تحقيقه وقال في عين المعاني : ولا يثبت مثل هذا أي الرؤية بالعين إلا بالإجماع وفي كشف الأسرار قال بعضهم : رأيه بقلبه دون عينه وهذا خلاف السنة والمذهب الصحيح أنه عليه السلام رأى ربه بعين رأسه انتهى.
وفي الكواشي : يستحيل رؤيته هنا عقلاً ومعتقد
222
رؤية الله هنا بالعين لغير محمد غير مسلم أيضاً انتهى.
قال ابن الشيخ : اعلم أن رؤية الله تعالى جائزة لأن دليل الجواز غير مخصوص بالآخرة ولأن مذهب أهل السنة الرؤية بالإراءة لا بقدرة العبد فإذا حصل العلم بالشيء من طريق البصر كان رؤية بالإراءة وإن حصل من طريق القلب كان معرفة والله تعالى قادر على أن يحصل العلم بخلق مدرك المعلوم في البصر كما قدر أن يحصله بخلق مدرك المعلوم في القلب والمسألة مختلف فيها بين الصحابة والاختلاف في الوقوع مما ينبىء عن الاتفاق على الجواز انتهى وكان الحسن البصري رحمه الله يحلف بالله أن محمداً رأى ربه ليلة المعراج.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
ـ وحكى ـ النقاش عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال : أنا أقول بحديث ابن عباس رضي الله عنهما بعينه رآه رآه حتى انقطع نفس الإمام أحمد.
كلام سرمدي بي نقل بشنيد خداوند جهانرا بي جهت ديد :
دران ديدن كه حيرت حاصلش بود
دلش درشم وشمش در دلش بود
قال بعض الكبار : الممنوع من رؤية الحق في هذه الدار إنما هو عدم معرفتهم له وإلا فهم يرونه ولا يعرفون أنه هو على غير ما يتعقل البصر فالخلق حجاب عليه دائماً فإنه تعالى جل عن التكييف دنيا وأخرى فافهم فهم يرونه ولا يرونه ولا يرونه وأكثر من هذا الإفصاح لا يكون انتهى.
يقول الفقير : نعم إن الله جل عن الكيفية في الدارين لكن فرق بين الدنيا والآخرة كثابة ولطافة فإن الشهود في الدنيا بالسر المجرد لغير نبينا عليه السلام بخلافه في الآخرة فإن القلب ينقلب هناك قالباً فيفعل القالب هناك ما يفعله القلب والسر في هذه الدار فإذا كانت لطافة جسم النبي عليه السلام تعطي الرؤية في الدنيا فما ظنك بلطافته ورؤيته في الآخرة فيكون شهوده أكمل شهود في الدارين حيث رأى ربه بالسر والروح في صورة الجسم.
قال في التأويلات النجمية : اتحد بصر ملكوته وبصر ملكه فرأى ببصر ملكوته باطن الحق من حيث اسمه الباطن ورأى ببصر ملكه ظاهر الحق من حيث اسمه الظاهر ورأى بأحدية جمع القوتين الملكوتية والملكية الحقيقة الجمعية المتعينة بجميع التعينات العلوية الروحانية والسفلية الجسمانية مع إطلاقه في عين تعينه المطلق عن التعين واللاتعين والإطلاق واللا إطلاق انتهى هذا وليس وراء عبادان قرية وقال البقلي رحمه الله : ذكر الله رؤية فؤاده عليه السلام ولم يذكر العين لأن رؤية العين سر بينه وبين حبيبه فلم يذكر ذلك غيره عليه لأن رؤية الفؤاد عام ورؤية البصر خاص أراه جماله عياناً فرآه ببصره الذي كان مكحولاً بنور ذاته وصفاته وبقي في رؤيته عياناً ما شاء الله فصار جسمه جميعه أبصاراً رحمانية فرأى الحق بجميعها فوصلت الرؤية إلى الفؤاد فرأى فؤاده جمال الحق ورأى ما رأى عينه ولم يكن بين ما رأى بعينه وبين ما رآه بفؤاده فرق فأزال الحق الإبهام وكشف العيان بقوله ما كذب الفؤاد ما رأى حتى لا يظن الظان أن ما رأى الفؤاد ليس كما رأى بصره أي صدق قلبه فيما رآه من لقائه الذي رآه بصره بالظاهر إذ كان باطن حبيبه هناك ظاهراً وظاهراً باطناً بجميع شعراته وذراته وجوده وليس في رؤية الحق حجاب للعائق الصادق بين يغيب عن الرؤية شيء من وجوده فبالغ الحق في كمال رؤية حبيبه وكذلك قال عليه السلام : رأيت ربي بعيني وبقلبي.
رواه
223
(9/183)
مسلم في صحيحه.
قال ابن عطاء : ما أعتقد القلب خلاف ما رأته العين وقال : ليس كل من رأى سكن فؤاده من إدراكه إذ العيان قد يظهر فيضطرب السر عن حمل الوارد عليه والرسول عليه السلام كان محمولاً فيها في فؤاده وعقله وحسه ونظره وهذا يدل على صدق طويته وحمله فيما شوهد به {أَفَتُمَـارُونَه عَلَى مَا يَرَى} آيا مجادله ميكنيد با محمد برآنه ديد درشب معراج ومجادله آن بودكه صفت بيت المقدس وخبر كاروان خود رسيدند.
وقال بعضهم : أفتجادلونه على رؤية الله تعالى أي أن رسول الله عليه السلام رأى الله وهم يجادلونه في ذلك وينكرونها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية يشير إلى مماراة المحتجبين عن الحق بالخلق ومجادلتهم في شهود الخلق من دون الحق لقيامهم في مقام الكثرة الاعتبارية من غير شهود الوحدة الحقيقية أعاذنا الله وإياكم من عذاب جحيم الاحتجاب ومن شدة لهب النار والالتهاب {وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى} الضمير البارز في رآه لجبريل ونزلة منصوب نصب الظرف الذي هو مرة لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها والمعنى وبالله لقد رأى محمد جبريل عليهما السلام على صورته الحقيقية مرة أخرى من النزول وذلك أنه كان للنبي عليه السلام في ليلة المعراج عرجات لمسألة التخفيف من إعداد الصلوات المفروضة فيكون لكل عرجة نزلة فرأى جبريل في بعض تلك النزلات {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} وهو مقام جبرائيل وكان قد بقي هناك عند عروجه عليه السلام إلى مستوى العرش وقال : لو دنوت أنملة لاحترقت قال عليه السلام : رأيته عند سدرة المنتهى عليه ستمائة جناح يتناثر منه الدر والياقوت وعند يجوز أن يكون متعلقاً برأى وأن يكون حالاً من المفعول المراد به جبرائيل لأن جبرائيل لكونه مخلوقاً يجوز أن يراه النبي عليه السلام في مكان مخصوص وهو سدرة المنتهى وهي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ثمرها كقلال هجر وورقها كآذان الفيلة نبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله في كتابه يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها والمنتهى مصدر ميمي بمعنى الانتهاء كما قال الزمخشري أو اسم مكان بمعنى موضع الانتهاء كأنها في منتهى الجنة وقيل : ينتهي إليها الملائكة ولا يتجاوزونها لأن جبرائيل رسول الملائكة إذا لم يتجاوزها فبالحرى أن لا يتجاوزها غيره فأعلاها لجبرائيل كالوسيلة لنبينا عليه السلام فكما أن خواص الأمة يتشركون مع النبي عليه السلام في جنة عدن بدون أن يتجاوزوا إلى مقامه المخصوص به فكذا الملائكة يشتركون مع جبرائيل في السدرة بدون أن يتعدوا إلى ما خص به من المكان وقيل إليها ينتهي علم الخلائق وأعمالهم ولا يعلم أحدا ما وراءها وذلك لأن الأعمال الصالحة في عليين ولا تعجر إليه إلا على يد الملائكة فتقف عندها كوقوف الملائكة هذا بالنسبة إلى أعمال الأمة وأما خواص الأمة فلهم من الأعمال ما لا يقف عندها بل يتجاوز إلى عالم الأرواح فوق مستوى العرش بل إلى ما وراءه حيث لا يعلمه إلا الله فمثل هذه الصالحات الناشئة عن خلوص فوق خلوص العامة ليست بيد الملائكة إذ لا يدخل مقامها أحد وقيل : ينتهي إليها أرواح الشهداء لأنها في أرض الجنان أو ينتهي إليها ما يهبط من فوقها من الأحكام ويصعد من تحتها من الآثار وعن أبي هريرة رضي الله عنه لما
224
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/184)
أسرى بالنبي عليه السلام انتهى إلى السدرة فقيل : له هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك يعني ميرسد بدين هركس از امت توكه رفته باشد برسنت تو.
وقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي الخلائق وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله وبالجملة هي شجرة طوبى وقال مقاتل السدرة هي شجرة طوبى ولو أن رجلاً ركب نجيبه وطاف على ساقه حتى أدركه الهرم لما وصل إلى المكان الذي ركب منه تحمل لأهل الجنة الحلي والحلل وجميع ألوان الثمار ولو أن ورقة منها وضعت في الأرض لاناءت أهلها قيل : إضافة السدرة إلى المنتهى أما إضافة الشيء إلى مكانه كقولك أشجار البستان فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك أو إضافة المحل إلى الحال كقولك كتاب الفقه والتقدير سدرة عندها منتهى العلوم إو إضافة الملك إلى المالك على حذف الجار والمجرور أي سدرة المنتهى إليه وهو الله تعالى قال إلى ربك المنتهى وإضافة السدرة إليه كإضافة البيت إليه للتشريف والتعظيم وقال بعضهم : المرئي هو الله تعالى يعني أن محمداً عليه السلام رأى ربه مرة أخرى يعني مرتين كما كلم موسى مرتين وفيه إشعار بأن الرؤية الثانية كانت كالرؤية الأولى بنزول ودنو فقوله عند لا يجوز أن يكون حالاً من المفعول المراد به الله تعالى لأن الله تعالى منزه عن أن يحل في زمان أو مكان فهو متعلق برأى يعني أنه عليه السلام رأى ربه رؤية ثانية عند سدرة المنتهى على أن يكون الظرف ظرفاً لرأى ورؤيته لا للمرئى كما إذا قلت رأيت الهلال فقيل لك أين رأيت فتقول عند الشجرة الفلانية وجعل ابن برجان الإسراء مرتين :
الأولى بالفؤاد وهذه بالعين ولما كان ذلك لا يتأتى إلا بتنزل يقطع مسافات البعد التي هي الحجب ليصير به بحيث يراه البشر عبر بقوله نزلة أخرى وعين الوقت بتعيين المكان فقال عند سدرة المنتهى كما في تفسير المناسبات.
ـ وروي ـ عن وكيع عن كعب الأحبار أنه قال : رأى ربه مرة أخرى فقال : إن الله تعالى كلم موسى مرتين ورأه محمد مرتين عليهما السلام فلما بلغ ذلك عائشة رضي الله عنها قالت : قد اقشعر جلدي من هيبة هذا الكلام فقيل لها : يا أم المؤمنين أليس يقول الله تعالى ولقد رآه نزلة أخرى فقالت : أنا سألت النبي عليه السلام عن ذلك فقال : رأيت جبرائيل نازلاً في الأفق على خلقته وصورته انتهى وقال بعضهم : رآه بفؤاده مرتين.
يقول الفقير : لما كان هذا المقام لا يخلو عن صعوبة واحتمال وتأويل كفروا من أنكر المعراج إلى المسجد الأقصى لثبوته بالنصر القطعي وهو قوله تعالى سبحان الذي أسرا بعبده الخ وضللوا من أنكره إلى ما فوقه لثبوته بالخبر المشهور.
قال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر أن معراجه عليه السلام أربع وثلاثون مرة : واحدة بجسده والباقي بروحه رؤيا رآها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية يشير إلى رد استعجاب أهل الحجاب شهود النبي عليه السلام الحضرة الإلهية في المظاهر الكونية والمجالي الغيبية وأنى لهم هذا الاستعجاب والاستغراب وما قيده في حضرة دون حضرة وفي مشهد دون مشهد بل شهرة وعلانية مرة بعد مرة وساعة بعد ساعة بل ما احتجب لحظة منه تعالى وما غاب عنه لمحة مرة شاهده به في مقام أحديته بفنائه عنه ونزلة عاينه في مقام واحديته بالبقاء به عند نزوله من المشهد
225
(9/185)
الأحدي إلى المشهد الواحدي المسمى سدرة المنتهى التي هي شجرة الكثرة لابتداء الكثرة منها وانتهاى مظاهرها إليها بحسب الأعمال والأقوال والأفعال والأحوال شبهت السدرة بشجرة الكثرة لكثرة إظلالها وأغصانها كما في شجرة الكثرة التي هي الواحدية لظهور التعينات والتكثرات منها واستظلال المتعينات بها بالوجود العيني الخارجي انتهى وقال البقلي : ما الرؤية الثانية بأقل كشفاً من الرؤية الأولى ولا الأولى بأكشف من الرؤية الثانية أين أنت لو كنت أهلاً لقلت لك إنه عليه السلام رأى ربه في لحافه بعد أن رجع من الحضرة أيضاً في تلك الساعة وما غاب قلبه من تلك الرؤية لمحة وما ذكر سبحانه بيان أن ما رأى في الأولى في الإمكان وما رأى عند سدرة المنتهى كان واحداً لأن ظهوره هناك ظهور القدم والجلال وليس ظهوره يتعلق بالمكان ولا بالزمان إذ القدم منزه عن المكان والجهات وكان العبد في المكان والرب في المكان وهذا غاية في كمال تنزيهه وعظيم لطفه إذ تتجلى نفسه لقلب عبده وهو في الإمكان والعبد في مكان والعقل ههنا مضمحل والعلم متلاششٍ لأن العقول عاجزة والأوهام متحيرة والقلوب والهة والأرواح حائرة والأسرار فانية وفي هذه الآية بيان كمال شرف حبيبه إذ رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ظن عليه السلام أن ما رآه في الأولى لا يكون في الكون لكمال علمه بتنزيه الحق فلما رآه ثانية علم أنه لا يحجبه شيء من الحدثان وعادة الكبراء إذا زارهم أحد يأتون معه إلى باب الدار إذا كان كريماً فهذا من الله إظهار كمال حب لحبيبه وحقيقة الإشارة أنه سبحانه أراد أن يعرف حبيبه مقام التباس فليس الأمر وأظهر المكر بأن بان الحق من شجرة سدرة المنتهى كما بان من شجرة العنان لموسى ليعرف حبيبه بكمال المعرفة إذ ليس بعارف من لم يعرف حبيبه في ألبسة مختلفة انتهى ولما أراد سبحانه أن يعظم السدرة ويبين شرفها قال : {عِندَهَا} أي عند السدرة
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
{جَنَّةُ الْمَأْوَى} والجملة حالية قيل : الأحسن أن يكون الحال هو الظرف وجنة المأوى مرتفع به بالفاعلية وإضافة الجنة إلى المأوى مثل إضافة مسجد الجامع أي الجنة التي يأوى إليها المتقون أي تنزل فيها وتصير وتعود إليها أرواح الشهداء وبالفارسية بهشتى كه آرامكاه متقيان يا مأوى ومكان أرواح شهداست او اوى إليها آدم وحواء عليهما السلام يقال : أويت منزلي وإليه أويا وأويا عدت وأويته نزلته بنفسي والمأوى المكان قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : آدم عليه السلام أنزل من جنة المأوى التي هي اليوم مقام الروح الأمين جبريل عليه السلام وهي اليوم برزخ لذرية آدم ونزل إليها جبرائيل من السدرة بنزول آدم وهذه الجنة لا تقتضي الخلود لذاتها فلذلك أمكن خروج آدم منها ولذلك تأثر بالاشتياق إلى أن يكون ملكاً بعد سجود الملائكة له بغرور إبليس إياه ووعده في الخلود رغبة في الخلود والبقاء مع جبرائيل والجنة التي عرضها السموات والأرض تقتضي الخلود لذاتها يعلم من دخلها أنه لا يمكن الخروج منها إذ لا سبيل للكون والفساد إليها قال تعالى في وصف عطائها أنه غير مجذوذ أي غير منقطع انتهى فالجنة التي عرضها السموات والأرض أرضها الكرسي الذي وسع السموات والأرض وسقفها العرش المحيط فهي محيطة بالجنان الثمان وليست هي الجنة التي أنزل منها
226
(9/186)
آدم كذا قاله الشيخ أيضاً في كتاب تلقيح الأذهان وقال نجم الدين رحمه الله في تأولاته يشير إلى أن الجنة العلية التي يسجن بها المجانين العاشقون عن أنانيتهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر وفي قوله عندها إشارة إلى الهوية الظاهرة بالشجرة الواحدية المسماة بسدرة المنتهى لانتهاء أرواح الشهداء المقتولين بسيف الصدق والإخلاص ورمح الرياضات والمجاهدات إليها {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} زيادة في تعظيم السدرة وإذ ظرف زمان لرآه لما بعده من الجملة المنفية فإن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها والغشيان بمعنى التغطية والستر ومنه الغواشي وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً لصورتها البديعة أو للإيذان باستمرار الغشيان بطريق التجدد والمعنى ولقد رأى محمد جبرائيل عند السدرة وقت ما غشيها وغطاها ما لا يكتنهه الوصف ولا يفي به البيان كيفا ولا كما وفي الحديث "وغشيها ألوان لا أدري ما هي فليس أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها" وعنه عليه السلام : "رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكاً قائماً يسبح الله" وعنه عليه السلام يغشاها رفرف أي جماعة من طيور خضر وقيل : يغشاها فراش أو جراد من ذهب.
كما قال الكاشفي : وكويند بر حوالى آن فرشتكان طيران ميكردند ون روانهاى زرين.
وقيل : يغشاها سبحان أنوار الله حين تجلى لها كما تجلى للجبل لكنها كانت أقوى من الجبل حيث لم يصبها ما أصابه من الدك وذلك لأن الجبل كان في عالم الملك الضعيف والسدرة في عالم الملكوت القوى ولذا لم يخر عليه السلام هناك مغشياً عليه حين رأى جبرائيل كما غشي عليه حين رآه في الأفق الأعلى لقوة التمكين وغاية لطافة الجسد الشريف وقيل : يغشاها الجم الغفير من الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجر يعبدون الله تعالى عندها أو يزورونها متبركين بها كما يزور الناس الكعبة وقيل : يغشاها الملائكة النازلون للقاء النبي عليه السلام فإنهم استأذنوا للقائه فأذن لهم وقيل : لا تأتون بغير نثار فجاء كل واحد منهم بطبق من أطباق الجنة عليه من اللطائف ما لا يحصى فنثروه بين يديه تقرباً إليه وفي الحديث : "إنه أعطى رسول الله عندها يعني السدرة ثلاثاً" يعني سه يز.
الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة غفر لمن مات من أمته لا يشرك بالله شيئاً.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية يشير إلى تعظيم المظاهر الأسمائية والصفاتية الجمالية اللطفية والجلالية القهرية الغاشية الساترة شجرة الواحدية المسماة بسدرة المنتهى بحيث لا تعد ولا تحصى لعدم نهاية مصادرها لأن الأسماء بحسب الجزئيات غير متناهية وإن كانت من حيث كلياتها متناهية وكان حقيقة السدرة وعمودها مغشية مستورة بكثرة أغصانها وأوراقها وأزهارها وهذا الوصف يدل على عظمة شأن الشجرة عينها وجلالة قدرها وكيف لا والواحدية من حيث الحقيقة عين الأحدية ومن حيث الاعتبار العقلي وغيرها فافهم جداً لا يفوتك الحقيقة بل الطريقة والشريعة انتهى وقال البقلي رحمه الله : أبهم ما غشيها لأن العقول لا تدرك حقائق ما يغشاها وكيف يغشاها والقدم منزه عن الحلول في الأماكن وكانت الشجرة مرآة لظهوره سبحانه ما ألطف ظهوره لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون بعد عرفانهم به آمناً به {مَا زَاغَ الْبَصَرُ}
227
الزيغ الميل عن الاستقامة أي ما مال بصر رسول الله عليه السلام أدنى ميل عما رآه {وَمَا طَغَى} وما تجاوز مع ما شاهد هناك من الأمور المذهلة مما لا يحصى بل أثبته إثباتاً صحيحاً متيقناً أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها وما جاوزها واستدل على أن رؤية الله كانت بعين بصره عليه السلام يقظة بقوله ما زاغ البصر الخ لأن وصف البصر بعدم الزيغ يقتضي أن ذلك يقظة ولو كانت الرؤية قلبية لقال ما زاغ قلبه وأمال القول بأنه يجوز أن يكون المراد بالبصر بصر قلبه فلا بدل له من القرينة وهي هنها معدومة.
قال الكاشفي في معنى الآية : ميل نكرد شم محمد عليه السلام وي وراست ننكريست ودرنكذشت از حديكه مقرر بود نكريستن ويرا آيت ستايش آن حضرتست بحسن أدب وعلو همت كه دران شب رتو التفات بر هي ذره از ذرات كائنات نيفكند وديده دل بجز مشاهده جمال بي زوال الهي نكشود :
درديده كشيده كحل ما زاغ
نى راغ نكاه كردونى باغ
ميراند براق عرش رواز
تا حجله ناز ورده راز
س رده زيش ديده برخاست
ى رده بديد آنه دل خواست
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/187)
وفي التأويلات النجمية يشير إلى تحقق النبي عليه السلام بمقام حقيقة الفقر الكلي الذي هو الخلو المطلق عما سواه لأنه قال : الفقر فخري وأي فقر أعظم وأفخم من أن يخرج العبد عن وجوده الكلي المجازي ويقوم بالوجود الحقيقي ويظهر بصفات سيده حتى يقال له عبد الله أي لا عبد غيره يعني ما مال بصر ملكه الجسماني إلى ملك الدنيا وزينتها وزخارفها وجاهها ومالها وما طغى نظر ملكوته الروحاني إلى عالم الآخرة ونعيمها ودرجاتها وقرباتها وغرفاتها بل اتحدا واجتمعا اتحاداً كلياً واجتماعاً حقيقياً من غير فتور وقصور على شهود الحق وأسمائه وصفاته وعجائب تجلياته الذاتية وغرائب تنزلاته الصفاتية وأيضاً ما زاغ عين ظاهره إلى الكثرة الأسمائية قائمة بالوحدة الذاتية وغرائب تنزلاته بكمال قيامه بشهود المرتبتين ولإحاطة علمه بوجود المرتبتين فافهم ولا تندم وقال البقلي رحمه الله : هذه الآية في الرؤية الثانية لأن في الرؤية الأولى لم يكن شيء دون الله ولذلك ما ذكر هناك غض البصر وهذا من كمال تمكين الحبيب في محل الاستقامة وشوقه إلى مشاهدة ربه إذ لم يمل إلى شيء دونه وإن كان محل الشرف والفضل وفي كشف الأسرار موسى عليه السلام ون ديدار خواست كه أرني أنظر إليك اورا بصمصام غيرت لن تراني جواب دادند س ون تاوان زده آن سؤال كشت بغرامت تبت اليك واديد آمد باز ون نوبت بمصطفى عليه السلام رسيد ديده ويرا توتياى غيرت لا تمدن عينيك در كشيدند كفتند اى محمد ديده كه بآن ديده مارا خواهى ديكر نكر تابعاريت بكس ندهى مهتر عصابه عزت ما زاغ البصر وما طغى برديده خود بست بزبان حال كفت :
بربندم شم خويش ونكشايم نيز
تاروز زيارت تواى يار عزيز
تالا جرم ون حاضر حضرت كشت جمال وجلال ذو الجمال والجلال برديده او كشف
228
كردند كه ما كذب الفؤاد ما راى :
همه تنم ذكر كردد ون بانوا راز كنم
همه كمال توبينم و ديده باز كنم
ان تذكرته فكلي قلوب
أو تأملته فكلي عيون
وكفته اند موسى عليه السلام ون از حضرت مناجات باز كشت باوى نور هيبت بود وعظمت لا جرم هركه دروى ناديست تابينا كشت باز مصطفى عليه السلام ون از حضرت مشاهدات باز كشت باوى نوارنس بود تاهركه بروى نكريد بينايى او بيفزود آن مقام أهل تكوين است واين مقام ارباب تمكين {لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} أي وبالله لقد رأى محمد عليه السلام ليلة المعراج الآيات التي هي كبراها وعظماها فأرى من عجائب الملك والملكوت ما لا يحيط به نطاق العبارة فقوله : من آيات ربه حال قدمت على ذيها وكلمة من للبيان لأنه المناسب لمرام المقام وهو التعظيم والمبالغة ولذا لم تحمل على التبعيض على أن يكون هو المفعول ويجوز أن يكون الكبرى صفة للآيات والمفعول محذوف أي شيئاً عظيماً من آيات ربه وأن يكون من مزيدة يعني على مذهب الأخفش وكان الإسراء ليلة السابع والعشرين من رجب على ما عليه الأكثر في السنة الثانية عشرة من النبوة قبل الهجرة بقليل كما في تفسير المناسبات وفيه إشكال فإن هذه السورة نزلت في السنة الخامسة من النبوة على ما مر في أول السورة قال المفسرون : رأى عليه السلام أي أبصر تلك الليلة رفرفاً أخضر سد أفق السماء فجلس عليه وجاوز سدرة المنتهى والرفرف البساط وهو صورة همته البسيطة العريضة المحيطة بالآفاق مطلقاً لأنه عليه السلام في سفر العالم البسيط ولا يصل إليه إلا من له علو الهمة مثله وقد قال حسان رضي الله عنه في نعته عليه السلام :
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
له همم لا منتهى لكبارها
وهمته الصغرى أجل من الدهر
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 24 من صفحة 229 حتى صفحة 239
(9/188)
ورأى تلك الليلة طوائف الملائكة وسدرة المنتهى وجنة المأوى وما في الجنان لأهل الإيمان وما في النيران لأهل الطغيان والظلم والأنوار وما يعجز عنه الأفكار وتحار فيه الأبصار ومن ذلك ما رآه في السموات من الأنبياء عليهم السلام إشارة بكل نبي إلى أمر دقيق جليل وحالة شريفة قال الإمام أبو القاسم السهيلي رحمه الله في الروض الأنف والذي أقول في هذا أن مأخذ فهمه من علم التعبير فإنه من علم النبوة وأهل التعبير يقولون : من رأى نبياً بعينه في المنام فإن رؤياه تؤذن بما يشبه من حال ذلك النبي في شدة وإرخاء أو غير ذلك من الأمور التي أخبر بها عن الأنبياء في القرآن والحديث مثلاً من رأى آدم عليه السلام في مكان على حسنه وجماله وكان للولاية أهلاً ملك ملكاً عظيماً لقوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة ومن رأى نوحاً عليه السلام فإنه يعيش عيشاً طويلاف ويصيبه شدة وأذى من الناس ثم يظفر بهم ومن رأى إبراهيم عليه السلام فإنه يعق أباه ويرزق الحج وينصر على أعدائه ويناله هول وشدة من ملك جائز ثم ينصر ومن رأى يوسف عليه السلام فإنه يكذب عليه ويظلم ويناله شدة ويحبس ثم يملك ملكاً ويظفر ومن رأى موسى وهارون عليهما السلام فإن الله يهلك على يده جباراً عنيداً ومن رأى سليمان عليه السلام فإنه بلى القضاء أو الملك أو يرزق
229
الفقه ومن رأى عيسى عليه السلام فإنه يكون رجلاً مباركاً نفاعاً كثير الخير كثير السفر في رضى الله ومن رأى نبينا صلى الله عليه وسلّم وليس في رؤياه مكروه لم يزل خفيف الحال وإن رآه في أرض جدب أخصبت أو في أرض قوم مظلومين نصروا ومن رآه عليه السلام فإن كان مغموماً ذهب غمه وإن كان مديوناً قضى الله دينه وإن كان مغلوباً نصر وإن كان محبوساً أطلق وإن كان عبداً أعتق وإن كان غائباً رجع إلى أهله سالماً وإن كان معسراً أغناه الله وإن كان مريضاً شفاه الله تعالى وحديث الإسراء كان بمكة ومكة حرم الله وآمنه وقطانها جيران الله لأن فيها بيته فأول من رآه عليه السلام من الأنبياء كان آدم عليه السلام الذي كان في أمن الله وجواره فأخرجه إبليس عدوه منها وهذه القصة تشبهها الحالة الأولى من أحوال النبي عليه السلام حين أخرجه أعداؤه من حرم الله وجوار بيته وكربه ذلك وغمه فأشبهت قصته في هذا قصة آدم مع أن آدم تعرض عليه أرواح ذريته البر والفاجر منهم فكان في السماء الدنيا بحيث يرى الفريقين لأن أرواح أهل الشقاء لا تلج في السماء ولا تفتح لهم أبوابها ثم رأى في الثانية عيسى ويحيى عليهما السلام وهما الممتحنان باليهود أما عيسى عليه السلام فكذبته اليهود وآذته وهموا بقتله فرفعه الله وأما يحيى عليه السلام فقتلوه ورسول الله عليه السلام بعد انتقاله إلى المدينة صار في حالة ثانية من الامتحان وكانت محنته فيها باليهود آذوه وظاهروا عليه وهموا بإلقاء الصخرة عليه ليقتلوه فنجاه الله كما نجى عيسى منهم ثم سموه في الشاة فلم تزل تلك الأكلة تعاوده حتى قطعت أبهره كما قال عند الموت.
وفي المثنوي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
ون سفيها نراست اين كرا وكيا
لازم آمد يقتلون الأنبيا
ومما يؤثر عن سعيد ابن المسيب رحمه الله الدنيا بذلة تميل إلى الإبذال ومن استغنى بالله افتقر إليه الناس وأما لقاؤه ليوسف عليه السلام في السماء الثالثة فإنه يؤذن بحالة ثالثة تشبه حالة يوسف عليه السلام وذلك أن يوسف ظفر بإخوته بعدما أخرجوه من بين ظهرانيهم فصفح عنهم وقال : لا تثريب عليكم اليوم الآية وكذلك نبينا عليه السلام أسر يوم بدر جملة من أقاربه الذين أخرجوه فيهم عمه العباس وابن عمه عقيل فمنهم من أطلق ومنهم من فداه ثم ظهر عليهم بعد ذلك عام الفتح فجمعهم فقال لهم : أقول ما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم ثم لقاؤه لادريس عليه السلام في السماء الرابعة وهو المكان الذي سماه الله مكاناً علياً وإدريس أول من آتاه الله الخط بالقلم فكان ذلك مؤذناً بحالة رابعة وهو علو شأن عليه السلام حتى أخاف الملوك وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته حتى قال أبو سفيان وهو عند ملك الروم حين جاءه كتاب النبي عليه السلام ورأى ما رأى من خوف هرقل كسبحل وزبرج لقد أمر ابن أبي كبشة حين أصبح يخافه ملك ابن أبي الأصفر وكتب عليه بالقلم إلى جميع ملوك الأرض فمنهم من اتبعه على دينه كالنجاشي بالتخفيف وملك عمان ومنهم من هادنه وأهدى إليه وأتحفه كهرقل والمقوقس سلطان مصر ومنهم من تعصى عليه فأظفره الله به فهذا مقام علي وخط بالقلم جلي نحوما أوتي إدريس ولقاؤه في السماء السادسة لموسى عليه السلام يؤذن
230
(9/189)
بحالة تشبه حالة موسى حين أمر بغزوة الشام وظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها وأدخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد إهلاك عدوهم وكذلك غزا رسول الله عليه السلام تبوك من أرض الشام وظهر على صاحب دومة الجندل حتى صالحه على الجزية بعد أن أتى به أسيراً وافتتح مكة وأدخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه ثم لقاؤه في السماء السابعة لإبراهيم عليه السلام لحكمتين إحداهما أنه رآه عند البيت المعمور مسند أظهره إليه والبيت المعمور حيال الكعبة أي بإزائها ومقابلتها وإليه تحج الملائكة كما أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة وأذن في الناس بالحج إليها والحكمة الثانية أن آخر أحوال النبي عليه السلام حجه إلى البيت الحرام وحج معه ذلك العام نحو من سبعين ألفاً من المسلمين ورؤية إبراهيم عليه السلام عند أهل التأويل تؤذن بالحج لأنه الداعي إليه والرافع لقواعد الكعبة المحجوجة.
قال الإمام : إن هذه الآية تدل على أن محمداً عليه السلام لم ير الله ليلة المعراج وإنما رأى آيات وفيه خلاف ووجه الدلالة أنه ختم قصة المعراج ههنا برؤية الآيات وقال في موضع آخر : سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً إلى أن قال : لنريه من آياتنا ولو كان رآه لكان ذلك أعظم ما يمكن من الكرامة فكان حقه أن يختم به قصة المعراج انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : رؤية الآيات مشتملة على رؤية الله تعالى كما قال الشيخ الكبير رضي الله عنه في الفكوك إنما تتعذر الرؤية والإدراك باعتبار تجرد الذات عن المظاهر والنسب والإضافات فأما في المظاهر ومن وراء حجابية المراتب فالإدراك ممكن كما قيل :
كالشمس تمنعك اجتلاءك وجهها
فإذا اكتست برقيق غيم أمكنا
انتهى.
وأما اشتمال إراءة الآيات على إراءة الله تعالى فلما كانت تلك الآيات الملكوتية فوق الآيات الملكية أشهده تعالى في تلك المشاهد ليكمل له الرؤية في جميع المراتب والمشاهد ومن المحال أن يدعو كريم كريماً إلى داره ويضيف حبيب حبيباً في قصره ثم يتستر عنه ولا يريه وجهه.
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن الله تعالى آيات كبرى وصغرى أما الآيات الكبرى فهي الصفات القديمة الأزلية المسماة عند القوم بالأئمة السبعة كالحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والآيات الصغرى هي الأسماء الإلهية التي قال الله تعالى : ولله الأسماء الحسنى وإنما سميت الأولى بالكبرى والثانية بالصغرى لأن الصفات مصادر الأسماء مراجعها كما أن الحي يرجع في الوجود إلى الحياة والعليم إلى العلم والقادر إلى القدرة ولأن الأسماء مظاهر الصفات كما أن الحي يرجع في الوجود إلى الأفعال والأفعال مظاهر الأسماء والآثار مظاهر الأفعال وأما التخصيص بالكبرى دون الصغرى وإن كانت من آيات الله كما قال تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياماً تدعوا فله الأسماء الحسنى لأن شهود الآيات الكبرى يستلزم شهود الآيات الصغرى لأن الله تعالى إذا تجلى لعبده بصفة الحياة والعلم والقدرة لا بد للعبد أن يصير حياً بحياته عليماً بعلمه قديراً بقدرته تلخيص المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما عرج به إلى سماء الجمعية الوحدانية وأدرج في نور الفردانية تجلى الحق سبحانه أولاً بصورة هذه الصفات الكبرى التي هي مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو
231
بحيث صارت حياته مادة حياة العالم كله علوياً وسفليه روحانيه وجسمانيه معدنيه ونباتيه وحيوانيه وإنسانيه كما قال وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال : لولاك لما خلقت الأفلاك وقال عليه السلام : أنا من الله والمؤمنون مني وكذا صار علمه محيطاً لجميع المعلومات الغيبية الملكوتية كما جاء في حديث اختصام الملائكة إنه قال : فوضع كفه على كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت علم الأولين والآخرين وفي رواية علم ما كان وما سيكون وكذا قدرته كسر بها أعناق الجبابرة وضرب بالسيف رقاب الأكاسرة وخرب حيطانهم وحصونهم فما بقين ولا بقوا وببركة هذا التجلي الجمعي الكلي الإحاطي صار آدم بتبعيته وخلافته خليفة العالم كما أخبر في كتابه العزيز أني جاعل في الأرض خليفة وأسجد الله الملائكة لتلألؤ نوره والوحداني في وجه آدم هذا تحقيق قوله : لقد رأى من آيات ربه الكبرى اللام جواب القسم ومن مزيدة انتهى.
6
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/190)
وقال البقلي رحمه الله : أراه سبحانه من آياته العظام ما لا يقوم برؤيتها أحد سواه أي المصطفى عليه السلام وذلك بأن ألبسه قوة الجبارية الملكوتية كما قال : لقد رأى من ريات ربه الكبرى وذلك ببروز أنوار الصفات في الآيات وتلك الآيات لو رآها أحد لاستغرق في رؤيتها فكان من كمال استغراقه في بحر الذات والصفات لم يكبر عليه رؤية الآيات قال ابن عطاء : رأى الآيات فلم تكبر في عينه لكبر همته وعلو محله ولاتصاله بالكبير المتعال قال جعفر : شاهد من علامات المحبة ما كبر عن الاخبار عنها {أَفَرَءَيْتُمُ اللَّـاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاخْرَى} هي أصنام كانت لهم فاللات كانت لثقيف بالطائف أصله لوية فأسكنت الياء وحذفت لالتقاء الساكنين فبقيت لوة فقلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت لاة فهي فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها ويطوفون بها وكانت على صورة آدمي قال سعدي المفتي : فإن قلت هذا يختص بقراءة الكسائي فإنه يقف على اللاة بالهاء وأما الباقون فيقفون عليها بالتاء فلا يجوز أن تكون من تلك المادة قلت : لا نسلم ذلك فإنهم إنما يقفون بهاء مراعاة لصورة الكتابة لا غير انتهى والعزى تأنيث الأعز كانت لغطفان وهي سمرة كانوا يعبدونها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد فقطعها وهو يقول : يا عزى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك فخرجت من أصلها شيطانة ناشرة شعرها واضعة يدها على رأسها وهي تولول فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها فأخبر رسول الله عليه السلام فقال : تلك لن تعبد أبداً فوي القاموس : العزى صنم أو سمرة عبدتها غطفان أول من اتخذها ظالم بن أسعد فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال بنى عليها بيتاً وسماه بسا وكانوا يسمعون فيها الصوت فبعث إليها رسول الله خالد بن الوليد فهدم البيت وأحرق السمرة انتهى ومناة صخرة لهذيل وخزاعة سميت مناة لأن دماء المناسك تمنى عندها أي تراق ومنه منى وفي إنسان العيون مناة صنم كان للأوس والخزرج أرسل رسول الله عليه السلام سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه في عشرين فارساً إلى مناة ليهدم محلها فلما وصلوا إلى ذلك الصنم قال السادن لسعد؟ ما تريد؟ قال : هدم مناة قال : أنت وذاك فأقبل سعد إلى ذلك الصنم فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل
232
(9/191)
تضرب صدرها فقال لها السادن : مناة دونك بعض عصاتك فضربها سعد فقتلها وهدم محلها انتهى.
ووصف مناة بالثالثة تأكيداً لأنها لما عطفت عليهما علم أنها ثالثتهما والأخرى صفة ذم لها وهي المتأخرة الوضيعة المقدار أي مناة الحقيرة الذليلة لأن الأخرى تستعمل في الضعفاء كقوله تعالى : قالت أخراهم لأولاهم أي ضعفاؤهم لرؤسائهم قال ابن الشيخ : الأخرى تأنيث الآخر بفتح الخاء وهو في الأصل من التأخر في الوجود نقل في الاستعمالل إلى المغايرة مع الاشتراك مع موصوفه فيما أثبت له ولا يصح حمل الأخرى في الآية على هذا المعنى العرفي إذ لا مشاركة لمناة في كونها مناة ثالثة حتى توصف بالأخرى احترازاً عنها فلذلك حمل على المعنى المذكور انتهى وقد جوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى فتكون مناة من التأخر الرتبي يعني أن العزى شجرة وهي لكونها من أقسام النبات أشرف من مناة التي هي صخرة وجماد فهي متأخرة عنها رتبة ويقال أن المشركين أرادوا أن يجعلوا لآلهتهم من الأسماء الحسنى فأرادوا أن يسمعوا واحداً منها الله فجرى على ألسنتهم اللات وأرادوا أن يسموا واحداً منها العزيز فجرى على ألسنتهم العزى وأرادوا أن يسموا واحداً منها المنان فجرى على ألسنتهم المناة وقال الراغب : أصل اللات اللاه فحذفوا منها الهاء وأدخلوا التاء فيه فأنثوه تنبيهاً على قصوره عن الله وجعلوه مختصاً بما يتقرب به إلى الله في زعمهم وقال السهيلي : أصل هذا الاسم أي اللات لرجل كان يلت السويق للحجاج بسمن وأقط إذا قدموا وكانت العرب تعظم ذلك الرجل بإطعامه في كل موسم فلما مات اتخذ مقعده الذي كان يلت فيه السويق منسكاً ثم سنح الأمر بهم إلا أن عبدوا تلك الصخرة التي كان يقعد عليها ومثلوها صنماً وسموها اللات أعني ملت السويق ذكر ذلك كثير ممن ألف في الاخبار والتفسير انتهى وهذا على قراءة من يشدد اللات أي التاء منه وقد قرأته أي بالتشديد ابن عباس وعكرمة وجماعة كما في القاموس ثم إنهم كانوا مع ما ذكر من عبادتهم لها يقولون : إن الملائكة وتلك الأصنام بنات الله فقيل لهم توبيخاً وتبكيتاً : أفرأيتم والهمزة للإنكار والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شؤون الله المنافية لها غاية المنافاة وهي قلبية ومفعولها الثاني محذوف لدلالة الحال عليه فالمعنى أعقيب ما سمعتم من آثار كمار عظمة الله في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وأحكام قدرته ونفاذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى وما بينهما رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها بنات له تعالى قال بعضهم : كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله وهذه الأصنام استوطنها جنيات هي بناته تعالى أو هذه الأصنام هياكل الملائكة التي هن بناته تعالى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية يخاطب عبدة الأصنام صنم لات النفس وصنم عزى الهوى ومناة الدنيا الدنية الخسيسة الحقيرة الواقعة في أدنى المراتب لخسة وضعها ودناءة قدرها ويستفهم منهم إنكاراً لهم ورداً عليهم أخبروني عن حال آلهتكم التي اتخذتموها معبودات وتمكنتم على عبوديتها هل وجدتم فيها صفة من صفات الإلهية من الإيجاد والإعدام والنفع والضر وأمثالها لا والله بل اتخذتموها آلهة لغاية ظلوميتكم على أنفسكم ونهاية جهوليتكم بالإله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن
233
له كفؤاً أحد.
قال المغربي رحمه الله :
بود وجود مغربي لات ومنات أوبود
نيست بتى و بود او درهمه سو منات تو
{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الانثَى} توبيخ مبني على التوبيخ الأول والمعنى بالفارسية آيا شمارا فرزندان نرباشند ومرخدايرا ماده {تِلْكَ} إشارة إلى القسمة المنفهمة من الجملة الاستفهامية {أَذِنَ} آنهنكام كه نين باشد {قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي جائزة معوجة حيث جعلتم له تعالى ما تستنكفون منه وهي فعلي من الضيز وهو الجور يعني أن أصله ضيزى بضم الضاد من ضاز في الحكم يضيز ضيزاً أي جار وضازه حقه يضيزه أي بخسه ونقصه لكن كسر فاؤه لتسلم الياء كما فعل في البيض فإن أصله بيض بضم الباء لأنه جمع أبيض كحمر في جمع أحمر وذلك لأن فعلي بالكسر لم يأت في الوصف وفيه إشارة إلى استنكار شركهم وتخصيصهم الشرك ببعض الظاهر دون بعض يعني أتخصصون ذكر الروح لكم وإن كان ميتاً باستيلاء ظلمة نفوسكم الظلمانية عليه وتجعلون أنثى النفس في عبوديتها واتباع مراداتها وانقياد أوامرها ونواهيها شركاً له تعالى الله عما يقول الظالمون الذين وضعوا الجور موضع العدل وبالعكس ما هذا إلا قسمة الجور والجائر لا قسمة العدل والعادل {إِنْ هِىَ} الضمير للأصنام أي ما الأصنام باعتبار الألوهية التي تدعونها أي باعتبار إطلاق اسم الإله {إِلا أَسْمَآءٌ} أي أسماء محضة ليس تحتها مسميات أي ما تنبىء هي عنه من معنى الألوهية شيء ما أصلاً كما إذا أردت أن تحقر من هو ملقب بما يشعر بالمدح وفخامة الشان تقول ما هو الاسم.
قال المولى الجامي :
مرد جاهل جاه كيتى را لقب دولت نهد
(9/192)
همنان آماس بيند طفل كويد فربهست
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وقال في ذم أبناء الزمان :
شكل ايشان شكل إنسان فعل شان فعل سباع
هم ذئبا في ثياب أو ثياب في ذئاب
ويجوز الحمل على الإدعاء {سَمَّيْتُمُوهَآ} صفة لأسماء وضميرها لها لا للأصنام والمعنى جعلتموها أسماء لا جعلتم لها أسماء فإن التسمية نسبة بين الاسم والمسمى فإذا قيست إلى الاسم فمعناها جعله إسماً للمسمى وإذا قيست إلى المسمى فمعناها جعله مسمى للاسم وإنما اختير ههنا المعنى الأول من غير تعرض للمسمى لتحقيق إن تلك الأصنام التي يسمونها آلهة أسماء مجردة ليس لها مسميات قطعاً كما في قوله تعالى : ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها لأن هناك مسميات لكنها لا تستحق التسمية أي ما هي إلا أسماء خالية من المسميات وضعتموها {أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم} بمقتضى أهوائكم الباطلة {مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا} أي بصحة تسميتها {مِن سُلْطَـانٍ} برهان تتعلقون به جميع القرآن أنزل بالألف إلى في الأعراف فإنه نزل بالتشديد {إِن يَتَّبِعُونَ} التفات إلى الغيبة للإيذان بأن تعداد قبائحهم اقتضى الإعراض عنهم وحكاية جناياتهم لغيرهم ما يتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها {إِلا الظَّنَّ} إلا توهم إن ما هم عليه حق توهماً باطلاً {وَمَا تَهْوَى الانفُسُ} أي تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء فما موصولة ويجوز كونها مصدرية والألف واللام بدل الإضافة وهو معطوف على الظن.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية يقول : ليست هذه الأصنام التي تعبدونها بضلالة
234
نفوسكم الدنية الشهوانية وجهالة عقولكم السخيفة الهيولانية إلا أسماء صور وهمية لا مسميات لها أوجدتها أوهامكم الضعيفة وأدركتها عقولكم المريضة المشوبة بالوهم والخيال التي هي بمرتبة آبائكم ليس لها عند أصحاب الطلب وأرباب الكشف والقرب وجود ولا نمو بل هي خشب مسندة ما جعل الله في تلك الأصنام النفسية والهوائية والدنيوية ولا ركب فيها التصرف في الأشياء في الإيجاد والإعدام والقهر واللطف والنفع والضر والأشياء علويها وسفليها جمادها ونباتها حيوانها وإنسانها كلها مظاهر الأسماء الإلهية ومجالي الصفات الربانية الجمالية والجلالية أي اللطيفة والقهرية تجلى الحق في الكل بحسب الكل لا بحسبه إلا الإنسان الكامل فإنه تجلى فيه بحسب الكلية المجموعية وصار خليفة الله في الأرض وأنتم أيها الجهلة الظلمة ما تتبعون تلك الصفات الإلهية وما تشهدون في الأشياء تلك الحقائق الروحانية والأسرار الربانية المودعة في كل حجر ومدر بل أعرضتم باتباع الهوات الحيوانية وملازمة الجسمانية الظلمانية عن إدراك تلك اللطائف الروحانية وشهود تلك العواطف الرحمانية واتبعتم مظنونات ظنكم الفاسد وموهومات وهمكم الكاسد وأثرتم هوى النفس المشؤومة على رضى الحق وذلك هو الخسران المبين وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً انتهى.
وقال الجنيد قدس سره : رأيت سبعين عارفاً قد هلكوا بالتوهم أي توهموا أنهم عرفوه تعالى فالكل معزولون عن إدراك حقيقة الحق وما أدركوا فهو أقدارهم وجل قدر الحق عن إدراكهم قال تعالى : وما قدروا الله حق قدره ولذلك اجترأ الواسطي رحمه الله في حق سلطان العارفين أبي يزيد البسطامي قدس سره بقوله : كلهم ماتوا على التوهم حتى أبو يزيد مات على التوهم وقال البقلي : يا عاقل احذر مما يغوي أهل الغرة بالله من الأشكال والمخاييل التي تبدو في غواشي أدمغتهم وهم يحسبون أنها مكاشفات الغيوب ونوادر القلوب ويدعون أنها عالم الملكوت وأنوار الجبروت وما يتبعون إلا أهواء نفوسهم ومخاييل شياطينهم التي تصور عندهم أشكالاً وتمثالاً ويزبنون لهم أنها الحق والحق منزه عن الأشكال والتمثال إياك يا صاحبي وصحبة الجاهلين الحق الذين يدعون في زماننا مشاهدة الله ومشاهدة الله حق للأولياء وليست بمكشوفة للأعداء {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} حال من فاعل يتبعون أو اعتراض وأياً ما كان ففيه تأكيد لبطلان اتباع الظن وهوى النفس وزيادة تقبيح لحالهم فإن اتباعهما من أي شخص كان قبيح وممن هداه الله بإرسال الرسول وإنزال الكتاب أقبح فالهدى القرآن والرسول ولم يهتدوا بهما وفيه إشارة إلى إفساد استعدادهم الفطري الغير المجعول بواسطة تلبسهم بملابس الصفات الحيوانية العنصرية وانهماكهم في الغواشي الظلمانية الطبيعية فإنهم مع أن جاءهم من ربهم أسباب الهدى وموجباته وهو النبي عليه السلام والقرآن وسائر المعجزات الظاهرة والخوارق الباهرة الدالة على صدق نبوته وصحة رسالته اشتغلوا بمتابعة النفس وموافقة الهوى وأعرضوا عن التوجه إلى الولي والمولى وذلك لأن هداهم ما اءهم إلا في يوم الدنيا لا في يوم الأزل ومن لم يجعل الله له نوراً في يوم الأزل فما له من نور إلى يوم الأبد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/193)
واعلم أن الهدى ضد الهوى فلا بد من المتابعة للهدى قال بعض الكبار : ليس لولي كرامة
235
إلا بحكم الإرث لمن ورثه من الأنبياء عليهم السلام ولذلك لم يقدر من هو وارث عيسى عليه السلام أن يمشي في الهواء والماء ومن هو وارث لمحمد عليه السلام له المشي على الهواء والماء لعموم مقامه وفي الحديث : لو ازداد عيسى يقيناً لمشي في الهواء أي بموجب قوة يقينية لا بموجب صدق اتباعي ولا نشك أن عيسى عليه السلام أقوى يقيناً من سائر الأولياء الذين يمشون في الهواء بما لا يتقارب فإنه من أولى العزم من الرسل فعلمنا قطعاً إن مشى الولي منا في الهواء إنما هو بحكم صدق التبعية لا بزيادة اليقين على يقين عيسى عليه السلام وعيسى أصدق في تبعيته لمحمد عليه السلام من جميع الأولياء فله القدرة بذلك على المشي على الهواء وإن ترك ذلك من نفسه وبالجملة فلا يمشي في الهواء إلا من ترك الهوى :
هوى وهوس را نماند ستيز
و بيند سر نه عقل تيز
{أَمْ لِلانسَـانِ مَا تَمَنَّى} أم منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من بيان إن ما هم عليه غير مستند إلا إلى توهمهم وهوى نفسهم إلى بيان إن ذلك مما لا يجدي نفعاً أصلاً والهمزة للإنكار والنفي والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها وذلك قد يكون عن تخمين وظن وقد يكون عن رؤية وبناء على أصل لكن لما كان أثره عن تمخمين صار الكذب له أملك فأكثر التمني تصوير ما لا حقيقة له والمعنى ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه من الأمور التي من جملتها أطماعهم الفارغة في شفاعة الآلهة ونظائرها التي لا تكاد تدخل تحت الوجود :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقال الكاشفي : آياهست مر انسان را يعني كافررا آنه آرزو برداز شفاعت بتان يا آنكه كويد را نبوت بفلان وفلان ندادند.
وقيل : أم للإنسان ما اشتهى من طول الحياة وأن لا بعث ولا حشر وفي الآية إشارة إلى أن للإنسان استعداد الكمال وهو الفناء عن أنانيته والبقاء بهوية الله تعالى لكن بسبب اشتغاله باللذات الجسمانية والروحانية يحصل له في بعض الأوقات آفات العلائق الجسمانية وفترات العوائق الروحانية فيحرم من بلوغ مطلوبه ولا يتهيأ له كل ما تمناه إذ كل ميسر لما خلق له فمن خلق مظهر اللطف بيده اليمنى لا يقدر أن يجعل نفسه مظهر القهر ومن خلق مظهر القهر بيده اليسرى لا يمكن أن يجعل نفسه مظهر اللطف :
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
توان اك كردن زنك آينه
وليكن نيايد زسنك آينه
وإنما تمنى لما ليس له مخلوقية على صورة من جمع الضدين بقوله : هو الأول والآخر والظاهر والباطن أي هو الأول في عين آخريته والظاهر في عين باطنيته وسئل الخراز قدس سره : بم عرفت الله؟ قال : بالجمع بين الضدين لأن الحقيقة متوحدة والتعين والظهور متعدد وتنافي التعينات لا يقدح في وحدة الهوية المطلقة كما أن تنافي الزوجية والفردية لا يقدح في العدد وتضاد السواد والبياض لا يقدح في اللون المطلق قال الحسين رحمه الله : الاختيار طلب الربوبية والتمني الخروج من العبودية وسبب عقوبة الله عباده ظفرهم بمنيتهم {فَلِلَّهِ الاخِرَةُ وَالاولَى} تعليل لانتقاء أن يكون للإنسان ما يتمناه حتماً فإن اختصاص أمور الآخرة والأولى جميعاً به
236
تعالى مقتض لانتفاء أن يكون له أمر من الأمور.
وفي التأويلات النجمية يشير إلى قهرمانيه الحق تعالى على العالم كله ملكه الأخروي والدنيوي يعني لا يملك الإنسان شيئاً حتى يتمكن من تحصيل ما تتمناه نفسه بل ملك الآخرة تحت تصرف يده اليمنى المقتضية لموجبات حصول الآخرة من الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة يهبه بالاسم الواهب لمن يشاء أن يكون مظهر لطفه وجماله وملك الدنيا تحت تصرف يده اليسرى المستدعية لأسباب حصول الدنيا من حب الدنيا الدنية المنتجة للخطيئة ومتابعة النفس الخبيثة وموافقة الطبيعة اللئيمة يجعله باسمه المقسط لمن يشاء أن يكون مظهر صفة قهره وجلاله ولا ذلك يزيد في ملكه ولا هذا ينقص من ملكه وكلتا يده الرحمن ملأى سحاء {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَـاوَاتِ لا تُغْنِى شَفَـاعَتُهُمْ شَيْـاًا} أقناط لهم مما علقوا به طماعهم من شفاعة الملائكة لهم موجب لأقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الأولوية وكم خبرية مفيدة للتكثير محلها الرفع على الابتداء والخبر هي الجملة المنفية وجمع الضمير في شفاعتهم مع أفراد الملك باعتبار المعنى أي وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم عند الله شيئاً من الإغناء في وقت من الأوقات أي لا تنفع شيئاً من النفع وهو القليل منه أو شيئاً أي أحداً وليس المعنى أنهم يشفعون فلا تنفع شفاعتهم بل معناه أنهم لا يشفعون لأنه لا يؤذن لهم كما قال تعالى : {إِلا مِنا بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ} لهم في الشفاعة {لِمَن يَشَآءُ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/194)
أن يشفعون له {وَيَرْضَى} ويراه أهلاً للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم من إذن الله بمعزل من الشفاعة بألف منزل فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فما ظنهم بحال الأصنام وفي الآية إشارة إلى أن ملك الروح يشفع في حق النفس الأمارة بالسوء رجاء الانسلاخ عن أوصافها الذميمة والترقي إلى مقام الفناء والبقاء ولكن لا تنفع شفاعته في حقها لعلمه القديم الأزلي بعدم استعدادها للترقي من مقامها اللهم إلا أن تقبل شفاعته في حق نفس رقيق الحجاب مستعد لقبول الفيض الإلهي لصفاء فطرته الأولى وبقاء قابليته الكبرى للترقي في المقامات العلية بالخروج من موافقة الطبع ومخالفة الشرع والدخول في موافقة الشريعة ومخالفة الطبيعة {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} وبما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي {لَيُسَمُّونَ الملائكة} المنزهين عن سمات النقصان على الإطلاق أي كل يسمون كل واحد منهم {تَسْمِيَةَ الانثَى} منصوب على أنه صفة مصدر محذوف أي تسمية مثل تسمية الأنثى فإن قولهم الملائكة بنات الله قول منهم بأن كلاً منهم بنته سبحانه وهي التسمية بالأنثى فاللام في الملائكة للتعريف الاستغراقي وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجتري عليها إلا من لا يؤمن بها رأساً قال ابن الشيخ فإن قيل كيف يصح أن يقال أنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله وكان من عادتهم أن يربطوا مركوب الميت على قبره ويعتقدون أنه يحشر عليه أجيب بأنهما ما كانوا يجزمون به بل كانوا يقولون : لا نحشر فإن كان فلنا شفعاء بدليل ما حكى الله عنهم وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى وأيضاً ما كانوا يعترفون بالآخرة على وجه الذي
237
ورد به الرسل فهم لا يؤمنون بها على وجهها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
واعلم أن الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث وفي الحديث جبرائيل أتاني في أول ما أوحي إلى فعلمني الوضوء والصلاة فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه أي رش بها فرجه أي محل الفرج من الإنسان بناء على أنه لا فرج له وكون الملك لا فلاج له لو تصور بصورة الإنسان دليل على أنه ليس ذكراً ولا أنثى وفيه نظر لأنه يجوز أن يكون له آلة ليست كآلة الذكر وكآلة الأنثى كما قيل بذلك في الخنثى ويقال لذلك فرج وبعضهم حمل الفرج على ما يقابل الفرج من الإزار {وَمَا لَهُم بِه مِنْ عِلْمٍ} حال من فاعل يسمون أي يسمونهم والحال أنه لا علم لهم بما يقولون أصلاً {إِن يَتَّبِعُونَ} أي ما يتبعون في ذلك ليس بتكرار لأن الأول متصل بعبادتهم اللات والعزى ومناة والثاني بعبادتهم الملائكة {إِنَّ الظَّنَّ} الفاسد {وَإِنَّ الظَّنَّ} أي جنس الظن كما يلوح به الإظهار في موقع الإضمار {لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْـاًا} من الإغناء فإن الحق الذي هو عبارة عن حقيقة الشيء لا يدرك إدراكاً معتبراً إلا بالعلم والظن لا اعتداد به في شأن المعارف الحقية وإٌّما يعتد به في العمليات وما يؤدي إليها كمسائل علم أصول الفقه وفيه ذم للظن ودلالة على عدم إيمان المقلد وقيل : الحق بمعنى العلم أي لا يقوم الظن مقام العلم وقيل الحق بمعنى العذاب أي إن ظنهم لا ينقذهم من العذاب وحقيقة هذه الآية العزيزة تحريض السالكين والطالبين على السعي والاجتهاد في السير إلى الله بقطع المنازل السفلية وتصحيح المقامات العلوية إلى أن يصلوا إلى عين الجمع ويغرقوا في بحر التوحيد ويشهدوا الحائق والمعاني المجردة بنور الوحدة الحقيقة الذاتية الدافعة ظلمة الكثرة النسبية لأسماء الله تعالى ثم إن الافراد يتفاوتون في حضرة الشهود مع كونهم على بساط الحق الذي لا نقص فيه لأنهم إنما يشهدون في حقائقهم ولو شهدوا في عين الذات لتساووا في الفضيلة قال بعض الكبار : أصحاب الكشف الخيالي غلطهم أكثر من إصابتهم لأن الخيال واسع والذي يظهر فيه يحتمل التأويلات المختلفة فلا يقع القطع بما يحصل منه إلا بعلم آخر وراء ذلك وإنما كان الخيال بهذا الحكم لكونه ليست له حقيقة ونفسه بل هو أمر برزخي بين حقيقتين وهما المعاني المجردة والمحسوسات فلهذا يقع الغلط في الخيال لكونه ليست له حقيقة في نفسه وانظر إلى إشارته عليه السلام في الكشف الخيالي وكونه يقبل الإصابة والغلط لما أتاه جبرائيل بصورة عائشة رضي الله عنها في سرفة من حرير وقال له : هذه زوجتك فقال عليه السلام : إن يكن من عند الله يمضه بحلاف ما لو أتاه ذلك بطريق الوحي المعهود المحسوس له أو بطريق المعاني المجردة الموجبة لليقين وللعلم فإنه إذا لا يمكنه الجواب بمثل ذلك الجواب الذي يشعر بالتردد المحتمل الذي يقتضيه حضرة الخيال بحقيقتها :
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
سيراب كن زبحر يقين جان تشنه را
(9/195)
زين بيش خشك لب منشين برسراب ريب
{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا} أي فاعرض يا محمد عن دعوة من أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم اليقيني ولم يؤمن به وهو القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين المذكر لأمور الآخرة ولا تتهالك على إسلامه أو عن ذكرنا كما ينبغي فإن ذلك مستتبع لذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمهروب عنها {وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} راضياً بها
238
قاصراً نظره على جمع حطامها وجلب منافعها فالمراد النهي عن دعوته والاعتناء بشأنه فإن من أعرض عما ذكر وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته وقصارى سعيه لا تزيده الدعوة إلى خلافها إلا عناداً وإصراراً على الباطل والنهي عن الدعوة لا يستلزم نهي الآية بآية القتال بل الإعراض عن الجواب والمناظرة شرط الجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخاً بها فالمعنى أعرض عنهم ولا تشتغل بإقامة الدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به وقاتلهم واقطع دابرهم قال بعضهم : ضع وقته من اشتغل بموعظة طالبي الدنيا والراغبين فيها لأن أحداً لا يقبل على الدنيا إلا بعد الإعراض عن الله :
باسيه دل ه سود كفتن وعظ
نرود ميخ آهنين درسنك
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 25 من صفحة 239 حتى صفحة 248
قال ابن الشيخ : اعلم أن النبي عليه السلام كالطبيب للقلوب فأمره الله تعالى في معالجة القلوب بما عليه الأطباء في معالجة المرضى فإن المرض إذا أمكن علاجه بالغذاء لا يستعملون في إزالته الدواء وإذا أمكن إزالته بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القوي والكي فلذلك أمر عليه السلام بالذكر الذي هو غذاء القلوب حيث قالوا : قولوا لا إله إلا الله فإن بذكر الله تطمئن القلوب كما أن بالغذاء تطمئن النفوس فانتفع به بو بكر ومن كان مثله رضي الله عنهم : ومن لم ينتفع بالحمل على الذكر والأمر به ذكر لهم الدليل وقال : أولم يتفكروا قل : انظروا أفلا ينظرون فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينفعهم قال : اعرض عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصالح فقوله : عمن توفى الخ إشارة إلى ما قلنا فإن التولي عن ذكره كناية عن ملزمه الذي هو ترك النظر في دلائل وجوده ووحدته وسائر صفاته وقوله : ولم يرد الخ إشارة إلى إنكارهم الحشر ومن لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف ولا يرجع عما هو عليه ترك النظر في دلائل الله لا يعرفه فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه فلا يبقى في الدعاء فائدة فلم يبق إلا ترك المعالجة والمسارعة إلى المقاتلة انتهى كلامه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
ثم اعلم أن كل ما يبعد البعد عن حضرة سيده فهو من الحياة الدنيا فمن قصد بالزهد والورع والتقى والكشف والكرامات وخوارق العادات قبول الناس والشهرة عندهم وحصول الجاه والمال فهو ممن لم يرد إلا الحياة الدنيا فضاع جميع أحواله وكسد جملة أقواله وأفعاله إذ لا ربح له عند الله ولا ثمرة :
زعمرو اى سر شم اجرت مدار
و درخانه زيد باشى بكار
ولا يغترن هذا بحصول بعض الكشوف وإقبال أهل الدنيا عليه فإنه ثمرة عاجلة له وماله في الآخرة من خلاق ألا ترى أن إبليس عبد الله تعالى تسعة آلاف سنة ثم لما كفر وقال : انظرني إلى يوم يبعثون أمهله الله تعالى فكانت تلك المهلة ثمرة عاجلة له في حياته الدنيوية {ذَالِكَ} أي أمر اردنيا وفي بحرالعلوم أي إرادة الدنيا وإيثارها على الآخرة وفي الإرشاد أي ما أداهم إلى ما هم فيه من التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا {مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} لا يكادون يجاوزونه إلى غيره حتى يجديهم الدعوة والإرشاد كقوله تعالى : يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون فبلغ اسم مكان وجمع الضمير في مبلغهم باعتباره معنى من كما أن أفراده فيما سبق باعتبار لفظها والمراد بالعلم مطلق الإدراك المنتظم للظن الفاسد
239
والجملة اعتراض مقرر لقصر همتهم على الدنيا الدنية التي هي أبغض الخلق إلى الله تعالى بشهادة قوله عليه السلام : إن الله لم يخلق خلقاً هو أبغض إليه من الدنيا وما نظر إليها منذ خلقها بغضاً لها رواه أبو هريرة رضي الله عنه ومعنى هو أن الدنيا على الله سبحانه أنه تعالى لم يجعلها مقصودة لنفسه بل جعلها طريقاً موصلة إلى ما هو المقصود لنفسه ولذلك قال عليه السلام : الدنيا قنطرة فاعبروها لا تعمروها فما ورد من إباحة لعن الدنيا فباعتبار ما كان منها مبعداً عن الله تعالى وشاغلاً عنه كما قال بعض أهل الحقيقة : ما ألهاك عن مولاك فهو دنياك ومشؤوم عليك وأما ما يقرب إلى الله ويعين إلى عبادته فممدوح كما قال عليه السلام : لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر ، إن العبد إذا قال : لعن الله الدنيا قالت الدنيا : لعن الله أعصانا لربه.
وفي المثنوي :
يست دنيا از خدا غافل بدن
نى قماش ونقره وميزان وزن
مال را كزبهر دين باشى حمول
نعم مال صالح خواندش رسول
آب در كشتى هلاك كشتى است
(9/196)
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
آب اندر زير كشتى شتى است
ونكه مال وملك را ازدل براند
زان سليمان خويش جر مسكين نخواند
قال بعض الكبار : من ذم الدنيا فقد عق أمه لأن جميع الإنكاد والشرور التي ينسبها الناس إلى الدنيا ليس هو فعلها وإنما هو فعل أولادها لأن الشر فعل المكلف لا فعل الدنيا فهي مطية العبد عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر فهي تحب أن لا يشقى أحد من أولادها لأنها كثيرة الحنو عليهم وتخاف أن تأخذهم الضرة الأخرى على غير أهبة مع كونها ما ولدتهم ولا تعبث في تربيتهم فمن عقوق أولادها كونهم ينسبون جميع أفعال الخير إلى الآخرة ويقولون : أعمال الآخرة والحال أنهم ما عملوا تلك الأعمال إلا في الدنيا فللدنيا أجر المصيبة التي في أولادها ومن أولادها فما أنصف من ذمها بل هو جاهل بحق أمه ومن كان كذلك فهو بحق الآخرة أجهل انتهى.
واعلم أن الإرادة والنية واحد وهو قصد قلبي ينبعث إلى قلب الإنسان بالبعث الإلهي فهذا البعث الإلهي إن كان بالفجور على ما قال تعالى فألهمها فجورها وتقواها فهو من اسم المضل وقبضة الجلال ويد القهر وسادنه هو الشيطان وإن كان بالتقوء فهو من اسم الهادي وقبضة الجمال ويد اللطف وسادنه هو الملك والأول من عالم العدل والثاني من عالم الفضل وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً ثم إن نية الإنسان لا تخلو إما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو الدنيا فهو سيء نية وعملاً وإما أن يكون متعلقها في لسانه هو الآخرة وفي جنانه هو الدنيا فهو إسوة ني وعملاً وإما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو الآخرة فهو حسن نية وعملاً وإما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو وجه الله فهو أحسن نية وعملاً فالأول حال الكفار والثاني حال المنافقين والثالث حال الأبرار والرابع حال المقربين وقد أشار الحق سبحانه وتعالى إلى أحوال المقربين عبارة وإلى أحوال غيرهم إشارة في قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً والمقربون قد فروا إلى الله من جميع ما في أرض الوجود ولم يلتفتوا إلى شيء سوى وجهه الكريم ولم يريدوا أمن المولى غير
240
المولى فكانوا أحسن نية وعملاً هذا صراط مستقيم اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} تعليل للأمر بالإعراض وتكرير قوله وهو أعلم لزيادة التقرير والإيذان بكمال تباين المعلومين والمراد بمن ضل من أصر عليه ولم يرجع إلى الهدى أصلاً وبمن اهتدى من من شأنه الاهتداء في الجملة أي هو المبالغ في العلم بمن لا يرعوي عن الضلال أبداً وبمن يقبل الاهتداء في الجملة لا غيره فلا تتعب نفسك في دعوتهم فإنه من القبيل الأول وفيه إشارة إلى النفس الكافرة ويهود صفاتها فإنهم لا يقبلون الدعوة لانتفاء استعدادهم لقبولها فمن كان مظهر القهر في الأزل لا يكون مظهر اللطف في الأبد وبالعكس وفي الحديث القدسي : "خلقت الجنة وخلقت لها أهلاً وخلقت الناس وخلقت لها أهلاً فطوبى لمن جعلته أهلاً للجنة وويل لمن جعلته أهلاً للنار" قال بعض الكبار : النفس لا تفعل الشر إلا لجاجة من القرين واللجاج ممن لا قدرة على منعه ومخالفته بمنزل الإكراه والمكره غير مؤاخذ بالشرع والعقل ولذا قال عليه السلام : الخير عادة والشر لجاجة فهو بشارة عظيمة من العالم بالأمور عليه السلام فإنه أخبر أن النفس خيرة بالذات لأن أباها الروح القدسي الطاهر وما نقبل الشر إلا لجاجة من القرين فلم يجعل عليه السلام الشر من ذاتها
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
{وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} أي خلقاً وملكاً لا لغيره أصلاً لا استقلالاً ولا اشتراكاً {لِيَجْزِىَ} الخ متعلق بما دل عليه أعلم الخ وما بينهما اعتراض مقرر لما قبله فإن كون الكل مخلوقاً له تعالى مما يقرر علمه تعالى بأحوالهم ألا يعلم من خلق كأنه قيل فيعلم ضلال من ضل واهتداء من اهتدى ويحفظهما ليجزى {الَّذِينَ أساءوا} بد كردند {بِمَا عَمِلُوا} أي بعقاب ما عملوا من الضلال الذي عبر عنه بالإساءة بياناً لحاله أو بسبب ما عملوا شبه نتيجة علمه بكل واحد من الفريقين وهي مجازاته على حسب حاله بعلته الغائبة فأدخل لام العلة عليها وصح بذلك تعلقها بقوله اعلم :
هين مراقب باش كرد بايدت
كزى هرفعل يزى زايدت
{وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا} أي اهتدوا {بِالْحُسْنَى} أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة فالحسنى للزيادة المطلقة والباء لتعدية الجزاء أو بسبب أعمالهم الحسنى فالباء للسببية والمقابلة {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائرَ الاثْمِ} صفة للذين أحسنوا أو بدل منه لكن قال سعدي المفتي : لا حسن في جعل الذين الخ مقصوداً بالنسبة وجعل الذين أحسنوا في حكم المتروك ولو كان النظم على العكس لكان لها وجه انتهى.(9/197)
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : الاجتناب من باب التخلية بالمعجمة وهي أقدم فلذا جعلت مقصودة بالنسبة وصيغة الاستقبال في صلته دون صلة الموصوف أو المبدل منه للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره يعني للإشعار بأن ترك المعصية سوء كانت بارتكاب المحرمات أو بترك الواجبات ينبغي أن يستمر عليه المؤمن ويجعل الاجتناب عنها دأباً له وعادة حتى يستحق المثوبة الحسنى فإن من اجتنب عنها مرة وانهمك عليها في باقي الأزمان لا يستحقها بخلاف الحسنات المتطوع بها فإن من أتى بها ولو مرة يؤجر عليها وكبائر
241
الإثم ما يكبر عقابه من الذنوب وهو ما رتب عليه الوعيد بخصوصه كالشرك والزنى مطلقاً خصوصاً بحليلة جاره وقتل النفس مطلقاً لا سيما الأولاد وهي الموؤودة وقال ابن جبير : هي ما لا يستغفر منه لقوله عليه السلام : لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار وفي الحديث : إياكم والمحقرات من الذنوب قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي إلى سبعين أقرب وتمام التفصيل سبق في حمعسق في نظر الآية {وَالْفَوَاحِشَ} وما فحش من الكبائر خصوصاً الزنى والقتل بغير حق وغيرهما فهو من قبيل التخصيص بعد التعميم قال الراغب : الفحش والفحشاء والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال {إِلا اللَّمَمَ} اللمم مقاربة المعصية ويعبر به عن الصغيرة من قولك الممت بكذا أي نزلت به وقاربته من غير مواقعة وألم الغلام قارب البلوغ والاستثناء منقطع لأن المراد باللمم الصغائر وهي لا تدخل في الكبائر والمعنى إلا ما قل وصغر فإنه مغفور ممن يجتنب الكبائر يعني أن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر قال تعالى : إن الحسنات يذهبن السيئات وقال : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وقيل : هي النظر بلا تعمد فإن أعاد النظر فليس بلمم وهو مذنب والغمزة والقبلة كما روى أن نبهان التمار أتته امرأة لتشتري التمر فقال لها : ادخلي الحانوت فعانقها وقبلها فقالت المرأة : خنت أخاك ولم تصب حاجتك فندم وذهب إلى رسول الله عليه السلام فنزلت وقيل : هي الخطرة من الذنب أي ما خطره من الذنب على القلب بلا عزم.
وازقوت بفعل نيايد.
وقيل : كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً ولا عذاباً وقال بعضهم : اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ولا يكون له عادة ولا إقامة عليه قال محمد بن الحنفية : كل ما هممت به من خير وشر فهو لمم دليله قوله عليه السلام : إن للشيطان وللملك لمة فلمة الشيطان الوسوسة ولمة الملك الإلهام وقال ابن عباس رضي الله عنهما معناه إلا أن يلمم بالفاحشة مرة ثم يتوب ولم يثبت عليها فإن الله يقبل توبته ويؤيده قوله عليه السلام أن تغفر اللهم فاغفر جما واي عبد لك لا الماً فالاستثناء على هذا متصل وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما نقله أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى فزنى العينين النظر وزنى الشفتين القبلة وزنى اليدين البطش وزنى الرجلين المشي والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه فإن تقدم فرجه كان زانياً وإلا فهو اللمم وفي الأسئلة المقحمة الذنوب كلها كبائر على الحقيقة لأن الكل تتضمن مخالفة أمر الله تعالى لكن بعضها أكبر من بعض عند الإضافة ولا كبيرة أعظم من الشرك وأما اللمم فهو من جملة الكبائر والفواحش أيضاً إلا أن الله تعالى أراد باللمم الفاحشة التي يتوب عنها مرتكبها ومجترحها وهو قول مجاهد والحسن وجماعة من الصحابة منهم أبو هريرة رضي الله عنه
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
{إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر فالجملة تعليل لاستثناء اللمم وتنبيه على أن إخراجه من حكم المؤاخذة به ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية.
وفي التأويلات النجمية : كبائر الإثم ثلاث مراتب : محبة النفس الأمارة بالسوء ومحبة لهوى النافخ في نيران
242
(9/198)
النفس ومحبة الدنيا التي هي رأس كل خطيئة ولكل واحدة من هذه المحبات الثلاث فاحشة لازمة غير منفكة عنها أما فاحشة محبة النفس الأمارة بالسوء فموافقة الطبيعة ومخالفة الشريعة وأما فاحشة محبة الهوى فحب الدنيا وشهواتها وأما فاحشة محبة الدنيا فالإعراض عن الله والإقبال على ما سواه قوله إلا اللمم أي الميل اليسير إلى النفس والهوى والدنيا بحسب الضرورة البشرية من استراحة البدن ونيل قليل من حظوظ الدنيا بحسب الحقوق لا بحسب الحظوظ فإن مباشر الحقوق مغفور ومبادر الحظوظ مغرور كما قال : إن ربك واسع المغفرة ومن سعة غفرانه ستر ظلمة الوجود المجازي بنور الوجود الحقيقي بالفناء عن ناسوتيته والبقاء بلا هويته انتهى.
قال بعض الكبار : من استرقه الكون بحكم مشروع كالسعي في مصالح العباد والشكر لأحد من المخلوقين من جهة نعمة أسداها إليه فهو لم يبرح عن عبوديتهتعالى لأنه في أداء واجب أوجبه الحق عليه وأما تعبد العبد فمخلوق عن أمر الله لا يقدح في العبودية بخلاف من استرقه الكون لغرض نفسي ليس للحق فيه رائحة أمر فإن ذلك يقدح في عبوديتهتعالى ويجب عليه الرجوع إلى الحق تعالى وقال بعض العارفين : من المحال أن يأتي مؤمن معصية توعد الله عليها بالعقوبة فيفزع منها إلا ويجد في نفسه الندم على وقوعها منه وقد قال صلى الله عليه وسلّم الندم توبة وقد قام بهذا المؤمن الندم فهو تائب بلا شك فسقط حكم الوعيد لهذا الندم فإنه لا بد للمؤمن أن يكره المخالفة ولا يرضى بها فهو من كونه كارهاً لها ومؤمناً بأنها معصية ذو عمل صالح وهو من كونه فاعلاً لها ذو عمل سيء فهو من الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً وقد قال تعالى فيهم عسى الله أن يتوب عليهم يعني ليتوبا والله غفور رحيم انتهى فعلى العاقل أن يندم على المعاصي الواقعة منه ولا يغتر بالرب الكريم وإن كان الله واسع المغفرة فإنه تعالى أيضاً شديد البطش والأخذ نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة {هُوَ} تعالى {أَعْلَمُ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
منكم {بِكُمْ} أي بأحوالكم يعلمها {إِذْ أَنشَأَكُم} أي خلقكم في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام {مِّنَ الأرْضِ} إنشاء إجمالياً {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} ووقت كونكم أجنة {فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ} على أطوار مختلفة مترتبة لا يخفى عليه حال من أحوالكم وعمل من أعمالكم التي من جملتها اللمم الذي لولا المغفرة الواسطة لأصابكم وباله وضروره والأجنة جمع جننين مثل أسرة وسرير والجنين الولد ما دام في البطن وهو فعيل بمعنى مفعول أي مدفون مستتر والجنين الدفين في الشيء المستتر فيه من جنه إذا ستره وإذا خرج من بطن أمه لا يسمى إلا ولداً أو سقطاً وفي الأشباه هو جنين ما دام في بطن أمه فإذا انفصل ذكراً فصبي ويسمى رجلاً كما في آية الميراث إلى البلوغ فغلام إلى تسعة عشر فشاب إلى أربعة وثلاثين فكهل إلى أحد وخمسين فشيخ إلى آخر عمره هذا في اللغة وفي الشرع يسمى غلاماً إلى البلوغ وبعده شاباً وفتى إلى ثلاثين فكهل إلى خمسين فشيخ وتمامه في إيمان البزازية فإن قيل الجنين إذا كان إسماً له ما دام في البطن فما فائدة قوله تعالى في بطون أمهاتكم قلنا فائدته المبالغة في بيان كمال علمه وقدرته فإن بطون الأمهات في غاية الظلمة ومن علم حال الجنين فيها لا يخفى عليه
243
شيء من أحواله {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} الفاء لترتيب الهي عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم ليس لعدم كونه من قبيل الذنوب بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه بصدوره عنكم أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا عليها بالطهارة من المعصية بالكلية أو بما يستلزمها من زكاء العمل ونماء الخير بل اشكروا الله تعالى على فضله ومغفرته وبالفارسية س ستايش مكنيد نفسهاى خودرا به بى كناهى وبسيارى خير وخوبى اوصاف.
وقال الحسن رحمه الله : علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة فلا تزككوا أنفسكم ولا تطهروها من الآثام ولا تمدحوها بحسن الأعمال لأن كل واحد من التخلية والتحلية إنما يعتد به إذا كان خالصاًتعالى وإذا كان هو أعلم بأحوالكم منكم فأي حاجة إلى التزكية :
همان به كر آبستن كوهرى
كه همون صدف سر بخود در برى
اكر مسك خالص ندارى مكوى
وكرهست خود فاش كردد ببوى
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
منه آب زر جان من برشيز
كه صراف دانا نكيرد بيز
(9/199)
وأما من زكاه الغير ومدحه فقد ورد فيه (احثوا في وجه المداحين) أي الذين يمدحون بما ليس في الممدوح {التُّرَابِ} على حقيقته أو هو مجاز عن ردهم عن المدح لئلا يغتر الممدوح فيتجبر وقيل : المراد به أن لا يعطوهم شيئاً لمدحهم أو معناه الأمر بدفع المال إليهم لينقطع لسانهم ولا يشتغلوا بالهجو وفيه إشارة إلى أن المال حقير في الواقع كالتراب قال ابو الليث في تفسيره : المدح على ثلاثة أوجه : الأول أن يمدحه في وجهه فهو الذي نهى عنه والثاني أن يمدحه بغير حضرة ويعلم أنه يبلغه فهذا أيضاً ينهى عنه ومدح يمدحه في حال غيبته وهو لا يبالي بلغه أو لم يبلغه ومدح يمدحه بما هو فيه فلا بأس بهذا انتهى.
وفي المثنوي :
خلق ما در صورت خود كرد حق
وصف ما از وصف او كيرد سبق
ونكه آن خلاق شكر وحمد جوست
آدمي را مدح جويى نيز خوست
خاصه مرد حق كه در فضلست ست
رشود زان باد ون خيك درست
ورنه باشد اهل زان باد دروغ
خيك بدريدست كى كيرد فروغ
وأما المدح بعد الموت فلا بأس به إذا لم يجاوز الحد كالروافض في مدح أهل البيت {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} المعاصي جميعاً وهو استئناف مقرر للنهي ومشعر تأن فيهم من يتقيها بأسرها وقيل : كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا فنزلت وهذا إذا كان بطريق الإعجاب أو الرياء فأما من اعتقد أن ما عمله من الأعمال الصالحة من الله تعالى وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدح لم يكن من المزكين أنفسهم فإن المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية يشير به إلى أن علم الإنسان بنفسه علم إجمالي وعلمه تعالى به تفصيلي والعلم التفصيلي أكمل وأشمل من العلم الإجمالي وأيضاً علم الإنسان بنفسه علم مقيد بقواه البشرية وهو متناه بحسب تناهي قواه البشرية وعلمه تعالى به علم مطلق إذ علمه عين ذاته في مقام الواحدية غير ذاته في مقام الواحدية والعلم المطلق أحوط وأجمع من العلم المقيد وأيضاً الإنسان مخلوق على صورة الله كما قال عليه السلام : إن الله خلق آدم على صورته وفي رواية أخرى على صورة
244
الرحمن والله تعالى عالم بصورته المنزهة عن الشكل المقدسة عن الهيئة والإنسان غير عالم بها على كيفية علم الله إذ لا يعلم الله إلا الله كما قال وما قدروا الله حق قدره اللهم إلا أن يفنى عن علمه المقيد ويبقى بعلمه المطلق هذا هو تحقيق أعلمية الحق تعالى وقوله وهو أعلم بمن اتقى أي بمن اتقى بالله عما سواء بحيث جعل الله تعالى وقاية نفسه لينسب كل ما يصدر عنه من العلم والعمل إليه فإنه هو المؤثر في الوجود ومنه كل فيض وفضل وخير وجود {أَفَرَءَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى} أي أعرض عن اتباع الحق والثبات عليه وبالفارسية آيا ديدى آن كسى راكه از برىء حق روى بكردانيد {وَأَعْطَى قَلِيلا} أي شيئاً قليلاً من ماله وأعطاه قليلاً وبالفارسية وبداداندكى ازمال خود براى رشوت تحمل عذاب ازو {وَأَكْدَى} أي قطع عطيته وأمسك بخلاً من قولهم أكدى الحافر أي حافر البئر إذا بلغ الكدية أي الصلابة كالصخرة فلا يمكنه أن يحفر ثم استعمل في كل من طلب شيئاً فلم يصل إليه ولم يتممه ولم يبلغ آخره وفي القاموس أكدى بخل أو قل خيره أو قلل عطاءه وفي تاج المصادر قوله تعالى : واكدى أي قطع القليل قالوا : نزلت في الوليد بن المغيرة كان يتبع رسول الله عليه السلام يعني درى حضرت رسالت ميرفت واستماع كلام وى ميكند در مجلس او.
وطمع النبي عليه السلام في إسلامه فعيره بعض المشركين وعاتبه وقال له : تركت دين الأشياخ وضللتم فقال : أخشى عذاب الله فضمن أن يتحمل عنه العذاب وكل شيء يخافه في الآخرة إن أعطاه بعض ماله فارتد وتولى عن الوعظ واستماع الكلام النبوي وأعطاه بعض المشروط وبخل بالباقي فالذم آيل إلى سبب القطع وهو البخل فلا يتوهم أن الآية مسوقة لذم فعل المتولي وقطع العطاء عن المتحمل المذكور ليس بمذموم.
وقال الكاشفي : واكدى وبازداشت باقى را س جهل وبخل بايكديكر جمع كرد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/200)
يقول الفقير : الظاهر أن الآية مسوقة لذم التولي وسوء الاعتقاد في نفع التحمل يوم القيامة كما دلت عليه الآية الآتية وقوله : وأعطى قليلاً وأكدى مجرد بيان الحال المتولى والمعطى فيما جرى بينه وبين المتحمل لاذم لبخله في ذلك لكن لا يخلو عن التهكم حيث أنه بخل فيما اعتقد نفعه وقال مقاتل : انفق الوليد على أصحاب محمد عليه السلام نفقة قليلة ثم انتهى عن ذلك انتهى ولا يخفى أنه ليس لهذا المعنى ارتباط بما بعد من الآيات وفيه إشارة إلى السالك المنقطع في أثناء السلوك الراجع من السير إلى الله إلى نفسه البشرية واستيفاء لذاتها الحيوانية بسبب سآمته المشؤومة من المجاهدات البدنية والرياضات النفسانية بعد أن صرف في طريق السير والسلوك فلساً من رأس مالك عمره ثم بخل به وقطعه عن الصرف في طريق السعي والاجتهاد في الله وصرف بقية رأس مال عمره في تحصيل لذات النفس الحيوانية البشرية واستفاء شهواتها وحب الدنيا الدنية الخسيسة وهذا كله لعدم استعداده للوصول والوصال نعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن النكرة بعد المعرفة :
اندرين ره مى تراش ومى خراش
تادم آخر دمى فارغ مباني
{أَعِندَهُ} آيا نزديك اوست {عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} الفاء للسببية والرؤية قلبية أي أعنده علم بالأمور الغيبية التي من جملتها تحمل صاحبه عنه يوم القيامة فهو يعلم أن صاحبه
245
يتحمل عنه قال ابن الشيخ : أرأت بمعنى أخبرت وأعنده علم الغيب مفعوله الثاني أي أخبرت أن هذا المعطى المكدي هل عنده علم ما غاب عنه من أحوال الآخرة فهو يعلم أن صاحبه يتحمل أوزاره على أن قوله يرى بمعنى يعلم حذف مفعولاه لدلالة المقام عليهما {أَمْ} أهو جاهل {لَمْ يُنَبَّأْ} لم يخبر {بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى} أي أسفار التوراة قال الراغب : الصحيفة المبسوطة من كل شيء كصحيفة الوجه والصحيفة التي كان يكتب فيها وجمعها صحائف وصحف والمصحف ما جعل جامعاً للصحف المكتوبة وقال القهستاتي : المصحف مثلث الميم ما جمع فيه قرآن والصحف {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى} عطف على موسى أي وبما في صحف ابراهيم الذي وفي أي وفر وأتم ما ابتلى به من الكلمات كما مر في سورة البقرة أو أمر به من غير إخلال وإهمال يقال : أوفاه حقه ووفاه بمعنى أي أعطاه تاماً وافياً ويجوز أن يكون التشديد فيه للتكثير والمبالغة في الوفاء بما عاهد الله أي بالغ في الوفاء بما عاهد الله وتخصيصه بذلك لاحتماله ما لم يحتمل غيره بالصبر على نار نمرود حتى أنه أتاه جبريل حين ألقى في النار فقال ألك حاجة فقال أما إليك فلا وعلى ذبح الولد وعلى الهجرة وعلى ترك أهله وولده في واد غير ذي زرع ويروى أنه كان يمشي كل يوم فرسخاً يرتاد ضيفاً فإن وجده أكرمه وإلا نوى الصوم ونعم ما قيل وفى ببذل نفسه للنيران وقلبه للرحمن وولده للقربان وماله للإخوان وعن النبي عليه السلام وفي عمل كل يوم بأربع ركعات وهي صلاة الضحى وفي الحديث القدسي : (ابن آدم أركع إلى أربع ركعات من أرول النهار أكفك آخره) وروى إلا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى كان يقول : إذا أصبح وأمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيتين ذكره أحمد في مسنده الآيات الثلاث في عين المعاني وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله كم من كتاب أنمل الله؟ قال : مائة كتاب وأربعة كتب أنزل الله على آدم عشر صحائف وعلى شيت خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وأنزل الله التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قلت : يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم؟ قال : كانت أمثالاً منها أيها الملك المبتلي المغرور إني لم أبعثك فتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك كيلا ترد دعوة المظلوم فإني لا أردها وإن كان من كافر وكان فيها أمثال منها وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات ساعة يناجي فيها ربه ويفكر في صنع الله وساعة يحاسب نفسه فيما قدم وأخر وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلول في المطعم والمشرب وغيرهما وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه حافظاً للسانه ومن علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه ويأتي ما نقل من صحف موسى في آخر سورة سبح اسم ربك الأعلى كذا في فتح الرحمن وتقديم موسى لما أن صحفه التي هي التوراة أشهر عندهم وأكثر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : وأيضاً هو من باب الترقي من الأقرب إلى الأبعد لكون الأقرب أعرف وأيضاً أن موسى صاحب كتاب حقيقة بخلاف إبراهيم {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أصله أن لا تزر على أن أن هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن هو
246
(9/201)
اسمها محذوف والجملة المنفية خبرها ومحل الجملة الجر على أنها بدل مما في صحف موسى أو الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل ما في صحفهما فقيل : هو أنه أي الشأن لا تحمل نفس من شأنها الحمل حمل نفس أخرى من حيث تتعرى منه المحمول عنها ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره ليتخلص الثاني من عقابه فابمراد بالوازرة هي التي يتوقع منها الوزر والحمل لا التي وزرت وحملت ثقلاً وإلا فكان المقام أن يقال لا تحمل فارغة وزر أخرى إذ لا تحمل مثقلة بوزرها غير الذي عليها وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإثم ولا يقدح في ذلك قوله تعالى كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً إذ ليس المعنى أن عليه إثم مباشرة سائر القاتلين بل المعنى أن عليه فوق إثم مباشرته للقتل المحظور إثم دلالته وسببيته لقتل هؤلاء وهما ليستا إلا من أوزاره فهو لا يحمل إلا وزر نفسه وكذا قوله عليه السلام : من سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة فإن ذلك وزر الإضلال الذي هو وزره {وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى} إن مخففة من الثقيلة كأختها معطوفة عليها وللإنسان خبر ليس وإلا ما سعى اسمها مصدرية ويجوز أن تكون موصولة والسعي المشي الذريع وهو دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيراً كان أو شراً والمعنى وأنه أي الشأن ليس للإنسان في الآخرة إلا سعيه في الدنيا من العمل والنية أي كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير لا يثاب بفعله فهو بيان لعدم انتفاع الإنسان بعمل غيره من حيث جلب النفع أثر بيان عدم انتفاعه من حيث دفع الضرر عنه وظاهر الآية يدل على أنه لا ينفع أحداً عمل أحد واختلفوا في تأويلها فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عدم إثابة الإنسان بسعي غيره وفعله وهذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله تعالى : ألحقنا بهم ذريتهم فيدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء ويجعل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه ويشفع الله الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء يدل على ذلك قوله تعالى : آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً قال عكرمة : كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لما روي أن امرأة رفعت صبياً لها من محفة وقالت : يا رسول الله ألهذا حج؟ قال : نعم ولك أجر وقال رجل للنبي عليه السلام : إن أمي افتلتت نفسها أي ماتت فجأة فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال : نعم وقال الربيع بن أنس وإن ليس للإنسان إلا ما سعى يعني الكافر وأما المؤمن فعله ما سعى وما سعى له غيره وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول ويشهد له أن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
ـ روي ـ أن عائشة رضي الله عنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه بعد موته وأعتقت عنه وقال سعد للنبي عليه السلام : إن أمي توفيت أفأتصدق عنها : قال : نعم قال : فأي الصدقة أفضل؟ قال : سقي الماء فحفر بئراً وجعلها في سبيل الله وقال القرطبي في تذكرته : ويحتمل أن يكون قوله وأن ليس للإنسان إلا ما سعى خالصاً في السيئة بدليل قوله عليه السلام : قال الله : إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها عشراً إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة
247
(9/202)
والقرآن دال على هذا قال تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وهذا ونحوه تفضل من الله وطريق العدل وأن ليس للإنسان إلا ما سعى إلا أن الله يتفضل عليه بما لم يجب له كما أن زيادة الأضعاف فضل منه كتب لهم بالحسنة الواحدة عشراً إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة وقد تفضل الله على الأطفال بإدخالهم الجنة بغير عمل والحاصل ما كان من السعي فمن طريق العدل والمجازاة وما كان من غير السعي فمن طريق الفضل والتضعيف فكرامة الله تعالى أوسع وأعظم من ذلك فإنه يضاعف الحسنات ويتجاوز عن السيئات فمرتبة النفس والطبيعة وكذا الشريعة والطريقة من الطريق الأولى ومرتبة الروح والسر وكذا المعرفة والحقيقة من الطريقة الثانية قال في الأسئلة المقحمة أشارت الآية إلى أصل النجاة المعهودة في حكم الشريعة فإن النجاة الأصلية الموعودة في الكتاب والسنة بالعمل الصالح وهي النجاة بشرط المجازاة والمكافأة فأما التي هي من غير طريق المجازاة والمكافأة فهي بطريق تفضل الله وبطوله وعميم رحمته وكريم لطفع وقد فسرها رسول الله عليه السلام حيث قال : ادخلت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي أترونها للمؤمنين المتقين لا ولكنها للخطائين الملوثين وبيان الكتاب إلى الرسول عليه السلام وسمعت الإمام أبا بكر الفارسي بسرقند يقول : سمعت الأستاذ أبا إسحاق الإسفرائيني يقول : إن عبد الله بن طاهر أمير خراسان قال للحسن بن الفضل البجلي : أشكلت على ثلاث آيات : أريد أن تكشف عني وتشفي العليل أولاها قوله تعالى في قصة ابن آدم فأصبح من النادمين وصح الخبر بأن الندم توبة ولم يكن هذا الندم توبة في حق قابيل وثانيتها قوله تعالى : كل يوم هو في شأن وصح الخبر بأن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة وثالثتها قوله تعالى : أضعافاً مضاعفة فأجابه وقال : أما الآية الأولى فالندم لم يكن توبة في شريعة من الشرائع وإنما صار توبة في شريعة محمد عليه السلام تخصيصاً له على أن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل وإنما كان على حمله حين حمله على عاتقه أياً ما فلم يعلم ماذا يعمل به لأنه كان أول قتل حتى بعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه وأما الآية الثانية فإن الشأن المذكور فيها ما هو التقدير بطريق الابتداء وإنما هو سوق المقادير إلى المواقيت وأما الآية الثالثة فهو أنه ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل والمجازاة وله أن يجزيه بواحدة عشراً وأشعافاً مضاعفة بطريق الفضل والطول لا على سبيل العدل والجزاء فقام عليه السلام بن طاهر وقبل رأسه وسوغ خراجه وكان خمسين ألف درهم وقد ذكر الخرائطي في كتاب الثبور قال سنة في الأنصار إذا حملوا الميت أن يقرأوا معه سورة البقرة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : فيه دليل على سنية الذكر عند حمل الجنازة لأن الذكر من القرآن ولذا كان على الذاكر أن ينوي التلاوة والذكر معاً حتى يثاب بثواب التلاوة فحيث سن القرآن سن الذكر المأخوذ منه ولقد أحسن من قال في أبيات :
زر والديك وقف على قبريهما
فكأنني بك قد حملت إليهما
إلى قال في آخرها :
وقرأت من آي الكتاب بقدر ما
تسطيعه وبعثت ذاك إليهما
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 26 من صفحة 248 حتى صفحة 258
قال الشيخ تقي الدين ابو العباس : من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع
248
(9/203)
وذلك باطل من وجوه كثيرة أحدها : أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير.
والثاني : أن النبي عليه السلام يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها ولأهل الكبائر في الإخراج من النار وهذا الانتفاع بسعي الغير والثالث أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير والرابع أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير والخامس أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط بمحض رحمته وهذا انتفاع بغير عملهم والسادس أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض عمل الغير وكذا الميت بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع وهو من عمل غيره وأن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه عنه بنص السنة وكذا تبرأ ذمة الإنسان من ديون الخلق إذا قضاها عنه قاض كما قال الشافعي : إذا أنا مت فليغسلني فلان أي من الدين وذلك انتفاع بعمل الغير وكذا من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وأن الجار الصالح ينتفع بجواره في الحياة والممات كما جاء في الأثر وأن جليس أهل الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم ولم يجلس معهم لذلك بل لحاجة أخرى والأعمال بالنيات وكذا الصلاة على الميت والدعاء له فيها ينتفع بها الميت مع أن جميع ذلك انتفاع بعمل الغير ونظائر ذلك كثيرة لا تحصى والآيات الدالة على مضاعفة الثواب كثيرة أيضاف فلا بد من توجيه قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فإنه لاشتماله على النفس والاستثناء يدل على أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمل نفسه ولا يجزى على عمله ألا يقدر سعيه ولا يزداد وهو يخالف الأقوال الواردة في انتفاعه بعمل غيره وفي مضاعفة ثواب أعماله ولا يصح أن يؤول بما يخالف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة فأجابوا عنه بوجوه : منها أنه منسوخ ومنها أنه في حق الكافر ومنها أنه بالنسبة إلى العدل لا الفضل وقد ذكرت ومنها أن الإنسان إنما ينتفع بعمل غيره إذا نوى الغير أن يعمل له حيث صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعاً فكان سعي الغير بذلك كأنه سعيه وأيضاً إن سعى الغير إنما لم ينفعه إذا لم يوجد له سعي قط فإذا وجد له سعي بأن يكون مؤمناً صالحاً كان سعي الغير تابعاً لسعيه فكأنه سعى بنفسه فإن علقة الإيمان وصلة وقرابة كما قال عليه السلام مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وقال عليه السلام : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ثم شبك بين أصابعه فإذا سعى أحد في الإيمان والعمل الصالح فكأنه سعى بتأييد عضو أخيه وسد ثلمته فكان سعيه سعيه والحاصل أنه لما كان مناط منفعة كل ما ذكر من الفوائد عمله الذي هو الإيمان والصالح ولم يكن لشيء منه نفع ما بدونهما جعل النافع نفس عمله وإن كان بانضمام غيره إليه وفي أول باب الحج عن الغير من الهداية الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوماً أو صدقة أو غيرها عند أهل السنة والجماعة وفي فتح الرحمن واختلف الأئمة فيما يفعل من القرب كالصلاة والصيام وقراءة القرآن والصدقة ويهدي ثوابه للميثت المسلم فقال أبو حنيفة وأحمد يصل ذلك إليه ويحصل له نفعه بكرم الله ورحمته وقال مالك والشافعي : يجوز ذلك في الصدقة والعبادة
249
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
المالية وفي الحج وأما غير ذلك من الطاعات كالصلاة والصوم وقراءة القرآن وغيره لا يجوز ويكون ثوابه لفاعله وعند المعتزلة ليس للإنسان جعل ثواب عمله مطلقاً لغيره ولا يصل إليه ولا ينفعه لقوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ولأن الثواب الجنة وليس في قدرة العبد أن يجعلها لنفسه فضلاً عن غيره واختلفوا فيمن مات قبل أن يحج فقال أبو حنيفة ومالك يسقط عنه الحج بالموت ولا يلزم الحج عنه إلا أن يوصى بذلك وقال الشافعي واحمد لا يسقط عنه ويلزم الحج عنه من رأس ماله واختلفوا فيمن لم يحج عن نفسه هل يصح أن يحج عن غيره فقال أبو حنيفة ومالك يصح ويجزي عن الغير مع الكراهة وقال الشافعي وأحمد : لا يصح ولو فعل وقع عن نفسه وأما الصلاة فهي عبادة بدنية لا تصح فيها النيابة بمال ولا بدن بالاتفاق وعند أبي حنيفة إذا مات وعليه صلوات يعطي لكل صلاة نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير أو قيمة ذلك فدية تصرف للمساكين وليس للمدفوع إليه عدد مخصوص فيجوز أن يدفع لمسكين واحد الفدية عن عدة صلوات ولا يجوز أن تدفع فدية صلاة لأكثر من مسكين ثم لا بد من الإيصاء بذلك فلو تبرع الورثة بذلك جاز من غير لزوم وذلك عند أبي حنيفة خلافاً للثلاثة.
ـ وروي ـ أن رجلاً سأل النبي عليه السلام فقال : كان لي أبوان أبرهما حال حياتهما فكيف أبرهما بعد موتهما؟ فقال : إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك رواه الدارقطني عن علي رضي الله عنه وهذا الحديث حجة لأبي حنيفة في تجويزه جعل العبادة البدنية أيضاً لغيره خلافاً للشافعي كما مر.
(9/204)
ـ وروي ـ أيضاً من مر على المقابر قرأ قل هو الله أحد عشر مرات ثم وهب أجرها للأموات أعطى من الأجر بعدد الأموات.
رواه الدارقطني عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً فهذا أيضاً حجة له في تجويزه جعل ثواب التلاوة للغير خلافاً للشافعي.
ـ وروي ـ عن النبي عليه السلام أنه ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته المؤمنين متفق عليه أي جعل ثوابه لها وهذا تعليم منه عليه السلام بأن الإنسان ينفعه عمل غيره والاقتداء به عليه السلام هو الاستمسال بالعروة الوثقى وكذا قال الحسن البصري رحمه الله : رأيت علياً رضي الله عنه يضحي بكبشين وقال : إن رسول الله أوصاني أن أضحي عنه وكان الشيخ الفقير القاضي الإمام مفتي الأنام عز الدين بن عبد السلام يفتي بأنه لا يصل إلى الميت ثواب ما يقرأ ويحتج بقوله وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فلما توفى رآه بعض أصحابه ممن يجالسه وسأله عن ذلك وقال له : إنك كنت تقول : لا يصل إلى الميت ثواب ما يقرأ ويهدى إليه فكيف الأمر فقال له : كنت أقول ذلك في دار الدنيا والآن قد رجعت عنه لما رأيت من كرم الله في ذلك أنه يصل إليه ذلك وقد قيل : إن ثواب القرآن للقارىء وللميت ثواب الاستماع ولذلك تلحقه الرحمة قال الله تعالى : وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون قال القرطبي : ولا يبعد من كرم الله أن يلحقه ثواب القرآن والاستماع جميعاً ويلحقه ثواب ما يهدي من قراءة القرآن وأن لم يسمعه كالصدقة والاستغفار ولأن القرآن دعاء واستغفار وتضرع وابتهال وما تقرب التقربون إلى الله بمثل
250
القرآن انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : فيه حجة على أن أنكر من أهل عصرنا جهر آية الكرسي أعقاب الصلوات وأوجب إخفاءها وتلاوتها لكل واحد من الجماعة وذلك لأن استماع القرآن أثوب من تلاوته فإذا قرأ المؤذن واستمع الحاضرون كانوا كأنهم قرأوا جميعاً وإذا جاز وصول ثواب القراءة والاستماع جميعاً إلى الميت فما ظنك بالحي أصلحنا الله وإياكم.
(9/205)
ـ وروي ـ أن بعض النساء توفيت فرأتها في المنام امرأة كانت تعرفها وإذا عندها تحت السرير آنية من نور مغطاة فسألتها ما في هذه الأوعية فقالت : فيها هدية أهداها إلى أبو أولادي البارحة فلما استيقظت المرأة ذكرت ذلك لزوج الميتة فقال : قرأت البارحة شيئاً من القرآن وأهديته إليها وفي الحديث إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له قال القرطبي : القراءة في معنى الدعاء وذلك صدقة من الولد ومن الصاحب والصديق والمؤمنين قال ابن الملك في شرح الحديث : "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله" أي تجدد الثواب له "إلا من ثلاث صدقة جارية" كالأوقاف "أو علم ينتفع به" قيل هو الأحكام المستنبطة من النصوص والظاهر أنه عام متناول ما خلفه من تصنيف أو تعليم في العلوم الشرعية وما يحتاج إليه في تعلمها قيد العلم بالمنتفع به لأن ما لا ينتفع به لا يثمر أجراً "أو ولد صالح يدعو له" قيد بالصالح لأن الأجر لا يحصل من غيره وأما الوزر فلا يلتحق بالأب من سيئة ولده إذا كانت نيته في تحصيل الخير وإنما ذكر الدعاء له تحريضاً للولد لأن الأجر يحصل للوالد من ولده الصالح كلما عمل عملاً صالحاً سواء دعا لأبيه أو لا كمن غرس شجرة يحصل له من أكل ثمرتها ثواب سواء دعا له من أكلها أو لم يدع وكذلك الأم قال بعض الكبار : النكاح سنة نبيك فلا ترغب عنه واطلب من الله من يقوم مقامك بعد موتك حتى لا ينقطع عملك بموتك فإن ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم بثه في الناس أو ولد صالح يدعو له وفي لفظ الصدقة الجارية إشارة إلى أفضلية الماء ولذا حفر سعد بئراً لأمه فإن قلت ما التوفيق بين هذا الحديث وبين قوله عليه السلام : من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة وقوله عليه السلام : من مات يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة قلنا : السنة المسنونة من جملة العلم المنتفع به ومعنى حديث المرابط أن ثواب عمله الذي قدمه في حياته ينمو إلى يوم القيامة وأما الثلاثة المذكورة في الحديث فإنها أعمال تحدث بعد وفاته لا تنقطع عنه لأنه سبب لها فيلحقه منها ثواب والحاصل أن المراد بهذا الحديث عمله المضاف إلى نفسه فهو منقطع وأما العمل المضاف إلى غيره فلا ينقطع فللغير أن يجعل ما له من أجر عمله إلى من أراد وقال بعضهم في الآية : ليس كل عمل للإنسان إنما بعضه الله مثل الصوم كما قال : الصوم لي وأنا أجزي به فثوابه فضل الله وهو رؤيته وتمسك بعض العلماء بهذا الحديث وظن أن الصيام مختص بعامله موفر له أجره لا يؤخذ منه شيء لمظلمة ظلمها وهذا القول مردود فإن الحقوق تؤخذ من جميع الأعمال صياماً كان أو غيره وقيل : إن الصوم إذا لم يكن معلوماً لأحد ولا مكتوباً في الصحف هو الذي يستره الله ويخبأه لعامله حتى يكون له جنة من العذاب فتطرح أولئك عليه سيئاته فتنصرف
251
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
عنهم ويقيه الصوم فلا تضر باصحابها لزوالها عنهم ولا به لان الصوم جنته وهذا تاويل حسن دافع للتعرض قال البقلي رحمه الله في تأويل الآية ليس للصورة الانسانية الا ما سعت من الاعمال الزكية عن الرياء والسمعة يؤول ثوابها اليها من درجات الجنان اما يتعلق بفضل الله وجوده من مشاهدته وقربته فهو للروح والروحاني الذي في تلك الصورة فانه إذا استوفى درجات الجنان التي هي جزآء اعماله الصالحة تمتع ايضا بما يجد روحه من فضل الله المتعلق بكشف حجاب جماله وايضا ليس للانسان الا ما يليق بالانسان من الاعمال واما الفصل كالمشاهدة والقربة فهو الله يؤتيه من يشاء فاذا وصل الى مشاهدة الله وتمتع بها فليس ذلك له انما ذلك الله وان كان متمتعا به وقال ابن عطاء ليس للانسان من سعيه الا ما نواه ان كان سعيه لرضى الرحمن فان الله يرزقه الرضوان وان كان سعيه للثواب والعطاء والاعواض فله ذلك وقال النصر ابادي سعى الانسان في طريق السلوك لا في طريق التحقيق فاذا تحقق يسعى ولا يسعى هو بنفسه واما قول العارف الجامي :
*سالكان بي كشش دوست بجايي نرسند*
*سالها كره درين راه تك وبوى كنند*
(9/206)
فقد لا ينافيه فانه لا فائدة في السعي بدون الجذبة الالهية فالسعي منسوب الى السالك والجذبة مضافة الى الله تعالى واما المنهى فالسعي والجذبة بالنسبة اليه كلاهما من الله تعالى اذ ليس بمتحقق من لم يكن حركاته وسكناته بالله ثم ان الطريق قد يثنى كطريق الحج من البر والبحر واما طريق الحق فمفرد اي من حيث الجمعية الواحدانية والا فالطرق الى الله بعدد انفاس الخلائق فعند النهاية يحصل الالتقاء ولذا قال تعالى وان الى ربك المنهى مع انه فرق بين وصول ووصول كالناظرين كل ينظر بحسب قوة نور بصره وضعفه وان كان المرئي واحدا ثم ان الله يوصل السالك بعد موته الى محل همته لانه كانه حاصل بسعيه وقد مر تحقيقه في محله نسأل الله الوصول الى غاية المطالب بحرمة اسمه الواهب {وَأَنَّ سَعْيَهُ} اى سعى الانسان وهو عمله كما فى قوله تعالى {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} وهو مع خبره معطوف على ما قبله من الأتزر الخ على معنى ان المذكورات كلها فى الصحف {سَوْفَ يُرَى} اى يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة فى صحيفته وميزانه من أريته الشىء عرضته عليه وفى اشارة الى ان الانسان له مراتب فى السعى وبحسب كل مرتبة يجد سعيه فى الحال لايزيد ولا ينقص وايضا فى المآل واول مراتبه فى السعى مرتبة النفس وسعيه فى هذه المرتبة تزكية النفس عن المخالفات الشرعية والموافقات الطبيعية بالموافقات الشرعية والمخالفات الطبيعية اذ العلاج بضدها واثر هذا السعى ونتيجته حصول الجنات التى تجرى من تحتها الانهار والحور والقصور والغلمان كما اخبر الكتاب العزيز فى غير موضع والمرتبة الثانية والسعى فيها تصفية القلب عن صدأ الظلمات البشرية وغطاء الدورات الطبيعية واثر هذا السعى ونتيجته ترك حب الدجنيا وشهواتها ولذاتها وزخارفها ومالها وجاهها والمرتبة الثالثة والسعرى فيها تجلية السر بالصفات اللالهية والاخلاق الربانية واثر هذا السعى ونتيجته حصول شواهد التجليات الصفاتية والاسمائية والمرتبة الرابعة والسعى فيها تجلية الروح بالتجليات
252
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
الذاتية والمشاهدات الحقانية وأثر هذا السعي ونتيجته هو الفناء عن أنانيته والبقاء بهويته الأحدية المطلقة عن التقييد والإطلاق واللاتقييد واللاإطلاق وقال الواسطي في الآية : إنه لم يكن مما يستجلب به شيء من الثواب وقال سهل : سوف يرى سعيه فيعلم أنه لا يصلح للحق ويعلم ما الذي يستحق بسعيه وأنه لو لم يلحقه فضل ربه لهلك بسعيه {ثُمَّ يُجْزَاـاهُ} أي يجزي الإنسان بعسيه أي جزاء عمله يقال جزاه الله بعمله وجزاه على عمله بحذف الجار وإيصال الفعل {الْجَزَآءَ الاوْفَى} أي الأوفر الأتم إن خيراً فخير وإن شراً فشر وهو مفعول مطلق مبين للنوع قالل الوراق : وإن ليس للإنسان إلا ما سعى ذلك في بدايته وإن سعيه سوف يرى ذلك في توسط أموره ثم يجزاه الجزاء إلا وفى ذلك في نهاياته وله نهايتان باعتبار الفناء والبقاء ففي الفناء يحصل الجزاء الذي هو الشهود وفي البقاء يحصل الجزاء الذي هو تربية الجسد والوجود وذلك باستيفاء ما ترك في بداية سلوكه من المباحات المشروعة من الأكل والشكر والملبس والمنكح والتوسعة في معايش الدنيا وأسبابها فبعد تحققه بعالم الوحدة يرد إلى عالم الكثرة ولكن لا تضره الكثرة إذا أصلا {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} مصدر بمعنى الانتهاء أي انتهاء الخلق في رجوعهم إلى الله تعالى بعد الموت لا إلى غيره لاستقلالاً ولا اشتراكاً فيجازيهم بأعمالهم وفي الحقيقة انتهء الخلق إليه تعالى في البداية والنهاية ألا إلى الله تصير الأمور إذ لا إله إلا هو.
وفي المثنوي :
دست بر بالاى دست اين تاكجا
تا بيزدان كه اليه المنتهى
كان يكى درياست بى غور وكران
جمله درياها و سبلى يش آن
حيلها وارها كر ادهاست
يش إلا الله إنها جمله لاست
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/207)
قال ابن عطاء : من كان منه مبدأه كان إليه منتهاه وإذا وصل العبد إلى معرفة الربوبية ينحرف عنه كل فتنة ولا يكون له مشيئة غير اختيار الله له قيل للحسين ما التوحيد قال أن تعتقد أنه معلل الكل لقوله هو الأول وعند ذلك تطلب المعلولات منه الابتداء وإليه الانتهاء ذهبت المعلولات وبقي المعلل بها قال بعض الكبار : من أدل دليل على توحيد الله تعالى عند من لا كشف عنده كونه تعالى عند النظار والفلاسفة علة العلل وهذا توحيد ذاتي ينتفي معه الشريك بلا شك غير أن إطلاق هذا اللفظ عليه تعالى لم يرد به الشرع فلا ندعوه به ولا نطلقه عليه فاعلم ذلك {وَأَنَّهُ} تعالى {هُوَ} وحده {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} الضحك انبساط الوجه وتكشر الأسنان من سرور النفس ولظهور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك والبكاء بالمد سيلان الدمع عن حزن وعويل يقال : إذا كان الصوت أغلب كالرغاء وسائر هذه الأبنية الموضوعة للصوت وبالقصر يقال إذا كان الحزن أغلب وقوله فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً إشارة إلى الفرح والترح وإن لم يكن مع الضحك قهقهة ولا مع البكاء والإنسان لا يعلم ما تلك القوة أو هما كنايتان عن السرور والحزن كأنه قيل : افرح واحزن لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء أو عما يسر
253
ويحزن وهو الأعمال الصالحة والأعمال الصالحة أو اضحك في الدنيا أهل النعمة وأبكى أهل الشدة والمصيبة أو اضحك في الجنة أهلها وأبكى في النار أهلها واضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر أو الأشحار بالأنوار والسحاب بالأمطار أو القراطيس بالأرقام والأقلام بالمداد أو اضحك القرد وأبكى البعير أو أضحك بالوعد وأبكى بالوعيد أو أضحك المطيع بالرضى وأبكى العاصي بالسخط أو أضحك قلوب العارفين بالحكمة وأبكى عيونهم بالحزن والحرقة أو أضحك قلوب أوليائه بأنوار معرفته وأبكى قلوب أعدائه بظلمات سخطه أو أضحك المستأنسين بنرجس مودته وياسمين قربته وطيب شمال جماله وأبكى المشتاقين بظهور عظمته وجلاله أو أضحك بالإقبال على الحق وأبكى بالإدبار عنه أو أضحك الأسنان وأبكى الجنان أو بالعكس قال الشاعر :
السن تضحك والأحشاء تحترق
وإنما ضحكها زور ومختلق
يا رب باك بعين لا دموع لها
ورب ضاحك سن ما به رمق
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
أو أضحك بتجليه اللطفي الجمالي القلب المنور بنور اللطف والجمال وأبكى بتجليه القهري الجلالي النفس المظلمة بظلنة القهر والجلال وأضحك بتجليه الجلالي النفس على القلب عند استيلاء ظلمة النفس على القلب وأبكى بتجليه الجمالي القلب على النفس عند غلبة أنوار القلب على النفس وفي الآية دلالة على أن كل ما يعمله الإنسان فبقضائه وخلقه حتى الضحك والبكاء قالت عائشة رضي الله عنها : مر النبي عليه السلام على قوم يضحكون فقال : لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال : إن الله تعالى يقول : وإنه هو أضحك وأبكى فرجع إليهم فقال : ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال : ائت هؤلاء فقل لهم : إن الله يقول : هو أضحك وأبكى وسئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة؟ فقال : ما ضحك من دون العرش منذ خلقت جهنم وقال النبي عليه السلام لجبرائيل : مالي لم أر ميكائيل ضاحكاً قط؟ قال : ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار وقيل لعمر رضي الله عنه : هل كان أصحاب رسول الله عليه السلام يضحكون؟ قال : نعم والله والإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي وعن سماك بن حرب قال : قلت لجابر بن سمرة رضي الله عنه : أكنت تجالس النبي عليه السلام؟ قال : نعم وكان أصحابه يجلسون فيتناشدون الشعر ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم معهم إذا ضحكوا يعني النبي عليه السلام ولقي يحيى عيسى عليهما السلام فتبسم عيسى في وجه يحيى فقال : مالي أراك لاهياً كأنك آمن فقال : مالي أراك عابساً كأنك آيس فقالا : لا نبرح حتى ينزل علينا الوحي فأوحى الله تعالى أحبكما إلى أحسنكما ظناً بي.
ـ روي ـ أحبكما إلى الطلق البسام وقال الحسن يا ابن آدم تضحك ولعل كفنك خرج من عند القصار وبكي نوح عليه السلام ثلاثمائة سنة بقوله : إن ابني من أهلي وقال كعب لأن أبكي من خشية الله حتى تسيل دموعي على وجنتي أحب إلي من أن أتصدق بجبل ذهب والنافع بكاء القلب لا العين فقط.
بران ازدوسر شمه ديده جوى
ور الايشى دارى ازخود بشوى
{وَأَنَّه هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره لا خلقاً ولا كسباً فإن أثر
254
(9/208)
القاتل نقض البنية وتفريق الاتصال وإنما يحصل الموت عنده بفعل الله على العادة فللعبد نقض البنية كسباً دون الإماتة وبالفارسية قادر براماته واحيا اوست وبس مى ميراند بوقت أجل دردنيا وزنده ميسازد درقبر يا او سازنده اسباب موت وحياتست وكفته اند مرده ميسازد كافر انرا بنكرت وزنده ميكند مؤمنا نرا بمعرفت وبقول بعض أماته وأحيا بجهل وعلم است يا ببخل وجود يابه منع وأعطا.
وقيل الخصب والجدب أو الآباء والأبناء أو أيقظ وأنام أو النطفة والنسمة.
ونزد محققان بهيبت وأنس ياباستتار وتجلي وأمام قشيري فرموده كه بميراند نفوس زاهد انرا بآثار مجاهدت وزنده كرداند قلوب عارفانرا بأنوار مشاهدت يا هركه را مرتبه فنا في الله رساند جرعه ازساغر بقا بالله شاند.
أو أمات النفس عن الشهوات الجسمانية واللذات الحيوانية وأحيى القلب بالصفات الروحانية والأخلاق الربانية أو أمات النفس بغلبة القلب عليها وإحيائه أو أمات القلب باستيلاء النفس عليه وإحيائها وهذه الأحكام المختلفة ما دام القلب في مقام التلوين فأما إذا ترقى إلى مقام الاطمئنان والتمكين فلا يصير القلب مغلوباً للنفس بل تكون النفس مغلوبة للقلب أبد الآباد إلى أن تموت تحت قهره بأمر ربه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : قدم الإماتة على الإحياء رعاية للفاصلة ولأن النطفة قبل النسمة ولأن موت القلب قبل حياته ولأن موت الجسد قبل حياته في القبر وأيضاً في تقديم الإماتة تعجيل لأثر القهر لينتبه المخاطبون وأيضاً أن العدم قبل الوجود ثم أن مآل الوجود إلى الفناء والعدم فلا ينبغي الاغترار بحياة بين الموتين ووجود بين العدمين والله الموفق {وَأَنَّهُ} وآنكه خداى تعالى {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} بيافريد از انسان دو صنف.
وفي بعض التفاسير من كل الحيوان وفيه أن كل حيوان لا يخلق من النطفة بل بعضه من الريح كالطير فإن البيضة المخلوقة منها الدجاجة مخلوقة من ريح الدين {الذَّكَرَ وَالانثَى} نروماده {مِن نُّطْفَةٍ} هي الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل كما في المفردات {إِذَا تُمْنَى} تدفق في الرحم وتصب وبالفارسية ازآب منى وقتى كه ريخته شود دررحم وآدم وحوا وعيسى عليهما السلام ازين مستثنى اند فهو من أمنى يمني أمناء وهو بالفارسية مني آوردن.
قال تعالى : أفرأيتم ما تمنون وفي القاموس منى وأمنى ومنى بمعنى أو معنى تمنى يقدر منها الولد من مناء الله يمينه قدره إذ ليس كل منى يصير ولداً وفيه إشارة إلى أنه تعالى خلق زوج ذكر الروح موصوفاً بصفة الفاعلية وخلق زوجة انثى النفس موصوفة بصفة القابلية ليحصل للقلب من مقدمتي الروح والنفس نتيجة صادقة صالحة لحصول المطالب الدنيوية والأخروية من نطفة واقعة كائنة مستقرة في رحم الإرادة الأزلية إذا تمنى إذا تحرك وتدفق في رحم الإرادة القديمة أو إذا قدر المقدر بالحكمة البالغة قدم الذكر رعاية للفاصلة ولشرفه الرتبى وإن كان الأصل في العالم الأنوثة ولذلك سرت فيه بأسره ولكن لما كانت في النساء أظهر حببت للأكابر حتى آجر موسى عليه السلام نفسه في مهر امرأة عشر سنين وحتى أن أعظم ملوك الدنيا يكون عند الجماع كهيئة الساجد فاعلم ذلك فلما كان لا يخلو العوالم عن نكاح صوري أو معنوي كان نصف الخلق الذكر ونصفه الأنثى وإن شئت قلت الفاعل والقابل والإنسان برزخ
255
هاتين الحقيقتين {وَأَنَّ عَلَيْهِ} أي على الله تعالى {النَّشْأَةَ الاخْرَى} أي الخلقة الأخرى وهو لإحياء بعد الموت وفاء بوعده لا لأنه يجب على الله كما يوهمه ظاهر كلمة على وفيه تصريح بأن الحكمة الإلهية اقتضت النشأة الثانية الصورية للجزاء والمكافأة وإيصال المؤمنين بالتدريج إلى كما لهم اللائق بهم ولو أراد تعجيل أجورهم في هذه الدار لضاقت الدنيا بأجر واحد منهم فما ظنك بالباقي ومن طلب تعجيل نتائج أعماله وأحواله في هذه الدار فقد أساء الأدب وعامل الموطن بما لا يقتضيه حقيقته وأما إذا استقام العبد في مقام عبوديته وعجل له الحق نتيجة ما أو كرامة فإن من الأدب قبولها إن كانت مطهرة من شوائب الحظوظ وبالجملة فالخير فيما اختاره الله لك ثم إن النشأة الأخرى الصورية مترتبة على كمال الفناء الصوري مع الاستعداد والتهيىء لقبول الروح فكذا النشأة الأخرى المعنوية وهي البقاء والاتصاف بالصفات الإلهية موقوفة على تمام الفناء المعنوي والانسلاخ عن الأوصاف البشرية بالكلية مع الاستعداد والتهيىء لقبول الفيض وبالجملة فلا بد في كلتا النشأتين من صحة المزاج ألا ترى أن الجنين إذا فسد في الرحم سقط بل الرحم إذا فسدت لم تقبل العلوق وإلى الولادة الثانية التي هي النشأة الأخرى أشار عيسى عليه السلام بقوله : لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين ومعنى ملكوت السموات حقائقها وأنوارها وأسرارها فكل نبي وولي وارث متحقق بهذا الولوج والولادة الثانية
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/209)
{وَأَنَّه هُوَ أَغْنَى} أعطى الغنى للناس بالأموال {وَأَقْنَى} وأعطى القنية وهي ما يتأثل من الأموال أي يتخذ أصلاً ويدخر بأن يقصد حفظه استثماراً واستنماء وأن لا يخرج عن ملكه وفي المثل لا تقتن من كلب سوء جرواً يقال قنوت الغنم وغيرها وقنيتها قنية وقنية إذا اقتنيتها لنفسك لا للتجارة وفي تاج المصادر الإقناء سرمايه دادن وخشنود كردن.
قال بعضهم : أغنى الناس بالكفاية والأموال وأعطى القنية وما يدخرونه بعد الكفاية وقال الضحاك : أغنى بالذهب والفضة والثياب والمسكن وأقنى بالإبل والبقر والغنم والدواب وأفراد القنية بالذكر أي بعد قوله أغني لأنها أشرف الأموال وأفضلها أو معنى أقنى أرضى وتحقيقه جعل الرضى له قنية والأوفق لما تقدمه من الآي المشتملة على مراعاة صنعة الطباق أن يحمل على معنى أفقر على أن تكون الهمزة أي في أقنى للإزالة كما قاله سعدي المفتي قال الجنيد قدس سره : أغنى قوماً به وأفقر قوماً منه وقال بعضهم : فيه إشارة إلى إفاضة الفيض الإلهي على القلب السليم المستقيم الثابت على دين الله كما قال عليه السلام : اللهم ثبت قلبي على دينك وإبقاء ذلك الفيض الإلهي عليه بحيث لا يستهلك الفيض ولا يضمحل تحت غلبة ظلمة النفس الإمارة بالسوء لتمكن ذلك القلب وعدم تلونه بخلاف القلب المتلون فإنه لعدم تمكنه في بعض الأوقات يتكدر بظلمة النفس ويزول عنه ذلك النور المفاض عليه المضاف إليه وهو المعنى بقوله : أقنى أي جعل فيه ذلك النور قنية ثم إن الآية دلت على إباحة التأثل من الأموال النافعة دون غيرها ولذا نهى عن اقتناء الكبب أي إمساكه بلا فائدة من جهة حفظ الزرغ أو الضرع أو نحو ذلك والنفس الأمارة أشد من الكلب العقوب ففي اقتناى الروح النامي مندوحة عن اقتنائها أبتر عقيم لا خير فيها
256
ألا ترى أن مرتبة النفس والطبيعة تبقى هنا ولا نستصحب الإنسان الكامل في النشأة الجنانية إذ الجنان كالمرعى الطيب والروض الأنف فلا يرعى فيها إلا الروح الطيب والجسد النظيف {وَأَنَّه هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} أي رب معبودهم فاعبدوا الرب دون المربوب والشعرى كوكب نير خلف الجوزاء يقال لها العبور بالمهملة كالصبور وهي أشد ضياء من الغميصاء بالغين المعجمة المضمومة وفتح الميم والصاد المهملة وهي إحدى الشعريين يعني أن الشعرى شعريان أحدهما الشعرى اليمانية وتسمى أيضاً الشعر العبور وثانيتهما الشعرى الشامية وتسمى أيضاً الشعرى الغميصاء فصلت المجرة بينهما تزعم العرب أن الشعريين اختا سهيل وأن الثلاثة كانت مجتمعة فانحدر سهيل نحو اليمين وتبعته العبور فعبرت المجرة ولقيت سهيلاً وأقامت الغميصاء فبكت لغقد سهيل فغمصت عينها أي كانت أقل نوراً من العبور وأخفى والغمض في العين ما سال من الرمص يقال : غمصت عينه بالكسر غمصاً وكانت خزاعة تعبد الشعرى سن لهم ذلك أبو كبشة رجل من أشرافهم فقال لقومه : إن النجوم تقطع السماء عرضاً وهذه تقطعها طولاً فليس شيء مثلها فعبدتها خزاعة وخالف أبو كبشة قريشاً في عبادة الأوثان ولذلك كانت قريش يسمون الرسول عليه السلام ابن أبي كبشة لا يريدون بذلك اتصال نسبه ءليه وإن كان الأمر كذلك أي لأن أبا كبشة أحد أجداد النبي عليه السلام من قبل أمه بل يريدون به موافقته عليه السلام له في ترك عبادة الأوثان وإحداث دين جديد فالنبي عليه السلام كما وافق أبا كبشة في مخالفة قريش بترك عبادة الأصنام خالفه أيضاً بترك عبادة الشعرى وهو إشارة إلى شعرى النفس المسماة بكلب الجبار التي عبدها خزاعة أهل الأهواء وأبو كبشة أهل البدع من الفلاسفة والزنادقة
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
(9/210)
{وَأَنَّه أَهْلَكَ عَادًا الاولَى} هي قوم هود عليه السلام أهلكوا بريح صرصر وعاد الأخرى ارم وقيل الأولى القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح أي المراد إبعاد جميع من انتسب إلى عاد بن ارم بن عوص بن سام بن نوح ووصفهم بالأولية ليس للاحتراز عن عاد الأخيرة بل لتقدم هلاكهم بحسب الزمان على هلاك سائر الأمم بعد قوم نوح قال في التكملة وصف عاد بالأولى يدل على أن لها ثانية فالأولى هي عاد بن ارم قوم هود والثانية من ولدها وهي التي قاتلها موسى عليه السلام باريحاء كانوا تناسلوا من الهزيلة بنت معاوية وهي التي تجن من قوم عاد مع بنيها الأربعة عمر وعمرو وعامر والعتيد وكانت الهزيلة من العماليق {وَثَمُودَا} عطف على عادا لأن ما بعده لا يعمل فيه لمنع ما النافية عن العمل وهم قوم صالح عليه السلام أهلكم الله بالصيحة {فَمَآ أَبْقَى} أي أحداً من الفريقين ويجوز أن يكون المعنى فما أبقى عليهما فالإبقاء على هذا المعنى الترحم وهو بالفارسية بخشودن وإنما لم يترحم عليهم لكونهم من أهل الغضب ورحمة الله لأهل اللطف دون القهر وفيه إشارة إلى التربية فأولاً باللطف وثانياً بالعتاب وثالثاً بالعقاب فإن لم يحصل التنبه فبالإزالة والإهلاك وهكذا عادة الله في خلقه فليتنبه العباد وليحافظوا على المراتب في تربة عبيدهم وإمائهم وخدمهم مطلقاً {وَقَوْمَ نُوحٍ} عطف عليه أيضاً {مِّن قَبْلُ} أي من قبل إهلاك عاد وثمود {إِنَّهُمْ} أي قوم
257
نوح {كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ} لنبيهم {وَأَطْغَى} من الفريقين حيث كانوا يؤذونه وينفرون الناس عنه وكانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه وكانوا يضربونه عليه السلام حتى لا يكون به حراك وما أثرت فيهم دعوته قريباً من ألف سنة وما آمن معه إلا قليل :
باسيه دل ه سود كفتن وعظ
نرود مبخ آهنين در سنك
وفيه إشارة إلى إهلاك صفات القلب من قبل أن يتمكن في سفينة التوحيد فإنهم كانوا مذبذبين منقلبين بين القلب وبين النفس ظالمين على القلب بمشاهدة الكثرة طاغين عليه بالميل إلى النفس وصفاتها {وَالْمُؤْتَفِكَةَ} هي قرى قوم لوط عليه السلام يعني شهرستان قوم لوط عليه السلام.
ائتفكت بأهلها أي انقلبت بهم وهو منصوب عطفاً على عادا أي وأهلك المؤتفكة وقيل هو منصوب بقوله : {أَهْوَى} أي أسقطها إلى الأرض مقلوبة بعد أن رفعها على جناح جبريل إلى السماء فالأهواء بمعنى انداختن.
وقال الزجاج القاها في الهاوية {فَغَشَّـاـاهَا مَا غَشَّى} من فنون العذاب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وقال الكاشفي : س بوشانيد آن شهرها را آنه بوشانيد يعني سنكهاى نشان داده بران بارانيد.
وفيه من التهويل والتفظيع ما لا غاية وراءه قوله ما غشى مفعول ثان إن قلنا أن التضعيف للتعدية أي ألبس الله المؤتفكة ما ألبسها إياه من العذاب كالحجارة المنضودة المسومة فمفعولا الفعل الأول مذكوران والثاني محذوفان وإن قلنا إنه للمبالغة والتكثير فهو فاعل كقوله : فغشيهم من اليم ما غشيهم وفي الآية إشارة إلى قرية القالب وانقلابها من أعلى الكمال إلى أسفل النقصان ومن اعتدال المزاج إلى انحرافه وذلك سبب ظلم النفس الأمارة عليها باستيفاء الحظوظ والشهوات كما قال تعالى : وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها الآية {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} الآلاء النعم واحدها إلى والى والى كما في القاموس والتماري والامتراء والمماراة المحاجة فيما فيه مرية أي شك وتردد قال في تاج المصادر : التماري بشك شدن وبايكديكر بستيهبدن.
وإسناد فعل التماري إلى الواحد باعتبار تعدده بحسب تعدد متعلقه والخطاب للرسول عليه السلام فهو من باب الإلهاب والتعريض بالغير على طريقة قوله تعالى لئن اشركت ليحبطن عملك أو لكل واحد وجعل الأمور المعدودة آلاء مع أن بعضها نقم لما أنها أيضاً نعم من حيث أنها نصرة للأنبياء والمؤمنين وانتقام لهم وفيها عظات وعبر للمعتبرين قال في بحر العلوم وهلاك أعداء الله والنجاة من صحبتهم وشرهم والعصمة من مكرهم من أعظم آلائه الواصلة إلى المؤمنين قال المتنبي :
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
وقد أمر نوحاً بالحمد على ذلك في قوله فقل الحمدالذي نجانا من القوم الظالمين وقد حمد هو بنفسه على ذلك في موضع آخر تعليماً لعباده حيث قال فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمدرب العالمين وقد سجد عليه السلام سجدة الشكر حين رأى رأس أبي جهل قد قطعت في غزوة بدر.
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 27 من صفحة 258 حتى صفحة 268
وفي التأويلات النجمية يشير إلى استحقاق الشكر الجزيل على آلائه التي عددها وسماها آلاء لاشتمالها على نعم المواعظ ونعم الزواجر واستبعاد الشك والمماراة فيها والخطاب لأفراد الأمة
258
(9/211)
لاشتمال النبي عليه السلام على أمته كما قال إن إبراهيم كان أمته قانتاً انتهى ومعنى الآية إذا عرفت يا محمد هذه المذكورات فبأي نعمة من نعم ربك تتشكك بأنها ليست من عند الله أو في كونها نعمة وبافراسية س بكدامين ازنعمتهاى آفريدكار خودشك مى آرى وجدال ميكنى.
فكما نصرت إخوانك من الأنبياء الماضين ونصرت أولياءهم وأهلكت أعدائهم فكذلك افعل بك فلا يكن قلبك في ضيق وحرج مما رأيت من إصرار هؤلاء القوم وعنادهم واستكبارهم {هَـاذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الاولَى} هذا إما إشارة إلى القرآن والنذير مصدر أي هذا القرآن الذي تشاهدونه إنذار كائن من قبيل الإنذارات المتقدمة التي سمعتم عاقبتها أو إلى الرسول والنذير بمعنى المنذر أي هذا الرسول نذير من جنس المنذرين الأولين والأولى على تأويل الجماعة لمراعاة الفواصل وقد علمتم أحوال قومهم المنذرين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية يشير إلى القرآن أو إلى الرسول وشبه إنذارهما بإنذار الكبت الماضية والرسول المتقدمة.
يقول الفقير : فيه إشارة إلى نذارة كمل ورثته عليه السلام فإن كل نذير متأخر فهو من قبيل النذر الأولى لاتحاد كلمتهم ودعوتهم إلى الله على بصيرة وكذا ما ألهموا به من الإنذارات بحسب الإعصار والمشارب فطوبى لأهل المتابعة وويل لأهل المخالفة.
بكوى آنه دانى سخن سودمند
وكر هي كس را نيايد سند
كه فردا شيمان بر آرد خروش
كه آوخ راحق نكردم بكوش
بكمراه كفتن نكو ميروى
كناه بزركست وجور قوى
مكو شهد شيرين شكر فايقست
كسى را كه سقمونيا لا يقست
ه خوش كفت يكروزدار وفروش
شفا بايدت داروى تلخ نوش
{أَزِفَتِ الازِفَةُ} في آيراده عقيب المذكورات إشعار بأن تعذيبهم مؤخر إلى يوم القيامة تعظيماً للنبي عليه السلام وإن كانوا معذبين في الدنيا أيضاً في الجملة واللام للعهد فلذا صح الإخبار بدونها ولو كانت للجنس لما صح لأنه لا فائدة في الإخبار بقرب آزفة ما فان قلت : الإخبار بقرب الآزفة المعهودة لا فائدة فيه أيضاً قلت : فيه فائدة وهو التأكيد وتقرير الإنذار والأزف ضيق الوقت لقرب وقت الساعة وعلى ذلك عبر عن القيامة بالساعة يقال : أزف الترحل كفرح ازفا وازوفا دنا والأزف محركة الضيق كما في القاموس والمعنى دنت الساعة الموصوفة بالدنو في نحو قوله تعالى اقتربت الساعة أي في الدلالة على كمال قربها لما في صيغة الافتعال من المبالغة ففي الآية إشارة إلى كمال قربها حيث نسب القرب إلى الموصوف به {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أي ليس لها أنفس قادرة على كشفها أي إزالتها وردها عند وقوعها في وقتها المقدر لها إلا الله لكنه لا يكشفها من كشف الضر أي أزاله بالكلية فالكاشفة اسم فاعل والتاء للتأنيث والموصوف مقدر أوليس لها الآن نفس كاشفة بتأخيرها إلا الله فإنه المؤخر لها يعني لو وقت الآن لم يردها إلى وقتها أحد إلا الله فالكشف بمعنى الإزالة لا بالكلية بل بالتأخير إلى وقتها أو ليس لها كاشفة لوقتها إلا الله أي عالمة به من كشف الشيء إذا عرف حقيقته أو مبينة له متى تقوم وفي القرآن لا يجليها لوقتها إلا هو أوليس لها من غير الله كشف
259
على أن كاشفة مصدر كالعاقبة والخائنة وأما جعل التاء للمبالغة كتاء علامة فالمقام يأباه لإيهامه ثبوت أصل الكشف لغيره وفي الآية إشارة إلى قرب القيامة الكبرى ووقوع الطامة العظمى وهي ظهور الحقيقة المثلى لأهل الفناء عن نفوسهم والإقبال على الله بجميع الهمة وقوة العزيمة ليس لها من دون الله كاشفة بالنسبة إلى أهل الحجاب لأنهم مستغرقون في بحر الغفلة مستهلكون في أسر الشهوة والإنسان فإن في كل آن وزمان وماله شعور بذلك فيا ليته كشف عن غطائه وتشرف برؤية الله ولقائه وقد قالوا قيامة العارفين دائمة أي لأنهم في شهود امر على ما كان عليه ولا يتوقف شهودهم على وقوع القيامة الظاهرة ومن هنا قال الإمام علي كرم الله وجهه : لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً فطوبى لمن زاد يقينه ووصل إلى حق اليقين وتمكن في مقام التحقيق والله المعين
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
{أَفَمِنْ هَـاذَا الْحَدِيثِ} آيا ازين سخن كه قرأنست {تَعْجَبُونَ} إنكاراً قال الراغب العجب والتعجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء ولهذا قال بعض الحكماء العجب ما لا يعرف سببه {وَتَضْحَكُونَ} استهزاء مع كونه أبعد شيء من ذلك قال الراغب واستعير الضحك للسخرية فقيل ضحكت منه {وَلا تَبْكُونَ} حزناً على ما فرطتم في شأنه وخوفاً من أن يحيق بكم ما حاق بالأمم المذكورة.
(9/212)
ـ روي ـ إنه عليه السلام لم ير ضاحكاً بعد نزول هذه الآية وعن أبي هريرة رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله عليه السلام حنينهم بكى معهم فبكينا لبكائه فقال عليه السلام : لا يلج النار من بكى من خشية الله ولا يدخل الجنة مصر على معصية الله ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون ثم يغفر لهم.
ـ وروي ـ أن النبي عليه السلام نزل عليه جبريل وعنده رجل يبكي فقال له : من هذا؟ فقال : فلان فقال جبرائيل إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء فإن الله ليطفىء بالدمعة بحوراً من نيران جهنم وفي الحديث "إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا" وذلك فإن الحزن يؤدي إلى السرور والبكاء إلى الضحك.
قال الصائب :
منال أي ساكن بيت الحزن ازشم تاريكى
كه خواهد صيقلى كشت ازجمال روشن يوسف
وقال :
خنده كردن رخنه در قصر حيات افكندنست
خانه در بسته باشد تاغمين باشد كسى
{وَأَنتُمْ سَـامِدُونَ} أي لاهون أو مستكبرون من سمد البعير في مسيره إذا رفع رأسه قال الراغب السامد اللاهي الرافع رأسه أو مغنون لتشغلوا الناس عن استماعه من السمود بمعنى الغناء على لغة حمير وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء واللهو ليشغلوهم عن الاستماع أو خاشعون جامدون من السمود بمعنى الجمود والخشوع والجملة حال من فاعل لا تبكون خلا أن مضمونها على الوجه الأخير قيد للمنفي والإنكار وارد على نفي البكاء والسمود معاً وعلى الوجوه الأول قيد للنفي والإنكار متوجه إلى نفي البكاء ووجود السمود والأول أو في بحق المقام فتدبر كما في الإرشاد الفاء لترتيب الأمر
260
أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالإنكار واستهزاء ووجوب تلقيه بالإيمان مع كمال الخضوع والخشوع أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لذي أنزله واعبدوه ولا تعبدوا غيره من ملك أو بشر فضلاً عن جماد لا يضر ولا ينفع كالأصنام والكواكب قال في عين المعاني فاسجدوا أي في الصلاة والأصح أنه على الانفراد وهي سجدة التلاوة انتهى وهذا محل سجود عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه صح عن رسول الله عليه السلام أنه سجد بالنجم يعني بعد تلاوته هذه السورة على قريش سجد وسجد معه المؤمن والمشرك والإنس والجن كما سبق وليس يراها مالك لما روى عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قرأ على النبي عليه السلام والنجم فلم يسجد فيها.
قال الكاشفي : أين سجده دوازدهم است ازسجدات قرآني در فتوحات اين را سجده عبادت كفتندكه امر آلهى بذلت ومسكنت مقترنست بوى وجز سالكان طريقت عبادت وعبوديت بسر منزل سراين سخن نرسيده اند.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
وفي التأويلات النجمية : البقلى أي إذا قرب أيام الوصال فاشتاقوا وسارعوا في بذل الوجود ووضع الخدود على اتراب واعبدوا رب الأرباب لوجود كشف النقاب قال شيخي وسندي روح الله روحه في كتاب البرقيات له يعني اسجدواواعبدوا الله بالله لا بالنفس إذا سجدتم وعبدتم له بسجدة القالب بالانقياد وعبادته بالإذعان في مرتبة الشريعة وبسجدة القلب بالنفاء وعبادته بالاستهلاك في مرتبة الحقيقة حتى تكون سجدتكم وعبادتكم محض قربة إلى الله في المرتبة الأولى وصرف وصلة إلى الله في المرتبة الثانية وتكونوا من المقربين أولاً ومن الواصلين ثانياً هذا شأن عباد الله الموحدين المخلصين الفانين في الله الباقين بالله وأما طاعة من عداهم فبأنفسهم وهواهم لعدم تخلصهم من الشوائب النفسانية في مقام الشريعة ومن الشوائب الغيرية في مقام الحقيقة.
واعلم أن سجدة القالب وعبادته منقطعة لانقطاع سببها ومحلها وموطنها لأنها حادثة فانية زائلة وأما سجدة القلب وعبادته وهي فناؤه في الله أزلاً وأبداً بحسب نفسه وإن كان باقياً بالله بحسب تحلية الوجود فغير منقطعة بل هي دائمة لدوام سببها وباقية لبقاء محلها وموطنها أزلاً وأبداً والمقصود من وضع السجدة والعبادة القالبية هو الوصول إلى شهود السجدة والعبادة القلبية ولذا حبب إلى النبي عليه السلام ثلاث : الطيب والنساء والصلاة أما الأول فلأنه يوجد في نفسه ذوق الإنس والمحاضرة وأما الثاني فلأنه يوجد فيه ذوق القربة والوصلة وأما الثالث فلأنه يوجد فيه ذوق المكاشفة والمشاهدة وهذه الأذواق إنما يتحقق بها من الإنس من هو الإنسان الحقيقي المتحقق بسر الحضرة لأحدية والمتنور بنورالحضرة الواحدية وهو المنتفع بإنسانيته انتفاعاً تاماً وأما الإنسان الحيواني فلا حظ له من ذلك التحقق ولا نصيب له من هذا الانتفاع بل حظه ونصيبه إنما هو الشهوات الطبيعية والإنسان الأول في أعلى عليين والثاني في أسفل السافلين وبينهما بون بعيد كما بين الأوج والحضيض وبكمال علو الأول قد يستغنى عن الأكل والشرب كالملائكة بالأذواق الروحانية والتجليات الربانية وذلك مدة كثيرة كما وقع لبعضهم ولتمام تسفل الثاني يأكل كما تأكل الأنعام فلا
261
(9/213)
يقتنع في اليوم والليلة بمرة من الأكل بل يحتاج إلى مرات منها وألا يقع في الاضطراب والذبول والنحول وربما تؤدي قلة الأكل إلى هلاكه كما حكى أن شخصين أحدهما سمين والآخر هزيل حبساً في تهمة ومنع عنهما الغذاء أسبوعاً فبعد الأسبوع تبين أن ليس لهما جرم فإذا السمين قد مات والهزيل حي وذلك لأن من اعتاد الأكل إذا لم يجده هلك.
جزء : 9 رقم الصفحة : 208
تفسير سورة القمر
وآياتها خمس وخمسون وهي مكية عند الجمهور والله أعلم
جزء : 9 رقم الصفحة : 261
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} الاقتراب نزديك آمدن.
والساعة جزء من أجزاء الزمان عبر بها عن القيامة تشبيهاً لها بذلك لسرعة حسابها أو لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم أو لغير ذلك كما بين فيما سبق والمعنى دنت القيامة وقرب قيامها ووقوعها لأنه ما بقي من الدنيا إلا قليل كما قال عليه السلام : إن الله جعل الدنيا كلها قليلاً فما بقي منها قليل من قليل ومثل ما بقي مثل التعب أي الغدير شرب صفوه وبقي كدره فالاقتراب يدل على مضي الأكثر ويمضي الأقل عن قريب كما مضى الأكثر وبيانه أنه مضى من يوم السنبلة وهو سبعة آلاف سنة وقد صح أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف بنحو أربعمائة سنة إلى خمسمائة سنة ولا يجوز الزيادة إلى خمسمائة سنة بعد الألف لعدم ورود الأخبار في ذلك ولاقتضاء البراهين والشواهد عند أهل الظواهر والبواطن من أهل السنة وقد قال عليه السلام : الآيات بعد المائتين والمهدي بعد المائتين فتنتهي دورة السنبلة بظهور عيسى عليه السلام فيكون آدم فاتحها وعيسى خاتمها فعلى هذا فآدم ونبينا عليهما السلام أي وجودهما من أشراط الساعة كما قال عليه السلام : مثلي ومثل الساعة كفرسي رهان فإذا كان وجوده من أشراط الساعة فمعجزاته من انشقاق القمر ونحوه تكون كذلك.
يقول الفقير : فإن قلت فكم عمر الدنيا بأسرها وما قول العلماء فيه قلت : اتفقوا على حدوث الدنيا وما قطعوا بشيء في مدتها والذي يلوح لي والله أعلم بحقيقة المدة أنها ثلاثمائة وستون ألف سنة وذلك لأنه قد مثل دور السنبلة بجمعة من جمع الآخرة أي سبعة أيام وكل يوم من أيام الآخرة ألف سنة كما قال تعالى وأن يوماً عند ربك كألف سنة ولا شك أن بالجمعة أي الأسبوع يتقدر الشهر وبالشهر تتقدر السنة وعليه يحمل ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة فقد مضى ستة آلاف سنة ومائة سنة وليأتين عليها زمن من سنين ليس عليها من يوحد وقد خاطبت الدنيا آدم عليه السلام فقالت : يا آدم جئت وقد انقضى شبابي يعني انقضى من عمرها ستون ألف سنة تقريباً وهي إجمال ما ذكرنا من المدة ولا شك أن ما بين الستين والسبعين دقاقة الرقاب فآدم إنما جاء إلى الدنيا وقد انقضى عمرها وبقي شيء قليل منها وعلى هذا المعنى يحمل قول من قال أن عمر الدنيا
262
سبعون ألف سنة فاعرف جداً فالساعة مقتربة عند الله وعند الناس لأن كل آت قريب وإن طالت مدته فكيف إذا قصرت وأما قوله تعالى إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً فبالنسبة إلى الغافلين المنكرين ولا عبرة بهم والحكمة في ذكر اقتراب الساعة تحذير المكلف وحثه على الطاعة تنبيهاً لعباده على أن الساعة من أعظم الأمور الكونية على خلقه من أهل السموات والأرض وأما تعيين وقت الساعة فقد انفرد الحق تعالى بعلمه وأخفاه عن عباده لأنه أصلح لهم ولذا كان كل نبي قد أنذر أمته الدجال وفي الحديث : "إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم" والمراد بالكذابين الدجاجلة وهم الأئمة المضلون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262(9/214)
يقول الفقير : لا شك أن إنذار الأنبياء عليهم السلام حقيقة من أمثال هؤلاء الدجاجلة من أممهم إذ لم يخل قرن منهم وإلا فهم يعرفون أن الساعة إنما تقوم بعد ظهور ختم النبيين وختم الأمم وإن الدجال الأعور الكذاب متأخر عن زمانه وإنما يخرج في الألف الثاني بعد المائتين والله أعلم فكل كذاب بين يدي الساعة سواء كان قبل مبعث النبي عليه السلام أو بعده فإنما هو من مقدمات الدجال المعروف كان كل أهل صدق من مقدمات المهدي رضي الله عنه {وَانشَقَّ الْقَمَرُ} الانشقاق شكافته شدن.
دلت صيغة الماضي على تحقق الانشقاق في زمن النبي عليه السلام ويدل عليه قراءة حذيفة رضي الله عنه وقد انشق القمر أي اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق وقد خطب حذيفة بالمدائن ثم قال إلا أن الساعة قد اقتربت وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم وحذيفة ابن اليمان رضي الله عنه صاحب سر رسول الله عليه السلام كابن مسعود رضي الله عنه وعلى هذا القول عامة الصحابة ومن بعدهم وبه أخذ أكثر المفسرين فلا عبرة بقول من قال إنه سينشق يوم القيامة كما قال تعالى : إذا السماء انشقت والتعبير بالماضي للدلالة على تحققه على أنا نقول يجوز أن يكون انشقاقه مرتين : مرة في زمانه عليه السلام إشارة إلى قرب الساعة ومرة يوم القيامة حين انشقاق السماء وفي فتح الباري لابن حجر حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كل منهما نقلاً مستفيضاً يفيد القطع عند من يطلع على طرق الحديث انتهى وقال الطيبي : انسد أبو إسحاق الزجاج عشرين حديثاً إلا واحداً في تفسيره إلى رسول الله عليه السلام في انشقاق القمر وفي شرح الشريف للمواقف هذا متواتر رواه جمع كثير من الصحابة كابن مسعود وغيره قال سعدي المفتي فيه إنهم لم يجعلوا حديث من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار وقد رواه ستون أو أكثر من الصحابة وفيهم العشرة من المتواتر فكيف يجعل هذا منه انتهى.
يقول الفقير : قد جعل ابن الصلاح ومن تبعه ذلك الحديث أي حديث من كذب الخ من المتواتر كما في أصول الحديث على أنه يجوز أن لا يكون بعض ما رواه جمع كثير من المتواتر لعدم استجماع شرائطه.
امام زاهد رحمه الله : آورده كه شبى ابو جهل وجهودى بحضرت يغمبر عليه السلام رسيدند ابو جهل كفت أي محمد آيتي بمن نماى والاسر توبشمشير برميدار آن حضرت فرمود كه ه ميخواهى ابو جهل بجب وراست نكريست كه ه خواهد كه وقوع آن متعذر باشد يهودى كفت او ساحرست اورا بكوى كه ماه را
263
بشكافد كه سحر درزمين متحقق ميشود وساحر را در آسمان تصرف نيست ابو جهل كفت أي محمد ماه را براى ما بشكاف آن حضرت انكشت شهادت بر آورد واشارت فرمود ماه رابشكافت في الحال دونيم شد يك نيم برجاى خود قرار كرفت ويكى ديكر جايى ديكر رفت وباز كفت بكوى تاملتمئم شود اشارت كرد هردونيمه بهم يوستند :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
شق كشت ماه ارده برلوح سبز رخ
ون خامه دبير ز تيغ بنان او
او العطار قدس سره :
ماه را انكشت او بشكافته
مهر ازفرمانش از س تافته
وفي المثنوي :
س قمركه امر بشنيد وشتافت
س دونيمه كشت بررخ وشكافت
وقال الجامي :
ومه را بر سرتير اشارت
زد از سبابه معجز بشارت
دونون شد ميم دور حلقه ماه
هل راساخت اوشصت از دو نجاه
بلى ون داشت دستش بر قلم شت
رقم زد خط شق برمه برانكشت
(9/215)
يهودى ايمان آورد وابو جهل لعين كفت شم ما بسحر رفته است وقمر را منشق بما نموده.
وقال بعض المفسرين : اجتمع بعض صناديد قريش فقالوا : إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فرقتين ووعدوا الإيمان وكانت ليلة البدر فرفع عليه السلام أصبعه وأمر القمر بأن ينشق نصفين فانفلق فلقتين أي شقين فلقة ذهبت عن موضع القمر وفلقة بقيت في موضعه وقال ابن مسعود رضي الله عنه : رأيت حراء بين فلقي القمر فعلى هذا فالنصفان ذهبا جميعاً عن موضع القمر فقال بعضهم : نصف ذهب إلى المشرق ونصف إلى المغرب وأظلمت الدنيا ساعة ثم طلعا والتقيا في وسط السماء كما كان أول مرة فقال عليه السلام : اشهدوا اشهدوا وعند ذلك قال كفار قريش : سحركم ابن أبي كبشة فقال رجل منهم : إن محمداً إن كان سحر القمر بالنسبة ءليكم فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر جميع أهل الأرض فسألوا من يأتيكم من البلاد هل رأوا هذا.
يعني ازجماعت مسافران كه ازاطراف آفاق برسند سؤال كنيد تا ايشان ديده اند يانه.
فسألوا أهل الآفاق فأخبروا كلهم بذلك.
يعني ون از آينده ورونده رسيدند همه جواب دادندكه درفلان شب ماه رادونيمه ديديم.
وهذا الكلام كما لا يخفى يدل على أنه لم يختص برؤية القمر منشقاً أهل مكة بل راه كذلك جميع أهل الآفاق وبه يرد قول بعض الملاحدة لو وقع انشقاق القمر لاشترك أهل الأرض كلهم في رؤيته ومعرفته ولم يختص بها أهل مكة ولا يحسن الجواب عنده بأنه طلبه جماعة فاختصت رؤيته بمن اقترح وقوعه ولا بانه قد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق بين بعض ولا بقول بعضهم إن انشقاق القمر آية ليلية جرى مع طائفة في جنح ليلة ومعظم الناس نيام كما في إنسان العيون وقال في الأسئلة المقحمة لا يستبعد اختفاؤه عن قوم دون قوم بسبب غيم أو غيره يمنع من رؤيته أي فكان انشقاق
264
القمر صحيحاً لكنه لم ينقل بطريق التواتر ولم يشترك فيه العرب والعجم في جميع الأقطار القاصية والدانية ولذا وقع فيه الاختلاف كما وقع في المعراج أو الرؤية وإلى انشقاق القمر أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
وبدر الدياجي انشق نصفين عندما
أرادت قريش منك إظهار آية
وصاحب لقصيدة البردية بقوله
أقسمت بالقمر المنشق أن له
من قلبه نسبة مبرورة القسم†
يعني لو أقسم أحدان للقمر المنشق نسبة وشبها بقلبه المنشق يكون باراً وصادقاً وصاحب الهمزية بقوله :
شق عن صدره وشق له البد
ر ومن شرط كل شرط جزاء
أي شق عن صدره عليه السلام وشق لأجله القمر ليلة أربع عشرة وإنما شق له لأن من شرط كل شرط جزاء لأنه لما شق صدره جوزى على ذلك بأعظم مشابه له في الصورة وهو شق القمر الذي هو من أظهر المعجزات بل أعظمها بعد القرآن.
كما قال الصائب :
هر محنتى مقدمه راحتى بود
شد همزبان حق و زبان كليم سوخت
موسى كليم را انفلاق بحر بود ومصطفى حبيب را انشقاق قمربود ه عجب كر بحر برموسى بضرب عصا شكافته شد كه بحر مركوب وملموس است دست آدمي بدو رسد وقصد آدمي بوى اثر دارد اعجوبه مملكت انشقاق قمر است كه عالميان ازدر يافت آن عاجز ودست جن وانس از رسيدن بوى قاصر وبيان شق الصدر إنه قالت حليمة أمه عليه السلام من الرضاعة وهي من بنات بني سعد بن بكر أسلمت مع أولادها وزوجها بعدالبعثة لما كان يوم من الأيام خرج محمد مع إخوته من الرضاعة وكان يومئذ ابن خمس سنين على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما فلما انتصف النهار إذا أنا بابني حمزة يعدو وقد علاه العرق باكياً ينادي يا أماه يا أبتان أدركا أدركا أخي القرشي فما أراكما تلحقانه إلا ميتاً قلت : وما قصته؟ قال : بينا نحن نترامى بالجلة إذا أتاه رجل فاختطفه من بيننا وعلا به ذروة الجبل وشق صدره إلى عانته فما أراه إلا مقتولاً قالت : فأقبلت أنا وزوجي نسعى سعياً فإذا أنا به قاعد على ذروة الجبل شاخص بعينه نحو السماء يتبسم فانكبيت عليه وقبلت بين عينيه فقلت له : فداك نفسي ما الذي دهاك؟ قال : خير يا أمه بينا أنا الساعة قائم مع إخوتي نتقاذف بالجملة إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض وفي رواية فأقبل إلي طيران أبيضان كأنهما نسران وفي رواية كركيان والمراد ملكان وهما جبرائيل وميكائيل وفي رواية أتاني ثلاثة رهط أي وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل لأن جبريل ملك الوحي الذي به حياة القلوب وميكائيل ملك الرزق الذي به حياة الأجساد وإسرافيل مظهر الحياة مطلقاً في يد أحدهم إبريق من فضة وفي يد الثاني طست من زمرد أخضر مملوء ثلجاً وهو ثلج اليقين فأخذوني من بين أصحابي وانطلقوا بي إلى ذروة الجبل وفي رواية إلى شفير الوادي فأضجعني بعضهم على الجبل إضجاعاً لطيفاً ثم شق صدري وأنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حساً ولا ألماً ثم أدخل يده في جوفي فأخرج
265
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/216)
أحشاء بطني فغسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها أي بالغ في غسلها ثم أعادها مكانها وقام الثاني وقال للأول تنح فقد أنجزت ما أمرك الله فدنا مني فأدخل يده في جوفي فانتزع قلبي وشقه باثني فأخرج منه علقة سوداء فرمى بها وقال : هذا حظ الشيطان أي محل غمزه ومحل ما يلقيه من الأمور التي لا تنبغي لأن تلك العلقة خلقها الله في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها فأزيلت من قلبه وبعض ورثته الكمل يقيىء دماً أسود محترقاً من نور التوحيد فيحصل به شرح الصدر وشق القلب أيضاً ولا يلزم من وجود القابل لما يلقيه الشيطان حصول الإلقاء بالفعل قبل هذا الشق فإنه عليه السلام معصوم على كل حال فإن قلت : فلم خلق الله هذا القابل في هذه الذات الشريفة وكان من الممكن أن لا يخلق فيها قلت لأنه من جملة الأجزاء الإنسانية فخلقت تكملة للخلق الإنساني ثم نزعت تكرمة له أي لأنه لو خلق خالياً عنها لم تظهر تلك الكرامة وفيه إنه يرد على ذلك ولادته عليه السلام من غير قلفة وهي جلدة الذكر التي يقطعها الخاتن وأجيب بالفرق بينهما لأن القلفة لما كانت تزال ولا بد من كل أحد مع ما يلزم على إزالتها من كشف العورة كان نقص الخلقة الإنسانية عنها عين الكمال قال عليه السلام : ثم حشا قلبي بشيء كان معه وهو الحكمة والإيمان ورده مكانه ثم ختمه بخاتم من نور يحيا الناظرون دونه وفي رواية أقبل الملك وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه ولا مانع من تعدد الختم فختم القلب لحفظ ما فيه وبين الكتفين مبالغة في حفظ ذلك لأن الصدر وعاؤه القريب وجسده وعاؤه البعيد وخص بين الكتفين لأنه أقرب إليه من القلب من بقية الجسد وهو موضع نفوذ خرطوم إبليس لأن العدو يجيىء من وراء ولذا سن الحجامة فيه ثم قال عليه السلام : أنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي وقام الثالث فقال : تنحيا فقد أنجز تماماً أمر الله فيه فدنا مني وأمر يده على مفرق صدري إلى منتهى الشق فالتأم وأنا أنظر إليه وكانوا يرونه أثراً كأثر المخيط في صدره وهو أثر مرور يد جبريل ثم أنهضني من الأرض إنهاضاً لطيفاً ثم قال الأول الذي شق صدري : زنه بعشرة من أمته فوزنني فرجحتهم ثم قال : زنه بعشرين فرجحتهم ثم قال : زنه بمائة فرجحتهم ثم قال : زنه بألف فرجحتهم ثم قال دعه فلو وزنتموه بأمته كلهم لرجحهم.
يقول الفقير : هذا يدل على أنه عليه السلام كما أنه أفضل من كل فرد فرد من أفراد الموجودات فكذا أفضل من المجموع ولا عبرة بقول من قال في كونه أفضل من المجموع توقف لأنه جهل بشأنه العالي وأنه أحدية مجموع الأسماء الإلهية برزخيتها فاعرف قال عليه السلام : ثم انكبوا علي وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا : يا حبيباه إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك وتركوني قاعداً في مكاني هذا وجعلوا يطيرون حتى دخلوا خلال السماء وأنا أنظر إليهم ولو شئت لأرينك موضع دخولهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
واعلم أن صدره الشريف شق مرار أمرة لإخراج حظ الشيطان كما مر لأنه لا يليق به وعند مجيىء الوحي لتحمل ثقله وعند المعراج لتحمل أسراره ففي شرح الصدر مراراً مزيد تقوية لباطنه وهذا الشرح معنوي لاكمال أمته ولا بد منه في حصول الفيض الإلهي يسره الله لي ولكم ثم إنه بقي هنا معنى آخر كما
266
قاله البعض وهو أن انشقاق القمر مجاز عن وجوح الأمر ولا يبعد أن يحمل بيت المثنوي على ذلك وهو :
سايه خواب آرد ترا همون سمر
ون بر آيد شمس انشق القمر
أي وضح الأمر واستبان وذلك لأنه عند اقتراب الساعة ينكشف كل خفي ويظهر كل مستور ويستبين الحق من الباطل من كل وجه ويدل على هذا المعنى قوله عليه السلام : إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب فإن المراد وضوح الأمر في آخر الزمان وظهور حقيقته ولذا يصير الناس بحيث ينكشف لأدنى سالك منهم في مدة قليلة ما لم ينكشف للأمم الماضية في مدة طويلة وذلك لأن الله تعالى قال في حق يوم القيامة يوم تبلى السرائر فإذا قرب الزمان من ذلك اليوم يأخذ حكمه فيكون كشف الأمور أكثر والخفايا أظهر وقال البقلي رحمه الله : علم الله انتظار أرواح الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين والأولياء العارفين وجميع الصالحين كشف جماله وقرب وصاله والدخول في جواره فبشرهم الله تعالى بأنه مقرون بقدوم محمد عليه السلام فلما خرج بالنبوة شك فيه المشركون فأراهم الله صدق وعده بانشقاق القمر حتى يعرفوا أن الله تعالى يريد بالعالمين إتيان الساعة التي فيها كشوف العجائب وظهور الغرائب من آيات الله وصفاته وذاته.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/217)
وفي التأويلات النجمية : اعلم أن الساعة أي القيامة ساعتان الكبرى وهي عامة بالنسبة إلى جميع الخلائق وهي التي اقتربت والصغرى وهي خاصة بالنسبة إلى السالكين إلى الله برفع الأوصاف البشرية وقطع العلائق الطبيعية السائرين في الله بالتجلي بالأوصاف الإلهية والأخلاق الربانية الراجعين من الحق إلى الخلق بالبقاء الحقاني بعد الفناء الخلقاني وبالجمع بعد الفرق وهي أعني الساعة الصغرى واقعة اليوم في كل آن ولله تجلى جلالي يفني وجمالي يبقى وإليه إشارة قوله عليه السلام : من مات فقد قامت قيامته فقد انشق قمر قلب السالك عن ظلمة النفس المظلمة باستيلاء نور شمس فلك الروح عليها فلا جرم وقعت الساعة بالنسبة إلى القلب الحي المنور بالنور الإلهي ووقعت القيامة الخاصة الشاملة على الموت والحشر والنشور فافهم ولا تعجب لئلا تكون ممن قال تعالى فيهم أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون والله الموفق والمعين {وَإِن يَرَوْا} يعني قريشاً {ءَايَةً} من آيات الله دالة على قدرته وصدق نبوة حبيبه عليه السلام مثل انشقاق القمر ونظائره ومعنى تسمية ما جاءت به الأنبياء معجزة هو أن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها {يُعْرِضُوا} عن التأمل فيها ليقفوا على حقيقتها وعلو طبقتها فيؤمنوا هذا {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} مطرد دائم يأتي به محمد عليه السلام على ممر الزمان لا يكاد يختلف بحال كسائر أنواع السحر فالاستمرار بمعنى الإطراد يقال : أطرد الشيء تبع بعضه بعضاً وجري وهو يدل على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة حتى قالوا وفيه تأييد أن انشقاق القمر قد وقع لأنه سينشق يوم القيامة كما قاله بعضهم وذلك لأنه لو لم يكن الانشقاق من جنس الآيات لم يكن ذكر هذا القول مناسباً للمقام أو مطرداً بالنسبة إلى جميع الأشخاص والبلاد حيث رأوه منشقاً وقال بعضهم : آن جاد وييست دائم ورونده از زمين تا بآسمان.
267
ويجوز أن يكون مستمر من المرة بالكسر بمعنى القوة أمررته فاستمر إذا أحكمته فاستحكم فالاستمرار بمعنى الاستحكام أي قوى مستحكم لا يمكن إزالته أو قوي شديد يعلو كل سحر وقيل مستمر ذاهب يزول ولا يبقى عن قريب تمنية لأنفسهم وتعليلاً فهو من المرور {وَكَذَّبُوا} أي بالنبي عليه السلام وما عاينوه من معجزات التي أظهرها الله على يده {وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ} التي زينها الشيطان لهم من رد الحق بعد ظهوره أو كذبوا الآية التي هي انشقاق القمر واتبعوا أهواءهم وقالوا : سحر القمر أو سحر أعيننا والقمر بحاله ولم يصبه شيء أو أنه خسوف في القمر وظهور شيء من جانب آخر من الجو يشبه نصف القمر فهذه أهواؤهم الباطلة :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
بد كمانى لازم بد باطنان افتاده است
كوشه از خلق جا كردم كمين نداشتند
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 28 من صفحة 268 حتى صفحة 278
(9/218)
وذكرهما بلفظ الماضي أي بعد يعرضوا ويقولوا بلفظ المستقبل للإشعار بأنهما من عادتهم القديمة وفيه إشارة إلى المحجوبين المستغرقين في بحر الدنيا وشهواتها فإنهم إذا ظهر لهم خاطر رحماني بالإقبال على الله ومتابعة الرسول وترك حب الدنيا ورفع شهواتها يعرضوا عن هذا الخاطر الرحماني وينفوه ولا يلتفتوا إليه ولا يعتبروه بل يزدادوا فيما هم عليه من حب الدنيا ومتابعة النفس وموافقة الهوى ويرموه بالكذب وربما يرى بعضهم في منامه أنه لبس خرقة الفقراء من خارج ولكن تحتها قميص حرير فهذا يدل على أن تجرده ليس من باطنه فتجرده الظاهري وملاحظة الفناء القشري ليس بنافع له جداً {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} أي وكل أمر من الأمور مستقر أي منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة من جملتها أمر النبي عليه السلام فسيصير ءلى غاية بتبين عندها حقيقته وعلو شأنه وإبهام المستقر عليه للتنبيه على كمال ظهور الحال وعدم الحاجة إلى التصريح به أو كل أمر من أمرهم وأمره عليه السلام مستقر أي سيثبت ويستقر على حالة خذلان أو نصرة في الدنيا وشقاوة أو سعادة في الآخرة فإن الشيء إذا انتهى إلى غايته ثبت واستقر يعني أن الاستقرار كناية عن ملزومه وهو الانتهاء إلى الغاية فإن عنده يتبين حقيقة كل شيء من الخير والشر والحق والباطل والهوى والحجة وينكشف جلية الحال ويضمحل الشبه والالتباس فإن الحقائق إنما تظهر عند العواقب فهذا وعيد للمشركين ووعد وبشارة للرسول والمؤمنين ونظيره لك لنبأ مستقر وسوف تعلمون أي كل نبأ وإن طالت مدته فلا بد أن ينتهي إلى غايته وتنكشف حقيقته من حق وباطل وفي عين المعاني وكل أمر وعدهم الله كائن في وقته أي لا يتغير شيء عن مراد الله ولا يغيره أحد دون الله فهو يمضيه على الخلق في وقته لأنه مستقر لا يزول وفيه إشارة إلى أن أمر محمد الروح وأمر أبي جهل النفس له نهاية وغاية يستقر فيها إما إلى السعادة الأبدية بواسطة التخلق بالأخلاق الإلهية وإما إلى الشقاوة السرمدية بسبب الإتصاف بالصفات البشرية الحيوانية {وَلَقَدْ جَآءَهُم} أي وبالله لقد جاء أهل مكة في القرآن {مِّنَ الانابَآءِ} جمع نبأ وهو خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة أي أنباء القرون الخالية أو أنباء
268
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/219)
الآخرة وما وصف من عذاب الكفار فاللام عوض عن المضاف إليه وهو حال مما بعده {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ازدجار من تعذيب أن أريد بالأنباء أنباء القرون الخالية أو وعيد أريد بها أنباء الآخرة أو موضع ازدجار على أن في تجريدية والمعنى أنه في نفسه موضع ازدجار ومظنة له كقوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي هو في نفسه أسوة حسنة وتاء الافتعال تقلب دالاً مع الدال والذال والزاي للتناسب في المخرج أو لتحصيل التناسب فإن التاء مهموسة وهذه الحروف مجهورة يعني أن أصله مزتجر لأنه مفتعل من الزجر قلبت التاء دالاً لأن الزاي حرف مجهور والتاء حرف مهموس والذال تناسب الزاي في الجهر وتناسب التاء في المخرج يقال زجره وازدجره أي نهاه عن السوء ووعظه غير أن افتعل أبلغ في المعنى من فعل قال الراغب الزجر طرد بصوت يقال زجرته فانزجر ثم يستعمل في الطرد تارة وفي الصوت تارة قولوه تعالى مزدجر أي طرد ومنع عن ارتكاب المأثم {حِكْمَةُا بَـالِغَةٌ} غايتها متناهية في كونها حكمة لا خلل فيها أو قد بلغت الغاية في الإنذار والنهي والموعظة وهو بدل من ما أو خبر لمحذوف وفي القاموس الحكمة بالكسر العدل والعلم والحلم والنبوة والقرآن وفي المفردات الحكمة إصابة الحق بالعلم والفعل فالحكمة من الله معرفة الأشياء أو إيجادها على غاية الأحكام ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات وإذا وصف القرآن بالحكيم فلتضمنه الحكمة وهي علمية وعملية والحكمة المنطوق بها هي العلوم الشرعية والطريقة والحكمة المسكوت عنها هي أسرار الحقيقة التي لا يطلع عليها علماء الرسوم والعوام على ما ينبغي فتضرهم أو تهلكهم {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} نفي للإغناء فمفعول تغني محذوف أي لم تغن النذر شيئاً أو استفهام إنكار فما منصوبة على أنها مفعول مقدم لتغني أي فأي إغناء تغني النذر إذا خالفوا أو كذبوا أي لا تنفع كقوله وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون جمع نذير بمعنى المنذر أو مصدر بمعنى الإنذار وفيه إشارة إلى عدم انتفاع النفوس المتمردة بإنذار منذر الروح وإنذار منذر القلب إذ الروح مظهر منذر القرآن والقلب مظهر منذر الحقيقة {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} لعلمك بأن الإنذار لا يؤثر فيهم البتة ولا ينفع فالفاء للسببية وبالفارسية س روى بكدران از ايشان تا وقت امر بقتال ومنتطر باش جزاى انشانرا {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} أصله يوم يدعو الداعي بالواو والياء لما حذف الواو من يدعو في التلفظ لاجتماع الساكنين حذفت في الخط أيضاً اتباعاً للفظ وأسقطت الياء من الداعي للاكتفاء بالكسرة تخفيفاً قال بعضهم : حذفت الياء من الداعي مبالغة في التخفيف إجراء لآل مجرى ما عاقبها وهو التنوين فكما يحذف الياء مع التنوين كذلك مع ما عاقبه ويوم منصوب بيخرجون أو باذكر والداعي إسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور قائماف على صخرة بيت المقدس ويدعو الأموات وينادي قائلاً أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء أو أن إسرافيل ينفخ وجبريل يدعو وينادي بذلك وعلى كلا القولين فالدعاء على حقيقته وقال بعضهم هو مجاز كالأمر في قوله تعالى : كن فيكون يعني أن الدعاء في البعث والإعادة مثل كن في التكوين والابتداء بأن لا يكون ثمة داع من
269
إسرافيل أو غيره بل يكون الدعاء عبارة عن نفاذ مشيئته وعدم تخلف مراده عن إرادته كما لا يتخلف إجابة دعاء الداعي المطاع.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/220)
يقول الفقير : الأولى بقاؤه على حقيقته لأن إسرافيل مظهر الحياة وبيده الصور والله تعالى ربط الأشياء بعضها ببعض وإن كان الكل بإرادته ومشيئته {إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ} بضمتين صفة على فعل وقرىء بسكون الكاف وكلاهما بمعنى المنكر أي منكر فظيع ينكره النفوس لعدم العهد بمثله وهو هول يوم القيامة ومنه منكر ونكير لفتاني القبر لأنه لم يعهد عند الميت مثلهما {خُشَّعًا أَبْصَـارُهُمْ} حال من فاعل {يَخْرُجُونَ} والتقديم لأن العالم فعل فعل متصرف أي يخرجون {مِنَ الاجْدَاثِ} جمع جدث محركة وهو القبر أي من قبورهم حال كونهم أذلة أبصارهم من شدة الهول خاضعة عند رؤية العذاب والخشوع ضراعة وأكثر ما يستعمل فيما يوجد في الجوارح والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد ف يالقب كما روي إذا ضرع القلب خشعت الجوارح وخص الأبصار بالخشوع لأنه فيها أظهر منه في سائر الجوارح وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أو خوف ونحوه إنما يظهر في البصر {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ} أي يشبهن الجراد وهو بالفارسية ملخ.
سمي بذلك لجرده الأورض من النبات يقال : أرض مجرودة أي أكل ما عليها حتى تجردت كما في المفردات {مُّنتَشِرٌ} في الكثرة والتموج والتفرق في الأقطار ومثله قوله كالفراش المبثوث {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} حال أيضاً أي مسرعين إلى جهة الداعي مادي أعناقهم إليه أو ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم يقال هطع الرجل إذا أقبل ببصره على الشيء لا يقلع عنه وأهطع إذا مد عنقه وصوب رأسه وأهطع في عدوه إذا أسرع كما في الجوهري وفيه إشارة إلى ذلة أبصار النفوس وعلتها فأنهار مدت من حب الدنيا وانطفاء أبصار القلوب عن شواهد الحق وانطماس أبصار الأرواح عن شهود الحق وإلى أن هذه النفوس الرديئة تخرج من قبور صفاتها الرذيلة كالجراد الحريص على أكل زروع مزارع القلب من الأخلاق الروحانية منتشرين في مزارع الروح ومغارس القلب بالفساد والإفساد وترى هذه النفوس الخبيثة مسرعة إلى إجابة داعي الشهوات النفسانية واللذات الجسمانية راغبة في دعوته مقبلة على طلبه {يَقُولُ الْكَـافِرُونَ} استئناف وقع جواباً عما نشأ من وصف اليوم بالأهوال وأهله بسوء الحال كأنه قيل فماذا يكون حينئذ فقيل : يقول الكافرين :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
{هَـاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي صعب شديد علينا فمكثون بعد الخروج من القبور واقفين أربعين سنة يقولون : أرحنا من هذا ولو إلى النار ثم يؤمرون بالحساب وفي إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأن المؤمنين ليسوا في تلك المرتبة من الشدة بل ذلك اليوم يوم يسير لهم ببركة إيمانهم وأعمالهم بل المطهرون المحفوظون الذين ما تدنست بواطنهم بالشبه المضلة ولا ظواهرهم أيضاً بالمخالفات الشرعية آمنون يغبطهم النبيون في الذي هم عليه من الأمن لما هم والنبيون عليه من الخوف على أممهم يعني أن الأنبياء والرسل عليهم السلام يخافون على أممهم للشفقة التي جبلهم الله عليها للخلق فيقولون في ذلك اليوم سلم سلم وإن كان لا يحزنهم الفزع الأكبر لأنهم آمنون من خوف العاقبة وفيه إشارة إلى
270
(9/221)
كفار النفوس اللئيمة يقولون بلسان الحال ولا ينفعهم المقال يوم قيامة اضطرابهم لما رأوا الفضيحة والقطعية هذا يوم عسر صعب خلاصنا ومناصنا منه لا نجاة لنا ولا منجاة إلا الاستمساك بعروة وثقى الروح والقلب وما يقدرون على ما يقولون لإفساد استعدادهم بيد الأماني الكاذبة واختيار تلك الأماني الفاسدة الدنيوية على المطالب الصالحة الأخريوي فعلى العاقل أن يختار الباقي على الفاني ولا يغتر بالأماني بل يجتهد قبل الموت بأسباب الخلاص والنجاة لكي يحصل له في الآخرة النعيم والدرجات وإلا فإذا خرج الوقت من اليد وبقيت اليد صفرا في الغد فلا ينفع الأسف والويل نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الذين أجابوا داعي الله ورسوله وتشرفوا بالعمل بالقرآن وقبوله وييسر لنا الفناء المعنوي قبل الفناء الصوري ويهيى لنا من أمرنا رشداً فإنا آمنا به ولم نشرك بربنا أحداً وهو المعين في الآخرة والأولى وبيده الأمور رداً وقبولاً {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي فعل التكذيب قبل قومك يا محمد قوم نوح أو كذبوا نوحاف فالمفعول محذوف وهو شروع في تعداد بعض الأنباء الموجبة للازدجار وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} نوحاً تفسير لذلك التكذيب المبهم كما في قوله تعالى ونادى نوح ربه فقال رب الخ فالمكذب في المقامين واحد والفاء تفسيرية تفصيلية تعقيبية في الذكر فإن التفصيل يعقب الأجمال وفي ذكره بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله وزيادة تشنيع لمكذبيه فإن تكذيب عبد السلطان أشنع من تكذيب عبد غيره وفيه إشارة إلى أنه لا شيء أشرف من العبودية فإٌّ الذلة الحقيقية التي يقابلها مقام الربوبية مختصة بالله تعالى فكذا العبودية مختصة بالعبد وهي المرادة بالتواضع وهي غير التملق فإن التملق لا عبرة به وفي الحديث "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" أي ليس الفخر لي بالرسالة وإنما الفخر لي بالعبودية وخصوصاً بالفقر الذي هو الخروج عن الوجود المجازي بالكلية
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
{وَقَالُوا} في حقه هو أو قالوا له إنك {مَجْنُونٌ} أي لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه الجنون واختلال العقل وهو مبالغة في التكذيب لأن من الكاذبين من يخبر بما يوافق العقل ويقبله والمجنون لا يقول ءلا ما لا يقبله العقل ويأباه {وَازْدُجِرَ} عطف على قالوا فهو من كلام الله أي وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية مثل الشتم والضرب والخنق والوعيد بالرجم قال الراغب : وازدجرا أي طرد واستعمال الزجر فيه لصياحهم بالمطرود نحو أن يقال أعزب عني وتنح ووراءك وقيل هو من جملة ما قالوه أي هو مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته أي أفسدته وتصرفت فيه وذهبت بلبه وطارت بقلبه وفيه إشارة إلى أن كل داع حق لا بد وأن يكذب لكثرة أهل البطلان وغلبة أهل البدع والأهواء والطغيان وذلك في كل عصر وزمان وأيضاً قوم نوح الروح وهم النفس الأمارة وصفاتها لا يقبلون دعوته إلى الله لانهماكهم في الشهوات واللذات وصعوبة الفطام عن المألوفات والله المعين في جميع الحالات والمقامات :
اين جهان شهوتي بتخانه ايست
انبيا وكافران را لأنه ايست
ليك شهوت بنده ا كان بود
زرنسوزد زانكه نقد كان بود
271
ذالة الأرواح من أشباحها
عزة الأشباح من أرواحها
كم نشين براسب توسن بي لكام
عقل ودين را يشوا كن والسلام
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/222)
{فَدَعَا رَبَّهُ} أي لما زجروا نوحاً عن الدعوة وبلغ مدة التبليغ تسعمائة وخمسين سنة دعا ربه {أَنِّى} أي بأني {مَغْلُوبٌ} من جهة قومي مالي قدرة على الانتقام منهم {فَانتَصِرْ} أي فانتقم لي منهم وذلك بعد تقرر بأسه منهم بعد الليتا والتي فقد روي أن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشياً فيفيق ويقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون فلما أذن الله له في الدعاء للإهلاك دعا فأجيب كما قال في الصفات ولقد نادانا نوح فلنعم المجسبون {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ} أي طرقها وبالفارسية س بكشاديم براى عذاب ايشان درهاء آسمانرا ازطرف مجره كما قال علي رضي الله عنه {بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} الهمر صب الدمع والماء يقال همره يهمره ويهمره صب نهمر هو وانهمر أي انسكب وسال والمعنى بماء كثير منصب انصباباً شديداً كما ينصب من أفواه القرب لم ينقطع أربعين يوماً وكان مثل الثلج بياضاً وبرداً وهو تمثيل لكثرة الأمطار وشدة انصبابها سواء جعل الباء في قوله بماء للاستعانة وجعل الماء كالآلة لفتح أبواب السماء وهو ظاهر أو للملابسة {وَفَجَّرْنَا الارْضَ عُيُونًا} أي جعلنا الأرض كلها كأنها عيون منفجرة أي جارية وكان ماء الأرض مثل الحميم حرارة وأصله وفجرنا عيون الأرض فغير عن المفعولية إلى التمييز قضاء لحق المقام من المبالغة لأن قولنا فجرنا عيون الأرض يكفي في صحة تفجر ما فيها من العيون ولا مبالغة فيه بخلاف فجرنا الأرض عيوناً فإن معناه فجرنا أجزاء الأرض كلها بجعلها عيون الماء ولا شك في أنه أبلغ {فَالْتَقَى الْمَآءُ} أي ماء السماء وماء الأرض وارتفع على أعلى جبل في الأرض ثمانين ذراعاً والأفراد حيث لم يقل الماآن لتحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة والتقارب بل بطريق الاختلاط والاتحاد {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي كائناً على حال قد قدره الله من غير تفاوت أو على حالة قدرت وسويت وهو إن قدر ما أنزل من السماء على قدر ما أخرج من الأرض أو على أمر قدره الله وهو هلاك قوم نوح بالطوفان فكلمة على على هذا للتعليل.
يقول الفقير : إنما وقع العذاب بالطوفان العام لأن الماء إشارة إلى العلم فلما لم ينتفع بعلم نوح عليه السلام في المدة الطويلة ولم تغرق أرواحهم فيه أخذوا بالماء حتى غرقت أجسادهم وتأثير الطوفان يظهر في كل ثلاثين سنة مرة واحدة لكن على الخفة فيقع مطر كثير ويغرق بعض القرى والبيوت من السيل {وَحَمَلْنَـاهُ} أي نوحاً ومن آمن معه {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ} أي سفينة صاحبة أخشاب عريضة فإن الألواح جمع لوح وهو كل صحيفة عريضة خشباً أو عظماً وكانت سفينة نوح من ساج وهو شجر عظيم ينبت في أرض الهند أو من خشب شمشاد ويقال من الجوز {وَدُسُرٍ} ومسامير جمع دسار من الدسر وهو الدفع الشديد بقهر يقال دسره بالرمح.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
ـ وروي ـ أنه ليس في العنبر زكاة إنما هو شيء دسره البحر سمي به المسمار لأنه يدسر به منفذه أي يدفع قال في عين المعاني دسرت بها السفينة أي شدت أو لأنها تدسر أي تدفع بالدق فقوله ذات ألواح ودسر صفة للسفينة أقيمت مقامها
272
بأنها يكنى بها عنها كما يكنى عن الإنسان بقولهم هو مستوى القامة عريض الأظفار {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} أي تجري السفينة وتسير بمرأى منا أي محفوظة بحفظنا ومنه قولهم للمودع عين الله عليك وقيل بأوليائنا يقال مات عين من عيون الله أي ولي من أوليائه {جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} مفعول له لما ذكر من فتح أبواب السماء وما بعده وكفر من كفران النعمة أي فعلنا ذلك المذكور أجراً وثواباً لنوح لأنه كان نعمة كفروها فإن كل نبي نعمة من الله على أمته ورحمة أي نعمة ورحمة فكان نوح نعمة مكفورة ومن هذا المعنى ما حكى أن رجلاً قال للرشيد : الحمدعليك فقال : ما معنى هذا الكلام؟ فقال : أنت نعمة حمدت الله عليها {وَلَقَد تَّرَكْنَـاهَآ} أي السفينة {ءَايَةً} يعتبر بها من يقف على خبرها وقال قتادة : أبقاها الله بياقردى من بلاد الجزية وقيل على الجودي دهراً طويلاً حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة وكم من سفينة كانت بعد قد صارت رماداً وفي تفسير أبي الليث قال بعضهم : يعني أن تلك السفينة كانت باقية على الجبل قريباً من خروج النبي عليه السلام وقيل : بقيت خشبة من سفينة نوح هي في الكعبة الآن وهي ساجة غرست حتى ترعرعت أربعين سنة ثم قطعت فتركت حتى يبست أربعين سنة وقيل : بقي بعض خشبها على الجودي إلى هذه الأوقات.
(9/223)
يقول الفقير : لعل بقاء بعض خشبها لكونها آية وعبرة وإلا فهو ليس بأفضل من أخشاب منبر نبينا صلى الله عليه وسلّم في المدينة وقد احترقت أو أكلتها الأرضة فاتخذت مشطاً ونحوه مما يتبرك به ألا ترى أن مقام ابراهيم عليه السلام مع كونه حجراً صلداً لم يبق أثره بكثرة مسح الأيدي ثم لم يبق نفسه أيضاً على ما هو الأصح والمعروف بالمقام الآن هو مقام ذلك المقام فاعرف وفي عين المعاني ولقد تركناها أي الغرق العام وهو إضمار الآية قبل الذكر كقوله أنها تذكرة وقال بعضهم : يعني جنس السفينة صارت عبرة لأن الناس لم يعرفوا قبل ذلك سفينة واتخذوا السفن بعد ذلك في البحر فلذلك كانت آية للناس.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
يقول الفقير : كيف يعرفونها ولم يكن في الدنيا قبل الطوفان إلا البحر المحيط وذلك أن الله تعالى أمر الأرض بعد الطوفان فابتلغت ماءها وبقي ماء السماء لم تبتلعه الأرض فهذه البحور على وجه الأرض منها وأما البحر المحيط فغير ذلك بل هو جرز عن الأرض حين خلق الله الأرض من زبده وإليه الإشارة بقوله : وكان عرشه على الماء أي العذب والبحور سبعة : منها البحر المحيط وبعضهم لم يعد المحيط منها بل هو غير السبعة وكان نوح عليه السلام نجاراً فجاء جبريل وعلمه صنعة السفينة {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي معتبر بتلك الآية الحقيقة بالاعتبار فيخاف من الله ويترك المعصية وأصله مذتكر على وزن مفتعل من الذكر فأدغمت الذال في التاء ثم قلبت دالاً مشددة {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} استفهام تعظيم وتعجيب أي كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف والنذر جمع نذير بمعنى الإنذار أصله نذري بالياء حذفت اكتفاء بالكسرة وحد العذاب وجمع الإنذارات إشارة إلى غلبة الرحمة لأن الإنذار إشفاق ورحمة فقال : الإنذارات التي هي نعم ورحمة تواترت عليهم فلما لم تنفع وقعالعذاب وقعة واحدة فكانت النعم كثيرة والنقمة واحدة {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ} الخ جملة قسمية
273
وردت في أواخر القصص الأربع تنبيهاً على أن كل قصة منها مستقبلة بإيجاب الأدكار كافية في الازدجار ومع ذلك لم تقع واحدة في حيز الاعتبار أي وبالله لبد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلنا على لغتهم كما قال فإنما يسرناه بلسانك ورشحنا بأنواع المواعظ والعبر وصرفنا فيه من الوعيد والوعد {لِلذِّكْرِ} أي للتذكير والاتعاظ وعن الحسن عن النبي عليه السلام لولا قول الله ولقد يسرنا القرآن للذكر لما أطاقت الألسن أن تتكلم به {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وآكده حيث يدل على أنه لا يقدر أحد أن يجيب المستفهم بنعم وعن عليه السلام بن مسعود رضي الله عنه قال : قرأت على النبي عليه السلام فهل من مذكر بالذال فقال عليه السلام : فهل من مدكر بالدال قال في برهان القرآن قوله فكيف كان الخ ختم به قصة نوح وعاد وثمود ولوط لما في كل واحدة منها من التخويف والتحذير وما حل بهم فيتعظ به حافظ القرآن وتاليه ويعظ غيره.
وفي الآيات إشارة إلى مغلوبية نوح القلب في يد النفس الأمارة بغلبات الصفات البشرية عليه حتى دعا ربه فأجابه الله حتى غلبت صفاته الروحانية النورانية على صفاتها الحيوانية الظلمانية وأفاض من سماء الأرواح العلوية مياه الرأفة والرحمة والكرامة ومن أرض البشرية عيون المعارف والحقائق فأهلك قومه المعبر عنهم بالنفس وصفاتها ونجاه على سفينة صفاته الروحانية وفيه إشارة أخرى وهي أنه إذا زاد الكشف والعيان تستشرف الأرواح على الفناء فيدخلها الله في سفن الصعمة ويجريها بشمال العناية وأيضاً أن الأنبياء والأولياء سفن عنايته تعالى يتخلص العباد بهم من الاستغراق في بحار الضلالة وظلمات الشقاوة لأنهم محفوظون بحسن عنايته وعين كلاءته ومن استن بسنتهم نجا من الطغيان والنيران ودخل في جوار الرحمن وفي المثنوي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
ايننين فرمود آن شاه رسل
كه منم كشتى درين درياى كل
يا كسى كودر بصيرتهاى من
شد خليفه راستى برجاى من
كشتى نوحيم در دريا كه تا
رونكردانى ز كشتى اي فتى
(9/224)
نسأل الله سبحانه أن يحفظنا في سفينة الشريعة من الاعتماد على العقل والخيال ويعصمنا من الزيغ والضلال {كَذَّبَتْ عَادٌ} أي هوداً عليه السلام ولم يتعرض لكيفية تكذيبهم له روما للاختصار ومسارعة إلى بيان ما فيه الازدجار من العذاب {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} هو لتوجيه قلوب السامعين نحو الإصغاء إلى ما يلقى إلبيهم قبل ذكره لا لتهويله وتعظيمه وتعجيبهم من حاله بعد بيانه كما قبله وما بعده كأنه قيل كذبت عاد فهل سمعتهم أو فاسمعوا كيف كان عذابي وإنذاراتي لهم فالنذر جمع نذير بمعنى الإنذار {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} استئناف ببيان ما أجمل أولاً وصرصر من الصر وهو البرد أو من صر الباب والقلم أي صوت أي أرسلنا وسلطنا عليهم ريحاً باردة أو شديدة الصوت والهبوب وهي ريح الديور وتقدم تفصيله في فصلت وغيرها {فِى يَوْمِ نَحْسٍ} النحس ضد السعد أي شؤم {مُّسْتَمِرٌّ} صفة ليوم أو نحس أي مستمر شؤمه عليهم أو ابد الدهر
274
فإن الناس يتشاءمون بأربعاء آخر الشهر قال ابن الشيخ واشتهر بين بعض الناس التشاؤم بالأربعاء الذي يكون في آخر الشهر بناء على قوله تعالى في يوم نحس مستمر ومعلوم أن ليس المراد أنه نحس على المصلحين بل على المفسدين حيث لم تظهر نحو سنته في حق الأنبياء والمؤنين وفي الروضة الأربعاء مشؤوم عندهم والذي لا يدور وهو آخر أربعاء في الشهر أشأم وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر قال الشاعر :
لقاؤك للمبكر قال سوء
ووجهك أربعاء لا يدور
وقيل يحمد في الأربعاء الاستحمام فإنه يقال يخلط في ذلك اليوم ماء من الجنة مع المياه وكذا يحمد ابتداء الأمور والمعنى مستمر عليهم شؤمه ونحو ستة أزمنة ممتدة إلى أن أهلكهم فاليوم بمعنى الحين وإلا فاليوم الواحد لا يمكن أن يستمر سبع ليال وثمانية أيام والاستمرار على هذين الوجهين يحسب الزمان أو المعنى شامل لجميعهم كبيرهم وصغيرهم فالمستمر بمعنى المطرد بالنسبة إلى الأشخاص أو مشتد مرارته أي بشاعته وكان ابتداؤه يوم الأربعاء آخر الشهر يعني كانت أيام العجوز من صبيحة أربعاء آخر الشهر إلى غروب الأربعاء الآخر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
ـ وروي ـ أنه كان آخر أيامهم الثمانية في العذاب يوم الأربعاء وكان سلخ صغر وهي الحسوم في سورة الحاقة {تَنزِعُ النَّاسَ} صفة لريحا أي ريحاً تقلعهم روي أنهم دخلوا الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فنزعتهم الريح وصرعتهم موتى وقال مقاتل تنزع أآواحهم من أجسادهم وقال السهلي : دامت عليهم سبع ليال وثمانية أيام كيلا تنجو منهم أحد ممن في كهف أو سرب فأهلكت من كان ظاهراً بارزاً وانتزعت من البيوت من كان في البيوت أو هدمتها عليهم وأهلكت من كان في الكهوف والأسراب بالجوع والعطش ولذلك قال : فهل ترى لهم من باقية أي فهل يمكن أن يبقى بعد هذه الثمانية الأيام باقية منهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} حال من الناس والإعجاز جمع عجز وعجز الإنسان مؤخره وبه شبه مؤخر غيره ومنه العجز لأنه يؤدي إلى تأخر الأمور والنخل من الجنس الذي يفرق بينه وبين واحده بالتاء واللفظ مفرد لكنه كثيراً ما يسمى جمعاً نظراً إلى المعنى الجنسي والمنقعر المنقلع عن أصله يقال قعرت النخلة قلعتها من أصلها فانقعرت أي انقعلت وفي المفردات منقعر أي ذاهب في قعر الأرض وإنما أراد تعالى أن هؤلاء اجتثوا كما اجتث النخل الذاهب في قعر الأرض فلم يبق لهم رسم ولا أثر انتهى والمعنى منقلع عن مغارسه قيل شبهوا بإعجاز النخل وهي أصولها بلا فروع لأن الريح كانت تقلع رؤوسهم فتبقى أجساداً وجثثاً بلا رؤوس وقال بعضهم : كانت الريح تقلعهم وتصرعهم على رؤوسهم فتدق رقابهم فيبين الرأس من الجسد وفيه إشارة إلى قوتهم وثباتهم في الأرض فكأنهم بحسب قوتهم وجسامتهم يجعلون أرجلهم غائرة نافزة فيالأرض ويقصدون به المقاومة على الريح ثم إن الرح لما صرعتهم فكأنها قلعت إعجاز نخل منقعر وقال أبو الليث صرعتهم وكبتهم على وجوههم كأنهم أصول نخل منقلعة من الأرض فشبههم لطولهم بالنخل الساقة قال مقاتل : كان طول كل واحد منهم
275
اثني عشر ذراعاً وقال في رواية الكلبي كان طول كل واحد منهم سبعين ذراعاً فاستهزأوا حين ذكر لهم الريح فخرجوا إلى الفضاء وضربوا بأرجلهم وغيبوا في الأرض إلى قريب من الركبة فقالوا : قالا للريح حتى ترفعنا فجاءت الريح فدخلت تحت الأرض وجعلت ترفع كل اثنين وتضرب أحدهما بالآخر بعدما ترفعهما في الهواء ثم تلقيهما في الأرض والباقون ينظرون إليهما حتى رفعتهم كلهم ثم رمت بالرمل والتراب عليهم وكان يسمع أنينهم من تحت التراب كذا وكذا يوماً وتذكير صفة نخل للنظر إلى اللفظ كما أن تأنيثها في قوله إعجاز نخل خاوية للنظر إلى المعنى وكذا قوله جاءتها ريح عاصف ولسليمان الريح عاصفة
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/225)
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} تهويل لهما وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما فليس فيه شائبة تكرار كما في الإرشاد وقال في برهان القرآن أعاد في قصة عاد فكيف كان عذابي ونذر مرتين لأن الأول في الدنيا والثاني في العقبى كما قال في هذه القصة لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وقيل الأول لتحذيرهم قبل هلاكهم والثاني لتحذير غيرهم بعد هلاكهم انتهى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} الكلام فيه كالذي مر فيما سبق وفيه إشارة إلى أهل النفوس الأمارة فإنهم بواسطة انهماكهم في الشهوات الجسمانية احتجبوا عن الله وموائد كرمه فأرسل الله عليهم صرصر ريح أهوائهم الظلمانية وبدعهم الشيطانية في يوم نحوسة الاحتجاب وسلطها عليهم فسقطوا على أرض الهوان والخذلان كأنهم إعجاز نخل منقلع عن تخوم الأرض ساقط على وجه الأرض مثل أجساد جامدة بلا رؤوس نعوذ بالله من تجليات قهره وتسلط عذابه وغضبه في يومه وشهره فعلى العاقل أن يتذكر بهذه الذكرى ويعتبر بهذه الآية الكبرى :
و بركشته بختى در افتدبه بند
از ونيكبختان بكيرند ند
تويش از عقوبت در عفو كوب
كه سودى ندارد فغان زير وب
فلو آمن إيمان يأس أو تاب توبة يأس لم يقبل
فراشوا وبينى در صلح ياز
كه ناكه در توبه كردد فراز
مرو زير باركناه أي سر
كه حمال عاجز بود در سفر
كما ورد خفف الحمل فإن العقبة كؤود :
ى نيك مردان ببايد شتافت
كه هركين سعادت طلب كرد يافت
وليكن تودنبال ديوخسى
ندانم كه در صالحان كى رسى
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
ثم إن سبب هلاك عاد بالريح اعتمادهم على قوتهم والريح أشد الأشياء قوة فاستأصلهم الله بها حتى يحصل الاعتبار لمن بعدهم من القرون فلا يعتمدوا على قواهم وفيه إشارة إلى أن الريح هو الهواء المتحرك فالخلاص من ذلك الهواء إٌّما هو بترك الهوى ومتابعة الهدى نسأل الله من فضله ذلك {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} أي الإنذارات والمواعظ التي سمعوها من صالح عليه السلام أو بالرسل فإن تكذيب أحدهم تكذيب للكل لاتفاقهم على الشرائع {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا} أي كائناً من جنسنا وانتصابه بفعل يفسره ما بعده فأداة الاستفهام
276
داخلة على الفعل وإن كان تقديراً كما هو الأصل {وَاحِدًا} أي منفرداً لاتبع له أو واحد من آحادهم لا من أشرافهم وتأخير هذه الصفة عن منا للتنبيه على أن كلاً من الجنسية والوحدة مما يمنع الاتباع ولو قدمت عليه لفاتت هذه النكتة {نَّتَّبِعُهُ} في أمره {إِنَّآ إِذًا} أي على تقدير اتباعنا له وهو منفرد ونحن أمة جمة وأيضاً ليس بملك لما كان في اعتقاد الكفرة من التنافي بين الرسالة والبشرية {لَّفِى ضَلَـالٍ} عن الصواب {وَسُعُرٍ} أي جنون فإن ذلك بمعزل عن مقتضى العقل وقيل كان يقول لهم إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر أي نيران جمع سعير فعكسوا عليه لغاية عتوهم فقالوا : إن اتبعناك كنا إذن كما تقول {أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ} أي الكتاب والوحي {عَلَيْهِ مِنا بَيْنِنَا} وفينا من هو أحق بذلك والاستفهام للإنكار ومن بيننا حال من ضمير عليه أي أخص بالرسالة منفرداً من بين آل ثمود والحال أن فيهم من هو أكثر مالاً وأحسن حالاً {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي ليس الأمر كذلك بل هو كذا وكذا حمله بطره على الترفع علينا بما ادعاه وأشر اسم فاعل مثل فرح بمعنى خود سند وستيزنده وسبكسار.
وبابه علم والأشر التجبر والنشاط يقال فرس أشر إذا كان مرحاً نشيطاً {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ} كيست.
فهو استفهام {الْكَذَّابُ الاشِرُ} حكاية لما قاله تعالى لصالح عليه السلام وعداً له ووعيداً لقومه والسين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده والغد اليوم الذي يلي يومك الذي أنت فيه والمراد به وقت نزول العذاب في الزمان المستقبل لا يوم بعينه ولا يوم القيامة لأن قوله أنا مرسلوا الناقة استئناف لبيان مبادي الموعود حتماً والمعنى سيعلمون البتة عن قريب من الكذاب الأشر الذي حمله أشره وبطره على الترفع والتجبر أصالح أم من كذبه وفيه تشريف لصالح حيث أن الله تعالى سلب عنه بنفسه الوصف الذي أسنده إليه من الكذب والأشر فإن معناه لست أنت بكذاب أشر بل هم {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ} مخرجوها من الهضبة التي سألوا والهضبة الجبل المنبسط على الأرض أو جبل خلق من صخرة واحدة أو الجبل الطويل الممتنع المنفرد ولا يكون إلا في حمر الجبال كما في القاموس.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/226)
ـ روي ـ أنهم سألوه متعنتين أن يخرج من صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة ناقة حمراء جوفاء وبراء عشراء وهي التي أتت عليها عشرة أشهر من يوم أرسل عليها الفحل فأوحى الله إليه أنا مجرجوا الناقة على ما وصفوا {فِتْنَةً لَّهُمْ} أي امتحاناً فإن المعجزة محنة واختبار إذ بها يتميز المثاب من المعذب {فَارْتَقِبْهُمْ} فانتظرهم وتبصر ما يصنعون {وَاصْطَبِرْ} على أذيتهم صبراً بليغاً {وَنَبِّئْهُمْ} أخبرهم {أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةُا بَيْنَهُمْ} مقسوم لها يوم ولهم يوم فالماء قسمة من قبيل تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير وبينهم لتغليب العقلاء {كُلُّ شِرْبٍ} أي كل نصيب من الماء ونوبة الانتفاع منه {مُّحْتَضَرٌ} يحضره صاحبه في نوبته فليس معنى كون الماء مقسوماً بين القوم والناقة أنه جعل قسمين : قسم لها وقسم لهم بل معناه جعل الشرب بينهم على طريق المناوبة يحضره القوم يوماً وتحضره الناقة يوماً وقسمة الماء إما لأن الناقة عظيمة الخلق ينفر منها حيواناتهم أو لقلة الماء {فَنَادَوْا} س بخواندند قوم ثمود {صَاحِبَهُمْ} هو
277
قدار بن سالف بضم القاف والدال المهملة وهو مشؤوم آل ثمود ولذا كانت العرب تسمى الجزار قداراً تشبيهاً له بقدار بن سالف لأنه كان عاقر الناقة كما سيجيء وكان قصيراً شريراً أزراق أشقر أحمر وكان يلقب بأحيمر ثمود تصغير أحمر تحقيراً وفي كشف الأسرار يقال له أحمر ثمود وقيل أشأم عاد يعني عاداً الآخرة وهي ارم تشاءم به العرب إلى يوم القيامة ومن هذا يظهر الجواب عما قال السجاوندي في عين المعاني وقد ذكره زهير في شعره :
فتنتج لكم غلمان اشأم كلهم
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 29 من صفحة 278 حتى صفحة 287
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
قيل هو غلط وهو أحمر ثمود انتهى {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} التعاطي مجاز عن الاجتراء لأن التعاطي هو تناول الشيء بتكلف وما يتكلف فيه لا بد أن يكون أمراً هائلاً لا يباشره أحد إلا بالجراءة عليه وبهذا المجاز يظهر وجه التعقيب بالفاء في فعقر وإلا فالعقر لا يتفرع على نفس مباشرة القتل والخوض فيه والعقر بالفارسية ى كردن.
يقال عقر البعير والفرس بالسيف فانعقر أي ضرب به قوائمه وبابه ضرب والمعنى فاجترأ صاحبهم قدار على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له فاحدث العقر بالناقة.
قال الكاشفي : محرك عقر ناقه دوزن بودند.
عنيزة أم غنم وصدوق بنت المختار وفي التفاسير صدقة بدل صدوق وذلك لما كانت الناقة قد أضرب بمواشيها.
س صدوق ابن عم خود مصدع بن دهررا بوصال خود وعده داد وعنيزه يكى ازدختران خودرا نامزد قدار كرده وهردو براه كذر ناقه كمين كردند ون ناقه از آب باز كشت اول بمصدع رسيده اوتيرى بيفكندكه ايهاى ناقه بهم دوخت قدار نيزاز كمين كاه بيرون آمده بشمشير ناقه راى كرد فمعنى فنادوا صاحبهم فنبهوه على مجيئها وقربها من مكمنه أو أنه لما هم بها هابها فناداه أصحابه فشجعوه أو نادى مصدرع بعدما رماها بسهم دونك الناقة فاضربها وون ازاى در آمداورا قطعه قطعه كردند وميان قوم منقسم ساختند وبه او حنوبر آمده سه بانك كرد واز آنجابا سمان رفت وكفتند او نيز كشته شد وبعد ازسه روز عذاب ثمود نازل شد {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} الكلام فيه كالذي مر في صدر قصة عاد {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} هي صيحة جبريل عليه السلام وذلك لأنها هي الجزاء الوفاق لفعلهم فإنهم صاروا سبباً لصيحة الولد بقتل أمه وفي الحديث "لا توله واحلدة بولدها" أي لا تجعل والهة وذلك في السبايا بأن يفرق بينها وبين ولدها وفي الحديث "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" كما في المقاصد الحسنة للسخاوي {فَكَانُوا} أي فصار والأجل تلك الصيحة بعد أن كانوا في نضارة وطيب عيش {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} الهشم كسر الشيء الرخو كالنبات والهشيم بمعنى المهشوم أي المكسور وهو اليابس المتكسر من الشجر وغيره والحظر جمع الشيء في حظيرة والمحظور الممنوع والمحتظر بكسر الظاء الذي يعمل الحظيرة ويتخذها قال الجوهري الحظيرة التي تعمل للإبل من الشجر لتقيها البرد والريح والمعنى كالشجر اليابس الذي يتخذه من يعمل الحظيرة أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} وفي الآيات إشارة إلى ثمود
278
(9/227)
النفس الأمارة بالسوء ومعاملتها مع نذير القلب فإنه يدعوها إلى الانسلاخ عن الصفات البشرية والتلبس بالصفات الروحانية وهي تدعى المجانسة معه إذ النفس والروح بل النفس أخت القلب من جانب أيسر البطن وكذا تدعى تقدم رتبتها على القلب وتصرفها في القالب وما يحتوي عليه من القوى البشرية والطبيعية وتأخر رتبة القلب لأنه حصل بعد ازدواج الروح مع النفس فبسبب تقدم رتبة النفس على القلب استنكفت النفس عن اتباعه وامتثال لأوامره وما عرفت أن تقدم الشرف والحسب أعلى وأفضل من تقدم الشرف والنسب ولذا قالت الحكماء توانكرى بهنرست نه بمال وبزركى بعقلست نه بسال وقال بعضهم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
وما ينفع الأصل من هاشم
إذا كانت النفس من باهله
وهي قبيلة عرفت بالدناءة والخساسة جداً فخطأت النفس نذير القلب مع أن الخاطئة نفسها وامتحنته بإخراج الناقة وذلك أن حقيقة النفس واحدة غير متعددة لكن بحسب توارد الصفات المختلفة عليها تسمى بالأسماء المختلفة فإذا توجهت إلى الحق توجهاً كلياً تسمى بالمطمئنة وإذا توجهت إلى الطبيعة البشرية توجهاً كلياً تسمى بالأمارة وإذا توجهت إلى الحق تارة وإلى الطبيعة أخرى تسمى اللوامة فثمود النفس الأمارة طلبت على جهة المكر والاستكبار من صالح رسول القلب المرسل من حضرة الروح أن يظهر ناقة النفس المطمئنة من شاهق جبل النفس الأمارة بأن يبدل صفتها من الأمارية إلى الاطمئنان فسأل صالح رسول القلب من حضرة الروح مسؤولها فأجابته إظهاراً للقدرة والحكمة حتى غلبت أنوار الروح وانطمست ظلمة النفس كما ينطمس عند طلوع الشمس ظلام الليل وكان للنفس المطمئنة شرب خاص من المعارف والحقائق كما كان للنفس الأمارة شرب خاص من المشارب الجسمانية فنادى الهوى وأهوانه بعضهم بعضاً باستخلاص النفس الأمارة من استيلاء نور الروح عليها مخافة أن ينغمس الهوى أيضاً تحت هذا النور فتعاطى بعض أصحاب الهوى ذلك وكانت النفس الأمارة ما تمكنت في مقام الاطمئنان تمكناً مستحكماً بحيث لا تتأثر بل كان لها بقية تلوين فقتلوها بإبطال طمأنينتها فرجعت القهقرى فانقهرت النفس والهوى تحت صيحة القهر وصارت متلاشية في حضرة القهر والخذلان محترقة بنار القطيعة والهجران كما قال فكيف كان عذابي ونذر فمن كان أهل الذكر والقرآن أي الشهود الجمعي يعتبر بهذا الفراق ويجتهد إلى أن يصل إلى نهاية الاطمئنان على الإطلاق فإن النفس وءن تبدلت صفتها الأمارية إلى المطمئنة لا يؤمن مكرها وتبدلها من المطمئنة إلى الأمارية ولو وكلت إلى نفسها طرفة عين لعادت المشؤومة إلى طبعها وجبلتها كما كان حال بلعام وبرصيصا ولذا قال عليه السلام : لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك وقال الجنيد قدس سره : لا تألف النفس الحق أبداً ألا نرى أن الذمي وإن قبل الخراج فإنه لا يألف المسلم الفة مسلم وفرخ الغراب وأن ربي من الصغر وعلم فإنه لا يخلو من التوحش فالنفس ليست بأهل الاصطناع والمعروف والملاطفة أبداً وإنما شأنها تضييقها ومجاهدتها ورياضتها إلى مفارقة الروح من الجسد.
ولذا قال في المثنوي :
279
اندرين ره مى خراش ومى تراش
تادم آخر دمى فارغ مباش
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
ومنه يعلم سر قولهم إن ورد الاستغفار لا يسقط بحال ولذا قال تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره مع ظهور الفتح المطلق نسأل الله تعالى أن يجعلنا من العلماء العاملين والأدباء الكاملين بسر النبي الأمين {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطا بِالنُّذُرِ} أي بالإنذارات أو بالمنذرين كما سبق {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} أي ريحاً تحصبهم أي ترميم بالحصباء وهي حجارة دون ملىء الكف فالحصب الرمي بالحصى الصغار ومنه المحصب موضع الجمار وقول عمر رضي الله عنه حصبوا المسجد والحاصب اسم فاعل بمعنى رامى الحصباء وتذكيره مع إسناده إلى ضمير الريح وهي مؤنث سماعي لتأويلها بالعذاب.
(9/228)
يقول الفقير : لعل سر تعذيبهم بالحجارة لأنهم حجروا ومنعوا من اللواطة فلم يمتنعوا بل رموا نطفهم إلى غير محل الحرث فرماهم الله بالحجر ومن ثمة ذهب أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أن حكم اللوطى أن يرجم وإن كان غير محصن وأيضاف أنهم يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان أولى به وأما الريح فلأنهم كانوا يضرطون في مجالسهم علانية ولا يتحاشون وأما انقلاب قراهم فلأنهم كانوا يقلبون المرد عند اللواطة فجازاهم الله بحسب أعمالهم وأيضاً قلبوا الحقيقة وعكسوها بأن تركوا محل الحرث وأتوا الأدبار {إِلا ءَالَ لُوطٍ} وهم أهل بيته الذين نجوا من العذاب وكانوا ثلاثة عشر وقيل يعني لوطاً وابنتيه وفي كشف الأسرار يعني بناته ومن آمن به من أزواجهن {نَّجَّيْنَـاهُم بِسَحَرٍ} أي في سحر من الأسحار وهو آخر الليل أو السدس الأخير منه وفي المفردات السحر اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهاء وجعل أسماء لذلك الوقت ويجوز أن يكون حالاً أي ملتبسين بسحر.
ـ روي ـ إن الله أمره حتى خرج بهم بقطع من الليل فجاء العذاب قومه وقت السحر والاستثناء منقطع لأنه مستثنى من الضمير في عليهم وهو للمكذبين من قوم لوط ولا يدخل فيهم آل لوط لأن المراد به من تبعه على دينه {نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أي إنعاماً كائناً منا وهو علة لنجينا ويجوز أن يكون مصدراً من فعله أو من معنى نجيناهم لأن تنجيتهم انعام {كَذَالِكَ} أي مثل ذلك الجزاء العجيب {نَجْزِى مَن شَكَرَ} نعمتنا بالإيمان والطاعة يعني كذلك تنجى المؤمنين {وَلَقَدْ أَنذَرَهُم} لوط {بَطْشَتَنَا} أي أخذتنا الشديدة بالعذاب {فَتَمَارَوْا} فكذبوا {بِالنُّذُرِ} متشاكين فتماروا ضمن معنى التكذيب فعدى تعديته من المرية وأصله تماريوا على وزن تفاعلوا {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فترود غير ما يروده وسبق تحقيقها في سورة يوسف والضيف بالفارسية مهمان والمعنى ولقد أرادوا من لوط تمكينهم ممن أتاه من أضيافه وهم الملائكة في صورة الشبان ومعهم جبريل وقصدوا الفجور بهم ظناً منهم أنهم بشر {فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} الطمس المحو استئصال أثر الشيء أي فمسحناها وسويناها كسائر الوجه بحيث لم ير لها شق.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
ـ روي ـ أنهم لما دخولوا داره عنوة صفقهم جبريل بجناحه صفقة فتركتهم يترددون لا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط والصفق الضرب الذي ليس له صوت {فَذُوقُوا} أي فقلنا لهم على ألسنة الملائكة ذوقوا
280
(9/229)
{عَذَابِى وَنُذُرِ} والمراد به الطمس فإنه من جملة ما أنذروه من العذاب وفيه إشارة إلى أن طمس الأبصار كان من نتائج مسح الأبصار ولذا ورد في القرآن ونحشره يوم القيامة أعمى لأنه أعرض عن ذكر الله ولم يلتفت إليه أصلاً {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً} التصبيح بإمداد بنزديك كسى آمدن.
أي جاءهم وقت الصبح {عَذَابٌ} أي الخسف والحجارة {مُّسْتَقِرٌّ} يستقر بهم ويثبت لا يفارقهم حتى يفضي بهم إلى النار يعني عذاب دائم متصل بعذاب الآخرة وفي وصفه بالاستقرار إيماء إلى أن ما قبله من عذاب الطمس ينتهي به والحاصل أن العذاب الذي هو قلب قريتهم عليهم وجعل أعلاها أسفلها ورميهم بالحجارة غير العذاب الذي نزل بهم من طمس الأعين فإنه عذاب دنيوي غير موصول بعذاب الآخرة وأما عذاب الخسف والحجارة فموصول به لأنهم بهذا العذاب ينتقلون إلى البرزخ الموصول بالآخرة كما أشار إليه قوله عليه السلام : من مات فقد قامت قيامته أي من حيث اتصال زمان الموت بزمان القيامة كما أن أزمنة الدنيا يتصل بعضها ببعض {فَذُوقُوا عَذَابِى وَنُذُرِ} حكاية لما قيل لهم حينئذ من جهته تعالى تشديداً للعذاب {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} مر ما فيه من الكلام وفيه استئناف للتنبيه والإيقاظ لئلا يغلبهم السهو والغفلة وكذا تكرير قوله تعالى فبأي آلاء ربكما تكذبان وويل يومئذ للمكذبين ونحوهما من الأنباء والقصص والمواعيد والزواجر والقواطع فإن في التكرير تقريراً للمعاني في الأسماع والقلوب وتثبيتاً لها في الصدور وكلما زاد تكرير الشيء وترديده كان أقر له في القلب وأمكن في الصدر وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد من النسيان وفي القصة إشارة إلى معاملة لوط الروح مع قوم النفس الأمارة ومعاملة الله بهم من إنجاء لوط الروح بسبب صفاته الروحانية وإهلاك قومه بسبب صفاتهم البشرية الطبيعية وكل من غلب عليه الشهوة البهيمية التي هي شهوة الجماع يجب عليه أن يقهر تلك الصفة ويكسرها بأحجار ذكر لا إله إلا الله ويعالج تلك الصفة بضدها وهو العفة التي هي هيئة للقوة الشهوية متوسطة بين الفجور الذي هو إفراط هذه القوة والخمود الذي هو تفريطها فالعفيف من يباشر الأمور على وفق الشرع والمروءة بخلاف أهل الشهوة فإن الشهوة حركة للنفس طلباً للملائم وحال النفس أما إفراط أو تفريط فلا بد من إصلاحها من جميع القوى والصفات فإنها هي التي حملت الناس على الفجور وإيقاع الفتنة بينهم وتحريك الشرور :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 30 من صفحة 281 حتى صفحة 291
نمى تازد اين نفس سركش نان
كه عقلش تواند كرفتن عنان
نسأل الله العون والتوفيق والثبات في طريق التحقيق {وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} اكتفى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بالنذر أي وبالله لقد جاءهم الإنذارات من جهة موسى وهرون عليهما السلام كأنه قيل فماذا فعلوا حينئذ فقيل : {كَذَّبُوا بآياتنا كُلِّهَا} يعني الآيات التسع وهي اليد والعصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وحل عقدة من لسانه وانفلاق البحر {فَأَخَذْنَـاهُمْ} بالعذاب عند التكذيب {أَخْذَ عَزِيزٍ} لا يغالب يعني كرفتن غالبي كه مغلوب نكردد در كرفتن {مُّقْتَدِرٍ} لا يعجزه شيء والمقصود
281
أن الله تعالى هو العزيز المقتدر ولذا أخذهم بتكذيبهم ولم يمنعه من ذلك مانع والمراد بالعذاب هو الإغراق في بحر القلزم أو النيل.
يقول الفقير : لعل سر الغرق أن فرعون وصل إلى موسى بسبب الماء الذي ساقه إليه في تابوته فلم يشكر لا نعمة الماء ولا نعمة موسى فانقلب الحال عليه بضد ذلك حيث أهلكه الله وقومه بالماء الذي هو سبب الحياة لغيرهم ووجه إدخال الطمس في العذاب بالنسبة إلى قوم لوط ودرج الطوفان ونحوه في الآيات بالإضافة إلى آل لوط ظاهر لأن المقصود هو العذاب المتعلق بالوجود والطمس كذلك دون بعض آيات فرعون {أَكُفَّارُكُمْ} يا معشر العرب {خَيْرٌ} عند الله قوة وشدة وعدة وعدة {مِّنْ أُولَئكُمْ} الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون والمعنى أنه أصابهم ما أصابهم مع ظهور خيريتهم منكم فيما ذكر أن الأمور فهل تطمعون أن لا يصيبكم مثل ذلك وأنتم شر منهم مكاناً وأسوء حالاً {لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ} إضراب وانتقال من التبكيت بما ذكر إلى التبكيت بوجه آخر أي بل الكم براءة وأمن من عذاب الله بمقابلة كفركم ومعاصيكم نازلة في الكتب السماوية فلذلك تصرون على ما أنتم عليه وتأمنون بتلك البراءة والمعنى به الإنكار يعني لم ينزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم فهو في أمن من عذاب الله {أَمْ يَقُولُونَ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 262(9/230)
جهلاً منهم {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} تبكيت والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم للإعراض عنهم وإسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية قبائحهم لغيرهم يقال نصره من عدوه فانتصر أي منعه فامتنع أي بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن أولوا حزم ورأى أمرنا مجتمع لا نرام ولا نضام أو منتصر من الأعداء منتقم لا نغلب أو متناصر بنصر بعضنا بعضاً على أن يكون افتعل بمعنى تفعل كاختصم والأفراد في منتصر باعتبار لفظ الجميع قال أبو جعل وقد ركب يوم بدر فرساً كميتاً كان يعلفه كل يوم فرقاً من ذرة وقد حلف أنه يقتل محمداً صلى الله عليه وسلّم نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه فقتلوه يومئذ وجر رأسه إلى رسول الله ابن مسعود رضي الله عنه وفيه إشارة إلى كفار صفات النفس واختلاف أنواعها مثل البهيمية والسبعية والشيطانية والهوائية والحيوانية وتناصر بعضها بنصر بعض وتعاون بعض بمعاونة بعض {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} رد وإبطال لذلك والسين للتأكيد أي سيهزم جمع قريش البتة {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي الأدبار والتوحيد لإرادة الجنس يعني ينصرفون عن الحرب منهزمين وينصر الله رسوله والمؤمنين وقد كان كذلك يوم بدر قال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لما نزلت : سيهزم الجمع ويولون الدبر كنت لا أدري أي جمع فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله عليه السلام يلبس الدرع ويقولو : سيهزم الجمع ويولون الدبر فعرفت تأويلها وهذا من معجزات رسول الله عليه السلام لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر قال ابن عباس رضي الله عنهما كان بين نزول هذه الآية وبين يوم بدر سبع سنين فالآية على هذا مكية {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} أي ليس هذا تمام عقوبتهم بل القيامة موعد أصل عذابهم وهذا من طلائعه {وَالسَّاعَةُ} إظهارها في موقع إضمارها التربية تهويلها {أَدْهَى} أعظم داهية
282
وفي أقصى غاية من الفظاعة والداهية الأمر الفظيع لا يهتدى إلى الخلاص منه {وَأَمَرُّ} أشد مرارة وفي أقصى نهاية من المرارة وحاصله أن موقف القيامة أهول من موقف بدر وعذابها أشد وأعظم من عذابه لأن عذاب الدنيا مثل الأسر والقتل والهزيمة ونحوها أنموذج من عذاب الآخرة كما أن نارها جزء من سبعين جزء من نارها
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
(9/231)
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} أي المشركين من الأولين والآخرين {فِى ضَلَـالٍ وَسُعُرٍ} أي في هلاك ونيران مسعرة والتسعير آتش نيك آفروختن وقيل في ضلال عن الحق في الدنيا ونيران في الآخرة {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} منصوب إما بما يفهم من قوله في ضلال أي كائنون في ضلال وسعر يوم يجرون {فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} وإما بقوله مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم : {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} سقر علم لجهنم ولذلك لم يصرف وقيل اسم لطبقتها الخامسة من سقرته النار إذا بوخته أي غيرته والمس كاللمس وهو ءدراك بظاهر البشرة والمعنى قاسوا حرها وألمها فإن مسها سبب للتألم بها فمس سقر مجاز عن ألمها بعلاقة السببية وفي القاموس ذوقوا مس سقر أي أول ما ينالكم منها كقولك وجد مس الحمى انتهى وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أول الناس يقضي فيه يوم القيامة رجل استشهد أتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال : ما عملت فيها؟ قال : قاتلت في سبيلك حتى استشهدت قال : كذبت إنما أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل فأمر به فسحب علي وجهه حتى ألقى في النار وجل تعلم العلم وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال : ما عملت فيها فقال : تعلمت العلم وقرأت القرآن وعملت قال : كذبت إنما أردت فلان عالم وفلان قارىء فقد قيل : فأمر به فسحب وجهه حتى ألقى في النار ورجل آتاه الله تعالى من أنواع المال فأتى به فعرفه نعمة فعرفها فقال : ما عملت فيها؟ قال : ما تركت من شيء يجب أن ينفق فيه لك قال : كذبت إنما أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل فأمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار وعن عطاء السلمي قال : خرجت يوماً مع أصحابي نستسقي فلقيني سعدون فقال : يا عطاء هل خرجتم بقلوب سماوية أو بقلوب أرضية قلت : بل بقلوب سماوية فقال : يا عطاء لا تتعوج فإن الناقد بصير فخجلت منه فلما دعونا ولم نمطر قلت له : ادع الله حتى يسقينا فرفع رأسه إلى السماء فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ثم قال : بحرمة ما كان بيني وبينك البارحة أن تسقينا فلم يفرغ من كلامه حتى مطرنا ثم بكى ورجع والكلام في تصحيح النية وتطهير القلب عن الغير والإخلاص تعالى ومن بقي في صفات نفسه وأعرض عن الحق وأقبل على الدنيا وشهواتها فهو يجر في نار جهنم البعد والطرد ويذوق حر نار الهجران والخذلان {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ} من الأشياء وهو منصوب بفعل يفسره ما بعده {خَلَقْنَـاهُ} حال كون ذلك الشيء ملتبساً {بِقَدَرٍ} متعين اقتضته الحكمة التي عليها يدور أمر التكوين فقدر بمعنى التقدير وهو تسوية صورته وشكله وصفاته الظاهرة والباطنة على مقدار مخصوص اقتضته الحكمة وترتبت عليه المنفعة المنوطة بخلفه أو خلقناه مقدراً مكتوباً في اللوح قبل وقوعه لا يغير ولا يبدل.
مصرع :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
قضى الله أمراً وجف القلم
سر بر خط لوح ازلي دار وخموش
283
كز هره قلم رفته قلم در نكشن
فالمراد بالقدر تقديره في علمه الأزلي وكتبه في اللوح المحفوظ وهو القدر المستعمل في جنب القضاء بالقضاء وجود جميع المخلوقات في اللوح المحفوظ مجتمعة والقدر وجودها في الأعيان بعد حصول شرائطها ولذا عبر بالخلق فإنه إنما يتعلق بالووجود الظاهري في الوقت المعين وفي الحديث "كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء" وعنه عليه السلام : "كل شيء بقدر الله حتى العجز والكيس" وعنه عليه السلام : "لا يؤمن عبد حتى يأمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر خيره وشره" أي حلوه ومره قال في كشف الأسرار مذهب أهل سنت آنست كه نيكى وبدى هرند فعل بنده است وبنده بدان مثاب ومعاقب است اما بخواست الله است وبقضا وتقذير أو نانكه رب العزة كفت "قل كل من عند الله" وقال تعالى : "أنا كل شيء خلقناه بقدر" وقال عليه السلام : القدر خيره وشره من الله ففي الآية رد على القدرية والمعتزلة والخوارج.
(9/232)
وفي التأويلات النجمية خلقنا كل شيء أي موجود علمي وعيني في الأزل بمقدار معين مثل ما قال الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أي كل شيء مخلوق على مقتضى استعداده الذاتي وقابليته الأصلية الأزلية لا زائد فيه ولا ناقص كما قال الغزالي رحمه الله ليس في الإمكان أبدع من هذا الوجود لأنه لو كان ولم يظهر لكان بخيلاً وهو جواد ولكان عاجزاً وهو قادر {وَمَآ أَمْرُنَآ} لشيء نريد تكوينه {إِلا وَاحِدَةٌ} أي كلمة واحدة لا تثنى سريعة التكوين وهو قوله تعالى : كن أو إلا فعلة واحدة وهو الإيجاد بلا معالجة ومعاناة {كَلَمْحِ الْبَصَرِ} في اليسر والسرعة فإن اللمح النظر بالعجلة فمعنى كلمح كنظر سريع قال في القاموس لمح إليه كمنع اختلس النظر كألمح وفي المفردات اللمح لمعان البرق ورأيته لمحة برق قال ابن الشيخ لما اشتملت الآيات السابقة على وعيد كفار أهل مكة بالإهلاك عاجلاً وآجلاً والوعد للمؤمنين بالانتصار منهم جيىء بقوله : أنا كل شيء خلقناه بقدر تأكيداً للوعيد والوعد يعني أن هذا لوعيد والوعد حق وصدق والموعود مثبت في اللوح مقدر عند الله لا يزيد ولا ينقص وذلك على الله يسير لأن قضاءه في خلقه أسرع من لمح البصر وقيل : معنى الآية معنى قوله تعالى : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر قال بعض الكبار : ليس المراد بكلمة كن حرف الكاف والنون إنما المراد بها المعنى الذي به كان ظهور الأشياء فكن حجاب للمعنى لمن فهم وكل إنسان له في باطنه قوة كن وماله في ظاهره إلا المعتاد وفي الآخرة يكون حكم كن منه في الظاهر وقد يعطي الله ذلك لبعض الرجال في هذه الدار بحكم الإرث لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فإنه تصرف بها في عدة مواطن : منها قوله في غزوة تبوك كن أباذر فكان أباذر ثم لا يخفى أنه لم يعط أحد من الملائكة وغيرهم حرف كن إنما هي خاصة بالإنسان لما انطوى عليه من الخلافة والنيابة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
وفي التأويلات النجمية وما أمر تجلينا للأشياء كلها علويها وسفليها ألا تجعل واحد أي واحداني الوصف لا كثرة فيه لكن يتكثر بحسب المتجلى له ويظهر فيه بحسبه ظهور الصورة
284
الواحدة في المرائي المتكثرة يظهر في الكبير كبيراً وفي الصغير صغيراً وفي المستطيل مستطيلاف وفي مستدير مستديراً والصورة على حالتها المخلوقة عليها باقية لا تغير ولا تبدل بها كما يلمح الناظر ويرى في اللمحة الواحدة ما يحاذي بصره {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ} أي أشباهكم في الكفر من الأمم جمع شيعة وهو من يتقوى به الإنسان وينشر عنه كما في المفردات وقال في القاموس : شيعة الرجل بالكسر أتباعه وأنصاره والفرقة على حدة ويقع على الواحد والإثنين والجمع والمذكر والمؤنث {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} متعظ يتعظ بذلك فيخاف وفيه إشارة إلى أنا بقدرتنا الأزلية وحكمتنا البالغة أهلكنا وأفنينا أشباهكم وأمثالكم يا أرباب النفوس الأمارة ويا أصحاب القلوب الجوالة إما بالموت الطبيعي وإما بالموت الإرادي فهل من معتبر يعتبر هذا وهذا يختار لنفسه الأليق والأحرى {وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ} من الكفر والمعاصي مكتوب على التفصيل {فِى الزُّبُرِ} أي في ديوان الحفظة جمع زبور بمعنى الكتاب فهو بمعنى مزبور كالكتاب بمعنى مكتوب وقال الغزالي رحمه الله : كل شيء فعله الأمم في كتب أنبيائهم المنزلة عليهم كأفعال كفار زماننا في كتابنا {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} من الأعمال {مُّسْتَطَرٌ} مسطور في اللوح المحفوظ بتفاصيله يقال : استطره كتبه كما في القاموس قال يحيى بن معاذ رحمه الله : من علم أن أفعاله تعرض عليه في مشهد الصدق وأنه مجازي عليها اجتهد في إصلاح أفعاله وإخلاص أعماله ولزم الاستغفار لما سلف من إفراطه وقد روى أن النبي عليه السلام ضرب لصغائر الذنوب مثلاً فقال : إنما محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض وحضر جميع القوم فانطلق كل واحد منهم بحطب فجعل الرجل يجيء بالعود والآخر بالعود حتى جمعوا سواداً وأججوا ناراً فشووا خبرهم وأن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه فيهلكه إلا أن يغفر الله اتقوا محقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً ولقد أحسن من قال :
خل الذنوب صغيرها
وكبيرها ذاك التقى
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
واصنع كماش فوق را
ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة
إن الجبال من الحصى
(9/233)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ} أي من الكفر والمعاصي {فِى جَنَّـاتٍ} أي بساتين عظيمة الشان بحيث لا يوصف نعيمها وما أعد فيها لأهلها {وَنَهَرٍ} أي أنهار كذلك يعني أنهار الماء والخمر والعمل واللبين والأفراد للأفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} خبر بعد خبر وهو من إضافة والصدق بمعنى الجودة والمعنى في مكان مرضى ومجلس حق سالم من اللغو والتأثيم بخلاف مجالس الدنيا فقل إن سلمت من ذلك {عِندَ مَلِيكٍ} المراد من العندية قرب المنزلة والمكانة دون قرب المكان والمسافة والمليك أبلغ من المالك وهو بالفارسية ادشاه.
والتنكير للتعظيم والمعنى حال كونهم مقربين عند عزيز الملك واسمه لا يقادر قدر ملكه فلا شيء إلا وهو تحت ملكوته فأي منزلة أكرم من تلك وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها {مُّقْتَدِرٍ} قادر لا يعجزه شيء عال وأمره في الاقتدار.
وفي التأويلات النجمية يعني المتقين بالله عما سواه في جنات الوصلة وأنهار مياه المعرفة والحكمة
285
ينغمسون فيها ويخرجون منها درر المعارف ولآلىء العوارف في مقعد صدق هو مقام الوحدة الذاتية في مقام العندية كما قال عليه السلام : أنيت عند ربي يطعمني ويسقيني ودر كشف الأسرار آورده كه كلمه عند رقم تقريب وتخصيص دارد يعني أهل قرب فردادران سرايدان اختصاص خواهند داشت وحضرت يغمبر عليه السلام امروز درين سر مخصوص بآن بوده كه "أبيت عند ربي" وون رتبه كه فردا خواص بآن نازند امروز اى ادناى وى بوده س از مرتبه اعلاى فرداى اوكه نشان تواند داد :
أي محرم سر لا يزالي
مرآت جمال ذي الجلالي
مهمان ابيت عند ربي
صاحب دل لا ينام قلبي
از قربت حضرت الهي
هستى بمثابه كه خواهى
قربى عبارتش نسنجد
در حوصله خرد نكنجد
كم كشته بود عبارت آنجا
بلكه نرسد عبارت آنجا
وفي الآية إشارة إلى أن تقوى توصل العبد إلى جنات الدرجات وأنهار العلوم والمعارف الحقيقية الإلهية ثم إلى مقام الصديقين ثم إلى مقام الوحدة الذاتية المشار إليها بالعندية قال الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه : مدح الله المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق وهو المقام الذي يصدق الله فيه وعده لأوليائه بأن يبيح لهم النظر إلى وجهه الكريم قيمت وعز آن بقعه نه بمرغ بريان وجوى روان وحيرات حسان است بلكه بديدار نانكه قيمت صدف بدر شاهوار كما قيل :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
وما عهدي بحب تراب أرض
ولكن من يحل بها حبيب
أي خوشا عيشا كه مؤمنا نراست دران مجلس انس وحظيره قدس باديه انتظار بريده بكعبه وصال رسيده خلعت رضا وشيده شربت سرور ازشمه وفانوشيده عيش بى عتاب ونعمت بي حساب وديدار بى حجاب يافته.
ـ روي ـ صالح بن حبان عن عبد الله بن بريدة أنه قال في هذه الآية أن أهل الجنة يدخلون كل يوم مرتين على الجبار تعالى فيقرأون عليه القرآن وقد جلس كل امرىء منهم مجلسه الذي له ومجلسي على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة بأعمالهم فلم تقر أعينهم بشيء قط كما تقر أعينهم بذلك ولم يسمعوا شيئاً أعظم ولا أحسن منه ثم ينصرفون إلى رحالهم ناعمين قريرة أعينهم إلى مثلها من الغد قال بعضهم : المراد بمن في الآية هم الذين لا تحجبهم الجنة ولا النعيم ولا شيء عنه تعالى قال البقلي : يا أخي هؤلاء غرباء الله في الدنيا والآخرة أدخلهم في أغرب المنازل وهو مقام المجالسة معه بحيث لا يطلع عليه إلا أهل الصدق في طلبه وهم فقراء المعرفة الذين قال عليه السلام فيهم الفقراء جلساء الله.
سئل أبو يزيد البسطامي قدس سره عن الغريب قال الغريب : من أذا طالبه الخلق في الدنيا لم يجدوه ولو طالبه مالك في النار لم يجده ولو طالبه رضوان في الجنة لم يجده فقيل : أين يكون يا أبا يزيد؟ فقال : إن المتقين في جنات الخ فلا بد من الصدق وخدمة الصادقين حتى يصل الإنسان إلى هذا المطلب الجليل وهو على وجوه ومراتب أما الصدق
286
في القول فبصون اللسان عن الكذب الذي هو أقبح الذنوب قال عليه السلام : التجار هم الكفار فقيل : أليس الله قد أحل البيع؟ قال : نعم ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون وقال عليه السلام : الكذب ينقص الرزق وفي الحديث : "أربع من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا خاصم فجر" وأما الصدق في الحال فبصون الحال هما ينقصه مثلاً إذا عزم على أمر وحال من التسليم والتوكل وغيرهما فصدقه بالاستمرار على عزيمته والاحتراز عن النقض وأهل السلوك تهتمون في صدق الحال أشد الاهتمام.
(9/234)
ـ روي ـ أن واحداً منهم كان كثير الوجد والزعقات فجاء يوماً وأودع خرقته عند الشيخ في الحرم الشريف وقال : إن صيحتي الآن لامرأة عشقتها فأنا لا أريد أن أكون كاذباً في حالي بأن ألبس لباس العشاق وأنا على تلك الحال ثم إنه بعد أيام جاء وأخذ خرقته وقال : الحمدالذي خلصني منها وعدت إلى حالي ومن قبيل الصدق في الحال صدق لمريد من إرادته فإنه إذا وقع منه حركة مخالفة لإرادة الشيخ فهو كاذب في إرادته فإن المريد من أفنى إرادته في إرادة الشيخ ففي أي مرتبة من القال والحال وجد الصدق كان سبب النجاة وباعثاً لرفع الدرجات قال الشاعر :
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
سيعطي الصادقين بفضل صدق
نجاة في الحياة وفي الممات
وسبب هذا الشعر أن ثلاثة أخوة من الشأم كانوا يغزون فأسرهم الروم مرة فقال لهم الملك : إني أجعلكم ملوكاً وأزوجكم بناتي إن قبلتم النصرانية فأبوا وقالوا : يا محمداه فأدخل اثنين في الزيت المغلي وأخذ الثالث علج وسلط عليه ابنته وكانت من أجمل النساء فأخذ الشاب في صيام النهار وقيام الليل فآمنت البنت وخرجا إلى الشام فجاء أخواه الشهيدان مع الملائكة ليلة وزوجاه المرأة وسألهما أخوهما عن حالهما فقالا : ما كانت إلا التي رأيت حتى دخلنا في الفردوس وإن الله تعالى أرسلنا إليك نشهد تزويجك بهذه الفتاة وكانا مشهورين بالشام حتى قال الشعراء فيهما أبياتاً منها ما ذكرناه.
ـ وروي ـ جنيد البغدادي قدس سره عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال : الصوف ثلاثة أحرف فالصاد صدق وصبر وصفاء والواو ود وورد ووفاء والفاء فقر وفرد وفناء فإذا لم توجد هذه الصفات في لا يكون صوفياً قال سهل رحمه اللهك أول خيانة الصديقين حديثهم مع أنفسهم وسئل فتح الموصلي رحمه الله عن الصادق فأدخل يده في كير الحديد وأخرج حديدة محماة ووضعها في كفه وقال : هذا هو الصدق قال جنيد البغدادي رحمه الله : الصادق ينقلب في اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة وذلك لأن مطلب العارفين من الله الصدق والعبودية والقيام بحق الربوبية من غير مراعاة حظ النفس وكل من عداهم من العابد والزاهد والعالم لا يفارقون الحظوظ والأغراض نسأل الله العافية :
287
جزء : 9 رقم الصفحة : 262
تفسير سورة الرحمن
وتسمى عروس القرآن مكية أو مدنية وآيها ست أو سبع أو ثمان وسبعون
جزء : 9 رقم الصفحة : 287
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
{الرَّحْمَانُ} مبتدأ خبره ما بعده أي الذي له الرحمة الكاملة كما جاء في بعض الدعاء رحمان الدنيا ورحيم الآخرة لأنه عم الرزق في الدنيا كما قيل :
أديم زمين سفره عام اوست
برين خوان يغما ه دشمن ه دوست(9/235)
وخص المؤمنين بالعفو في الآخرة وبالفارسية خداوند بخشايش بسياركه رحمت او همه يز را رسيده.
والرحمة في الحقيقة العف والعنو أعني الميل الروحاني ومنه الرحم لانعطافها الحسي على ما فيها وأريد بها بالنسبة إلى الله تعالى إرادة الخير أو الإنعام لأن عطف على أحد أصابه بأحدهما قال الإمام الغزالي رحمه الله : الرحمن هو العطوف على العباد بالإيجاد أولاً وبالهداية إلى الإيمان وأسباب السعادة ثانياً والإسعاد بالآخرة ثالثاً والإنعام بالنظر إلى وجه الكريم رابعاً انتهى.
ولما كانت هذه السورة الكاملة شاملة لتعداد النعم الدنيوية والأخروية والجسمانية والروحانية طرزها بطراز اسم الرحمن الذي هو اسم الذات المشتمل على جميع الأسماء والصفات ليسند إليه النعم المختلفة بعده ولما كان القرآن أعظم النعم شأناً لأنه مدار جميع السعادات ولذا قال عليه السلام : أشراف أمتي حملة القرآن أي ملازموا قراءته وأصحاب الليل وقال : خيركم من تعلم القرآن وعلمه وفيه جميع حقائق الكتب السماوية وكان تعليمه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها بدأبه فقال : {عَلَّمَ} محمداً صلى الله عليه وسلّم {الْقُرْءَانَ} بواسطة جبريل عليه السلام وبواسطة محمد عليه السلام غيره من الأمة.
قال الكاشفي : يعني آسان كردانيده مراورا آموختن وديكر انرا آموزانيدن.
قال ابن عطاء رحمه الله : لما قال الله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها أراد أن يخص أمة محمد بخاصة مثله فقال : الرحمن علم القرآن أي الذي علم آدم الأسماء وفضله بها على الملائكة هو الذي علمكم القرآن وفضلكم به على سائر الأمم فقيل له : متى علمهم؟ قال : علمهم حقيقة في الأزل وأظهر لهم تعليمه وقت الإيجاد وفيه إشارة إلى أن تعليم القرآن وإن كان في الصورة بواسطة جبريل من الوجه العام لكنه كان بلا واسطة في المعنى من الوجه الخاص على ما سيزيد وضوحاً في محله إن شاء الله تعالى وقال بعضهم : علم القرآن أي أعطى الاستعداد الكامل في الأزل لجميع المستعدين ولذلك قال : علم القرآن ولم يقل علم الفرقان كما في قوله تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان فإن الكلام الإلهي قرآن باعتبار الجمع والبداية وفرقان باعتبار الفرق والنهاية فهو بهذا العنى لا يتوقف على خلق الإنسان وظهوره في هذا العالم وإنما الموقوف عليه تعليم البيان ولذا قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان وخلقه على تعليم البيان انتهى وفي الآية إشارة إلى أن التعليم والتسهيل إنما هو من الله تعالى لا من المعلمين والحافظين وقد علم آدم الأسماء ووفقه لتعلمها وسهله بإذنه وعلم داود صنعة الدرع كما قال وعلمناه صنعة لبوس لكم وعلم عيسى علم الطب كما قال ويعلمه الكتاب والحكمة وعلم الخضر العلم اللدني كما قال وعلمناه من لدنا علماً
288
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
وعلم نبينا عليه السلام القرآن وأسرار الألوهية كما قال : وعلمك ما لم تكن تعلم وعلم الإنسان البيان قال في فتح الرحمن : ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق إن الله تعالى ذكره في كتابه العزيز في أربعة وخمسين موضعاً ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق ولا أشار إليه وذكر الإنسان في ثمانية عشر موضعاً كلها يدل على خلقه وقد اقترنا في هذه السورة على هذا النحو قاله المولى أبو السعود رحمه الله ثم قيل : {خَلَقَ الانسَـانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} تبييناً للمعلم وكيفية التعليم والمراد بخلق الإنسان إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة والبيان هو التعبير عما في الضمير قال الراغب : البيان الكشف عن الشيء وهو أعم من النطق لأن النطق مختص بالإنسان وسمي الكلام بياناً لكشفه عن المعنى المقصود وإظهاره انتهى وليس المراد بتعليمه مجرد تمكين الإنسان من بيان نفسه بل منه ومن فهم بيان غيره أيضاً إذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن والمراد به جنس الإنسان الشامل لجميع أصنافه وأفراده وفي بحر العلوم خلق الإنسان أي آدم وعلمه الأسماء واللغات كلها وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/236)
يقول الفقير : فيه إشارة إلى أن الله تعالى قد تكلم بجميع اللغات سواء كان التعليم بواسطة أم لا فإن قلت : كيف يتكلم الله باللغات المختلفة والكلام النفسي عار عن جميع الأكسية قلت : نعم ولكنه في مراتب التنزلات والاسترسالات لا بد له من الكسوة فالعربية مثلاً كسوة عارضة بالنسبة إلى الكلام في نفسه وقد ذقنا في أنفسنا أنه يجيء الإلهام والخطاب تارة باللفظ العربي وأخرى بالفارسي وبالتركي مع كونه بلا واسطة ملك لأن الأخذ عن الله لا ينقطع إلا يوم القيامة وذلك بلا واسطة وإن كان الغالب وساطة الملك من حيث لا يرى فاعرف ذلك {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} مبتدأ وخبر والحسبان بالضام مصدر معنى الحساب كالغفران والرجحان يقال حسبه عده وبابه نصر حساباً بالكسر وحسباناً بالضم وأما الحسبان بالكسر فبمعنى الظن من حسب بالكسر بمعنى ظن والمعنى يجريان بحساب مقدر في بروجهما ومنازلهما بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية ويختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب فالسنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً والشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم أو أقل وفيه إشارة إلى شمس فلك البروج وقمر كرة القلب سيرانهما في بروج التجليات الذاتية ومنازل التجليات الأسمائية والصفاتية وكل ذلك السيران بحسب استعداد كل واحد منهما بحساب معلوم وأمر مقسوم {وَالنَّجْمُ} أي النبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له مثل الكرم والقرع ونحو ذلك {وَالشَّجَرُ} الذي له ساق وفي المنتقى كل نابت إذا ترك حتى يبرز انقطع فليس بشجر وكل شيء يبرز ولا ينقطع من سنته فهو شجر {يَسْجُدَانِ} أي ينقادان له تعالى فيما يريد بهما طبعاً انقياد الساجد من المكلفين طوعاً أو يسجد ظلهما على ما بين في قوله تعالى يتفيأ صلاله عن اليمين والشمائل سجد الله وكفته اندمارا بر سجود ايشان وقوف نيست نانه بر تسبيح ايشان كما قال تعالى : "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" ذكر في مقابلة النعمتين السماويتين اللتين هما الشمس والقمر نعمتين أرضيتين وهما النجم والشجر
289
وكلاهما من قبيل النبات الذي هو أصل الرزق من الحبوب والثمار والحشيش للدواب وإخلاء الجمل الأولى عن العطف لورودها على منهاج التعديد تنبيهاً على تقاعده في الشكر كما في قولك زيد أغناك بعد فقر أعزك بعد ذل كثرك بعد قلة فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد وأما عطف جملة والنجم على ما قبلها فلتناسبها من حيث التقابل لما أن الشمس والقمر علويان والنجم والشجر سفليان ومن حيث أن كلاً من حال علويين وحال السفليين من باب الانقياد لأمر الله تعالى ولما كانت هذه الأربعة مغايرة لجنس الإنسان في ذاته وصفاته غير النظم بإيرادها في صورة الاسمية تحقيقاً للتغاير بينهما وضعاً وطبعاً صورة ومعنى وفيه إشارة إلى سجود نجم العقل الذي به يهتدي إلى معرفة الأشياء واستهلاكه وتلاشية عند النظر إلى الحقائق الإلهية والمعارف الربانية لعدم قوة إدراكه إياها مستعداً بنفسه غير مستفيض من الفيض الإلهي بطريق الكشف والشهود وإلى سجود شجر الفكر المتشجر بالقوى الطبيعية والقوى الوهمية والخيالية وانحصاره في القوة المزاجية العنصرية وعدم تمكنه من إدراك الحقائق على ما هي عليه كما قيل العقل والفكر جالا حول سرادق الكون فإذا نظرا إلى المكون ذابا وكيف لا وهما مخلوقان محصوران تحت حصر الخلقية والحدوث وأنى للخلق المحدث معرفة الخالق القديم وما قدروا الله حق قدره
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/237)
{وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا} انتصابه بمحذوف يفسره المذكور أي خلقها مرفوعة محلاً كما هو محسوس مشاهد وكذا رتبة حيث جعلها منشأ أحكامه وقضاياه وتنزل أوامره ومحل ملائكته وقال بعضهم : رفعها من السفل إلى العلو سقفاً لمصالح العباد وجعل ما بينهما مسيرة خمسمائة عام وذلك لأن السماء دخان فاربه موج الماء الذي كان في الأرض {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} أي شرع العدل وأمر به بأن وفر كل مستحق لما استحقه ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم به أمر العالم واستقام كما قال عليه السلام بالعدل قامت السموات والأرض قيل فعلى هذا الميزان هو القرآن وقيل هو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان وميكال ونحوهما فالمعنى خلق كل ما توزن به الأشياء ويعرف مقاديرها موضوعاً مخفوضاً على الأرض حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم قال سعدي المفتي وأنت خبير بأن قوله أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن أشد ملاءمة لهذا المعنى ولهذا اقتصر عليه الزمخشري.
قال الكاشفي : ووضع الميزان وبيا فريد يا منزل كردانيد ترازورا يا الهام داد خلق را بكيفيت ايجادان.
ليتوصل به إلا الإنصاف والانتصاف وكان ذلك في زمان نوح عليه السلام إذ لم يكن قبله كيل ووزن وذراع قال قتادة في هذه الآية : اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل عليك وأوف كما تحب أن يوفى لك فإن العدل صلاح الناس {أَلا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ} أن ناصبة ولا نافية ولام العلة مقدرة متعلقة بوضع الميزان أي وضعه لئلا تطغوا فيه ولا تعتدوا ولا تتجاوزوا الإنصاف وبالفارسية ازحد نكذريد در ترازو بوقت داد وستد يعني از عدل تجاوز نكنيد وبراستى معامله نمايد.
قال ابن الشيخ الطغيان مجاوزة الحد فمن قال الميزان العدل قال طغيانه الجور ومن قال إنه الميزان الذي هو آلة التسوية قال طغيانه البخس أي
290
النقص.
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 31 من صفحة 291 حتى صفحة 300
{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} قوموا وزنكم بالعدل أي اجعلوه مستقيماً به وفي المفردات الوزن معرفة قدر الشيء والمعارف في الوزن عند العامة ما يقدر بالقسطاس والقبان وقوله وأقيموا الوزن بالقسط إشارة إلى مراعاة المعدل في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} يقال : خسرت الشيء بالفتح واحسرته نقصته وبابه ضرب وأما خسر في البيع فبالكسر كما في المختار وقال في القاموس : خسر كفرح وضرب ضل والخسر والإخسار النقص أي لا تنقصوه لأن من حقه أن يسوي لأنه المقصود من وضعه قال سعدي المفتي : المراد لا تنقصوا الموزون في الميزان لا الميزان نفسه أمر أولاً بالتسوية ثم نهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة ثم عن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان وكرر لفظ الميزان تشديداً للتوصية به وتأكيداً للأمر باستعماله والحث عليه.
قال الكاشفي : أين همه تأكيد اهل ترازو راجهت آنست كه بوقت وضع ميزان قيامت شرمنده نشوند :
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
هرجو وهرحبه كه بازوى تو
كم كند از كيد ترازوى تو
هست يكايك همه برجاى خويش
روز جزا جمله بيارند يش
باتو نمايند نهانيت را
كم دهى وبيش ستانيت را
ـ روي ـ عن مالك بن دينار رحمه الله أنه دخل على جار له احتضر فقال : يا مالك جبلان من نار بين يدي أكلف الصعود عليهما قال : فسألت أهله فقالوا : كان له مكياً لأن يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فدعوت بهما فضربت أحدهما بالآخر حتى كسرتهما ثم سألت الرجل فقال : ما يزداد الأمر علي إلا عظماً وفي المفردات قوله : ولا تخسروا الميزان يجوز أن يكون إشارة إلى تحري العدالة في الوزن وترك الحيف فيما يتعاطاه في الوزن ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى تعاطي ما لا يكون ميزانه به يوم القيامة خاسراً فيكون ممن قال فيه فمن خفت موازينه وكلا المعنيين يتلازمان وكل خسران ذكره الله في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير دون الخسران المتعلق بالقنيات الدنيوية والتجارات البشرية.
يقول الفقير وجه توسيط الميزان بين رفع السماء ووضع الأرض هو الإشارة إلى أنه بالعدل قامت السموات والأرض كما ورد في الحديث وإلى أنه لا بد من ميزان العقل بين الروح والجسد حتى يعتدلا ولا يتجاوز أحدهما الآخر والاعتدال الحقيقي هو الوقوف بين طرفي الإفراط والتفريط المذمومين عقلاً وشرعاً وعرفاً والموزونات هي الأمور العلمية والعملية المعدلة بالعقل المبني على الاستعداد الذاتي {وَالارْضَ وَضَعَهَا} أي خفضها مدحوة على الماء أي مبسوطة {لِلانَامِ} أي لمنافع الأنام وهو جمع لا واحد له من لفظه بمعنى الخلق والجن والإنس مما على الأرض كما في القاموس فهي كالمهاد والفراش لهم يتقلبون عليها ويتصرفون فوقها وقال ابن عباس رضي الله عنهما رب الناس ويدل عليه وقوله :
مبارك الوجه يستقى الغمام به
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
ما في الأنام له عدل ولا مثل
291
(9/238)
وقال قتادة : كل ذي روح لأنه ينام وقيل من ومن الذباب همس وفيه إشارة إلى بسط أرض البشرية لتنتعش كل قبيلة بما يلائم طبعها أما انتعاش أهل النفوس البشرية فباستيفاء الشهوات الحيوانية واللذات الجسمانية وأما انتعاش أصحاب القلوب المعنوية فبالواردات القلبية والإلهامات الغيبية وأما انتعاش أرباب الأرواح العلوية فبالتجليات الروحانية والمحاضرات الربانية وأما انتعاش صناديد الأسرار اللاهوتية القدسية فبالتجليات الذاتية الأحدية المفنية لكل ما سواه {فِيهَا فَـاكِهَةٌ} ضروب كثيرة مما يتفكه به ويتلذذ ففاكهة تشعر باختلاف الأنواع {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاكْمَامِ} وهي أوعية الثمر وغلفها قبل التفتق.
يعني خوشهاى آن درغلاف.
جمع كم بالكسر وهو الغلاف الذي يكون فيه الثمر أول ظهوره.
تا ما دامكه مغشق نشده درغلاف باشد ومعنى النخل بالفارسية يعني درخت خرما.
اوهو أي الكم كل ما يكم بضم الكاف من باب نصر أي يغطي من ليف وسغف وكفرى فإنه مما ينتفع به كما ينتفع من المكموم من ثمره وحماره وجذوعه فالليف يغطي الجذع والسعف الجمار وهو كرمان شحم النخل بالفارسية دل درخت خرما.
والكفرى الثمر {وَالْحَبُّ} ودر زمين دانه است.
وهو كل ما يتغذى به ويقتات كالحنطة والشعر وغيرهما {ذُو الْعَصْفِ} هو ورق الزرع أو ورق النبات اليابس كالتبن.
قال الكاشفي : وعصف كياهيست كه ازو دانه جدا ميشود.
وفي المفردات : العصف والعصيفة الذي يعصف من الزرع قال في تاج المصادر : العصف برك كشت ببريدن {وَالرَّيْحَانُ} قال في المفردات الريحان ماله رائحة وقيل : الرزق ثم يقال للحب المأكول ريحان كما في قوله والحب ذو العصف وقيل الأعرابي إلى أين قال اطلب ريحان الله أي رزقه والأصل ما ذكرنا انتهى قال ابن عباس ومجاهد والضحاك هو الرزق بلغة حمير فالمراد بالريحان هنا إما الرزق أو المشموم كما قال الحسن الريحان هو ريحانكم هذا الذي يشم وهو كل ما طابت رائحته من النبات أو الشاهسفرم وعند الفقهاء الريحان ما لساقه رائحة طيبة كما لورقه كالآس والورد ما لورقه رائحة طيبة فقط كالياسمين كذا في المغرب قال ابن الشيخ : كل بقلة طيبة الرائحة سميت ريحاناً لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة أي يشم يقال راح الشيء يراحه ويريحه وأراح الشيء بريحه إذا وجد ريحه وفي الحديث : "من قتل نفساً معاهدة لم يرح رائحة الجنة" ويروى : لم يرح من راحه يريحه والريحان في الأصل ريوحان كفعيلان من روح فقلبت الواويان وأدغم ثم خفف بحذف عين الكلمة كما في ميت أو كفو علان قلبت واوه ياء للتخفيف أو للفرق بينه وبين الروحان وهو ماله روح {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} الحطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى للأنام لعمومه لهما واشتماله عليهما وسينطق به قوله تعالى : أيها الثقلان وكذا في ذكر أبوي الفريقين بقوله : خلق الإنسان دخلق الجان إشعار بأن الخطاب لهما جميعاً والآلاء النعم واحدها إلى والى والو والى والى كما في القاموس قال في بحر العلوم : الآلاء النعم الظاهرة والباطنة الواصلة إلى الفريقين وبهذا يظهر فساد ما قيل من أن الآلاء هي النعم الظاهرة فحسب والنعماء هي النعم الباطنة والصواب أنهما من الألفاظ المترادفة كالأسود
292
والليوث والفلك والسفن.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
وفي التأويلات النجمية : الآلاء هي النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة والآيات المتوالية تدل على هذا لأنها نعمة ظاهرة بالنسبة إلى أهل الظاهر ومعنى تكذيبهم بالآلاء كفرهم بها والتعبير عن الكفر بالتكذيب لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر شهادة منها بذلك فكفرهم بها تكذيب بها لا محالة أي فإذا كان الأمر كما فصل فبأي فرد من أفراد آلاء مالككما ومربيكما بتلك الآلاء تكذبان مع أن كلاً منها ناطق بالحق شاهد بالصدق فالاستفهام للتقرير أي للحمل على الإقرار بتلك النعم ووجوب الشكر عليها.
(9/239)
ـ روي ـ عن جابر رضي الله عنه أنه قال : قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم سورة الرحمن حتى ختمها قال : مالي أراكم سكوتاً للجن كانوا أحسن منكم رداً ما قرأت عليهم هذه الآية مرة فبأي آلاء ربكما تكذبان إلا قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد قال في بحر العلوم : وفيه دلالة بينة على أن الآلاء أراد بها النعم المطلقة الشاملة للظاهرة والباطنة لا المقيدة بالظاهرة كما سبق إليه بعض الأوهام انتهى قال في آكام المرجان دلت الآية على أن الجن كلهم مكلفون ولا خلاف فيه بين أهل النظر وزعمت الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم وأنهم ليسوا مكلفين والدليل على أنهم مكلفون ما في القرآن من ذم الشياطين ولعنهم والتحذير من غوائلهم وشرهم وذكر ما أعده الله لهم من العذاب وهذه الخصال لا يفعلها الله إلا لمن خالف الأمر والنهي وارتكب الكبائر وهتك المحارم مع تمكنه من أن لا يفعل ذلك وقدرته على فعل خلافه ويدل على ذلك أيضاً أنه كان من دين النبي عليه السلام لعن الشياطين والبيان عن حالهم وأنهم يدعون إلى الشر والمعاصي ويوسوسون بذلك وتكرار هذه الآية في هذه الصورة لطرد الغفلة وتأكيد الحجة وتذكير النعمة وتقرير الكرامة من قولهم كم نعمة كانت لكم كم كم وكم وكقولك لرجل أحسنت إليه بأنواع الأيادي وهو ينكرها ألم تكن فقيراً فأغنيتك أفتنكر هذا ألم تكن عرياناً فكسوتك أفتنكر هذا ألم تكن خاملاً فعززتك أفتنكر هذا وقال الشاعر :
لا تقطعن الصديق ما طرفت
عيناك من قول كاشح أشر
ولا تملن من زيارته
زره وزره زر ثم زر وزر
وقال في برهان القرآن : تكررت الآية إحدى وثلاثين مرة ثمان منها ذكرها عقيب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعادهم ثم سبع منها عقيب آياب فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم وحسن ذكر الآلاء عقيبها لأن في خوفها ودفعها نعماً توازي النعم المذكورة أو لأنها حلت بالأعداء وذلك يعد من أكبر النعماء وبعد هذه السبع ثمان في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة وثمان أخرى بعدها للجنتين اللتين دونها فمن اعتقد الثماني الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الثمانيتين من الله ووقاه الله السبع السابقة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
يقول الفقير من لطائف أسرار هذا المقام أن لفظ ال في اول اسم الرحمن المعنون به هذه السورة الجليلة دل على تلك الإحدى والثلاثين {خَلَقَ الانسَـانَ مِن صَلْصَـالٍ كَالْفَخَّارِ} بيافريد انسانرا از كل خشك مانند سفال خته كه دست
293
بروى زنى آواز كنده.
الصلصال الطين اليابس الغير المطبوخ الذي له صلصلة أي صوت يسمع من يبسه وصح عن رسول الله عليه السلام أنه قال : إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات لصوته صلصلة كصلصلة الجرس على الصفوان والفخار والخزف أي الطين المطبوخ بالنار وتشبيهه بالفخار لصوته باليبس إذا نقر كأنه صور بصورة من يكثر التفاخر أو لأنه أوجوف وقد خلق الله آدم عليه السلام من تراب جعله طيناً ثم جمأ مسنوناً ثم صلصالاً ثم صب عليه ماء الأخزان فلا ترى ابن آدم ألا يكابد حزناً فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدها وبين ما نطق بأحد الآخرين {وَخَلَقَ الْجَآنَّ} أي الجن أو أبا الجن أو إبليس وبه قال الضحاك وفي الكشف الجان أبو الجن كما أن الإنسان أبو الإنس وإبليس أبو الشياطين {مِن مَّارِجٍ} أي من لهب صاف من الدخان وقال مجاهد المارج هو المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا وقدت من مرج أمر القوم إذا اختلط واضطرب فمعنى من مارج من لهب مختلط {مِّن نَّارٍ} بيان لمارج فإنه في الأصل للمضطرب من مرج إذا اضطرب وفي كشف الأسرار خلق الجن من مارج من نار والملائكة من نورها والشياطين من دخانها وقال بعضهم : من النار التي بين الكلية الرقيقة وبين السماء وفيها يكون البرق ولا السماء إلا من وراء تلك الكلية.
درباب نهم ازسفر نانىء فتوحات مذكور است كه مارج آتشست ممتزج بهواكه آنرا هواى مشتعل كويند س جان مخلوقست اذ دو عنصر آتش وهو وردم آفريده شده ازدو عنصر آب وخاك ون آب وخاك بهم شوند آنرا طين كويند وون هوا وآتش مختلط كردد آنرا مارج خوانند ونانكه تناسل دربشر بالقاء آتست در رحم تناسل درجن بالقاء هواست در رحم انثى وميان آفرينش جان وآدم شصت هزار سال بود {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم حتى صيركما أفضل المركبات وخلاصة الكائنات وفيه إشارة إلى أن الحق سبحانه تجلى لحقيقة إنسان الروح بصورة صفة صلصال اللطف والجمال والحقيقة إبليس النفس بصورة صفة مارج القهر والجلال فصار أحدهما مظهراً لصورة لطفه والآخر لصورة قهره فبأي آلاء ربكما تكذبان أيها الروح اللطيف والنفس الخبيثة لأن كل واحد منكما قد ذاق ما جبل عليه من اللطف والقهر والطيب والخبث
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/240)
{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} خبر مبتدأ محذوف أي الذي فعل ما ذكر من الأفاعيل البديعة رب مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما ومن قضيته أن يكون رب بينهما من الموجودات قاطبة يعني أن ذكر غاية ارتفاعهما وغاية انحطاطهما إشارة إلى أن الطرفين يتناولان ما بينهما كما إذا قلت في وصف ملك عظيم الملك له المشرق والمغرب فإنه يفهم منه أن له ما بينهما أيضاً.
قال في كشف الأسرار أحد المشرقين هو الذي تطلع منه الشمس في أطول يوم من السنة والثاني الذي تطلع منه في أقصر يوم وبينهما مائة وثمانون مشرقاً وكذا الكلام في المغربين وقيل أحد المشرقين للشمس والثاني للقمر وكذا المغربان وأما قول عليه السلام بن عمر رضي الله عنهما ما بين المشرق والمغرب قبلة يعني لأهل المشرق وهو
294
أن تجعل مغرب الصيف على يمينك ومشرق الشتاء على يسارك فتكون مستقبل القبلة {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مما في ذلك في فوائد لا تحصى من اعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل في وقته إلى غير ذلك {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي أرسلهما من مرجت الدابة إذا أرسلتها وخليتها للرعي والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب وبالفارسية راه داد دو دريا راكه يكى خوش وشيرين ويكى تلخ وشور {يَلْتَقِيَانِ} حال من البحرين قريبة من الحال المقدرة أي يتجاوران ويتماس سطوحهما لا فصل في مرأى العين وذلك كدجلة تدخل البحر فتشقه فتجري في خلافه فراسخ لا يتغير طعمها وقيل أرسل بحر فارس والروم يلتقيان في المحيط لأنهما خليجان يتشعبان منه قال سعدي المفتي وعلى هذا فقوله يلتقيان إما حال مقدرة إن كان المراد إرسالهما إلى المحيط أو المعنى اتحاد أصليهما إن كان المراد إرسالهما منه فلكل وجه {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} أي حاجز من قدرة الله أو من الأرض والبرزخ الحائل بين الشيئين ومنه سمي القبر برزخاً لأنه بين الدنيا والآخرة وقيل للوسوسة برزخ الإيمان لأنها طائفة بين الشيك واليقين {لا يَبْغِيَانِ} أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية مع أن شأنهما الاختلاط على الفور بل يبقيان على حالهما زماناً يسيراً مع أن شأنهما الاختلاط وانفعال كل واحد منهما عن الآخر على الفور أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما من الأرض لتكون الأرض بارزة يتخذها أهلها مسكناً ومهاداً فقوله لا يبغيان إما من الابتغاء وهو الطلب أي لا يطلبان غير ما قدر لهما أو من البغي وهو مجاوزة كل واحد منهما ما حد له {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وليس من الرحرين شيء يقبل التكذيب لما فيه من الفوائد والعبر {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} اللؤلؤ الدر والمرجان الخرز الأحمر المشهور يقال يلقيه الجن في البحر وقال في خريدة العجائب اللؤلؤ يتكون في بحر الهند وفارس والمرجان ينبت في البحر كالشجر وإذا كلس المرجان عقد الزئبق فمنه أبيض ومنه أْمر ومنه أسود وهو يقوي البصر كحلاً وينشف رطوبة العين انتهى وقيل : اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
واعلم أنه إن أريد بالبحرين هنا بحر فارس وبحر الروم فلا حاجة في قوله منهما إلى التأويل إذ اللؤلؤ والمرجان بمعنييه يخرجان منهما لأن كلاً منهما ملح ولا عذب في البحار السبعة إلا على قول من قال في الآية يخرج من مالح بحري فارس والروم ومن عذب بحر الصين وفي بحر العلوم أن اللؤلؤ يخرج من بحر فارس والمرجان من بحر الروم يعني لا من كليهما وأن أريد بهما البحر الملح والبحر العذب فنسبة خروجهما حينئذ إلى البحرين مع أنهما إنما يخرجان من البحر الملح أو مع أنهما لا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه كما يقال يخرج الولد من الذكر والأنثى وإنما تلده الأنثى وهو الأظهر أو لأنهما لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب وهذا يحتمل معنيين أحدهما أن الملتقى اسم مكان والخروج بمعنى الانتقال من الباطن إلى الظاهر فإنه قال الجمهور يخرج من الأجاج من المواضع التي يقع فيها الأنهار والمياه العذبة فناسب إسناد ذلك إليهما وهذا مشهور عند الغواصين والثاني أنه مصدر ميمي
295
(9/241)
بمعنى الالتقاء والخرج بمعنى الحدوث والحدوث بمعنى الوجود فإنه يحدث ويتكون من التقائهما واجتماعهما كما قال الرازي يكون العذب كاللقاح للملح ونقل عن ابن عباس وعكرمة مولاه أن تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الصدف تفتح أفواهها للمطر فيكون الأصداف كالأرحام للنطف وماء البحر كالجسد الغاذي ويدل على أنه من المطر ما اشتهر من أن السنة إذا أجدبت هزلت الحيتان وقلت الأصداف والجواهر وعلى هذا فضمير منهما للحرين باعتبار الجنس فتأمل {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} زيرا آن جوهرها كه بدان آرايش كنيد واز خريد وفروخت آن فوائد يابيد نعم ظاهره است س بكدام ازين نعمتهاى روردكار خود تكذيب مينماييد وكفته اند مراد بحر آسمان وبحر زمين است كه هرسال متلاقى شوند وابر حاجزست كه منع ميكند دريان آسمانرا از نزول ودرياي زمين را از صعود ودريان فلك قطرات بردرياى زمين ريخته بدهان صدف درمى آيد وازان در منعقد كردد وقيل البحران علي وفاطمة رضي الله عنهما والبرزخ النبيّ صلى الله عليه وسلّم ويخرج منهما الحسن والحسين رضي الله عنهما وقيل : هما العقل والهوى والبرزخ بينهما لطف الله ويخرج منهما التوفيق العصمة وقيل هما المعرفة والمعصية والحاجز العصمة ويخرج منهما الشوق والتوبة لا يبغيان لا تؤثر المعصية في المعرفة وقيل هما الدنيا والآخرة والبرزخ القبر وقيل الحياة والوفاة والبرزخ الأجل وقيل الحجة والشبهة والبرزخ النظر ويخرج منهما الحق والصواب.
إمام قشيري رحمه الله فرموده كه بحرين خوف ورجاست يا قبض وبسط وبرزخ قدرت بي علت ولؤلؤ أحوال صافيه ومرجان لطايف وافيه صاحب كشف الأسرار شرح ميكند كه بحر خوف ورجا عامه مسلمان راست وازان كوهر زهد وورع وطاعت وتقوى بيرون آيد وبحر قبض وبسط خواص مؤمنا نراست وازان جواهر فقر ووجد زايد وبحر انس وهيبت انبيا وصديقا نراكه ازان كوهر فنا روى نمايد تا صاحبش بمنزل بقا بياسايد :
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
زقعر بحر فنا كوهر فنا يابى
وكرنه غوطه خورى اين كهر كجا يابى
وقال بعض الكبار يشير إلى مروج بحر روح وحركته بالتجليات الذاتية وإلى مروج بحر القلب وحركته بالتجليات الصفاتية والتقائهما في مقام الوحدة مع بقاء برزخ معنوي بين هذين البحرين المشار بهما إلى ما ذكر بحيث لا يبغي بحر الروح على بحر القلب لعدم نزوله بالكلية لئلا يفنى خاصية بحر القلب ولا يغلب بحر القلب على بحر الروح لعدم عروجه بالكلية لئلا يفنى خاصية بحر الروح كما قال وما منا إلا له مقام معلوم يخرج لؤيؤ التجليات الذاتية من باحة بحر الروح ومرجان التجليات الصفاتية من لجة بحر القلب ويجوز أن يخرجا مجتمعين من اتحاد بحر الروح وبحر القلب مع بقاء امتياز ما بينهما وقال بعضهم : يشير إلى بحر القدم والحدوث وبحر القدم عذب من حيث القدم وبحر الحدوث ملح من حيث علل الحدوثية وبينهما حاجز عزة وحدانيته بحيث لا يختلط أحدهما بالآخر لأنه منزه عن الحلول في الأماكن والاستقرار في المواطن يخرج من بحر القدم القرآن والأسماء والنعوت
296
(9/242)
ومن بحر الحدوث العلم والمعرفة والفطنة وأيضاً يشير إلى بحر القلب الذي هو بحر الأخلاق المحمودة وبحر النفس الذي هو بحر الأخلاق المذمومة ولا يختلطان بحيث يصير القلب نفساً والنفس قلباً لأن بينهما العقل والعلم والشريعة والطريقة فإذا صارت النفس مطمئنة يخرج منها ومن القلب الإيمان والإيقان والصفاء والنور والطمأنينة وقال ابن عطاء رحمه الله بين العبد وبين الرب بحران عميقان أحدهما بحر النجاة وهو القرآن من تعلق به نجا لأن الله تعالى يقول : واعتصموا بحبل الله جميعاً وبحر الهلاك وهو الدنيا من ركن إليها هلك انتهى {وَلَهُ الْجَوَارِ} هذه اللام لها معنيان أحدهما أنها لام الملك والثاني أنها لام الاستحسان والتعجب كقولهمأنتدرك كما في كشف الأسرار والجوار بكسر الراء أصله الجواري بالياء بمعنى السفن جمع جارية أقيمت الصفة مقام الموصوف قال ابن الشيخ : اعلم أن الأركان أربعة : التراب والماء والهواء والنار فالله تعالى بيّن بقوله : خلق الإنسان من صلصال أن التراب أصل المخلوق شريف مكرم عجيب الشان وبيّن بقوله وخلق الجان من مارج من نار إن النار أيضاً أصل لمخلوق آخر عجيب الشان وبيّن بقوله يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان إن الماء أيضاً أصل لمخلوق آخر له قدر وقيمة ثم ذكر أن الهواء له تأثير عظيم في جري السفينة كالأعلام فقال : وله الجوار وخصها بالذكر لأن جريانها في البحر لا صنع للبشر فيه وهم معترفون بذلك فيقولون لك الفلك ولك الملك وإذا خافوا الغرق دعوا الله خاصة وسميت السفينة جارية لأن شأنها الجري في البحر وإن كانت واقفة في الساحل والمراسي كما تسمى المملوكة أيضاً جارية لأن شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها المرفوعات الشرع على أن يكون من أنشأه إذا رفعه والشرع بضمتين جمع شراع وهو الذي يسمى بالفارسية بادبان.
ولا يبعد أن يكون المنشآت بمعنى المرفوعات على الماء فتكون جارية على ما هي له كما في حاشية سعدي المفتي والمعنى المنشآت المصنوعات أي المخلوقات على أن يكون من أنشأه الله أي خلقه
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
{فِى الْبَحْرِ كَالاعْلَـامِ} جمع علم وهو الجبل الطويل أي كالجبال الشاهقة عظماً وارتفاعاً وهو حال من ضمير المنشآت والسفن في البحر كالجبال في البر كما أن الإبل في البر كالسفن في البحر {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر يابسات لقطع المسافات الكثيرة في الأوقات القليلة وحصول المعاملات والتجارات لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وفيه إشارة إلى جريان سفن الشريعة والطريقة المرفوعات الشرع بأحكام الشريعة وآداب الطريقة في بحر الوحدة الحقيقية كالجبال العظام مشحونات بمنافع كثيرة من الطاعات والعبادات على مقتضى علم الشريعة والواردات القليمة والإلهامات الغيبية على قانون أرباب الطريقة كما في التأويلات النجمية {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الهاء كناية عن غير مذكور كقولهم إذا نهى السفيه جرى إليه والمعنى كل من على الأرض من الحيوانات والمركبات ومن للتغليب على الوجهين أو من الثقلين فإن أي هالك لا محالة يعني سر انجام كار فانى شوند.
ولما نزلت هذه الآية قالت الملائكة : هلكت بنوا آدم فلما
297
(9/243)
نزلت كل نفس ذائقة الموت أيقنوا بهلاك أنفسهم فإن لهم أجساماً لطيفة وأرواحاً متعلقة بتلك الأجسام كأرواح الإنسان وأما الأرواح المجردة المهيمة العالية فلا تفنى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} أي ذاته ومنه كرم الله وجهه أي ذاته فالوجه العضو المعروف استعير للذات لأنه أشرف الأعضاء ومجمع المشاعر وموضع السجود ومظهر آثار الخشوع قال القاضي : لو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله الذي يلي جهته انتهى قال سعدي المفتي في حاشية هذا المحل إشارة إلى وجه آخر وهو أن يكون الوجه بمعنى القصد أي ما يقصد وينوي به الله والجهات بمعنى المقاصد وفي العبارة نوع تسامح وقوله يلي جهته أي مقصده والإضافة للبيان أي يتوجه إليه انتهى وقال ابن الشيخ إشارة إلى أن الوجه يجوز أن يكون كناية عن الجهة بناء على أن كل جهة لا تخلو عن وجهه يتوجه إليها كما ذكر في قوله في جنب الله أي كل من عليها من الثقلين وأما اكتسبوه من الأعمال هالك إلا ما توجهوا به جهة الله وعملوه ابتغاء لمرضاته انتهى وقال الشيخ ابن نور الدين رحمه الله الماهيات تنقسم إلى ثلاثة أقسام : واجب الموجود وممتنع الموجود وممكن الوجود أما الواجب فهو وجود بحت وأما الممتنع فهو عدم محض وأما الممكن فهو مركب منهما وذلك لأن له وجوداً وماهية عارضة على وجوده فماهيته أمر اعتباري معدوم في الخارج لا يقبل الوجود فيه من حيث هو هو ووجوده موجود لا يقبل العدم من حيث هو هو فكان الممكن موجوداً ومخلوقاً من وجود وعدم وهذه الجمعية تقبل الوجود والعدم ومن هذا ظهر حقيقة ما قال البيضاوي ولو استقريت الخ وما قاله الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في تفسير قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه حيث قال الضمير راجع إلى الشيء انتهى
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
{ذُو الْجَلَـالِ وَالاكْرَامِ} صفة وجه أي ذو الاستغناء المطلق أو العظمة في ذاته وصفاته وذو الفضل التام وهذه من عظائم صفاته تعالى ولقد قال عليه السلام : ألظوا بياذا الجلال والإكرام.
يعني ملازم بكوبيد ياذا الجلال والإكرام وفي تاج المصادر الألظاظ ملازم كرفتن ودائم شدن باران.
والإلحاح أيضاً وفي القاموس اللظ اللزوم والإلحاح وعنه عليه السلام أنه مر برجل وهو يصلي ويقول : يذا الجلال والإكرام فقال : استجيب لك الدعاء فالدعاء بهاتين الكلمتين مرجو الإجابة وفي وصفه تعالى بذلك بعد ذكر فناء الخلق وبقائه تعالى إيذان بأنه تعالى يفيض عليهم بعد فنائهم أيضاً آثار لطفه وكرمه حسبما ينبىء عنه قوله تعالى : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فإن إحياءهم بالحياة الأبدية وإثابتهم بالنعيم المقيم أجل النعماء وأعظم الآلاء قال الطبيب : كيف أفرد الضمير في قوله وجه ربك وثناه في ربكما والمخاطب واحد قلت : اقتضى الأول تعميم الخطاب لكل من يصلح للخطاب لعظم الأمر وفخامته فيندرج فيه الثقلان اندراجاً أولياً ولا كذلك الثاني فتركه على ظاهره وفي قوله كل من عليها فان إشارة إلى فناء كل من على الأرض البشرية إما بالموت الطبيعي منغمساً في بحر الشهوات الحيوانية واللذات الجسمانية وإما بالموت الإرادي منسلخاً عن الصفات البشرية ملتبساً بالصفات الروحانية وتغليب من إشارة إلى ذوي العقول السليمة عن آفات
298
القوة الوهمية والخيالية فإنهم بذكاء فطرتهم وبقاء طينتهم يفنون عن الأحكام الطبيعية ويبقون بالتجليات الإلهية وبقوله ويبقى وجه الخ إشارة إلى فناء الكثرة النسبية الأسمائية وبقاء الوحدة الحقيقية الذاتية الموصوفة بالصفة الجلالية القهرية والجمالية اللطفية فبأي آلاء ربكما تكذبان مما ذكرنا من إفناء الحياة المجازية وإبقاء الحياة الحقيقية وإظهار الصفة اللطفية في حق مستحقي اللطف وإظهار الصفة القهرية في حق مستحقي القهر لعلمه المحيط باستحقاقها وقال بعضهم : لو نظرت بنظر التحقيق في الكون وأهله لرأيت حقيقة فنائه وفناء أهله وإن كان في الظاهر على رسم الوجود لأن من يكون قيامه بغيره فهو فان في الحقيقية إذ لا يقوم بنفسه ولا نفس له في الحقيقية فإن الوجود الحقيقي وجود القدم لذلك أثنى على نفسه بقوله ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
قال الشيخ المغربي :
سايه هستى مينمايد ليك اندر اصل نيست
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
نيست را ازهست بشناختى يابى نجات
وقال المولى الجامي :
تو درميانه هي نه هره هست اوست
هم خود الست كويد وهم خود بلى كند
وفي ذكر وجهه الباقي تسلية لقلوب العشاق أي أنا أبقى لكم أبداً لا تغتموا فإن لكم ما وجدتم في الدنيا من كشف جمالي ويتسرمد ذلك لكم بلا حجاب أبداً وفي ذكر الجلال تهييج لأهل المحبة والهيبة وفي كاف الوحدة إشارة إلى حبيبه عليه السلام يعني كشف الوجه باق لك أبداً أريتك وجهي خاصة ثم العشاق اتباع لك في النظر إلى وجهي فأول الكشف لك ثم للعموم.
(9/244)
واعلم أن وجود الباقي جميعه وجه وبين التجليات تفاوت وفي الحديث أن الله يتجلى لأبي بكر خاصة ويتجلى للمؤمنين عامة {يَسْـاَلُهُ} ميخواهند اورا يعني ميطلبند ازوى {مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} قاطبة ما يحتاجون إليه في ذواتهم ووجوداتهم حدوثاً وبقاء وسائر أحوالهم سؤالاً مستمراً بلسان المقال وبلسان الحال فإنهم كافة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلائق لم يشموا رائحة الوجود أصلاً فهم في كل آن مستمرون على الاستدعاء والسؤال وعن ابن عباس رضي الله عنهما فأهل السماء يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة وفي كشف الأسرار مؤمنان دوكروه اند عابدان وعارفان هر سؤال بر يكى بر قدر همت او ونواخت هريكى سزاى حوصله او :
هركسى ازهمت والاى خويش
سود برد درخور كالاى خويش
عابدهمه ازخواهد عارف خود اورا خواهد احمد ابن أبي الجواري حق را بخواب ديد كفت.
جل جلاله يا أحمد كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني :
فسرت إليك في طلب المعالي
وسار سواي في طلب المعاش
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
{كُلَّ يَوْمٍ} أي كل وقت من الأوقات وهو اليوم الإلهي الذي هو الآن الغير المنقسم وهو بطن الزمان في الحقيقة {هُوَ} تعالى {فِى شَأْنٍ} من الشؤون التي من جملتها إعطاء
299
ما سألوا فإنه تعالى لا يزال ينشىء أشخاصاً ويفني آخرين ويأتي بأحوال ويذهب بأحوال من الغنى والفقر والعزة والذلة والنصب والعزل والصحة والمرض ونحو ذلك حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح البالغة وفي الحديث "من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين" قال الحسين بن الفضل : هو سوق المقادير إلى المواقيت وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : خلق الله تعالى لوحاً من درة بيضاء دفناه ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويزرق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى كل يوم هو في شأن وهو مأخوذ من قوله عليه السلام أن الرب لينظر إلى عباده كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يبدىء ويعيد وذلك من حبه خلقه ويدل على هذا الحب ما يقال من أن الله تعالى يحيي كل يوم ألفاً وواحداً يميت ألفاً فالحياة الفانية إذا كانت خيراً لتحصيل الحياة الباقية فما ظنك بفضيلة الحياة الباقية وعن عيينة الدهر كله عند الله يومان أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع والآخر يوم القيامة فشأنه فيه الجزاء والحساب والثواب والعقاب قال مقاتل : نزلت الآية في اليهود حين قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً ففيها رد لهم وقوله كل ظرف لما دل عليه هو في شأن أي يقلب الأمور كل يوم أو يحدثها كل يوم أو نحوه كما في بحر العلوم {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مع مشاهدتكم لما ذكر من إحسانه وفي بحر الحقائق يشير إلى تجلي الحق في كل زمن فرد ونفس فرد على حسب المتجلى له واستعداده ولا نهاية للتجليات فبأي آلاء ربكما تكذبان من تجلي الحق بصور مطلوبكم وإيجاده من كتم العدم ووجود محبوبكم :
كل يوم في شأن ه شانست بدو
هرزمان جلوه ديكر شود از رده عيان
جلوة حسن ترا غايت واياني نيست
يعني اوصاف كمال تواندرد ايان
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 32 من صفحة 300 حتى صفحة 309
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
قال البقلي يسأله من في السموات من الملائكة كلهم على قدر مقاماتهم يسأله الخائف النجاة من العبد والحجاب ويسأله الراجي الوصول إلى محل الفرح ويسأله المطيع قوة عبادته وثواب طاعته ويسأله المحب أن يصل إليه ويسأله المشتاق أن يراه ويسأله العاشق أن يقرب منه ويسأله العارف أن يعرفه بمزيد المعرفة ويسأله الموحد أن يفنى فيه ويستغرق في بحر شهوده ويسأله الجاهل علم ما يحجبه عنه ويسأله العالم ويعرفه به وكذا كل قوم على قدر مراتبهم ودرجاتهم وهو تعالى في كل يوم هو في شأن والشان الحال والأمر العظيم {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم وذلك يوم القيامة عند انتهاء شؤون الخلق المشار إليها بقوله تعالى : كل يوم هو في شأن فلا يبقى حينئذ إلا شأن واحد هو الجزاء فعبر عنه بالفراغ لهم على المجاز المرسل فإن الفراغ يلزمه التجرد وإلا فليس المراد الفراغ من الشغل لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن وقيل هو مستعار من قول المهدد لصاحبه سأفرغ لك أي سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه والمراد التوفر على النكاية فيه والانتقام منه فالخطاب للمجرمين منهما بخلافة على الأول {أَيُّهَ الثَّقَلانِ} قال الراغب
300
(9/245)
الثقل والخفة متقابلان وكل ما يترجح على ما يوزن به أو يقدر به يقال هو ثقيل وأصله في الأجسام ثم يقال في المعاني أثقله الغرم والوزر انتهى والمراد هنا الإنس والجن سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض يعني أنهما شبها بثقلى الدابة وفي حواشي ابن الشيخ شبه الأرض بالحمولة التي تحمل الأثقال والإنس والجن جعلا أثقالاً محمولة عليها وجعل ما سواهما كالاعلاوة أو الرزانة آرائها أو لأنهما مثقلان بالتكليف أو لعظم قدرهما في الأرض كما في الحديث "إني خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي" وقال الصادق رضي الله عنه سيما ثقلين لأنهما يثقلان بالذنور أو لما فيهما من الثقل وهو عين تأخرهما بالوجود لأن من عادة الثقيل الإبطاء كما أن من عادة الخفيف الإسراع والانس أثقل من الجن للركن الأغلب عليهم {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا} التي من جملتها التنبيه على ما سيلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب {تُكَذِّبَانِ} بأقوالكما وأعمالكما قال في كشف الأسرار : اعلم أن بعض هذه السورة ذكر فيه الشدائد والعذاب والنار والنعمة فيها من وجهين أحدهما في صرفها عن المؤمنين إلى الكفار وتلك النعمة عظيمة تقتضي شكراً عظيماً والثاني أن في التخويف منها والتنبيه عليها نعمة عظيمة لأن اجتهاد الإنسان رهبة مما يؤلمه أكثر من اجتهاده رغبة فيما ينعمه
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالانسِ} هما الثقلان خوطبا باسم جنسهما لزيادة التقرير ولأن الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة فخوطبوا بما ينبىء عن ذلك لبيان أن قدرتهم لا تفي بما كلفوه والمعشر الجماعة العظيمة سميت به لبلوغه غاية الكثرة فإن العشر هو العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا بتركيبه بما فيه من الآحاد تقول أحد عشر واثنا عشر وعشرون وثلاثون أي اثنتا عشرات وثلاث عشرات فإذا قيل معشر فكأنه قيل محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة وقدم الجن على الإنس في هذها لآية لتقدم خلقه والإنس على الجن في قوله تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن لفضله فإن التقديم يقتضي الأفضلية قال ابن الشيخ لما بين الله تعالى أنه سيجيء وقت يتجرد فيه لمحاسبتهم ومجازاتهم وهددهم بما يدل على شدة اهتمامه بها كان مظنة أن يقال فلم ذلك مع ماله من كمال الاهتمام به فأشار إلى جوابه بما محصوله أنهم جميعاً في قبضة قدرته وتصرفه لا يفوته منهم أحد فلم يتحقق باعث يبعثه على الاستعجال لأن ما يبعث المستعجل إنما هو خوف الفوت وحيث لم يخف ذلك قسم الدهر كله إلى قسمين : أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة وجعل المدة الأولى أيام التكليف والابتلاء والمدة الثانية للحساب والجواء وجعل كل واحدة من الدارين محل الرزايا والمصائب ومنبع البلايا والنوائب ولم يجعل لواحد من الثقلين سبيلاً للفرار منهما والهرب مما قضاه فيهما فقوله : يا معشر الجن متعلق بقوله سنفرغ لكم فكانا بمنزلة كلام واحد {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} لم يقل إن استعطتما لأن كل واحد منهما فريق كقولهم فإذا هم فريقان يختصمون أي كل فريق منهم يختصم فجمع الضمير هنا نظراً إلى معنى الثقلين وثناه في قوله يرسل عليكما كما سيأتي نظراً إلى اللفظ أي إن قدرتم على {أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} قال في القاموس : النفاذ جواز الشيء عن الشيء والخلوص منه كالنفوذ
301
ومخالطة السهم جوف الرمية وخروج طرفه من الشق الآخر وسائره فيه كالنفذ ونفذهم جازهم وتخلفهم كأنفذهم والنافذ الماضي في جميع أموره انتهى والأقطار جمع قطر بالضم وهو الجانب والمعنى أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من الله فارين من قضائه {فَانفُذُوا} فاخرجوا منها وخلصوا أنفسكم من عقابي وهو أمر تعجيز والمراد أنهم لا يفوتونه ولا يعجزونه حتى لا يقدر عليهم {لا تَنفُذُونَ} لا تقدرون على النفوذ {إِلا بِسُلْطَـانٍ} أي بقوة وقهر وأنتم من ذلك بمعزل بعيد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/246)
ـ روي ـ أن الملائكة تنزل فتحيط بجميع الخلائق فيهرب الإنس والجن فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة أحاطت به فتقول لهم الملائكة ذلك فكما لا يقدر أحد على الفرار يوم القيامة كذلك لا يقدر في الدنيا فيدركه الموت والقضاء لا محالة {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة على العقوبة {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} هو لهب خالص لا دخان فيه أو دخان النار وحرها كما في القاموس قال سعدي المفتي : والله أعلم أنها استئناف جواباً عن سؤال الداعي إلى الهرب والفرار وإن ذلك حين يساق إلى المحشر كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أي يرسل عليكما لهب بلا دخان ليسوقكم إلى المحشر {مِّن نَّارٍ} متعلق بيرسل والتنوين فيهما للتفخيم {وَنُحَاسٌ} أي دخان أو صفر مذاب يصب على رؤوسهم وفي المفردات النحاس اللهب بلا دخان وذلك تشبيه في اللون بالنحاس وفي القاموس النحاس مثلثة عن أبي العباس الكواشي القطر والنار وما سقط من شرار الصفر أو الحديد إذا طرق {فَلا تَنتَصِرَانِ} ألا لا تمنعان من ذلك العذاب {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من بيان عاقبة الكفر والمعاصي والتحذير عنها فإنها لطف ونعمة أي لطف ونعمة {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ} أي انصدعت يوم القيامة وانفك بعضها من بعض لقيام الساعة أو انفرجت فصارت أبواباً لنزول الملائكة كقوله تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً وفي الخبر من نار جهنم إذا كشف عنها {فَكَانَتْ وَرْدَةً} كوردة حمراء في اللون وهي الزهرة المعروفة التي تشم والغالب على الورد الحمرة قال :
ولو كنت ورداً لونه لعشقتني
ولكن ربي شانني بسواديا
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
وقيل لأن أصل لون السماء الحمرة وإنما ترى زرقاء للعبد والحوائل ولان لون النار إذا خالط الأزرق كساه حمرة {كَالدِّهَانِ} خبر ثان لكانت أي كدهن الزيت فكانت في حمرة الوردة وفي جريان الدهن أي تذوب وتجري كذوبان الدهن وجريه فتصير حمراء من حرارة جهنم وتصير مثل الدهن في رقته وذوبانه وهو إما جمع دهن أو اسم لما يدهن به كالأدام لما يؤتدم به وجواب إذا محذوف أي يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به دائرة المقال قال سعدي المفتي ناصب إذا محذوف أي كان ما كان من الأمر الهائل الذي لا يحيط به نطاق العبارة أو رأيت أمراً عظيماً هائلاً وبهذا الاعتبار تتسبب هذه الجملة عما قبلها لأن إرسال الشواظ يكون سبباً لحدوث الأمر الهائل أو رؤيته في ذلك الوقت {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مع عظم شأنها {فَيَوْمَـاـاِذٍ} أي يوم إذ انشقت السماء حسب ما ذكر
302
{لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ} لأنهم يعرفون بسيماهم فلا يحتاج في تمييز المذنب عن غيره إلى أن يسأل عن ذنبه إن أراد أحد أن يطلع على أحوال أهل المحشر وذلك أول ما يخرجون من القبور ويحشرون إلى الموقف فوجاً فوجاً على اختلاف مراتبهم وأما قوله فوربك لنسألنهم أجمعين ونحوه ففي موقف المناقشة والحساب وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا فإنه أعلم بذلك منهم ولكن يسألهم لم عملتم كذا وكذا وعنه أيضاً ويسألون سؤال شفاء وراحة وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ وضمير ذنبه للإنس لتقدمه رتبة وأفراده لما أن المراد فرد من الإنس كأنه قيل لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جني وأراد بالجان الجن كما يقال تميم ويراد ولده {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مع كثرة منافعها فإن الاخبار بما ذكر مما يزجركم عن الشر المؤدي إليه وفيه إشارة إلى شعاشع أنوار الطاعة والعبادة على صفحات وجنات إنس الروح وإلى تراكم ظلمات المعصية والمتمرد وسلاسل الطغيان وإغلال العصيان على صفحات وجوه جن النفس المظلمة وأعناقهم المتمردة الآبية عن الطاعة والانقياد فبأي آلاء ربكما تكذبان مما أنعم الله على عباده المنقادين في هذا اليوم ومما نانتقم من عباده المتمردين في ذلك اليوم فإن الانتقام من الأعداء نعمة على الأحباب ولذا ورد الحمد عقيبه كما قال تعالى فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمدرب العالمين وكمال الانتقام بإفناء أوصاف النفس الأمارة بالكلية
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/247)
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـاهُمْ} السيما والسيماء بالكسر والقصر والمد العلامة والجملة استئناف يجري مجرى التعليل لعدم السؤال قيل يعرفون بسواد الوجوه وزرقة العيون وقيل بما يعلوهم من الكآبة والحزن كما يعرف الصالحون بأضداد ذلك {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاقْدَامِ} النواصي جمع ناصية وهي مقدم الرأس والمراد هنا شعرها والجار والمجرور هو القائم مقام الفاعل يقال أخذه إذا كان المأخوذ مقصوداً بالأخذ وونه قوله تعالى خذوا حذركم ونحوه وأخذ به إذا كان المأخوذ شيئاً من ملابسات المقصود بالأخذ ومنه قوله تعالى : لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي وقول المستغيث خذ بيدي أخذ الله بيدك والمعنى تأخذ الملائكة بنواصيهم أي بشعور مقدم رؤوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار أو تسحبهم الملائكة إلى النار تارة تأخذ بالنواصي وتجرهم على وجوههم أو يجمع بين نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من المواعظ والزواجر {هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} على إرادة القول أي يقال لهم ذلك بطريق التوبيخ {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا} أي يدرون بين النار يحرقون بها {وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} أي ماء بالغ من الحرارة أقصاها يصب عليهم أو يسقون منه أي يطوفون من النار إلى الحميم ومن الحميم إلى النار دهشاً وعطشاً أبداً من أنى يأنى فهو آن مثل قضى يقضي فهو قاض إذا انتهى في الحر والفيح قال أبو الليث يسلط عليهم الجوع فيؤتى بهم إلى الزقوم الذي طلعها كرؤوس الشياطين فأكلوا منها فأخذت في حلوقهم فاستغاثوا بالماء فأوتوا به من الحميم فإذا قربوه إلى وجوههم تناثر لحم وجوههم ويشربون فتغلي أجوافهم ويخرج جميع ما فيها ثم يلقى عليهم الجوع فمرة يذهب بهم إلى الحميم ومرة إلى الزقوم وقال كعب الأحبار : إن وادياً من أودية
303
جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً فيلقون في النار {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد أشير إلى سر كون بيان أمثال هذه الأمور من قبيل الآلاء مراراً فالآلاء في أمثالها حكايتها فقط للانزجار مما يؤدي الابتلاء بها من الكفر والمعاصي بخلاف ما فصل في أول السورة إلى قوله كل يوم الخ فإنها نعم واصلة إليهم في الدنيا وكذلك حكاياتها من حيث إيجابها للشكر والمثابرة على ما يؤدي إلى استدامتها وفي الآية إشارة إلى الكاسبين بقدم مخالفة الشرع وموافقة الطبع الصفات الذميمة وأخلاق الرذيلة وهم يطوفون بين نار المخالفات الشرعية والموافقات الطبيعية وبين حميم الجهل فإنه لا يقطع العطش ولا يروي الظمآن وإنما ينفع للإنسان في الدنيا والآخرة العلم القطعي والكشف الصحيح ألا ترى إلى علوم أهل الجدل فإنها في حكم الجهل لأن أهلها منغمسون في الشهوات واللذات مستغرقون في الأوهام والخيالات ولما نبه الله الإمام الغزالي رحمه الله وأيقظه ونظر فإذا علومه التي صرف شطراً من عمره في تعلمها وتعليمها لا تنقذه في الآخرة رجع إلى كتب الصوفية فتيقن أنه ليس أنفع من علومهم لكون معاملاتها ذات الله وصفاته وأفعاله وحقائق القرآن وأسراره فترك التدريس ببغداد وخرج إلى طلب أهل تلك العلوم حتى يكون منها على ذوق بسبب صحبتهم فوفقه الله فكان من أمره ما كان وقد قال أبو يزيد البسطامي قدس سره : أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت وقال الإمام فخر الدين للشيخ نجم الدين قدس سره : بم عرفت ربك؟ قال : بواردات ترد على القلوب فتعجز النفوس عن تكذيبها فالنفس كجهنم فيها نار الشهوات حميم الجهالات فمن زكاها في الدنيا أوصافها نجا يوم القيامة من الاحتراق والافتراق نعوذ بالله من سوء الحال وسيئات الأَمال وقبائح الأحوال :
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
نمى تازد اين نفس سركش نان
كه عقلش تواند كرفتن عنان
كه بانفس وشيطان برايد بزور
مصلف لنكان نيايد زمور
(9/248)
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} وبراى كسى كه بترسد از ايستادن يش خداى تعالى وهو شروع في تعداد النعم الفائضة عليهم في الآخرة بعد تعداد ما وصل ءليهم في الدنيا من الآلاء الدينية والدنيوية والمقام اسم مكان ومقامه تعالى موقفه الذين يقف فيه العباد للحساب كما قال يوم يقوم الناس لرب العاملين فالإضافة للاختصاص الملكي إذ لا ملك يومئذ إلا تعالى قال في عين المعاني : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين شرب لبناً على ظمأ فأعجبه ثم أخبر أنه من غير حل فاستقاء فقال صلى الله عليه وسلّم لما سمعه : رحمك الله لقد أٌّزلت فيك آية ودخل فيه من بهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من مخافة الله {جَنَّتَانِ} جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني على طريق التوزيع فإن الخطاب للفريقين والمعنى لكل خائفين منكما أو لكل واحد جنة لعقيدته وأخرى لعمله أو جنة لفعل الطاعات وأخرى لترك المعاصي أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه أو روحانية وجسمانية وكذا ما جاء مثنى بعد وقال في الموضح دوباغ دهد ايشانرا دربهشت كه يكى از ايشان صد ساله راه طول وعرض داشته باشد
304
ودرميان هرباغ سراهاى خوش وحوران دلكش.
وقال الأستاذ القشيري رحمه الله جنة معجلة هي لذة المناجاة والتلذذ بحقائق المشاهدات وما يرد على قلوبهم من صدقه الواردات وجنة مؤجلة وهي الموعودة في الآخرة وفي بحر العلوم قيل جنة للخائف الأنسي وجنة للخائف الجني لأن الخطاب للثقلين وفيه نظر لقوله عليه السلام إن مؤمن الجن لهم ثواب وعليهم عقاب وليسوا من أهل الجنة مع أمة محمد هم على الأعراف حائط الجنة تجري فيه الأنهار وتنبت فيه الأشجار والثمار.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
يقول الفقير : قد سبق في أواخر الأحقاف أن المذهب أن الجن في حكم بني آدم ثواباً وعقاباً لأنهم مكلفون مثلهم وإن لم نعلم كيفية ثوابهم فارجع إلى التفصيل في تلك السورة {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال محمد بن الحسن رحمه الله : بينا كنت نائماً ذات ليلة إذا أنا بالباب يدق ويقرع فقلت : انظروا من هو فقالوا : رسول الخليفة يدعوك فخفت على روحي فقمت ومضيت إليه فلما دخلت عليه قال : دعوتك في مسألة أن أم محمد يعني زبيدة قلت لها إني أمام العدل وأمام العدل في الجنة فقالت : إنك ظالم عاص قد شهدت لنفسك بالجنة فكذبت بذلك على الله تعالى وحرمت عليك فقلت له : يا أمير المؤمنين إذا وقعت في معصية فهل تخاف الله في تلك الحال أو بعدها؟ فقال : أي والله أخافه خوفاً شديداً فقلت له : أنا أشهد أن لك جنتين لا جنة واحدة قال تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان فلاطفني وأمرني بالانصراف فلما رجعت إلى داري رأيت البدر متبادرة إلي قال بعضهم : هو المقام الذي يقوم بين يدي ربه يوم القيامة عند كشف الستور وظهور حقائق الأمور وسكوت الكل من الأنبياء والأولياء لظهور القدرة والجبروت فلا بد من الخوف من القيام في ذلك المقام الهائل.
مالك بن دينار كفته دلى كه دروخوف نه همون خانه كه در وخدا وندنه خانه كه درو خداوند نبود عنقريب آن خانه خراب شودودلى كه درو خوف بود علامتش آنست كه خاطر را از حرمت ركند واخلاق را مهذب كرداند وأطراف بادب دارد ابو القاسم حكيم كفته كه ترس از خالق ديكر است وترس از مخلوق ديكر هركه از مخلوق ترسد ازوى بكريزد وهركه از خالق ترسد باوى كريزد يقول الله تعالى : "ففروا إلى الله" ترس از الله باشهوت ودينار نسازد هركه اسير شهوت كشت ترس ازدل وى رخت برداشت ودردست ديو افتاد تابهر درى كه ميخواهد اورامى كشت در آثار بيارندكه يحيى عليه السلام برابليس رسيده ودردست ابليس بند هاديد ازهر جنس وهررنك كفت اى شقى اين ه بند هاست كه دردست تومى بينم كفت اين انواع شهوات فرزند آدم است كه ايشانرا باين دربند آدم وبرمراد خويش مى دارم كفت يحيى راهي يز شناسى كه بآن دروى طمع كنى كفت نه مكريك يزكه هركه كه طعام سير خورد كرانى طعام اورا ساعتى ازنماز وذكر الله مشغول دارد يحيى كفت ازخداى عز وجل ذيرفتم وباوى عهد بستم كه هركز طعام سير نخورم بزركى رار سيدندكه خداى تعالى با اندوه كنان وترسند كان ه خواهد كفت اكر اندوه براى او دارند ومحل ترس از بهرا او كشند هنوز نفس ايشان منقطع نشده باشدكه جام رحيق بردستشان نهندبران نبشته كه ان لا تخافوا
305
ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة :
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
اندوه غريبان بسر آيد روزى
دركار غريبان نظر آيد روزى
ترسند كانرا واندوه كنانرا هار بهشت است دوبهشت سيمين ودو بهشت زرين.
كما قال عليه السلام : جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما.
(9/249)
وفي التأويلات النجمية يشير إلى من يخاف مقام الشهود إبقاء على نفسه لأن الشهود الحقيقي يفني الشاهد عن شاهديته في المشهود ويبقيه بالمشهود من آخر مراتب المشاهدة إذ لا لذة في أوائل المشاهدة وإليه أشار عليه السلام بقوله : اللهم ارزقنا لذة النظر إلى لقائك وبهذا المعنى كان يقول لعائشة رضي الله عنها حين يغيب عن حسه كلميني يا حميراء للتبليغ والإرشاد وقوله جنتان أي جنته الفناء في نعمة المشهود وجنة البقاء بالمشهود قوله مقام ربه أي مقام شهود ربه بحذل المضاف فبأي آلاء ربكما تكذبان من نعمة الفناء في الله ونعمة البقاء بالله {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} صفة لجنتان وما بينهما اعتراض وسط بينهما تنبيهاً على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة موجب للإنكار والتوبيخ وذواتا تثنية ذات بمعنى صاحبة وفي تثنيتها لغتان الرد على الأصل فإن أصلها ذوية لأنها مؤنثة ذوي والتثنية على اللفظ أن يقال ذاتاً والإفنان جمع فن أي ذواتا أنواع من الأشجار والثمار أو جمع فنن وهو الغصن المستقيم طولاً أو الذي يتشعب من فروع الشجرة أي ذواتاً أغصان متشعبة من فروع الشجرة وتخصيصها بالذكر لأنها التي تورق وتثمر وتمد الظل وتجتني منها الثمار يعني أن في الوصف تذكيراً لها على سبيل الكناية كأنه قيل ذواتاً أوراق وأثمار وأظلال {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وليس فيها شيء يقبل التكذيب {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} صفة أخرى لجنتان فصل بينهما بقوله فبأي الخ مع أنه لم يفصل به بين الصفات الكائنة من قبيل العذاب حيث قال يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس مع أن إرسال النحاس غير إرسال الشواظ أي في كل واحدة منهما عين من ماء غير آسن تجري كيف يشتاء صاحبها في الأعالي والأسافل لما علم من وصف أنهار الجنة لا من حذف المفعول وقيل تجريان من جبل من مسك عن ابن عباس والحسن رضي الله عنهم تجريان بالماء الزلال إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل وقال أبو بكر الوراق رحمه الله : فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة إلى الله تعالى :
بران ازدوسر شمه ديده جوى
ورآ لا يشى دارى از خود بشوى
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
نريزد خدا آب روى كسى
كه ريزد كناه آب شمش بسى
{فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وفيه إشارة إلى أن في جنة الفناء عينا يجري فيها ماء الحياة وهي البقاء بعد الفناء وفي جنة البقاء عيناً يجري فيها ماء العلم والمعرفة والحكمة والبقاء بعد الفناء يستلزم أنواع المعارف والحكم وأصناف الموائد والنعم فبأي آلاء ربكما تكذبان يا أصحاب السكر والغيبة ويا أرباب الصحور والحضور كما في التأويلات النجمية {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ} صنفان معهود وغريب لم يره أحد ولم يسمع أو رطب ويابس أو حلو وحامض ويقال لونان وقيل في المنظر دون المطعم وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما في الدنيا
306
حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو وذلك لأن ما في الجنة خلق من حلاوة الطاعات فلا يوجد فيها المر المخلوق من مرارة السيئات كزقوم جهنم ونحوه ولكون الجنة دار الجمال لا يوجد فيها اللوون الأسود أيضاً لأنه من آثار الجلال والجملة صفة أخرى لجنتان {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي من هذه النعم اللذيذة {مُتَّكِـاِينَ} حال من الخائفين لأن من خاف في معنى الجمع والمعنى يحصل لهم جنتان متكئين أي جالسين جلسة الملوك جلوس راحة ودعة معتمدين {عَلَى فُرُشٍ} جمع فراش بالكسر وهو ما يفرش ويبسط ويستمهد للجلوس والنوم {بَطَآاـاِنُهَا} جمع بطانة وهي بالكسر من الثوب خلاف ظهارته بالفارسية آستر {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} قرأ ورش عن نافع ورويس عن يعقوب من استبرق بحذف الألف وكسر النون لإلقاء حركة الهمزة عليها والباقون بإسكان النون وكسر الألف وقطعها والإستبرق ما غلظ من الديباج قيل هو استفعل من البريق وهو الإضاءة وقيل من البرقة وهو اجتماع ألوان وجعل اسماً فأعرب إعرابه وقد سبق شرحه في الدخان والمعنى من ديباج ثخين وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظهائرها يعني أن الظهارة كانت أشرف وأعلى كما قال عليه السلام لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه الحلة فذكر المنديل دون غيره تنبيهاً بالأدنى على الأعلى وقيل ظهائرها من سندس أو من نور أو هو مما قال الله تعالى فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} جنى اسم بمعنى المجني كالقبض بمعنى المقبوض لقول علي رضي الله عنه :
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
هذا جناى وخياره فيه
وكل جان يده إلى فيه
(9/250)
ودان من الدنو وهو القرب أصله دانوا مثل غازا أي ما يجتني من أشجارها من الثمار قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع وبالفارسية وميوه درختان آن دوبهشت نزديكست كه دست قائم وقاعد ومضطجع بدان رسد وقال ابن عباس رضي الله عنهما : تدنو الشجرة حتى يجتبيها ولي الله إن شاء قائماً وإن شاء قاعداً وإن شاء مضطجعاً وقال قتادة : لا يرد يده بعد ولا شؤك وكفته اندكسانى كه تكيه دارند وميوه آروز كنند شاخ درخت سرفرو دارد وآن ميوه كه خواهد بدهان وى درآيد.
يقول الفقير : إن البعد إنما نشأ من كثافة الجسم ولا كثافة في الجنة وأهلها أجسام لطيفة نورانية في صور الأرواح وقد قال من قال : "مصرع" بعد منزل نبود درسفر روحاني.
وأيضاً إن الطاعات في الدنيا كانت في مشيئة المطيع فثمراتها أيضاً في الجنة تكون كذلك فيتناولها بلا مشقة بل لا تناول أصلاً فإن سهولة التناول تصوير لسهولة الأكل فتلك الثمار تقع في الفم بلا أخذ على ما قال البعض {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من هذه الآلاء اللذيذة الباقية {فِيهِنَّ} أي في الجنان المدلول عليها بقوله جنتان لما عرفت أنهما لكل خائفين من الثقلين أو لكل خائف حسب تعدد عمله وقد اعتبر الجمعية في قوله متكئين {قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} من إضافة اسم الفاعل إلى منصوبه تخففاً ومتعلق القصر وهو على أزواجهن محذوف للعلم به والمعنى نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم وتقول كل منهن لزوجها وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك فالحمد لله
307
الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك وقصر الطرف أيضاً من الحياء والغنج.
وون قصر الطرف برمعناى حيا وعنج بود معنى قاصرات الطرف آنست كه كنير كان بهشتى نازنينان اندازناز فرو شكسته شمان اند.
وقد يقال المعنى قاصرات الطرف غيرهن عليهن أي إذا راهن أحد لم يتجاوز طرفه إلى غيرهن لكمال حسنهن {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَآنٌّ} اجلملة صفة لقاصرات الطرف لأن إضافتها لفظية يقال طمث المرأة من باب ضرب إذا افتضها بالتدمية أي أخذ بكارتها فالطمث الجماع المؤدي إلى خروج دم البكر ثم أطلق على كل جماع طمث وإن لم يكن معه دم وفي القاموس الطمث المس والمعنى لم يمس الإنسيات أحد من الإنس ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن المدلول عليهم بقاصرات الطرف يعني حوران كه براى انس مقرر اند دست آدمى بدامن ايشان نرسيده باشد وآنانكه براى جن مقرراند جن نيز درايشان تصرف نكرده باشد.
فهن كالرياض الأنف وهي التي لم ترعها الدواب قط وفيه ترغيب لتحصيلهن إذ الرغبة للابكار فوق الرغبة للثيبات ودليل على أن الجن من أهل الجنة وإنهم يطمثون كما يطمث الإنس فإن مقام الامتنان يقتضي ذلك إذ لو لم يطمثوا كمن قبلهم لم يحصل لهم الامتنان به ولكن ليس لهم ماء كماء الإنسان بل لهم هواء بدل الماء وبه يحصل العلوق في أرحام إناثهم كما في الفتوحات المكية وهذا يستدعى أن لا تصح المناكحة بين الإنس والجن وكذا العكس وقد ذهب إلى صحتها جم غفير من العلماء منهم صاحب آكام المرجان وأما قول ابن عباس رضي الله عنهما المخنثون أولاد الجن لأن الله ورسوله نهيا أن يأتي الرجل امرأته وهي حائض فإذا أتاها سبقه إليها الشيطان فحملت فجاءت بالمخنث وكذا قول مجاهد إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على احليله فجامع معه فلا يدل دلالة قطعية على أن جماعهم كجماع الإنس وإن من جماعهم الإنس يحصل العلوق بل فيه دلالة على شركة الجن معه بسبب الحيض وعدم التسمية كشركة الشيطان في الطعام الذي لم يسم عليه ونحو فهوه إفساد بالخاصية وإضرار بما يليق بمقامه والعلم عند الله تعالى ثم إن هؤلاء أي قاصرات من حور الجنة المخلوقات فيها ما يبتذلن ولم يمسسن وهذا قول الجمهور وقال الشعبي والكلبي من نساء الدنيا أي لم يجامعهن بعد النشأة الثانية أحد سواء كن في الدنيا ثيبات أو أبكاراً
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
{فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من هذه النعم التي هي لتمتع نفوسكم وفيه إشارة إلى أن في الجنات للفانين في الله الباقين به حوراً من التجليات الذاتية والمعارف الإلهية والحكم الربانية مستورات عن عيون الأغيار لا يتبرجن ولا يظهرن على غير أربابهن لم يطلع عليهن إنس الروح ولا جان النفس لبقائهم بهم وظلمة نفسهم وكثافة طينتهم {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} صفة لقاصرات الطرف قد سبق بيان المرجان وأما الياقوت فهو حجر صلب شديد اليبس رزين صاف منه أحمر وأبيض وأصفر وأخضر وأزرق وهو حجر لا تعمل فيه النار لقلة دهنيته ولا يثقب لغلظة رطوبته ولا تعمل فيه المبارد لصلابته بل يزداد حسناً على مر الليالي والأيام وهو عزيز قليل الوجود سيما الأحمر وبعده الأصفر أصبر على النار من سائر أصنافه وأما الأخضر منه فلا صبر له على
308
(9/251)
النار أصلاً النار أصلاً وفي الطب أجود اليواقيت وأغلاها قيمة الياقوت الرماني وهو الذي يشابه النار في لونه ومن تختم بهذه الأصنام أمن من الطاعون وإن عم الناس وأمن أيضاً من إصابة الصاعقة والغرق ومن حمل شيئاً منها أو تختم به كان معظماً عند الناس وجيهاً عند الملوك وأكل معجون الياقوت يدفع ضرر السم ويزيد في القوة ومعنى الآية مشبهات بالياقوت في حمره الوجنة والمرجان أي صغار الدر في بياض البشرة وصفائها فإن صغار الدر أنصع بياضاً من كباره وقال قتادة في صفاء الياقوت وبياض المرجان.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
ـ روي ـ عن أبي سعيد في صفة أهل الجنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ سوقهن دون لحمها ودمها وجلدها وعنه عليه السلام أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين على أثرهم كأشد كوكب إضاءة قلوبهم على قلب رجل واحد لا اختلاف بينهم ولا تباغض لكل امرىء منهم زوجتان كل واحدة منهما يرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن يسبحون الله بكرة وعشياً لا يسقمون ولا يمتخطون ولا يبصقون آنيتهم الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب ووجور مجامرهم الألوة وريحهم المسك وعنه عليه السلام أن المرأة من أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من حرير ومخها أن الله يقول كأنهن الياقوت والمرجان فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصفيته لرأيته من ورائه وقال عمرو بن ميمون : إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من قدامها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من النعم المتعلقة بالنظر والتمتع وفيه إشارة إلى أن هذه الحوراء العرفانية والحسناء الإحسانية ياقوت تجليات البسط والانشراح ومرجان تجليات الجمال والكمال من لطافة الوجنة كالياقوت الأحمر ومن طراوة الفطرة كالمرجان الأبيض فبأي آلاء ربكما تكذبان بالمشبه أم بالمشبه به {هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ إِلا الاحْسَـانُ} هل يجيىء على أربعة أوجه الأول بمعنى قد كقوله تعالى هل أتى والثاني بمعنى الأمر كقوله تعالى فهل أنتم منتهون أي فانتهوا والثالث بمعنى الاستفهام كقوله تعالى : فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً والرابع بمعنى ما الجحد كما في هذه الآية أي ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب وعن أنس رضي الله عنه أنه قال : قرأ رسول الله عليه السلام هل جزاء الخ ثم قال : هل تدرون ما قال ربكم قالوا : الله ورسوله أعلم قال : يقوله هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي.
قال الكاشفي : حاصل آيت آنست جزاى نيكى نيكست س جزا دهند طاعات را درجات ومكافات كنند شكرها بزياده ونفوس را بفرح وتوبه را بقبول ودعا راباجابت وسؤال بعطا واستغفارا بمغفرت وخوف دنيارا بأم آخرت وجزاء فنا في الله بقا بالله :
هركه درراه محبت شدفنا
يافت از بحر لقا در بقا
هركرا شمشير شوقش سربريد
ميوه وصل ازدرخت شوق يد
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 33 من صفحة 309 حتى صفحة 318
فغاية الإحسان من العبد الفناء في الله والمولى إعطاء الوجود الحقاني إياه فعليك بالإحسان
309
كل آن وحين فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
ـ حكي ـ أن ذا النون المصري قدس سره رأى عجوزاً كافرة تنفق الحبوب للطيور وقت الشتاء فقال : إنه لا يقبل من الجنبي فقالت : افعل قبل أو لم يقبل ثم إنه رآها في حرم الكعبة فقالت : ياذا النون أحسن إلى نعمة الإسلام بقبضة من الحبة.
ـ وروي ـ أن مخلوقاً مهيباً اعترض في طريق الحج فمنع القافلة عن المرور فقال بعضهم : لعله عطشان فأخذ بيد سيفاً وبيد قربة ماء حتى دنا إليه فصب في فمه قربة الماء حتى ارتوى وغاب ثم إنه نام في الرجوع من الحج فلما استيقظ رأى القافلة قد ذهبت فبقي وحيداً في البرية وفي تلك الحيرة جاءه رجل معه راحلة وأمره بالقيام فركبها حتى لحق الحجاج فأقسم عليه من هو فقال : أنا الذي رفعت عطشي بقربة الماء.
ـ وروي ـ أن امرأة أعطت لقمة للسائل فأخذ ذئب ولدها في الصحراء فظهر شخص فأخرجه من فم الذئب وأعطاها إياه وقال : هذه اللقمة بتلك اللقمة قال الحسن : الإحسان أن يعم ولا يخص فيكون كالمطر والريح والشمس والقمر قال بعض أهل التحقيق الجنة جزاء اوَمال وأما جزاء التوحيد فرؤية الملك المتعال فذكر الله تعالى أحسن صنوف الإحسان.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/252)
ـ يروى ـ أن العبد إذا قال لا إله إلا الله أتت أي هذه الكلمة إلى صحيفته فلا تمر على خطيئة إلا محتها حتى تجد حسنة مثلها فتجلس إلى جنبها وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار فقال عليه السلام : إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة فإنها بعشر أمثالها فقال : يا رسول الله لا إله إلا الله من الحسنات فقال عليه السلام : هي أحسن الحسنات ويكفي في شرف التوحيد أن الإيمان الذي هو أصل الطاعات وتنوير القلب الذي هو محل نظر الحق وتصفية الباطن من أكدار السوى إنما يحصل به {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من نعمه الواصلة في الدنيا والآخرة {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} مبتدأ وخبر أي ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين جنتان أخريان لم دونهم من أصحابه اليمين فالخائفون قسمان : المقربون وأصحاب اليمين وهم دون المقربين بحسب الفضائل العلمية والعملية فدون بمعنى الأدنى مرتبة ومنزلة لا بمعنى غير فالجنتان الأوليان أفضل من الأخريين كفضل المقربين على الأبرار وقيل ليس دون من الدناءة بل من الدنو وهو القرب أي ومن دون هاتين الجنتين إلى العرش أي أقرب إليه وأرفع منهما وحمله بعض المفسرين علي ومعنى الغير.
كما قال الكاشفي : ويجزاين بوستان كه مذكورشد دوبوستان ديكرست وكفته اندد وبوستان اول اززرست براى سابقان واين دوبوستان ازنقره براى اصحاب يمين.
وأطلقهما صاحب كشف الأسرار حيث قال من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ولكل رجل وامرأة من أهل الجنة جنتان إحداهما جزاء عمله والأخرى ورثوها عن الكفار وقيل لكل واحد منهم أربع جنان في الجهات الأربع ليتضاعف له السرور بالتنقيل من جنة إلى جنة ويكون أمتع لأنه أبعد من الملل فيما طبع عليه البشر وجملة معاني من دونهما فوقهما أو من دون صفتيهما أو من دونهما في الدرج أو أمامهما أو قبلهما "وفلاة من دونها سفر طال وميل يفضي إلى أميال" ويؤيد معنى الأدنى مرتبة قول
310
الشيخ نجم الدين في تأويلاته يشير إلى جنتي الأبرار القائمين بالأعمال الصحيحة والأقوال المستقيمة الناظرين إلى المراتب السنية الطالبين للمراتب والمقامات العلية يعني أن لهم جنتين من دون جنتي المذكورين أعني الفانين عن ناسوتيتهم والباقين بلاهوتيته
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
{فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مما ذكر من الجنتين {مُدْهَآمَّتَانِ} صفة لجنتان يقال ادهام الشيء يدهام ادهيماما فهو مدهام اسود وفي تاج المصادر في باب الافعيلال الادهيمام سياه شدن لأن الدهمة بالضم السواد والأدهم والأسود ومنه قوله تعالى مدهامتان أي سوداوان يعني علا لونها دهمة وسواد من شدة الخضرة والري وإن شئت قلت خضراً وإن تضربان إلى السواد من شدة الخضرة وبالفارسية دوبهشت سبزاز بسيارى سبزى بسايهى رسيده والنظر إلى الخضرة يجلو البصر كما قال عليه السلام ثلاث يجلون البصر : النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري وإلى الوجه الحسن قال ابن عباس رضي الله عنهما : والإثمد عند النوم وهو الكحل الأسود وأجوده الأصفهاني وهو بارد يابس ينفع العين اكتحالاً ويقوي أعصابها ويمنع عنها كثيراً من الآفات والأوجاع سيما الشيوخ والعجائز وإن جعل معه شيء من المسك كان غاية في النفع وينفع من حرق النار طلاء مع الشحم ويقطع النزف ويمنع الرعاف إذا كان من أغشية الدماغ وفي الحديث "خيراً كحالكم الأثمد ينبت الشعر ويجلو البصر" كما في خريدة الجائب وفي قوله مدهامتان إشعار بأن الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض وعلى الأوليين الأشجار والفواكه ودل هذا على فضل الأوليين على الأخريين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/253)
قال في التأويلات النجمية : يشير به إلى غلبة القوة النباتية على أصحاب هاتين الجنتين وهم أصحاب اليمين وإلى غلبة القوة الروحانية على أصحاب الجنتين الأوليين لأن فيهما كثرة الأشجار والفواكه وهم المقربون {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} حيث تتمتع أبصاركم بخضرة نباتات هاتين الجنتين وتنتفع أنوفكم بشم رياحينهما قال الفقهاء : إذا قرأ في الصلاة آية واحدة هي كلمة واحدة نحو قوله تعالى : مدهامتان أوحرف واحد نحوق وص ون فإن كل حرف منها آية عند البعض فالأصح أنه لا يجزي عن فرض القراءة لأنه لا يسمى قارئاً لأن القراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} يقال نضخه كمنعه رشه ونضخ الماء اشتد فورانه من ينبوعه كما في القاموس أي فوارتان بالماء لا تنقطعان وبالفارسية جوشنده بآب يعني هرندازوير دارند ديكرجوشد.
وهذا يدل أيضاً على فضل الأوليين على الأخريين لأنه تعالى قال في الأوليين عينان تجريان وفي الأخريين نضاختان والنضخ دون الجري لأن النضخ هو الفوران وهو يتحقق بأن يكون الماء بحيث كلما أخذ منه شيء فار آخر مكانه ولا يكفي هذا القدر في جريانه فلا شك أن الجري أبلغ منه وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نضاختان بالمسك والعنبر وقال الكلبي بالخير والبركة {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} حيث يحصل لكم الري من شراب تينك العينين {فِيهِمَا فَـاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} عطف الأخيرين على الفاكهة كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة بياناً لفضلهما فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء والرمان بالفارسية انار.
فاكهة
311
ودواء يعني بحسب حال الدنيا وإلا فالكل في الجنة للتفكه ومن هذا قال أبو حنيفة رحمه الله : من حلف لا يأكل فاكهة فأكل رماناً أو رطباً لم يحنث خلافاً لصاحبه يعني أن أبا حنيفة لا يجعلهما من الفاكهة بخلاف صاحبيه وغيرهما فلا يحنث من حلف أن لا يأكل فاكهة فأكل تمراً أو رماناً عنده وكذا الحكم عنده في العنب ومن جعلهما من الفاكهة حملهما على التخصيص بذكرهما بياناً لفضلهما كما مر آنفاً وقد سبق بيان النخل مفصلاف قال ابن عباس رضي الله عنهما : نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكربها ذهب أحمر وسعفها كسوة لأهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال والدلاء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس له عجم كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى وأنهارها تجري في غير أخدود والرمان من الأشجار التي لا تقوى إلا بالبلاد الحارة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
ـ روي ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما ما لقحت رمانة قط إلا بحبة من الجنة وقال الإمام علي رضي الله عنه : إذا أكلتم الرمان فكلوه ببعض شحمه فإنه دباغ للمعدة وما من حبة منه تقيم في جوف مؤمن إلا أنارت قلبه وأخرجت شيطان الوسوسة منه أربعين يوماً وفي الحديث "من أل رماناً أنار الله قلبه أربعين يوماً" ولا يخفى ما في جمع الرمان مع انار من اللطافة وأجوده الكبار الحلو المليس وهو حار رطب يلين الصدر والحلق ويجلو المعدة وينفع من الخفقان ويزيد في الباءة وقشره تهرب منه الهوام.
وفي التأويلات النجمية يشير إلى ضعف استعداد أصحاب اليمين بالنسبة إلى المقربين لأن الرمان للدواء لا للتفكه وتهيئة الدواء في البيت تدل على ضعف مزاج ساكن البيت {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} حيث هيأ لكم ما به تتلذذون من الفواكه {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} صفة أخرى لجنتان كالجملة التي قبلها والكلام في جمع الضمير كالذي مر فيما مر وخيرات مخففة من خيرات جمع خيرة لأن خير الذي بمعنى اخير لا يجمع فلا يقال فيه خيرون ولا خيرات ومعناها بالفارسية زنان بركزيده.
وقيل في تفسير الخيرات أي لسن بدمرات ولا بخرات الدمر النتن والبخر بالتحريك النتن في الفم والإبط وغيرهما ولا متطلعات التطلع شم داشتن.
وقولهم عافى الله من لم يتطلع في فمك أي لم يتعقب كلامك "ولا متشوفات" التشوف خويشتن آراستن وشم داشتن.
ويعدى بإلى وفي القاموس شفته شوفاً جلوته وشيفت الجارية تشاف زينت وتشوف تزين وإلى الخير تطلع ومن السطح تطاول ونظر وأشرف "ولا ذربات" يقال ذرب كفرح ذربا وذرابة فهو ذرب حد والذربة بالكسر السليطة اللسان "ولا سليطات" السلط والسليط الشديد والطويل اللسان "ولا طماحات" يقال طمح بصره إليه كمنع ارتفع والمرأة طمحت فهي طامح وككتاب النشوز "ولا طوفات في الطرق" أي دوارت "حسان" جمع حسنة وحسناء أي حسان الخلق والخلق يعني نيكو رويان ونيكو خويان.
وهن من الحور وقيل من المؤمنات الخيرات ويدل على الأول ما بعد الآية وفي الحديث "لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على السموات والأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحاً ولعصابتها على رأسها خير من الدنيا وما فيها".
وروي لو أن حوراء بزقت في بحر لعذب ذلك البحر من عذوبة ريقها.
312
(9/254)
ـ وروي ـ أنهن يقلن نحن الناعمات فلا نبأس يعني ماييم بانعمت كه درويش نمى شويم "الراضيات فلا نسخط" يعني ماييم راضى كه غضب منى كنيم "نحن الخالدات فلا نبيد" يعني ماييم جاويدكه هلاك نمى شويم "طوبى لمن كنا له وكان لنا" وفي الأثر إذا قلن هذه المقالة إجابتهن المؤنات من نساء الدنيا نحن المصليات وما صليتن ونحن الصامات وما صمتن ونحن المتصدقات وما تصدقتن فغلبنهن والله غلبنهن وفيه بيان أن هاتين الجنتين دون الأوليين لأنه تعالى قال في الأوليين في صفة الحور العين كأنهن الياقوت والمرجان وفي الأخريين فيهن خيرات حسان وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
قال في التأويلات النجمية : فيهن خيرات حسان من المعاملات الفاضلات والمكاشفات العاليات وهذا الوصف أيضاً يدل على أن جنة المقربين أفضل من جنة الأبرار وأصحاب اليمين لأن ثمرة تلك الجنة الفناء والبقاء وثمرة هذه الجنة المعاملات وتحسين الأخلاق {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد أنعم عليكم بما به تستمعون من النساء {حُورٌ} بدل من خيرات جمع حوراء وهي البيضاء ووصفت في غير هذه الآية بالعين وهي جمع عيناء بمعنى عظيمة العين وقال بعضهم : شديدة سواد العين يعني سياه شمان اند {مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ} قصرن في خدورهن وحبسهن.
قال الكاشفي : ازشمهاى بيكانكان نكاه داشته ودرخيمها بداشته.
وفيه إشارة إلى أنهن لا يظهرن لغير المحارم وإن لم تكن الجنة دار التكليف وذلك لأنهن من قبيل الأسرار وهي تصان عن الأغيار غيرة عليها يقال امرألآ قصيرة وقصورة أي مخدرة مستورة لا تخرج ومقصورات الطرف على أزواجهن لا يبغين بهم بدلاً والأخيام جمع خيمة وهي القبة المضروبة على الأعواد هكذا جمع خيام الدنيا وهي لا تشبه خيام الجنة إلا بالاسم فإنه قد قيل : إن الخيمة من خيامهن درة مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها اهلون ما يرون إلا حين يطوف عليهم المؤمنون وقال ابن مسعود : لكل زوجة خيمة طولها ستون ميلاً.
وكفته اندمراد خانهاست يعني مستورات في الحجال.
وحجله خانه بود براى داماد وعروس.
قال في القاموس : الحجلة محركة كالقبة موضع يزين بالثياب والستور للعروس والجمع حجل وحجال قال البقلي رحمه الله وصف الله جواري جنانه التي خلقهن لخدمة أوليائه وألبسهن لباس نوره وأجلسهن على سرير أنسه في حجال قدسه وضرب عليهن خيام الدر والياقوت ينتظرن أزواجهن من العارفين والمؤمنين المتقين لا يصرفن أبصارهن في انتظارهن عن مسلك الأولياء من أزواجهن إلى غيره وفي الآية إشارة إلى أن الأسماء تنقسم بالقسمة الأولى قسمين بعضها كونية أي لها مظاهر في الكون وبعضها غير كونية أي ليس لها مظاهر في الكون بل هي من المستأثرات الغيبية كما جاء في دعاء النبي عليه السلام : اللهم إني أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً أو استأثرت به في علم غيبك المكنون وقوله حور مقصورات يعني أن من خصائص هاتين الجنتين أن فيهما معاني وحقائق ما ظهرت مظاهرها في هذا العالم بل بعد في خيام الغيب المكنون في جنة السر
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
{فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد خلق من النعم ما هي مقصورة ومحبوسة لكم
313
(9/255)
{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَآنٌّ} كالذي مر في نظيره في جميع الوجوه وقال بعضهم : أي قبل أصحاب الجنتين دل عليهم ذكر الجنتين قال في كشف الأسرار : كرر ذلك زيادة في التشويق وتأكيداً للرغبة وفيه أنه ليس بتكرير لأن الأول في أزواج المقربين وهذا في أزواج الأبرار قال محمد بن كعب : إن المؤمن يزوج ألف ثيب وألف بكر وألف حوراء {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مع أنها ليست كنعم الدنيا إذ قد تطمث المرأة في الدنيا ثم يتزوجها آخر ثيباً فهن نعم باكورة فيا لها من طيب وصالها ويا لها من حسنها وبراعة جمالها لا يقدر أحد على حكايتها ولا يبلغ وصف إلى نهايتها والعقول فيها حيارى والقلوب سكارى {مُتَّكِـاِينَ} حال صاحبه محذوف يدل عليه الضمير في قبلهم {عَلَى رَفْرَفٍ} أما اسم جنس أو اسم جمع واحده رفرفة قيل هو ما تدلي من الأسرة من عالي الثياب أو ضرب من البسط أو الوسائد قال في المفردات : الرفرف ضرب من الثياب مشبه بالرياض انتهى ومن معاني الرفرف الرياض وكان بساط انوشروان ستين ذراعاً في ستين ذراعاً يبسط له في إيوانه منظوماً باللؤلؤ والجواهر الملونة على ألوان زهر الربيع وينشر إذا عدمت الزهور وفي القاموس الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس وتبسط وفضول المحابس والفرش وكل ما فضل فثنى والفراش والرقيق من الديباج {خُضْرٍ} نعت لرفرف جمع أخضر والخضرة أحد الألوان بين البياض والسواد وهو إلى السواد أقرب فلهذا أسمى الأسود أخضر والأخضر أسود {وَعَبْقَرِىٍّ} عطف على رفرف والمراد الجنس ولذا وصف بالجمع وهو قوله : {حِسَانٌ} حملاً على المعنى وهو جمع حسن والعبقري منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد كثير الجن فينسبون إليه كل شيء عجيب وقال قطرب : ليس هو من المنسوب بل هو بمنزلة كرسي وبختى قال في القاموس : عبقر موضع كثير الجن وقرية ثيابها في غاية الحسن والعبقري ضرب من البسط كالعباقرى انتهى وفي المفردات قيل هو موضع للجن ينسب ءليه كل نادر من إنسان وحيوان وثوب قال الله تعالى وعبقري حسان وهو ضرب من الفرش جعله الله مثلاً لفرش الجنة وفي التكملة عبقر اسم موضع يصنع فيه الوشى كانت العرب إذا رأت شيئاً نسبته ءليه فخاطبهم الله على عادتهم وفي فتح الرحمن العبقري بسط حسان فيها صور وغير ذلك والعرب إذا استحسنت شيئاً واستجادته قالت عبقري قال ابن عطية ومنه قول النبي عليه السلام : رأيت عمر بن الخطاب في المنام يسقي من بئر فلم أر عبقر يا يفرى فريه أي سيداً يعمل عمله وقيل : عبقر اسم رجل كان بمكة يتخذ الزرابي ويجيدها فنسب إليه كل شيء جيد حسن وبالفارسية وبساطي قيمتي درغايت نيكويى قوله تعالى في الأوليين متكئين على فرش بطائنها من استبرق وترك ذكر الظهارة لرفعة شأنها وخروجها عن كونها مدركة بالعقول والإفهام وفي الأخريين متكئين على رفرف خضر وعبقري وبه يعلم تفاوت ما بينهما وقيل الاستبرق ديباج والعبقري موشى والديباج أعلى من الموشى قال ابن الشيخ الرفرف فراش إذا استقر عليه الولي طار به من فرحه وشوقه إليه يميناً وشمالاً وحيثما يريده الولي.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
ـ وروي ـ في حديث المعراج أن رسول الله عليه السلام لما بلغ سدرة المنتهى جاءه الرفرف فتناوله من جبريل وطار به إلى سيد العرش
314
فذكر عليه السلام أنه طار بي يخفضني ويرفعين حتى وقف بي على ربي ولما حان الانصراف تناوله فطار به خفضاً ورفعا يهوي به حتى أداه إلى جبريل فارفرف خادم بين يدي الله من جملة الخدم مختص بخواص الأمور في محل الدنو والقربة كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء مخصوصة بذلك فهذا الرفرف الذي سخره لأهل الجنتين هو متكأهم وفرشهم يرفرف بالولي ويطير به على حافات تلك الأنهار وحيث يشاء من خيامه وأزواجه وقصوره انتهى وهذا التقرير على تقدير أن يكون دون من الدنو ومعنى من دونهما أرفع منهما كما لا يخفى ويدل عليه أن الرفرف أعظم خضرة من الفرش المذكورة في قوله متكئين على فرش {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد هيأ لكم ما تتكئون عليه فتستريحون {تَبَـارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} تنزيه وتقديس له تعالى فيه تقرير لما ذكر في السورة الكريمة من آلائه الفائضة على الأنام أي تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرت به السورة من اسم الرحمن المنبىء عن إفاضة الآلاء المفصلة وارتفع عما يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها جحود نعمائه وتكذيبها وإذا كان حال اسمه بملابسة دلالته عليه كذلك فما ظنك بذاته الأقدس الأعلى وقيل : الاسم بمعنى الصفة وقيل مقحكم مثل ثم اسم السلام عليكما أي ثم السلام عليكما قال في فتح الرحمن : وهذا الموضع مما أريد فيه بالاسم مسماه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
(9/256)
وفي التأويلات النجمية هذا يدل على أن الاسم هو المسمى لأن المتعالى هو المسمى في ذاته لا الاسم وإن كان فتبعيته وكذا الموصوف بالقهر واللطف والجلال والإكرام هو المسمى فحسبه انتهى وفي الأمالي وليس الاسم غيرا للمسمى وفي شرح الأسماء الحسنى للزروقي الصحيح أن الاسم غير المسمى وأباه قوم وفصل آخرون وتوقف آخرون امتناعاً لكن السلف لم يتكلموا في الاسم والمسمى ولا في الصفة والموصوف ولا في التلاوة والمتلو طلباً للسلامة وحذراً على الغير وهو {ذِى الْجَلَالِ وَالاكْرَامِ} وصف به الرب تكميلاً لما ذكر من التنزيه والتقرير.
كفته انداول يزى كه ازقرآن درمكه برقريش آشكارا خواندند بعضي آيات ازأول اين سوره بود روايت كردند از عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كفت صحابه رسول عليه السلام مجتمع شدند كفتندتا اين غايت مردم قريش از قرآن هي نشنيدند درميان ما كيست كه ايشانرا قرأن بشنواند آشكارا عبد الله بن مسعود كفت آنكس من باشم كه قرأن آشكارا برايشان خوانم اكره از ان رنج وكزند آيدس بيامد ودر انجمن قريش بيستاد وابتداء سوره رحمن در كفت ولختى ازان آيات برخواند قريش ون آن بشنيدند ازسر غيظ وعداوت اورا زخمها كردند ورنجانيدند س ون بعضي خوانده اورافرا كذاشتند وبنزديك اصحاب باز كذشت.
فقالوا : هذا الذي خشينا عليك يا ابن مسعود وعن عائشة رضي الله عنها قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام كما في كشف الأسرار قال الزروقي ذو الجلال والإكرام هو الذي له العظمة والكبرياء والأفضال التام المطلق من عرف أنه ذو الجلال والإكرام هابه لمكان الجلال وأنس به لمكان الإكرام فكان بين خوف ورجاء وهو اسم الله الأعظم
315
وقال بعضهم : أسماء الله تعالى كلها أعظم لدلالتها على العظيم فإنه إذا عظم الذات والمسمى عظم الأسماء والصفات وإنما الكلام في ذكرها بالحضور والشهود والاستغراق في بحر الجود وهو ذكر الكمل من أفراد الإنسان نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذاكرين له ظاهراً وباطناً أولاً وآخراً.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
وفي التأويلات النجمية هذا يدل على أن الاسم هو المسمى لأن المتعالى هو المسمى في ذاته لا الاسم وإن كان فتبعيته وكذا الموصوف بالقهر واللطف والجلال والإكرام هو المسمى فحسبه انتهى وفي الأمالي وليس الاسم غيرا للمسمى وفي شرح الأسماء الحسنى للزروقي الصحيح أن الاسم غير المسمى وأباه قوم وفصل آخرون وتوقف آخرون امتناعاً لكن السلف لم يتكلموا في الاسم والمسمى ولا في الصفة والموصوف ولا في التلاوة والمتلو طلباً للسلامة وحذراً على الغير وهو {ذِى الْجَلَالِ وَالاكْرَامِ} وصف به الرب تكميلاً لما ذكر من التنزيه والتقرير.
كفته انداول يزى كه ازقرآن درمكه برقريش آشكارا خواندند بعضي آيات ازأول اين سوره بود روايت كردند از عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كفت صحابه رسول عليه السلام مجتمع شدند كفتندتا اين غايت مردم قريش از قرآن هي نشنيدند درميان ما كيست كه ايشانرا قرأن بشنواند آشكارا عبد الله بن مسعود كفت آنكس من باشم كه قرأن آشكارا برايشان خوانم اكره از ان رنج وكزند آيدس بيامد ودر انجمن قريش بيستاد وابتداء سوره رحمن در كفت ولختى ازان آيات برخواند قريش ون آن بشنيدند ازسر غيظ وعداوت اورا زخمها كردند ورنجانيدند س ون بعضي خوانده اورافرا كذاشتند وبنزديك اصحاب باز كذشت.
فقالوا : هذا الذي خشينا عليك يا ابن مسعود وعن عائشة رضي الله عنها قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام كما في كشف الأسرار قال الزروقي ذو الجلال والإكرام هو الذي له العظمة والكبرياء والأفضال التام المطلق من عرف أنه ذو الجلال والإكرام هابه لمكان الجلال وأنس به لمكان الإكرام فكان بين خوف ورجاء وهو اسم الله الأعظم
315
وقال بعضهم : أسماء الله تعالى كلها أعظم لدلالتها على العظيم فإنه إذا عظم الذات والمسمى عظم الأسماء والصفات وإنما الكلام في ذكرها بالحضور والشهود والاستغراق في بحر الجود وهو ذكر الكمل من أفراد الإنسان نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذاكرين له ظاهراً وباطناً أولاً وآخراً.
جزء : 9 رقم الصفحة : 288
تفسير سورة الواقعة
مكية وآيها تسع وتسعون
جزء : 9 رقم الصفحة : 315
جزء : 9 رقم الصفحة : 316(9/257)
{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} انتصاب إذا بمضمر أي إذا قامت القيامة وحدثت وذلك عند النفخة الثانية يكون من الأهوال ما لا يفي به المقال سماها واقعة مع أن دلالة اسم الفاعل على الحال والقيامة مما سيقع في الاستقبال لتحقق وقوعها ولذا اختير إذا وصيغة الماضي فالواقعة من أسماء القيامة كالصاخة والطامة والآزفة {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} قال الراغب يكنى عن الحرب بالوقعة وكل سقوط شديد يعبر عنه بذلك قال أبو الليث سميت القيامة الواقعة لصوتها والمعنى لا يكون عند وقوعها نفس تكذب على الله وتفتري بالشريك والولد والصاحبة وبأنه لا يبعث الموتى لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدقة وأكثر النفوس اليوم كاذبة مكذبة فاللام للتوقيت والكاذبة اسم فاعل أوليس لأجل وقعتها أو في حقها كذب بل كل ما ورد في شأنها من الأخبار حق صادق لا ريب فيه فاللام للتعليل والكاذبة مصدر كالعاقبة {خَافِضَةٌ} أي هي خافضة لا قوام {رَّافِعَةٌ} لآخرين وهو تقرير لعظمتها على سبيل الكناية فإن الوقائع العظام يرتفع فيها إناس إلى مراتب ويتضع إناس وتقديم الخفض علي الرفع للتشديد في التهويل قال بعضهم : خافضة لأعداء الله إلى النار رافعة لأولياء الله إلى الجنة أو تخفض أقواماً بالعدل وترفع أقواماً بالفضل أو تخفض أقواماً بالدعاوي وترفع أقواماً بالحقائق وعن ابن عباس رضي الله عنهما تخفض أقواماً كانوا مرتفعين في الدنيا وترفع أقواماً كانوا متضعين فيها.
آن روز بلال درويش را رضي الله عنه مى آرند باتاج وحلن ومركب بردابرد ميزنند تا بفردوس أعلى برند وخواجه اورا امية بن خلف با اغلال وانكال وسلاسل بروى مى كشند تابدرك اسفل برند آن طيلسان وش منافق راباتش مى برند وآن قبابسته وخلص رابه ببهشب مى فرستندان ير مباحاتي مبتدع را بآتش قهر مى سوزند وآن جوان خراباتى معتقدرا برتخت بخت مى نشانند :
بساير مباحاتى كه بى مركب فروماند
بسارند خراباتى كه زين بر شير نربندد
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
{إِذَا رُجَّتِ الارْضُ رَجًّا} الرج تحريك الشيء وإزعاجه والرجرجة الاضطراب أي خافضة رافعة إذا حركت الأرض تحريكاً شديداً بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل ولا تسكن زلزلتها حتى تلقى جميع ما في بطنها على ظهرها {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي فتت حتى صارت
316
مثل السويق الملتوت من بس السويق إزالته والبسيسة سويق يلت فيتخذ زاداً أو سيقت وسيرت من أماكنها من بس الغنم إذا ساقها {فَكَانَتْ} أي فصارت بسبب ذلك {هَبَآءً} أي غباراً وهو ما يسطع من سنابك الخيل أو الذي يرى في شعاع الكوة أو الهباء ما يتطاير من شرر النار أو ما ذرته الريح من الأوراق {مُّنابَثًّا} أي منتشراً متفرقاً وفي التفسير أن الله تعالى يبعث ريحاً من تحت الجنته فتحلم الأرض والجبال وتضرب بعضها ببعض ولا تزال كذلك حتى تصير غباراً ويسقط ذلك الغبار على وجوه الكفار كقوله تعالى وجوه يومئذ عليها غبرة وقال بعضهم : إن هذه الغبرة هي التراب الذي أشار إليه تعالى بقوله : يا ليتني كنت تراباً وسيجيء تحقيقه في محله فوي الآية إشارة إلى قيامة العارفين وهي قيامة العشق وسطوته وجذبة التوحيد وصدمته وهي تخفض القوى الجسمانية البشرية المقتضية لأحكام الكثرة وترفع القوى الروحانية الإلهية المستدعية لأنوار الواحدة وصرصر هذه القيامة إذا ضربت على أرض البشرية ومرت على جبال الأنانية الإنسانية جعلت تعينهما متلاشياً فانياف في ذاتهما وصفاتهما لا اسم لهما ولا رسم ولا أثر ولا عين بل هباء منبثاً لا حقيقة له في الجود كسراب بقيعة يحسبه الطمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده وإليه الإشارة بقولهم إذا تم الفقر فهو إليه ولا بد في سلوك طريق الحق من إرشاد أستاذ حاذق وتسليك شيخ كامل مكمل حتى تظهر حقيقة التوحيد بتغليب القوى الروحانية على القوى الجسمانية كما قال العارف الرباني أبو سعيد الخر از قدس سره حين سئل عن التوحيدا أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة {وَكُنتُمْ} أما خطاب للأمة الحاضرة والأمم السالفة تغليباً.
وللحاضرة فقط {أَزْوَاجًا} أي أصنافاً {ثَلَـاثَةً} إثنان في الجنة وواحد في النار وكل صنف يكون مع صنف آخر في الوجود أو في الذكر فهو زوج فرداً كان أو شفعاً
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/258)
{فَأَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَـابُ الْمَشْـاَمَةِ مَآ أَصْحَـابُ الْمَشْئَمَةِ} تقسيم للأزواج الثلاثة فأصحاب الميمنة مبتدأ خبره ما أصحاب الميمنة على أن ما الاستفهامية مبتدأ ثان ما بعده خبره والأصل ما هم أي أي شيء هم في حالهم وصفتهم والمراد تعجيب المسامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل ما عرفت حالهم أي شيء فاعرفها وتعجب منها فأصحاب الميمنة في غاية حسن الحال وأصحاب المشأمة في نهاية سوء الحال نحو زيد وما زيد حيث لا يقال إلا في موضع التعظيم والتعجب وأصحاب الميمنة أصحاب المنزلة السنية واأصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية أخذاً من تيمنهم بالميامن أي بطرف اليمين وتشؤمهم بالشمائل أي بجانب الشمال كما تقول فلان مني باليمين والشمال إذا وصفته عندك بالرفعة والضعة تريد ما يلزم من جهتي اليمين والشمال من رفعة القدر وانحطاطه أو الذين يؤتون صحائفهم بإيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم أو الذي يكونون يوم القيامة على يمين العرش فيأخذون طريق الجنة والذين يكونون على شمال العرش فيفضي بهم إلى النار أو أصحاب اليمن وأصحاب الشؤم فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم عليها بمعاصيهم أو أصحاب الميمنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق قال الله تعالى في حقهم هؤلاء من أهل الجنة أو أبالي وأصحاب المشأمة الذين كانوا على شماله وقال الله تعالى
317
فيهم هؤلاء من أهل النار ولا أبالي وفي القاموس اليمن البركة كالميمنة يمن فهو ميمون وأيمن والجمع ميامين وأيامن واليمين ضد اليسار والجمع أيمن وإيمان وأيامن وأيامين والبركة والقوة والشؤم ضد اليمن والمشأمة ضد الميمنة {وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ} هم القسم الثالث من الأزواج الثلاثة آخر ذكرهم ليقترن ببيان محاسن أحوالهم وأصل السبق التقدم في السير ثم نجوز به في غيره من التقدم والجملة مبتدأ وخبر والمعنى والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت محاسنهم كقوله أنا أبو النجم وشعري شعري أو السابقون الأول مبتدأ والثاني تأكيد له كرر تعظيماً لهم والخبر جملة قوله أولئك الخ وفي البرهان التقدير عند بعضهم السابقون ما السابقون فحذف ما لدلالة ما قبله عليه وهم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان فالمراد بالسبق هو السبق بالزمان أو الذين سبقوا في حيازة الكمالات الدينية والفضائل القينية فالمراد بالسبق هو السبق بالشرف ما قال الراغب يستعار السبق لإحراز الفضل وعلى ذلك والسابقون السابقون أي المقتدمون إلى ثواب الله وجنته بالأعمال الصالحة {أولئك} الموصوفون بذلك النعت الجليل وهو مبدأ خبره قوله : {الْمُقَرَّبُونَ} أي الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم وأعليت مراتبهم ورقيت إلى حظائر القدس نفوسهم الزكية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 34 من صفحة 318 حتى صفحة 327
يقول الفقير : عرف هذا المعنى من قوله عليه السلام إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن فإنه يظهر منه أن الفردوس مقام المقربين لقربه من العرش الذي هو سقف الجنة ولم يقل أولئك المتقربون لأنهم بتقريب ربهم سبقوا لا بتقرب أنفسهم ففيه إشارة إلى الفضل العظيم في حق هؤلاء يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم {فِى جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} متعلق بالمقربون أو بمضمر هو حال من ضميره أي كائنين في جنات النعيم يعني در بوستانهاى مشتمل بر أنواع نعمت.
قيل السابقون أربعة سابق أمة موسى عليه السلام وهو خربيل مؤمن آل فرعون وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية وسابقاً أمة محمد عليه السلام وهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقال كعب : هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة فإنهم كادوا أن يكونوا أنبياء إلا أنه لا يوحي إليهم والمراد بأهل القرآن الملازمون لقراءته والعاملون به وكان خلق النبي عليه السلام القرآن وقيل الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهو السابق المقرب ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبة فهذا صاحب اليمين ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال وقال حضرة شيخي وسندي قدس سره في بعض تحريراته العباد ثلاثة أصناف : صنف هم أهل النسيان وصنف هم أهل الذكر وصنف هم أهل الإحسان والصنف الأول أهل الفتور مطلقاً وليس فيه بوجه من الحضور شيء أصلاً وهم أهل البعد قطعاً وليس لهم من القرب شيء جداً وهم أصحاب المشأمة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة وهم أرباب الغضب والقهر والجلال ولهم في نار الجحيم عذاب اليم وماء حميم والصنف الثاني أهل الفتور من وجه وأهل الحضور من وجه وهم أهل البعد بوجه وأهل القرب بوجه وهم أصحاب الميمنة
318
(9/259)
وأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وهم أرباب الرحمة واللطف والجمال ولهم في نور النعيم ثواب عظيم وسرور مقيم والصنف الثالث أهل الحضور مطلقاً وليس فيهم بوجه من الفتور شيء أصلاً وهم أهل القرب مطلقاً وليس لهم من البعد شيء أصلاً وهم السابقون والسابقون السابقون أولئك المقربون وهم أصحاب كال الرضى والاجتباء والاصطفاء ولهم في سر نعيم جنة الوصال دوام الصحبة والمشاهدة والمعانية وبقاء تجلي الوجه الحق والجمال المطلق وهم أرباب الكمال المتوجه بوجه الجمال والجلال والصنف الأول قفا بلا وجه في الظاهر والباطن والثاني وجه بلا قفا في الظاهر وقفاً بلا وجه في الباطن والثالث وجه بلا قفا في الظاهر والباطن لكونهم على تعين الوجه المطلق وفي رسالته العرفانية أصحاب اليمين ممن سوء المقربين وجه بلا قفا في الظاهر لحصول الرؤية لهم وقفا بلا وجه في الباطن أي لعدم انكشاف البصيرة لهم وأصحاب الشمال قفا بلا وجه في الظاهر أي باعتبار البداية ووجه بلا قفا في الباطن أي باعتبار النهاية وقال في اللائحات البرقيات له ذكر بعضهم بمجرد اللسان فقط وهم فريق الغافلين من الفجار ولهم رد مطلقاً فإنهم يقولونه بأفواههم ما ليس في قلوبهم وذكر بعضهم بمجرد اللسان والعقل فقط وهم فريق المتيقظين من الأبرار ولهم قبول بالنسبة إلى من تحتهم لا بالنسبة إلى من فوقهم وذكر بعضهم بمجرد اللسان والعقل والقلب فقط وهم قريق أهل البداية من المقربين وقبولهم نسبي أيضاً وذكر بعضهم بمجرد اللسان والعقل والقلب والروح فقط وهم أهل الوسط من المقربين وقبولهم إضافي أيضاً وذكر بعضهم كان مطلقاٌ حيث تحقق لهم ذكر اللسان وفكر المذكور ومطالعة الآثار بالعقل وحضور المذكور ومكاشفة الأطوار بالقلب وأنس المذكور ومشاهدة الأنوار بالروح والفناء في المذكور ومعاينة الأسرار بالسر فلهم قبول مطلقاً وليس لهم رد أصلاً لأن كمالهم وتمامهم كان حقيقياً جداً وهم أرباب النهاية من المقربين من الأنبياء والمرسلين وأولياء الكاملين الأكملين وفي التأويلات النجمية يشير إلى مراتب أعاظم المملكة الإنسانية ومقامات أكابرها وصناديدها وهم الروح السابق المقرب وجود أو رتبة والقلب المتوسط صاحب الميمنة والنفس الأخرية صاحبة المشأمة أما تسمية الروح بالسابق فلسبقه بالتجليات الذاتية الرحمانية والتنزلات الربانية وبقاء طهارته ونزاهته ابتداء وانتهاء ووصف القلب بصاحب الميمنة ليمنه والتيمن به وغلبة التجليات الصفاتية والأسمائية عليه ووصف النفس بصاحبة المشأمة لشؤمها ومبشوميتها وتلعثمها عند إجابة دواعي الحق بالنقياد من غير عناد واعتناد وأما تقديم القلب والنفس على الروح فلسعة الرحمانية الواسعة كل شيء كما قال ورحمتي وسعت كل شيء وقال رحمتي سبقت غضبي إذ جعل النفس برزخاً بين القلب والروح لتستفيد برحمته مرة من هذا وتارة من هذا وتصير منصبغة بنورانيتهما وتؤمن بهما إن شاء الله تعالى كما قال تعالى : إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صابحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وبقوله في جنات النعيم يشير إلى جنة الذات وجنة الصفات وجنة الأفعال لأن السابقين المقربين هم الفانون في الله بالذات والصفات والأفعال والباقون بالله بالذات والصفات والأفعال ولصاحب كل مقام من هذه
319
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
المقامات الثلاثة جنة مختصة به جزاء وفاقاً هذه الجنات كلها شاملة للنعيم الدنيوي وأخروي إن فهمت الرموز الإلهية فزت بالكنوز الرحمانية {ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ} أي هم أمم كثيرة من الأولين غير محصورة العدد وهم الأمم السالفة من لدن آدم إلى نبينا عليهما السلام وعلى من بينهما من الأنبياء العظام وهذا التفسير مبني على أن يراد بالسابقين غير الأنبياء واشتقاق الثلة من الثل وهو الكسر وجماعة السابقين مع كثرتهم مقطوعة مكسورة من جملة بني آدم وقال الراغب : الثلة قطعة مجتمعة من الصوف ولذلك قيل للغنم ثلة ولاعتبار الاجتماع قيل ثلة من الأولين أي جماعة {وَقَلِيلٌ مِّنَ الاخِرِينَ} أي من هذه الأمة ولا يخالفه قوله عليه السلام : "إن أمتي يكثرون سائر الأمم" أي يغلبونهم بالكثرة فإن أكثرية سابقي الأمم السالفة من سابقي هذه الأمة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك مثل أن يكون سابقوهم ألفين وتابعوهم ألفاً فالمجموع ثلاثة آلاف ويكون سابقوا هذه الأمة ألفاً وتابعوهم ثلاثة آلاف فالمجموع أربعة آلاف فرضاً وهذا المجموع أكثر من المجموع الأول و
(9/260)
في الحديث : "أنا أكثر الناس تبعاً يوم القيامة" ولا يرده قوله تعالى في أصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين لأن كثرة كل من الفريقين في أنفسهما لا تنافي أكثرية أحدهما من الآخر وسيأتي أن الثلتين من هذه الأمة وقد روي مرفوعاً أن الأولين والآخرين ههنا أيضاً متقدموا هذه الأمة ومتأخروهم وهو المختار كما في بحر العلوم فالمتقدمون مثل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ولما نزلت بكى عمر رضي الله عنه فنزل قوله ثلة من الأولين وثلة من الآخرين يعني كريان شد وكفت يا نبي الله ما بانو كرويديم وتصديق كرديم وازما اهل نجات نيامد مكر اندك اين آيت آمدكه وثلة من الآخرين حضرت صلى الله عليه وسلّم آيت بروى خواند وعمر فرمودكه رضينا من ربنا وفي الحديث "أترضون أن يكونوا ربع أهل الجنة قلنا نعم قال أترضون أن تكونوا ثلث أهل اجنة قلنا نعم قال والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة يعني كونكم نصف أهلها بسبب أنها لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود وكالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر أي فلا يستبعد دخول كلهم الجنة" وقد ترقى عليه السلام في حديث آخر من النصف إلى الثلثين وقال : إن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً وهذه الأمة منها ثمانون قال السهيلي رحمه الله في كتاب التعريف والأعلام قال عليه السلام : نحن الآخرون السابقون يوم القيامة فهم إذاً محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته وأول سابق إلى باب الجنة محمد عليه السلام وفي الحديث "أنا أول من يقرع باب الجنة فأدخل ومعي فقراء المهاجرين" وأما آخر من يدخل الجنة وآخر أهل النار خروجاً منها رجل اسمه جهينة فيقول أهل الجنة : تعالوا نسأل جهينة فعنده الخبر اليقين فيسألونه هل بقي أحد في النار ممن يقول لا إله إلا الله :
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
نماند بزندان دوزخ اسير
كسى راكه باشد نين دستكير
يقول الفقير : هذه خلاصة ما أورده أهل التفسير في هذا المقام والذي يلوح لي أن المقربين وإن كانوا داخلين في أصحاب اليمين إلا أن المراد بقوله تعالى : وثلة من الآخرين هي الثلة التي من
320
أصحاب اليمين وهم هنا غير المقربين بقرينة تقسيم الأزواج وتبيين كل فريق منهم على حدة وكلاً منا في المقربين خصوصاً أعني السابقين من هذه الأمة هل هم أقل من سابقي الأمم كما يدل عليه اهر قوله تعالى وقليل من الآخرين أو هم أكثر كما يدل عليه بعض الشواهد والظاهر أنهم أثر مثل أصحاب اليمين والآية محمولة على مقدمي هذه الأمة ومتأخريها كما أشير إليه سابقاً وذلك لأن النبي عليه السلام شبه علماء هذه الأمة بأنبياء بني إسرائيل ولا شك أن الأنبياء كلهم من المقربين وعلماء هذه الأمة لا نهاية لهم دل عليه أن أولياء في كل عصر من أعصار هذه الأمة عدد الأنبياء وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً وقد يزيد عددهم على عدد الأنبياء بحسب نورانية الزمان وقد ثبت أن كل أربعين مؤمناً في قوة ولي عرفي فإذا كان صفوف هذه الأمة يوم القيامة ثمانين فظاهر أن عددهم يزيد على عدد الأولين بزيادة العدد يزيد الأولياء أصحاب اليمين وبزيادتهم يزيد الأولياء المقربين السابقون فإن في العدد المذكور منهم الغوث والأقطاب والكمل فاعرف.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/261)
وفي التأويلات النجمية يشير بقوله : ثلة من الأولين إلى كثرة أرباب القلوب صواحب التجليات الجزئية الصفاتية والأسماءئي وكثرة أصحاب اللذات النفسانية الظلمانية وبقوله وقليل من الآخرين المحمديين يشير إلى أرباب الأرواح الظاهرة صواحب التجليات الذاتية المقدسة عن كثرات الأسماء والصفات الاعتبارية {عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} حال أخرى من المقربين والسر رجع سرير بالفارسية تحت.
والموضونة المنسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت أو المتواصلة من الوضن وهو نسج الدرع ثم استعير لكل نسج محكم {مُّتَّكِـاِينَ عَلَيْهَا مُتَقَـابِلِينَ} حالان من الضمير المستكن فيما تعلق به على سرر والتقابل بعضهم على بعض إما بالذات وإما بالعناية والمودة أي مستقرين على سرر متكئين عليها أي قاعدين قعود الملك للاستراحة متقابلين لا ينظر بعضهم من إقفاء بعض وهو وصف لهم بحسب العشرة وتهذيب الأخلاق والآداب وقال أبو الليث متقابلين في الزيارة.
وقال الكاشفي : برابر يكديكر يعني روى باروى تابديدان يكديكر مستأنس ومسرور باشند {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي يدور حولهم للخدمة حال الشرب وغيره {وِلْدَانٌ} جمع وليد وخدمة الوليد أمتع من خدمة الكبير يعني خدمت كودك زيبا ترست از خدمت كبار {مُّخَلَّدُونَ} مبقون أبداً على شكل الولدان وطراوتهم لا يتحولون عنها لأنهم خلقوا للبقاء ومق خلق للبقاء لا يتغير قال في الأسئلة المقحمة : هؤلاء هل يدخلون تحت قوله تعالى كل نفس ذائقة الموت والجواب أنهم لا يموتون فيها بل يلقى عليهم بين النفختين نوم انتهى.
وازين معلوم شدكه اين كودكان را حق تعالى بمحض كرم خود آفريده باشد براى خدمت بهشتيان.
فهم للخدمة لا غير والحور العين للخدمة والمتعة وقيل هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابون عليها ولا سيئات فيعاقبون عليها وفي الحديث : "أولاد الكفار خدام أهل الجنة" ولفظ الولدان يشهد لأبي حنيفة رحمه الله في أن أطفال المشركين خدم أهل الجنة لأن الجنة لا ولادة فيها ويجوز أن يكون معنى مخلدون مقرطون.
يعني آباستكان بكو شوار هاى زرين.
والخلد السوار القرط كالخلدة محركة والجمع كقردة وولدان مخلدون مقرطون أو مسورون
321
أولا يهرمون أبداً ولا يجاوزون حد الوصافة كما في القاموس وقال في كشف الأسرار : الخلادة لغة قحطانية
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
{بِأَكْوَابٍ} من الذهب والجواهر أي بآنية لا عرى لها ولا خراطيم وهي الأباريق الواسعة الرأس لا خرطوم لها ولا يعوق الشارب منها عائق عن شرب من أي موضع أراد منها فلا يحتاج أن يحول الإناء من الحالة التي تناوله بها ليشرب {وَأَبَارِيقَ} جمع إبريق وهو الذي له عروة وخرطوم يبرق لونه من صفائه وقيل إنها أعجمية معربة آبريز.
أي بآنية ذات عرى وخراطيم ويقال الكوب للماء وغيره والإبريق لغسل الأيدي والكأس لشرب الخمر كما قال : {وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} أي وبكأس من خمر جارية من العيون أخبر أن خمر الآخرة ليست كخمر الدنيا تستخرج بتكلف وعلاج وتكون في أوعية بل هي كثيرة جارية كما قال وأنهار من خمر والكأس القدح إذا كان فيها شراب وإلا فهو قدح يقال معن الماء إذا جرى فهو فعيل بمعنى الفاعل أو ظاهرة تراها العيون في الأنهار كالماء المعين وهو الظاهر الجاري فيكون بمعنى مفعول من المعاينة من عانه إذا شخصه وميزه بعينه قال في القاموس : المعن الماء الظاهر ومعن الماء أساله وأمعن الماء جرى والمعنان بالضم مجاري الماء في الوادي فإن قلت كيف جمع الأكواب والأباريق وأفرد الكأس فالجواب أن ذلك على عادة أهل الشرب فإنهم يعدون الخمر في الأواني المتعددة ويشربون بكأس واحدة {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} الصدع شق في الأجسام الصلبة كالزجاج والحديد ونحوهما ومنه استعير الصداع وهو الانشقاق في الرأس من الوجع ومنه الصديع للفجر أي لا ينالهم بسبب شربها صداع كما ينالهم ذلك من خمر الدنيا وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها قال ابن عباس رضي الله عنهما : في الخمر أربع خصال : السكر والصداع والقيىء والبول وليست في خمر الجنة بل هي لذة بلا أذى {وَلا يُنزِفُونَ} أي لا يسكرون يعني لا تذهب عقولهم أو ينفد شرابهم من أنزف الشارب إذا نفد عقله أو شرابه فالنفاد إما للعقل وهو من عبوب خمر الدنيا أو للشراب فإن بنفادها تختل الصحبة {وَفَـاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} يقال تخيرت الشيء أخذت خيره أي يختارونه ويأخذون خيره وأفضله من ألوانها وكلها خيار وهو عطف على بأكواب أي يطوف عليها ولدان بفاكهة وهو ما يؤكل من الثمار تلذذاً لا لحفظ الصحة لاستغنائهم عن حفظ الصحة بالغذاء في الجنة وليس ذلك كقوت الدنيا الذي يتناوله من يضطر إليه ويضيق عليه لتأخره عنه وهو إشارة إلى أنه يتناول المأكولات التي يتنعم بها ثم ذكر اللحم الذي هو سيد الأدام وكانت العرب يتوسعون بلحمان الإبل ويعز عندهم لحم الطير الذي هو أطيب اللحوم ويسمعون بها عند الملوك فوعدوها فقيل :
(9/262)
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} أي يتمنون مشوياً أو مطبوخاً يتناولنها مشتهين لها لا مضطرين ولا كارهين وآن آن بود كه مؤمنان برخوان نشسته باشند مرغ بيايد ودريش ايشان برشاخ طوبى نشيند وآوازدهدكه من آثم كه هي شمه نيست دربهشت كه ازان نشيده ام وهي درختى نيست كه من از ميوه آن نخورده ام كوشت من خوشترين همه كوشتهاست س بهشتى كوشت ويرا آرزو كند مرغ ازان شاخ طوبى در كرددو برسرخوان افتدسه
322
قسمت شوديكى خته ويكى قديدويكى بريان س بهشتى ندانكه خواهد بخورد ديكر باره بقدرت حق زنده شود وبررد.
وفي الأسئلة المقحمة إنما قال وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون فغاير بين اللفظين والجواب لأن الفواكه كما تكون للأكل تكون أيضاً للنظر والشم وأما لحم الطير فمختلف الشهوات في أكل بعض أجزائه دون البعض ولما لم يكن بعد الأكل والشرب أشهى من الجماع قال : {وَحُورٌ عِينٌ} عطف على ولدان أو مبتدأ محذوف الخبر أي وفيها أولهم حور عين أي نساء وحور جمع حوراء وهي البيضاء أو الشديدة بياض العين والشديدة سوادها وعين جمع عيناء وهي الواسعة الحسنة العين وهن خلقن من تسبيح الملائكة كما في عين المعاني {كَأَمْثَـالِ اللُّؤْلُواِ الْمَكْنُونِ} صفة لحور أو حال أي الدر المخزون في الصدف لم تمسه الأيدي ولم تره الأعين أو المصون عما يضربه ويدنسه في الصفاء والنقاء ولما بالغ في وصف جزائهم بالحسن والصفاء دل على أن أعمالهم كانت كذلك لأن الجواء من جنس العمل فقال : {جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مفعول له أي يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم الصالحة في الدنيا فما جزاء الإحسان إلا الإحسان فالمنازل منقسمة على قدر الأعمال وأما نفس دخول الجنة فيفضل الله ورحمته لا بعمل عامل فمن طمع في أن يدخل الجنة ويأكل من اللحم اللذيذ ويشرب من الشراب الهنيىء ويستمتع بالحور العين آثر وجه زواجها.
ـ ويروى ـ أن الحوراء إذا مشت سمع تقديس الجلاجل من ساقيها وتمجيد الأسورة من ساعديها وإن عقد الياقوت يضحك في نحرها وفي رجليها نعلان من ذهب شراكهما من لؤلؤ تصران أي تصوتان بالتسبيح على كل امرأة سبعون حلة ليست منها حلة على لون الأخرى وسبعون لوناً من الطيب ليس منها لون على لون الآخر لكل امرأة سبعون سريراً من ياقوت أحمر منسوجة بالدر على كل سرير سبعون فراشاً بطائنها من استبرق وفوق السبعين فراشاً سبعون أريكة لكل امرأة منهن سبعون وصيفة بيد كل وصيفة صحفتان من ذهب فيهما لون من طعام يجد لآخر لقمة منه لذة لا يجدها لأولها ويعطي زوجها مثل ذلك لعى سرير من ياقوت أحمر عليه سواران من ذهب موشح بياقوت أحمر وكان يحيى بن معاذ رحمه الله يقول : اخطب زوجة لا نسلبها منك المنايا وأعرس بها في دار لا يخربها دوران البلايا واسبك لها حجلة لا تحرقها نيران الرزايا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
ـ وروي ـ أنهن خلقن من الزعفران كما في كشف الأسرار {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} أي باطلاً قال في القاموس : اللغو واللغا السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره وفي المفردات اللغو من الكلام ما لا يعتد به هو الذي يورد لا عن رؤية وفكر فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور {وَلا تَأْثِيمًا} ولا نسبة إلى الإثم أي لا يقال لهم اثمتم أي لا لغو فيها ولا تأثيم ولا سماع والإثم اسم للأفعال المبطئة عن الثواب والجمع آثام {إِلا قِيلا} أي قولا {سَلَـامًا سَلَـامًا} بدل من قيلا والاستثناء منقطع أي لكنهم يسمعون فيها قولاً سلاماً سلاماً أو هو من باب لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى في أنه من التعليق بالمحال ومعنى سماعهم السلام إنهم يفشون السلام فيسلمون سلاماً بعد
323
سلام أو لا يسمع كل من المسلم والمسلم عليه الإسلام الآخر بدأ أورداً وفي الآية إشارة إلى أن جنات السابقين المقربين صافية عن الكدورات المنغصة لساكنيها فارغة عن العاملات المعبسة لقاطنيها لا يقول أهلها إلا مع الحق ولا يسمعون إلا من الحق تجلي الحق لهم عن اسمه السلام المشتمل على السلامة من النقائص والآفات المتضمن للقربات والكرمات.
اعلم أن أعز السلام سلام الله على عباده كما قال سلام قولاً من رب رحيم ثم سلام الأرواح العالية كما حكى عن بعض الصالحين إنه قال : كان لي ابن استشهد فلم أره في المنام إلا ليلة توفي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو سابع الخلفاء ازثني عشر تراءى لي تلك الليلة فقلت : يا بني ألم تكن ميتاً؟ فقال : لا ولكني استشهدت وأنا حي عند الله أرزق فقلت له : ما جاء بك؟ فقال : نودي في أهل السماء ألا لا يبقى نبي ولا صديق ولا شهيد إلا ويحضر الصلة على عمر بن عبد العزيز فجئت لأشهد الصلاة ثم جئتكم لأسلم عليكم.
(9/263)
يقول الفقير : شاهدت في الحرمين الشريفين حضور الأرواح للصلوات والطواف وسلام بعضهم على بعض حتى سلمت أنا في السحر الأعلى عند مقام جبرائيل على الخلفاء الأربعة والملائكة أربعة ولله الحمد على ذلك :
سلام من الرحمن نحو جنابه
لأن سلامي لا يليق ببابه
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
{وَأَصْحَـابُ الْيَمِينِ} شروع في تفصيل ما أجمل عند التقسيم من شؤونهم الفاضلة أثر تفصيل شؤون السابقين وهو مبتدأ خبره جملة قوله : {مَآ أَصْحَـابُ الْيَمِينِ} أي لا ندري مالهم من الخير والبركة بسبب فواضل صفاتهم وكوامل محاسنهم {فِى سِدْرٍ} أي هم في سدر {مَّخْضُودٍ} أي غير ذي شوك لا كسدر الدنيا فإن سدر الدنيا مخلوق بشوك وسدر الجنة بلا شوك كأنه خضد شوكه أي قطع ونزع عنه فقوله سدر مخضود إما من باب المبالغة في التشبيه أو مجاز بعلاقة السببية فإن الخضد سبب لانقطاع الشوك وقيل مخضود أي مثنى أغصانه لكثرة حمله من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب فمخضود على هذا الوجه من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والسدر شجر النبق وهو ثمر معروف محبوب عند العرب يتخذون من ورقة الحرض وفي المفردات السدر سجر قليل الغذاء عند الأكل وقد يخضد ويستظل به فجعل ذلك مثل لظل الجنة ونعيمها قال بعضهم : ليس شيء من ثمر الجنة في غلف كما يكون في الدنيا من الباقلاء وغيره بل كلها مأكول ومشروب ومشموم ومنظور إليه {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} قد نضد حمله وتراكب بعضه على بعض من أسفله إلى أعلاه ليست له سوق بارزة وهو شجر الموز وهو شجر له أوراق كبار وظل بارد كما أن أوراق السدر صغار أو هو أم غيلان وله أنوار كثيرة منتظمة طيبة الرائحة يقصد العرب منه النزهة والزينة وإن كان لا يؤكل منه شيء وعن السدي شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل وعن مجاهد كان لأهل الطائف واد معجب فيه الطلح وانسدر فقالوا : يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي فنزلت هذه الآية وقد قال تعالى : وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فذكر لكل قوم ما يعجبهم ويحبون مثله وفضل طلح الجنة وسدرها على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} ممتد
324
لا ينتقص ولا يتفاوت كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس والعرب تقول للشيء الذي لا ينقطع ممدود وفي الحديث "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها" وعن ابن عباس رضي الله عنهما شجرة في الجنة على ساق يخرج إليها أهل الجنة فيتحدثون في أصلها ويتذكر بعضهم ويشتهي لهو الدنيا فيرسل الله ريحاً من الجنة فتحرك تلك الشجرة لكل لهو كان في الدنيا وقال في كشف الأسرار ويحتمل أن الظل عبارة عن الحفظ تقول فلان في ظل فلان أي في كنفه لأنه لا شمس هناك انتهى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/264)
يقول الفقير : بل المراد منه الراحة كما في قوله تعالى : وندخلهم ظلاً ظليلاً لأنه إنما يجلس المرء في الظل للاستراحة وكانت العرب يرغبون فيه لقلته في بلادهم وغلبة حرارة الشمس ومنه قوله عليه السلام السلطان ظل الله في أرضه يأوى إليه كل مظلوم أي يستريح عند عدله ومنه قولهم مد الله ظلاله أي ظلال عدله ورأفته حتى يصل أثر الاستراحة إلى الناس كلهم {وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} يسكب لهم ويصب أينما شاءوا وكيفما أرادوا بلا تعب أو مصبوب سائل يجري على الأرض في غير أخدود لا ينقطع يعني كون الماء مسكوباً كثيراً إما عبارة عن كونه ظاهراً مكشوفاً غير مختص ببعض الأماكن والكيفيات أو عن كونه جارياً وأكثر ماء العرب من الآبار والبرك فللا ينسكب فلا يصلون إلى الماء ءلا بالدلو والرشاء فوعدوا بالماء الكثير الجاري حتى يجري في الهواء على حسب الاشتهاء كأنه مثل حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن وحال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البواد إيقاناً بالتفاوت بين الحالين فكما أن بينهما تفاوتاً فكذا بين حاليهما {وَفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} بحسب الأنواع والأجناس {لا مَقْطُوعَةٍ} في وقت من الأوقات كفواكه الدنيا {وَلا مَمْنُوعَةٍ} عن متناوليها بوجه من الوجوه كبعد المتناول وانعدام ثمن يشترى به وشوك في الشجر يؤذث من يقصد تناولها وحائط يمنع الدخول ونحوها من المحظورات وفي الحديث ما قطعت ثمرة من ثمار الجنة إلا أبدل الله مكانها ضعفين {وَفُرُشٍ} جمع فراش وهو ما يبسط ويفرش أي هم في بسط {مَّرْفُوعَةٍ} أي رفيعة القدر أو مرتفعة وارتفاعها كما بين السماء والأرض وهو مسيرة خمسمائة عام أو مرفوعة على الأسرة وقيل الفرش هي النساء حيث يكنى بالفراش وباللباس والإزار عن المرأة وفي الحديث : "الولد للفراش" فسمى المرأة فراشاً وارتفاعها كونهن على الأرائك دل عليه قوله تعالى : {إِنَّآ أَنشَأْنَـاهُنَّ إِنشَآءً} وعلى الأول أضمرهن لدلالة ذكر الفرش التي هي المضاجع عليهن دلالة بينة والمعنى ابتدأنا خلقهن ابتداء جديداً من غير ولاد ابداء وإعادة إما الإبداء فكما في الحور لأنهن أنشأهن الله في الجنة من غير ولادة وأما الإعادة فكما في نساء الدنيا المقبوضة عجائز وفي الحديث "هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا" جمع شمطاء والشمط بياض شعر الرأس يخالطه سواد "رمصا" جمع رمضاء والرمص بالتحريك وسخ يجتمع في الموق جعلهن الله تعالى بعد الكبر أتراباً على ميلاد واحد في الاستواء كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك قالت : واوجعاه فقال عليه السلام : ليس هناك وجع وقد فعل الله في الدنيا بزكريا عليه السلام
325
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/265)
فقال تعالى : وأصلحنا له زوجه سئل الحسن عن ذلك الصلاح فقال : جعلها شابة بعد أن كانت عجوزاً ولوداً بعد أن كانت عقيماً وذلك قوله تعالى : {فَجَعَلْنَـاهُنَّ} بعد أن كن عجائز {أَبْكَارًا} أي عذارى جمع بكر والمصدر البكارة بالفتح قال الراغب البكرة أول النهار وتصور منها معنى التعجيل لتقدمها على سائر أوقات النهار فقيل لكل متعجل بكر وسميت التي لم تفتض بكراً اعتباراً بالثيب لتقدمها عليها فيما يراد له النساء قال سعدي المفتي : إن أريد بالإنشاء معنى الإبداء فالجعل بمعنى الخلق وقوله أبكاراً حال وإن أريد به الإعادة فهو بمعنى التصبير وأبكاراً مفعوله الثاني قال بعضهم : دل قوله فجعلناهن أبكاراً على أن المراد بهن نساء الدنيا لأن المخلوقة ابتداء معلوم أنها بكروهن أفضل وأحسن من حور الجنة لأنهن عملن الصالحات في الدنيا بخلاف الحور وعن الحسن رضي الله عنه قالت عجوز عند عائشة رضي الله عنها من بني عامر يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال : يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز فولت وهي تبكي فقال عليه السلام : أخبروها أنها ليست يومئذ بعجوز وقرأ الآية {عُرُبًا} جمع عروب كرسل جمع رسول وهي المتحبية إلى زوجها الحسنة التنقل واشتقاقه من أعرب إذا بين والعرب تبين محبتها لزوجها بشكل وغنج وحسن وفي المفردات امرأة عروبة معربة بحالها عن عفتها ومحبة زوجها وفي بعض التفاسير عرباً كلامهن عربى {أَتْرَابًا} جمع ترب بالكسر وهي اللدة والسن ومن ولد معك وهي تربى أي مستويات في سن بنت ثلاث وثلاثين سنة وكذا أزواجهن والقامة ستون ذراعاً في سبعة أذرع على قامة أبيهم آدم شباب جرد مكحولون أحسنهم كالقمر ليلة البدر وآخرهم كالكوكب الدري في السماء يبصر وجه في وجهها وتبصر وجهها في وجهه لا يبزقون ولا يتمخطون وما كان فوق ذلك من الأدى فهو أبعد وفي الحديث "إن الرجل ليفتض في الغداة سبعين عذراء ثم ينشئهن الله أبكاراً" وقال عليه السلام : "إن الرجل من أهل الجنة ليزوج خمسمائة حوراء وأربعة آلاف ثيب وثمانية آلاف بكر يعانق كل واحدة منهن مقدار عمره في الدنيا" ودر تبيان آورده كه جمله راببهشت آرند بدين سن سازند وبشو هرد هند وعجوزه را نيزرد كنند بدين سن اكر شوهر نداشته باشد دردنيا ببعضي ازاهل بهشت دهند واكر شوهر داشته باشد اما شوهر اواز اهل بهشت نبوده ون امرأة فرعون اورابيكى از بهشتيان دهند واكر زوج او بهشتى بود بازيدو ارزانى دارند واكر زياده ازيك شوهر داشته باشد وهمه بهشتى باشند بزوج اخرين نامزد كنند وفي الحديث "أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة وينصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء" الجابية بالجيم بلد بالشام وصنعاء بلد باليمن كثيرة الأشجار والمياه تشبه دمشق وفي الحديث "تقول الحوراء لولي الله كم من مجلس من مجالس ذكر الله قد أكرمك به العزيز أشرفت عليك بدلالي وغنجي وأترابي وأنت قاعد بين أصحابك تخطبني إلى الله فترى شوقك كان يعدل شوقي أو جدك كان يعدل جدي والذي أكرمني بك وأكرمك بي ما خطبتني إلى الله مرة إلا خطبتك إلى الله سبعين مرة فالحمدالذي أكرمني بك وأكرمك بي"
326
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
{لِّأَصْحَـابِ الْيَمِينِ} متعلقة بأنشأنا {ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الاخِرِينَ} أي هم أمة من الأولين وأمة من الآخرين وفي الحديث "هم جميعاً من أمتي" أي الثلثان من أمتي فعلى هذا التابعون بإحسان ومن جرى مجراهم ثلة أولى وسائر الأمة ثلة أخرى في آخر الزمان وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوماً فقال : عرضت على الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان معه الرهط والنبي ليس معه رهط والنبي ليس معه أحد ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق فقيل لي : انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق فقيل لي : هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وفي رواية عليه السلام بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : عرضت على الأنبياء الليلة بأتباعها حتى أتى علي موسى في كبكبة من بني إسرائيل أي في جماعة منهم فلما رأيتهم أعجبوني فقلت : أي رب من هؤلاء قيل هذا أخوك موسى ومن معه من بني إسرائيل فقلت : فأين أمتي قيل : انظر عن يمينك فإذا ظراب مكة قد سدت بوجوه الرجال وهو جمع ظرب ككتف وهو ما نتأمن الحجارة وحد طرفه والجبل المنبسط أو الصغير كما في القاموس قيل هؤلاء أمتك أرضيت قلت رب رضيت رب رضيت قيل انظر عن يسارك فإذا الأفق سد بوجوده الرجال قيل هؤلاء أمتك أرضيت قلت رب رضيت رب رضيت فقيل : إن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب عليهم فقال نبي الله صلى الله عليه وسلّم إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا وإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الظراب وإن عجزتم فكونوا من الأفق فإني قد رأيت ثمة أناساً يتهاوشون كثيراً.
(9/266)
يعني اكر عاجز آييد س باشيد از اهل افق كه من ديدم آنجا مردم بسيار مختلط بودند.
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 35 من صفحة 327 حتى صفحة 336
قال في القاموس : الله تعالى لهوش العدد الكثير والهوشة الاختلاط والهويشة الجماعة المختلطة والهواشات بالضم الجماعات من الناس والتهاوش في الحديث جمع تهواش مقصور من التهاويش تفعال من الهوش وتهوشوا اختلطوا كتهاوشوا وعليه اجتمعوا وهاوشهم وخالطهم.
ـ وروي ـ أنه قال صلى الله عليه وسلّم أني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ثم تلاثلة من الأولين وثلة من الآخرين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
يقول الفقير الذي يتحصل من هذا أن الأبرار كثير من هذه الأمة في أوائلها وأواخرها وكذا من الأمم السابقة وأما السابقون فكثير من هذه الأمة في أوائلها دون أواخرها كما دلت عليه الآية المتقدمة وكذا قول الحسن البصري رحمه الله حيث قال : رأيت سبعين بدرياً كانوا فيما أحل الله لهم ازهد منكم فيما حرم الله عليكم وكانوا بالبلاء أشد منكم فرحاً بالرخاء لو رأيتموهم قلتم مجانين ولو رأوا أخياركم قالوا ما لهؤلاء من خلاق ولو رأوا أشراركم حكموا بأنهم لا يؤمنون بيوم الحساب إن عرض عليهم الحلال من المال تركوه خوفاً من فساد قلوبهم انتهى وأما السابقون من الأمم السالفة فإن انضم إليهم الأنبياء فهم أثر من سابقي هذه الأمة وإلا فلا كما حققناه سابقاٌ وذلك إن زهاد الأمم وإن كانوا أثر من زهاد هذه الأمة لكنهم لعدم استقرار أكثرهم على اليقين قلوا وأما هذه الأمة فمن قلتهم بالنسبة إليهم كثروا لثباتهم على اليقين والاعتقاد والاعتصام بالقرآن كما ورد في
327
بعض الأخبار {وَأَصْحَـابُ الشِّمَالِ} شروع في تفصيل أحوالهم وهم الكفار لقوله تعالى : والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة {مَآ أَصْحَـابُ الشِّمَالِ} أي لا تدري مالهم من الشر وشدة الحال يوم القيامة {فِى سَمُومٍ} أي هم في حر نار تنفذ في المسام وهي ثقب البدن وتحرق الأجساد والأكباد قال في القاموس : السموم الريح الحارة تكون غالباً في النهار والحرور الريح الحارة بالليل وقد تكون بالنهار {وَحَمِيمٍ} وهو الماء المتناهى في الحرارة {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} من دخان أسود بهيم فإن اليحموم الدخان والأسود من كل شيء كما في القاموس يفعول من الحمة بالضم وهو الفحم تقول العرب أسود يحموم إذا كان شديد السود قال الضحاك : النار سوداء وأهلها سود وكل شيء فيها أسود ولذا لا يكون ف يالجنة الأسود إلا الخال وأشفار العين والحاجب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
يقول الفقير : فيه تحذير عن شرب الدخان الشائع في هذه اعصار فإنه يرتفع حين شربه ويكون كالظل فوق شاربه مع ما لشربه من الغوائل الكثيرة ليس هذا موضع ذكرها فنسأل الله العافية لمن ابتلى به إذ هو مما يستخبثه الطباع السليمة وهو حرام كما عرف في التفاسير {لا بَارِدٍ} كسائر الظلال {وَلا كَرِيمٍ} ولا نافع من أذى الحر لمن يأوى إليه نفى بذلك ما أوهم الظل من الاسترواح يعني أنه سماه ظلاً ثم نفى عنه وصيفة البرد والكرم الذي عبر به عن دفع أذى الحر لتحيق أنه ليس بظل والكرم صفة لكل ما يرضى ويجري في بابه والظل يقصد لفائدتين لبرودته ودفع أذى الحر وإن لم تحصل الاستراحة بالبرد لعدمه كمن في البيوت المسدودة الأطراف بحيث لا يتحرك فيها الهواء فإن من يأوى إليها يتخلص بها من أذى حر الشمس وإن لم يستروح ببردها وفيه تهكم بأصحاب المشأمة وأنهم لا يستأهلون للظل البارد والكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ مُتْرَفِينَ} تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب يقال ترف كفرح تنعم وأترفته النعمة أطغته وأنعمته وفلان أصر على البغي والمترف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء فلا يمنع كما في القاموس أي إنهم كانوا قبل ما ذكر من سوء العذاب في الدنيا منعمين بأنواع النعم من المآكل والمشارب والمساكن الطيبة والمقامات الكريمة منهمكين في الشهوات فلا جرم عذبوا بنقائضها {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} أي الذنب العظيم الذي هو الشرك ومنه قولهم : بلغ الغلام الحنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب وحنث في يمينه خلاف بر فيها وقال بعضهم : الحنث هنا الكذب لأنهم كانوا يحلفون بالله مع شركهم لا يبعث الله من يموت.
(9/267)
يقول الفقير : يدل على هذا ما يأتي من قوله ثم إنكم أيها الضالون المكذبون والحكمة في ذكر سبب عذابهم مع أنه لم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين التنبيه على أن ذلك الثواب منه تعالى فضل لا تستوجبه طاعة مطيع وشكر شاكر وإن العقاب منه تعالى عدل فإذا لم يعلم سبب العقاب يظن أن هناك ظلماً وفي الآية إشارة إلى سموم نار البعد والحجاب وحميم القهر والغضب وظل شجرة الجهل ما فيه برد اليقين كسائر الظلال ولا يسكن حرارة عطشهم من طلب الدنيا ولذاتها وما فيه كرم الهمة أيضاً حتى يعينهم على ترك الدنيا وزينتها وزخار فهابل لا يزالون يطلبون من الدنيا ما ليس فيها من الاستراحة والاسترواح إنهم كانوا قبل ذلك
328
مترفين يعني ما كان استظلالهم بشجرة الجهل المركب التي ليس فيها برد اليقين ولا كرم الهمة إلا بسبب استعداداتهم الذاتية المجبولة على جب الشهوات واللذات قبل دخولهم في الوجود العيني وأيضاً كان استظلالهم بشجرة الجهل لأنهم كانوا في محبة النفس والدنيا متمكنين في الأزل إذ الحنث العظيم هو حب النفس وحب الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلّم "حب الدنيا رأس كل خطيئة" :
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
هر اطاعت نفس شهوت برست
كه هر ساعتش قبله ديكر است
برمرد هشيار دنيا خست
كه هر مدتي جاى ديكر كسست
{وَكَانُوا} مع شركهم {يَقُولُونَ} لغاية عتوهم وعنادهم {أَاـاِذَا مِتْنَا} آيا وقتى كه بميريم {وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا} أي كان بعض أجزائنا من اللحم والجلد تراباً وبعضها عظاماً نخرة وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابه من الأجزاء البادية وإذا ممحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه قوله تعالى : {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لأنفسه لأن ما بعدان واللام والهمزة لا يعمل فيها قبلها وهو البعث وهو المرجع وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له بالكلية وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتيت في المبعوية بالفعل في حال كونهم تراباً وعظاماً بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة {أَوَ ءَابَآؤُنَا الاوَّلُونَ} الواو للعطف على المستكن في لمبعوثون.
يعني آيا ما دران ودران يشين مانيز مبعوث شوند {قُلْ} رداً لإنكارهم وتحقيقاً للحق {إِنَّ الاوَّلِينَ وَالاخِرِينَ} من الأمم الذين من جملتهم أنتم وآباؤكم.
وبالفارسية بدرستى كه يشينيان از آباى شما وغير آن ويشينيان از شما وغير شما.
وفي تقديم الأولين مبالغة في الرد حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودي {لَمَجْمُوعُونَ} بعد الموت وكأنه ضمن الجمع معنى السوق فعدى تعديته بإلى ولذا قال : {إِلَى مِيقَـاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} إلى ما وقتت به الدنيا وحدت من يوم معلوممعين عنده وهو يوم القيامة والإضافة بمعنى من كخاتم فضة والميقات هو الوقت المضروب للشيء ينتهي عنده أو يبتدأ فيه ويوم القيامة ميقات تنتهي الدنيا عنده وأول جزء منه فالميقات الوقت المحدود وقد يستعار للمكان ومنه مواقيت الإحرام للحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرماً {ثُمَّ إِنَّكُمْ} الخطاب لأهل مكة وإضرابهم عطف على أن الأولين داخل تحت القول وثم للتراخي زماناً أو رتبة {أَيُّهَا الضَّآلُّونَ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
عن الحق والهدى {الْمُكَذِّبُونَ} أي البعث {لاكِلُونَ} بعد البعث والجمع ودخول جهنم {مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} من الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر وتفسيره أي مبتدئون الأكل من شجر هو الزقوم وهو شجر كريه المنظر والطعم حار في اللمس منتن في الرائحة وهي الشجرة الملعونة في القرآن قال أهل الحقيقة : سدرة المنتهى أغصانها نعيم لأهل الجنة وأصولها زقوم لأهل النار فهي مبدأ اللطف والقهر والجمال والجلال {فَمَالِـاُونَ} س ركنند كان باشيد.
يقال ملأ الإناء فهو مملوء من باب قطع والملىء بالكر مقدار ما يأخذه الإناء إذا امتلأ {مِنْهَا} أي من ذلك الشجر والتأنيث باعتبار المعنى {الْبُطُونَ} أي
329
(9/268)
بطونكم من شدة الجوع أو بالقسر وفيه بيان لزيادة العذاب وكماله أي لا يكتفي منكم بنفس الأكل كما لا يكتفي من يأكل الشيء تحلة القسم بل تلزمون بأن تملأوا منها البطون أي يملأ كل واحد منكم بطنه أو بطون الإمعاء والأول أظهر والثاني أدخل في التعذيب {فَشَـارِبُونَ عَلَيْهِ} أي على شجر الزقوم أي عقيب ذلك بلا ريث لعطشكم الغالب وتذكير ضمير الشجر باعتبار اللفظ {مِنَ الْحَمِيمِ} أي الماء الحار في الغاية {فَشَـارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} كالتفسير لما قبله أي لا يكون شربكم شرباً معتاداً بل يكون مثل شرب الهيم وهي الإبل التي بها الهيام وهوداء يصيبها يشبه الاستسقاء فتشرب ولا تروي إلى أن تموت أو تسقم سقماً شديداً جمع أهيم وهيماء فأصله هيم كأحمر وحمر وفقلبت الضمة كسرة لتصح الياء والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع والتهاب النار في أحشائهم ما يضطرهم إلى أهل الزقوم الذي هو كالمهل فإذا ملأوا منه بطونهم وهو في غاية الحرارة والمرارة سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع إمعاءهم فيشربونه شرب الإبل العطاش وفيه بيان لزيادة العذاب أيضاً أي لا يكون شربكم أيها الضالون كشرب من يشرب ماء حاراً منتناً فإنه يمسك عنه إذا وجده مؤلماً معذباً بخلاف شربكم فإنكم تلزمون بأن تشربوا منه مثل ما يشرب الجمل الأهيم فإنه يشرب ولا يروى وفي الآية إشارة إلى إفراط النفس والهوى في شرب ماء حميم الجهل والضلال وفي أكل زقوم المشتهيات المورثة للوبال ولغاية حرصها لا تزيد إلا جوعاً وعطشاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب :
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
كجا ذكر كنجد در انبان آز
بسختى نفس ميكند ا دراز
{هَـاذَا} الذي ذكر من الزقوم والحميم أول ما يلقونه من العذاب {نُزُلُهُمْ} أيرزقهم المعد لهم أي كالنزل الذي يعد للنازل مما حضر مكرمة له {يَوْمَ الدِّينِ} أي يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم فما ظنك بحالهم بعدما استقر لهم القرار واطمأنت بهم الدار في النار وفيه من التهكم ما لا يخفى كما في قوله تعالى فبشرهم بعذاب أليم لأن ما يعد لهم في جهنم ليس مكرمة لهم والجملة مسوقة من جهته تعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول {نَحْنُ خَلَقْنَـاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي فهلا تصدقون أيها الكفرة بالخلق فإن ما لا يحققه العمل ولا يساعده بل ينبىء عن خلافه ليس من التصديق في شيء أو بالبعث فإن من قدر على الإبداء قدر على الإعادة.
اعلم أن الله تعالى إذا أخبر عن نفسه بلفظ الجميع يشير به إلى ذاته وصفاته وأسمائه كما قال : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وكما قال : إنا أنزلناه وإذا أخبر عن نفسه بلفظ المفرد يشير إلى ذاته المطلقة كما قال : إني أنا الله رب العالمين هذا إذا كان القائل المخبر هو الله تعالى وأا إذا كان العبد فينبغي أن يقول أنت يا رب لا أنتم لإيهامه الشرك المنافي لتوحيد القائل ولذا يقال أشهد أن لا إله إلا الله ليدل على شهادته بخصوصه فيتعين توحيده ويظهر تصديقه {أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} أي تقذفونه وتصبونه في أرحام النساء من النطف التي يكون منها الولد فقوله أفرأيتم بمعنى أخبروني وما تمنون مفعوله الأول والجملة الاستفهامية مفعوله الثاني يقال : أمنى الرجل يمنى لا غير ومنيت
330
الشيء أمنيه إذا قضيته وسمي المني منياً لأن الخلق منه يقضي {ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} أي تقدرونه وتصورونه بشراً سوياً في بطون النساء ذكراً أو أنثى {أَمْ نَحْنُ الْخَـالِقُونَ} له من غير دخل شيء فيه وأم قيل منقطعة لأن ما بعدها جملة فالمعنى بل أنحن الخالقون على أن الاستفهام للتقرير وقيل متصلة ومجيء الخالقون بعد نحن بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة وفيه إشارة إلى معنى أن وقوع نطف الأعمال والأفعال وموادها في أرحام قلوبكم ونفوسكم بخلقي وإرادتي لا بخلقكم وإرادتكم ففيه تخصيص مواد لخواطر المقتضية للأفعال والأعمال الأقوال إلى نفسه وقدرته وسلبها عن الخلق {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أي قسمناه عليكم ووقتنا موت كل أحد بوقت معين حسبنا تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة فمنهم من يموت صغيراً ومنهم من يموت كبيراً.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/269)
يقول الفقير : قيل لي في بعض الأسحار اصبر ولا يكون إلا ما قدر الله تعالى فمرضت بعد أيام ابنتي أمة الله حتى ماتت جعلها الله فرطاً وذخراً وشافعة ومشفعة وقد ثبت أن إبراهيم عليه السلام تعلق بإسماعيل فابتلى بذبحه وكذا يعقوب عليه السلام تعلق بيوسف فابتلى بالفراق فهذه كلها مقادير يحب الرضى بها {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي قادرون {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ} منكم {أَمْثَـالَكُمْ} لا يغلبنا أحد على أن نذهبكم ونأتي مكانكم بأشباهكم من الخلق يقال سبقته على كذا أي غلبته عليه وغلب فلان فلاناً على الشيء إذا أخذه منه بالغلبة {وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لا تَعْلَمُونَ} من الخلق والأطوار لا تعهدون بمثلها وقال الحسن البصري رحمه الله : أي نجعلكم قردة وخنازير كمن مسخ قبلكم إن لم تؤمنوا برسلنا يعني لسنا عاجزين عن خلق أمثالكم بدلاً منكم ومسخكم من صوركم إلى غيرها ويحتمل أن الآية تنحو إلى الوعيد فالمراد إما إنشاؤهم في خلق لا يعلمونها أو صفات لا يعلمونها يعني كيفيات من الألوان والأشكال وغيرها وفي الحديث "إن أهل الجنة جرد مرد وإن الجهنمي ضرسه مثل أحد" وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى ليس بعاجز عن تبديل الصفات البشرية بالصفات الملكية وجعل السالكين مظهر الصفات غير صفاتهم التي هم عليها إذ توارد الصفات المختلفة المتباينة على نفس واحدة على مقتضى الحكمة البالغة ليس من المحال ألا ترى إلى الجوهر الواحد فإنه يصير تارة فضة وأخرى ذهباً بطرح الأكسير {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ} أي الخلقة {الاولَى} هي خلقتهم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وقيل هي فطرة آدم من التراب {فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} فهلا تتذكرون إن من قدر عليها قدر على النشأة الأخرى حتماً فإنها أقل صنعاً لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثال :
آنكه مارا زخلوت نابود
مى كشد تابجلوه كاه وجود
بار ديكركه از سموم هلاك
روى وشيم زير رده خاك
هم نواند با مركن فيكون
كارد از كوشه لحد بيرون
وفي الخبر عجباً كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى وعجباً للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور وف يالآية دليل على صحة القياس حيث جهلهم
331
في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى القياس إذا كان جهلاً كان القياس علماً وكل ما كان من قيل العلم فهو صحيح.
وفي المثنوي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
مجتهد هركه كه باشد نص شناس
اندر آن صورت نينديشد قياس
ون نيايد نص اندر صورتى
از قياس آنجا نمايد عبرتى
اين قياسات وتحرى روز ابر
تابشت مر قبله را كردست حبر
ليك با خورشيد وكبعه يش رو
اين قياس واين تحرى مجو
ومنه يعلم بطلان قياس إبليس فإنه قياس على خلاف الأمر عنده وروده.
كما قال في المثنوي :
أول آنكس كين قياسكها نمود
يش انوار خدا ابليس بود
كفت نار ازخاك بى شك بهرست
من ز نار واوز خاك اكدرست
س قياس فرع براصلش كنيم
اوز ظلمت ما زنور روشنيم
كفت حق نى بلكه لا انساب شد
زهد وتقوى فضل را محراب شد
(9/270)
وفيه إشارة إلى أنا إذا قدرنا على إنشاء النشأة الأولى البشرية الطبيعية الدنيوية مع عدم مادة من المواد الصفاتية فمن استعجز قردة الله فقد كفر ألا ترى إلى محرومي البداية مرزوقي النهاية مثل ابراهيم بن أدهم وفضيل بن عياض ومالك بن دينار وغيرهم قدس الله أسرارهم فإن الله تعالى أنشأهم نشأة أخرى ولو بعد حين {أَفَرَءَيْتُمُ} أخبروني وبالفارسية أخبار كنيد {مَّا تَحْرُثُونَ} أي تبذرونه من الحب وتعملون في أرضه بالسقي ونحوه والحرثة إلقاء البذر في الأرض وتهيئتها للزرع {ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} تنبتونه وتردونه نباتاً يربو وينمو إلى أن يبلغ الغاية {أَمْ نَحْنُ الزاَّرِعُونَ} أي المنبتون لا أنتم والزرع الإنبات وحقيقة ذلك يكون بالأمور الإلهية دون البشرية ولذا نسب الحرث إليهم ونفى عنهم الزرع ونسبه إلى نفسه وفي الحديث "لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت فإن الزارع هو الله" والحاصل أن الحرث فعلهم من حيث أن اختيارهم له مدخل في الحرث والزرع خالص فعل الله فإن إنيات السنبل والحب لا مدخل فيه لاختيار العبد أصلاً وإذا نسب الزرع إلى العبد فلكونه فاعلاً للأسباب التي هي سبب الزرع والإنبات في الأسئلة المقحمة الأصح إن الحرث والزرع واحد كقوله تعالى : ولا تسقي الحرث فهلا أضاف الحرث إلى نفسه أيضاً والجواب أن إضافة الحرث إلينا إضافة الاكتساب وإضافته إلى نفسه إضافة الخلق والاختراع كقوله تعالى : وما رميت إذ رميت قال الحليمي يستحب لكل من ألقى في الأرض بذراً أن يقرأ بعد الاستعاذة أفرأيتم إلى قوله بل نحن محرومون ثم يقول الله الزارع والمنبت والمبلغ اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وارزقنا ثمره وجنبنا ضرره واجعلنا لأنعمك من الشاكرين ويقال إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات الدود والجراد وغير ذلك وفي الآية امتنان ليشكروا على نعمة الزرع واستدلال بأن من قدر على الإنبات قدر على الإعادة فكما أنه ينبت الحب في الأرض وينبت بذر النطفة في الرحم فكذا ينبت من حب عجب الذنب في القبر فإن كلها حب وذلك لأن بذر النطفة وكذا عظم عجب الذنب شيء كخردلة كما
332
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
أسلفناه {لَوْ نَشَآءُ} لو للمضي وإن دخل على المضارع ولذا لا يحزمه فهو شرط غير جازم أي لو أردنا أي الزرع بمعنى المزروع {حُطَـامًا} الحطم كسر الشيء مثل الهشم ونحوه ثم استعمل لكل كسر متناه والمعنى هشيما أي يابساً متكسراً متفتتاً بعدما أنبتناه وصار بحيث طمعتم في حيازة غلاله وجمعها {ظَلَمْتُمْ} أي فصرتم بسبب ذلك {تَفَكَّهُونَ} تتعجبون من سوء حاله أثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال أو تندمون على ما فعلتم فيه من الاجتهاد وأنفقتم عليه أو تندمون على ما أصبتم لأجله من المعاصي فتتحدثون فيه والتفكه التنقل بصنوف الفاكهة وقد استعير للتنقل بالحديث وقرىء تفكنون بالنون والتفكن التعجب والتفكر والتندم ومنه الحديث مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء فبيناهم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم يتفكنون أي يتندمون والحمة العين الحارة من الحميم وهو الماء الحار يستشفى به الإعلاء والمرضى {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} حال من فاعل تفكهون أي قائلين إنا لملزمون غرامة ما أنفقنا والغرامة أن يلزم الإنسان ما ليس في ذمته وعليه كما في المغرب أو مهلكون بهلاك رزقنا أو بشؤم معاصينا من الغرام وهو الهلاك {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا رزقنا أو محدودون لا مجدودون أي ممنوعون من الحد وهو المنع لا حظ لنا ولا جد ولا بخت ولو كنا مجدودين لما فسد علينا هذا.
(9/271)
ـ روي ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأرض الأنصار فقال : ما يمنعكم من الحرث قالوا : الجذوبة قال : أفل تفعلون فإن الله تعالى يقول : أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر ثم تلا رسول الله عليه السلام أفرأيتم ما تحرثون الآية ففي الحديث إشارة إلى أن الله تعالى هو الذي يعطي ويمنع بأسباب وبغيرها فالتوحيد هو أن يعتقد أن التأثير من الله تعالى لا من غيره كالكوكب ونحوه فإنه يتهم النفس بالمعصية القاطعة للرزق وفي الحديث ما سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فءذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار وفي الحديث : "دم على الطهارة يوسع عليك الرزق" فإذا كان توسيع الرزق في الطهارة فتضييقه في خلافها والرزق ظاهر وباطن وكذا الطهارة والنجاسة فلا بد لطالب الرزق مطلقاً أن يكون على طهارة مطلقة دائماً فإن قلت فما حال أكل السلف فإنهم كانوا فقراء مع دوام الطهارة قلت : كان السلف في الرزق المعنوي أكثر من الخلف وهو المقصود الأصلي من الرزق وإنما كانوا فقراء في الظاهر لكمال افتقارهم الحقيقي كما قال عليه السلام : اللهم أغنني بالافتقار إليك فمنعوا عني الغنى الصوري تطبيقاً لكل من الظاهر والباطن بالآخر فهم أغنى الأغنياء في صورة الفقراء وما عداهم ممن ليس على صفتهم أفقر الفقراء في صورة الأغنياء فالمرزوق من رزق غذاء الروح من الواردات والعلوم والفيوض والمحروم من حرمه فاعرفه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
أسلفناه {لَوْ نَشَآءُ} لو للمضي وإن دخل على المضارع ولذا لا يحزمه فهو شرط غير جازم أي لو أردنا أي الزرع بمعنى المزروع {حُطَـامًا} الحطم كسر الشيء مثل الهشم ونحوه ثم استعمل لكل كسر متناه والمعنى هشيما أي يابساً متكسراً متفتتاً بعدما أنبتناه وصار بحيث طمعتم في حيازة غلاله وجمعها {ظَلَمْتُمْ} أي فصرتم بسبب ذلك {تَفَكَّهُونَ} تتعجبون من سوء حاله أثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال أو تندمون على ما فعلتم فيه من الاجتهاد وأنفقتم عليه أو تندمون على ما أصبتم لأجله من المعاصي فتتحدثون فيه والتفكه التنقل بصنوف الفاكهة وقد استعير للتنقل بالحديث وقرىء تفكنون بالنون والتفكن التعجب والتفكر والتندم ومنه الحديث مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء فبيناهم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم يتفكنون أي يتندمون والحمة العين الحارة من الحميم وهو الماء الحار يستشفى به الإعلاء والمرضى {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} حال من فاعل تفكهون أي قائلين إنا لملزمون غرامة ما أنفقنا والغرامة أن يلزم الإنسان ما ليس في ذمته وعليه كما في المغرب أو مهلكون بهلاك رزقنا أو بشؤم معاصينا من الغرام وهو الهلاك {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا رزقنا أو محدودون لا مجدودون أي ممنوعون من الحد وهو المنع لا حظ لنا ولا جد ولا بخت ولو كنا مجدودين لما فسد علينا هذا.
ـ روي ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأرض الأنصار فقال : ما يمنعكم من الحرث قالوا : الجذوبة قال : أفل تفعلون فإن الله تعالى يقول : أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر ثم تلا رسول الله عليه السلام أفرأيتم ما تحرثون الآية ففي الحديث إشارة إلى أن الله تعالى هو الذي يعطي ويمنع بأسباب وبغيرها فالتوحيد هو أن يعتقد أن التأثير من الله تعالى لا من غيره كالكوكب ونحوه فإنه يتهم النفس بالمعصية القاطعة للرزق وفي الحديث ما سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فءذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار وفي الحديث : "دم على الطهارة يوسع عليك الرزق" فإذا كان توسيع الرزق في الطهارة فتضييقه في خلافها والرزق ظاهر وباطن وكذا الطهارة والنجاسة فلا بد لطالب الرزق مطلقاً أن يكون على طهارة مطلقة دائماً فإن قلت فما حال أكل السلف فإنهم كانوا فقراء مع دوام الطهارة قلت : كان السلف في الرزق المعنوي أكثر من الخلف وهو المقصود الأصلي من الرزق وإنما كانوا فقراء في الظاهر لكمال افتقارهم الحقيقي كما قال عليه السلام : اللهم أغنني بالافتقار إليك فمنعوا عني الغنى الصوري تطبيقاً لكل من الظاهر والباطن بالآخر فهم أغنى الأغنياء في صورة الفقراء وما عداهم ممن ليس على صفتهم أفقر الفقراء في صورة الأغنياء فالمرزوق من رزق غذاء الروح من الواردات والعلوم والفيوض والمحروم من حرمه فاعرفه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
وفي المثنوي :
فهم نان كردن نه حكمت اى رهى
زانكه حق كفت كلوا من رزقه
رزق حق حكمت بود در مرتبت
كان كلوا كيرت نباشد عاقبت
آن دهان بستى دهانى بازشد
كه خورنده لقمهاى راز شد
333
كرز شير ديوتن را رورى
در فطام او بسى نعمت خورى
(9/272)
{أَفَرَءَيْتُمُ} خبر نماييد {الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ} عذباً فراتاً وتخصيص هذا الوصف بالذكر مع كثرة منافعه لأن الشرب أهم المقاصد المنوطة به {ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} أي من السحاب واحده مزنة وقيل : هو السحاب الأبيض وماؤه أعذب {أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} له بقدرتنا والرؤية إن كانت بمعنى العلم فمعلقة بالاستفهام وإن كانت بمعنى الابصار أو المعرفة فالجملة الاستفهامية استئناف وهذا هو اختيار الرضى {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَـاهُ أُجَاجًا} ملحاً زعاقاً لا يمكن شربه وحذف اللام في الشرطية الأولى للفرق بين المطعوم والمشروب في الأهمية وصعوبة الفقد يعني أن أمر المطعوم ههنا مع إثباتها مقدم على أمر المشروب وإن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} فهلا تشكرون ما ذكر جميعاً من المطعوم والمشروب بتوحيد منعمه وإطاعة أمره أو فلولا تشكرون على أن جعلناه عذباً وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن تحت العرش بحراً تنزل منه أرزاق الحيوانات يوحي الله إليه فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى سماء الدنيا ويوحي إلى السماء أن غربليه فتغربله فليس من قطرة تقطر إلا معها ملك يضعها موضعها ولا ينزل من السماء قطرة الإبكيل معلوم ووزن معلوم إلا ما كان من يوم الطوفان فإنه نزل بغير كيل ولا وزن وقال بعض الحكماء : إن المطر يأخذه قوس الله من البحر إلى السحاب ثم ينزل من السحاب إلى الأرض قال بعضهم : هو أدخل في القدرة لأن ماء البحر مر فيصعد ملحاً وينزل عذباً وفي الآية إشارة إلى أن بعض بلاد العرب ليس لها آبار ولا أنهار جارية فلا يشرب أهلها إلا من المطر في المصانع فمنها القدس الشريف وينبع وجدة المحروسة ونحوها وللماء العذب مزيد فضل في هذه البلاد ولذا امتن الله به على العباد وفيها إشارة إلى ماء معرفة والعلم الإلهي فإنه ليس بالكسب والاجتهاد بل بمحض عطاء الله تعالى ولو شاء الله لجهل الماء العذب الجاري من مشرب الكشف والشهود ماء ملحاً جارياً من مشرب الحجاب والاحتجاب والجهالة والضلالة فلا بد من الشكر على نعم المعارف والحقائق والحكم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
واعلم أن من حفر بئراً فإما أن يصل إلى الماء أو لا فإن وصل فإما أن يكون ذلك الماء مالحاً أو عذباً فعلى تقدير كونه عذباً ليس كالمطر الحاصل بلا أسباب فإٌّه طيب طاهر خالص فهذا مثل علم علماء الرسوم ومثل علم علماء الحقيقة فإن الأنبياء والأولياء ملهمون من عند الله تعالى ولا خطأ في لوحي والإلهام أصلاً ولذا نقول : إن علم الصوفية هو العلم الصواب كله فعلمهم تذكري ليس لهم احتياج إلى ترتيب المقدمات بخلاف علماء الرسوم فإن علمهم تفكري هتاج إلى ذلك ولا بد لطالب الفيض من تهيئة المحل قبل وروده ألا ترى إلى صاحب الحرث فإنه يشتغل بتهيئة الأرض وإلقاء البذر ولا يدري من ينزل المطر فإذا نزل أصاب محزه.
ثم اعلم أن الروح ينزل بالمطر وله تعين في كل نشأة بما يناسبه فعند تمام الخلقة في الرحم ينفخ الله تعالى الروح وهو عبارة عن تعين الروح وظهوره لكن عبر عنه بالنفخ لأن العقل قاصر عن دركه وكان عليه السلام يكشف رأسه عند نزول المطر ويقول حديث عهد بربه فالروح أي روح كان سبب للحياة مطلقاً
334
فينبغي تلقي التجليات الواردة من قبل الحق بهيئة المحل كما أن النبي عليه السلام كشف رأسه وهيأ محل نزول المطر وذلك لأن المطر ينزل من العلو فلقي على أعلى شيء في الإنسان وهو الرأس {أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ} الإيراء آتش از آتش زنه بيرون كردن.
أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر ويسمون الأعلى الزند والأسفل الزندة شهوهما بالفحل والطروقة يقال ناقة طروقة أي بلغت أن يضربها الفحل لأن الطرق الضرب {ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ} التي منها الزناد وهي المرخ والعفار كما مر في صورة يس {أَمْ نَحْنُ الْمُنشِـاُونَ} لها بقدرتنا {نَحْنُ جَعَلْنَـاهَا تَذْكِرَةً} استئناف مبين لمنافعها أي جعلنا نار الزناد تذكير النار جهنم من حيث عقلنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ويذكروا ما أوعدوا به من نار جهنم أو تذكرة وموعظة وأنموذجاً من جهنم لما روى عن النبي عليه السلام : "ناركم هذه التي يوقدها بنو آدم جزء من سبعين جزأ من حر جهنم" وقيل تبصرة في أمر البعث فإنه ليس أبدع من إخراج النار من الشيء الرطب وفي عين المعاني وهو حجة على منكري عذاب القبر حيث تضمن النار ما لا يحرق ظاهره
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/273)
{وَمَتَـاعًا} ومنفعة وبلغة لأن حمل النار يشق {لِّلْمُقْوِينَ} للذين ينزلون القواء بالفتح وهو القفر الخالي عن الماء والكلام والعمارة وهم المسافرون وتخصيصهم بذلك لأنهم أحوج إليها ليهرب منها السباع ويسطلوا من البرد ويجففوا ثيابهم ويصلحوا طعامهم فإن المقيمين أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد وتأخير هذه المنفعة للتنبيه على أن الأهم هو النفع الأخروي يقال أقوى الرجل إذا نزل في الأرض القواء كأصحر إذا دخل في الصحراء وفي الحديث : "قال النبي عليه السلام لجبريل مالي أر ميكائيل ضاحكاً قط قال : ما ضحك ميكائيل منذر خلقت النار" وعن أنس رضي الله عنه يرفعه أن أدنى أهل النار عذاباً الذي يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه في رأسه وفيه بيان شدة نار جهنم وإنها ليست كنار الدنيا وقانا الله وإياكم منها وفي الآية إشارة إلى نار المحبة المشتعلة الموقدة بمقدح الطلب في حراقة قلب المحب الصادق في سلوك طريق الحق وشجرتها هي العناية الإلهية السرمدية يدل هذا التأويل قول العارف أبي الحسين المنصور قدس سره حين سئل عن حقيقة المحبة هي العناية الإلهية السرمدية لولاها ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان نحن جعلناها تذكرة لأرباب النفوس البشرية ليهتدوا بنورها إلى سلوك طرق الحق ومتاعاً للمقوين أي غذاء لأرواح المحبين الطاوين أياماً وليالي عن الطعام والشراب كما حكي عن سعل التستري رحمه الله أنه كان يطوي ثلاثين يوماً وعن أبي عقيل المغربي قدس سره أنه ما أكل سنتين وهو مجاور بمكة وعن كثير من المرتاضين السالكين وإنما رفع إدريس عليه السلام إلى السماء الرابعة لمبالغته في التجريد والترويح حتى أن الروحانية غلبت عليه فخلع بدنه وخالط الملائكة واتصل بروحانية الأفلاك وترقى إلى عالم القدس وقد أقامه ستة عشر عاماً لم ينم ولم يطعم شيئاً ولم يتزوج قط لزوال الشهوة بالكلية حتى صار عقلاً مجرداً من كثرة الرياضة ورفع إلاى أعلا الأمكنة وهو المكان الذي يدور عليه رحى عالم الأفلاك وهو فلك الشمس ثم
335
أن نار المحبة أشد النيران قال الجنيد قدس سره : قالت النار : يا رب لو لم أطعك هل كنت تعذبني بشيء هو أشد مني قال : نعم كنت أسلط عليك ناري الكبرى قالت : هل نار أعظم مني؟ قال : نعم نار محبتي أسكنها قلوب أوليائي المؤمنين كما في فتح القريب :
مهرجانان آتش است عشاق را
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
مى بسوزد هستى مشتاق را
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 36 من صفحة 336 حتى صفحة 344
(9/274)
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} لم يقل فسبح ربك لأن سبح منزل منزلة اللازم ولم يعتبر تعلقه بالمفعول ومعناه فأحدث التسبيح بذكر اسمه تعالى إضمار المضاف شكراً على تلك النعم وإن جحدها الجاحدون أو بذكره على المجاز فإن إطلاق الاسم للشيء ذكر له والباء للاستعانة أو الملابسة والمراد بذكر ربه هنا تلاوة القرآن والعطيم صفة للاسم أو الرب قال ابن عطاء رحمه الله سبحه أن الله أعظم من أن يلحقه تسبيحك أو يحتاج إلى شيء منك لكنه شرف عبيده بأن أمرهم أن يسبحوه ليطهروا أنفسهم بما ينزهونه به {فَلا أُقْسِمُ} أي فاقسم ولا مزيدة للتأكيد وتقوية الكلام كما في قوله تعالى : لئلا يعلم أهل الكتاب وما قيل أن المعي فلا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم خصوصاً إلى مثل هذا القسم العظيم فيأباه تعيين المقسم به وتفخيم شأن المقسم به {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} أي بمساقطها وهي مغاربها وتخصيصها بالقسم لما في غروبها من زوال أثرها والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير أو لأن ذلك وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه تعالى وأوان نزول الرحمة والرضوان عليهم أو بمنازلها ويمجاريها فإن له تعالى في ذلك من الدليل على عظم قدرته وكمال حكمته ما لا يحيط به البيان وقيل : النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها وإليه ذهب ابن عباس رضي الله عنهما وقيل : النجوم الصحابة والعلماء الهادون بعدهم ومواقعهم القبور وقيل غير ذلك {وَإِنَّهُ} أي القسم بالمذكور {لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} لما في المقسم به من الدلالة على عظم القدرة وكمال الحكمة وفرط الرحمة ومن مقتضيات رحمته أن لا يترك عباده سدى بغير كتاب قوله لو تعلمون اعتراض بين الصفة والموصوف لتأكيد تعظيم المحلوف به وجوابه متروك أريد به نفي علمهم أو محذوف ثقة بظهوره أي لعظمتمون أو لعملتم بموجبه ففيه تنبيه على تقصير المخاطبين في الأمر وعظيم صفة قسم وهذه الجملة أيضاً اعتراض بين القسم وجوابه الذي هو قوله تعالى : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ} هو المقسم عليه أي لكتاب كثير النفع لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد على أن يستعار الكرم ممن يقوم به الكرم من ذوي العقول إلى غيرهم أو حسن مرضى في جنسه من الكتب أو كريم عند الله وقال بعضهم : كريم لأنه يدل على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور وشرائف الأفعال وقيل : كريم لنزوله من عند كريم بواسطة الكرام إلى أكرم الخلق
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
{فِى كِتَـابٍ مَّكْنُونٍ} أي مصون عن غير المقربين من الملائكة أي لا يطلع عليه من سواهم وهو اللوح المحفوظ {لا يَمَسُّه إِلا الْمُطَهَّرُونَ} أما صفة أخرى للكتاب فالمراد بالمطهرين الملائكة المنزهون عن الكدورات الجسمانية وأوضار الأزار أو للقرآن فالمراد المطهرون من الأحداث مطلقاً فيكون نفياً بمعنى النهي أي لا ينبغي أن يمسه إلا من كان على طهارة من الأدناس كالحدث والجنابة ونحوهما
336
(9/275)
على طريقة قوله عليه السلام : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه أي لا ينبغي له أن يظلمه أو يسلمه إلى من يظلمه فالمراد من القرآن المصحف سماه قرآناً على قرب الجوار والاتساع كما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو وأراد به المصحف وفي الفقه لا يجوز لمحدث بالحدث الأصغر وهو ما يوجب الوضوء مس المصحف إلا بغلافه المنفصل الغير المشرز كالخريطة ونحوها لأن مسه ليس مس القرآن حققة إلا المتصل في الصحيح وهو الجلد المشرز لأنه من المصحف يعني تبع له حتى يدخل في بيعه بلا ذكر وهذا أقرب إلى التعظيم وكره المس بالكم لأنه تابع للحامل فلا يكون حائلاً ولهذا لو حلف لا يجلس على الأرض فجلس وذيله بينه وبين الأرض حنث وإنما منع الأصغر عن مس المصحف دون تلاوته لأنه حل اليد دون الفم ولهذا لم يجب غسله في الوضوء.
والجنابة كانت حالة كليهما ولا يرد العين لأن الجنب حل نظره إلى مصحف بلا قراءة وكذا لا يجوز المحدث مس درهم فيه سورة إلا بصرته ولا لجنب دخول المسجد إلا لضرورة فإن احتاج إلى الدخول تيمم ودخل لأنه طهارة عند عفم الماء ولا قراءة القرآن ولو دون آية لأن ما دونها شيء من القرآن أيضاً إلا على وجه الدعاء أو الثناء كالبسملة والحمدلة وفي الأشباه لو قرأ الفاتحة في صلاته على الجنازة إن قصد الدعاء والثناء لم يكره وإن قصد التلاوة كره وفيه إشارة إلى أن حكم القراءة يتغير بالقصد ويجوز للجنب الذكر والتسبيح والدعاء.
والحائض والنفساء كالجنب في الأحكام المذكورة ويدفع المصحف إلى الصبي إذ في الأمر بالوضوء حرج بهم وفي المنع تضيع حفظ القرآن إذ الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر وفي الأشباه ويمنع الصبي من مس المصحف انتهى والتوفيق ظاهر وفي كشف الأسرار وأما الصبيان فلأصحابنا فيهم وجهان : أحدهما أنهم يمنعون منه كالبالغين والثاني أنهم لا يمنعون لمعنيين أحدهما أن الصبي لو منع ذلك أدى إلى أن لا يتعلم القرآن ولا يحفظه لأن وقت تعلمه وحفظه حال الصغر والثاني أن الصبي وإن كانت له طهارة فليست بكاملة لأن النية لا تصح منه فإذا جاز أن يحمله على غير طهر كامل جاز أن يحمله محدثاً ودر انوار مذكور است كه جنب وحائض را بقول أبي يوسف جائزست كتابت قرآن وقتى كه لوح برزمين بوده بركنار ونزد محمد بهيج وجه روانيست ومحمد بن فضل رحمه الله فرموده كه مراد ازين طهارت توحيدست يعني بايدكه از غير موحدان كسى قرآن نخواند وابن عباس رضي الله عنه نهى ميكرد ازانكه يهود ونصارى را تمكين دهند از قرآءت قرآن.
وقال بعضهم : يجوز للمؤمن تعليم القرآن للكافر رجاء هدايته إلى الإسلام.
ومحققان كفته اند مراد ازمس اعتقادست يعني معتقد نباشد قرآنرا اكر اكيزه دلان كه مؤمنانند ويا تفسير وتأويل آن ندانند الا آنها كه سر ايشان اك باشد از ما سوى الله :
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
جمال حضرت قرآن نقاب انكه براندازد
كه دار الملك معنى را مجرد بيند از غوغا
ودر بحز الحقائق فرموده كه مكاشف نشود باسرار قرآن مكر كسى كه اكيزه كردد ازلوث توهم غير وبرسد بمقام شهود حق درمر آى خلق واين معنى ميسر نشود جز بفناى
337
مشاهد وشهود در مشهود :
ون تجلى كردد اوصاف قديم
س بسوزد وصف حادث راكليم
(9/276)
وتحقيقه أن الهاء إشارة إلى الهوية الإلهية فإنه لا يمس سرها إلا المطهرون عن جنابة كل مقام من المقامات الوجودية وهي التعلق به والبعد بواسطته عن الحق المطلق والمطهر بالفتح لا بد له من المطهر بالكسر وهو الله تعالى فالعبد لا يطهر نفسه ولا يزكيها وإنما يطهره الله ويزكيها فإذا طهره الله وزكاه فهم مراد القرآن ولذا قال بعض الكبراء أن القرآن بكر أي بالنسبة إلى علماء الظاهر والرسم فإن الذي فهموه من القرآن إنما هو ظاهره ومزاياه المتعلق به وإنما حل عقدته علماء الباطن والحقية لأن الله تعالى قال : واتقوا الله ويعلمكم الله فهم أهل التقوى الحقيقي ولذا علمهم الله ما لم يعلم أحداً من العالمين وإن كان القرآن لا تنقضي عجائبه وقس عليه الحديث فإن مراد رسول الله عليه السلام على الحقيقة لا يفهمه إلا أهل الحقيقة ومن ثمة اقتصر علماء الحديث وشراحه على بيان الإعراب والمفهوم الظاهري من غير أن يتعرضوا لحقائقه فأين شرح النووي والكرماني وابن حجر ونحوهم من شرح الصدر القنوي ونحوه رضي الله عنهم {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ} صفة أخرى للقرآن وهو مصدر نعت به حتى جرى مجرى اسمه يعني أن التنزيل بمعنى المنزل سمى المنزل تنزيلاً على اتساع اللغة كما يقال للمقدور قدر وللمخلوق خلق على قول من يجيزه {أَفَبِهَـاذَا الْحَدِيثِ} الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله وهو القرآن الكريم وسماه حديثاً لأن فيه حوادث الأمور كما في كشف الأسرار وهو متعلق بقوله مدهنون وجاز تقديمه على المبتدأ لأن عامله يجوز فيه ذلك والأصل أفأنتم مدهنون بهذا الحديث {أَنتُم} يا أهل مكة {مُّدْهِنُونَ} الإدهان في الأصل مثل التدهين لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجد والمعنى متهاونون به ومستحقرون كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به وفي تاج المصادر الإدهان مداهنت كردن وغسل كردن.
قال في الإحياء : الفرق بين المداهنة والمداراة بالغرض الباعث على الأغضاء فإن أغضيت السلامة دينك ولما ترى فيه من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن قال أبو الدرداء رضي الله عنه : إن النبش في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتعلنهم وهذا معنى المدارة وهو منع شر من يخاف شره {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي شكر رزقكم بتقدير المضاف ليصح المعنى والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق والمراد نعمة القرآن {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي تضعون التكذيب لرازقه موضع الشكر أوتجعلون شكر رزقكم الصوري إنكم تكذبون بكونه من الله حيث تنسبونه إلى الأنواء وكان عليه السلام يقول : لو حبس الله القطر عن أمتي عشر سنين ثم أنزل لأصبحت طائفة منهم يقولون سقينا بنوء كذا وقال عليه السلام : أخوف ما أخاف على أمتي حيف الأئمة والتكذيب بالقدر والإيمان بالنجوم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
ـ روي ـ أنه عليه السلام صلى صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا
338
قال ربكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب وفي الحديث "ثلاث من أمر الجاهلية : الطعن في الأنساب والنياحة والأنواء" فالطعن معروف والنياحة البكاء على الميت مع تعديد محاسنه والأنواء جمع نوء المنازل الثماني والعشرون للقمر والعرب كانت تعتقد أن الأمطار والخير كله يجيىء منها وفي حواشي ابن الشيخ في سورة الفرقان الأنواء النجوم التي يسقط واحد منها في جانب المغرب وقت طلوع الفجر ويطلع رقيبه في جانب المشرق من ساعته والعرب كانت تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها وقيل إلى الطالع منها انتهى وفي القاموس النوء النجم مال للغروب أو سقوط النجم في المغرب مع الفجر وطلوع آخر يقابله من ساعته في المشرق انتهى فظهر أن التأثير من الله تعالى في الأشياء فيجيب على المؤمن أن يعتقده منه تعالى لا من الأفلاك والنجم والدهر ونحوها وفي هدية المهديين لو صاحت الهامة أو طير آخر فقال رجل يموت المريض يكفر ولو خرج إلى السفر ورجع فقال : ارجع لصياح العقعق كفر عند بعضهم وقيل : لا ولو قال عند صياح الطير غله كران مى خواهد شد.
فقد اختلف المشايخ في كفره وجه الكفر ظاهر لأنه ادعى الغيب انتهى والناس يتشاءمون بأصوات بعض الطيور كالهامة والبوم.
كما قال الشيخ سعدي :
بلبلا مده بهار بيار
خبرى بدببوم باز كذار
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/277)
فإن يكن هناك اعتقاد التأثير منها فذلك كفر وإلا فمجرد التشاؤم لا يوجب الكفر خصوصاً إذا كان القول بطريق الاستدلال من الأمارات والأليق بحال المؤمن حمل مثل ذلك على التنبيهات الإلهية فإنفي كل شيء حكمة لا القطع على المقدورات والجزم فيما لا يبلغ علمه كنهه فإن الله يحيي ويميت ويوقظ وينيم بأسباب وبغيرها {فَلَوْلا} س را {إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} لولا للتحضيض لإظهار عجزهم وإذا ظرفية والحلقوم مجرى الطعام وفي كشف الأسرار مجرى النفس والبلعوم مجرى الطعام أي فهلا إذا بلغت النفس أي الروح أو نفس أحدكم وروحه الحلقوم وتداعت إلى الخروج وهو كناية عن غير مذكور وفي الحديث "أن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق ويجمعون الروح شيئاً فشيئاً حتى ينتهي بها إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت" {وَأَنتُمْ} الواو للحال من فاعل بلغت أي والحال أنتم أيها الحاضرون حول صاحبها {حِينَـاـاِذٍ} آن هنكام {تَنظُرُونَ} إلى ما هو فيه من الغمرات ولكن تعطف عليه ووفور رغبة في إنجائه من المهالك {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} أي إلى المحتضر علماً وقدرة وتصرفاً قال بعضهم : عبر عن العلم بالقرب الذي هو أقوى سبب الاطلاع {مِنكُمْ} حيث لا تعرفون حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدة من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها ولا أن تقدروا على دفع أدنى شيء منها ونحن المتولون لتفاصيل أحواله بعلمنا وقدرتنا أو بملائكة الموت الذين يقبضون روحه {وَلَـاكِن لا تُبْصِرُونَ} لا تدركون كنه ما يجري عليه لجهلكم بشؤوننا فقوله : لا تبصرون من البصيرة لا من البصر
339
والأقرب تفسيره بقوله : لا تدركون كوننا أعلم به منكم كما في حواشي سعدي المفتي قال البقلي رحمه الله : قرب الله بالتفاوت قرب بالعلم وقرب بالإحاطة وقرب بالفعل وقرب بالصفة وقرب بالقهر وقرب باللطف والمسافة والمكان منفي على ذاته وصفاته ولكن يتجلى لقلوب من عين العظمة لإذابتها برؤية القهر ولقلوب من عين الجمال ليعرفها الاصطفائية وذلك القرب لا يبصره إلا أهل القرب وشواهده ظاهرة لأهل المعرفة وفي الخطاب تحذير وترهيب {فَلَوْلا} بمعنى هلا {إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
أي غير مربوبين مملوكين أذلاء من دان السلطان رعيته إذا ساسهم واستعبدهم وفي المفردات أو غير مجزيين فإن الدين الجزاء أيضاً وهو ناظر إلى قوله تعالى نحن خلقناكم فلولا تصدقون فإن التحضيض يستدعي عدم المحض عليه حتماً {تَرْجِعُونَهَآ} أي النفس إلى مقرها وتردون روح ميتكم إلى بدنه من الرجع وهو الرد العامل في إذا والمحضض عليه بلولا الأولى والثانية مكررة للتأكيد وهي مع ما في حيزها دليل جواب الشرط والمعنى إن كنتم غير مربوبين كما ينبىء عنه عدم تصديقكم بخلقنا إياكم فهلا ترجعون النفس إلى مقرها عند بلوغها الحلقوم {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في اعتقادكم فإن عدم تصديقهم بخالقيته تعالى لهم عبارة عن تصديقهم بعدم خالقيته تعالى بموجب مذهبهم أي فإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أنا لأمر إلى غيركم وهو الله تعالى فآمنوا به وهو تكرير للتأكيد لا من اعتراض الشرط إذ لا معنى له هنا {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} هو قرب درجاتهم من العرش لا من الله من حيث الجهة حسبما قال به الحشوية وهو شروع في بيان حال المتوفي بعد الممات أثر بيان حاله عند الوفاة أي فأما إن كان المتوفي من المقربين وهم أجل الأزواج الثلاثة {فَرَوْحٌ} أي فله استراحة وقرىء بضم الراء وفسر بالرحمة لأنها سبب لحياة المرحوم فإطلاقه على الرحمة استعارة تصريحية وبالحياة الدائمة التي لا موت فيها قال بعضهم : الروح يعبر به عن معان فالروح روح الأجسام الذي يقبض عند الممات وفيه حياة النفس والروح جبرائيل لأنه كان يأتي الأنبياء بما فيه حياة القلوب وعيسى روح الله لأنه كان من نفخ جبرائيل وأصيل إلى الله تعظيماً وكلام الله روح لأنه حياة من الجهل وموت الكفر ورحمة الله روح كقوله تعالى : وأيدهم بروح منه أي برحمة والرح الرزق لأنه حياة الأجساد وفي القاموس الروح بالضم ما فيه الروح ما به حياة الأنفس وبالفتح الراحة والرحمة ونسيم الريح ووكان روحاني طيب والروحاني بالضم ما فيه الروح وفي كتاب الملل والنحل الروحاني بالضم من الروح والروحاني بالفتح من الروح والروح والروح متقاربان فكأن الروح جوهر والروح حالته الخاصة به انتهى {وَرَيْحَانٌ} ورزق أو هو ما يشم وعن أبي العالية لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى ببعض من ريحان الجنة فيشمه ثم يقبض روحه وقال الزجاج الريحان هنا التحية لأهل الجنة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/278)
يكى از بزركان دين كفته است كه روح وريحان هم در دنياست هم در عقبى روح در دنياست وريحان در عقبى روح آنست كه دل بنده مؤمن را بنظر خويش بيار ايدتا حق ازباطل واشناسد انكه بعلم فزاخ كند تا قدرت دران جاى يابد آنكه بينا كند تابنور منت مى بيند شنوا
340
كند تاند ازلى مى شنود اك كند تاهمه صحبت او جويد بعطر وصال خوش كند تادران مهر دوست رويد بنور خويش روشن كند تا از وبار ديكر بصيقل عنايت بز ايد تادر هره نكرد اورا بيند بنده ون بدين صفت بسراى سعادت رود آنجا ريجان كرامت بيند نسيم انس ازباغ قدس دميده زر درخت وجود تخت رضا نهاده بساط انس كسترده شمع عطف افروخته وبر فلك نشسته ودوست ازلى رده بر كرفته بسمع بنده سلام رسانيده وديدار ذو الجلال نموده {جَنَّةَ نَعِيمٍ} أي ذات تنعم فالإضافة لأدنى الملابسة.
وقال الكاشفي : بوستان رنعمت.
قال بعض أهل الحقيقة فله روح الوصال وريحان الجمال وجنة الجلال لروحه روح الإنس ولقلبه ريحان القدس ولنفسه جنة الفردوس أو الروح النظر إلى وجه الجبار والريحان الاستماع لكلامه وجنة النعيم هو أن لا يحجب العبد فيها عن مولاه إذا قصد زيارته وللمقربين ذلك في دار الدنيا وروحهم المشاهدة وريحانهم سرور الخدمة وجنة النعيم السرور بذكره وقال بعضهم : الروح للعابدين والريحان للعارفين وجنة النعيم لعوام المؤمنين أو فله روح الشهود الذاتي وريحان السرور وجنة نعيم اللذات بالوصول إليها والدخول فيها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
يقول الفقير : الروح للنفوس والأجساد لأنها تستريح بعد الموت برفع التكاليف عنها وإن كان أهل الله على نشاط دائم في باب الخدمة لأن التعب يرتفع بالوصول إلى الله لكونه من آثار النفس والطبيعة ولا نفس ولا طبيعة بعد الوصول والريحان للقلوب ولأرواح ولذا حبب إلى النبي عليه السلام الطيب لأنه يوجد فيه ذوق الإنس والمحاضرة وجعل عليه السلام الولد من الريحان لأنه يشم ما يشم المشموم وأنه من تنزلات أبيه كما أن القلوب من تنزلات الأرواح والأرواح من تنزلات الأسرار ووجد عليه السلام نفس الرحمن من قبل اليمن وإنما وجده قلبه وروحه وكان ذلك النفس عصام الدين عم اويس القرنى وكان حينئذ قطب الأبدال وكان عليه السلام يستنشق بحس شمه أيضاً روائح الجنة ونحوها وجنة نعيم للأسرار وهي الجنة المضافة إلى الله تعالى في قله وادخلي جنتي وعند دخولهم هذه الجنة لا يراهم أحد أبداً لعلو طبقتهم ورفعة درجتهم فلا يعرفهم أحد لا في الدنيا ولا في العقبى فهم من قبي المعلوم المجهول {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـابِ الْيَمِينِ} عبر عن السابقين بالمقربين لكونه أجل أوصافهم وعبر عن أصحاب اليمين بالعنوان السابق إذ لم يذكر لهم فيما سبق وصف واحد ينبىء عن شأنهم سواه كما ذكر للفريقين الآخرين واستعير اليمين للتيمن والسعادة قاله الراغب {فَسَلَـامٌ لَّكَ} يا صاحب اليمين {مِنْ أَصْحَـابِ الْيَمِينِ} من إخوانك يسلمون عليك عند الموت وبعده فيكون السلام إشارة له أنه من أهل الجنة قال في الإرشاد هذا أخبار من جهته تعالى بتسليم بعضهم على بعض كما يفصح عنه اللام لا حكاية لإنشاء سلام بعضهم على بعض وإلا لقيل عليك والالتفات إلى خطاب كل واحد منهم للتشريف قال سهل رحمه الله : أصحاب اليمين هم الموحدون أي العاقبة لهم بالسلامة لأنهم أمناء الله قد أدوا الأمانة يعني أمره ونهيه لم يحدثوا شيئاً من المعاصي والزلات قد أمنوا الخوف والهول الذي ينال غيرهم وحقيقته من المقربين أصحاب
341
الشهود الذاتي وأصحاب اليمين أصحاب الشهود الأسمائي والصفاتي فله السلامة من اسمه السلام على لسان إخوانه الأسمائية نسأل الله لي ولكم السلامة والنجاة والإنس والحضور والشهود في أعلى المقامات والدرجات {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ} وهم أصحاب الشمال عبر عنهم بذلك حسبما وصفوا به عند بيان أحوالهم بقوله تعالى : ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ذماً لهم بذلك وإشعاراً بسبب ما ابتلوا به من العذاب وهو تكذيب البعث ونحوه والضلال عن الحق والهدى
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/279)
{فَنُزُلٌ} أي فله نزل كائن {مِّنْ حَمِيمٍ} يشرب بعد أكل الزقوم كما فصل فيما قبل وبالفارسية س مراوراست يشكش درقبر ازاب كرم كرده دردوزخ بادود آتش دوزخ {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي إدخال في النار وقيل : إقامة فيها ومقاساة لألوان عذابها وقيل ذلك ما يجده في القبر من سموم النار ودخانها يقال أصلاه النار وصلاه أي جعله يصلاها والمصدر هنا مضاف إلى المفعول {إِنَّ هَـاذَا} أي الذي ذكر في هذه السورة الكريمة {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أي حق الخبر اليقين فهو من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة على الاتساع والمجاز وقيل الحق الثابت من اليقين أي الحق الثابت الذي لا يطرأ عليه التبدل والتغير وقال أبو الليث أي يقين حق اليقين انتهى واليقين علم يحصل به ثلج الصدور ويسمى برد اليقين فهو العلم الذي يحصل به اطمئنان النفس ويزول ارتيابها والضطرابها والمراد هنا المعلوم المتيقن به لأن المبتدأ عبارة عن المعلوم فيجب أن يكون الخبر أيضاً كذلك التقدير إن هذا لهو ثابت الخبر المتيقن به أي الثابت منه على أن الإضافة بمعنى من وفى فتح الرحمن هذه عبارة فيها مبالغة لأنها بمعنى واحد كما تقول في أمر توكده هذا يقين اليقين وصوب الصواب بمعنى أنه نهاية الصواب فهي عبارة مبالغة وتأكيد معناه أن هذا الخبر هو نفس اليقين وحقيقته انتهى قال ابن الملك إضافة العلم إلى اليقين إضافة الشيء إلى مرادفه كما فعلوا مثل ذلك في العطف وفي شرح النصوص بالنون العلم اليقيني هو العلم الحاصل بالإدراك الباطني بالفكر الصائب والاستدلال وهذا للعلماء الذين يوقنون بالغيب ولا تزيد هذه المرتبة العلمية إلا بمناسبة الأرواح القدسية فإذا يكون العلم عيناً ولا مرتبة للعين إلا اليقين الحاصل من مشاهدة المعلوم ولا تزيد هذه المرتبة إلا بزوال حجاب الاثنينية فإذا يكون العين حقاً ولا مرتبة للحق إلا الإدراك بأحدية جمعك أي بحقيقتك المشتملة على المدركات الظاهرة والباطنة والجامعة بين روحانيتك وجسمانيتك أي يدركها بها إدراكاً يستوعب معرفة كل ما اشتملت عليه حقيقة المدرك من الأمور الظاهرة والباطنة وهو حال الكامل وصفة من صار قلبه مستوى الحق الذي قد وسعه كما أخبره لأنه حال جمع الجمع وزيادة هذه المرتبة أي حق اليقين عدم ورود الحجاب بعده وعنه للأولياء وحقه للأنبياء وأما حقيقة اليقين وهو باطن حق اليقين فهو لنبينا عليه السلام وهذه الدرجات والمراتب لا تحصل إلا بالمجاهدة مثل دوام الوضوء وقلة الأكل والذكر والسكوت بالفكر في ملكوت السموات والأرض وبأداء السنن والفرائض وترك ما سوى الحق والغرض وتقليل المنام والعرض وأكل الحلال وصدق المقال والمراقبة بقلبه إلى الله تعالى فهذه مفاتيح المعاينة والمشاهدة انتهى
342
وقال ابن عطاء رحمه الله : إن هذا القرآن لحق ثابت في صدور الموقنين وأهل اليقين وهو الحق من عند الحق فلذلك تحقق في قلوب المحققين واليقين ما استقر في قلوب أوليائه وقد قال سيدنا علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه : لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناًك
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
حال خلد وجحيم دانستم
بيقين اننانكه مى بايد
كر حجاب ازميانه بركيرند
آن يقين ذره نيفزا يد
يعني اكر احوال آخرت منكشف شود وجمله را معاينه كنم يك ذره در يقين من زياده نشود كه علم اليقين من امروز وعين اليقين منست در فردا.
وقال عليه السلام : اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً ليس بعده كفر وهو اليقين الحاصل بالعيان وظهور الحقيقة ولذا نقول أهل علم اليقين ذو خطر لا يحصل منه الإرشاد بخلاف أهل عين اليقين فإنه قطب إرشاد وبخلاف أهل حق اليقين فإنه قطب الأقطاب فالتجليات ثلاثة : تجلي علمي وتجلي عيني وتجلي حقي فالأول كعلم الكعبة علماً ضرورياً من غير رؤية والثاني مثل رأستها من بعيد والثالث كدخولها قال قتادة : إن الله ليس تاركاً أحداً من الناس حتى يوقفه على اليقين من هذا القرآن أما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه.
قال المولى الجامي :
سيراب كن زبحر يقين جان نشنه را
زين بيش خشك لب منشين برسراب ريب
{فَسَبِّحْ} يا محمد {بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} الفاء لترتيب التسبيح أو الأمر به على ما قبلها فإن حقية ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل من الأمور التي من جملتها الإشراك به والتكذيب بآياته الناطقة بالحق وقال أبوعثمان قدس سره : فسبح شكراً لما وقفنا أمتك إليه من التمسك بسنتك وفي فتح الرحمن هذه عبارة تقتضي الأمر بالإعراض عن أقوال الكفار وسائر أمور الدنيا المختصة بها وبالإقبال على أمور الآخرة وعبادة الله والدعاء إليه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
(9/280)
ـ روي ـ أنه لما نزل فسبح باسم ربك العظيم قال عليه السلام : اجعلوها في ركوعكم فلما نزل سبح اسم ربك الأعلى قال : اجعلوها في سجودكم وكان عليه السلام يقول في ركوعه : سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى وسر اختصاص سبحان ربي العظيم بالركوع والأعلى بالسجود أن الأول إشارة إلى مرتبة الحيوان والثاني إشارة إلى مرتبة النبات والجماد فلا بد من الترقي في التنزيه والحق سبحانه فوق التحت كما أنه فوقالفوق ونسبة الجهات إليه على السواء لنزاهته عن التقيد بالجهات فلهذا شرع التسبيح في الهبوط واختلف الأئمة في التسبيح المذكور في الصلاة فقال أحمد : هو واجب تبطل الصلاة بتركه عمداً ويسجد لتركه سهوراًو الواجب عنده مرة واحدة وأدنى الكمال ثلاث وقال أبو حنيفة والشافعي : هو سنة وقال مالك يكره لزوم ذلك لئلا يعد واجباً فرضاً والاسم هنا بمعنى الجنس أي بأسماء ربك والعظيم صفة ربك.
در خبرست كه عثمان بن عفان رضي الله عنه عيادت كرد عليه السلام بن مسعود را رضي الله عنه در بيمارى مرك كفت يا عبد الله أين ساعت ازه مى نالى كفت اشتكى ذنوبي يعني بر كناهان خود مى نالم عثمان كفت
343
ه آرزوست ترا درين وقت كفت رحمة ربي يعني آرزوى من آنست كه الله تعالى برمن رحمت كند وبر ضعف وعجز من ببخشايد عثمان كفت أفلا ندعو الطبيب يعني طبيب را خوانيم تادرد ترا مداوات كند كفت الطبيب امرضني يعني طبيب مرا بروز بيمارى افكند كفت خواهى تاترا عطايى فرمايم كه ببعضي حاجتهاى خود صرف كنى كفت لا حاجة لي به يعني وقتي مرا باين حاجت نيست وهي دربايست نيست كفت دستورى هست تابدخترانت دهم نا ر ايشانرا حاجت بود كفت نه كه ايشانرا حاجت نيست واكر حاجت بود به ازين من ايشانرا عطايى داده ام كفته ام كه بوقت حاجت وضرورت سورة الواقعة برخوانيدكه من از رسول خدا شنيدم كه عليه السلام : "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً" قال سعدي المفتي : هو حديث صحيح وفي حديث آخر من دوام على قراءة سورة الواقعة لم يفتقر أبداً قال ابن عطية فيها ذكر القيامة وحظوظ الناس في الآخرة وفهم ذلك غنى لا فقر معه ومن فهمه يشتغل بالاستعداد قال الغزالي رحمه الله في منهاج العابدين قراءة هذه السورة عند الشدة في أمر الرزق والخصاصة شيء وردت به الأخبار المأثورة عن النبي عليه السلام وعن الصحابة رضي الله عنهم حتى ابن مسعود رضي الله عنه حين عوتب في أمر ولده إذ لم يترك لهم الدنيا قال : لقد خلفت لهم سورة الواقعة فإن قلت : إرادة متاع الدنيا بعمل الآخرة لا تصح قلت مراده أن يرزقهم الله تعالى قناعة أو قوتاً يكون لهم عدة على عبادة الله تعالى وقوة على درس العلم وهذه من جملة إرادة الخير دون الدنيا فلا رياء انتهى كلامه وعن هلال بن يساف عن مسروق قال : من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين ونبأ أهل الجنة وأهل النار ونبأ الدنيا ونبأ الآخرة فليقرأ سورة الواقعة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 316
تفسير سورة الحديد
مدنية وقيل مكية وآيها تسع وعشرون
جزء : 9 رقم الصفحة : 343
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} التسبيح تنزيه الله تعالى اعتقاداً وقولاً وعملاً عما لا يليق بجنابه سبحانه بدأ الله بالمصدر في الإسراء لأنه الأصل ثم بالماضي في الحديد والحشر والصف لأنه أسبق الزمانين ثم بالمستقبل في الجمعة والتغابن ثم بالأمر في الأعلى استيعاباً لهذه الكلمة من جميع جهاتها ففيه تعليم عباده استمرار وجود التسبيح منهم في جميع الأزمنة والأوقات والحاصل أن كلاً من صيغتي الماضي والمضارع جردت عن الدلالة على مدلولها من الزمان المخصوص فأشعر باستمراره في الأزمنة لعدم ترجيح البعض على البعض فالمكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود مسبحة في كل الأوقات لا يختص تسبيحها بوقت دون وقت بل هي مسبحة أبداً في الماضي وتكون مسبحة أبداً في المستقبل وفي الحديث "أفضل الكلام أربع : سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت" وسئل علي رضي الله عنه عن سبحان فقال : كلمة رضى الله لنفسه وسبح متعد بنفسه كما في قوله
344(9/281)
تعالى : وتسبحوه واللام إما مزيدة للتأكيد كما في نصحت له وشكرت له في نصحته وشكرته أو للتعليل والفعل منزل منزلة اللازم أي فعل التسبيح وأوقعه وأحدثه لأجل الله تعالى وخالصاً لوجهه والمراد بما في السموات والأرض جميع المخلوقات من حي وجماد وجاء بما تغليباً للأكثر مع أن أكثر العلماء على أن ما يعم العقلاء وغيرهم والمراد بتسبيح الكل تسبيح عبادة ومقال كما قال بعض الكبار قد أخذ الله بأبصار الإنس والجن عن إدراك حياة الجماد إلا من شاء الله والأشياء كلها إنما خلقت له سبحانه لتسبح بحمده وأما انتفاعنا بها إنما هو بحكم التبعية لا بالقصد الأول قال الحسن البصري رحمه الله : لولا ما يخفى عليكم من تسبيح من معكم في البيوت ما تقاررتم ثم وقال بعضهم : لا يصدر عن الحي إلا حي ولو وجد من العالم موجود غير حي لكان غير مستند إلى حقيقة إلهية وذلك محال فالجماد ميت في نظر المحجوب حي في نفس الأمر لا ميت لأن حقيقة الموت مفارقة حي مدبر لحي مدبر والمدبر والمدبر حي والمفارقة نسية عدمية لا وجودية فإن الشان إنما هو عزل عن ولاية وانتقال من دار إلى دار وليس من شرط الحي أن يحس لأن الإحساس والحواس أمر معقول زائد على كونه حياً وإنما هما من شرط العلم وقد لا يحس وقد لا يحس وتأمل صاحب الآكلة إذا أكل ما يغيب به إحساسه كيف يقطع عضوه ولا يحس به مع أنه حي ليس يميت وقال بعضهم : كل شيء في العالم يسبح الله بحمده الذي اطلعه الله على أنه حمد به نفسه ويختلف ذلك باختلافهم إلا الإنسان خاصة فإن بعضه يسبح بغير حمده ولا يقبل من الحق بعض ما أثنى به على نفسه فهو يؤمن ببعض وهو قوله ليس كمثله شيء ويكفر ببعض وهو تنزيه الله عما أضافه إلى نفسه ووصف نفسه به من التشبيه بالمحدثات فقوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده أي بالثناء الذي أثنى به الحق على نفسه وأٌّزله على السنة رسله لا بما ولده العقل فإن الله تعالى قال في حق من سبح الحق بعقله سبحان ربك العزة عما يصفون أعلا ما لنا إنه وراء كل ثناء وأهل الله تعالى لا بد لهم في سلوكهم من سماع تسبيح كل شيء بلسان طلق لا لسان حال كما يعتقده بعضهم ثم إن الله تعالى من رحمته يأخذ أسماعهم بعد تحققهم ذلك ويبقى معهم العلم لأنه لو أسمعهم ذلك على الدوام لطاشت عقولهم وفي الحديث "إن كل شيء من الجماد والحيوان يسمع عذاب القبر إلا الثقلين" فثبت أن السموات والأرض بجميع أجوائهما وما فيهما من الملك والشمس والقمر والنجوم والإنس والجن والحيوان والنبات والجماد لها حياة وفهم وإدراك وتسبح وحمد كما قال تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم واعلم أن الله تعالى هو المسبح اسم مفعول في مقام التفصيل والمسبح اسم فاعل في مقام الجمع فالتسبيح تنزيه الحق بحسب مقام الجمع والتفصيل من النقائص الإمكانية ومن الكمالات الإنسانية المختصة من حيث التقيد والتعين
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} بقدرته وسلطانه لا يمانعه ولا ينازعه شيء {الْحَكِيمُ} بلطفه وتدبيره لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة وفيه إشعار بعلية الحكم فإن العزة وهي الغلبة على كل شيء تدل على كمال القدرة والحكمة تدل على كال العلم والعقل يحكم بأن الموصوف بهما يكون منزهاً
345
عن كل نقص كالعجز والجهل ونحوهما ولذا كان الأمن كفراً لأن فيه نسبة العجز إلى الله تعالى وكذا اليأس لأن فيه نسبة البخل إلى الله الجواد {لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي التصرف الكلي ونفوذ الأمر فيهما وما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات مما نعلم وما لا نعلم.
(9/282)
يقول الفقير فإن قلت كيف أضاف الملك إلى ما هو متناه وكمال ملكه تعالى غير متناه قلت إن للسموات والأرض ظاهراً وهو ما كان حاضراً ومرئياً من عالم الملك وهو متناه لأنه ن قبيل الأجسام والصور وباطناً وهو ما كان غائباً غير محسوس من أسرارهما وحقائقهما وهو غير متناه لأنه من عالم الملكوت والمعاني فإضافة المك إلى الله تعالى إضافة مطلقة يندرج تحتها الملك والملكوت وهما غير متناهيين في الحقيقة ألا ترى أن القرآن لا تنقضي عجائبه فهو بحر لا ساحل له من حيث أسراره ومن حيث أن المتكلم به هو الذي لا نهاية له وإن كان أي القرآن متناهياً في الظاهر والحس فالمراد بالملك هو الملك الحقيقي لأن ملك البشر مجاز كما سيتضح بياناً في هذه السورة {لَه مُلْكُ} استئناف مبين لبعض أحكام الملك إي يحيي الموتى والنطف والبيض ويميت الإحياء ومعنى الإحياء والإماتة جعل الشيء حياً وجعله ميتاً وقد يستعاران للهداية والإضلال في نحو قوله أو من كان ميتاً فأحييناه وهو يحيي القلوب يتجلى اسم المحيي ويميت النفوس بتجلي اسم المميت أو يحيي النفوس بموت القلوب ويميت القلوب بحياة النفوس على طريق المغالبة وقال ابن عطاء رحمه الله : هو مالك الكل وله الملك أجمع يميت من يشاء بالاشتغال بالملك ويحيي من يشاء بالإقبال على الملك {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ} من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الإحياء والإماتة على مقتضى الحكمة والإرادة {قَدِيرٌ} تام القدرة فإن الصيغة للمبالغة {هُوَ الاوَّلُ} السابق على سائر الموجودات بالذات والصفات لما أنه مبدئها ومبدعها فالمراد بالسبق والأولية هو الذاتي لا الزماني فإن الزمان من جملة الحوادث أيضاً {وَالاخِرُ} الباقي بعد فنائها حقيقة أو نظراً إلى ذاتها مع قطع النظر عن مبقيها فإن جميع الموجودات الممكنة إذا قطع النظر عن علتها فهي فانية :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
أول ما أول بي ابتداء
آخر أو آخر بي انتها
بود ونبود اين ه بلندست وست
باشد واين نيز نباشد كه هست
{وَالظَّـاهِرُ} وجود الكثرة دلائله الواضحة {وَالْبَاطِنُ} حقيقة فلا يحوم العقل حو إدراك كنهه وليس يعرف الله إلا الله وتلك الباطنة سواء في الدنيا والآخرة فاضمحل ما في الكشاف من أن فيه حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة وذلك فإن كونه باطناً بكنه حقيقته لا ينافي كونه مرئياً في الآخرة من حيث صفاته {وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} لا يعزب عن علمه شيء من الظاهر والخفي فإن عليم صيغة مبالغة تدل على أنه تعالى تام العلم بكل شيء جليه وخفيه وفي هذا المقام معان أخر هو الأول الذي تبتدأ منه الأسباب والآخر الذي تنتهي إليه المسببات أي إذا نظرت إلى سلسلة الموجودات المتكونة بعضها من بعض وجدت الله مبدأ تلك السلسلة ومنتهاها تبتدىء منه سلسلة الأسباب وتنتهي
346
إليه سلسلة المسببات ولذا قالوا : لا تعتمد على الريح في استواء السفينة وسيرها وهذا شرك في توحيد الأفعال وجهل بحقائق الأمور ومن انكشف له أمر العالم كما هو عليه علم أن الريح لا يتحرك بنفسه بل له محرك إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ولا يتحرك هو في نفسه أيضاً بل هو منزه عن ذلك وعمل يضاهيه والظاهر أي الغالب على كل شيء والباطن أي العالم بباطن كل شيء على أن يكون الظاهر من ظهر عليه إذا علاه وغلب والباطن من بطنه إذا علم باطنه ولم يرتضه الزمخشري لفوات المطابقة بين الظاهر والباطن حينئذ.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/283)
ـ وروي ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : دخلت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسألته خادماً فقال لها عليه السلام : ألا أدلك على ما هو خير لك من ذلك أن تقولي : اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان فالقالحق والنوى أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين واغنني من الفقر عني بالظاهر الغالب والباطن العالم ببواطن الأشياء يعني أنه الغالب الذي يغلب كل شيء ولا يغلب عليه فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء إذ ليس فوقه أحد يمنعه والعالم ببواطن الأشياء فهو الملجأ والمنجي يلتجيء إليه كل ملتجىء لا ملجأ ول منجى دونه أي غيره وقال الإمام : احتج كثير من العلماء في إثبات أن الإله واحد بقوله : هو الأول قالوا : الأول هو الفرد السابق ولهذا لو قال أحد أول مملوك اشتريته فهو حر ثم اشترى عبدين لم يعتقا لأن شرط كونه أولاً حصول الفردية وهنا لم تحصل فو اشترى بعد ذلك عبداً واحداً لم يعتق لأن شرط الأولية كونه سابقاً وههنا لم يحصل فثبت أن الشرط في كونه أولاً أن يكون فرداً فكانت الآية دالة على أٌّ صانع العالم واحد فرد وأيضاً هو الأول خارجاً لأنه موجد الكل والآخر ذهناً كما يدل عليه براهين إثبات الصانع أو بحسب ترتيب سلوك العارفين فإذا نظرت إلى ترتيب السلوك ولاحظت منازل السالكين السائرين إليه تعالى فهو آخر ما يرتقى إليه درجات العارفين وكل معرفة تحصل قبل معرفته فهي مرقاة إلى معرفته والمنزل الأقصى هو معرفة الله فهو آخر بالإضافة إلى السلوك في درجات الارتقاء في باب المعارف وأول بالإضافة إلى الوجود الخارجي فمنه المبتدأ أولاً وإليه المرجع آخراً وقال بعض الكمل : هو الأول باعتبار بدء السير نزولاً والآخر باعتبار ختم السير عروجاً والظاهر بحسب النظر إلى وجود الحق والباطن بحسب النظر إلى وجود الخلق وهذا ما قالوا أن ظاهر الحق باطن الخلق وباطن الخلق ظاهر الحق لأن الهوية برزخ بينهما لا يبغيان وبالنظر إلى الحق هوية إلهية وبالنظر إلى الخلق هوية كونية وهذه مرتبة قاب قوسين وفوقها مرتبة أو أدنى وتكلم يوماً عند الشبلي رحمه الله في الصفات فقال : اسكتوا فإن ثمة متاهات لا يخرقها الأوهام ولا تحويها الإفهام وكيف يمكن الكلام في صفات من تجتمع فيه الأضداد من قوله هو الأول والآخر والظاهر والباطن خاطبنا على قدر إفهامنا وقال الراغب الأول هو الذي
347
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/284)
يترتب عليه غيره ويستعمل على أوجه أولها المتقدم بالزمان كقولك عبد الملك أولاً ثم منصور والثاني المتقدم بالرياسة في الشيء وكون غيره محتذياً به نحو الأمير أولاً ثم الوزير والثالث المتقدم بالوضع والنسبة كقولك للخارج من العراق القادسية أولاً ثم فيد وهي قرية في البادية على طريق الحاج وللخارج من مكة فيد أولاً ثم القادسية والرابع المتقدم بالنظام الصناعي نحو أن يقال الأساس أولاً ثم البناء وإذا قيل في صفة الله هو الأول فمعناه الذي لم يسبقه في الوجود شيء وإلى هذا يرجع قول من قال هو الذي لا يحتاج إلى غيره ومن قال هو المستغني بنفسه والظاهر والباطن في صفة الله لا يقال مزدوجين كالأول والآخر فالظاهر قيل إشارة إلى معرفتنا البديهية فإن الفطرة تفضي في كل ما نظر إليه الإنسان أنه تعالى موجود كما قال تعالى وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ولذلك قال بعض الحكماء مثل طالب معرفته مثل من طوف الآفاق في طلب ما هو معه والباطن إشارة إلى معرفته الحقيقية وهي التي أشار إليها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بقوله : يا من غاية معرفته القصور عن معرفته وقيل ظاهر بآياته باطن بذاته وقيل ظاهر بأنه محيط بالأشياء مدرك لها باطن في أن يحاط به كما قال لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وقد روي عن أمير المؤمنين ما دل على تفسير اللفظين حيث قال تجلى لعباده من غير أن رأوه وأراهم نفسه من غير أن تجلى لهم ومعرفة ذلك تحتاج إلى فهم ثاقب وعقل واقد كما في المفردات وأيضاً هو الأول في عين آخريته والآخر في عين أوليته والظاهر في عين باطنيته والباطن في عين ظاهريته من حيثية واحدة وباعتبار واحد في آن واحد لاقتضاء ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة والحيثيات المتنافرة المتباينة لإحاطته بالكل واستغنائه عن الكل قيل للعارف الرباني أبي سعيد الخراز قدس سره : بم عرفت الله؟ قال : بجمعه بين الأضداد فتلا هو الأول والآخر والظاهر والباطن ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلا من حيثية واحدة واعتبار واحد في آن واحد وهو بكل شيء من الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية عليم إذ علمه عين ذاته وذاته حيط باوشياء كما قال والله بكل شيء محيط كما في التأويلات النجمية وقال الواسطي رحمه الله : لم يدع للخلق نفساف بعدما أخبر عن نفسه هو الأول والآخر والظاهر والباطن وقال أيضاً : من كان حظه من اسمه الأول كان شغله بما سبق ومن كان حظه من اسمه الآخر كان مربوطاً بما يستقبل ومن كان حظه من اسمه الظاهر لاحظ عجائب قدرته ومن كان حظه من اسمه الباطن لاحظ ما جرى في السر من أنواره وقال أيضاً : حظوظ الأنبياء عليهم السلام مع تباينها من أربعة أسماء وقيام كل فريق منهم باسم منها فمن جمعها كلها فهو أوسطه
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
م ومن فنى عنها بعد ملابستها فهو الكامل التام وهي قوله هو الأول الخ وقال أيضاً : من ألبسه الأولية فالتجلي له في الآخرية محال لأنه لا يتجلى إلا لمن فقده أو كان بعيداً عنه فقربه وقال الجنيد قدس سره : نفي القدم عن كل أول بأوليته ونفي البقاء عن كل آخر بآخريته واضطر الخلق إلى الإقرار بربوبيته بظاهريته وحجب الإفهام عن إدراك كنهه وكيفيته بباطنيته وقال السدي هو الأول ببره إذ عرفك بتوحيده والآخر بجوده إذ عرفك التوبة عن ما جنيت والظاهر
348
بتوفيقه إذ وفقك للسجود له والباطن بستره إذا عصيته يستر عليك وقال ابن عمر رضي الله عنه : هو الأول بالخلق والآخر بالرزق والظاهر بالاحياء والباطن بالإماتة وأيضاً الأول بلا تأويل أحد والآخر بلا تأخير أحد والظاهر بلا إظهار أحد والباطن بلا إبطال أحد والأول القديم والآخر الرحيم والظاهر الحليم والباطن العليم والأول يكشف أحوال الدنيا حتى لا يرغبوا فيها والآخر يكشف أحوال العقبى حتى لا يشكوا فيها والظاهر على قلوب أوليائه حتى يعرفوه والباطن على قلوب أعدائه حتى ينكروه والأول بالأزلية والآخر بالأبدية والظاهر بالأحدية والباطن بالصمدية والأول بالهيبة والآخر بالرحمة والظاهر بالحجة والباطن بالنعمة واوول بالعطاء والآخر بالجزاء والظاهر بالثناء والباطن بالوفاء والأول بالهداية والآخرة بالكفاية والظاهر بالولاية والباطن بالرعاية.
صاحب كشف الأسرار فرموده كه زبان رحمت ازروى اشارت ميكويد اى فرزند آدم خلق درحق توهارك كروه اند اول كروهى كه در اول حال ترابكار آيند ون در ومادر دوم جمعى كه در آخر زندكانى دست كيرند ون اولاد وأحفاد سوم زمره كه آشكارا باتو باشند ون دوستان وياران.
هارم فرفه كه نهان باتو معاش كنند ون زنان وكنيزان.
رب العالمين ميفرمايد كه اعتماد برينها مكن وكار ساز خود ايشانرا منداركه اول منم كه ترا از عدم بوجود آردم آخر منم كه باز كشت توبمن خواهد بود ظاهر منم كه صورت توبخوبتر وجهي بيار استم باطن منم كه اسرار وحقايق درسينه تووديعت نهادم :
اول وآخر تويى كيست حدوث وقدم
ظاهر وباطن تويى يست وجود وعدم
(9/285)
اول بى انتقال آخر بي ارتحال
ظاهر بي ند وون باطن بى كيف وكم
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ويقال هو الأول خالق الأولين والآخر خالق الآخرين والظاهر خالق الآدميين وهم ظاهرون والباطن خالق الجن والشياطين وهم لا يظهرون وقال الترمذي هو الأول بالتأليف والآخر بالتكليف والظاهر بالتصريف والباطن بالتعريف والأول بالإنهام والآخر بالإتمام والظاهر بالإكرام والباطن بالإلهام وقال بعض المحققين من أهل الأصول هذا مبالغة في نفي التشبيه لأن كل من كان أولاً لا يكون آخراً وكل من كان ظاهراً لا يكون باطناً فأخبر أنه الأول الآخر الظاهر الباطن ليعلم أنه لا يشبه شيئاً من المخلوقات والمصنوعات وقال بعض المكاشفين : هو الأول إذ كان هو ولم تكن صور العالم كما قال عليه السلام : كان الله ولا شيء معه فهو متقدم عليها وهذا التقدم هو المراد بالأولية وهو الآخر إذ كان عين صور العالم عند ظهورها ولها التأخر فهو باعتبار ظهوره بها له الآخرية فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول هذا باعتبار التنزل من الحق إلى الخلق وإما باعتبار الترقي من الخلق إلى الحق فالآخر عين الباطن والظاهر عين الأول وقال الإمام الغزالي رحمه الله : لا تعجبن من هذا في صفات الله فإن المعنى الذي به الإنسان إنسان ظاهر باطن فإنه ظاهر إن استدل عليه بأفعاله المرئية المحكمة باطن إن طلب من إدراك الحس فإن الحس إنما يتعلق بظاهر بشريته وليس الإنسان إنساناً ببشريته المرئية منه بل لو تبدلت تلك البشرية بل سائر أجزائه فهو هو والأجزاء متبدلة ولعل
349
أجزاء كل إنسان بعد كبره غير الأجزاء التي كانت فيه عند صغره فإنها تحللت بطول الزمان وتبدلت بأمثالها بطريق الاغتذاء وهويته لم تتبدل فتلك الهوية باطنة عن الحواس ظاهرة للعقل بطريق الاستدلال عليها بآثارها وأفعالها وقال الزروقي الأول الآخر هو الذي لا مفتتح لوجوده لا مختتم له بثبوت قدمه واستحالة عدمه وكل شيء منه بدأ وإليه يعود وإنما عطف بالواو لتباعد ما بين موقعي معناهما ومن عرف أنه الأول غاب عن كل شيء به ومن عرف أنه الآخر رجع بكل شيء إليه.
وخاصية الأول جمع الشمل فإذا واظب عليه المسافر في كل يوم جمعة انجمع شمله.
وخاصية الآخر صفاء الباطن عما سواه تعالى فإذا واظب عليه إنسان في كل يوم مائة مرة خرج من قلبه سوى الحق والظاهر الباطن هو الواضح الربوبية بالدلائل المحتجب عن الكيفية والأوهام فهو الظاهر من جهة التعريف الباطن من جهة التكييف ومجراهما في العطف مجرى الاسمين السابقين ومن عرف أنه الظاهر لم يستدل بشيء عليه ورجع بكل شيء إليه ومن عرف أنه الباطن استدل بكل شيء عليه ورجع به إليه وخاصية الظاهر إظهار نور الولاية على قلب قارئه إذا قرأه عند الإشراق وخاصية الباطن وجود النفس لمن قرأه في اليوم ثلاث مرات في كل ساعة زمانية ومن قال بعد صلاة ركعتين خمساً وأربعين مرة هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم حصل له ما طلبه أيا كان وقال بعض الكبار حقيقة الأول هو الذي افتتح وجوده عن عدم وهذا منتف في حق الحق بلا شك فهو الأول لا بأولية تحكم عليه ولأجل ذلك سمى نفسه الآخر ولو كانت أوليته مثل أولية الموجودات لم يصح أن يكون آخراً إذ الآخر عبارة عن انتهاى الموجودات المقيدة فهو الآخر لا بآخرية تحكم عليه إذ آخريته عبارة عن فناء الموجودات كلها ذاتاً وصفة وفعلاً في ذاته وصفاته وأفعاله تعالى بظهور القيامة وأما غير الحق فله أولية تحكم عليه مثل قوله عليه السلام : أول ما خلق الله العقل أي أول ما افتتح به من العدم إلى الوجود العقل الذي هو نور محمد صلى الله عليه وسلّم له آخرية تحكم عليه مثل قوله عليه السلام : نحن الآخرون الأولون وفي رواية السابقون يعني الآخرون في الظهور من حيث النشأة العنصرية الجسمانية الأولون في العلم الإلهي من حيث الظهور في النشأة الروحانية ومن صلى في أول الوقت من حيث أولية الحق المنزهة عن أن يتقدمها أولية لشيء فهو المصلى الصلاة لأول وقتها فتنسب عبادة هذا المصلى من هناك إلى وقت وجود هذا المصلى فمن بادر لأول هذا الوقت فقد حاز الخير بكلتي يديه وهو مشهد نفيس أشاروا فيه بتلك الأولية إلى معنى اصطلحوا عليه لا إلى ما يتبادر لذهن غيرهم كما في كتاب الجواهر للشعراني رحمه الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
يقول الفقير : عمل الشافعي رحمه الله بقوله عليه السلام أول الوقت رضوان الله فصلى الفجر في أول وقته وعمل أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله تعالى ومن الليل فسبحه وأدبار النجوم وفي الأولية الآخرية وبالعكس ولكل وجهة بحسب الفناء والبقاء وقد أشير إلي في بعض الأسحار أن الكعبة وضعت عند الفجرة أي عند انفجار الصبح الصادق على ما بينت وجهه في كتاب الواردات الحقية نسأل الله النور
350
(9/286)
{هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} بقدرته الكاملة وحكمته البالغة {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} من أيام الآخرة أو من أيام الدنيا قال ابن عطية هو الأصوب أولها الأحد وآخرها الجمعة.
تاملائكه مشاهده كنند حدوث انهارا يزى س ازيزى وسنت تدريج وتأنى درهركار حاصل آيد.
وكذا وقع الاختلاف في الأربعين التي خمر الله فيها طينة آدم هل هي بأيام الدنيا أو بأيام الآخرة وفيه إشارة إلى مراتب الصفات الست وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر أي هو الذي تجلى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفات الست إذ تجلى الوجود لا يكون إلا مع لوازمه ولواحقه كما قال تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده والتسبيح يستلزم الحياة وما يترتب عليها من العلم بالتسبيح وبالمسبح ومن القدرة على التسبيح والإرادة بتخصيص المسبح ومن السمع إذ كل مسبح لا بد له من استماع تسبيحه ومن البصر إذ لا بد لكل مسبح أن يشاهد المسبح في بعض مراتب الشهود كما في التأويلات النجمية {ثُمَّ اسْتَوَى} أي استولى {عَلَى الْعَرْشِ} المحيط بجمبع الأجسام برحمانيته لأن استوى متى عدى بعلى اقتضى معنى الاستيلاء وإذا عدى بالي اقتضى معنى الانتهاء إليه إما بالذات أو بالتدبير قال بعض الكبار : هو محمول على التمثيل وقد سبق بيانه مراراً.
قال الكاشفي : س قصد كرد بتدبير عرش واجراء امور متعلقه بد وبر وفق ارادت.
وفي التأويلات النجمية يعني استتم وتمكن تجليه على عرش استعدادات المظاهر السماوية الروحانية والمظاهر الأرضية الجسمانية ما تجلى لعرش استعداد شيء إلا بحسب قابليته وقبوله لا زائد ولا ناقص كما قال العارف :
يكى مومى ازين كم نبايد همى
وكر بيش باشد نشايد همى
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأرْضِ} كالكنوز والدفائن والموتى والبذور وكالغيث ينفد في موضع وينبع في الآخر ولولوج الدخول في مضيق وفي المناسبات الدخول في الساتر لجملة الداخل {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} كالجواهر من الذهب والفضة والنحاس وغيرها والزروع والحيوانات والماء وكالكنوز والموتى يوم القيامة.
وفي التأويلات النجمية يعني يعلم بعلمه المحيط ما يدخل في أرض البشرية من بذور النباتات النفسانية مثل مخالفات الشرع وموافقات الطبع وزروع الأحوال القلبية من مخالفات الطبع وموافقات الشرع والواردات القلبية والإلهامات الغيبية وزروع الأذواق والوجدانيات من التجليات الرحمانية التنزلات الربانية لترتب الأعمال على النيات كما قال عليه السلام : إنما الأَمال بالنيات وقال أيضاً لكل امرىء ما نوى إذ النية بمرتبة البذر والعمل بمرتبة الزرع والقلب والنفس والروح بمنزلة الأرض المستعدة لكل نوع من البذر وقال بعضهم : يعلم ما يلج في أرض قلب المؤمن من الإخلاص والتوحيد وفي أرض قلب الكافر من الشك والشرك وما يخرج منها بحسب حالهما {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ} كالكتب والملائكة والأقضية والصواعق والأمطار والثلوج {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} كالملائكة الذين يكتبون الأعمال والدعوات والأعمال والأرواح السعيدة والأبخرة والأدخنة وقال بعضهم : وما ينزل من السماء على قلوب أوليائه من الألطاف والكشوف وفنون الأحوال العزيزة وما يعرج من أنفاس
351
الأولياء المشتاقين إذا تصاعدت حسراتهم وعلت زفراتهم {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} في الأرض وهو تمثيل لإحاطة علمه تعالى بهم وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما داروا وفي الحديث أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان :
يار بانست هركجا هستى
جاى ديكر ه خواهى اي اوباش
باتودر زيرك كليم واوست
س بر واى حريف خود راباش
قال موسى عليه السلام : أين أجدك يا رب؟ قال : يا موسى إذا قصدت إلي فقد وصلت إلي في التأويلات النجمية وهو معكم لا بالمعية المفهومة للعوام والخواص أيضاً :
أين معيت مى نكنجد در بيان
نى زمان دارد خبر زونى مكان
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/287)
بل بالمعية المذوقة بالذوق الكشفي الشهودي أي أنا معكم بحسب مراتب شهوداتكم إن كنتم في مشهد الفعلي فأنا معكم بالتجلي الذاتي ما أتقدم ولا أتأخر عنكم وقال بعض الكبار : تلك المعية ليست هي مثل ما يتوصر بالعقل حساً أو ذهناً أو خيالاً أو وهماً تعالى شأنه عن ذلك علواً كبيراً وإنما هي معية تفرد الحق سبحانه بعينها وتحققها وعلمها لا يعلم سرها إلا الله ومن أطلعه عليه من الكمل ويحرم كشفها ترحماً على العقول القاصرة عن درك الأسرار الخفية كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : أبهموا ما أبهم الله وبينوا ما بين الله يعني إذا اقتضى المقام الإبهام كما إذا طلب بيان المبهم على ما هو عليه في نفسه وعقل الطالب قاصر عن دركه فلا جرم أنه حرام لما فيه من هلاكه وأما إذا طلب بيان المبهم لا على ما هو عليه في نفسه بل على وجه يدركه عقله يضرب تأويل يستحسنه الشرع ففيه رخصة شرعية اعتبرها المتأخرون دفعاً لانقلاب قلب الطالب وترسيخاً على عقيدته حتى تندلع عن صدره الوساوس والهواجس والمراد على هذا إما معية حفظه أو معية أمره أو غير ذلك مما لا اضطراب فيه لا شرعاً ولا عقلاً ولا خارجاً والأين المذكور في الآية متناول لجميع الأينات الأزلية والأبدية من المعنوية والروحانية والمثالية والحسية والدنيوية والبرزخية والنشرية والحشرية والنيرانية والجنانية والغيبية والشادية مطلقاً كلية كانت أو جزئية وهذه لأينية كالمعية من المبهمات والمتشابهات وما يعلم تأويلها إلا الله وما يتذكر سرها الأولوا الألباب قال بعضهم في هذه الآية بشارة للعاشقين حيث هو معهم أينما كانوا وتوفيق للمتوكلين وسكينة للعارفين وبهجة للمحبين ويقين للمراقبين ورعاية للمقبلين وإشارة إلى سر الوحدة للموحدين قال الحسين رحمه الله : ما قارب الحق الأكوان ولا فارقها كيف يفارقها وهو موجودها وحافظها وكيف يقارب القدم الحدوث به قوام الكل وهو بائن عن الكل انتهى {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم عليه ثواباً وعقاباً وهو عبارة عن إحاطته بأعمالهم فتأخيره عن الخلق لما أن المراد ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع للمعلوم لا لما قيل من أن الخلق دليل على العلم فبالخلق يستدل على العلم والدليل يتقدم على المدلول وفي الآية إيقاظ للغافين وتنشيط للمتيقظين ودلالة لهم على الخشية والحياء من رب العالمين وإشارة لهم إلى أن أعمالهم محفوظة وأنهم مجزيون بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر قال بعض الكبار : والله بما تعملون بصير لأنه العامل بكم وفيكم ولا بد لكل عامل أن يبصر عمله وما يتعلق به
352
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/288)
{لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} تكرير للتأكيد وتميهد لقوله تعالى : {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} على البناء للمفعول من رجع رجعاً أي رد رداً وقرىء على البناء للفاعل من رجع رجوعاً والمعنى إليه تعالى وحده لا إلى غيره استقلالاً واستراكاً ترد جميع الأمور فاستعدوا للقائه باختيار أرشد الأمور وأحسنها عند الله.
س تكرير كلام جهت آنست كه اول تعلق بابداء دارد وثاني باعاده.
ولذا قرن بالأول يحيي ويميت وبالثاني ما يكون في الآخرة من رد الخلق إليه وجزائه إياهم بالثواب والعقاب وفيه إشارة إلى أنه له ملك علوم السموات الروحانية وهي العلوم الكشفية اللدنية الموهوبة بالاسم الوهاب من غير تحصيلي الأسباب لعباده المخلصين بءفاضته عليهم وله أيضاً ملك العلوم السرمية الكسبية الأرضية بالسعي والاجتهاد للعلماء بإفاضة توفيق الكسب والاجتهاد فأمور العلوم الكشفية والكسبية ترجع إلى عناية الله الأزلية والأبدية {يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ} الإيلاج الإدجال يعني از زمان شب درروز افزايد.
حتي يصير النهار أطول ما يكون خمس عشرة ساعة والليل أقصر ما يكون تسع ساعات {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ} يعني از زمان روز بشب زياده كند باختلاف الفصول وبحسب مطالع الشمس ومغاربها حتى يصير الليل أطول ما يكون خمس عشرة ساعة والنهار أقصر ما يكون تسع ساعات والليل والنهار أبداً أربع وعشرون ساعة قال في فتح الرحمن : فيه تنبيه على العبرة فيما يجاذبه الليل والنهار من الطول والقصر وذلك متشعب مختلف حسب اختلاف الأقطار والأزمان الأربعة وذلك بحر من بخار الكفرة لمن تأمله {وَهُوَ عَلِيمُ} أي مبالغ في العلم {بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي بمكنوناتها اللازمة لها من الأسرار والمعتقدات وذلك أغمض ما يكون وهو بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه في نياتهم بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها وفي الآية إشارة إلى أنه يستهلك ظلمة ليل البشرية والطبيعة في نور نهار الروح بطريق تغليب نور نهار الروح وهو تعالى عالم بكل ما يصدر من أصحاب ليل النفوس من السيئات ومن أرباب نهار الأرواح من الحسنات لا يفوته منهما شيء قال ابن عباس رضي الله عنهما : اسم الله الأعظم في أول سورة الحديد في ست آيات من أولها فإذا علقت على المقاتل في الصف لم ينفذ إليه حديد كما في فتح الرحمن {بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه فَالَّذِينَ} روي أن الآية نزلت في غزوة ذي العشيرة وهي غزوة تبوك وفي عين المعاني يحتمل الزكاة والنفقة في سبيل الله والمعنى جعلكم الله خلفاء في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة عبر عما بأديهم من الأموال والأرزاق بذلك تحقيقاً للحق وترغيباً لهم في الإنفاق فإن من علم أنهاوأنه بمنزلة الوكيل والنائب بحيث يصرفها إلى ما عينه اللهمن المصارف هان عليه الإنفاق أو جعلكم خلفاء من قبلكم فيما كان بأيديهم بتوريثه إياكم فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم وسينتقل منكم إلى من بعدكم فلا تخلوا به قال الشاعر :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ويكفيك قول الناس فيما ملكته
لقد كان هذا مرة لفلان
فلا بد من إنفاق الأموال التي هي للغير وستعود إلى الغير فكما أن الإنفاق من مال الغير يهون على النفس إذا أذن فيه صاحبه فكذا من المال الذي على شرف الزوال :
353
مكن تكيه بر ملك واه وحشم
كه يش ازتو بودست وبعد ازتوهم
خورووش وبخشاى وراحت رسان
نكه مى ه دارى زبهر كسان
بخيل توانكر بدينار وسيم
طلسم است بالاى كنجى مقيم
از ان سالهامى بماند زرش
كه لرزد طلسم نين بر سرش
بسكن اجل ناكها بشكنند
بآسودكى كنج قسمت كنند
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 38 من صفحة 354 حتى صفحة 363
{فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا} حسبما أمروا به.
وقال الكاشفي : ونفقه كردندمال خودرا بزكاة وجهاد وسائر خيرات {لَهُمْ} بسبب ذلك {أَجْرٌ كَبِيرٌ} مزدى بزرك وثوابي عظيم كه جنت ونعيم است.
قال في فتح الرحمن : الإشارة فيه إلى عثمان رضي الله عنه وحكمها باق يندب إلى هذه الأفعال بقية الدهر.
(9/289)
وفي التأويلات النجمية يخاطب كل واحد من المشايخ والعلماء ويأمرهم بالإيمان بالله وبرسوله إيماناً كلياً جامعاً شرائط الإيمان الحقيقي الشهودي العياني ويوصيهم بإفاضة علوم الوهب على مستحقيها وتعليم علوم الدراسة المستعد بها إذ العلماء في العلوم الكسبية والمشايخ في المعرفة والحكمة الوهبية خلفاء فيهما فعليهم أن ينفقوا على الطالبين المستحقين الذين ينفق الله ورسوله عليهم كما قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى : أنفق أنفق عليك وقال عليه السلام لاتوك فيكوكى عليك وفي الحديث "من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" ويشمل هذا الوعيد حبس الكتب عمن يطلبها للانتفاع بها لا سيما مع عدم التعدد لنسخها الذي هو أعظم أسباب المنع وكون المالك لا يهدي لراجيه منها والابتلاء بهذا كثير كما في المقاصد الحسنة للإمام السخاوي رحمه الله فالذين آمنوا من روح القلب والإيمان الشهودي وأنفقوا من تلك العلوم الوهبية والكسبية على النفس وصفاتها بالإرشاد إلى موافقات الشرع ومخالفات الطبع وفي التسليك في طريق السير والسلوك بالاتصاف بصفات الروحانية والإنسلاخ عن صفات البشرية النفسانية لهم أجر كبير كما قال تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} لا تؤمنون حال من الضمير في لكم لما فيه من معنى الفعل أي أي شيء ثبت لكم وحصل حال كونكم غير مؤمنين وحقيقته ما سبب عدم إيمانكم بالله على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} حال من ضمير لا تؤمنون مفيدة لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه أي وأي عذر في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه بالحجج والآيات فإن الدعوة المجردة لا تفيد فلو لم يجب الداعي دعوة مجردة وترك ما دعاه إليه لم يستحق الملامة والتوبيخ فلام لتؤمنوا بمعنى إلى ولا يبعد حملها على التعليلية أي يدعوكم إلى الإيمان لأجل أن تؤمنوا {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـاقَكُمْ} حال من مفعول يدعوكم والميثاق عقد يؤكد بيمين وعهد والموثق الاسم منه أي وقد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان من قبل دعوة الرسول إياكم إليه وذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر وحمله بعض العلماء على المأخوذ يومالذر أي حين أخرجهم من صلب آدم في صورة الذر وهي النمل الصغير {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لموجب ما فإن هذا موجب لا موجب وراءه وفي عين المعاين أي إن كنتم مصدقين بالميثاق وفي فتح الرحمن أي إن دمتم
354
على ما بدأتم به {هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ} بواسطة جبرائيل عليه السلام "على عبده" المطلق محمد عليه السلام {بَيِّنَـاتٍ لِّيُخْرِجَكُم} واضحات من الأمر والنهي والحلال والحرام {لِّيُخْرِجَكُم} الله يا قوم محمد أو العبد بسبب تلك الآيات {مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} من ظلمات الكفر والشرك والشك والجهل والمخالفه والحجاب إلى نور الإيمان والتوحيد واليقين والعلم والموافقة والتجلي {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} حيث يهديكم إلى سعادة الدارين بإرسال الرسول وتنزيل الآيات بعد نصب الحجج العقلية.
4
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/290)
وقال الكاشفي : مهر بانست كه قرآن ميفرستد بخشاينده است كه رسول را بدعوت ميفر مايد.
وقال بعضهم : لرؤوف بإفاضة نور الوحي رحيم بإزالة ظلمة النفس البشرية {وَمَا لَكُمْ أَلا تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} أي وأي شيء لكم من أن تنفقوا فيما هو قربة إلى الله ما هو له في الحقيقة وإنما أنتم خلفاؤه في صرفه إلى ما عينه من المصارف فقوله في سبيل الله مستعار لما يكون قربة إليه وقال بعضهم معناه لأجل الله {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} حال من فاعل لا تنفقوا أو مفعوله المحذوف أي ومالكم في ترك إنفاقها في سبيل الله والحال أنه لا يبقى لكم منها شيء بل تبقى كلهابعد فناء الخلق وإذا كان كذلك فإنفاقها بحيث تستخلف عوضاً يبقى وهو الثواب كان أولى من الإمساك لأنها إذا تخرج من أيديكم مجاناً بلا عوض وفائدة قال الراغب وصف الله نفسه بأنه الوارث من حيث أن الأشياء كلها صائرة إليه وقال أبو الليث إنما ذكر لفظ الميراث لأن العرب تعرف أن ما ترك الإنسان يكون ميراثاً فخاطبهم بما يعرفون فيما بينهم قال بعض الكبار أولاً : إن القلوب مجبولة على حب المال ما فرضت الزكاة ومن هنا قال بعضهم : إن العارف لا زكاة عليه والحق أن عليه الزكاة كما أن عليه الصلاة والطهارة من الجنابة ونحوهما لأنه يعلم أن نفسه مجموع العالم ففيها من يحب المال فيوفيه حقه من ذلك الوجه بإخراجها فهو زاهد من وجه وراغب من وجه آخر وقد أخرج رسول الله عليه السلام صدقة ماله فالكامل من جمع بين الوجهين إذ الوجوب حقيقة في المال لا على المكلف لأنه إنما كلف بإخراج الزكاة من المال لكون المال لا يخرج بنفسه فللعارفين المحبة في جميع العالم كله وإن تفاضلت وجوهها فيحبون جميع ما في العالم بحب الله تعالى في إيجاد ذلك لا من جهة عين ذلك الموجود فلا بد للعارف أن يكون فيه جزء يطلب مناسبة العالم ولولا ذلك الجزء ما كانت محبة ولا محبوب ولا تصور وجودها وفي كلام عيسى عليه السلام قلب كل إنسان حيث ماله فاجعلوا أموالكم في السماء تكن قلوبكم في السماء فحث أصحابه على الصدقة لما علم أن الصدقة تقع بيد الرحمن وهو يقول ءأمنتم من في السماء فانظر ما أعجب كلام النبوة وما أدقه وأحلاه وكذلك لما علم السامري أن حب المال ملصق بالقلوب صاغ لهم العجل من حليم بمرأى منهم لعلمه أن قلوبهم تابعة لأموالهم ولذلك لما سارعوا إلى عبادة العجل دعاهم إليها فعلم أن العارف من حيث سره الرباني مستخلف فيما بيده من المال كالوصي على مال المحجور عليه يخرج عنه الزكاة وليس له فيه شيء ولكن لما كان المؤمن لحجابه يخرجها بحكم الملك فرضت عليه الزكاة لنال بركات ثواب من رزىء في محبوبه والعارف لا يخرج شيئاً بحكم الملك والمحبة كالمؤمن
355
إنما يخرج امتثالاً للأمر ولا تؤثر محبت فلمال في محبته الله تعالى لأنه ما أحب المال إلا بتحبيب الله ومن هنا قال سليمان عليه السلام : هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فما طلب إلا من نسبة فاقة فقير إلى غني.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ثم اعلم أن المال إنما سمي مالاً لميل النفوس إليه فإن الله تعالى قد أشهد النفوس ما في المال من قضاء الحاجات المجبول عليها الإنسان إذ هو فقير بالذات ولذلك مال إلى المال بالطبع الذي لا ينفك عنه ولو كان الزهد في المال حقيقة لم يكن مالاً ولكان الزهد في الآخرة أتم مقاماً من الزهد في الدنيا وليس الأمر كذلك فإن الله تعالى قد وعد بتضعيف الجزاء الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فلو كان القليل منه حجاباً لكان الكثير منه أعظم حجاباً فالدنيا للعارف صفة سليمانية كمالية وما أليق قوله أنك أنت الوهاب أتراه عليه السلام سأل ما يحجبه عن الله تعالى أو سأل ما يبعده من الله تعالى كلا ثم انظر إلى تتميم النعمة عليه بدار التكليف بقوله تعالى له : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب فرفع عنه الحرج في التصرف بالاسم المانع والمعطي واختصه بجنة معجلة في الدنيا وما حجبة ذلك المال عن ربه فانظر إلى درجة العارف كيف جمع بين الجنتين وتحقق بالحقيقتين وأخرج زكاة المال الذي بيده عملاً بقوله تعالى : وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فجعله مالكاً للإنفاق من حقيقة إلهية فيه في مال هو ملك الحقيقة أخرى فيه هو وليها من حيث الحقيقة الإلهية {لا يَسْتَوِى مِنكُم} يا معشر المؤمنين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/291)
ـ روي ـ أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنفقوا تفقات كثيرة حتى قال ناس هؤلاء أعظم أجراً من كل من أنفق قديماً فنزلت الآية مبينة أن النفقة قبل فتح مكة أعظم أجراً {مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ} أي فتح مكة الذي أزال الهجرة وقال عليه السلام فيه : لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وهذا قول الجمهور وقال الشعبي : هو صلح الحديبية فإنه فتح كما سبق في سورة الفتح {وَقَـاتَلَ} العدو تحت لواء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والاستواء يقتضي شيئين فقسيم من أنفق محذوف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه أي لا يستوي في الفضل من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعده وقاتل والظاهر أن من أنفق فاعل لا يستوي وقيل من مبتدأ ولا يستوي خبره ومنكم حال من ضمير لا يستوي لا من ضمير أنفق لضعف تقديم ما في الصلة على الموصول أو الصفة على الموصوف ولضعف تقديم الخبر على منكم لأن حقه أن يقع بعده ثم في أنفق إشارة إلى إنفاق المال وما يقدر عليه من القوء وفي قاتل إشارة إلى أنفاق النفس فإن الجهاد سعي في بذل الوجود ليحصل بالفناء كمال الشهود ولذا قال تعالى : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون فهذه الحياة حياة أخروية باقية عندية فكيف تساويها الحياة الدنيوية الفانية الخلقية مع أن رزق الحياة الفانية ينفد وما عند الله باق ولذا قال : أكلها دائم وظلها أي راحتها فالإنسان العاقل بترك الراحة الدنيوية اليسيرية تعالى يصل إلى الراحة الكثيرة الأخروية فشأنه يقتضي الجهاد والقتال {أولئك} المنفقون المقاتلون قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار {أَعْظَمُ دَرَجَةً} وأرفع منزلة عند الله وبعظم الدرجة يكون عظم صاحبها فالدرجة بمعنى المرتبة والطبقة وجمعها درجات وإذا كانت بمعنى المرقاة فجمعها
356
درج {مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنا بَعْدُ وَقَـاتَلُوا} لأنهم إنما فعلوا من الإنفاق والقتال قبل عزة الإسلام وقوة أهله عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال وهؤلاء فعلوا ما فعلوا بعد ظهور الدين ودخول الناس فيه أفواجاً وفلة الحاجة إلى الإنفاق والقتال وقد صرح عليه السلام أيضاً بفضل الأولين بقوله : لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم وملا نصيفه قال في القاموس : المد بالضم مكيال وهو رطلان أو رطل وثلث أو ملىء كفي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومديده بهما وبه سمي مداً وقد جربت ذفلك فوجدته صحيحاً والنصيف والنصف واحد وهو أحد شقي الشيء وللضمير في نصيفه راجع إلى أحدهم لا إلى المد والمعنى أن أحدكم أيها الصحابة الحاضرون لا يدرك بإنفاق مثل جبل أحد ذهباً من الفضيلة ما أدرك أحدهم بإنفاق مد من الطعام أو نصيف له وفيه إشارة إلى أن صحبة السابقين الأولين كاملة بالنسبة إلى صحبة اللاحقين الآخرين لسبقهم وتقدمهم وفي الحديث : سيأتي قوم بعدكم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم قالوا : يا رسول الله نحن أفضل أم هم؟ قال : لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك فضل أحدكم ولا نصفه فرقت هذه الآية بينكم وبين الناس لا يستوي منكم الآية ذكره أبو الليث في تفسيره وفيه إشارة إلى أن الصحابة متفاوتون في الدرجة بالنسبة إلى التقدم والتأخر وإحراز الفضائل فكذا الصحابة ومن بعدهم فالصحابة مطلقاً أفضل ممن جاء بعدهم مطلقاف فإنهم السابقون من كل وجه
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{وَكُلا} أي كل واحد من الفريقين وه مفعول أول لقوله : {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي المثوبة الحسنى وهي الجنة لا الأولين فقط ولكن الدرجات متفاوتة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} بظواهره وبواطنه فيجازيكم بحسبه قال في المناسبات لما كان زكاء الأعمال إنما هو بالنيات وكان التفضيل مناط العلم قال مرغباً في حسن النيات مرهباً من التقصير فيها والله بما تعملون أي تجددون عمله على ممر الأوقات خبير أي عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها :
عبادت بإخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زبى مغز وست
(9/292)
وقال الكلبي : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفيها دلالة ظاهرة وحجة باهرة على تفضيل أبي بكر وتقديمه فإنه أول من أسلم وذلك فيما روى أن أبا أمامة قال لعمر بن عيينة : بأي شيء تدعى إنك ربع الإسلام قال : إني كنت أرى الناس على الضلالة ولا أرى للأوثان شيئاً ثم سمعت عن رجل يخبر عن أخبار مكة فركبت راحلتي حتى قدمت عليه فقلت : من أنت؟ قال : أنا نبي قلت : وما نبي؟ قال : رسول الله قلت : بأي شيء أرسلك؟ قال : أوحد الله لا أشرك به شيئاً وأكسر الأوثان وأصل الأرحام قلت : من معك على هذا؟ قال : حر وعبد وإذا معه أبو بكر وبلال فأسلمت عند ذلك فرأيتني ربع الإسلام يعني س دانستم خودرا ربع اسلام.
وإنه أي أبا بكر أول من أظهر الإسلام على ما روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كان أول من أظهر الإسلام رسول الله عليه السلام وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد وإنه أول من قاتل على الإسلام وخاصم الكفار حتى ضرب
357
ضرباً أشرف به على الهلاك على ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه : أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي عليه السلام وأبو بكر رضي الله عنه وأنه أول من أنفق على رسول الله وفي سبيل الله قال ابن عمر رضي الله عنهما : كنت عند النبي عليه السلام وعنده أبو بكر وعليه عباءة فدكية قد خللها في صدره بخلال يعني بروى كليمى بودكه استوار كرده ويرا در سينه خود بخلال.
قال في القاموس : خل الكساء شده بخلال وذو الخلال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنه تصدق بجميع ماله وخل كساءه بخلال انتهى فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فقال : أنفق ماله علي قبل الفتح قال : فإٌّ الله تعالى يقول : اقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط فقال أبو بكر : أسخط على ربي إني عن ربي راض إني عن ربي راض ولهذا قدمه الصحابة رضي الله عنهم على أنفسهم واقروا له بالتقدم والسبق وذلك فيما روى عليه السلام بن سلمة عن علي رضي الله عنه قال : سبق رسول الله عليه السلام وثنى أبو بكر وثلث عمر يعني سابقست رسول الله ودر ى وى ابو بكر است وسوم عمر است.
فلا اؤتى برجل فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري واطرح شهادته يعني طرح شهادت وى كنم ودر صفت وى كقته اند :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
صاحب قدم مقام تجريد
سر دفتر جمله اهل توحيد
در جمع مقربان سابق
حقا كه واو نبود صادق
وفي الآية إشارة إلى أن من تقدمت مجاهدته على مشاهدته وهو المريد المراد والسالك المجذوب والمحب المحبوب أعلى وأجل وأسبق درجة ومرتبة من درجات المشاهدة ومراتبها ممن تقدمت مشاهدته على مجاهدته وحين يقعد أرباب المشاهدة في مقعد صدق عند مليك مقتدر لمشاهدة وجهه ورؤية جماله في جنة وصاله يفوقه ويسبقه ويتقدمه وهو المراد المريد والمجذوب السالك والمحبوب المحب فإن المجاهدة قدمت على المشاهدة في قوله تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا فيصير سلوك الأول واقعاً على وفق العادة الإلهية والسنة الربانية وسلوك الثاني على خارقها والمعتبر في الترتيب الإلهي تقدماً وتأخراً باعتبار الأكمل إنما هو وفق العادة والسنة الإلهية وهما وإن كانا متحدين باعتبار أصل حسن المشاهدة لكنهما متفاوتان باعتبار قدرها ودرجتها فإنهم الصافون وما منا إلا له مقام معلوم كذا في كتال اللائحات البرقيات لحضرة شيخي وسندي روح الله روحه {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} من مبتدأ خبره ذا والذي صفة ذا أو بدله والاقراض حقيقة إعطاء العين على وجه يطلب بدله وقرضاً حسناً مفعول مطلق له بمعنى إقراضاً حسناً وهو الإخلاص في الإنفاق أي الإعطاءوتحرى أكرم المال وأفضل الجهات والمعنى من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله رجاء أن يعوضه فإنه كمن يقرضه وقال في كشف الأسرار : كل من قدم عملاً صالحاً يستحق به مثوبة فقد أقرض ومنه قولهم : الأيادي قروض وكذلك كل من قدم عملاً سيئاً يستوجب به عقوبة فقد أقرض فلذلك قال تعالى : قرضاً حسناً لأن المعصية قرض سيء قال أمية :
لا تخلطن خبيثات بطيبة
واخلع ثيابك منها وانج عريانا
358
كل امرىء سوف يجزي قرضه حسنا
او سيئة ومدين مثل ما دانا
(9/293)
وقيل : المراد بالقرض الصدقة انتهى وههنا وجه آخر وهو أن القرض في الأصل القطع من قرض الثوب بالمقراض إذا قطعه به ثم سمى به ما يقطعه الرجل من أمواله فيعطيه عيناً بشرط رد بدله فعلى هذا يكون قرضاً حسناً مفعولاً به والمعنى من ذا الذي يقرض الله مالاً حسناً أي حلالاً طيباً فإنه تعالى لا يقبل إلا الحلال الطيب {فَيُضَـاعِفَه لَهُ} بالنصب على جواب الاستفهام باعتبار المعنى كأنه قيل أيقرض الله أحد فيضاعفه له أي فيعطيه أجره أضعافاً من فضله وإنما قلنا باعتبار المعنى لأن الفاء إنما تنصب فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه كما قاله أبو علي الفارسي وههنا السؤال لم يقع عن القرض بل عن فاعله {وَلَه أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم حسن مرضى في نفسه حقيق بأن بتنافس فيه المتنافسون وإن لم يضاعف فكيف وقد ضوعف أضعافاً كثيرة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ـ وروي ـ أنه لما نزلت هذه الآية جعل أبو الدحداح يتصدق بنصف كل شيء يملكه في سبيل الله حتى أنه خلع إحدى نعليه ثم جاء إلى أم الدحداح فقال : إني بايعت ربي فقالت : ربح بيعك فقال النبي عليه السلام : كم من نخلة مدلاة عذوقها في الجنة لأبي الدحداح قال بعضهم : سأل الله منهم القرض ولو كانوا على نعت المروءة لخرجوا من وجودهم قبل سؤاله فضلاً عن المال فإن العبد وما يملكه لمولاه فإذا بذلوا الوجود المجازي وجدوا من الله بدله الوجود الحقيقي وله أجر كريم بحسب الاجتهاد في السير إلى الله والتوجه إلى عتبة بابه الكريم :
هركسى از همت والاي خويش
سود برد درخور كالاى خويش
وفي الآية إشارة إلى القرض الشرعي لمن يستقرض كما دل عليه قوله تعالى : عبدي استطعمتك فلم تطعمني فإعطاء القرض للعبد إعطاء الله تعالى والقرض أفضل من الصدقة لأنه ربما سأل سائل وعنده ما يكفيه وأما المستقرض فلا يستقرض إلا من حاجة وقال بعضهم : هذا القرض هو أن يقول سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر وهو أفضل الأذكار وعن الحسن هو التطوعات وفي المرفوع النافلة هدية المؤمن إلى ربه فليحسن أحدكم هديته وليطيبها والحاصل أن الكريم يريد القرض بإحسن ما يكون من الرد ويحسن أيضاً في مقابلة الهدية {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} منصوب بإضمار اذكر تفخيماً لذلك اليوم أي اذكر وقت رؤيتهم يوم القيامة على الصراط {يَسْعَى نُورُهُم} حال من مفعول ترى أي نور إيمانهم وطاعتهم والسعي المشي السريع وهو دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيراً كان أو شراً وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم} جمع بيمين بمعنى الجارحة والمراد جهة اليمين وبين ظرف للسعي قال أبو الليث : يكون النور بين أيديهم وبأيمانهم وعن شمائلهم إلا أن ذكر الشمال مضمر وقال في فتح الرحمن وخص بين الأيدي بالذكر لأنه موضع حاجة الإنسان إلى النور وخص ذكر جهة اليمين تشريفاً وناب ذلك مناب أن يقول وفي جميع جهاتهم وفي كشف الأسرار لأن طريق الجنة يمنة وتجاههم وطريق أهل النار يسرة ذات شمال وفي الحديث : "بينا أنا على حوضي أنادي هلم إذا أناس أخذتهم ذات الشمال فاختلجوا
359
دوني فأنادي إلا هلم فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً".
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/294)
يقول الفقير : ذكر بين الأيدي إشارة إلى المقربين الذين هم وجه بلا قفا ظاهراً وباطناً فلهم نور مطلق يضيء من جميع الجهات وذكر الإيمان إشارة إلى أصحاب اليمين الذين هم وجه من وجه وقفا من وجه آخر فنورهم نور مقيد بإيمانهم وأما أصحاب الشمال فلا نور لهم أصلاً لأنهم الكفرة الفجرة فلذا طوى ذكر الشمال من البين از ابن مسعود منقولست كه نورهركسى بقدر عمل وى بود نور يكى از صنعا باشد بابعدن وادنى نورى آن بود كه صاحبش قدم خود را بيند بارى هي مؤمن بى نور نباشد.
وقال : منهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نوراً يؤتى نوره على إبهام قدميه فيطفأ مرة ويتقد أخرى فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعى نورهم جنيباً لهم ومتقدماً ومرورهم على الصراط على قدر نورهم فمنهم من يمر كطرف العين ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالحساب ومنهم من يمر كالنقضاض الكواكب ومنهم من يمر كشد الفرس والذي أعطى نوره على إبهام قدميه يحبو على وجهه ويديه ورجليه ويقف مرة ويمشي أخرى وتصيب جوارحه النار فلا يزال كذلك حتى يخلص وكما أن لهم يوم القيامة نوراً يسعى بين أيديهم وبإيمانهم فاليوم لهم في قلوبهم نور يهتدون به في جميع الأحوال ويبدو أيضاً في بشرتهم فمن ظهر له ذلك النور انقاد له وخضع وكان من المقربين ومن لم يظهر له ذلك تكبر عليه ولم يستسلم وكان من المنكرين وحين تعلق نظر عليه السلام بن سلام إلى وجه النبي عليه السلام آمن به وقال : ما هو بوجه كذا وكذاب إضرابه بخلاف أبي جهل وأحزابه قال بعض الكبار نور الإيمان كناية عن تمكن اجتهادهم وسعيهم إلى الله بالسير والسلوك وذلك لأن قوة الإنسان في يمينه وبها يعرف اليمين من الشمال {بُشْرَاـاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّـاتٌ} أي تقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم بشراكم أي ما تبشرون به اليوم جنات أو بشراكم دخول جنات فحذف المضاف وأقيم مقامه المضاف إليه في الإعراب {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا ذَالِكَ} أي ما ذكر من النور والبشرى بالجنات المخلدة {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا غاية وراءه لكونهم ظفروا بكل ما أرادوا.
قال الكاشفي : رستكارىء بزركست ه از همه اهوال قيامت ايمن شده بدار الجلال ميرسند وديدار ملك متعال مى نينند "مصراع" هزار جان مقدس فداى ديدارت {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ وَالْمُنَـافِقَـاتُ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
بدل من يوم ترى {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} أي أخلصوا الإيمان بكل ما يجب الإيمان به {انظُرُونَا} أي انتظرونا يقولون ذلك لما أن المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تزف بهم وهؤلاء مشاة أو انظروا إلينا فإنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بالنور الذي بين أيديهم فانظرونا على هذا الوجه من باب الحذف والإيصال لأن النظر بمعنى الأبصار لا يتعدى بنفسه وإنما يتعدى بإلى وقرأ حمزة انظرونا من النظرة وهي الإمهال على أن تأتيهم في المضي ليلحقوا بهم أنظار لهم وإمهال {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي نستضيء منه ونمش فيه معكم وأصله اتخاذ القبس وهو محركة شعلة نار تقتبس من معظم النار كالمقباس قال الراغب : القبس المتناول
360
من الشعلة والاقتباس طلب ذلك ثم يستعار لطلب العلم والهداية قال بعضهم : النار والنور من أصل واحد وهو الضوء المنتشر يعين على الأبصار وكثيراً ما يتلازمان لكن النار متاع اللمقوين في الدنيا والنور متاع لهم في الدنيا والآخرة ولأجل ذلك استعمل في النور الاقتباس وقيل نقتبس من نوركم أي تأخذ من نوركم قبساً سرا ً وشعلة وقيل : إن الله يعطي المؤمنين نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ويعطي المنافقون أيضاً نوراً خديعة لهم وهو قوله تعالى : وهو خادعهم فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحاً وظلمة فأطفأ نورالمنافقين فذلك قوله يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب المنافقون وقال الكلبي : بل يستضىء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون وبقوا في الظلمة قالوا للمؤمنين : انظرونا نقتبس من نوركم {قِيلَ} طرداً لهم وتهكماً بهم من جهة المؤمنين أو من جهة الملائكة {ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ} أي إلى الموقف {فَالْتَمِسُوا نُورًا} أي فاطلبوا نوراً فإنه من ثمة يقتبس أو إلى الدنيا فالتمسوا النور بتحصيل مباديه من الإيمان والأعمال الصالحة :
كالا انيجاكن كه تشويشست در محشر بسى
آب ازيجابركه در عقبى بسى شور وشرست
(9/295)
وروي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال : بينا العباد يوم القيامة عند الصراط إذ غشيهم ظلمة يقسم الله النور بين عباده فيعطي الله المؤمن نوراً ويبقى المنافق والكافر لا يعطيان نوراً فكمالا يستضيء الأعمى بنور البصير لا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن فيقولون انظرونا نقتبس من نوركم فيقولون لهم : ارجعوا حيث قسم النور فيرجعون فلا يجدون شيئاً فيرجعون وقد ضرب بينهم بسور أو ارجعوا خائبين خاسئين وتنحوا عنا فالتمسوا نوراً آخر وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما قالوه تخييباً لهم أو أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة الكثيفة تهكماً بهم وقال بعض أهل الإشارة كأن استعداداتهم الفطرية الفائتة عنهم تقول بلسان الحال : ارجعوا إلى استعداداتكم الفطرية التي أفسدتم بحب الدنيا ولذاتها وشهواتها واقتبسوا منها نوراً إذا ما تصلون إلى مطلوباتكم إلا بحسب استعداداتكم وهي فائتة عنكم باشتغالكم بالأمور الدنيوية وإعراضكم عن الأحكام الأخروية والتوجهات المعنوية {فَضُرِبَ بَيْنَهُم} أي بين الفريقين وهم المؤمنون والمنافقون يعني ملائكة بحكم الهي بزنند.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ولما كان البناء مما يحتاج إلى ضرب باليد ونحوها من الآلات عبر عنه بالضرب ومثله ضرب الخيمة لضرب أوتادها بالمطرقة {بِسُورٍ} أي حائط بين شق الجنة وشق النار فإن سور المدينة حائطها المشتمل عليها والباء زائدة وبالفارسية ديوارى نزديك ون باره شهرى.
قال بعضهم : هو سور بين أهل الجنة والنار يقف عليه أصحاب الأعراف يشرفون على أهل الجنة وأهل النار وهو السور الذي يذبح عليه الموت يراه الفريقان معاً {لَّهُ} أي لذلك السور {بَابُ} يدخل فيه المؤمنون فيكون السور بينهم باعتبار ثاني الحال أعني بعد الدخول لا حين الضرب {بَاطِنُهُ} أي باطن السور أو الباب {فِيهِ الرَّحْمَةُ} لأنه يلي الجنة {وَظَـاهِرُه مِن قِبَلِهِ} أي من جهته وعنده {الْعَذَابُ} لأنه يلي النار وقال بعضهم : هو سور بيت القدس الشرقي باطنه فيه
361
المسجد الأقصى وظاهره من قبله العذاب وهو واد يقال له وادي جهنم وكان كعب يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس أنه الباب الذي قال الله فضرب بينهم بسور له باب الآية يعني إن هذا الموضع المعروف بوادي جهنم موضع السور قال ابن عطية وهذا القول في السور بعيد يعني بل المراد بالسور الأعراف.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
يقول الفقير لا بعد فيه بالنسبة إلى من يعرف الإشارة وقد روي أن عبادة قام على سور بيت المقدس الشرقي فبكى فقال بعضهم : ما يبكيك يا أبا الوليد فقال : ههنا أخبرنا رسول الله عليه السلام أنه رأى جهنم وفي الحديث : "بيت المقدس أرض المحشر والمنشر" فيجوز أن يكون الموضع المعروف بوادي جهنم موضع السور على أنه سور الأعراف بعينه لكن على كيفية لا يعرفها إلا الله لأنه تبدل الأرض غير الأرض يوم القيامة وقد صح أن مواضع العبادات تلتحق بأرض الجنة فلا بعد في أن يكون المسجد الأقصى من الجنة وخارجة من النار وبينهما السور {يُنَادُونَهُمْ} كأنه قيل : فماذا يفعلون بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب فقيل : ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور.
وقال الكاشفي : منافقون ون باز س نكرند ونورى نه بينند باز متوجه مؤمنان شوند ديوارى بينند ميان حود واشان حاجز شده اذان خود واشان حاجز شده اذان در بنكرند مؤمنا نرا مشاهده نمايندكه خرامان متوجه رياض شدند بخوانند ايشانرا بزارى كويند اى مؤمنان {أَلَمْ نَكُن} في الدنيا {مَعَكُمْ} يريدون به موافقتهم لهم في الأمور الظاهرة كالصلاة والصوم أو المناكحة والموارثة ونحوها {قَالُوا بَلَى} كنتم معنا بحسب الظاهر {وَلَـاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} محتموها بالنفاق وأهلكتموها إضافة الفتنة إلى النفس إضافة الميل والشهوة وإلى الشيطان في قوله لا يفتننكم الشيطان إضافة الوسوسة وإلى الله تعالى في قوله قال : فإنا قد فتنا قومك إضافة الخلق لأنه خلق الضلال فيه في ليفتنن {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالمؤمنين الدوائر والتربص الانتظار وقال مقاتل وتربصتم بمحمد عليه السلام الموت وقلتم يوشك أن يموت فنستريح منه وهو وصف قبيح لأن انتظار موت وسائل الخير ووسائط الحق من عظيم الجرم والقباحة إذ شأنهم أن يرجى طول حياتهم ليستفاد منهم ويغتنم بمجالستهم {وَارْتَبْتُمْ} وشككتم في أمر الذين أو في النبوة أو في هذا اليوم {وَغرَّتْكُمُ الامَانِىُّ} الفارغة التي من جملتها الطمع في انتكاس أمر الإسلام جمع أمنية كأضحية بالفارسية آرزو.
وفي عين المعاني وغرتكم خدع الشيطان وقال أبو الليث أباطيل الدنيا {حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/296)
أي الموت {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ} الكريم {الْغَرُورُ} أي غركم الشيطان بأنه عفو كريم لا يعذبكم قال قتادة : ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار قال الزجاج الغرور على ميزان فعول وهو من أسماء المبالغة يقال فلان أكول كثير الأكل وكذا الشيطان الغرور لأنه يغر ابن آدم كثيراً قال في المفردات : الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين بالدنيا لما قيل الدنيا تغر وتضر وتمر {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ} أيها المنافقون {فِدْيَةٌ} أي فداء تدفعون به العذاب عن أنفسكم يعني يزى كه فداى خود كنيدتا از عذاب برهيد.
والفداء حفظ الإنسان من النائبة بما يبذله عنه من مال أو نفس أي لا يؤخذ منكم دية ولا نفس أخرى مكان أنفسكم {وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ظاهراً وباطناً
362
وفيه دلالة على أن الناس ثلاثة أقسام : مؤمن ظاهراً وباطناً وهو المخلص ومؤمن ظاهراً لا باطناً وهو المنافق وكافر ظاهراً وباطناً {مَأْوَاـاكُمُ} مرجعكم {النَّارُ} لا ترجعون إلى غيرها أبداً {هِىَ} أي النار {مَوْلَـاـاكُمْ} تتصرف فيكم تصرف المولا في عبيده لما أسلفتم من المعاصي أو أولى بكم فالمولى مشتق من الأولى بحذف الزوائد وحقيقته مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما يقال هو مئنة الكرم أي مكان لقول القائل إنه كريم فهو مفعل من أولى كما أن مئنة مفعلة من أن التي للتأكيد والتحقيق غير مشتقة من لفظها لأن الحروف لا يشتق منها بل ربما تتضمن الكلمة حروفها دلالة على أن معناها فيها أو ناصركم على طريقة قوله : "تحية بينهم ضرب وجيع" فإن مقصوده نفي التحية فيما بينهم قطعاً لأن الضرب الوجيع ليس بتحية فيلزم أن لا تحية بينهم البتة فكذا إذا قيل لأهل النار هي ناصركم يراد به أن لا ناصر لكم البتة أو متوليكم أي المتصرف فيكم تتولاكم كما توليتم في الدنيا موجباتها {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي المرجع النار.
وفي التأويلات النجمية أي نار القطيعة والهجران مولاكم ومتسلطة عليكم وبئس الرجوع إلى تلك النار وعن الشبلي قدس سره أنه رأى غصناً طرياً قد قطع عن أصله فبكى فقال أصحابه ما يبكيك فقال : هذا الفرع قد قطع عن أصله وهو طري بعد ولا يدري إن مآله إلى الذبول واليبس.
شبلي ديده زنى راكه ميكريد وميكويد يا ويلاه من فراق ولدى شبلي كريست وكفت يا ويلاه من فراق الأخدان زن كفت را نين ميكويى شبلى كفت توكريه ميكنى بر مخلوقى كه هراينه فانى خاهد شد من را كريه نكنم برفراق خالقى كه باقى باشد :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
فرزند وريار ونكه بميرند عاقبت
أي دوست دل مبند بجز حى لا يموت
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 39 من صفحة 363 حتى صفحة 373
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} من أنى الأمر يأنى انيا واناء واناء إذا جاء أناه أي وقته وحان حينه وأدرك والخشوع ضراعة وذل أي ألم يجيىء وقت أن تخشع قلوبهم بذكره تعالى وتطمئن به ويسارعوا إلى طاعته بالامتثال لأوامره والانتهاء عما نهوا عنه من غير توان ولا فتور قال بعضهم : الذكر أن كان غير القرآن يكون المعنى أن ترق وتلين قلوبهم إذا ذكر الله فإن ذكر الله سبب الخشوع القلوب أي سبب فالذكر مضاف إلى مفعوله واللام بمعنى الوقت وإن كان القرآن فهو مضاف إلى الفاعل واللام للعلة لمواعظ الله تعالى التي ذكرها في القرآن ولآياته التي تتلى فيه وبالفارسية آيا وقت نيايد مر آنانرا كه كرويده اند آنكه بترسد ونرم شود دلهاى ايشان براى ياد كردن خداى {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} أي القرآن وهو عطف على ذكر الله فإن كان هو المراد به أيضاً فالعطف لتغاير العنوانين فإنه ذكر وموعظة كأنه حق نازل من السماء وإلا فالعطف كما في قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ومعنى الخشوع له الانقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام التي من جملتها ما سبق وما لحق من الإنفاق في سبيل الله روي أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه من الخشوع فنزلت وعن ابن مسعود
363
(9/297)
رضي الله عنه ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية أربع سنين وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن وعن الحسن رحمه الله والله لقد استبطأهم وهم يقرأون من القرآن أقل مما تقرأون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق.
وقولي آنست كه مزاح ومضاحك درميان اصحاب بسيار شد آيت نازل.
كشت كما قال الإمام الغزالي رحمه الله في منهاج العابدين ثم الصحابة الذين هم خير قرن كان يبدو منهم شيء من المزاح فنزل قوله تعالى : ألم يأن الخ وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فكبوا بكاء شديداً فنظر إليهم فقال : هكذا كنا قست القلوب قال السهروردي في العوارف حتى قست القلوب أي تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما استغربته حتى تتغير والواجد كالمستغرب ولهذا قال بعضهم : حالي قبل الصلاة كحال في الصلاة إشارة منه إلى استمرار حال الشهود انتهى فقوله : حتى قست القلوب ظاهره تقبيح للقلوب بالقسوة والتلوين وحقيقته تحسين لها بالشهود والتمكين قال البقلي رحمه الله في الآية هذا في حق قوم من ضعفاء المريدين الذين في نفوسهم بقايا الميل إلى الحظوظ حتى يحتاجوا إلى الخشوع عند ذكر الله وأهل الصفوة واحترقوا في الله بنيران محبةولو كان هذا الخطاب للأكابر لقال : أن تخشع قلوبهملأن الخشوعموضع فناء العارف في المعروف وإرادة الحق بنعت الشوق إليه فناؤهم في بقائه بنعت الوله والهيمان والخشوع للذكر موضع الرقة من القلب فإذا رق القلب خشع بنور ذكر اللهكأنه تعالى دعاهم بلطفه إلى سماع ذكره بنعت الخشوع والخضوع والمتابعة لقوله والاستلذاذ بذكره حتى لا يبقى في قلوبهم لذة فوق لذة ذكره قال أبو الدرداء رضي الله عنه : استعيذ بالله من خشوع النفاق قيل : وما خشوع النفاق قال أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ور آوازه خواهى در اقليم فاش
برون حله كن كو درون حشو باش
اكر بيخ اخلاص در يوم نيست
ازين در كسى ون تو محروم نيست
زر اندود كانرا بآتش برند
ديد آيد آنكه كه مس يا زرند
{وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلُ} عطف على تخشع والمراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكي عنهم بقوله : {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الامَدُ} أي الأجل والزمان الذي بينهم وبين أنبيائهم أو الأعمار والآمال وغلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم الروعة التي كانت تأتيهم من التوراة والإنجيل إذا تلوهما وسمعوهما {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} فهي كالحجارة أو أشد قسوة والقسوة غلظ القلب وإنما تحصل من اتباع الشهوة فإن الشهوة والصفوة لا تجتمعان {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ} أي خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتابهم بالكلية لفرط الجفاء والقسوة ففيه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر.
وكفته اند نتيجه سختى دل غفلت است ونشأه نرمى دل توجه بطاعت :
دلى كزنور معنى نيست روشن
مخو انش دل كه آن سنكست وآهن
364
دلى كز كرد غفلت نك دارد
ازان دل سنك وآهن ننك دارد
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/298)
روي أن عيسى عليه السلام قال : لا تكثروا الكلام بغير ذكل الله فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد فإنما الناس رجلان مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيب للترغيب في الخشوع والتحذير عن القسامة.
وقال الكاشفي : بدانيد أي منكران بعث إن الله يحيى الأرض بعد موتها وبهمان منوال زنده خواهد ساخت امواترا {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايَـاتِ} التي من جملتها هذه الآيات {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} كي تعقلوا ما فيها وتعملوا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين.
سببتوبت فضيل بن عياض رحمه الله ميكويندكه سماع اين آيت يعني ألم يأن الخ بود دربدء كار مردانه راه زدند وبر ناشايسته قدم نهادند وقتى سوداى عشق صاحب جمال درسروى افتاد باوى ميعادى نهاد درميانه شب بسرآن وعده باز شد بديوار برمى شدكه كوينده كفت ألم يأن للذين الخ أين آيت تيروار درنشانه دل وى نشست دردى وسوزى ازدرون وى سر برزد كمين عنايت برو كشادند اسير كمند توفيق كشت از آنجا بازكشت وهمى كفت بلى والله قد آن بلى والله قد آن از آنجا بركشت ودر خرابه شد جماعتى كاروانيان آنجا بودند وبا يكديكر ميكفتند فضيل در راهست اكر برويم راه برمازند ورخت ببرد فضيل خودرا ملامت كرد كفت اى بد مرداكه منم اين ه شقاوتست كه روى بمن نهاده درميانه شب بقصد معصيت ازخانه بدر آمده وقومى مسلمانان ازبيم من درين كنج كريخته روى سوى آسمان كرد واز دلى صافى توبت نصوح كرد كفت اللهم انى تبت اليك وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام الهي ازبد سزايىء خود بدردم وازناكسىء خود بفغان دردمرا درمان سازاى درمان ساز همه درد مندان اى اك صفت از عيب اي عالى صفت زآشوب اى بى نياز از خدمت من اى بى نقصان از خيانت من من بجاى رحمتم ببخشاى برمن اسير بند هواى خويشم بكشاى مرا ازين بند الله تعالى دعاء ويرا مستجاب كرد وبوى كرامتها كرد از آنجا بركشت وروى بخانه كعبه نهاد سالها آنجا مجاور شد واز جمله اوليا كشت :
كداى كوى تواز هشت خلد مستغنيست
اسير عشق توازهر دون آزادست
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
وقال ابن المبارك رحمه الله : كنت يوماً في بستان وأنا شاب وكان معي أصحابي فأكلنا وشربنا وكنت مولعاً بضرب العود فأخذت العود في الليل لأضرب به فنطق العود وقال : ألم يأن للذين الخ فضربته بالأرض وكسرته وتركت الأمور الشاغلة عن الله تعالى وعن مالك بن دينار رحمه الله إنه سئل عن سبب توبته فقال : كنت شرطياً وكنت منهمكاً عن شرب الخمر ثم إني اشتريت جارية نفيسة ووقعت مني أحسن موقع فولدت لي بينتاً فشغفت بها فلما دبت علي الأرض ازدادت في قلبي حباً وألفتني وألفتها فكنت إذا وضعت المسكر جاءت إلي وجاذبتني إياه وأراقته علي ثوبي فلما تم لها سنتان ماتت فأكمدني الحزن عليها فلما كانت
365
(9/299)
ليلة النصف من شعبان وكانت ليلة جمعة بت ثملاً من الخمر ولم أصل صلاة العشاء فرأيت كأن أهل القبور قد خرجوا وحشر الخلائق وأنا معهم فسمعت حساً من ورائي فالتفت فإذا أنا بتنين عظيم أعظم ما يكون أسود أزرق قد فتح فاه مسرعاً نحوي فمررت بين يديه هارباً فزعاً مرعوباً فمررت في طريق بشيخ نقي الثياب طيب الرائحة فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت له : أجرني وأغثني فقال : أنا ضعيف وهذا أقوى مني وما أقدر عليه ولكن مر وأسرع فلعل الله يسبب لك ما ينجيك منه فوليت هارباً على وجهي فصعدت على شرف من شرف القيامة فأشرفت على طبقات النيران فنظرت إلى أهلها فكدت أهوى فيها من فزع التنين وهو في طلبي فصاح بي صائح ارجع فلست من أهلها فاطمأننت إلى قوله ورجعت ورجع التنين في طلبي فأتيت الشيخ فقلت : يا شيخ سألتك أن تجيرني من هذا التنين فلم تفعل فبكى الشيخ وقال : أنا ضعيف ولكن سر إلى هذ الجبل فإن فيه ودائع للمسلمين فإن كان لك فيه وديعة فستنصرك فنظرت إلى جبل مستدير فيه كوى مخرقة وستور معلقة على كل خوخة وكوة مصراعان من الذهب الأحمر مفصلان باليواقيت مكللان بالدر وعلى كل مصراع ستر من الحرير فلما نظرت إلى الجبل هربت إليه والتنين ورائي حتى إذا قربت منه صاح بعض الملائكة ارفعوا الستور وافتحوا لمصاريع وأشرفوا فلعل لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوه وإذا الستور قد رفعت والمصاريع قد فتحت فأشرف علي أطفال بوجوه كالأقمار وقرب التنين مني فتحيرت في أمري فصاح بعض الأطفال ويحكم أشرفوا كلكم فقد قرب منه فأشرفوا فوجاً بعد فوج فإذا بابنتي التي ماتت قد أشرفت علي معهم فلما رأتني بكت وقالت : أبي والله ثم وثبت في كفة من نور كرمية السهم حتى مثلث بين يدي فمدت يدها الشمال إلى يدي اليمنى فتعلقت بها ومدت يدها اليمنى فولى هارباً ثم أجلستني وقعدت في حجري وضربت بيدها اليمنى إلى لحيتي وقالت : يا أبت ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله فبكيت وقلت : يا بنية وأنتم تعرفون القرآن؟ فقالت : يا أبت نحن أعرف به منكم قلت : فأخبريني عن التنين الذي أراد أن يهلكني قالت : ذلك عملك السوء قويته فأراد أن يغرقك في نار جهنم قلت : فأخبريني عن الشيخ الذي مررت به في طريقي قالت : يا أبت ذلك عملك الصالح أضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء قلت : يا بنية وما تصنعون في هذا الجبل؟ قالت : نحن أطفال المسلمين قد أسكنا فيه إلى أن تقوم الساعة ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم فانتبهت فزعاً فلما أصبحت فارقت ما كنت عليه وتبت إلى الله تعالى وهذا سبب توبتي :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
سر از جيب غفلت بر آرر كنون
كه فردا نماند بحجلت نكون
كنون بايد اى خفته بيدار بود
و مرك اندر آردز خوابت ه سود
زهجران طفلى كه درخاك رفت
ه نالى كه اك آمد واك رفت
تواك آمدى بزحذر باش واك
كه ننكست نا ك رفتن بخاك
{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَـاتِ} أي المتصدقين والمتصدقات {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}
366
عطف على الصلة من حيث المعنى أي إن الناس الذين تصدقوا وتصدقن وأقرضوا الله قرضاً حسناً وأقرضن والاقراض الحسن عبارة عن التصدق من الطيب عن طيبة النفس وخلوص النية على المستحق للصدقة ففيه دلالة على أن المعتبر هو التصدق المقرون بالإخلاص فيندفع توهم التكرار لأن هذا تصدق مقيد وما قبله تصدق مطلق وفي الحديث : "يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار" وفيه إشارة إلى زيادة احتاجهن إلى التصدق.
ـ وروي ـ مسلم عن جابر رضي الله عنه أنه قال : شهدت مع رسول الله عليه السلام صلاة العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئاً على بلال رضي الله عنه فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى إلى النساء فوعظهن وذكرهن فقال : تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم قالت امرأة : لم يا رسول الله فقال : لا نكن تكثرن الشكاية وتكفرن العشير أي المعاشر وهو الزوج فجعلن يتصدقن من حليهن ويلقين في ثوب بلال حتى اجتمع فيه شيء كثير قسمه على فقراء المسلمين {يُضَـاعَفُ لَهُمْ} على البناء للمفعول مسند إلى ما بعده من الجار والمجرور وقيل إلى مصدر ما في حيز الصلة على حذف مضاف أي ثواب التصدق {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} وهو الذي يقترن به رضى وإقبال :
بدنيا توانى كه عقبى خرى
بخرجان من ورنه حشرت خورى
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/300)
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} كافة وهو مبتدأ {أولئك} مبتدأ ثان {هُمُ} مبتدأ ثالث خبره قوله {الصِّدِّيقُونَا وَالشُّهَدَآءُ} وهو مع خبره خبر للأول أو هم ضمير الفصل وما بعده خبر لأولئك والجملة خبر للموصول أي أولئك {عِندَ رَبِّهِمْ} بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو المرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله قال في فتح الرحمن الصديق نعت لمن كثر منه الصدق وهم ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم الحقه اللهبهم وإن تم به الأربعون لم عرف من صدق نيته وقيل الشهداء على ثلاث درجات الدرجة الأولى الشهيد بين الصفين وهو أكبرهم درجة ثم كل من قضى بقارعة أو بلية وهي الدرجة الثانية مثل الغرق والحرق والهالك في الهدم والمطعون والمبطون والغريب والميتة بالوضع والميت يوم الجمعة وليلة الجمعة والميت على الطهارة والدرجة الثالثة ما نطقت به هذه الآية العامة للمؤمنين وقال بعضهم : في معنى الآية هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخباره تعالى ورسله والقائمون بالشهادةبالوحدانية ولهم بالإيمان أو على الأمم يوم القيامة وقال بعض الكبار يعني الذين آمنوا بالله إيماناً حقيقياً شهودياً عيانياً لا علمياً بيانياً وذلك بطريق الفناء في الله نفساً وقلباً وسراً وروحاً والبقاء به وآمنوا برسله بفناء صفات القلب والبقاء بصفات الروح أولئك هم المتحققون بصفة الصديقية البالغون أقصى مراتب الصدق والشهداء على نفوسهم بالصدق والوفاء بالعهد لترشح رشحات الصدق عنهم لا جرم لهم أجر الصديقين ونور الشهداء مختص بهم لا بمن آمن بالتقليد وصدق وشهد باللسان من غير العيان والعيان يترتب على الفناء وفرقوا بين الصادق
367
والصديق بأن الصادق كالمخلص بالكسر من تخلص من شوائب الصفات النفسانية مطلقاً والصديق كالمخلص بالفتح من تخلص أيضاً عن شوائب الغيرية والثاني أوسع فلكاً وأكثر إحاطة فكل صديق ومخلص بالفتح صادق ومخلص بالكسر من غير عكس قال أبو علي الجرجاني قدس سره : قلوب الأبرار متعلق بالكون مقبلين ومدبرين وقلوب الصديقين معلقة بالعرش مقبلين بالله
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/301)
{لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} مبتدأ وخبر والجملة خبر ثان للموصول والضمير الأول على الوجه الأول للموصول والأخيران للصديقين والشهداء ولا بأس بالفك عند الأمن أي لهم مثل أجرهم ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال وقد حذف أداة التشبيه تنبيهاً على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد كما فعل ذلك حيث قيل هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور وبين تمام ما للأخيرين من الأصل بدون الأضعاف ليحصل التفاوت وأما على الوجه الثاني فمرجع الكل واحد والمعنى لهم الأجر والنور الموعود أن لهم قال بعض الكبار : لا يكون الأجر إلا مكتسباً فإن أعطاك الحق تعالى ما هو خارج عن الكسب فهو نور وهبات ولا يقال له أجر ولهذا قال تعالى : لهم أجرهم ونورهم فإن أجرهم ما اكتسبوه ونورهم ما وهبه الحق لهم من ذلك حتى لا ينفرد الأجر من غير أن يختلط به الوهب لأن الأجر فيه شائبة الاستحقاق إذ هو معاوضة عن عمل متقدم يضاف إلى العبد فما تم أجر إلا ويخالطه نور وذلك لتكون المنة الإلهية مصاحبة للعبد حيث كان فإن تسمية العبد أجيراً مشعر بأن له نسبة في الطاعات والأعمال الصادرة عنه فتكون الإجارة من تلك النسبة ولذلك طلب العبد العون على خدمة سيده فإن قلت من أي جهة قبل العبد الأجرة والبعد واجب عليه الخدمة لسيده من غير أن يأخذ أجرة وإن جعلناه أجنبياً فمن أي جهة تعين الفرض عليه ابتداء قبل الأجرة والأجير لا يفترض عليه إلا حين يؤجر نفسه قلت : الإنسان مع الحق تعالى على حالتين حالة عبودية وحالة إجارة فمن كونه عبداً فهو مكلف بالفرض كالصلاة والزكاة وجميع الفرائض ولا أجر له على ذلك جملة واحدة ومن كونه أجيراً له الأجرة بحكم الوعد الإلهي ولكن ذلك مخصوص بالأعمال المندوبة لا المفرضة فعلى تلك الأعمال التي ندب الحق إليها فرضت الأجور فإن تقرب العبد بها إلى سيده أعطاه إجارته وإن لم يتقرب لم يطلب بها ولا عوتب عليها ومن هنا كان العبد حكمه حكم الأجنبي في الإجارة للفرض الذي يقابله الجزاء إذ هو العهد الذي بين الله وبين عباده وأما النوافل فلها الأجور المتجة للمحبة الإلهية كما قال لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه والحكمة في ذلك أن المتنفل عبد اختياري كالأجير فإذا اختار الإنسان أن يكون عبد الله لا عبد هواه فقد آثر الله على هواه وهو في الفرائض عبد اضطرار لا عبد اختيار وبين عبودية الاضطرار وعبودية الاختيار ما بين الأجير والعبد المملوك إذ العبد الأصلي ماله على سيده استحقاقاً إلا ما لا بد منه من مأكل وملبس ثم يقوم بواجبات مقام سيده ولا يزال في دار سيده لا يبرح ليلاً ولا نهاراً إلا إذا وجهه في شغل آخر فهو في الدنيا مع الله وفي القيامة مع الله وفي الجنة مع الله لأنها جميعاً ملك لسيده فيتصرف فيها
368
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
تصرف الملاك والأجير ماله سوء ما عين له من الأجرة منها نفقته وكسوته وماله دخول على حرم سيده وموجره ولا له اطلاع على أسراره ولا تصريف في ملكه إلا بقدر ما استؤجر عليه فإذا انقضت مدة إجارته وأخذ أجرته فارق مؤجره واشتغل بأهله وليس له من هذا الوجه حقية ولا نسبة تطلب ممن استأجره إلا أن يمن عليه رب المال بأن يبعث خلفه ويجالسه ويخلع عليه فذلك من باب المنة وقد ارتفعت عنه في الآخرة عبودية الاختيار فإن تفطنت لهذا نبهك على مقام جليل تعرف منه من أي مقام قالت الأنبياء عليهم السلام مع كونهم عبيداً خلصاً لم يملكهم هوى نفوسهم ولا أحد من خلق الله ومع هذا قالوا : إن أجري إلا على الله وذلك لأن قولهم هذا راجع إلى تحققهم بدخولهم تحت حكم الأسماء الإلهية بخلاف غيرهم ومن هناك وقعت الإجارة فهم في حال الاضطرار والاختيار عبيد للذات وهم لها ملك فإن الأسماء الإلهية تطلبهم لنظهر آثارها فيهم وهم مخيرون في الدخول تحت أي اسم إلهي شاءوا وقد علمت الأسماء الإلهية ذلك فعينت لهم الأجور وكل اسم يناديهم ادخلوا تحت أمري وأنا أعطيكم كذا وكذا فلا يزال أحدهم في خدمة ذلك الاسم حتى يناديه السيد من حيث عبودية الذات فيترك كل اسم الهي ويقوم لدعوة سيده فإذا فعل ما أمر به حينئذ رجع إلى أي اسم شاء ولهذا يتنقل الإنسان ويتعبد بما شاء حتى يسمع إقامة الصلاة المفروضة فيؤمر بها ويترك النافلة فهو دائماً مع سيده بحكم عبودية الاضطرار كذا في كتاب الجواهر للإمام الشعراني قدس سره {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه أُولَئكَ} الموصوفون بالصفات القبيحة {أَصْحَـابُ الْجَحِيمِ} بحيث لا يفارقونها أبداً وفيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص والصحبة تدل على الملازمة عرفاً وأراد بالكفر الكفر بالله فهو في مقابلة الإيمان بالله وبتكذي الآيات تكذيب ما بأيدي الرسل من الآيات الإلهية وتكذيب
جزء : 9 رقم الصفحة : 344(9/302)
ها تكذيبهم فهو في مقابلة الإيمان والتصديق بالرسل وفيه وصف لهم بالوصفين القبيحين اللذين هما الكفر والتكذيب وفيه إشارة إلى أن الذين كفروا بذاتنا وكذبوا بصفاتنا الكبرى كفراً صريحاً بينا قلباً وسراً وروحاً أولئك أصحاب جحيم البعد والطرد واللعن المخصوص بالخلود وعبر عن الصفات بالآيات لأن الكتب الإلهية صفات الله تعالى وأيضاً الأنبياء عليهم السلام صفات الله من حيث أنهم مظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا وقست عليهم سائر المجالي والمرائي لكنهم متفاوتون في الظهور بالكمال وإذا كان تكذيب الأنبياء وآياتهم مما يوجب الوعيد فكذا تكذيب الأولياء وآياتهم فإن العلماء العاملين ورثة الأنبياء والمرسلين والمراد بآيات الأولياء الكرامات العلمية والكونية فالذين من معاصريهم وغير معاصريهم صدقوهم أولئك أصحاب النعيم والذين كذبوهم أولئك أصحاب الجحيم وهذه الآيات وأصحابها لا تنقطع إلى قيام الساعة فإن باب الولاية مفتوح نسأل الله سبحانه أن يتولانا بعميم أفضاله بحرمة النبي وآله {اعْلَمُوا} بدانيد أي طالبنان دنيا {أَنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} لفظ الحياة زائد والمضاف مضمر أي أمور الدنيا ويجوز أن تجعل الحياة الدنيا مجازاً عن أمورها بعلاقة
369
اللزوم وفي كشف الأسرار الحياة القربى في الدار الأولى وبالفارسية زندكانىء اين سراى.
وما صلة فإن المقصود الحياة في هذه الدار فكل ما قبل الموت دنيا وكل ما تأخر عنه أخرى {لَعِبٌ} أي عمل باطل تتعبون فيه أنفسكم أتعاب اللاعب بلا فائدة :
باز به ايست طفل فريب اين متاع دهر
بى عقل مرد مانكه بد ومبتلا شوند
{وَلَهْوٌ} تلهون به أنفسكم وتشغلونها عما يهمكم من أعمال الآخرة {وَزِينَةٌ} من الملابس والمراكب والمنازل الحسنة تزينون بها {وَتَفَاخُرُا بَيْنَكُمْ} بالأنساب والاحساب تتفاخرون بها والفخر المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه ويعبر عن كل نفيس بالفاخر كما في المفردات {وَتَكَاثُرٌ فِى الامْوَالِ وَالاوْلْـادِ} بالعدد والعدد يعني ومباهاتست بكثرت أموال وأولاد لا سيما التطاول بها على أولياء الله.
وبدانيد كه در اندك زمانى آن بازى برطرف شود ولهو وفرح بغم وترح مبدل كردد وريشها از همه فرو ريزد وتفاخر وتكاثر ون شراره آتش نابود شود.
وقيل لعب كلعب الصبيان وزينة كزينة النسوان وتفاخر كتفاخر الأقران وتكاثر كتكاثر الدهقان قال علي لعمار رضي الله عنهما : لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء : مطعوم ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح فأكبر طعامها العسل وهو ريقة ذبابة وأكبر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان وأكبر الملبوس الديباج وهو نسج دودة وأكبر المشموم المسك وهو دم ظبية وأكبر المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال وأكبر المنكوح النساء وهو مبال في مبال وفي الحديث : "مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قام في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها" :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
جهان اى سر ملك جاويد نيست
زدنيا وفادار اميد نيست
{كَمَثَلِ غَيْثٍ} محل الكاف النصب على الحالية من الضمير في لعب لأن فيه معنى الوصف أي تثبت لها هذه الأوصاف مشبهة غيثاً أو خبر مبتدأ محذوف أي هي كمثل أو خبر بعد خبر للحياة الدنيا والغيث مطر محتاج إليه بغيث الناس من الجدب عند قلة المياه فهو مخصوص بالمطر النافع بخلاف المطر فإنه عام {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} أي الحراث قال الأزهري : العرب تقول للزراع كافر لأنه يكفر أي يستر بذرع بتراب الأرض والكفر في اللغة التغطية ولهذا يسمى الكافر كافراً لأنه يغطي الحق بالباطل والكفر القبر لسرتها الناس وفي الحديث "أهل الكفور أهل القبور" والليل كافر لستره الأشخاص {نَبَاتُهُ} أي النبات الحاصل منه والمراد الكافرون بالله لأنهم أشد إعجاباً بزينة الدنيا ولا المؤمن إذا رأى معجباً انتقل فكره إلى قدره صانعه فأعجب بها والكافر لا يتخطى فكره عما أحسن به فيستغرق فيه إعجاباً وقد منع في بعض المواضع عن إظهار الزينة صوناً لقلوب الضعفاء كما في الأعراس ونحوها {ثُمَّ يَهِيجُ} أي يجف بعد خضرته ونضارته بآفة سماوية أو أرضية يقال : هاج النبت يهيج هيجاً وهيجاناً وهياجاً بالكسار يبس والهائجة أرض يبس بقلها أو اصفر وأهاجه أيبسه وأهيجها وجدها هائجة للنبات {فَتَرَاـاهُ مُصْفَرًّا} بعدما رأيته ناضراً مونقاً وإنما لم يقل فيصفر
370
(9/303)
إيذاناً بأن اصفراره مقارن لجفافه وإنما المرتب عليه رؤيته كذلك {ثُمَّ يَكُونُ} س كردد بعد از زردى {حُطَـامًا} درهم شكسته وكوفته وريزه ريزه شده.
قال في القاموس : الحطم الكسر أو خاص باليابس فالآية تحقير لأمور الدنيا أعني ما لا يتوصل به إلى الفوز الآجل ومنه المثل وببيان أنها أمور خيالية أي باطلة لا حقيقة لها وعن علي رضي الله عنه : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا قليلة النفع سريعة الزوال لا يركن إليها العقلاء فضلاً عن الاطمئنان بها وتمثيل لحالها في سرعة تقضيها وقلة نفعها بحال النبات المذكور زينة الحياة الدنيا هي زينة الله إلا أنها تختلف بالقصد وهي محبوبة بالطبع فإذا تحرك العبد إليها بطبعه كانت زينة الحياة الدنيا فذم بذلك وإن كانت غير محرمة شرعاً وإذا تحرك إليها بأمر من ربه كانت زينة الله وحمد بها وذلك لأن أمر الله وكل ما يرجع إليه جد كله والحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر وفخر الإنسان على مثله إنما هو من جهله بحقيقته فهذا سبب الذم قال بعض الكبار : الشهوات سبع وهي ما ذكر في قوله تعالى : زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وقد أنزلها الله إلى خمس في هذه الآية وهي اعلموا إنما الحياة الدنيا الخ ثم أنزل هذه الخمس إلى أمرين في آية أخرى كما قال في سورة محمد إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ثم جعل هذين الأمرين أمراً واحداً في قوله تعالى فأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فالهوى جامع لأنواع الشهوات فمن تخلص من الهوى من كل قيد وبرزخ بلغ مسالك الوصول إلى المطلب الأعلى والمقصد الأقصى
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{وَفِى الاخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لمن أقبل عليها ولم يطلب بها الآخرة وقدم ذكر العذاب لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا {وَمَغْفِرَةٌ} عظيمة كائنة {مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} كثير لا يقادر قدره لمن أعرض عنها وقصد بها الآخرة بل الله تعالى فإن الدنيا والآخرة حرامان على أهل الله :
أي طالب دنيا توبسى مغرورى
وى مائل عقبى تويكى مزدورى
وى آنكه زميل هردو عالم دورى
تو طالب نور بلكه عين نورى
وفيه إشارة إلى فضل النية الحسنة وأنها تحيل المباح ونحوه طاعة قال بعض الكبار : من استقامت سريرته وصلحت نيته أدرك جميع ما تمناه من الأعمال الصالحة وفي الخبر من نام على طهارة وفي عزمه أنه يقوم من الليل فأخذ الله بنفسه إلى الصباح كتب الله له قيام ليله وورد مثل ذلك فيمن خرج لجهاد أو حج وتأمل الطباخ والخباز يقوم من الليل يهيىء الطعام والخبز للآكلين وهم نائمون وهو طالب للربح ناسياً حاجة الناس ولو كان ذا بصيرة لفعل ذلك بقصد مصالح العباد وجعل ربحه ونفعه بحكم البيع والحاصل أن أهل الكسب سواء كانوا من أهل السوق أو من غيرهم ينبغي أن تكون نيتهم السعي في مصالح العباد والتقوى بكسبهم على طاعة الله حتى يكونوا مأجورين في ذلك ومن استرقه الكون بحكم مشروع كالسعي في مصالح العباد والشكر لأحد من المخلوقين من جهة نعمة أسداها إليه فهو لم يبرح عن عبوديته تعالى لأنه في أداء واجب أوجبه الحق عليه وتعبد العبد لمخلوق عن أمر الله لا يقدح في العبودية بخلاف
371
(9/304)
من استرقه الكون لغرض نفسي ليس للحق فيه رائحة أمر فإن ذلك يقدح في عبوديتهويجب عليه الرجوع إلى الحق تعالى قال بعض الكبار : من ذم الدنيا فقد عق أمه لأن جميع الإنكاد والشرور التي ينسبها الناس إلى الدنيا ليس هو فعلها وإنما هو فعل أولادها لأن الشر فعل المكلف لا فمل الدنيا فهي مطية العبد عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر فهي تحب أن لا يشقى أحد من أولادها لأنها كثيرة الحنو عليهم وتخاف أن تأخذهم الضرة الأخرى على غير أهبة مع كونها ما ولدتهم ول تعبت في تربيتهم فمن عقوق أولادها كونهم ينسبون جميع أفعال الخير إلى الآخرة ويقولون أعمال الآخرة والحال أنهم ما عملوا تلك الأعمال إلا في الدنيا فللدنيا أجر المصيبة التي في أولادها ومن أولادها فمن أنصف من ذمها بل هو جاهل بحق أمه ومن كان كذلك فهو بحق الآخرة أجهل وفي الحديث : "إذا قال العبد لعن الله الدنيا قالت الدنيا لعن الله أعظانا لربه" وقال بعضهم : طلب الثواب على الأعمال بحسن النيات والرغبة فيه لا يختص بالعامة بل لا يتحاشى عنه الكمل لعلمهم أن الله تعالى أنشأهم على أمور طبيعية وروحانية فهم يطلبون ثواب ما وعد الله به ويرغبون فيه إثباتاً للحكم إلا لهي فإن المكابرة بالربوبية غير جائزة فهم مشاركون للعامة في طلب الرغبة ويتميزون في الباعث على ذلك فكان طلب العارفين ذلك لإعطاء كل ذي حق حقه ليخرجوا عن ظلم أنفسهم إذا وفوها حقها فمن لم يوف نفسه حقها فقد نزل عن درجة الكمال وكان غاشاً لنفسه {وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلا مَتَـاعُ الْغُرُورِ} أي كالمتاع الذي يتخذ من نحو الزجاج والخزف مما يسرع فناؤه يميل إليه الطبع أول ما رآه فإذا أخذه وأراد أن ينتفع به ينكسر ويفنى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ـ حكي ـ أنه حمل إلى بعض الملوك قدح فيروزج مرصعاً بالجواهر لم ير له نظير وفرح به الملك فرحاً شديداً فقال لمن عنده من الحكماء : كيف ترى هذا؟ قال : أراه فقراً حاضراً ومصيبة عاجلة قال : وكيف ذلك؟ قال : إن انكسر فهو مصيبة لا جبر لها وإن سرق صرت فقيراً إليه وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر فاتفق أنه انكسر القدح يوماً فعظمت المصيبة على الملك وقال : صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا ثم كونها متاع الغرور والخدعة إنما هو لمن اطمأن بها ولم يجعلها ذريعة إلى الآخرة وأما من اشتغل فيها بطلب الآخرة فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها وهي الجنة فالدنيا غير مقصودة لذاتها بل لأجر الآخرة وفي الحديث نعم المال الصالح للرجل الصالح.
وفي المثنوي :
مال راكذ بهر حق باشى حمول
نعم مال صالح كفتش رسول
فما شغل العبد عن الآخرة فهو من الدنيا ومالاً فهو من الآخرة قال بعض الكبار : ورد خطاب إلهي يقول فيه : خلقت الخلق لينظروا إلى مفاتيح الدنيا ومحاسن الناس فيؤديهم النظر في مفاتيح الدنيا إلى الزاهد فيها ويؤديهم النظر في محاسن الناس إلى حسن الظن بهم فعكسوا القضية فنظروا إلى محاسن الدنيا فرغبوا فيها ونظروا إلى مساوي الناس فاغتابوهم.
ـ حكي ـ أن الشيخ الفوارس شاهين بن شجاع الكرماني رحمه الله خرج للصيد وهو ملك كرمان فأمعن في الطلب حتى وقع في برية مقفرة وحده فإذا هو بشاب راكب على سبع وحوله سباع فلما
372
رأيته ابتدرت نحوه فزجرها الشاب عنه فلما دنا إليه سلم عليه وقال له : يا شاه ما هذه الغفلة عن الله اشتغلت بدنياك عن آخرتك وبلذتك وهواك عن خدمة مولاك إنما أعطاك الله الدنيا لتستعين بها على خدمته فجعلتها ذريعة إلى الاشتغال عنه فبينما الشاب يحدثه إذ خرجت عجوز وبيدها شربة ماء فناولتها الشاب فشرب ودفع باقيه إلى الشاه فرشبه فقال : ما شربت شيئاً ألذ منه ولا أبرد ولا أعذب ثم غابت العجوز فقال الشاب : هذه الدنيا وكلها الله إلى خدمتي فما احتجت إلى شيء إلا أحضرته إلى حين يخطر ببالي أما بلغك أن الله تعالى لما خلق الدنيا قال لها : يا دنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه فلما رأى ذلك تاب واجتهد إلى أن كان من أهل الله تعالى فإن قلت إن الله تعالى خلق للإنسان جميع ما في الأرض ولا ينبغي للعروس أن تجمع ما نثر عليها بطريق الإعزاز والإكرام فمن عرف شأنه الجليل ما نظر إلى الأمر الحقير القليل بل كان من أهل المروءة والهمة العالية في الإعراض عما سوى الله تعالى والإقبال والتوجه إلى الله تعالى {سَابِقُوا} أي سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار وهو الميدان {إِلَى مَغْفِرَةٍ} عظيمة كائنة {مِّن رَّبِّكُمْ} أي إلى أسبابها وموجباتها كالاستغفار وسائر الأعمال الصالحة أي بحسب وعد الله وإلا فالعمل نفسه غير موجب وفي دعائه عليه السلام أسألك عزائم مغفرتك أي أن توفقني للأعمال التي تغفر لصاحبها لا محالة ويدخل فيها المسابقة إلى التكبيرة الأولى مع الإمام ونحوها.
سلمى قدس سره كفت كه وسيله معفرت حضرت رسالت است عليه السلام س حق سبحانه وتعالى ميفرمايدكه شتاب نماييد بمتابعت اوكه سبب آمر زش است :
(9/305)
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
يمبركسى را شفاعت كرست
كه بر جاده شرع يغمبرست
كتاب روح البيان ج9 متن
الهام رقم 40 من صفحة 373 حتى صفحة 383
قال الشيخ الشهير بافتاده قدس سره : إن الله تعالى أرسلنا من عالم الأمر إلى عالم الأرواح ثم منه إلى عالم الأجسام وخلقنا في أحسن تقويم وأعطانا اختياراً جزئياً وقال : إن كنتم صرفتم ذلك الاختيار إلى جانب العبادات والطاعات وإلى طريق الوصول إلى الحسنات أخدلكم الجنة وأيسر لكم الوصال ورؤية الجمال وأمرنا بالإسراع إلى تلك الطريق على وجه المبالغة فإن صيغة المفاعلة للمبالغة وإنما أمر بمبالغة الإسراع لقلة عمر الدنيا وقد ذهب الأنبياء والأولياء ونحن نذهب أيضاً فينبغي أن نسرع في طريق الحق لئلا يفوت الوصول إلى الدرجات العالية بالإهمال والتكاسل وطريق الإسراع في مرتبة الطبيعة الامتثال بالأوامر والاجتناب عن النواهي وفي مرتبة النفس تزكيتها عن الأخلاق الردئية كالكبر والرياء والعجب الغضب والحسد وحب المال وحب الجاه وتحليتها بالأخلاق المحمودة كالتواضع والإخلاص ورؤية التوفيق من الله والحل والصبر والرضى والتسليم والعشق والإرادة ونحوها وفي مرتبة الروح بتحصيل معرفة الله تعالى وفي مرتبة السر بنفي ما سوى الله تعالى وقال البقلى قدس سره دعا المريدين إلى مغفرته بنعت الإسراع ودعا المشتاقين إلى جماله بنعت الاشتياق وقد دخل الكل في مظنة الخطاب لأن الكل قد وقعوا في بحار الذنوب حين لم يعرفوه حق معرفته ولم يعبدوه حق عبادته فدعاهم جميعاً إلى التطهير في بحر رحمته حتى صاروا متطهرين من غرورهم بأنهم
373
عرفوه فإذا وصلوا إلى الله عرفوا أنهم لم يعرفوه فيأخذ الله بأيديهم بعد ذلك ويكرمهم بأنواع ألطافه ثم أن المسابقة إنما تكون بعد القصد والطلب.
وفي المثنوي :
كر كران وكر شتابنده بود
آنكه كوينده است يا بنده بود
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالارْضِ} أي كعرض سبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض على أن يكون اللام في السماء والأرض للاستغراق وإذا كان عرضها كذلك فما ظنك بطولها فإن طول كل شيء أكثر من عرضه قال إسماعيل السدي رحمه الله : لو كسرت السموات والأرض وصرن خردلاً فبكل خردلةجنة عرضها كعرض السموات والأرض ويقال : هذا التشبيه تمثيل للعباد بما يعقلون ويقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض وتقديم المغرفة على الجنة لتقدم التخلية على التحلية {أُعِدَّتْ} هيئت {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} فيه دليل على أن الجنة مخلوقة بالفعل كما هو مذهب أهل السنة وأن الإيمان وحده كاف في استحقاقها إذ لم يذكر مع الإيمان شيء آخر ولكن الدرجات بأعمال وفيه شيء فإن الإيمان بالرسل إنما يكمل بالإيمان بما في أيديهم من الكتب الإلهية والعمل بما فيها {ذَالِكَ} الذي وعد من المغفرة والجنة {فَضْلِ اللَّهِ} وعطاؤه وهو ابتداء لطف بلا علة {يُؤْتِيهِ} تفضلاً وإحساناً {مَن يَشَآءُ} إيتاءه إياه من غير إيجاب لا كما زعمه أهل الاعتزال {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ولذلك يؤتى من يشاء مثل ذلك الفضل الذي لا غاية وراءه والمراد منه التنبيه على عطاء أن العظيم عظيم والإشارة إلى أن أحداً لا يدخل الجنة إلا بفضل الله نبياً أو ولياً قال عليه السلام : خرج منه عندي خليلي جبرائيل عليه السلام آنفاً فقال : يا محمد والذي بعثك بالحق إن عبداً من عباد الله عبد الله خمسمائة سنة على رأس جبل يحيط به بحر فأخر الله له عيناً عذبة في أسفل الجبل وشجرة رمان كل يوم تخرج رمانة فإذا أمسى نزل وأصاب من الوضوء وأخذ تلك الرمانة فأكلها ثم قام للصلاة فسأل ربه أن يقبض روحه ساجداً وأن لا يجعل للأرض ولا لشيء على جسده سبيلاً على يبعثه الله وهو ساجد ففعل ونحن ونمر عليه إذا هبطنا وءذا عرجنا وهو على حاله في السجود قال جبريل : فنحن نجد في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله فيقول له الرب : ادخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول العبد : بل بعملي فيقول الله قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة وبقيت عليه النعم الباقية بلا عبادة في مقابلتها فيقول الله ادخلوا عبدي النار فيجر إلى النار فينادي ويقول برحمتك ادخلني الجنة فيقول الله ردوه إلي فيوقف بين يديه فيقول عبدي : من خلقك ولم تك شيئاً فيقول من قواك على عبادة خمسمائة سنة فيقول : أنت يا رب فيقول : من أنزلك في جبل وسط البحر وأخرج الماء العذب من بين المالح وأخرج لك رمانة كل ليلة وإنما تخرج في السنة مرة واحدة وسألتني أن أقبضك ساجداً من فعل بك ذلك كله؟ فيقول : أنت يا رب قال : فذلك كله برحمتي وبرحمتي أدخلك الجنة :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ورويى بخدمت نهى بر زمين
خدار ثنا كوى وخودرا مبين
اميدى كه دارم بفضل خداست
كه برسعى خود تكيه كردن خطاست
374
(9/306)
همين اعتمادم بيارىء حق
اميدن بآمر زكارىء حق
{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأرْضِ} ما نافية والمصيبة أصلها في الرمية يقال أصاب السهم إذا وصل إلى المرمى بالصواب ثم اختص بالنائبة أي ما حدث من حادثة كائنة في الأرض كجدب وعاهة في الزروع والثمار {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالارْضِ} أي إلا مكتوبة مثتبة في علم الله أو في اللوح المحفوظ {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} نخلق الأنفس أو المصائب أو الأرض فإن البرء في اللغة هو الخلق والبارىء الخالق وذكر ربيع بن صالح الأسلمي قال : دخلت على سعيد بن جبير حين جيىء به إلى الحجاج حين أراد قتله فبكى رجل من قومه فقال سعيد : ما يبكيك؟ قال : ما أصابك قال : فلا تبك قد كان في علم الله أن يكون هذا ألم تسمع قول الله تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها.
قال في الروضة : رؤى الحجاج في المنام بعد وفاته فقيل : ما فعل الله بك؟ فقال : قتلني بكل قتيل قتلة وبسعيد بن جبير سبعين قتلة وفي الآية دليل على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود وكذا جميع أعمال الخلق بتفاصيلها مكتوبة في اللوح المحفوظ ليستدل الملائكة بذلك المكتوب على كونه تعالى عالماً بجميع الأشياء قبل وجودها وليعرفوا حلمه فإنه تعالى مع علمه إنهم يقومون على المعاصي خلقهم ورزقهم وأملهم وليحذروا من أمثال تلك المعاصي وليشكروا الله على توفيقه ءياهم للطاعات وعصمته إياهم من المعاصي وفيها دليل أيضاً أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها لأن إثباتها في الكتاب محال ولو سأل سائل أن الله تعالى هل يعلم عدد أنفاس أهل الجنة؟ يقال له : إن الله يعلم أنه لا عدد لأنفاسهم {إِنَّ ذَالِكَ} أي إثباتها في كتاب مع كثرتها {عَلَى اللَّهِ} متعلق بقوله : {يَسِيرٌ} لاستغنائه فيه عن العدة والمدة وإنك ان عسيراً على العباد قال الجنيد قدس سره : من عرف الله بالربوبية وافتقر إليه في إقامة العبودية وشهد بسره ما كشف الله له من آثار القدرة بقوله : ما أصاب الخ فسمع هذا من ربه وشهد بقلبه وقع في الروح والراحة وانشرح صدره وهان عليه ما يصيبه فإن قلت كان الله قادراً على أن يوصل العباد إليه بلا تعب ولا مصيبة فكيف أوقعهم في المحن والبلايا قلت : أراد أن يعرفهم بامتحان القهر حقائق الربوبية وغرائب الطرق إليه حتى يصلوا إليه من طريق الجلال والجمال ففي الآية توطين للنفوس على الرضى بالقضاء والصبر على البلاء وحمل لها على شهود المبتلى في عين البلايا فإن به يسهل التحمل وإلا فمن كان غافلاً عن مبدأ اللطف والقهر فهو غافل في اللطف والقهر ولذا تعظم عليه المصيبة بخلاف حال أهل الحضور فإنهم يلتذون بالبلاء التذاذهم بالعافية بل ولذة البلاء فوق لذة العافية :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
ازدست تومشت بردهانم خوردن
خوشتركه بدست خويش نانم خوردن
ومن أمثال العرب ضرب الحبيب زبيب أي لذيذ {لِّكَيْلا تَأْسَوْا} يقال أسى على مصيبته يأسى أسى من باب علم أي حزن أي أخبرناكم بإثباتها وكتابتها في كتاب كيلا يحصل لكم الحزن والألم {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} من نعم الدنيا كالمال والخصب والصحة والعافية
375
{وَلا تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَـاـاكُمْ} أي أعطاكم الله منها فإن من علم أن كلاً من المصيبة والنعمة مقدر يفوت ما قدر فواته ويأتي ما قدر إتيانه لا محالة لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت إذ يجوز أن يقدر ذهابه عن قريب وقيل لبرز جمهر أيها الحكيم مالك لا تحزن على ما فات ولا تفرح بما هو آت قال : لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة والآتي لا يستدام بالحبرة أي بالحبور والسرور لا التأسف يرد قفائتاً ولا الفرح يقرب معدوماً قال ابن مسعود رضي الله عنه لأن أمس جمرة أحرقت ما أحرقت وأبقت ما أبقت أحب إلي من أن أقول لشيء لم يكن ليته كان.
قال الكاشفي : اخبارست بمعنى نهى يعني ازادبار دنيا ملول واز اقبال او مسرور مشويد كه نه آنرا قراريست ونه اين را اعتبارى كردست :
دهد كراى شادى نكند
ورفوت شود نير نيرزد بغمى
واز مرتضى رضي الله عنه منقولست كه هركه بدين آيت كار كند هر آيينه فرا كيردزهد اورا بهردو طرف او يعني زاهدي تمام باشد وه زيبا كفته اند :
ندست سنديده بكن ياد ازان
تاديني ودينت شود آباد ازان
(9/307)
والمراد بالآية نفي الأسى المانع عن التسليم لأمر الله والفرح الموجب للبطر والاختيال ولذا عقب بقوله تعالى : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فإن من فرح بالحظوظ الدنيوية وعظمت في نفسه اختال وافتخر بها لا محالة والمختال المتكبر المعجب وهو من الخيلاء وهو التكبر من تخيل فضيلة تتراءى للإنسان من نفسه ومنها يتأول لفظ الخيل لما قيل إنه لا يركب أحد فرساً إلا وجد في نفسه نخوة وبالفارسية وخداى تعالى دوست ندارد هر متكبري راكه بر نعمت دنيا برديكرى تطاول كند فخور نازنده بدنيا وفخر كننده بدان برا كفاه واقران.
قال في بحر العلوم : المختال ذو الخيلاء والكبر وهو من العام المخصوص بدليل قول النبي عليه السلام إن من الخيلاء ما يحبها الله ومنها ما يبغضها الله أما الخيلاء التي يحبها الله فالاختيال عند الصدقة واختيال الرجل بنفسه عند اللقاء وأما الخيلاء التي يبغضها الله فالاختيال في البغي والفجور أي لا يحب كل متكبر بما أوتي من الدنيا فخور مبالغ في الفخر به على الناس انتهى وصف بعض البلغاء متكبراً فقال : كأن كسرى حامل غاشيته وقارون وكيل نفقته وبلقيس إحدى دايانه وكأن يوسف لم ينظر إلا بمقلته ولقمان لم ينطق إلا بحكمته وكأن الخصراء له عرشت والغبراء باسمه فرشت وفي تخصيص التذييل بالنهي عن الفرح المذكور إيذان بأنه أقبح من الأسى وفي الآية إشارة إلا أنه يلزم أن يثبت الإنسان على حال في السراء والضراء فإن كان لا بد له من فرح فليفرح شكراً على عطائه لا بطراً وإن كان لا بد من حزن فليحزن صبراف على قضائه لا ضجراً قال قتيبة بن سعيد : دخلت على بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء مملوء من الإبل الميتة بحيث لا تحصى ورأيت شخصاً على تل يغزل صوفاً فسألته فقال : كانت باسمي فارتجعها من أعطاها ثم أنشأ يقول :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
لاو الذي أنا عبد من خلائقه
والمرء في الدهر نصب الرزء والمحن
376
ما سرني أن أبلى في مباركها
وما جرى من قضاء الله لم يكن
قال البقلي قدس سره : طالب الله بهذه الآية أهل معرفته بالاستقامة والاتصاف بصفاته أي كونوا في المعرفة بأن لا يؤثر فيكم الفقدان والوجدان والقهر واللطف والاتصال والانفصال والفراق والوصال لأن من شرط الاتصاف أن لا يجري عليه أحكام التلوين والاضطراب في اليقين والاعوجاج في التمكين قال القاسم رحمه الله : ولا تأسوا على ما فاتكم من أوقاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم من توبتكم وطاعتكم فإنك لا تدري ما قدر الله فيك وقضى وقال الواسطي رحمه الله : الفرح بالكرامات من الاغترارات والتلذذ بالأفضال نوع من الإغفال والخمود تحت جريان الأمور زين لكل مأمور وقال شيخي وسندي رحمه الله في كتاب اللائحات والبرقيات لا تحزنوا بما فاتكم مما سوى الله ولا تفرحوا بما آتاكم مما عدا الله حتى لا تظلموا الحزن والفرح بوضعهما في غير موضعهما واحزنوا بما فاتكم من الله وافرحوا بما آتاكم من الله حتى تعدلوا فيهما بوضعهما في موضعهما لأن الله تعالى حق وما خلاه باطل فكما أن الحزن والفرح بالحق حق وعدل لهما والفاعل للحق محق وعادل فكذلك أن الحزن والفرح بالباطل باطل وظلم لهما والفاعل بالباطل مبطل وظالم ولا يفرح ولا يحزن بالله إلا المهاجرون إلى الله ولا يحزن ولا يفرح بما سوى الله إلا المعرضون عن الله فعليك بسبيل العادلين في جميع أحوالك وإياك وطريق الظالمين ومما سوى الله المال والملك قال الحسن رضي الله عنه لصاحب المال في ماله مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما يسلب عن كله ويسأل عن كله :
همه تخت وملكى ذيرد زوال
بجز ملك فرمان ده لا يزال
هنر بايد وفضل ودين وكمال
كه كاه آيدوكه رود جاه ومال
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/308)
ـ حكي ـ أن طيراً في عهد سليمان عليه السلام كان له سورة حسنة وصوت حسن اشتراه رجل بألف درهم وجاء طير آخر فصاح صيحة فوق قفصه وطار فسكت الطير وشكا الرجل إلى سليمان فقال : أحضروه فلما أحضروه وقال سليمان لصاحبك عليك حق فقد اشتراك بثمن غال فلم سكت؟ قال : يا نبي الله قل له حتى يرفع قلبه عني إني لا أصيح أبداً ما دمت في القفص قال : لم؟ قال : لأن صياحي كان من الجزع إلى الوطن والأولاد وقد قال لي ذلك الطير إنما حبسك لأجل صوتك فاسكت حتى تنجو فقال سليمان للرجل ما قال الطير فقال الرجل : أرسله يا نبي الله فإني كنت أحبه لصوته فأعطاه سليمان ألف درهم ثم أرسل الطير فطار وصاح سبحان من صورني وفي الهواء طيرني ثم في القفص صيرني ثم قال سليمان : إن الطير ما دام في الجزع لم يفرج عنه فلما صبر فرج عنه وبسببه خلص الرجل من التعلق به ففيه إشارة إلى الفناء عن أوصاف النفس فإذا فنى العبد عنها تخلص من الاضطراب وجاز إلى عالم السكون ومعرفة سر القدر وفي الحديث : "الإيمان بالقدر يذهب إليهم والحزن" قال الشيخ أبو عليه السلام محمد بن علي الترمذي الحكيم قدس سره ولقد مرضت في سالف أيامي مرضة فلما شفاني الله منها مثلث نفسي بين ما دبر الله لي من هذه العلة في مقدار هذه المدة وبين عبادة الثقلين في مقدار أيام علتي فقلت : لو خيرت بين
377
هذه العلة وبين أن تكون لي عبادة الثقلين في مقدار مدتها إلى أيهما تميل اختياراً فصح عزمي ودام يقيني ووقعت بصيرتي على أن مختار الله تعالى لي أكثر شرفاً وأعظم خطراً وأنفع عاقبة وهي العلة التي دبرها لي ولا شوب فيه إذ كان فعله فشتان بين فعله بك لتنجو به وبين فعلك لتنجو به فلما رأيت هذا دق في عيني عبادة الثقلين مقدار تلك المدة في جنب ما آتاني الله فصارت العلة عندي نعمة وصارت النعمة منة وصارت المنة أملاً وصار الأمل عطفاً فقلت في نفسي بهذا كانوا يستمرون في البلاء على طيب النفوس مع الحق وبهذا الذي انكشف كانوا يفرحون بالبلاء انتهى.
قال الصائب :
ترك هستى كن كه آسودست از تاراج سيل†
هركه يش از سيل رخت خود برون از خانه ريخت†
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} بدل من كل مختال فإن المختال بالمال يضن به غالباً ويأمر غيره به وهذا غاية الذم إنه يبخل الإنسان ويأمر غيره بالبخل والمعنى يمسكون أموالهم ولا يخرجون منها حق الله فإن البخل إمساك المقتنيات هما يحق إخراجها فيه ويقابله الجود يقال بخل فهو باخل وأما البخيل فالذي يكثر منه البخل كالرحيم من الراحم والبخل ضربان بخل بقنيات نفسه وبخل بقنيات غيره وهو أكثرهما وعلى ذلك قوله تعالى الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل كما في المفردات وبالفارسية مختال وفخور آنانند كه باوجود دنيا دارى وجمع أسباب آن بخل كنند ومال خود در راه خدا صرف ننمايند وبا وجود بخل خود امر نمايند مرد ما نرا به بخيلي كردن.
وعن النبي عليه السلام أنه قال لبني سلمة : من سيدكم؟ قالوا : الجد بن قيس وإنا لنبخله فقال : وأي داء أدوأ من البخل بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح وفي الحديث أربعة لا يجدون ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام البخيل والمنان ومدمن الخمر والعاق للوالدين {وَمَن} وهركه {يَتَوَلَّ} يعرض عن الإنفاق {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ} عنه وعن إنفاقه {الْحَمِيدُ} المحمود في ذاته لا يضره الإعراض عن شكره ولا ينفعه التقرب إليه بشيء من نعمه وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق وإشارة إلى أن من أعرض عن الإقبال على الله والإدبار عن الإنفاق فإن الله غني بحسب ذاته عن إقباله وبحسب صفاته عن إدباره بل هو حميد في ذاته وصفاته لا ينفعه إقباله ولا يضره إدباره إذ الضار النافع هو لا غيره وأيضاً إلى النفوس البشرية الأمارة بالسوء بالتقاعد عن الإقدام على الطاعة والعبارة ودعوة القلوب والأرواح إلى الارتكاب للمعاصي والاجتناب عن الطاعات بحسب الغلبة في بعض الأوقات لاستهلاك القوى الروحانية بحسب ظلمات القوى الجسمانية قال بعض الكبار : الإنسان من حيث نشأته الطبيعية سعيد وكذلك من حيث نفسه الناطقة ما دامت كل نشأة منفردة عن صاحبتها فما ظهرت المخالفة ءلا بالمجموع ولما جبل الإنسان على الإمساك لأن أصله التراب وفيه يبس وقبض لم يرض بذهاب مال نفسه وغيره فلذا بخل وأمر بالبخل :
زر از بهر خوردن بود اي در
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
زبهر نهادن ه سنك وه زر
378
(9/309)
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} أي الملائكة إلى الأنبياء أو الأنبياء إلى الأمم وهو الأظهر كما في الإرشاد {بِالْبَيِّنَـاتِ} بحجتهاى روشن كه معجز اتست باشريعتهاى واضحه.
فإن قلت المعجزات يخلقها الله على يدي مدعي النبوة كإحياء الموتى وقلب العصا واليد البيضاء وشق القمر من غير نزول الملك بها نعم معجزة القرآن نزل بها الملك ولكن نزوله بها على كل رسول غير ثابت قلت معنى نزول الملك بها أن الله يخبره على لسانه بوقوع تلك المعجزة على يده {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَـابَ} أي جنس الكتب الشامل للكل لتبيين الحق وتمييز صواب العمل أي لتكميل القوة النظرية والعملية.
قوله معهم يجعل على تفسير الرسل بالأنبياء حالاً مقدرة من الكتاب أي مقدراً كونه معهم وإلا فالأنبياء لم ينزلوا حتى ينزل معهم الكتاب فالنزول مع الكتاب شأن الملائكة والإنزال إليهم شأن الأنبياء ولذا قدم الوجه الأول إذ لو كان المعنى لقد أرسلنا الأنبياء إلى الأمم لكان الظاهر أن يقال وأنزلنا إليهم الكتاب {وَالْمِيزَانَ} بالفارسية ترازو {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} ليتعاملوا بينهم بالعدل ايفاء واستيفاء ولا يظلم أحد أحداً في ذلك وإنزاله إنزال أسبابه والأمر بإعداده وإلا فالميزان من مصنوعات البشر وليس بمنزل من السماء.
ـ وروي ـ أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان نفسه فدفعه إلى نوح عليه السلام وقال : مر قومك يزنوا به يعني تاتسويه حقوق كنند بدان درميان يكديكر بوقت معاملات.
وقال الإمام الغزالي رحمه الله : أتظن أن الميزان المقرون بالكتاب هو ميزان البر والشعير والذهب والفضة أم تتوهم أنه هو الطيار والقبان ما أبعد هذا الحسبان وأعظم هذا البهتان فاتق الله ولا تتعسف في التأويل.
واعلم يقيناً أن هذا الميزان هو ميزان معرفة الله ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وملكه وملكوته ليتعلم كيفية الوزن به من أنبيائه كما تعلموا من ملائكته فالله هو المعلم الأول والثاني جبرائيل والثالث الرسول والخلق كلهم يتعلمون من الرسول ما لهم طريق في المعرفة سواه والكل عبارته بلا تغيير وليت شعري ما دليله على ما ذهب إليه من العدول عن الظاهر كذا في بحر العلوم.
يقول الفقير : لعل دليله قوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط أي حاكماً بالعدل أو مقيماً للعدل في جميع أموره فإذا كان الله قائماً بالعدل في جميع الأمور كان الواجب على العباد أن يقوموا به أيضاً ولن يقوموا به حقيقة إلا بعد العلم الشامل والمعرفة الكاملة وهي معرفة الله فهي الميزان الكلي وما عداه من جميع الأمور مبني عليه وموزون به {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ} قيل : نزل آدم عليه السلام من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد : الأول السندان وهو سندان الحداد بالفتح كما في القاموس وإياه عنى الشيخ سعدي في قوله :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
و سندان كسى سخت رويى تبرد
كه خايسك تأديب بر سر نخورد
والثاني الكلبتان وهو ما يأخذ به الحداد الحديد المحمى كما في القاموس والثالث الميقعة بكسر الميم بعدها ياء مثناة تحتانية أصله موقعة قال في القاموس الميقعة خشبة القصار يدق عليها والمطرقة والمسن الطويل وقد وقعته بالميقعة فهو وقيع حددته بها والرابع المطرقة وهي آلة الطرق أي الضرب والخامس الإبرة وهي مسلة الحديد وروى ومعه المر والمسحاة قال
379
(9/310)
في القاموس المر بالفتح المسحاة وهي ما سحى به أي قشر وجرف وفي الحديث أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد والنار والماء والملح وعن ابن عباس رضي الله عنهما ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام الحجر الأسود وكان أشد بياضاً من الثلج وعصا موسى وكانت من آس الجنة طولها عشرة أذرع والحديد وعن الحسن رحمه الله وأنزلنا الحديد خلقناه كقوله تعالى وأنزل لكم من الأنعام وذلك أن أوامره وقضاياه وأحكامه تنزل من السماء قال بعضهم : وأخرجنا الحديد من المعادن لأن العدل إنما يكون بالسياسة والسياسة مفتقرة ءلى العدة والعدة مفتقرة إلى الحديد وأصل الحديد ماء وهو منزل من السماء {فِيهِ} أي في الحديد {بَأْسٌ شَدِيدٌ} وهو القتال به أو قوة شديدة يعني السلاح للحرب لأن آلات الحرب إنما تتخذ منه وبالفارسية كارزار سخت است يعني آلتها كه دركار زار بكار آيداز وسازند خواه از براى دفع دشمن ون سنان ونيزه وشمشبر ويكان وخنر وامثال آن وخواه براى حفظ نفس خود ون زره وخود وجوشن وغير آن.
وفيه إشارة إلى أن تمشية قوانين الكتاب واستعمال آلة التسوية يتوقفان على دال صاحب سيف ليحصل القيام بالقسط وإن الظلم من شيم النفوس والسيف حجة الله على من عنده ظلم {وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ} كالسكين والفأس والمر والإبرة ونحوها وما من صنعة إلا والحديد أو ما يعمل بالحديد آلتها وفيه إشارة إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى القائم بالسيف يحتاج أيضاً إلى ما به قوام التعايش من الصنائع وآلات المحترقة وإلى سيف الجذبة المتخذ من حديد القهر إذ لا بد لكل تجلي جلالي من كون التجلي الجمالي فيه وبالعكس وهم الأولياء وهم يميلون إلى الحق بكثرة الألطاف والإعطاف الربانية كما قال تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُه وَرُسُلَهُ} عطف على محذوف يدل عليه ما قبله فإنه حال متضمنة للتعليل كأنه قيل ليستعملوه وليعلم الله علماً يتعلق به الجزاء من ينصره ورسله باستعمال السيوف والرماح وسائر الأسلحة في مجاهدة أعدائه {بِالْغَيْبِ} حال من فاعل ينصر أي غائبين عنه تعالى كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ينصرونه وإنما يحمد ويثاب من أطاع بالغيب من غير معاينة للمطاع أو من مفعوله أي حال كونه تعالى غائباً عنهم غير مرئي لهم {إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ} على إهلاك من أراد إهلاكه {عَزِيزٌ} لا يفتقر إلى نصرة الغير وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ويستوجبوا ثواب الامتطال فيه والقوة عبارة عن شدة البنية وصلابتها المضادة للضعف وهي في حق الله بمعنى القدرة وهي الصفة التي يتمكن الحي من الفعل وتركه بالإرادة والعزة الغلبة على كل شيء قال الزروقي رحمه الله : القوي هو الذي لا يلحقه ضعف في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فلا يمسه نصب ولا تعب ولا يدركه قصور ولا عجز في نقض ولا إبراهيم وخاصة هذا الاسم ظهور القوة في الوجود فما تلاه ذو همة ضعيفة إلا وجد القوة ولا ذو جسم ضعيف إلا كان له ذلك ولو ذكره مظلوم بقصد إهلاك الظالم ألف مرة كان له ذلك وكفى أمره وخاصية الاسم العزيز وجود الغنى والعز صورة أو معنى فمن ذكره
380
أربعين يوماً في كل يوم أربعين مرة أعانه الله وأعزه فلم يحوجه لأحد من خلقه وفي الأربعين الإدريسية يا عزيز المنيع الغالب ملى أمره فلا شيء يعادله قال السهروردي رحمه الله : من قرأ سبعة أيام متواليات كل يوم ألفاً أهلك خصمه وإن ذكره في وجه العسكر سبعين مرة ويشير إليهم بيده فإنهم ينهزمون {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} أي وبالله قد بعثنا {نُوحًا} إلى قومه وهم بنوا قابيل وهو الأب الثاني {وَإِبْرَاهِيمَ} إلى قومه أيضاً وهم نمرود ومن تبعه ذكر الله رسالتهما تشريفاً لهما بالذكر ولأنهما من أول الرسل وابوان للأنبياء عليهم السلام فالبشر كلهم من ولد نوح والعرب والعبرانيون كلهم من ولد إبراهيم {وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا} أي في نسلهما {النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـابَ}
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/311)
بأن استنبأنا بعض ذريتهما وأوحينا إليهما الكتب مثل هود وصالح وموسى وهارون وداود وغيرهم فلا يوجد نبي ولا كتاب إلا وهو مدللٍ إليهما بأمتن الأسباب وأعظم الإنسان {فَمِنْهُم} أي فمن ذرية هذين الصنفين أو من المرسل إليهم المدلول عليهم بذكر الإرسال والمرسلين يعني س بعضي از انهاكه أنبياء برايشان آمدند {مُّهْتَدٍ} أي الحق يعني إيمان آورده بكتاب ونبي وثابت شد بردين خود {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ} خارجون عن الطريق المستقيم فيكونون ضالين لا محالة {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَـارِهِم بِرُسُلِنَا} أي ثم أرسلنا بعدهم رسلنا والضمير لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من الأمم يعني بعد از نوح وهود وصالح را وبعد از إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف را.
أو من عاصرهما من الرسل ولا يعود إلى القرية فإن الرسل المقفى بهم من الذرية يقال قفا أثره اتبعه وقفى على أثره بفلان أي اتبعه إياه وجاء به بعده والآثار جمع أثر بالكسر تقول خرجت على أثره أي عقبه فالمعنى اتبعنا من بعدهم واحداً بعد واحد من الرسل قال الحريري في درة الغواص : يقال شفعت الرسول بآخر أي جعلتهما اثنين فإذا بعثت بالثالث فوجه الكلام أن يقال عززت بثالث أي قويت كما قال تعالى : فعززنا بثالث فإن واترت الرسل فالأحسن أن يقال قفيت بالرسل كما قال تعالى : ثم قفينا على آثارهم برسلنا {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم فأتينا به بعدهم يعني وازيى در آورديم اين رسل راوتمام كرديم انبياء بني إسرائيل را بعيسى ابن مريم.
فأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى {ثُمَّ قَفَّيْنَا} دفعة واحدة {وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ} المؤمنين {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي عيسى في دينه كالحواريين وأتباعهم {رَأْفَةً} وهي اللين {وَرَحْمَةً} وهي الشفقة أي وقفينا رأفة أي أشد رقة على من كان يتسبب إلى الاتصال بهم ورحمة أي رقة وعطفاً على من لم يكن له سبب في الصلة بهم كما كان الصحابة رضي الله عنهم : رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أن قلوبهم في غاية الصلابة فهم أعزة على الكافرين قيل امروا في الإنجيل بالصفح والإعراض عن مكافأة الناس على الأذى :
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
بدى را بدى سهل باشد جزا
اكر مردى احسن إلى من اسا
وقيلي لهم من لطم خدك الأيمن قوله خدك الأيسر ومن سلب رداءك فأعطه قميصك
381
ولم يكن لهم قصاص على جناية في نفس أو طرف فاتبعوا هذه الأوامر وأطاعوا الله وكانوا متوادين ومتراحمين ووصفوا بالرحمة خلاف اليهود الذين وصفوا بالقسوة {وَرَهْبَانِيَّةً} منصوب إما بفعل مضمر يفسره الظاهر أي وابتدعوا أي أتباع عيسى رهبانية {ابتَدَعُوهَا} أي حملوا أنفسهم على العمل بها وإما بالعطف على ما قبلها وابتدعوها صلة لها أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم أي وقفيناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها قال في فتح الرحمن المعتزلة تعرب رهبانية على أنها نصب بإضمار فعل يفسره ابتدعوها وليست بمعطوفة على رأفة ورحمة ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله فيعربون الآية على مذهبهم انتهى والرهبانية المبالغة في العبادة بمواصلة الصوم ولبس المسوح وترك أكل اللحم والامتناع عن المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبد في الغير أن ومعناها العفلة المنسوبة إلى الرهبان بالفتح وهو الخائف فإن ارهبة مخافة مع تحزن واضطراب كما في المفردات فعلان من رهب كخشيان من خشي وقرىء بضم الراء كأنها نسبة إلى الرهبان جمع راهب كراكب وركبان ولعل التردد لاحتمال كون النسبة إلى المفتوح والضم من التغيير النسب يعني أن الرهبان لما كان اسماً لطائفة مخصوصة صار بمنزلة العلم وإن كان جمعاً في نفسه فالتحق بأنصار وإعراب وفرائض فقيل : رهباني كما قيل أنصاري وإعرابي وفرائضي بدون رد الجمع إلى واحده في النسبة وقال الراغب في المفردات : الرهبان يكون واحداً وجمعاف فمن جعله واحداً جمعه على رهابين ورهبانية بالجمع أليق انتهى وهي الخصال المنسوبة إلى الرهبان وسبب ابتداعهم إياها أن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى فقاتلوا ثلاث مرات فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا قليل فخافوا أن يفتتنوا في دينهم فاختاروا الرهبانية في قلل الجبال فأرين بدينهم مخلصين أنفسهم للعبادة منتظرين البعثة النبوية التي وعدها لهم عيسى عليه السلام كما قال تعالى : ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد الآية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 344
(9/312)