فالأساس هو الإيمان والتوحيد ، ثم يبنى عليه سائر الواجبات.
قال مالك بن دينار رحمه الله : رأيت جماعة في البصرة يحملون جنازة ، وليس معهم أحد ممن يشيع الجنازة ، فسألتهم عنه ، فقالوا : هذا من كبار المذنبين ، قال : فصليت عليه وأنزلته في قبره ، ثم انصرفت إلى الظل ، فنمت ، فرأيت ملكين نزلا من السماء ، فشقا قبره ونزل أحدهما في القبر ، وقال : اكتبه من أهل النار ؛ لأنه لم تسلم جارحة منه عن الذنب ، فقال الآخر : لا تعجل ، ثم نزل هو ، فقال لصاحبه : قد اختبرت قلبه ، فوجدته مملوءاً بالإيمان ، فاكتبه مرحوماً ، فإذا صلح القلب بالتوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر يرجى أن يتجاوز الله عن سيئاته ، ثم إن الساعة ارتاب فيها المرتابون مع وضوح شواهدها ، وأما أهل الإيمان والعيان فرأوها كأنها حاضرة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
روي : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سأل حارثة كيف أصبحت يا حارثة.
قال : أصبحت مؤمناً حقاً ، قال : يا حارثة إن لكل حق حقيقة ، فما حقيقة إيمانك.
قال : عزفت نفسي عن الدنيا ؛ أي : زهدت وانصرفت ، فأظمأت نهارها وأسهرت ليلها واستوى عندي حجرها وذهبها ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون ، وإلى أهل النار يتضاغون ؛ أي : يصوتون باكين ؛ وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً ، فقال عليه السلام : أصبت فالزم.
ومن كلمات أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه : "لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً" :
حال خلد وجحيم دانستم
بيقين آنجنانكه مى بايد
كر حجاب ازميانه بر كيرند
آن يقين ذرة نيفزايد
فظهر أن هذا حال أهل العيان فأين المحجوب على هذا ، فلما كانا لا يستويان في الدنيا علماً ومعرفة وشهوداً ، كذلك لا يستويان في الآخرة درجة وقربة وجوداً نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الصالحين المحسنين الفائزين بمطالب الدنيا والدين والآخرة.
{إِنَّ السَّاعَةَ لاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ} .
{قَالَ رَبُّكُمْ} أيها الناس.
{ادْعُونِى} وحدوني واعبدوني.
{أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ؛ أي : أثبكم بقرينة قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} يتعظمون عن طاعتي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ} حال كونهم {دَاخِرِينَ} ؛ أي : صاغرين أذلاء فإن الدخو بالفارسية : (خوارشدن.
من دخر كمنع
200
وفرح صغر وذل).
وإن فسر بالسؤال كان الاستكبار الصارف عنه منزلاً منزلة الاستكبار عن العبادة ، فأقيم الثاني مقام الأول للمبالغة.
أو المراد بالعبادة الدعاء ، فإنه من أفضل أبوابها ، فأطلق العام على الخاص مجازاً.
قال الكاشفي : (مرد از دعا سؤالست يعني بخواهيد كه خزانة من مالا مالست وكرم من بخشدة آمال كدام كداست نياز بيش آورده كه نقد مراد بركف اميدش ننهادم وكدام محتاج زبان سؤال كشاد كه رقعة حاجنش رابتو قيع اجابت موشح نساحتم) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
برآستان ارادت كه سر نهادشبى
كه لطف دوست برويش دريجة نكشود
يقال : ادعوني بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة ادعوني بلا خفاء أستجب لكم بالوفاء ادعوني بلا خطأ ، أستجب لكم بالعطاء ، ادعوني بشرط الدعاء ، وهو الأكل من الحلال.
قيل : الدعاء مفتاح الحاجة وأسنانه لقمة الحلال.
قال الحكيم الترمذي قدس سره : من دعا الله ، ولم يعمر قبل ذلك سبيل الدعاء بالتوبة والإنابة وأكل الحلال واتباع السنن ومراعاة السر ، كان دعاؤه مردوداً ، وأخشى أن يكون جوابه الطرد واللعن.
يقال : كان من دعاه استجاب له إما بما سأله ، أو بشيء آخر هو خير له منه.
ويقال : الكافر ليس يدعوه حقيقة ؛ لأنه إنما يدعو من له شريك ، والله تعالى لا شريك له.
وكذا المعطلة ؛ لأنهم إنما يعبدون إلهاً لا صفات له في الحياة والسمع والبصر والكلام والقدرة والإرادة بزعمهم ، فهم لا يعبدون الله تعالى ، وكذا المشبهة إنما يدعون إلهاً له جوارح وأعضاء ، والله تعالى منزه عن ذلك ؛ فإنه ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير.
(8/152)
قال الشافعي رحمه الله : من انتهض لطلب مدبره ؛ فإن اطمأن إلى موجود ينتهي إليه فكره ، فهو مشبه ، وإن اطمأن إلى نفي محض ، فهو معطل ، وإن اطمأن إلى موجود واعتراف بالعجز عن إدراكه ، فهو موحد ، فأهل السنة يثبتونتعالى صفات ثبوتية وينزهونه عما لا يليق به ، فهم إنما يدعون الله تعالى ، فما من مؤمن يدعو الله ويسأله شيئاً إلا أعطاه إما في الدنيا وإما في الآخرة.
ويقول : هذا ما طلبت في الدنيا ، وقد ادخرته لك إلى هذا اليوم حتى يتمنى العبد أنه ليته لم يعط شيئاً في الدنيا.
ويقال : لم يوفق العبد للدعاء إلا لإرادة الله إجابته ، لكن وقوع الإجابة حقيقة ، إنما يكون في الزمان المتعين للدعاء كالسلطان إذا كان في وقت الفرح والاستبشار لا يرد السائل البتة.
قال الفضل بن عياض والناس وقوف بعرفات : ما تقولون لو قصد هؤلاء الوفد بعض الكرماء يطلبون منه دانقاً أكان يردهم ، فقالوا : لا.
فقال : والله للمغفرة في جنة كرم الله أهون على الله من الدانق في جنة كرم ذلك الرجل ، فعرفات وزمان الوقوف من مظان الإجابة.
وكذا جميع أمكنة العبادات وأوقات الطاعات ؛ لأن الله تعالى إذا رأى عبده حيث أمر رضي عنه واستجاب دعاءه ، ونعم ما قال سفيان حيث قال بعضهم : ادع الله ، فقال : ترك الذنوب هو الدعاء.
قال بعض العارفين بالله : الصلاة أفضل الحركات والصوم أفضل السكنات والتضرع في هياكل العبادات يحل ما عقدته الأفلاك الدائرات.
ولا بد من حسن الظن بالله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
حكي عن بعض البله ، وهو في طواف الوداع أنه قال له رجل وهو يمازحه : هل أخذت من الله براءتك من النار ، فقال الأبله له : وهل أخذ الناس ذلك ، فقال : نعم ، فبكى ذلك الأبله ، ودخل الحجر وتعلق بأستار الكعبة ، وجعل يبكي ويطلب من الله أن يعطيه كتابه بعتقه من النار ، فجعل أصحابه والناس يطوفون يعرفونه أن فلاناً مزح معك ، وهو لا يصدقهم ،
201
بل بقي مستمراً على حاله ، فبينما هو كذلك سقطت عليه ورقة من طرف الميزاب فيها براءته وعتقه من النار فسر بها وأوقت الناس عليها ، وكان من آية ذلك الكتاب أنه يقرأ من كا ناحية على السواء ، لا يتغير كلما قلبت الورقة انقلبت الكتابة لانقلابها ، فعلم الناس أنه من عند الله.
(وكفته اند دعا لفظي جامع است بيست خصلت از خصال حسنات در ضمن آن مجتمع همجون معجوني ساخته ازا خلاط متفرق وآن عبادتست واخلاص وحمد وشكر وثنا تهليل وتوحيد وسؤال ورغبت ورهبت وندا وطلب مناجات وافتقار وخضوع وتذلل ومسكنت واستعانت واستكانت والتجاء رب العالمين باين كلمات مختصر جه كفت) ادعوني أستجب لكم.
(ترابا اين بيست خصلت تراميد هد تايدانى كه اين قرآن جوامع الكلم است).
قال في "ترويح القلوب" : الأدب في ابتداء كل توجه أو دعاء أو اسم التوبة.
وذكر محامد الله ، والثناء عليه والتشفع بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصلاة عليه ، وهو مفتاح باب السعادة ، وأكل الحلال ، وهو الترياق المجرب والتبري من الحول والقوة وترك الالتجاء لغير الله وحسن الظن بالله ، وجمع الهمة وحضور القلب وغاية الدعاء ، إظهار الفاقة ، وإلا فالله يفعل ما يريد :
جز خضوع وبندكى واضطرار
اندرين حضرت ندارد اعتبار
في الحديث : "إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها ، وإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم" ، "وما سئل الله شيئاً أحب إليه من أن يسأل العافية".
كما في "كشف الأسرار" : ومنه عرف أن مسح اليدين على الوجه عقيب الدعاء سنة ، وهو الأصح كما في "القنية".
قال في "الأسرار المحمدية" : كان عليه السلام يأمر أصحابه بمسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء ، ويحرض عليه.
وسر ذلك أن الإنسان حال دعائه متوجه إلى الله تعالى بظاهره وباطنه ، ولذا يشترط حضور القلب فيه ، وصحة الاستحضار فسر الرفع والمسح أن اليد الواحدة تترجم عن توجهه بظاهره ، واليد الأخرى عن توجهه بباطنه ، واللسان مترجم عن جملته ومسح الوجه هو التبرك ، والتنبيه على الرجوع إلى الحقيقة الجامعة بين الروح والبدن ؛ لأن وجه الشيء حقيقة ، والوجه الظاهر مظهرها ، والمستحب أن يرفع يديه عند الدعاء إلى حذاء صدره.
كذا فعله النبي عليه السلام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
كما رواه ابن عباس رضي الله عنهما ، والأفضل أن يبسط كفيه ويكون بينهما فرجة ، وإن قلت : ولا يضع إحدى يديه على الأخرى ، فإن كان وقت عذر أو برد ، فأشار بالمسبحة قام مقام بسط كفيه ، والسنة أن يخرج بدنه حين الدعاء من كميه.
(8/153)
قال سلطان العارفين أبو يزيد البسطامي قدس سره : دعوت الله ليلة ، فأخرجت إحدى يدي ، والأخرى ما قدرت على إخراجها من شدة البرد ، فنعست ، فرأيت في منامي أن يدي الظاهر مملوءة نوراً ، والأخرى فارغة ، فقلت : ولم ذلك يا رب ، فنوديت : أن اليد التي خرجت للطلب ملأناها ، والتي توارت حرمت.
ثم إن قوله : ادعوني أستجب لكم.
يشير إلى أن معنى ادعوني : اطلبوا مني ؛ أي : لا تطلبوا من غيري ، فإن من كنت له يكون له ما كان لي.
وإن من يطلبني يجدني.
كما قال : إن من طلبني وجدني.
قال الشيخ سعدي :
خلاف طريقت بودكا وليا
تمنا كنند از خدا جز خدا
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الداعين العابدين له بالإخلاص.
{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ} : (بيا فريد).
{لَكُمُ} :
202
(براى منفعت شما).
{الَّيْلَ} : (شب تيره را).
{لِتَسْكُنُوا فِيهِ} ولتستريحوا ، فإن الليل لكونه بارداً رطباً تضعف فيه القوى المحركة ، ولكونه مظلماً يؤدي إلى سكون الحواس ، فتستريح النفس والقوى والحواس بقلة أشغالها وأعمالها ، كما قال ابن هيصم : جعل الليل مناسباً للسكون من الحركة ؛ لأن الحركة على وجهين : حركة طبع من الحرارة ، وحركة اختيار من الخطرات المتتابعة بسبب الحواس ، فخلق الليل مظلماً لتنسد الحواس وبارداً لتسكن الحركة ، ولذا قيل للبرد القر ؛ لأجل أن البرد يقتضي السكون والحر الحركة.
{وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} ؛ أي : مبصراً فيه أو به ، يعني : يبصر به المبصرون الأشياء ، ولكونه حاراً يقوي الحركات في اكتساب المعاش ، فإسناد الإبصار إلى النهار مجاز فيه مبالغة ، ولقصد المبالغة عدل به عن التعليل إلى الحال ؛ بأن قال : مبصراً دون لتبصروا فيه أو به ، يعني : أن نفس النهار لما جعل مبصراً فهم أن النهار لكمال سببيته للإبصار وكثرة آثار القوة الباصرة فيه ، جعل كأنه هو المبصر ، فإن قيل : فلم يسلك هناك سبيل المبالغة.
قلنا : لأن نعمة النهار لشبهها بالحياة أتم ، وأولى من نعمة الليل التي تشبه الموت ، فكانت أحق بالمبالغة إذ المقام مقام الامتنان ؛ ولأن الليل يوصف بالسكون لسكون هوائه وصفا مجازياً متعارفاً ، فسلوك سبيل المبالغة فيه يوقع الاشتباه ، كما أشير إليه في "الكشاف" ، ثم إذا حملت الآية على الاحتباك.
وقيل : المراد جعل لكم الليل مظلماً لتسكنوا فيه ، والنهار مبصراً لتنتشروا فيه ولتبتغوا من فضل الله ، فحذف من الأول بقرينة الثاني.
ومن الثاني بقرينة الأول ، لم يحتج إلى ما ذكر.
كذا أفاده سعدي المفتي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال بعضهم : جعل الليل لتسكنوا فيه إلى روح المناجاة والنهار مبصراً لتبصروا فيه بوادي القدرة.
وفيه إشارة إلى ليل البشرية ليسكن أهل الرياضات والمجاهدات فيه إلى استرواح القلوب ساعة فساعة ، لئلا يمل من مداومة الذكر.
والتعبد وحمل أعباء الأمانة ، وإلى نهار الروحانية لجعله مظهراً للجد والاجتهاد في الطلب والتصبر على التعب ، وسكون الناس في الليل على أقسام.
أهل الغفلة يسكنون إلى استراحة النفوس والأبدان.
وأهل الشهوة يسكنون إلى أمثالهم من الرجال والنسوان.
وأهل الطاعة يسكنون إلى حلاوة أعمالهم وبسطهم واستقلالهم وأهل المحبة يسكنون إلى أنين النفوس وحنين القلوب ، وضراعة الأسرار واشتعال الأرواح بنار الشوق ، وهم يعدمون القرار في ليلهم ونهارهم ، أولئك أصحاب الاشتياق أبداً في الاحتراق :
هر كه از درد خدا آكاه شد
ذكر وفكرش دائما الله شد
{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ} عظيم.
{عَلَى النَّاسِ} بخلق الليل والنهار لا يوازيه فضل ولا يدانيه.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} : تكرير الناس لتنصيص الكفر أن بهم بإيقاعه على صريح اسمهم الظاهر الموضوع موضع الضمير الدال على أن ذلك كان شأن الإنسان ، وخاصته في الغالب ؛ أي : لا يشكرون فضل الله وإحسانه لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواضع النعم ؛ أي : رفعة شأنها وعلو قدرها ، وإذا فقدوا شيئاً منها يعرفون قدرها مثل أن يتفق لبعض.
والعياذ بالله أن يحسبه بعض الظلمة في بئر عميق مظلم مدة مديدة ؛ فإنه حينئذ يعرف قدر نعمة الهواء بالصافي وقدر نعمة الضوء :
203
يكى راعسس دست بريسته بود
همه شب بريشان ودلخسته بود
بكوش آمدش درشب تيره رنك
كه شخصى همى نالد ازدست تنك
شنيد اين سخن دزد مسكين وكفت
زبيجاركى جند نالى بخفت
بروشكر يزدان كن اى تنك دست
كه دستت عسس تنك برهم بنست
يعني فلك القدرة على الكسب :
نداند كسى قدر روز خوشى
مكر روزى افتد بسختى كشى
زمستان درويش بس تنك سال
جه سهلست بيش خداوند مال
جه دانند جيحو نيان قدر آب
زواماند كان برس در آفتاب
كسى قيمت تندرستى شناخت
كه بكجند بيجاره در تب كداخت
ببانك دهل خواجه بيدار كشت
جه داند شب باسبان جون كذشت
(8/154)
{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ لا إله إِلا هُوَا فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَالِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بآيات اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .
.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{ذَالِكُمُ} المتفرد بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية.
{اللَّهُ رَبُّكُمْ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ لا إله إِلا هُوَ} : أخبار مترادفة تخصص السابقة منها اللاحقة وتقررها.
قال في "كشف الأسرار" : كل ها هنا بمعنى البعض.
وقيل : عام خص منه ما لا يدخل في الخلق.
{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ، فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته خاصة إلى عبادة غيره.
{كَذَالِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بآيات اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ؛ أي : مثل ذلك الإفك للعجب الذي لا وجه له ، ولا مصحح ، أصلاً ؛ أي : كما صرف قومك ، وهم قريش عن الحق وحرموا من التحلي به مع قيام الدلائل يؤفك ، ويصرف عنه كل جاحد قبلهم ، أو بعدهم بآياته ؛ أي آية كانت لا إفكاً آخر له وجه ، ومصحح في الجملة.
قال الراغب : الإفك كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه ، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب المؤتفكات.
وقوله : أنى تؤفكون ؛ أي : تصرفون من الحق في الاعتقاد إلى الباطل ، ومن الصدق في المقال إلى الكذب ، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح.
ورجل مأفوك ؛ أي : مصروف عن الحق إلى الباطل والجحود نفي ما في القلب إثباته وإثبات ما في القلب نفيه وتجحد تخصص بفعل ذلك ، فعلى العبد أن يقر بمولاه ، وبآياته ، فإنه خالقه ورازقه.
وجاء في أحاديث المعراج : قل لأمتك إن أحببتم أحداً لإحسانه إليكم ، فأنا أولى به لكثرة نعمي عليكم ، وإن خفتم أحداً من أهل السماء والأرض ، فأنا أولى بذلك لكمال قدرتي ، وإن أنتم رجوتم أحداً ، فأنا أولى به ؛ لأني أحب عبادي ، وإن أنتم استحييتم من أحد لجفائكم إياه ، فأنا أولى بذلك ؛ لأن منكم الجفاء ، ومني الوفاء ، وإن أنتم آثرتم أحداً بأموالكم وأنفسكم ، فأنا أولى به ؛ لأني معبودكم ، وإن صدقتم أحداً وعده ، فأنا أولى بذلك ؛ لأني أنا الصادق ، ففي العبودية والمعرفة شرف عظيم.
قال علي رضي الله عنه : ما يسرني أن لو مت طفلاً وأدخلت الجنة ، ولم أكبر ، فأعرف ، وذلك لأن الإنسان خلق للعبادة والمعرفة ، فإذا ساعده العمر والوقت يجب عليه أن يجتهد إلى أن يترقى إلى ذروة المطالب ، ويصل إلى مرتبة استعداده ، فإذا أهمل وتكاسل ، فمات كان كالصبي الذي مات في صباه خالياً عن حلية الكمالات والسعادات نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المجتهدين.
{كَذَالِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بآيات اللَّهِ يَجْحَدُونَ * اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ قَرَارًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِا ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ * هُوَ الْحَىُّ لا إله إِلا هُوَ فَـادْعُوهُ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ} لمصالحكم وحوائجكم.
{الارْضَ قَرَارًا} مستقراً ؛ أي : موضع
204
قرار ومكان ثبات وسكون ، فإن القرار كما يجيء بمعنى الثبات والسكون يجيء بمعنى ما قر فيه ، وبمعنى المطمئن من الأرض كما في "القاموس".
قال ابن عباس رضي الله عنهما : قراراً ؛ أي : منزلاً في حال الحياة وبعد الممات.
{وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} : البناء بمعنى المبنى ؛ أي : قبة مبنية مرفوعة فوقكم ، ومنه أبنية العرب لمضاربهم ، وذلك لأن السماء في نظر العين كقبة مضروبة على فضاء الأرض.
وفي "التأويلات النجمية" : خلق الأرض لكم استقلالاً ولغيركم طفيلياً ، وتبعاً لتكون مقركم ، والسماء أيضاً خلق لكم لتكون سقفكم مستقلين به ، وغيركم تبع لكم فيه.
وقال بعضهم : جعل الأرض قراراً لأوليائه ، والسماء بناء لملائكته.
وفيه إشارة إلى قوله : أوليائي تحت قبابي ؛ أي : مستورون تحت قباب الملكوت ، لا تنكشف أحوالهم إلا لمن عرفه الله تعالى.
وفي الآية بيان لفضله تعلق المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان.
وقوله تعالى : {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} : بيان لفضله المتعلق بأنفسهم ، والفاء : في فأحسن تفسيرية ، فإن الإحسان عين التصوير ، كما قوله عليه السلام : "إنأدبني فأحسن تأديبي" ، فإن الإحسان عين التأديب ، فإن تأديب الله لمثله لا يكون إلا حسناً ، بل أحسن.
والمعنى : صوركم أحسن تصوير حيث خلقكم منتصبي القامة بادي البشرة متناسبي الأعضاء والتخطيطات متهيئين لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات.
(8/155)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : خلق ابن آدم قائماً معتدلاً يأكل ، ويتناول بيده وغير ابن آدم بفيه.
وفيه إشارة إلى أنه تعالى جعل أرض البشرية مقراً للروح وجمع سماء الروحانية في عالم صوركم ، ولم يجمعها في صورة شيء آخر من الملائكة والجن والشياطين والحيوانات.
وإلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين : 4).
وأيضاً : فأحسن صوركم إذ جعلها مرآة جماله ، كما قال عليه السلام : "كل جميل من جمال الله" ، وإنما جعلكم جميلاً ليحبكم ، كما قال عليه السلام : "إن الله جميل يحب الجمال".
وبالفارسية : (حسن صورت انساني در آنست كه از مرآت جهان نماست بهمه حقائق علوى وسفلى ومجموع دقائق صورى ومعنوى را جامعست وأنوار معرفت ذات آثار شناخت صفات ازآينة جامعة أو لا مع) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
اى صورت تو آينة سر وجود
روشن زرخت برتو انوار شهود
مجموعة هر دو كونى ونيست جوتو
در مملكت صورت ومعنى موجود
وفيه إشارة إلى تخطئة الملائكة فيما قبحوا الإنسان ، وقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، فإن الحسن ليس ما يستحسنه الناس ، بل ما يستحسنه الحبيب ؛ كأن الله يقول : إن الواشين قبحوا صورتكم عندنا ، بل الملائكة كتبوا في صحيفتكم قبيح ما ارتكبتم ومولاكم أحسن صوركم عنده بأن محا من ديوانكم الزلات ، وأثبت في ذلك الحسنات ، كما قال تعالى : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} (الرعد : 39).
وقال : {فأولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ} (الفرقان : 70) ، فحسن الصورة ، والمعنى : مخصوص بالإنسان ، وهو المدار ، وما سواه دائر عليه.
قال الصائب :
اسرار جار دفتر ومضمون نه كتاب
در نقطة تو ساخته ايزد نهان همه
وزبهر خدمت تو فلكها جو بندكان
زا خلاص بسته اند كمر برميان همه
بيش تو سر بخاك مذلت نهاده اند
با آن علوم ومر تيه روحانيان همه
205
{وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ} : من المأكولات اللذيذة.
(ومتميز كر دانيد روزى شما از روزى حيوانات).
قال في "التأويلات النجمية" : ليس الطيب ما يستطيبه الخلق ، بل الطيب ما يستطيبه الحق ، فإنه طيب لا يقبل إلا طيباً ، فالطيب الذي يقبله الله من العبد ، وهو من مكاسبه الكلم الطيب ، وهي كلمة لا إله إلا الله ، كما قال تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر : 10) ، والطيب الذي هو من مواهب الله تعالى هو تجلى صفات جماله وجلاله.
وإليهما أشار بقوله : ورزقكم من الطيبات.
والحاصل : أن الطيب أنواع طيب الأرزاق ، وطيب الأذكار وطيب الحالات.
{ذَالِكُمُ} الذي نعت بما ذكر من النعوت الجليلة.
{اللَّهِ} خبر لذلكم ، {رَبُّكُمْ} الذي يستوجب منكم العبادة خبر آخر.
{فَتَبَارَكَ اللَّهُ} صفة خاصة بالله تعالى ؛ أي : تقدس وتنزه وتعالى بذاته عن أن يكون له شريك في العبادة إذ لا شريك له في شيء من تلك النعم.
{رَبُّ الْعَـالَمِينَ} : (برور دكار عالميان از انس وجن وجزآن) ؛ أي : مالكهم ومربيهم والكل تحت ملكونه مفتقر إليه في ذاته ، ووجوده وسائر أحواله جميعاً ، بحيث لو انقطع فيضه عنه آناً لانعدم بالكلية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{هُوَ الْحَىُّ} : (اوست زنده).
أي : المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية لا يموت ويميت الخلق.
{لا إله إِلا هُوَ} إذ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله.
{فَـادْعُوهُ} : فاعبدوه خاصة لاختصاص ما يوجبه به تعالى : {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ؛ أي : الطاعة من الشرك الجلي والخفي ، قائلين : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} .
عن ابن عباس رضي الله عنهما : "من قال : لا إله إلا الله ، فليقل على أثرها : الحمدرب العالمين".
وفي "التأويلات النجمية" : هو الحي ؛ أي : له الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية ، ومن هو حي بإحيائه من نور صفاته ، كما قال تعالى : {فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَه نُورًا} (الأنعام : 122) ، ويشير بقوله : لا إله إلا هو بعد قوله : هو الحي إلى أن الذي يحيا بحياته ونور صفاته لن يبلغ رتبة الإلهية ، فادعوه بالإلهية مخلصين له الدين ؛ أي : مقرين له بالعبودية من غير دعوى بالربوبية كمن ادعى بها بقوله : أنا الحق ، وقول من قال : سبحاني ما أعظم شاني ، الحمد الله رب العالمين ، يعني : فيما أنزلكم وبلغكم مقام الوحدة بفضله ورحمته ؛ لأنها مقام لا يسع للإنسان بلوغه بمجرد سعيه من دون فضل ربه.
قال الصائب :
نيستم از كشش جذبة رحمت نوميد
كر جه از قلزم وحدت بكنار افتادم
واعلم أنه كما لا يصل العبد إلى مقام الوحدة إلا بفضل الله ، كذلك لا ينجو من دعوى هذا المقام إلا بفضله تعالى ، إما بتربية من عنده بلا سبب صوري ، وإما بإرشاد مرشد كامل قد وصل إلى غاية الغايات ، فإذا لم يساعده شيء من ذلك ، بقي سكران ، ووقع فيما وقع كما ثقل عن بعض أهل الوله من السلف.
(8/156)
{هُوَ الْحَىُّ لا إله إِلا هُوَ فَـادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَآءَنِىَ الْبَيِّنَـاتُ مِن رَّبِّى وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ * هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا} .
{قُلْ} : روي : أن كفار قريش قالوا : يا محمد ألا تنظر إلى ملة أبيك عبد الله وملة جدك عبد المطلب ، فتأخذ بهما ، فأنزل الله تعالى : يا محمد {إِنِّى نُهِيتُ} : النهي الزجر عن الشيء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} ؛ أي : الأصنام.
{لَمَّا جَآءَنِىَ الْبَيِّنَـاتُ مِن رَّبِّى} ؛ أي : وقت مجيء الآيات القرآنية من ربي ، وذلك لأنه لا نهي ولا وجوب عند أهل السنة إلا بعد ورود الشرع.
ويجوز أن يقال : كان منهياً عن عبادتها عقلاً بحسب دلالة الشواهد على التوحيد ، فأكد النهي بالشرع ، ويجوز أنه نهي له عليه السلام والمراد غيره.
وفي قوله : من ربي إشارة إلى أن دلائل التوحيد وشواهد أنوار الحقيقة لا تطلع إلا مع مطلع الهداية الأزلية ، ولكن ينبغي للملتمسين أن يتوجهوا إلى ذلك الجانب بالإعراض عن السوي وترك أصنام البدع والهوى :
206
در كعبة ولست شب وروز روى دل
جون آفتاب سجده بهر در نميكنم
{وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} : بأن أنقاد له وأخلص له ديني.
قال ابن الشيخ : يقال : أسلم أمره ؛ أي : أسلم وذلك إنما يكون بالرضا والانقياد لحكمه وأسلمت له الشيء إذا جعلته سالماً خالصاً له ، وعلى التقديرين يكون مفعول أسلم محذوفاً ؛ أي : أن أسلم أمري وأخلص توحيدي وطاعتي له.
قال في "برهان القرآن" : مدح سبحانه نفسه وختم ثلاث آيات على التوالي بقوله : رب العالمين ، وليس له في القرآن نظير.
وفي الإشارة إلى أنه عليه السلام مع كمال نبوته ورسالته وقربه بربه وعظم قدره عنده وريه من أصفى الشراب الطهور الذي هو تجلي ذاته وصفاته ، لو لم يسلم لرب العالمين بالعبودية وترك الربوبية له ، لم يكن مسلماً ، فعلى العاشق أن يضبط نفسه القدسية عن إثبات الإلهية لغيره تعالى في مقام الوحدة عند غلبات السكر من لذاذة شراب التجلي ، فإن الرب رب ، والعبد عبد والأدب مع الله مقبول.
(بزركى كفت اى اهل معنى بنكر يدكه با منصور حلاج جه كردند تابا مدعيان جه خواهند كردن بزركى كفت جون منصور أنا الحق كفت واورا در بغداد بردار مى كردند آن شب تا روز بزير آن دار بودم نماز ميكر دم جون روز شد هاتفي آواز دادكه).
أطلعناه على سر من أسرارنا ، فأفشى سرنا ، فهذا جزاء من يفشي سر الملوك.
قال بعض العارفين الملوك لا يعفون عمن تعرض لمملكتهم أو لحرمهم ، أو أفشى سرهم.
قال الجامي :
رسيد جان بلب ودم نميتوانم زد
كه سر عشق همى ترسم آشكار شود
قيل للشيخ أبي سعيد قدس سره : أن فلاناً يمشي على الماء.
قال : إن السمك والضفدع كذلك ، فقيل : إن فلاناً يطير في الهواء ، فقال : إن الطيور كذلك ، فقيل : فلاناً يصل إلى الشرق والغرب في آن واحد ، فقال : إن إبليس كذلك ، فقيل : فما الكمال عندك.
قال : أن تكون في الظاهر مع الخلق وفي الباطن مع الحق.
وهذا مقام الاستقامة ، فإن أهله راسخ في التمكين ، بل وفي تلوين التمكين ، فلا يصدر عنه إفشاء الأسرار ودعوى ما يقع به الفتنة بين الناس ، فطوبى لمن وقف عند الأدب وعامل جميعاً ، مع الرب.
قال : حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندي قدس سره ، في حق السيد نسيمي قد فهم فهماً حسناً ، ولكنه أظهر بعض شيء كان للستر.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقد جعله الشيخ بالي الصوفي من زمرة الزنادقة والملاحدة ، فلا بدّ من رعاية الشرع المطهر في كل مقام.
{هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم} يا بني آدم.
{مِّن تُرَابٍ} ؛ أي : من ضمن خلق أبيكم آدم.
{ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} ؛ أي : ثم خلقكم خلقاً تفصيلياً من مني.
قال الراغب : النطفة الماء الصافي ، ويعبر بها عن ماء الرجل ؛ أي : ماء الصلب يوضع في الرحم كما قال ابن سينا : ()
لا تكثرن من الجماع فإنه
ماء الحياة يصب في الأرحام
والمعنى : خلق أصلكم آدم من تراب ، ثم خلقكم من نطفة نسلاً بعد نسل ، أو خلق كل واحد منكم من التراب ، بمعنى أن كل إنسان مخلوق من المني ، وهو من الدم ، وهو من الأغذية الحيوانية والنباتية والحيوانية لا بد أن تنتهي إلى النباتية ، وإلا لزم أن يتسلسل الحيوانات إلى غير النهاية ، والنبات إنما يتولد من الماء والتراب ، أو خلق قالبكم في بدء أمركم من الذرة الترابية التي استخرجها من صلب آدم ، ثم أودعها في قطرة نطفة بنيه.
{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} ، وهي الدم الجامد ؛ لأن المني
207
(8/157)
يصير على هذا الشكل بعد أربعين يوماً في بطن الأم.
{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا} : الطفل الولد ما دام ناعماً كما في "المفردات" والصغير من كل شيء أو المولود ما في "القاموس" : وحد الطفل من أول ما يولد إلى أن يستهل صارخاً إلى انقضاء ستة أعوام كما في تفسير الفاتحة للفناري ، والطفل مفرد لا جمع ، كما وهم.
وقوله : {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} () الآية محمول على الجنس ، وكذا هو في هذا المقام جنس وضع موضع الجمع ؛ أي : الأطفال ، أو المعنى ، ثم يخرج كل واحد منكم من رحم الأم حال كونه طفلاً لتكبروا شيئاً فشيئاً.
{ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} ، كمالكم في القوة والعقل.
وبالفارسية : (بغايت قوت خود كه منتهاى شبابست).
قال في "القاموس" : الأشد واحد جاء على بناء الجمع ، بمعنى القوة ، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين.
وفي "كشف الأسرار" : يقال : إذا بلغ الإنسان إحدى وعشرين سنة دخل في الأشد ، وذلك حين اشتد عظامه وقويت أعضاؤه.
{ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} ؛ أي : تصيروا إلى حالة الشيخوخة ، والشيح يقال لمن طعن في السن واستبانت فيه ، أو من خمسين ، أو إحدى وخمسين إلى آخر عمره ، وإلى ثمانين ، كما في "القاموس".
قال في "كشف الأسرار" : يقال : إذا ظهر البياض الإنسان فقد شاب ، وإذا دخل في الهرم ، فقد شاخ.
قال الشاعر : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
فمن عاش شب ومن شب شاب
ومن شاب شاخ ومن شاخ مات
روي : أن أبا بكر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، قد شبت فقال : "شيبتني هود وأخواتها" ، يعني : سورة هود ، وكان الشيب برسول الله صلى الله عليه وسلّم قليلاً ، يقال : كان شاب منه إحدى وعشرون شعرة بيضاء ، ويقال : سبع عشرة شعرة.
وقال أنس رضي الله عنه : لم يكن في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء وقال بعض الصحابة : ما شاب رسول الله وسئل آخر منهم فأشار إلى عنفقته يعني كان مكان البياض في عنفقته ؛ أي : في شعيرات بين الشفة السفلى والذقن ، وإنما اختلفوا لقلتها.
يقال : كان إذا ادهن خفي شيبه.
{وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى} : يقبض روحه ويموت.
{مِن قَبْلُ} ؛ أي : من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد ، أو قبله أيضاً.
{وَلِتَبْلُغُوا} : متعلق بفعل مقدر بعده ؛ أي : ولتبلغوا.
{أَجَلا مُّسَمًّى} وقتاً محدوداً معيناً لا تتجاوزونه هو وقت الموت ، أو يوم القيامة يفعل ذلك ؛ أي : ما ذكر من خلقكم من تراب ، وما بعده من الأطوار المختلفة ، ولكون المعنى على هذا لم يعطف على ما قبله من لتبلغوا ولتكونوا ، وإنما قلنا ، أو يوم القيامة ؛ لأن الآية تحتوي على جميع مراتب الإنسان من مبدأ فطرته إلى منتهى أمره فجاز أن يراد أيضاً : يوم الجزاء ؛ لأنه المقصد الأقصى ، وإليه كمية الأحوال.
{وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ولكي تعقلوا ما في ذلك الانتقال من طور إلى طور من فنون الحكم والعبر وتستدلوا به على وجود خالق القوى والقدر.
{هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُا وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * هُوَ الَّذِى يُحْى وَيُمِيتُا فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَـابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِه رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
{هُوَ الَّذِى يُحْىِ} الأموات كما في الأرحام وعند البعث.
{وَيُمِيتُ} : الأحياء كما عند انقضاء الأجل.
وفي القبر بعد السؤال ، وأيضاً : يحيي القلوب الميتة بنور ربوبيته ولطفه ، ويميت القلوب بنار قهره ، فإذا حيي القلب مات النفس ، وإذا مات القلب حيي النفس.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال الحسين النوري قدس سره : هو الذي أحيا العالم بنظره ، فمن لم يكن به وبنظره حياً ، فهو ميت ، وإن نطق تحرك (ع) : (خوشادلى كه زنور خدابود روشن).
{فَإِذَا قَضَى أَمْرًا} : القضاء بمعنى التقدير عبر به عن لازمه الذي هو إرادة التكوين ؛ كأنه قيل : إذا قدر شيئاً من الأشياء ، وأراد كونه.
{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} من غير توقف على شيء من
208
الأشياء أصلاً : يعني : (تكوين اورا احتياج بآلتى وعدتى وفرصتى نيست) :
فعل اوراكه عيب وعلت نيست
متوقف بهيج آلت نيست
ازخم زلف كاف وطره نون
هزرمان شكلى آورد بيرون
وهذا تمثيل لتأثير قدرته تعالى في المقدورات عند تعلق إرادته بها ، وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه من غير أن يكون هناك أمر أو مأمور حقيقة.
(8/158)
وذهب بعضهم : إلى أنه حقيقة ، وأن الله تعالى مكون الأشياء بهذه الكلمة ، فيقول بكلامه الأزلي لا بالكلام الحادث الذي هو المركب من الأصوات والحروف كن ؛ أي : احدث فيكون ؛ أي : فيحدث ، ولما لم يتعلق خطاب التكوين بالفهم ، واشتمل على أعظم الفوائد ، وهو الوجود جاز تعلقه بالمعدوم.
وفي "كشف الأسرار" : فيكون مرة واحدة لا يثنى قوله.
وفي "التكملة" قوله : كن لا يخلو إما أن يكون قبل وجود المأمور ، أو بعد وجوده ، فإن قيل : قبل وجوده أدى ذلك إلى مخاطبة المعدوم ، ولا يصح في العقل ، وإن قيل : بعد وجوده أدى ذلك إلى إبطال معنى : كن ؛ لأن المأمور إذا كان موجوداً قبل الأمر ، فلا معنى للأمر بالكون.
والجواب : أن الأمر مقارن للمأمور لا يتقدم ولا يتأخر عنه ، فمع قوله : كن ، يوجد المأمور ، وهذه كمسألة الحركة والسكون في الجوهر ، فإنه إذا قدرنا جوهراً ساكناً بمحل ، ثم انتقل إلى محل آخر ، فإنما انتقل بحركة ، فلا تخلو الحركة من أن تطرأ عليه في المحل الأول ، أو في الثاني ، فإن قيل في الأول ، فقد اجتمعت مع السكون ، وإن قيل في الثاني ، فقد انتقل بغير حركة ، وإن قيل : لم تطرأ في هذا ، ولا في هذا فقد طرأت عليه في غير محل ، وكل هذا محال.
والجواب : أن الحركة هي معنى خصصه بالمحل الثاني ، فنفس إخلائه للمحل الأول ، هي نفس شغله للمحل الثاني.
واعلم أن الله تعالى أنزل الحروف الثمانية والعشرين ، وجعل حقائقها الثمانية والعشرين منزلاً لا على ما فصل عند قوله تعالى : {رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ} ، وجعل مفاصل اليدين أيضاً ثمانية وعشرين.
أربعة عشر في يد واحدة وأخرى في أخرى على أن يكون لكل أصبع ثلاثة مفاصل إلا الإبهام وجعل كل أصبع مظهر الأصل من الأصول الخمسة ، فالإبهام مظهر القدرة والمسبحة مظهر الحياة والوسطى مظهر العلم ، والبنصر مظهر الإرادة ، والخنصر مظهر القول ، ولما كان العلم أعم حيطة جعل متوسطاً بين الأصلين اللذين في يمينه ، وهي الحياة والقدرة ، وبين الأصلين اللذين في يساره ، وهي الإرادة والقول ، وإنما سقط عن أصل القدرة المفصل الثالث ؛ لأن كل واحد من الأربعة عام التعلق بخلاف القدرة ؛ فإنها محجورة الحكم غير مطلقة ؛ لأنه لا يتعلق حكمها إلا بالممكن ، فلم يعم نفوذه ، ولعدم عموم حكم القدرة جعل مظهرها الذي هو الإبهام ذا مفصلين ، ولكون أمر القدرة مبهماً وكيفية تعلقها بالمقدور شيئاً غامضاً سمي المظهر بالإبهام ، فلا يجوز البحث عن كيفية تعلق القدرة بالمقدور ، كما لا يجوز البحث عن كيفية وجود الباري ، وعن كيفية العذاب بعد الموت ، ونحو ذلك ، مما هو من الغوامض.
قال المولى الجامي في الإرادة والقدرة :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
فعلهايى كه از همه اشيا
نوبنو درجهان شود بيدا
كرارادى بود جو فعل بشر
ور طبيعي بود جوميل بشر
منبعث جمله از مشيت اوست
مبتنى بر كمال حكمت اوست
209
نخلد بى ارادتش خارى
نكساد بى مشيتش تارى
في المثل كرجهانيان خواهند
كه سرمويى از جهان كاهند
كر نباشد جنان ارادت او
نتوان كاستن سريك مو
ور همه در مقام آن آيند
كر برآن دره بيفزايند
ندهد بى ارادت او سود
نتوانند ذره افزود
بعد ازان قدرتش بود كامل
مر مرادات را همه شامل
اثر آن بهر عدم كه رسيد
رخت باخطة وجود كشيد
وحقيقة الإحياء والإماتة ترجع إلى الإيجاد ، ولكن الوجود إذا كان هو الحياة سمي فعله إحياء ، وإذا كان هو الموت سمي فعله إماتة ، ولا خالق للموت والحياة إلا الله ، ولا مميت ولا محيي إلا الله تعالى ، فهو خالق الحياة ومعطيها لكل من شاء حياته على وجه يريده ومديمها ، لمن أراد دوامها له كما شاء بسبب ، وبلا سبب ، وكذا خالق الموت ومسلطة على من شاء من الأحياء متى شاء ، وكيف شاء بسبب ، وبلا سبب ، ومن عرف أنه المحيي المميت لم يهتم بحياة ، ولا موت ، بل يكون مفوضاً مستسلماً في جميع أحواله لمن بيده الحياة والموت ، كما قال إبراهيم عليه السلام : {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشعراء : 78) الآية.
وخاصية المحيي وجود الألفة ، فمن خاف الفراق ، أو الحبس ، فليقرأه على جسده عدده.
وخاصية الاسم المميت أن يكثر منه المسرف الذي لم تطاوعه نفسه على الطاعة ، فإنها تفعلها عن أوصافها المانعة عن القيام بأمر الله تعالى ، ثم إن الماء مظهر الاسم المحيي ، والتراب مظهر الاسم المميت ، وهكذا الموجودات مع أسماء الله تعالى.
{أَلَمْ تَرَ} : (آيانمى نكرى).
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى} في دفعها وإبطالها.
{أَنَّى يُصْرَفُونَ} ؛ أي : انظر يا محمد إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها ، وتعجب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الركيكة كيف يصرفون عن تلك الآيات القرآنية ، والتصديق بها إلى تكذيبها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها بالإيمان ، وانتفاء الصوارف عنها بالكلية.
(8/159)
وتكرير ذم المجادلة في أربعة مواضع في هذه السورة ، إما لتعدد المجادل بأن يكون في أقوام مختلفة ، أو المجادل بأن يكون في آيات مختلفة ، أو للتأكيد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَـابِ} ؛ أي : بكل القرآن.
والجملة في محل الجر على أنها بدل من الموصول.
قال في "الإرشاد" : إنما وصل الموصول الثاني ، بالتكذيب دون المجادلة ؛ لأن المعتاد وقوع المجادلة في بعض المواد لا في الكل وصيغة الماضي للدلالة على التحقق كما أن صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على تجدد المجادلة وتكررها.
{وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِه رُسُلَنَا} من سائر الكتب.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} كنه ما فعلوا من الجدال والتكذيب عند مشاهدتهم لعقوباته ، وهي جملة مستأنفة مسوقة للتهديد.
{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَـابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِه رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الاغْلَـالُ فِى أَعْنَـاقِهِمْ وَالسَّلَـاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّه قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن} .
{إِذِ الاغْلَـالُ فِى أَعْنَـاقِهِمْ} : ظرف ليعلمون ، وهو اسم للزمن الماضي ويعلمون مستقبل لفظاً ، ومعنى : وأما المكان ، فظاهر مثل قولك : سوف أصوم أمس ، وذا لا يجوز.
وجوابه : إن وقت العلم مستقبل تحقيقاً وماضضٍ تنزيلاً وتأويلاً ؛ لأن ما سيعلمونه يوم القيامة ؛ فكأنهم علموه في الزمن الماضي لتحقق وقوعه ، فسوف بالنظر إلى الاستقبال التحقيقي وإذ بالنظر إلى المضي التأويلي.
والأغلال : جمع غلّ
210
بالضم ، وهو ما يقيد به ، فيجعل الأعضاء وسطه.
وغل فلان : قيد به ؛ أي : وضع في عنقه ، أو يده الغل والأعناق جمع عنق وبالفارسية : (كردن).
والمعنى : على ما في "كشف الأسرار" : (آنكاه كه غلها كه دردستهاى ايشان كرد كدرنهاى ايشان كنند).
يعني : تغل أيديهم إلى أعناقهم مضمومة إليها.
{وَالسَّلَـاسِلُ} : عطف على الأغلال والجار في نية التأخير ، وهو جمع سلسلة بالكسر.
بالفارسية : (زنجير).
وذلك لأن السلسلة بالفتح : إيصال الشيء بالشيء ، ولما كان في السلسلة بالكسر : إيصال بعض الخلق بالبعض سميت بها.
{يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ} : السحب : الجر بعنف ، ومنه السحاب ؛ لأن الريح تجره وسحبه كمنعه ، جره على وجه الأرض ، فانسحب.
والحميم : الماء الذي تناهى حره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال في "القاموس" : الحميم الماء الحار والماء البارد ضد.
والقيظ : والعرق ؛ أي : على التشبيه كما في "المفردات".
والجملة حال من فاعل يعلمون ، أو من ضمير أعناقهم ؛ أي : حال كونهم مسحوبين ؛ أي : مجرورين تجرهم على وجوههم خزنة جهنم بالسلاسل إلى الحميم ؛ أي : الماء المسخن بنار جهنم ، ولا يكون إلا شديد الحرارة جداً ؛ لأن ما سخن بنار الدنيا التي هي جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم إذا كان لا يطاق ، فكيف ما يسخن بنار جهنم.
وفي كلمة في إشعار بإحاطة حرارة الماء الجميع جوانبهم كالظرف للمظروف ، حتى كأنهم في عين الحميم ويسحبون فيها.
وقال مقاتل : يسحبون في الحميم ؛ أي : في حر النار كما في قوله تعالى : {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} (القمر : 48).
والظاهر أن معنى يسحبون في النار ؛ أي : يجرون إلى النار على وجوههم كما في هذا المقام.
حكي : أنه توفيت النوار امرأة الفرزدق ، فخرج في جنازتها وجوه أهل البصرة ، وخرج فيها الحسن البصري.
فقال الحسن للفرزدق : يا أبا فراس ما أعددت لهذا اليوم قال : شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة ، فلما دفنت قام الفرزدق على قبرها ، وأنشد هذه الأبيات : ()
أخاف وراء القبر إن لم يعافني
أشد من القبرالتهاباً وأضيقا
إذ جاءني يوم القيامة قائد
عنيف وسواق يسوق فرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى
إلى النار مغلول القلادة أزرقا
فبكى وأبكى الحاضرين.
{ثُمَّ} ؛ أي : بعد الجر بالسلاسل إلى الحميم.
{فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ} : يحرقون بالنار ، وهي محيطة بهم من سجر التنور إذا ملأه بالوقود ، ومن كانوا في النار ، وكانت هي محيطة بهم وصارت أجوافهم مملوءة بها لزم أن يحرقوا بها على أبلغ الوجوه ، فهم يملؤون بالنار كائنين فيها ويحرقون.
والمراد : بيان أنهم يعذبون بأنواع العذاب ، وينقلون من لون إلى لون.
قال في "كشف الأسرار" : (عذاب دوزخيان انوا عست يكى ازآن سلاسل است دردست زبانيه زنجيرهاى آتشين كه دوز خيانرا بدان ببندند هر زنجيرى هفتاد كز هر كزى هفتاد حلقه اكريك حلقه آن بركوههاى دنيا نهند جون از زير بكذارد آن زنجيرها بدن كافران فرو كنند وبزيرش بيرون كشد زنجير ايشانرا در حميم كشند حميم آب كرمست جوشان اكريك قدح ازآن بدرياهاى دنيا فرو ريزند همه زهر شود قدحى ازآن بدست كافران دهند هرجه برورى ويست ازبوست وكوست وجشم وبينى همه اندران قدح افتد اينست
211
(8/160)
كه رب العزة كفت).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{يَشْوِى الْوُجُوهَ} (الكهف : 29) : (جون حميم بشكم رسد هرجه اندرشكم بود بزير بيرون شود).
فذلك قوله : {وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} (محمد : 15).
(وازآن حميم برسر ايشان مير يزند تابوست وكوشت وبى ورك ازايشان فرو ريزند استخوان بماند سوخته ندا آيدكه).
يا مالك جدد لهم العذاب فإني مجدد لهم الأبدان.
(كفته اند كه عاصيان مؤمنا نرا ده جيز نباشد روى ايشان سياه نبود جشم ايشان ازرق نبود در كردن غل نبود دردست ايشان زنجير نبود نوميدى نبود جاويد فرقت وقطعت ولغت نبود جون حرارت وزبانة آتش بايشان رسد ندا آيدكه).
يا نار كفي عن وجوه من سجد لي فلا سبيل لك على مساجدهم.
اللهم أجرنا من نارك إنا عائدون بجوارك.
{ثُمَّ} ؛ أي : بعد الإحراق.
{قِيلَ لَهُمْ} ؛ أي : يقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع ، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق.
{أَيْنَ} : (كجا ند).
{مَآ} : (آنا نكه).
يعني : أصنام.
{كُنتُمْ} في الدنيا على الاستمرار.
{تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ} : (انباز آورديد وكرفتيد بجز الله معبود بحق) ؛ أي : رجاء شفاعتهم ادعوهم ليشفعوا لكم ويعينوكم ، وهو نوع آخر من تعذيبهم.
{قَالُوا} ؛ أي : يقولون : {ضَلُّوا} غابوا ؛ أي : الشركاء {عَنَّا} عن أعيننا ، وإن كانوا قائمين ؛ أي : غير هالكين من قول العرب ضل المسجد والدار ؛ أي : لم يعرف موضعهما ، وكذلك كل شيء قائم ، أو غيرها لك لكنك لا تهتدي إليه ، وذلك قبل أن يقرن بهم آلهتهم ، فإن النار فيها أمكنة متعددة ، وطبقات مختلفة ، فلا مخالفة بينه وبين قوله تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (الأنبياء : 8 ـ ـ 9) ، أو ضاعوا عنا ، فلم نجد ما كنا نتوقع منهم على أن يكون ضل بمعنى : ضاع وهلك تنزيلاً لوجودهم منزلة الضياع والهلاك لفقدهم النفع الذي يتوقعونه منهم ، وإن كانوا مع المشركين في جميع الأوقات.
{بَل} تبين لنا أنا {لَّمْ نَكُن نَّدْعُوا} نعبد {مِن قَبْلُ} ؛ أي : في الدنيا بعبادتهم {شَيْئًا} ، لما ظهر لنا اليوم أنهم لم يكونوا شيئاً يعتد به كقولك : حسبته شيئاً ، فلم يكن.
وبالفارسية : (يعنى برماروشن شد كه جيزى را نمى برستيده ايم بلكه ايشانرا كه عبادت مى كرديم هيج جيزى نبوده اند معتبر وما ايشانرا جيزى نمى نبداشتيم).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{كَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الضلال الفظيع ، وهو ضلال آلهتهم عنهم على التفسيرين المذكورين لقوله : ضلوا.
{يُضِلُّ اللَّهُ الْكَـافِرِينَ} ، حيث لا يهتدون في الدنيا إلى شيء من العقائد والأعمال ينفعهم في الآخرة ، فهو ناظر إلى التفسير الثاني ، أو كما ضل عنهم آلهتهم يضلهم عن آلهتهم حتى لو تطالبوا لم يصادفوا ؛ أي : لم يجد أحدهم الآخر ، فهو ناظر إلى التفسير الأول ، وإضلال الحق عبده هو عدم عصمته إياه مما نهاه عنه ، وعدم معونته وإمداده بما يتمكن به من الإتيان بما أمره به ، أو الانتهاء عما نهاه عنه ، كما في تفسير الفاتحة للشيخ صدر الدين القنوي قدس سره.
وفي نسخة الطيبي : {كَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الإضلال ، وهو الأوفق لما عرف من العادة القرآنية ، وهو أن تكون الإشارة إلى مصدر الفعل المتأخر.
قال سعدي المفتي ، قلت : بل الآية ؛ أي : بل لم نكن إلخ.
كقوله : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام : 23) يفرغون إلى الكذب لحيرتهم واضطرابهم ومعنى قوله : {كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَـافِرِينَ} أنه تعالى يحيزهم في أمرهم حتى يفزعون إلى الكذب مع علمهم ؛ بأنه لا ينفعهم.
{مِن دُونِ اللَّه قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُوا مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَـافِرِينَ * ذَالِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّا فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} .
{ذَالِكُمُ} الإضلال أيها الكفار ، والالتفات للمبالغة في التوبيخ.
وفي "تفسير الجلالين" ؛ أي :
212
العذاب الذي نزل بكم ، وهو العذاب المذكور بقوله : {إِذِ الاغْلَـالُ} .
إلخ.
قال ابن الشيخ : ولا يخلو عن بعد {بِمَا} الباء : للسببية.
{كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الأرْضِ} في الدنيا.
{بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، وهو الشرك والطغيان.
والباء : صلة الفرح.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال في "القاموس" : الفرح والسرور والبطر.
انتهى.
والبطر : النشاط والأشر وقلة احتمال النعمة والأشر شدة البطر ، وهو بلغ من البطر.
والبطر أبلغ من الفرح.
(8/161)
وفي "المفردات" : الفرح : انشراح الصدر بلذة عاجلة ، ولم يرخص إلا في الفرح بفضل الله وبرحمته ، وبنصر الله والبطر دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة ، وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها.
{وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} : المرح شدة الفرح والنشاط والتوسع فيه ؛ أي : تتوسعون في البطر والأشر.
وبالفارسية : (مى نازيديد از خود وبتكبر مى خراميديد).
قال أرسطو من افتخر ارتطم يعني : (دركل افاد).
قال الصائب :
بسم وبلند بيش سموم فنا يكيست
جون تاك بردرخت دويدن جه فائدة
{ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} ؛ أي : أبوابها السبعة المقسومة لكم : يعني : (هرطائفة بدركه درآييد).
{خَـالِدِينَ فِيهَا} مقدار خلودكم في الآخرة.
{فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} ؛ أي : عن الحق جهنم.
بالفارسية : (بس بد آرامكاهيست كردن كشانرا دوزخ).
وكان مقتضى النظم ، فبئس مدخل المتكبرين ليناسب عجز الكلام صدره كما يقال : زر بيت الله ، فنعم المزار ، فصل في المسجد الحرام ، فنعم المصلى ، لكن لما كان الدخول المقصود بالخلود سبب الثواء ؛ أي : الإقامة عبر بالمثوى الذي هو محل الإقامة فاتحد آخر الكلام بأوله.
وفي الآية إشارة إلى أن كل شهوة من شهوات الدنيا وزينة من زينها باب من أبواب جهنم ، النفس في الدنيا وباب من أبواب جهنم النار في العقبى وجب ترك الشهوات والزين ، والافتخار بالدنيا وبزخارفها حتى تغلق أبواب جهنم مطلقاً ، وهكذا يضل الله من ليس له استعداد للهداية حيث يريهم شيئاً مجازياً في صورة وجود حقيقي وزينته ، فيضلون به عن الصراط المستقيم ، ولا يدرون أن الدنيا سراب وخيال ومنام :
غافل مشو زبرده روزكار
سير خزان در آينية نو بهار كن
وفي الآية ذم الكبر ، فلا بد من علاجه بضده ، وهو التواضع.
وعن بعض الحكماء افتخر الكلأ في المفازة على الشجر ، فقال : أنا خير منه يرعاني البهائم التي لا تعصي الله طرفة عين ، فقال : أنا خير منك يخرج مني الثمار ويأكلها المؤمنون ، وتواضع القصب ، قال : لا خير فيّ لا أصلح للمؤمنين ولا للبهائم ، فلما تواضع رفعه الله وخلق فيه السكر الذي هو أحلى شيء ، فلما نظر إلى ما وضع الله فيه من الحلاوة تكبر ، فأخرج الله منه رأس القصب حتى اتخذ منه الآدميون المكنسات ، فكنسوا بها القاذورات ، فهذا حال كبر غير المكلف ، فكيف حال المكلف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
واعلم أن فرعون علا في الأرض حتى ادعى الربوبية ، فأخذه الله نكال الآخرة ، والأولى ؛ أي : بالغرق في الدنيا والإحراق في الآخرة ، وعلا قارون بكثرة ماله ، فخسف الله به وبداره وعلا إبليس حين امتنع عن السجدة فلعنه الله لعنة أبدية ، وعلا قريش على المؤمنين حتى قتلوا وألقى جيفهم في بئر ذليلين ، وهكذا حال كل متكبر بغير الحق إلى يوم القيامة ، فإنه ما نجا أحد من المتكبرين ولا ينجو.
وفي المثنوي :
213
آنجه در فرعون بود اندرو توهست
ليك ازدرهات محبوس جهست
نفس ازدر هاست اوكى مرده است
از غم بى آلتى افسر ده است
كر بيابد آلت فرعون او
كه بامر او همى رفت آب جو
آنكه او بنياد فرعوني كند
راه صد موسى وصد هارون زند
كرمكست آن ازدها ازدست فقر
بشة كردد ز جاه ومال صقر
هر خسى را اين تمناكى رسد
موسى بايدكه ازدرها كشد
صد هزاران خلق ز ازدرهاى او
در هزيمت كشته شد از راى او
يعني : أن النفس كثعبان عظيم وقتلها عن أوصافها ليس بسهل ، بل يحتاج إلى همة عالية ، وإلى جهاد كثير بلا فتور.
{فَاصْبِرْ} يا محمد على أذية قومك لك بسبب تلك المجادلات وغيرها إلى أن يلاقوا ما أعد لهم من العذاب.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ؛ أي : وعده بتعذيبهم حق كائن لا محالة.
{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} ؛ أي : فإن نرك.
وبالفارسية : (بس اكر بنماييم بتو).
وما مزيدة لتأكيد الشرطية ، ولذا ألحقت النون الفعل ولا تلحقه مع أن وحدها فلا تقول : إن تكرمني أكرمك بنون التأكيد ، بل أما تكرمني أكرمك.
{بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ} : وهو القتل والأسر وجوابه محذوف ؛ أي : فذاك.
{أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل أن تراه.
وبالفارسية : (اكر بميرانيم ترابيش از ظهور آن عذاب).
{فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} ، وهو جواب نتوفينك ؛ أي : يردون إلينا يوم القيامة لا إلى غيرنا ، فنجازيهم بأعمالهم.
(بس هيج وجه ايشانرا فرو نخواهيم كذاشت وحق سبحانه وتعالى درين دنيا بعضى ازعذاب كفار بسيد إبرار عليه السلام نمود از قتل واسر وقحط وجزآن وباقى عقوبات ايشان در عقبى خواهد بود) :
دوستان هر دو عالم شاد وخرم مى زيند
دشمنان در مخت وغم اين سر او آن سرا
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/162)
أما سرور الأولياء في الآخرة ، فظاهر ، وأما سرورهم في الدنيا ، فإن الحق بأيديهم ، وهم راضون عن الله على كل حال في الفقر والغنى والصحة والمرض ، فلا يكدّرهم شيء من الأكدار لشهودهم المبلى في البلاء وتهيئهم لنعيم الآخرة ، وأما غم الأعداء في الدنيا ، فمما لا حاجة إلى بيانه إذ من كان مع النفس في الدنيا كيف يستريح ، ومن كان مع سخط الله في الآخرة كيف يضحك.
وفي الآية إشارة إلى كيفية القدوم على الله ، فإن كان العبد عاصياً ، فيقدم على مولاه ، وهو عليه غضبان ، وإن كان مطيعاً ، فيقدم عليه قدوم الحبيب المشتاق على الحبيب :
بهار عمر ملاقات دوستان باشد
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّا فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَا وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِـاَايَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّه فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِىَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ * اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الانْعَـامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} .
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} .
روي : أن الذين كانوا يجادلون في آيات الله اقترحوا معجزات زائدة على ما أظهره الله على يده عليه السلام من تفجير العيون وإظهار البساتين وصعود السماوات ونحوها مع كون ما أظهره من المعجزات كافية في الدلالة على صدقه ، فأنزل الله تعالى قوله : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا} ذوي عدد كثير إلى قومهم.
{مِّن قَبْلِكَ} ؛ أي : من قبل بعثتك يا محمد ، أو من قبل زمانك.
{مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ} .
قوله : منهم خبر مقدم لقوله : من قصصنا عليك.
والجملة صفة لرسلاً ، وقص عليه بين ؛ أي : بيناهم وسميناهم لك في القرآن ، فأنت تعرفهم.
{وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} :
214
لم نسمعهم ولم نخبرك بهم.
قال الكاشفي : (بعضى از ايشان آنها اندكه خوانده اسم قصهاى ايشان برتوكه آن بيست ونه بيغمبراند).
وفي "عين المعاني" : هم ثمانية عشر : (وبعضى آنا نندكه قصة ايشان نخوانده ايم برتو اما نام ايشان دانسته وغير او وبعضى آنست كه نه نام ايشان دانسته ونه قصة ايشان شنيده ودرايمان بديشان تعيين عدد ومعرفت ايشان بانساب واسامى شرط نيست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وعن عليّ رضي الله عنه : "إن الله بعث نبياً أسود".
وفي "التكملة" : عبداً حبشياً ، وهو ممن لم يقصص الله عليه.
يقول الفقير : "لعل معناه أن الله بعث نبياً أسود إلى السودان" ، فلا يخالف ما ورد "من أن الله تعالى ما بعث نبياً إلا حسن الاسم حسن الصورة حسن الصوت" ، وذلك لأن في كل جنس حسناً بالنسبة إلى جنسه.
والحاصل : أن المذكور قصصهم من الأنبياء أفراد معدودة ، وقد قيل : عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً.
قال في "شرح المقاصد" : روي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال : قلت لرسول الله عليه السلام : كم عدد الأنبياء؟.
فقال : "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً".
فقلت : فكم الرسل ، فقال : "ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً".
لكن ذكر بعض العلماء أن الأولى أن لا يقتصر على عددهم ؛ لأن خبر الواحد على تقدير اشتماله على جميع الشرائط لا يفيد إلا الظن ، ولا يعتبر إلا في العمليات دون الاعتقاديات وها هنا حصر عددهم يخالف ظاهر.
قوله تعالى : {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا} إلخ.
ويحتمل أيضاً مخالفة الواقع وإثبات من ليس بنبي إن كان عددهم في الواقع أقل مما يذكر ونفي النبوة عمن هو نبي إن كان أكثر ، فالأولى عدم التنصيص على عدد.
وفي رواية : مائتا ألف وأربعة وعشرون ألفاً.
كما في "شرح العقائد" للتفتازاني.
قال ابن أبي شريف في "حاشيته" : لم أر هذه الرواية.
(8/163)
وقال المولى محمد الرومي في "المجالس" : ومما يجب الإيمان به الرسل.
والمراد من الإيمان بهم العلم بكونهم صادقين فيما أخبروا به عن الله ؛ فإنه تعالى بعثهم إلى عباده ليبلغوهم أمره ونهيه ووعده ووعيده ، وأيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم أولهم آدم وآخرهم محمد عليه السلام ، فإذا آمن بالأنبياء السابقة ، فالظاهر أنه يؤمن بأنهم كانوا أنبياء في الزمان الماضي لا في الحال إذ ليست شرائعهم بباقية ، وأما الإيمان بسيدنا محمد عليه السلام ، فيجب بأنه رسولنا في الحال ، وخاتم الأنبياء والرسل فإذا آمن بأنه رسول ولم يؤمن بأنه خاتم الرسل لا نسخ لدينه إلى يوم القيامة لا يكون مؤمناً ، ومن قال : آمنت بجميع الأنبياء ، ولا أعلم آدم نبي أم لا ، فقد كفر ثم إنه لم يبين في القرآن عدد الأنبياء ، كم هم ، وإنما المذكور فيه باسم العلم على ما ذكر بعض المفسرين ثمانية وعشرون وهم : آدم ونوح وإدريس وصالح وهود وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويوسف ولوط ويعقوب وموسى وهارون وشعيب وزكريا ويحيى وعيسى وداود وسليمان وإلياس واليسع وذو الكفل وأيوب ويونس ومحمد وذو القرنين وعزير ولقمان على القول بنبوة هذه الثلاثة الأخيرة.
وفي "الأمالي" : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وذو القرنين لم يعرف نبيا
كذا لقمان فاحذر عن جدال
وذلك لأن ظاهر الأدلة يشير إلى نفي النبوة عن الأنثى وعن ذي القرنين ولقمان ونحوهما ، كتبع فإنه عليه السلام : قال : "لا أدري أهو نبي أم ملك" ، وكالخضر فإنه قيل : نبي ، وقيل : ولي ، وقيل : رسول.
فلا ينبغي أن يقطع بنفي أو إثبات ؛ فإن اعتقاد نبوة من ليس بنبي كفر كاعتقاد نفي نبوة
215
نبي من الأنبياء ، يعني : إذا كان متفقاً على نبوته ، أو عدم نبوته.
وأما إذا كان فيه خلاف ، فلا يكفر ؛ لأنه كالدليل الظني والكفر في القطعي.
وفي "فتح الرحمن" : في سورة البقرة والمذكورون في القرآن باسم العلم ستة وعشرون نبياً ، وهم : آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وذو الكفل وشعيب وموسى وهارون وداود وسليمان وعزير ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس واليسع صلوات الله عليهم أجمعين.
وأشير إلى أشمويل بقوله تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} (البقرة : 247) ، وأشير إلى أرميا بقوله : {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} (البقرة : 259) وأشير إلى يوشع بقوله : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَـاـاهُ} (الكهف : 60).
وأشير إلى أخوة يوسف بقوله : {لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} (يوسف : 7).
والأسباط ذكروا إجمالاً وهم من ذرية أولاد يعقوب الاثني عشر نبياً ، وكان فيهم أنبياء ، وفي لقمان وذي القرنين خلاف كالخضر ، انتهى.
قال بعض الحكماء : يجب على المؤمن أن يعلم صبيانه ونساءه وخدمه أسماء الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه حتى يؤمنوا بهم ، ويصدقوا بجميعهم ، ولا يظنوا أن الواجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام فقط لا غير ، فإن الإيمان بجميع الأنبياء سواء ذكر اسمه في القرآن ، أو لم يذكر واجب على المكلف ، فمن ثبت تعينه باسمه يجب الإيمان به تفصيلاً ، ومن لم يعرف اسمه يجب الإيمان به إجمالاً.
وحكى ابن قتيبة في "المعارف" أن الأنبياء مائة ألف أوأربعة وعشرون ألفاً الرسل منهم ثلاثمائة وخمسة عشر ، منهم خمسة عبرانيون ، وهم : آدم وشيث وإدريس ونوح وإبراهيم.
وخمسة من العرب : هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد عليه السلام.
قال في "التكملة" : هذا الذي ذكر ابن قتيبة لا يصح ؛ لأنه قد روي : أنه كان من العرب نبي آخر ، وهو خالد بن سنان بن غيث ، وهو من عبس بن بغيض.
روي : عن النبي عليه السلام أنه قال فيه : "ذلك نبي أضاعه قومه".
وردت ابنته على رسول الله عليه السلام ، فسمعته يقرأ : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
فقالت : كان أبي يقول هذا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال ابن قتيبة : وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى.
قال في "التكملة" : صاحبها ، وهذا عندي غير صحيح ؛ لأنه إن أراد أول الرسل فقد قال الله تعالى حكاية عن قول الرجل المؤمن من آل فرعون : {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَـاتِ} (غافر : 34) ، فقد أخبر أنه أرسل إليهم يوسف ، وهو إما ابن يعقوب ، أو ابن إفراييم بن يوسف بن يعقوب على الخلاف المتقدم ، وإن أراد النبوة خاصة ، فيوسف وإخوته أنبياء ، وهم : بنو إسرائيل ؛ لأن يعقوب عليه السلام هو إسرائيل ، وأول الأنبياء آدم وآخرهم محمد عليهم السلام.
وروى ابن سلام وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : "لا تقولوا : لانبي بعد محمد.
وقولوا : خاتم النبيين" ؛ لأنه ينزل عيسى بن مريم حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً ، فيقتل الدجال ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ويضع الجزية وتضع الحرب أوزارها.
(8/164)
قال في "التكملة" : وقول عائشة : لا تقولوا لا نبي بعد محمد إنما ذكر ، والله أعلم لئلا يتوهم المتوهم رفع ما روي من نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان ، وعلى الحقيقة ، فلا نبي بعد رسول الله عليه السلام ؛ لأن عيسى وإن نزل بعده ، فهو موجود قبله حي إلى أن ينزل ، وإذا نزل ، فهو متبع لشريعته مقاتل عليها ، فلا يخلق نبي بعد محمد ، ولا تجدد شريعة بعد شريعته ، فعلى هذا يصح ولا نبي بعده.
وقد روي في أسماء النبي عليه السلام في كتاب "الشمائل" وغيره والعاقب الذي ليس بعده
216
نبي" ، فهذه زيادة وإن لم يذكرها مالك ، فهي موجودة في غير "الموطأ" ، ويحتمل أن تكون من قبل النبي ، أو من قبل الراوي ، فإن كانت من قبل النبي عليه السلام ، فحسبك بها حجة ، وإن كانت من قبل الراوي ، فقد صح بها أن إطلاق هذا اللفظ غير ممتنع ولا معارضة بينه وبين حديث عائشة كما ذكرنا.
والمراد به : لا تقولوا : لا نبي بعده يعني : لا يوجد في الدنيا نبي ، فإن عيسى ينزل إلى الدنيا ويقاتل على شريعة النبي عليه السلام.
والمراد بقوله عليه السلام في الحديث ، والعاقب الذي ليس بعده نبي ، ولا يبعث بعده نبي ينسخ شريعته.
وهذا معنى قوله : {وَخَاتَمَ النَّبِيِّـانَ} (الأحزاب : 40) ؛ أي : الذي ختمت النبوة والرسالة به ؛ لأن نبوة عيسى قبله فنبوته عليه السلام ختمت النبوات وشريعته ختمت الشرائع.
انتهى ما في "التكملة".
وفي "التأويلات النجمية" : تشير الآية إلى أن الحكمة البالغة الأزلية اقتضت أنا نبعث قبلك رسلاً ، ونجزي عليهم وعلى أممهم أحوالاً ، ثم نقص عليك من أنبائهم ما نثبت به فؤادك ونؤدبك بتأدبهم لتتعظ بهم ، ولا نقدمك بالرسالة عليهم ليتعظوا بك فإن السعيد من يتعظ بغيره :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
هر طبيدن قاصدى باشد دل آكاهرا
{وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} لاستغنائك عن ذلك تخفيفاً لك عما لا يعنيك.
وهذا أمارة كمال العناية فيما قص عليه وفيما لم يقصص عليه.
{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} ؛ أي : وما صح وما استقام لرسول منهم.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا} تقترح عليه.
(يعنى بيارد معجزة كه نشأنة نبوت أو باشد).
{إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، فإن المعجزات تشعب فنونها عطايا من الله تعالى قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة كسائر القسم ليس لهم اختيار في إيثار بعضها ولا ستبداد بإتيان المقترح بها.
وفيه تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؛ كأنه قيل : ما من رسول من قبلك سواء كان مذكوراً أو غير مذكور أعطاه الله آيات معجزات إلا جادله قومه فيها وكذبوه عناداً وعبثاً ، فصبروا وظفروا ، فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا.
وفي المثنوي :
صد هزاران كيميا حق آفريد
كيميايى همجو صبر آدم نديد
{فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} بالعذاب في الدنيا والآخرة.
{قُضِىَ بِالْحَقِّ} حكم بين الرسل ومكذبيهم بإنجاء المحق وإهلاك المبطل وتعذيبه.
{وَخَسِرَ} : هلك ، أو تحقق وتبين أنه خسر {هُنَالِكَ} أي : وقت مجيء أمر الله وهو اسم مكان استعير للزمان.
{الْمُبْطِلُونَ} أي : المتمسكون بالباطل على الإطلاق ، فيدخل فيهم المعاندون المقترحون دخولاً أولياً.
قال في "القاموس" : الباطل ضد الحق وأبطل جاء بالباطل ، فالمبطل صاحب الباطل والمتمسك به كما أن المحق صاحب الحق والعامل به ولم يقل ، وخسر هنالك الكافرون لما سبق من نقيض الباطل الذي هو الحق كما في "برهان القرآن".
وفي الآية إشارة إلى أنه يجب الرجوع إلى الله قبل أن يجيء أمره وقضاؤه بالموت والعذاب ، فإنه ليس بعده إلا الأحزان :
تو بيش از عقوبت در عفو كوب
كه سوى ندارد فغان زير جوب
جه سود از بشيمانى آيد بكف
جو سرماية عمر كردى تلف
كسى كرجه بد كردهم بدنكرد
كه بيش از قيامت غم خويش خورد
217
يعني : (بيش از قيامت موت زيراكه مرد قيامت او برخاست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الانْعَـامَ} ؛ أي : خلق الإبل لأجلكم ومصلحتكم جمع نعم بفتحتين ، وهو في الأصل الراعية والكثير استعماله في الإبل.
{لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} من لابتداء الغاية ومعناها ابتداء الركوب والأكل منها ؛ أي : تعلقهما بها ، أو للتبعيض ؛ أي : لتركبوا وتأكلوا بعضها لا على أن كلاً من الركوب ، والأكل مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر ، بل على أن كل بعض منها صالح لكل منهما ، وتغيير النظم في الجملة الثانية لمراعاة الفواصل مع الإشعار بأصالة الركوب ؛ لأن الغرض إنما يكون في المنافع والركوب متعلق بالمنفعة ؛ لأنه إتلاف المنفعة بخلاف الأكل ؛ فإنه متعلق بالعين ؛ لأنه إتلاف العين لا يقدح في ذلك كون الأكل أيضاً من المنافع ، ولهذا جاء : {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} (النحل : 14).
(8/165)
{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الانْعَـامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ فَأَىَّ ءَايَـاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} .
{وَلَكُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ} آخر غير الركوب والأكل ؛ كألبانها وأوبارها وجلودها.
{وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ} ؛ أي : في قلوبكم بحمل أثقالكم عليها من بلد إلى بلد.
وقال الكاشفي : (تابر سيد بمسافرت برآن بحاجتى كه در سينهاى شماست از سود ومعامله).
وهو عطف على قوله : لتركبوا منها وحاجة مفعول لتبلغوا.
{وَعَلَيْهَا} ؛ أي : في الإبل في البر.
{وَعَلَى الْفُلْكِ} ؛ أي : السفن في البحر.
{تُحْمَلُونَ} نظيره.
{وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الإسراء : 70).
قال في "الإرشاد" : ولعل المراد به حمل النساء والولدان عليها بالهودج ، وهو السر في فصله عن الركوب والجمع بينهما وبين الفلك لما بينهما من المناسبة التامة حتى تسمت سفائن البر ، وإنما قال : وعلى الفلك ، ولم يقل : في الملك.
كما قال : {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} (هود : 40) للمزاوجة ؛ أي : ليزاوج ويطابق قوله : {وَعَلَيْهَا} ، فإن محمولات الأنعام مستعلية عليها ، فذكرت كلمة الاستعلاء في الفلك أيضاً للمشاكلة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "المدارك" : الإيعاء ومعنى الاستعلاء كلاهما مستقيم ؛ لأن الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها ، فلما صح المعنيان صحت العبارتان.
وقال بعض المفسرين : المراد بالأنعام في هذا المقام : الأزواج الثمانية ، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز باعتبار ذكورتها وأنوثتها ، فمعنى الركوب والأكل منها تعلقهما بالكل ، لكن لا على أن كلاً منهما يجوز تعلقه بكل منها ، ولا على أن كلا منهما مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر على أن بعضها يتعلق به الأكل فقط كالغنم ، وبعضها يتعلق به كلاهما كالإبل والبقر والمنافع تعمّ الكل وبلوغ الحاجة عليها يعم البقر.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى خلق النفس البهيمية الحيوانية لتكون مركباً لروحكم العلوي.
{وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ} من مشاهدة الحق ومقامات القرب ، ولكم في صفاتها منافع ، وهي الشهوة الحيوانية ومنفعتها إنها مركب العشق والغضب ، وأن مركب الصلابة في الدين والحرص مركب الهمة ، وبهذه المركب يصل السالك إلى المراتب العلية كما قال.
{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ} ؛ أي : صفات القلب {تُحْمَلُونَ} إلى جوار الحق تعالى.
جون بيخبر ان دامن فرصت مده از دست
تاهست بروبال زعالم سفرى كن
{وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ} : دلائله الدالة على كمال قدرته وفور رحمته.
{وَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ فَأَىَّ ءَايَـاتِ} .
فإن كلاً منها من الظهور بحيث لا يكاد يجرؤ على إنكارها من له عقل في الجملة ، وهو ناصب لأي.
وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل إنكارها.
فإن قلت : كان الظاهر أن
218
يقال : فأية آيات الله بتاء التأنيث لكون ؛ أي : عبارة عن المؤنث لإضافته إليها.
قلت : تذكير ؛ أي : هو الشائع المستفيض والتأنيث قليل ؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة ، وإنسان وإنسانة غريب ، وهي في أي أغرب لإبهامه ، فإن قصد التمييز والتفرقة ينافي الإبهام.
وهذا في غير النداء ، فإن اللغة الفصيحة الشائعة أن تؤنث أياً الواقعة في نداء المؤنث كما في قوله تعالى : {يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ} (الفجر : 27) ، ولم يسمع أن يقال : يا أيها المرأة بالتذكير.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
اعلم أن جميع أجزاء العالم آيات بينات وحجج واضحات ترشدك إلى وحدانية الله تعالى وكمال قدرته ، لكن هداية الله تعالى إلى جهة الإرشاد وكيفية أصل الأصول.
قال بعض الكبار في سبب توبته : كنت مستلقياً على ظهري ، فسمعت طيوراً يسبحن ، فأعرضت عن الدنيا وأقبلت على المولى وخرجت في طلب المرشد ، فلقيت أبا العباس الخضر ، فقال لي : اذهب إلى الشيخ عبد القادر ، فإني كنت في مجلسه ، فقال : إن الله جذب عبداً إليه ، فأرسله إليّ إذا لقيته ، قال : فلما جئت إليه ، قال : مرحباً بمن جذبه الرب بألسنة الطير ، جمع له كثيراً من الخير ، فإذا أراد الله بعبده خيراً يجذبه إليه بماء شاء ، ولا تفرقة بين شيء وشيء ، فمن له بصيرة يرى في مرائي الأشياء جمال الوحدة.
محقق همى بيند اندر ابل
كه در خوب رويان جين وجكل
ثم إن أعظم الآيات أنبياء الله وأولياؤه إذ تجلى الحق من وجوههم بنعت العزة والكبرياء للعالمين ، وأي منكر أعطم ممن ينكر على هذه الآيات الساطعة والبراهين الواضحة.
(8/166)
قال سهل : أظهر آياته في أوليائه ، وجعل السعيد من عباده من صدقهم في كراماتهم وأعمى أعين الأشقياء عن ذلك ، وصرف قلوبهم عنهم ، ومن أنكر آيات أوليائه ، فإنه ينكر قدرة الله ، فإن القدرة الإلهية أظهر على الأولياء الأمارات لا هم بأنفسهم يظهرونها ، والله تعالى يقول : {وَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ فَأَىَّ ءَايَـاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} ، ثم إن الإنكار بعد التعريف والإعلام أشد منه قبله ، فطوبى لمن أخذ بإشارة المرشد وإرشاده ، ولا يكون في زمرة المنكرين الضالين.
قال حجة الإسلام : العجب منك أنك تدخل بين غني فتراه مزيناً بأنواع الزين ، فلا ينقطع تعجبك منه ، ولا تزال تذكره وتصف حسنه طول عمرك ، وأنت تنظر إلى بيت عظيم ، وهو العالم لم يخلق مثله لا تتحدث فيه ولا تلتفت بقلبك ، ولا تتفكر في عجائبه وذلك لعمى القلب المانع عن الشهود والرؤية ونعم ما قيل :
برك درختان سبز در نظر هو شيار
هر ورقى دفتريست معرفت كردكار
ولا بد لتحصيل هذه المرتبة من التوسل بالأسباب وأعظمها الذكر في جميع الأوقات.
وقال : إلى أن يفتح مفتح الأبواب.
{وَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ فَأَىَّ ءَايَـاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِى الارْضِ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا} : الهمزة للاستفهام التوبيخي ، والفاء : للعطف على مقدر ؛ أي : أقعدوا ؛ أي : قومك ، وهم قريش ، فلم يسيروا ولم يسافروا {فِى الأرْضِ} .
(در زمين عاد وثمود).
{فَيَنظُرُوا} ويعتبروا جواب الاستفهام.
وبالفارسية : (تابنكر ندكه).
{كَيْفَ كَانَ} : (جه كونه بود).
{عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم المهلكة ، يعني : أنهم قد ساروا في أطراف الأرض ، وسافروا إلى جانب الشام واليمن وشاهدوا مصارع المكذبين من الأمم السالفة وآثارهم ، فليحذروا من مثل عذابهم ، فلا يكذبوك يا محمد.
ثم بين مبادىء أحوال الأمم المتقدمة وعواقبها ، فقال : {كَانُوا} ؛ أي : تلك الأمم.
{أَكْثَرَ} عدداً {مِنْهُمْ} ؛ أي : من قومك.
219
{وَأَشَدَّ قُوَّةً} في الأبدان والعدد.
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى} باقية بعدهم من الأبنية والقصور والمصانع ، وهي جمع مصنعة بفتح النون وضمها شيء كالحوض يجمع فيها ماء المطر ، ويقال : الصهريج أيضاً ، وتغلط فيه العامة من الأتراك ، فيقولون صارنج ، وأكثر بلاد العرب محتاجة إلى هذا لقلة الماء الجاري والآبار.
وفي "التأويلات النجمية" : {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى} بطول الأعمار.
وقيل : هي آثار أقدامهم في الأرض بعظم إجرامهم.
وحكي عن الشيخ محيي الدين بن العربي قدس سره : أنه قال : قد اجتمعت بجماعة من قوم يونس عليه السلام سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالأندلس حيث كنت فيه ، وقست أثر رجل واحد منهم في الأرض ، فرأيت طول قدمه ثلاثة أشبار وثلثي شبر.
{فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم} : يقال : أغنى عنه كذا إذا كفاه ونفعه ، وهو إذا استعمل بعن يتعدى إلى مفعول كما سبق ؛ أي : لم يغن عنهم لم يدفع ولم ينفع.
{مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} كسبهم أو مكسوبهم من الأموال والأولاد وترتيب العساكر ، فإذا لم تفدهم تلك المكنة العظيمة إلا الخيبة والخسار ، فكيف هؤلاء الفقراء والمساكين.
ويجوز أن تكون ما الأولى استفهامية بمعنى ؛ أي شيء أغنى عنهم ذلك ، وما الثانية على التقديرين ، فاعل أغنى.
وهذه الفاء : بيان عاقبة كثرتهم وشدة قوتهم ، وما كانوا يكسبون بذلك زعماً منهم أن ذلك يغني عنهم ، فلم يترتب عليه إلا عدم الإغناء ، فهذا الاعتبار جرى مجرى النتيجة ، وإن كان عكس الغرض ونقيض المطلوب كما في قولك وعظته ، فلم يتعظ ؛ أي : لم يترتب عليه إلا عدم الاتعاظ مع أنه عكس المتوقع.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/167)
{فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ} بالمعجزات والدلالات الواضحة.
وهذه الفاء : تفسير وتفصيل لما أبهم وأجمل من عدم الإغناء ، فهي تعقيبية وتفسيرية ، إذ التفسير يعقب المفسر ، وقد كثر في الكلام مثل هذه الفاء ومبناها على التفسير بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال.
{فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ} ، لقوله : {كُلُّ حِزْبا بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم : 32) ؛ أي : أظهروا الفرح بذلك واستحقروا علم الرسل.
والمراد بالعلم : ما لهم من العقائد الزائغة والشبه الباطلة كما قالوا لا نبعث ولا نعذب وما أظن الساعة قائمة ونحو ذلك وتسميتها علماً مع أن الاعتقاد الغير المطابق للواقع حقه أن يسمى جهلاً للتهكم بهم ، فهي علم على زعمهم لا في الحقيقة.
أو المراد علم الصنائع والتنجيم والطبائع ، وهو أي علم الطبائع علم الفلاسفة ، فإن الحكماء كانوا يصغرون علوم الأنبياء ويكتفون بما يكسبونه بنظر العقل ، ويقولون : نحن قوم مهتدون ، فلا حاجة بنا إلى من يهدينا كما قال سقراط لما ظهر موسى عليه السلام : نحن قوم مهذبون لا حاجة بنا إلى تهذيب غيرنا.
قال المغربي :
علم بى دينان رها كن جهل راحكمت مخوان
از خيالات وظنون اهل يونان دم مزن
وكان يكنى في الجاهلية بأبي الحكم لأنهم يزعمون أنه عالم ذو حكمة فكناه النبي في الإسلام بأبي جهل ؛ لأنه لو كان له علم حقيقة لآمن بالرسول عليه السلام.
قال الحافظ :
سراى ومدرسه وبحث علم وطاق ورواق
جه سود جون دل دانا وجشم بينا نيست
وفي "التأويلات النجمية" : من العلم ؛ أي : من شبه المعقولات والمخيلات والموهومات ، ويجوز أن يرجع عندهم للرسل على أن المراد هو العلم الذي أظهره رسلهم وبفرح الكفار به ضحكهم منه واستهزاؤهم به ويؤيده قوله تعالى : {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} ؛ أي : نزل
220
بالكفار وأصابهم وبال استهزائهم بالأنبياء واستحقارهم لعلومهم وما أخبروا به من العذاب ونحوه ، فلم يعجزوا الله في مراده منهم.
وفي المثنوي :
آن دهان كز كرد وزتسخر بخواند
مر محمد را دهانش كز بماند
باز آمد كاى محمد عفو كن
اي ترا الطاف وعلم من لدن
من ترا افسوس ميكردم زجهل
من بدم افسوس را منسوب واهل
جون خداخواهدكه برده كس درد
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
ميلش اندر طعنة باكان برد
بس سباس اوراكه مارا درجهان
كرد بيدا اوبس بيشسينيان
تا شنيدم آن سياستهاى حق
بر قرون ماضيه اندر سبق
تاكه ما از حال آن كركان بيش
همجو روبه باس خود داريم بيش
امت مرحومه زين رو خواند مان
آن رسول حق وصادق دربيان
استخوان وبشم آن كركان عيان
بنكريد وبند كيريد اى مهان
عاقل از سر بنهد اين هستى وباد
جون شنيد آنجام فرعونان وعاد
ورنه بنهد ديكران از حال او
عبرتى كيرند از اضلال او
نسأل الله التوفيق للعلم الذي يوصل إلى التحقيق :
نتوان بقيل وقال زارباب حال شد
منعم نمى شود كسى از كفت وكوى كنج
فلا بد من الانقياد للحق والاجتهاد في العمل.
قال الخجندي :
در علم محققان جدل نيست
از علم مراد جز عمل نيست
قال في "الروضة" : صلى الحجاج في جنب ابن المسيب فرآه يرفع قبل الإمام ، ويضع رأسه ، فلما سلم أخذ بثوبه حتى فرغ من صلاته ودعائه ، ثم رفع نعله على الحجاج ، فقال : يا سارق ويا خائن تصلي على هذه الصفة ، لقد هممت أن أضرب بها وجهك.
وكان الحجاج حاجاً ، فرجع إلى الشام وجاء والياً على المدينة ، ودخل من فوره المسجد قاصداً مجلس سعيد بن المسيب ، فقال له : أنت صاحب الكلمات.
قال : نعم أنا صاحبها.
قال : جزاك الله من معلم ومؤدب خيراً ما صليت بعدك إلا ذاكراً قولك ، فلا بد من الحركة بمقتضى العلم.
{فَلَمَّا رَأَوْا} ؛ أي : الأمم السالفة المكذبة.
{بَأْسَنَا} : شدة عذابنا في الدنيا ووقعوا في مذلة الخيبة ، ومنه قوله تعالى : {بِعَذَابا بَئِيس} (الأعراف : 165) ؛ أي : شديد.
{قَالُوا} : مضطرين {بِاللَّهِ وَحْدَه وَكَفَرْنَا} : (بخداى يكبتا).
{وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ} ؛ أي : بسبب الإيمان به يعنون الأصنام.
{مُشْرِكِينَ} .
يعني : (ازانباز كه ميكفتيم بيزار وبرى كشتيم).
وهذه الفاء لمجرد التعقيب وجعل ما بعدها تابعاً لما قبلها واقعاً عقيبه ؛ لأن مضمون قوله تعالى : {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ} .
إلخ.
هو أنهم كفروا ، فصار مجموع الكلام بمنزلة أن يقال : فكفروا ثم لما رأوا بأسنا آمنوا.
{فَلَمْ يَكُ} أصله : لم يكن حذفت النون لكيرة استعماله.
{يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ} ؛ أي : تصديقهم بالوحدانية اضطراراً.
وقوله : إيمانهم.
يجوز أن يكون اسم كان وينفعهم خبره مقدماً عليه ، وأن يكون فاعل ينفعهم واسم كان ضمير الشأن المستتر فيه.
{لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ؛ أي : عند رؤية عذابنا والوقوع فيه لامتناع قبوله حينئذ امتناعاً عادياً ، كما يدل عليه قوله : {فَلَمْ يَكُ} .
221
إلخ.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/168)
زيرا دروقت معاينة عذاب تكليف مرتفع ميشود وايمان در زمان تكليف مقبولست نه دروقت يأس).
فامتنع القبول ؛ لأنهم لم يأتوا به في الوقت المأمور به ، ولذلك قيل : فلم يك بمعنى لم يصح ولم يستقم ، فإنه أبلغ في نفي النفع من لم ينفعهم إيمانهم.
وهذه الفاء : للعطف على آمنوا كأنه قيل : فآمنوا ، فلم ينفعهم ؛ لأن النافع هو الإيمان الاختياري الواقع مع القدرة على خلافه ، ومن عاين نزول العذاب لم يبق له القدرة على خلاف الإيمان ، فلم ينفعه وعدم نفعه في الدنيا دليل على عدم نفعه في الآخرة.
{فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} .
قوله : سنة من المصادر المؤكدة ، وخلت من الخلوّ يستعمل في الزمان والمكان ، ولكن لما تصور في الزمان المضي فسر أهل اللغة قولهم : خلا الزمان بقولهم : مضى وذهب ؛ أي : سن الله عدم قبول إيمان من آمن وقت رؤية البأس ومعاينته سنة ماضية في عباده مطردة ؛ أي : في الأمم السالفة المكذبة كلها ، ويجوز أن ينتصب سنة على التحذير ؛ أي : احذروا سنة الله المطردة في المكذبين السابقين.
والسنة : الطريقة والعادة المسلوكة وسنة الله طريقة حكمته.
{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَـافِرُونَ} قوله : هنالك اسم مكان في الأصل موضوع للإشارة إلى المكان قد استعير في هذا المقام للزمان ؛ لأنه لما أشير به إلى مدلول.
قوله : {لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ، ولما للزمان تعين أن يراد به الزمان تشبيهاً له بالمكان في كونه ظرفاً للفعل كالمكان.
والمعنى على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما : هلك الكافرون بوحدانية الله المكذبون وقت رؤيتهم البأس والعذاب.
وقال الزجاج : الكافر خاسر في كل وقت ، ولكنه تبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب ، ولم يرج فلاحهم ، ولم يقل : وخسر هنالك المبلطلون كما فيما سبق ؛ لأنه متصل بإيمان غير مجدد ونقيض الإيمان الكفر كما في "برهان القرآن" ؛ أي : فحسن موقعه كما حسن موقع قوله المبطلون على ما عرف سره في موقعه.
اعلم أن في إيمان البأس واليأس وتفاصيل أقررها لك ، فانظر ماذا ترى قال في "الأمالي" : ()
وما إيمان شخص حال بأس
بمقبول لفقد الامتثال
قوله : بأس بالباء الموحدة وبسكون الهمزة لم يقل : يأس بالياء المثناة لموافقة قوله تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ، فاشتمل على ما بالموحدة والمثناة ، وأصل البأس الشدة والمضرة ، وحال البأس ، هو وقت معاينة العذاب وانكشاف ما جاءت به الأخبار الإلهية من الوعد والوعيد.
وحال اليأس هو وقت الغرغرة التي تظهر عندها أحكام الدار الآخرة عليه بعد تعطيل قواه الحسية ، ويستوي في حال البأس بالموحدة الإيمان والتوبة لقوله تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ} .
الآية ورجاء الرحمة إنما يكون في وقته وبظهور الوعيد خرج الوقت من اليد ، ولم يتصور الامتثال ووقع الإيمان ضرورياً خارجاً عن الاختيار ، ألا ترى أن إيمان الناس لا يقبل عند طلوع الشمس من مغربها ؛ لأنه إيمان ضروري ، فلا يعتبر ؛ لأنه يجوز أن يكون إيمان المضطر لغرض النجاة من الهلاك بحيث لو تخلص لعاد لما اعتاد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقد قال العلماء : الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه لكونه إيماناً وطاعة.
وأما الرغبة فيه لطلب الثواب وللخوف من العقاب ، فغير مفيد كما في "حواشي الشيخ" في سورة الأنعام.
وفي المثنوي :
آن ندامت از نتيجه رنج بود
بى زعقل روشن جون كنج بود
222
جونكه شد رنج آن ندامت شد عدم
مى نير زد خاك آن توبه ندم
ميكند او توبه وبير خرد
بانك لوردوا لعادوا ميزند
فيكون الإيمان والندم وقت ظهور الوعيد الدنيوي كالإيمان والندم وقت وجود الوعيد الأخروي بلا فرق ، فكما لا ينفع هذا كذلك لا ينفع ذاك لأن الآخرة وما في حكمها من مقدماتها في الحكم سواء ولذلك ورد من مات فقد قامت قيامته ، وذلك لأن زمان الموت آخر زمان من أزمنة الدنيا ، وأول من أزمنة الآخرة ، فباتصال زمان الموت بزمان القيامة كان في حكمه فإيمان فرعون وأمثاله عند الغرق أو نحوه من قبيل ما ذكر من الإيمان الاضطراري الواقع عند وقوع الوعيد الذي ظهوره في حكم ظهور أحوال الآخرة ومشاهدته في حكم مشاهدة العذاب الأخروي.
فحال البأس بالموحدة كحال الغرغرة من غير فرق فكما لا يقبل الإيمان حال الغرغرة ، فكذا حال البأس ففرعون مثلاً لم يقبل إيمانه حال الغرق ، لكونه حال البأس ، وإن كان قبل الغرغرة ، فافهم جداً ، فإنه من مزالق الأقدام.
(8/169)
وأما إيمان اليأس بالياء المثناة التحتية ، وهو الإيمان بعد مشاهدة أحوال الآخرة ، ولا تكون إلا عند الغرغرة ووقت نزع الروح من الجسد ، ففي كتاب "الفتاوى" : أنه غير مقبول بخلاف توبة اليأس فإنها مقبولة على المختار على ما في "هداية المهديين" ؛ لأن الكافر أجنبي غير عارف بالله وابتدأ إيماناً ، والفاسق عارف وحاله حال البقاء ، والبقاء أسهل من الابتداء.
فمثل إيمان اليأس شجر غرس في وقت لا يمكن فيه النماء ، ومثل توبة اليأس شجر نابت أثمر في الشتاء عند ملاءمة الهواء.
والدليل على قبول التوبة مطلقاً قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (الشورى : 25) ، هكذا قالوا ، وهو يخالف قوله تعالى : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّاَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الْاَانَ} (النساء : 18).
قال البغوي في "تفسيره" : لا تقبل توبة عاصصٍ ولا إيمان كافر إذا تيقن بالموت.
انتهى.
ومراده عند الإشراف على الموت والصيرورة إلى حال الغرغرة ، وإلا فقد قال المحققون : قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة ، بل المانع من قبولها مشاهدة الأحوال التي عندها يحصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار على ما في "حواشي ابن الشيخ" في سورة النساء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقرب الموت لا ينافي التيقن بالموت بظهور أسبابه وإماراته دل عليه قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} (البقرة : 180) الآية ؛ أي : حضور أماراته وظهور آثاره من العلل والأمراض إذ لا اقتدار على الوصية عند حضور نفس الموت.
ومن هذا القبيل ما في "روضة الأخبار" من أنه قال عمرو بن العاص رضي الله عنه عند احتضاره لابنه عبد الله : يا بنيّ من يأخذ المال بما فيه من التبعات ، فقال : من جدع الله أنفه ، ثم قال : احملوه إلى بيت مال المسلمين ، ثم دعا بالغل ، والقيد فلبسهما ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "إن التوبة مبسوطة ما لم يغرغر ابن آدم بنفسه".
ثم استقبل القبلة ، فقال : "اللهم أمرتنا فعصينا ونهيتنا فارتكبنا هذا مقام العائذ بك ، فإن تعف ، فأهل العفو أنت وإن تعاقب فبما قدمت يداي لاإله إلا أنت سبحانك ، إني كنت من الظالمين".
فمات وهو مغلول مقيد ، فبلغ الحسن بن علي رضي الله عنهما ، فقال : استسلم حين أيقن بالموت.
.
ولعله ينفعه.
انتهى.
وأتي بصيغة الترجي ؛
223
لأنه لا قطع ، وهو من باب الإرشاد أيضاً على ما حكي : أنه لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه ، وهو أخوه عليه السلام من الرضاعة وغسل وكفن قبل النبي عليه السلام بين عينيه وبكى.
وقالت امرأته : خولة بنت حكيم رضي الله عنها : طبت هنيئاً لك الجنة يا أبا السائب ، فنظر إليها النبي عليه السلام نظرة غضب وقال : "وما يدريك" ، فقالت : يا رسول مارسك وصاحبك ، فقال عليه السلام : "وما أدري ما يفعل بي" ، فاشفق الناس على عثمان رضي الله عنه.
ثم إن السبب في عدم قبول التوبة عند الاحتضار أنا مكلفون بالإيمان الغيبي لقوله تعالى : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة : 3).
وفي ذلك الوقت يكون الغيب عياناً فلا تصح.
وأيضاً لا شبهة في أن كل مؤمن عاصصٍ يندم عند الإشراف على الموت.
وقد ورد : "إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له" ، فيلزم منه أن لا يدخل أحد من المؤمنين النار ، وقد ثبت أن بعضهم يدخلونها.
وأما قولهم : إن من شرط التوبة عن الذنب العزم على أن لا يعود إليه.
وذلك إنما يتحقق مع ظن التائب التمكن من العود ، فيخالفه ما قال الآمدي أنه إذا أشرف على الموت ؛ أي : قرب من الاحتضار ، فندم على فعله صحت توبته بإجماع السلف ، وإن لم يتصور منه العزم على ترك الفعل لعدم تصور الفعل ، فهو مستثنى من عموم معنى التوبة ، وهو الندم على الماضي والترك في الحال ، والعزم على أن لا يعود في المستقبل كما في "شرح العقائد" للمولى رمضان.
وأما إطلاق الآية التي هي قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (الشورى : 25) ، فمقيد بالآية السابقة ، وهي قوله : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ} (النساء : 18) ، الآية.
وبقوله عليه السلام : "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر".
أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وهو يشمل توبة المؤمن والكافر ، فالإيمان وكذا التوبة لا يعتبر حالة اليأس بالمثناة بخلافهما قبل هذه الحالة ، ولو بقليل من الزمان رحمة من الله تعالى لعباده المذنبين.
فمعنى الاحتضار هو وقت الغرغرة ، وقرب مفارقة الروح من البدن لا حضور أوائل الموت ، وظهور مقدماته مطلقاً ، وقس عليه حال البأس بالموحدة.
بقي أنه لما قتل علي رضي الله عنه : من قال : لا إله إلا الله.
قال عليه السلام : "لم قتلته يا علي".
قال علي : علمت أنه ما قال بقلبه ، فقال عليه السلام : "هل شققت قلبه" ، فهذا يدل على أن إيمان المضطر والمكره صحيح مقبول ، ولعله عليه السلام : اطلع بنور النبوة على إيمان ذلك المقتول بخصوصه ، فقال في حقه ، ما قال.
والعلم عند الله المتعال هذا.
وذهب الإمام مالك إلى أن الإيمان عند اليأس بالمثناة مقبول صحيح ، فقالوا : إن الإيمان عند التيقن صحيح عنده لو لم يرد الدليل ذلك الإيمان فإيمان فرعون مثلاً مردود عنده بدليل قوله : {ءَآلَْاانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} (يونس : 91) ، الآية.
وإنما لم يرده مالك مطلقاً لعدم النصوص الدالة عنده على عدم صحة الإيمان في تلك الساعة.
هكذا قالوا ، وفيه ضعف تام ظاهر وإسناده إلى مالك لا يخلو عن سماحة ، كما لا يخفى هذا ما تيسر لي في هذا المقام من الجمع والترتيب والترجيح والتهذيب ، ثم أسأل الله لي ، ولكم أن يشد عضدنا بقوة الإيمان ويحلينا بحلية العيان والإيقان.
ويختم لنا بالخير والحسنى ويبشرنا بالرضوان والزلفى ويجعلنا من الطائرين إلى جنابه والنازلين عند بابه واللائقين بخطابه بحرمة الحواميم وما اشتملت عليه من السر العظيم.
224
تمت {حم} المؤمن يوم السبت الثامن والعشرين من ذي القعدة الشريف من شهور سنة اثنتي عشرة ومائة وألف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148(8/170)
سورة فصلت
وآياتها ثلاث أو أربع وخمسون
جزء : 8 رقم الصفحة : 224
.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{حم} : خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : هذه السورة مسماة بـ{حم} فيكون إطلاق الكتاب عليها في قوله : كتاب.
إلخ.
باعتبار أنها من الكتاب وجزء من أجزائه.
وقيل : {حم} اسم للقرآن ، فيكون إطلاق الكتاب عليه حقيقة ، وإنما افتتح السورة بـ{حم} ؛ لأن معنى {حم} : بضم الحاء وتشديد الميم على ما قاله سهل قدس سره ، قضى ما هو كائن.
يعني : (بودنى همه بودم كردنى همه كردم راندنى همه راندم كزيدنى همه كزيدم بدير فتنى همه بذير فتم برادشتنى همه برداشتم افكندنى همه افكندم آنجه خواستم كردم آيخه خواهم كنم آنراكه بذير فتم بدان ننكرم كه از وجفا ديدم بلكه عفو كنم ودر كذارم واز كفته او باز نيايم).
ما يبدل القول.
ولما كانت هذه السورة مصدرة بذكر الكتاب الذي قدرت فيه الأحكام وبينت ناسب أن تفتح بـ{حم} رعاية لبراعة الاستهلال.
وإنما سميت هذه السورة السبع بـ{حم} لاشتراكها في الاشتمال على ذكر الكتاب والرد على المجادلين في آيات الله والحث على الإيمان بها ، والعمل بمقتضاها ونحو ذلك.
قال بعض العرفاء معنى الحاء والميم ؛ أي : هذا الخطاب والتنزيل من الحبيب الأعظم إلى المحبوب المعظم.
وأيضاً هو قسم ؛ أي : بحياتي ومجدي.
هذا تنزيل ، أو بحياتك ومشاهدتك يا حبيبي ويا محبوبي ، أو بالحجر الأسود والمقام ، فإنهما ياقوتتان من يواقيت الجنة وسران عظيمان من أسرار الله ، فناسب أن يقسم بهما.
أو هذه الحروف تنزيل إلخ نزل بها جبرائيل عليه السلام من عند الله : (ميكويد اين حروف تهجى آموزى يا كويى در لوح جه نوشته كيد الف وباء نه خود اين دو حرف خواهد بلكه جمله حروف تهجى كه حاوميم ازان جمله است فرو فرستادخ رحمانست جنانكه كودك راكويي جومى خواهد اين همجنان است وحروف تهجى بر آدم عليه السلام نازل بوده وقر آن مشتمل شده برآن جمله).
فهي أصل كل منزل.
وفي الحديث : من قرأ القرآن فأعربه يعني (هركه خواند قرآنرا ولحن نكند دروي) فله بكل خرف خمسون حسنة و"من قرأ ولحن فيه ، فله بكل حرف عشر حسنات أما أني لا أقول ألم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف".
يقول الفقير : لعل سر العدد أن القراءة في الأصل للصلاة ، وكان أصل الصلوات الخمس خمسين ، فلذا أجرى الله تعالى على القارىء الفصيح بمقابلة كل حرف خمسين أجراً ، وأما العشر ، فهي أدنى الحسنات كما قال الله تعالى : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام : 16).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال الكاشفي : (اسم اعظم الهى در حروف مقطعة مخفيست وهر كس در استخراج اين قادر نيست).
قال الكمال الخجندي قدس سره :
كرت دانستن علم حروفست آرزو صوفي
نخست افعال نيكو كن جه سوداز خواندن اسما
{تَنزِيلٌ} : خبر بعد خبر ؛ أي : منزلة ؛ لأن التعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور ؛ كقولهم :
225
هذا الدرهم ضرب الأمير ؛ أي : مضروبه ومعنى كونها منزلة أنه تعالى كتبها في اللوح المحفوظ ، وأمر جبرائيل أن يحفظ تلك الكلمات ثم ينزل بها على رسول الله عليه السلام ويؤديها إليه فلما حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول جبرائيل سمي ذلك تنزيلاً وإلا ، فالكلام النفسي القائم بذات الله تعالى لا يتصور فيه النزول والحركة من الأعلى إلى الأسفل.(8/171)
{مِّنَ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ} متعلق بتنزيل مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم للإيذان بأن القرآن مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية ، وذلك لأن المنزل ممن صفته الرحمة الغالبة لا بد وأن يكون مداراً للمصالح كلها.
وقال الكاشفي : {مِّنَ الرَّحْمَـانِ} : (ازخداى بخشنده بهداية نفوس عوام) {الرَّحِيمِ} : (مهربان برعايت قلوب خواص).
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بالحاء في حم إلى الحكمة وبالميم إلى المنة ؛ أي : منّ على عباده بتنزيل حكمة من الرحمن الأزلي الذي سبقت رحمته غضبه ، فخلق الموجودات برحمانية الرحيم الأبدي الذي وسعت رحمته كل شيء إلى الأبد ، وهي كتاب.
قال بعض العارفين : إذا فاض بحر الرحمة تلاشي كل زلة ؛ لأن الرحمة لم تزل ، ولا تزال والزلة لم تكن ، ثم كانت ، وما لم يكن ثم كان كيف يقاوم ما لم يزل ولا يزال.
قال الصائب :
محيط از جهرة سيلاب كرد راه ميشويد
جه انديشه كسى با عفو حق از كرد زلتها
وقال الشيح سعدي قدس سره :
همى شرم دارم ز لطف كريم
كه خوانم كنه بيش عفوش عظيم
{كِتَـابٌ} : خبر آخر مشتق من الكتب ، وهو الجمع فسمي كتاباً ؛ لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين.
{فُصِّلَتْ ءَايَـاتُه} : بينت الأمر والنهي والحلال والحرام والوعد والوعيد والقصص والتوحيد.
قال الراغب في قوله : {الارا كِتَـابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَـاتُهُ} (هود : 1) : هو إشارة إلى ما قال : {تِبْيَـانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} (النحل : 89) ، فمن اتصف علم أنه ليس في يد الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة مثل القرآن.
{قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} نصب على المدح ؛ أي : أريد بهذا الكتاب المفصل آياته قرآناً عربياً أو على الحالية من كتاب لتخصصه بالصفة.
ويقال لها : الحال الموطئة ، وهو اسم جامد موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة ، وقد سبق غير مرة.
والمعنى بالفارسية : (در حالتى كه قرآنيست تازى يعنى بلغت عرب تا بسهولت خوانند وفهم كنند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال الكاشفي : (اسم اعظم الهى در حروف مقطعة مخفيست وهر كس در استخراج اين قادر نيست).
قال الكمال الخجندي قدس سره :
كرت دانستن علم حروفست آرزو صوفي
نخست افعال نيكو كن جه سوداز خواندن اسما
{تَنزِيلٌ} : خبر بعد خبر ؛ أي : منزلة ؛ لأن التعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور ؛ كقولهم :
225
هذا الدرهم ضرب الأمير ؛ أي : مضروبه ومعنى كونها منزلة أنه تعالى كتبها في اللوح المحفوظ ، وأمر جبرائيل أن يحفظ تلك الكلمات ثم ينزل بها على رسول الله عليه السلام ويؤديها إليه فلما حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول جبرائيل سمي ذلك تنزيلاً وإلا ، فالكلام النفسي القائم بذات الله تعالى لا يتصور فيه النزول والحركة من الأعلى إلى الأسفل.
{مِّنَ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ} متعلق بتنزيل مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم للإيذان بأن القرآن مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية ، وذلك لأن المنزل ممن صفته الرحمة الغالبة لا بد وأن يكون مداراً للمصالح كلها.
وقال الكاشفي : {مِّنَ الرَّحْمَـانِ} : (ازخداى بخشنده بهداية نفوس عوام) {الرَّحِيمِ} : (مهربان برعايت قلوب خواص).
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بالحاء في حم إلى الحكمة وبالميم إلى المنة ؛ أي : منّ على عباده بتنزيل حكمة من الرحمن الأزلي الذي سبقت رحمته غضبه ، فخلق الموجودات برحمانية الرحيم الأبدي الذي وسعت رحمته كل شيء إلى الأبد ، وهي كتاب.
قال بعض العارفين : إذا فاض بحر الرحمة تلاشي كل زلة ؛ لأن الرحمة لم تزل ، ولا تزال والزلة لم تكن ، ثم كانت ، وما لم يكن ثم كان كيف يقاوم ما لم يزل ولا يزال.
قال الصائب :
محيط از جهرة سيلاب كرد راه ميشويد
جه انديشه كسى با عفو حق از كرد زلتها
وقال الشيح سعدي قدس سره :
همى شرم دارم ز لطف كريم
كه خوانم كنه بيش عفوش عظيم
{كِتَـابٌ} : خبر آخر مشتق من الكتب ، وهو الجمع فسمي كتاباً ؛ لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين.
{فُصِّلَتْ ءَايَـاتُه} : بينت الأمر والنهي والحلال والحرام والوعد والوعيد والقصص والتوحيد.
قال الراغب في قوله : {الارا كِتَـابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَـاتُهُ} (هود : 1) : هو إشارة إلى ما قال : {تِبْيَـانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} (النحل : 89) ، فمن اتصف علم أنه ليس في يد الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة مثل القرآن.
{قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} نصب على المدح ؛ أي : أريد بهذا الكتاب المفصل آياته قرآناً عربياً أو على الحالية من كتاب لتخصصه بالصفة.
ويقال لها : الحال الموطئة ، وهو اسم جامد موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة ، وقد سبق غير مرة.
والمعنى بالفارسية : (در حالتى كه قرآنيست تازى يعنى بلغت عرب تا بسهولت خوانند وفهم كنند).
(8/172)
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن القرآن قديم من حيث أنه كلام الله وصنعته والعربية كسوة مخلقة كساها الله تعالى ومن قال أن القرآن أعجمي يكفر ؛ لأنه معارضة لقوله تعالى : {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} ، وبوجود كلمة عجمية فيه معربة لا يخرج عن كونه عربياً ؛ لأن العبرة للأكثر.
وذلك كالقسطاس ، فإنه رومي معرب بمعنى الميزان والسجيل ، فإنه فارسي معرب سنك ، وكل والصلوات ، فإنه عبراني معرب صلوتا بمعنى المصلى والرقيم ، فإنه رومي بمعنى الكلب والطور ، فإنه الجبل بالسرياني.
{لِّقَوْمٍ} ؛ أي : عرب.
{يَعْلَمُونَ} ؛ أي : كائناً لقوم يعلمون معانيه لكونه على لسانهم ، فهو صفة أخرى لقرآناً.
وفي "التأويلات النجمية" : {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} العربية والعربية بحروفها مخلوقة والقرآن منزه عنها.
{بَشِيرًا} : صفة أخرى لقرآناً ؛ أي : بشيراً لمن صدقه وعرف قدره وأدى
226
حقه بالجنة والوصول.
{نَذِيرًا} لمن كذبه ، ولم يعرف قدره ، ولم يؤد حقه بالنار والفراق ، أو بشيراً لمن أقبل إلى الله بنعت الشوق.
ونذيراً لمن أقبل إلى نفسه ونظر إلى طاعته ، أو بشيراً لأوليائه بنيل المقامات ، ونذيراً لهم يحذرهم من المخالفات لئلا يسقطوا من الدرجات ، أو بشيراً بمطالعة الرجاء ونذيراً بمطالعة الخوف ، أو بشيراً للعاصين بالشفاعة والغفران ، ونذيراً للمطيعين ليستعملوا الأدب والأركان في طاعة الرحمن ، أو بشيراً لمن اخترناهم واصطفيناهم ، ونذيراً لمن أغويناهم.
{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} عن تدبره مع كونه على لغتهم ، والضمير لأهل مكة أو العرب أو المشركين دال عليه ما سيجيء من قوله : {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} .
{فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} سماع تفكر وتأمل حتى يفهموا جلالة قدره ، فيؤمنوا به.
وفي "التأويلات النجمية" : فأعرض أكثرهم عن أداء حقه فهم لا يسمعون بسمع القبول والانقياد.
وفيه إشارة إلى أن الأقل هم أهل السماع ، وإنما سمعوا بأن أزال الله تعالى بلطفه ثقل الآذان ، فامتلأت الأذهان بمعاني القرآن.
سئل عبد الله بن المبارك عن بدء حاله ، فقال : كنت في بستان ، فأكلت مع إخواني وكنت مولعاً ؛ أي : حريصاً بضرب العود والطنبور ، فقمت في جوف الليل والعود بيدي وطائر فوق رأسي يصيح على شجرة ، فسمعت الطير يقول : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (الحديد : 16) ، الآية.
فقلت : بلى ، وكسرت العود ، فكان هذا أول زهدي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وقد ورد في التوراة أنه تعالى قال : "يا عبدي أما تستحي مني إذ يأتيك كتاب من بعض أخوانك ، وأنت في الطريق تمشي ، فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرأه وتتدبره حرفاً حرفاً ، حتى لا يفوتك منه شيء.
وهذا كتابي أنزلته إليك انظره كم فصلت لك فيه من القول ، وكم كررت فيه عليك لتتأمل طوله وعرضه ، ثم أنت معرض عنه أو كنت أهون عليك من بعض إخوانك.
يا عبدي يعقد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك ، وتصغي إلى حديثه بكل قلبك ، فإن تكلم متكلم ، أو شغلك شاغل عن حديثه ، أو مال إليه أن كف وها أنا مقبل عليك ، ومحدث لك وأنت معرض بقلبك عني ، أفجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك".
كذا في "الإحياء".
{بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنا بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَـامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ} .
{وَقَالُوا} ؛ أي : المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما في القرآن.
{قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ} جمع كنان ، وهو الغطاء الذي يكنّ فيه الشيء ؛ أي : يحفظ ويستر ؛ أي : في أغطية متكاثفة.
{مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} ؛ أي : تمنعنا من فهم ما تدعونا إليه وتورده علينا ، وحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وحذف متعلق حرف الجر أيضاً شبهوا قلوبهم بالشيء المحوي المحاط بالغطاء المحيط له ، بحيث لا يصيبه شيء من حيث تباعدها عن إدراك الحق واعتقاده.
قال سعدي المفتي : ورد هنا كلمة في.
وفي الكهف على ؛ لأن القصد هنا إلى المبالغة في عدم القبول.
والأكنة إذا احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف لا يمكن أن يصل إليها شيء ، وليست تلك المبالغة في على ، والسياق في الكهف للعظمة ، فيناسبه أداة الاستعلاء.
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى} ؛ أي : صمم.
قال في "القاموس" : الوقر : ثقل الأذن ، أو ذهاب السمع كله شبهوا أسماعهم بآذان بها صمم من حيث أنها تمج الحق ، ولا تميل إلى استماعه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/173)
وفي "التأويلات النجمية" : {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى} : ما ينفعنا كلامك قالوه حقاً ، وإن قالوا على سبيل الاستهانة والاستهزاء ؛ لأن قلوبهم في أكنة حب الدنيا وزينتها مقفولة
227
بقفل الشهوات والأوصاف البشرية ، ولو قالوا ذلك على بصيرة لكان ذلك منهم توحيداً ، فتعرضوا للمقت لما فقدوا من صدق القلب.
{وَمِنا بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} ستر عظيم وغطاء غليظ يمنعنا عن التواصل والتوافق.
ومن للدلالة عن أن الحجاب مبتدأ من الجانبين بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة المعبر عنها بالبين ، ولم يبق ثمة فراغ أصلاً ، فيكون حجاباً قوياً عريضاً مانعاً من التواصل بخلاف ما لو قيل : بيننا وبينك حجاب ، فإنه يدل على مجرد حصول الحجاب في المسافة المتوسطة بينهم وبينه من غير دلالة على ابتدائه من الطرفين ، فيكون حجاباً في الجملة لا كما ذكر.
شبهوا حال أنفسهم مع رسول الله عليه السلام بحال شيئين بينهما حجاب عظيم يمنع من أن يصل أحدهما إلى الآخر ، ويراه ويوافقه ، وإنما اقتصروا على ذكر هذه الأعضاء الثلاثة ؛ لأن القلب محل المعرفة والسمع والبصر أقوى ما يتوسل به إلى تحصيل المعارف ، فإذا كانت هذه الثلاثة محجوبة كان ذلك أقوى ما يكون من الحجاب نعوذ بالله تعالى.
قال بعضهم : قلوبهم في حجاب من دعوة الحق وأسماعهم في صمم من نداء الحق ، وهواتفه وجعل بينهم وبين الحق حجاب من الوحشة والإبانة ، ولذا وقعوا في الإنكار ومنعوا من رؤية الآثار :
در جشم اين سياه دلان صبح كاذبست
در روشنى اكريد بيضا شود كسى
{فَاعْمَلْ} على دينك.
{إِنَّنَا عَـامِلُونَ} على ديننا.
{قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} ؛ أي : ما إلهكم إلا إله واحد لا غيره ، وهذا تلقين للجواب عما ذكره المشركون ؛ أي : لست من جنس مغاير لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب ، وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان كما ينبىء عنه قولكم ، فاعمل إننا عاملون ، بل إنما أنا بشر وآدمي مثلكم مأمور بما أمرتم به حيث أخبرنا جميعاً بالتوحيد بخطاب جامع بيني وبينكم ، فإن الخطاب في إلهكم محكيّ منتظم للكل ، لا أنه خطاب منه عليه السلام للكفرة كما في مثلكم.
وفي الآية إشارة إلى أن البشر كلهم متساوون في البشرية مسدود دونهم باب المعرفة ؛ أي : معرفة الله بالوحدانية بالآلات البشرية من العقل وغيره ، وإنما فتح هذا الباب على قلوب الأنبياء بالوحي ، وعلى قلوب الأولياء بالشواهد والكشوف وعلى قلوب المؤمنين بالإلهام والشرح كما قال تعالى : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر : 22) ، كما في "التأويلات النجمية".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال الحسن رضي الله عنه علمه الله التواضع بقوله : {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} .
ولهذا كان يعود المريض ويشيع الجنازة ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد ، وكان يوم قريظة والنضير على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف : (عجب كاريست كه كاه مركب وى براق بهشتى وكاه مركب خركى آرى مركب مختلف بود اما درهر دوحالت راكب يك صفت ويك همت ويك ارادت بود اكر بر براق بود درسرش نخوت نبوت واكر بر حمار بود برخسار عز نبوتش غبار مذلت نبود) :
خلق خوش عود بود انجمن مردم را
جون زنان خود مفكن برسر مجمر دامن
{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} : من جملة المقول.
والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها من إيحاء الوحدانية ، فإن ذلك موجب لاستقامتهم إليه تعالى بالتوحيد والإخلاص في الأعمال ، وعدّي فعل
228
الاستقامة بإلى لما فيه من معنى الاستواء ؛ أي : فاستووا إليه بذلك.
والاستقامة : الاستمرار على جهة واحدة.
{وَاسْتَغْفِرُوهُ} مما كنتم عليه من سوء العقيدة والعمل.
وفي "المقاصد الحسنة" قال صلى الله عليه وسلّم "استقيموا ولن تحصوا" ؛ أي : لن تستطيعوا أن تستقيموا في كل شيء حتى لا تميلوا.
وقال : "شيبتني هود وأخواتها".
لما فيها من قوله : فاستقم.
قال بعضهم : إذا وقع العلم والمعرفة ، فاستغفروه من علمكم وإدراككم به ومعاملتكم له ووجودكم في وجوده ، فإنه تعالى أعظم من إدراك الخليقة وتلاصق الحدثان بجناب جلاله.
وقال بعضهم : الاستقامة مساواة الأحوال مع الأفعال والأقوال ، وهو أن يخالف الظاهر والباطن ، والباطن الظاهر ، فإذا استقمت استقامت أحوالك ، واستغفر من رؤية استقامتك.
واعلم أن الله تعالى هو الذي قومك لا أنك استقمت.
{وَوَيْلٌ} : (وسختى عذاب) {لِّلْمُشْرِكِينَ} : ترهيب وتنفير لهم عن الشرك إثر ترغيبهم في التوحيد.
(8/174)
{الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} : لا يؤمنون بوجوبها ولا يؤتونها.
{وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ} أعاد الضمير تأكيداً.
{كَـافِرُونَ} ؛ أي : بالبعث بعد الموت والثوات والعقاب.
(وبدان جهتى نفقه نمى كنند كه مكافات آن سراريرا باور ندارند) ، وهو عطف على لا يؤتون داخل في خير الصلة.
واختلافهما بالفعلية والاسمية لما أن عدم إيتائها متجدد والكفر أمر مستمر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قالت الشافعية : في تهديد المشرك على شركه وعدم إيتائه الزكاة دليل على أن المشرك حال شركه مخاطب بإيتاء الزكاة إذ لولاه لما استحق بعدم إيتائها الوعيد المذكور ، وإذا كان مخاطباً بإيتاء الزكاة يكون مخاطباً بسائر فروع الإسلام ، إذ لا قائل بالفصل ، فيعذب على ترك الكل ، وإليه ذهب مشايخنا العراقيون.
وذهب غيرهم إلى أنهم مخاطبون باعتقاد وجوبها لا بإيقاعها ، فيعاقبون على تركهم اعتقاد الوجوب على ما فصل في الأصول.
ومن أصحابنا من قال : إنهم مخاطبون بالفروع بشرط تقديم الإسلام كما أن المسلم مخاطب بالصلاة بشرط تقديم الوضوء.
وقال المولى أبو السعود في "تفسيره" : وصف الله المشركين بأنهم لا يؤتون الزكاة لزيادة التحذير والتخويف من منع الزكاة حيث جعل من أوصاف المشركين وقرن بالكفر بالآخرة حيث قيل : وهم بالآخرة هم كافرون.
يقال : الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك.
قال ابن السائب : كان المشركون يحجون ويعتمرون ولا يزكون أموالهم ، وهم كافرون.
قال الكاشفي : (وجه تخصيص منع زكات از سائر اوصاف مشركان آنست كه مال محبوب انسانست وبذل او نفس را سخت تر باشد از اعمال ديكر بس درايراد اين صفت اشارتيست بيخل ايشان وعدم شفقت بر خلق ويخل اعظم رذائل واكبر ذمايم است وكفته اند توانكرى اورا سخا نبود جون تنست كه جان ندارد ويا جون درختى كه برندهد).
قال الشيخ سعدي قدس سره :
زر ونعمت اكنون بده كان تست
كه بعد ازتو بيرون زفرمان تست
كسى كوى دولت زدنيا برد
كه باخود نصيبي بعقبى برد
مسلم كسى را بود روزه داشت
كه در مانده را دهد نان جاشت
وكرنه جه حاجت كه زحمت برى
زخود باز كيرى وهم خود خورى
229
نه بخشنده بر حال بروانه شمع
نكه كن كه جون سوخت دربيش جمع
ببخش اى بسر كآدمى زاده صيد
باحسان توان كرد ووحشى بقيد
كرامت جوا نمردى ونان دهيست
مقالات بيهوده طبل تهيست
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه فسر لا يؤتون الزكاة بقوله : لا يقولون لا إله إلا الله ، فإنها زكاة الأنفس.
والمعنى : لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد ، فإنما المشركون نجس.
قال في "كشف الأسرار" : (ذكر زكات درقر آن بردو وجهست يا درنماز بيوسته يا منفرد كفته آنجه درنماز بيوسته جنانست كه).
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه وَالَّذِينَ} (المائدة : 55).
هذا وأشباهه (مراد باين زكات مالست كه الله فرض كرده برخداوندان مال وآنجه منفرد كفته جنانست كه وحناناً من لدنا وزكاة) : خيراً منه زكاة : وما أوتيتم من زكاة : قد أفلح من تزكى : (مراد باين باكى است وزيادتى وديندارى).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَاـاِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ} .
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ؛ أي : غير ممنون عليهم على طريق الحذف والإيصال.
والمعنى : لا يمن به عليهم فيتكدر بالمنة ، يقال : من عليه مناً أنعم ومنة أمتن.
والمنة في الأصل : النعمة الثقيلة التي لا يطلب معطيها أجراً ممن أعطاها إليه ، ثم استعملت بمعنى الامتنان ؛ أي : عد النعمة.
وبالفارسية : (منت نهادن) ، وجميع ما يعطيه الله عباده في الآخرة تفضل منه وكرم ، وليس شيء منه بواجب عند أهل السنة والجماعة ، وما كان بطريق التفضل ، وإن صح الامتنان عليه ، لكنه تعالى لا يفعله فضلاً منه وكرماً ، أو غير ممنون بمعنى لا ينقطع أجرهم وثوابهم في الآخرة ، بل دائم أبدي من مننت الحبل قطعته ، أو غير محسوب كما قال تعالى : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} (البقرة : 212).
قال في "القاموس" : و{أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} محسوب أو مقطوع.
وفي الآية إشارة إلى أن من آمن ، ولم يعمل صالحاً لم يؤجر إلا ممنوناً ؛ أي : ناقصاً ، وهو أجر الإيمان ونقصانه من ترك العمل الصالح ، فيدخل النار ، ويخرج منها بأجر الإيمان ، ويدخل الجنة ، ولكنه لا يصل إلى الدرجات العالية المنوطة بالأعمال البدنية مثل الصلاة والصوم والحج ونحوها.
(8/175)
وفي "كشف الأسرار" : سدى رحمه الله : (كفت اين آيت درشان بيماران وزمنان وبيران ضعيف فرو آمد ايشان كه از بيمارى وضعيفى وعاجزى از طاعت وعبادت الله باز مانند وباداى حق وى نرسند وبآن سبب اندو هكين وغمكين باشند رب العالمين ايشانرا دران بيمارى هم آن ثواب ميد هدكه درحال صحت بطاعت وعبادت ميداد مصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم كفت).
"إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض ، قيل للملك الموكل به : اكتب له مثل عمله إذا كان "طليقاً حتى أطلقه أو أكفته إليّ".
يعني : (دران وقت كه خوش بودتاكه كزارم وى رايا بيش خودش آرم).
وفي رواية أخرى قال صلى الله تعالى عليه وسلم : "ما من أحد من المسلمين يصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله الحافظين الذين يحفظانه ، فقال : اكتبا لعبدي في كل يوم وليلة مثل ما كان يفعل من الخير ما دام في وثاقي".
يعني : (دربند من است عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كفت يا رسول خدانشسته بوديم كه رسول برآسمان نكريست وتبسم كرد كفتم يا رسول الله تبسم از جه كردى وجه حال برتو مكشوف كشت كفت عجب آيدمرا از بنده مؤمن كه ازبيمارى بنالد وجزع كند اكر بدانستى كه اورا دران بيمارى جه
230
كرامتست وبالله جه قربت همه عمر خود دران بيمارى خواستى اين ساعت كه براسمان مى نكرستم دو فرشته فرود آمدند وبنده كه بيوسته در محراب عبادت بود اورا طلب كردند دران محراب اورا نيافتند بيمار ديدند آن بنده ازعبادت باز ماند فرشتكان بحضرت عزت باز كشتند كفتند بار خدايا فلان بنده مؤمن هر شبانروزى حسنات وطاعات وى مينو شتيم اكنون اورا در حبس بيمارى كردى هيج عمل وطاعت وى نمى نويسم از حق جل جلاله فرمان آمدكه) "اكتبوا لعبدي العمل الذي كان يعمله في يومه وليلته ولا تنقصوا منه شيئاً فعليّ أجر ما حبسته وله أجر ما كان صحيحاً".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
يعني : (برمن است اجر حبس وى ومرا وراست اجر آنكه صحيح بود وتن درست).
قال في "عقد الدرر" إذا علم الله صدق نية عبده في الحج والجهاد والصدقات وغيرها من الطاعات وعجزعن ذلك إعطاء أجره ، وإن لم يعمل ذلك العمل كما روي : "إن العبد إذا نام بنية الصلاة من الليل ، فلم ينتبه كتب له أجر ذلك وكان عليه نور صدقه".
وهكذا روي : "إذا مرض العبد ، أو سافر وعجز عما كان يعمل في حال الصحة والإقامة إن الله تعالى يقول للملائكة : اكتبوا لعبدي مثل ما كان يعمل ، وهو صحيح مقيم".
وقد دل على ذلك القرآن كما قال تعالى : {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} .
إلى قوله : {أَلا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} () ، فعلى العبد أن لا يقطع رجاءه عن الله ويرضى بقضائه.
وفي المثنوي :
ناخوشى او خوش بود درجان من
جان فداى يار دل رنجان من
عاشقم بررنج خويش ودرد خويش
بهر خشنودى شاه فرد خويش
{قُلْ أَاـاِنَّكُمْ} : (آياشما).
{لَتَكْفُرُونَ} إنكار وتشنيع لكفرهم وأن واللام لتأكيد الإنكار.
{بِالَّذِى} ؛ أي : بالعظيم الشأن الذي {خَلَقَ الارْضَ} قدر وجودها ؛ أي : حكم بأنها ستوجد {فِى يَوْمَيْنِ} في مقدار يومين من أيام الآخرة ، ويقال : من أيام الدنيا كما في "تفسير أبي الليث" : (واكر خواستى بيك لحظه بيافريدى لكن خواست كه باخلق نمايدكه سكونت وآهستكى به ازشتاب وعجله وبندكانرا نسبتى باشد بسكونت كار كردن وبراه آهستكى رفتن).
وفي "عين المعاني" تعليماً للتأني وإحكاماً لدفع الشبهات عن توهن المصنوعات تحقيقاً لاعتبار الملائكة عند الإحضار وللعباد عند الإخبار وإن أمكن الإيجاد في الحال بلا إمهال.
انتهى.
زود درجاه ندامت سر نكون خواهد فتاد
هركه باى خود كذارد بى تأمل برزمين
(إمام أبو الليث آورده كه روز يكشنبه بيافريد وروز دوشنبه بكسترانيد).
وسيجيء تحقيقه ويجوز أن يراد خلق الأرض في يومين ؛ أي : في نوبتين على أن ما يوجد في كل نوبة يوجد بأسرع ما يكون ، فيكون اليومان مجازاً عن دفعتين على طريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم.
وقال سعدي المفتي : الظاهر أن اليوم على هذا التفسير بمعنى مطلق الوقت.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وجه حمل اليومين على المعنيين المذكورين أن اليوم الحقيقي إنما يتحقق بعد وجود الأرض وتسوية السماوات وإبداع نيراتها وترتيب حركاتها ، يعني أن اليوم عبارة عن زمان كون الشمس
231
فوق الأرض ، ولا يتصور ذلك قبل خلق الأرض والسماء والكواكب ، فكيف يتصور خلق الأرض في يومين.
{وَتَجْعَلُونَ لَه أَندَادًا} عطف على تكفرون داخل في حكم الإنكار والتوبيخ ، وجمع الأنداد باعتبار ما هو الواقع ، لا بأن يكون مدار الإنكار هو التعدد ؛ أي : وتجعلون له أنداداً بمعنى تصفون له شركاء وأشباهاً وأمثالاً من الآلهة ، والحال أنه لا يمكن أن يكون له ند واحد فضلاً عن الأنداد ، وأمر الله تعالى رسوله عليه السلام بأن ينكر عليهم أمرين.
(8/176)
الأول : كفرهم بالله بإلحادهم في ذاته وصفاته كالتجسم ، واتخاذ الصاحبة والولد والقول بأنه لا يقدر على إحياء الموتى ، وأنه لا يبعث البشر رسلاً.
والثاني : إثبات الشركاء والأنداد له تعالى ، فالكفر المذكور أولاً مغاير لإثبات الأنداد له ضرورة عطف أحدهما على الآخر.
{ذَالِكَ} العظيم الشأن الذي فعل ما ذكر من خلق الأرض في يومين ، وهو مبتدأ خبره قوله : {رَبُّ الْعَـالَمِينَ} ؛ أي : خالق جميع الموجودات ومربيها دون الأرض خاصة ، فكيف يتصور أن يكون أخس مخلوقاته ندّاً له تعالى.
{قُلْ أَاـاِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَه أَندَادًا ذَالِكَ رَبُّ الْعَـالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَـارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآاـاِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ} .
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} عطف على وخلق داخل في حكم الصلة.
والجعل إبداعي والمراد تقدير الجعل لا الجعل بالفعل.
والمراد بالرواسي : الجبال الثابتة المستقرة.
وبالفارسية : (كوههاى بلنديا يدار).
يقال : رسا الشيء يرسو ثبت وأرساه غيره ومنه المرساة وهو أنجر السفينة وقفت على الأنجر).
بالفارسية : (لنكر).
{مِن فَوْقِهَا} : متعلق بجعل ، أو بمضمر هو صفة لرواسي ؛ أي : كائنة من فوقها مرتفعة عليها لتكون منافعها ظاهرة للطلاب ، وليظهر للناظر ما فيها من وجوه الاستدلال ، وإلا فالجبال التي أثبتت فوق الأرض لا تمنعها عن الميلان ، ولو كانت تحتها كأساطين الغرف ، أو مركوزة فيها كالمسامير لمنعتها عنه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
عن ابن عباس رضي الله عنهما : أول ما خلق الله من شيء خلق القلم.
وقال له : اكتب.
قال : يا رب ما أكتب؟.
قال : اكتب القدر ، فجرى بما يكون من ذلك إلى يوم القيامة.
ثم خلق النون ، ثم رفع بخار الماء ، ففتق منه السماوات ، ثم بسط الأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون ، فمادت الأرض ؛ أي : مالت فأوتدت بالجبال ؛ أي : أحكمت وأثبتت.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : لما خلق الله الأرض على الماء تحركت ومالت ، فخلق الله من الأبخرة الغليظة الكثيفة الصاعدة من الأرض بسبب هيجانها الجبال ، فسكن ميل الأرض ، وذهبت تلك الحركة التي لا يكون معها استقرار فطوّق الأرض بجبل محيط بها ، وهو من صخرة خضراء وطوق الجبل بحية عظيمة رأسها بذنبها رأيت من الأبدال من صعد جبل قاف ، فسألته عن طوله علواً ، فقال : صليت الضحى في أسفله والعصر في أعلاه يعني : بخطوة الأبدال ، وهي من المشرق إلى المغرب.
يقول الفقير : لعل هذا من قبيل البسط في السير الملكوتي ، وإلا فما بين السماء والأرض كما بين المشرق والمغرب ، وهي خمسمائة عام على ما قالوا.
وعن وهب : أن ذا القرنين أتى على جبل قاف فرأى حوله جبالاً صغاراً ، فقال : ما أنت؟ قال : أنا قاف.
قال : فما هذه الجبال حولك؟ قال : هي عروقي ، وليست مدينة إلا وفيها عرق منها ، فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أمرني ، فحركت عرقي ذلك فتزلزلت تلك المدينة.
قال : يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله ، فقال : إن شأن ربنا لعظيم ، وإن من ورائي مسيرة خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضها بعضاً لولا ذلك لأحرقت من نار جهنم ، والعياذ بالله منها.
وذكر أهل الحكمة أن مجموع ما عرف في الأقاليم السبعة من الجبال مائة وثمانية وسبعون جبلاً منها ما طوله عشرون فرسخاً.
ومنها : مائة فرسخ إلى ألف فرسخ.
وفي "زهرة الرياض" : أول جبل
232
نصب على وجه الأرض أبو قيس وعدد الجبال ستة آلاف وستمائة وثلاثة وسبعون جبلاً سوى التلول.
وجعل الله في الجبال خصائص منها : أن تجر البرودة إلى نفسها ، وجعلها خزائن المياه والثلوج تدفعها بأمر الخالق إلى الخلق بالمقادير لكل أرض قدر معلوم على حسب استعدادها.
ومنها : خلق الأودية لمنافع العباد وأودع فيها أنواع المعادن من الذهب والفضة والحديد ، وأنواع الجواهر ، وهي خزانة الله وحصنه ، ودليل على قدرته وكمال حكمته ، وهي سجن الوحوش والسباع ليلاً وشرف الله الجبال بعرض الأمانة عليها.
وفيها التسبيح والخوف والخشية وجعلها كراسي أنبيائه عليهم السلام كأحد لنبينا والطور لموسى وسرنديب لآدم والجودي لنوح صلوات الله على نبينا وعليهم أجمعين.
وكفى شرفاً بذلك وأنها بمنزلة الرجال في الأكوان.
يقال للرجل الكامل : جبل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/177)
رأى بعض الأولياء مناماً في الليلة التي هلك فيها رجال بغداد على يد هولاكو خان أن جبال العراقين ذهبت من وجه الأرض بهبوب الرياح المظلمة على بغداد ، فوصل الخبر أن هولاكو خان قد دخل مدينة بغداد ، وقتل من الرجال الأولياء والعلماء والصلحاء والأمراء ، وسائر الناس ما لا يحصى عدداً ، ولذا قال بعضهم : رواسي الجبال أوتاد الأرض في الصورة والأولياء ، أوتاد الأرض في الحقيقة ، فكما أن الجبال مشرفة على سائر الأماكن ، كذلك الأولياء مشرفون على سائر الخلائق دل عليه قوله : {مِن فَوْقِهَا} يعني : من فوق العامة ، فكما أن جبل قاف مشرف على كل جبل كذلك القطب الغوث الأعظم مشرف على كل ولي ، وبه قوام الأولياء والرواسي دونه.
ومن خواص الأولياء من يقال لهم الأوتاد ، وهم أربعة : واحد يحفظ المشرق بإذن الله تعالى ، ويقال له : عبد الحي ، وواحد يحفظ المغرب ، ويقال له : عبد العليم.
وواحد يحفظ الشمال ، ويقال له : عبد المريد.
وواحد يحفظ الجنوب ، ويقال له : عبد القادر.
وكان الشافعي رحمه الله في زمانه من الأوتاد الأربعة على ما نصّ عليه الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في "الفتوحات".
وببركات الأولياء يأتي المطر من السماء ويخرج النبات من الأرض وبدعائهم يندفع البلاء عن الخلق ، وأن حياتهم ومماتهم سواء ، فإنهم ماتوا عن أوصاف وجودهم بالاختيار قبل الموت بالاضطرار فهم أحياء على كل حال ولذا قيل :
مشو بمرك زامداد اهل دل نوميد
كه خواب مردم آكاه عين بيداريست
{وَبَـارَكَ فِيهَا} ؛ أي : قدر بأن يكثر خير الأرض بأن يخلق أنواع الحيوان التي من جملتها الإنسان وأصناف النبات التي منها معايشهم ببذر وغيره.
{وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} : القوت من الرزق ما يمسك الرمق ويقوم به بدن الإنسان ، يقال : قاته يقوته إذا أطعمه قوته ، والمقيت : المقتدر الذي يعطي كل أحد قوته.
ومن "بلاغات الزمخشري" : إذا حصلتك ياقوت هان عليّ الدر والياقوت.
والمعنى : حكم تعالى بالفعل بأن يوجد فيما سيأتي لأهل الأرض من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة.
فالمراد : بأقوات الأرض : أرزاق سكانها بمعنى قدّر أقوات أهلها على حذف المضاف ، بأن عين لكل نوع ما يصلحه ويعيش به.
(ويا براى اهل هر موضعى از زمين روزى مقدر كرد جون كندم وجو وبرنج وخرما وكوشت وامثال آن هريك ازينها غالب اقوات بلداست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وقال بعض العارفين : كل خلق لهم عنده تعالى رزق
233
مخصوص ، فرزق الروحانيين المشاهدة ورزق الربانيين المكاشفة ورزق الصادقين المعرفة ورزق العارفين التوحيد ورزق الأرواح الروح ورزق الأشباح الأكل والشرب.
وهذه الأقوات تظهر لهم من الحق في هذه الأرض التي خلقت معبداً للمطيعين ومرقداً للغافلين :
جلوة تقدير درزندان كل دارد مراد
ورنه بالا تربود از نه فلك جولان من
{فِى أَرْبَعَةِ} أيام من أيام الآخرة ، أو من أيام الدنيا كما سبق ، وهو متعلق بحصول الأمور المذكورة ، لا بتقديرها ؛ أي : قدر حصولها في يومين يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء على ما سيأتي.
وإنما قيل : في أربعة أيام ؛ أي : تتمة أربعة أيام بالفذلكة ، ومجموع العدد ؛ لأنه باليومين السابقين يكون أربعة أيام ؛ كأنه قيل : نصب الراسيات ، وتقدير الأقوات وتكثير الخيرات في يومين آخرين بعد خلق الأرض في يومين ، وإنما لم يحمل الكلام على ظاهره ، بأن يجعل خلق الأرض في يومين ، وما فيها في أربعة أيام ؛ لأنه قد ثبت أن خلق السماوات في يومين ، فيلزم أن يكون خلق المجموع في ثمانية أيام ، وليس كذلك ؛ فإنه في ستة أيام على ما تكرر ذكره في القرآن.
وذكر في "البرهان" : إنما لم يذكر اليومين على الانفراد لدقيقة لا يهتدي إليها كل أحد ، وهي أن قوله : {خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ} صلة الذي {وَتَجْعَلُونَ لَه أَندَادًا} عطف على تكفرون.
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} عطف على قوله : {خَلَقَ الارْضَ} .
وهذا ممتنع في الإعراب لا يجوز في الكلام ، وهو في الشعر من أقبح الضرورات لا يجوز أن يقول : جاءني الذي يكتب ، وجلس ويقرأ ؛ لأنه لا يحال بين صلة الموصول ، وما يعطف عليه بأجنبي من الصلة ، فإذا امتنع هذا لم يكن بد من إضمار فعل يصح الكلام به ومعه ، فتضمن خلق الأرض بعد قوله ذلك رب العالمين خلق الأرض ، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ليقع هذا كله في أربعة أيام.
انتهى.
(8/178)
وقال غيره : {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} : عطف على خلق ، وحديث لزوم الفصل بجملتين خارجتين عن خيز الصلة مدفوع بأن الأولى متحدة بقوله تعالى : {تَكْفُرُونِ} ، فهو بمنزلة الإعادة له ، والثانية : اعتراضية مقررة لمضمون الكلام بمنزلة التأكيد ، فالفصل بهما كلا فصل ، فالوجه في الجميع دون الانفراد ما سبق.
{سَوَآءً} مصدر مؤكد لمضمر هو صفة لأيام ؛ أي : استوت تلك الأيام سواء ؛ أي : استواء يعني في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان.
{لِّلسَّآاـاِلِينَ} متعلق بمحذوف تقديره هذا الحصر في الأربعة للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها القائلين في كم خلقت الأرض ، وما فيها فالسؤال استفتائي ، واللام للبيان أو بقدّر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال في "بحر العلوم" : وهو الظاهر ؛ أي : قدر فيها أقواتها لأجل السائلين ؛ أي : الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين فإن أهل الأرض كلهم طالبون للقوت محتاجون إليه ، فالسؤال استعطائي واللام للأجل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا رديفه يقول : "خلق الله الأرواح قبل الأجسام بأربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة سواء لمن سأل ، ولمن لم يسأل وأنا من الذين لم يسألوا الله الرزق ومن سأل فهو جهل".
وهذا لا يزيد الرزق بالسؤال ولا ينقص ، وفيه تأديب لمن لم يرض بقسمته :
كشاد عقده روزى بدست تقديراست
مكن زرزق شكايت از ين وآن زنهار
234
وفي الحديث : "من جاع أو احتاج فكتمه عن الناس كان حقاً على الله أن يفتح له رزق سنة من حلال".
فالعمدة الصبر وترك الشكاية والتوكل والاشتغال بالذكر.
قال أنس رضي الله عنه : خرجت مع النبي عليه السلام إلى شعب في المدينة ومعي ماء لطهوره ، فدخل النبي عليه السلام وادياً ، ثم رفع رأسه وأومأ إليّ بيده أن أقبل فأتيته ، فدخلت ، فإذا بطير على شجرة ، وهو يضرب بمنقاره ، فقال عليه السلام : "هل تدري ما يقول".
قلت : لا.
قال : "يقول اللهم أنت العدل الذي لا تجور حجبت عني بصري ، وقد جعت فأطعمني" فأقبلت جرادة ، فدخلت بين منقاره ، ثم جعل يضرب منقاره بمنقاره ، فقال عليه السلام : "أتدري ما يقول" قلت : لا فقال : "من توكل على الله كفاه ومن ذكره لا ينساه" فقال عليه السلام : "يا أنس من ذا الذي يهتم للرزق بعد ذلك اليوم الرزق أشد طلباً لصاحبه من صاحبه له".
قال الصائب :
رزق اكربر آدمى عاشق نمى باشد جرا
از زمين كندم كريبان جاك مى آيدجرا
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} شروع في بيان كيفية التكوين إثر بيان كيفية التقدير ، ولعل تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وأهلها لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين ، وترتب مبادي معايشهم قبل خلقهم مما يحملهم على الإيمان ويزجرهم عن الكفر والطغيان.
وبيان ثم يجيء بعد تمام الآيات ، والاستواء ضد الاعوجاج من قولهم استوى العود إذا اعتدل واستقام حمل في هذا المقام على معنى القصد والتوجه ؛ لأن حقيقته من صفات الأجسام وخواصها ، والله تعالى متعال عنها.
والمعنى : ثم قصد نحو السماء بإرادته ومشيئته قصداً سوياً وتوجه إليه توجهاً لا يلوي على غيره ؛ أي : من غير إرادة خلق شيء آخر يضاهي خلقها ، يقال : استوى إلى مكان كذا كالسهم المرسل إذا توجه إليه توجهاً مستوياً من غير أن يلوي على غيره.
وفي ثم إظهار كمال العناية بإبداع إذا توجه إليه توجهاً مستوياً من غير أن يلوي على غيره.
ومن ثم إظهار كمال العناية بإبداع العلويات.
{وَهِىَ دُخَانٌ} : الواو للحال ، والضمير إلى السماء ؛ لأنها من المؤنثات السماعية والدخان أجزاء أرضية لطيفة ترتفع في الهواء مع الحرارة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي "المفردات" : الدخان العثان المستصحب للهب والبخار أجزاء مائية رطبة ترتفع في الهواء مع الشعاعات الراجعة من سطوح المياه.
والمعنى : والحال أن السماء دخان ؛ أي : أمر ظلماني يعد كالدخان ، وهو المرتفع من النار ، فهو من قبيل التشبيه البليغ وإطلاق السماء على الدخان باعتبار المآل.
فال الراغب قوله تعالى : {وَهِىَ دُخَانٌ} ؛ أي : هي مثل الدخان إشارة إلى أنها لا تماسك بها انتهى.
عبر بالدخان عن مادة السماء يعني : الهيولى والصورة الجسمية ، أو عن الأجزاء المتصغرة التي ركبت هي منها ، يعني : الأجزاء التي لا تتجزأ وإظلامها إبهامها قبل حلول المنور كما في "الحواشي السعدية" ، ولما كانت أول حدوثها مظلمة صحت تسميتها بالدخان تشبيهاً لها به من حيث أنها أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور كالدخان ، فإنه ليس له صورة تحفظ تركيبه كما في "حواشي ابن الشيخ".
وقال بعضهم : وهي دخان ؛ أي : دخان مرتفع من الماء يعني : السماء بخار الماء كهيئة الدخان.
وبالفارسية : (وحال آنكه دخان بود يعني بخار آب بهيآت دخان).
كما في "تفسير الكاشفي".
(8/179)
يروي : أن أول ما خلق الله العرش على الماء ، والماء ذاب من جوهرة خضراء ، أو بيضاء فإذا بها ثم ألقى فيها ناراً ، فصار الماء يقذف بالغثاء ، فخلق الأرض من الغثاء ، ثم استوى إلى الدخان الذي صار من الماء ،
235
فسمكه سماء ثم بسط الأرض ، فكان خلق الأرض قبل خلق السماء ، وبسط الأرض وإرساء الجبال وتقدير الأرزاق وخلق الأشجار والدواب والأنهار بعد خلق السماء لذلك قال الله تعالى : {وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ} (النازعات : 30).
هذا جواب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لنافع بن الأزرق الحروري :
كفى را منبسط سازدكه اين فرشيست بس لايق
بخاريرا برافرازدكه اين سقفيست بس زيبا
ازان سقف معلق حسن تصويرش بود ظاهر
بدين فرش مطبق لطف تدبيرش بودبيدا
{فَقَالَ لَهَا} : أي للسماء ، {وَلِلارْضِ} التي قدر وجودها ووجود ما فيها.
{ائْتِيَا} ؛ أي : كونا واحدثا على وجه معين ، وفي وقت مقدر لكل منكما هو عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقاً فعلياً بطريق التمثيل بعد تقدير أمرهما من غير أن يكون هناك آمر ومأمور كما في قوله : كن بأن شبه تأثير قدرته فيهما وتأثرهما عنها بأمر آمر نافذ الحكم يتوجه نحو المأمور المطيع ، فيتمثل أمره ، فعبر عن الحالة المشبهة بما يعبر به عن الحالة المشبهة بها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} مصدران واقعان في موقع الحال.
والطوع : الانقياد ويضاده الكره ؛ أي : حال كونكما طائعتين منقادتين أو كارهتين ؛ أي : شئتما ذلك أو أبيتما ، وهو تمثيل لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما ، واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع والكره لهما ؛ لأنهما من أوصاف العقلاء ذوي الإرادة والاختيار والأرض والسماء من قبيل الجمادات العديمة الإرادة والاختيار.
{قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} ؛ أي : منقادين ، وهو تمثيل لكمال تأثرهما بالذات عن القدرة الربانية ، وحصولهما كما أمرتا به وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جارياً على مقتضى الحكمة البالغة ، فإن الطوع منبىء عن ذلك ، والكره موهم لخلافه.
فإن قلت : إنما قيل : طائعين على وزن جمع العقلاء الذكور لا طائعتين حملاً على اللفظ ، أو طائعات حملاً على المعنى ؛ لأنها سماوات وأرضون.
قلت : باعتبار كونهما في معرض الخطاب والجواب ، فلما وصفتا بأوصاف العقلاء عوملتا معاملة العقلاء وجمعتا لتعدد مدلولهما ونظيره ساجدين في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام : {إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ} (يوسف : 4).
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنه بالقدرة الكاملة أنطق السماء والأرض المعدومة بعد أن أسمعها خطاب ائتيا طوعاً أو كرهاً ، لتجيبا وقالتا : أتينا طائعين ، وإنما ذكرهما بلفظ التأنيث في البداية ؛ لأنهما كانتا معدومتين مؤنثتين ، وإنما ذكرهما في النهاية بلفظ التذكير ؛ لأنه أحياهما وأعقلهما ، وهما في العدم ، فأجابا بقولهما : أتينا طائعين جواب العقلاء.
وفي حديث : "أن موسى عليه السلام قال : يا رب لو أن السماوات والأرض حين قلت لهما : ائتيا طوعاً أو كرهاً عصتاك ما كانت صانعاً بهما.
قال : كنت آمر دابة من دوابي فتبتلعهما.
قال : يا رب ، وأين تلك الدابة؟.
قال : في مرج من مروجي.
قال : وأين ذلك المرج؟ قال : في علم من علمي".
قال بعضهم : أجاب ونطق من الأرض أولاً موضع الكعبة ، ومن السماء ما بحذائها ، فجعل الله تعالى لها حرمة على سائر الأرض حتى كانت كعبة
236
الإسلام.
وقبلة الأنام.
ويقال : أجابه من الأرض أولاً الأردن من بلاد الشام ، فسمي لسان الأرض ، وأما أول بلدة بنيت على وجه الأرض ، فهي بلخ بخراسان بناها كيومرث ، ثم بنى الكوفة ابنه هوسنك وكيومرث من أولاد مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث.
كان عمره سبعمائة سنة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أصل طينة النبي عليه السلام من سرة الأرض بمكة ، فهذا يشعر بأنه ما أجاب من الأرض إلا ذرة المصطفى ، وعنصر طينة المجتبى عليه السلام ، فلهذا دحيت الأرض من تحت الكعبة ، وكانت أم القرى ، فهو عليه السلام أصل الكل في التكوين روحاً وجسداً.
والكائنات بأسرها تبع له ، ولهذا يقال : النبي الأمي ؛ لأنه أم الكل وأسه.
فإن قلت : ورد في الخبر الصحيح : "تربة كل شخص مدفنه" ، فكان يقتضي أن يكون مدفنه عليه السلام بمكة حيث كانت تربته منها.
(8/180)
قلت : لما تموج الماء رمى ذلك العنصر الشريف والزبد اللطيف ، والجوهر المنيف ، فوقع جوهره عليه السلام إلى ما يحاذي تربته بالمدينة المنورة ، وفي تاريخ مكة أن عنصره الشريف كان في محله يضيء إلى وقت الطوفان ، فرماه الموج في الطوفان إلى محل قبره الشريف لحكمة إلهية وغيرة ربانية يعرفها أهل الله تعالى ، ولذا لا خلاف بين علماء الأمة في أن ذلك المشهد الأعظم ، والمرقد الأكرم أفضل من جميع الأكوان من العرش والجنان ، فذهب الإمام مالك واستشهد بذلك.
وقال : لا أعرف أكبر فضل لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما من أنهما خلقا من طينة رسول الله عليه السلام لقرب قبرهما من حضرة الروضة المقدسة المفضلة على الأكوان بأسرها.
وكان عليه السلام مكياً مدنياً وحنينه إلى مكة لتلك المناسبة وتربته ، وبالمدينة الحكمة.
قال الإمام السهروردي رحمه الله : لما قبض عزرائيل عليه السلام قبضة الأرض ، وكان إبليس قد وطىء الأرض بقدميه ، فصار بعض الأرض بين قدميه وبعضها موضع أقدامه ، فخلقت النفوس الأمارة من مماس قدم إبليس ، فصارت النفوس الأمارة مأوى الشرور ، وبعض الأرض لم يصل إليها قدم إبليس ، فمن تلك التربة أصل طينة الأنبياء والأولياء عليهم السلام ، وكانت طينة رسول الله موضع نظر الله من قبضة عزرائيل لم تمسها قدم إبليس ، فلم يصبه حظ جهل النفس الأمارة ، بل صار منزوع الجهل موفراً حظه من العلم فبعثه الله بالعلم والهدى.
وانتقل من قلبه الشريف إلى القلوب الشريفة ، ومن نفسه القدسية المطمئنة ، فوقعت المناسبة في أصل طهارة الطينة ، فكل من كان أقرب مناسبة في ذلك الأصل كان أوفر حظاً من القبول والتسليم والكمال الذاتي ، ثم بعض من كان أقرب مناسبة إلى النبي عليه السلام في الطهارة الذاتية ، وأوفر حظاً من ميراثه اللدني قد أبعد في أقاصي الدنيا مسكناً ومدفناً ، وذلك لا ينافي قربه المعنوي ، فإن إبعاده في الأرض كإبعاد النبي عليه السلام من مكة إلى المدينة بحسب المصلحة.
قال الحافظ :
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
كرجه دوريم بياد تو قدح مينو شيم
بعد منزل نبود در سفر روحانى
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ * فَقَضَـاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ وَحِفْظًا ذَالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـاعِقَةً مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} .
{فَقَضَـاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ} تفسير وتفصيل لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر وجوابه لا أنه فعل مرتب على تكوينها ، والضمير للسماء على المعنى ، فإنه في معنى الجمع لتعدد مدلوله ، فسبع سماوات حال ، أو هو ؛ أي : الضمير مبهم يفسره سبع سماوات كضمير ربه رجلاً ، فسبع سماوات تمييز.
والمعنى : خلقهن حال كونهن سبع سماوات ، أو من جهة سبع سماوات خلقاً
237
إبداعياً ؛ أي : على طريق الاختراع لا على مثال ، وأتقن أمرهم بأن لا يكون فيهن خلل ونقصان حسبما تقضيه الحكمة.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن سماء القلب سبعة أطوار كما قال تعالى : {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (نوح : 14) ، فالطور الأول من القلب يسمى الكركر ، وهو محل الوسوسة.
والثاني : الشغاف ، وهو مثوى المحبة كما قال تعالى : {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} (يوسف : 30) ، والسابع : حب القلب ، وهو مورد التجلي ، وموضع الكشوف ، مركز الأسرار ، ومهبط الأنوار ومهبط الأنوار.
{فِى يَوْمَيْنِ} في وقت مقدر بيومين ، وهما يوم الخميس ويوم الجمعة خلق السماوات يوم الخميس وما فيها من الشمس والقمر والنجوم في يوم الجمعة ، وقد بين مقدار زمان خلق الأرض وخلق ما فيها عند بيان تقديرهما ، فكان خلق الكل في ستة أيام حسبما نص عليه في مواضع من التنزيل.
{وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} : عطف على فقضاهن.
والإيحاء : عبارة عن التكوين كالأمر مقيد بما قيد به المعطوف عليه في الوقت.
قال الراغب : يقال للإبداع أمر ، وقد حمل على ذلك في هذه الآية.
والمعنى : خلق في كل منها ما فيها من الملائكة والنيرات ، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله ، وأظهر ما أراده كما قال قتادة والسديّ.
أو أوحى ؛ أي : ألقى إلى أهل كل منها أوامره وكلفهم ما يليق بهم من التكاليف ، فمنهم قيام لا يقعدون إلى قيام الساعة ، ومنهم سجود لا يرفعون رؤوسهم أبداً إلى غير ذلك ، فهو بمعناه ومطلق عن القيد المذكور والآمر هو الله والمأمور أهل كل سماء ، وأضيف الأمر إلى نفس السماء للملابسة ؛ لأنه إذا كان مختصاً بالسماء ، فهو أيضاً بواسطة أهلها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/181)
{وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ} التفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية بالأمر ؛ أي : بكواكب تضيء في الليل كالمصابيح ؛ فإنها ترى كلها متلألئة على السماء الدنيا ؛ كأنها فيها.
بالفارسية : (وبياراستيم آسمان نزديكتر بجراغها يعنى ستاركان كه جوجراغ درخشان باشند).
فالمراد بالمصابيح جميع الكواكب النيرة التي خلق الله في السماوات من الثوابت والسيارات ، وليس كلها في السماء الدنيا ، وهي التي تدنو وتقرب من أهل الأرض ، فإن كل واحد من السيارات السبع في فلك ، والثوابت مركوزة في الفلك الثامن إلا أن كونها مركوزة فيما فوق السماء الدنيا لا ينافي كونها زينة لها ؛ لأنا نرى جميع الكواكب كالسرج الموقدة فيها ، وقيل : إن في كل سماء كواكب تضيء.
وقيل : بل الكواكب مختصة بالسماء الدنيا.
ويقال : زين السماء بأنوار الكروبيين كما زين الأرض بالأنبياء والأولياء.
وزين قلوب العارفين بأنوار المعرفة ، وجعل فيها مصابيح الهداية وضياء التوحيد وزين جوارح المؤمنين بالخدمة وزين الجنة بنور مناجاة العارفين وزهرة خدمة العارفين.
نورى از بيشانى صاحب دلان در يوزه كن
شمع خودرا مى برى دل مرده زين محفل جرا
{وَحِفْظًا} مصدر مؤكد لفعل معطوف على زينا ؛ أي : وحفظنا السماء الدنيا من الآفات ، ومن المسترقة حفظاً ، وهي الشياطين الذين يصعدون السماء لاستراق السمع فيرمون بشهاب صادر من نار الكواكب منفصل عنها ، ولا يرجمون بالكواكب أنفسها لأنها قارة في الفلك على حالها ، وما ذلك إلا كقبس يؤخذ من النار باقية بحالها لا ينتقص منها شيء ، والشهاب شعلة نار ساقطة.
{ذَالِكَ} الذي ذكر بتفاصيله.
{تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} المبالغ في القدرة ، فله بليغ قدرة على كل مقدور ، والمبالغ في العلم فله بليغ علم بكل معلوم.
قال الكاشفي : {ذَالِكَ} : (آنجه
238
ياد كرده از بدائع آفرينش).
{تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} : (آفريدن واندازه كردن غالبست كه در ملك خود بقدرت هرجه خواهد كند دانا كه هرجه سازد از روى حكمت است).
فعلى هذا التفصيل لا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء ، وإنما الترتيب بين التقدير والإيجاد ، وإما على تقدير كون الخلق ، وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة ، فيكون خلق الأرض ، وما فيها متقدماً على خلق السماء ، وما فيها وعليه إطباق أكثر أهل التفسير ويؤيده قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} (البقرة : 29).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وقيل : إن خلق جرم الأرض مقدم على خلق السماوات لكن دحوها وخلق ما فيها مؤخر لقوله تعالى : {وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ} (النازعات : 30) ، ثم هذا على تقدير كون كلمة ، ثم للتراخي الزماني.
وإما على تقدير كونها للتراخي الرتبي على طريق الترقي من الأدنى إلى الأعلى يفضل خلق السماوات على خلق الأرض ، وما فيها كما جنح إليه الأكثرون ، فلا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب كما في الوجه الأول.
قال الشيخ النيسابوري : خلق السماء قبل خلق الأرض ليعلم أن فعله خلاف أفعال الخلق ؛ لأنه خلق أولاً السقف ، ثم الأساس ورفعها على غير عمد دلالة على قدرته وكمال صنعه.
وروي : أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الإثنين ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ، وخلق السماوات وما فيهن يوم الخميس ويوم الجمعة ، وخلق آدم في آخر ساعة منه ، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة ، وسمي الجمعة لاجتماع المخلوقات وتكاملها ، ولما لم يخلق الله في يوم السبت شيئاً امتنع بنوا إسرائيل من الشغل فيه كما في "فتح الرحمن".
والظاهر أنه ينبغي أن يكون المراد به أنه تعالى خلق العالم في مدة لو حصل فيها فلك وشمس وقمر ، لكان مبدأ تلك المدة أول يوم الأحد وآخرها آخر يوم الجمعة كما في "حواشي ابن الشيخ" ، وبه يندفع ما قال سعدي المفتي فيه إشكال لا يخفى ، فإنه لا يتعين اليوم قبل خلق السماوات والشمس فضلاً عن تعينه وتسميته باسم الخميس والجمعة.
وقال ابن عطية : والظاهر من القصص في طينة آدم أن الجمعة التي خلق فيها آدم لقد تقدمتها أيام وجمع كثيرة ، وأن هذه الأيام التي خلق الله فيها المخلوقات هي أول الأيام ؛ لأنه بإيجاد الأرض والسماء والشمس وجد اليوم.
وفي الحديث في خلق يوم الجمعة : "إنه اليوم الذي فرض على اليهود والنصارى فأضلته وهداكم الله تعالى" ؛ أي : أمروا بتعظيمه والتفرغ للعبادة فيه ، فاختار اليهود من عند أنفسهم بدله السبت ؛ لأنهم يزعمون أنه اليوم السابع الذي استراح فيه الحق من خلق السماوات والأرض ، وما فيهن من المخلوقات ؛ أي : بناء على أن أول الأسبوع الأحد ، وأنه مبدأ الخلق ، وهو الراجح.
(8/182)
وهذا كلام بعضهم : أول الأسبوع الأحد لغة وأوله السبت عرفاً ؛ أي : في عرف الفقهاء في الإيمان ونحوها واختارت النصارى من قبل أنفسهم بدل يوم الجمعة يوم الأحد ؛ أي : بناء على أنه أول يوم ابتدأ الله فيه بإيجاد المخلوقات ، فهو أولى بالتعظيم.
وقد جاء في المرفوع : "يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله" فهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان.
وجاء : "إن الله تعالى خلق يوماً ، فسماه الأحد ثم خلق ثانياً ، فسماه الإثنين ، ثم خلق ثالثاً ، فسماه الثلاثاء ، ثم خلق رابعاً ، فسماه الأربعاء ، ثم خلق خامساً ، فسماه الخميس".
239
وبه يندفع ما قال السهيلي تسمية هذه الأيام طارئة ، ولم يذكر الله منها في القرآن إلا يوم الجمعة والسبت ، والعرب أخذوا معاني الأسماء من أهل الكتاب ، فألقوا عليها هذه الأسماء اتباعاً لهم ، فلم يسمها رسول الله عليه السلام بالأحد والإثنين إلى غير ذلك إلا حاكياً للغة قومه لا مبتدأ بتسميتها.
هذا كلام السهيلي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي السبعيات أكرم الله موسى بالسبت وعيسى بالأحد وداود بالإثنين وسليمان بالثلاثاء ويعقوب بالأربعاء وآدم بالخميس ومحمداً صلوات الله عليه وعليهم بالجمعة.
وهذا يدل على أن اليهود لم يختاروا يوم السبت والنصارى يوم الأحد من عند أنفسهم ، فليتأمل الجمع.
وقد سئل صلى الله عليه وسلّم عن يوم السبت ، فقال : "يوم مكر وخديعة" ؛ لأنه اليوم الذي اجتمعت فيه قريش في دار الندوة للاستشارة في أمره عليه السلام.
وسئل عن يوم الأحد ، فقال : "يوم غرس وعمارة" ؛ لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الدنيا وعمارتها.
وسئل عن يوم الإثنين ، فقال : "يوم سفر وتجارة" ؛ لأن فيه سافر شعيب عليه السلام فاتجر فربح في تجارته ، وسئل عن يوم الثلاثاء ، فقال : "يوم دم" ؛ لأن فيه حاضت حواء وقتل ابن آدم أخاه ، وفيه قتل جرجيس وزكريا ويحيى ولده وسحرة فرعون وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وبقرة بني إسرائيل.
ولهذا نهى النبي عليه السلام عن الحجامة يوم الثلاثاء أشد النهي ، وقال : "فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم".
وفيه نزل إبليس الأرض ، وفيه خلقت جهنم ، وفيه سلط الله ملك الموت على أرواح بني آدم ، وفيه ابتلي أيوب عليه السلام".
وفي بعض الروايات : ابتلي يوم الأربعاء.
وفي "روضة الأخبار" قيل : كان الرسم في زمن أبي حنيفة أن يوم البطالة يوم السبت في القراءة ، لا يقرأ في يوم السبت ، ثم في زمن الخصاف كان متردداً بين الإثنين ويوم الثلاثاء.
وسئل عن يوم الأربعاء قال : "يوم نحس أغرق فيه فرعون وقومه وأهلك عاد وثمود وقوم صالح" ، وآخر أربعاء في الشهر أشأم.
وجاء : "يوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء".
وورد في الآثار النهي عن قص الأظفار يوم الأربعاء ، وأنه يورث البرص ، وقد تردد فيه بعض العلماء ، فابتلي نعوذ بالله.
وفي حديث : "لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء" ، وكره بعضهم عيادة المريض فيه ويحمد فيه الاستحمام ، والدعاء مستجاب فيه بعد الزوال قبل وقت العصر ؛ لأنه عليه السلام استجيب له الدعاء على الأحزاب في ذلك الوقت ، وقد بني على موضع الدعاء مسجد في المدينة يقال له مسجد الاستجابة يزار الآن.
وفي الحديث : "ما من شيء بدىء يوم الأربعاء إلا وقد تم" ، فينبغي البداءة بنحو التدريس فيه ، وكان صاحب الهداية يوقف ابتداء الأمور على الأربعاء.
ويروي هذا الحديث ، ويقول كان هكذا يفعل أبي ويرويه عن شيخه أحمد بن عبد الرشيد.
وسئل عن يوم الخميس ، فقال : "يوم قضاء الحوائج" ؛ لأن فيه دخل إبراهيم عليه السلام على ملك مصر ، فأكرمه وقضى حاجته وأعطاه هاجر ، وهو يوم الدخول على السلطان.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي الحديث : "من احتجم يوم الخميس فحم مات في ذلك المرض".
وسئل عن يوم الجمعة ، فقال : "يوم نكاح وخطبة" أيضاً نكح فيه آدم حواء ويوسف زليخا وموسى بنت شعيب وسليمان بلقيس ، وصح أنه عليه السلام نكح فيه خديجة وعائشة رضي الله عنهما.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : "من قلم أظفاره يوم الجمعة أخرج الله منه داء وأدخل فيه شفاء".
وقال الأصمعي : دخلت على الرشيد يوم الجمعة ، وهو
240
يقلم الأظفار ، فقال : قلم الأظفار يوم الجمعة من السنة وبلغني أنه ينفي الفقر ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، وأنت تخشى الفقر ، فقال : وهل أحد أخشى للقفر مني ، وعن عليّ رضي الله عنه رفعه من صام يوم الجمعة صبراً واحتساباً أعطي عشرة أيام غر زهر لا تشاكلهن أيام الدنيا" ، ومن سالت من عينه قطرة يوم الجمعة قبل الرواح أوحي إلى ملك الشمال : أطو صحيفة عبدي ، فلا تكتب عليه خطيئة إلى مثلها من الجمعة الأخرى.
قال بعض العارفين شرف الأزمنة وفضيلتها يكون بحسب شرف الأحوال الواقعة فيها من حضور المحبوب ومشاهدته.
قال عمر بن الفارض قدس سره : ()
وعندي عيدي كل يوم أرى به
جمال محياها بعين قريرة
وكل الليالي ليلة القدر إن دنت
كما كل أيام اللقا يوم جمعة
(8/183)
وليوم الجمعة خواص تجيء في محلها إن شاء الله تعالى.
وفي الحديث : "أكثروا الصلاة عليَّ في الليلة الزهراء واليوم الأغر ، فإن صلاتكم تعرض عليَّ فأدعو لكم وأستغفر.
والمراد بالليلة الزهراء ليلة الجمعة لتلألؤ أنوارها ، وباليوم الأغر يوم الجمعة لبياضه ونورانيته.
وفي الحديث : "من صلى عليّ في يوم الجمعة وليلة الجمعة مائة مرة قضى الله له مائة حاجة سبعين من حوائج الدنيا وثلاثين من حوائج الآخرة ، ثم يوكل الله بذلك ملكاً يدخله عليّ في قبري كما تدخل عليكم الهدايا يخبرني بمن صلى عليّ باسمه ونسبه إلى عشيرته ، فأثبته عندي في صحيفة بيضاء" ؛ لأن علمي بعد موتي كعلمي في حياتي.
(بروز جمعه درود محمد عربي.
زروى قدر زايام ديكر افزونست.
زاختصاص كه اورا بحضرت نبويست.
درو ثواب درود از قياس بيرونست.
ثم إن الليل والنهار خزانتان ما أودعتهما ادتاه) ، وأنهما يعملان فيك فاعمل فيهما جعلنا الله وإياكم من المراقبين للأوقات.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا} : متصل بقوله : قل أئنكم إلخ ، فإن أعرض كفار قريش عن الإيمان بعد هذا البيان ، وهو بيان خلق الأجرام العلوية والسفلية وما بينهما.
{فَقُلْ} : لهم {أَنذَرْتُكُمْ} ؛ أي : أنذركم وأخوفكم وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{صَـاعِقَةُ} ؛ أي : عذاباً هائلاً شديد الوقع كأنه صاعقة في الأصل قطعة من النار تنزل من السماء فتحرق ما أصابته استعيرت هنا للعذاب الشديد تشبيهاً له بها في الشدة والهول.
وفي "المفردات" : الصاعقة : الصوت الشديد من الجو ، ثم يكون فيها نار فقط ، أو عذاب أو موت ، وهي في ذاتها شيء واحد.
وهذه الأشياء تأثيرات منها.
وبالفارسية : (صاعقة از عذاب بيهوش سازنده وهلاك كنند).
{مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ} : (مانند عذاب قوم عاد كه باد صرصر بود).
{وَثَمُودَ} : (وعذاب قوم ثمود كه صيحة جبرائيل عليه السلام بوده) ؛ أي : لم يبق في حقكم علاج إلا إنزال العذاب الذي نزل عليّ من قبلكم من المعاندين المتمردين المعرضين عن الله وطلبه وطلب رضاه ، فهم سلف لكم في التكذيب والجحود والعناد ، وقد سلكتم طريقهم ، فتكونون كأمثالهم في الهلاك.
قال مقاتل : كان عاد وثمود لابني عم ، وموسى وقارون ابني عم وإلياس واليسع ابني عم وعيسى ، ويحيى ابني خالة.
(وتخصيص اين دو قوم بجهت آنست كه درسفر رحلة الشتاء والصيف بر مواضع اين دو كروه كذشته آثار عذاب مشاهده ميكر دماند).
{إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ} : الظاهر أنه من إطلاق الجمع على المثنى ، فإن الجائي هود إلى عاد
241
وصالح إلى ثمود.
والجملة حال من صاعقة عاد ؛ أي : مثل صاعقتهم كائنة في وقت مجيء الرسل إليهم ، فكذبوهم.
فالمراد كون متعلق الظرف حالاً منها ؛ لأن الصاعقة قطعة نار تنزل من السماء ، فتحرق فهي جثة والزمان كما لا يكون صفة للجثة لا يكون حالاً منها.
{مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} : متعلق بجاءتهم ؛ أي : من جميع جوانبهم واجتهدوا بهم من كل جهة من جهات الإرشاد وطرق النصيحة تارة بالرفق وتارة بالعنف وتارة بالتشويق ، وأخرى بالترهيب ، فليس المراد الجهات الحسية والأماكن المحيطة بهم ، أو من جهة الزمان الماضي بالإنذار عما جرى فيه على الكفار من الوقائع ، ومن جهة الزمان المستقبل بالتحذير عما أعد لهم في الآخرة ، ويحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة كقوله تعالى يأتيها رزقها رغداً من كل مكان ، فيراد بالرسل ما يعم المتقدمين منهم ، والمتأخرين ، أو ما يعم رسل الرسل أيضا ، وإلا فالجائي رسولان ، كما سبق وليس في الإثنين كثرة.
{أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} ؛ أي : بأن لا تعبدوا أيها القوم ؛ أي : يأمرونهم بعبادة الله وحده ، فأن مصدرية ناصبة للفعل وصلت بالنهي كما توصل بالأمر في مثل قوله : أن طهرا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال الكاشفي : (در آمدند ودعوت كردند بانكه مبرستيد مكر خدايرا).
{قَالُوا} استخفافاً برسلهم : {لَوْ شَآءَ رَبُّنَا} ؛ أي : إرسال الرسل ، فإنه ليس هنافي أن تقدر المفعول مضمون جواب الشرط كثير معنى.
{لأنزَلَ مَلَائكَةً} ؛ أي : لأرسلهم بدلكم ولم يتخالجنا شك في أمرهم فآمنا بهم لكن لما كان إرسالهم بطريق الإنزال.
قيل : لأنزل.
{فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِ} على زعمكم ، فهو ليس إقراراً منهم بالإرسال.
{كَـافِرُونَ} .
قال في "بحر العلوم" : الفاء وقعت في جواب شرط محذوف تقديره إذا أنتم بشر مثلنا من غير فضلكم علينا ، ولستم بملائكة ، فإنا لا نؤمن بكم بما جئتم به ، ولا يجب أن يكون ما دخلت عليه فعلاً لجواز دخولها على الجملة الاسمية المركبة من مبتدأ وخبر.
وقال سعدي المفتي : إشارة إلى نتيجة قياسهم الفاسد الاستثنائي نقيض تاليه.(8/184)
قال الكاشفي : (مشركان دربند صورت انبيا مانده از مشاهدة معنى ايشان غافل بودند.
جند صورت بينى اى صورت برست.
هركه معنى ديد ازصورت برست ، ديده صورت برستى را ببند.
تاشوى از نور معنى بهره مند).
روي : أن أبا جهل قال في ملاء من قريش : قد التبس علينا أمر محمد عليه السلام ، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر ، فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره ، فقال عتبة بن ربيعة ، والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر ، وعلمت من ذلك علماً ، وما يخفي عليَّ فأتاه ، فقال : أنت يا محمد خير أم هاشم ، أنت خير أم عبد المطلب ، أنت خير أم عبد الله فبم تشتم آلهتنا وتضللنا ، فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء ، فكنت رئيسنا ، وإن كان بك الباءة ؛ أي : الجماع والشهوة زوجناك عشر نسوة تختارهن من بنات قريش ، وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني به ورسول الله عليه السلام ساكت ، فلما فرغ عتبة قال عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم ، {حم} إلى قوله : مثل صاعقة عاد وثمود ، فأمسك عتبة على فيه عليه السلام وناشده بالرحم.
يعني : (عتبه درشنيدن كلام خداى عز وجل جنان مبهوت ومدهوش كشت كه جاى سخن دروى نماند وبا آخر دست بردهن رسول نهاد وكفت بحق رحم كه نيز بخوانى كه طاقتم برسيد ودرين سخن سر كردان وحيران شدم) ، ورجع إلى أهله متحيراً من أمره عليه السلام ، ولم يرجع
242
إلى قريش ، ولم يخرج ، وكانوا منتظرين لخبره ، فلما احتبس عنهم ، قالوا : ما نرى عتبة إلا قد صباه.
يعني : (صابى ومائل دين محمد شد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
فانطلقوا إليه ، وقالوا : يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت فغضب ، ثم قال : والله لقد كلمته فأجابني بشيء ، والله ما هو شعر ولا كهانة ولا سحر ، ولما بلغ صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب.
(راى من آنست كه اين مردرا فرو كذا ريد بادين خويش وتعرض نرسانيدا كر عرب برودست يابند خود شغل شما كفايت كردند وامر اوبر عرب دست يابد ملك او ملك شماست وعز او عزشماست ابو جهل كفت جنان ميدانم كه سخر او برتو اثر كرده وترا ازحال خود بكردانيده عتبه كفت راى من اينست كه شما هرجه ميخواهيد بكنيد).
فكان من أمرهم الإصرار حتى قتلوا في وقعة بدر وأبى الله إلا أن يتم نوره ، ويظهر دينه ، فما كان إلا ما أراد الله دون ما أرادوا.
{فَأَمَّا عَادٌ} لما كان التفصيل مسبباً عن الإجمال السابق أدخل عليه الفاء السببية (بس آماده كرده وعاديان).
{فَاسْتَكْبَرُوا فِى الأرْضِ} : (در زمين احقاق در بلاد يمن) ؛ أي : تعظموا فيها على أهلها.
{بِغَيْرِ الْحَقِّ} ؛ أي : بغير الاستحقاق للتعظيم وركنوا إلى قوة نفوسهم.
{وَقَالُوا} اغتراراً بتلك القوة الموقوفة على عظم الأجسام.
{مَنْ} : استفهام.
{أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} ، وكان طول كل واحد منهم ثمانية عشر ذراعاً ؛ وبلغ من قوتهم أن الرجل كان يقتلع الصخرة من الجبل ويجعلها حيث شاء وكانوا يظنون أنهم يقدرون على دفع العذاب بفضل قوتهم فخانتهم قواهم لما استمكن منهم بلواهم ، وقد رد الله عليهم بقوله : {أَوَلَمْ يَرَوْا} : (آياندا نستند مغرور شدكان بقوت خود.
) ؛ أي : أغفلوا ولم يعلموا علماً جلياً شبيهاً بالمشاهدة والعيان.
{أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ} ، وخلق الأشياء كلها خصوصاً الأجرام العظيمة كالسماوات والجبال ونحوها ، وإنما أورد في حيز الصلة خلقهم دون خلق السماوات والأرض لادعائهم الشدة في القوة.
{هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ؛ أي : قدرة ؛ لأن قدرة الخالق لا بد وأن تكون أشد من قدرة المخلوق ، إذ قدرة المخلوق مستفادة من قدرة الخالق ، والقوة عبارة عن شدة البنية وصلابتها المضادة للضعف ، ولما كانت صيغة التفضيل تستلزم اشتراك المفضل المفضل عليه في الوصف الذي هو مبدأ اشتقاق أفعل ، ولا اشتراك بينه تعالى وبين الإنسان في هذه القوة ، لكونه منزهاً عنها أريد بها القدرة مجازاً لكونها مسببة عن القوة بمعنى صلابة البنية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَكَانُوا} : (وبودند وقوم عادكه ازروى تعصب).
{بآياتنا} المنزلة على الرسل.
{يَجْحَدُونَ} : الجحود الإنكار مع العلم ؛ أي : ينكرونها ، وهم يعرفون حقيقتها كما يجحد المودع الوديعة ، وينكرها فهو عطف على فاستكبروا ، وما بينهما اعتراض للرد على كلمتهم الشنعاء.
والمعنى : أنهم جمعوا بين الاستكبار وطلب العلو في الأرض ، وهو فسق وخروج عن الطاعة بترك الإحسان إلى الخلق وبين الجحود بالآيات ، وهو كفر وترك التعظيم الحق ، فكانوا فسقة كفرة ، وهذان الوصفان لما كانا أصلي جميع الصفات الذميمة ، لا جرم سلط الله عليهم العذاب ، كما قال :
(8/185)
{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًا أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةًا وَكَانُوا بآياتنا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَـاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} .
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} لتقلعهم من أصولهم ؛ أي : باردة تهلك وتحرق بشدة بردها كإحراق النار بحرها من الصر ، وهو البرد الذي
243
يصر ؛ أي : يجمع ويقبض ؛ أي : ريحاً عاصفة تصر صراً ؛ أي : تصوت في هبوبها من الصرير.
وبالفارسية : (باد صرصر بآ واز مهيب).
قيل : إنها الدبور مقابل القبول ؛ أي : الصبا التي تهب من مطلع الشمس ، فيكون الدبور ما تهب من مغربها ، والصرصر تكرير لبناء الصر.
قال الراغب : الصر الشد ، والصرة ما يعقد فيه الدراهم.
والصرصر : لفظه من الصر.
وذلك يرجع إلى الشد لما في البرودة من التعقيد إذ هي من الفعليات ؛ لأنها كشيفة من شأنها تفريق المتشاكلات وجميع المختلفات.
{فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} : جمع نحسة من نحس نحساً نقيض سعد سعداً كلاهما على وزن علم والنحسان زحل والمريخ.
وكذا رخر شباط وآخر شوال أيضاً من الأربعاء إلى الأربعاء.
وذلك سبع ليال وثمانية أيام ، يعني كانت الريح من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر ، وهو آخر الشهر ، ويقال لها : أيام الحسوم ، وسيأتي تفصيلها في سورة الحاقة ، وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وقال الضحاك : أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين ودامت الرياح عليهم من غير مطر.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه إذا أراد الله بقوم خيراً أرسل عليهم المطر وحبس عنهم كثرة الرياح ، وإذا أراد بقوم شراً حبس عنهم المطر وسلط عليهم كثرة الرياح".
والمعنى : في أيام منحوسات مشؤمات ليس فيها شيء من الخير ، فنحوستها أن الله تعالى أدام تلك الرياح فيها على وتيرة وحالة واحدة بلا فتور ، وأهلك القوم بها لا كما يزعم المنجمون من أن بعض الأيام قد يكون في حدّ ذاته نحساً وبعضها سعداً استدلالاً بهذه الآية ؛ لأن أجزاء الزمان متساوية في حدّ ذاتها ، ولا تمايز بينها إلا بحسب تمايز ما وقع فيها من الطاعات والمعاصي ، فيوم الجمعة سعد بالنسبة إلى المطيع نحس بالنسبة إلى العاصي ، وإن كان سعداً في حدّ نفسه.
قال رجل عند الأصمعي فسد الزمان ، فقال الأصمعي : ()
إن الجديدين في طول اختلافهما
لا يفسدان ولكن يفسد الناس
وقيل : ()
نذم زماننا والعيب فينا
ولو نطق الزمان إذا هجانا
وقال الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره : الملابس إذا فصلت وخيطت في وقت رديء اتصل بها خواص رديئة.
انتهى.
يقول الفقير : لعله أراد عروض الرداءة لها بسبب من الأسباب كيوم الأربعاء بما وقع فيه من العذاب ؛ لأن الله خلقه رديئاً ، فلا تنافي بين كلامه وبين ما سبق.
والظاهر أن الله تعالى خلق أجزاء الزمان والمكان على تفاوت.
وكذا سائر الموجودات كما لا يخفى.
{لِّنُذِيقَهُمْ} بالريح العقيم.
{عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} ، إضافة العذاب إلى الخزي من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة على طريق التوصيف بالمصدر للمبالغة ؛ أي : العذاب الخزي ؛ أي : الذليل المهان على أن الذليل في الحقيقة أهل العذاب لا العذاب نفسه.
{وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ} : (وهر آينه عذاب آن سرى ا).
{أَخْزَى} ؛ أي : أذل وأزيد خزياً من عذاب الدنيا ، وبالفارسية : (سختراست ازروى رسوايى).
وهو في الحقيقة أيضاً : وقد وصف به العذاب على الإسناد المجازي لحصول الخزي بسببه.
{وَهُمْ لا يُنصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه لا في الدنيا ولا في الآخرة ؛ لأنهم لم ينصروا الله ودينه ، وما المؤمنون ؛ فإنهم وإن كانوا
244
ضعفاء فقد نصرهم الله ؛ لأنهم نصروا الله ودينه ، فعجباً من القوة في جانب الضعف وعجباً من الضعف في جانب القوة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي الحديث : إنكم تنصرون بضعفائكم" ؛ أي : الضعفاء الداعين لكم بالنصرة.
وقال خالد ابن برمك : اتقوا مجانيق الضعفاء ؛ أي : دعواتهم.
(8/186)
يقول الفقير : إنما عذبت عاد بريح صرصر ؛ لأنهم اغتروا بطول قاماتهم وعظم أجسادهم وزيادة قوتهم ، فظنوا أن الجسم إذا كان في القوة والثقل بهذه المرتبة ، فهو يثبت في مكانه ويستمسك ، ولا يزيله عن مقره شيء من البلاء ، فسلط الله عليهم الريح ، فكانت أجسامهم كريشة في الهواء ، وكان عليه السلام يجثو على ركبتيه عند هبوب الرياح ، ويقول : "اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذاباً.
اللهم اجعلها لنا رياحاً ؛ أي : رحمة ولا تجعلها ريحاً ؛ أي : عذاباً وأراد به أن أكثر ما ورد في القرآن من الريح بلفظ المفرد ، فهو عذاب نحو ، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} (فصلت : 16) ، و{أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (الذاريات : 41) ، وإن جاء في الرحمة أيضاً نحو {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} (يونس : 22) وكل ما جاء بلفظ الجمع على الرياح ، فهو رحمة لا غير ، ويقول عليه السلام ؛ أي : عند هبوب الرياح ، وعند سماع الصوت والرعد والصواعق أيضاً : "اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك".
وفي الحديث : "لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون ، فقولوا : اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به ، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به".
كما في "المصابيح" : (ريح صرصر باد نفس ازدهاست قلب ازودر اضطراب ومكرهاست.
هركه بابرجا شود در عهد دين.
بايدارش ميكند حق جون زمين).
{وَأَمَّا ثَمُودُ} ؛ أي : قبيلة ثمود فهو غير منصرف للعلمية والتأنيث ، ومن نونه وصرفه جعله اسم رجل ، وهو الجد الأعلى للقبيلة.
{فَهَدَيْنَـاهُمْ} الهداية هنا عبارة عن الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب سواء ترتب عليها الاهتداء أم لا كما في قوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى : 52) ، وليست عبارة عن الدلالة المقيدة بكونها موصلة إلى البغية ، كما في قوله تعالى : {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ} (البقرة : 264).
والمعنى : فدللناهم على الحق بنصب الآيات التكوينية وإرسال الرسل وإنزال الآيات الشريفة ورحمنا عليهم بالكلية.
{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} : حقيقة الاستحباب أن يتحرى الإنسان في الشيء أن يحبه واقتضى تعديته بعلى معنى الإيثار والاختيار كما في "المفردات" ؛ أي : اختاروا الضلالة من عمى البصيرة ، وافتقادها على الهداية والكفر على الإيمان والمعصية على الطاعة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال صاحب الكشف : في لفظ الاستحباب ما يشعر بأن قدرة الله تعالى هي المؤثرة ، وأن لقدرة العبد مدخلاً ما فإن المحبة ليست اختيارية بالاتفاق ، وإيثار العمى حباً ، وهو الاستحباب من الاختيارية ، واعترض عليه سعدي المفتي في "حواشيه" ، بأنه كيف لا تكون المحبة اختيارية ، ونحن مكلفون بمحبة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا تكليف بغير الاختياري ألا يرى إلى قوله عليه السلام لعمر رضي الله عنه : الآن يا عمر ، يعني في قول عمر ورسول الله آخذ بيده يا رسول الله ، أنت أحب إليّ من كل شيء إلا نفسي ، فقال عليه السلام : "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" ، فقال عمر : الآن والله أنت أحب إلى من نفسي.
فقال : "الآن يا عمر" ؛ أي : صار إيمانك كاملاً.
والجواب : على ما في "شرح المشارق" لابن الملك أن المراد من هذه المحبة محبة الاختيار
245
لا محبة الطبع ؛ لأن كل أحد مجبول على حب نفسه أشد من غيرها ، فمعنى الحديث لا يكون إيمانك كاملاً حتى تؤثر رضاي على رضا نفسك ، وإن كان فيه هلاكك ونظيره قوله تعالى : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر : 9) ، فهم مع احتياجهم آثروا أنفسهم على أنفسهم.
وكذا المحب آثر رضا المحبوب على رضا نفسه مع كون محبته لنفسه أشد من محبته له.
وقيل : إن ثمود في الابتداء آمنوا وصدقوا ، ثم ارتدوا وكذبوا فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستئصال ، فتكون الهداية بمعنى الدلالة المقيدة.
قال ابن عطاء : ألبسوا لباس الهداية ظاهراً ، وهم عواري ، فيتحقق عليهم لباس الحقيقة ، فاستحبوا العمى على الهدى ، فردوا إلى الذي سبق لهم في الأزل ، يعني : أن جبلة القوم ، كانت جبلة الضلالة ، فمالوا إلى ما جبلوا عليه من قبول الضلال ، فإن السوابق تؤثر في العواقب بدون العكس ، فلا عبرة بالهداية المتوسطة ؛ لأنها عارضة.
(8/187)
قال الحافظ : (جون حسن عاقبت نه برندى وزاهديست.
آن به كه كار خودبعنايت رها كنند).
{فَأَخَذَتْهُمْ صَـاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} : الهون : مصدر بمعنى الهوان والذلة.
يقال : هان هوناً وهواناً ذل كما في "القاموس" : وصف به العذاب للمبالغة ؛ أي : أخذتهم داهية العذاب المهين ؛ كأنه عين الهوان.
وبالفارسية : (صاعقة عذاب خوار كننده يعني صيحة جبرائيل ايشانرا هلاك كرده فالصاعقة هي العذاب الهون شبه بها لشدته) ، وهوله كما بين فيما سبق.
وقيل : صاعقة من السماء ؛ أي : نار ، فأهلكتهم وأحرقتهم ، فيكون من إضافة النوع إلى الجنس ، بتقدير من أي من جنس العذاب المهين الذي بلغ في إفادة الهوان للمعذب إلى حيث كان عين الهوان.
{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من اختيار الضلالة والكفر والمعصية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال الكاشفي : (بسبب آنجه بودند كسب كردند از).
تكذيب صالح وعقر ناقة.
يقول الفقير : أما حكمة الابتلاء بالصيحة فلعدم استماعهم الحق من لسان صالح عليه السلام مع أن الاستحباب المذكور صفة الباطن وبالصيحة تنشق المرارة ، فيفسد الداخل والخارج ، وأما بالنار فلإحراقهم باطن ولد الناقة بعقر أمه ، فابتلوا بالإحراق الظاهر ألا ترى أن يعقوب ذبح جدياً بين يدي أمه ، فابتلي بفراق يوسف واحتراقه على ما قاله البعض.
{وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} من تلك الصاعقة وكانوا مائة وعشرة أنفس.
{وَكَانُوا يَتَّقُونَ} : الشرك أو عقر الناقة وفيه إشارة إلى التنجية من عذاب النار ، وهي أنواع ، فمنهم من نجاهم من غير أن رأوا النار عبروا القنطرة ، ولم يعلموا ، وقوم كالبرق الخاطف ، وهم الأعلام وقوم كالراكض ، وهم أيضاً الأكابر ، وقوم على الصراط يسقطون وتردهم الملائكة على الصراط فبعد وبعد وقوم بعد ما دخلوا النار ، فمنهم من تأخذه إلى كعبيه ، ثم إلى ركبتيه ، ثم إلى حقويه ، فإذا بلغت القلب.
قال الحق تعالى للنار : لا تحرقي قلبه ، فإنه محترق فيّ ، وقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا وصاروا حمماً.
الامتحاش سوخته شدن.
والحمم جمع حممة بالضم ، وهو الفحم كما في "القاموس".
وفي الحديث : يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ثم يقول تعالى : أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ، فيخرجون منها قد اسودوا ، فيلقون في نهر الحياة فينبتون ، كما تنبت الحبة في جانب السيل وأشارت الآية إلى أن سبب النجاة من النار هو الإيمان والتقوى ، وهما من صفات القلب ، فإذا هرب العبد من
246
مقام النفس ودخل في مقام القلب ، كان آمناً سالماً من أنواع الألم في الدنيا والآخرة ، وإلا كان معذباً.
حكي : أن أبا يزيد البسطامي قدس سره : دخل الحمام يوماً فأصابه الحر ، فصاح فسمع نداء من الزوايا الأربع : يا أبا يزيد ما لم تسلط عليك نار الدنيا لم تذكرنا ، ولم تستغث بنا ، وفيه إشارة إلى أن المقبول هو التدارك وقت الاختيار والإيمان وقت التكليف ، وإلا خرج الأمر من اليد ولا تفيد الصيحة وقت الوقوع في العذاب.
(توبيش از عقوبت در عفو كوب.
كه سودى ندارد فغان زبر جوب).
والكافر تنزل عليه ملائكة العذاب والمؤمن تصافحه الملائكة.
قال الله تعالى : اسمع يا موسى ما أقول فالحق ما أقول أنه من تكبر على مسكين حشرته يوم القيامة على صورة الذر ومن تواضع لعالم رفعته في الدنيا والآخرة ومن رضي بهتك ستر مسلم هتكت ستره سبعين مرة ، ومن أهان مسلماً ، فقد بارزني بالمحاربة ومن آمن بي صافحته الملائكة في الدنيا والآخرة جهراً اللهم وفقنا لما ترضى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ} الحشر إخراج الجماعة من مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب وغيرها ، ولا يقال : إلا في الجماعة ، ويوم منصوب باذكر المقدر.
والمعنى : واذكر يا محمد لقومك يوم يحشر أعداء الله المذكورون من عاد وثمود لا الأعداء من الأولين والآخرين بمعنى أنهم يجمعون إلى النار ، كقوله : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم لما سيأتي من قوله تعالى في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس والتعبير بالأداء للذم والإيذان بعلة ما يحيق بهم من فنون العذاب.
{إِلَى النَّارِ} إلى موقف الحساب إذ هناك تتحقق الشهادة الآتية لا بعد تمام السؤال والجواب وسوقهم إلى النار والتعبير عنه بالنار إما للإيذان بأنها عاقبة حشرهم ، وأنهم على شرف دخولها ، وإما لأن حسابهم يكون على شفيرها.
(8/188)
وفي الإشارة إلى أن من لم يمتثل إلى أوامر الله ، ولم يجتنب عن نواهيه ، ولم يتابع رسوله ، فهو عدو الله ، وإن كان مؤمناً بالله مقراً بوحدانيته ، وأن ولي الله من كان يؤمن بالله ورسله ، ويمثتل أوامر الله في متابعة الرسول ، ويحشر الأولياء إلى الله وجنته كما يحشر الأعداء إلى نار البعد وجحيمه.
{فَهُمْ يُوزَعُونَ} : يقال : وزعته عن كذا كوضع كففته ؛ أي : يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ، وهو كناية عن كثرة أهل النار.
وفيه إشارة إلى أن في الوزع عقوبة لهم.
{حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا} غاية ليحشر وليوزعون ؛ أي : حتى إذا حضروا النار جميعاً.
وبالفارسية : (تاوقتى كه بيابند بآتش).
وما : مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور يعني : أن وقت مجيئهم النار لا بد أن يكون وقت الشهادة عليهم.
{شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} .
إلخ ؛ لأنهم كانوا استعملوها في معاصي الله بغير اختيارهم فشهدت الآذان بما سمعت من شر وأفرد السمع لكونه مصدر في الأصل.
{وَأَبْصَـارُهُمْ} بما نظرت إلى حرام {وَجُلُودُهُم} ظواهر أنفسهم وبشراتهم بما لامست محظوراً والجلد قشر البدن.
وقيل : المراد بالجلود الجوارح والأعضاء.
(واول عضوى كه تكلم كندزان كف دست راست بود).
{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا.
ويقال : تخبر كل جارحة بما صدر من أفاعيل صاحبها ؛ لا أن كلاً منها تخبر بجناياتها المعهودة فقط ، فالموصول عبارة عن جميع أعمالهم السيئة ، وفنون كفرهم ومعاصيهم ، وتلك الشهادة بأن ينطقها الله ، كما أنطق اللسان إذ ليس نطقها بأغرب من نطق
247
اللسان عقلاً ، وكما أنطق الشجرة ، والشاة المشوية المسمومة بأن يخلق فيها كلاماً ، كما عند أهل السنة ، فإن البنية ليست بشرط عندهم للحياة والعقل ، والقدرة كما عند المعتزلة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي "حواشي سعدي المفتي" بأن ينطقها لا على أن تكون تلك الأعضاء آلاته ، ولا على أن تكون القدرة والإرادة آلة في الإنطاق ، وكيف وهي كارهة لما نطقوا به بل على أن تكون الأعضاء هي الناطقة ، بالحقيقة موصوفة بالقدرة والإرادة.
وفيه تأمل انتهى.
روي : أنه عليه السلام ضحك يوماً حتى بدت نواجذه ، ثم قال : لا تسألون مم ضحكت قالوا : مم ضحكت يا رسول الله.
قال : عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة.
قال : يقول يا رب أليس قد وعدتني أن لا تظلمني.
قال : فإن لك ذلك.
قال : فإني لا أقبل شاهداً إلا من نفسي ، قال الله تعالى : أوليس كفى بي شهيداً ، وبالملائكة الكرام الكاتبين ، فيقول : أي رب أجرتني من الظلم ، فلن أقبل عليّ شاهداً إلا من نفسي.
قال : فيختم على فيه وتتكلم الأركان بما كان يعمل.
قال عليه السلام : فيقول لهن بعداً ، لكن وسحقاً عنكن كنت أجادل.
وهذه الرواية تنطق بأن المراد بالجلود الجوارح.
وفيه إشارة إلى أن الجماد في الآخرة يكون حيواناً ناطقاً كما قال تعالى : {وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ} .
{حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَـارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَـاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَالِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاـاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ} .
{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ} توبيخاً.
{لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} (العنكبوت : 64)وصيغة جمع العقلاء في خطاب الجلود.
وكذا في قوله تعالى : قالوا : أنطقنا إلخ.
لوقوعها في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء ، ولعل تخصيص الجلود ؛ لأنها بمرأى منهم بخلاف غيرها ، أو لأن الشهادة منها أعجب وأبعد إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر.
والمراد : الإدراك اللازم للشهادة ، وهو الإبصار أو الإسماع إذ الشهادة لا تكون إلا بالمعاينة ، أو السماع والإدراك اللمسي لا مدخل له في الشهادة ، فيحصل التعجب والبعد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بشهادة الجلود شهادة الفروج ؛ لأنها لا تخلو عن الجلود ، والله حيي يكني ، وهو الأنسب بتخصيص السؤال بها في قوله ، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} قالوا : ما نشهد به.
من الزنا أعظم جناية وقبحاً واجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسيطها.
(8/189)
{قَالُوا} ؛ أي : الجلود {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ} .
ناطق وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم بواسطتنا من القبائح وما كتمناها.
وفي الآية إشارة إلى أن الأرواح والأجسام متساوية في قدرة الله تعالى إن شاء جعل الأرواح بوصف الأجسام صماً بكماً عمياً فهم لا يعقلون ، وإن شاء جعل الأجسام بوصف الأرواح تنطق وتسمع وتبصر وتعقل.
{وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} : (واز عدم بوجود آورد).
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فإن من قدر على خلقكم وإنشائكم أولاً وعلى إعادتكم ورجعكم ؛ أي : ردكم إلى جزائه ثانياً لا يتعجب من إنطاقه لجوارحكم.
وفي "تفسير الجلالين" : هو ابتداء إخبار عن الله تعالى وليس من كلام الجلود ، ولعل صيغة المضارع مع أن هذه المحاورة بعد البعث ، والرجع لما أن المراد بالرجع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل ما يعمه ، وما يترتب عليه من العذاب الخالد المترقب عند التخاطب على تغليب المتوقع على الواقع على أن فيه مراعاة الفواصل.
يقول الفقير : قد ثبت في علم الكلام : أن الله تعالى قد خلق كلاً من الحواس لإدراك أشياء مخصوصة كالسمع للأصوات والذوق للطعوم والشم للروائح ، لكن ذلك الإدراك بمحض خلق الله تعالى من غير تأثير الحواس ، فلا يمتنع
248
أن يخلق عقيب صرف الباصرة إدراك الأصوات مثلاً ، وإن لم يكن واقعاً بالفعل ، وقد صح أن موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى من كل جانب ، وقس عليه الرؤية ليلة المعراج ، فإنه عليه السلام كان بصراً محضاً في صورة الجسم ، وكذلك اللسان ، فإنه مخلوق للنطق ، لكن الله تعالى إذا أراد.
كان جميع البدن لساناً مع أن الإنسان لما تشرف بالحياة والنطق كان جميع أجزائه ناطقاً حكيماً كما كان حياً حقيقة ، وذلك لإضافته إلى الحي الناطق ، بل وسر الحياة والنطق سار في جميع أجزاء العالم فضلاً عن أعضاء بني آدم.
وقد ورد "إن كل شيء سمع صوت المؤذن من رطب ويابس يشهد له يوم القيامة" ، فهذه الشهادة من باب النطق لا عن علم وتعقل ، فليحذر العبد عن شهادة الأعضاء ، وكذا المكان والزمان.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وعن علاء بن زياد قال : ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم ، ويقول : يا أيها الناس إني يوم جديد وأنا على ما يعمل في شهيد ، وإني لو غربت شمسي لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة.
قال الصائب : (غبار قابلة عمر جون نمايان نيست.
دوا سبه رفتن ليل ونهار را درياب).
{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَـارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} .
قوله : أن يشهد في موضع النصب بإسقاط الخافض ؛ أي : من أن يشهد لأن استتر لا يتعدى بنفسه ، أو في موضع الجر على تقدير المضاف ؛ أي : مخافة أن يشهد ولا في الموضعين زائدة لتأكيد النفي.
وهذه حكاية لما سيقال للأعداء يومئذٍ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع تقرير الجواب الجلود.
والمعنى : وما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك ؛ لأنها كانت أجساماً صامتة غير ناطقة ، ولم يكن في حسابكم ما استقبلكم كما كنتم تستترون من الناس بالحيطان والحجب وظلمة الليل مخافة الافتضاح عندهم ، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء رأساً فضلاً عن شهادة الأعضاء.
وفيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق أن لا يمر عليه حال إلا وعليه رقيب ، وأن الله معه أينما كان.
وفي الحديث : "أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان".
(يارباتست هر كجاهستى.
جاى ديكر جه خواهى اى او باش.
باتو در زيريك كليم جو اوست.
بس برواى حريف خودرا باش).
فعلى العبد أن يحفظ نفسه ويحاسبها قبل أن تحاسب.
قال البقلي في "عرائسه" : من باشر المعصية تظهر آثارها على جوارحه لا يقدر أن يسترها ، ولو كان عالماً بنفسه يستغفر في السر عند الله حتى تضمحل آثارها ، ولا يرى وجود تلك الآثار صاحب كل نظرة.
قال أبو عثمان رحمه الله : من لم يذكر في وقت مباشرته الذنوب شهادة جوارحه عليه يجترىء على الذنوب ، ومن ذكر ذلك حين مباشرتها ربما تلحقه العصمة والتوفيق فيمنعانه عنها وفضوح الدنيا فالنار ولا العار.
{وَلَـاكِن ظَنَنتُمْ} عند استتاركم.
{أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} من القبائح المخفية ، فلا يظهرها في الآخرة على تقدير وقوعها ، ولذلك اجترأتم على ما فعلتم يشير إلى معتقد الفلاسفة الزنادقة ، فإنهم يعتقدون أن الله لا يكون عالم الجزئيات ، وفيه إيذان بأن شهادة الجوارح بإعلامه تعالى حينئذٍ ، لا بأنها كانت عالمة بما شهدت به عند صدوره عنهم وأدخل الكثير لكونهم يزعمون أن الله يعلم ما يجهر به دون ما يسر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
عن ابن مسعود رضي الله عنه : كنت مستتراً بأستار الكعبة ، فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم قليل فقه بطونهم.
قيل :
249
(8/190)
الثقفي عبد يا ليل والقرشيان ختناه ربيعة وصفوان بن أمية ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول : قال الآخر يسمع إن جهرنا ، ولا يسمع إن أخفينا ، فذكرت ذلك للنبي عليه السلام ، فأنزل الله تعالى وما كنتم تستترون إلخ.
فالحكم المحكي حينئذٍ يكون خاصاً بمن كان على ذلك الاعتقاد من الكفرة ، ولعل الأنسب أن يراد بالظن معنى مجازي يعم المعنى الحقيقي ، وما جرى مجراه من الأعمال المنبئة عنه كما في قوله تعالى يحسب أن ماله أخلده ، فإن معناه يعمل عمل من يظن أن ماله يبقيه حياً ، ليعم ما حكي من الحال جميع أصناف الكفرة ، فتدبر كذا في "الإرشاد".
{وَذَالِكُمْ} : الظن أيها الأعداء ، وهو مبتدأ خبره قوله : {ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ} ، وإلا فالله تعالى عالم بجميع الكليات والجزئيات ؛ لأنه متجل بأسمائه وصفاته في جميع الموجودات ، وهو خالق الأعمال وسائر الأعراض والجواهر والمطلع على البواطن والسرائر ، كما على الظواهر والتغاير بين العنوانين أمر جلي لظهور إن ظن عدم علم الله غير الظن بالرب ، فيصح أن يكون خبراً له.
{أَرْدَاـاكُمْ} : خبر آخر له ؛ أي : أهلككم وطرحكم في النار.
{فَأَصْبَحْتُم} ؛ أي : صرتم بسبب ذلك الظن السوء الذي أهلككم.
{مِّنَ الْخَـاسِرِينَ} : (اززيا نكاران).
إذ صار ما منحوا السعادة الدارين من القوة العاقلة ، والأعضاء سبباً لشقاء النشأتين إما كونها سبباً لشقاء الآخرة ، فظاهر ، وإما كونها سبباً لشقاء الدنيا ، فمن حيث أنها كانت مفضية في حقهم بسوء اختيارهم إلى الجهل والمركب بالله سبحانه وصفاته واتباع الشهوات ، وارتكاب المعاصي.
وفي "التأويلات النجمية" : من الخاسرين الذين خسروا بذر أرواحهم في أرض أجسادهم ، بأن لم يصل إليه ماء الإيمان والعمل الصالح ، ففسد حتى صاروا بوصف الأجساد صماً بكماً عمياً ، فهم لا يعقلون.
وفي "بحر العلوم" : من الخاسرين ؛ أي : الكاملين في الخسران حيث ظننتم بالله ظن السوء وسوء الظن بالله من أكبر الكبائر كحب الدنيا.
وقال الحسن رحمه الله : إن قوماً ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا ، وما لهم حسنة يقول أحدهم : إني أحسن الظن بربي وكذب لو أحسن الظن لأحسن العمل.
وتلا قوله تعالى وذلكم ظنكم الآية ، فالظن اثنان ظن ينجي ، وهو ما قارن حسن الاعتقاد ، وصالح العمل وظن يردي ، وهو ما لم يقارن ذلك ، فلا بد من السعي : (درين دركاه سعى هيجكس ضايع نميكر دد.
بقدر آنجة فرمان ميبرى فرمان روا كردى).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَذَالِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاـاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ * وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا} .
{فَإِن يَصْبِرُوا} في النار على العذاب وأمسكوا عن الاستغاثة والجزع مما هم فيه انتظاراً للفرج زاعمين أن الصبر مفتاح الفرج.
{فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} ؛ أي : محل ثواء وإقامة أبدت لهم بحيث لا خلاص لهم منها ، فلا ينفعهم صبرهم والالتفات إلى الغيبة للإشعار بأبعدهم عن حيز الخطاب والإبقاء في غاية دركات النار.
{وَإِن يَسْتَعْتِبُوا} ؛ أي : يسألوا العتبى وهو الرجوع إلى ما يحبونه جزعاً مما هم فيه.
{فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} ؛ أي : المجابين إلى العتبى ، فيكون صبرهم وجزعهم سواء في أن شيئاً منهما لا يؤدي إلى الخلاص ونظيره قوله تعالى : {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} (إبراهيم : 21).
قال في "تاج المصادر" : الإعتاب : (خشنود كردن ولاستعتاب از كسى حق خواستن كه تراخشنود كندو آشتى خواستن).
وفي "القاموس" : العتبى الرضى واستعتبه أعطاه العتبى كأعتبه وطلب إليه العتبى ضد.
وفي "المفردات" : أعتبته : أزلت عنه عتبه نحو : (اشكيته).
250
ومنه : فما هم من المعتبين.
والاستعتاب أن يطلب من الإنسان أن يذكر عتبه ، فيعتب.
والعتب : الشدة والأمر الكريه والغلظة التي يجدها الإنسان في نفسه على غيره.
{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ} : التقييض : تقدير (كردن وسبب ساختن) ؛ أي : قدرنا وقرنا للكفرة في الدنيا.
{قُرَنَآءَ} : جمع قرين ؛ أي : أخداناً من شياطين الإنس والجن وأصدقاء يستولون عليه استيلاء القيض على البيض ، وهو القشر الأعلى ، وفيه حجة على القدرية ، فإن هذا على التخلية بينهم وبين التوفيق لأجله صاروا قرناءهم ، وهم لا يقولون بموجب الآية : {فَزَيَّنُوا لَهُم} ؛ أي : قرناؤهم {مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمور الدنيا واتباع الشهوات.
{وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمور الآخرة حيث أروهم أن لا بعث ولا حساب ولا مكروه قط جعل أمر الدنيا بين أيديهم ، كما يقال : قدمت المائدة بين أيديهم والآخرة ، لما كانت تأتيهم بعد هذا جعلت خلفهم ، كما يقال لمن يجيء بعد الشخش أنه خلفه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/191)
وهذا هو الذي تقتضيه ملاحظة الترتيب الوجودي.
وقيل : ما بين أيديهم الآخرة ؛ لأنها قدامهم ، وهم متوجهون إليها ، وما خلفهم الدنيا ؛ لأنهم يتركونها خلفهم.
وفي "عرائس البيان" زينة النفس الشهوات والشياطين التسويف والإمهال.
وهذا ما بين أيديهم وما خلفهم.
قال الجنيد : لا تألف النفس الحق أبداً.
وقال ابن عطاء : النفس قرين الشيطان ، وإلفه ومتبعه فيما يشير إليه مفارق للحق مخالف له لا يألف الحق ولا يتبعه.
قال الله تعالى : {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من طول الأمل وما خلفهم من نسيان الذنوب.
(در سر اين غافلان طول امل دانى كه جيست آشيان كردست مارى دركبو ترخانة).
{وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} ؛ أي : ثبت ، وتقرر عليهم كلمة العذاب وتحقيق موجبها ومصداقها ، وهي قوله : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 85) ونحوه : {فِى أُمَمٍ} : حال من الضمير المجرور ؛ أي : كائنين في جملة أمم ، وقيل : في بمعنى مع هذا كما ترى صريح في أن المراد بأعداء الله فيما سبق المعهودون من عاد وثمود لا الكفار من الأولين والآخرين ، كما قيل : {قَدْ خَلَتْ} : صفة الأمم ؛ أي : مضت {مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ} على الكفر والعصيان كدأب هؤلاء الكفار.
{إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ} : تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير للأولين والآخرين.
(زنقد معرفت امروز مفلس.
زسود آخرت فردا تهى دست).
وفي "كشف الأسرار" : إذا أراد الله بعبد خيراً قيض له قرناء خير يعنيونه على الطاعة ويدعونه إليها ، وإذا أراد الله بعبد سوء قيض له أخدان سوء يحملونه على المخالفات ، ويدعونه إليها ، ومن ذلك الشيطان ، فإنه مسلط على الإنسان بالوسوسة ، وشر من ذلك النفس الأمارة بالسوء تدعو اليوم إلى ما فيه هلاكها وهلاك العبد وتشهد غداً عليه بما دعته إليه وأوحى إلى داود عليه السلام ، عاد نفسك يا داود ، فقد عزمت على معاداتك.
ولهذا قال عليه السلام : "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".
في الخبر : "من مقت نفسه في ذات الله ، أمنه الله من عذاب يوم القيامة" قير أبو علي دقاق : (را قدس سره برسيد ندكه خويشين راجه كونه بينى كفت جنان مى بينم كه اكر نبجاه ساله عمر مرا بر طبقى نهندو كردهفت آسمان وهفت زمين بكردانند مرا از هيج ملك مقرب درآسان شرم نبايد داشت واز هيج آفريده در زمين حلالى نبايد خواست اى مرد بدين صفت كه شنيدى بوقت نزع كوزة آب بيش وى
251
داشتند كفتند در حرارت جان داد جكر را تبريدى بده هنكام آن نيست كه اين دشمن اصلى را واين نفس ناكسى را شربتى سازم نبايدكه جون قوت يابد دمار از من بر آرد.
نفس ازدرهاست اوكى مرده است.
ارغم بى آلتى افسر ده است.
كربيابد آلتى فرعون او.
كه بامر او همى رفعت آب جو.
آنكه او بنياد فرعونى كند.
راه صد موسى وصد هارون زند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وإذا كانت النفس بهذه الشقاوة والخسارة ، فلا بد م إصلاحها وتزكيتها لئلا يحق عليها القول ، وتدخل النار مع الداخلين وأصل الخسارة إفساد الاستعداد الفطري كإفساد بعض الأسباب البيضة ، فإنها إذا فسدت لم ينتفع بها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الرابحين لا من الخاسرين ، وأن يكون عوناً لنا على النفس وإبليس وسائر الشياطين.
{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِا إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَالِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُا لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِا جَزَآءَا بِمَا كَانُوا بآياتنا يَجْحَدُونَ} .
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من رؤساء المشركين لأعقابهم وأشقيائهم ، أو قال بعضهم لبعض.
{لا تَسْمَعُوا} : (مشنويد وكوس منهيد) {لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ} لسماعه.
{وَالْغَوْا فِيهِ} : اللغو من الكلام ما لا يعتد به ، وهو الذي لاعن روية وفكر ، فيجري مجرى اللغاء ، وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور ؛ أي : ائتوا فيه بالباطل من الكلام الذي لا طائل تحته وعارضوه بالخرافات ، وهي الهذيان.
والأحاديث التي لا أصل لها مثل قصة رستم واسفنديار وبإنشاء الأرجاز والأشعار ، وبالتصدية والمكاء ؛ أي : التصفيق والصفير ، وارفعوا أصواتكم بها لتشوشوا على القارىء ، فيختلط عليه ما يقرأه.
(8/192)
{لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} ؛ أي : تغلبونه على قراءته ، فيترك القراءة ، ولا يتمكن السامع أيضاً من سماعه أرادوا بذلك التلبيس والتشويش الأذية.
وأيضاً : خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به.
وكان ذلك غالباً شأن أبي جهل وأصحابه.
وفيه إشارة إلى أن من شأن النفوس المتمردة إنشاء اللغو والباطل ، وحديث النفس على الدوام اشتغالاً للقلوب بها عن استماع الإلهامات الربانية لعلها تغلب عليها ، ولم تعلم أن من استغرق في سماع أسرار الغيب ، فليس له عما سوى الله خبر ، ولا لحديث النفس فيه أثر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي : فوالله لنذيقن هؤلاء القائلين واللاعنين ، أو جميع الكفرة ، وهم داخلون فيهم دخولاً أولياً.
{عَذَابًا شَدِيدًا} ، لا يقادر قدره كما دل التنكير والوصف ، وهذا تهديد شديد ؛ لأن لفظ الذوق إنما يذكر في القدر القليل يؤتى به ؛ لأجل التجربة.
وإذا كان ذلك الذوق ، وهو قدر قليل عذاباً شديداً ، فقس عليه ما بعده.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى إذا تجلى للقلوب احترقت النفوس بالفناء عن أوصافها ، وهو عذابها ، فكانت كأهل الجزية والخراج في أرض الإسلام ، فكما كان أهل الإيمان في سلامة من أذاهم ، فكذا القلوب مع النفوس إذ لا كفر واعتراض مع الإيمان والتسليم.
{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} ؛ أي : جزاء سيئات أعمالهم التي هي في أنفسها أسوأ ، فإذا كانت أعمالهم أسوأ كان جزاؤها كذلك ، فالأسوأ قصد به الزيادة المطلقة ، وإنما أضيف إلى ما عملوا للبيان ، والتخصيص.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : عذاباً شديداً يوم بدر وأسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة.
{ذَالِكَ} المذكور من الجزاء ، وهو مبتدأ
252
خبره قوله : {جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ} ؛ أي : جزاء معد لأعدائه {النَّارِ} عطف بيان للجزاء ، أو ذلك خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : الأمر ذلك على أنه عبارة عن مضمون الجملة لا عن الجزاء وما بعده جملة مستقلة مبنية لما قبلها ، والنار مبتدأ خبره.
قوله : {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} ؛ أي : هي بعينها دار إقامتهم لا انتقال لهم.
منها : على أن في للتجريد لا للظرفية ، وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله مبالغة لكماله فيها ، كما يقال في البيضة عشرون منا من حديد.
وقيل : هي على معناها ؛ أي : للظرفية.
والمراد : أن لهم في النار المشتملة على الدركات دار مخصوصة هم فيها خالدون.
{ذَالِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ} : منصوب بفعل مقدر ؛ أي : يجزون جزاء.
والباء الأولى متعلقة بجزاء.
والثانية بيجحدون.
وقدمت عليه لمراعاة الفواصل ؛ أي : بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا الحقة أو يلغون فيها وذكر الجحود لكونه سبباً للغو.
{ذَالِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُا لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِا جَزَآءَا بِمَا كَانُوا بآياتنا يَجْحَدُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب.
{رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ} ؛ أي : أرنا الشيطانين اللذين حملانا على الضلال بالتسويل والتزيين من نوعي الجن والإنس ؛ لأن الشيطان بين جني وإنسي بدليل قوله : شياطين الإنس والجن.
وقوله : من الجنة والناس.
ويقال : أحدهما قابيل بن آدم سنّ القتل بغير حق ، والذي من الجن إبليس سن الكفر والشرك ، فيكون معنى أضلانا : سنا لنا الكفر والمعصية كما في "عين المعاني".
ويشهد لهذا القول الحديث المرفوع "ما من مسلم يقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم كفل من دمه ؛ لأنه أول من سن القتل".
أخرجه الترمذي.
ويروى أن قابيل شدت ساقاه بفخذيه يدور مع الشمس حيث دارت يكون في الشتاء في حظيرة ثلج.
وفي الصيف في حظيرة نار.
{نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} ؛ أي : ندسهما انتقاماً منهما {لِيَكُونَا مِنَ الاسْفَلِينَ} ؛ أي : ذلاً ومهانة ، أو نجعلهما في الدرك الأسفل من النار تشفياً منهما بذلك ، ليكونا من الأسفلين مكاناً وأشد عذاباً منا.
وفي الآية إشارة إلى أن النفوس إذا فنيت عن أوصافها بنار أنوار التجلي وذاقت حلاوة القرب تلتمس من ربها إطلاعها على بقايا الأوصاف الشيطانية والحيوانية التي جبلت النفوس عليها ليمكنها منها ، فتجعلها تحت أقدام همتها بإفنائها ، فتعلو بها إلى مقامات القرب ليكونا من الأسفلين ، وتكون من الأعلون.
وهذا إنما يكون في الترقي من مقام إلى مقام إذ بقية المقام الأدنى لا تزول إلا بالترقي إلى المقام الأعلى.
وهكذا إلى نهاية المقامات فعلى العبد أن يجتهد ، حتى يخرج من الدنيا مع فناء النفس لا مع بقائها ؛ فإنه إذا خرج منها بالفناء خلص من الجزع وإلا وقع فيه كما وقع الكفرة ، ولا فائدة في الجزع يوم القيامة.
(8/193)
وفي الآية تنبيه على أن الأخلاء يومئذٍ أعداء ، فالخليل للمؤمن في الدارين ليس إلا الله.
وكان رجل له حبيب فتوفي ، فجزع عليه جزعاً شديداً حتى صار مجنوناً ، فذكر حاله لأبي يزيد البسطامي قدس سره ، فأتى إليه وهو مقيد في دار المرضى ، فقال له أبو يزيد : يا هذا غلطت في الابتداء حيث أحببت الحي الذي يموت ، وهلا أحببت الحي الذي لا يكون فأفاق المجنون من جنوبه وأقبل على عبادة الله حتى صار من جملة الكبراء.
وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
جون زعلت وارعيدى اى رهين
سر كه رابكذار وميخور انكبين
تخت دل معمور شد باك ازهوا
بروى الرحمن على العرش استوى
حكم بردل بعد ازين بى واسطه
حق كند جون يافت دل اين رابطه
يشير إلى أنه لا بد من رياضة النفس إلى أن تتلخص من العلة ، فما دامت العلة فلتقنع بالخل ، فإذا ذهبت فقد حكم عليها القلب ، وليس شأنه إلا إبقاء الحلاوة وإطعام اللذائذ ، بل لو طهر السر عما سوى الله
253
استوى الرحمن على عرش القلب ، فكان دوران العبد مع الله في كل حال ، فلا يجد إلا الحضور والسكون نسأل الله ذلك الفوز العظيم.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الاسْفَلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاخِرَةِا وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} .
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} .
اعترافاً بربوبيته وإقراراً بوحدانيته فربنا الله من باب صديقي زيد يفيد الحصر.
{ثُمَّ اسْتَقَـامُوا} : أي ثبتوا على الإقرار بقولهم : ربنا الله ومقتضياته بأن لا تزل قدمهم عن طريق العبودية قلباً وقالباً ، ولا تتخطاه.
وفيه يندرج كل العبادات والاعتقادات بصفة الدوام وقت الوفاة ، فثم للتراخي في الزمان ، أو في الرتبة ، فإن الاستقامة لها الشأن كله ، يعني : المنتهى ، وهي الاستقامة لكونه مقصوداً أعلى حالاً من المبدأ ، وهو الإقرار واستقامة الإنسان لزومه للمنهج المستقيم.
وما روي عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم في معناها من الثبات على الإيمان ، كما روي عن عمر رضي الله عنه ومن إخلاص العمل ، كما روي عن عثمان رضي الله عنه.
ومن أداء الفرائض كما روي عن علي رضي الله عنه ، فبيان لجزئياتها.
أنس بن مالك رضي الله عنه : (كفت آن روزكه اين آيت فرود آمد رسول خدا شاد وازشادى كفت امتى ورب الكعبة).
وذلك لأن اليهود والنصارى لم تستقم على دينهم حتى قالوا : عزير بن الله والمسيح بن الله ونحو ذلك.
وكفروا بنبوة رسول الله عليه السلام ، ومن الاستقامة أن لا يرى المرء النفع والضر إلا من الله ، ولا يرجو من أحد دون الله ، ولا يخاف أحداً غيره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قلت : يا رسول الله أخبرني بأمر أعتصم به.
قال : "قل ربي الله ، ثم استقم".
قال : قلت : ما أخوف ما يخاف عليّ.
فأخذ رسول الله بلسان نفسه ، وقال : "هذا" ، وكان الحسن إذا تلا هذه الآية.
قال : اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
صاحب "كشف الأسرار" : (فرمودكه ربنا الله عبارت از توحيد اقرارست كه عائد مؤمنان راست ثم استقاموا اشارت بتوحيد معرفت كه عارفان وصديقان راست توحيد اقرار آنست كه الله رايكتا كويى وتوحيد معرفت آنست كه اورا يكاستا شناسى يعنى از همه جهت بوحدت او بينا كردى با آنكه در عالم وحدت جهت نيست.
نى جهت مى كنجدا ينجا نى صفت.
نى تفكرنى بيان معرفت.
آتشى از سروحدت برفروخت.
غير واحد هرجه بيش آمد بسوخت.
أبو يزيد البسطامي قدس سره وقتى برمقام علم ايستاده بود از توحيد اقرار نشان ميداد مريدى كت اى شيخ خدايرا شناسى كفت در كل عالم خود كسى باشدكه خدايرا ننشناسد يانداند وقتى ديكر غريق بحر توحيد معرفت بود وحريق نار محبت اوراكفتند خدايرا شناسى كفت من كه باشم كه اوراشناسم ودر كل عالم خود كسى باشدكه اوراشناسد.
در عشق تومن كيم كه در منزل من.
از وصل رخت كلى دمدبر كل من ، بير طريقت كفت صحبت باحق دوحر فست اجابت واستقامت اجابت عهدست استقامت وفا اجابت شريعت است واستقامت حقيقت درك شريعت هز ارسال بساعتى در توان يافت ودرك حقيقت ساعتى بهزار سال درنتوان يافت).
(8/194)
وفي "التأويلات النجمية" : تشير الآية إلى يوم الميثاق لما خوطبوا بقوله : ألست بربكم.
قالوا : بلى ؛ أي : ربنا الله ، وهم الذريات المستخرجة من ظهر آدم عليه السلام أقروا بربوبيته ، ثم استقاموا على إقرارهم بالربوبية ثابتين على أقدام العبودية لما أخرجوا إلى عالم الصورة ، ولهذا ذكر بلفظ ، ثم لأنه للتراخي ، فأقروا في
254
عالم الأرواح ، ثم استقاموا في عالم الأشباح ، وهم المؤمنون بخلاف المنافقين والكافرين ؛ فإنهم أقروا ، ولم يستقيموا على ذلك ، فاستقامة العوام في الظاهر بالأوامر والنواهي.
وفي الباطن بالإيمان والتصديق ، واستقامة الخواص في الظاهر بالتجريد عن الدنيا وترك زينتها وشهواتها.
وفي الباطن بالتفريد عن نعيم الجنان شوقاً إلى لقاء الرحمن ، وطلب العرفان واستقامة الأخص في الظاهر برعاية حقوق المتابعة على وفق المبايعة بتسليم النفس والمال.
وفي الباطن بالتوحيد في استهلاك الناسوتية في اللاهوتية ليستقيم بالله مع الله فانياً عن الأنانية باقياً بالهوية بلا أرب من المحبوب مكتفياً عن عطائه ببقائه ، ومن مقتضى جوده بدوام فنائه في وجوده.
{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} من جهته تعالى يمدونهم فيما يعرض لهم من الأمورالدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم ، ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام كما أن الكفرة يمدهم ما قيض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح.
وكذا تتنزل عند الموت بالبشرى.
وفي القبر وعند البعث إذا قاموا من قبورهم {إِنَّ} مفسرة بمعنى ؛ أي : أو مخففة من الثقيلة.
والأصل بأنه والهاء ضمير الشأن ؛ أي : يتنزلون ملتبسين بهذه البشارة ، وهي {أَلا تَخَافُوا} ما تقدمون عليه من أمر الآخرة ، فلا ترون مكروهاً ؛ فإن الخوف غم يلحق لتوقع المكروه.
{وَلا تَحْزَنُوا} على ما خلفتم من أهل وولد ؛ فإنه تعالى يخلفكم عليهم بخير ويعطيكم في الجنة أكثر من ذلك وأحسن ، ويجمع بينكم وبين أهاليكم وأولادكم المسلمين في الجنة ، فإن الحزن غم يحلق من فوات نافع ، أو حصول ضار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي "التأويلات النجمية" : الخوف إنما يكون في المستقبل من الوقت ، وهو بحلول مكروه ، أو فوات محبوب ، والملائكة يبشرونهم بأن كل مطلوب لهم سيكون ، وكل محذور لهم لا يكون ، والحزن من حزونة الوقت والذي هو راضضٍ بجميع ما يجري مستسلم للأحكام الأزلية ، فلا حزونة في عيشه ، بل من يكون قائماً بالله وهائماً في الله دائماً مع الله لا يدركه الخوف والحزن والملائكة يبشرونهم أن لا تخافوا ولا تحزنوا على فوات العناية في السابقة.
{وَأَبْشِرُوا} ؛ أي : سروا.
وبالفارسية : (شاد شويد فان الا بشار شادشدن).
{بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} في الدنيا على ألسنة الرسل هذا من بشارتهم في أحد المواطن الثلاثة.
وعن ثابت : بلغنا إذا انشقت الأرض يوم القيامة ينظر المؤمن إلى حافظيه قائمين على رأسه يقولان له : لا تخف ولا تحزن وأبشر بالجنة الموعودة وإنك سترى اليوم أموراً لن ترى مثلها ، فلا تهولنك ، فإنما يراد بها غيرك.
وفي "التأويلات النجمية" : وأبشروا بجنة الوصلة ، فإن الوعد صار نقداً ، فما بقي الوعد والوعيد.
وما هو إلا عيد في القيد فأوعد الله للعوام من جميع الثواب للخواص من حسن المآب نقد لأخص الخواص من أولي الألباب (ع) : (جنت نقدست انيجا حالت ذوق وحضور).
ويقال : لا تخافوا من عزل الولاية ولا تحزنوا على ما أسلفتم من الجناية وأبشروا بحسن العناية في البداية لا تحافظوا فطالما كنتم من الخائفين ، ولا تحزنوا فقد كنتم من العارقين وأبشروا بالجنة فلنعم أجر العاملين.
(فردا هر جخ شرايعست همه را قلم نسخ در كشند نماز وروزه حج وجهاد روا باشدكه ببايان رسد ومنسوخ شود اما عقد محبت وعهد معرفت هر كز نشايدكه منسوخ شود جون در بهشت روى هر روزى كه برتو بكزرد از شناخت حق سبحانه وتعالى برتو عالمى كشاده شودكه بيش ازان نبوده
255
اين كاريست كه هركز بسرنيايد ومباداكه بسر آيد.
تامن بريم بيشه اينست.
آرام وقرار وغمكسارم انيست.
روزم اينست وروز كارم اينست.
جوينده صيدم وشكارم اينست).
قال البقلي قدس سره : عجبت ممن استقام مع الله في مشاهدته وإدراك جماله كيف يطيق الملائكة أن يبشروه أين الملك والفلك بين الحبيب والمحب ، وليس وراء بشارة الحق بشارة ، فإن بشارة الحق سمعوها قبل بشارة الملائكة بقوله : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس : 62) ليس لهم خوف القطيعة ولا حزن الحجاب ، وهم في مشاهدة الجبار.
وقول الملائكة ها هنا معهم تشريف لهم ؛ لأنهم يحتاجون إلى مخاطبة القوم ، وهم أحباؤنا في نسب المعرفة وخدامنا من حيث الحقيقة ألا ترى كيف سجدوا لأبينا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/195)
{نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} .
إلخ.
من بشاراتهم في الدنيا ؛ أي : أعوانكم في أموركم نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم بدل ما كانت الشياطين تفعل بالفكرة.
ولعل ذلك عبارة عما يخطر ببال المؤمنين المستمرين على الطاعات من أن ذلك بتوفيق الله وتأييده لهم بواسطة الملائكة.
قال جعفر رضي الله عنه : من لاحظ في أعماله الثواب والأغراض كانت الملائكة أولياءه ، ومن عملها على مشاهدته تعالى ، فهو وليه ؛ لأنه يقول : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} (البقرة : 257).
{وَفِى الاخِرَةِ} : نمدكم بالشفاعة ونتلقاكم بالكرامة حين يقع بين الكفرة وقرنائهم ما يقع من التعادي والتخاصم.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى ولاية الرحمة للعوام وولاية النصرة للخواص وولاية المحبة لأخص الخواص فبولاية الرحمة للعوام في الحياة الدنيا يوفقهم لإقامة الشريعة.
وفي الآخرة يجازيهم بالجنة وبولاية النصرة للخواص في الحياة الدنيا يسلطهم على أعدى عدوهم ، وهو نفسهم الأمارة بالسوء ليجعلوها مزكاة من اخلاقها الذميمة وأوصافها الدنيئة ، وفي الآخرة بجذبة ارجعي إلى ربك ، وبولاية المحبة لأخص الخواص في الحياة الدنيا يفتح عليهم أبواب المشاهدات والمكاشفات.
وفي الآخرة يجعلهم من أهل القربات والمعاينات.
ومن ولاية الله تعالى عفو الزلل ، فإن الزلل لا يزاحم الأزل.
أبو يزيد بسطامي قدس سره : (در راهى ميرفت او از جمعى بكوش رى رسيد خواست كه آن حال باز داند فرا رسيدكه كودكى را ديد در كل سياه افتاده وخلقى بنظاره ايستاده ناكاه مادر آن كودك از كوشه در دويد وخودرا درميان كل افكند وآن كودك رابر كرفت وبرفت ابو يزيد جون آن بديد وقتش خوش كفت نعرة بزد ايستاده وميكفت شفقت بيامد آلايش ببرد ومحبت بيامد معصيات ببرد وعنايت بيامد جنايت) ببرد العذر عندي لك مبسوط والذنب على مثلك محطوط.
قال الحافظ : (ببوش دامن عفوى بذلت من مست ، كه آب روى شريعت بدين قدر نرود).
{وَلَكُمْ} لا لغيركم من الأعداء.
{فِيهَا} ؛ أي : في الآخرة.
{مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} من فنون اللذائذ.
{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ما تتمنون.
وبالفارسية : (هرجه شما آرزو خواهيد).
افتعال من الدعاء بمعنى الطلب ، وهو أعم من الأول إذ لا يلزم أن يكون كل مطلوب مشتهى كالفضائل العلمية ، وإن كان الأول أعم أيضاً من وجه بحسب حال الدنيا ، فالمريض لا يزيد ما يشتهيه ويضر مرضه إلا أن يقال التمني أعم من الإرادة وعدم الاكتفاء بعطف ما تدعون على ما تشتهي بأن يقول ، وما تدعون للإشباع في البشارة
256
والإيذان باستقلال كل منهما.
{نُزُلا} رزقاً كائناً.
{مِّنْ غَفُورٍ} للذنوب العظام مبدل للسيئات بالحسنات.
{رَّحِيمٍ} بالمؤمنين من أهل الطاعات بزيادة الدرجات والقربات قوله : نزلا حال مما تدعون ؛ أي : من الموصول ، أو من ضميره المحذوف ؛ أي : ما تدعونه مفيدة ، لكون ما يتمنونه بالنسبة إلى ما يعطون من عظائم الأمور كالنزل ، وهو ما يهيأ للنزيل ؛ أي : الضيف من الرزق ؛ كأنه قيل : وثبت لكم فيها الذي تدعونه حال كونه كالنزل للضيف ، وأما أصل كرامتكم ، فمما لا يخطر ببالكم فضلاً عن الاشتهاء ، أو التمني.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي "التأويلات النجمية" نزلاً ؛ أي : فضلاً وعطاء وتقدمة لما سيدوم إلى الأزل من فنون الأعطاف وأصناف الألطاف.
وذلك لأن عطاء الله تعالى يتجدد في كل آن خصوصاً لأهل الاستقامة من أكامل الإنسان ويظهر في كل وقت وموطن ما لم يظهر قبله وفي غيره ويكون ما في الماضي كالنزل لما يظهر في الحال ، ومن هنا قالوا : ما ازداد القوم شرباً إلا ازدادوا عطشاً.
وذلك لأنه لا نهاية للسير إلى الله في الدنيا والآخرة.
وفي المثنوي :
هركه جز ما هى زآبش سيرشد
هركه بى روزيست روزش ديرشد
وفيه إشارة إلى أن بعض الناس لا نصيب له من العشق والذوق والتجلي ويومه ينقضي بالهموم وتطول حسرته ، ولذلك كان يوم القيامة خمسين ألف سنة.
قال ابن الفارض في آخر القصيدة الخمرية : على نفسه قليبك من ضاع عمره.
وليس له منها نصيب ولا سهم.
قال الصائب : (ازين جه سودكه دركلستان وطن دارم.
مراكه عمر جونر كس بخواب ميكذرد).
ومن الناس من له نصيب من هذا الأمر لكن لا على وجه الكمال ، ومنهم من لم يحصل له الري أصلاً ، وهو حال الكمال.
حكي أن يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه : كتب إلى أبي يزيد البسطامي قدس سره سكرت من كثرة ما شربت من كأس حبه فكتب إليه أبو يزيد : ()
شربت الحب كأساً بعد كأس
فما نفد الشراب ولا رويت
أشار إلى أن حصول الري إنما هو للضعفاء ، وأما الأقوياء ، فإنهم يقولون : هل من مزيد ولو شربوا سبعة أبحر جعلنا الله ، وإياك هكذا من فضله.
(8/196)
{نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَـالِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُا ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَه عَدَاوَةٌ كَأَنَّه وَلِىٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ إِلا الَّذِينَ} .
{وَمِنْ} استفهام.
والمعنى بالفارسية : (وكيست).
{أَحْسَنُ} نيكوتر {قَوْلا} : (از جهت سخن).
{مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ} ؛ أي : إلى توحيده وطاعته.
{وَعَمِلَ صَـالِحًا} فيما بينه وبين ربه.
{وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ابتهاجاً بأنه منهم ، أو اتخاذاً للإسلام ديناً ونحلة إذ لا يقبل طاعة بغير دين الإسلام من قولهم هذا قول فلان ؛ أي : مذهبه لا أنه تكلم بذلك.
وفيه رد على من يقول : أنا مسلم إن شاء الله ، فإنه تعالى قال مطلقاً غير مقيد بشرط إن شاء الله.
وقال علماء الكلام : إن قاله للشك ، فهو كفر لا محالة ، وإن كان للتأدب مع الله وإحالة الأمور إلى مشيئة الله أو للشك في العاقبة والمآل لا في الآن.
والحال وللتبرك بذكر الله ، أو التبري من تزكية نفسه والإعجاب بحاله ، فجائز ، لكن الأولى تركه لما أنه يوهم الشك وحكم الآية عام لكل من جمع ما فيها من الخصال الحميدة التي هي الدعوة والعمل والقول ، وإن نزلت في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو في أصحابه رضي الله عنهم ، أو في المؤذنين ؛ فإنهم يدعون الناس إلى الصلاة ، فإن قلت السورة بكاملها مكية بلا خلاف الآذان إنما شرع بالمدينة قلت :
257
يجعل من باب ما تأخر حكمه عن نزوله ، وكم من القرآن منه ، وإليه ذهب بعض الحفاظ كابن حجر وغيره.
اعلم أن للدعوة مراتب ، الأولى : دعوة "الأنبياء" عليهم السلام ، فإنهم يدعون إلى الله بالمعجزات والبراهين وبالسيف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي "التأويلات النجمية" : تشير الآية إلى أن أحسن قول قاله الأنبياء والأولياء قولهم بدعوة الخلق إلى الله ، وكان عليه السلام مخصوصاً بهذه الدعوة كما قال تعالى : يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} (الأحزاب : 45 ـ ـ 46) ، وهو أن يكتفي بالله من الله لم يطلب منه غيره :
خلاف طريقت بود كاوليا
تمنا كنند از خدا جز خدا
وقال وعمل صالحاً ؛ أي : كما يدعو الخلق إلى الله يأتي بما يدعوهم إليه يعني : سلكوا طريق الله إلى أن وصلوا إلى الله وصولاً بلا اتصال ولا انفصال فبسلوكهم ومناراتهم عرفوا الطريق إلى الله ، ثم دعوا بعد ما عرفوا الطريق إليه الخلق إلى الله.
{وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لحكمه الراضين بقضائه وتقديره.
والمرتبة الثانية : دعوة العلماء ؛ فإنهم يدعون إلى الله تعالى بالحجج والبراهين فقط.
قال الكاشفي : إمام أبو الليث : (فرموده كه مراد يعنى از آيت مذكورة علما اندكه معالم دين بمردم آموزند وعمل صالح ايشان آنست كه هرجه دانند بدان كار كنند بامحتسبا نندكه قواعد امر معروف ونهى منكررا تمهيد دهند وعمل صالح ايشان صبر وتحمل است بر آنجه بايشان رسد از مكاره).
ثم إن العلماء ثلاثة أقسام : عالم بالله غير عالم بأمر الله وعالم بأمر الله غير عالم بالله وعالم بالله وبأمر الله.
أما الأول : فهو عبد استولت المعرفة الإلهية على قلبه ، فصار مستغرقاً في مشاهدة الجلال وصفات الكبرياء ، فلا يتفرغ لتعلم علم الأحكام إلا قدر ما لا بد له.
وأما الثاني : فهم الذين عرفوا الحلال والحرام ودقائق الأحكام ، ولكنهم لا يعرفون أسرار جلال الله وجماله.
أما مع الإقرار بأصحاب هذا الشأن ، أو بإنكارهم.
والثاني : ليس من عداد العلماء ، وأما العالم بالله وبأحكامه ، فهم الجامعون لفضائل القسمين الأولين ، وهم تارة مع الله بالحب والإرادة وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة ، فإذا رجعوا إلى الخلق صاروا معهم كواحد منهم ؛ كأنهم لا يعرفون الله وإذا خلوا مع ربهم صاروا مشتغلين بذكره ؛ كأنهم لا يعرفون الخلق.
وهذا سبيل المرسلين والصديقين ، فالعارف يدعو الخلق إلى الله ويذكر لهم شمائل القدم ويعرفهم صفات الحق وجلال ذاته ، ويحبب الله في قلوبهم ، ثم يقول بعد كماله وتمكينه أنني واحد من المسلمين من تواضعه ولطف حاله :
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
از زنك آينة خويش ساده كن
درزير با نظر كن وحج بياده كن
والمرتبة الثالثة : الدعوة بالسيف ، وهي للملوك ؛ فإنهم يجاهدون الكفار حتى يدخلون في دين الله وطاعته ، فالعلماء خلف الأنبياء في عالم الأرواح والملوك خلف الأنبياء في عالم الأجسام.
(8/197)
والمرتبة الرابعة : دعوة المؤذنين إلى الصلاة ، وهي أضعف مراتب الدعوة إلى الله ، وذلك أن ذكر كلمات الأذان ، وإن كان دعوة إلى الصلاة لكنهم يذكرون تلك الألفاظ الشريفة بحيث لا يحيطون بمعناها ، ولا يقصدون الدعوة إلى الله ، فإذا لم يلتفتوا إلى مال الوقف وراعوا شرائط الأذان ظاهراً وباطناً وقصدوا بذلك مقصداً صحيحاً ، كانوا كغيرهم من أهل الدعوة.
(فضيل رفيده كفت مؤذن بودم روزكار أصحاب رضي الله عنهم عبد الله بن مسعود وعاصم بن هبرة مراكفت جون زبانك نماز فارغ شوى بكو وأنا من المسلمين نبينى كه رب العالمين
258
كفت).
وقال : {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .
وفي الحديث : "الملك في قريش والقضاء للأنصار والأذان للحبشة".
وفيه مدح لبلال الحبشي رضي الله عنه.
وكذا في الآية تعظيم لشأنه خصوصاً ؛ لأنه مؤذن الداعي إلى الله على بصيرة ، وهو المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم.
صاحب "عين المعاني" : (آورده كه جون بلال بانك نماز آغاز كردى يهود كفتندى كلاغ ندامى كند وبنماز ميخواند وسخنان بيهوده برزبان ايشان كذشتى اين آيت نازل شد وبر تقديرى كه مؤذنان باشند عمل صالح ايشان آنست درميان اذان واقامن دو ركعت نماز كذا رند).
قال عمر رضي الله عنه : لو كنت مؤذناً ما باليت أن لا أحج ولا أجاهد ولا أعتمر بعد حجة الإسلام.
صاحب "كشف الأسرار" : (فرموده كه حق جل وعلا مؤذنان امت احمد بنج كرامت كرد).
حسن الثناء وكمال العطاء ومقارنة الشهداء ومرافقة الأنبياء والخلاص من دار الشقاء.
(كرامت أول ثناء جميل است وسند خداوند كريم كه در حق مؤذن ميكويد).
ومن أحسن قولاً.
إلخ.
(أحسن بر لفظ مبالغت كفت همجانكه تعظيم قرآنرا كفت الله نزل أحسن الحديث قرآن أحسن الآيات است وبانك نماز احسن الكلمات زيرا درو تكبير وتعظيم وإثبات وحدانيت خداوند أعلى وإثبات نبوت مصطفى).
وفي الخبر : "من كثرت ذنوبه ، فليؤذن بالأسحار" عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(كفت يا رصول الله اين وقت سحررا باين معنى جه خاصيت است كفت).
والذي بعث بالحق محمداً أن النصارى إذا ضربت نواقيسها في أديارها فيثقل العرش على مناكب حملة العرش ، فيتوقعون المؤذنين من أمتي ، فإذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر.
خف العرش على مناكب حملة العرش.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال الإمام السيوطي رحمه الله : أول ما حدث التسبيح بالأسحار على المنابر في زمن موسى عليه السلام حين كان بالتيه واستمر بعده إلى أن كان زمن داود عليه السلام وبنى بيت المقدس فرتب فيه عدة يقومون بذلك البيت على الآلات وبغيره بلا آلات من الثلث الأخير من الليل إلى الفجر إلى أن خرب بيت المقدس بعد قتل يحيى عليه السلام.
وقام اليهود على عيسى عليه السلام ، فبطل ذلك في جملة ما بطل من شرائع بني إسرائيل.
وأما في هذه الملة المحمدية ، فكان ابتداء عمله بمصر.
وسببه أن مسلمة بن مخلد الصحابي رضي الله عنه بني ، وهو أمير مصر مناراً بجامع عمرو واعتكف فيه ، فسمع أصوات النواقيس عالية ، فشكا ذلك إلى شرحبيل بن عامر عريف المؤذنين ، فقال أني أمد الأذان من نصف الليل إلى قرب الفجر ؛ فإنهم لا ينقسون إذا أذنت ، ففعل ثم لما كان أحمد بن طولون رتب جماعة نوباً يكبرون ويسبحون ويحمدون ويقولون قصائد زهدية ، وجعل لهم أرزاقاً واسعة ، ومن ثمة اتخذ الناس قيام المؤذنين في الليل على المنابر ، فلما ولي السلطان صلاح الدين بن أيوب أمر المؤذنين في وقت التسبيح أن يعلنوا بذكر العقيدة الأشعرية ، فواظب المؤذنون على ذكرها كل ليلة إلى وقتنا هذا ، انتهى.
يقول الفقير : آل الأمر في زمننا هذا في بلاد الروم إلى أن السلاطين من ضعف حالهم في الدين صاروا مغلوبين ، فانتقل كثير من البلاد الإسلامية إلى أهل الحرب ، فجعلوا المساجد كنائس والمنارات مواضع النواقيس ، ولما كان الناس على دين ملوكهم صار الأمر في البلاد الباقية في أيدي المسلمين إلى الوهن والهدم ، بحيث تخربت بعض المحلات بالكلية مع المساجد
259
الواقعة فيها ، وتعطل بعضها عن العمار من المسلمين بسبب توطن أهل الذمة فيها ، وبقيت المساجد بينهم غريبة ، فتعالوا نبك على غربة هذا الدين ، وأما كمال العطاء ، فما روي أن النبي عليه السلام قال : "المؤذنون أمناء المؤمنين على صلاتهم وصيامهم ولحومهم ودمائهم لا يسألون الله شيئاً إلا أعطاهم ، ولا يشفعون بشيء إلا شفعوا فيه".
(8/198)
قال : "ويغفر للمؤذن مدى صوته يعني : (آمر زيده ميشويد مؤذن بمقدار أنكه اوازوى رسده).
ويشهد له كل شيء سمع صوته من شجر أو حجر ، أو مدر أو رطب ، أو يابس ، ويكتب للمؤذن بكل إنسان صلى معه في ذلك المسجد مثل حسناته ، وأما مقارنة الشهداء ، فما روي أن النبي عليه السلام قال : "من أذن في سبيل الله إيماناً واحتساباً جمع بينه وبين الشهداء في الجنة" وأما مرافقة الأنبياء ، فما روي : أن رجلاً جاء إلى النبي عليه السلام ، فقال : يا رسول الله من أول الناس دخولاً للجنة ، قال : "الأنبياء".
قال : ثم من؟ ، قال : "الشهداء".
قال : ثم من؟ قال : "مؤذنوا مسجدي هذا.
قال : ثم من؟.
قال : سائر المؤذنين على قدر أعمالهم".
وقال عليه السلام : "من أذن عشرين سنة متوالية أسكنه الله تعالى مع إبراهيم عليه السلام في الجنة وأما الخلاص من دار الأشقياء.
فما روي أن النبي عليه السلام قال : "إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر أغلقت أبواب النيران السبعة" ، وإذا قال : "أشهد أن لا إله إلا الله فتحت أبواب الجنة الثمانية ، وإذا قال : أشهد أن محمداً رسول الله أشرفت عليه الحور العين".
وإذا قال : "حي على الصلاة تدلت ثمار الجنة ، وإذا قال : حي على الفلاح قالت الملائكة أفلحت وأفلح من أجابك ، وإذا قال : الله أكبر الله أكبر ، قالت الملائكة : كبرت كبيراً وعظمت عظيماً ، وإذا قال : لا إله إلا الله قال الله تعالى : حرمت بدنك وبدن من أجابك على النار".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي الحديث : "المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة" ؛ أي : يكونون سادات وأكثر الناس ثواباً ، أو جماعات ، أو رجاء ؛ لأن من رجا شيئاً أطال إليه عنقه ، والناس حين يكونون في الكرب يكون المؤذنون أكثر رجاء بأن يؤذن لهم في دخول الجنة كان ذلك جزاء مد أعناقهم عند رفع أصواتهم ، أو طول العنق كناية عن الفرح كما أن خضوعها كناية عن الحزن ، أو معناه إذا وصل العرق إلى أفواه الناس يوم القيامة طالت أعناق المؤذنين في الحقيقة لئلا ينالهم ذلك ، ومن أجاب دعوة المؤذنين يكون معه.
قال الفقهاء : يقطع سامع الأذان كل عمل باليد والرجل واللسان حتى تلاوة القرآن إن كان في غير المسجد ، وإن كان فيه ، فلا يقطع ولا يسلم على أحد وأما رده ، فقد اختلفوا فيه ، فقيل : يجوز.
وقيل : لا يجوز ويشتغل بالإجابة ، واختلفوا في الوجوب والاستحباب ، فقال بعضهم : الإجابة واجبة عند الأذان والإقامة منهم صاحب "التحفة والبدائع".
وقال الآخرون : هي مستحبة وعليه صاحب "الهداية".
ويستحب أن يقول عند سماع الأولى من الشهادة الثانية صلى الله تعالى عليك يا رسول الله وعند سماع الثانية قرة عيني بك يا رسول الله ، ثم يقول : اللهم متعني بالسمع والبصر بعد وضع ظفر الإبهامين على العينين ، كما في "شرح القهستاني" ، وفي "تحفة الصلوات" للكاشفي صاحب "التفسير" نقلاً عن الفقهاء الكبار ، ويقول بعد الأذان : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته.
ويقول عند أذان المغرب خصوصاً : اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك ، فاغفر لي وأول
260
من أذن في السماء جبرائيل وأم ميكائيل عليهما السلام عند البيت المعمور ، وأول من أذن في الإسلام بلال الحبشي رضي الله عنه ، وكان أول مشروعيته في أذان الصبح.
قالت النوار أم زيد بن ثابت : كان بيتي أطول بيت حول المسجد ، فكان بلال يؤذن فوقه من أول ما أذن إلى أن بنى رسول الله عليه السلام مسجده ، فكل يؤذن بعده على ظهر المسجد ، وقد رفع له شيء فوق ظهره ، وأول من أقام عبد الله بن زيد وزاد بلال في أذان الصبح بعد الحيعلات الصلاة خير من النوم مرتين ، فأقرها عليه السلام ؛ أي : اليقظة الحاصلة للصلاة خير من الراحة الحاصلة بالنوم ، ويقول المجيب عنده : صدقت وبالخير نطقت.
وعند قوله في الإقامة : قد قامت الصلاة ، أقامها الله وأدامها ويقيم من أذن لا غيره إلا بإذنه.
وفي بعض الروايات أنه عليه السلام : "أذن مرة واحدة في السفر على راحلته".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
ويروى : أن بلالاً كان يبدل الشين في أشهد سيناً ، فقال عليه السلام سين بلال عند الله شين كما في "إنسان العيون".
وفي المثنوي :
آن بلال صدق در بانك نماز
حى راهى هى همى خواند ازنياز
تابكفتنداى بيمبر نيست راست
اين خطا اكنون كه آغاز بناست
اى نبى واى رسول كردكار
بك مودن كو بود افصح بيار
عيب باشد اول دين وصلاح
لحن خواندن لفظ حي على الفلاح
خشم بيغمبر بجوشيد وبكفت
يك دو رمزى از عنايات نهفت
كاى خسان نزد خداى هي بلال
بهتر از صد حي حي وقيل وقال
وامشو رانيد تا من را زتان
وانكويم آخر وآغاز نان
(8/199)
وأول من زاد الأذان الأول في الجمعة عثمان رضي الله عنه زاده ليؤذن أهل السوق ، فيأتون إلى المسجد.
وكان في زمانه عليه السلام وزمان أبي بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه أذان واحد حين يجلس الإمام على المنبر ، والتذكير قبل الأذان الأول الذي هو التسبيح أحدث بعد السبعمائة في زمن الناصر محمد بن قلاوون لأجل التبكير المطلوب في الجمعة ، وأول ما أحدثت الصلاة والسلام على النبي عليه السلام بعد تمام الأذان في زمن السلطان المنصور الحاجي بن الأشرف شعبان بن حسن بن محمد بن قلاوون في أواخر القرن الثامن ، وأول من أحدث أذان اثنين معاً بنو أمية ، وأول من وضع إحدى يديه عند أذنيه في الأذان ابن الأصم مؤذن الحجاج بن يوسف.
وكان المؤذنون يجعلون أصابعهم في آذانهم ، وأول من رقى منارة مصر للأذان شرحبيل المذكور.
وفي عرافته بنى مسلمة المنابر للأذان بأمر معاوية ، ولم تكن قبل ذلك ، وأول من عرف على المؤذنين سالم بن عامر أقامه عمرو بن العاص ، فلما مات عرف عليهم أخاه شرحبيل ، وأول من رزق المؤذنين عثمان رضي الله عنه ، والجهر واجب في الأذان لإعلام الناس ، ولذا سن أن يكون في موضع عاللٍ ، ولو أذن لنفسه خافت ، وأما التكبيرات في الصلاة ، فالمؤذن يرفع صوته لتبليغ التكبير لمن بعد عن الإمام من المقتدين ، فإن كان في صوت الإمام كفاية ، فالتبليغ مكروه ، كما في "إنسان العيون".
يقول الفقير : أما سر عدد المنارات في الحرم
261
النبوي.
وهي اليوم خمس فإشارة إلى الأوقات الخمسة ، فهو صورة بالدعوات الخمس في الساعات الأربع والعشرين المشتمل عليها الليل والنهار ، وأول من قدر الساعات الاثنتي عشرة نوح عليه السلام في السفينة ، ليعرف بها مواقيت الصلوات ، وأما سر عددها في الحرم المكي ، وهي سبع الآن ، فإشارة إلى مراتب الدعوة إلى الفناء ، وهي سبع عدد الأسماء السبعة التي آخرها القهار ، فإن الكعبة إشارة إلى الذات الأحدية ومراتبها عروجاً هي مراتب الفناء ، إذ البقاء إنما هو بعد النزول ، ولذا أمر عليه السلام بالهجرة إلى المدينة لتتحقق مرتبة البقاء فللكعبة منارة أخرى هي الثامنة من المنارات ، وهي منارة البقاء ، لكنها في بطن الكعبة مدفونة تحتها ، ولم يكن لها ظهور فوق الأرض إلا بحسب المكاشفة كوشفت عنها حين مجاورتي في الحرم وكان للحرم المكي في الأوائل خمسون منارة على ما طالعته في تاريخ القطبي بعضها في الحرم وبعضها على رؤوس الجبال التي هي بينها كل ذلك لإعلام الأوقات ، فهي إشارة إلى أصل الصلوات المفروضة ليلة المعراج ، وهي خمسون حتى خففها الله تعالى ، فبقيت منها خمس ، ولله في كل شيء حكمة عجيبة ومصلحة بديعة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَلا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} ، بيان لمحاسن الأعمال الجارية بين العبد وبين الرب ترغيباً لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الصبر على أذية المشركين ومقاتلة إسائتهم بالإحسان ، ولا الثانية مزيدة لتأكيد النفي ؛ أي : لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة في الجزاء وحسن العاقبة ، فإنك إذا صبرت على أذيتهم وجهالتهم وتركت الانتقام منهم ، ولم تلتفت إلى سفاهتهم ، فقد استوجبت التعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة ، وهم بالضد من ذلك ، فلا يكن إقدامهم على تلك السيئة مانعاً لك من الاشتغال بهذه الحسنة ، وإذا فسرت الحسنة والسيئة بالجنس على أن يكون المعنى لا تستوي الحسنات إذ هي متفاوتة في أنفسها كشعب الإيمان التي أدناها إماطة الأذى ولا السيئات لتفلوتها أيضاً من حيث أنها كبائر وصغائر لم تكن زيادة لا الثانية لتأكيد النفي على ما أشير إليه في "الكشاف".
{ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} : بيان لحسن عاقبة الحسنة ؛ أي : ادفع السيئة حين اعترضتك من بعض أعاديك بالتي هي أحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات كالإحسان إلى من أساء ؛ فإنه أحسن من العفو :
بدى رابدى سهل باشد جزا
امر مردى احسن إلى من اسا
وكان عليه السلام يقول : صل من قطعك واعف عمن ظلمك وأحسن إلى من أساء إليك" ، وما أمر عليه السلام غيره بشيء إلا بعد التخلق به ، وإخراجه مخرج الجواب عن سؤال من قال : كيف؟ مع أن الظاهر أن يقول : فادفع بالفاء السببية للبمالغة ، ولذلك وضع أحسن موضع الحسنة ؛ لأنه أبلغ في الدفع بالحسنة ، فإن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما دونها.
{فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَه عَدَاوَةٌ كَأَنَّه وَلِىٌّ حَمِيمٌ} : بيان لنتيجة الدفع المأمور به ؛ أي : فإذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق ؛ أي : المخالف مثل الولي الشفيق.
روي : أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وذلك أنه لان للمسلمين بعد الشدة ؛ أي : شدة عداوته بالمصاهرة التي جعلت بينه وبين النبي عليه السلام ، ثم أسلم فصار ولياً بالإسلام حميماً بالقرابة.
(از امام اعظم نقلست كسى بمن رسانندكه مرابدمى كويد من درشان او سحن نيكو ترمى كويم تاوقتى من يابم كه او نيكويى من ميكويد) :
262
بدى ردققا عيب من كردو خفت
بترز وقريبى آو رد وكفت
(8/200)
عدو را بالطاف كردن ببند
كه نتوان بريدن بتيغ اين كمند
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
جود شمن كرم بيند ولطف وجود
نيايد ذكر خبث ازو در وجود
جو بادوست دشوار كيرى وتنك
نخواهد كه بيند ترا نقش رنك
وكر خواجه بادشمنان نيك خوست
كسى برنيا يدكه كردند دوست
قال البقلي : بين الله ها هنا أن الخلق الحسن ليس كالخلق السيىء وأمرنا بتبديل الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة وأحسن الأخلاق الحلم إذ يكون به العدو صديقاً ، والبعيد قريباً حين دفع غضبه بحلمه وظلمه بعفوه وسوء جانبه بكرمه.
قال ابن عطاء : لا يستوي من أحسن الدخول في خدمتنا ، والخروج منها ، ومن أساء الأدب في الخدمة.
فإن سوء الأدب في القرب أصعب من سوء الأدب في البعد ، فقد يصفح عن الجهال في الكبائر ويؤاخذ الصديقون باللحظة والالتفات.
{وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ} التلقية : (جيزى بيش كسى آوردن) ؛ أي : وما يلقى ، وما يعطى هذه الخصلة والسجية التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان.
وبالفارسية : (وندهند اين خصلت كه مقابلة بديست بنيكى).
{إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} ؛ أي : شأنهم الصبر ؛ فإنها تحبس النفس عن الانتقام.
{وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ} : (وعطا نكنند اين خصلت وصفت).
{إِلا ذُو حَظِّ عَظِيمٍ} من الفضائل النفسانية والقوة الروحانية ، فإن الاشتغال بالانتقام لا يكون إلا لضعف النفس وتأثرها من الواردات الخارجية ، فإن النفس إذا كانت قوية بالجوهر لم تتأثر من الواردات الخارجية ، وإذا لم تتأثر منها لم يصعب عليها تحمل ، ولم تشتغل بالانتقام.
والحاصل : أنه يلزم تزكية النفس حتى يستوي الحلو والمر ، ويكون حضور المكروه كغيبته.
ففي الآية مدح لهم بفعل الصبر والحظ النصيب المقدر.
قال الجنيد قدس سره في قوله : وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ؛ أي : ما يوفق لهذا المقام إلا ذو حظ من عناية الحق فيه.
وقال ابن عطاء : ذو معرفة بالله وأيامه.
{وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ إِلا ذُو حَظِّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمِنْ ءَايَـاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُا لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَه بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ} : أصله أن ما على أن إن شرطية ، وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط والاستلزام ، فلذا لحقت نون التأكيد بفعل الشرط ؛ فإنها لا تلحق الشرط ما لم يؤكد.
والنزغ شبه النخس كما في "الإرشاد" شبه به وسوسة الشيطان ؛ لأنها بعث على الشر وتحريك على ما لا ينبغي.
وجعل نازغاً على طريقة جد جده فمن ابتدائية ؛ أي : نزغ صادر من جهته ، أو أريد.
وإما ينزغنك نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر ، فكلمة من تجريدية جرد من الشيطان شيطاناً آخر وسمي نازغاً.
والمعنى : وأن يوسوس إليك الشيطان ويصرفك عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن ودعاك إلى خلافه.
{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} من شره ولا تطعه.
{إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ} باستعاذتك {الْعَلِيمِ} بنيتك.
وفي جعل ترك الدفع بالأحسن من آثار نزغات الشيطان مزيد تحذير وتنفير عنه.
وفي الآية إشارة إلى أن النبي أو الولي لا ينبغي أن يكون آمناً من مكر الله وأن الشيطان صورة مكر الحق تعالى : بل يكون على حذر من نزغاته ، فلسيتعذ بالله من همزاته ، فلا يذرها أن تصل إلى القلب ، بل رجع إليه في أول الخطرة ؛ فإنه إن لم يخالف أول الخطرة صار فكرة ، ثم بعد ذلك يحصل
263
العزم على ما يدعو إليه الشيطان ، ثم إن لم يتدارك ذلك تحصل الزلة ، فإن لم يتدارك بحسن الرجعة صار قسوة ويتمادى به الوقت ، فهو يخطر كل آفة ولا يتخلص العبد من نزغات الشيطان إلا بصدق الاستعانة بالله ، والإخلاص في العبودية.
قال الله تعالى : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) ، فكلما زاد العبد في تبريه من حوله وقوته ، وأخلص بين يدي الله تعالى بتضرعه واستعانته زاد الله في حفظه ودفع الله الشيطان عنه ، بل يسلط عليه ليسلم على يديه.
كذا في "التأويلات النجمية".
قال البقلي : هذا تعليم لأمته إذ كان الشيطان أسلم على يده.
قال في "حياة الحيوان" : أجمعت الأمة على عصمة النبي عليه السلام من الشيطان ، وإنما المراد تحذير غيره من فتنة القرين ووسوسته له وإغوائه ، فأعلمنا أنه معنا لنحترز منه حسب الإمكان :
آدمى را دشمن بنهان بسيست
آدمى باحذر عاقل كسيست
وفي الحديث : "ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الجن وقرينه من الملائكة".
قالوا : وإياك قال ، وإياي ، ولكن الله أعانني عليه ، فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/201)
قال سفيان بن عيينة معناه ، فأسلم من شره ، فإن الشيطان لا يسلم.
وقال غيره : هو على صيغة الفعل الماضي ويدل عليه ما قاله عليه السلام "فضلت على آدم بخصلتين كان شيطاني كافراً ، فأعانني الله عليه ، فأسلم وكن أزواجي عوناً لي وكان شيطان آدم كافراً وزوجته عوناً على خطيئته" ، فهذا صريح في إسلام قرين النبي عليه السلام ، وإن هذا خاص بقرين النبي عليه السلام ، فيكون عليه السلام مختصاً بإسلام قرينه ، كذا في "آكام المرجان".
يقول الفقير : لا شك أن الشيطان لا يدخل في دائرة الإسلام حقيقة كما أن النفس لا تتبدل حقيقتها كما قال يوسف الصديق عليه السلام : {إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةُا بِالسُّواءِ} (يوسف : 53) بل تتبدل صفتها ، فالنبي والولي والعدو في هذا سواء إلا أن النبي معصوم والولي محفوظ ، والعدو موكول ، ولذا لم يقولوا : أن النبي والولي ليس لهما نفس أصلاً ، بل قالوا : هو معصوم ومحفوظ فدل على أصل النفس.
وهذا من مزالق الأقدام ، فلا بد من حسن الفهم ، وصحة الكشف ، فمعنى إسلام شيطان النبي عليه السلام دخوله في السلم كأهل الذمة في دار الإسلام حيث لا يقدرون على أذية المسلمين بحال ، ولكن فرق بين إسلام قرين النبي وقرين الولي ، كما دل عليه لفظ العصمة ، والحفظ ، فإن العظمة تعم الذات كلها ، والحفظ يتعلق بالجوارح مطلقاً ، ولا يشترط استصحابه في السر فقد تخطر للولي خواطر لا يقتضيها طريق الحفظ ، لكن يظهر لها حكم على الجوارح.
صاحب "كشف الأسرار" : (فرموده كه نزغ شيطان سورة غضب ست يعنى تيزى خشم كه از حد اعتدال در كذرد وبتهود كشد وازان خصلتهاى بدخيزد جون كبرو عجب وعداوات اما أصل خشم از خود بيفكندن ممكن نباشد زيراكه آن در خلقت است وجون از حد اعتدال بكاهد بددلى بود وبى حميتى باشد وجون معتدل بود آنرا شجاعت كويند وازان حلم وكرم وكظم غيظ خيزد).
وفي الخبر : "خلق الغضب من النار التي خلق منها إبليس".
وفي الحديث : "الغضب من نار الشيطان ألا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه والمتغاضيان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان.
يعني : (بريكد يكر غضب ميكند باطل ميكويد ودروغ
264
ميسازند فان التهاتر بريكديكر دعوى باطل كردن كما في "تاج المصادر").
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم : "إذا عضبت وكنت قائماً فاقعد ، وإن كنت قاعداً فاستعذ بالله من الشيطان" عصمنا الله وإياكم من كيده ورده مكره إليه ، فلا نتوكل ولا نعتمد إلا عليه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ} : (وازنشانهاى قدرت الهيست).
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ} .
قال الإمام المرزوقي : الليل بإزاء النهار ، والليلة بإزاء اليوم.
{وَالشَّمْسُ} : المشتمل عليها النهار يعني : (خورشيد عالم آراى جون جام سيماب).
{وَالْقَمَرُ} : المشتمل عليه الليل يعني : (هيكل ماه كاه جون نعل زرين وكاه جون سر سيمين).
كل منها مخلوق من مخلوقاته مسخر لأمره يعني : تعاقب الليل والنهار على الوجه الذي يتفرع عليه منافع الخلق ومصالحهم وتذلل الشمس والقمر لما يراد منهما من أظهر العلامات الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته وكمال علمه وحكمته :
بر صنع إله بيعدد برهانست
در برك كلى هزار كون الوانست
روزارجه سبيد وروشن وتابانست
آنراكه نديد روز شب يكسانست
(رب العزة كفت ربى اكر خواهى كه در لا يتم نكرىملك السماوات والأرض واكر خواهى كه در سباهم نكرىجنود السماوات والأرض ، ورخواهى كه در صنعم فعلم نكرى).
فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها.
(در خواهى كه در صنعم نكرى).
ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر.
(وخواهى كه فردا درمن نكرى امروز از صنع من بامن نكر بديده دل).
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل (تافردا بفضل من دو نكرى بديده سر).
وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة.
{لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} ؛ لأنهما من جملة مخلوقاته المسخرة لأوامرة مثلكم.
والمراد : الأمر التكويني لا التكليفي إذ لا علم لهما ولا اختيار عند أهل الظاهر.
وأما عند أهل الحقيقة ، فالأمر بخلافه.
ويدل عليه قول الشيخ سعدي : (همه ازبهر توسر كشته وفرمان بردار شرط انصاف نباشدكه توفرمان نبرى).
{وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ} : الضمير للأربعة ؛ لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى ، وإن كان المناسب تغليب المذكر وهو ما عدا الشمس على المؤنث ، وهو الشمس أو لأنها عبارة عن الآيات وتعليق الفعل بالكل مع كفاية بيان مخلوقية الشمس والقمر للإيذان بكمال سقوطهما عن رتبة المسجودية بنظمهما في سلك الأغراض التي لا قيام لها بذاتها ، وهو السر في نظم الكل في آياته تعالى.
وفي المثنوي :
آفتاب ازامر حق طباخ ماست
ابلهى باشدكه كوييم او خداست
آفتابت كربكيرد جون كنى
آن سياهى زونو جون بيرون كنى
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
نى بدركاه خدا آرى صداع
كه سياهى را ببر داده شعاع
كركشندن نيمشب خورشيد كو
تا نيابى با امان خواهى ازو
حادثان اغلب بشب واقع شود
(8/202)
وان زمان معبود نوغايب بود
سوى حق كرراستانه خم شوى
وار هى از اختران محرم شوى
{إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ} تعالى لا غيره.
{تَعْبُدُونَ} ؛ أي : إن كنتم تعبدون إياه لا تسجدوا لغيره ،
265
فإن السجود أقصى مراتب العبادة ، فلا بد من تخصيصه به تعالى.
ولعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود ، فنهوا عن هذه الواسطة ، فأمروا أن لا يسجدوا إلا لذي خلق الأشياء ، فإن قيل : لم لم يجز أن تكون الشمس قبلة للناس عند سجودهم ، قلنا : لأنها جوهر مشرق عظيم الرفعة ، لها منافع في صلاح أحوال الخلق ، فلوأذن في جعلها قبلة في الصلاة بأن يتوجه إليها ، ويركع ويسجد نحوها لربما غلب على بعض الأوهام أن ذلك الركوع والسجود للشمس لابخلاف الأحجار المعينة ، فإنها ليس في جعلها قبلة ما يوهم الإلهية ، وعن عكرمة قال : إن الشمس إذا غربت دخلت بحراً تحت العرش ، فتسبح الله حتى إذا هي أصبحت استعفت ربها من الخروج ، فقال الرب : ولم ذلك ، والرب أعلم أني إذا خرجت عبدت من دونك ، فقال لها الرب : اخرجي فليس عليك من ذلك شيء حسبهم جهنم أبعثها إليهم من ثلاثة عشر ألف ملك يقودونها حتى يدخلوهم فيها.
وفي الحديث : "ليس في أمتي رياء إن راءوا فبالأعمال فأما الإيمان فثابت في قلوبهم أمثال الجبال ، وأما الكبر فإن أحدهم إذا وضع جبهتهتعالى ساجداً فقد برىء من الكبر".
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} ؛ أي : تعظموا عن امتثال أمرك في ترك السجود لغير الله ، وأبوا إلا اتخاذ الواسطة ، فذلك لا يقلل عدد من يخلص عبادته .
{فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} ، فإن الملائكة المقربين عند الله ، فهو علة للجزاء المحذوف.
{يُسَبِّحُونَ لَهُ} ينزهونه عن الأنداد وسائر ما لا يليق به.
{بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ؛ أي : دائماً ، وفي جميع الأوقات وظهر من هذا التقرير أن تخصيص الملائكة مع وجود غيرهم من العباد المخلصين لكثرتهم.
وأيضاً الشمس والقمر عندهم ، فيردون العبادة عنهما غيره بتخصيصها بالله تعالى.
{وَهُمْ لا يَسْـاَمُونَ} السآمة الملالة ؛ أي : لا يفترون ولا يملون من التسبيح والعبادة ، فإن التسبيح منهم كالتنفس من الناس.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وبالفارسية : (وايشان ملول وسير نمى شوند از كثرت عبادت وبيسارى ستايش وبرستش).
روي : أنملكاً يقال له : حوقبائيل.
له ثمانية عشر ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام ، فخطر له خاطر.
هل فوق العرش شيء؟ ، فزاده الله مثلها أجنحة أخرى ، فكان له ستة وثلاثون ألف جناح بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام ، ثم أوحى الله أيها الملك طر فطار مقدار عشرين ألف سنة ، فلم ينل رأس قائمة من قوائم العرش ، ثم ضاعف الله له في الجناح والقوة ، وأمره أن يطير ، فطار مقدار ثلاثين ألف سنة ، فلم ينل أيضاً ، فأوحى الله إليه أيها الملك لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوتك لم تبلغ ساق عرشي ، فقال الملك : سبحان ربي الأعلى ، فأنزل الله : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} (الأعلى : 1) ، فقال عليه السلام : "اجعلوها في سجودكم".
قال عبد العزيز المكي : في هذه الآية سبحان الذي من عرفه لا يسأم من ذكره سبحان الذي من أنس به استوحش من غيره ، سبحان الذي من أحبه أعرض بالكلية عما سواه.
وفي "التأويلات النجمية" : لا تتخذوا ما كشف لكم عند تجلي شمس الروح من المعقولات وأنواع العلوم الدقيقة مقصداً ومعبداً كما اتخذت الفلاسفة ، ولا تتخذوا أيضاً ما شهدتم عند تجلي شواهد الخق في قمر القلب من المشاهدات ومكاشفات العلوم الدينية مقصداً ومعبداً ، كما اتخذ بعض أرباب السلوك ، ووقفوا عند عقبات العرفان والكرامات ، فشغلوا بالمعرفة عن المعروف وبالكرامات
266
عن المكرم.
واتخذوا المقصود والمعبود حضرة جلال الله الذي خلق ما سواه منازل السائرين به إليه إن كنتم من جملة المحبين الصادقين الذين إياه يعبدون طمعاً في وصاله ، والوصول إليه لا من الذي يعبدونه خوفاً من النار وطمعاً في الجنة ، فإن استكبر أهل الأهواء والبدع ولا يوفقون للسجود بجميع الوجود ، فالذين عند ربك من أرواح الأنبياء والأولياء ينزهونه عن احتياجه إلى سجدة أحد من العالمين ، وهم لا يسأمون من التسبيح والتنزيه.
قال الكاشفي : (اين سجدة يازدهم است از سجدات قرآنى وحضرة شيخ أكبر قدس سره الأطهر در فتوحات اين را سجدة احتماد كفت وفرموده كه اكر در آخر آيت اولى سجدة ايشان شرط باشد جه مقارنست).
نقول : إن كنتم إياه تعبدون : (واكر بعد از آيت دوم بسجود دروند سجدة نشاط ومحبت بودجه مقرونست باين كلمات).
وهم لا يسأمون.
والحاصل : أن قوله : تعبدون موضع السجود عند الشافعي ومالك لاقتران الأمر به.
يعني : (تاسجدة مقرن امر باشد).
وعند أبي حنيفة وفي وجه عن الشافعي ، وعند أحمد آخر الآية ، وهم لا يسأمون ؛ لأنه تمام المعنى ، وكل من الأئمة على أصله في السجود ، فأبو حنيفة هو واجب ومالك ، وهو فضيلة ، والشافعي وأحمد هو سنة.
(8/203)
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَه بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْـاَمُونَا * وَمِنْ ءَايَـاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الارْضَ خَـاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْا إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَىا إِنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءَايَـاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآا أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءَامِنًا يَوْمَ الْقِيَـامَةِا اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
{مِّنْ ءَايَـاتِهِ} : دلائل قدرته تعالى.
{أَنَّكَ} يا محمد أو يا أيها الناظر.
{تَرَى الارْضَ} : حال كونها {خَـاشِعَةً} يابسة لا نبات فيها متطامنة يعني : (فرسوده وخشك شده).
مستعار من الخشوع بمعنى التذلل شبه يبس الأرض وخلوها عن الخير والبركة بكون الشخص خاشعاً ذليلاً عارياً لا يؤبه به الدناءة هيئته ، فهي استعارة تبعية يابسة جدبة.
{فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ} : الاهتزاز : التحرك ؛ أي : تحركت بالنبات يعني : (بخبش درآيدر ستن كياه ازو).
{وَرَبَتْ} : وانتفخت ؛ لأن النبت إذا دنا أن يظهر ارتفعت له الأرض ، وانتفخت ثم تصدعت عن النبات ؛ أي : انشقت يقال : ربا ربواً ورباً ، زاد ونما.
والفرس ربواً انتفخ من عدو أو فزع.
وقال الراغب : وربت ؛ أي : زادت زيادة المتربي.
{إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا} بما ذكر بعد موتها والإحياء في الحقيقة إعطاء الحياة ، وهي صفة تقتضي الحس والحركة ، فالمراد بإحياء الأرض تهييج القوى النامية فيها وإحدات نضارتها بأنواع النباتات.
{فَانظُرْ إِلَى} بالبعث.
{أَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ} من الأشياء التي من جملتها الإحياء.
{قَدِيرٌ} مبالغ في القدرة وقد وعد بذلك من أن يفي به والحكمة في الإحياء هو المجازاة والمكافأة.
وفي الآية إشارة إلى إحياء النفوس وإحياء القلوب.
أما الأول فلأن أرض البشرية قد تصير يابسة عند فقدان الدواعي والأسباب ، فإذا نزل عليها ماء الابتلاء والاستدراج تراها تهتز بنباتات المعاصي وأشجار المناهي.
وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
آتشت هيزم فرعون نيست
زانكه جون فرعون اوراعون نيست
نفس ازدرهاست اوكى مرده است
از غم بى التي افسرده است
كرمك است آن ازدها ازده ست فقر
بشه كردد زجاه ومال صقر
ولذا كان أصعب دعاء إليه أن يقال له : أذاقك الله طعم نفسك ، فإنه من ذاق طعم نفسه ، واستحلى ما عنده وشغل به عن المقصود ، فلا يرجى فلاحه أبداً ، وأما إحياء القلوب فبنور الإيمان وصدق
267
الطلب وغلبات الشوق ، وذلك عند نزول مطر اللطف وماء الرحمة.
وعن بعض الصالحين قال : رأيت سمنون في الطواف ، وهو يتمايل ، فقبضت على يده.
وقلت له : يا شيخ بموقفك بين يديه ألا أخبرتني بالأمر الذي أوصلك إليه ، فلما سمع بذكر الموقف بين يديه سقط مغشياً عليه ، فلما أفاق أنشد : ()
ومكتئب لجّ السقام بجسمه
كذا قلبه بين القلوب سقيم
يحق له لو مات خوفاً ولوعة
فموقفه يوم الحساب عظيم
ثم قال : يا أخي أخذت نفسي بخصال أحكمتها.
فأما الخصلة الأولى أمت مني ما كان حياً ، وهو هوى النفس وأحييت مني ما كان ميتاً ، وهو القلب.
وأما الثانية : فإني أحضرت ما كان عني غائباً ، وهو حظي من الدار الآخرة ، وغيبت ما كان حاضراً عندي ، وهو نصيبي من الدنيا.
وأما الثالثة : فإني أبقيت ما كان فانياً عندي ، وهو التقى ، وأفنيت ما كان باقياً عندي ، وهو الهوى.
وأما الرابعة : فإني أنست بالأمر الذي منه تستوحشون وفررت من الأمر الذي إليه تسكنون.
أشار إلى الاستئناس بالله وبذكره ، وإلى الاستيحاش مما سوى الله ، وهو المراد بحسن الخاتمة ، وأما التوحش من الله والإنس بما سواه ، فهو المراد بسوء العاقبة نعوذ بالله ، وربما كان سوء العاقبة بالخروج من الدنيا بغير إيمان.
وكان في زمان حاتم الأصم نباش ، فحضر مجلس حاتم يوماً ، فتاب على يده وإحياه الله بسبب نفس حاتم ، فقال له حاتم : كم نبشت من القبور ، فقال : سبعة آلاف.
قال في كم سنة؟ قال : في عشرين سنة فغشي على حاتم ، فلما أفاق.
قال قبور المسلمين أم قبور الكافرين.
قال : بل قبور المسلمين ، فقال : كم قبراً وجدت صاحبه على غير القبلة.
قال : وجدت ثلاثمائة قبر صاحبه على القبلة ، والباقون على غير القبلة ، فغشي على حاتم.
وذلك لأن خوف كل أحد بحسب مقامه من المعرفة ، فإذا عرف المرء أن في إمامه موتاً وابتلاء ، ثم حشراً وامتحاناً لا يزال في ناحية ، وربما يغلب عليه حاله ، فيغشى عليه.
قال بعضهم : إذا عرج بروح المؤمن إلى السماء.
قالت الملائكة : سبحان الذي نجى هذا العبد من الشيطان ، يا ويحه كيف نجا ، ولكثرة فتن الشيطان وتشبثها بالقلوب عزت السلامة ، فلا بد من الاستقامة في الله وإدامة الذكر والاستعاذة بالله من كل شيطان مضل وفتنة مهلكة.
(8/204)
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ} : الإلحاد في الأصل مطلق الميل والانحراف ومنه اللحد ؛ لأنه في جانب القبر ، ثم خص في العرف بالانحراف عن الحق إلى الباطل ؛ أي : يميلون عن الاستقامة.
{إِنَّ الَّذِينَ} بالطعن فيها بأنها كذب ، أو سحر ، أو شعر أو بتحريفها بحملها على المحامل الباطلة.
{لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ} ، فنجازيهم بإلحادهم ، ثم نبه على كيفية الجزاء ، فقال : {أَفَمَن} : (آيا كسى كه).
{يُلْقَى فِى النَّارِ} عل وجهه وهم الكفرة بأنواعهم.
{خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءَامِنًا} من النار {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} ، وهم المؤمنون على طبقاتهم قابل الإلقاء في النار بالإتيان آمناً مبالغة في إحماد حال المؤمنين بالتنصيص على أنهم آمنون يوم القيامة من جميع المخاوف ، فلو قال : أم من يدخل الجنة ، لجاز من طريق الاحتمال أن يبدلهم الله من بعد خوفهم أمناً ولك أن تقول الآية من الاحتباك حذف من الأول مقابل الثاني ، ومن الثاني مقابل الأول.
والتقدير : أفمن يأتي خائفاً ويلقى في النار خير أم من يأتي آمناً ويدخل الجنة يعني : أن الثاني خير
268
من الأول.
{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} من الأعمال المؤدية إلى ما ذكر من الإلقاء في النار والإتيان آمناً وآثروا ما شئتم ، فإنكم لا تضرون إلا أنفسكم ، وفيه تهديد شديد لظهور أن ليس المقصود الأمر بكل عمل شاؤوا.
قال في "الأسلئة المقحمة" : هو أمر وعيد ومعناه : أن المهلة ما هي لعجز ولا لغفلة ، وإنما يعجل من يجاف الفوت وهو أبلغ أسباب الوعيد {إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم بحسب أعمالكم :
حيل ومكر رها كن كه خدا مى داند
نقد مغشوش مياور كه معامل بيناست
وفي الآية : تخريف لأهل الشطح والطامات الذين يريدون العزة عند العامة ، ويزعقون ويمزقون ثيابهم ويجلسون في الزوايا ويتزهدون وينظرون في "تصانيف" المشايخ.
ويقولون عليها ما يجهلون ويتزخرفون وينتظرون دخول الأمراء عليهم ، ويدعون المكاشفة والأحوال والمواجيد لا يخفى على الله كذبهم وزورهم وبهيئاتهم ونياتهم الفاسدة وقلوبهم الغافلة ، وكذا على أوليائه من الصديقين والعارفين الذين يرون خفايا قلوب الخلق بنور الله لو رأيتهم كيف يفتضحون يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وترى أهل الحق ينظرون إلى الحق بأبصار نافذة وقلوب عاشقة لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة وقد وصف النبي هؤلاء الملحدين وشبههم بالفراعنة ، وشبه قلوبهم بقلوب الذئاب.
كما قال عليه السلام : "يخرج في أمتي أقوام لسانهم لسان الأنبياء وقلوبهم كقلوب الفراعنة".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وقال في موضع آخر : "كقلوب الذئب يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية أفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".
قال بعضهم : معنى هذه الآية أن الذين يجترئون علينا على غير سبيل الحرمة ، فإنه لا يخفى علينا جراءتهم علينا وتعديهم في دعواهم.
وقال ابن عطاء : في هذه الآية أن المدعي عن غير حقيقة سيرى منا ما يستحقه من تكذيبه على لسانه وتفضيحه في أحواله.
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءَايَـاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآا أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءَامِنًا يَوْمَ الْقِيَـامَةِا اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّه لَكِتَـابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَّا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَا إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} .
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} ؛ أي : القرآن ، فيكون من وضع الظاهر موضع ضمير الآيات.
{لَمَّا جَآءَهُمْ} ؛ أي : بادهوه بالكفر والإنكار ساعة جاءهم وأول ما سمعوه من غير إجالة فكر وإعادة نظر وكذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل قوله : إن الذين إلخ ، بدل من قوله : إن الذين يلحدون.
إلخ.
بدل الكل بتكرير العامل وخبر إن هو الخبر السابق ، وهو لا يخفون علينا ؛ لأن إلحادهم في الآيات كفر بالقرآن ، فلهذا اكتفى بخبر الأول عن الثاني إلا أنه غير معهود إلا في الجار والمجرور لشدة الاتصال.
قال الرضي : ولا يتكرر في اللفظ في البدل من العوامل إلا حرف الجر لكونه ، كبعض حروف المجرور.
وقيل : مستأنف وخبرها محذوف مثل سوف نصليهم ناراً ، وذلك بعد قوله : حميد.
(8/205)
وقال الكسائي : سد مسد الخبر السابق.
{وَإِنَّهُ} .
إلخ.
جملة حالية مفيدة لغاية شناعة الكفر به ؛ أي : والحال أن الذكر.
{لَكِتَـابٌ عَزِيزٌ} ؛ أي : كثير المنافع عديم النظير ، فهو من العز الذي هو خلاف الذل ، أو منيع لا يتأتى معارضته وإبطاله وتحريفه ، فهو من العزة بمعنى الغلبة ، فالقرآن ، وإن كان لا يخلو عن طعن باطل من الطاعنين ، وتأويل فاسد من المبطلين إلا أنه يؤتى بحفظة ، ويقدر له في كل عصر منعة يحرسونه بإبطال شبه أهل الزيغ والأهواء ورد تأويلاتهم الفاسدة ، فهو غالب بحفظ الله إياه وكثرة منعته على كل من يتعرض له بالسوء إمام قشيري قدس سره : (فرموده كه قرآن عزيز است زيزا كلام رب عزيز ست كه ملك عزيز بر رسول عزيز آورده
269
براى امت عزيز با آنكه دوست است بنزديك دوست ونامة دوست نزد دوستان عزيز باشد) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
زنام ونامة تويافتم عزو كرامت
هزارجان كرامى فداى خامه ونامت
قال ابن عطاء : عزيز ؛ لأنه لا يبلغ حد حقيقة حقه لعزه في نفسه وعز من أنزل عليه وعز من خوطب به من أوليائه ، وأهل صفوته.
{لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} .
صفة أخرى لكتاب ؛ أي : لا يتطرق إليه الباطل ولا يجد إليه سبيلاً من جهة من الجهات حتى يصل إليه ويتعلق به ؛ أي : من راموا فيه أن يكون ليس حقاً ثابتاً من عند الله وإبطالاً له لم يصلوا إليه ذكر أظهر الجهات ، وأكثرها في الاعتبار ، وهو جهة القدام الخلق.
وأريد الجهات بأسرها ، فيكون قوله : لا يأتيه الباطل من بين إلخ.
استعارة تمثيلية شبه الكتاب في عدم تطرق الباطل إليه بوجه من الوجوه بمن هو محمي بحماية غالب قاهر يمنع جاره من أن يتعرض له العدو من جهة من جهاته ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بأن عبر عن المشبه بما عبر به عن المشبه به ، فقال : لا يأتيه.
إلخ.
أو لا يأتيه الباطل فيما أخبر عما مضى ولا فيما أخبر عن الأمور الآتية ، أو الباطل هو الشيطان لا يستطيع أن يغيره بأن يزيد فيه أو ينقص منه ، أو لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ولا يجيء بعده كتاب يبطله أو ينسخه.
{تَنزِيلٌ} : أي : هو تنزيل أو صفة أخرى لكتاب مفيدة لفخامته الإضافية بعد إفادة فخامته الذاتية وكل ذلك لتأكيد بطلان الكفر بالقرآن.
{مِّنْ حَكِيمٍ} ؛ أي : حكيم مانع عن تبديل معانيه بأحكام مبانيه.
{حَمِيدٍ} ؛ أي : حميد مستحق للتحميد بإلهام معانيه أو يحمده كل خلق في كل مكان بلسان الحال ، والمقال بما وصل إليه من نعمه.
وفي "التأويلات النجمية" : إن من عزة الكتاب لا يأتيه الباطل ، يعني : أهل الخذلان من بين يديه بالإيمان به ، ولا من خلفه بالعمل به تنزيل من حكيم ينزل بحكمته على من يشاء من عباده لمن يشاء أن يعمل به حميد في أحكامه وأفعاله ؛ لأنها صادرة منه بالحكمة.
وعن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله عليه السلام يقول : "إلا أنها" الضمير للقصة "ستكون فتنة" ، فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار.
بيان لمن؟ والجبال إذا أطلق على إنسان يشعر بالصفة المذمومة ينبه بذلك على أن ترك القرآن والإعراض عنه ، وعن العمل به ، إنما هو الجبر والحماقة.
"فصمه الله" كسره وأهلكه دعاء عليه ، أو خبر "ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله" دعاء عليه وإخبار بثبوت الضلالة ، فإن طلب الشيء في غير محله ضلال.
"
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وهو حبل الله" ؛ أي : عهده وأمانه الذي يؤمن به العذاب.
وقيل : هو نور هداه.
وفي الحديث : "القرآن كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض" ؛ أي : نور ممدود.
وقيل : هو السبب القوي والوصلة إلى من يوثق عليه ، فيتمسك به من أراد التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار السرور "المتين" ؛ أي : القوي يعني : هو السبب القوي المأمون الانقطاع المؤدي إلى رحمة الرب.
"وهو الذكر" ؛ أي : القرآن ما يتذكر به ويتعظ به.
"الحكيم" ؛ أي : المحكم آياته ؛ أي : قوي ثابت لا ينسخ إلى يوم القيامة ، أو ذو الحكمة في تأليفه.
"وهو الصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء" ؛ أي : لا يميل بسببه أهل الأهواء ، يعني : لا يصير به مبتدعاً وضالاً "ولا تلتبس به الألسنة" ؛ أي : لا يختلط به غيره بحيث يشتبه كلام الرب بكلام غيره لكونه معصوماً.
"ولا يشيع منه العلماء" ؛ أي : لا يحيط
270
علمهم بكنهه ، بل كلما تفكروا تجلت لهم معاننٍ جديدة كانت في حجب مخفية.
(8/206)
"ولا يخلق" خلق الشيء يخلق بالضم فيهما خلوقة إذا بلي ؛ أي : لا يزول رونقه ولا يقل طرواته ولذة قراءته واستماعه.
"عن كثرة الرد" ؛ أي : عن تكرر تلاوته على لسنة التالين وآذان المستمعين وأذهان المتفكرين مرة بعد أخرى ، بل يصير كل مرة يتلوه التالي أكثر لذة على خلاف ما عليه كلام المخلوقين.
وهذه إحدى الآيات المشهورة.
"ولا تنقضي عجائبه" ؛ أي : لا ينتهي أحد إلى كنه معانيه العجيبة وفوائده الكثيرة.
"هو الذي لم تنته الجن" ؛ أي : لم تقف إذ سمعته حتى {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًَا عَجَبًا} (الجن : 1) مصدر وصف به للمبالغة ؛ أي : عجيباً لحسن نظمه {يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ} (الجن : 2) ؛ أي : يدل إلى الإيمان والخير.
{يَهْدِى إِلَى} (الجن : 2)وصدقناه من قال به صدق ومن عمل به رشد" ؛ أي : يكون راشداً مهدياً.
(ومن حكم به ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم).
كذا في "المصابيح".
وفي الحديث : "يدعى يوم القيامة بأهل القرآن ، فيتوج كل إنسان بتاج لكل تاج سبعون ألف ركن ما من ركن إلا وفيه ياقوتة حمراء تضيء من مسيرة.
كذا من الأيام والليالي ، ثم يقال : له أرضيت ، فيقول : نعم ، فيقول له الملكان اللذان كانا عليه يعني : الكرام الكاتبين : زده يا رب ، فيقول الرب اكسوه حلة الكرامة ، فيلبس حلة الكرامة ، ثم يقال له : أرضيت؟ فيقول : نعم فيقول ملكاه زده يا رب ، فيقول لأهل القرآن أن ابسط يمينك فتملأ من الرضوان ؛ أي : رضوان الله ، ويقال له : ابسط شمالك فتملأ من الخلد ، ثم يقال له : أرضيت؟ ، فيقول : نعم يا رب ، فيقول ملكاه : زده يا رب ، فيقول الله : إني قد أعطيته رضواني وخلدي ، ثم يعطى من النور مثل الشمس فيشيعه سبعون ألف ملك إلى الجنة ، فيقول الرب : انطلقوا به إلى الجنة ، فأعطوه بكل حرف حسنة ، وبكل حسنة درجة ما بين الدرجتين مسيرة مائة عام".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي حديث آخر : "يجاء بأبويه ، فيفعل بهما من الكرامة ما فعل بولدهما تكرمة لصاحب القرآن ، فيقولان من أين لنا هذا ، فيقول بتعليمكما ولدكما القرآن" :
بخردى درش زجر وتعليم كن
به نيك وبدش وعده وبيم كن
هرآن طفل كو جور آموز كار
نه بيند جفا بيند از روزكار
{مَّا يُقَالُ لَكَ} .
إلخ.
تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عما يصيبه من أذية الكفار ؛ أي : ما يقال في شأنك وشأن ما أنزل إليك من القرآن من جهة كفار قومك.
{إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} إلا مثل ما قد قيل في حقهم ، وفي حق الكتب السماوية المنزلة عليهم مما لا خير فيه من الساحر ، والكاهن والمجنون والأساطير ونحوها.
{إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} لأنبيائه ومن آمن بهم.
{وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لأعدائهم الذين لم يؤمنوا بهم وبما أنزل إليهم والتزموا الأذية ، وقد نصر من قبلك من الرسل ، وانتقم من أعدائهم وسيفعل مثل ذلك بك وبأعدائك أيضاً.
وفيه إشارة إلى حال الأولياء أيضاً ؛ فإنهم ورثة الأنبياء فلهم أعداء وحساد يطلقون ألسنتهم في حقهم باللوم والطعن بالجنون والجهل ونحو ذلك.
ولكنهم يصبرون على الجفاء والأذى ، فيظفرون بمراداتهم كما صبر الأنبياء ، فطفروا.
وفي آية أخرى : {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَـاـاهُمْ نَصْرُنَا} (الأنعام : 34) ؛ أي : ظاهراً بهلاك القوم ، أو بإجابة الدعوة وباطناً بالتخلق بالأخلاق الإلهية مثل الصبر ، فإنه نصر ؛
271
أي : نصر إذ به يحصل المرام.
وفي المثنوي :
صد هزاران كيميا حق آفريد
كيميايى همجو صبر آدم نديد
وبذلك ينقلب الإنسان بالصبر من حال إلى حال أخرى أحسن من الأولى ، كما ينقلب النحاس بالأكسير فضة ، أو ذهباً.
ودلت الآية على أنه ليس من الحكمة أن يقطع لسان الخلق بعضهم عن بعض ألا ترى أنه تعالى لم يقطع لسان الخلق عن ذاته الكريمة.
حتى قالوا في حقه تعالى أن له صاحبة وولداً ، ونحو ذلك ، فكيف غيره تعالى من الأنبياء والمرسلين والأولياء والمقربين ، فالنار لا ترتفع من الدنيا إلا يوم القيامة ، وإنما يرتفع الاحتراق بها كما وقع لإبراهيم عليه السلام ، وغيره من الخواص ، فكل البلايا كالنار ، فبطون الأولياء وقلوب الصديقين في سلامة من الاحتراق بها ؛ فإنه لا يجري إلا ما قضاه الله تعالى ، ومن آمن بقضاء الله سلم من الاعتراض والانقباض.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وهكذا شأن الكبار نسأل الله الغفار السلامة من عذاب النار.
(8/207)
{مَّا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَا إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ * وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ قُرْءَانًا أعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ ءَايَـاتُه ا ءَا عْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّا قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَآءٌا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوالَـائِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ فَاخْتُلِفَ فِيه وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} .
{وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ} ؛ أي : الذكر.
{قُرْءَانًا أعْجَمِيًّا} منتظماً على لغة العجم مؤلفاً عليها والأعجمي في الأصل يقال : لذات من لايفصح عن مراده بلغة لسانه ، وإن كان من العرب ولكلامه الملتبس الذي لا يوضح المعنى المقصود أطلق ها هنا على كلام مؤلف على لغة العجم بطريق الاستعارة تشبيهاً له بكلام من لا يفصح من حيث أنه لا يفهم معناه بالنسبة إلى العرب.
وهذا جواب لقول قريش تعنتاً هلا أنزل القرآن بلغة العجم.
يعني : (قرآن جرا بلعت عجم فروا نيامد).
{لَّقَالُوا} : (هرآينه ميكفتند كفار قريش).
{لَوْلا} : حرف تحضيض بمعنى هلا و حرف التحضيض إذا دخل على الماضي كان معناه اللوم والتوبيخ على ترك الفعل ، فهو في الماضي بمعنى الإنكار.
{فُصِّلَتْ ءَايَـاتُه} ؛ أي : بينت بلسان نفقهه من غير ترجمان عجمي ، وهو من كان منسوباً إلى أمة العجم فصيحاً كان ، أو غير فصيح.
{ءَا عْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ} إنكار مقرر للتحضيض.
فالهمزة الأولى : همزة الاستفهام المعنى بها الإنكار.
والأعجمي كلام لا يفهم معناه ولغة العجم كذلك بالنسبة إلى العرب كما أشير إليه آنفاً.
والياء ليست للنسبة الحقيقة ، بل للمبالغة في الوصف كالأحمري.
والمعنى : لأنكروا وقالوا : كلام أو قرآن أعجمي ورسول أم مرسل إليه عربي ؛ أي : لقالوا : كيف أرسل الكلام العجمي إلى القوم العرب ، فكان ذلك أشد لتكذيبهم على أن الإقرار مع كون المرسل إليهم أمة جمة لما أن المراد بيان التنافي.
والتنافي بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب واحداً ، أو جمعاً.
وقرأ هشام أعجمي على الإجبار لا على الاستفهام والإنشاء ؛ أي : بهمزة واحدة هي في أصل الكلمة ، فالتفصيل يجوز أن يكون بمعنى التفريق والتمييز ، لا بمعنى التبيين كما في القراءة الأولى.
فالمعنى : ولو جعلنا المنزل كله أعجمياً لقالوا : لولا فرقت آياته وميزت بأن جعل بعضها أعجمياً لإفهام العجم وبعضها عربياً لإفهام العرب أعجمي وعربي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
والمقصود بيان أن آيات الله على أي وجه جاءتهم وجدوا فيها متعنتاً يتعللون به ؛ لأن القوم غير طالبين للحق ، وإنما يتبعون أهواءهم :
در جشم اين سياه دلان صبح كاذبست
درر وشنى اكر يد بيضا شود كسى
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى إزاحة العلة لمن أراد أن يعرف صدق الدعوة وصحة
272
الشريعة ، فإنه لا نهاية للتعليل بمثل هذه التعلللات ؛ لأنه تعالى لو جعل القرآن أعجمياً وعربياً ، لقالوا لولا جعله عبرانياً وسريانياً.
{قُلْ هُوَ} ؛ أي : الذكر.
{هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
{وَشِفَآءٌ} لما في الصدور من شك وشبهة أو شفاء ، حيث استراحوا به من كد الفكرة وتحير الخواطر ، أو شفاء لضيق صدور المريدين لما فيه من التنعم بقراءته ، والتلذذ بالتفكر فيه ، أو شفاء لقلوب المحبين من لواعج الاشتياق لما فيه من لطائف المواعيد ، أو شفاء لقلوب العارفين لما يتولى عليها من أنوار التحقيق ، وآثار خطاب الرب العزيز.
{وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} : مبتدأ خبره قوله : {وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ قُرْءَانًا} ؛ أي : ثقل وصمم على أن التقدير هو أي القرآن في آذانهم وقر على أن وقر الخبر للضمير المقدر ، وفي آذانهم متعلق بمحذوف وقع حالاً لوقر لبيان محل الوقر ، وهو أوفق لقوله تعالى : {وَهُوَ} ؛ أي : القرآن {عَلَيْهِمُ} ؛ أي : على الكفار المعاندين {عَمًى} ، وذلك لتصاممهم عن سماعه وتعاميهم عما يريهم من الآيات ، وهو بفتح الميم المنونة ؛ أي : ذوي عمى على معنى عميت قلوبهم عنه ، وهو مصدر عمى يعمى كعلم.
(8/208)
وفي "المفردات" : محتمل لعمى البصر والبصيرة جميعاً.
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما بكسر الميم بمعنى : خفي.
وبالفارسية : (واين كتاب برايشان بوشيد كيسنت تاجلوه جمال كمال اونه بينند).
{أُوالَـائِكَ} البعداء الموصوفون بما ذكر من التصامم عن الحق الذي يسمعونه والتعامي عن الآيات الظاهرة التي يشاهدونها.
{يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ} : تمثيل لهم في عدم قبولهم واستماعهم للقرآن بمن ينادي ويصيح به من مسافة بعيدة لا يكاد يسمع من مثلها الأصوات.
يعني : (مثل ايشان جون كسيست كه اورا از مسافة دور ودراز بخواندند نه خواننده را بيند ونه آواز اورا شنودبس اورا ازان نداجه نفع رسد) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
نادى اقبال ميكويد كه اي ناقابلان
ما بسى نزديك نزديك وشما بس دوردور
قال الشيخ سعدي در جامع بعلبك : (كلمة جندبر طريق وعظ ميكفتم باطائفة افسر ده ودل مرده وراه از عالم صوت بمعنى نبرده ديدم كه نفسم درنمى كيردو آتشم در هيزم ترايشان اثر نمى كنند دريغ آمدم تربية ستوران وآينه دارى در محله كوران وليكن در معنى باز بودو سلسلة سخن دراز ودربيان اين آيت كه كفت خداى تعالى).
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (سخن بجايى رسيده بود كه ميكفتم) :
دوست نزديكتر ازمن بمنست
وين غجبتر من ازوى دورم
جه كنم باكه توان كفت كه او
در كنار من ومن مهجورم
(من از شرح اين سخن مست وفضلة قدح دردست كه روندة از كنار مجلس كذر كردودور آخر برو اثر كرد نعرة جنان زدكه ديكران درموافقت اودر خروش امدند وخامان مجلس درجوش كفتم سبحان الله دوران با خبر در حضورست ونزديكان بى بصر دور) :
فهم سخن جون نكند مستمع
قوت طبع از متكلم مجوى
فسحت ميدان ارادت بيار
تابز ندمرد سخن كوى كوى
وعن الضحاك ينادون يوم القيامة بأقبح أسمائهم من مكان بعيد يعني : يقال يا فاسق يا منافق يا كذا ،
273
ويا كذا ، فيكون ذلك أشد لتوبيخهم وخزيهم.
وفي "التأويلات النجمية" : أولئك ينادون من مكان بعيد ؛ لأن النداء إنما يجيء من فوق أعلى عليين ، وهم في أسفل السافلين من الطبيعة الإنسانية ، وهم أبعد البعداء.
وقال ذو النون رحمه الله : من وقر سمعه وصم عن نداء الحق في الأزل لا يسمع نداءه عند الإيجاد ، وإن سمعه كان عليه عمى ، ويكون عن حقائقه بعيداً ، وذلك أنهم نودوا عن بعد ، ولم يكونوا بالقرب نسأل الله القرب على كل حال.
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} ؛ أي : وبالله لقد آتيناه التوراة ، فاختلف فيها ، فمن مصدق لها ، ومن مكذب وغيروها من بعده بخمسمائة عام.
وهكذا حال قومك في شأن ما آتيناك من القرآن ، فمن مؤمن به ومن كافر ، وإن كانوا لا يقدرون على تحريفه ، فإنا له لحافظون ، فاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم غير مختص بقومك ، ففيه تسلية له عليه السلام.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} في حق أمتك المكذبة ، وهي العدة بتأخير عذابهم ، والفصل بينهم وبين المؤمنين من الخصومة إلى يوم القيامة بنحو قوله تعالى : {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} (القمر : 46).
وقوله تعالى : {وَلَـاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً} (فاطر : ).
{لَقُضِىَ} في الدنيا وحكم {بَيْنَهُمْ} باستئصال المكذبين كما فعل بمكذبي الأمم السالفة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
يقول الفقير : إنما لم يفعل الاستئصال ؛ لأن نبينا عليه السلام كان نبي الرحمة ؛ ولأن مكة كانت مهاجر الأنبياء والمرسلين ومهبط الملائكة المقربين بأنواع رحمة رب العالمين ، فلو وقع فيها الاستئصال لكانت مثل ديار عاد وثمود ، ووقعت النفرة لقلوب الناس.
وقد دعا إبراهيم عليه السلام بقوله : {فَاجْعَلْ أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ} (الحج : 37) فكان من حكمته أن لا يجعل الحرم المبارك الآمن مصارع السوء ، وأن يقيه من نتائج سخطه.
{وَإِنَّهُمْ} ؛ أي : كفار قومك.
{لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} ؛ أي : من القرآن.
{مُرِيبٍ} : موجب للاضطراب موقع فيه.
وبالفارسية : (كمانى باضطراب آورده).
وتمامه في آخر سور سبأ ، فارجع والشك عبارة عن تساوي الطرفين ولتردد فيهما من غير ترجيح والوعم ملاحظة الطرف المرجوح ، وكلاهما تصور لا حكم معه ؛ أي : لا تصديق معه أصلاً.
{مَنْ} : (هركه).
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ فَاخْتُلِفَ فِيه وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} .
(8/209)
{وَعَمِلَ صَـالِحًا} بأن آمن بالكتب وعمل بموجبها.
{فَلِنَفْسِهِ} فعمله أو فنفعه لنفسه لا لغيره.
{وَمَنْ أَسَآءَ} : (وهركه بكند عمل بد والاساءة بدى كردن).
{فَعَلَيْهَا} ضرره لا على غيرها.
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} ، فيفعل بهم ما ليس له أن يفعله ، بل هو العادل المتفضل الذي يجازي كل أحد بكسبه ، وهو اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مبني على تنزيل ترك إثابة المحسن بعمله ، أو إثابة الغير بعمله وتنزيل التعذيب بغير إساءة أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه سبحانه ؛ أي : هو منزه عن الظلم.
يقال : من ظلم وعلم أنه يظلم ، فهو ظلام.
وقال بعضهم : أصله وما ربك بظالم ، ثم نقل مع نفيه إلى صيغة المبالغة ، فكانت المبالغة راجعة إلى النفي على معنى أن الظلم منفي عنه نفياً مؤكداً مضاعفاً ، ولو جعل النفي داخلاً على صيغة المبالغة بتضعيف ظالم بدون نفيه ، ثم أدخل عليه النفي لكان المعنى أن تضعيف الظلم منفي عنه تعالى ، ولا يلزم منه نفيه عن أصله والله تعالى منزه عن الظلم مطلقاً ، ويجوز أن يقال : صيغة المبالغة باعتبار كثرة العبيد لا باعتبار كثرة الظلم ، كما قال تعالى : {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف : 49).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفي الحديث القدسي : "إني حرمت الظلم على نفسي وعلى عبادي ألا فلا تظالموا" ـ بفتح التاء ـ أصله تتظالموا.
274
والظلم هو : التصرف في ملك الغير أو مجاوزة الحد.
وهذا محال في حق الله تعالى ؛ لأن العالم كله ملك ، وليس فوقه أحد يحدّ له حداً ، ولا تجاوز عنه.
فالمعنى : تقدست وتعاليت عن الظلم ، وهو ممكن في حق العباد ، ولكن الله منعهم عنه.
وفي الحديث : "من مشى مع ظالم ليعينه ، وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام".
وفي حديث آخر : "من مشى خلف ظالم سبع خطوات فقد أجرم".
قال الله تعالى : {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} (السجدة : 22).
وكان من ديدن السلطان بسمرقند الامتحان بنفسه مرات لطلبة مدرسته المرتبين أعالي وأواسط وأداني بعد تعيين جماعة كثيرة من العدول غير المدرس للامتحان من الأفاضل حذراً من الحيف.
وكان بعد الحيف في الرتبة بين المستعدين من قبيل الكفر في الدين وأكثر المستعدين في هذا الزمان على الخذلان والحرمان.
قال الصائب : (تير بختى لازم طبع بلند افتاده است باى خودرا جون تواند داشتن روشن جراغ).
ينبغي للعاقل أن يسارع إلى الأعمال الصالحة دائماً خصوصاً في زمان انتشار الظلم والفساد وغلبة الهوى على النفوس والطباع ، فإن الثبات على الحق في مثل ذلك الوقت أفضل وأعظيم.
قال ابن الماجشون ، وهو أي : ابن الماجشون كان من أهل المدينة.
وكان مع عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة لما خرج روح أبي وضعناه على السرير ، فدخل عليه غاسل فرأى عرقاً يتحرك في أسفل قدمه فمكث ثلاثة أيام ، ثم استوى جالساً.
وقال : ائتوني بسويق ، فأتوا به فشرب فقلنا له : خبرنا ما رأيت.
قال : عرج بروحي فصعد بي الملك حتى أتى إلى السماء الدنيا ، فاستفتح ففتح له حتى انتهى إلى السابعة.
فقيل له : من معك؟ قال : الماجشون ، فقيل : لم يؤذن له بعد يفي من عمره.
كذا ثم هبط بي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلّم وأبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره وعمر بن عبد العزيز بين يديه ، فقلت للملك : إنه لقريب المقعد من رسولعليه السلام.
قال : إنه عمل بالحق في زمن الجور وأنهما عملا بالحق في زمن الحق (بقومى كه نيكى بسندد خداى) :
دهد خسر وعادل ونيك راى
جوخواهد كه ويران كند عالمى
كند ملك دربنجه ظالمى
ومن الله الأمن والسلامة
{مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ * إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِا وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِه وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآءِى قَالُوا ءَاذَنَّـاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُا وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{إِلَيْهِ} تعالى لا إلى غيره.
{يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} إذا سئل عن القيامة يقال : الله يعلم إذ لا يعلمها إلا الله ، فإذا جاءت يقضي بين المحسن والمسيء بالجنة والنار.
{وَمَآ} نافية.
{تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ} من مزيدة للتنصيص على الاستغراق ؛ فإنه قبل دخولها يحتمل نفي الجنس ونفي الوحدة.
والمعنى بالفارسية : (وبيرون نيايد هيج ميوه).
{مِّنْ أَكْمَامِهَا} من أوعيتها يعني الكفرى قبل أن ينشق.
وقيل : قشرها الأعلى من الجوز واللوز والفستق وغيرها.
جمع كم بالكسر ، وهو وعاء الثمرة وغلافها ؛ أي : ما يغطي الثمرة كما أن الكم بالضم ما يغطي اليد من القميص.
{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى} :
275
(8/210)
(وبار نكيرد هيج مادة ازانسان وسائر حيوانات).
{وَلا تَضَعُ} حملها بمكان على وجه الأرض.
{إِلا بِعِلْمِهِ} استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، ولم يذكر متعلق العلم للتعميم ؛ أي : وما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع ملابساً بشيء من الأشياء إلا ملابساً بعلمه المحيط واقعاً حسب تعلقه به ، يعلم وقت خروج الثمرة من أكمامها وعددها وسائر ما يتعلق بها من أنها تبلغ أوان النضج أو تفسد قبل ونحوه ، ووقت الحمل وعدد أيامه وساعاته وأحواله من الخداج والتمام والذكورة والأنوثة.
والحسن والقبح وغير ذلك.
ووقت الوضع وما يتعلق به ، ولعل ذكر هذه الجمل الثلاث بعد ذكر الساعة لاشتمالها على جواز البعث ، وإحياء الموتى.
وفي "حواشي ابن الشيخ" : المعنى أن إليه يضاف علم الساعة ؛ أي : علم وقت وقوع القيامة ، فإذا سئلت عنه فرد العلم إليه ، فقل الله أعلم كما يرد إليه علم جميع الحوادث الآتية من الثمار والنبات وغيرهما.
روي : أن منصور الدوانقي أهمه مدة عمره فرأى في منامه شخصاً أخرج يده من البحر وأشار بالأصابع الخمس فاستفتى العلماء في ذلك فتأولوه بخمس سنين وبخمسة أشهر وبغير ذلك حتى قال أبو حنيفة تأويله أن مفاتح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله ، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه أخذه أبو حنيفة رحمه الله من قوله عليه السلام مفاتح الغيب خمسة ، وتلا قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الارْحَامِا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسُا بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان : 34).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
يقول الفقير : ظهر من هذا وجه الجمع بين علم الساعة وعلم خروج الثمرات إذ هو داخل في تنزيل الغيث ؛ لأنه بالغيث والرياح تخرج النباتات ، وتظهر الثمرات.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} ؛ أي : اذكر يا محمد لقومك يوم يناديهم الله {أَيْنَ شُرَكَآءِى} بزعمكم كما نص عليه في قوله تعالى : {نَادُوا شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} (الكهف : 52) وبالفارسية كجا اند انبازان بزعم شما.
{قَالُوا ءَاذَنَّـاكَ} ؛ أي : أخبرناك وأعلمناك.
{مَا مِنَّا} : (نيست ازما).
{مِن شَهِيدٍ} من أحد يشهد لهم بالشركة إذ تبرأنا منهم لما عاينا الحال ، فيكون السؤال عنهم للتوبيخ ، والشهيد من الشهادة ، أو ما منا من أحد يشهدهم ؛ لأنهم ضلوا عنهم حينئذٍ فهم لا يبصرونهم في ساعة التوبيخ ، فالشهيد من الشهود.
قال في "حواشي سعدي المفتي" : والظاهر أنه كقولهم ، والله ربنا ما كنا مشركين ، بل الإشارة بقولهم آذناك إلى هذا القول الذي أجابوا به أولاً متعمدين للكذب.
انتهى.
وفي "الإرشاد" قولهم : آذناك إما لأن ؛ لأن هذا التوبيخ مسبوق بتوبيخ آخر مجاب بهذا الجواب أو لأن معناه الإنشاء لا الإخبار بإيذان قد كان انتهى.
{وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ} ؛ أي : غاب عن المشركين الآلهة التي كانوا يعبدونها من قبل يوم القيامة ، أو ظهر عدم نفعهم ، فكان حضورهم كغيبتهم.
{وَظَنُّوا} ؛ أي : أيقنوا.
{مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} مهرب.
وبالفارسية : (ويقين دانندكه اذ عذاب وعقوبت نيست ايشانرا هيج كريز كاهى).
من حاص يحيص حيصاً ومحيصاً إذا هرب.
وفي "المفردات" : أصله من قولهم : وقع في حيص بيص ؛ أي : في شدة وحاص عن الحق يحيص ؛ أي : جاد عنه إلى شدة ومكروه.
وفي "القاموس" : حاص عنه عدل وحاد.
والمحيص المحيد والمعدل والميل والمهرب والظن معلق عنه بحرف النفي ، والتعليق أن يوقع بعده ما ينوب عن المفعولين جميعاً.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى ينادي ، فيقول : أين شركائي الذين كانوا يرون أنهم يخلقون
276
أفعالهم وأعمالهم.
قالوا : آذناك ما منا من شهيد يشهد أنه خالق فعله وكوشفوا بأنه لا خالق إلا الله ، وهم المعتزلة ، وقد سئل الرستغفني عن المناكحة بين أهل السنة وبين أهل الاعتزال ، فقال : لا يجوز كما في "مجمع الفتاوى".
وذلك لأن أهل الاعتزال مشركون بقولهم : أن العباد خالقون لأفعالهم.
وقد قال تعالى : {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (البقرة : 221) ؛ أي : يوحدوا ويقولوا : لا خالق إلا الله ولا وجود في الحقيقة إلا الله وضل عنهم يوم القيامة ، ما كانوا يدعون من قبل أن له وجوداً وزال وبطل (ع) : (جه كونه غير توبيند كسى كه غير تويست).
وأيقنوا ما الهم من مهرب إلى الله عند قيام الساعة بتجلي صفة القهارية ، ولو كانوا أرباب اللطف في الدنيا لنالوا لطفه في العقبى ، فعلى العاقل أن يهرب ويفر إلى الله تعالى ، كما قال : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (الذاريات : 50) ، فإذا فر إليه أنس به والأنيس لايخاف من قهر الأنيس إذ هو على الملاطفة معه على كل حال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/211)
قال ذو النون المصري قدس سره : ركبنا مرة في مركب وركب معنا شاب صبيح وجهه مشرق ، فلما توسطنا فقد صاحب المركب كيساً فيه مال ، ففتش كل من في المركب ، فلما وصلوا إلى الشاب ليفتشوه وثب وثبة من المركب حتى جلس على أمواج البحر.
وقام له الموج على مثال السرير ، ونحن ننظر إليه من المركب.
وقال : يا مولاي إن هؤلاء اتهموني ، وإني أقسم عليك يا حبيب قلبي أن تأمر كل دابة في هذا المكان أن تخرج رأسها ، وفي أفواهها جواهر.
قال ذو النون : فما تم كلامه حتى رأينا دواب البحر أمام المركب ، قد أخرجت رؤوسها ، وفي فم كل واحدة منها جوهرة تتلألأ ، وتلمع ، ثم وثب الشاب من الموج إلى البحر وجعل يتبختر على وجه الماء ، ويقول : إياك نعبد وإياك نستعين حتى غاب عن بصري ، فحملني هذا على السياحة ، وذكرت قوله عليه السلام "لا يزال في أمتي ثلاثون قلوبهم على قلب إبراهيم خليل الرحمن وكلما مات منهم واحد أبدل الله مكانه واحداً" ظهر من هذه الحكاية ، أن الله تعالى تجلى لذلك الشاب بصفة اللطف ، فسلم من قهر البحر ، وذلك لتحققه بحقيقة قوله : إياك نعبد ؛ فإنه من اختصاص العبادة يحصل اختصاص التوحيد وبالتوحيد الحقاني يزول كل ما كان من طريق القهر ؛ لأن من قهر وجوده لا يقهر مرة أخرى ، ولما شاهد ذو النون هذه الحال من الشاب ؛ لأنها حال تنافي حال أهل الدنيا.
كما قال الشيخ المغربي :
هيج كس كرجه زحالى نيست خالى درجهان
ليكن اين حالى كه ماراهست حال ديكراست
سلك طريق اللطف وساح في الأرض حتى وصل إلى اللطيف الخبير.
{وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُا وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ * لا يَسْـاَمُ الانسَـانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَـاـاِنْ أَذَقْنَـاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِنا بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـاذَا لِى وَمَآ} .
{لا يَسْـاَمُ الانسَـانُ} ؛ أي : لا يمل ولا يضجر.
وبالفارسية : (ملول نميشود كافر).
فهذا وصف للجنس بوصف غالب أفراده لما أن اليأس من رحمة الله لا يتأتى إلا من الكافر ، وسيصرح به.
{مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ} ؛ أي : من دعائه الخير وطلبه السعة في النعمة وأسباب المعيشة ، فحذف الفاعل ، وأضيف إلى المفعول.
والمعنى : أن الإنسان في حال إقبال الخير إليه لا ينتهي إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها ، ولا يمل من طلبها أبداً ، وفيه إشارة إلى أن الإنسان مجبول على طلب الخير بحيث لا تتطرق إليه السآمة ، فبهذه الخصلة بلغ من بلغ رتبة خير البرية ، وبها بلغ من بلغ دركة شر البرية ، وذلك لأنه لما خلق لحمل الأمانة التي أشفق منها البرية ، وأبين أن يحملنها.
وهي عبارة عن الفيض الإلهي بلا واسطة.
وذلك فيض لا نهاية له ، فلحملها احتاج الإنسان إلى طلب غير متناه ، فطلب بعضهم هذا الطلب
277
في تحصيل الدنيا وزينتها وشهواتها واستيفاء لذاتها فما سئم من الطلب وصار شر البرية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
قال الحافظ :
تاكى غم دنياى دنى اى دل دانا
حيفست زخوبى كه شود عاشق زشتى
{وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ} ؛ أي : العسر والضيق.
{فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} ؛ أي : يبالغ في قطع الرجاء من فضل الله ورحمته.
وبالفارسية : (واكر برسيد ويرابدى جون تنكى وتنكدستى وبيمارى بس نوميدست ازراحت اميد برنده ازرحمت).
والقنوط : عبارة عن يأس مفرط يظهر أثره في الشخص فيتضاءل وينكر فبهذا ظهر الفرق بين اليأس والقنوط.
وفي "التأويلات النجمية" : وإن مسه الشر ، وهو فطامه عن مألوفات نفسه وهواه فيؤوس قنوط لايرجو زوال البلايا والمحن لعدم علمه بربه ، وانسداد الطريق على قلبه في الرجوع إلى الله ليدفع عنه ذلك.
قال الحافظ :
سروش عالم غيبم بشارتى خوض داد
كه كس هميشه بكيتى دزم نخواهد ماند
وفيه إشارة إلى أن الإنسان لا يدعو عارفاً بربه طاعة لربه ، بل لتحصيل مراده وأربه ، ولهذا وقع في ورطة الفرار واليأس عند ظهور اليأس.
(8/212)
{وَلَـاـاِنْ أَذَقْنَـاهُ رَحْمَةً مِّنَّا} من عندنا.
{مِنا بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} ؛ أي : أصابته وذلك بتفريج تلك الضراء عنه كالمرض والضيق بالرحمة كالصحة والسعة.
{لَيَقُولَنَّ هَـاذَا} الخير {لِى} ؛ أي : حقي وصل إليَّ لأني أستحقه لما لي من الفضل وعمل البر ، فاللام للاستحقاق أولى لا لغيري ، فلا يزول عني أبداً ، فاللام للاختصاص فيكون إخباراً عن لازم الاستحقاق لا عن نفسه ، كما في الوجه الأول ، ومعنى الدوام استفيد من لام الاختصاص ؛ لأن ما يختص بأحد الظاهر أنه لا يزول عنه ، فذلك المسكين لم ير فضل الله وتوفيقه ، فادعى الاستحقاق في الصورة الأولى ، واشتغل بالنعمة عن المنعم ، وجهل أن الله تعالى أعطاه ليبلوه (ايشكرام).
يكفر فلو أراد لقطعها منه ، وذلك في الصورة الثانية.
{وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآاـاِمَةً} ؛ أي : تقوم وتحضر وتكون فيما سيأتي كما يزعم محمد.
{وَلَـاـاِن رُّجِعْتُ} رددت {إِلَى رَبِّى} على تقدير قيامها وبعثت ، وهو الذي أرادوا بقولهم إن نظن إلا ظناً ، فلا يخالف ، وما أظن الساعة قائمة ؛ لأن المراد الظن منه الكامل.
{إِنَّ لِى عِندَه لَلْحُسْنَى} ، وهو جواب القسم لسبقه الشرطية ؛ أي : للحالة الحسنى من الكرامة يعني : (استحقاق من مرنعمت وكرمت راثابت است خواه دردنيا خواه در عقبا (ع)).
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
زهى تصور باطل زهى خيال محال
أعتقد أن ما أصابه من نعم الدنيا لاستحقاقه لها ، وأن نعم الآخرة كذلك ؛ لأن سبب الإعطاء متحقق في الآخرة أيضا ، وهو استحقاقه إياها ، فقاس أمر الآخرة على أمر الدنيا بالوهم المحض والأمنية الكاذبة.
وعن بعضهم : للكافر أمنيتان يقول في الدنيا : ولئن رجعت إلخ.
وفي الآخرة : يا ليتني كنت تراباً (وهيجكدام ازين معنى وجودى نخواهد كرفت).
وعن بعض أهل التفسير : أن لي عنده للحسنى ؛ أي : الجنة يقول ذلك استهزاء.
{فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} ؛ أي : لنعلمنهم بحقيقة أعمالهم حين أظهرناها بصورها الحقيقية ، فيرون أنها مقابح يهان عليها لا محاسن يكرم عليها.
{وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} لا يعرف كنهه ، ولا يمكنهم التفصي منه ؛ كأنه لغلظته يحيط بجميع جهاتهم.
وقد كان معذباً في الدنيا بعذاب
278
الطرد والبعد ، ولكن لما لم يجد ذوق العذاب وألمه أذاقه الله تعد انتباهه من نومه وغفلته ؛ أي : بعد الموت لقول علي كرم الله وجهه الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا.
وفي "بحر العلوم" : غليظ ؛ أي : شديد أو عظيم ، ومن ابتدائية أو بيانية والمبين محذوف كأنه قيل : ولنذيقنهم عذاباً مهيناً من عذاب كبير بدل ما اعتقدوه لأنفسهم من الإكرام والإعزاز من الله تعالى.
يقول الفقير : يجوز أن يقال : وصف العذاب بالغلظة لغلظة بدن المعذب به.
قال حضرة الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره : الغالب على الأشقياء خواص التركيب والكثافة.
كما أشار إليه عليه السلام بقوله : إن غلظ جلد الكافر يوم القيامة مسيرة ثلاثة أيام وكما نبه الحق على ذلك بقوله : {كَلا إِنَّ كِتَـابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ} ، وهو العالم السفلي المضاف إلى اليد المسماة بالقبضة ، وبالشمال أيضاً.
وقال في أصحاب اليمين : {كَلا إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ} (المطففين : 18).
وهذا مثل قوله : {وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُا بِيَمِينِهِ} (الزمر : 67).
والسر في أن الأبرار وكتابهم في عليين هو أن أجزاء نشأتهم الكثيفة ، وقواهم الطبيعة المزاجية تجوهرت وزكت واستحالت بالتقديس والتزكية الحاصلين بالعلم والعمل والتحلية بالصفات المحمودة ، والأخلاق السنية قوي وصفات ملكية ثابتة زكية ذاتية لنفوسهم المطمئة ، كما أخبر الحق عن ذلك بقوله : في بيان أحوال النفوس {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا} (الشمس : 9) ، وكما أشار إليه عليه السلام في دعائه : اللهم آتتِ نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها.
والحال في الأشقياء بعكس ذلك ، فإن قواهم وصفاتهم الروحانية لما استهلكت في القوى الطبيعة المتصفة بأحكام اعتقاداتهم وظنونهم الفاسدة وأفعالهم الرديئة وأخلاقهم المذمومة زمان بقائهم السنين الكثيرة في هذه النشأة.
وهذه الدار ركبها الحق في النشأة الحشرية بحيث يحصل منها ما اقتضى أن يكون غلظ جلد بدن أحدهم مسيرة ثلاثة أيام عكس ما نبهت عليه من حال الأبرار ، ولهذا ورد في شأن النشأة الجنانية أن أصحابها يظهرون في الوقت الواحد في الصور المتعددة منعمين في كل طائفة من أهاليهم منقلبين فيما اشتهوا من الصور ، وليس هذا إلا من أجل ما ذكرنا من استهلاك أجزاء نشأتهم الكثيفة في لطائف جواهرها وانصباغها بصفاتها وغلبة خواص نفوسهم ، وقواهم الروحانية على قوى أمزجتهم الطبيعية ، فصاروا كالملائكة يظهرون فيما شاؤوا من الصور.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
بال بكشا وصفيراز شجر طوبى زن
حيف باشد جوتو مرغى كه اسير قفسى
(8/213)
{وَلَـاـاِنْ أَذَقْنَـاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِنا بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـاذَا لِى وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآاـاِمَةً وَلَـاـاِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَه لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الانسَـانِ أَعْرَضَ وَنَـاَا بِجَانِبِه وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ * قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِه مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقا بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّا أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} .
{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الانسَـانِ أَعْرَضَ} ؛ أي : عن الشكر إنعامه ، وهذا نوع آخر من طغيان الكافر إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة ؛ وكأنه لم يلق شدة قط فنسي المنعم وكفر بنعمته بترك الشكر.
{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا} : (النأى دور شدن).
ويعدى بنفسه وبعن كما في "تاج المصادر" ؛ أي : تباعد بكليته عن الشكر لا بجانبه فقط ، ولم يمل إلى الشكر والطاعة تكبراً وتعظماً ، فالجانب مجاز عن النفس كما في قوله تعالى : {فِى جَنابِ اللَّهِ} (الزمر : 56) ، ويجوز أن يراد به عطفه ، فيكون على حقيقته وعبارة عن الانحراف والازورار ؛ لأن نأي الجانب عن الشكر يستلزم الانحراف عنه ، كما قالوا : ثنى عطفه وتولى بركنه ، فالباء للتعدية.
وفي "التأويلات النجمية" : إذا خلناه إلى الطبيعة الإنسانية ، وهي الظلومية والجهولية لا يميز بين العطاء والبلاء ، فكثير مما يتوهمه عطاء ، وهو مكر واستدراج هو يستديمه وكثير مما هو فضل في نقمة وعطاء في الشر ، وهو يظنه بلاء ، فيكرهه بل إذا أنعمنا
279
عليه صاحبه بالبطر ، وإذا أبليناه قابله بالضجر ، بل وإذا أنعمنا عليه أعجب بنفسه ، فتكبر مختالاً في زهوه لا يشكر ربه ، ولا يذكر فضله ويشتغل بالنعمة عن المنعم ويتباعد عن بساط طاعته ، فكالمستغني عنا يهيم على وجهه.
قال الحافظ :
ببال وبر مرو ازره كه تيربرتابى
هو اكرفت زمانى ولى بخاك نشست
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} ؛ أي : إذا مس هذا الإنسان المعرض المتكبر جنس الشر كالبلاء والمحبة ، وإنما جيء بلفظ الماضي ، وإذا لأن المراد الشر المطلق الذي حصوله مقطوع به.
{فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} ؛ أي : فهو ذو دعاء كثير كما يقال : أطال فلان الكلام والدعاء ، وأعرض ؛ أي : أكثر فهو مستعار مما له عرض متسع للإشعار بكثرته ، فإن العريض يكون ذا أجزاء كثيرة ، وامتداد فمعنى الاتساع يؤخذ من تنكير عريض ، فإنه يدل على التعظيم ، ومعنى الامتداد يؤخذ من معنى الطول اللازم للعرض ، وهو أي عريض أبلغ من طويل إذ الطول أطول الامتدادين فإذا كان عرضه كذلك ؛ أي : متسعاً ، فما ظنك بطوله ، ولعل شأن بعض غير البعض الذي حكي عنه اليأس والقنوط إذ اليأس ، والقنوط ينافيان الدعاء ؛ لأنه فرع الطمع والرجاء ، أو شأن الكل في بعض الأوقات.
وقيل : قنوط من الصنم دعاء ، أو قنوط بالقلب دعاء باللسان.
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ} ؛ أي : أخبروني ؛ لأن الرؤية سبب للإخبار.
{إِن كَانَ} ؛ أي : القرآن {مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ} من غير نظر واتباع دليل مع تعاضد موجبات الإيمان به.
{مَنْ} استفهام {أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقا بَعِيدٍ} ؛ أي : من أضل منكم ، فوضع الموصول موضع الضمير شرحاً لحالهم وتعليلاً لمزيد ضلالهم وخلافهم ؛ بأنه لكونهم في شقاق بعيد ، فإن من كفر بما نزل من عند الله ، بأن قال : أساطير الأولين ، ونحوه.
فقد كان مشاقاً ؛ أي : معادياً ومخالفاً له خلافاً بعيداً عن الوفاق ، ومعاداة بعيدة عن الموالاة ، ولا شك أن من كان كذا ، فهو في غاية الضلال.
وفي الآية إشارة إلى أن كل بلاء وعناء ونعمة ورحمة مضرة ومسرة ينزل بالعبد ، فهو من عند الله ، فإن استقبله بالتسليم والرضا صابراً شاكراً للمولى في الشدة والرخاء والسراء والضراء ، فهو من المهتدين المقربين ، وإن استقبله بالكفر والجزع بالخذلان ، فهو من الأشقياء المبعدين المضلين.
وفي الحديث القدسي : "إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله ، أو ولده ، ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً وأنشرله ديواناً".
وفي الحديث : "إذا أحب الله عبداً ابتلاه إذا أحبه حباً شديداً ، فتناه فإن صبر ورضي اجتباه.
قيل : يا رسول الله ، وما افتناؤه ، قال : أن لا يبقى له مالاً ولا ولداً".
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/214)
قال بعض الكبار : النعمة توجب الإعراض كما قال الله تعالى : {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الانسَـانِ} ، إلخ.
ومس الضر يوجب الإقبال على الله كما قال الله تعالى : {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} إلخ.
فالله تعالى رحيم على العبد بدفع النعمة والصحة عنه ؛ لأنها مظنة الإعراض والبلاء للولاء كاللهب للذهب ، فالبلاء كالنار ، فكما أن النار لا تبقي من الحطب شيئاً إلا وأحرقته ، فكذا البلاء لا يبقي من ضر الوجود شيئاً ، فالطريق إلى الله على جادة المحنة أقرب من جادة المنحة إذ الأنبياء والأولياء جاؤوا ، وذهبوا من طريق البلاء ، وقد ثبت أن النار لا ترتفع من الدنيا أبداً ، فكيف يؤمل العاقل الراحة في الدنيا ، فهي دار محنة وقد ورد : "الدنيا سجن المؤمن" لا يستريح في الدنيا ، ولا يخلو من قلة أو علة ، أو ذلة ، وله راحة عظمى في الآخرة والكافر خاسر في الدنيا والآخرة ، فعلى العبد أن يمشي على الصراط السوي ،
280
ويخاف من الزلق ومن مكر الله تعالى.
قال الحافظ :
جه جاى من كه بلغزد سبهر شعبده باز
ازين حيل كه در انبانة بهانة يست
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِه مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقا بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّا أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ} .
{سَنُرِيهِمْ} : (زود باشد كه بنما ايشانرا يعني كفار قريش را).
{ءَايَـاتِنَا} : الدالة على حقيقة القرآن ، وكونه من عند الله {فِى الافَاقِ} : جمع أفق ، وهي الناحية من نواحي الأرض ، وكذا آفاق السماء : نواحيها وأطرافها.
والآفاق : ما خرج عنك ، وهو العالم الكبير من الفرش إلى العرش ، والأنفس ما دخل فيك ، وهو العالم الصغير ، وهو كل إنسان بانفراده.
والمراد بالآيات الآفاقية : ما أخبرهم النبي عليه السلام من الحوادث الآتية كغلبة الروم على فارس في بضع سنين ، وآثار النوازل الماضية الموافقة لما هو المضبوط المقرر عند أصحاب التواريخ.
والحال أنه عليه السلام أمي لم يقرأ ، ولم يكتب ، ولم يخالط أحداً ، أو ما يسر الله له ولخلفائه من الفتوح ، والظهور على آفاق الدنيا والاستيلاء على بلاد المشارق والمغارب على وجه خارق للعادة إذ لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
{وَفِى أَنفُسِهِمْ} : هو ما ظهر فيما بين أهل مكة من القحط والخوف ، وما حل بهم يوم بدر ويوم الفتح من القتل والمقهورية ، ولم ينقل إلينا أن مكة فتحت على يد أحد قبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وكذا قتل أهلها ، وأسرهم.
وقيل : في الآفاق ؛ أي : في أقطار السماوات والأرض من الشمس والقمر والنجوم ، وما يترتب عليها من الليل والنهار ، والأضواء والظلال والظلمات ، ومن النبات والأشجار والأنهار.
وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة في تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتراكيب الغريبة كقوله تعالى : {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات : 21) ، واعتذر بأن معنى السين مع أن إراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك أنه تعالى سيطلعهم على تلك الآيات زماناً فزماناً ويزيدهم وقوفاً على حقائقها يوماً فيوماً ، قالوا : الآفاق هو العالم الكبير والأنفس هو العالم الصغير.
(وهرجه از دلائل قدرت درعا لم كبيراست نمودار آن عالم صغير است) ، وتزعم أنك جرم صغير ، وفيك انطوى العالم الأكبر (جميع آنجه در عالم است مفصلا در نشأن إنسان اسن مجملاً بل أنسان عالم صغير عالم مجملست ازروى صورت وعالم أنسان كبير اما أزروى قدرت مرتبة إنسان كبيرست وعالم إنسان صغير) :
اى آنكه تر است ملك اسكندر وجم
از حرص مباش دربى نيم درم
عالم همه درتست وليكن از جهل
بنداشتة مباش تو خويش را در عالم
فجسم الإنسان كالعرش ، ونفسه كالكرسي ، وقلبه كالبيت المعمور ، واللطائف القلبية كالجنان والقوى الروحانية كالملائكة والعينان والأذنان والمنخران والسبيلان والثديان والسرة والفم كالبروج الاثني عشر ، والقوة الباصرة والسامعة والذائقة والشامة واللامسة والناطقة والعاقلة ، كالكواكب السيارة ، وكما أن رياسة الكواكب بالشمس والقمر واحدهما يستمد من الآخر ، فكذلك رياسة القوى بالعقل والنطق ، وهو أي النطق مستمد من العقل ، وكما أن في العالم الكبير ستين وثلاثمائة يوم ، فكذا في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل ، وكما أن للقمر ثمانية وعشرين منزلاً يدور فيه في كل شهر ، فكذا في الفم ثمانية وعشرون مخرجاً للحروف ، وكما أن القمر يظهر في خمس عشرة ليلة ، ويخفى في الباقي كذلك التنوين والنون الساكنة
281
(8/215)
يخفيان عند ملاقاتهما خمسة عشر حرفاً ، وكما أن في العالم الكبير أرضاً وجبالاً ومعادن وبحاراً ، وأنهاراً وجداول وسواقي ، فجسد الإنسان كالأرض وعظامه كالجبال التي هي أوتاد الأرض ، ومخه كالمعادن وجوفه كالبحار وأمعاؤه كالأنهار وعروقه كالجداول والسواقي وشحمه كالطين وشعره كالنبات ، ومنبت الشعر كالتربة الطيبة وأنسه كالعمران وظهره كالمفاوز ووحشته كالخراب وتنفسه كالرياح وكلامه كالرعد وأصواته كالصواعق وبكاؤه كالمطر وسروره كضوء النهار وحزنه كظلمة الليل ونومه كالموت ويقظته كالحياة وولادته كبدء سفره وأيام صباه كالربيع وشبابه كالصيف ، وكهولته كالخريف وشيخوخته كالشتاء وموته كانقضاء مدة سفره والسنون من عمره كالبلدان والشهور كالمنازل والأسابيع كالفراسخ وأيامه كالأميال وأنفاسه كالخطى فكلما تنفس نفساً ؛ كأنه يخطو خطوة إلى أجله :
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
هر دم از عمر ميرود نفسى
جون نكه ميكنم نماندبسى
وله في كل يوم اثنا عشر ألف نفس ، وفي كل ليلة كذلك ، فيوم القيمة ينظر في كل نفس أخرجه في غفلة عن ذكر الله فيا طول حسرة من مضى نفس من أنفاسه بالغفلة ، ثم الأرض سبع طباق أرض سوداء وغبراء وحمراء وصفراء وبيضاء وزرقاء وخضراء ، فنظائرها من الإنسان في جسمه الجلد والشحم واللحم والعروق والعصب والقصب والعظام.
وهذه المرة السوداء بمنزلة الأرض ليبسها وبردها ، وهذه المرة الصفراء بمنزلة النار ليبسها وحرارتها.
وهذا الدم بمنزلة الهواء لحرارته ورطوبته.
وهذا البلغم بمنزلة الماء لبرودته ولزوجته ، وكما أن المياه مختلفة فمنها الحلو والمالح والمنتن كذلك مياه بدن الإنسان هذا ماء العين ملح ؛ لأن العين شحمة ولولا ملوحة مائها لفسدت ، وهذا الريق عذب ، ولولا ذلك ما استعذب طعام ولا شراب.
وهذا الماء الذي في صماخ الأذنين مر ؛ لأنهما عضوان مفتوحان لا انطباق لهما حتى أن نتن الماء يصد كل شيء عن أذنه ، ولو أن دودة دخلتخما لماتت لمرارة ذلك الماء ونتنه ، ولولا ذلك لوصل الديدان إلى دماغه ، فأفسده ، ثم فيه أخلاق جميع الحيوانات ، فهو كالملك من جهة المعرفة والصفاء كالشيطان من جهة المكر والكدورة ، وكالأسد في الجراءة والشجاعة ، وكالبهيمة في الجهل ، وكالنمر في الكبر ، وكالفهد والأسد في الغضب ، وكالذئب في الإفساد والإغارة ، وكالحمار في الصبر وكذا كالحمار والعصفور في الشهوة وكالثعلب في الحيلة والفأرة ، والنملة في الحرص والجمع ، وكالكلب في البخل ، وكذا في الوفاء ، والخنزير في الشره ، وكالحية في الحقد ، وكالجمل في الحلم ، وكذا في الحقد ، وكالديك في السخاوة ، وكالبوم في الصناعة وكالهرة في التواضع والتملق ، وكالغراب في البكور ، وكالبازي والسلحفاة في الهمة إلى غير ذلك ، ويزيد على الجميع بالنظر ووجود التمييز والاستدلال بالشاهد عن الغائب ، وأنواع الحرف والصناعات ، فهذه كلها آيات الله تعالى في أنفسنا ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
قال الصائب :
عجبتر از تو ندارد جهان تماشا كاه
جرا بجشم تعجب بخود نظر نكنى
وقال :
اى رازنه فلك زو جودت عيان همه
دردادن تو حاصل دريا وكان همه
بيش توسر بخاك مذلت نهاده اند
با آن علوم ومرتبه روحانيان همه
282
در كوش كرده خلقة فرمان بذير يرتست
خاك وهواو آتش وآب روان همه
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} بذلك {أَنَّهُ الْحَقُّ} ؛ أي : القرآن ، أو الرسول فالقصر المستفاد من تعريف المسند حقيقي ادعائي ، أو الله ، أو التوحيد ، فالقصر إضافي تحقيقي ؛ أي : لا الشركاء ولا التشريك والضمائر في سنريهم ، وفي أنفسهم ، ولهم للمشارفين على الاهتداء منهم ، أو للجميع على أنه من وصف الكل بوصف البعض كما في "حواشي سعدي المفتي".
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
(8/216)
وجمعى ضمير را عائد بآدميان دارند يعني بنمايم مردمانرا دلائل آفاقى وآيات أنفسى).
فعبارة الآية مقام التوحيد وإشارتها مقام التجريد والتفريد وظهور الحق في مظاهر الآفاق والأنفس وتبينه بآيات توحيده المرئية فيهما توحيد واستقطاع التوحيد الموحد عن الالتفات إلى الآفاق تجريد ، وعن النظر إلى الأنفس تفريد ، لكن هذا التوحيد والتجريد والتفريد كوني لا إلهي ؛ لأنه باعتبار ظهور الحق في المظاهر الكونية دون الإلهية ، ففوقها توحيد وتجريد وتفريد إلهي باعتبار ظهور الحق في مظاهر الإلهية من مراتب التعينات الذاتية والاسمائية والصفاتية والافعالية والكوني من الإلهي بمنزلة الظاهر من الباطن فمرتبة التعين ذاتياً أولاً وصفاتياً ثانياً ، وإفعالياً ثالثاً مرتبة التوحيد ، ومرتبة اللاتعين الذي فوق التعين مطلقاً مرتبة التجريد ومرتبة الجامعية بين المرتبتين : مرتبة التفريد إذ الفرد الحقيقي الأولي جمعية المراتب الثلاث مطلقاً ، وجميع العلوم والأعمال والآثار جمالية ، أو جلالية شؤونات ذاتية مستجنة في غيب الذات أولاً وصور وأعيان علمية ثاتبة في عرصة العلم ثانياً ، وحقائق موجودات عينية متحققة في عرصة العين.
ولهذا التحقق العيني ، والوجود الخارجي خلق الله الأنفس والآفاق والسماوات والأرضين والملأ الأعلى والأسفل ، حتى يكون المعلوم مرئياً ومشاهداً ويتم الأمر الإلهي الجمالي والجلالي والكمالي ويكمل مطلقاً بالوجود العيني الخارجي حكمه الأزلي الأبدي جلاء واستجلاء (سر بحربى كرانراموج بر صحرا نهاد.
كنج مخفي آكشارا شد نهان آمد بديد).
{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} استئناف وارد لتوبيخهم على ترددهم في شأن القرآن وعنادهم المحوج إلى إراءة الآيات وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى ، والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام والباء مزيدة للتأكيد ؛ أي : ألم يغن ، ولم يكف ربك {أَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} بدل منه ؛ أي : ألم يغنهم عن إراءة الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن ، ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء.
وقد أخبر بأنه من عنده ، فعدم الكفاية معتبر بالنسبة إليهم كما يصرحه قوله تعالى : {إِلا} كلمة تنبيه {إِنَّهُمْ} ؛ أي : كفار مكة.
{فِى مِرْيَةٍ} شك عظيم وشبهة شديدة.
{مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ} بالبعث والجزاء ، فإنهم استبعدوا إحياء الموتى بعد ما تفرقت أجزاؤهم ، وتبددت أعضاؤهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 225
وفيه إشارة إلى أن الشك أحاط بجميع جوانبهم إحاطة الظرف بالمظروف لا خلاص لهم منه وهم مستمرون دائمون فيه.
{أَلا إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ} .
الإحاطة : إدراك الشيء بكماله ؛ أي : عالم بجميع الأشياء جملها وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها ، فلا يخفى عليه خافية منهم ، وهو مجازيهم على كفرهم ومريتهم لا محالة ، ومرجع تأكيد العلم إلى تأكيد الوعيد :
علم بى جهل وقدرت بى عجز
خاص مر حضرت الهى راست
283
هرجه بايد در أنفس وآفاق
كنداز حكم بادشاهى راست
وإحاطة الله سبحانه وتعالى عند العارفين بالموجودات كلها عبارة عن تجليه بصور الموجودات ، فهو سبحانه بأحدية جميع أسمائه سار في الموجودات كلها ذاتاً ، وحياة وعلماً وقدرة إلى غير ذلك من الصفات.
والمراد بإحاطته تعالى هذه السراية ، ولا يعزب عنه ذرة في السماوات والأرض ، وكل ما يعزب يلحق بالعدم ، وقالوا : هذه الإحاطة ليست كإحاطة الظرف بالمظروف ، ولا كإحاطة الكل بأجزائه ، ولا كإحاطة الكلي بحزئياته ، بل كإحاظة الملزوم بلازمه ، فإن التعيينات اللاحقة لذاته المطلقة ، إنما هي لوازم له بواسطة ، أو بغير واسطة ، وبشرط ، أو بغير شرط ، ولا تقدح كثرة اللوازم في وحدة الملزوم ، ولا ينافيها.
والله أعلم بالحقائق.
واعلم أن الأشياء كلها قد اتفقت على الشهادة بوحدة خالقها وأنه مظهرها من كتم العدم ، والمظهر لا يفارق المظهر في معرفة أرباب البصائر ، فسبحان من هو عند كل شيء ، ومعه وقبله ، ومن ها هنا.
قال بعضهم : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله معه.
وقال بعضهم : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله بعده.
وقال بعضهم : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ، فمنهم من يرى الأشياء به ، ومنهم من يراه بالأشياء ، وإلى الأول الإشارة بقوله : أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ، وإلى الثاني بقوله : سنريهم آياتنا في الآفاق.
فالأول : صاحب مشاهدة ودرجة الصديقين.
والثاني : صاحب استدلال ودرجة العلماء الراسخين فما بعدها إلا درجة الغافلين المحجوبين.
وفي الآيات إشارات منها : أن الخلق لا يرون الآيات إلا بإراءة الله إياهم.
ومنها : أن الله تعالى خلق الآفاق ونفس الإنسان مظهر آياته.
ومنها : أنه ليس للآفاق شعور على الآيات وعلى مظهريتها للآيات بخلاف الإنسان.
ومنها : أن نفس الإنسان مرآة مستعدة لمظهرية جميع آيات الله ومظهريتها بإراءة الحق تعالى بحيث يتبين له أنه الحق ، ويبين لغيره أنه الحق.
ومنها : أن العوام يتبين لهم باختلاف الليل والنهار والأحداث التي تجري في أحوال العالم واختلاف الأحوال التي تجري عليهم من الطفولة إلى الشيخوخة ، واختلاف أحكام الأعيان مع اختلاف جواهرها في التجانس.
وهذه هي آيات حدوث العالم ، واقتفاء المحدث بصفاته.
ومنها : أن الخواص يتبين لهم ببصائر قلوبهم من شواهد الحق واختلاف الأحوال في القبض والبسط والجمع والفرق والحجب والجذب والستر والتجلي والكشوف والبراهين وأنوار الغيب ، وما يجدونه من حقائق معاملاتهم بإراءة الحق تعالى.
ومنها : أن أخص الخواص يتبين لهم بالخروج من ظلمات حجب الإنسانية إلى نور الحضرة الربانية بتجلي صفات الجمال والحلال وكشف القناع الحقيقي عن العين والعيان ، ولهذا قال : أولم يكف بربك ؛ أي : بإراءة آياته وتعريف ذاته وصفاته بكشف القناع ورفع الأستار أنه على كل شيء شهيد لا يغيب عن قدرته شيء بقوله ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم يشير إلى أن أهل الصورة لفي شك من تجويز ما يكاشف به أهل الحقيقة من أنواع المشاهدات والمعاينات ألا إنه بكل شيء محيط ، وهو قادر على التجلي لكل شيء كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم "إذا تجلى الله لشيء خضع له"
تمت سورة حم السجدة في العشر العاشر من العشر الأول من صفر الخير من سنة ثلاث عشرة ومائة وألف.
284
جزء : 8 رقم الصفحة : 225(8/217)
سورة الشورى
مكية وهي ثلاث وخمسون آية
جزء : 8 رقم الصفحة : 284
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{حما * عاساق} : اسمان للسورة ، ولذلك فصل بينهما في الكتابة ، وعد آيتين بخلاف {كاهيعاص} و{الاماص} و{الامار} فإنها آية واحدة وأنها اسماً واحداً وآية واحدة فالفصل لتطابق سائر الحواميم وفي "القاموس" آل حاميم وذوات حاميم.
السور المفتتحة بها ، ولا تقل حواميم.
وقد جاء في شعر ، وهو اسم الله الأعظم أقسم أو حروف الرحمن مقطعة ، وتمامه الرون.
انتهى.
روى الطبري : أنه جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما وعنده حذيفة اليماني رضي الله عنه ، فسأله عن تفسير {حما * عاساق} ، فأطرق وأعرض عنه حتى أعاد عليه ثلاثاً ، فأعرض ، فقال له حذيفة : أنا أنبئك بها ، قد عرفت لم كرهها وتركها نزلت في رجل متأهل بيته ، يقال له : عبد الله ، أو عبد الإله ينزل على نهر من أنهار المشرق ، فيبني عليه مدينتين ، يشق النهر بينهما شقاً ، فإذا أراد الله زوال ملكهم ، وانقطاع دولتهم ، ينزل على إحداهما ناراً ليلاً ، فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت ؛ كأنها لم تكن مكانها ، وتصبح صاحبتها سالمة متعجبة كيف أفلتت ، فما هو إلا بياض يومها حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ؛ أي : من أهل المدينتين ، ثم يخسف الله بها وبهم جميعاً في الليلة القابلة ، فذلك قوله تعالى : {حما * عاساق} ؛ أي : عزمة من عزمات الله وفتنة {حم} ؛ أي : قضى وقدر عدلاً منه سيكون واقعاً في هاتين المدينتين ، ونظير هذا التفسير ما روى جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : "تبنى مدينتان بين دخلة ودجيل وقطربل والصراة يجتمع فيهما جبابرة الأرض يجبي إليهما الخزائن ، يخسف بهما".
وفي رواية : "بأهلهما" ، فلهما أسرع ذهاباً في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة.
قوله : دخلة بالخاء المعجمة على وزن حمزة ، قرية كثيرة التمر ، ودجيل بالجيم كزبير شعب من دجلة نهر بغداد وقطربل ، بالضم وتشديد الباء الموحدة ، أو بتخفيفها.
موضعان : أحدهما بالعراق ينسب إليه الخمر والصراة ، بالفتح : نهر بالعراق.
وقال الضحاك : قضى عذاب سيكون واقعاً ، وأرجو أن يكون قد مضى يوم بدر.
وذكر الثعلبي والقشيري : أن النبي عليه السلام لما نزلت هذه الآية عرف الكآبة في وجهه ؛ أي : أثر الحزن والملالة ، فقيل : يا رسول الله ، ما أحزنك.
قال : أخبرت ببلايا تنزل بأمتي من خسف ومسخ ونار تحشرهم وريح تقذفهم في البحر ، وآيات متتابعات متصلات بنزول عيسى ، وخروج الدجال.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
كفته اند حاحرفست وميم مهلكه وعين عذاب وسين مسخ وقاف قذف وثعلبي كويد ابن عباس رضي الله عنهما {حما * عاساق} خواندى وكفتى علي رضي الله عنه فتنهارا باين دو لفظ دانست).
وروي عن علي رضي الله عنه : أنه كان يستفيد علم الفتن والحروب من هذه الحروف التي في أوائل السور.
وقال شهر بن حوشب : {حما * عاساق} حرب يذل فيها العزيز ويعز فيها الذليل من قريش ، ثم تفضي إلى العرب إلى العجم ، ثم هي متصلة إلى خروج الدجال.
يقول الفقير : الفتن المتصلة بخروج الدجال بعضها قد مضى وبعضها سيقع فيما بين المائتين بعد الألف ، دل عليه {حم} ، وهو ثمان وأربعون ، والعين وهو سبعون ، والشين وهو ستون ، والقاف وهو مائة ؛ لأنه
285
قد صحّ أن الدجال متأخر عن المهدي ، وأن المهدي يخرج على رأس المائة الثالثة ، أو على أربعة ومائتين ، فيقع قبيل ظهور المهدي الطامات الكبرى.(8/218)
وقال عطاء : الحاء حرب وهو موت ذريع في الناس ، وفي الحيوان حتى يبيدهم ويفنيهم.
والميم تحويل ملك من قوم إلى قوم ، والعين عدو لقريش يقصدهم ، ثم ترجع إليهم الدولة لحرمة البيت ، والسين : هو استئصال بالسنين ؛ كسني يوسف عليه السلام وسبي يكون فيهم.
والقاف : قدرة الله نافذة في ملكوت الأرض لا يخرجون من قدرة الله ، وهي نافذة فيهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الحاء حكم الله والميم ملك الله ، والعين علو الله ، والسين سنا الله ، والقاف قدرة الله ، أقسم الله بها ؛ فكأنه يقول : فحكمي وملكي وعلوي وسناي وقدرتي لا أعذب عبداً قال : لا إله إلا الله مخلصاً ، فلقيني بها.
ومعناه على ما قال أبو الليث في "تفسيره" : لا يعذبه عذاباً دائماً خالداً.
وفي الحديث : "افتتحوا صبيانكم لا إله إلا الله" ، و"لقنوا أمواتكم لا إله إلا الله".
والحكمة في ذلك أن حال الصبيان حال حسن لا غل ولا غش في قلوبهم.
وحال الموتى حال الاضطرار ، فإذا قلتم في أول ما يجري عليكم القلم ، وآخر ما يجف عليكم القلم.
فعسى الله أن يتجاوز ما بين ذلك ، ويقال : الحاء من الرحمن الرحيم ، والميم من مجده ، والعين من العليم ، والسين من القدوس ، والقاف من القاهر.
ويقال : الحاء حلمه والميم من المجيد ، والعين عظمته ، والسين سناه ، والقاف قدرته.
ويقال : إن القاف ، اسم لجبل يحيط بالدنيا.
(در كشف اسرار أورده كه اين حروف ايمانيست بأن عطاياكه حق سبحانه وتعالى بحضرت رسالت ارزانى داشت حاء حوض مورود اوست يعنى حوض كوثر كه تشنه لبان امت ازان سيراب كردانند وميم ملك ممدود او كه از مشرق تابمغرب بتصرف امت اودر آيدو عين عز موجود اوكه اعز همه اشيا نزد حق سبحانه بوده وسين سناء مشهود اوكه مرتبة هيجكس برتبة رفعت او همه نرسيد وقاف مقام محمود اوكه درشب معراج درجة او ادناست ودر روز ميامت شفاعت كبرى) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
مقام تو محمود ونامت محمد
بدين سان مقامى ونامى كه دارد
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى القسم بحاء حبه وميم محبوبه محمد ، وعين عشقه على سيده ، وقاف قربه إلى سيده بكمال لا يبلغه أحد من خلقه.
ويقول الفقير : الحاء هو الحجر الأسود ، والميم مقام إبراهيم ، والعين عين زمزم ، والسين والقاف سقياها ، فمن استلم الحجر الأسود ساد سيادة معنوية ، ومن صلى خلف المقام أكرمه الله بالخلة ، ومن دعا عند زمزم إجابه الله ، ومن شرب من زمزم سقاه الله شراباً طهوراً لا يبقي فيه وجعاً ولا مرضاً.
{كَذَالِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
الكاف في حيز النصب على أنه مفعول ليوحي ، والجلالة فاعله ؛ أي : مثل ما في هذه السورة من المعاني يوحي الله العزيز الحكيم إليك في سائر السور ، وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم على أن مناط المماثلة هو الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق ، وما فيه صلاح العباد في المعاش ، ويجوز أن يكون الكاف في حيز النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد ليوحي ؛ أي : مثل إيحاء هذه السورة يوحي الله العزيز الحكيم إليك عند إيحاء سائر السور ، وإلى سائر الرسل عند إيحاء كتبهم إليهم لا إيحاء مغايراً على أن مدار المثلية كونه بواسطة الملك ، وإنما ذكر بلفظ المضارع مع أن مقتضى المقام ، أن يذكر بلفظ الماضي ضرورة أن الوحي إلى الذين من قبله
286
قد مضى ، دلالة على استمرار الوحي ، وتجدده وقتاً فوقتاً ، وأن إيحاء مثله عادته تعالى ، ويجوز أن يكون إيذاناً أن الماضي والمستقبل بالنسبة إليه تعالى واحد كما في "الكواشي".
والعزيز الحكيم : صفتان مقررتان لعلو شأن الموحي به ؛ لأنه أثر من اتصف بكمال القدرة والعلم.
{لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} ؛ أي : أن الله تعالى يختص به جميع ما في العوالم العلوية والسفلية خلقاً وملكاً وعلماً.
{وَهُوَ الْعَلِىُّ} الشأن {الْعَظِيمُ} الملك والقدرة والحكمة ، أو هو العلي ؛ أي : المرتفع عن مدارك العقول إذ ليس كذاته ذات ، ولا كصفاته صفات ، ولا كاسمه اسم ، ولا كفعله فعل ، وهو العظيم الذي يصغر عند ذكره وصف كل شيء سواه.
والعظيم من العباد الأنبياء والعلماء الوارثون لهم ، فالنبي عظيم في حق أمته ، والشيخ عظيم في حق مريده ، والأستاذ في حق تلميذه.
وإنما العظيم المطلق هو الله تعالى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّا والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارْضِا أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} .
(8/219)
{تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ} : (نزديك شدكه آسمانها).
{يَتَفَطَّرْنَ} : التفطر : (شكافته شدن).
وأصل الفطر : الشق طولاً ؛ أي : يتشققن من عظمة الله وخشيته وإجلاله ، كقوله تعالى : {لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَه خَـاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر : 21).
{مِن فَوْقِهِنَّ} ؛ أي : يبتدىء التفطر من جهتهن الفوقانية إلى جهتهن التحتانية وتخصيصها لما أن أعظم الآيات وأدلها على العظيمة والجلال من تلك الجهة من العرش والكرسي ، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله من آثار الملكوت العظمى ، فكان المناسب أن يكون تفطر السماوات مبتدأ من تلك الجهة بأن يتفطر أولاً أعلى السماوات ، ثم وثم إلى أن ينتهي إلى أسفلها بأن لا تبقى سماء إلا سقطت على الأخرى.
ويقال : تتشققن من دعاء الولد ، كما قال تعالى في سورة مريم : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـانِ وَلَدًا} (مريم : 90 ـ ـ 91) ، فتخصيصها للدلالة على التفطر من تحتهن بالطريق الأولى ؛ لأن تلك الكلمة الشنعاء الواقعة في الأرض إذا أثرت في جهة الفوق ، فلأن تؤثر في جهة التحت أولى.
وقيل : لنزول العذاب منهن.
{والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} .
ينزهونه تعالى عما لا يليق به من الشريك والولد وسائر صفات الأجسام ملتبسين بحمده تعالى.
يعني : تسبيح وحمد (باهم ميكويند جه يكى نفى ناسزاست ويكى إثبات سزا) ، فقدم التسبيح على الحمد ؛ لأن التخلية مقدمة على التحلية.
وهذا جانب الاستفاضة من الله ، والقبول ، ثم أشارا جانب الإفاضة والتأثير بقوله : {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرْضِ} ؛ أي : للمؤمنين بالشفاعة لقوله تعالى : {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} (غافر : 7) ، فالمطلق محمول على المقيد ، أو للمؤمن والكافر بالسعي ، فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإلهام ، وترتيب الأسباب المقربة إلى الطاعة واستدعاء تأخير العقوبة جمعاً في إيمان الكافر وتوبة الفاسق.
وهذا لا ينافي كون الملائكة لاعنين للكفار من وجه آخر ، كما قال تعالى : {أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَئكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (البقرة : 161).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي الحديث : "ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداًيسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض".
وهذا يدل على أن المراد بالملائكة في الآية ملائكة السماوات كلها.
وقال مقاتل حملة العرش وإليه ذهب الكاشفي في "تفسيره" ، ويدل عليه قوله تعالى في أوائل حم المؤمن {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَه يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِه وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} (غافر : 7).
يقول الفقير : تخصيص ملائكة العرش لا ينافي
287
من عداهم ، فلعله من باب الترقي ؛ لأن آية {حم} المؤمن مقيدة بحملة العرش واستغفار المؤمنين.
وهذه الآية مطلقة في حق كل من الملائكة والاستغفار.
{إِلا} اعلموا {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ} يغفر ذنوب المقبلين {الرَّحِيمُ} يرحم بأن يرزقهم جنته وقربه ووصاله وبرحمته يأمر الملائكة بالاستغفار لبني آدم مع كثرة عصيانهم ، والكفار الذين يرتكبون الشرك والذنوب العظام لا يقطع رزقهم ولا صحتهم ولا تمتعاتهم من الدنيا ، وإن كان يريد أن يعذبهم في الآخرة.
يقول الفقير : إن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للمؤمنين ، فالمؤمنون يسلمون عليهم ، كما يقولون في التشهد السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، إذ لا يعصون ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فالمنةتعالى على كل حال.
وفي الآية إشارة إلى أن قوماً من الجهلة يقولون : على الله ما لا يعلمون ، ومن عظم افترائهم تكاد السموات تنشق من فوقهم ؛ لأن الله تعالى ألبسها أنوار قدرته وأدخلها روح فعله حتى عقلت عبوديته صانعها ، وعرفت قدسه وطهارته عن قول الزائغين ، وإشارة الملحدين والملائكة يقدسون الله عما يقولون فيه من الزور والبهتان ، والدعاوى الباطلة ، ويستغفرون للمؤمنين الذين لم يبلغوا حقيقة عبوديته ، فإنهم هم القابلون للإصلاح لاعترافهم بعجزهم وقصورهم دون المصرين المبتدعين :
فاسد شده راز روزكار وارون
لايمكن أن يصلحه العطارون
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ} شركاء وأنداداً ، وأشركوهم معه في العبادة.
{اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} رقيب على أحوالهم وأعمالهم مطلع ليس بغافل فيجازيهم لا رقيب عليهم إلا هو وحده.
ومعنى الحفيظ بالفارسية : (نكهبان).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285(8/220)
وقال في "المفردات" : معناه محفوظ لا يضيع ، كقوله : {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَـابٍا لا يَضِلُّ رَبِّى وَلا يَنسَى} (طه : 52).
{وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} بموكول إليه أمرهم حتى تسأل عنهم وتؤخذ بهم ، وإنما وظيفتك الإنذار وتبليغ الأحكام.
وفيه إشارة إلى أن كل من عمل بمتابعة هواه ، وتركحداً ونقض له عهداً ، فهو متخذ الشياطين أولياء ؛ لأنه يعمل بأوامرهم وأفعاله موافقة لطباعهم الله حفيظ عليهم بأعمال سرهم وعلانيتهم إن شاء عذبهم ، وإن شاء عفا عنهم ، وما أنت عليهم بوكيل لتمنعهم عن معاملاتهم ، فعلى العاقل أن لا يتخذ من دون الله أولياء ، بل يتفرد بمحبة الله وولايته كما قال تعالى : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام : 91) حتى يتولاه في جميع أموره ، وما أحوجه إلى أحد سواه.
وقال الأستاذ أبو علي الدقاق قدس سره : ظهرت علة بالملك يعقوب بن الليث أعيت الأطباء ، فقالوا له : في ولايتك رجل صالح يسمى سهل بن عبد الله لو دعا لك لعل الله يستجيب له ، فاستحضره ، فقال : ادع الله ، فقال : كيف يستجاب دعائي فيك.
وفي حسبك مظلومون ، فأطلق كل من حبسه ، فقال سهل : اللهم كما أريته ذل المعصية ، فأره عز الطاعة وفرج عنه فعوفي ، فعرض مالاً على سهل ، فأبى أن يقبله ، فقيل له : لو قبلته ودفعته إلى الفقراء ، فنظر إلى الحصباء في الصحراء ، فإذا هي جواهر ، فقال : من يعطي مثل هذا يحتاج إلى مال يعقوب بن الليث ، فالمعطي والمانع والضار والنافع هو : الله الولي الوكيل الذي لا إله غيره :
نقش او كردست ونقاش من اوست
غير اكر دعوى كند او ظلم جوست
{وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} .
ذلك إشارة إلى مصدر أوحينا ، ومحل الكاف النصب
288
على المصدرية ، وقرآناً عربياً مفعول لأوحينا ؛ أي : ومثل ذلك الإيحاء البديع البين المفهم أوحينا إليك إيحاء لا لبس فيه إليك وعلى قومك.
وقال الكاشفي : (وهمجانكه وحى كرديم بهر بيغمبر بزبان او ووحى كرديم بتو قرآني بلغت عرب كه قوم تواند تاكه فهم حاصل شود).
{لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} ؛ أي : لتخوف أهل مكة بعذاب الله على تقدير إصرارهم على الكفر والعرب تسمي أصل كل شيء بالأم ، وسميت مكة أم القرى تشريفاً لها وإجلالاً لاشتمالها على البيت المعظم ، ومقام إبراهيم ، ولما روى من أن الأرض دحيت من تحتها ، فمحل القرى منها محل البنات من الأمهات.
{وَمَنْ حَوْلَهَا} من العرب ، وهذا ؛ أي : التبيين بالعرب لا ينافي عموم رسالته ؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر لا ينافي حكم ما عداه ، وقيل : من أهل الأرض كلها ، وبذلك فسره البغوي ، فقال : قرى الأرض كلها وكذا القشيري حيث قال العالم محدق بالكعبة ومكة ؛ لأنهما سرة الأرض :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
بس همه أهالي بلاد برحوالى ويند
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى إنذار نفسه الشريفة ؛ لأنها أم قرى نفوس آدم وأولاده ؛ لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي تعلقت القدرة بإيجاده قبل كل شيء ، كما قال أول ما خلق الله روحي ، ومنه تنشأ الأرواح والنفوس.
ولهذا المعنى قال آدم : ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ، فالمعنى : كما يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم لينذروا الأمم.
كذلك أوحينا قرآناً عربياً لتنذر نفسك الشريفة بالقرآن العربي ؛ لأن نفسك عربية ومن حولها من نفوس أهل العالم ؛ لأنها محدقة بنفسك الشريفة ، ولذلك قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107).
وقال عليه السلام : "بعثت إلى الخلق كافة".
مه طلعتى كه برقد قدرش بريده اند
ديباى قم فانذر واستبرق دنا
{وَتُنذِرَ} أهل مكة ومن حولها.
{يَوْمَ الْجَمْعِ} ؛ أي : بيوم القيامة وما فيه من العذاب ؛ لأنه يجمع فيه الخلائق من الأولين والآخرين وأهل السماوات وأهل الأرض ، والأرواح والأشباح والأعمال والعمال ، فالباء محذوف من اليوم ، كما قال : {لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} (الكهف : 2) ، أي : ببأس شديد كما قاله أبو الليث ، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً ، كما في "كشف الأسرار" ، وقد سبق غير ذلك في {حم} المؤمن عند قوله تعالى : {لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} (غافر : 15) {لا رَيْبَ فِيهِ} اعتراض لا محل له ؛ أي : لا بد من مجيء ذلك اليوم ، وليس بمرتاب فيه في نفسه وذاته ؛ لأنه لا بد من جزاء العاملين من المنذرين والمنذرين ، وأهل الجنة وأهل النار وارتياب الكفار فيه لا يعتد به ، ولا شك في الجمع أنه كائن ، ولا بد من تحققه.
{فَرِيقٌ} وهم المؤمنون {فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ} ، وهم الكافرون {فِى السَّعِيرِ} ؛ أي : سميت بهالالتها بها ، وذلك بعد جمعهم في الموقف ؛ لأنهم يجمعون فيه أولاً ثم يفرقون بعد الحساب ، والتقدير منهم فريق على أن فريق مبتدأ حذف خبره ، وجاز الابتداء بالنكرة لأمرين تقديم خبرها ، وهو الجار والمجرور المحذوف ووصفها بقوله في الجنة والضمير المجرور في منهم للمجموعين لدلالة لفظ الجمع عليه فإن المعنى يوم يجمع الخلائق في موقف الحساب.
(8/221)
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي "التأويلات النجمية" : وتنذر يوم الجمع بين الأرواح والأجساد لا شك في كونه ، وكما أنهم اليوم فريقان : فريق في جنة القلوب وراحات
289
الطاعات وحلاوات العبادات ، وتنعمات القربات.
وفريق في سعير النفوس وظلمات المعاصي وعقوبات الشرك والجحود ، فكذلك غدا فريق هم : أهل اللقاء ، فريق هم : أهل الشقاء والبلاء.
وفي الحديث : "إن الله خلق للجنة خلقاً ، وهم في أصلاب آبائهم" ، وعنه عليه السلام أن الله خلق الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء ، فأهل الجنة أهلها وأهل النار أهلها".
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
قال : خرج علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وفي يده كتابان.
وفي رواية : خرج ذات يوم قابضاً على كفيه ، ومعه كتابان ، فقال : أتدرون ما هذان الكتابان؟.
قلنا : لا يا رسول الله ، فقال : "للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون ، فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم إجمال الله عليهم إلى يوم القيامة" ، فقال عبد الله بن عمرو : ففيم العمل إذاً؟ فقال : "اعملوا وسددوا وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أي عمل ، وصاحب النار يختم له بعمل أهل النار ، وإن عمل أي عمل ، ثم قال : فريق في الجنة ، وفريق في السعير عدل من الله تعالى قوله : سددوا وقاربوا ؛ أي : اقصدوا السداد ؛ أي : الصواب ، ولا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة لئلا يفضي ذلك بكم إلى الملال ، فتتركوا العمل" كما في "المقاصد الحسنة" للإمام السخاوي ونظيره قوله عليه السلام : "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه" يعني : أن الدين يشتمل على أعمال سهلة ، فمن تكلف والتزم في عبادات شاقة وتكلفات لربما لم يتيسر إقامتها عليه ، فتغلب عليه ، فالكسب طريق الجنة ، ولا بد منه ، وإن علم أنه من أهل الجنة :
كسب را همجون زراعت دان عمو
تانكارى دخل نبود آن تو
{وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيه فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ * وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـاكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِه وَالظَّـالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِىٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَا فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ} ؛ أي : في الدنيا ، والضمير لجميع الناس المشار إليهم بالفريقين {أُمَّةً وَاحِدَةً} : فريقاً واحدا وجماعة واحدة مهتدين ، أو ضالين ، وهو تفصيل لما أجمله ابن عباس رضي الله عنهما في قوله على دين واحد.
{وَلَـاكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ} أن يدخله {فِى رَحْمَتِهِ} وجنته ، ويدخل من يشاء أن يدخله في عذابه ونقمه ، ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول مدخله ، ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب اختلاف حال الداخلين فيهما قطعاً ، فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة ، بل جعلهم فريقين.
{وَالظَّـالِمُونَ} ؛ أي : المشركون {مَا لَهُم مِّن وَلِىٍّ} ؛ أي : ما لهم ولي ما يلي أمرهم ويغنيهم وينفعهم ، فمن مزيدة لاستغراق النفي.
{وَلا نَصِيرٍ} : يدفع العذاب عنهم ويخلصهم منه ، وفيه إيذان بأن الإدخال في العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم ، لا من جهته تعالى ، كما في الإدخال في الرحمة.
قال سعدي المفتي في "حواشيه" : لعل تغيير المقابل حيث لم يأت المقابل ، ويدخل من يشاء في نقمته ، بل عدل إلى ما في النظم للمبالغة في الوعيد ، فإن في نفي من يتولاهم وينصرهم في دفع العذاب عنهم دلالة على أن كونهم في العذاب أمر معلوم مفروغ عنه ، وأيضاً فيه سلوك طريق ، وإذا مرضت ، فهو يشفين ، وأيضاً ذكر السبب الأصلي في جانب الرحمة ليجتهدوا في الشكر.
290
والسبب الظاهري في جانب النقمة ليرتدعوا عن الكفر.
(8/222)
وفي "التأويلات النجمية" : ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة كالملائكة المقربين {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ} (التحريم : 6) الآية ، أو جعلهم كالشياطين المبعدين المطرودين المتمردين ، ولكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يجعلهم مركبين من جوهر الملكي والشيطاني ، ليكونوا مختلفين بعضهم الغالب عليه الوصف الملكي مطيعاًتعالى ، وبعضهم الغالب عليه الوصف الشيطاني متمرداً على الله تعالى ، ليكونوا مظاهر صفات لطفه وقهره مستعدين لمرآتية صفات جماله وجلاله متخلقين بأخلاقه.
وهذا سر قوله تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) ، ومن ها هنا قالت الملائكة : {سُبْحَـانَكَ لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ} (البقرة : 32) ، ويدل على هذا التأويل قوله : {وَلَـاكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ} ؛ أي : ليكون مظهر صفات لطفه ، والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير ؛ أي : ليكونوا مظاهر صفات قهره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ} ، أم منقطعة مقدرة ببل ، والهمزة ، وما فيها من بل للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها ، والهمزة لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه وأكده لا لإنكار الواقع واستقباحه ، كما قيل : إذ المراد بيان أن مافعلوا ليس من اتخاذ الأولياء في شيء ؛ لأن ذلك فرع كون الأصنام أولياء ، وهو أظهر الممتنعات ؛ أي : بل اتخذوا متجاوزين الله أولياء من الأصنام وغيرها :
ءلاف دوستى ايشان مى زند هيهات
{فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ} : جواب شرط محذوف ؛ كأنه قيل : بعد إبطال ولاية ما اتخذوه أولياء إن أرادوا أولياء في الحقيقة هو الولي الذي يجب أن يتولى ، ويعتقد أنه المولى والسيد لا ولي سواه ، وهو متولي الأمور من الخير والشر والنفع والضر.
قال في "كشف الأسرار" : (الله اوست كه يار فرياد رس است).
قال سعد المفتي : ولك أن تحمل الفاء على السببية الداخلة على السبب لكون ذكره مسبباً عن ذكر السبب فانحصار الولي في الله سبب لإنكار اتخاذ الأولياء من دون الله كما يجوز أن يقال : أتضرب زيداً ، فهو أخوك على معنى : لا ينبغي أن تضربه فإنه أخوك.
{وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى} ؛ أي : من شأنه ذلك ليس في السماء والأرض معبود يحيي الموتى غيره ، وهو قول إبراهيم عليه السلام ربي الذي يحيي ويميت ، ولما نزل العذاب بقوم يونس عليه السلام لجؤوا إلى عالم فيهم كان عنده من أهل العلم شيء ، وكان يونس ذهب مغاضباً ، فقال لهم : قولوا : يا حي حين لا حي يا حي محيي الموتى يا حى لا إله إلا أنت ، فقالوها ، فكشف عنهم العذاب.
يقول الفقير قدس سره : إن الله تعالى إنما يرسل العذاب للإماتة والإهلاك.
وفي الحي والمحيي ما يدفع ذلك إذ لا تجتمع الحياة والموت في محل واحد.
وفيه إشارة إلى غلبة الرحمة والشفقة.
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} ، فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً فليتحصوه بالاتخاذ دون من لا يقدر على شيء :
اوست قادر بحكم كن فيكون
غير أو جمله عاجز ند وزبون
عجر را سوى قدرتش ره نيست
عقال ازين كارخانه آكه نيست
وفي "التأويلات النجمية" : وهو يحيي الموتى ؛ أي : النفوس والقلوب الميتة ، ويميت النفوس والقلوب اليوم وغداً ، وهو على كل شيء قدير من الإيجاد والإعدام.
وقال الواسطي رحمه الله : يحيي القلوب بالتجلي ويميت الأنفس بالاستتار.
وقال سهل لا يحيي النفوس حتى تموت ؛ أي : من أوصافها.
291
وقال بعضهم : فيه شكاية من المشغولين بغيره الباقين في حجاب الوسائط بعرض نفسه بالجمال والجلال على المقصرين ليجذب بحسنه وجماله قلوبهم إلى محبته وعشقه ويحييها بنور أنسه وسنا قدسه ، فلا بد للمرء من الاجتهاد والتضرع إلى رب العباد ليصل إلى المطلوب ويعانق المحبوب.
قال في المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
بيش يوسف نازش وخوبى مكن
جزنياز واه يعقوبى مكن
ازبهاران كى شود سر سبزسنك
خاك شوبا كل بروى رنك رنك
سالها توسنك بودى دالخراش
آزمون رايك زمانى خاك باش
ففي هذا الفناء حياة عظيمة ألا ترى أن الأرض تموت عن نفسها وقت الخريف فيحييها الله تعالى وقت الربيع بما لا مزيد عليه.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَا فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُه إِلَى اللَّه ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الانْعَـامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيه لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ} .
(8/223)
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ} .
حكاية لقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للمؤمنين لقوله بعده ذلكم الله ربي إلخ ؛ أي : ما خالفكم الكفار فيه من أمور الدين ، فاختلفتم أنتم وهم {فَحُكْمُهُ} راجع {إِلَى اللَّهِ} ، وهو أثابه المحقين وعقاب المبطلين يوم الفصل والجزاء ، فعلى هذا لا يجوز أن يحمل على الاختلاف بين المجتهدين ؛ لأن الاجتهاد بحضرته عليه السلام لا يجوز.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى اختلاف العلماء في شيء من الشرعيات والمعارف الإلهية ، فالحكم في ذلك إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام ، وإجماع الأمة وشواهد القياس ، أو إلى أهل الذكر ، كما قال تعالى ، {فَسْـاَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (الأنبياء : 7) ، ولا يرجعون إلى العقول المشوبة بآفة الوهم والخيال ، فإن فيها للنفس والشيطان مدخلاً بإلقاء الشبهات ، وأدنى الشبهة في التوحيد كفر ، وقد زلت أقدام جميع أهل الأهواء والبدع والفلاسفة عن الصراط المستقيم ، والدين القويم بهذه المزلة.
{ذَالِكُمُ} الحاكم العظيم الشأن ، وهو مبتدأ {اللَّهُ} خبر {رَبِّى} ومالكي لقب .
{عَلَيْهِ} خاصة لا على غيره {تَوَكَّلْتُ} في كل أموري التي من جملتها رد كيد أعداء الدين {وَإِلَيْهِ} لا إلى أحد سواه {أُنِيبُ} أرجع في كل ما يعن لي من معضلات الأمور التي منها كفاية شرهم والنصر عليهم ، وحيث كان التوكل أمراً واحداً مستمراً والإنابة متعددة متجددة حسب تجدد موادها أوثر في الأول صيغة الماضي.
وفي الثاني : صيغة المضارع.
وفيه إشارة إلى أنه إذا اشتغلت قلوبكم بحديث نفوسكم لا تدرون أبالسعادة جرى حكمكم أم بالشقاوة مضى اسمكم ، فكلوا الأمر فيه إلى الله ، واشتغلوا في الوقت بأمر الله دون التفكر فيما ليس لعقولكم سبيل إلى معرفته وعلمه من عواقبكم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{فَاطِرُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} خبر آخر لذلكم ؛ أي : خالق الآفاق من العلويات والسفليات ، ويدخل فيه بطريق الإشارة : الأرواح والنفوس.
{جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ} ؛ أي : من جنسكم {أَزْوَاجًا} نساء وحلائل.
وبالفارسية : (جفتال).
{وَمِنَ الانْعَـامِ} ؛ أي : وجعل للأنعام من جنسها {أَزْوَاجًا} ، أو خلق لكم من الأنعام أصنافاً يعني : (خلق كرداز جهار بابان صنفهاى كونا).
كون إكراماً لكم لترتفقوا بها إذ يطلق الزوج على معنى الصنف كما في قوله تعالى : {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَـاثَةً} (الواقعة : 7) أو {ذُكْرَانًا وَإِنَـاثًا} (الشورى : 50) وفإنه يطلق على مجموع الزوجين ، وهو خلاف الفرد.
{يَذْرَؤُكُمْ} يكثركم أيها الناس.
والأنعام من الذرء ، وهو البث.
قال في "القاموس" : ذرأ كجعل خلق.
والشيء كثره ومنه
292
الذرية مثلثة لنسل الثقلين.
{فِيهِ} ؛ أي : في هذا التدبير ، وهو جعل الناس والأنعام أزواجاً يكون بينهم توالد فاختير فيه على به مع أن التدبير ليس ظرفاً للبث والتكثير ، بل هو سبب لهما ؛ لأن هذا التدبير كالمنبع والمعدن لهما ، ففيه تغليبان : تغليب المخاطب على الغائب حيث لم يقل يذرؤكم وإياكم ؛ لأن الأنعام ذكرت بلفظ الغيبة ، وتغليب العقلاء على غيرهم حيث لم يقل يذرأكم وإياهن ، فإن كم مخصوص بالعقلاء.
{لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ} : المثل كناية عن الذات كما في قولهم : مثلك لا يفعل كذا على قصد المبالغة في نفيه عنه ؛ فإنه إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى.
وهذا لا يتوقف على أن يتحقق مثل في الخارج ، بل يكفي تقدير المثل ، ثم سلكت هذه الطريقة في شأن من لا مثل له ، والشيء عبارة عن الموجود ، وهو اسم لجميع المكونات عرضاً كان أو جوهراً.
وعند سيبويه : الشيء ما يصح أن يعلم ويخبر عنه موجوداً أو معدوماً.
والمعنى : ليس كذاته شيء من شأن من الشؤون التي من جملتها هذا التدبير البديع ؛ لأن ذاته لا يماثل ذات أحد بوجه من الوجوه ، ولا من جميع الوجوه ؛ لأن الأشياء كلها إما أجسام أو أعراض تعالى ربنا عن ذلك ولا كاسمه اسم كما قال تعالى : {هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا} (مريم : 65) ، ولا كصفته صفة إلا من جهة موافقة اللفظ والمحال كل المحال أن تكون الذات القديمة مثلاً للذات الحادثة ، وأن يكون لها صفة حادثة ، كما استحال أن تكون للذات المحدثة صفة قديمة :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
ذات تراصورت اوبيوندند
توبكس وكس بتو مانند ند
جل المهيمن أن تدري حقيقته
من لا له المثل لا تضرب له مثلاً
وفي المثنوي : (ذات أوراد وتصور كيخ كو تادر آري در تصور مثل أو) هذا ما عليه المحققون والمشهور عند القوم أن الكاف زائدة في خبر ليس ، وشيء اسمها ، والتقدير : ليس مثله شيء وإلا كان المعنى : ليس مثل مثله شيء ، وهو محال.
(8/224)
قال بعضهم : لعل من قال : الكاف زائدة أراد أنه يعطي مغني ليس مثله شيء غير أنه آكد لما ذكر من أنه إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى.
وقال بعضهم : كلمة مثل هي الزائدة.
والتقدير : ليس كهو شيء ، ودخول الكاف على الضمائر لا يجوز ، فالوجه الرجوع إلى طريق الكناية ؛ لأن القول بزيادة ماله فائدة جليلة وبلاغة مقبولة بعيد كل البعد.
قال في "بحر العلوم" : ومما يجب التنبه له أن المثل عبارة عن المساوات في بعض الصفات لا في جميعها كما زعم كثير من المحققين ، فإنه سهو بدليل قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ} (الكهف : 110) ، الآية.
فإنه ثبت مماثلته بالاشتراك والمساواة في وصف البشرية فقط لا في جميع الأوصاف كما لا يخفى للقطع بأن بينه وبينهم مخالفة بوجوه كثيرة من اختصاصه بالنبوة والرسالة والوحي إلى غير ذلك.
ألا ترى إلى قوله : يوحي إلى كيف أثبت المخالفة بأن خصصه بالإيحاء إليه ذكراً ، فظهر أن ما ذكره الإمام الغزالي رحمه الله من أن المثل عبارة عن المساوي في جميع الصفات ليس كما ينبغي ، انتهى.
يقول الفقير : إنما جاء التخصيص من قبل قوله : بشر كما في قوله : زيد مثل عمر في النحو ، وإلا فلو قال : أنا مثلكم لأفادت المماثلة في جميع الصفات ، كما في قوله : زيد مثل عمرو أي من كل الوجوه.
قال الإمام الراغب في "المفردات" : المثل عبارة عن المشابه لغيره في معنى من المعاني ؛ أي : معنى
293
كان.
وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة ، وذلك أن الند يقال : لما يشارك في الجوهر فقط والشبه يقال : فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط.
والمثل عام في جميع ذلك.
ولهذا لما أراد الله سبحانه وتعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر ، فقال تعالى : ليس كمثله شيء.
انتهى.
وحيث ترى في مرآة القلب صورة أو خطر بالخاطر مثال ، وركنت النفس إلى كيفيته ، فليجزم بأن الله بخلافه إذ كل ذلك من سمات الحدوث لدخوله في دائرة التحديد والتكييف اللازمين للمخلوقين المنزه عنهما الخالق ، ولقد أقسم سيد الطائفة الجنيد قدس سره بأنه ما عرف الله إلا الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وقال بعض سادات الصوفية قدس الله أسرارهم : المثل ليس بزائد عند أهل الحقيقة ، فإن الهاء كناية عن الهوية الذاتية ، والمثل إشارة إلى التجلي الإلهي.
والمعنى : ليس كالتجلي الإلهي الذي هو أول التجليات شيء إذ هو محيط بكل التجليات الباقية المرتبة عليه.
قال الواسطي قدس سره : أمور التوحيد كلها خرجت من هذه الآية ليس كمثله شيء ؛ لأنه ما عبر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة والعبارة منقوضة ؛ لأن الحق تعالى لا ينعت على إقداره ؛ لأن كل باعث مشرف على المنعوت وجل أن يشرف عليه المخلوق.
قال الشيخ سعدي :
نه براوج ذاتش برد مرغ وهم
نه در ذيل وصفش رسد دست فهم
توان در بلاغت بسحبان رسيد
كنه در نه بيجون سبحان رسيد
جه خاصان درين ره فرس رانده اند
بلا احصى از تك فرومانده اند
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} : المبالغ في العلم بكل ما يسمع ويبصر.
قال الزروقي : السميع الذي انكشف كل موجود لصفة سمعه ، فكان مدركاً لكل مسموع من كلامه وغيره والبصير الذي يدرك كل موجود برؤيته.
والسمع والبصر صفتان من صفاته المنعوتة نابتتان له تعالى كما يليق بوصفه الكريم ورده بعضهم للعلم ، ولا يصح.
انتهى.
قال الغزالي رحمه الله : السمع في حقه عبارة عن صفة ينكشف بها كمال صفات المسموعات والبصر عبارة عن الوصف الذي به ينكشف كمال نعوت ، والمبصرات وسمع العبد قاصر ، فإنه يدرك ما قرب لا ما بعد بجارحة ، وربما بطل السمع بعظم الصوت ؛ وإنما حظ العبد منه أمران أحدهما أن يعلم أن الله سميع ، فيحفظ لسانه.
والثاني : أن يعلم أن الله لم يخلق له السمع إلا ليسمع كلامه ، وحديث رسوله ، فيستفيد به الهداية إلى طريق الله ، فلا يستعمل سمعه إلا فيه ، واستماع صوت الملاهي حرام ، وإن سمع بغتة ، فلا إثم عليه والواجب عليه أن يجتهد حتى لا يسمع ؛ لأنه عليه السلام "أدخل أصبعه في أذنه" ، كما في البزازية.
وفي الحديث : "استماع صوت الملاهي معصية والجلوس عليها فسق ، والتلذذ بها كفر" على وجه التهديد وبصر العبد قاصر إذ لا يمتد إلى ما بعد ، ولا يتغلغل إلى باطن ما قرب منه وحظه الديني أمران أن يعلم أنه خلق له البصر ، لينظر إلى الآيات والآفاقية والأنفسية ، وأن يعلم أنه بمرأى من الله ومسمع ؛ أي : بحيث يراه ويسمعه ، فمن قارف معصية ، وهو يعلم أن الله يراه ، فما أجسره وأخسره ، ومن ظن أنه لا يراه فما أكفره.
قال في "كشف الأسرار" : ثم قال : وهو السمع البصير لئلا يتوهم أنه لا صفات له كما لا مثل له ، فقد تضمنت الآية إثبات الصفة ونفي التشبيه والتوحيد كله بين هذين الحرفين إثبات صفة من غير تشبيه ونفي تشبيه من غير تعطيل ، فمن نزل عن الإثبات ،
294
وادعى اتقاء التشبيه وقع في التعطيل ، ومن ارتقى عن الظاهر ، وادعى اتقاء التعطيل حصل على التشبيه ، وأخطأ وجه الدليل ، وعلى الله قصد السبيل.
(8/225)
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي "التأويلات النجمية" : أن قوماً وقعوا في تشبيه ذاته بذات المخلوقين ، فوصفوه بالحد والنهاية والكون والمكان ، وأقبح قولاً منهم من وصفه بالجوارح والآلات ، وقوم وصفوه بما هو تشبيه في الصفات ، فظنوا أن بصره في حدقة وسمعه في عضو ورقدرته في يد إلى غير ذلك وقوم قاسوا حكمه على حكم عباده ، فقالوا : ما يكون من الحق قبيحاً فمنه قبيح وما يكون من الخلق حسناً ، فمنه حسن ، فهؤلاء كلهم أصحاب التشبيه والحق تعالى مستحق التنزيه لا التشبيه محقق بالتحصيل دون التعطيل والتمثيل مستحق التوحيد دون التحديد موصوف بكمال الصفات مسلوب عن العيوب والنقصان.
{لَه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الزمر : 63).
{فَاطِرُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الانْعَـامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيه لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌا وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُا إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَىا أَنْ أَقِيمُوا} .
قال الجواليقي في كتابه "المعرب" المقليد المفتاح فارسي معرب لغة في الإقليد ، والجمع مقاليد ، فالمقاليد : المفاتيح.
وهي كناية عن الخزائن وقدرته عليها وحفظه لها.
وفيه مزيد دلالة على الاختصاص ؛ لأن الخزائن لا يدخلها ، ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتيحها.
وقال الكاشفي : (كليد هاى آسمانها وزمينها يعني : مفاتيح رزق جه خزانة آسمان مطراست وكنجينة زمين نبات).
قال ابن عطاء : مقاليد الأرزاق صحة التوكل ومقاليد القلوب صحة المعرفة بالله ومقاليد العلوم في الجوع :
ندارند تن بروران آكهى
كه برمعده باشدز حكمت تهى
وقال بعضهم : مقاليد سماواته ما في قلوب ملائكته من أحكام الغيوب ، ومقاليد أرضه ما أودع الحق صدور أوليائه من عجائب القلوب.
{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} يوسع ويضيق {إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} مبالغ في الإحاطة به ، فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل عليه ، فلا يوسع الرزق إلا إذا علم أن سعته خير للعبد.
وكذا التضييق.
وفي "التأويلات النجمية" : له مفاتيح سماوات القلوب ، وفيها خزائن لطفه ورحمته وأرض النفوس ، وفيها خزائن قهره ، وعزته ، فكل قلب مخزن لنوع من ألطافه ، فبعضها مخزن المعرفة وبعضها مخزن المحبة ، وبعضها مخزن الشوق وبعضها مخزن الإرادة.
وغير ذلك من الأحوال كالتوحيد والتفريد والهيبة والأنس والرضا.
وغير ذلك ، وكل نفس مخزن لنوع من أوصاف قهره ، فبعضها مخزن النكرة ، وبعضها مخزن الجحود وبعضها مخزن الإنكار ، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة كالشرك والنفاق ، والحرص والكبر والبخل والشره والغضب والشهوة ، وغير ذلك وفائدة التعريف أن المقاليد له قطع أفكار العباد من الخلق إليه في جلب ما يريدونه ، ودفع ما يكرهونه ، فإنه تعالى يوسع ويضيق رزق النفوس ورزق القلوب ، والخلق بمعزل عن هذا الوصف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي الحديث : "لا إله إلا الله مفتاح الجنة" ، ولا شك أن الجنة جنتان : جنة صورية هي دار النعيم ، وجنة معنوية هي : القلب.
ومفتاح كلتيهما هو التوحيد ، وهو بيد الله يعطيه من يشاء من عباده ويجعله من أهل النعيم مطلقاً ، ثم إن الرزق الصوري هي المأكولات والمشروبات الحسية والرزق المعنوي ، هي العلوم الحقيقية ، والمعارف الإلهية ، فالأول داخل في الآية بطريق العبارة.
والثاني : بطريق الإشارة.
وفي المثنوي :
295
فهم نان كردن نه حكمت اى رهى
زانكه حق كفتت كلو من رزقه
رزق حق حكمت بود در مرتبت
كان كلو كيرت نباشد عاقبت
اين دهان بستى دهانى بازشد
كه خورنده لقمهاى رازشد
كر زشير ديوتن را وا برى
در فطام او بسى حكمت خورى
نسأل الله فيضه وعطاه بحق مصطفاه.
{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} شرع بمعنى سن وجعل سنة وطريقاً واضحاً ؛ أي : سن الله لكم يا أمة محمد من التوحيد ودين الإسلام وأصول الشرائع والأحكام.
وبالفارسية : (وراه روشن ساخت شمار ازدين).
{مَا وَصَّى بِه نُوحًا} التوصية وصيت : (كردن وفرمودن) ، والوصية : التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظه ؛ أي : أمر به نوحاً أمراً مؤكداً ، فإن التوصية معربة عن تأكيد الأمر والاعتناء بشأن المأمور به قدم نوح عليه السلام ؛ لأنه أول أنبياء الشريعة ؛ فإنه أول من أوحى إليه الحلال والحرام وأول من أوحي إليه تحريم الأمهات والأخوات والبنات وسائر ذوات المحارم ، فبقيت تلك الحرمة إلى هذا الآن.
(8/226)
{وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} ؛ أي : وشرع لكم الذي أوحينا إلى محمد عليه السلام ، وتغيير التوصية إلى الإيحاء في جانب النبي صلى الله عليه وسلم للتصريح برسالته القامع لإنكار الكفرة ، والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بإيحائه ، وهو السر في تقديمه على ما بعده مع تقدمه عليه زماناً ، وتقديم توصية نوح للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم ديناً قديماً ، والتعبير بالأصل في الموصولات ، وهو الذي للتعظيم وتوجيه الخطاب إليه عليه السلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيه على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه.
{وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَىا} وجه تخصيص هؤلاء الخمسة بالذكر ، أنهم أكابر الأنبياء ومشاهيرهم من أولي العزم وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة.
{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} محله النصب على أنه بدل من مفعول شرع ، والمعطوفين عليه أو رفع على الاستئناف ؛ كأنه قيل : وما ذلك المشروع المشترك بين هؤلاء الرسل ، فقيل : هو إقامة الدين ؛ أي : دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته والإيمان بكتبه ورسله ، وباليوم الآخر وسائر ما يكون الرجل به مؤمناً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
والمراد : بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ ، أو المواظبة عليه والتشمر له.
{وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} في الدين الذي هو عبارة عن الأصول والخطاب متوجه إلى أمته عليه السلام ، فهذه وصية لجميع العباد.
واعلم أن الأنبياء عليهم السلام مشتركون ومثقفون في أصل الدين وجميعهم أقاموا الدين وقاموا بخدمته وداموا بالدعوة إليه ، ولم يتخلفوا في ذلك ، وباعتبار هذا الاتفاق والاتحاد في الأصول.
قال الله تعالى : {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ} (آل عمران : 19) من غير تفرقة بين نبي ونبي ومختلفون في الفروع والأحكام.
قال تعالى : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة : 48) ، وهذا لاختلاف الناشىء في اختلاف الأمم وتفاوت طبائعهم لا يقدح في ذلك الاتفاق ، ثم أمر عباده بإقامة الدين والاجتماع عليه ونهاهم عن التفرق فيه ، فإن يد الله ونصرته مع الجماعة ، وإنما يأكل الذئب الشاة البعيدة النافرة والمنفردة عن الجماعة.
أوصى حكيم أولاده عند موته ، وكانوا جماعة ، فقال لهم : ائتوني بعصى ، فجمعها ، فقال لهم : اكسروها ، وهي مجموعة ، فلم يقدروا على ذلك ، ثم فرقها ، فقال : خذوا واحدة واحدة ، فاكسروها فكسروها ،
296
فقال لهم : هكذا أنتم بعدي لن تغلبوا ما اجتمعتم ، فإذا تفرقتم تمكن منكم عدوكم ، فأهلككم ، وكذا القائمون بالدين إذا اجتمعوا على إقامته ، ولم يتفرقوا فيه لم يقهرهم عدو.
وكذا الإنسان في نفسه إذا اجتمع في نفسه على إقامة الدين لم يغلبه شيطان من الإنس والجن ، بما يوسوس به إليه مع مساعدة الإيمان والملك بإقامته له.
قال علي رضي الله عنه : لا تتفرقوا ، فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب ، وكونوا عباد الله إخواناً.
قال سهل : الشرائع مختلفة وشريعة نوح هو الصبر على أذى المخالفين.
انتهى.
فعلى هذا فشريعة إبراهيم عليه السلام هو الانقياد والتسليم وشريعة موسى عليه السلام هو الاشتياق إلى جمال الرب الكريم وشريعة عيسى عليه السلام هو الزهد والتجرد العظيم وشريعة نبينا عليه السلام هو الفقر الحقيقي المغبوط عند كل ذي قلب سليم كما قال : "اللهم أغنني بالافتقار إليك" ، وهذه الشرائع الباطنة باقية أبداً ومن أصول الدين التوجه إلى الله تعالى بالكلية في صدق الطلب ، وتزكية النفس عن الصفات الذميمة وتصفية القلب عن تعلقات الكونين وتخلية الروح بالأحلاق الربانية ومراقبة السر لكشف الحقائق وشواهد الحق ، وكان نبينا عليه السلام قبل البعثة متعبداً في الفروع بشرع من قبله مطلقاً آدم وغيره وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره الأظهر تعبده عليه السلام قبل نبوته كان بشريعة إبراهيم عليه السلام ، حتى جاءه الوحي وجاءته الرسالة ، ولم يكن على ما كان عليه قومه باتفاق الأئمة ، وإجماع الأمة ، فالولي الكامل يجب عليه متابعة العمل بالشريعة المطهرة حتى يفتح الله له في قلبه عين الفهم عنه ، فيلهم معاني القرآن ، ويكون من المحدثين بفتح الدال ثم يصير إلى إرشاد الخلق.
وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
لوح محفوظست اورا بيشوا
ازجه محفوظست محفوظ از خطا
نى نجومست ونه رملست ونه خواب
وحى حق والله أعلم بالصواب
{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ} ؛ أي : عظم وشق عليهم {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} يا محمد من التوحيد ورفض عبادة الأصنام واستبعدوه حيث قالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا الشيء عجاب.
وقال قتادة : شهادة أن لا إله إلا الله وحده ، ضاق بها إبليس وجنوده ، فأبى الله إلا أن يظهرها على من ناوأها ؛ أي : عادها.
{اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ} .
(8/227)
قال الراغب : جبيت الماء في الحوض جمعته والحوض الجامع له جابية ، ومنه استعير جبيت الخراج جباية.
والاجتباء : الجمع على طريق الاصطفاء ، وهو هنا مأخوذ من الجباية ، وهي جلب الخراج وجمعه لمناسبة النهي عن التفرق في الدين ؛ ولأن الاجتباء بمعنى الاصطفاء لا يتعدى بإلى إلا باعتبار تضمين معنى الضم والصرف ، والمعنى : الله يجتلب إلى ما تدعوهم إليه من يشاء أن يجتلبه إليه ، وهو من صرف اختياره إلى ما دعي إليه.
{وَيَهْدِى إِلَيْهِ} بالإرشاد والتوفيق وإمداد الالطاف.
{مَن يُنِيبُ} يقبل إليه ، ويجوز أن يكون الضميرفي كلا الموضعين ، فالمعنى : الله يجمع إلى جنابه على طريق الاصطفاء من يشاء من عباده بحسب استعداده ويهدي إليه بالعناية من ينيب ، واجتباء الله تعالى العبد تخصصه إياه بفيض إلهي يتحصل منه أنواع من النعم ، بلا سعي من العبد ، وذلك للأنبياء عليهم السلام ، ولبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء.
قال الكاشفي : (يعني هركه از همه اعراض كند وحق راخواهد
297
حق سبحانه راء راست بد ونمايد) :
نخست از طالبى از جمله بكذر روبدو آور
كرآن حضرت ندا آردكه اى سر كشته راه اينك
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بقوله الله يجتبي إليه الآية إلى مقامي المجذوب والسالك ، فإن المجذوب من الخواص اجتباه الله في الأزل ، وسلكه في سلك من يحبهم واصطنعه لنفسه وجذبه عن الدارين بجذبة توازي عمل الثقلين في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، والسالك من العوام الذين سلكهم في سلك من يحبونه موفقين للهداية على قدمي الجهد والإنابة إلى سبيل الرشاد من طريق العناد انتهى.
والإنابة : نتيجة التوبة فإذا صحت التوبة حصلت الإنابة إلى الله تعالى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال بعض الكبار : من جاهد في إقامة الدين في مقام الشريعة والطبيعة يهديه الله إلى إقامته في مقام الطريقة والنفس ، ومن أقامه في هذا المقام يهديه الله إلى إقامته في مقام المعرفة والروح ، ومن أقامه في هذا المقام يهديه الله إلى إقامته في مقام الحقيقة والسر ، ومن أقامه في هذا المقام ، ثم أمره وكمل شأنه في العلم والعرفان والذوق والوجدان والشهود والعيان ، وإليه يشير قوله تعالى : {وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت : 69) فعليك بإتيان جميع القرب قدر الاستطاعة في كل زمان وحال ، فإن المؤمن لن تخلص له معصية أبداً من غير أن تخالطها طاعة ؛ لأنه مؤمن بها أنها معصية ، فإن أضاف إلى هذا التخليط استغفاراً وتوبة ، فطاعة على طاعة وقربة على قربة ، فيقوى جزاء الطاعة التي خالطها العمل السَّيِّىء ، وهو الإيمان بأنها معصية ، والإيمان من أقوى القرب وأعظمها عند الله ؛ فإنه الأساس الذي ابتني عليه جميع القرب.
وقال تعالى في الخبر الصحيح : "وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت منه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" ، وكان قربه تعالى من العبد ضعف قرب العبد منه ، وعلى كل حال لا يخلو المؤمن من الطاعة والقرب والعمل الصالح يمحو الخطايا ، فإن العبد إذا رجع عن السيئة وأناب إلى الله وأصلح عمله أصلح الله شأنه ، وعاد عليه نعمه الفائتة.
عن إبراهيم بن أدهم قدس سره : بلغني أن رجلاً من بني إسرائيل ذبح عجلاً بين يدي أمه فيبست يده فبينما هو جالس إذ سقط فرخ من وكره ، وهو يتبصبص فأخذه ورده إلى وكره ، فرحمه الله تعالى لذلك ورد عليه يده بما صنع ، والوكر بالفتح عشر الطائر.
وبالفارسية : (آشيان).
والتبصبص : التملق وتحريك الذنب.
وفي الآية إشارة إلى أهل الوحدة والرياء والسمعة ، فكما أن المشركين بالشرك الجلي يكبر عليهم أمر التوحيد فكذا المشركون بالشرك الخفي يكبر عليهم أمر الوحدة والإخلاص ، نسأل الله سبحانه أن يجذبنا إليه بجذبة عنايته ، ويشرفنا بخاص هدايته.
{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَىا أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَـابَ مِنا بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَالِكَ فَادْعُا وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَـابٍا وَأُمِرْتُ لاعْدِلَ بَيْنَكُمُا اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُا اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} .
(8/228)
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{وَمَا تَفَرَّقُوا} ؛ أي : وما تفرق اليهود والنصارى في الدين الذي دعوا إليه ، ولم يؤمنوا كما آمن بعضهم في حال من الأحوال ، أو في وقت من الأوقات.
{إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} ؛ أي : إلا حال جيء العلم أو إلا وقت مجيء العلم بحقية ما شاهدوا في رسول الله ، والقرآن من دلائل الحقية حسبما وجدوه في كتابهم ، أو العلم بمبعثه.
{بَغْيَا بَيْنَهُمْ} من بغى بمعنى طلب وحقيقة البغي ، الاستطالة بغير حق كما في "المفردات" ؛ أي : لابتغاء طلب الدنيا وطلب ملكها وسياستها وجاهها وشهرتها ، وللحمية الجاهلية لا ؛ لأن لهم في ذلك شبهة.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} ، وهي العدة
298
بتأخير العقوبة.
{إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ؛ أي : وقت معين معلوم عند الله هو يوم القيامة وآخر أعمارهم المقدرة.
{لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ} لأوقع القضاء بينهم باستئصالهم لاستيجاب جنايتهم لذلك قطعاً.
{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَـابَ مِنا بَعْدِهِمْ} ؛ أي : والمشركين الذين أوتوا الكتاب ؛ أي : القرآن من بعدما أوتي أهل الكتاب كتابهم والإيراث في الأصل : ميراث دادن.
{لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} ؛ أي : من القرآن ، والشك اعتدال النقيضين عند الإنسان تساويهما.
و{مُرِيبٍ} موقع في القلق ؛ أي : الاضطراب ، ولذلك لا يؤمنون إلا لمحض البغي والمكابرة بعدما علموا بحقيته كدأب أهل الكتابين.
والريبة : قلق النفس واضطرابها ، ويسمى الشك بالريب ؛ لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة ، والظاهر أن شك مريب من باب جد جده ؛ أي : وصف الشك بمريب بمعنى ذي ريب مبالغة فيه.
وفي "القاموس" : أراب الأمر صار ذا ريب.
{فَلِذَالِكَ} ؛ أي : فلأجل ما ذكر من التفرق والشك المريب ، أو فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيق ، بأن يتنافس فيه المتنافسون.
{فَادْعُ} الناس كافة إلى إقامة ذلك الدين والعمل بموجبه ، فإن كلاً من تفرقهم وكونهم في شك مريب ، ومن شرع ذلك الدين لهم على لسان رسول الله صلى الله تعالى عليه والسلام ، سبب للدعوة إليه ، والأمر بها ، وليس المشار إليه ما ذكر من التوصية والأمر بالإقامة ، والنهي عن التفرق حتى يتوهم شائبة التكرار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفيه إشارة إلى افتراق أهل الأهواء والبدع ثنتين وسبعين فرقة ودعوتهم إلى صراط مستقيم السنة لإبطال مذاهبهم.
وفي الحديث : "من انتهى" ؛ أي : منع بكلام غليظ "صاحب بدعة" سيئة مما هو عليه من سواء الاعتقاد والفحش من القول والعمل.
"ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً ومن أهان صاحب بدعة آمنه الله يوم القيامة من الفزع الأكبر".
وهو حين الانصراف إلى النار كما قال ابن السماك أن الخوف المنصرف للمتفرقين قطع نياط قلوب العارفين.
وقال في "البزازية" : روي أن ابن المبارك رؤى في المنام ، فقيل له ما فعل ربك بك ، فقال : عاتبني وأوقفني ثلاثين سنة بسبب أني نظرت باللطف يوماً إلى مبتدع ، فقال : إنك لم تعاد عدوي في الدين ، فكيف حال القاعد بعد الذكر مع القوم الظالمين.
{وَاسْتَقِمْ} عليه وعلى الدعوة إليه.
{كَمَآ أُمِرْتَ} وأوحي إليك من عند الله تعالى.
والمراد : الثبات والدوام عليهما ؛ لأنه كان مستقيماً في هذا المعنى.
وفي الحديث : شيبتني هود وأخواتها" ، فقيل له : لم ذلك يا رسول الله؟ فقال : "لأن فيها فاستقم كما أمرت" ، وهذا الخطاب له عليه السلام بحسب قوته في أمر الله.
وقال هو لأمته بحسب ضعفهم استقيموا ، ولن تحصوا ؛ أي : لن تطيقوا الاستقامة التي أمرت بها فحقيقة الاستقامة لا يطيقها إلا الأنبياء ، وأكابر الأولياء ؛ لأنها الخروج من المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدي الحق على حقيقة الصدق.
قال الكاشفي : (درتبيان آورده كه وليد مغيره بآن حضرت كفت ازدين ودعوى كه دارى رجوع كن تا من نصفى ازا موال خود بتودهم وشيبه وعده كرده كه اكر بدين بدران باز آرى دختر خود در عقد توارم اين آيت نازل شدكه بردعوت خود مقيم ودر دين وملت خود مستقيم باش).
{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} المختلفة الباطلة والضمير للمشركين ، وكانوا يهوون أن يعظم عليه السلام آلهتهم ، وغير ذلك.
وفي الخبر : "لكل شيء آفة وآفة الدين الهوى" :
299
هو اوهوس رانماند ستيز
جو بيند سر بجة عقل تيز
{وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَـابٍ} ؛ أي كتاب كان من الكتب المنزلة لا كالذين آمنوا ببعض منها ، وكفروا ببعض ، وذلك فإن كلمة ما من ألفاظ العموم.
وفيه إشارة إلى وجوب الإيمان بجميع الحقائق ، وإن اختلف مظاهرها ، فإن كلها إلهام صحيح من الله تعالى.
{وَأُمِرْتُ} بذلك {لاعْدِلَ بَيْنَكُمُ} بين شريفكم ووضيعكم في تبليغ الشرائع والأحكام ، وفصل القضايا عند المحاكمة والمخاصمة إلي ، فاللام على حقيقتها ، والمأمور به محذوف أو زائدة ، والباء محذوفة ؛ أي : أمرت بأن أعدل وأسوي بين شريفكم ووضيعكم ، فلا أخص البعض بأمر أو نهي.
(8/229)
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وقوله : وقل آمنت.
إلخ.
تعليم من الله لاستكمال القوة النظرية.
وقوله : وأمرت ، إلخ.
لاستكمال القوة العملية.
روي : أن داود عليه السلام قال : "ثلاث خصال من كن فيه ، فهو الفائز القصد في الغنى ، والفقر والعدل في الرضا ، والغضب والخشية في السر والعلانية ، وثلاث من كن فيه أهلكته شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه ، وأربع من أعطيهن ، فقد أعطي خير الدنيا والآخرة لسان ذا ذكر وقلب شاكر وبدن صابر وزوجة مؤمنة".
وفي "التأويلات النجمية" : لأعدل بينكم ؛ أي : لأسوي بين أهل الأهواء ، وبين أهل السنة بترك البدعة ولزوم الكتاب والسنة ليندفع الافتراق ويكون الاجتماع.
{اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} ؛ أي : خالقنا جميعاً ، ومتولي أمورنا لا الأصنام والهوى.
{لَنَآ أَعْمَـالُنَا} لا يتخطانا جزاؤها ثواباً كان أو عقاباً.
{وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ} لا يجاوزكم آثارها ، لا نستفيد بحسناتكم ولا نتضرر بسيئاتكم.
{لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} : الحجة في الأصل : البرهان والدليل ، ثم يقال : لا حجة بينناوبينكم ؛ أي : لا إيراد حجة بيننا ويراد به لا خصومة بيننا بناء على أن يراد الحجة من الجانبين لازم للخصومة ، فيكنى بذكر اللازم عن الملزوم ، فالمعنى لا محاجة ولا خصومة ؛ لأن الحق قد ظهر ، ولم يبق للمحاجة حاجة ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة.
وفيه إشارة إلى أنه لا خصومة بالإهداء والمعصية.
{اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} يوم القيامة.
{وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} : مرجع الكل لفصل القضاء ، فيظهر هناك حالنا وحالكم ، وليس في الآية إلا ما يدل على المتاركة في المقاولة لا مطلقاً ، حتى لا تكون منسوخة بآية القتال.
يعني : هذه الآية إنما تدل على المتاركة القولية لحصول الاستغناء عن المحاجة القولية معهم ؛ لأنهم قد عرفوا صدقه من الحجيج ، وإنما كفروا عناداً وبعد ما ظهر الحق وصاروا محجوجين كيف يحتاج إلى المحاجة القولية ، فلا يبقى بعد هذا السيف أو الإسلام ، وقد قوتلوا بعد ذلك ، فعلى العبد ، قبول الحق بعد ظهوره والمشي خلف النصح بعد إضاءة نوره ، فإن المصير إلى الله ، والدنيا دار عبور ، وأن الحضور في الآخرة ، والدنيا دار التفرق والفتور ، فلا بد من التهيؤ للموت.
قال إبراهيم بن أدهم قدس سره لرجل في الطواف : اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
أولاها : تغلق باب النعمة وتفتح باب الشدة.
والثانية : تغلق باب العز وتفتح باب الذل.
والثالثة : تغلق باب الراحة ، وتفتح باب الجهد.
والرابعة تغلق باب النوم وتفتح باب السهر.
والخامسة : تغلق باب الغنى وتفتح باب الفقر.
والسادسة : تغلق باب الأمل وتفتح باب الاستعداد للموت.
وأنشدوا : ()
300
إنعباداً فطنا
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا
وفي المثنوي :
ملك برهم زن تو آدم وارزود
تابيانى همجو او ملك خلود
اين جهان خود حبس جنهاى شماست
هين رويدان سوكه صحراى شماست
{فَلِذَالِكَ فَادْعُا وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَـابٍا وَأُمِرْتُ لاعْدِلَ بَيْنَكُمُا اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُا اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللَّهِ مِنا بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَه حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّا أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِى السَّاعَةِ لَفِى ضَلَـالا بَعِيدٍ} .
{وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللَّهِ} ؛ أي : يخاصمون في دينه نبيه ، وهو مبتدأ {مِنا بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ} ؛ أي : من بعدما استجاب له الناس ودخلوا فيه لظهور حجته ووضوح محجته ، والتعبير عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه.
وفي إشارة إلى أنهم استجابوا له تعالى يوم الميثاق بقولهم : بلى ، حين قال لهم : ألست بربكم؟ ثم لما نزلوا من عالم الأرواح إلى عالم الأجسام نسوا الإقرار والعهد ، فأخذوا في المحاجة والإنكار بخلاف المؤمنين ، فإنهم ثبتوا على التصديق والإقرار.
قال الحافظ :
ازدم صبح ازل تا آخر شام ابد
دوستى ومهر بريك عهد ويك ميثاق بود
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/230)
{حُجَّتُهُمْ} : مبتدأ ثان {دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} : خبر الثاني ، والجملة خبر الأول ؛ أي : إزالة زائلة باطلة.
يعني : (ناجيز ونابر جاى) ، بل لا حجة لهم أصلاً ، وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة مجاراة معهم على زعمهم الباطل والمجاراة بالفارسية : (رفتنوبا كسى جيزى واراندن).
{وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} عظيم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} على كفرهم الشديد وضلالهم البعيد لا يعرف كنهه ، وهو عذاب النار.
يقول الفقير : وجه الغضب والعذاب أن الدين الحق ، وما جاء من القرآن سبب الرحمة والنعمة ، فإذا أعرضوا عنهما وجدوا عند الله الغضب والنقمة بدلهما نعوذ بالله من ذلك ، وهذا من نتائج أحوالهم وثمرات أعمالهم :
ابرا كرآب زندكى بارد
هركز ازشاخ بيد بر نخورى
بافر وماية روز كار مبر
كزنى بور يا شكر نخورى
{اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَـابَ} ؛ أي : جنس الكتاب حال كونه ملتبساً.
{بِالْحَقِّ} في أحكامه وإخباره بعيداً من الباطل ، أو بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام.
{وَالْمِيزَانَ} ؛ أي : وأنزل الميزان ؛ أي : الشرع الذي يوزن به الحقوق ويسوي بين الناس على أن يكون لفظ الميزان مستعاراً للشرع تشبيهاً له بالميزان العرفي من حيث يوزن به الحقوق الواجبة الأداء سواء كان من حقوق الله ، أو من حقوق العباد ، أو أنزل نفس العدل والتسوية ، بأن أنزل الأمر به في الكتب الإلهية ، فيكون تسمية العدل بالميزان تسمية المسمى باسم آلته ، فإن الميزان آلة العدل ، أو أنزل آلة الوزن.
والوزن : معرفة قدر الشيء.
يعني : (منزل كردانيد ترازورا كه موزونات رابان سنجد تادر بارئه خزنده وفروشنده ستم نرود).
فيكون المراد بالميزان معناه الأصلي وإنزاله إما حقيقة لما روي أن جبرائيل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام ، فقال له : مر قومك يزنوا به.
وقيل : نزل آدم عليه السلام بجميع آلات الصنائع ، وإما مجازاً عن إنزال الأمر به
301
واستعماله في الإيفاء والاستيفاء.
(ودر عين المعاني أورده كه مراد از ميزان حضرت بهتر كائنات محمد است صلى الله تعالى عليه وسلم قانون عدل بدل وتمهيد مى بايد ونزال وإرسال اوست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى كتاب الإيمان الذي كتب الله في القلوب وميزان العقل يوزن به أحكام الشرع.
والخير والشر والحسن والقبح ، فإنهما قرينان متلازمان لا بد لأحدهما من الآخر وسماها البصيرة ، فقال : قد جاءكم بصائر من ربكم ، فمن أبصر ، فلنفسه ، ومن عمي فعليها ، ففي انتفاء أحدهما انتفاء الآخر ، كما قال تعالى : {صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} (البقرة : 171) ، فنفي العقل والبصيرة بانتفاء الإيمان.
{وَمَا يُدْرِيكَ} : الإدراء بمعنى الإعلام ؛ أي : أي شيء يجعلك دارياً ؛ أي : عالماً بحال الساعة التي هي من العظم والشدة والخفاء بحيث لا يبلغه دراية أحد ، وإنما يدرى ذلك بوحي منا.
وبالفارسية : (وجه جيز دانا كرد براوجه دانى).
قال الراغب : كل موضع ذكر في القرآن ، وما أدراك فقد عقب ببيانه نحو : وما أدرك ماهيه نار حاميه وكل موضع ذكر فيه ، وما يدريك لم يعقبه بذلك نحو : وما يدريك لعل الساعة قريب.
{لَعَلَّ السَّاعَةَ} التي يخبر بمجيئها الكتاب الناطق بالحق.
{قَرِيبٌ} ؛ أي : شيء قريب ، أو قريب مجيئها وإلا فالفعيل بمعنى الفاعل لا يستوي فيه المذكر والمؤنث عند سيبويه ، فكان الظاهر أن يقال : قريبة لكونه مسند إلى ضمير الساعة إلا أنه قد ذكر لكونه صفة جارية على غير من هي له.
وقيل : القريب بمعنى ذات قرب على معنى النسب ، وإن كان على صورة اسم الفاعل كلابن وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر ؛ أي : لبنى وتمرى لا على معنى الحدث كالفعل ، فلما لم يكن في معنى الفعل حقيقة لم يلحقه تاء التأنيث ، أو الساعة بمعنى البعث تسمية باسم ما حل فيه.
وقال الزمخشري : لعل مجيء الساعة قريب بتقدير المضاف.
والمعنى : أن القيامة على جناح الإتيان ، فاتبع الكتاب يا محمد واعمل به ، وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي يوزن فيه الأعمال ، ويوفى جزاؤها : (امام زاهدى فرموده كه لعل براى تحقيق است يعني البتة ساعتى كه بدان قيامت قائم شود نزديكست).
وفيه زجرهم عن طول الأمل وتنبيههم على انتظار الأجل ، وهجومه نبهنا الله تعالى إياكم أجمعين آمين.
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا} : (شتاب ميكنند بساعت يعنى بامداو).
{الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} استعجال إنكار واستهزاء ، ولا يشفقون منها ، ويقولون متى هي ليتها قامت حتى يظهر لنا الحق أهو الذي نحن عليه أم الذي عليه محمد وأصحابه ، فإنهم لما لم يؤمنوا بها لم يخافوا مافيها ، فهم يطلبون وقوعها استبعاداً لقيامها ، والعجلة طلب الشيء وتحريه قبل آوانه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/231)
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} بها {مُشْفِقُونَ مِنْهَا} خائفون منها مع اعتنائها لتوقع الثواب ، فإن المؤمنين يكونون أبداً بين الخوف والرجاء ، فلا يستعجلون بها.
يعني : (ترساننداز قيامت جه ميدا نندكه خداى تعالى با يشان جه كند ومحاسبه ومجازات برجه وجه بود).
فالآية من الاحتباك ذكر الاستعجال أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً والانشقاق ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً.
{وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} ؛ أي : الكائن لا محالة.
وفيه إشارة إلى أن المؤمنين لا يتمنون الموت خوف الابتلاء بما بعده ، فيستعدون له وإذا ورد لم يكرهوه وذلك أن الموت لا يتمناه إلا جاهل أو مشتاق.
{أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِى السَّاعَةِ} يجادلون فيها وينكرون مجيئها عناداً
302
من المرية ، فمعناه في الأصل تداخلهم المرية والشك ، فيؤدي ذلك إلى المجادلة ، ففسر المماراة بلازمها.
قال الراغب : المرية التردد في الأمر ، وهو أخص من الشك والمماراة المحاجة فيما فيه مرية.
انتهى.
ويجوز أن يكون من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة الحلب ، فيكون تفسيره بيجادلون حملاً له على الاستعارة التبعية بأن شبه المجادلة بمماراة الحالب للضرع لاستخراج ما فيه من اللبن من حيث أن كلاً من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة.
{لَفِى ضَلَـالا بَعِيدٍ} عن الحق ، فإن البعث أشبه الغائبات بالمحسوسات ؛ لأنه كإحياء الأرض بعد موتها ، فمن لم يهتد إلى تجويزه ، فهو من الاهتداء إلى ما وراءه أبعد وأبعد.
وصف الضلال بالبعد من المجاز العقلي ؛ لأن العبد في الحقيقة للضال ؛ لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق ، فوصف به فعله ، ويحتمل أن يكون المعنى في ضلال ذي بعد أو فيه بعد ؛ لأن الضال قد يضل عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً.
وفي "التأويلات النجمية" : لفي ضلال بعيد ؛ لأنه أزلي.
وفي الآية أمور :
الأول : ذم الاستعجال ، ولذا قيل : العجلة من الشيطان إلا في ستة مواضع أداء الصلاة إذا دخل الوقت ودفن الميت إذا حضر وتزويج البكر إذا أردكت ، وقضاء الدين إذا وجب وإطعام الضيف إذا نزل وتعجيل التوبة إذا أذنب.
والثاني : الإيمان والتصديق ؛ فإنه الأصل ، وذلك بجميع ما يكون به المرء مؤمناً خصوصاً الساعة ، وكذا الاستعداد لها بالأعمال الصالحات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
روي : أن رجلاً من الأعراب قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : متى الساعة؟ فقال عليه السلام : "وما أعددت لها" ، قال : لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله ، فقال : "أنت مع من أحببت" ، ولا شك أن من أحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحب الاقتداء به في جميع الأحوال ، فإذا كان محباً لرسول الله والاقتداء به.
كان رسول الله محباً له ، كما قال عليه السلام متى ألقى أحبائي فقال أصحابه : بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله أولسنا أحباءك فقال : "أنتم أصحابي أحبائي قوم لم يروني وآمنوا بي أنا إليهم بالأشواق وخصهم بالأخوة في الحديث الآخر ، فقال أصحابه : نحن إخوانك يا رسول الله.
قال : لا أنتم أصحابي وإخواني الذين يأتون بعدي آمنوا بي ولم يروني.
وقال : للعامل منهم أجر خمسين منكم ، قالوا : بل منهم يا رسول الله.
قال : بل منكم رردها ثلاثاً ، ثم قال : لأنكم تجدون على الخير أعوانا الثالث مدح العلم ، لكن إذا قرن بالخوف والخشية والعمل كان أمدح ، فإن العلم ليس جالباً للسؤدد إلا من حيث طرده الجعل ، فلا تعجب بعلمك ، فإن فرعون علم بنبوة موسى وإبليس علم حال آدم ، واليهود علموا بنبوة محمد وحرموا التوفيق للإيمان.
والرابع : ذم الشك والتردد ، فلا بد من اليقين الصريح ، بل من العيان بالصحيح كما قال عليّ كرم الله وجهه لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً.
حال خلد وجحيم دانستم
بيقين آنجنانكه مي بايد
كر حجاب ازميانه بر كيرند
آن يقين ذرة نيفزايد
والخامس : أن السعادة والشقاوة أزليتان ، وإنما يشقى السعيد لكون سعادته عارضة ، وإنما يسعد الشقي لكون شقاوته عارضة ، فكل يرجع إلى أصله فنسأل الله الهدي ونعوذ به من الهوى.
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّا أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِى السَّاعَةِ لَفِى ضَلَـالا بَعِيدٍ * اللَّهُ لَطِيفُا بِعِبَادِه يَرْزُقُ مَن يَشَآءُا وَهُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ * مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخِرَةِ نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا وَمَا لَه فِى الاخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَـاؤُا شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنا بِهِ اللَّه وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/232)
{اللَّهُ لَطِيفُا بِعِبَادِهِ} ؛ أي : بر بليغ البر بهم ، يفيض عليهم من فنون ألطافه ما لا يكاد يناله أيدي الأفكار والظنون قوله : من فنون ألطافه يؤخذ ذلك من صيغة لطيف ، فإنها للمبالغة ، وتنكيره أيضاً.
303
وقوله : ما لا يكاد.
إلخ.
مأخذه مادة الكلمة ، فإن اللطف إيصال نفع فيه دقة.
{يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} أن يرزقه كيفما يشاء فيخص كلاً من عباده الذين عمهم جنس لطفه بنوع من البر على ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة ، فلا مخالفة بين عموم الجنس ، وحصوص النوع ، يعني أن المخصوص بمن يشاء هو نوع البر وصنفه ، وذلك لا ينافي عموم جنس بره بجميع عباده على ما أقادته إضافة العباد إلى ضميره تعالى حتى يلزم التناقض بين الكلامين ، فالله تعالى يبرهم جميعاً لا بمعنى : أن جميع أنواع البر وأصنافه يصل إلى كل أحد ، فإنه مخالف للحكمة الإلهية إذ لا يبقى الفرق حينئذٍ بين الأعلى والأدنى ، بل يصل بره إليهم على سبيل التوزيع ، بأن يخص أحد بنعمة ، وآخر بأخرى ، فيرجع بذلك كل واحد منهم إلى الآخر فيما عنده من النعمة ، فينتظم به أحوالهم ، ويتم أسباب معاشهم وصلاح دنياهم وعمارتها ، فيؤدي ذلك إلى فراغهم لاكتساب سعادة الآخرة.
وقال بعضهم : يرزق من يشاء بغير حساب إذ الآيات القرآنية يفسر بعضها بعضاً.
{وَهُوَ الْقَوِىُّ} الباهر القدرة على كل شيء ، وهو يناسب عموم لطفه للعباد والقوة في الأصل صلابة البنية وشدتها المضادة للضعف ، ولما كانت محالاً في حق الله تعالى حملت على القدرة لكونها مسببة عن القوة.
{الْعَزِيزُ} المنيع الذي لا يغلب ، وهو يلائم تخصيص من يشاء بما يشاء.
قال بعض الكبار : لطفه بعباده لطف الفطرة التي فطر الناس عليها في أحسن تقويم مستعدة لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة ولطف الجذبة للوصلة ، وأيضاً لطيف بعباده بأن جعلهم عباده لا عباد الدنيا ، ولا عباد النفس والهوى والشيطان خاطب العابدين بقوله : لطيف بعباده ؛ أي : يعلم غوامض أحوالكم من دقيق الرياء والتصنع لئلا يعجبوا بأحوالهم وأعمالهم وخاطب العصاة بقوله : لطيف لئلا ييأسوا من إحسانه ، وخاطب الفقراء بقوله : لطيف ؛ أي : أنه محسن بكم لا يقتلكم جوعاً ، فإنه محسن بالكافرين ، فكيف بالمؤمنين :
أديم زمين سفره عام اوست
بر ين خوان يغماجه دشمن جه دوست
وخاطب الأغنياء بقوله : لطيف ليعلموا أنه يعلم دقائق معاملاتهم في جميع المال من غير وجه بنوع تأويل ، ومن لطفه بعباده أنه جعلهم مظهر صفات لطفه ، ومن لطفه بعباده أنه عرفهم أنه لطيف ، ولولا لطفه ما عرفوه ، ومن لطفه بعباده أنه زين أسرارهم بأنوار العرفان وكاشفهم بالعين والعيان.
(در فصول آورده كه لطيف جند معنى دارداول مهربان امام فشيري فرموده كه لطف اوست كه بيشتر از كفايت بدهد وكمتر از قوت كار فرمايد دوم توازنده وكذا نوازندكى سوم بوشيده كار كسى بر قضا وقدر اوراة نبرد ودركاه اوجه وجون دخل ندارد) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
كسى زجون وجرادم نمى تواندزد
كه نقش كار حوادث وراى جون وجراست
جرامكوكه جرادست بسته قدرست
زجون ملاف كه جون تير بايمال قضاست
(در موضح أورده كه لطيف آنست كه غوامض امور را بعلم داند وجرائم مجهور را بحلم كذا راند در كشف الأسرار أورده كه لطيف آنست كه نعمت بقدر خود داد وشكر بقدر بنده خواست).
وقال بعضهم : اللطيف الذي ينسى العباد ذنوبهم في الآخرة لئلا يتشوشوا.
وقال أبو سعيد الخراز قدس سره : لطيف بعباده موجود في الظاهر والباطن والأشياء كلها موجودة به.
304
لكن يوجد ذكره في قلب العبد مرة ويفقد مرة ليجدد بذلك افتقاره إليه.
وقال جعفر الصادق رضي الله عنه : لطفه في الرزق الحلال وتقسيمه على الأحوال ، يعني : أنه رزقك من الطيبات ، ولم يدفعه إليك مرة واحدة.
وقال علي بن موسى رضي الله عنه : هو تضعيف الأجر ، وقال الجنيد قدس سره : هو الذي لطف بأوليائه ، فعرفوه ، ولو لطف بأعدائه ما جحدوه.
وقيل : هو الذي ينشر المناقب وبستر المثالب.
وقال بعضهم : (لطف وى بوداز توطاعات موقت خواست ومثوبات مؤبد داد خدايرا لطف است وهم قهر بلطف او كعبه ومسجدها رابنا كردند وبقهرا وكلبيساها وبتكدها برآوردند بس بعضى بطريق لطف سلوك ميكند بسبب توفيق وبعضى بطريق قهر ميرود بمقتضاى خذلان مؤذنى بود جندين سال بانك نماز كفته روزى برمنارة رفت ديده وى برزنى ترسا افتاد تعشق كرد جون ازمناره فرو آمد بدرسرايش رفت قصة باوى بكفت آن زن كفت اكر دعوى راستست ودر عشق صادقى موافقت شرطست زنار بر ميان بايدبست آن بدبخت بطمع آن زن زنار ترسايى بربست وخمر خورد وجون مست كشف قصد آن زن كرد زن بكر يخت ودرخانة شدآن بدبخت بربام رفت تا بحيلتى خويشتزا در ان خانه افكد بخذلان أزلي ازبام درفتاد وبترسايى هلاك شد جندين سال مؤذنى كرد وشرائع اسلام ورزيد وبعاقبت بترسايى هلاك وبمقصود نرسد).
قال الحافظ :
حكم مستورى ومستى همه برخاتمتست
كس نداست كه آخربجه حالت برود
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/233)
وقال الإمام الغزالي رحمه الله : اللطيف من يعلم دقائق المصالح وغوامضها ، وما دق منها وما لطف ، ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف ، وإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في العلم والإدراك ، ثم معنى اللطف ، ولا يتصور كمال ذلك في العلم والفعل إلا الله وحده ، ومن لطفه خلقه الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث وحفظه فيها وتغذيته بواسطة السرة إلى أن ينفصل فيستقل بالتناول للغذاء بالفم ، ثم إلهامه إياه عند الانفصال التقام الثدي وامتصاصه ، ولو في ظلمات الليل من غير تعليم ومشاهدة ، بل تتفتق البيضة عن الفرخ ، وقد ألهمه التقاط الحب في الحال ، ثم تأخير خلق السن من أول الخلقة إلى وقت إنباته للاستغناء باللبن عن السن ، ثم إنباته السن بعد ذلك عند الحاجة إلى طحن الطعام ، ثم تقسيم الأسنان إلى عريضة للطحن ، وإلى أنياب للكسر ، وإلى ثنايا حادة الأطراف للقطع ، ثم استعمال اللسان الذي الغرض الأظهر منه النطق ورد الطعام إلى المطحن كالمجرفة ، فيكون الإنسان في زمرة الجمادات ، وأول نعمه عليه أن الله تعالى كرمه فنقله من عالم الجماد إلى عالم النبات ، ثم عظم شأنه فنقله من عالم النبات إلى عالم الحيوان ، فجعله حساساً متحركاً بالإرادة ، ثم نقله إلى عالم الإنسان ، فجعله ناطقاً ، وهي نعمة أخرى أعظم مما سبق ، ومن لطفه أنه يسر لهم الوصول إلى سعادة الأبد ، بسعي خفيف في مدة قصيرة ، وهو العمر القليل ، ومن لطفه إخراج اللبن الصافي من بين فرث ودم ، وإخراج الجواهر النفيسة من الأحجار الصلبة ، وإخراج العسل من النحل والابريسم من الدود والدر من الصدف إلى غير ذلك وحظ العبد من هذا الوصف الرفق بعباد الله والتلطف بهم في الدعوة إلى الله والهداية إلى سعادة الآخرة من غير إزراء ، وعنف ومن غير
305
تعصب وخصام.
وأحسن وجوه اللطف فيه : الجذب إلى قبول الحق بالشمائل والسير المرضية والأعمال الصالحة ، فإنها أوقع وألطف من الألفاظ المزينة ، ولذلك قال عليه السلام : "صلوا كما رأيتموني أصلي" ، ولم يقل : "صلوا كما قلت لكم" ؛ لأن الفعل أرجح في نفس المقتدي من القول.
وفي المثنوي :
بند فعلى خلق را جذاب تر
كه رسدد رجان هربا كوش كر
ثم إن الأرزاق صورية ومعنوية فالصورية ظاهرة ، والمعنوية هي : علم التوحيد والمعارف الإلهية التي تتغذى بها الأرواح يقال : غذاء الطبيعة الأكل والشرب ، وغذاء النفس التكلم بما لا يعني ، وغذاء القلب : الفكر وغذاء الروح : علم التوحيد من حيث الأفعال والصفات والذات ، وسائر المعارف الإلهية مما لا نهاية لها والمنظر الإلهي في الوجود الإنساني هو : القلب ، فإذا صلح هو بالتوحيد ، والذكر ونور الإيمان والعرفان صلح سائر الأحوال ، ومن الله البر واللطف والإحسان والنوال والإفضال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{مِّنَ} : (هركه).
{كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخِرَةِ} : الحرث في الأصل : إلقاء البذر في الأرض يطلق على الزرع الحاصل منه ، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال الحاصلة من البذور المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور من حيث أنها فائدة تحصل بعمل الدنيا.
ولذلك قيل : الدنيا مزرعة الآخرة ، والمعنى : من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة.
{نَزِدْ لَه فِى حَرْثِهِ} : نضاعف له ثوابه بالواحد عشرة إلى سبعمائة فما فوقها.
قال الكاشفي : (جنانكه كشت دانه مى افزايد تايكى ازان بسيار ميشود همجنين عمل مؤمن روز بروز افزونى ميكيرد تاحدى يك ذره برابر كوه احد ميشود) ، ولم يقل في حقه ، وله في الدنيا نصيب مع أن الرزق المقسوم له يصل إليه لا محالة للاستهانة بذلك والإشعار بأنه في جنب ثواب الآخرة ليس بشيء ، ولذلك قال سليمان عليه السلام : لتسبيحة خير من ملك سليمان (كفته اندكه بر سليمان عليه السلام مال وملك وعلم عرضه كردندكه زين سه يكى اختيار كن سليمان علم اختيار كرد مال وملك فرا فرونداد) :
دنيا طلى بهرة دنيات دهند
عقبى طلبى هر دوبيك جات دهند
فإن قيل ظاهر اللفظ يدل على أن من صلى لأجل طلب الثواب ، أو لأجل دفع العقاب ، فإنه تصح صلاته وأجمعوا على أنها لا تصح ؛ لأن الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه لكونه إيماناً وطاعة.
وأما الرغبة فيه لطلب الثواب وللخوف من العقاب ، فغير مفيد ؛ لأنه يكون عليلاً مريضاً.
والجواب : أن الحرث لا يتأتى إلا بإلقاء البذر الصحيح في الأرض والبذر الصحيح الجامع للخيرات والسعادات ليس إلا عبودية الله تعالى ، فلا يكون العمل أخروياً إلا بأن يطلب فيه رضا الله.
{وَمَن كَانَ يُرِيدُ} بأعماله {حَرْثَ الدُّنْيَا} ، وهو متاعها وطيباتها.
(8/234)
والمراد : الكافر أو المنافق حيث كانوا مع المؤمنين في المغازي وغرضهم الغنيمة ، ودخل فيه أصحاب الأغراض الفاسدة جميعاً.
{نُؤْتِه مِنْهَا} ؛ أي : شيئاً منها حسبما قسمنا له لا ما لا يريده ويبتغيه ، فمنها متعلق بكائناً المحذوف الواقع صفة للمفعول الثاني.
ويجوز أن يكون كلمة من للتبعيض ؛ أي : بعضها ومآل المعنى واحد دلت الآية على أن طالب الدنيا لا ينال مراده
306
من الدنيا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي الحديث : "من كانت نيته الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا ، وهي راغمة ، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له".
{وَمَا لَه فِى الاخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} : من مزيدة للاستغراق ؛ أي : ما له نصيب ما في الآخرة إذ كانت همته مقصورة على الدنيا ، ولكل امرىء ما نوى ، فيكون محروماً من ثواب الآخرة بالكلية.
وقال الإمام الراغب : إن الإنسان في دنياه حارث وعمله حرثه ، ودنياه محرثه ، ووقت الموت وقت حصاده والآخرة بيدره ولا يحصد إلا ما زرعه ، ولا يكيل إلا ما حصده.
حكي : أن رجلاً ببلخ أمر عبده أن يزرع حنطة فزرع شعيراً فرآه وقت الحصاد وسأله ، فقال العبد : زرعت شعيراً على ظن أن ينبت حنطة ، فقال مولاه : يا أحمق ، هل رأيت أحداً زرع شعيراً ، فحصد حنطة؟ فقال العبد : فكيف تعصي أنت وترجو رحمته وتغتر بالأماني ، ولا تعمل العمل الصالح؟ :
ازرباط تن جوبكذشتى دكر معموره نيست
زاد راهى بر نميدارى ازين منزل جرا
وكما أن في البيدر مكيالاً وموازين وأمناء وحفاظاً وشهوداً كذلك في الآخرة مثل ذلك ، وكما أن للبيدر تذرية وتمييزاً بين النقاوة والحطام كذلك في الآخرة تمييز بين الحسنى والآثام فمن عمل لآخرته بورك له في كيله ووزنه ، وجعل له منه زاد الأبد ، ومن عمل لدنياه خاب سعيه وبطل عمله ، فأعمال الدنيا كشجرة الخلاف بل كالدفلى والحنظل في الربيع يرى غض الأوراق حتى إذا جاء حين الحصاد لم ينل طائلاً ، وإذا حضر مجتناه في البيدر لم يفد نائلاً ، ومثل أعمال الآخرة كشجرة الكرم والنخل المستقبح المنظر في الشتاء ، فإذا حان وقت القطاف والاجتناء أفادتك زاداً ، وادخرت عدة وعتاداً ، ولما كانت زهرات الدنيا رائقة الظاهر خبيثة الباطن نهى الله تعالى عن الاغترار بها ، فقال : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِه أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيه وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه : 131) ، فالقذر قذر وإن كان في ظرف من الذهب ، فالعاقل لا يتناوله.
وفي "التأويلات النجمية" : من كان يريد حرث الآخرة بجهده وسعيه نزد له في حرثه بهدايتنا وتوفيق مزيد طاعتنا وصفاء الأحوال في المعارف بعنايتنا اليوم ونزيده في الآخرة قربة ومكانة ورفعة في الدرجات وشفاعة الأصدقاء والقرابات ، ومن كان يريد حرث الدنيا مكتفياً به نؤته منها ؛ أي : من آفات حب الدنيا من عمى القلب وبكمه وصممه وسفهه والحجب التي تتولد منها الأخلاق الذميمة النفسانية ، والأوصاف الرديئة الشيطانية والصفات السبعية والبهيمية الحيوانية وماله في الآخرة من نصيب ؛ أي : في الأوصاف الروحانية والأخلاق الربانية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي "عرائس البيان" حرث الآخرة مشاهدته ووصاله وقربه وهذا للعارفين وحرث الدنيا الكرامات الظاهرة ، ومن شغلته الكرامات احتجب بها عن الحق ، وما يريد من حرث الدنيا ، فهو معرفة الله ومحبته وخدمته ، وإلا فلا يزن الكون عند أهل المعرفة ذرة.
قال بعضهم : في هذه الآية من عملمحبة له لا طلباً للجزاء صغر عنده كل شيء دون الله ، ولا يطلب حرث الدنيا ولا حرث الآخرة بل يطلب الله عن الدنيا والآخرة.
وقال سهل : حرث الدنيا القناعة وحرث الآخرة الرضا.
وقال أيضاً : حرث الآخرة القناعة في الدنيا والمغفرة في الآخرة والرضا من الله في كل الأحوال.
وحرث الدنيا قضاء الوطر منها ، والجمع منها والافتخار بها ، ومن كان بهذه الصفة ، فما له في الآخرة من نصيب.
قال
307
الشيخ العطار قدس سره :
همجو طفلان منكراندر سرخ وزرد
جون زنان مغرور رنك وبو مكرد
فالدنيا امرأة عجوز ومن افتخر بزينتها وزخارفها ، فهو في حكم المرأة ، فعلى العاقل تحصيل الجاه الأخروي بالأعمال الصالحة الباقية ، فإن الدنيا وما فيها زائلة فانية كما قال لبيد : ()
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
والمراد : نعيم الدنيا.
(8/235)
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَـاؤُا} : أم منقطعة مقدرة ببل ، والهمزة قيل : للاضطراب عن قوله : شرع لكم من الدين والهمزة للتقرير والتحقيق وشركاؤهم شياطينهم من الإنس والجن ، والضمير للمشركين من قريش ، والإضافة على حقيقتها.
والمعنى : بل لهم شركاء من الشياطين ؛ أي : نظراء يشاركونهم في الكفر والعصيان ويعاونونهم عليه بالتزيين والإغراء.
{شَرَعُوا لَهُم} بالتسويل.
وبالفارسية : (نهاده اندبر اى ايشان يعنى بيار استه اند دردل ايشان).
{مِّنَ الدِّينِ} الفاسد.
{مَا لَمْ يَأْذَنا بِهِ اللَّهُ} كالشرك وإنكار البعث ، والعمل للدنيا وسائر مخالفات الشريعة ، وموافقات الطبيعة ؛ لأنهم لا يعلمون غيرها ، وتعالى الله عن الإذن في مثل هذا ، والأمر به والدين للمشاكلة ؛ لأنه ذكر في مقابلة دين الله ، أو للتهكم.
وقيل : شركاؤهم أوثانهم ، فالهمزة للإنكار ، فإن الجماد الذي لا يعقل شيئاً كيف يصح أن يشرع ديناً ، والحال أن الله تعالى لم يشرع لهم ذلك الدين الباطل ، وإضافتها إليهم ؛ لأنهم الذين جعلوها شركاء ، وإسناد الشرع إليها مع كونها بمعزل عن الفاعلية إسناد مجازي من قبيل إسناد الفعل إلى السبب لأنها سبب ضلالتهم وافتنانهم كقوله تعالى : {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} ().
{وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} ؛ أي : القضاء السابق بتأخير العذاب ، أو العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة ، والفصل القضاء بين الحق والباطل ، كما في "القاموس" ، ويوم الفصل اليوم الذي فيه يبين الحق من الباطل ، ويفصل بين الناس بالحكم كما في "المفردات".
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ} : (حكم كرده شده بودى ميان كافران ومؤمنان ياميان مشركان وشركاء وهريك جزا بسزا يافته بودندى اما وعده فصل ميان ايشان درقيا متست).
{وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة ؛ أي : نوع من العذاب متفاقم ألمه.
وبالفارسية : (عذابى درونان دائم وبى انقطاع بود).
وأقام المظهر مقام المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم ودلالة على أن العذاب الأليم الذي لا يكتنه كنهه ، إنما يلحقهم بسبب ظلمهم ، وانهماكهم فيه.
وفي الآية إشارات منها :
أن كفار النفوس شرعوا عند استيلائهم على الدين بالهوى للأرواح والقلوب ما لم يرض به الله من مخالفات الشريعة وموافقات الطبيعة كأهل الحرب شرعوا لأسارى المسلمين عند استيلائهم عليهم ما ليس في دينهم من أكل لحم الخنزير وشرب الخمر وعقد الزنار ونحوها ، فلا بد من التوجه إلى الله ليندفع الشر وينعكس الأمر.
روي : أن سالم بن عوف رضي الله عنه أسره العدو ، فشكاه أبوه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقال عليه السلام : اتق الله وأكثر قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، ففعل فجاء ابنه ومعه مائة من الإبل.
قال الحافظ :
سروش عالم غيبم بشارتى خوش داد
كه كس هميشه بكيتى دزم نخواهد ماند
308
ومنها : أن الله تعالى لم يقض بين الخلق بالتكاليف والمجاهدات قبل البلوغ لضعف البشرية وثقل حمل الشريعة وأخر بحكمته تكاليف الشرع تربية للقالب ليحصل القوة لقمع الطبع.
قال الصائب :
تاجه آيدروشن است ازدست اين يك قطعه خاك
جرخ نتوانست كردن زه كمان عشق را
ومنها : أن من ظلم نفسه بمتابعة الهوى ، فله عذاب أليم بعد البلوغ من الفطام عن المألوفات الطبيعية بالأحكام الشرعية ، وهذا العذاب للنفس والطبيعة رحمة عظيمة للقلب والروح.
ولذا من قال : هذه الطاعات جعلها الله عذاباً علينا من غير تأويل كفر ؛ فإن أول مراده بالتعب لا يكفر ، ولو قال : لو لم يفرض الله لكان خيراً لنا بلا تأويل كفر ؛ لأن الخير فيما اختاره الله إلا أن يؤول ويريد بالخير الأهون والأسهل.
وفي القصيدة البردية : ()
وراعها وهي في الأعمال سائمة
وإن هي استحلت المرعي فلا تسم
أي : راع النفس في اشتغالها بالأعمال عما هو مفسد ومنقص للكمال من الرياء والعجب والغفلة والضلال ، وإن عدت النفس بعض التطوعات حلواً واعتادت به ، وألفت ، فاجتهد في أن تقطع نفسك عنها ، واشتغل بما هو أشق عليها ؛ لأن اعتبار العبادة ، إنما هو بامتيازها عن العادة ، وإنما ترتفع الكلفة مطلقاً عن العارفين : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
كم حسنت لذة للمرء قاتلة
من حيث لم يدر أن السم في الدسم
يعني : كثيراً من المرات زينت النفس لذة للمرء من اللذات قاتلة للمرء كالدسم والمرء لا يدري أن السم في الدسم ، لا سيما إذا كان المرء من أهل المحبة والوداد ، فهلاكه في لذة الطعم ، وطيب الرقاد ، ومن الله التوفيق لإصلاح النفس وتزكيتها.
(8/236)
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَـاؤُا شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنا بِهِ اللَّه وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّـالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعُا بِهِمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِا لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَالِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * ذَالِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِا قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ} .
{تَرَى الظَّـالِمِينَ} ؛ أي : المشركين يوم القيامة يأمن بصلح للرؤية.
{مُشْفِقِينَ} خائفين{مِمَّا كَسَبُوا} ؛ أي : إشفاقاً ناشئاً من السيئات التي عملوها في الدنيا ، ومن أجلها ، فكلمة من للتعليل وليست صلة مشفقين حتى يحتاج إلى تقدير المضاف هنا مع أنه أيضاً معنى صحيح ؛ لأن الأول أبلغ وأدخل في الوعيد.
{وَهُوَ وَاقِعُا بِهِمْ} ؛ أي : وباله وجزاؤه لاحق بهم لا محالة أشفقوا ، أو لم يشفقوا.
والجملة حال من ضمير مشفقين ، أو اعتراض.
قال سعدي المفتي ، يعني : ينعكس الحال في الآخرة فالآمنون في الدنيا يشفقون في الآخرة ، والمشفقون في الدنيا يأمنون في الآخرة.
وفي المثنوي :
لا تخافوا هست نزل خائفان
هست درخوراز براى خائف آن
هركه ترسد مرورا ايمن كنند
هردل ترسنده راسا كن كنند
آنكه خوفش نيست جون كويى مبرس
درس جه دهى نيست او محتاج درس
وفيه إشارة إلى أن عذاب أهل الهوى والشهوات واقع بهم ، إما في الدنيا بكثرة الرياضات ، وأنواع المجاهدات لتزكية النفس من أوصافها وتحليتها بأضدادها.
وإما في الآخرة بورودها النار لتنقيتها ، وعذاب الدنيا أهون فلا بد من الاجتهاد قبل فوات الوقت.
{تَرَى الظَّـالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا} ؛ أي : استعملوا تكاليف الشرع لقمع الطبع وكسر الهوى وتزكية النفس وتصفية القلب وتحلية الروح.
{فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} : مستقرون في أطيب بقاعها
309
وأنزهها ، فإن روضة الأرض تكون كذلك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وبالفارسية : (اندر مر غزار هاى بهشت اند يعنى خوشترين بقعها ونزهت فزاى ترين آن).
قال في "حواشي الكشاف" : الروضة : اسم لكل موضع فيه ماء وعشب.
وفي "كشف الأسرار" : هي الأماكن المتسعة المونقة ذات الرياحين والزهر.
انتهى.
وفي الحديث : "ثلاث يجلون البصر : النظر إلى الخضرة ، وإلى الماء الجاري وإلى الوجه الحسن".
قال ابن عباس رضي الله عنهما : والإثمد عند النوم.
وقال الراغب : قوله في روضات الجنات إشارة إلى ما أعد لهم في العقبى من حيث الظاهر.
وقيل : إشارة إلى ما أهلهم له من العلوم والأخلاق التي من تخصص بها طاب قلبه.
{لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} ؛ أي : ما يشتهونه من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم على أن عند ربهم ظرف للاستقرار العامل في لهم.
وقيل : ظرف ليشاؤون على أن يكون عبارة عن كونهم عند الله والآية من الاحتباك أنبت الإشفاق أولاً دليلاً على حذف الأمن ثانياً ، والجنات ثانياً دليلاً على حذف النيران أولاً.
{ذَالِكَ} المذكور من أجر المؤمنين.
{هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} الذي يصغر دونه ما لغيرهم من الدنيا ، أو تحقر عنده الدنيا بحذافيرها من أولها إلى آخرها.
وهذا في حق الأمة.
وأما النبي عليه السلام ، فمخصوص بالفضل العظيم ، كما قال تعالى ، {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} ().
{ذَالِكَ} ؛ أي : الفضل الكبير ، وهو مبتدأ خبره قوله : {الَّذِى} ؛ أي : الثواب الذي {يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} ؛ أي : يبشرهم به على لسان النبي عليه السلام ، فحذف الجار ، ثم العائد إلى الموصول ؛ لأنهم لا يجوزون حذف المفعول الجار والمجرور إلا على التدريج بخلاف مثل السمن منوان بدرهم ؛ أي : منه.
قال الكاشفي : (وتقديم خبرباين كرامتها جهت ازدياد سرور مؤمنانست وآنكه دانندكه عمل ايشان ضائع نيست بس در مراسم عبوديت اجتهاد نمايند وبر وظائف عبادت بيفزايند) :
كار نيكوكن اكر مردنكو ميطلبى
كز جراهر كه نكوتر بنكو كار دهند
كارا كرنيست ترادر طمع اجر مباش
مزد مزدور باندازه كردار دهند
يقول الفقير : وجه تخصيص الروضة وتعميم المشيئة أن أكثر بلاد العرب خالية عن الأنهار الجارية والروضات ، وأنهم لا يجدون كل المشتهيات فيشوقهم بذلك ، ليكونوا على أهبة وتدارك ولا يقيسوا الآخرة على الدنيا ، فإن الدنيا محل البلاء والآفات ، والآخرة دار النعيم والضيافات وتدارك كل ما فات ، فمن أحب مولاه اجتهد في طريق رضاه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/237)
قال شقيق البلخي قدس سره : رأيت في طريق مكة مقعداً يزحف على الأرض ، فقلت له : من أين أقبلت؟ قال : من سمرقند ، قلت : كم لك في الطريق ، فذكر أعواماً تزيد على العشرة ، فرفعت طرفي أنظر إليه متعجباً ، فقال لي : يا شقيق ما لك تنظر إلي ، فقلت : متعجباً من ضعف مهجتك وبعد سفرتك ، فقال لي : يا شقيق ، أما بعد سفرتي ، فالشوق يقربها ، وأما ضعف مهجتي ، فمولاها يحملها يا شقيق أتعجب من عبد ضعيف ، يحمله المولى اللطيف ، فمن وصل إليه بشارة الله بفضله وجوده هان عليه بذل وجوده.
{قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ} .
روي : أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم ، فقال بعضهم : أترون محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً؟ يعني : هيج دريافته آيدكه محمد علمى كه مباشر أنست از ابلاغ مزدى ميخوا هديانى ، فنزلت.
والمعنى : لا أطلب منكم على ما أنا عليه من التبليغ ،
310
والبشارة ، كما لم يطلب الأنبياء من قبلي.
{أَجْرًا} ؛ أي : نفعاً.
قال سعدي المفتي : فسر الأجر بالنفع ليظهر جعل استثناء المودة منه متصلاً مع ادعاء كونها من أفراد الأجر يكفي في ذلك ، كما في قوله : ()
وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس
وفي "التأويلات النجمية" : قل يا محمد لا أسألكم على التبشير أجراً ؛ لأن الله ليس يطلب منكم على الفضل عوضاً ، فأنا أيضاً لا أسألكم على التبشير أجراً ، فإن المؤمن أخذ من الله خلقاً حسناً ، فكما أن الله تعالى بفضله يوفق العبد للإيمان ويعطي الثواب لمن آمن به ، وليس يرضى بأن يعطيك فضله مجاناً ، بل يعطيك عليه أجراً كذلك ليس يرضي لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، بأن يطلب منك أجراً على التبليغ والتبشير ، بل يشفع لك أيضاً.
{إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى} المودة ، مودة الرسول عليه السلام ، والقربى مصدر كالزلفى ، بمعنى القرابة التي هي بمعنى الرحم.
وفي للسببية وبمعنى اللام متعلقة بالمودة ، ومودته كناية عن ترك أذيته والجري على موجب قرابته سمى عليه السلام المودة أجراً ، واستثناها منه تشبيهاً لها به ، والاستثناء من قبيل قول من قال : ()
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
وذلك لأنه لا يجوز من النبي عليه السلام أن يطلب الأجر أياً كان على تبليغ الرسالة ؛ لأن الأنبياء لم يطلبوه ، وهو أولى بذلك ؛ لأنه أفضل ؛ ولأنه صرح بنفيه في قوله : {قُلْ مَآ أَسْـاَلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} (ص : 86) ؛ ولأن التبليغ واجب عليه لقوله تعالى : {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} (المائدة : 67) وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق ؛ ولأن متاع الدنيا أخس الأشياء ، فكيف يطلب في مقابلة تبليغ الوحي الإلهي الذي هو أعز الأشياء ؛ لأن العلم جوهر ثمين ، والدنيا خزف مهين ؛ ولأن طلب الأجر يوهم التهمة ، وذلك ينافي القطع بصحة النبوة ، فمعنى الآية : لا أسألكم على التبليغ أجراً أصلاً إلا أن تودوني لأجل قرابتي منكم ، وبسببها وتكفوا عني الأذى ، ولا تعادوني إن كان ذلك أجراً يختص بي لكنه ليس بأجر ؛ لأنه لم يكن بطن من بطونكم يا قريش إلا وبيني وبينها قرابة ، فإذا كانت قرابتي قرابتكم فصلتي ، ودفع الأذى عني لازم لكم في الشرع والعادة والمروءة سواء كان مني التبليغ أو لا.
وقد كنتم تتفاخرون بصلة الرحم ، ودفع الأذى عن الأقارب ، فما لكم تؤذونني.
والحال ما ذكر ، ويجوز أن يراد بالقربى أهل قرابته عليه السلام على إضمار المضاف وبالمودة مودة أقربائه ، وترك أذيته ، فكلمة على هذا للظرفية ، والظرف حال من المودة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
والمعنى : إلا أن تودوا أهل قرابتي مودة ثابتة متمكنة فيهم.
روي : أنها لما نزلت.
قيل : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم.
قال علي وفاطمة وابناي ؛ أي : الحسن والحسين رضي الله عنهم ، ويدل عليه ما روي عن علي رضي الله عنه ، أنه قال : شكوت إلى رسول الله عليه السلام حسد الناس لي ، فقال : أما ترضى أن تكون رابع أربعة ؛ أي : في الخلافة أول من يدخل الجنة أنا ، وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا".
قال سعدي المفتي : فيه أن السورة مكية من غير استثناء منها ، ولم يكن لفاطمة حينئذٍ أولاد.
وعنه عليه السلام : "حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه ، فأنا أجازيه عليها غداً ، إذا لقيني يوم القيامة".
وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه
311
(8/238)
وسلم : من مات على حب آل محمد مات شهيداً ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ، ثم منكر ونكير إلا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها.
ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة".
وآل محمد هم الذين يؤول أمرهم إليه عليه السلام ، فكل من كان مآل أمرهم إليه أكمل وأشد كانوا هم الآل ، ولا شك أن فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله أشد التعلقات بالنقل المتواتر ، فوجب أن يكونوا هم الآل.
(در تفسير ثعلبى أورده كه خويشان حضرت رسول الله بنو هاشم اند وبنو المطلب كه خمس برايشان قسمت بايد كرد).
وفي "الكواشي" : قرابته عليه السلام فاطمة وعلي وايناهما ، أو آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس ، أو من حرمت عليهم الصدقة ، وهم بنو هاشم وبنو المطلب.
وقيل : آل الرسول أمته الذين قبلوا دعوته.
قال ابن عطاء : لا أسألكم على دعوتكم أجراً إلا أن تتوددوا إليّ بتوحيد الله وتتقربوا إليه بدوام طاعته وملازمة ، أوامره.
وقال الحسين : كل من تقرب إلى الله بطاعته وجبت عليكم محبته ، فإن المحب يحب المحب لكونهما محبين لمحبوب واحد ، وكذا المطيع مع المطيع لشركتهما في الإطاعة والانقياد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
حكي عن الشيخ ابن العربي قدس سره أنه قال : قد بلغني عن رجل أنه يبغض الشيخ أبا مدين ، فكرهت ذلك الشخص لبغضه الشيخ أبا مدين ، فرأيت رسول الله في المنام ، فقال لي : لم تكره فلاناً ، فقلت لبغضه في أبي مدين ، فقال : أليس يحب الله ورسوله ، فقلت له : بلى يا رسول الله ، فقال لي : "فلم تبغضه لبغضه أبا مدين وما تحبه لحبه الله ورسوله" ، فقلت له : يا رسول الله إلى الآن : إني والله زللت وغفلت ، فأما الآن ، فأنا تائب ، وهو من أحب الناس إليّ ، فلقد نبهت ونصحت صلى الله عليك وسلم ، فلما استيقظت جئت إلى منزله ، فأخبرته بما جرى ، فبكى واعتد الرؤيا تنبيهاً من الله ، فزال بغضه أبا مدين وأحبه.
{وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} ؛ أي : يكتسب ؛ أي : حسنة كانت سيما حب آل رسول الله.
وقال الراغب : أصل القرف والاقتراف : قشر اللحاء عن الشجرة والجليدة عن الجذع ، وما يؤخذ منه قرف واستعير الاقتراف للاكتساب حسنياً كان أو سوئياً ، وفي الإساءة أكثر استعمالاً.
ولهذا يقال : الاعتراف يزيل الاقتراف.
{نَّزِدْ لَه فِيهَا} ؛ أي : في الحسنة يعني : (براى آن حسنة) ، كما قال الكاشفي : {حُسْنًا} بمضاعفة.
والتوفيق لمثلها والإخلاص فيها وبزيادة لا يصل العبد إليها بوسعه مما لا يدخل تحت طوق البشر.
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمن أذنب {شَكُورٌ} لمن أطاع بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة ، فالشكر من الله مجاز عن هذا المعنى ؛ لأن معناه الحقيقي ، وهو فعل ينبىء عن تعظيم المنعم لكونه منعماً لا يتصور من الله لامتناع أن ينعم عليه أحد حتى يقابل بالشكر شبهت الإثابة والتفضل بالشكر من حيث أن كل واحد منهما يتضمن الاعتداد بفعل الغير ، وإكراماً لأجله.
312
وفي "بحر العلوم" : أو معتد بالحسنة القليلة حتى يضاعفها ، فإن القليل عند الله كثير.
وفي الحديث : "إن عيسى بن مريم ، قال : أخبرني يا رب عن هذه الأمة المرحومة ، فأوحى الله إليه أنها أمة محمد حكماء علماء ؛ كأنهم من الحكمة والعلم أنبياء يرضون باليسير من العطاء ، وأرضى منهم باليسير من العمل أدخل أحدهم الجنة ، بأن يقول : لا إله إلا الله".
قال الإمام الغزالي رحمه الله : العبد يتصور أن يكون شاكراً في حق عبد آخر مرة بالثناء عليه بإحسانه إليه وأخرى بمجازاته أكثر مما صنعه إليه ، وذلك من الخصال الحميدة.
قال رسول الله عليه السلام : "ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله" وأما شكرهتعالى ، فلا يكون إلا بنوع من المجاز والتوسع ؛ فإنه إن أثنى فثناؤه قاصر ؛ لأنه لا يحصي ثناء عليه ، فإن أطاع ، فطاعته نعمة أخرى من الله عليه ، بل عين شكره نعمة أخرى وراء النعمة المشكورة ، وإنما أحسن وجوه الشكر لنعم الله أن لا يستعملها في معاصيه ، بل في طاعته.
وذلك أيضاً بتوفيق الله وتيسيره :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
عطايست هرموى ازو برتنم
جه كونه بهرموى شكرى كنم
تراآنكه جشم ودهان دادو كوش
اكر عاقلى در خلافش مكوش
(8/239)
{ذَالِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِا قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَه فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَا وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَـاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَـاتِه إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} .
{أَمْ يَقُولُونَ} : أم منقطعة ؛ أي : بل أيقولون : يعني كفار مكة على أنه إضراب على قوله : أم لهم شركاء إلخ.
{افْتَرَى} محمد {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بدعوى النبوة وتلاوة القرآن على أن الهمزة للإنكار التوبيخي ؛ كأنه قيل : أيتمالكون أن ينسبوا مثله عليه السلام ، وهو هو إلى الافتراء لا سيما الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها.
والفرق بين الافتراء والكذب ؛ أن الافتراء هو افتعال الكذب من قول نفسه ، والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه.
{فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} استشهاد على بطلان ما قالوا : ببيان أنه عليه السلام ، لو افترى على الله لمنعه من ذلك قطعاً وتحقيقه ، أن دعوى كون القرآن افتراء على الله قول منهم ؛ بأنه تعالى لا يشاء صدوره عن النبي ، بل يشاء عدم صدوره عنه ، ومن ضرورته منعه عنه قطعاً ، فكأنه قيل : لو كان افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنه ، وإن يشأ ذلك يختم على قلبك ، بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه ، ولم تنطق بحرف من حروفه ، وحيث لم يكن الأمر كذلك ، بل تواتر الوحي حيناً فحيناً تبين أنه من عند الله.
كما قال في "التأويلات النجمية" : يعني : أنك إن افتريته ختم الله على قلبك ، ولكنك لم تكذب على ربك ، فلم يختم على قلبك.
يعني : (مهرنهد بردل تو وبيغام خويش ازان ببرد).
وفيه إشارة إلى أن الملائكة والرسل والورثة محفوظون عن المغالطة في بيان الشريعة والافتراء على الله في شيء من الأشياء.
(در حقائق سلمى از سهل بن عبد الله التستري قدس سره نقل مكيندكه مهر شوق ازلي ومحبته لم يزلى بردلى تونهدتا التفات بغير نكنى وازاجابت واباي خلق فارغ كردى).
{وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَـاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَـاتِهِ} : استئناف مقرر لنفي الافتراء غير معطوف على يختم كما ينبىء عنه إظهار الاسم الجليل ، وصيغة المضارع للاستمرار ، وكتبت يمح في المصحف بحاء مرسلة ، كما كتبوا ويدع الإنسان ، ويدع الداع وسندع الزبانية ، مما ذهبوا فيه إلى الحذف ، والاختصار نظراً إلى اللفظ وحملاً للوقف على الوصل ، يعني : أن سقوط الواو لفظاً للالتقاء الساكنين حال الوصل وخطاً أيضاً حملاً للخط على اللفظ ؛
313
أي : على أنه خلاف القياس ، وليس سقوطها منه ، لكونها مجزوماً للعطف على ما قبله لاستحالة المعنى ؛ لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً لا معلقاً بالشرط.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
والمعنى : ومن عادته تعالى أن يمحو الباطل ويثبت الحق بوحيه ، أو بقضائه ، فلو كانه افتراء ، كما زعموا لمحقه ودفعه.
ويجوز أن يكونه عدة لرسول الله عليه السلام ؛ بأنه تعالى يمحو الباطل الذي هم عليه عن البهت والتكذيب ، ويثبت الحق الذي هو عليه بالقرآن ، أو بقضائه الذي لا مرد له بنصرته ، فالصيغة على هذا للاستقبال.
{إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما تضمره القلوب ، فيجري عليها أحكامها اللائقة بها من المحو والإثبات.
قال الكاشفي :
راستى تو ومظنه افترآى
ايشان بتوبر ومخفى نيست
ولم يقل : ذوات الصدور لإرادة الجنس وذات ها هنا تأنيث ذي بمعنى صاحب ، فحذف الموصوف ، وأقيمت صفته مقامه ؛ أي : عليم بالمضمرات صاحبة الصدور ، وهي الخواطر القائمة بالقلب من الدواعي والصوارف الموجودة فيه ، وجعلت صاحبة للصدور بملازمتها وحلولها فيها ، كما يقال : للبن ذو الإناء ، ولولد المرأة هو جنين ذو بطنها.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى يتصرف في عباده بما يشاء من إبعاد قريب وإدناء بعيد.
روي : أن رجلاً مات فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام مات ولي من أوليائي ، فاغسله ، فجاء موسى عليه السلام ، فوجده قد طرحه الناس في المزابل لفسقه ، فقال موسى عليه السلام : يا رب أنت تسمع مقالة الناس ، فقال الله : يا موسى إنه تشفع عند موته بثلاثة أشياء لو سأل مني جميع المذنبين لغفرت لهم الأول إنه قال : يا رب أنت تعلم أني وإن كنت أرتكب المعاصي بتسويل الشيطان وقرين السوء ، ولكني كنت أكرهها بقلبي.
والثاني : أني وإن كنت من الفسقة بارتكاب المعاصي ، ولكن الجلوس مع الصالحين أحب إلي.
(8/240)
والثالث : لو استقبلني صالح وفاجر كنت أقدم حاجة الصالح ، فبهذه الثلاثة أدناه الله منه ، وجعله من المقربين عنده بعدما أبعده هو والناس ، فعلى العاقل إصلاح الصدر والسريرة.
وفي الخبر : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، بل إلى قلوبكم وأعمالكم" ، يعني : إن كانت لكم قلوب وأعمال صالحة تكونوا مقبولين مطلقاً ، وإلا فلا ، وربما يهتدي إلى الطريق المستقيم من مضي عمره في الضلال ، وذلك لأن شقاوته عارضة والعبرة للحكم الأزلي والسعادة الأصلية ، فإذا كان كذلك ، فيمحو الله الباطل ، وهو الكفر ويثبت الحق ، وهو الإسلام ، وربما يختم على قلب من مضى وقته على الطاعة ، فيصير عاقبة إلى المعصية ، بل إلى الكفر كبلعام وبرصيصا ونحوهما ، مما كانت شقاوته أصلية وسعادته عارضة.
قال الحافظ :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
والمعنى : ومن عادته تعالى أن يمحو الباطل ويثبت الحق بوحيه ، أو بقضائه ، فلو كانه افتراء ، كما زعموا لمحقه ودفعه.
ويجوز أن يكونه عدة لرسول الله عليه السلام ؛ بأنه تعالى يمحو الباطل الذي هم عليه عن البهت والتكذيب ، ويثبت الحق الذي هو عليه بالقرآن ، أو بقضائه الذي لا مرد له بنصرته ، فالصيغة على هذا للاستقبال.
{إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما تضمره القلوب ، فيجري عليها أحكامها اللائقة بها من المحو والإثبات.
قال الكاشفي :
راستى تو ومظنه افترآى
ايشان بتوبر ومخفى نيست
ولم يقل : ذوات الصدور لإرادة الجنس وذات ها هنا تأنيث ذي بمعنى صاحب ، فحذف الموصوف ، وأقيمت صفته مقامه ؛ أي : عليم بالمضمرات صاحبة الصدور ، وهي الخواطر القائمة بالقلب من الدواعي والصوارف الموجودة فيه ، وجعلت صاحبة للصدور بملازمتها وحلولها فيها ، كما يقال : للبن ذو الإناء ، ولولد المرأة هو جنين ذو بطنها.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى يتصرف في عباده بما يشاء من إبعاد قريب وإدناء بعيد.
روي : أن رجلاً مات فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام مات ولي من أوليائي ، فاغسله ، فجاء موسى عليه السلام ، فوجده قد طرحه الناس في المزابل لفسقه ، فقال موسى عليه السلام : يا رب أنت تسمع مقالة الناس ، فقال الله : يا موسى إنه تشفع عند موته بثلاثة أشياء لو سأل مني جميع المذنبين لغفرت لهم الأول إنه قال : يا رب أنت تعلم أني وإن كنت أرتكب المعاصي بتسويل الشيطان وقرين السوء ، ولكني كنت أكرهها بقلبي.
والثاني : أني وإن كنت من الفسقة بارتكاب المعاصي ، ولكن الجلوس مع الصالحين أحب إلي.
والثالث : لو استقبلني صالح وفاجر كنت أقدم حاجة الصالح ، فبهذه الثلاثة أدناه الله منه ، وجعله من المقربين عنده بعدما أبعده هو والناس ، فعلى العاقل إصلاح الصدر والسريرة.
وفي الخبر : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، بل إلى قلوبكم وأعمالكم" ، يعني : إن كانت لكم قلوب وأعمال صالحة تكونوا مقبولين مطلقاً ، وإلا فلا ، وربما يهتدي إلى الطريق المستقيم من مضي عمره في الضلال ، وذلك لأن شقاوته عارضة والعبرة للحكم الأزلي والسعادة الأصلية ، فإذا كان كذلك ، فيمحو الله الباطل ، وهو الكفر ويثبت الحق ، وهو الإسلام ، وربما يختم على قلب من مضى وقته على الطاعة ، فيصير عاقبة إلى المعصية ، بل إلى الكفر كبلعام وبرصيصا ونحوهما ، مما كانت شقاوته أصلية وسعادته عارضة.
قال الحافظ :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
جون حسن عاقبت نه برندى وزاهديست
آن به كه كار خود بعنايت رها كنند
والله المعين.
{وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} بالتجاوز عما تابوا عنه ؛ لأنه إن لم يقبل كان إغراء بالمعاصي عدي القبول بعن لتضمنه معنى التجاوز.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي عامة للمؤمن والكافر والولي والعدو ، ومن تاب منهم قبل الله توبته.
والتوبة هي الرجوع عن المعاصي بالندم عليها والعزم أن لا يعاودها أبداً.
وقال السري البوشنجي : هو أن لا تجد حلاوة الذنب في القلب عند ذكره.
وروى جابر رضي الله عنه : أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ،
314
وقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر ، فلما فرغ من صلاته.
قال له عليّ رضي الله عنه : يا هذا ، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين وتوبتك هذه تحتاج إلى التوبة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، وما التوبة؟ قال : التوبة اسم يقع على ستة معانٍ : على الماضي من الذنوب بالندامة ، وتضييع الفرائض بالإعادة ، ورد المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية ، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
وفي الأثر : تعالى أفرح بتوبة العبد من المضل الواجد ، ومن العقيم الوالد ، ومن الظمآن الوارد فمن تاب إلى الله توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه وبقاع الأرض خطاياه".
روى عبد العزيز بن إسماعيل ، قال : يقول الله تعالى : ويح ابن آدم يذنب الذنب ، ثم يستغفر ، فأغفر له ، لا هو يترك ذنوبه ، ولا هو ييأس من رحمتي أشهدكم أني قد غفرت له".
(8/241)
وفي "التأويلات النجمية" : إذا أراد الله تعالى أن يتوب على عبد من عباده ليرجع من أسفل سافلين البعد إلى أعلى عليين.
القرب يخلصه من رق عبودية ما سواه بتصرف جذبات العناية ، ثم يوفقه للرجوع بالتقرب إليه ، كما قال : "من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً" ؛ أي : من تقرب إليّ شبراً بالتوبة تقربت إليه ذراعاً بالقبول ، ولو لم يكن القبول سابقاً على التوبة لما تاب ، كما قال بعضهم لبعض المشايخ : إن أتب إلى الله ، هل يقبل : قال : إن يقبل الله تتوب.
وفي الخبر : "أن بعض مواضع الجنة تبقى خالية ، فيخلق الله تعالى خلقاً جديداً فيملؤها بهم".
(اكر روا باشد ازروى كرم كه خلقى آفريند عبادت نابرده ورنج نا برده درجات جنت بايشان دهدا وبرسرو سزا واربركه بندكان ديرينه را ودرويشان دلخسته رازدر بيرون نكند وازثواب وعطاى خود محروم نكرداند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
فكيف بالتائبين منهم والمستغفرين.
{وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ} صغيرها وكبيرها غير المشرك لمن يشاء بمحض رحمته وشفاعة شافع ، وإن لم يتوبوا ، وهو مذهب أهل السنة.
وفي "التأويلات النجمية" : ويعفو عن كثير من الذنوب التي لا يطلع العبد عليها ليتوب عنها ، وأيضاً ، ويعفو عن كثير من الذنوب قبل التوبة ، ليصبر العبد به قابلاً للتوبة وإلا لما تاب.
{وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} كائناً ما كان من خير وشر ، فيجازي التائب ويتجاوز عن غير التائب حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح.
وفي "التأويلات النجمية" : ويعلم ما تفعلون من السيئات والحسنات ممالا تعلمون أنها من السيئات والحسنات ، فبتلك الحسنات يعفو عن السيئات.
وعن "عرائس البقلي" : يقبل توبتهم حين خرجوا من النفس والكون وصاروا أهلاً له مقدسين بقدسه ويعفو عن سيئاتهم ما يخطر بقلوبهم من غير ذكره ، ويعلم ما تفعلون من التضرع بين يديه في الخلوات.
وفي صحف إبراهيم عليه السلام : على العاقل أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، ويفكر في صنع الله ، وساعة يحاسب نفسه فيما قدم وأخّر ، وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال في المطعم والمشرب وغيرهما.
وروي : أن رجلاً قال للدينوري رحمه الله : ما أصنع؟ فكلما وقفت على باب المولى صرفني البلوى ، فقال : كن كالصبي مع أمه ، فكلما ضربته يجزع بين يديها ، ويتضرع ، فلا يزال كذلك حتى تضمه إليها.
وفي الخبر : "إن بعض المذنبين يرفع يده إلى جناب الحق ، فلا ينظر إليه ؛ أي : بعين الرحمة ، ثم يدعو ثانياً ، فيعرض عنه ، ثم يدعو ويتضرع ثالثاً ، فيقول : يا ملائكتي قد استحييت من عبدي ، وليس له رب غيري ، فقد غفرت له
315
واستحيت ؛ أي : حصلت مرامه ، فإني أستحيي من تضرع العباد" :
كرم بين ولطف خداوندكار
كنه بنده كردست واو شرمسار
ومعنى استحيائه تعالى : تركه تخييب العبد في رجائه.
{وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِه وَالْكَـافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِه لَبَغَوْا فِى الارْضِ وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} : الفاعل ضمير اسم الله والموصول مفعول به على إضمار المضاف ؛ أي : ويستجيب الله دعاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ؛ أي : المؤمنين الصالحين إذا دعوه ويثيبهم على طاعاتهم ، يعني : يعطيهم الثواب في الآخرة والإثابة معنى مجازي للإجابة ؛ لأن الطاعة لما شبهت بدعاء ما يترتب عليها من الثواب كانت الإنابة عليها بمنزلة إجابة الدعاء ، فعبر بها عنها.
ومنه قوله عليه السلام : "أفضل الدعاء الحمد " ، يعني : أطلق الدعاء علي الحمدلشبهه به في طلب ما يترتب عليه ، ويجوز أن يكون التقدير ، ويستجيب الله لهم ، فحذف اللام ، كما في قوله : {وَإِذَا كَالُوهُمْ} (المطففين : 3) ؛ أي : كالوا لهم.
قال سعدي المفتي : الأظهر حمل الكلام على إضمار المضاف ، فإنه كالمنقاس بخلاف حذف الجار.
{وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} على ما سألوا منه تفضلاً وكرماً ، ويجوز أن يكون الموصول فاعل الاستجابة.
والاستجابة ، فعلهم لا فعل الله تعالى واستجاب بمعنى أجاب ، أو على أن يكون السين للطلب على أصلها ، فعلى هذا الوجه يكون ويزيدهم من فضله معطوفاً على مقدر.
والمعنى : ويستجيبونبالطاعة ويزيدهم على ما استحقوه من الثواب تفضلاً ، ويؤيد هذا الوجه ما روي عن إبراهيم بن أدهم قدس سره : أنه قيل : ما لنا ندعو فلا نجاب.
قال : لأنه دعاكم ، فلم تجيبوه ، ثم قرأ : والله يدعو إلى دار السلام ، ويستجيب الذين آمنوا ، فأشار بقراءته.
والله يدعو إلى دار السلام إلى أن الله تعالى دعا عباده وبقراءته ، ويستجيب الذين آمنوا إلى أنه لم يجب إلى دعائه إلا البعض.
(8/242)
قال في "بحر العلوم" : هذا الجواب مع سؤاله ليس بمرضي عند أهل التحقيق من علماء الأخبار ، بل الحق الصريح أن الله يجيب دعاء كل عبد مؤمن بدليل قول النبي عليه السلام : "إن العبد لا يخطئه من الدعاء أحد ثلاث : إما ذنب يغفر ، وإما خير يدخر ، وإما خير يعمل.
رواه أنس رضي الله عنه ، وقوله عليه السلام : "ما من مسلم ينصب وجههفي مسألة إلا أعطاه إياها ، إما أن يعجلها له ، وإما أن يدخرها له".
وقوله عليه السلام : "إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى في الكظ عند الموت".
وقوله عليه السلام : "إن الله يدعو بعبده يوم القيامة ، فيقول : إني قلت ادعوني أسجب لكم ، فهل دعوتني ، فيقول : نعم ، فيقول : أرأيت يوم نزل أمر كذا وكذا ، مما كرهت فدعوتني ، فجعلت لك في الدنيا ، فيقول : نعم ، ويقول : دعوتني يوم نزل بك كذا.
فلم تر فرجاً فقد ادخرته لك في الجنة حتى يقول العبد ليته لم يستجب لي في الدنيا دعوة".
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
رواه جابر عنه ، وبدليل قوله عليه السلام : "من أعطي الدعاء لم يحرم من الإجابة".
وقال عليّ رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "إذا أحب الله عبداً صب عليه البلاء صباً وثجه عليه ثجاً ، فإذا دعا العبد ربه قال جبريل : أي رب ، اقض حاجته ، فيقول تعالى : دعه فإني أحب أن أسمع صوته ، فإذا دعا يقول تعالى : لبيك عبدي ، وعزتي لا تسألني شيئاً إلا أعطيك ، ولا تدعوني بشيء إلا أستجيب ، فإما أن أعمل لك ، وإما أن أدخر لك أفضل منه".
والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وإن الله يجيب الدعوات كلها من عبده المؤمن ، ولا يخيبه في شيء من دعواته.
316
وكيف يخيب ولا يجيب من إذا لم يسأله عبده يغضب عليه.
قال أبو هريرة رضي الله عنه : قال النبي عليه السلام : "إن الله يغضب على من لم يسأله ، ولا يفعل ذلك أحد غيره".
انتهى.
ما في "بحر العلوم".
يقول الفقير : هذا كله مسلم مقبول ، فإنه يدل على أن دعاء المؤمن المطيع لربه مستجاب على كل حال ، ولكن لا يلزم منه أن يستجاب لكل مؤمن ، فإن بعضاً من الذنوب يمنع الاستجابة ، ويرد الدعوة كما إذا كان الملبوس والمشروب حراماً ، والقلب لاهياً غافلاً ، وعلى الداعي مظالم وحقوق للعباد ، ونحو ذلك.
ويدل على ما ذكرنا ما قال عليه السلام لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين قال له : يا رسول الله ، ادع الله أن يستجيب دعائي.
يا سعد اجتنب الحرام ، فإن كل بطن دخل فيه لقمة من حرام لا تستجاب دعوته أربعين يوماً ، وأيضاً ، ما قال عليه السلام : "الرجل يطيل السفر ؛ أي : في طريق الحق أشعث أغبر يمد يده إلى السماء قائلاً : يا رب ، يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك الرجل دعاؤه".
وأيضاً ما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "وأنت يا عم لو أطعته أطاعك إطاعتي حين قال له عمه أبو طالب : ما أطوعك ربك يا محمد ، وغير ذلك ، ثم إن الزيادة في الآية مفسرة بالشفاعة لمن وجبت له النار ، وبالرؤية ، فإن الجنان ونعيمها مخلوقة تقع في مقابلة مخلوق مثلها ، وهو عمل العبد والرؤية مما يتعلق بالقديم ، ولا تقع إلا في مقابلة القديم ، وهو الفضل الرباني.
وفي "كشف الأسرار" : (بنده كه بديدار الله رسد بفضل الله ميرسد نه ازطاعت خود).
وفي الخبر الصحيح : "إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه ، فيكشف الحجاب ، فينظرون إليه".
أبو بكر الشبلي قدس سره : (وقتى در غلبات وجد وخروش كفت اى بارخدا فردا همه انابينا انكيز تاجز من تراكس نبيند باز وقتى ديكر كفت بارخدا باشبلي رانا بينا انكيز كه دريغ بودكه جون منى ترابيند وآن سخن اول غيرت بود بر جمال ازديده اغيار وآن سخن ديكر غيرت بود بر جمال ازديده خودو در راه جوانمردان اين قدم ازان قدم تما مترست وعزيز تر) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
از رشك تو بر كنم دل وديده خويش
تا اين تونه بيند ونه آن رابيش
(وجون حق تعالى ديدار خود را دوستانرا كرامت كند بتقاضاى جمال خود كندنه بتقاضاى بنده كه بشر محض راهر كز زهرة آن نبودكه با اين تقاضا بيدا آيد).
{وَالْكَـافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} : بدل ما للمؤمنين من الثواب والفضل المزيد.
قال الكاشفي : (مرايشا نراست عذابى سخت كه ذل حجاب ودوام عقابست وهيج عقاب بدترا مذلت حجاب نيست) :
زهيج رنج ثو مطلق دلم نتابد روى
جزآنكه بند كنى در حجاب حرمانش
وفي "التأويلات النجمية" : لما ذكر أنه تعالى يقبل توبة التائبين ، ومن لم يتب يغفر زلتهم والمطيعون يدخلهم الجنة ، فلعله يخطر ببال أحدهم ، أن هذه النار لمن هي؟.
قال الله تعالى : {وَالْكَـافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} ، فلعله خطر ببالهم أن العصاة من المؤمنين لا عذاب لهم.
فقال : والكافرون لهم عذاب شديد ، فدليل الخطاب : أن المؤمنين لهم عذاب ، ولكن ليس بشديد ، ثم إن العبد لو لم يتب خوفاً من النار ، ولا طمعاً في الجنة ، لكان من حقه أن يتوب ليقبل الحق سبحانه توبته ، ثم إن
317
(8/243)
العامي أبداً منكسر القلب ، فإذا علم أن الله يقبل الطاعة من المطيعين يتمنى أن له طاعة ميسرة ليقبلها الله ، فيقول الحق : عبدي إن لم يكن لك طاعة تصلح للبول ، فلك توبة إن أتيت بها تصلح لقبولها.
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} ، لو وسعه عليهم.
{لَبَغَوْا فِى الأرْضِ} لطغوا في الأرض وعصوا ، فمن العصمة أن لا تجد ، أو لظلم بعضهم على بعض ؛ لأن الغنى مبطرة مأشرة ؛ أي : داع إلى البطر ، والأشر ، أو البغي بمعنى الكبر ، فيكون كناية عن الفساد.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بغيهم في الأرض طلبهم منزلة بعد منزلة ومركباً بعد مركب وملبساً بعد ملبس.
وقال بعضهم : لو أن الله تعالى رزق العباد من غير كسب لتفرغوا للفساد في الأرض ، ولكن شغلهم بالكسب حتى لا يتفرغوا للفساد ونعم ما قيل : ()
إن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أي مفسده
أي : داعية إلى الفساد ومعنى الفراغ عدم الشغل ولزوم البغي على بسط الرزق على الغالب ، وإلا فقد يكون الفقير مستكبراً وظالماً ، يعني أن البغي مع الفقر أقل ؛ لأن الفقر مؤدٍ إلى الانكسار والتواضع غالباً ، ومع الغنى أكثر وأغلب ؛ لأن الغنى مؤدٍ إلى البغي غالباً ، فلو عم البسط كل واحد من العباد لغلب البغي ، وانقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال الكاشفي : (واين در غالبست جه ذى النورين رضي الله عنه مالدارترين مردم بودند وهركز ازايشان بغى وطغيان ظاهر نشد وكفته اندمال دنيا بمثال بارانست كه برتمام زمين بارد واز هرقطعه ازان كياه ديكر رويد) :
باران كه در لطافت طبعش خلاف نيست
درباغ لا له رويد ودرشوره بوم خس
(وجون اغلب طباع خلق بجانب هوى وهوس مائلست وبرورش صفات سبعى وبهيمى وبرايشان غالب ومال دنيا درين ابواب قوى ترين اسبابست بس اكر حق سبحانه وتعالى روزى بر خلق فراخ كرداند اكثر باغى طاغى كردند).
وكفى بحال فرعون وهامان وقارون ونحوهم عبرة.
قال عليه السلام : "إن أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها".
قال الصائب :
نفس رابد خوبناز ونعمت دنيا مكن
آب ونان وسير كاهل ميكند مزدور را
{وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ} ؛ أي : بتقدير.
يعني : (باندازه) ، كما في "كشف الأسرار".
وقال الكاشفي : (بتقدير أزلى).
وفي "القاموس" : قدر الرزق : قسمه ، والقدر قياس الشيء بالشيء.
وفي "بحر العلوم" : يقال : قدره قدراً وقدراً.
وقوله عليه السلام : "فإن غمّ عليكم ، فاقدروا" بكسر الدال والضم خطأ.
رواية : أي : فقدروا عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يوماً.
{مَّا يَشَآءُ} : أن ينزله مما تقتضيه مشيئته ، وهو مفعول ينزل.
{إِنَّه بِعِبَادِه خَبِيرُا بَصِيرٌ} : محيط بخفايا أمورهم وجلاياها ، فيقدر لكل واحد منهم في كل وقت من أوقاتهم ما يليق بشأنهم ، فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ، ويقبض ويبسط حسبما تقتضيه الحكمة الربانية ، ولو أغناهم جميعاً لبغوا ، ولو أفقرهم لهلكوا.
روى أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي عليه السلام ، عن جبرائيل ، عن الله تعالى أنه قال : "من أهان لي ولياً بارزني بالمحاربة ، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، وإني لأغضب لهم كما يغضب الليث الجريثي ، وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء
318
ما افترضت عليه ، وما زال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً مؤيداً ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ، ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه ، وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة ، فأكفه عنه لئلا يدخله عجب ، فيفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ، ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ، ولو أصححته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم ، إني بعبادي خبير بصير.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وكان يقول أنس رضي الله عنه : اللهم إني من عبادك المؤمنين الذين لا يصلحهم إلا لغنى ، فلا تفقرني برحمتك.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى قلب الفقير ؛ كأنه إنما لم أبسط أيها الفقير ، عليك الدنيا لما كان لي من المعلوم ، إني لو وسعت عليك لطغوت ، وسعيت في الأرض بالفساد.
ويشير أيضاً إلى وعيد الحريص على الدنيا لينتبه من نوم الغفلة ، ويتحقق له أن لو بسط الله له الرزق بحسب الطلب لكان سبب بغيه وطغيانه ، وفساد حاله ولتسكن نائرة حرصه على الدنيا ، ثم قال بطريق الاستدراك إن لم أوسع عليك الرزق لصلاح حالك لم أمنع عنك الكل ، ولكن ينزل بقدر ما يشاء لعلمه بصلاح ذلك ، وهو قوله : إنه بعباده خبير بصير.
(8/244)
روي : أن أهل الصفة رضي الله عنهم تمنوا الغنى ، فنزلت : (يعني أصحاب صفه كه بفقر فاقه ميكذرانيد ند روزى در خاطر ايشان كذشت كه جه باشدكه ماتوا نكر شويم ومال خود بفلان وفلان جيز صرف كنيم اين آيت آمد).
قال خباب بن الأرت رضي الله عنه فينا نزلت هذه الآية ، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ، فتمنيناها ، فأنزل الله تعالى الآية.
قال سعدي المفتي : وفيه أن الآية حينئذٍ مدنية ، فكان ينبغي أن يستثني.
وقيل : نزلت في العرب.
كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وإذا أجدبوا ؛ أي : أصابهم الجدب والقحط انتجعوا ؛ أي : طلبوا الماء والكلأ وتضرعوا وفي ذلك يقول الشاعر : ()
قوم إذا نبت الربيع بأرضهم
نبتت عداوتهم مع البقل
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِه لَبَغَوْا فِى الارْضِ وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُا إِنَّه بِعِبَادِه خَبِيرُا بَصِيرٌ * وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنا بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَه وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ * وَمِنْ ءَايَـاتِهِ خَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍا وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} .
{وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} ؛ أي : المطر الذي يغيث الناس من الجدب ، ولذلك خص بالنافع منه ، فإن المطر قد يضر ، وقد لا يكون في وقته.
قال الراغب : الغيث : يقال في المطر والغوث في النصرة.
{مِنا بَعْدِ مَا قَنَطُوا} ؛ أي : يئسوا منه وتقييد تنزيله بذلك مع تحققه بدونه أيضاً ، لتذكير كمال النعمة ، فإن حصول النعمة بعد اليأس والبلية أوجب لكمال الفرح ، فيكون أدعى إلى الشكر.
{وَيَنشُرُ} : (وبراكنده كند).
{رَحْمَتِهِ} ؛ أي : بركات الغيث ومنافعه في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي "فتح الرحمن" : وينشر رحمته ، وهي الشمس ، وذلك تعد يد نعمة غير الأولى ، وذلك أن المطر إذا جاء بعد القنوط حسن موقعه ، فإذا دام سئم وتجيء الشمس بعده عظيمة الوقع.
{وَهُوَ الْوَلِىُّ} : المالك السيد الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة.
قال الكاشفي : (واوست دوست مؤمنان وسازنده كار ايشان بفرسنادن باران ونشر رحمت واحسان) :
319
تواز فشاندن تختم اميد دست مدار
كه در كرم نكندا ابر نوبهار امساك
{الْحَمِيدُ} : المستحق للحمد على ذلك وغيره لا غيره.
وقال بعضهم : وهو الولي ؛ أي : مولى المطر ومتصرفه يرسله مرة بعد مرة الحميد ؛ أي : الأهل لأنه يحمد على صنعه إذ لا قبح فيه ؛ لأنه بالحكمة ودل الغيث على الاحتياج وعند الاحتياج تتقوى العزيمة ، والله تعالى يجيب دعوة المضطر.
وقيل لعمر رضي الله عنه اشتد القحط وقنط الناس ، فقال : مطروا إذن وأراد هذه الآية.
وفي المثنوي :
تافرود آيد بلاى دافعى
جون نباشداذ تضرع شافعى
تا سقاهم ربهم آيد خطاب
تشنه باش الله أعلم بالصواب
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن تحت العرش بحراً ينزل منه أرزاق الحيوانات يوحي الله إليه ، فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى سماء الدنيا ، ويوحي إلى السماء أن غربليه فتغربله ، فليس من قطرة تقطر إلا ومعها ملك يضعها موضعها ، ولا ينزل من السماء قطرة إلا بكيل معلوم ، ووزن معلوم إلا ما كان من يوم الطوفان من ماء ، فإنه نزل بغير كيل ووزن.
وروي : أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام ؛ لأنه لا يختلف فيه البلاد ، وفي الحديث : "ما من سنة بأمطر من أخرى ، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم ، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار".
وفي الحديث القدسي : "لو أن عبادي أطاعوني سقيتهم المطر بالليل ، وأطلعت الشمس عليهم بالنهار ، وما أسمعتهم صوت الرعد".
قال سفيان رحمه الله : ليس الخائف من عصر عينيه ، وبكى إنما الخائف من ترك الأمر الذي يخاف منه.
وروي مرفوعاً : "ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا والسماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء".
وفيه إشارة إلى دوام فيضه تعالى ظاهراً وباطناً ، وإلا لانتقل الوجود إلى العدم.
وفي الآية إشارة إلى أن العبد إذا ذبل غصن وقته وتكدر صفو ورده وكسف شمس أنسه وبعد بالحضرة وساحات القرب عهده ، فربما ينظر الحق بنظر رحمته ، فينزل على سره أمطار الرحمة ويعود عوده طرياً ، وينبت من مشاهد أنسه ورداً جنياً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي "عرائس البيان" : يكشف الله لهم أنوار جماله بعد أن آيسوا من وجدانهم في مقام القبض ، وينشر عليهم لطائف بسط القرب ؛ لأن وليهم وحبيبهم محمود بلسان افتقارهم.
(8/245)
قال ابن عطاء : إن الله تعالى يربي عباده بين طمع ويأس ، فإذا طمعوا فيه أيأسهم بصفاتهم ، وإذا آيسوا أطمعهم بصفاته ، وإذا غلب على العبد القنوط ، وعلم العبد ذلك وأشفق منه أتاه من الله الفرج ، ألا تراه يقول : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا معناه : ينزل غيث رحمته قلوب أوليائه ، فينبت فيها التوبة والإنابة والمراقبة والرعاية : (ابر جود باران وجود ريزد سحاب افضال دراقبال فشاندكل وصال درباغ نوال شكفته كردد آخر كار باول كار باشود).
يقول الفقير : لا شك أن القبض والبسط يتعاقبان ، وإن الإنسان لا يضحك دائماً ، ولا يبكي دائماً ، ومن أعاجيب ما وقع لي في هذا الباب هو أنه أغار العرب على الحجاج في طريق الشام في سنة الألفات الأربعة ، وكنت إذ ذاك معهم فتجردت باختياري عن جميع ما معي غير القميص والسراويل ، ومشيت على وجهي ، فقيل لي : في باطني على يمينك ، فأخذت
320
اليمين حتى لم يبق لي طاقة على المشي من الجوع والعطش ، فوقعت على الرمل فأيست من الحياة وليس معي أحد إلا الله ، فقيل لي : في سمعي قول الشاعر :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
ثم إن الله تعالى فرج عني بعد ساعات بما يطول بيانه ، بل يجب خفاؤه ، وهو الولي الحميد.
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ} ، أي : دلائل قدرته تعالى : {خَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} على ما هما من تعاجيب الصنائع فإنها بذاتها أو صفاتها تدل على شؤونه العظيمة.
قال في الحواشي السعدية" قوله : فإنها إشارة إلى ما تقرر في الكلام من المسالك الأربعة في الاستدلال على وجودالصانع تعالى حدوث الجواهر وإمكانها ، وحدوث الأعراض القائمة بها ، وإمكانها أيضاً.
وفيه إشارة إلى أن خلق السماوات من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي : السماوات المخلوقة.
انتهى.
{وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} عطف على السماوات أو الخلق.
ومعنى بث فريق يعني : (براكنده كرده).
وقال الراغب : أصل البث إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب وبث النفس ما انطوت عليه من الغم والسرور.
وقوله : وبث إشارة إلى إيجاده تعالى ما لم يكن موجوداً وإظهاره إياه.
{مِن دَآبَّةٍ} حي على إطلاق اسن المسبب على السبب ، أي : الدبيب مجازاً أريد به سببه ، وهوالحياة فتكون الدابة بمعنى الحي ، فتتناول الملائكة أيضاً ، لأن الملائكة ذو واحركت طيارون فيالسماء ، وإن كانوا لا يمشون على الأرض ويجوز أن يكون المعنى مما ندب على الأرض ، فإن ما يختص بأحد الشيئين المجاورين يصبح نسبه إليهما.
يعني : ما يكون في أحد الشيئين يصدق أنه فيهما في الجملة ، كما في قوله تعالى : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، إنما يخرج من الملح.
وقد جوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران ، فيوصفون بالدبيب ، وأن يخلق الله في السماء حيوانات يمشون فيها مشي الأناسي على الأرض كما ينبىء عنه قوله تعالى : {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
وقد روي عن النبي عليه السلام قال : "فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلامه كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض ، ثم فوقه العرش العظيم".
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
يقول الفقير : إن للملائكة أحوالاً شتى وصوراً مختلفة لا يقتضي موطنهم الحصر في شيء من المشي والطيران ، فطيرانهم إشارة إلى قوتهم في قطع المسافة ، وإن كان ذلك لا ينافي أن يكون لهم أجنحة ظاهرة ، فلهم أجنحة يطيرون بها ، ولهم أرجل يمشون بها ، والله أعلم.
{وَهُوَ} تعالى {عَلَى جَمْعِهِمْ} ، أي : حشر الأجسام بعد البعث للمحاسبة.
{إِذَا يَشَآءُ} في أي وقت يشاء {قَدِيرٌ} متمكن منه.
(يعني تواناست ومتمكن ازان وغير عاجز دران).
قوله : هو مبتدأ وقدير خبره وعلى جمعهم لا بقدير لفساد المعنى ، فإن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته ، وإذا عند كونها بمعنى الوقت ، كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع.
قال تعالى : {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} .
وفي الآية إشارة إلى سماوات الأرواح وأرض الأجساد.
وما بث فيهما من دابة النفوس والقلوب ، فلا مناسبة بين كل واحد منهم ، فإن بين الأرواح والأجساد بوناً بعيداً ، لأن الجسد من أسفل سافلين ، والروح من أعلى عليين ، والنفس تميل إلى الشهوات الحيوانية الدنيوية ، والقلب يميل إلى الشواهد الروحانية الأخروية الربانية ، وهو على جمعهم على طلب الدنيا وزينتها ، وعلى طلب الآخرة درجاتها ، وعلى طلب الحضرة وقرباتها إذا يشاء قدير.
والحشر أنواع : عام ، وهو خروج
321
الأجساد من القبور إلى المحشر يوم النشور.
وخاص ، وهو خروج الأرواح الأخروية من قبور الأجسام الدنيوية بالسير والسلوك في حال حياتهم إلى عالم الروحانية ، يحرق الحجب الظلمانية وأخص.
وهو خروج الأسرار من القبور الروحانية إلى عالم الهوية بقطع الحجب النورانية.
فعند ذلك يرجع الإنسان إلى أصله رجوعاً اختيارياً مرضياً ليس فيه شائبة غضب أصلاً ، ونعم الرجوع والقدوم ، وهو قدوم الحبيب والجلوة معه.
خلوت كزيده را بتماشا جه حاجتست
(8/246)
جون روى دوست هست بصحراجه حاجتست
ولا يمكن الخروج من النفس إلا بالله.
وكان السلف يجهدون في إصلاح نفوسهم وكسر مقتضاهم وقمع هواها.
(حكي) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر وعلى ظهره قربة ماء ، فقيل له : في ذلك فقال : ليس لي حاجة إلى الماء ، وإنما أردت به كسر نفسي لما حصل لها من إطاعة ملوك الأطراف ، ومجيء الوفود فكما أنه لا بعث إلى المحشر الأبعد فناء ظاهر الوجود ، فكذا لا حشر إلى الله إلا بعد فناء باطنه.
نسأل الله سبحانه أن يوصلنا إلى جنابه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{وَمَآ أَصَـابَكُم} (وهرجه شمارا رسدا اى مؤمنان).
فما شرطية.
وقال بعضهم : موصول مبتدأ دخلت الفاء في خبره لتضمنه معنى الشرط ، أي : الذي وصل إليكم أيها الناس.
{مِّن مُّصِيبَةٍ} ، أي : مصيبة كانت من الآلام والأسقام والقحط والخوف ، حتى خدش العود وعثرة القدم ، واختلاج العرق وغير ذلك من البدن أوفى المال الأهل والعيال ، ويدخل فيها الحدود على المعاصي ، كما أنه يدخل في قوله : ويعفو عن كثير ما لم يجعل له حد.
فبما كسبت أيديكم} أي فهو بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها ، فإن ذكر الأيدي لكون أكثر الأعمال مما يزاول بها ، فكل نكد لاحق إنما هو بيبب ذنب سابق أقله التقصير.
وفي المثنوي :
هرجه برتو آيد از ظلمات غم
آن ربى باكى وكستاخيست هم
وفي الحديث : "لا يرد القدر إلا بالدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ، وأن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه قوله لا يرد" إلخ.
لأن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء ، فالدعاء سبب لدفع البلاء وجلب الرحمة كما أن الترس سبب لدفع السلاح والماء سبب لخروج النباتات من الأرض.
قال الضحاك : ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب ، وأي معصية أقبح من نسيان القرآن.
وتلا الآية : {وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} من الذنوب ، فلا يعاقب عليها ، ولولا عفوه وتجاوزه ما ترك على ظهرها من دابة.
وفي الآية تسلية لقلوب العباد وأهل المصائب يعني : إن إصابتكم مصيبة الذنوب والمعاصي الموجبة للعفو الأخروية الأبدية تداركناها بإصابة المصيبة الدنيوية الفانية لتكون جاء لما صدر منكم من سوء الأدب ، وتطهير لما تلوثتم به من المعاصي ، ثم إذا كثرت الأسباب من البلايا على عبد وتوالى عليه ذلك فليفكر في أفعاله المذمومة لم حصلت منه ، حتى يبلغ جزاء ما يفعله مع عفو الكثير هذا المبلغ ، فعند هذا يزداد حزنه وأسفه وخجلته لعلمه بكثرة ذنوبه وعصياته.
وغاية كرم ربه وعفوه وغفرانه.
قيل لأبي سليمان الداراني قدس سره : ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم.
قال : لأنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم.
وقرأ هذه الآية : فائتين ما قضى عليكم من المصائب
322
وإن هربتم من أقطار الأرض كل مهرب} ، يعني : إذا أراد الله ابتلاءكم وعقوبتكم ، فلا تفوتونه حيثما كنتم ، ولا تسبقونه ، ولا تقدرون أن تمنعوه من تعذيبكم.
وبالفارسية : (ونيستيد عاجز كنندكان خدا يرا از انفاذ امريا از عذاب كردن مستحق).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال أهل اللغة : أعجزته ؛ أي : صيرته عاجزاً.
وأعجزته فيه سبقته قال في تفسير "المناسبات" لما كان من يعاقب بما دون الموت ربما ظن أنه عاجز ، قال : وما أنتم ؛ أي : أجمعون العرب وغيرهم بمعجزين في الأرض لو أريد محقكم بالكلية ولا في شيء أراده منكم كائناً ما كان.
{وَمَا لَكُم} ؛ أي : عند الاجتماع ، فكيف عند الانفراد.
{مِّن دُونِ اللَّهِ} : المحيط بكل شيء عظمة وكبراً وعزة.
{مِن وَلِىٍّ} : يكون متولياً لشيء من أموركم بالاستقلال يحميكم من المصائب.
{وَلا نَصِيرٍ} : يدفعها عنكم.
وهذه الآية الكريمة داعية لكل أحد إلى المبادرة عند وقوع المعصية إلى محاسبة النفس ليعرف من أين أتى ، فيبادر إلى التوبة عنه لينقذ نفسه من الهلكة ، وفائدة ذلك ، وإن كان الكل بخلقه وإرادته إظهار الخضوع والتذلل واستشعار الحاجة والافتقار إلى الله الواحد القهار ، ولولا ورود الشريعة لم يوجد سبيل إلى هذه الكمالات البديعة ، ومثل هذه التنبيهات تستخرج من العبد ما أودع في طبيعته ، وركز في غريزته كغرس وزرع سيق إليه ماء وشمس لاستخراج ما في طبيعته من المعلومات الإلهية والحكم العلية.
قال الإمام الواحدي رحمه الله : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله ؛ لأن الله جعل ذنب المؤمن صنفين صنفاً كفر عنهم بالمصائب وصنفاً عفا عنه في الدنيا ، وهو كريم ، ولا يرجع في الآخرة في عفوه ، فهذه سنة الله مع المؤمنين ، وأما الكافر ، فلا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة.
قال بعضهم : إذا كسب العبد شيئاً من الجرائم ، فهو من أسباب القهر ، ويكون محجوباً به.
فإذا كان أهلاًتعالى يعاقبه الله في الدنيا ببعض المصائب ويخرجه من ذلك الحجاب ، وإلا فيمهله في ضلالته ، والآية مخصوصة بالمجرمين ، فإن ما أصاب غيرهم من الأنبياء وكمل الأولياء والأطفال والمجانين ، فلأسباب أخر لا بما كسبت أيديهم ؛ لأنهم معصومون محفوظون.
منها التعريض للأجر العظيم بالصبر عليه.
(8/247)
قال بعضهم : شوهد منه عليه السلام كرب عند الموت ليحصل بمن شاهده من أهله ، ومن غيرهم من المسلمين الثواب لما يلحقهم عليه من المشقة ، كما قيل : بمثل ذلك في حكمة ما يشاهد من حال الأطفال من الكرب الشديد.
وفي "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي قدس سره : البلاء على ثلاثة أضرب :
منها : تعجيل عقوبة للعبد كمثل ما نزل بيوسف عليه السلام من لبثه في السجن بالهم الذي هم به ، ومن لبثه بعد مضي المدة في السجن بقوله : {اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَـاهُ الشَّيْطَـانُ ذِكْرَ رَبِّه فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} (يوسف : 42).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
ومنها : امتحانه ليبرز ما في ضميره ، فيظهر لخلقه درجته أين هو من ربه كمثل ما نزل بأيوب عليه السلام.
قال تعالى : {إِنَّا وَجَدْنَـاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُا إِنَّه أَوَّابٌ} (ص : 44).
ومنها : كرامته ليزداد عنده قربة وكرامة كمثل ما نزل بحيى بن زكريا عليهما السلام ، ولم يعمل خطيئة قط ، ولم يهم بها ، فذبح ذبحاً ، وأهدى رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
وقد سأل النبي عليه السلام العافية من كل ذلك حيث قال : "واسأل الله العافية من كل بلية" والعافية أن يكون في كل وجه من هذه الوجوه ، إذا حل به شيء من ذلك أن لا يكله إلى نفسه ولا يخذله ؛ أي : يكلؤه ويرعاه في كل من هذه الوجوه هذا
323
وجه ، والوجه الآخر أن يسأله أن يعافيه من كل شيء فيه شدة ، فإن الشدة إنما يحل أكثرها من أجل الذنوب ، فكأنه يسأل أن يعافيه من البلاء ، ويعفو عنه الذنوب التي من أجلها تحل الشدة بالنفس ، فقد قال عز وجل : {وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} .
وقال تعالى : {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ} () ، فعلى العاقل أن يسأل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة ، فإذا ابتلي بشيء من البلايا صبر عليه ليكون مأجوراً وفكفراً عنه ذنوبه ومصححاً له حاله ومصفى باله ونعم ما قيل :
نرى الناس دهناً في القوارير صافيا
ولم تدر ما يجري على رأس سمسم
وقال الحافظ :
شكر كمال حلاوت بس از رياضت يافت
نخست درشكن تنك ازان مكان كيرد
وما قال :
كويند سنك لعل شود در مقام صبر
آرى شود وليك بخون جكر شوده
نسأل الله العافية.
{وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الارْضِا وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلا نَصِيرٍ * وَمِنْ ءَايَـاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاعْلَـامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِه إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} .
{وَمِنْ ءَايَاتِهِ} : دلائل وحدته تعالى وقدرته وعظمته وحكمته.
{الْجَوَارِ} : السفن الجارية ، وهي بالياء في الأصل حذفت للكسر الدال عليها.
{فِى الْبَحْرِ} : (در دريا).
{كَالاعْلَـامِ} جمع علم بفتحتين بمعنى الجبل ، وكل مرتفع علم ؛ أي : كالجبال على الإطلاق لا التي عليها النار للاهتداء خاصة.
وبالفارسية : (مانند كوها در عظمت).
فقوله : جوار جمع جارية ، بمعنى سائرة صفة للسفن المقدرة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي البحر : متعلق بالجوار ، وحال منه إن كانت الجارية جامدة اسماً للسفينة بالغلبة سميت بها لجريها وكالأعلام حال منه على التقديرين.
{إِن يَشَأْ} ؛ أي : الله تعالى ، وهو شرط جوابه.
قوله : {يُسْكِنِ الرِّيحَ} التي تجريها يعني ساكن : (كرداندبادى راكه سبب رفتن كشتى است).
{فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} عطف على قوله : يسكن وظل بمعنى صار وركدت السفينة إذا سكنت وثبتت ؛ أي : فيصرن تلكن السفن ثوابت بعدما كانت جواري برياح طيبة.
وحاصل المعنى فيبقين ثوابت على ظهر البحر غير جاريات لا غير متحركات أصلاً.
(وجون آن كشتيها ساكن شوند بسبب سكون باد اهل كشتى در كردا اضطراب افتد).
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} الذي ذكر من السفن اللاتي يجرين تارة ويركدن تارة أخرى على حسب مشيئة الله تعالى.
{لايَـاتٍ} عظيمة في أنفسها كثيرة في العدد دالة على ما ذكر من شؤونه.
{لِّكُلِّ صَبَّارٍ} بليغ الصبر على احتمال البلايا في طاعة الله تعالى.
{شَكُورٌ} بليغ الشكر له على نعمائه باستعمال كل عضو من الأعضاء فيما خلق له.
وقال الكاشفي : (مر هر صبر كننده رادر كشتى سباس درانده برقت خروج از كشتى).
ويجوز أن يكون مجموع صبار شكور كناية عن الآتي بجميع ما كلف به من الأفعال والتروك.
فالمعنى : لكل مؤمن كامل في خصائل الإيمان وثمراتها ترجع كلها إلى الصبر والشكر ، فإن الإيمان نصفه صبر عن المعاصي ونصفه شكر ، وهو الإتيان بالواجبات.
{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} عطف على يسكن يقال : أوبقه : أهلكه كما في "القاموس" ، والإيباق بالفارسية : (هلاك كردن) ، كما في "تاج المصادر".
(8/248)
والمعنى : إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يرسلها ، فتغرق بعضها ؛ أي : السفن بعدله وإيقاع الإيباق عليهن مع أنه حال أهلهن للمبالغة والتهويل.
يعني : أن المراد إهلاك أهلها بسبب ما كسبوا من الذنوب موجبات الهلاك على إضمار المضاف ، أو التجوز بعلاقة الحلول.
قال سعدي المفتي : والظاهر أنه لا منع من إبقاء الكلام على حقيقته ، فالآية مثل قوله تعالى : {وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ} (الشورى : 30).
324
إلخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
أي : يوبق سفائنهم بشؤم ما كسبوا.
{وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} ، فلا يوبق أموالهم.
انتهى.
وإجراء حكمه على العفو في قوله تعالى : ويعف عن كثير لما أن المعنى ، أو يرسلها فيوبق ناساً ، وينجي آخرين بطريق العفو عنهم.
{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِنَا} عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم ، وليعلم الذين يكذبون ويسعون في دفعه وإبطاله وقرىء بالرفع على الاستئناف عطفاً على الشرطية وبالجزم عطفاً على يعف ، فيكون المعنى : وإن يشأ يجمع بين إهلاك قوم وإنجاء قوم ، وتحذير قوم.
{مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} ؛ أي : من مهرب من العذاب ، والجملة معلق عنها الفعل فكما لا مخلص لهم إذا وقفت السفن ، أو عصفت الرياح ، كذا لا مهرب لهم من عذابه بعد البعث ، فلا بد من الاعتراف بأن الضار والنافع ليس إلا الله ، وإن كل أمر عرض ، فإنما هو بتأثيره.
وفي الآيات إشارات منها : أن الله تعالى حثهم على الفكرة المنبهة لهم في السفن التي تجري في البحار ، فيرسل الله الرياح تارة ويسكنها أخرى ، وما يريهم من السلامة والهلاك.
والإشارة في هذا إلى إمساك الناس في خلال فتن الوقت عن الأنواع المختلفة ، ثم حفظ العبد في إيواء السلامة ، وذلك يوجب خلوص الشكر الموجب له جزيل المزيد.
ومنها : كما أن السفن تجري في البحر بالريح الطيبة ، فتصل إلى الساحل كذلك بعض الهمم تجري في الدنيا بريح العناية ، فتصل إلى الحضرة ، وكما أن لبعض السفن وقفة لانقطاع الريح ، فكذا لبعض الهمم بانقطاع الفيض ، وكما أن بعضها تهلك ، فكذا بعض النفوس في بحر الدنيا نعوذ بالله تعالى.
ومنها : أن الريح لا تتحرك بنفسها ، بل لها محرك إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ، وهو الله تعالى ، فلا يجوز الاعتماد على الريح في استواء السفينة وسيرها ، وإلا فقد جاء الشرك في توحيد الأفعال ، والجهل بحقائق الأمور.
ومنها : أن الصابر من صبره الله والشكور من شكره الله ، فإن الصبر الحقيقي والشكر الحقيقي لا يكون إلا لمن كان صبره بالله وشكره بالله ، فإنه تعالى هو الصبور الشكور.
ومنها : أن علم الله قديم ليس بحادث وأما علم الخلق ، فحادث متأخر ، ولذلك قال : ويعلم إلخ.
فالعاقل يرى عاقبة الأمر فيحذر كما قيل (ع) : (درانتهاى كر خوداز ابتدا ببين).
{فَمَآ أُوتِيتُم} : (بس آنجه داده شده آيد).
{مِن شَىْءٍ} مما ترغبون أيها الناس وتتنافسون فيه من مال ومعاش وأولاد.
{فَمَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} ؛ أي : فهو متاعها ومنفعتها وتتمتعون وتنتفعون به مدة حياتكم القليلة فيزول ويفنى ، فما موصولة متضمنة لمعنى الشرط من حيث أن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع به في الحياة الدنيا ، ولذا دخلت الفاء في جوابها.
وقدر المبتدأ ؛ لأن الجواب لا يكون إلا جملة ، يعني أن سببيته مقصود فيها الإعلام لتضمنها الترغيب في الشكر بخلاف الثانية ، وهي قوله تعالى : وما عند الله.
إلخ.
فإن المقصود فيها بيان حال أن ما عند الله سبب للخيرية والدوام رقد ، يقال : إن ما شرطية على أنها مفعول ثان لأوتيتم بمعنى أعطيتم ، والأول ، وهو ضمير المخاطبين قائم مقام الفاعل.
ومن شيء بيان لها لما فيها من الإبهام.
{وَمَا عِندَ اللَّهِ} من ثواب الآخرة أشير إليه آنفاً.
{خَيْرٌ} : ذاتاً لخلوص نفعه وهو خبر ما.
{وَأَبْقَى} : زمان حيث لا يزول ولا يفنى بخلاف ما في أيدي الناس.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفيه إشارة إلى أن الرحات في الدنيا لا تصفو ، ومن الشوائب لا تخلو ، وإن اتفق لبعضهم : منها في الأحايين ، فإنها سريعة الزوال ، وشيكة الارتحال ، وما عند الله من الثواب الموعود خير وأبقى من هذا القليل الموجود ، بل ما عند الله من الألطاف الخفية والمقامات العلية ،
325
والمواهب السنية خير وأبقى مما في الدنيا والآخرة.
{لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} : أخلصوا في الإيمان ، وهو متعلق بأبقى.
وفي "الحواشي السعدية" الظاهر أن اللام للبيان ؛ أي : للبيان من له هذه النعمة ، وقد بينه أبو الليث في "تفسيره" بقوله : ثم بين لمن يكون ذلك الثواب ، فقال للذين آمنوا.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} لا على غيره تعالى ؛ أي : خصوا ربهم بالتوكل عليه فيما يعرض لهم من الأمور لا يسندون أمراً إلا إليه ، ولا يعتمدون إلا عليه وعن علي رضي الله عنه أنه تصدق أبو بكر رضي اللهعنه بماله كله فلامه جميع المسلمين ، فنزلت :
ستغرق كار خود جنانم كه دكر
برواى ملا متكربى كارم نيست
(8/249)
بيّن أن ثواب الآخرة مع كونه خيراً مما في الدنيا وأبقى يحصل لمن اتصف بصفات وجمع بينهما ، وهو الإيمان والتوكل ، وما ذكر بعدهما ، فالمؤمن والكافر يستويان في أن الدنيا متاع لهما يتمتعان بها كما قال في "البستان" :
اديم زمين سفرة عام اوست
برين خوان يغماجه دشمن جه دوست
وإذا صار إلى الآخرة كان ما عند الله خيراً للمؤمن ، فمن عرف فناء متاع الدنيا ، وتيقن أن ما عند الله خير وأبقى.
ترك الدنيا واختار العقبى ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
حكي : أنه كان لهارون الرشيد ابن في سن ست عشرة ، فزهد في الدنيا وتجرد واختار العبادة ، فمر يوماً على الرشيد ، وحوله وزراؤه ، فقالوا : لقد فضح هذا الولد أمير المؤمنين بين الملوك بهذه الهيئة الدنية فدعاه هارون الرشيد.
وقال : يا بني فضحتني بحالك هذه ، فلم يجبه الولد ، ثم التفت فرأى طائراً على حائط ، فقال : أيها الطائر بحق خالقك ألا جئت على يدي ، فقعد الطائر على يده ، ثم قال : ارجع إلى مكانك ، فرجع ، ثم دعاه إلى يد أمير المؤمنين ، فلم يأت ، فقال لأبيه ، بل أنت فضحتني بين الأولياء بحبك للدنيا ، وقد عزمت على مفارقتك.
ثم خرج من بلده ، ولم يأخذ إلا خاتماً ومصحفاً ودخل البصرة ، وكان يعمل يوم السبت عمل الطين ، ولا يأخذ إلا درهماً ودانقاً للقوت.
قال أبو عامر الواعظ البصري رحمه الله : استأجرته يوماً ، فعمل عمل عشرة ، وكان يأخذ كفاً من الطين ويضعه على الحائط ويركب الحجارة بعضها على بعض ، فقلت : هذه أفعال الأولياء ، فإنهم معانون ، ثم طلبته يوماً فوجدته مريضاً في خربة ، فقال :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
يا صاحبي لا تغترر بتنعم
فالعمر ينفذ والنعيم يزول
وإذا حملت إلى القبور جنازة
فاعلم بأنك بعدها محمول
ثم وصاني بالغسل والتكفين في جبته ، فقلت : يا حبيبي ولم لا أكفنك في الجديد ، فقال : الحي أحوج إلى الجديد من الميت يا أبا عامر : الثياب تبلى والأعمال تبقى ، ثم قال : ادفع هذا المصحف والخاتم إلى الرشيد ، وقل له : يقول لك ولدك الغريب لا تدومن على غفلتك.
قال أبو عامر : فلما غسلته وكفنته بماأوصى ودفنته.
دفعت المصحف والخاتم إلى الرشيد وحكيت ما جرى ، فبكى وقال : فيم استعملت قرة عيني وقطعة كبدي؟.
قلت : في الطين والحجارة.
قال : استعملته في ذلك ، وله اتصال برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت : ما عرفته ، قال : ثم أنت غسلته ، قلت : نعم ، فقبل يدي وجعلها على صدره ، ثم زار قبره ، ثم رأيته في المنام على سرير عظيم في قبة عظيمة ، فسألته عن حاله ، فقال : صرت إلى رب راضضٍ أعطاني ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب
326
بشر ، وآلى على نفسه الشريفة ؛ أي : قال : والله الذي خلقني لا يخرج عبد من الدنيا كخروجي إلا أكرمه مثل كرامتي.
قال بعضهم : ما ظهر من أفعالك وطاعتك لا يساوي أقل نعمة من نعيم الدنيا من سمع وبصر ، وكيف ترجو بها نجاة الآخرة ، فالنعيم كله بالفضل لا بالاستحقاق.
ودخل ابن السماك على بعض الخلفاء ، وفي يده كوز ماء ، وهو يشربه ، فقال : عظني ، فقال : نعم ، فقال : لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشاناً فعل كنت تعطيه قال : نعم فقال : لو لم تعط إلا بملكك كله ، فهل كنت تتركه ، قال : نعم ، فقال : لا تفرح بملك لا يستوي بشربة ماء.
يعني : فشربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلها ، بل كل نفس كذلك ، فلو أخذ لحظة ، ثم انقطع الهواء عنه مات ، ولو حبس في بيت حمام حار ، أو بئر عميق مات ، فعلى العبد التوغل في العبادة شكراً لنعم الله تعالى ، ومن أفضل الطاعات التوكل ، وهو ترك التدبير والانخلاع عن الحول والقوة.
قال الجنيد قدس سره : حقيقة التوكل أن يكون العبد مع الله بعد وجوده كما كان قبل وجوده ، وهو مقتضى الحال ، كما أن الكسب مقتضى العلم.
روي : أن النوري قدس سره تعبد مع عالم في مسجد ، وكان النوري يجمع ما نبذه الناس في آخر النهار ، ويغسله ويأكل معه فسأله سائل ، فأعطاه ، فقال له رفيقه : العالم قد قنعنا من الدنيا بما يطرحه الناس وأنت تنفقه أيها العابد لو كان معك علم ، فبعد ساعة جاء طعام من غني فأكلا ، ثم قال النوري أيها العالم لو كان معك حال ، فانظر حال التوكل واليقين والاتكال على الملك المتعال من خصائص توحيد الأفعال الحاصل بإصلاح الطبية في مقام الشريعة :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
باك وصافى شوواز جاه طبيعت بدراى
كه صفايى ندهد آب تراب آلوده
{فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَىْءٍ فَمَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائرَ الاثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} .(8/250)
{وَالَّذِينَ} .
الخ.
في موضع الجر عطفاً على الذين آمنوا عطف الصفة على الصفة ؛ لأن الذات واحدة ، والعطف إنما هو بين الصفات.
{يَجْتَنِبُونَ} : الاجتناب : (بايك شودن وترك كردن).
{كَبَائرَ الاثْمِ} : الإثم : الذنب كما في "القاموس".
وقال الراغب : الإثم والآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب.
وقوله تعالى : {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} (البقرة : 219) ؛ أي : في تناولهما إبطاء عن الخيرات وتسمية الكذب إثماً ، كتسمية الإنسان حيواناً لكونه من جملتهم ، والكبيرة ما أوجب الله عليه الحد في الدنيا والعذاب في الآخرة.
وفي "المفردات" الكبيرة متعارفة في كل ذنب تعظم عقوبته.
والمعنى : يجتنبون الكبائر من هذا الجنس ، فالإضافة بمعنى من ولكون المراد جنس الإثم ، لم يقل كبائر الآثام.
قال في "كشف الأسرار" : أضاف الكبائر إلى الإثم ، فإن إثم الصغيرة مغفور إذا اجتنب الكبيرة ، كما قال الله تعالى : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآاـاِرَ مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـاَاتِكُمْ} (النساء : 31).
قرأ حمزة والكسائي وخلف : كبير الإثم على التوحيد إرادة الجنس.
قال الراغب : قوله : والذين يجتنبون كبائر الإثم.
وقوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه.
قيل : أريد بهما الشرك لقوله : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13).
قال ابن عباس : كبير الإثم هو الشرك.
قال الإمام الرازي : هو عندي ضعيف ؛ لأن ذكر الإيمان يغني عنه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
يقول الفقير : لا يغني ؛ فإنه بالإيمان يحصل الاجتناب عن مطلق الشرك الشامل للجلي والخفي ، بل عن الجلي فقط.
وقد أطلق عليه السلام : "الشرك على الرياء حيث قال : اتقوا الشرك الأصغر".
فالقول ما قال ترجمان القرآن رضي الله عنه.
وقرأ الباقون
327
كبائر الإثم على إرادة جميع المعاصي الموبقة ، وهو الشرك بالله ؛ أي : الكفر مطلقاً ، وإن لم يعبد الصنم ، وقتل النفس بغير حق سواء قتل نفسه ، أو غيره وقذف المحصنة ؛ أي : شتم الحرة المكلفة المسلمة العفيفة التي أحصنها الله عن القبائح والزنا ، وهو وطء في قبل المرأة خال عن ملك وشبهة فوطىء البهيمة ، واللواطة ليس بزنا ، والسحر ويقتل الساحر ذكراً كان أو أنثى ، إذا كان سعيه بالإفساد والإهلاك في الأرض ، وأما إذا كان سعيه بالكفر ، فيقتل الذكر وتضرب الأنثى وتحبس ، وأكل مال اليتيم إلا بجهة الشرع ، كما قال الله تعالى : {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (الأنعام : 152) ، وأما ما أخذه قضاة الزمان حقاً للقسمة ، فأصله مشروع إذا لم يعين له من بيت المال حق وكميته مشكلة وعقوق الوالدين المسلمين إذا كان مؤدياً إلى إضاعة الحقوق ، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وأما إذا كانا كافرين قال الله تعالى في حقهما : {وَإِن جَـاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} (العنكبوت : 8) ، والإلحاد في الحرم ؛ أي : الذنب فيه ، ولو صغيرة ، فالكبيرة فيه كبيرتان.
وقيل : الإلحاد فيه مع الناس عن عمارته ، ومن عمارته الحج ، فالأعراب الذين يقطعون طريق الحجاج في هذه الزمان إن استحلوا ذلك كفروا ، وإلا أثموا إثماً كبيراً ، وأكل الربا ؛ أي : الانتفاع بالربا سواء كان أكلاً أو غيره ، وإنما ذكر أكله لكونه معظم منافعه ، والسرقة ونصابها عند أبي حنيفة قدر عشرة دراهم عيناً ، أو قيمة ، وهذا نصاب السرقة في حق القطع ، وأما في حق العيب ، فأخذ ما دون عشرة يعد سرقة أيضاً شرعاً ، ويعد عيباً حتى يرد العبد به على بائعه وشرب الخمر ، وقطع الطريق خصوصاً إذا كان مع أخذ المال ، فإنه فوق السرقة وشهادة الزور واليمين الغموس وسوء الظن بالله وحب الدنيا ولعن الرجل ، الدية سواء كان بوسط أو بغيره ، ومعنى بوسط أن يسب أبا رجل وأمه ، فيست هو أباه وأمه وأذية الرسول عليه السلام ؛ فإنها فوق عقوق الوالدين وسب الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال القهستاني : سب أحد من الصحابة ليس بكفر كما في "خزانة المفتين" وغيرها ، لكن في "مجموع النوازل" لو قال أحد : من يسب الشيخين ، أو يلعنهما رضي الله عنهما ، لم يقتص منه ؛ فإنه كافر ؛ لأن سبهما يصرف إلى سب النبي عليه السلام ، وسب الختنين ليس بكفر كما في "الخلاصة" ، وهو مشكل ؛ لأن سب أهل العلم على وجه الإهانة إذا كان كفراً ، فكيف لا يكون سب الختنين كفراً ، وسب العالم بالعلوم الدينية على وجه المزاح ، فإنه يعزر والإصرار على الصغيرة ، فإنه عليه السلام قال : "لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار".
وقد قال الإمام علاء الدين التركستاني الحنفي رحمه الله في "منظومته" : عدد الكبائر سبعون :(8/251)
فمنها : الغناء ، بالكسر والمد ، وقد يقصر ، وهو رفع الصوت بالأشعار والأبيات على نحو مخصوص.
قال الإمام الغزالي رحمه الله في "الإحياء" : واحتجوا على حرمة الغناء بما رواه أبو أمامة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال : "ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله له شيطانين على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك".
قال بعضهم : المراد به الغناء الذي يحرك من القلب ما هو مراد الشيطان من الشهوة ومحبة المخلوقين لا ما يحرك الشوق إلى الله ، ويرغب في الآخرة.
ومنها : الظلم والغيبة والتجسس والتطفيف في الكيل والوزن والكبر والعجب والحسد وترك الوفاء بالعهد والخيانة في نسوة الجيران وترك الصلاة والصوم والزكاة والحج
328
إذا كان له استطاعة.
وفي الطريق أمن ونسيان القرآن ، وكنتم الشهادة ، وقطع الرحم والسعي بين اثنين بالفساد والحلف بغير الله والسجدة لمخلوق ، فإنها كعبادة الصنم وترك الجمعة ، والجماعة ، وأن يقول لمسلم يا كافر ومصادقة الأمير الجائر ونكاح الكف.
وفي الحديث : "ناكح الكف ملعون" ، وهو من يعالج ذكره بيده حتى يدفق ، كما قال في "شرح المنار" لابن الملك.
وقال الرهاوي : لم أجده في كتب الحديث ، وإنما ذكره المشايخ في كتب الفقه ، وفي "حواشي البخاري" : والاستمناء باليد حرام بالكتاب والسنة.
قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـافِظُونَ} إلى قوله : {فأولئك هُمُ الْعَادُونَ} (المؤمنون : 7) ؛ أي : الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام.
قال ابن جريج : سألت عطاء عنه.
قال : سمعت أن قوماً يحشرون وأيديهم حبالى وأظنهم هؤلاء نعم يباح عند أبي حنيفة وأحمد ، إذا خاف على نفسه الفتنة وأراد تسكين الشهوة.
وكذلك يباح الاستمناء بيد امرأته وجاريته عند الضرورة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
ومنها : تعييب أحد من الناس والقصاص بغير عدل وترك العدل في القسم وترك الشكر في القسم واللواطة ، وإتيان المرأة في الحيض والسرور بالغلاء والخلوة بالأجنبية ، وإتيان البهيمة.
وقد كان بعض الجهال من الزهاد يفعله تسكيناً للشهوة ، ثم علم حرمته وتاب.
وفي "نوادر أبي يوسف" ويطأ بهيمة نفسه تذبح وتحرق إن لم تكن مأكولة ، وإن كانت مما يؤكل تذبح ولا تحرق ، وإن كانت لغيره تدفع إلى الفاعل على القيمة ، وتذبح وتحرق.
وقال بعضهم : تؤكل وفي الأجناس من أصحابنا من قال : تذبح وتحرق على وجه الاستحباب أما بهذا الفعل لا يحرم أكل الحيوان المأكول.
كذا في "خزانة الفتاوى".
ومنها : تصديق الكاهن ، وهو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار ومطالعة علم الغيب واللعب بالنردشير.
وفي الحديث : "من لعب الشطرنج والنردشير فكأنما غمس يده في دم الخنزير.
الشطرنج معرب (صدرنك ورنك) في الفارسية : الحيلة والنردشير اللعب المعروف بالنرد.
قال صاحب "الهداية" يكره اللعب بالنرد والشطرنج ، والأربعة عشر ، وكل لهو ؛ لأنه إن قامر بها فالميسر حرام بالنص ، وهو اسم لكل قمار ، وإن لم يقامر ، فهو عبث.
ومنها : النياحة واستباحتها وإظهار الصلاح وإخفاء الفسق وتعييب الطعام واستماع الملاهي.
وفي الحديث : "استماع صوت الملاهي معصية ، والجلوس عليها فسق ، والتلذذ بها كفر ، وهو على وجه التهديد ، ولو أمسك شيئاً من المعازف كالطنبور والمزمار ونحوهما يأثم ، وإن كان لا يستعملهما ؛ لأن إمساكهما يكون للهو عادة.
ومنها : الرقص بالرباب ونحوه ، ودخول بيت الغير بغير إذنه ، والنظر فيه ، والنظر إلى الوجه المليح عن شهوة ، فإن الصبيح في حكم النساء بل أشد ، ولذا قيل : إن مع كل امرأة شيطانين ، ومع كل غلام ثمانية عشر شيطاناً ، وكان محمد بن الحسن صبيحاً ، وكان أبو حنيفة رحمه الله يجلسه في درسه خلف ظهره ، أو خلف سارية المسجد حتى لا يقع عليه بصره مخافة من خيانة العين مع كمال تقواه.
وفي "بستان الفقيه" ، ويكره مجالسة الأحداث والصبيان والسفهاء ؛ لأنه يذهب بالمهابة ورؤي واحد في المنام بعد موته ، وقد اسود وجهه ، فسئل عن ذلك ، فقال : نظرت إلى غلام ، فاحترق وجهي في النار.
ومنها : ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسخرية وأخذ الصلة والعطاء من أهل الجور.
وقال قوم : إن صلات السلاطين تحل للغني والفقير إذا لم يتحقق أنها حرام ، وإنما التبعة على المعطي.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : إذا كان ظاهر الإنسان
329
الصلاح والستر ، فلا حرج عليك في قبول صلاته وصدقته ، ولا يلزمك البحث ، بأن تقول فسد الزمان ، فإن هذا سوء ظن بذلك الرجل المسلم.
{وَالْفَوَاحِشَ} : (وازكار هازشت).
جمع فاحشة ، وهي القبيحة أو المفرطة في القبح.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال في "القاموس" : الفاحشة الزنا ، وما يشتد قبحه من الذنوب ، فيكون عطف الفواحش على الكبائر من عطف البعض على الكل إيذاناً بكمال شناعته.
وقيل : هما واحد والعطف لتغاير الوصفين ؛ كأنه قيل : يجتنبون المعاصي ، وهي عظيمة عند الله في الوزن وقبيحة في العقل والشرع.
(8/252)
وفي "التأويلات النجمية" : كبائر الإثم حب الدنيا ومتابعة الهوى ؛ فإنها رأس كل خطيئة ومنشؤها ، والفواحش هي الاشتغال بطلب الدنيا وصرفها في اتباع الهوى.
{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} : إذا ظرفية عمل فيها يغفرون.
والجملة الاسمية : هي المعطوفة على الصلة ، وهي يجتنبون عطف اسمية على فعلية ، والتقدير : والذين يجتنبون وهم يغفرون لا أنها شرطية ، والاسمية جوابها لخلوها عن الفاء ، وما زائدة مع إذا فإنها وإن كانت تزاد مع إذا التي للشرط ، لكن في إذا الزمانية معنى الشرط ، وهو ترتب مضمون جملة على أخرى ، فتضمنت معنى حرف الشرط ، فلذلك اختير بعدها الفعل لمناسبة الفعل الشرط ، وإذا الزمانية للمستقبل ، وإن كانت داخلة على المضي كما عرف في النحو والغضب ثوران دم القلب إرادة الانتقام.
ولذلك قال عليه السلام : "اتقوا الغضب فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه".
وقوله : هم مبتدأ ويغفرون خيره.
والمغفرة هنا ، بمعنى العفو والتجاوز والحلم وكظم الغيظ.
والمعنى : وهم يعفون ويتجاوزون ويحملون ويكظمون الغيظ وقت غضبهم على أحد ويتجرعون كاسات الغضب النفسانية بأفواه القلوب الروحانية الربانية ، ويسكنون صورة الصفة الشيطانية.
وبالفارسية : (ووقتى كه خشم كيربد بر مردمان بيست رنجى وزيانى ومكروهى كه بديشان رسانند ايشان در ميكذر انندانرا وعفو ميكنند).
وفيه دلالة على أنهم الأخصاء بالمغفرة حال الغضب لعزة منالها لا يزيل الغضب أخلاقهم كسائر الناس ، وذلك ؛ لأن تقديم الفاعل المعنوي ، أو التقديم مطلقاً يفيد الاختصاص ، ثم يجوز في النظم أن يكون هم تأكيداً للفاعل في قوله : غضبوا وعلى هذا فيغفرون جواب الشرط وكذا في "الحواشي السعدية".
قال بعض الكبار في قوله : للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إشارة إلى مقام الرضا وتوحيد الأفعال ، والصفات ، فتوحيد الأفعال بإصلاح الطبيعة وتوحيد الصفات بإصلاح النفس بالاجتناب عن كبائرالإثم ، وفواحش الشرك والسيئات ، والاحتراز عن العضب ، وسائر رذائل الصفات.
قيل لبعض الأنبياء : إذا خرجت من بيتك غداً ، فكل من استقبلك أولاً واستر الثاني ، وأعرض عن الثالث ، فلما كان الغد استقبله جبل عظيم ، فقصد إلى أكله امتثالاً للأمر ، فصار تفاحة ، فأكلها فوجدها ألذ الأشياء ، ثم وجد طشتاً من ذهب ، فكلما ستره خرج ، ثم رأى مزابل ، فأعرض عنها ، فقيل : أما الجبل فالشدة والغضب ، فعند ظهورها ترى كالجبل ، فبالصبر وقصد الهضم تصير حلواً :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
تحمل نما يد جو رهرت نحست
ولى شهد كردد جودر طبع رست
وأما الطشت ، فالحسنات وحسن الحال ، فكلما قصد صاحبها إلى سترها انكشفت :
اكر مسك خالص ندارى مكوى
وكرهست خود فاش كردد بيوى
330
وأما المزابل ، فالدنيا :
جاى روح باك عليين بود
كرم باشد كش وطن سركين بود
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} : نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الإيمان ، فاستجابوا له ؛ أي : لرسول الله من صميم القلب ، كما هو المفهوم من إطلاق الاستجابة.
وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل ، فهو من عطف الخاص على العام لمزيد التشريف ، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان ، فما وجه العطف عمع عدم التغاير بين الوصفين ، ولا يلزم فيه أن تكون الآية مدنية ، فإن كثيراً منهم أسلموا بمكة قبل الهجرة.
وفي الآية إشارة إلى استجابة خطاب ارجعي إلى ربك ، فإنها استجابة مخصوصة بالنفس حاصلة لها بالسلوك.
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا} من أوصاف الأنصار أيضاً ، والمراد : الصلوات الخمس ، فإنهم يجدون أوقاتها ، وإن كان تفاوت قليل في ساعات الليل والنهار في الحرمين الشريفين على ما جربناه.
قال العلماء من الناس من لم يجد وقت المغرب والعشاء ؛ لأنه يطلع الفجر حين تغرب الشمس ، فيسقط عنهم ما لا يجدون وقته ، وهذا كما أن رجلاً إذا قطع يداه مع المرفقين أو رجلاه مع الكعبين ، ففرائض وضوئه ثلاثة لفوات محل الرابعة ، وإنما ذكر إقامة الصلاة ، ولم يذكر غيرها من العبادات ، كإيتاء الزكاة والصوم مثلاً ؛ لأنه ما بين العبد والإيمان إلا إقامة الصلاة ، كما أنه ما بينه وبين الكفر إلا ترك الصلاة ، فإذا أقام الصلاة فقد آمن وأقام الدين كما إذا تركها ، فقد كفر وهدم الدين.
وفي الحديث : "أول ما يحاسب العبد يوم القيامة بصلاته ، فإن صلحت أفلح وأنجح ، وإن فسدت ، فقد خاب وخسر".
وقال عليه السلام : "أول ما يحاسب الرجل على صلاته ، فإن كملت وإلا أكملت بالنافلة" ، ثم يأخذ الأعمال على قدر ذلك.
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} مصدر كالفتيا بمعنى التشاور وأصل : من الشور وهو الإخراج تسمى به ؛ لأن كل واحد من المتشاورين في الأمر يستخرج من صاحبه ما عنده.
والمعنى : وأمرهم ذو شورى لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه.
وبالفارسية : (كار ايشان بامشور تست ميان ايشان).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/253)
قال سعدي المفتي : فإن قلت : لا حاجة إلى إضمار المضاف لظهور صحته وشأنهم نشاور ، قلت : المصدر المضاف من صيغ العموم ، فيكون المعنى جميع أمورهم تشاور ولا صحة له إلا أن يقصد بالمبالغة في كثرة ملابستهم به وعلى هذا ، فيجوز أن يكون قوله : ذو شورى لبيان حاصل المعنى.
انتهى ، وكانوا قبل الهجرة ، وبعدها إذا حزبهم أمر اجتمعوا وتشاوروا ، وذلك من فرط تدبرهم وتفقههم في الأمور :
مشورت بهر آن صواب آمده
در همه كار شورت بايد
وفي "عين المعاني" : وأمرهم شورى بينهم حين سمعوا بظهوره عليه السلام ، فاجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصر له.
وقيل لها : العموم ؛ أي : لا يستبدون برأيهم فيما لا وحي فيه من أمر الدين ، بل يشاورون الفقهاء.
وقيل : في كل ما يعرض من الأمور.
انتهى.
قال علي رضي الله عنه : نعم الموازنة المشاورة وبئس الاستعداد الاستبداد.
قال حكيم : اجعل سرك إلى واحد ومشورتك إلى ألف.
وقيل : إن من بدأ بالاستخارة وثنى بالاستشارة لحقيق أن لا يضل رأيه.
قال الإسكندر : لا يستحقر الرأي الجزيل من الرجل الحقير ، فإن الدرة لا يستهان بها لهوان غائصها.
يقال : أعقل
331
الرجال لا يستغني عن مشاورة أولي الألباب ، وأفره الدواب لا يستغني عن السوط وأورع النساء لا يستغني عن الزوج.
وفي الآية إشارة إلى التمسك بذيل إرادة المشايخ في السلوك إلى الحضرة ليتسلكوا بمشاورتهم وإرشادهم لا باسترسال النفس والهوى وتلقين الشيطان ، كما قال الجنيد قدس سره : من لم يكن له أستاذ ، فأستاذه الشيطان.
{وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ} من الأموال {يُنفِقُونَ} ؛ أي : في سبيل الخير ولا التفات إلى إنفاق الكافر ؛ فإنه لم يستجب لربه بالإيمان والطاعة ، فخيره محبط بكفره ولعل فصله عن قرينه بذكر المشاورة لوقوعها عند اجتماعهم للصلوات كما في "الإرشاد".
وقال سعدي المفتي : ثم إن إدخال هذه الجملة في مرهم العين ، لعله لمزيد الاهتمام بشأن التشاور للمبادرة إلى التنبيه على أن استجابتهم للإيمان كانت عن بصيرة ورأي سديد.
انتهى.
وفي الآية دلالة على فضيلة الإنفاق والتوكل على الغني الخلاق.
حكي : أن بعض الشيوخ أخذه الناس ليشهدوا عند سلطان المغرب بفسقه وبكونه واجب القتل ، فمر الشيخ في الطريق بخباز ، فاستقرض منه نصف خبز فتصدق به ، فلما حضر وافى الديوان شهدوا له بالخير ، ولم يقدروا على خلافه ، وذلك ببركة الصدقة ، كما قال عليه السلام : اتقوا النار ، ولو بشق تمرة ، فإذا كان نصف تمرة وقاية من النار الكبرى ، فكيف لا يكون نصف خبر وقاية من النار الصغرى رسول الله.
(فرموده كه است كه صدقة نهاني خشم حق رابنشاند ودر موقف قيامت صدقة راساية است كه از حرارت آفتاب آن روزنكاه داردو دوساية صدقة خود آسوده باشد تاحكم خلق بآخر رسد).
قال الصائب :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
زمان خويش بإحسان تمتعى بردار
مشو جو كنج بنامى جوازدها قانع
سئل الشبلي قدس سره عن الزكاة ، فقال : أما عليك ففي عشرين درهماً ، خمسة دراهم وأما علي ففي عشرين درهماً عشرون درهماً ، يعني : أن مذهب الصوفية بذل الكل ، والتوجه من الأسباب إلى المسبب ، فقال : هذا مذهب من؟ فقال : مذهب أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وذلك أن الصديق رضي الله عنه أنفق جميع ماله للتجرد والخلاص من الشح ، ولم يبق له شيء يتستر به ، فأرسلت إليه فاطمة رضي الله عنها خرقة فتستر بها ، وعزم إلى مجلس النبي عليه السلام ، فنزل جبرائيل عليه السلام على زي أبي بكر ، فسأله النبي ، فقال : "إن ملائكة السماء كلهم على هذا الزي اتباعاً لأبي بكر" ، ثم قال : "إن الله تعالى يسلم عليك ، ويقول : قل لأبي بكر رضي الله عنه هل رضي مني؟ فقد رضيت عنه" ، وعلم منه أن ترك الدنيا وسيلة إلى رضا الله تعالى.
كما أن ترك ما سوى الله موصل إلى الله ، ثم إن الإنفاق لا ينحصر في المال ، بل يتناول كل بر ومعروف ، كما قال عليه السلام : "كل معروف صدقة" ، والمراد : ما عرف فيه رضي الله تعالى من الأموال والأقوال والأفعال ، وإنفاق الواصلين إلى التوحيد والمعرفة أشرف وأفضل ؛ لأن نفع الأموال للأجساد ، ونفع المعارف للقلب والأرواح.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
در كشف الأسرار فرموده كه أبو بكر شبلي بيش ازانكه قدم دركوى طريقت نهاد بيش از ايشان ببغداد مير سيد عادت داشت كه دزديده بمجلس جنيد رفتى روزى برزبان جنيد برفت كه اكر همه بت برستان وناكسان عالم رابفردوس أعلى فرود آرد هوز حق سبحانه وتعالى كرم خود رانكزارده باشد شبلي ازجاى برجست
332
(8/254)
نعره زنان وجامه درآن كفت منم ازنا كسان جه كويى مرابذيرد درين حال جنيد كفت اى جوان بمراسلت موسى وهارون جندين سال فرعون مدبر راميخواندند تابيذيرد اكر سوخته موحد كه به باى خود آيد أوراجون نبذير دشبلي دركار آمد وهرجه داشت از ضياع وأثواب وأموال جمله درباخت ومجرد ماندانكه كفت اى شيخ مراجه بايد كرد كفت دربازار بايد شد ودريوزه بايد كرد همجنان كرد تاجنان كشت كه كس بوى خبرى ندارد بس جنيد تازيانه بوى داد وكفت درين سردابة شودرد راباندوه وخشم باب حسرت سبار وهركاه كه خبر حق بر خاطر كذر كند باين تازيانه اندامهاى خويش درهم شكن شبلي سه سال دران سردابه آب حسرت ازديدكان خمى ريخت وبروز كار كذشته دريغ وتحسر همى خورد بعد ازسه سار سكرى دروى بديد آمد همجو مستان واله وسر كردان ازان سردابه برون آمد كاردى بدست كرفت ودر بغداد همى كشت وميكفت بجلال قدر حق كه هركه نام دوست بردباين كارد سرش ازتن جدا كنم آن خبر بجنيد رسيد جنيد كفت اورا شربتى داده اند مست كشته ازمستى وبيخودى ميكويد آنجه ميكويد جون باخود آيدسا كن شود يكسال دران مقامش بداشتند جون ازان مقام در كذشت دامن خويش بزار شكر كرده بكرد محلها ميكشت وميكفت هركه بكويد الله وهانش براز شكر كنم بس عشق وى روى درخر أبى نهاد بيوسته درهمه اوقات همى كفت الله تاروزى كه جنيد كفت يا أبا بكر اكرودست غايبست اين غيب كردن جراست واكر حاضراست اين كستاخى وترك أدب از كجاست سخن جنيد أورا ساكن كرد بس جنيد بفرمود تا أورا بحمام بردند وموى جند ساله از سروى فرو كردند آنكه وست وى عرفت وبمسجد شونيزيه برد هشتاد از جوا نمردان طريقت وسلاطين حقيقت حاضر بودند جون أبو الحسين نورى وابو علي رود بارى وسمنون المحب ورويم بغدادي وجعفر خلدى وامثال ايشان جنيد كفت اي مشايخ وأصحاب هرجه بير سرى سقطى از رياضت ومجاهده ازمابديد ما ازين كودك بديديم اكر اجازت فرماييد بالباس بكرداند باشدكه بركات اين لباس اورا بر استقامت دين بداردو اكر حق اين لباس فرو نهد لباس خود ازوى دادخود يستاند جنيد برباى خاست ومرقع از سر خود بركشيد ودر كردن شبلي افكند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
يقول الفقير : في هذه الحكاية إشارات :
منها : أن الشبلي قدس سره خرج من جميع ماله ، فصار نظير الصديق رضي الله عنه من هذه الأمة :
صائب حريف سيلى باد خزان نه
بيش از خران خود بفشان برك وباررا
ومنها : أن الجنيد قدس سره : اتفق على الشبلي من معارفه وأنعم عليه حال إرشاده من عوارفه ؛ لأن الغنى مأمور بإنفاق بعض ماله عند وجدان مصارفه.
قال الحافظ :
اي صاحب كرامت شكرانه سلامت
روزى تفقدى كن درويش بى نوارا
ومنها : أن المريد لا يصلح لخرقة المشايخ إلا بعد الاستعداد لها بمدة ، وأن الخرقة من شأن أهل التجرد.
قال الجامي :
333
ر صلش مجوى در اطلس شاهى كه دوخت عشق
اين جامه برتنى كه نهان زيرزنده بود
ومنها : أن ابتداء الأمر من الله وانتهاءه أيضاً إلى الله ألا إلى الله تصير الأمور ، والله خير وأبقى :
جند بويد بهواى تو بهر سو حافظ
يسر الله طريقاً بك يا ملتمسي
{وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} معطوف على ما قبله من الموصول والإصابة.
بالفارسية : (برسيدن).
والبغي : الظلم والتجاوز عن الحد والقصر المفهوم من تقديم هم إضافي والانتصار طلب النصرة.
وفي "تاج المصادر" : (دادستدن).
والمعنى : إذا وصل إليهم الظلم والتعدي من ظالم متعد ينتقمون ويقتصون ممن بغى عليهم على الوجه الذي جعله الله ، ورخصة لهم لا يتجاوزون ذلك الحد المعين ، وهو رعاية المماثلة ، وأما غيرهم ، فليسوا كذلك ، فهذا هو معنى التخصيص هنا.
وبه أيضاً تندفع المخالفة بين وصفين كل منهما على طريق القصر ، وهذا وصف لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر أمهات الفضائل من الدين ، والتيقظ والحلم والسخاء.
وذلك لأن البغي إنما يصيبهم من أهل الشوكة والغلبة ، وإذا انتقموا منهم على الحد المشروع كراهة التذلل باجتراء الفساق عليهم وردعاً للجاني عن الجراءة على الضعفاء ، فقد ثبت شجاعتهم وصلابتهم في دين الله.
وكان النخعي رحمه الله إذا قرأ هذه الآية يقول : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترىء عليهم السفهاء.
قال الشاعر : ()
ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان غير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته
وذا يشج فلا يرثي له أحد
أي : لا يبصر على ظلم يراد في حقه إلا الأذلان اللذان هما في غاية الذل ، وهما : الحمار المربوط على الذل بقطعة حبل بالية ، والوتد الذي يدق ويشق رأسه ، فلا يرحم له أحد ، ولفظ البيت خبر.
والمعنى : نهي عن الصبر على الظلم وتحذير وتنفير للسامعين عنه ، فإن قلت : لما كان عطف الذين استجابوا من عطف الخاص تضمن وصف المعطوف عليه ، وصف المعطوف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/255)
قلت : هذا الانتصار لا ينافي وصفهم بالغفران ، فإن كلاً منهما فضيلة محمودة في موقع نفسه ورزيلة مذمومة في موقع صاحبه ، فإن الحلم عن العاجز وعورات الكرام محمود ، وعن المتغلب وهفوات اللئام مذموم ، فإنه إغراء على البغي ، وعليه قول من قال () :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فوضع الندا في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندا
فالعفو على قسمين :
أحدهما : أن يصير العفو سبباً لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عن بغايته فآيات العفو محمولة على هذا القسم ، فزال التناقض ، فمن أخذ حقه من ظالم غير عاد لأمر الله ، فهو مطيع.
وقال ابن زيد وبعض المالكية : جعل الله المؤمنين صنفين صنفاً يعفون عن ظالميهم ، فبدأ بذكرهم في قوله : وإذا ما غضبوا هم يغفرون وصنفاً ينتصرون من ظالميهم.
وقال بعضهم : اوول وصف الخواص.
وهذا وصف العوام.
وقال الكاشفي : (جون برسد ايشانرا ستمى از كافران ايشان از دشمنان خود انصاف بستانند بشمشير يعني از ايشان انتقام كشند زيرا كه انتقام از كفار فرض است وجهاد كردن با ايشان لازم).
وأشارت الآية إلى
334
أن الظالم مغلوب قال علي كرم الله وجهه : لا ظفر مع البغي.
هركه ازراه بغى خيرى جست
بس جنانست آن ظفر كه بتافت
{وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ} (وباداش كرداريد) {سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} كراداريست مانند آن.
وهو بيان لوجه كون الانتصار من الخصال الحميدة مع كونه في نفسه إساءة إلى الغير بالإشارة إلى أن البادي هو الذي فعله لنفسه ، فإن الأفعال مستتبعة لأجزيتها حتماً إن خيراف فخير وإن شراً فشر.
وفيه تنبيه على حرمة التعدي وإطلاق السيئة على الثانية مع أنها جزاء مشروع مأذون فيه ، وكل مأذون حسن لا سيء ، لأنها تسوء من نزلت به ، أو للازدواج.
يعني : المشاكلة كما في قوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} ، وعلى هذا فالسيئة مقابل الحسنة بخلافها في الوجه الأول.
والمعنى : أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة.
قال الحسن : إذا قال : لعنك الله أو أخزاك الله ، فلك أن تقول : أخزاك الله أو لعنك الله ، وإذا شتمك ، فلك أن تشتمه بما شتم ما لم يكن فيه حد ، كلفظ الزنا ، أو كلمة لا تصلح ، فلا تجري المقابلة في الكذب والبهتان.
قال في التنوير : قال لآخر : يا زاني ، فقال له الآخر : لا بل أنت الزاني حداً بخلاف ما لو قال له مثلاً : يا خبيث ، فقال : أنت تكافئا ولو لم يجب ، بل رفع الأمر إلى القاضي ليؤدبه جاز.
وعن بعض الفقهاء في هذه الآية.
وقد قيل : إنه الشافعي رحمه الله أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل من غير علمه ، واستشهد في ذلك بقول النبي عليه السلام : "لهند زوجة أبي سفيان : خذي من ماله ما يكفيك وولدك" ، فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه.
كذا ذكره القرطبي في "تفسيره".
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{فَمَنْ عَفَا} عن المسيىء إليه جنايته ، أي : ترك القصاص.
وقال الكاشفي : (بس هركه عفو كند از ستكار خودكه مسلمان باشد وترك انتقام نمايد ازوى).
{وَأَصْلَحَ} بينه وبين من يعاديه بالعفو والإغضاء.
قال في "الحواشي السعدية" : الفاء للتفريع ، أي : إذا كان الواجب في الجزاء رعاية المماثلة من غير زيادة ، وهي عسرة جداً ، فالأولى العفو إلا عزاً.
{فَأَجْرُه عَلَى اللَّهِ} عدة مبهمة منبئة عن عظمة شأن الموعود وخروجه عن الحد المعهود {إِنَّه لا يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ} البادئين بالسيئة والمتعدين في الانتقام ، وهو استئناف تعليلي متعلق بقوله وجزاء.
إلخ.
وقوله : فمن عفا إلخ.
اعتراض يعني : إنما شرعت المجازاة وشرطت المساواة ، لأنه لا يحب الظالمين وذكر أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلّم ورجل من المنافقين يسبه وأبو بكر لم يجبه ورسول الله ساكت يتبسم ، فأجابه أبو بكر ، فقام النبي عليه السلام ، وذهب ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ما دام يسبني كنت جالساً ، فلما أجبته قمت ، فقال النبي عليه السلام : "إن ملكاً كان يجيبه عنك ، فلما أجبته ذهب الملك وجاء الشيطان ، وأنا لا أكون في مجلس يكون هناك الشيطان ، فنزل فمن عفا وأصلح فأجره على الله".
وفي الحديث : "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين العافون عن الناس هلموا إلى ربكم وخذوا أجوركم وحق لكل مسلم إذا عفا أن يدخله الجنة".
عفو از كناه سيرث اهل فتوتست
بي حلم وعفو كار فتون نمام نيست
335
وعنه عليه السلام : "إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى منادٍ : أين أهل الفضل ، فيقوم ناس وهم قليلون فينطلقون سراعاً إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة ، فيقولون : إنا نراكم سراعاً إلى الجنة ، فمن أنتم؟ فيقولون : نحن أهل الفضل ، فيقولون لهم : ادخلوا الجنة ، فنعم أجر العاملين".
(8/256)
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن أرباب القلوب الذين أصابهم الظلم من قبل أنفسهم هم ينتصرون من الظالم ، وهو نفسهم بكبح عنانها عن الركض في ميدان المخالفة وجزاء سيئة صدرت من النفس من قبل الحرص والشهوة أو الغضب أو البخل ، أو الجبن أو الحسد أو الكبر أو الغل.
سيئة تصدر من القلب مثل ما يصادف علاجها ، أي : بضد تلك الأوصاف ، فإن العلاج بأضداد هاو لا يجاوز عن حد المعالجة في رياضة النفس وجهادها ، فإن لنفسك عليك حقاً ، فمن عفا عن المبالغة في رياضة النفس وجهادها بعد أن أصلح النفس بعلاج أضداد أوصافها فأجره على الله تعالى ، أنه لا يحب الظالمين الذين يضعون شدة الرياضة مع النفس موضع العفو.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} اللام لام الابتداء.
ومن شرطية لدخول الفاء في جوابها ، وهو فأولئك أو موصولة.
ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط.
وقوله بعد ظلمه من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : بعد ما ظلم وقرىء به وتذكير الضميرين باعتبار لفظ من.
والمعنى : ولمن انتقم بعد ظلم الظالم إياه يعني في الحقوق المالية.
والجزاء فيما إذا ظفر بالجنس عندنا وعند الشافعي بغير الجنس أيضاً.
فأولئك المنتصرون ، فهو إشارة إلى من والجمع باعتبار المعنى.
{مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} بالمعاتبة أو المعاقبة ، لأنهم فعلوا ما أبيح لهم من الانتصار.
(يا ايشانرا كناهى نيست).
والسبيل : الطريق الذي فيه سهولة.
والآية دفع لما تضمنه السياق من إشعار سد باب الانتصار {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} ، أي : يبتدؤنهم بالإضرار أو يعتدون في الانتقام {وَيَبْغُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، أي : يتكبرون فيها تجبراً وإفساداً.
{أُوالَـائِكَ} الموصوفون بما ذكر من الظلم والبغي بغير الحق.
{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بسبب ظلمهم وبغيهم.
{وَلَمَن صَبَرَ} على الأذى واللام للابتداء.
ومن موصولة مبتدأ {وَغَفَرَ} لمن ظلمه ، ولم ينتصر ، وفوض أمره إلى الله تعالى وعن علي رضي الله عنه الجزع أتعب من الصبر :
در حوادث بصبر كوش كه صبر
برضاى خداى مقرونست
{إِنَّ ذَالِكَ} منه لأنه لا بد من العائد إلى المبتدأ ، فحذف ثقة بغاية ظهوره كما في قوله : السمن منوان بدرهم.
وفي "حواشي سعدي المفتي" قد يقال : لا حاجة إلى تقدير الراجح ، لأن ذلك إشارة إلى صبره لا إلى مطلق الصبر ، فهو متضمن للضمير فإن قلت : إن دلالة الفعل إنما هي على الزمان ، ومطلق الحدث ، كما قرر فالظاهر رجوع الضمير إليه ، قلت : نعم ، ولكن إسناده إلى ضمير من يفيده.
{لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ} ، أي : من معزومات الأمور ، أي : مما يجب العزم عليه من الأمور بإيجاب العبد على نفسه لكونه من الأمور المحمودة عند الله تعالى.
والعزم عند القلب على إمضاء الأمر.
والعزيمة الرأي الج.
كما في المفردات ، وبالفارسية (ازمهم ترين كارها اسب واين).
336
في الحقيقة : (ازكار مردانست كه همه كس راقوت اين نباشدكه جفا كشد ووفاكند).
قال الحافظ :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
جفا خوريم وملامت كشيم وخوش باشيم
كه در طريقت ما كافريست رنجيدن
قال في "برهان القرآن" : قوله تعالى : {إِنَّ ذَالِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ} (الشورى : 43).
وفي لقمان : {مِنْ عَزْمِ الامُورِ} (لقمان : 7) ؛ لأن الصبر على الوجهين صبر على مكروه وينال الإنسان ظلماً ، فمن قتل بعض أعزته وصبر على المكروه ليس كمن مات بعض أعزته ، فالصبر على الأول أشد.
والعزم عليه أوكد ، وكان ما في هذه السورة من الجنس الأول لقوله : ولمن صبر وغفر ، فأكد الخبر باللام.
والآية في المواد التي لا يؤدي العفو فيها إلى الشر ، كما أشير إليه ، فإن العفو مندوب إليه ، ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال ، فيرجع ترك العفو مندوباً إليه ، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي ، وقطع مادة الأذى.
يحكى : أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن رحمه الله ، فكان المسبوب يكظم ويعرق فيسمح العرق ، ثم قام فتلا هذه الآية ، فقال الحسن : عقلها والله وفهمهما إذ ضيعها الجاهلون.
قال أبو سعيد القرشي رحمه الله : الصبر على المكاره من علامات الانتباه ، فمن صبر على مكروه يصيبه ، ولم يجزع أورثه الله تعالى حالة الرضا ، وهو أجل الأحوال ، ومن جزع من المصائب وشكاها وكله الله إلى نفسه ، ثم لم ينفعه شكواه.
(8/257)
وقال بعضهم : من صبر في البلوى من غير شكوى ، وعفا بالتجاوز عن الخصم ، فلا يبقى لنفسه عليه دعوى ، بل يبرأ خصمه من جهة ما عليه من كل دعوى في الدنيا والعقبى أن ذلك لمن عزم الأمور.
وروي : أن أزواج النبي عليه السلام : اجتمعن ، فأرسلن فاطمة رضي الله عنها إليه يطلبن منه أن يحبهن كعائشة ، فدخلت عليه ، وهو مع عائشة في مرطها ، وهو بالكسر كساء من صوف أوخز ، فقالت : ما قلن رضي الله عنهن ، فقال عليه السلام لفاطمة : "أتحبينني" فقالت : نعم.
قال : فأحبيها ؛ أي : عائشة ، فرجعت إليهن ، فأخبرتهن بما قال لها ؛ أي : لفاطمة ، فقلن : لم تصنعي شيئاً ، فأردن أن يرسلنها ثانياً ، فلم ترض فأرسلن زينب بنت جحش رضي الله عنها ، وكانت أزهد أزواجه ، حتى قالت عائشة في حقها : لم أر قط امرأة خيراً في الدين من زينب ، وكان لها منزلة عنده عليه السلام تضاهي منزلة عائشة ، فقالت : إن نساءك يسألنك العدل في بنت ابن أبي قحافة ، يعني : يسألنك التسوية بينهن وبين عائشة في المحبة ، ثم أقبلت على عائشة فشتمتها ، فلما استطالت عليها استقبلتها عائشة وعارضتها بالمدافعة حتى قهرتها وأسكتها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي "الكشاف" : إن زينب أسمعت بحضرته ، وكان ينهاها فلا تنتهي ، فقال لعائشة دونك ، فانتصري ؛ أي : تقدمي واقربي فانتقمي من زينب ، فأفحمتها ، فقال عليه السلام : "إنها ابنة أبي بكر" إشارة إلى كمال فهمها وحسن منطقها.
قال ابن الملك : وفي الحديث دلالة على جواز الانتقام بالحق لكن العفو أفضل لقوله تعالى : {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُه عَلَى اللَّهِ} (الشورى : 40).
قال الصائب :
درجنك ميكندلب خاموش كارتيغ
دادن جواب مردم نادان جه لازمست
{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} يخلق فيه الضلالة من الهوى أو بتركه على ما كان عليه من ظلم الناس.
{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَالِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ * وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن وَلِىٍّ مِّنا بَعْدِه وَتَرَى الظَّـالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاـاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَـاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن} .
{فَمَا لَه مِن وَلِىٍّ مِّنا بَعْدِهِ} من ناصر يتولاه من بعد خذلانه تعالى إياه.
وبالفارسية : (وهركرا كمراه سازد خداى تعالى بس نيست مراورا هيج دوستى كه كار سازى كنديس از فرو كذشتن خداى تعالى مراورا).
{وَتَرَى الظَّـالِمِينَ} : الخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية البصرية والظالمون المشركون والعاصون.
{لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} ؛ أي : حين يرونه وصيغة الماضي للدلالة على التحقق.
{يَقُولُونَ} .
337
إلخ.
في موضع الحال من الظالمين ؛ لأن الرؤية بصرية.
{هَلْ} : (آيا هست).
{إِلَى مَرَدٍّ} : بمعنى الرد ؛ أي : الرجعة إلى الدنيا.
{مِّن سَبِيلٍ} : (هيج راهى يا جادة تابرويم وتدارك ما فات كنيم ازايمان وعمال صالح).
وقد سبق بيانه في قوله في {حم} المؤمن ، فهل إلى خروج من سبيل.
{وَتَرَاـاهُمْ} تبصرهم أيها الرائي حال كونهم.
{يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} ؛ أي : على النار المدلول عليها بالعذاب.
وقد سبق معنى العرض في {حم} المؤمن عند قوله : النار يعرضون عليها.
{خَـاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} من للتعليل متعلق بخاشعين ؛ أي : حال كونهم خاضعين حقيرين بسبب ما لحقهم من الذل والهوان.
وقد يعلق من الذل بينظرون ويوقف على خاشعين.
{يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ} : الطرف مصدر في الأصل ، ولهذا لم يجمع ، وهو تحريك الجفن وعبر به عن النظر إذ كان تحريك الجفن يلازم النظر ، كما في "المفردات".
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
والمعنى : حال كونهم يبتدىء نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم ضعيف.
يعني : يسارقون النظر إلى النار خوفاً منها ، وذلة في أنفسهم ، كما ينظرون إلى المقتول إلى السيف ، فلا يقدر أن يملأ عينيه منه ، وهكذا نظر الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها ، كما يفعل في نظره إلى المحاب.
وقال الكلبي : ينظرون بأبصار قلوبهم ، ولا ينظرون بأبصار ظواهرهم ؛ لأنهم يسحبون على وجوههم ، أو لأنهم يحشرون عمياً ، فينظرون كنظر الأعمى إذا خاف حساً.
يقول الفقير : لا حاجة إلى حمل الآية على ما ذكر من الوجهين ؛ لأن لهم يوم القيامة أحوالاً شتى بحسب المواطن ، فكل من النظر والسحب والحشر أعمى ثابت صحيح.
وفي الآية إشارة إلى أن النفوس التي لم تقبل الصلاح بالعلاج في الدنيا تتمنى الرجوع إلى الدنيا يوم القيامة لتقبل الصلاح بعلاج الرياضات الشرعية والمجاهدات الطريقية ، وتخشع إذ لم تخشع في الدنيا من القهار ، فلا تنفعها ندامة ، ولا تسمع منها دعوة ، ولها نظر من طرف خفي من خجالة المؤمنين ، إذ يعيرونها بما ذكروها ، فلم تسمع ، وهي نفوس الظالمين.
كما قال السعدي :
تراخود بماند سراز تنك بيش
كه كردت برآيد عملهاى خويش
برادرز كار بدان شرم دار
كه درروى نيكان شوى سرمسار
(8/258)
{وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} ، وجاهدوا في الله تعالى حق جهاده وربحوا على ربهم.
{إِنَّ الْخَـاسِرِينَ} ؛ أي : المتصفين بحقيقة الخسران ، وهو انتقاص رأس المال ، وينسب إلى الإنسان ، فيقال : خسر فلان وإلى الفعل ، فيقال : خسرت تجارته ويستعمل ذلك في القنيات الخارجة كالمال ، والجاه في الدنيا ، وهو الأكثر.
وفي "القنيات النفيسة" كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب ، وهو الذي جعله الله الخسران المبين ، وكل خسران ذكره الله في القرآن ، فهو على هذا المعنى الأخير دون الخسران المتعلق بالقنيات الدنيوية والتجارات البشرية وخبر إن قوله تعالى : {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} : (آنانندكه زيان كردند بنفسهاى خويش وكسان خود).
بالتعريض للعذاب الخالد.
{يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} : أما ظرف لخسروا ، والقول في الدنيا أو لقال ؛ أي : يقولون لهم حين يرونهم على تلك الحالة وصيغة الماضي للدلالة على تحققه.
وقال الكاشفي : (زيان در نفسها آنست آنرا بعبادت بتان مستوجب آتش دوزخ كردا انيدند وزمان زيان در اهالي اكرد وزخى اندباكه نكه ايشانرا از ايمان بازدا اشتندو اكر بهشى اندبانكه ازديد از ايشان محروم ماندند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال ابن الملك في "شرح المشارق" : الأهل
338
يفسر بالأزواج والأولاد ، وبالعبيد والإماء وبالأرقارب وبالأصحاب وبالمجموع.
وفي "التأويلات النجمية" : إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم بإبطال استعدادهم إذ صرفوه في طلب الدنيا وزخارفها والالتذاذ بها وخسروا أهليهم إذ لم يقوا أنفسهم وأهليهم ناراً بقبول الإيمان وأداء الشرائع.
{إِلا} : (بدانيد).
{إِنَّ الظَّـالِمِينَ} ؛ أي : المشركين الذين كانوا في جهنم شهوات النفس جثياً في الدنيا.
{فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ} في الآخرة إلى الأبد.
وبالفارسية : (در عذابي بيوسته اند يعني باقى وبي انقطاع).
أما من تمام كلامهم أو تصديق من الله لهم.
{وَتَرَاـاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَـاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّا وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ الْخَـاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِا أَلا إِنَّ الظَّـالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّه وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَه مِنَ اللَّه مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَـاـاِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلَـاغُا وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الانسَـانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الانسَـانَ كَفُورٌ} .
{وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم} بدفع العذاب عنهم.
{مِّن دُونِ اللَّهِ} حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا.
{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} : (وهر كرا كمراه سازد خداى تعالى).
{فَمَا لَه مِن سَبِيلٍ} يؤدي سلوكه إلى النجاة.
وفي "التأويلات النجمية" : ومن يضلل الله بأن يشغله بغيره فما له من سبيل يصل به إلى الله تعالى.
قال ذو النون المصري قدس سره : رأيت جارية في جبل أنطاكية ، فقالت لي : ألست ذا النون؟.
قلت : كيف عرفت.
قالت : عرفتك بمعرفة الحبيب ، ثم قالت : ما السخاء؟ ، قلت : البذل والعطاء ، قالت : ذاك سخاء الدنيا فما سخاء الدين ، قلت : المسارعة إلى طاعة رب العالمين.
قالت : تريد شيئاً ، قلت : نعم.
قالت : تأخذ العشرة بواحدة لقوله تعالى : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام : 160) ، فأين السخاء؟ قلت : فما السخاء عندك؟.
قالت : إنما هو أن يطلع على قلبك ، فلا يرى فيه غيره.
ويحك يا ذا النون ، إني أريد أن أسأل شيئاً منذ عشرين سنة وأستحيي منه مخافة أن أكون كأجير السوء إذا عمل طلب الأجرة ، فلا تعمل إلا تعظيماً لهيبته ، فعلم أن إخراج الغير من القلب والاشتغال بالله تعالى من أوصاف الخواص ، فمن اهتدى به ربح ، ومن ضل عنه خسر ، وهو بيد الله تعالى ، إذ هو الولي ، فعلى العبد أن يسأل الهداية ، ويطلب الغاية حتى يخرجه الله من ظلمات نفسه الأمارة إلى أنوار تجليات الروحانية ، ويجعل له إليه سبيلاً ينجو به من المهالك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
حكي : أن شيخاً حج مع شاب ، فلما أحرم ، قال : لبيك ، فقيل له : لا لبيك ، فقال الشاب للشيخ : ألا تسمع هذا الجواب ، فقال : كنت أسمع هذا الجواب منذ سبعين سنة.
قال : فلأي شيء تتعب ، فبكى الشيخ ، فقال : فإلى أي باب ألتجىء ، فقيل له : قد قبلناك.
فهذا من هداية الله الخاصة ، فافهم جداً.
قال الصاحب :
بنو ميدى مده تن كرجه دركام نهنك افتى
كه دارد دردل كرداب بحر عشق ساحلها
(8/259)
{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم} إذ دعاكم إلى الإيمان على لسان نبيه عليه السلام.
{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَه مِنَ اللَّهِ} ؛ أي : لا يرده الله بعدما حكم به على أن من صلة مرد ؛ أي : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يمكن رده.
وفي تعليق الأمر بالاستجابة اسم الرب ، ونفي المراد والإتيان بالاسم الجامع نكتة لا تخفى كما في "حواشي سعدي المفتي".
{مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَـاـاِذٍ} ؛ أي : مفر تلتجئون إليه ؛ أي : ما لكم مخلص ما من العذاب على ما دل عليه تأكيد النفي بمن استغراقية ، والملجأ.
بالفارسية : (بناه وكريز كاه).
{وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} ؛ أي : إنكار ما لما اقترفتموه ؛ لأنه مدون في صحائف أعمالكم وتشهد عليكم جوارحكم ، وهو مصدر أنكر على خلاف.
ولعل المراد : الإنكار المنجي وإلا فهم يقولون : والله ربنا ما كنا مشركين.
وغير ذلك ، ولذلك تشهد عليهم أعضاؤهم.
قال الجنيد قدس سره : استجابة الحق ، لمن يستمع هواتفه وأوامره وخطابه فيتحقق له الإجابة بذلك السماع ، ومن يستمع الهواتف كيف يجيب ، وأتى له محل الجواب.
وفي "التأويلات النجمية" :
339
يشير بقوله : استجيبوا لربكم للعوام إلى الوفاء بعهده ، والقيام بحقه والرجوع عن مخالفته إلى موافقته ، وللخواص إلى الاستسلام للأحكام الأزلية والإعراض عن الدنيا وزينتها وشهواتها إجابة لقوله تعالى : {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَـامِ} (يونس : 25) ، ولأخص الخواص من أهل المحبة إلى صدق الطلب بالإعراض عن الدارين متوجهاً لحضرة الجلال ببذل الوجود في نيل الوصول والوصال مجيباً لقوله : {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} (الأحزاب : 46) ، والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوح ، وعن قريب سيغلق الباب على القلوب بغتة ، ويأخذ فلتة.
وذلك قوله تعالى : من قبل أن يأتي.
إلخ.
ونعم ما قال الشاعر :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
تمتع من شميم عرار نجد
فما بعد العشية من عرار
أي : استمتع بشم عرار نجد ، وهي وردة ناعمة صفراء طيبة الرائحة ، فإنا نعدمه إذا أمسينا لخروجنا من أرض نجد ومنابته ، فالإشارة إلى شم عرار الحقيقة ، فإنه إنما يكون ما دام الروح الإنساني في نجد الوجود الشهودي وحده ، فإن انتقل منه إلى حدّ البرزخ بزوال شمس الحياة والانتهاء إلى عشية العمر ، فلا يمكن شمه أصلاً.
جون بى خبران دامن فرصت مده ازدست
تاهست بروبال زعالم سفرى كن
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} ، تلوين للكلام وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة ، وتوجيه له إلى الرسول عليه السلام ؛ أي : فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه ، فما أرسلناك رقيباً ومحاسباً عليهم ، وحافظاً لأعمالهم.
وبالفارسية : (نكهبانى كه از عمل بد ايشانرا نكاه دارى).
وفيه تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
{إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلَـاغُ} ؛ أي : ما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة ، وقد فعلت فلا يهمنك إعراضهم.
وفي "التأويلات النجمية" : فإن أعرضوا عن الله بالإقبال على الدارين ، ولم يجيبوا ، فما أرسلناك عليهم حفيظاً من الالتفات إلى الدارين ؛ لأن الحفظ من شأني لا من شأنك ، فإني حفيظ ، فليس عليك إلا تبليغ الرسالة ، ثم نحن نعلم بما نعاملهم بالتوفيق ، أو بالخذلان.
قال الغزالي رحمه الله في شرح الأسماء : الحفيظ من العباد من يحفظ جوارحه وقلبه ويحفظ دينه من سطوة الغضب وخلابة الشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان ، فإنه على شفا جرف هار ، وقد اكتنفته هذه المهلكات المفضية إلى النار.
وقد عرف كلها من لسان الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم ، فليسارع العبد إلى دفع الموبقات ، وجلب المنجيات بإصلاح النفس والتخلق بالأخلاق الإلهية ، فإن النفس طاغية مؤدية إلى الإفلاس والخسار.
وفي الحديث : "أتدرون من المفلس؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع".
قال عليه السلام : "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا ، أو سفك دم هذا وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، فإن فنيت حسنانه قبل أن يقضي أخذ من خطاياهم وطرحت عليه ثم يطرح في النار" ، فلا ينبغي للعاقل أن يبقى مع النفس ، فإنه إذا نزل عليه العذاب غضباً للنفس لا يجد ولياً يتولاه ، ولا نصيراً ينصره ولا ملجأ يفر إليه ، فهذه حال المعرضين ، وأما حال المقبلين القابلين للبلاغ والإرشاد ، فالله تعالى يحفظهم مما يخافونه يوم المعاد :
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
خجل آنكس كه رفت وكار نساخت
كوس رحلت زدند وبار نساخت
{وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الانسَـانَ مِنَّا} : (از نزديك
340
خود).
{رَحْمَةً} ؛ أي : نعمة من الصحة والغنى والأمن.
{فَرِحَ بِهَا} بطر لأجلها.
(8/260)
وقال الكاشفي : (خوش شود بدان وشادى كند).
اعلم أن نعمة الله وإن كانت في الدنيا عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر ، فلذلك سمى الإنعام بها إذاقة.
وبالفارسية : (جشانيدن).
فالإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به ووقع في العجب والكبر وظن أنه فاز بكل المنى ودخل في قصر السعادات ، ولذا ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة وإلا لاختار الباقي على الفاني ؛ لأن الفاني كالخزف مع أنه قليل ، والباقي كالذهب مع أنه كثير.
(افتد هماى دولت اكردر كمندما.
ازهمت بلند رعا ميكنيم ما).
{وَإِن تُصِبْهُمْ} ؛ أي : الإنسان ؛ لأن المراد به الجنس.
{سَيِّئَةُ} ؛ أي : بلاء من مرض وفقر وخوف مما يسوؤهم.
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بسبب ما عملت أنفسهم من كفرانهم بنعم الله وعصيانهم فيها ، وذكر الأيدي ؛ لأن أكثر الأعمال تباشر بها ، فجعل كل عمل كالصادر بالأيدي على طريق التغليب.
{فَإِنَّ الانسَـانَ كَفُورٌ} .
قال الراغب : كفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها وأعظم الكفر جحودهم الوحدانية ، أو النبوة ، أو الشريعة والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالاً ، والكفر في الدين أكثر والكفور فيهما جميعاً.
والمعنى : فإن الإنسان بليغ الكفر ينسى النعمة بالكلية ويذكر البلية ويستعظمها ، ولا يتأمل سببها ، بل يزعم أنها أصابته بغير استحقاق لها ، وإسناد هذه الخصلة إلى الجنس مع كونها من خواص المجرمين لغلبتهم فيما بين الأفراد ، يعني : أنه حكم على الجنس بحال أغلب أفراده للملابسة على المجاز العقلي وتصدير الشرطية الأولى بإذا مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة ، للتنبيه على أن إيصال النعمة محقق الوجود كثير الوقوع ، وأنه مقتضى الذات كما أن تصدير الثانية بأن وإسناد الإصابة إلى السيئة وتعليلها بأعمالهم للإيذان بندرة وقوعها ، وأنها بمعزل عن الانتظام في سلك الإرادة بالذات ، ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل على أن هذا الجنس مرسوم بكفران النعم.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
امام ابو منصور ماتريدي رحمه الله فرموده كه كفران مؤمن آنست كه ترك شكر كند).
قال بعض الكبار : (ع) : (درشكر همجو جشمه ودر صبر خاره ايم).
وعن عليّ رضي الله عنه : إذا وصلت إليكم أطراف النعمة ، فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر.
يعني : من لم يشكر النعم الحاصلة لديه الواصلة إليه حرم النعمة الغائبة منه القاصية عنه.
(جون بيابى تو نعمتى درجند.
خرد باشد جو نقطة موهوم.
شكران يافته فرومكرار.
كه زنا يافته شوى محروم).
وعنه رضي الله عنه أيضاً أقل ما يلزمكمأن لا تستعينوا بنعمه على معاصيه.
قال الحسن : إذا استوى يوماك فأنت ناقص قيل : كيف ذاك ، قال : إن الله زادك في يومك هذا نعماً فعليك أن تزداد فيه شكراً ، وقد مد الله عمر بعض الإنسان وأكثر عليه فضله كنمرود وفرعون ونحوهما إنهم لم يزدادوا كل يوم إلا كفراناً فعاملهم الله بالعدل حتى هلكوا أقبح الهلاك.
وفي الآية إشارة إلى أن من خصوصية الإنسان إذا وكله الله إلى نفسه أن لا يشكر على ما فتح الله عليه من المواهب الإلهية ، وفتوحات الغيب ، وأنواع الكرامات التي تربى بها أطفال الطريقة ليزيده الله ، بل ينظر إلى نفسه بالعجب ويفشي سره على إلحاق إراءة وسمعة ، فيغلق الله أبواب الفتوجات بعد فتحها.
341
قال الصائب :
نجام بت برست بودبه زخود برست
درقيد خود مباش وبقيد فرنك باش
ومن الله العون.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلَـاغُا وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الانسَـانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الانسَـانَ كَفُورٌ * لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُا يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَـاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا إِنَّه عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآىاِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِىَ بِإِذْنِه مَا يَشَآءُا إِنَّه عَلِىٌّ حَكِيمٌ} .
(8/261)
{مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} ؛ أي : يختص به ملك العالم كله لا يقدر أن يملكه أحد سواه ، فله التصرف فيه وقسمة النعمة ، والبلية على أهله ، وليس عليهم إلا الشكر في النعمة والصبر في البلية والرضا والتسليم للأحكام الأزلية.
وبالفارسية : (وخداير است بادشاهى آسمانها وزمينها).
{يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} مما يعلمونه ومما لا يعلمونه على أي صورة شاء.
{يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا} من الأولاد.
يعني : (مى بخشد هر كرامى خواهد دختران).
فلا يجعل معهن ذكوراً ، يعني : (بسران).
مثل ما وهب لشعيب ولوط عليهما السلام والهبة أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض والوهاب هو الله تعالى ؛ لأنه يعطي كلاً على قدر استحقاقه ، ولا يريد عوضاً ، والإناث جمع أنثى خلاف الذكر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
والجملة بدل من يخلق بدل البعض قدم الإناث ؛ لأنها أكثر لتكثير النسل ، أو لتطييب قلوب آبائهن إذ في التقديم تشريف لهن وإيناس بهن ، ولذلك جعل من مواهب الله تعالى مع ذكر اللام الانتفاعية أو الرعاية الترتيب الواقع ، أولاً في الهبة بنوع الإنسان ، فإنه تعالى وهب أولاً لآدم زوجته حواء عليهما السلام بأن ولدها منه وخلقها من قصيراه ، وهي أسفل الأضلاع ، أو آخر ضلع في الجنب كما في "القاموس".
قال في "الكواشي" : ويجوز أنهن قد من توبيخاً لمن كان يئدهن ونكرن إيماء إلى ضعفهن ليرحمن ، فيحسن إليهن.
قال في "الشرعة وشرحه" ، ويزداد فرحاً بالنبات مخالفة لأهل الجاهلية ؛ فإنهم يكرهونها بحيث يدفنونها في التراب في حال حياتها.
وفي الحديث : "من بركة المرأة تبكيرها بالبنات" ؛ أي : يكون أول ولدها بنتاً.
ألم تسمع قوله تعالى : {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا} ، الآية.
حيث بدأ بالإناث.
وفي الحديث : "من ابتلي من هذه البنات بشيء ، فأحسن إليهن ؛ أي : بالتزويج بالأكفاء ونحوه كن له ستراً من النار".
والنبي عليه السلام سماهن المجهزات المؤنسات ؛ أي : المهيأ جهازهن سماهن بها تفاؤلاً وتيمناً.
والمؤنسات للوالدين والأزواج.
وفي الحديث : "سألت الله أن يرزقني ولداً بلا مؤونة ، فرزقني البنات".
وفي الحديث القدسي خطاباً للبنت حين ولدت : "انزلي وأنا عون لأبيك".
وفي الحديث : "لا تكرهوا البنات ، فإني أبو البنات".
يقول الفقير : معناه أن كونه عليه السلام أبا البنات يكفي في عدم كراهة البنات ، إذ لا يختار الله له إلا ما هو خير ، ومن لم يرض بما اختاره له تعرض لسخط الله ، وكم ترى في هذا الزمان من السخط على البنات اقتداء بأهل الجاهلية ، ولو كان لهم أسوة حسنة في رسول الله لأحبوا ما أحبه ، وكان لهم في ذلك شرف عظيم.
{وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} من الأولاد يعني : (بسران).
ولا يكون فيهم إناث كما وهب إبراهيم عليه السلام من غير أن يكون في ذلك مدخل لأحد ومجال اعتراض :
با اختيار حق نبود اختيار ما
بانور آفتاب جه باشد شرار ما
والذكور جمع ذكر ضد الأنثى عرف الذكور للمحافظة على الفواصل ، أو لجبر التأخير.
يعني : أن الله تعالى أخرّ الذكور مع أنهم أحقاء بالتقديم ، فتدرك تأخيرهم بتعريفهم ؛ لأن في التعريف العهدي تنويهاً وتشهيراً ؛ كأنه قيل : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام الذين لا يخفون عليكم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وفي الحديث : "إن أولادكم هبة الله لكم يهب لمن يشاء إناثاً ، ويهب لمن يشاء الذكور وأموالهم لكم إن احتجتم إليها".
{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَـاثًا} .
معنى التزويج هنا : (جفت قرين كردن) ، كما في "تاج المصادر" ، والذكران جمع ذكر.
والمعنى : يقرن بين الصنفين فيهبهما جميعاً ، بأن يولد له الذكور والإناث مثل ما وهب
342
لنبينا صلى الله عليه وسلم إذ كان له من البنين ثلاثة على الصحيح : قاسم وعبد الله وإبراهيم.
ومن البنات أربع زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهن.
وقال بعضهم : معنى يزوجهم أن تلد غلاماً ، ثم جارية ، ثم غلاماً ، أو تلد ذكراً وأنثى توأمين.
{وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا} : (بى فرزندو نازاينده).
فلا تلد ولا يولد له كعيسى ويحيى عليهما السلام ، فإنهما ليسا لهما أولاد.
وأما عيسى فلم يتزوج ، وإن كان يتزوج حين نزوله في آخر الزمان ، ويكون له بنات ، وأما يحيى فقد تزوج ، ولكن لم يقرب لكونه عزيمة في شريعته وبعضهم لم يكن له أولاد ، وإن حصل له قربان النساء.
وأصل العقم : اليبس المانع من قبول الأثر.
والعقيم من النساء التي لا تقبل ماء الفحل.
(8/262)
وفي "القاموس" : العقم بالضم : هرمة تقع في الرحم ، فلا تقبل الولد ، ورجل عقيم لا يولد له ، فالعقم كما يقع صفة للمرأة يقع صفة للرجل بأن يكون في مائه ما يمنع العلوق من الأعذار ، وتغيير العاطف في الثالث ؛ لأنه قسيم المشترك بين القسمين ، وهو أي المشترك بينهما مفهوم الصنف الواحد ، فالثالث : جامع بين الصنفين ، فلو ذكر أيضاً بالواو ، ولربما توهم من أول الأمر أنه قسيم لكل من القسمين لا للمشترك بينهما ؛ لأنه حال عما في الرابع من الإفصاح.
يعني : أنه لا حاجة إليه في الرابع لإفصاحه ، بأنه قسيم المشترك بين الأقسام المتقدمة ، وهو هبة الولد ولا يشتبه على أحد أن العقم يقابلها ، فلا حاجة إلى التنبيه على ذلك.
{إِنَّهُ} تعالى {عَلِيمٌ} بليغ العلم بكل شيء مما كان وما يكون.
{قَدِيرٌ} بليغ القدرة على كل مقدور ، فيفعل ما فيه حكمه ومصلحة.
وقال الكاشفي : (دانست بانجه مى دهد تواناست بانجه ميسازد دانايى اواز جهل مقدس ومبراست وتوانايى او از عجز منزه ومعرا علم او بر طرف از شائبة جهل فتور وقدرتش باك از آلايش نقصان وقصور).
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وعلم أن الإنسان إما أن لا يكون له ولد ، أو يكون له ولد ذكر أو أنثى ، أو ذكر وأنثى.
وقد استوفى في الآية جميع الأقسام.
فالمعنى : أن الله تعالى يجعل أحوال العباد في حق الأولاد مختلفة على ما تقتضيه المشيئة فيهن ، فيهب لبعض إما صنفاً واحداً من ذكر أو أنثى ، وإما صنفين ويعقم آخرين ، فلا يهب لهم ولد قط ، فالأولاد ذكوراً وإناثاً من مواهب الله تعالى وعطاياه.
ولذا سن لم يبشر بالمولود أنه يستبشر به ويراه نعمة أنعم الله بها عليه.
ففي الحديث : "ريح الولد من ريح الجنة".
وقال عليه السلام : "الولد في الدنيا نور وفي الآخرة سرور" ، وقد ورد : "سوداء ولود خير من حسناء عقيم".
وذلك لأن التناسل إنما هو بالولود ، ويعرف كونها ولوداً بالصحة والشباب ، ولا ينفي الولد الذي يولد على فراشه ، فإن الله تعالى يفضحه يوم القيامة ويكتب عليه من الذنب بعدد النجوم والرمال والأوراق.
وقيل : معنى الآية يهب لمن يشاء إناثاً ؛ أي : الدنيا ، ويهب لمن يشاء الذكور ؛ أي : الآخرة ، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ؛ أي : الدنيا والآخرة ، ويجعل من يشاء عقيماً ؛ أي : لا دنيا ولا عقبى.
كذا في "كشف الأسرار".
وفيه إشارة إلى أنوثة الدنيا وذكورة الآخرة.
قال أمير خسرو دهلوى :
بهران مردار جندب كاه زارى كاه زور
جون غيلواجى كه شش مه ماده وشش مه تراست
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أرباب الولاية من المشايخ المستكملين يهب لبعضهم من المريدين الصادقين الأتقياء الصلحاء ، وهم بمثابة الإناث لا تصرف لهم في غيرهم بالتزويج والتسليك ، ويهب لبعضهم من المريدين الصديقين المحبين الواصلين الكاملين المستكملين المخرجين.
وهم بمثابة الذكور لاستعداد تصرفهم في الطالبين ، ويهب لبعضهم من الجنسين المذكورين المتصرفين في الغير وغير المتصرفين ويجعل بعض المشايخ عقيماً لأمر يدل أنه
343
عليم بمن يجعله متصرفاً وغير متصرف في المريد قدير على ما يشاء أن يجعله متصرفاً ، أو غير متصرف.
يقول الفقير : هذا التفاوت بينهم إما راجع إليهم لحكمة أخفاها الله تعالى ، وإما إلى أهالي زمانهم ؛ فإنهم متفاوتون كتفاوت الأمم ، فماذا يصنع الكاملون المكملون إذا لم يكن في الناس استعداد.
قال الحافظ :
كوهر باك ببايدكه شود قابل فيض
ورنه هرسنك كلى لؤلؤ ومرجان نشود
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} ؛ أي : وما صح لفرد من أفراد البشر يا محمد.
{أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} بوجه من الوجوه.
{إِلا وَحْيًا} أصل الوحي الإشارة السريعة ، وإنما سمي الوحي وحياً لسرعته ، فإن الوحي عين الفهم.
عين الأفهام ، عين المفهوم منه ، كما يذوقه أهل الإلهام من الأولياء.
وقد عرف بعضهم الوحي ؛ بأنه ما تقع به الإشارة القائمة مقام العبارة في غير عبارة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
وقال الراغب : ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وأليائه وحي.
يقول الفقير : يعلم منه أن الوحي والإلهام واحد في الحقيقة ، وإنما قيل : الوحي في الأنبياء والإلهام في الأولياء تأدباً ، كما قيل : دعوة الأنبياء والإرشاد الأولياء ، فاستعملوا الدعوة في الأنبياء والأرشاد في الأولياء مع أنهما أمر واحد ، فللوحى إما بإلقاء في الروع ، كما ذكر عليه السلام : "إن روح القدس نفث في روعي" ، وإما بإلهام نحو قوله : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (القصص : 7) ، وإما بتسخير نحو قوله تعالى : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} (النحل : 68) ، أو بمنام كقوله عليه السلام ، "انقطع الوحي وبقيت المبشرات رؤيا المؤمن" ، فهذه الأنواع دل عليها قول إلا وحياً ، فمعناه الإبانة يوحى إليه ويلهمه ، ويقذف في قلبه ، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم في ذبح ولده وإلى داود الزبور في صدره.
قاله مجاهد ، وسيأتي تحقيق الآية إن شاء الله تعالى.
(8/263)
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن} بأن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه ، فهو تمثيل له بحال الملك المحتجب الذي يكلم بعض خواصه من وراء الحجاب يسمع صوته ، ولا يرى شخصه وإلا فالله تعالى منزه عن الاستتار بالحجاب الذي هو من خواص الأجسام ، فالحجاب يرجع إلى المستمع لا إلى الله تعالى المتكلم.
وذلك كما كلم الله تعالى موسى في طوى والطور.
ولذا سمي كليم الله ؛ لأنه سمع صوتاً دالاً على كلام الله من غير أن يكون ذلك الصوت مكتسباً لأحد من الخلق ، بل تولى الله تخليقه إكراماً له ، وغيره يسمعون صوتاً مكتسباً للعباد ، فيفهمون به كلام الله هذا مذهب إمامنا أبي منصور.
ذكره في كتاب "التأويلات".
وذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن موسى سمع كلام الله من غير واسطة صوت أو قراءة ، وإلى هذا ذهب ابن فورك من الإشعارية.
قال في "كشف الأسرار" كلمه وبينهما حجاب من نار.
قال الكاشفي : (يا موسى سخن كفت واودر بس حجاب نور بود در موضح آورده كه خداى تعالى بابيغمبر عليه السلام سخن كفت از وراى حجابين يعني حضرت رسالت بناه عليه السلام وراى دو حجاب بودكه سخن خداى تعالى شنيد حجابى از زر سرخ وحجابى از مروا ريد سفيد مسيرة ميان هردو حجاب هفتاد سال راه بود).
يقول الفقير : هذا من غوامض العلوم ، فإن نبينا عليه السلام أعلى كعباً من موسى عليه السلام ، فما معنى : أن الله تعالى كلم موسى من وراء حجاب واحد وكلم نبينا من وراء حجابين ، وإن حصل فرق بين حجاب وحجاب.
ولعل المراد بالحجابين : حجاب الياقوتة الحمراء الذي يلي جانب الخلق وحجاب الدرة البيضاء الذي يلي عالم الأمر ، وكلاهما عبادة عن الروح المحمدي.
والحقيقة الأحمدية بكون مسافة ما بين الحجابين مسيرة سبعين ألف حجاب بين الرب والعبد ، فمعنى :
344
أن النبي عليه السلام سمع كلام الله من وراء هذين الحجابين أن الله تعالى كلمه وبينهما الحقيقة الجامعة البرزخية ، وليس ذلك بحجاب في الحقيقة ، كما أن المرآة ليست بحجاب للناظر ، وكذا القناع بالنسبة إلى العروس ، فافهم جداً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} ؛ أي : ملكاً من الملائكة إما جبريل أو غيره.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم ير جبرائيل إلا أربعة من الأنبياء : موسى وعيسى وزكريا ومحمد عليه السلام.
قال في "عين المعاني" : عسى أنه أراد برؤيته كما هو ، وإلا فهو سفير الوحي.
انتهى.
{فَيُوحِىَ} ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري {بِإِذْنِهِ} ؛ أي : بأمره تعالى وتيسيره.
{مَّا يَشَآءُ} أن يوحيه إليه ، وهذا هو الذي جرى بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم السلام في عامة الأوقات من الكلام ، فيكون إشارة التكلم بواسطة الملك.
روي : أن النبي عليه السلام قال : "من الأنبياء من يسمع الصوت فيكون بذلك نبياً ومنهم من ينفث في أذنه وقلبه ، فيكون بذلك نبياً ، وإن جبرائيل يأتيني فيكلمني كما يكلم أحدكم صاحبه".
وعن عائشة رضي الله عنها : أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي؟ فقال : "أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده عليّ ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال.
وأحياناً يتمثل الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول".
قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصد عرقاً".
والتفصد والانفصاد : (فرود ويدن).
{إِنَّه عَلِىٌّ} متعال عن صفات المخلوقين لا يأتي جريان المفاوضة بينه تعالى ، وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة.
{حَكِيمٌ} يجري أفعاله على سنن الحكمة ، فيكلم تارة بواسطة وأخرى بدونها إما إلهاماً ، أو خطاباً.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن البشر مهما كان محجوباً بصفات البشرية موصوفاً بأوصاف الخلقية الظلمانية الإنسانية لايكون مستعداً أن يكلمه الله إلا بالوحي أو بالإلهام في النوم واليقظة ، أو من وراء حجاب بالكلام الصريح ، أو يرسل رسولاً من الملائكة ، فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي بعلو القدم لا يجانسه محدث حكيم فيما يساعد البشر بإفناء أنانيته بهويته ، فإذا أفنيت البشرية وارتفعت الحجب وتبدلت كينونته بكينونة الحق ، حتى به يسمع وبه يبصر وبه ينطق ، فيكلمه الله تعالى شفاهاً وبه يسمع العبد كلامه كفاحاً ، كما كان حال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في سر فأوحى إلى عبده ما أوحى.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
(8/264)
يعني : (مصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم شب معراج از حق سخت شنيد بى واسطة).
وكان آمن الرسول مما شافهه به الحق تعالى من غير حجاب ، وكذا قوله : هو الذي يصلي عليكم وملائكته إلخ.
وكذا بعض سورة الضحى ، وبعض سورة : {أَلَمْ نَشْرَحْ} ولزوم من سماع كلامه مشافهة رؤيته بلا حجاب ، وكذا حال المؤمنين يوم القيامة ، فإنهم يرون ربهم كما يرون القمر ليلة البدر ، ويسمعون كلامه بلا حجاب.
فالوحي إذاً قسمان مشافهة وغير مشافهة ، وعليه يحمل ما روي أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى ونظر إليه فإنا لن نؤمن حتى تفعل ذلك.
فقال عليه السلام : "لم ينظر موسى إلى الله" فنزلت فأشار إلى أن الكلام حصل لموسى ، ولكن من وراء حجاب دون النظر ، وكذا للنبي عليه السلام ما دام على حال البشرية.
وكذا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، ثم قالت : أولم تسمعوا ربكم يقول ،
345
وتلت هذه الآية : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} " إلخ.
فأشارت إلى مرتبة الحجاب وسره أن الله تعالى قال : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} ، فعبر بعنوان البشرية ، وليس من حد البشر أن يرى ربه عياناً ، وهو في حد الدنيا باققٍ على بشريته ، أو يكلمه الله كفاحاً.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : الأظهر في "تلقيح الأذهان" تكليم الله البشر في ثلاث مراتب ، كما قال سبحانه : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} إلخ.
فالكل وحي.
ولكن بعضه بلا واسطة عند خروجه عن حد البشرية إلا أنك إن كنت أنت السامع لم تحصل على هذه المشاهدة الذاتية حتى تكون أنت المسمع فمشاهدة الذات لا تتم مع المناجاة وبعضه بواسطة عند الرجوع إلى البشرية ، ولا تزال هكذا حتى تفنى عن نفس السماع ، وتبقى مشاهداً للحق لتسمع نفسه بنفسه ، فإنه من تحقق بالإنفاق حتى يسمع وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه.
سمع قوله واتخذه وكيلاً.
انتهى.
قال الشيخ روز بهان البقلي في "عرائس البيان" كانت لي واقعة في ابتداء الأمر.
وذلك أني شاهدت الحق بالحق وكاشف لي مشاهدة جماله ، وخاطبني من حيث الأرواح لا من حيث الأشباع ، فغلب على سكر ذلك ، وأفشيت حالي بلسان السكر ، فتعرض لي واحد من أهل العلم وسألني كيف تقول ذلك ، وأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بأنه لم يخاطب أحداً من الأنبياء والرسل إلا من وراء حجاب ، كما قال ، وما كان لبشر إلخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
فقلت : صدق الله هذا إذا كانوا في حجاب البشرية ، فإذا خرجوا بشرط الأرواح إلى عالم الغيب ورأوا الملكوت ألبسهم الله أنواراً قربه وكحل عيونهم بنور ذاته ، وألبس سماعهم قوة من قوى الربوبية وكشف لهم سر الغيرة ، وحجاب المملكة وخاطبهم كفاحاً وعياناً.
ولنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أخص خاصية إذ هو مصطفى في الأزل بالمعارج والمشاهدة ، فإذا صار جسمه روحه وكان واحداً من كل الوجوه صعد إلى الملكوت.
ورأى الحق بنور الجبروت وسمع خطابه بلا واسطة ، ورأى الحق بلا حجاب إذ الحجاب وصف المخلوقين ، والحق منزه عن أن يحجبه شيء.
حكي : أن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه قال له شخص : أرني ربي ، فقال : أولم تسمع أن الله تعالى يقول لموسى : لن تراني ، مع أنه نبي عظيم.
قال : إن من هذه الملة الأحمدية من يقول : رأى قلبي ربي ، ومنهم من يقول : لا أعبد رباً لم أره ، فلما لم يمسك عن مسألته أمر جعفر بأن يلقي ذلك الشخص في الدجلة ، ففعلوا ، فقال : يا ابن رسول الله الغياث.
قال الصادق : يا ماء اغمسه حتى فعل ذلك مراراً يعني : استغاث بالصادق ، فلما انقطع رجاؤه عن الخلق قال : إلهي الغياث.
(صادق كفت بياوريدش بركر فتند وبياوردند وآبى كه مانده بودازكوش وبينى اوريختند جون باخود آمد كفت بآن حق راديدى كفت يا خيال اغيار مى مانده دست در غير مى ردم حجاب مى بود جون بناه بكلى بوى آوردم ومضطر نشدم روزنه دردل من كشاده شد وبدا نجا نكريستم آنجه مى جستم ديدم وتا اضطرار نبود آن نبود صادق كفت تا صادق را مى خواند مى صديق نبودى اكنون آن كوجه روزنه راه نكاه داركه جهان خدا بدينجا فروست) ، فقد علمت من هذا التقرير أن الآية تدل على جواز الرؤية لا على امتناعها ، وإنما تدل على الامتناع حال البشرية وبقائها وجود (عين غبار يست درره ديدارره غبار مانع ديدار ميشود هش ار).
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآىاِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِىَ بِإِذْنِه مَا يَشَآءُا إِنَّه عَلِىٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ وَلا الايمَـانُ وَلَـاكِن جَعَلْنَـاهُ نُورًا نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِا أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الامُورُ} .
(8/265)
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
{وَكَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الإيحاء البديع ،
346
أو كما أوحينا إلى سائر رسلنا.
{أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} : هو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة طيبة ؛ أي : يحصل لها به ما هو مثل الحياة ، وهو العلم النافع المزيل للجهل الذي هو كالموت.
وقال الراغب سمي القرآن روحاً لكونه سبباً للحياة الأخروية الموصوفة في قوله : {وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ} (العنكبوت : 64).
ومعنى من أمرنا.
بالفارسية : (بفرمان ما او).
روحاً ناشئاً ومبتدأ من أمرنا ، وقد سبق في {حم} المؤمن.
وقيل : هو جبرائيل ، ومعنى إيحائه إليه عليه السلام إرساله إليه بالوحي ، فإن قلت : كيف علم الرسول عليه السلام في أول الأمر أن الذي تجلى له جبرائيل ، وأن الذي سمعه كلام الله تعالى.
قلت : خلق الله تعالى له علماً ضرورياً علم به ذلك ، والعلم الضروري يوجب الإيمان الحقيقي ، ويتولد من ذلك اليقين والخشية ، فإن الخشية على قدر المعرفة.
{مَا كُنتَ تَدْرِى} قبل الوحي في أربعين سنة والمراد وحي النبوة.
{مَا الْكِتَابُ} ؛ أي : أي شيء هو ، يعني : (جون قرآن منزل نبود ندانستى آنراه).
والنفي معلق للفعل عن العمل وما بعده ساد مسد المفعولين ومحل ما كنت.
إلخ.
حال من كاف إليك ، كما في "تفسير الكواشي".
{وَلا الايمَانُ} ؛ أي : الإيمان بتفاصيل ما في تضاعيف الكتاب من الأمور التي لا تهتدي إليها العقول لا الإيمان بما يستقل به العقل والنظر ، فإن درايته عليه السلام له مما لا ريب فيه قطعاً ، فإن أهل الوصول اجتمعوا على أن الرسل عليهم السلام ، وكانوا مؤمنين قبل الوحي ومعصومين من الكبائر ومن الصغائر الموجبة لنفرة الناس عنهم قبل البعثة وبعدها فضلاً عن الكفر ، وهو مراد من قال : لا يعرف القرآن قبل الوحي ولا شرائع الإيمان ومعالمه ، وهي إيمان كما قال تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة : 143) ؛ أي : صلاتكم سماها إيماناً ؛ لأنها من شعب الإيمان ، ويدل عليه أنه عليه السلام قيل له : هل عبدت وثناً قط قال : لا قيل : هل شربت خمراً قط.
قال : لا وما زلت أعرف أن الذين هم عليه كفر ، وما كنت أدري ما الكتاب؟ ولا الإيمان ؛ أي : الإيمان الشرعي المتعلق بتفاصيل الأحكام.
ولذلك أنزل في الكتاب : {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلا الايمَانُ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال ابن قتيبة : لم تزل العرب على بقايا من دين إسماعيل من الحج والختان والنكاح وإيقاع الطلاق والغسل من الجنابة ، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والمصاهرة.
وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على ما كانوا عليه في مثل هذه الشرائع ، وكان يوحد ويبغض اللات والعزى ويحج ويعتمر ويتبع شريعة إبراهيم عليه السلام ، ويتعبد بها حتى جاءه الوحي وجاءته الرسالة ، فقول البيضاوي.
وهو دليل على أنه لم يكن متعبداً قبل النبوة بشرع ممنوع ، فإن عدم الدراية لا يلزمه عدم التعبد بل يلزمه سقوط الإثم إن لم يكن تقصير ، فالحق أن المراد هو الإيمان بما لا طريق إليه إلا السمع.
وقال بعضهم : هذا تخصيص بالوقت ، يعني : كان هذا قبل البلوغ حين كان طفلاً ، وفي المهد ما كان يعرف الإيمان ، وهو ضعيف ؛ لأنه عليه السلام أفضل من يحيى وعيسى عليهما السلام ، وقد أوتي كل الحكم والعلم صبياً.
وقال بعضهم : هو من باب حذف المضاف ؛ أي : ولا أهل الإيمان ، يعني : من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن قبل أن يظهر إيمان من آمن وكفر من كفر ، كما قال ابن الفضل أهله ؛ لأنه ظن أن أبا طالب يؤمن كما قال عليه السلام : "أردنا إسلام أبي طالب ، وأراد الله إسلام العباس ، فكان ما أراد الله دون ما أردنا" ،
347
وهو ضعيف أيضاً ؛ لأنه عليه السلام : لا يدري بعد الوحي أيضاً جميع من يؤمن ، ومن يصر إلى آخر العمر.
{وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ} ؛ أي : الروح الذي أوحينا إليك والجعل بمعنى : التصيير لا بمعنى الخلق وحقيقته أنزلناه.
{نُورًا نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ} هدايته بالتوفيق للقبول والنظر فيه.
{مِنْ عِبَادِنَا} ، وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به.
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِى} : تقرير لهدايته تعالى وبيان لكيفيتها ومفعول لتهدي محذوف ثقة بغاية الظهور ؛ أي : وإنك لتهدي بهذا النور وترشد من نشاء هدايته.
{إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} هو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام والصراط من السبيل ما لا التواء فيه ؛ أي : لا اعوجاج ، بل يكون على سبيل القصد.
{صِرَاطِ اللَّهِ} بدل من الأول.
{الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} خلقاً وملكاً وإضافة الصراط إلى الاسم الجليل ووصفه بالذي.
إلخ لتفخيم شأنه وتقرير استقامته وتأكيد وجوب سلوكه ، فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقاً وملكاً وتصرفاً مما يوجب ذلك أتم إيجاب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 285
قال بعضهم : دعونا أقواماً في الأزل ، فأجابوا ، فأنت تهديهم إلينا وتدلهم علينا ، وإنما كان عليه السلام هادياً ؛ لأنه نور كالقرآن ولمناسبة نوره مع نور الإيمان والقرآن.
قيل : كان خلقه القرآن :
أي نور إلهي زجبين توهويدا
سر ازل از نور جمالت شده بيدا
{إِلا} كلمة تذكرة لتبصرة أو تنبيه لحجة وبالفارسية بدانيدكه لا إلى غيره.
{تَصِيرُ الامُورُ} ؛ أي : أمور ما فيهما قاطبة بارتفاع الوسائط والتعلقات.
يعني : يوم القيامة ، فيحمل تصير على معنى الاستقبال ، ففيه من الوعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم والوعد للضالين عنه ما لا يخفى.
وقال في "بحر العلوم" إلى الله تصير أمور الخلائق كلها في الدنيا والآخرة ، فلا يدبرها إلا هو حيث لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره (ونزد محققان باز كشت همه امور درهمه اوقات وأحوال بحضرت اوست وبارتفاع حجب ووسائط مشاهده اين معنى دست دهد.
صورت كثرت حجب وحدتست.
غيبت ما مانع نور حضور.
ديده دل باز كشاويبين ، سر إلى الله تصير الأمور).
وذلك لأن الله مبدأ كل ومرجعه ومصيره إما بالفناء الاختياري ، أو بالفناء الاضطراري.
(يكبار حسن بصري رحمه الله بجنازة رفت جون مرده اردر كور نهادند وخاك راست كردند حسن برسرآن خاك نشست وجندان بدان كريست خاك كل شد بس كفت اي مردمان أول آخر بحدست آخر دنيا نكرى كورست واول اخرت نكرى كورست كه القبر منزل من منازل الآخرة جه مى نازيد بعالمى كه آخرش اينست يعني : كور وجون نمى ترسيد از عالمى كه او لش اينست يعني : كور جون اول آخرش اينست اى أهل غفلت كار اول وآخر بسازيد.
شب كور خواهى منور جو روز.
ازبنجا جراغ عمل برفروز.
برآن خورد سعدي كه بينجى نشاند.
كسى برد خر من كه نخمى فشاند).
وعن سهل بن أبي الجعد : احترق مصحف ، فلم يبق إلا قوله تعالى : {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الامُورُ} (الشورى : 53) وغرق مصحف فانمحى كل شيء إلا ذلك كذا في "عين المعاني" للسجاوندي.
تمت سورة الشورى في أواخر شهر ربيع الآخر المنتظم في شهور سنة ثلاثة عشرة مائة وألف سورة الزخرف تسع وثمانون آية مكية.
348
جزء : 8 رقم الصفحة : 285(8/266)
سورة الزخرف
وآياتها تسعة وثمانون
جزء : 8 رقم الصفحة : 348
.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{حم} ؛ أي : القرآن مسمى بـ{حم} ، أو هذه السورة مسماة به.
يقول الفقير أمده الله القدير : {حم} إشارة إلى الاسمين الجليلين من أسمائه تعالى ، وهما : الحنان والمنان ، فالحنان هو الذي يقبل على من أعرض عنه.
وفي "القاموس" : الجنان كشداد اسم الله تعالى ، ومعناه : الرحيم.
انتهى.
المنان : هو الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال ، كما قال في "القاموس" : المنان من أسماء الله تعالى ، المعطي ابتداءً.
انتهى.
وقد جعل في داخل الكعبة ثلاث أسطوانات :
الأولى : أسطوانة الحنان.
والثانية : أسطوانة المنان.
والثالثة : أسطوانة الديان ، وإنما أضيفت إلى الله تعالى تعظيماً كما قيل : بيت الله وناقة الله ، فأشار بهذه الأسماء الثلاثة حيث جعلت في داخل الكعبة المشار بها إلى الذات الأحدية إلى أن مقتضى الذات هو الرحمة والعطاء في الدنيا والمجازاة والمكافأة في الآخرة وبرحمته أنزل القرآن كما قال مقسماً به.
{وَالْكِتَابِ} بالجر على أنه مقسم به إما ابتداء أو عطف على {حم} على تقدير كونه مجروراً بإضمار باء القسم على أن مدار العطف المغايرة في العنوان ومناط تكرير القسم المبالغة في تأكيد مضمون الجملة القسمية.
{الْمُبِينِ} ؛ أي : البين لمن أنزل عليهم لكونه بلغتهم وعلى أساليبهم ، فيكون من أبان بمعنى بان ؛ أي : ظهر ، أو المبين لطريق الهدى من طرق الضلالة الموضح لكل ما يحتاج إليه في أبواب الديانة ، فيكون من أبان بمعنى أظهر وأوضح.
وقال سهل : بين فيه الهدى من الضلالة والخير من الشر وبين سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء.
وقال بعضهم : المراد بالكتاب الخط والكتابة يقال : كتبه كتباً وكتاباً خطه أقسم به تعظيماً لنعمته فيه ، إذ فيه كثرة المنافع ، فإن العلوم إنما تكاملت بسبب الخط فالمتقدم إذا استنبط علماً ، وأثبته في كتاب وجاء المتأخر ، وزاد عليه تكاثرت به الفوائد.
يقول الفقير : لعل السبب في حمل الآية على هذا المعنى الغير الظاهر لزوم اتحاد المقسم به والمقسم عليه على تقدير حملها على القرآن ، وليس بذلك كما يأتي.(8/267)
{إِنَّا جَعَلْنَـاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} إن قلت : هذا يدل على القرآن مجعول والمجعول مخلوق.
وقد قال عليه السلام : "القرآن كلام الله غير مخلوق".
قلت : المراد بالجعل هنا تصيير الشيء على حالة دون حالة.
فالمعنى : أنا صيرنا ذلك الكتاب قرآناً عربياً بإنزاله بلغة العرب ولسانها ، ولم نصيره أعجمياً بإنزاله بلغة العجم مع كونه كلامنا وصفتنا قائمة بذاتنا عرية عن كسوة العربية منزهة عنها وعن توابعها.
{لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} كلمة لعل مستعارة لمعنى كي ، وهو التعليل وسببية ما قبلها لما بعدها لكون حقيقة الترجي والتوقع ممتنعة في حقه تعالى لكونها مختصة بمن لا يعلم عواقب الأمور.
وحاصل معناها : الدلالة على أن الملابسة بالأول لأجل إرادة الثاني من شبه الإرادة بالترجي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
فقوله : لعلكم تعقلون في موضع النصب على المفعول له ، وفعل الله تعالى ، وإن كان لا يعلل بالغرض لكن فيه مصلحة جليلة وعاقبة حميدة ، فهي كلمة علة عقلاً وكلمة مصلحة شرعاً مع أن منع التعليل بالغرض العائد إلى العباد بعيد عن الصواب جداً ، لمخالفته كثيراً من النصوص.
والمعنى : لكي تفهموا القرآن العربي وتحيطوا بما فيه من النظم الرائق ، والمعنى الفائق وتقفوا على ما تضمنه من الشواهد الناطقة بخروجه عن طوق البشر وتعرفوا حق النعمة في ذلك وتنقطع أعذاركم بالكلية إذ لو
349
أنزلناه بغير لغة العرب ما فهمتموه ، فقوله : إنا جعلناه قرآناً عربياً جواب للقسم ، لكن لا على أن مرجع التأكيد جعله كذلك ، كما قيل : بل ما هو غايته التي يعرب عنها قوله تعالى : {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، فإنها المحتاجة للتأكيد لكونها منبئة عن الاعتناء بأمرهم وإتمام النعمة عليهم وإزاحة أعذارهم.
كذا في "الإرشاد".
وقال بعضهم : أقسم بالقرآن على أنه جعله قرآناً عربياً ، فالقسم والمقسم عليه من بدائع الإقسام لكونهما من واحد ، فالمقسم به ذات القرآن العظيم ، والمقسم عليه وصفه ، وهو جعله قرآناً عربياً ، فتغايرا ؛ فكأنه قيل : والقرآن المبين أنه ليس بمجرد كلام مفترى على الله وأساطير ، بل هو الذي تولينا إنزاله على لغة العرب ، فهذا هو المراد بكونه جواباً لا مجرد كونه عربياً إذ لا يشك فيه وإنما جعله مقسماً به إشارة إلى أنه ليس عنده شيء أعظم قدراً وأرفع منزلة منه حتى يقسم به ، فإن المحب لا يؤثر على محبوبه شيئاً ، فأقسم به ، ليكون قسمه في غاية الوكادة.
وكذا لا أهم من وصفه ، فيقسم عليه.
{إِنَّا جَعَلْنَـاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّه فِى أُمِّ الْكِتَـابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ * وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الاوَّلِينَ} .
{وَإِنَّهُ} ؛ أي : ذلك الكتاب.
{فِى أُمِّ الْكِتَـابِ} ؛ أي : في اللوح المحفوظ ، فإنه أصل الكتاب ؛ أي : جنس الكتب السماوية ، فإن جميعها مثبتة فيه على ما هي عليه عند الأنبياء ومأخوذة مستنسخة منه.
قال الراغب : قوله في أم الكتاب ؛ أي : في اللوح المحفوظ.
وذلك لكون كل منسوباً إليه ومتولداً فيه ، والكتاب اسم للصحيفة مع المكتوب فيها.
{لَدَيْنَا} ؛ أي : عندنا.
{لَعَلِىٌّ} رفيع القدر بين الكتب شريف.
{حَكِيمٌ} ذو حكمة بالغة أو محكم لا يتطرق إليه نسخ بكتاب آخر ، ولا تبديل ، وهما ؛ أي : علي وحكيم خبر إن ؛ لأن وما بينهما بيان للمحل الحكم ؛ كأنه قيل بعد بيان اتصافه بما ذكر من الوصفين الجليلين هذا في أم الكتاب الذي هو أشرف مكان وأعزه لدينا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب.
وهذا كما قال في "الجلالين" يريد أنه يثبت عند الله في اللوح المحفوظ بهذه الصفة.
واعلم أن اللوح المحفوظ خلقه الله تعالى من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور عرضه كما بين السماء والأرض ينظر الله تعالى فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق بكل نظره ويحيي ويميت ، ويعز ويذل ويفعل ما يشاء.
وفي الخبر أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ : كل حرف منها بقدر جبل قاف وإن تحت كل حرف معاني لا يحيط بها إلا الله تعالى ، ولذا لم يقم لفظ مقام لفظه ولا حرف مقام حرفه ، فهو معجز من حيث اللفظ.
والمعنى : ولما كان القلب الإنساني هو اللوح الحقيقي المعنوي نزل على قلبه عليه السلام القرآن ، واستقر فيه إلى الأبد دنيا وآخرة ، وكذا نزل من حيث المعنى على قلوب ورثته عليه السلام كما أخبر عنه أبو يزيد قدس سره ، وكما أن الله تعالى ينظر كل يوم في اللوح المحفوظ ثلاثمائة وستين نظرة كذلك ينظر في لوح القلب ذلك العدد ، فيمحو ما يشاء ويثبت.
والمراد باليوم هو اليوم الآتي المنبسط عند الله إلى ألف سنة وأشير إليها بعدد أيام السنة ، فافهم جداً ، فإن كان القلب لوح الله تعالى ، فينبغي للعبد أن يمحو عنه آثار الغير ويزينه بما يليق به ، فإنه المنظر الإلهي.
(8/268)
قال بعض الكبار : إذا كان ميل المرء إلى الشهوة ، والصورة والخلق يشتغل بتزيين ظاهره باللباس المعتبر عند الناس ، وإذا كان ميله إلى المحبة والحقيقة والحق يشتغل بتزيين باطنه بما يعتبر عند الله ، ولا يلتفت إلى ظاهره ، بل يكتفي بما يحفظه من الحر والبرد ؛ أي : شيء كان.
وقال بعض الكبار : تتبع كتاب الله في الليل والنهار يوصلك إلى مقام الأحرار ؛ لأن كل ما يؤدي
350
إلى ذكر الله تعالى ، فهو علاج القلوب المريضة ؛ لأن أعظم الأمراض القلبية هو نسيان الله تعالى ، كما قال : {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (التوبة : 67) ولا شك أنه علاج أمر بضده ، وهو ذكر الله.
كما قال : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) :
دلت آيتنه خداى نماست
روى آيينه توتيره جراست
صيقلى دارى صيقلى ميزن
تاكه آيينة ات شود روشن
صيقل آن اكرنه آكاه
نيست جز لا إله إلا الله
{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ} يعد ما بين علو شأن القرآن العظيم وحقق أن إنزاله على لغتهم ليعقلوه ويؤمنوا به ويعملوا بموجبه عقب ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه ، فقيل : أفنضرب عنكم الذكر.
والفاء : للعطف على محذوف يقتضيه المقام.
والمعنى : أنهملكم فنخي القرآن عنكم ، ونبعده ونترك الأمر والنهي والوعد والوعيد مجاز من قولهم : ضرب الغرائب عن الحوض استعارة تمثيلية شبه حال الذكر وتنحيته بحال غرائب الإبل وذودها ، ثم استعمل ما كان مستعملاً في تلك القصة ، ها هنا.
والمراد بالغرائب البعران الأجانب والإبل إذا وردت الماء ودخلت بينها ناقة غريبة من غيرها ذيدت وطردت عن الحوض.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجه الذكر إليهم بملازمته لهم ؛ كأنه يتهافت عليهم.
{صَفْحًا} الصفح : الإعراض يقال : صفح كمنع أعرض وترك وعنه عفا والسائل رده كأصفحة وسُمي العفو صفحاً لأنه إعراض عن الانتقام من صفحة الوجه ؛ لأن من أعرض عنك ، فقد أعطاك صفحة وجهه.
والمعنى : إعراضاً عنكم على أنه مفعول له للمذكور أو صافحين على أنه حال ، أو مصدر من غير لفظه ، فإن تنحية الذكر عنهم إعراض.
{أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} السرف : تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان ؛ أي : لأن كنتم منهمكين في الإسراف في المعاصي مصرين عليه على معنى أن حالكم ، وإن اقتضى تخليتكم وشأنكم حتى تموتوا على الكفر والضلالة ، وتبقوا في العذاب الخالد لكنا لسعة وحمتنا لا نفعل ذلك ، بل نهديكم إلى الحق بإرسال الرسول الأمين وإنزال الكتاب المبين.
(در تبيان كفته كه بسبب شرك شما قرآنرا بآسمان نخواهيم بردكه دانسته ايم كه زود بيايند قومى كه بدو بكروند وباحكام آن عمل كنند).
وإنما يرتفع القرآن في آخر الزمان.
قال قتادة : والله لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ، أو لكن عاد بعائدته ورحمته ، فكرره عليهم عشرين سنة ، أو ما شاء الله (كفتا والله كه اكر در صدر آن امت رب العزت قرآن از زمين برداشتى بكفر كافران ورد ايشان خلق همه هلاك كردندى ويك كس نماندى لكن حق تعالى بانكار وكفر ايشان ننكريست بفضل ورحمت خود نكريست همجنان قرآن روز بروز مى فرستاد تمامى بيست سال يازياده تاكار دين تمام كشف واسلام قوى شد).
وفيه إشارة إلى أن من لم يقطع اليوم خطابه عمن تمادى في عصيانه وأسرف في أكثر شأنه كيف يمنع غداً لطائف غفرانه وكرائم إحسانه عمن لم يقصر في إيمانه ، ولم يدخل خلل في عرفانه ، وإن تلطخ بعصيانه.
(دارم از لطف ازل جنت فردوس طمع كرجه درباني ميخانه فراوان كردم بير طريقت درمنا جات خويش كفته إلهي توانى كه از بنده ناسزامى بينى وبعقوبت نشتابى از بنده كفر مى شنوى ونعمت ازوى بازنكيرى ثواب وعفو بروى عرضه ميكنى وبيغام وخطاب خود اوراباز خوانى واكرباز آيد وعده مغفرت ميدهى كه).
351
{إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال : 38).
جون بادشمن بدكر دار جنينى جه كويم كه دوست نكوكار راجونى.
دوستا نراكجا كنى محروم.
توكه بادشمنان نظر دارى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الاوَّلِينَ} .
كم خبرية في موضع النصب على أنه مفعول مقدم لأرسلنا ، ومن نبي تمييز.
وفي الأولين متعلق بأرسلنا ، أو بمحذوف مجرور على أنه صفة لنبي.
والمعنى : كثيراً من الأنبياء أرسلنا في الأمم الأولين والقرون الماضية.
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الاوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِىٍّ إِلا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ * فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الاوَّلِينَ * وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ} .
(8/269)
{وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِىٍّ إِلا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} ضمير يأتيهم إلى الأولين ، وهو حكاية حال ماضية مستمرة ؛ لأن ما إنما تدخل على مضارع في معنى الحال ، أو على ماضضٍ قريب منها : أي : كانوا على ذلك.
والمعنى بالفارسية : (ونيايد بايشان هيج بيغمبرى مكر افسوس كردند برو).
يعني : أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء ، فلا ينبغي لك أن تتأذى من قومك بسبب تكذيبهم واستهزائهم ؛ لأن المصيبة إذا عمت خفت.
{فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم} ؛ أي : من هؤلاء القوم المسرفين وهم : قريش.
{بَطْشًا} : تمييز وهو الظاهر ، أو حال من فاعل أهلكنا ؛ أي : باطشين.
قال الراغب : البطش تناول الشيء بصولة ، والأخذ بشدة.
يعني : (اقرباى ايشانرا اهلاك كرديم وشدت وشوكت ايشان مارا عاجز نداشت).
فهو وعد له عليه السلام ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين ووصفهم بأشدية البطش لإثبات حكمهم لهؤلاء بطريق الأولوية.
{وَمَضَى مَثَلُ الاوَّلِينَ} ؛ أي : سلف في القرآن غير مرة ذكر قصتهم التي حقها أن تسير مسير المثل ، وهم : قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
وفي الآية إشارة إلى كمال ظلومية نفس الإنسان وجهوليته وكمال حلم الله وكرمه وفضل ربوبيته بأنهم وإن بالغوا في إظهار أوصافهم الذميمة وأخلاقهم اللئيمة بالاستهزاء مع الأنبياء والمرسلين والاستخفاف بهم إلى أن كذبوهم وسعوا في قتلهم من أهل الأولين والآخرين.
وكذلك يفعلون أهل كل زمان مع ورثة الأنبياء من العلماء المتقين والمشايخ السالكين الناصحين لهم ، والداعين إلى الله والهادين لهم ، فالله تعالى لم يقطع عنهم مراحم فضله وكرمه.
وكان يبعث إليهم الأنبياء وينزل عليهم الكتب ، ويدعوهم إلى جنابه وينعم عليهم بعفوه وبغفرانه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
ومن غاية أفضاله وإحسانه تأديباً وترهيباً بعباده أهلك بعض المتمردين المتمادين في الباطل ليعتبر المتأخرون من المتقدمين :
جون بركشته بختى در افتد به بند
از ونيك بختان بكيرند بند
قال في "كشف الأسرار" : (عجب كاريست هركجاكه حديث دوستان دركيرند آستان بيكانكان دران بيوند دد وهركجاكه لطافتى وكرامتى نمايد قهرى وسياستى در برابرآن نهد هركجاكه حقيقى است مجازى آفريده تا برروى حقيقت تمرد افشاند وهر حجتى شبهتى آميخت تا رخسارة حجت مى خراشد هركجاكه علمى است جهلى بيدا آورده تابر سلطان علم برمى آو يزد هركجاجه توحيد ست شركى بديد آورد تا باتوحيد طريق منازعت مى سبرد وبعدد هردوستى هزار دشمن آفريده بعدد هر صديقى هزار زنديق آورده هركجا مسجد است كليسايى در برابر او بنا كرده هركجا صومعة خراباتى هركجا طيلسانى زنارى هركجا اقرارى انكارى هركجا عابدى جاحدى هركجا دوشتى دشمنى هركجا صادقى فاسقى.
جور دشمن جه كند كرنكشد طالب دوست.
كنج ومار وكل وخار وغم وشادى
352
بهمند.
از شرق تاغرب بر زينت ونعمت كرده ودرهر نعمتى تعبيه محنتى دربيش ساخته من نكد الدنيا مضرة الزرنيخ ومنفعة الهليلج بير طريقت كفت آدمي راسه حالتست سربيان مشغولست يا طاعات است كه اورا ازان سودمندى است يا معصيت كه اورا ازان بشيمانى است يا غفلت است كه اورا ايانكارى است بند نيكوتر از قرآن جيست وناصح مهربان ترا زمولى كيست سرمايه فراح ترا زايمان جيست رابح ترا زتجارت بالله جيست مكر كه آدمى را بزبان خرسندى ويقطيعت رضا دادنى واورا از مولى ييزارى بيداران روز كردد كه بيود بوى هرجه بودنى است بندانكه بذيردكه باو رسد آنجه رسيدنى است اين صفت آن قوم كه رب العزة ميكيويد).
فأهلكنا أشد منهم بطشاً.
ومضى مثل الأولين نسأل الله العصمة.
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم} : يعني : قومك وهم قريش ، {مِّنْ} : استفهام بمعنى كه بالفارسية.
{خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} ؛ أي : الأجرام العلوية والسفلية.
{لَيَقُولُنَّ} : اعترافاً بالصانع.
{خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ} في حكمه وملكه.
{الْعَلِيمُ} ، بأحوال خلقه (جه اين نوع آفرينش كار جاهل وعاجز نتواند بود بس درين آيت اخبار ميكند ازغايت جهل انسانكه مقرند بآفريننده قوي ودانا وعبادت غير أو ميكويد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال في "الإرشاد" : ليسندن خلقها إلى من هذا شأنه في الحقيقة.
وفي نفس الأمر لا أنهم يعبرون عنه ، بهذا العنوان.
وقد جوز أن يكون ذلك عين عبارتهم ، وفي "فتح الرحمن" ، ومقتضى جواب قريش أن يقولوا خلقهن الله ، فلما ذكر الله تعالى المعنى : جاءت العبارة عن الله بالعزيز العليم ، ليكون ذلك توطئة لما عدده بعد من أوصافه التي ابتدأ الإخبار بها ، وقطعها عن الكلام الذي حكي معناه عن قريش ، وهو قوله الذي.
(8/270)
وفي الآية إشارة إلى أن في جبلة الإنسان معرفةمركوزة ، وذلك لأن الله تعالى ذرأ ذريات بني آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم بخطاب : ألست بربكم ، فأسمعهم خطابه وعرفهم ربوبيته وفقهم لإجابته حتى قالوا : بلى.
فصار ذلك الإقرار بذر ثمرة إقرارهم بخالقية الله تعالى في هذا العالم ، لكن الله تعالى لعزته لا يهتدي إلى سرادقات عزته إلا من أعزه الله تعالى بجذبات عنايته ، وهو العليم الذي يعلم حيث يجعل رسالاته.
اسم أعظم (بكند كار خود اى دل خوش باش.
كه بتلبيس وحيل ديو سليمان نشود).
{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا} استئناف من جهته تعالى.
والجعل بمعنى تصيير الشيء على حاله دون حالة والمهد والمهاد المكان الممهد الموطأ لقوله تعالى : {جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا} (البقرة : 22) ؛ أي : بسطها لكم تستقرون فيها.
وبالفارسية : (ساخت براى شما زمين را بساطى كسترده تاقراركاه شما باشد).
وفي "بحر العلوم" : جعل الأرض مسكناً لكم تقعدون عليها وتنامون وتنقلبون كما ينقلب أحدكم على فراشه ومهاده.
{وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} تسلكونها في أسفاركم لأمور الدين والدنيا جمع سبيل ، وهو من الطرق ما هو معتاد السلوك.
وقال الراغب : السبيل الطريق الذي فيه سهولة.
{لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ؛ أي : لكي تهتدوا لسلوكها إلى مقاصدكم.
يعني : (بسوى بلاد وديارى كه خواهيد).
أو بالتفكر فيها إلى التوحيد الذي هو المقصد الأصلي.
{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءَا بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِه بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَالِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالانْعَـامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِه ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا وَمَا كُنَّا لَه مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءَا بِقَدَرٍ} بمقدار ووزن ينفع العباد والبلاد ، ولا يضرهم وبالفارسية : (آبى باندازه حاجت ومصلحت يعنى نه بسيار غرق شدن باشد جون طوفان ونه اندك كه
353
مهمات زراعت وغير اورا كفايت نكند).
وهذه عادة الله في عامة الأوقات ، وقد ينزل بحسب الحكمة ما يحصل به السيول ، فيضرهم ، وذلك في عشرين أو ثلاثين سنة مرة ابتلاء منه لعباده وأخذاً بهم بما اقترفوا.
{فَأَنشَرْنَا بِهِ} ؛ أي : أحيينا بذلك الماء والإنشار إحياء الميت.
بالفارسية : زنده كردن مرده را.
{بَلْدَةً مَّيْتًا} مخفف من الميت بالتشديد ؛ أي : خالية عن النماء والنبات بالكلية شبه زوال النماء عنها بزوال الحياة عن البدن وتذكير ميتاً ؛ لأن البلدة في معنى البلد ، والمكان والفضاء.
وقال سعدي المفتي : لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون تأنيث البلد وتذكير الميت إشارة إلى بلوغ ضعف حاله الغاية والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظم خطره.
{كَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الإحياء الذي هو في الحقيقة إخراج النبات من الأرض.
{تُخْرَجُونَ} ؛ أي : تبعثون من قبوركم إحياء تشبيه إحيائهم بإحياء البلدة الميت كما يدل على قدرة الله تعالى وحكمته مطلقاً ، فكذلك يدل على قدرته على القيامة والبعث.
وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الذي هو إحياء الموتى ، وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث لتقويم سند الاستدلال وتوضيح منهاج القياس.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى : نزل من سماء الروح ماء الهداية ، فأحيا به بلدة القلب الميت كذلك يخرج العبد من ظلمات أرض الوجود إلى نور الله تعالى ، فإنه ما دام لم يحيا قلبه بماء الهداية ، لم يخرج من ظلمات أرض الوجود ، كما أن البذر ما لم يحيا في داخل الأرض بالمطر لم يظهر في ظاهرها ، فكان الفيض سبب النور.
روي : أن أم الحسن البصري رضي الله عنه كانت مولاة أم سلمة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلّم وربما غابت لحاجة ، فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها ، فيشربه ، فنال الحكمة والفصاحة من بركة ذلك.
وأيضاً حياة القلب بأسباب منها : الغذاء الحلال.
(ئنقلست كه اويس القرنى رضي الله عنه يكبارسه شبا نروز هيج نخورده بود بيرون آمد برراه يك دينار افتاده بود كفت ازكسى افتاده باشد روى كردانيد تاكياه اززمين برجيند وبخورد ناكاه ديكدكه كوسفندى مى آيد وكرده كرم دردهان كرفته بيش وى بنهاد واو كفت مكر ازكسى ربوده باشد روى بكر دانيد كو سفند بسخن درآمد كفت من بنده آن كنم توبنده وى بستان روزى از بنده خداى كفت دست دراز كردم تاكرده بر كيرم كرده دردست خويش ديدم وكوسفند نابديدشد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
(8/271)
يقول الفقير : لعله كان من الأرواح العلوية ، وإنما تمثل بصورة الغنم من حيث أن أويس كان الراعي ، ومن حيث أن الغنم كان صورة الانقياد والاستسلام.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى جعل للناس طرقاً مختلفة من الهداية والضلالة ، فأما طريق الهداية فبعدد أنفاس الخلائق وكلها موصلة إلى الله تعالى ، وأما طريق الضلالة ، فليس شيء منها موصلاً إلى الرحمة ، بل إلى الغضب ، فليسارع العبد إلى قبول دعوة داعي الرحمة كما.
قيل : خواص هذه الأمة وأفضل الطريق طريق الذكر والتوحيد.
ولذا أمر الله بالذكر الكثير :
بيش روشن دلان بحر صفا
درك حق كوهرست دون دريا
برورش ده بقعر آن كهرى
كه نيايد بلب ازان اثرى
تاخدا سازدش بنصرت وعون
كوهرى قيمتش فزون زدو كون
{وَالَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا} ؛ أي : أصناف المخلوقات بأسرها كما قال :
354
{مِمَّا تُنابِتُ الارْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} (يس : 36) لا يشذ شيء منها عن إيجاده واختراعه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الأزواج : الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى.
وقيل : كل ما سوى الله فهو زوج كفوق وتحت ويمين وشمال وقدام وخلف ، وماض ومستقبل ، وذات وصفات وأرض وسماء وبحر وشمس وقمر وليل ونهار وصيف وشتاء وجنة ونار إلى غير ذلك مما لا يحصى ، وكونها أزواجاً يدل على أنها ممكنة الوجود وإن محدثها فرد منزه عن المقابل والمعارض.
{وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ} ؛ أي : السفن الجارية في البحر.
{وَالانْعَـامِ} ؛ أي : الإبل والدواب يعني : (جهاربابان).
{مَا تَرْكَبُونَ} ؛ أي : ما تركبونه في البحر والبر على تغليب أحد اعتباري الفعل لقوته على الآخر فإن ركب يعدى إلى الأنعام بنفسه.
يقال : ركبت الدابة وإلى الفلك بواسطة حرف الجر.
يقال : ركبت في الفلك.
وتقديم البيان على المبين للمحافظة على الفاصلة النونية ، وتقديم الفلك على الأنعام ؛ لأن الفلك أدل دليل على القدرة الباهرة والحكمة البالغة.
{لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِهِ} ؛ أي : لتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفلك والأنعام والظهور للأنعام حقيقة لا للفلك ، فدل على تغليب الأنعام على الفلك.
وإيراد لفظ ظهور بصيغة الجمع مع أن ما أضيف مفرد إليه للمعنى ؛ لأن مرجع الضمير جمع في المعنى ، وإن كان مفرداً في اللفظ.
{ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} عليكم {إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
والمراد الذكر بالقلوب ؛ لأنه هو الأصل.
وله الاعتبار فقد ورد "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم بل إلى قلوبكم ونياتكم".
وبه يظهر وجه إيثار تذكروا على تحمدوا.
والمعنى : ثم تذكروا نعمة ربكم بقلوبكم إذا استعليتم عليه معترفين بها مستعظمين لها ، ثم تحمدوا عليها بألسنتكم.
{وَتَقُولُوا} متعجبين من ذلك.
{سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا} : المركوب يعني : (باكست آن خداى كه رام ونرم كردانيد وزيردست ساخت براى ما اين كشتى واين حيوانرا تابمدد ركوب برايشان قطع بر وبحر ميكنيم).
{وَمَا كُنَّا لَه مُقْرِنِينَ} ؛ أي : مطيقين بتذليلها يعني : ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك ، وأن نضبطها ، فسبحان من سخر لنا هذا بقدرته وحكمته.
وهذا من تمام ذكر نعمته تعالى إذ بدون اعتراف المنعم عليه بالعجز عن تحصيل النعمة لا يعرف قدرها ولا حق المنعم بها.
قال في "القاموس" : أقرن الأمر أطاقه وقوي عليه ، كاستقرن وعن الأمر ضعف ضد ، انتهى.
والإقران بالفارسية : (طاقت جيزى داشتن).
وفي "كشف الأسرار" : تقول : أقرنت الرجل إذا ضبطته وساويته في القوة وصرت له قرناً.
وقال غيره : أصله وجده قرينه ؛ لأن الصعب لا يكون قريناً للضعيف ، يعني : أن من وجد شيئاً قرينه لم يصعب عليه ، وهو معنى أطاقه.
{وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} ؛ أي : راجعون بالموت.
وبالفارسية : (باز كردنده كايم در آخر برمركبى كه جنازه كويند وآخر مركبى از مراكب دنيا آنست.
هش دار وعنان كشيده رو آخر كار.
بر مركب جوبين زجهان خواهى رفت).
وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يتأمل فيما يلابسه من المسير ، ويتذكر منه المسافرة العظمى التي هي الانقلاب إلى الله تعالى فيبني أموره في مسيره ذلك على تلك الملاحظة ، ولا يخطر بباله في شيء مما يأتي ويذر أمراً ينافيها ، ومن ضرورته أن يكون ركوبه لأمر مشروع كالحج وصلة الرحم وطلب العلم.
ونحو ذلك.
وأيضاً : إن الركوب
355
موقع في الخطر والخوف من حيث أن راكب الدابة لا يأمن من عثارها أو شموسها مثلاً.
والهلاك بذلك.
وكذا راكب السفينة لا يأمن انكسارها وانقلابها وغرقها ، فينبغي للراكب أن لا يغفل عن الله لحظة ويستعد للقائه ، ويعلم أن الموت أقرب إليه من شراك نعله وإن كل نفس يتنفسه ؛ كأنه آخر الأنفاس.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
(8/272)
قال بعضهم : أجل نعمة الله على العباد أن يقويهم على نفوسهم الأمارة وينصرهم عليها ، حتى يركبوا عليها ويميتوها بالمجاهدات حتى تستقيم في طاعة الله ، وإذا استقامت وجب عليهم شكر النعمة ، ومن لم يعرف نعم الله عليه إلا في مطعمه ومشربه ومركبه فقد صغر نعم الله عليه ، ثم إن تسخير النفوس بعد استوائها في إطاعة الله يكون بتسخير الله لا بالكسب والمجاهدة.
ولذا قال سبحان الذي.
إلخ.
وإنما ذكر الانقلاب في الآخر ؛ لأن رجوع النفس إلى الله إنما هو بعد تسخيرها المذكور.
وقال بعضهم : وإنا إلى ربنا لمنقلبون كما جئنا أول مرة.
كما قال : {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} (الأنبياء : 104) ؛ أي : كما بدأ خلقنا بإشارة أمركن وإخراج أرواحنا من كتم العدم إلى عالم الملكوت بنفخته الخاصة ردنا إلى أسفل سافلين.
القالب : وهو عالم الملك ، ثم بجذبة ، ارجعي إلى ربك ، أعادنا على مركب النفوس من عالم الملك إلى ساحل بحر الملكوت ، ثم سخر لنا فلك القلوب وسيرنا في بحر الملكوت إلى عالم الربوبية.
روي عن ابن أبي ربيعة : أنه شهد علياً رضي الله عنه تعالى حين ركب ، فلما وضع رجله في الركاب.
قال : باسم الله ، فلما استوى قال : الحمد الله ، ثم قال : سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، ثم حمد ثلاثاً وكبر ثلاثاً ، ثم قال : لا إله إلا أنت ، ظلمت نفسي ، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، ثم ضحك ، فقيل له : ما يضحكك يا أمير المؤمنين؟.
قال : رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعل مثل ما فعلت ، وقال مثل ما قلت.
ثم ضحك ، فقلنا : مم ضحكت يا رسول الله ، قال : "يعجب ربنا عز وجل من عبده إذا قال : لا إله إلا أنت ، ظلمت نفسي ، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
ويقول : علم عبدي أن لا يغفر الذنوب غيري".
وفي "عين المعاني" : كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا ركب هلل وكبر ثلاثاً ، ويقال : قبل هذا الحمد الله الذي حملنا في البر والبحر ورزقنا من الطيبات وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً ، ومنّ علينا بالإيمان والقرآن وبنبينا محمد صلى الله عليه وسلّم {سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا} ، الآية.
وفي "كشف الأسرار" : كان الحسن بن علي رضي الله عنهما يقولها.
ويروى عن الحسن رضي الله عنه أنه كان إذا ركب دابة ، قال : الحمد الذي هدانا للإسلام ، والحمدالذي أكرمنا بالقرآن ، والحمد الله الذي منّ علينا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلّم والحمد الله الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين.
قال صلى الله تعالى عليه وسلم : "ما من أحد من أمتي استوى على ظهر دابة ، فقال كما أمره الله إلا غفر له".
وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "إذا ركب العبد الدابة ، فلم يذكر اسم الله عليها ردفه الشيطان وقال له : تغن فإن قال : لا أحسن الغناء ، قال له : تمن ، يعني : تكلم بالباطل ، فلا يزال في أمنيته حتى ينزل".
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وروي : أن قوماً ركبوا في سفر ، وقالوا : {سُبْحَـانَ الَّذِى} ، الآية.
وفيهم رجل على ناقة رازمة ، لا تتحرك هزالاً ، فقال : أما أنا فمقرن مطيق لهذه فسقط عنها بوثبتها واندقت عنقه.
وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما : أنه كان إذا عثرت دابته.
قال : اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ، ولا إله إلا غيرك ، ولا ملجأ ، ولا منجا
356
منك إلا إليك ، ولا حول ولا قوة إلا بك هذا إذا ركب الدابة ، وأما إذا ركب في السفينة ، فيقول : باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ، وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون.
{وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ * وَجَعَلُوا لَه مِنْ عِبَادِه جُزْءًا إِنَّ الانسَـانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَـاكُم بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـانِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُه مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ} .
{وَجَعَلُوا لَه مِنْ عِبَادِه جُزْءًا} الجاعلون هم : قبائل من العرب ، قالوا : إن الله صاهر الجن فولدت له الملائكة.
وقال بعضهم : هو رد عل بني مليح حيث قالوا : الملائكة بنات الله.
ومليح بالحاء المهملة كزبير حي من خزاعة والجعل هنا بمعنى الحكم بالشيء ، والاعتقاد جعلت زيداً أفضل الناس ؛ أي : حكمت به ووصفته.
والمراد بالعباد : الملائكة ، وهو حال من جزء.
قال في "القاموس" : الجزء : البعض وأجزأت الأم ولدت الإناث ، وجعلوا له من عباده جزءاً ؛ أي : إناثاً.
انتهى.
(8/273)
ولذا قال الزجاج والمبرد والماوردي الجزء عند أهل العربية : البنات.
يقال : أجزأت المرأة إذا ولدت البنات.
ولذا قال الراغب : جزء الشيء ما تتقوم به جملته ، وجعلوا له من عباد.
جزء قيل : ذلك عبارة عن الإناث من قولهم : أجزأت المرأة : أتت بأنثى.
وقال جار الله : ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث ، وما هو إلا كذب على العرب ، ووضع مستحدث ، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه أجزأت المرأة ، ثم وضعوا بيتاً ، وقالوا : إن أجزأت حمده يوماً ، فلا عجب.
زوجتها من بنات الأوس مجزئة
انتهى.
يقول الفقير : لم يكن الجزء في الأصل بمعنى الإناث ، وإنما ذكره أهل اللغة أخذاً من الآية ؛ لأنه فيها بمعنى الولد المفسر بالإناث ، فذكره في اللغات لا ينافي حدوثه ، وإنما عبرعن الولد بالجزء ؛ لأنه بعض أبيه وجزء منه كما قال عليه السلام : "إن فاطمة مني" ؛ أي : قطعة مني.
وقال : "فاطمة بضعة مني" ، والبضعة بالفتح : القطعة من اللحم وإثبات الولد له تعالى مستلزم للتركيب المستلزم للإمكان المنافي للوجوب الذاتي ، فالله تعالى يستحيل أن يكون له ولد هو جزء من والده ؛ لأنه واحد وحدة حقيقية ، ومعنى الآية ، واعتقد المشركون وحكموا وأثبتوا له تعالى ولداً حال كون ذلك الولد من الملائكة الذين هم عباده ، فقالوا : الملائكة بنات الله بعد اعترافهم بألسنتهم واعتقادهم أن خالق السماوات والأرض هو الله ، فكيف يكون له ولد.
والولادة من صفات الأجسام ، وهو خالق الأجسام كلها.
ففيه تعجيب من جهلهم وتنبيه على قلة عقولهم حيث وصفوه بصفات المخلوقين ، وإشارة إلى أن الولد لا يكون عبد أبيه ، والملائكة عباد الله ، فكيف تكون البنات عباداً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وقيل : الجزء ها هنا بمعنى النصيب ، كما في قوله تعالى : {لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} () ؛ أي : نصيب ، ومعنى الآية : معنى قوله : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالانْعَـامِ نَصِيبًا} ().
وذلك أنهم جعلوا البناتوالبنين لأنفسهم كم يجيء.
{إِنَّ الانسَـانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} : ظاهر الكفر مبالغ فيه ، أو مظهر لكفره ، ولذلك يقولون ما يقولون ، سبحانه عما يصفون :
4
بى زن وفرزند شد ذات احد
از ازل فردو صمد شدنا ابد
{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} : مفعول اتخذوا البنات.
بالفارسية : (دختران).
{وَأَصْفَـاكُم بِالْبَنِينَ} : (وشمارا خالص كرد وبركز يدبه بسران) : أم منقطعة مقدرة ببل.
والهمزة على أنها للإنكار ، والتوبيخ والتعجيب من شأنهم وتنكير بنات لتربية الحقارة كما أن تعريف البنين لتربية الفخامة ، وقدم البنات لكون المنكر عليهم نسبتهن إلى الله ، فكان ذكرهن أهم بالنظر إلى مقصود المقام ، والالتفات إلى خطابهم لتأكيد الإلزام وتشديد التوبيخ والإصفاء : الإيثار.
وبالفارسية : (بر كزيدن يقال اصفيت فلاناً بكذا) ؛ أي : آثرته به.
والمعنى :
357
بل اتخذ من خلقه البنات التي هي أخس الصنفين ، واختار لكم البنين الذين هم أفضلهما على معنى هبوا أنكم اجتزأتم على إضافة جنس الولد إليه سبحانه وتعالى ، مع ظهور استحالته وامتناعه أما كان لكم شيء من العقل ، ونبذة من الحياء حتى اجترأتم على ادعاء أنه تعالى آثركم على نفسه بخير الصنفين وأعلاهما وترك لنفسه شرهما وأدناهما ، فإن الإناث كانت أبغض الأولاد عندهم.
ولذا وأدوهن ، ولو اتخذ لنفسه البنات وأعطى البنين لعباده لزم أن يكون حال العبد أكمل وأفضل من حال الله ، ويدفعه بديهة العقل.
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـانِ مَثَلا} : الالتفات للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم أن يعرض عنهم.
ويحكى لغيرهم تعجباً منها ، وضرب هنا بمعنى : جعل المتعدي إلى مفعولين حذف الأول منهما لا بمعنى بين ومثلاً بمعنى شبيه لا بمعنى القصة العجيبة ، كما في قولهم : ضرب له المثل بكذا ، والمعنى : وإذا أخبر أحد المشركين بولادة ما جعله مثلاً له تعالى وشبيهاً إذ الولد لا بد أن يجانس الوالد ويماثله.
{ظَلَّ وَجْهُه مُسْوَدًّا} : الظلول هنا بمعنى الصيرورة ؛ أي : صار أسود في الغاية من سوء ما بشر به ، ولذا من رأى في المنام أن وجهه أسود ولدت له بنت ، ويجوز أن يكون اسوداد الوجه عبارة عن الكراهة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَهُوَ كَظِيمٌ} ؛ أي : والحال أنه مملوء من الكرب والكآبة ، يقال : رجل كظيم ومكظوم ؛ أي : مكروب كما في "القاموس".
يقول الفقير : هذه صفة المشركين ؛ فإنهم جاهلون بالله غافلون عن خفي لطفه تحت جلي قهره ، وأما الموحدون ، فحالهم الاستبشار بما ورد عن الله أياً كان إذ لا يفرقون بين أحد من رسله ، كما أن الكريم لا يغلق بابه على أحد من الضيفان والفاني عما سوى الله تعالى ليس له مطلب ، وإنما مطلبه ما أراد الله : (كذشتم ازسر مطالب تمام شد مطلب نقاب جهره مقصود بود مطلبها).
(8/274)
{أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ} : تكرير للإنكار.
والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه ، ومن منصوب بمضمر معطوف على جعلوا.
والتنشئة : التربية.
وبالفارسية : (بروردن).
والحلية : ما يتحلى به الإنسان ويتزين.
وبالفارسية : (آرايش).
والجمع حلي بكسر الحاء وضمها وفتح اللام.
والمعنى : أو جعلوا من شأنه أن يربى في الزينة ، وهو عاجز عن أن يتولى لأمره بنفسه.
يعني : البنات.
وقال سعدي المفتي : لعل القدير اجترؤوا على مثل هذه العظيمة وجعلوا.
وقال الكاشفي : (آيا كسى كه برورده كردد ببرايه يعني : بناز برورش يابد وا اورا قوت حرب ميدان داى نباشيد).
{وَهُوَ} مع ما ذكر من المقصود.
{فِى الْخِصَامِ} مع من يخاصمه ويجادله ؛ أي : في الجدال الذي لا يكاد يخلو الإنسان منه في العادة.
{غَيْرُ مُبِينٍ} غير قادر على تقرير دعواه وإقامة حجته.
كما يقدر الرجل عليه لنقصان عقله وضعف رأيه ، وربما يتكلم عليه ، وهو يريد أن يتكلم له.
وهذا بحسب الغالب ، وإلا فمن الإناث من هو أهل الفصاحة ، والفاضلات على الرجال.
قال الأحنف : سمعت كلام أبي بكر رضي الله عنه حتى مضى ، وكلام عمر رضي الله عنه حتى مضى ، وكلام عثمان رضي الله عنه حتى مضى ، وكلام علي رضي الله عنه حتى مضى.
لا والله ما رأيت أبلغ من عائشة رضي الله عنها.
وقال معاوية رضي الله عنه : ما رأيت أبلغ من عائشة ما أغلقت باباً ، فأرادت فتحه إلا فتحته ، ولا فتحت باباً فأرادت إغلاقه إلا غلقته.
ويدل عليه قوله عليه السلام في حقها "إنها ابنة أبي بكر" إشعاراً بحسن فهمها وفصاحة منطقها كما سبق.
قال الكاشفي : (عرب راشجاعت وفصاحت فخر بودى واغلب زنان ازين دو حليه عاطل مى باشد حق تعالى
358
فرمود كه آيا كسى انجينين باشد خداى تعالى اورا بفرزندى ميكيرد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال أهل التفسير : إضافة غير لا تمنع عمل ما بعده في الجار المتقدم ؛ لأنه بمعنى النفي ؛ كأنه قال : وهو لا يبين في الخصام ومثله مسألة الكتاب أنا زيداً غير ضارب.
قال في "كشف الأسرار" : في الآية تحليل لبس الذهب والحرير للنساء وذم لتزيين الرجال بزينة النساء.
وقال في "بحر العلوم" : وفي الآية دلالة بينة لكل ذي عقل سليم على ترك النشو في الزينة والنعومة والحذر عنه ؛ لأنه تعالى جعله من المعايب والمذام ، ومن صفات الإناث ويعضده قول النبي عليه السلام لمعاذ "إياك والتنعم ، فإن عباد الله ليسوا بمتنعمين".
والتنعم : استعمال ما فيه النعومة واللين من المأكولات والملبوسات.
(غدا كر لطيفست وكر سرسرى.
جو ديرت بدست اوفتد خوش خورى).
ومن الكلمات الحكيمة : نم على أوطأ الفراش ؛ أي : وقت غلبة النوم ، وكل ألذ الطعام ؛ أي : وقت غلبة الجوع والعجب كل العجب من علماء عصرك ومتفقهة زمانك يتلون هذه الآية ونحوها.
والأحاديث المطابقة لها في المعنى ، ثم لا يتأملونها تأملاً صحيحاً ، ولا يتبعون فيها نبيهم الكريم في ترك الزينة والتنعم.
(همجو طفلان منكر اندر شرخ وزرد.
جون زنان مغرور رنك وبومكرد).
وقال بعضهم : (خويشتن آراى مشوجون بهار.
تانبود برتو طمع روزكار).
وفيه إشارة إلى أن المرء المتزين كالمرأة ، فالعاقل يكتفي بما يدفع الحر والبرد ويجتهد في تزيين الباطل ، فإنه المنظر الإلهي ، ولو كانت للنساء عقول راجحة لما ملن إلى التزين بالذهب والفضة والحلي والحلل ، أما يكفي للمرء.
والمرأة مضمون ما قيل :
نشد عزيز تر از كعبه اين لباس برست
بجامة كه بسالى رسد قناعت كن
{أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـانِ إِنَـاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَـادَتُهُمْ وَيُسْـاَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَـاهُما مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍا إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ * أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـابًا مِّن قَبْلِه فَهُم بِه مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى} .
{وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـانِ إِنَـاثًا} بيان لتضمن كفرهم المذكور لكفر آخر وتقريع لهم بذلك ، وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله أنقصهم رأياً وأخسهم صنفاً.
يعني : (ملائكة كه مجاو أن صوامع وملازمان مجامع عبوديت اند دختران نام مى نهند).
والبنات لا تكن عباداً والولد لا يكون عبد أبيه ، ففيه تكذيب لهم في قولهم الملائكة بنات الله.
{أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} من الشهود بمعنى الحضور لا من الشهادة ؛ أي : أحضروا خلق الله تعالى إياهم فشاهدوهم إناثاً حتى يحكموا بأنوثتهم ، فإن ذلك إنما يعلم بالمشاهدة ، وهو تجهيل لهم وتهكم بهم ، فإنهم إنما سمعوه من آبائهم ، وهم أيضاً : كذابون جاهلون ، وفيه تخطئة للمنجمين وأهل الحكمة المموهة في كثير من الأمور ، فإنهم بعقولهم القاصرة حكموا على الغيب.
(
(8/275)
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
منجمي بخانة حوددر آمد مرد بيكانه راديد بازن خود بهم نشسته دشنام داد وسقط كفت وفتنة واشوب بر خاست صاحب دلى برين حال واقف شدوكفت.
تو براوج فلك جه دانى جيست.
جو ندانى كه درسراى توكيست).
قال العماد الكاتب : أجمع المنجمون في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة في جميع البلاد على خراب العالم في شعبان عند اجتماع الكواكب الستة في الميزان بطوفان الريح ، وخوفوا بذلك ملوك الأعاجم والروم ، فشرعوا في حفر مغارات ونقلوا إليها الأزواد والماء ، وتهيؤوا ، فلما كانت الليلة التي عينها المنجمون بمثل ريح عاد ونحن جلوس عند السلطان ، والشموع تتوقد ، فلا تتحرك ، ولم نر ليلة في ركودها مثلها.
{سَتُكْتَبُ شَهَـادَتُهُمْ} هذه في ديوان أعمالهم يعني : يكتب الملك ما شهدوا بها على الملائكة.
{وَيُسْـاَلُونَ} عنها يوم القيامة وهو وعيد.
قال
359
سعدي المفتي : السين في ستكتب للتأكيد ويحتمل أن يكون للاستعطاف إلى التوبة قبل كتابة ما قالوه ، ولا علم لهم به.
وفي الحديث : "كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل".
وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً ، وإذا عمل سيئة.
قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح الله ، أو يستغفر".
قال ابن جريح : هما ملكان : أحدهما عن يمينه.
والآخر عن يساره ، والذي عن يمينه يكتب الحسنات بغير شهادة صاحبه ، والذي عن يساره لا يكتب إلا بشهادة صاحبه إن قعد ، فأحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله ، وإن مشى ، فأحدهما أمامه والآخر خلفه ، وإن نام ، فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه.
والكفار لهم كتاب وحفظة كما للمؤمنين.
فإن قيل : فالذي يكتب عن يمينه إذ أي شيء يكتب ، ولم يكن لهم حسنة.
يقال له الذي عن شماله : يكتب بإذن صاحبه ، ويكون شاهداً على ذلك ، وإن لم يكتب.
قال بعض المحدثين : تجتنب الملائكة بني آدم في حالين عند الغائط ، وعند الجماع.
وفي "شرح الطريقة" يكره الكلام في الخلاء ، وعند قضاء الحاجة أشد كراهة ؛ لأن الحفظة تتأذى بالحضور في ذلك الموضع الكريه لأجل كتابة الكلام ، فلا بد للمرء من الأدب والمراقبة ، والمسارعة في الخير دون الشر.
وفي الحديث : "عند الله خزائن الخير والشر مفاتيحها الرجال ، فطوبى لمن جعله مفتاحاً للخير ومغلاقاً للشر ، وويل لمن جعله مفتاحاً للشر ومغلاقاً للخير".
ثم في الآية إشارة إلى أن الله تعالى أمهل عباده ، ولم يأخذهم بغتة في الدنيا ليرى العباد أن العفو والإحسان أحب إليه من الأخذ والانتقام ، وليتوبوا من الكفر والمعاصي (بياتا براريم دستى زدل.
كه نتوان برآورد فردازكل.
نريزد خدا آب روى كسى.
كه ريزد كناه آب جشمش بسى).
ومن الله التوفيق لما يحبه ويرضاه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَقَالُوا لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَـاهُم} : بيان لفن آخر من كفرهم ؛ أي : قال المشركون العابدون للملائكة لو شاء الرحمن عدم عبادتنا للملائكة مشيئة ارتضاء ما عبدناهم أرادوا بذلك أن ما فعلوه حق مرضي عنده تعالى ، وأنهم إنما يفعلونه بمشيئة الله تعالى لا الاعتذار من ارتكاب ما ارتكبوه بأنه بمشيئة الله إياه منهم مع اعترافهم بقبحه حتى ينتهض ذمهم به دليلاً للمعتزلة ومبنى كلامهم بالباطل على مقدمتين :
إحداهما : أن عبادتهم لهم بمشيئة الله تعالى.
والثانية : أن ذلك مستلزم لكونها مرضية عنده تعالى.
ولقد أخطؤوا في الثانية حيث جهلوا أن المشيئة عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض كائناً ما كان من غير اعتبار الرضا والسخط في شيء من الطرفين ، ولذلك جهلوا بقوله : {مَّا لَهُم بِذَالِكَ} ؛ أي : بما أرادوا بقولهم ذلك من كون ما فعلوه بمشيئة الارتضاء لا بمطلق المشيئة ، فإن ذلك محقق ينطق به ما لا يحصى من الآيات الكريمة.
{مِنْ عِلْمٍ} : يستند إلى سند ما {إِنْ هُمْ} ؛ أي : ما هم {إِلا يَخْرُصُونَ} يكذبون ، فإن الخرص الكذب.
وكل قول بالظن والتخمين سواء طابق الواقع ، أم لا؟
قال الراغب : كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له : خرص سواء كان ذلك مطابقاً للشيء أو مخالفاً له من حيث أن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع ، بل اعتمد فيه على الظن والتخمين كفعل الخارص في خرصه ، وكل من قال قولاً على هذا النحو يسمى كاذباً ، وإن كان مطابقاً للقول المخبر به ، كما حكى عن قول المنافقين في قوله تعالى :
360
{إِذَا جَآءَكَ الْمُنَـافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} إلى قوله : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لَكَـاذِبُونَ} (المنافقون : 1).
يقول الفقير : إسناد المشيئة إلى الله إيمان وتوحيد إن صدر من المؤمن وإلا فكفر وشرك ؛ لأنه من العناد والعصبية والجهل بحقيقة الأمر ، فلا يعتبر ، ثم أضرب عنه إلى إبطال أن يكون لهم سند من جهة النقل.
فقيل :
(8/276)
{أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ} : (آيا داده اسم ايشانرا).
{كِتَـابًا مِّن قَبْلِهِ} ؛ أي : من قبل القرآن أو الرسول ، أو من قبل ادعائهم ، ينطق بصحة ما يدعونه من عبادة غير الله وكون الملائكة بناته.
{فَهُم بِهِ} ؛ أي : بذلك الكتاب {مُسْتَمْسِكُونَ} وعليه معولون.
(ومقرر است كه ايشانرا كتابي نداده ايم بس ايشانرا حجتى نقلا وعقلا نيست).
ويقال : استمسك به إذا اعتصم به.
قال في "تاج المصادر" : (الاستمساك جنك در زدن).
ويعدى بالباء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفي "المفردات" إمساك الشيء التعلق به وحفظه ، واستمسكت بالشيء إذا تحريت الإمساك.
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} : الأمة الدين والطريقة التي تؤم ؛ أي : تقصد.
قال الراغب : الأمة كل جماعة يجمعهم أمر إما دين واحد أو زمان واحد ، أو مكان واحد سواء كان الأمر الجامع تسخيراً ، أو اختياراً.
وقوله : إنا وجدنا آباءنا على أمة ؛ أي : على دين مجتمع عليه.
انتهى.
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ} : مهتدون خبر إن والظرف صلة لمهتدون قدم عليه للاختصاص ويستعمل بعلى تضمنه معنى الثبوت والأثر بفتحتين بقية الشيء والآثار الأعلام.
وسنن النبي عليه السلام آثاره.
قال الراغب : أثر الشيء حصول ما يدل على وجوده ، ومن هذا يقال للطريق المستدل به على من تقدم آثار.
والآثار بالفارسية : (بيها).
والمعنى : لم يأتوا بحجة عقلية أو نقلية ، بل اعترفوا بأن لا سند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم :
جه قدررا بتقليد توان بيمودن
رشته كوتاه بود مرغ نوآه موخته را
وفيه ذم للتقليد ، وهو قبول قول الغير بلا دليل ، وهو جائز في الفروع والعمليات ، ولا يجوز في أصول الدين والاعتقادات ، بل لا بد من النظر والاستدلال ، لكن إيمان المقلد صحيح عند الحنفية والظاهرية ، وهو الذي اعتقد جميع ما وجب عليه من حدوث العالم ووجود الصانع ، وصفاته وإرسال الرسل ، وما جاؤوا به حقاً من غير دليل ؛ لأن النبي عليه السلام قبل إيمان الأعراب والصبيان والنسوان والعبيد والإماء من غير تعليم.
الدليل ولكن المقلد يأثم بترك النظر والاستدلال لوجوبه عليه ، والمقصود من الاستدلال هو الانتقال من الأثر إلى المؤثر ، ومن المصنوع إلى الصانع تعالى بأي وجه كان لا ملاحظة الصغرى والكبرى ، وترتيب المقدمات على قاعدة المعقول ، فمن نشأ في بلاد المسلمين وسبح الله عند رؤية صنائعه ، فهو خارج عن حد التقليد ، كما في فصل الخطاب والعلم الضروري أعلى من النظري إذ لا يزول بحال ، وهو مقدمة الكشف والعيان ، وعند الوصول إلى الشهود لا يبقى الاحتياج إلى الواسطة (ع) ساكنان حرم (از قبله نما آزادند).
وفي المثنوي :
جون شدى بربامهاى آسمان
سرد باشد جست وجوى نردبان
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَـارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَـارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَـالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه كَـافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَكَذَالِكَ} ؛ أي : والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتشبثهم بذيل التقليد.
{مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ} : (دردهى ومجتمعى).
{مِّن نَّذِيرٍ} نبي منذر قوم من عذاب الله.
{إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَآ} : جبابرتها {إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} : طريقة ودين.
{وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا} سننهم وأعمالهم {مُّقْتَدُونَ} قوله : ما أرسلنا.
إلخ.
استئناف دال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم ليس لأسلافهم أيضاً سند غيره وتخص المترفين
361
بتلك المقالة للإيذان بأن التنعم وحب البطالة هو الذي صرفهم عن النظر إلى التقليد ، يقال : أترفته النعمة ؛ أي : أطغته.
والمراد بالمترفين : الأغنياء والرؤساء الذين أبطرتهم النعمة وسعة العيش في الدنيا وأشغلتهم عن نعيم الآخرة ، ويدخل فيهم كل من يتمادى في الشهوات ويتبالغ في النفرة من لوازم الدين من الشرائع والأحكام.
وفي الحديث : "ما بال أقوام يشرفون المترفين ، ويستخفون بالعابدين يعملون بالقرآن ما وافق أهواءهم وما خالف أهواءهم تركوه فعند ذلك يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، يسعون فيما يدرك بغير سعي من القدر المحتوم والرزق المقسوم ، والأجل المكتوب ، ولا يسعون فيما لا يدرك إلا بالسعي من الأجر الموفور والسعي المشكور والتجارة التي لا تبور".
(8/277)
قال بعضهم : إن الله تعالى ضمن لنا الدنيا وطلب منا الآخرة ، فليته طلب منا الدنيا وضمن لنا الآخرة ، فعلى العاقل الاقتفاء على آثار المهتدين وعمارة الآخرة كما عليه أرباب اليقين.
قال الصائب :
برنمى آيى بنعمتهاى الوان زينهار
تاتوان غم خورد فكر نعمت الوان مكن
كار عاقل نيست بند خويش محكم ساختن
عمر خودرا صرف در تعمير اين زندان مكن
{قَالَ} ؛ أي : كل نذير من أولئك المنذرين لأممهم عند تعللهم بتقليد آبائهم.
{أَوَلَوْ جِئْتُكُم} ؛ أي : أتفتدون بآبائكم ، ولو جئتكم {بِأَهْدَى} ؛ أي : بدين أهدى وأرشد {مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ} ؛ أي : من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء ، وإنما عبر عنها بذلك مجاراة معهم على مسلك الإنصاف.
{قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه كَـافِرُونَ} ؛ أي : قال : كل أمة لنذيرها إنا بما أرسلت به كافرون ، وإن كان أهدى مما كنا فيه ؛ أي : ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه ، وقد أجمل عند الحكاية للإيجاز ، كما في قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَـاتِ} (المؤمنون : 51) ، وفيه إقرار منهم بتصميمهم على تقليد آبائهم في الكفر والضلال ، وإقناط للنذير من أن ينظروا ويتفكروا فيه :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
خلق را تقليد شان بربادداد
كه دوصد لعنت برين تقليد باد
كرجه عقلش سوى بالاميبرد
مرغ تقليدش به بستى مى برد
{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} : (بس ما انتقام كشيديم از مقلدان معاند باستئصال ايشان).
إذ لم يبق لهم عذر أصلاً.
{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} من الأمم المذكورين ، فلا تكترث بتكذيب قومك ، فإن الله ينتقم منهم باسمه المنتقم القاهر القابض.
قال علي رضي الله عنه السعيد من وعظ بغيره.
يعني : (نيكبخت آن بودكه جون ديكرا برا بند دهند واذكار ناشايسته وكفتار نا بسنديده بازدارند اوازان بند عبرت كيرد).
روي عن الشعبي أنه قال : خرج أسد وذئب وثعلب يتصيدون ، فاصطادوا حمار وحش وغزالاً وأرنباً فقال الأسد للذئب اقسم ، فقال : حمار الوحش للملك والغزال لي والأرنب للثعلب ، قال : فرفع الأسد يده وضرب رأس الذئب ضربة ، فإذا هو منجدل بين يدي الأسد ، ثم قال للثعلب اقسم هذه بيننا ، فقال الحمار يتغدى به الملك والغزال يتعشى به والأرنب بين ذلك ، فقال الأسد : ويحك ما أقضاك من علمك هذا القضاء ، فقال : القضاء الذي نزل برأس الذئب ، فالإنسان مع كونه أعقل الموجودات لا يعتبر.
وفي بعض الكتب سأل بعض الملوك بنته البكر عن ألذ الأشياء ، فقالت : الخمر والجماع والولاية ، فهم بقتلها ، فقالت : والله ما ذقتها ، ولكني أرى ما فيك من الخمار والصداع ، ثم أراك تعاودها ، وأرى ما تلاقي أمي من نصب الولادة والألم والإشراف على الموت ، ثم أراها في فراشك إذا طهرت من نفاسها وأسمع ما يجري على عمالك
362
عند انعزالهم من الضرب والحبس والمصادرة ، ثم أراهم يطلبون الأعمال بأتم حرص ، ولا يعتبرون بما جرى عليهم وعلى غيرهم ، فعرفت أن هذه الثلاثة ألذ الأشياء فعفا الملك عنها.
قال الشيخ سعدي :
ندانستى كه بينى بند برباى
جودر كوشت نيايد بند مردم
دكرره كرندارى طاقت بيش
مكن انكشت در سوراخ كزدم
وجاء في الأمثال المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
وفيه إشارة إلى حال النفس الناسية القاسية ، فإنها مع ما تذوق في الدنيا من وبال سيئاتها تعود إلى ما كانت عليه نسأل الله العصمة والتوفيق والعفو والعافية.
{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لابِيهِ وَقَوْمِه إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّه سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةَا بَاقِيَةً فِى عَقِبِه لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هَـاؤُلاءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} ؛ أي : واذكر يا محمد لقومك قريش وقت قول إبراهيم عليه السلام بعد الخروج من النار {لابِيهِ} : (تارخ الشهير بآزر.
وكان ينحت الأصنام).
{وَقَوْمِهِ} المكبين على التقليد وعبادة الأصنام كيف تبرأ مما هم فيه بقوله : {إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} وتمسك بالبرهان ليسلكوا مسلك الاستدلال ، أو ليقتدوا به إن لم يكن لهم بد من التقليد ، فإنه أشرف آبائهم وبراء بفتح الباء مصدر نعت به مبالغة ، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث ، والواحد والمتعدد يقال : نحن البراء ، أما البريء فهو يؤنث ويجمع يقال : بريء وبريئون وبريئة وبريئات.
والمعنى : بريء من عبادتكم لغير الله إن كانت مصدرية ، أو من معبودكم إن كانت موصولة حذف عائدها.
(8/278)
{إِلا الَّذِى فَطَرَنِى} استثناء منقطع إن كانوا عبدة الأصنام ؛ أي : لكن الذي خلقني لا أبرأ منه ، والفطر ابتداء خلق من غير مثال من قولهم : فطرت البئر إذا أنشأت حفرها من غير أصل سابق ، أو متصل على أن ما نعم أولى العلم وغيرهم ، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام ، أو صفة على أن ما موصوفة ؛ أي : إني بريء من آلهة ، تعبدونها غير الذي فطرني فإن إلا بمعنى غير لا يوسف بها إلا جمع منكور غير محصور وهو هنا آلهة كما هو مذهب ابن الحاجب.
{فَإِنَّه سَيَهْدِينِ} ؛ أي : سيثبتني على الهداية ، أو سيهديني إلى ما وراء الذي هداني إليه إلى الآن ، ولذا أورد كلمة التسويف هنا بعدما قال في الشعراء ، فهو يهدين بلا تسويف.
والأوجه أن السين للتأكيد دون التسويف وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار ؛ أي : دوام الهداية حالاً واستقبالاً.
{وَجَعَلَهَا} ؛ أي : جعل إبراهيم كلمة التوحيد التي كان ما تكلم به من قوله : إنني إلى سيهدين عبارة عنها ، يعني : أن البراءة من كل معبود سوى الله توحيد للمعبود بالحق ، وقول بلا إله إلا الله.
{كَلِمَةَا بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ} ؛ أي : في ذريته حيث وصاهم بها كما نطق به قوله تعالى : {وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِامُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} (البقرة : 132).
الآية.
فالقول المذكور بعد الخروج من النار ، وهذا الجعل بعد حصول الأولاد الكبار ، فلا يزال فيهم نسلاً بعد نسل من يوحد الله ويدعو إلى توحيده وتفريده إلى قيام الساعة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال الراغب : العقب مؤخر الرجل واستعير للولد وولد الولد.
انتهى.
فعقب الرجل ولده الذكور والإناث وأولادهم وما قيل : من أن عقب الرجل وأولاده الذكور ، كما وقع في أجناس الناطفي ، أو أولاده البنات ، كما نقل عن بعض الفقهاء ، فكلا القولين ضعيف جداً مخالف للغة لا يوثق به.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : علة للجعل والضمير للعقب وإسناد الرجوع إليهم من وصف الكل بحال الأكثر والترجي راجع إلى إبراهيم عليه السلام ؛ أي : جعلها باقية في عقبه وخلفه رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم بدعاء الموحد.
قال بعضهم في سبب
363
تكريم وجه علي بن أبي طالب ، بأن يقال : كرم الله وجه إنه نقل عن والدته فاطمة بنت أسد بن هاشم أنها كانت إذا أرادت أن تسجد للصنم ، وهو في بطنها يمنعها من ذلك ونظر فيه البعض بأن قال عبادة قريش صنماً وإن كانت مشهورة عند الناس ، لكن الصواب خلافه لقول إبراهيم عليه السلام : {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ} (إبراهيم : 35) ، وقول الله في حقه {وَجَعَلَهَا كَلِمَةَا بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ} (الزخرف : 28).
وجوابه في سورة إبراهيم ، {فَارْجِعِ} .
وفي الآية إشارة إلى أن كل من ادعى معرفة الله ، والوصول إليه بطريق العقل والرياضة والمجاهدة من غير متابعة الأنبياء وإرشاد الله من الفلاسفة والبراهمة والرهابنة ، فدعواه فاسد ومتمناه كاسد.
قال الشيخ سعدي :
درين بحر جز مرد راعى نرفت
كم آن شدكه دمبال داعى نرفت
كسانى كزين راه بركشته اند
برفتند وبسيار سركشته اند
خلاف بيمبر كسى ره كزيد
كه هركز بمنزل نخواهد رسيد
وإشارة أخرى أن بعد أهل العناية يهتدون إلى معرفة الله بإرشاد الله ، وإن لم يبلغه دعوة نبي ، أو إرشاد ولي أو نصح ناصح ولا يتقيد بتقليد آبائه ، وأهل بلده من أهل الضلالة والأهواء والبدع ، ولا تؤثر فيه شبههم ودلائلهم المعقولة المشوبة بالوهم والخيال ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، كما كان حال إبراهيم عليه السلام كذلك ، فإن الله تعالى أرشده من غير أن يبلغه دعوة نبي ، أو إرشاد ولي ، أو نصح ناصح ، فلما آتاه الله رشده دعا قومه إلى التوحيد ووصى به بنيه لعلهم يرجعون عن الشرك.
وفيه إشارة إلى أن الرجوع إلى الله على قدمي اعتقاد أهل السنة والجماعة والأعمال الصالحة على قانون المتابعة بنور هذه الكلمة الباقية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{بَلْ مَتَّعْتُ هَـاؤُلاءِ} : إضراب عن محذوف ؛ أي : فلم يحصل ما رجاه ، بل متعت منهم هؤلاء المعاصرين للرسول من أهل مكة.
{وَءَابَآءَهُمْ} بالمد في العمر والنعمة ، فاغتروا بالمهلة وانهمكوا في الشهوات وشغلوا به عن كلمة التوحيد.
{حَتَّى جَآءَهُمُ} ؛ أي : هؤلاء {الْحَقُّ} ؛ أي : القرآن.
{وَرَسُولٌ} ؛ أي : رسول {مُّبِينٌ} : ظاهر الرسالة واضحها بالمعجزات الباهرة ، أو مبين للتوحيد بالآيات البينات والحجج ، فحتى ليست غاية للتمتع ، بل لما تسبب عنه من الاغترار المذكور وما يليه.
{بَلْ مَتَّعْتُ هَـاؤُلاءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَـاذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِه كَـافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَا نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى} .
(8/279)
{وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ} لينبههم عما هم فيه من الغفلة ، ويرشدهم إلى التوحيد ازدادوا كفراً وعتواً وضموا إلى كفرهم السابق معاندة الحق والاستهانة به حيث {قَالُوا هَـاذَا} الحق والقرآن {سِحْرٌ} ، وهو إراءة الباطل في صورة الحق ، وبالفارسية : (جادويى).
{وَإِنَّا بِه كَـافِرُونَ} : (بارر نداريم كه آن من عند الله است).
فسموا القرآن سحراً وكفروا به.
وفيه إشارة إلى أرباب الدين وأهل الحق ، فإن أهل الأهواء والبدع والضلالة ينظرون إلى الحق وأهله كمن ينظر إلى السحر وساحره وينطقون بكلمة الكفر بلسان الحال ، وإن كانوا يمسكون بلسان المقال.
واعلم أن الكفر والتكذيب والإنكار من أوصاف أهل الجحيم ؛ لأنه كما أن الجحيم مظهر قهر الله تعالى ، فكذا الأوصاف المذكورة من أمارات قهر الله تعالى ، فمن وجد فيه شيء من ذلك فقد اقتضت المناسبة أن يدخل النار ، وأن الإيمان والتصديق والإقرار من أوصاف أهل الجنة ؛ لأنه كما أن الجنة مظهر لطف الله تعالى ، فكذا الأوصاف المذكورة من آثار لطف الله تعالى ، فمن وجد فيه شيء من ذلك فقد اقتضت المناسبة أن يدخل الجنة ، ولكن التصديق على أقسام :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
فقسم باللسان ،
364
وهو الذي يشترك فيه المطيع والعاصي والخواص والعوام ، وهو مفيد في الآخرة إذ لا يخلد صاحبه في النار.
وقسم بالأركان والطاعات والأذكار وأسباب اليقين ، فذلك تصديق الأنبياء والأولياء والصديقين والصالحين.
وبه يسلم صاحبه من الآفات مطلقاً.
وفي الحديث : "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" ، قيل : ومن يأبى يا رسول الله؟ قال : "من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى".
أراد عليه السلام : "من أطاعني وصدقني فيما جئت به من الاعتقاد والعلم والعمل ، ومن عصاني في ذلك ، فيكون المراد بالأمة ، أمة الدعوة والإجابة جميعاً.
استثنى منه أمة الدعوة.
وذلك فإن الأمة تطلق تارة على كافة الناس ، وهم أمة الدعوة ، وأخرى على المؤمنين ، وهم أمة الإجابة ، فأمة الإجابة أمة دعوة ، ولا ينعكس كلياً ، فاحذر الإباء والزم البقاء تنعم في جنة المأوى ، فإن طريق النجاة هي الطاعات والأعمال الصالحات ، فمن غرته الأماني واعتاد أملاً طويلاً فقد خسر خسراناً مبيناً نسأل الله سبحانه أن يجعلنا كما أمر في كتابه المبين ، آمين.
{وَقَالُوا} أهل مكة {لَوْلا} حرف تحضيض {نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ} من إحدى القريتين مكة والطائف.
{عَظِيمٍ} بالمال والجاه كالوليد بن المغيرة المخزومي بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف ، فهو على نهج قوله تعالى : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن : 22) ؛ أي : من أحدهما ، وذلك لأن من للابتداء وكون الرجل الواحد من القريتين بعيد ، فقدر المضاف ، ومنهم من لم يقدر مضافاً.
وقال : أراد على رجل كائن من القريتين كلتيهما.
والمراد به عروة المذكور ؛ لأنه كان يسكن مكة والطائف جميعاً ، وكان له في مكة أموال يتجر بها ، وكان له في الطائف بساتين وضياع ، فكان يتردد إليهما ، فصار كأنه من أهلهما.
يقول الفقير : هنا وجه خفي ، وهو أن النسبة إلى القريتين قد تكون بالمهاجرة من إحداهما إلى الأخرى ، كما يقال : المكي المدني والمصري الشامي ، وذلك بعد الإقامة في إحداهما أربع سنين صرح بذلك أهل أصول الحديث ، ثم إنهم لم يتفوهوا بهذه الكلمة العظيمة حسداً على نزوله على الرسول عليه السلام دون من ذكر من عظمائهم من اعترافهم بقرآنيته بل استدلالاً على عدمها بمعنى أنه لو كان قرآناً لنزل على أحد هذين الرجلين بناء على ما زعموا من أن الرسالة منصب جليل لا يليق به إلا من له جلاله من حيث المال والجاه ، ولم يدروا أن العظيم من عظمة الله وأعلى قدره في الدارين لا من عظمة الناس ، إذ رب عظيم عندهم حقير عند الله.
وبالعكس وإن الله يختص برحمته من يشاء ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته ، وفي قولهم : عظيم تعظيم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعظم شأنه وفخم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} إنكار فيه تجهيل لهم وتعجيب من تحكمهم.
والمراد بالرحمة النبوة.
يعني : أبيدهم مفاتيح الرسالة والنبوة ، فيضعونها حيث شاؤوا ، يعني : تابر هركه خواهند در نبوت بكشايند.
{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ} ؛ أي : أسباب معيشتهم.
والمعيشة ما يعيش به الإنسان ويتغذى به ويجعله سبباً في قوام بنيته إذ العيش الحياة المختصة بالحيوان ، وهو يعم الحلال والحرام عند أهل السنة والجماعة.
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ} : قسمة تقتضيها مشيئتنا المبنية على الحكم والمصالح ، ولم نفوض أمرنا إليهم علماً منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية ، كما دل عليه تقديم المسند إليه ، وهو نحن
365
إذ هو للاختصاص.
(8/280)
والحاصل : نحن قسمنا أرزاقهم فيما بينهم ، وهو أدنى من الرسالة ، فلم نترك اختيارها إليهم ، وإلا لضاعوا وهلكوا فما ظنهم في أمر الدين ؛ أي : فكيف نفوض اختيار ما هو أفضل وأعظم ، وهو الرسالة.
{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} في الرزق وسائر مبادي المعاش.
{دَرَجَـاتٍ} نصب بنزع الخافض ؛ أي : إلى درجات متفاوتة بحسب القرب والبعد ، حسبما تقتضيه الحكمة ، فمن ضعيف وقوي وفقير وغني وخادم ومخدوم وحاكم ومحكوم.
{لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} من التسخير والاستخدام ، ولكون المراد هنا الاستخدام دون الهزؤ ؛ لأنه لا يليق التعليل به أجمع القراء على ضم السين في الرواية المشهورة عنهم ، فما كان من التسخير ، فهو مضموم ، وما كان من الهزؤ ، فهو مكسور.
والمعنى : ليستعمل بعضهم بعضاً في مصالحهم ، ويسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل ، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش هذا بماله ، وهذا بعمله ، فيتم قوام العالم لا لكمال في الموسع ولا لنقض في المقتر.
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ} ؛ أي : النبوة وما يتبعها من سعادة الدارين.
{خَيْرٌ} لأهلها.
{مِّمَّا يَجْمَعُونَ} ؛ أي : بجميع هؤلاء الكفار من حطام الدنيا الدنية الفانية ، والعظيم من رزق من تلك الرحمة العظيمة لا مما يجمعون من الدنيء الحقير يظنون أن العظمة به.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يعطي لفقير من فقراء البلد لا يؤبه به ما لا يعطي لعلمائه وأفاضله من حقائق القرآن وأسراره ، فإن قسمة الولاية بيده كقسمة النبوة ، فما لا يحصل بالدرس قد يحصل بالوهب ، وكما أن في صورة المال تسخير بعضهم لبعض لأجل الغنى ، فكذا في صورة العالم والولاية تسخير بعضهم لبعض للتربية وكل من العلم والولاية والنبوة خير من الدنيا وما فيها من الأموال والأرزاق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال بعضهم : المعيشة أنواع إيمان وصدق وإرادة وعلم وخدمة وتوبة وإنابة ومحبة وشوق وعشق ومعرفة وتوحيد وفراسة وكرامة ووارد وقناعة وتوكل ورضا وتسليم.
فتفاوت أصحاب هذه المقامات ، كما تتفاوت أرباب الرزق وكذلك يتفاوتون في المعرفة مثلاً.
فإن بعضهم أعلى في المعرفة من بعض ، وإن اشتركوا في نفس المعرفة وقس عليه صاحب المحبة ونحوها ، هذا للمقلين إليه وللمدبرين كمن يأكل النعم اللذيذة والحشرات المضرة.
وقال بعضهم : باينبينهم بمعرفة كيد النفس ووسوسة الشيطان ، فالأعرف أفضل من العارف وطريقه لذكر.
قال سهل : الذكرخير من كثرة الأعمال ؛ أي : إذا كان خالصاً.
(ودر حقائق سلمى اورده كه تفاوت درجات باخلاق حسنة است خوى هركه نيكوتر درجة او بلندتر.
يكى خوب كردار وخوش خوى بود.
كه بدسيرتا نرا نكو كوى بود.
بخوابش كسى ديدجون در كذشت.
كه بارى حكايت كن از سر كذشت.
دهانى بخنده جو كل باز كرد.
جو بلبل بصوت خوش آغار كرد.
كه بر من نكردند سختى بسى.
كه من سخت نكرفتمى بركسى).
قالت الفلاسفة : إن الكمالات البشرية مشروطة بالاستعداد والمذهب الحق أن جميع المقامات كالنبوة والولاية.
وغيرهما وكذا السلطنة والوزارة ونحوهما اختصاصية عطائية غير كسبية ولا مشروطة بشيء من الاستعداد ونحوه.
فإن الاستعداد أيضاً عطاء من الله تعالى كما قيل :
داد حق راقابليت شرط نيست
بلكه شرط قابليت داد حق
وظهوره بالتدريج بحصول شرائطه وأسبابه يوهم
366
المحجوب ، فيظن أنه كسبي بالتعمل.
وحاصل بالاستعداد ، وليس كذلك في الحقيقة ، فالله تعالى هو الولي يتولى أمر عباده ، فيفعل ما تقتضيه حكمته ، ولا دخل لشيء من ذلك نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن رفعهم إلى درجات الكمال بحرمة أكامل الرجال.
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَا نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِـاُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَالِكَ لَمَّا مَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالاخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} .
بتقدير المضاف مثل كراهة أن يكون الناس ، فإن لولا لانتفاء الثاني لوجود الأول ، ولا تحقق مدلول لولا ظاهراً.
(8/281)
والمعنى : ولولا كراهة أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة وتنعم لحبهم الدنيا ، وتوهم أن ذلك الفضيلة في الكفار ، فيجمعوا ، ويكونوا في الكفر أمة واحدة.
{لَّجَعَلْنَا} لحقارة الدنيا ، وهو أنها عندنا.
{لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـانِ} ؛ أي : لشر الخلائق وأدناهم منزلة ، كما قال تعالى : {أَولَئكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (البينة : 6).
{لِبُيُوتِهِمْ} بدل اشتمال من لمن ، أو اللام بمعنى على وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن إفراد المستكن في يكفر باعتبار لفظها ، والبيوت والأبيات جمع بيت ، وهو اسم لمبنى مسقف مدخله من جانب واحد بني للبيتوتة.
قال الراغب : أصل البيت مأوى الإنسان بالليل ، ثم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه والبيوت بالمسكن أخص ، والأبيات بالشعر ، ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومدر ومن صوف ووبر وبه شبه بيت الشعر.
{سُقُفًا} متخذة {مِّن فِضَّةٍ} جمع سقف ، وهو سماء البيت ، والفضة جسم ذائب صابر منطرق أبيض رزين بالقياس إلى باقي الأجساد.
وبالفارسية : (نقره).
سميت فضة لتفضضها وتفرقها في وجوه المصالح.
{وَمَعَارِجَ} عطف على سقفاً جمع معرج بفتح الميم وكسرها ، بمعنى السلم ، وبالفارسية : (نردبان).
قال الراغب : العروج ذهاب في صعود ، والمعارج المصاعد.
والمعنى : وجعلنا لهم مصاعد ومراقي من فضة حذف لدلالة الأول عليه.
{عَلَيْهَا} ؛ أي : على المعارج.
{يَظْهَرُونَ} يقال : ظهر عليه إذا علاه وارتقى إليه وأصل ظهر الشيء أن يحصل شيء على ظهر الأرض ، فلا يخفى ، ثم صار مستعملاً في كل بارز للبصر والبصيرة ، والمعنى : يعلون السطوح والعلالي.
وبالفارسية : (ونردبانها كه بدان بريام آن خانها برايند وخودرا بنمايند).
{وَلِبُيُوتِهِمْ} ؛ أي : وجعلنا لبيوتهم لعل تكرير ذكر بيوتهم لزيادة التقرير.
{أَبْوَابًا} درها.
والباب : يقال لمدخل الشيء وأصل ذلك مداخل الأمكنة كباب المدينة والدار والبيت.
{وَسُرُرًا} تحتها ؛ أي : من فضة جمع سرير.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال الراغب : السرير الذي يجلس عليه من السرور إذا كان ذلك لأولي النعمة وسرير الميت تشبيه به في الصورة ، وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى الله وخلاصه من السجن المشار إليه بقوله عليه السلام : "الدنيا سجن المؤمن".
{عَلَيْهَا} ؛ أي : على السرر.
{يَتَّكِـاُونَ} : (تكيه كنند).
والاتكاء : الاعتماد.
{وَزُخْرُفًا} هو في الأصل بمعنى الذهب ، ويستعار لمعنى الزينة ، كما قال تعالى : {حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الارْضُ زُخْرُفَهَا} (يونس : 24).
قال الراغب : الزخرف : الزينة المزوقة.
ومنه قيل : للذهب زخرف ، كما قال تعالى : {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} (الإسراء : 93) ؛ أي : ذهب مزوق.
قال في "تاج المصادر" : الزخرفة : (آراستن).
وزوق البيت زينه وصور فيه من الزئبق ، ثم قيل : لكل منقش ومزين مزوق ، وإن لم يكن فيه الزئبق.
والمعنى : وزينة عظيمة من كل شيء عطفاً على سقفاً ، أو ذهباً عطفاً على محل من فضة ، فيكون أصل الكلام سقفاً من فضة وزخرف
367
، يعني بعض السقف من فضة ، وبعضها من ذهب ، ثم نصب عطفاً على محله.
وفي الحديث : "يقول الله تعالى : لولا أن يجزع عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد ولصببت عليه الدنيا صباً" ، وإنما أراد بعصابة الحديد كناية عن صحة البدن ، يعني لا يصدع رأسه.
وفي بعض الكتب الإلهية عن الله تعالى : لولا أن يحزن العبد المؤمن لكللت رأس الكافر بالأكاليل ، فلا يصدع ولا بنبض منه عرق بوجع.
{وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَالِكَ لَمَّا مَتَـاعُ الْحَيَواةِ} : إن نافية ، ولما بالتشديد بمعنى إلا أي وما كان ذلك المذكور من البيوت الموصوفة بالصفات المفصلة إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا لا دوام له ، ولا حاصل إلا الندامة والغرامة.
وقرىء : بتخفيف لما على أن هي المخففة ، واللام : هي الفارقة بينها وبين الناصبة ، وما صلة.
والتقدير : أن الشأن كل ذلك لمتاع الحياة الدنيا.
{وَالاخِرَةُ} بما فيها من فنون النعم التي يقصر عنها البيان.
{عِندَ رَبِّكَ} يعني : (در حكم) ، أو {لِلْمُتَّقِينَ} ؛ أي : عن الكفر والمعاصي :
هركس كه رخ از متاع فانى برنافت
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
واندر طلب دولت باقى بشتافت
آنجا كه كمال همتش بود رسيد
وآنجيز كه مقصود دلتس بود بيافت
فإن قيل : قد بيّن الله تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم لصار ذلك سبباً لاجتماع الناس على الكفر فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير ذلك سبباً لاجتماع الناس على الإسلام فالجواب لأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا ، وهذا الإيمان إيمان المنافقين ، فكان من الحكمة أن يضيق الأمر على المسلمين حتى أن كل من دخل في الإسلام ، فإنما يدخل لمتابعة الدليل ، ولطلب رضا الله ، فحينئذٍ يعظم ثوابه بهذا السبب ؛ لأن ثواب المرء على حسب إخلاصه ونيته ، وإن هجرته إلى ما هاجر إليه.(8/282)
قال في "شرح الترغيب" : فإن قيل : ما الحكمة في اختيار الله تعالى لنبيه الفقر ، واختياره إياه لنفسه ؛ أي : مع قوله : لو شئت لدعوت ربي عز وجل ، فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر.
فالجواب من وجوه : أحدها : أنه لو كان غنياً لقصده قوم طمعاً في الدنيا ، فاختار الله له الفقر حتى أن كل من قصده علم الخلائق أنه قصده طلباً للعقبى.
والثاني : ما قيل : إن الله اختار الفقر له نظراً القلوب الفقراء حتى يتسلى الفقير بفقره ، كما يتسلى الغني بماله.
الثالث : ما قيل : إن فقره دليل على هوان الدنيا على الله تعالى ، كما قال صلى الله عليه وسلّم لو كانت الدنيا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء".
انتهى.
ومعنى : هوان الدنيا على الله أنه سبحانه لم يجعلها مقصودة لنفسها ، بل جعلها طريقاً موصلاً إلى ما هو المقصود لنفسه ، وأنه لم يجعلها دار إقامة ، ولا جزاء ، وإنما جعلها دار رحلة وبلاء ، وأنه ملكها في الغالب الجهلة والكفرة وحماها الأنبياء والأولياء والأبدال ، وأبغضها وأبغض أهلها ، ولم يرض العاقل فيها إلا بالتزود للارتحال عنها.
قال الصائب :
از رباط تن جوبكذشتى ذكر معمورة نيست
زادر هى برنمى دارى ازين منزل جرا
تداركنا الله وإياكم بفضله.
{وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَالِكَ لَمَّا مَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالاخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ * وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـانِ نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا فَهُوَ لَه قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـانِ} من شرطية.
وبالفارسية بمعنى : (وهركه).
ويعش بضم الشين من عشا يعشو عشاً إذا تعاشى بلا آفة ، وتعامى ؛ أي : نظر نظر العشا ولا آفة في بصره.
ويقال : عشي يعشى كرضي إذا كان في بصره آفة مخلة بالرؤية.
قال الراغب : العشا بالفتح والقصر ظلمة تعرض في العين.
يقال رجل أعشى وامرأة عشواء.
وفي "القاموس" : العشا : سوء البصر
368
بالليل والنهار وخبطه خبط عشواء ركبه على غير بصيرة من الناقة العشواء التي لا تبصر أمامها.
والمراد بالذكر القرآن وإضافته إلى الرحمن إشارة إلى كونه رحمة عامة من الله ، أو هو مصدر مضاف إلى مفعول.
والمعنى : ومن يتعامى ويعرض عن القرآن ، أو عن أن يذكر الرحمن.
وبالفارسية : (وهركه جشم بوشد از قرآن ويا ازياد كردن خداى).
لفرط اشتغاله بزهرة الحياة الدنيا وانهماكه في الحظوظ والشهوات الفانية.
{نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا} .
نسلطه عليه ونضمه إليه ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض ، وهو القشر إلا على اليابس.
{فَهُوَ} ؛ أي : ذلك الشيطان.
{لَهُ} ؛ أي : لذلك العاشي والمعرض.
{قَرِينٌ} بالفارسية : (همنشين ودمساز).
ومصاحب لا يفارقه ، ولا يزال يوسوسه ويغويه ويزين له العمى على الهدى والقبيح بدل الحسن.
قال عليه السلام : "إذا أراد الله بعبد شراً قيض له شيطاناً قبل موته بسنة ، فلا يرى حسناً إلا قبحه عنده حتى لا يعمل به ، ولا يرى قبيحاً إلا حسنه حتى يعمل به" وينبغي أن يكون هذا الشيطان غير قرينه الجني الكافر ، وإلا فكل أحد له شيطان هو قرينة ، كما قال صلى الله عليه وسلّم "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينة من الجن وقرينه من الملائكة قالوا : وإياك يا رسول الله ، قال : "وإياي ، ولكن الله أعانني عليه ، فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير" (در نفحات الأنس آوردكه شيخ أبو القاسم مصري قدس سره بايكى از مؤمنان جن دوستى وقتى در مسجدي نشسته بود جنى كفت اي شيخ اين مردم راجه كونه مى بينى كفت بعضى را در خواب وبعضى خواب كفت آنجه برسر هاى ايشانست مى بينى كفتم نه جشمهاى مرا بماليد ديدم كه برسر هركسى بعضى رابالها بجشم فرو كذاشته وبعضى راكاهى فرو كذاريد وكاهى بالامى برد كفتم اين جيست كفت نشنيده كه).
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـانِ نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا فَهُوَ لَه قَرِينٌ} : (اينها شياطين اندبر سرهاى ايشان نشسته وبر هريكى بقدر غفلت وى استيلا يافته ، دريغ ودردكه بانفس بد قرين شده ايم.
وزين معامله باد بو همنشين شده ايم.
بباركاه فلك بوده ايم رشك ملك ، زجور نفس جفابيشه اينجنين شدع ايم).
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفيه إشارة إلى أن من دوام على ذكر الرحمن لم يقربه الشيطان بحال.
قال بعضهم : من نسي الله ترك مراقبته ولم يستح منه ، أو أقبل على شيء من حظوظ نفسه قيض الله له شيطاناً يوسوس له في جميع أنفاسه ، ويغري نفسه إلى طلب هواها حتى يتسلط على عقله وعلمه ، وبيانه وهذا كما قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه : الشهوة والغضب يغلبان العقل والعلم والبيان ، وهذا جزاء من أعرض عن متابعة القرآن ، ومتابعة السنة.
(8/283)
وقال بعضهم : من أعرض عن الله بالإقبال على الدنيا يقيض له شيطاناً ، وإن أصعب الشياطين نفسك الأمارة بالسوء ، فهو له ملازم لا يفارقه في الدنيا والآخرة ، فهذا جزاء من ترك المجالسة مع الله بالإعراض عن الذكر ، فإنه يقول : "أنا جليس من ذكرني" ، فمن لم يذكر ، ولم يعرف قدر خلوته مع الله وحاد عن ذكره ، واختلف إلى خواطر النفسانية الشيطانية سلط الله عليه من يشغله عن الله ، وإذا اشتغل العبد في خلوته بذكر ربه بنفي ما سوى الله ، وإثبات الحق بلا إله إلا الله ، فإذا تعرض له من يشغله عن ربه صرفته سطوات الإلهية عنه ، ومن لم يعرف قدر فراغ قلبه ، واتبع شهوته ،
369
وفتح بابها على نفسه بقي في يد هواه أسيراً غالباً عليه أوصاف شيطنة النفس.
روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : ليس مثل من أمثال العرب إلا وأصله في كتاب الله.
قيل له : من أين قول الناس : أعط أخاك ثمرة ، فإن أبى فجمرة ، قال من قوله : ومن يعش الآية.
{وَإِنَّهُمْ} ؛ أي : الشياطين الذين قيض كل واحد منهم لواحد ممن يعشو.
{لَيَصُدُّونَهُمْ} ؛ أي : يمنعون قرناءهم فمدار جمع الضميرين اعتبار معنى من كما أن مدار إفراد الضمائر السابقة اعتبار لفظها.
{عَنِ السَّبِيلِ} عن الطريق المستبين الذي من حقه أن يسبل ، وهو الذي يدعو إليه القرآن.
{وَيَحْسَبُونَ} ؛ أي : والحال أن العاشين يظنون.
{إِنَّهُمْ} ؛ أي : الشياطين.
{مُّهْتَدُونَ} ؛ أي : السبيل المستقيم ، وإلا لما اتبعوهم ، أو يحسبون أن أنفسهم مهتدون ؛ لأن اعتقاد كون الشياطين مهتدين مستلزم لاعتقاد كونهم كذلك لاتحاد مسلكهما.
{حَتَّى إِذَا جَآءَنَا} حتى ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية ، ومع هذا غاية لما قبلها ، فإن الابتدائية لا تنافيها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
والمعنى : يستمر العاشون على ما ذكر من مقارنة الشياطين والصدق والحسبان الباطل حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة.
{قَالَ} مخاطباً له.
يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} في الدنيا {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} بعد المشرق والمغرب ؛ أي : تباعد كل منهما عن الآخر ، فغلب المشرق وثنى وأضيف البعد إليهما ، يعني : أن حق النسبة أن يضاف إلى أحد المنتسبين ؛ لأن قيام معنى واحد بمحلين ممتنع ، بل يقوم بأحدهما ، ويتعلق بالآخر ، لكن لما ثنى المشرق بعد التغليب لم يبق مجال للإضافة إلى أحدهما ، فأضيف إليهما على تغليب القيام على التعلق.
والمعنى بالفارسية : (اى كاشكى ميان من وتو بودى روى ميان مشرق ومغرب يعنى كاش تو از من ومن ازتو دور بودى).
{فَبِئْسَ الْقَرِينُ} ؛ أي : أنت.
وبالفارسية :
بس بد همنشيني تو
يعني بئس الصاحب كنت أنت في الدنيا ، وبئس الصاحب اليوم.
قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشيطان ، فلا يفارقه حتى يصير إلى النار ، كما أن الملك لا يفارق المؤمن حتى يصير إلى الجنة ، فالشيطان قرين للكافر في الدنيا والآخرة ، والملك قرين المؤمن فيهما ، فبئس القرين الأول ، ونعم القرين الثاني.
{حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} .
{وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ} : حكاية لما سيقال لهم حينئذٍ من جهة الله تعالى توبيخاً وتقريعاً ؛ أي : لن ينفعكم اليوم تمنيكم لمباعدتهم {إِذ ظَّلَمْتُمْ} ؛ أي : لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا باتباعكم إياهم في الكفر والمعاصي ، وإذا للتعليل متعلق بالنفي ، كما قال سيبويه : إنها بمعنى التعليل حرف بمنزلة لام العلة.
{أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} تعليل لنفي النفع ؛ أي : لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وشياطينكم القرناء في العذاب ، كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا.
ويجوز أن يسند الفعل إليه بمعنى لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم : ربنا آتنا ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً ، ونظائره لتشفوا بذلك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفي الآية إشارة إلى حال التابع والمتبوع من أهل الأهواء والبدع ، فإن المتبوع منهم كان شيطان التابع في الإضلال عن طريق السنة ، فلما فات الوقت وأدرك المقت وقعوا في التمني الباطل.
قيل : ()
فضل اليوم على الغد
أن للتأخير آفات
فعلى العاقل تدارك حاله ، وتفكر ما له والهرب من الشيطان الأسود والأبيض قبل أن يهرب هو منه.
حكي : أن عابداً عبد الله تعالى في صومعته دهراً طويلاً ، فولدت لملكهم ابنة
370
(8/284)
حلف الملك أن لا يمسها الرجال ، فأخرجها إلى صومعته وأسكنها معه لئلا يشعر أحد مكانها ولا يستخطبها.
قال : وكبرت الابنة ، فحضر إبليس على صورة شيخ وخدعه بها حتى واقعها الزاهد وأحبلها ، فلما ظهر بها الحبل رجع إليه ، وقال له : إنك زاهدنا وأنها لو ولدت يظهر زناك ، فتصير فضيحة ، فاقتلها قبل الولادة ، وأعلم والدها أنها قد ماتت ، فيصدقك ، فتنجو من العذاب والشين ، فقتلها الزاهد ، فجاء الشيطان إلى الملك في زي العلماء ، فأخبره بصنع الزاهد بابنته من الإحبال والقتل.
وقال له : إن أردت أن تعرف حقيقة ما أخبرتك ، فانبش قبرها وشق بطنها ، فإن خرج منها ولد ، فهو صدق مقالتي ، وإن لم يخرج فاقتلني.
فعل ذلك الملك ، فإذا الأمر كما قال ، فأخذ الزاهد فأركبه جملاً وحمله إلى بلده ، فصلبه ، فجاء الشيطان ، وهو مصلوب ، فقال له : زنيت بأمري وقتلت بأمري فآمن بي أنجك من عذاب الملك ، فأدركته الشقاوة فآمن به ، فهرب الشيطان منه ووقف من بعيد ، فقال الزاهد : نجني.
قال : إني أخاف الله رب العالمين ، فالنفس والشيطان قرينان للإنسان يغويانه إلى أن يهلك :
دانسته ام كه دزد من اذخانة منست
وزيستى وبلندى ديوار فارغم
{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} ؛ أي : من فقد سمع القلوب.
{أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ} من فقد البصائر جمع أصم وأعمى.
وبالفارسية : (آيا تو اى محمد سخن حق توانى شنوانيد آنانراكه كوش دل كرانت يا كورد لانرا طريق حق توانى نمود).
يشير إلى أن من سددنا بصيرته ولبسنا عليه رشده ومن صبينا في مسامع قلبه رصاص الشقاء والحرمان لا يمكنك يا محمد مع كمال نبوتك هدايته وإسماعه من غير عنايتنا السابقة ، ورعايتنا اللاحقة.
كان عليه الصلاة والسلام يتعب نفسه في دعاء قومه ، وهم لا يزيدون الأغيار إلا تعامياً عما يشاهدونه من شواهد النبوة وتصاماً عما يسمعونه من بينات القرآن ، فنزلت.
وهو إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم بعد تمرنهم على الكفر ، واستغراقهم في الضلال بحيث صار عشاهم عمى مقروناً بالصمم فنزل منزلة من يدعي أنه قادر على ذلك لإصراره على دعائهم.
قائلاً : أنا أسمع وأهدي على قصد تقوى الحكم لا التخصيص ، فعجب تعالى منه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال ابن الشيخ : وما أحسن هذا الترتيب.
فإن الإنسان لاشتغاله بطلب الدنيا والميل إلى الحظوظ الجسمانية يكون كمن بعينه رمد ضعيف ، ثم إنه كلما ازداد اشتداده بها ، واشتد إعراضه عن النعيم الروحاني ازداد رمده ، فينتقل من أن يكون أعشى إلى أن يكون أعمى.
{وَمَن كَانَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} لا يخفى على أحد ؛ أي : ومن كان في علم الله أنه يموت على الضلالة.
وبالفارسية : (وانراكه هست در كمراهى هويدا يعنى تو قادر نوستى برهدايت كمراهان بس بسيار تعب بر نفس خود منه).
وهو عطف على العمى باعتبار تغاير الوصفين ومدار الإنكار هو التمكن والاستقرار في الضلال المفرط بحيث لا ارعواء لهم عنه لا توهم القصور من قبل الهادي ، ففيه رمز إلى أنه لا يقدر على ذلك إلا الله وحده بالقسر والإلجاء ، يعني لا يقدر على إسماع الصم وهداية العمي ، وجعل الكافر مؤمناً إلا الله وحده لعظم قدرته وإحاطة تعلقها بكل مقدور (ع) : (آن به كه كار خود بعنايت رها كنيم).
{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} : أصله إن ما على أن إنْ للشرط وما : مزيدة للتأكيد بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة ؛ أي : فإن قبضناك وأمتناك قبل أن نبصرك عذابهم ، ونشفي بذلك صدرك وصدر المؤمنين.
وبالفارسية : (بش اكر ما ببريم ترابا جوار
371
رحمت خود بيش ازانكه عذاب ايشان بتو بنمايم دل خوش دار).
{فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} لا محالة في الدنيا والآخرة :
مكن شادمانى بمرك كسى
كه دهرت نماند بس ازوى بسى
قال ابن عطاء : أنتت أمان فيما بينهم ، فإن قبضناك انتقمنا منهم ، فليغتنم العقلاء وجود الصلحاء ، وليجتنبوا من معاداتهم ، فإن في ذلك الهلاك.
قال يحيى بن معاذ رحمة الله عليه : على عباده حجتان : حجة ظاهرة : هي الرسول.
وحجة باطنة : هي العقول.
{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَـاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَا إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَا وَسَوْفَ تُسْـاَلُونَ} .
{أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَـاهُمْ} أو إن أردنا أن نريك العذاب الذي وعدناهم.
{فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ} : لا يفوتوننا لأنهم تحت قهرنا وقدرتنا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
(8/285)
وفي الآية تسلية للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، بأنه تعالى ينتقم من أعدائه ومنكريه.
إما في حال حياته ، وإما بعد وفاته ، وأنه قادر على انتقامهم بواسطته ، كما كان يوم بدر ، أو بغير واسطة ، كما كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه وغيره.
فبذلك أثبته على حد الخوف والرجاء ، ووقفه على حد التجويز لاستبداده بعلم الغيب.
وكذلك المقصود في الأمر من كل أحد أن يكون من جملة نظارة التقدير ، ويفعل الله ما يريد.
قال المولى الجامي :
اى دل تاكى فضولى وبو العجبى
از من نشان عاقبت مى طلبي
سر كشته بود خواه ولى خواه نبى
دروادى ما أدري ما يفعل بى
وفي الحديث : "إذا أراد الله بأمة خيراً قبض الله نبيها قبلها ، فجعله لها فرطاً وسلفاً ، وإذا أراد الله بأمة عذاباً ونبيها حي لتقر عينه لما كذبوه وعصوه".
قالوا : كل نبي قد رأى النقمة في أمته غير نبينا عليه السلام ، فإن الله أكرمه ، فلم ير في أمته إلا الذي تقر به عينه ، وأبقى النقمة بعده ، وهي البلايا الشديدة.
روي : أنه عليه السلام "أري ما يصيب أمته بعده ، فما رؤي مستبشراً ضاحكاً حتى قبض".
وفي الحديث : "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم" قالوا : هذا خيرنا في حياتك فما خيرنا في مماتك؟ فقال : "تعرض علي أعمالكم كل عشية الإثنين والخميس ، فما كان من خير حمدت الله تعالى ، وما كان من شر أستغفر الله لكم ، ولذلك استحب صوم يوم الاثنين والخميس.
وقد قال عليه السلام : "تفتح أبواب الجنة كل إثنين وخميس".
يعني : (مفتوح مى شود ابواب جنت درهر دوشنبه ونبحبشنبه).
يعني : لشرفهما لكون يوم الإثنين يوم ولادة النبي عليه السلام ، ويوم الخميس يوم عرض الأعمال الله سبحانه وتعالى.
واعلم أن كل أحد يشرب من كأس الموت يقال : أوحى الله تعالى إلى نبينا عليه السلام ، فقال : يا محمد أحبب من شئت ، فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه غداً وعش ما شئت فإنك ميت :
منه دل برين سال خورده مكان
كه كنبد نيابد بروكر دكان
وكر بهلوانى وكر تيغ زن
نخواهى بدر بردن الا كفن
فرو رفت جم را يكى نازنين
كفن كرد جون كرمش ابريشمين
بدحمه در آمد بس از جند روز
كه بروى بكربد بزارى وسوز
جو بوسيده ديدش حرير كفن
بفكرت جنين كفت باخويشتن
من از كرم بركنده بودم بزور
بكندند ازو باز كرمان كور
{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ} ؛ أي : أمسك بالقرآن الذي أنزل عليك بمراعاة أحكامه سواء عجلنا لك المعهود ، أو أخرناه إلى يوم الآخرة.
{إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ؛ أي : طريق سوى لا عوج له ، وهو طريق التوحيد ودين الإسلام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفي "التأويلات النجمية" : فاعتصم بالقرآن ، فإنه حبل الله المتين بأن تتخلق بخلقه وتدور معه حيث يدور وقف حيث ما أمرت وثق ، فإنك على صراط مستقيم تصل به إلى حضرة جلالنا.
{وَإِنَّهُ} ؛ أي : القرآن الذي أوحى إليك.
{لَذِكْرٌ}
372
لشرف عظيم.
{لَكَ} خصوصاً {وَلِقَوْمِكَ} ، وأمتك عموماً ، كما قال عليه السلام : إن لكل شيء شرفاً يباهي به وإن بها أمتي وشرفها : القرآن.
فالمراد بالقوم : الأمة.
كما قال مجاهد ، وقال بعضهم : ولقوتك من قريش حيث يقال : إن هذا الكتاب العظيم إنزال الله على رجل من هؤلاء.
قال في "الكواشي" : أولاهم بذلك الشرف الأقرب ، فالأقرب منه عليه السلام كقريش ، ثم بنى هاشم وبني المطلب.
قال ابن عطاء : شرف لك بانتسابك إلينا وشرف لقومك بانتسابهم إليك ؛ أي : لأن الانتساب إلى العظيم الشريف عظيم شرف ، ثم جمع الله النبي مع قومه ، فقال : {وَسَوْفَ تُسْـاَلُونَ} يوم القيامة عنه ، وعن قيامكم بحقوقه وعن تعظيمكم وشكركم على أن رزقتموه وخصصتم به من بين العالمين.
وفي "التأويلات النجمية" : وأن القرآن به شرف الوصول لك ولمتابعيك ، وسوف تسألون عن هذا الشرف والكرامة ، هل أديتم حقه وقمتم بأداء شكره ساعين في طلب الوصول والوصال ، أم ضيعتم حقه وجعلتموه وسيلة الاستنزال إلى الدرك بصرفه في تحصيل المنافع الدنيوية ، والمطالب النفسانية.
انتهى.
قال بعضهم : علوم العارفين مبنية على الكشف والعيان ، وعلوم غيرهم من الخواطر الفكرية والأذهان ، وبداية طريقهم التقوى والعمل الصالح ، وبداية طريق غيرهم مطالعة الكتب والاستعداد من المخلوقين في حصول المصالح ، ونهاية علومهم الوصول إلى شهود حضرة الحي القيوم ، ونهاية علوم غيرهم تحصيل الوظائف ، والمناصب وجمع الحطام الذي لا يدوم :
زيان ميكند مرد تفسير دان
كه علم وادب مى فروشد بنان
كجا عقل باشرع فتوى دهد
كه اهل خرد دين بدنيا دهد
(8/286)
فكما أن العالم الغير العامل والجاهل الغير العامل سواء في كونهما مطروحين عن باب الله تعالى.
وكذا العارف الغير العامل والغافل الغير العامل سواء في كونهما مردودين على باب الله تعالى ؛ لأن مجرد العلم والمعرفة ليس سبب القبول والقدر ما لم يقارن العمل بالكتاب والسنة ، بل كون مجرد هما سبب الفلاح ، مذهب الحكماء الغير الإسلامية ، فلا بد معهما من العمل حتى يكونا سبباً للنجاة ، كما هو مذهب أهل السنة والحكماء الإسلامية.
والإنسان إما حيواني ، وهم الذين غلبت عليهم أوصاف الطبيعة وأحوال الشهوة من الأكل والشرب والمنام ونحوها ، وإما شيطاني.
وهم الذين غلبت عليهم أوصاف النفس وأحوال الشيطنة كالكبر والعجب والحسد وغيرها ، وإما ملكي وهم الذين غلبت عليهم أوصاف الروح ، وأحوال الملكية في العلم والعمل والذكر والتسبيح ونحوها ، فمن تمسك بالقرآن ، وعمل بما فيه علمه الله ما لم يعلم ، وجعله من أهل الكشف والعيان.
فيكون من الذين يتلون آيات الله في الآفاق والأنفس ويكاشفون عن حقائق القرآن ، فهذا الشرف العظيم لهذه الأمة ؛ لأنه ليس لغيرهم : هذا القرآن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : قال موسى : يا رب هل في الأمم أكرم عليك ممن ظللت عليهم الغمام ، وأنزلت عليهم المن والسلوى.
قال : يا موسى إن فضل أمة محمد على الأمم ، كفضلي على خلقي ، فقال موسى : إلهي اجعلني من أمة محمد.
قال : يا موسى لن تدركهم ، ولكن أتشتهي أن تسمع كلامهم.
قال : نعم يا رب فنادى : يا أمة محمد ، فقالوا : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك ، والخير كله بيديك ، فجعل الله تلك الإجابة من شعائر الحج ، ثم قال : يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي ، قد غفرت لكم قبل أن تعصوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني ، فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله
373
إلا الله وأن محمداً رسول الله ، أسكنته الجنة ، ولو كانت ذنوبه مثل زبد البحر ، وعدد القطر ، وعدد النجوم وعدد أيام الدنيا.
وفي التوراة في حق هذه الأمة : أناجيلهم في صدورهم ؛ أي : يحفظون كتابهم.
وفي المثنوي :
تو زقرآن اى بسر ظاهر مبين
ديو آدم رانه بيند جز كه طين
ظاهر قرآن جو شخص آدميست
كه نقوشش ظاهر وجانش خفيست
{وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَا وَسَوْفَ تُسْـاَلُونَ * وَسْـاَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بآياتنا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاياهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * فَلَمَّا جَآءَهُم بآياتنا إِذَا هُم مِّنْهَا} .
{وَسْـاَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} .
قوله : من أرسلنا في محل النصب على أنه مفعول اسأل ، وهو على حذف المضاف لاستحالة السؤال من الرسل حقيقة.
والمعنى : واسأل أممهم وعلماء دينهم ، كقوله تعالى : {فَسْـاَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكَ} (يونس : 94) ، وفائدة هذا المجاز التنبيه على أن المسؤول عنه عين ما نطقت به ألسنة الرسل لا ما يقوله أممهم وعلماؤهم من تلقاء أنفسهم.
{أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ} ؛ أي : هل حكمنا بعبادة الأوثان ، وهل جاءت في ملة من مللهم.
والمراد به : الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد والتنبيه على أنه ليس ببدع ابتدعه حتى يكذب ، ويعادى له ، فإنه أقوى ما حملهم على التكذيب والمخالفة.
قال ابن الشيخ : السؤال يكون لرفع الالتباس ، ولم يكن رسول الله يشك في ذلك ، وإنما الخطاب له.
والمراد غيره.
قالت عائشة رضي الله عنها : لما نزلت هذه الآية ، قال عليه السلام : "ما أنا بالذي أشك ، وما أنا بالذي أسأل".
وجعل الزمخشري السؤال في الآية مجازاً عن النظر في أديانهم ، والفحص عن مللهم على أنه نظير قولهم : سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك ، وللآية وجه آخر بحملها على ظاهرها من غير تقدير مضاف ، وهو ما روي أنه عليه السلام : لما أسري به إلى المسجد الأقصى حشر إليه الأنبياء والمرسلون من قبورهم ، ومثلوا له فأذن جبرائيل ، ثم أقام وقال : يا محمد تقدم فصل بإخوانك الأنبياء والمرسلين ، فلما فرغ من الصلاة.
قال له جبرائيل : زعمت قريش أنشريكاً ، وزعمت اليهود والنصارى أنولداً ، سل يا محمد هؤلاء النبيين ، هل كانشريك ، ثم قرأ : واسأل من أرسلنا.
إلخ.
فقال عليه السلام : "لا أسأل ولقد اكتفيت ولست بشاك فيه" ، فلم يشك فيه ، ولم يسأل ، وكان أثبت يقيناً من ذلك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال أبو القاسم : "المفسر في كتاب التنزيل" له : أن هذه الآية أنزلت على النبي عليه السلام ببيت المقدس ليلة المعراج ، فلما أنزلت وسمعها الأنبياء عليهم السلام أقرواتعالى بالوحدانية.
وقالوا : بعثنا بالتوحيد.
(8/287)
صاحب "عين المعاني" : (أورده كه در آثار آمد كه ميكائيل از جبرائيل برسيدكه سيد عالم عليه السلام اين سؤال كرد از انبيا جبرائيل كفت يقين اوازان كاملتر وايمان أو ازان محكمترست كه اين سؤال كنده.
آنكه در كشف كرده استقلال).
كى توجه كند باستدلال.
وفي المثنوي :
آينه روشن كه صد صاف وجلى
جهل باشد بر نهادر صيقلى
بيش سلطان خوش نشسته دل قبول
زشت باشد جستن نامه ورسول
وفي الآية إشارة إلى أن بعثة جميع الرسل كانت على النهي عن عبادة غير الله من النفس والهوى والشيطان ، أو شيء من الدنيا والآخرة كقوله تعالى : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة : 5) ؛ أي : ليقصدوه ، فإنه المقصود ، ويطلبوه ، فإنه المطلوب والمحبوب والمعبود.
قال بعض الكبار : لا تطلب مولاك مع شيء من الدنيا والآخرة من الظاهر والباطن ، ولا من العلم والعرفان ، ولا من الذوق والوجدان ، ولا من الشهود والعيان ، بل اطلبه بلا شيء حتى تكون طالباً خالصاً مخلصاً له الدين ، وإذا كنت
374
طالباً لمولاك بدون شيء تنجو من رق الغير وتكون حراً باقياً ، في رق مولاك ، فحينئذٍ تكون عبداً محضاً لمولى واحد ، فيصلح تسميتك عبد الله والعبد فقير إذ كل ما في يده لمولاه غني بغنى الله إذ كل خزائنه له.
ومن إشارات هذا المقام ما قال عليه السلام : "يؤتى بالعبد الفقير يوم القيامة ، فيعتذر الله إليه كما يعتذر الرجل إلى الرجل في الدنيا ، ويقول : وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك علي ، ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيلة اخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف ، وانظر إلى من أطعمك ، أو كساك ، وأراد بذلك وجهي فخذ بيده ، فهو لك والناس يومئذٍ قد ألجمهم العرق ، فيتخلل الصفوف ، وينظر من فعل به ذلك في الدنيا ، فيأخذ بيده ، ويدخله الجنة :
كليد كلشن فردوس دست احسانست
بهشت مى طلبى از سر درم برخيز
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى} : حال كونه ملتبساً {بآياتنا} التسع الدالة على صحة نبوته {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى} ؛ أي : أشراف قومه.
والإرسال إلى الأشراف إرسال إلى الأرذال ؛ لأنهم تابعون لهم.
{فَقَالَ} : موسى لهم {إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} لكم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{فَلَمَّا جَآءَهُم بآياتنا} ليسعدوا وينتهوا وينتفعوا بها {إِذَا} : (همان وقت) {هُمْ} : (ايشان).
{مِّنْهَا} ؛ أي : من تلك الآيات {يَضْحَكُونَ} : إذا اسم بمعنى : الوقت.
نصب على المفعولية لفاجأوا المقدر ومحل ، لما نصب على أنه ظرف له ؛ أي : فاجأوا وقت ضحكهم منها ؛ أي : استهزؤوا بها وكذبوها أول ما رأوها ، ولم يتأملوا فيها.
وقالوا : سحر وتخييل ظلماً وعلواً.
{فَلَمَّا جَآءَهُم بآياتنا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلا هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَـاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يا اأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} .
{وَمَا نُرِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ} من الآيات.
بالفارسية : (ننموديم ايشانرا هيج معجزه).
{إِلا هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} : الأخت تأنيث الأخ ، وجعلت التاء فيها ، كالعوض عن المحذوف منه ؛ أي : أعظم عن الآية التي تقدمتها ليكون العذاب أعظم لما كانت الآية مؤنثاً عبر عنها بالأخت وسماها أختها في اشتراكهما في الصحة والصدق ، وكون كل منهما نظيرة الأخرى وقرينتها وصاحبتها في ذلك ، وفي كونها آية.
وفي "كشف الأسرار" : (اين آنست كه بارسيان كوبندكه همه از يكديكر نيكوتر مهتر وبهتر).
والمقصود : وصف الكل بالكبر الذي لا مزيد عليه من باب الكناية.
يقول الفقير : الظاهر أن الكلام من باب الترقي وعليه عادة الله تعالى إلى وقت الاستئصال.
وقال بعضهم : إلا وهي مختصة بضرب من الإعجاز مفضلة بذلك الاعتبار على غيرها.
يقول الفقير : فالآيات متساوية في أنفسها ، متفاوتة بالاعتبار كالآيات القرآنية ، فإنها متساوية في كونها كلام الله تعالى متفاوتة بالنسبة إلى طبقاتها في المعاني.
فالمراد على هذا بالأفعل ، هي الزيادة من وجه ، وهي مجاز ؛ لأن المصادر التي تتضمنها الأفعال والأسماء موضوعة للماهية لا للفرد المنتشر.
(8/288)
قال بعض الكبار : إن الله تعالى لم يأتهم بشيء من الآيات إلا كان أوضح مما قبله ، ولم يقابلوه إلا بجفاء أوحش مما قبله من ظلومية طبع الإنسان وكفوريته.
{وَأَخَذْنَـاهُم بِالْعَذَابِ} ؛ أي : عاقبناهم بالسنين والطوفان والجراد والدم والطمس ونحوها.
وكانت هذه الآيات دلالات ومعجزات لموسى وزجراً ، أو عذاباً للكافرين.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ؛ أي : لكي يرجعوا عما هم عليه من الكفر ، فإن من جهولية نفس الإنسان ، أن لا يرجع إلى الله على أقدام العبودية إلا أن يجر بسلاسل البأساء والضراء إلى الحضرة ، فكلمة لعل مستعارة لمعنى كي ، وهو التعليل كما سبق في أول هذه السورة ، وتفسير بإرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان ، كما فسره أهل الاعتزال خطأ محض لا ريب فيه ؛ لأن الإرادة
375
تستلزم المراد بخلاف الأمر التكليفي ، فإنه قد يأمر بما لا يريد ، والذي يريده ، فهو واقع البتة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَقَالُوا} ؛ أي : فرعون وقومه في كل مرة من العذاب لما ضاق نطاق بشريتهم.
يا اأَيُّهَ السَّاحِرُ} نادوا بذلك في مثل تلك الحالة ؛ أي : عند طلب كشف العذاب بدعائه لغاية عتوهم وغاية حماقتهم ، أو سبق ذلك إلى لسانهم على ما ألفوه من تسميتهم إياه بالساحر لفرط حيرتهم.
قال سعدي المفتي : والأظهر أن النداء كان باسمه العلم كما في الأعراف ، لكن حكى الله تعالى هنا كلامهم لا بعبارتهم ، بل على وفق ما أضمرته قلوبهم من اعتقادهم أنه ساحر لاقتضاء مقام التسلية ذلك ، فإن قريشاً أيضاً سموه ساحراً وسموا ما أتى به سحراً.
وعن الحسن : قالوه على الاستهزاء.
وقال ابن بحر ؛ أي : الغالب بالسحر نحو خصمته.
وقال بعضهم : قالوه تعظيماً ، فإن السحر كان عندهم علماً عظيماً ، وصفة ممدوحة.
والساحر فيهم عظيم الشأن ، فكأنهم قالوا : يا أيها العالم بالسحر الكامل الحاذق فيه {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} ليكشف عنا العذاب.
قال في "التأويلات النجمية" : ما قالوا مع هذا الاضطرار يا أيها الرسول ، وما قالوا : ادع لنا ربنا ؛ لأنهم ما رجعوا إلى الله بصدق النية وخلوص العقيدة ليروه بنور الإيمان رسولاً ، ويروا الله ربهم ، وإنما طمعوا باضطرار لخلاص أنفسهم لا لخلاص قلوبهم.
{بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} ما : مصدرية ، والباء : للسببية.
وأصل العهد بمعنى : التوصية أن يتعدى بإلى إلا أنه أورد بدلها لفظ عندك إشعاراً بأن تلك الوصية مرعية محفوظة عنده لا مضيعة ملغاة.
قال الراغب : العهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال وعهد فلان إلى فلان بعهد ؛ أي : ألقى العهد إليه وأوصاه بحفظه.
والمعنى : بسبب عهده عندك بالنبوة ، فإن النبوة تسمى عهد الله.
وبالفارسية : (بسبب آن عهدى كه نزديك تونهاده است).
أو من استجابة دعوتك ، أو من كشف العذاب عمن اهتدى.
قال بعضهم : الأظهر أن الباء في الوجه الأول للقسم ؛ أي : ادع الله بحق ما عندك من النبوة.
{إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} ؛ أي : لمؤمنون على تقدير كشف العذاب عنا بدعوتك وعد منهم معلق بشرط الدعاء ، ولذا تعرضوا للنبوة على تقدير صحتها.
وقالوا : ربك لا ربنا ، فإنه إنما يكون ربهم بعد الإيمان ؛ لأنهم قائلون بربوبية فرعون.
{فَلَمَّآ} : (بس آن هنكام كه).
{كَشَفْنَا} : (ببرديم وازاله كرديم).
{عَنْهُمُ الْعَذَابَ} بدعاء موسى.
{إِذَا هُم} : (همان زمان ايشان) {يَنكُثُونَ} : النكث في الأصل نقض الحبل والغزل ونحو ذلك.
وبالفارسية : (تابازدادن ريسمان).
واستعير لنقض العهد.
والمعنى : فاجأوا وقت نقض عهدهم بالاهتداء ، وهو الإيمان ؛ أي : بادروا النكث ، ولم يؤخروه وعادوا إلى كفرهم ، وأصروا عليه ، ولما نقضوا عهودهم صاروا ملعونين ، ومن آثار لعنهم الغرق ، كما يأتي فعلى العاقل الوفاء بالعهد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
حكي : أن النعمان بن المنذر من ملوك العرب جعل لنفسه في كل سنة يومين ، فإذا خرج فأول من يطلع عليه في يوم نعمه يعطيه مائة من الإبل ويغنيه.
وفي يوم بؤسه يقتله ، فلقيه في يوم بؤسه رجل طاقي ، فأيقن بقتله.
وقال : حيَّ الله الملك إن الاحتياج والضرورة قد حملاني على الخروج في هذا اليوم ، ولكن لا يتفاوت الأمر في قتلي بين أول النهار وآخره ، فإن رأى الملك أن يأذن لي في أن أوصل إلى أهلي وأولادي القوت وأودعهم ، ثم أعود فرق له النعمان.
وقال : لا يكون ذلك إلا بضمان رجل منا ، فإن لم ترجع قتلناه.
قال شريك بن علي : ضمانه علي ، فذهب الطاقي ، ثم رجع قريباً من المساء ، فلما رآه النعمان أطرق رأسه ، ثم رفع وقال : ما رأيت
376
مثلكما ، أما أنت أيها الطاقي ، فما تركت لأحد في الوفاء مقاماً يفتخر به ، وأما أنت يا شريك ، فما تركت لكريم سماحة؟ فلا أكون أخس الثلاثة ألا وإني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس كرامة لكما ، ثم أحسن إلى الطاقي.
وقال : ما حملك على ذلك؟ قال : ديني فمن لا وفاء له لا دين له ، فظهر أن الوفاء سبب النجاة.
وفي المثنوي :
جرعه برخاك وفا آنكس كه ريخت
كى تواند سيد دولت زوكريخت
(8/289)
وأول مراتب الوفاء منا هو الإتيان بكلمتي الشهادة ، ومن الله منع الدماء والمال ، وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلاً عن غيره ، ومن الله الفوز باللقاء الدائم.
وعن بعضهم أنه سافر للحج على قدم التجريد وعاهد الله أنه لا يسأل أحداً شيئاً ، فلما كان في بعض الطريق مكث مدة لا يفتح عليه بشيء ، فعجز عن المشي ، ثم قال : هذا حال ضروري تؤدي إلى تهلكة بسبب الضعف المؤدي إلى الانقطاع.
وقد نهى الله عن إلقاء النفس إلى التهلكة ، ثم عزم على السؤال ، فلما هم بذلك انبعث من باطنه خاطر رده عن ذلك العزم.
ثم قال : أموت ولا أنقض عهداً بيني وبين الله ، فمرت القافلة وانقطع ذلك البعض واستقبل القبلة مضطجعاً ينتظر الموت ، فبينما هو كذلك إذ هو بفارس قائم على رأسه معه ، إداوة فسقاه وأزال ما به من الضرورة ، فقال له : تريد القافلة ، فقال : وأين مني القافلة ، فقال : قم ، وسار معه خطوات ، ثم قال : قف ها هنا ، والقافلة تأتيك فوقف ، وإذا بالقافلة مقبلة من خلفه.
وهذا من قبيل طي المكان كرامة من الله تعالى لأهل الشهود والحضور :
نتوان بقيل وقال زار باب حال شد
منعم نميشود كسى از كفت وكوى كنج
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِه قَالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـاذِهِ الانْهَـارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَـاذَا الَّذِى هُوَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ} بنفسه أو بمناد أمره بالنداء {فِى قَوْمِهِ} في مجمعهم وفيما بينهم بعد أن كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمنوا.
{قَالَ} : (كفت از روى عظمت وافتخار).
يا قَوْمِ} : (اى كروه من يعنى قبطيان).
{أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ} ، وهي أربعون فرسخاً في أربعين.
قال الكاشفي : (آيانيست مرا مملكت مصر از اسكندريه تاسر حد شام).
وفي "فتح الرحمن" : وهو من نحو الإسنكدرية إلى أسوان بطول النيل.
وأسوان بالضم : بلد بصعيد مصر كما في "القاموس".
قال في"روضة الأخبار" : مصر بلدة معروفة بناها مصر بن حام بن نوح.
وبه سميت مصر مصراً.
وفي "القاموس" : مصر والمكان تمصيراً جعلوه مصراً ، فتمصر ، ومصر للمدينة المعروفة سميت لتمصرها ، أو لأنه بناها مصر بن نوح.
وقال بعضهم : مصر بلد معروف من مصر الشيء يمصره إذا قطعه سمي به لانقطاعه عن الفضاء بالعمارة.
انتهى.
{وَهَـاذِهِ الانْهَـارُ} ؛ أي : أنهار النيل ، فاللام عوض عن المضاف إليه.
قال في "كشف الأسرار" : (آب نيل بسيصد وشصت جوى منقسم بوده).
والمراد هنا : الخلجان الكبار الخارجة من النيل ومعظمها أربعة أنهر : نهر الملك ، وهو نهر الإسكندرية ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس ، وهو كسكين بلد بجزيرة من جزائر بحر الروم قرب دمياط ينسب إليها الثياب الفاخرة كما في "القاموس".
{تَجْرِى مِن تَحْتِى} ؛ أي : من تحت قصري أو أمري.
قال الكاشفي : (جهار حوى بزرك درباغ او ميرفت واز زير قصر هاى او ميكذست).
والواو إما عاطفة لهذه الأنهار على ملك ، فتجري حال منها ، أو للحال فهذه مبتدأ ، والأنهار صفتها ، وتجري خبر للمبتدأ.
قال في "خريدة العجائب" : ليس في الدنيا نهر أطول من النيل ؛ لأن مسيرته شهران في الإسلام ،
377
وشهران في الكفر ، وشهران في البرية ، وأربعة أشهر في الخراب ومخرجه من بلاد جبل القمر خلف خط الاستواء ، وسمي جبل القمر ؛ لأن القمر لا يطلع عليه أصلاً لخروجه عن خط الاستواء ، وميله عن نوره وضوءه يخرج من بحر الظلمة ؛ أي : البحر الأسود ، ويدخل تحت جبل القمر.
وليس في الدنيا نهر يشبه بالنيل إلا نهر مهران ، وهو نهر السند.
{أَفَلا تُبْصِرُونَ} : ذلك يريد به استعظام ملكه وعن هارون الرشيد لما قرأها قال : لأولينها أخس عبيدي ، فولاها الخصيب ، وكان على وضوئه وكان أسود أحمق.
(عقل وكفايت آن سياه بحدى بودكه طائفة حراث مصر شكايت آور دندش كه ينبه كاشته بوديم بركنار نيل وباران بى وقت آمد وتلف شد كفت بشم بايستى كاشتن تاتلف نشدى دانشمندى اين سخن بشنيد وبخنديه وكفت) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
اكر روزى بدانش برفزودى
زنادان تنك روزى تر نبودى
بنادانان جنان روزى رساند
كه دانايان از وحيران بماند
وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها ، فخرج إليها ، فلما شارفها ، ووقع عليها بصره.
قال : أهي القرية التي افتخر فيها فرعون حتى قال : أليس لي ملك مصر ، والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثنى عنانه.
قال الحافظ ابن الفرج بن الجوزي يوماً في قول فرعون : وهذه الأنهار تجري من تحتي ، ويحه افتخر بنهر ما أجراه ما أجراه :
افتخار از رنك وبو وازمكان
هست شادى وفريب كودكان
(8/290)
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ} : مع هذا الملك والبسط ، وأم منقطعة بمعنى : بل أنا خير ، والهمزة للتقرير لحملهم على الإقرار ؛ كأنه قال : إثر ما عدد أسباب فضله ومبادي خيريته أثبت عندكم واستقر لديكم : أني أنا خير ، وهذه حال من هذه.
إلخ.
وقال أبو الليث : يعني أنا خير وأم للصلة والمحققون على أن أم ها هنا بمعنى : بل التي تكون للانتقال من كلام إلى كلام آخر من غير اعتبار استفهام ، كما في قوله تعالى في سورة النمل ، {إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النمل : 84).
وقال سعدي المفتي : ويجوز أن يكون النظم من الاحتباك : ذكر الأبصار أولاً دلالة على حذف مثله ثانياً : والخيرية ثانياً دلالة على حذف مثله أولاً.
والمعنى : أهو خير مني فلا تبصرون ما ذكرتكم به ، أم أنا خير منه ؛ لأنكم تبصرونه.
{مِّنْ هَـاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ} : ضعيف حقير من المهانة ، وهي القلة.
{وَلا يَكَادُ يُبِينُ} : الكلام ويوضحه لرتة في لسانه ، فكيف يصلح للنبوة والرسالة يريد أنه ليس معه من آيات الملك والسياسة ما يعتضده ، ويتقوى به.
كما : قريش قالت : {لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف : 31) ، وهو في نفسه حال عم يوصف به الرجال من الفصاحة والبلاغة ، وكان الأنبياء كلهم فصحاء بلغاء.
قاله : افتراء على موسى وتنقيصاً له في أعين الناس باعتبار ما كان في لسانه من نوع رثة حدثت بسبب الجمرة.
وقد كانت ذهبت عنه لقوله تعالى : {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسَى} (طه : 36).
والرتة : غير اللثغة ، وهي حبسه في اللسان تمنعه من الجريان وسلاسة التكلم.
يقول الفقير : الأنبياء عليهم السلام سالمون من العيوب والعاهات المنفرة ، كما ثبت في محله.
وقد كان للشيخ عبد المؤمن المدفون في بروسة عقدة في لسانه ، وعند ما ينقل الأحياء في الجامع الكبير تنحل بإذن الله تعالى ، فإذا كان حال الولي ، هكذا ، فكيف حال الموفر حظاً من كل كمال كموسى ، وغيره من الأنبياء عليهم السلام حين أداء الوحي الإلهي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وقد جربنا عامة من كان ألثغ ، أو نحوه ، فوجدناهم منطيقين عند تلاوة القرآن ، وهو من آثار
378
رحمة الله وحكمه البديعة.
وفي "التأويلات النجمية" تشير الآية إلى من تعزز بشيء من دون الله ، فحتفه وهلاكه في ذلك ، فلما تعزز فرعون بملك مصر وجرى النيل بأمره ، فكان فيه هلاكه ، وكذلك من استصغر أحداً سلط عليه كما أن فرعون استصغر موسى عليه السلام ، وحديثه وعابه بالفقر واللكنة.
فقال : أم أنا خير فسلطه الله عليه ، وكان هلاكه على يديه.
وفيه إشارة أخرى ، وهي أن قوله : أم أنا خير من خصوصية صفة إبليس ، فكانت هذه الصفة توجد في فرعون.
وكان من صفة فرعون قوله : {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى} (النازعات : 24) ، ولم توجد هذه الصفة في إبليس ليعلم أن الله تعالى أكرم الإنسان باستعداد يختص به ، وهو قوله : {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين : 4) ، فإذا فسد استعداده استنزل دركة لا يبلغه فيها إبليس وغيره.
وهي أسفل السافلين ، فيكون شر البرية ، ولو استكمل استعداده لنال رتبة في القربة لا يسعه فيها ملك مقرب ، لكان خير البرية.
قال الصائب :
سرورى از خلق بد خودرا مصفى كردنست
برنمى آيى بخود سر برنمى بايد شدن
بادشاه از كشور بيكانه دارد صد خطر
يك قدم ازحد خود بر ترنمى بايد شدن
فإذا عرفت حال إبليس وحال فرعون ، فاجتهد في إصلاح النفس وتزكيتها عن الأوصاف الرذيلة التي بها صار الشيطان شيطاناً وفرعون فرعوناً نسأل الله سبحانه أن يدركنا بعنايته ويتداركنا بهدايته قبل القدوم على حضرته.
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَـاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَه فَأَطَاعُوه إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَـاسِقِينَ * فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـاهُمْ أَجْمَعِينَ} .
{فَلَوْلا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} .
قالوه توبيخاً ولو ما على ترك الفعل ما هو مقتضى حرف التحضيض الداخل على الماضي وأسورة جمع سوار على تعويض التاء من ياء أسارير ، يعني : الياء المقابلة لألف أسوار ، ونظيره زنادقة وبطارقة.
فالهاء فيهما عوض عن ياء زناديق وبطاريق المقابلة.
اليناء زنديق وبطريق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال في "القاموس" : السوار بالكسر والضم.
القلب : كالأسوار بالضم والجمع أسورة وأساور وأساورة.
وفي "المفردات" : سوار المرأة أصله دستواره ، فهو فارسي معرب عند البعض ، والذهب جسم ذائب صاف منطرق أصفر رزين بالقياس إلى سائر الأجسام.
(8/291)
والمعنى : فهلا ألقي على موسى وأعطي مقاليد الملك إن كان صادقاً في مقالته في رسالته ، فيكون حاله خيراً من حالي والملقي هو رب موسى من السماء ، وإلقاء الأسورة كناية عن إلقاء مقاليد الملك ؛ أي : أسبابه التي هي كالمفاتيح له ، وكانوا إذا سودوا رجلاً سوروه وطوقوه بطوق من ذهب علماً على رياسته ودلالة لسيادته.
يعني : (آن زمان جنان بودكه هركرا مهترى وبيشوايى ميدهند دستوانه طلا دردست وطوق زردركردن أو ميكننده فرعون كفت كه اكر موسى راست ميكويد كه بسيادت ورياست قوم نامزد شده جراخداى اورا دستوانه نداده).
{أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ} ؛ أي : حال كونهم مقرونين بموسى منضمين إليه يعينونه على أمره وينصرونه ويصدقونه ؛ أي : يشهدون له بصدقه.
قال الراغب : الاقتران كالازدواج في كونه اجتماع شيئين ، أو أشياء في معنى من المعاني.
{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} : الاستخفاف : سبك كردانيدن وسبك داشتن وطلب خفت كردن.
أي : فاستفزهم بالقول وطلب منهم الخفة في إطاعته ، فالمطلوب بما ذكره من التلبيسات والتمويهات خفة عقولهم حتى يطيعوه فيما أراد منهم ، مما يأباه أرباب العقول السليمة لا خفة أبدانهم ففي امتثال أمره ، أو فاستخف أحلامهم ؛ أي : وجدها خفيفة يغترون بالتلبيسات الباطلة.
وقال الراغب : حملهم على أن يخفوا معه ،
379
أو وجدهم خفافاً في أبدانهم وعزائمهم.
وفي "القاموس" : استخفه ضد استثقله وفلاناً عن رأيه حمله على الجهل والخفة وأزاله عما كان عليه من الصواب.
وقال الكاشفي : (بس سبك عقل يافت فرعون بدين مكر كروه خودرا يعنى اين فريب در ايشان اثر كرد).
{فَأَطَاعُوهُ} فيما أمرهم به لفرط جهلهم وضلالهم.
(وبكلى دل از متابعت موسى بر داشتند).
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَـاسِقِينَ} ، فلذلك سارعوا إلى طاعة ذلك الفاسق الغوي.
وبالفارسية : (بدرستى كه فرعونيان بودند كروهى بيرون رفته ازدائرة بندكى خداى وفرمان بردارى وى بلكه خارج از طريقه عقل كه بمال وجاه فانى اعتماد كرده باشتد موسى را عليه السلام بنظر حقارت ديدند وندا نستندكه) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
فرعون وعذاب ابدوريش مرصع
موسى كليم الله : (وجوبى وشبانى).
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن كل من استولى على قوم فاستخفهم ، فأطاعوه رهبة منه ، وإن أمنوا من سطوته ، فخالفوه أمناً منه ، فإنه يزيد في جهادهم ورياضتهم ومخالفة طباعهم ، وأنه استولت النفس الأمارة على قومها.
وهم : القلب والروح وصفاتهما ، فاستخفتهم بمخالفة الشريعة ، وموافقة الهوى والطبيعة ، فأطاعوها رهبة إلى أن تخلقوا بأخلاقها ، فأطاعوها رغبة.
انتهى.
وفيه إشارة إلى أن العدو لا ينقاد بحال ، وأما انقياده كرهاً فلا يغتر به ، فإنه لو وجد فرصة لقطع اليد بدل التقبيل :
هركز ايمن ززمان ننشستم
نابدانستم آنجه خصلت اوست
{فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا} : الإيساف : (أندو هكين كردن وبحشم آوردن).
منقول من أسف يأسف ، كعلم يعلم إذا اشتد غضبه.
وفي "القاموس" : الأسف محركة أشد الحزن وأسف عليه غضب وسئل صلى الله عليه وسلم عن موت الفجأة ، فقال : "راحة للمؤمن أخذه أسف" ؛ أي : سخط للكافر.
ويروى : أسف ككتف ؛ أي : أخذة ساخط ، يعني : موت الفجأة أثر غضب الله على العبد إلا أن يكون مستعداً للموت.
وقال الراغب : الأسف : الحزن والغضب معاً.
وقد يقال لكل منهما على الانفراد وحقيقته ثوران دم القلب إرادة الانتقام ، فمتى كان ذلك من دونه انتشر ، فصار غضباً ، ومتى كان على من فوقه انقبض ، فصار حزناً.
والمعنى : فلما أغضبونا ؛ أي : فرعون وقومه أشد الغضب بالإفراط في العناد والعصيان ، وغضب الله نقيض الرضا ، أو إرادة الانتقام ، أو تحقيق الوعيد ، أو الأخذ الأليم أو البطش الشديد ، أو هتك الأستار والتعذيب بالنار أو تغيير النعمة.
{انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} : أردنا أن نعجل لهم انتقامنا وعذابنا ، وأن لا نحلم عنهم وفي "كشف الأسرار" : أحللنا بهم النقمة والعذاب.
{فَأَغْرَقْنَـاهُمْ أَجْمَعِينَ} ، فأهلكناهم المطاع والمطيعين له أجمعين ، بالإغراق في اليم لم نترك منهم أحداً.
{فَجَعَلْنَـاهُمْ سَلَفًا} : أما مصدر سلف يسلف كطلب يطلب بمعنى التقدم وصف به الأعيان للمبالغة ، فهو بمعنى متقدمين ماضين ، أو جمع سالف كخدم جمع خادم ، ولما لم يكن التقدم متعدياً باللام فسروه بالقدوة مجازاً ؛ لأن المتقدمين يلزمهم غالباً أن يكونوا قدوة لمن بعدهم.
فالمعنى : فجعلناهم قدوة لمن بعدهم من الكفار يسلكون مسلكهم في استيجاب مثل ما حل بهم من العذاب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفي "عين المعاني" : فجعلناهم سلفاً في النار.
{وَمَثَلا لِّلاخِرِينَ} : اللام متعلق بكل من سلفاً ومثلاً على النازع ؛ أي : عظة للكفار المتأخرين عنهم والعظة ليس من لوازمها الاتعاظ ، أو قصة عجيبة تسير مسير الأمثال لهم ، فيقال : مثلكم مثل قوم فرعون.
قال الكاشفي : (كردانيديم ايشانرا بندى وعبرتى براى بيشينيان كه در مقام اعتبار باشند جه ملاحظة
(8/292)
380
قصه عجيبة ايشان معتبررا در تقلب احوال كفايتيست واز جمله آنكه جون فرعون باب نازشى كرد اوراهم باب غرقه ساختند وبد آنجه نازيد بفرياد او نرسيد.
درسر دارى كه باشدت سردارى هم درسران روى كه در سردارى).
وفي الآية إشارة إلى أن الغضب في الله من الفضائل إلا من الرذائل.
وعن سماك بن الفضل.
قال : كنا عند عروة بن محمد وهب بن منبه ، فجاء قوم فشكوا عاملهم ، وأثبتوا على ذلك ، فتناول وهب عصاً كانت في يده عروة ، فضرب بها رأس العامل ، حتى أدماه ، فاستهانها عروة ، وكان حليماً.
وقال : يعيب علينا أبو عبد الله الغضب ، وهو يغضب ، فقال وهب : ومالي ولا أغضب ، وقد غضب الذي خلق الأحلام إن الله يقول : فلما آسفونا.
إلخ.
وفيها إشارة أيضاً إلى أن إغضاب أوليائه إغضابه تعالى حتى قالوا في آسفونا : آسفوا رسلنا وأولياءنا.
أضاف الإيساف إلى نفسه إكراماً لهم.
قال أبو عبد الله الرضي : إن الله لا يأسف كأسفنا ، ولكن له أولياء يأسفون ويرضون ، فجعل رضاهم رضاه وغضبهم غضبه ، فينتقم لأوليائه من أعدائه كما أخبر في حديث رباني : من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الجرئي لجروه.
قال في "التأويلات النجمية" : هذا أصل في باب الجمع أضاف إيساف أوليائه إلى نفسه.
وفي الخبر أنه يقول : "مرضت ، فلم تعدني".
وقال في صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء : 80).
وفي "عرائس البقلي" : فلما ناموا على دعاويهم الباطلة وكلماتهم المزخرفة وبدعهم الباردة ، وأصروا على أذى أوليائنا وأحبائنا وجردنا وسلطنا عليهم جنود قهرياتنا وأمتناهم في أودية الجهالة وأغرقناهم في بحار الغفلة وجردنا قلوبهم عن أنوار المعرفة ، وطمسنا أعين أسرارهم حتى لا يرو لطائف برنا على أوليائنا.
قال سهل : لما أقاموا مصرين على المخالفة في الأوامر وإظهار البدع في الدين وترك السنن اتباعاً للآراء والأهواء والعقول نزعنا نور المعرفة من قلوبهم ، وسراج التوحيد من إسرارهم ، ووكلناهم إلى ما اختاروه فضلوا وأضلوا.
ومن الله الهداية لموافقة السنة ومنه المنة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{فَجَعَلْنَـاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِّلاخِرِينَ * وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَا مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَـاهُ مَثَلا لِّبَنِى إسرائيل * وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم} .
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ} ؛ أي : عيسى.
{مَثَلا} ؛ أي : ضربه عبد الله بن الزبعرى السهمي كان من مردة قريش قبل أن يسلم.
قال في "القاموس" : الزبعرى بكسر الزاي وفتح الباء والراء.
والد عبد الله الصحابي القرشي الشاعر.
انتهى.
ومعنى : ضربه مثلاً ؛ أي : جعله مثالاً ومقياساً في بيان إبطال ما ذكره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من كون معبودات الأمم دون الله حطب جهنم.
الآية قرأه على قريش ، فامتعضوا من ذلك امتعاضاً شديداً ؛ أي : غضبوا وشق عليهم ذلك.
فقال ابن الزبعرى بطريق الجدال هذا لنا ولآلهتنا ، أم لجميع الأمم.
فقال عليه السلام : "هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم".
فقال : خصمتك ورب الكعبة ، أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود عزيراً ، وبنو مليح الملائكة ، فإن كان هؤلاء في النار ، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرح به قومه ، وضحكوا وارتفعت أصواتهم ، وذلك قوله تعالى : {إِذَا قَوْمُكَ} : (آنكاه قوم تو).
{مِنْهُ} ؛ أي : من ذلك المثل ؛ أي : لأجله وسببه {يَصِدُّونَ} ؛ أي : يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحاً وجذلاً لظنهم أن الرسول صار ملزماً به.
قال في "القاموس" : صد يصد ويصد صديداً ضج كما قال في "تاج المصادر" : (الصديد بانك كردن).
والغابر : يفعل ، ويفعل معاً ، وأما الصدود ، فبمعنى الإعراض.
يقال : صد عنه صدوداً ؛ أي : أعرض وفلاناً عن كذا
381
صداً منعه وصرفه ؛ كأصده كما في "التاج" : (الصد بكر دانيد والصد والصدود بكشتن).
{وَقَالُوا} ؛ أي : قومك.
{ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ} ؛ أي : عندك ، فإن آلهتهم خير عندهم من عيسى.
{أَمْ هُوَ} ؛ أي : عيسى ؛ أي : ظاهر أن عيسى خير من آلهتنا ، فحيث كان هو في النار ، فلا بأس بكوننا مع آلهتنا فيها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
روي : أن الله تعالى أنزل قوله تعالى : جواباً {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء : 101) يدل على أن قوله : وما يعبدون من دون الله خاص بالأصنام.
(8/293)
وروي : أنه عليه السلام رد على ابن الزبعرى بقوله : ما أجهلك بلغة قومك.
أما فهمت أن ما لما لا يعقل ، فيكون أن الذين سبقت.
إلخ.
لدفع احتمال المجاز لا لتخصيص العام المتأخر عن الخطاب.
وفي هذا الحديث تصريح بأن ما موضوع لغير العقلاء ، لا كما يقول جمهور العلماء أنه موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم ، كما في "بحر العلوم".
وقد بين عليه السلام أيضاً بقوله : "بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك أن الملائكة والمسيح عزيراً" بمعزل عن أن يكونوا معبوديهم كما نطق به قوله تعالى : {سُبْحَـانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} (سبأ : 41) ، بل كانوا يعبدون الجن ، وإنما أظهروا الفرح ورفع الأصوات من أول الأمر لمحض وقاحتهم وتهالكهم على المكابرة والعناد ، كما ينطق به قوله تعالى : {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَ} : الجدل : فتل الخصم عن قصده لطلب صحة قوله ، وإبطال غيره ، وهو مأمور به على وجه الإنصاف ، وإظهار الحق بالاتفاق ، وانتصاب جدلاً على أنه مفعول له للضرب ؛ أي : ما ضربوا لك ذلك المثل إلا لأجل الجدال والخصام لا لطلب الحق حتى يذعنوا له عند ظهوره ببيانك.
قال بعض الكبار : إن قال عليه السلام : "آلهتكم خير من عيسى" ، فقد أقر بأنها معبودة ، وإن قال عيسى خير من آلهتكم ، فقد أقر بأن عيسى يصلح ؛ لأن يعبد ، وإن قال : ليس واحد منهم خيراً ، فقد نفى عيسى فراموا بهذا السؤال أن يجادلوه ، ولم يسألوه للاستفادة فبين الله أن جدالهم ليس لفائدة إنما هو لخصومة نفس الإنسان ، فقال : {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ؛ أي : الداء شداد الخصومة بالباطل مجبولون على اللجاج والخلاف ، كما قال تعالى : {وَكَانَ الانسَـانُ أَكْثَرَ شَىءٍ جَدَلا} (الكهف : 54) ، وذلك لأنهم قد علموا أن المراد من قوله : وما يعبدون من دون الله هؤلاء الأصنام بشهادة المقام ، لكن ابن الزبعرى لما رأى الكلام محتملاً للعموم بحسب الظاهر وجد مجالاً للخصومة.
وفي الحديث : "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل" ، ثم قرأ : ما ضربوه لك ، الآية.
{إِنْ هُوَ} ؛ أي : ما هو ؛ أي : ابن مريم وهو عيسى {إِلا عَبْدٌ} مربوب.
{أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} بفضلنا عليه بالنبوة ، أو يخلقه بلا أب ، أو بقمع شهوته لا ابن الله ، والعبد لا يكون مولى وإلهاً كالأصنام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله : أنعمنا عليه بأن جعلنا ظاهره إماماً للمريدين وباطنه نوراً لقلوب العارفين.
{وَجَعَلْنَـاهُ مَثَلا لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ} ؛ أي : أمراً عجيباً حقيقاً بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة.
قال بعض الكبار : عبرة يعتبرون به بأن يسارعوا في عبوديتنا طمعاً في إنعامنا عليهم ، وكل عبد منعم عليه ، إما نبي أو ولي.
{وَلَوْ نَشَآءُ} : لو للمضي وإن دخل على المضارع.
ولذا لا يجزمه ويتضمن لو معنى الشرط ؛ أي : قدرنا بحيث لو نشاء.
{لَّجَعَلْنَا} : أولدنا ؛ أي : لخلقنا بطريق التوالد {مِنكُم} ، وأنتم رجال من الإنس ليس من شأنكم الولادة ، كما ولد حواء من آدم وعيسى من غير أب ، وإن لم تجر العادة.
{مَّلَائكَةً}
382
كما خلقناكم بطريق الإبداع.
{فِى الأرْضِ} مستقرين فيها كما جعلناهم مستقرين في السماء.
{يَخْلُفُونَ} ؛ يقال : خلف فلان فلاناً إذا قام بالأمر عنه ، إما معه وإما بعده ؛ أي : يخلفونكم ويصيرون خلفاء بعدكم مثل أولادكم فيما تأتون وتذرون ويباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم مع أن شأنهم التسبيح والتقديس في السماء ، فمن شأنهم بهذه المثابة بالنسبة إلى القدرة الربانية كيف يتوهم استحقاقهم للمعبودية ، أو انتسابهم إليه بالولادة ، يعني أن الملائكة مثلكم في الجسمية ، واحتمال خلقها توليداً لما ثبت أنها أجسام ، وأن الأجسام متماثلة ، فيجوز على كل منها ما يجوز على الآخر ، كما جاز خلقها إبداعاً ، وذات القديم الخالق ، لكل شيء متعالية عن مثل ذلك ، فقوله : ولو نشاء.
إلخ.
لتحقيق أن مثل عيسى ليس ببدع من قدرة الله ، وأنه تعالى قادر على أبدع من ذلك ، وهو توليد الملائكة من الرجال مع التنبيه على سقوط الملائكة أيضاً من درجة المعبودية.
قال سعدي المفتي : لجعلنا منكم ؛ أي : ولدنا بعضكم ، فمن للتبعيض ، وملائكة نصب على الحال ، والظاهر أن من ابتدائية ؛ أي : نبتدىء التوليد منكم من غير أم عكس حال عيسى عليه السلام ، والتشبيه به على الوجهين في الكون على خلاف العادة ، وجعل بعضهم من للبدل.
يعني : (شمارا اهلاك كنيم وبدل شما ملائكة آريم كه ايشان در زمين ازبى در آنيد شمارا).
يعمرون الأرض ، ويعبدونني كقوله تعالى : {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} (إبراهيم : 19) ، فتكون الآية للتوعد بالهلاك والاستئصال ، ولا يلائم المقام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349(8/294)
وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان لو أطاع الله تعالى لأنعم الله عليه بأن جعله متخلقاً بأخلاق الملائكة ليكون خليفة الله في الأرض بهذه الأخلاق ليستعد بها إلى أن يتخلق بأخلاق الله ، فأنها حقيقة الخلافة.
حكي : أن هاروت وماروت لما أنكرا على ذرية آدم اتباع الهوى والظلم والقتل والفساد.
وقالا : لو كنا بدلاً منهم خلفاء الأرض ما نفعل مثل ما يفعلون ، فالله تعالى أنزلهما إلى الأرض وخلع عليهما لباس البشرية ، وأمرهما أن يحكما بين الناس بالحق ، ونهاهما عن المناهي ، فصدر عنهما ما صدر فثبت أن الإنسان مخصوص بالخلافة ، وقبول فيضان نور الله ، فلو كان للملائكة هذه الخصوصية لم يفتتنا بالأوصاف المذمومة الحيوانية السبعية ، كما أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من مثل هذه الآفات والأخلاق ، وإن كانت لازمة لصفاتهم البشرية ، ولكن بنور التجلي تنور مصباح قلوبهم ، واستتار بنور قلوبهم جميع مشكاة جسدهم ظاهراً وباطناً ، وأشرقت الأرض بنور ربها ، فلم يبق لظلمات هذه الصفات مجال الظهور مع استعلاء النور ، وبهذا التجلي المخصوص بالإنسان يتخلق الإنسان بالأخلاق الإلهية ، فيكون فوق الملائكة ، ثم إن الإنسان وإن لم يتولد منه الملائكة ظاهراً ، لكنه قد تولدت منه باطناً على وجهين :
أحدهما : أن الله تعالى خلق من أنفاسه الطيبة وأذكاره الشريفة وأعماله الصالحة ملائكة ، كما روي عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال : كنا نصلي مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فلما رفع رأسه من الركوع قال : "سمع الله لمن حمده" ، فقال رجل وراءه : ربنا لك الحمد ، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
فلما انصرف ، قال : "من المتكلم آنفاً؟" ، قال الرجل : أنا.
قال : "لقد رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتب أولاً وسره هو أن مجموع حروف هذه الكلمات الذي ذكره الرجل وراء النبي عليه السلام : ثلاثة وثلاثون حرفاً ، لكل حرف روح
383
هوالمثبت هل والمبقي لصورة ما وقع النطق به ، فبالأرواح الصور تبقى وبنيات العمال ، وتوجهات نفوسهم ومتعلقات هممهم التابعة لعلومهم واعتقاداتهم ، ترتفع حيث منتهى همه العامل :
هركسى ازهمت والآى خويش
سود برد درخور كالاى خويش
والثاني : أن الإنسان الكامل قد تتولد منه الأولاد المعنوية التي هي كالملائكة في المشرب والأخلاق ، بل فوقهم ، فإن استعداد الإنسان أقوى من استعداد الملك.
وهؤلاء الأولاد يخلفونه متسلسلين إلى آخر الزمان بأن يتصل النفس النفيس من بعضهم إلى بعض إلى آخر الزمان ، وهي السلسلة المعنوية ، كما يتصل به النطفة من بعض الناس إلى بعض إلى قيام الساعة.
وهي السلسلة الصورية ، وكما أن عالم الصورة باق ببقاء أهله وتسلسله ، فكذا عالم المعنى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائكَةً فِى الارْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّه لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِا هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَـانُا إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} .
{وَإِنَّهُ} ؛ أي : وأن عيسى عليه السلام بنزوله في آخر الزمان {لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} شرط من أشراطها ، يعلم به قربها وتسميته علماً لحصوله به ، فهي على المبالغة في كونه مما يعلم به ، فكأنه نفس العلم بقربها ، أو أن حدوثه بغير أب أو إحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذي هو معظم ما ينكره الكفرة من الأمور الواقعة في الساعة.
وفي الحديث : "إن عيسى ينزل على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها : أفيق ، وهو كأمير قرية بين حوران والغور.
وعليه ممصرتان يعني : ثوبين مصبوغين بالأحمر ، فإن المصر الطين الأحمر ، والممصر المصبوغ به ، كما في "القاموس".
وشعر رأسه دهين وبيده حربة وبها يقتل الدجال ، فيأتي بيت المقدس.
والناس في صلاة الصبح.
وفي رواية : في صلاة العصر.
فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد عليه السلام ، ثم يقتل الخنازير ، ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به.
وفي الحديث : "الأنبياء أولاد علات ، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم ، ليس بيني وبيه نبي ، وإنه أول ما ينزل يكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ويقاتل على الإسلام ويخرب البيع والكنائس".
وفي الحديث : "ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً وعدلاً ، يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام".
دل آخر الحديث على أن المراد بوضع الجزية : تركها ورفعها عن الكفار بأن لا يقبل إلا الإسلام.
صرح بذلك النووي.
ولعل المراد بالكسر والقتل المذكورين ليس حقيقتهما ، بل إزالة آثار الشرك عن الأرض.
وفي "صحيح مسلم" : فبينما هو يعني المسيح الدجال إذ بعث الله المسيح بن مريم ، فينزل عند المنارة البيضاء بشرقي دمشق بين مهرودتين يعني : ثوبين مصبوغين بالهرد بالضم ، وهو طين أحمر واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر.
يعني :
جون سردربيش افكند قطرات ازرويش ريزان كردد(8/295)
وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ يعني :
جون سربالا كند قطر هابر روى وى جون مرواريد روان شود
فلا تحل بكافر يجد ريح نفسه إلا مات يعني :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
نفس نهر كافر كه رسد نميرد
ونفسه حين ينتهي طرفه يعني :
برهر جاكه جشم وى افتد نفس وى برسد
"فيطلبه" ؛ أي : "الدجال حتى يدركه بباب لد فيقتله".
قال في "القاموس" : لد بالضم ، قرية بفلسطين ، يقتل عيسى عليه السلام الدجال عند بابها.
انتهى.
(وآنكه يأجوج ومأجوح بيرورن آيند وعيسى عليه السلام ومؤمنان بكوه طور برود وآنجا متحصن كردد).
ويجتمع عيسى والمهدي ، فيقوم عيسى بالشريعة والإمامة ، والمهدي بالسيف والخلافة.
فعيسى خاتم الولاية المطلقة ، كما أن المهدي خاتم الخلافة المطلقة.
384
وفي "شرح العقائد" : ثم الأصح أن عيسى يصلي بالناس ويؤمهم ويقتدي به المهدي ؛ لأنه أفضل منه ، فإمامته أولى من المهدي ؛ لأن عيسى نبي ، والمهدي ولي ، ولا يبلغ الولي درجة النبي.
يقول الفقير : فيه كلام ؛ لأنه عيسى عليه السلام لا ينزل بالنبوة ، فإن زمان نبوته قد انقضى ، وقد ثبت أنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا مشرعاً كأصحاب الكتب ، ولا متابعاً كأنبياء بني إسرائيل ، وإنما ينزل على شريعتنا ، وعلى أنه من هذه الأمة.
لكن للغيرة الإلهية يؤم المهدي ، ويقتدي به عيسى ؛ لأن الاقتداء به اقتداء بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد صح أن عيسى اقتدى بنبينا ليلة المعراج في المسجد الأقصى مع سائر الأنبياء ، فيجب أن يقتدي بخليفته أيضاً ، لأنه ظاهر صورته الجمعية الكمالية.
{فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} فلا تشكن في وقوعها.
وبالفارسية : (بس شك مكنيد وجدل منماييد بآمدن قيامت).
والامتراء : المحاجة فيما فيه مرية.
{وَاتَّبِعُونِ} ؛ أي : واتبعوا هداي وشرعي أو رسولي.
{هَـاذَا} الذي أدعوكم إليه ، وهو الاتباع.
{صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} موصل إلى الحق.
وقال الحسن : الضمير في وأنه لعلم للقرآن لما فيه من الإعلام بالساعة والدلالة عليها ، فيكون هذا أيضاً إشارة إلى القرآن.
{وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَـانُ} ؛ أي : لا يمنعنكم الشيطان ، ولا يصرفنكم عن صراط أتباعي.
{إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} بين العداوة حيث أخرج إياكم من الجنة ونزع عنه لباس النور وعرضكم للبلية.
وحكي : أنه لما خرج آدم عليه السلام من الجنة.
قال إبليس : أخرجته من الجنة بالوسوسة ، فما أفعل به الآن ، فذهب إلى السباع والوحوش ، فأخبرهم بخبر آدم ، وما يولد منه حتى قالت الوحوش والسباع : ما التدبير في ذلك.
قال : ينبغي أن تقتلوه وقتل واحد أسهل من قتل ألف ، فأقبلوا إلى آدم وإبليس أمامهم ، فلما رأى آدم أن السباع قد أقبلت إليه رفع يده إلى السماء ، وتضرع إلى الله ، فقال الله : يا آدم امسح بيدك على رأس الكلب ، فمسح فكر الكلب على السباع والوحوش حتى هزمها ، ومن ذلك اليوم صار الكلب عدو للسباع التي هي أعداء لآدم ولأولاده.
وأصله : أن إبليس بصق على آدم حين كان طيناً ، فوقع بصاقه على موضع سرته ، فأمر الله جبريل حتى قور ذلك الموضع ، فخلق من القوارة الكلب ، ولذا أنس بآدم وصار حامياً له.
ويقال : المؤمن بين خمسة أعداء : مؤمن يحسده ، ومنافق يبغضه ، وعدو يقتله ، ونفس تغويه ، وشيطان يضله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال بعض الكبار : لما كان تصرف النفس في الصد عن صراط المتابعة أقوى من الشيطان كانت أعدى الأعداء.
وقال بعضهم : (هرآن دشمن كه باوى احسان كنى دوست كردد مكر نفس راكه جندان كه مدارا بيش كنى مخالفت زياده كند.
مراد هركه برآرى مطيع امر توشد.
خلاف نفس كه كردن كشد جويافت مراد).
{وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَـانُا إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَـاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلابَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيه فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوه هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ مِنا بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا} .
{وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى} : (وآن هتكام كه عيسى آمد).
{بِالْبَيِّنَـاتِ} ؛ أي : المعجزات الواضحة أو بآيات الإنجيل ، أو بالشرائع.
{قَالَ قَدْ جِئْتُكُم} : (آمد شمارا ويا آوردم شمارا).
{بِالْحِكْمَةِ} ؛ أي : الإنجيل أو الشريعة لأعلمكم إياها.
{وَلابَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} ، وهو ما يتعلق بأمور الدين ، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا ، فليس بيانه من وظائف الأنبياء ، كما قال عليه السلام : "أنتم أعلم بأمور دنياكم".
وفي "الأسئلة المقحمة" : كيف قال بعض ، وإنما بعث ليبين الكل.
والجواب : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أن البعض ها هنا بمعنى الكل.
وكذا قال في "عين المعاني" : الأصح أن البعض يراد به الكل كعكسه في قوله :
385
(8/296)
{ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا} (البقرة : 26).
وقال بعض أهل المعاني : كانوا يسألون عن أشياء لا فائدة فيها.
فقال : ولأبين لكم.
إلخ.
يعني : أجيبكم عن الأسئلة التي لكم فيها فوائد.
وفي الآية إشارة إلى أن الأنبياء ، كما يجيئون بالكتاب من عند الله يجيئون بالحكمة مما آتاهم ، كما قال ، ويعلمهم الكتاب والحكمة.
ولذا قال : ولأبين لكم.
إلخ.
لأن البيان عما يختلفون فيه هو الحكمة.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ} في مخالفتي.
{وَأَطِيعُونِ} فيما أبلغه عنه تعالى ، فإن طاعتي طاعة الحق ، كما قال : من يطع الرسول فقد أطاع الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} ، فخصوه بالعبادة والتوحيد ، وهو بيان لما أمرهم بالطاعة فيه ، وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع.
{هَـاذَا} ؛ أي : التوحيد والتعبد بالشرائع {صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} لا يضل سالكه.
وفي "التأويلات النجمية" : فاعبدوه ؛ أي : لا تعبدوني ، فإني في العبودية شريك معكم ، وأنه متفرد بربوبيته إيانا هذا صراط مستقيم أن تعبده جميعاً.
{فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ} جمع حزب بالكسر بمعنى جماعة الناس ؛ أي : فاختلف الفرق المتحزبة.
والتحزب : (كروه كروه شدن).
يقال : حزب قومه ، فتحزبوا ؛ أي : جعلهم فرقاً وطوائف ، فكانوا كذلك.
والمراد اختلافهم بعد عيسى عليه السلام بثلاث مائة سنة لا في حياته ، لأنهم أحدثوا بعد رفعه.
{مِنا بَيْنِهِمْ} ؛ أي : من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى يعني : تحزب اليهود والنصارى في أمر عيسى عليه السلام ، فقالت اليهود لعنهم الله : زنت أمه ، فهو ولد الزنا.
وقال بعض النصارى : عيسى هو الله وبعضهم : ابن الله وبعضهم : الله وعيسى وأمه آلهة ، وهو ثالث ثلاثة
وفي "التأويلات النجمية" يعني : قومه تحزبوا عليه حزب آمنوا به أنه عبد الله ورسوله وحزب آمنوا به ، أنه ثالث ثلاثة ، فعبدوه بالألوهية ، وحزب اتخذوه ولداًوابناً له تعالى الله عما يقول الظالمون.
وحزب كفروا به وجحدوا نبوته وظلموا عليه وأرادوا قتله ، فقال الله تعالى في حق الظالمين المشركين.
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا} من المختلفين ، وأقام المظهر مقام المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم.
{مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} هو يوم القيامة.
والمراد : يوم أليم العذاب ، كقوله في يوم عاصف ؛ أي : عاصف الريح.
{فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ مِنا بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} .
{هَلْ يَنظُرُونَ} ؛ أي : ما ينتظر الناس.
{إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم} ؛ أي : إلا إتيان الساعة ، فهو بدل من الساعة ، ولما كانت الساعة تأتيهم لا محالة كانوا كأنهم ينتظرونها.
{بَغْتَةً} انتصابها على المصدر ؛ أي : إتيان بغتة.
وبالفارسية : (ناكاه).
والبغت : مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب ، كما في "المفردات".
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال في "الإرشاد" : فجأة لكن لا عند كونهم مترقبين لها ، بل غافلين عنها مشتغلين بأمور الدنيا منكرين لها.
وذلك قوله تعالى : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بإتيانها ، فيجازي كل الناس على حسب أعمالهم ، فلا تؤدي بغتة مؤدى قوله : وهم لا يشعرون حتى لا يستغنى بها عنه ؛ لأنها ربما يكون إتيان الشيء بغتة مع الشعور بوقوعه والاستعداد له ؛ لأنه إذا لم يعرف وقت مجيئه.
ففي أي وقت جاء أتى بغتة ، وربما يجيء والشخص غافل عنه منكر له.
والمراد هنا هو الثاني ، فلذا وجب تقييد إتيان الساعة بمضمون الجملة الحالية ، فعلى العاقل الخروج عن كل ذنب.
والتوبة لكل جريمة قبل أن يأتي يوم أليم عذابه ، وهو يوم الموت ، فإن ملائكة العذاب ينزلون فيه على الظالمين ، ويشددون عليهم حتى تخرج أرواحهم الخبيثة بأشد العذاب.
وفي الحديث : "ما من مؤمن إلا وله كل يوم صحيفة جديدة ، فإذا طويت وليس فيها استغفار طويت وهي سوداء مظلمة ، وإذا طويت وفيها استغفار ، طويت ولها نور يتلألأ" ، ومن
386
كلمة الاستغفار يخلق الله تعالى ملائكة الرحمة فيسترحمون له ويستغفرون".
(8/297)
واعلم أن القيامة ثلاث : الكبرى ، وهو حشر الأجساد والسوق إلى المحشر للجزاء.
والقيامة الصغرى : وهي موت كل أحد كما قال عليه السلام : "من مات فقد قامت قيامته".
ولذا جعل القبر روضة من رياض الجنان أو حفرة من حفر النيران والقيامة الوسطى.
وهي موت جميع الخلائق.
وقيام هذه الوسطى لا يعلم وقته يقيناً ، وإنما يعلم بالعلامات المنقولة عن الرسول عليه السلام مثل أن يرفع العلم ويكثر الجهل والزنا وشرب الخمر ويقل الرجال ويكثر النساء ، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد ، وعن علي رضي الله عنه : "يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ، ولا من الدين إلا رسمه ، ولا من القرآن إلا درسه.
يعمرون مساجدهم ، وهي خراب عن ذكر الله شر أهل ذلك الزمان علماؤهم منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود".
قال الشيخ سعدي :
كرهمه علم عالمت باشد
بى عمل مدعى وكذابى
وقال : (عالم نابر هيز كار كوريست مشعله دار).
يعني : يهدي به ولا يهتدي ، فنعوذ بالله من علم بلا عمل.
{الاخِلاءُ} جمع خليل.
بالفارسية : (دوست).
والخلة : المودة ؛ لأنها تتخلل النفس ؛ أي : تتوسطها ؛ أي : المتحابون في الدنيا على الإطلاق ، أو في الأمور الدنيوية.
{يَوْمَـاـاِذ} يوم إذ تأتيهم الساعة ، وهو ظرف لقوله عدو الفصل بالمبتدأ غير مانع والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه.
{بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} لانقطاع ما بينهم من علائق الخلة والتحاب لظهور كونها أسباباً بالعذاب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{إِلا الْمُتَّقِينَ} : فإن خلتهم في الدنيا لما كانت في الله تبقى على حالها ، بل تزداد بمشاهدة كل منهم آثار الخلة من الثواب ورفع الدرجات ، والاستثناء على الأول متصل ، وعلى الثاني منقطع.
قال الكاشفي : (كافران كه دوستى ايشان براى معاونت بوده بر كفر معصيت باهمه دشمن شوند كه ويلعن بعضهم بعضاً ومؤمنان كه محبت ايشان براى خداى تعالى بوده دوستى ايشان مجانا باشد تا يكديكررا شفاعت كنند ودر تأويلات كاشفي مذكور است كه خلت جهار نوع مى باشد خلت تامة حقيقيه كه محبت روحانية است وآن مستند بود به تناسب أرواح وتعارف آن جون محبت انبيا واوليا واصفيا وشهدا بايكديكر دوم محبت قلبيه واستناد اين به تناسب اوصاف كامله واخلاق فاضله است جون محبت صلحا وابرار باهم ودوستى امم با نبيا وارادت مريدان بمشايخ واين دو نوع از محبت خلل نذير نيست نه در دنيا نه در آخرت ومثمر فوائد نتائج صورى ومعنويست سوم محبت عقليه كه مستند است بتحصيل اسباب معاش وتيسير مصالح دنيويه جون محبت تجار وصناع ودوستى خدام با مخاديم وارباب حاجات باغنياجهارم محبت نفسانيه واستناد آن بلذات حسيه ومشتهيات نفسيه بس در قيامت كه اسباب اين دو نوع از محبت قانى وزائل باشد آن محبت نيز زوال بذيرد بلكه جون متمنى وجود نكيرد وغرض وغايت بحصول نه بيوندد آن دوستى به دشمنى مبدل شود.
دوستى كان غرض آميزشد.
دوستى دشمنى انكيز شد.
مهر كه از هر غرضى كشت باك.
راست جو خورشيد شود تابناك).
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن كل خلة وصداقة تكون في الدنيا مبنية على الهوى والطبيعة الإنسانية تكون في الآخرة عداوة يتبرأ بعضهم من بعض.
والإخلاء في الله خلتهم باقية إلى الأبد وينتفع بعضهم من بعض ،
387
ويشفع بعضهم من بعض ، ويتكلم بعضهم في شأن بعض ، وهم المتقون الذين استثناهم وشرائط الخلة في الله أن يكونوا متحابين في الله محبة خالصة لوجه الله من غير شوب بعلة دنيوية هوائية متعاونين في طلب الله ، ولا يجري بينهم مداهنة ، فبقدر ما يرى بعضهم في بعض من صدق الطلب والجد والاجتهاد يساعده ويوافقه ويعاونه ، فإذا علم منه شيئاً لا يرضاه الله تعالى لا يرضاه من صاحبه ، ولا يداريه فقد قيل : المداراة في الطريقة كفر بل ينصحه بالرفق والموعظة الحسنة ، فإذا عاد إلى ما كان عليه وترك ما تجدد لديه يعود إلي صدق مودته وحسن صحبته.
كما قال الله تعالى : {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} (الإسراء : 8) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
هنوزت از سر صلحست بازآى
كزان محبوبتر باشى كه بودى
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هذه الآية : كان خليلان مؤمنان وخليلان كافران ، فمات أحد المؤمنين ، فقال : يا رب إن فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك يا رب ، فلا تضله بعدي ، واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني ، فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما ؛ أي : بين أرواحهما ، فيقول كل واحد منهما لصاحبه.
نعم الأخ ونعم الصاحب ، فيثني عليه خيراً.
قال : ويموت أحد الكافرين ، فيقول : يا رب إن فلاناً كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ، ويأمرني بالشر ، وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك ، فلا تهده بعدي وأضلله كما أضللتني وأهنه كما أهنتني ، فإذا مات خليله الكافر جمع بينهما ، فيقول كل واحد منهما لصاحبه : بئس الأخ وبئس الخليل ، فيثني عليه شراً.
(8/298)
وفي الحديث : "إن الله يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلى ظلي".
وفي رواية أخرى : "المتحابون فيَّ أي : في الله بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أحبوأبغضووالوعاد ، فإنه إنما ينال ما عند الله بهذا ، ولن ينفع أحداً كثرة صومه وصلاته وحجه حتى يكون هكذا.
وقد صار الناس اليوم يحبون ويبغضون للدنيا ، ولن ينفع ذلك أهله ، ثم قرأ الآية ، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار بعد قدومه إلى المدينة.
وقال : كونوا في الله إخواناً" ؛ أي : لا في طريق الدنيا والنفس والشيطان.
وقال الصديق رضي الله عنه من ذاق خالص محبة الله منعه ذلك من طلب الدنيا وأوحشه ذلك من جميع البشر.
(اكر كسى را دوست دارد از مخلوقات از آنست كه وى بحق تعالى تعلقى دارد يا ازروى دوستى باحق مناسبتى دارد) : ()
وما عمدى بحب تراب أرض
ولكن ما يحل به الحبيب
قال عبيد بن عمر : كان لرجل ثلاثة أخلاء بعضهم أخص به من بعض ، فنزلت به نازلة فلقي أخص الثلاثة ، فقال : يا فلان إنه قد نزل بي كذا وكذا ، وإني أحب أن تعينني.
قال له : ما أنا بالذي أعينك وأنفعك ، فانطلق إلى الذي يليه ، فقال له : أنا معك حتى إذا بلغت المكان الذي تريده رجعت وتركتك ، فانطلق إلى الثالث ، فقال له : أنا معك حيث ما كنت ودخلت.
قال : فالأول : ماله ، والثاني : أهله وعشيرته.
والثالث : عمله :
بشهر قيامت مرو تنكدست
كه وجهى ندارد بحسرت نشست
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
كرت جشم وعقلست تدبير كور
كنون كن كه جشمت نخور دست مور
{الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ * يا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُوا بآياتنا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} .
يا عِبَادِ} ؛ أي :
388
يا عبادي.
ولفظ العباد المضاف إلى الله مخصوص بالمؤمنين المتقين ؛ أي : يقال : للمتقين يوم القيامة تشريفاً وتطييباً لقلوبهم يا عبادي.
{لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} : من إلقاء المكاره.
{وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} من فوت المقاصد ، كما يخاف ويحزن غير المتقين.
وقال ابن عطاء : لا خوف عليكم اليوم ؛ أي : في الدنيا من مفارقة الإيمان ، ولا أنتم تحزنون في الآخرة بوحشة البعد ، وذلك لأن خواص العباد يبشرهم ربهم بالسلامة في الدنيا والآخرة ، كما دل عليه قوله تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاخِرَةِ} (يونس : 64) ، ولكنهم مأمورون بالكتمان وعلمهم بسلامتهم يكفي لهم ، ولا حاجة بعلم غيرهم.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن من أعتقه الله من رق المخلوقات واختصه بشرف عبوديته في الدنيا لا خوف عليه يوم القيامة من شيء يحجبه عن الله ، ولا يحزن على ما فاته من نعيم الدنيا والآخرة مع استغراقه في لجج بحر المعارف والعواطف.
{الَّذِينَ ءَامَنُوا بآياتنا} صفة للمنادى.
{وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} حال من الواو أو عطف على الصلة ، أو مخلصين وجوههم لنا جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا عن مقاتل إذا بعث الله الناس فزع كل أحد فينادي منادٍ : يا عبادي ، فترفع الخلائق رؤوسهم على الرجاع ، ثم يتبعها الذين آمنوا ، الآية.
فينكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم.
وفي "التأويلات النجمية" : وكانوا مسلمين في البداية لأوامره ونواهيه في الظاهر.
وفي الوسط مسلمين لآداب الطريقة على وفق الشريعة بتأديب أرباب الحقيقة في تبديل الأخلاق في الباطن.
وفي "النهاية" : مسلمين للأحكام الأزلية والتقديرات الإلهية وجريان الحكم ظاهراً وباطناً في الإخراج من ظلمة الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي.
انتهى.
ثم في الآية إشارة إلى الإيمان بالآيات التنزيلية والتكوينية إيماناً عيانياً ، وحقيقة الإسلام إنما تظهر بعد العيان في الإيمان ، ثم إذا حصل الإيمان الصفاتي ، وهو الإيمان بالآيات يترقى السالك إلى الإيمان بالله الذي هو الإيمان الذاتي فاعرف جداً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{الَّذِينَ ءَامَنُوا بآياتنا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍا وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُا وَأَنتُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا} .
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} نساؤكم المؤمنات حال كونكم {تُحْبَرُونَ} : تسرون سروراً يظهر حباره ؛ أي : أثره على وجوهكم أو تزينون من الحبرة ، وهو حسن الهيئة.
(8/299)
قال الراغب : الحبر الأثر المستحسن.
ومنه ما روي : يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره ؛ أي : جماله وبهاؤه.
والحبر العالم لما يبقى من أثر علومه في قلوب الناس من آثار أفعاله الحسنة المقتدى بها.
قال في "القاموس" : الحبر بالكسر : الأثر أو أثر النعمة والحسن والوشى ، وبالفتح السرور وحبره سره.
والنعمة والحبرة بالفتح السماء في الجنة ، وكل نعمة حسنة ، وقد مر في سورة الروم ما يتعلق بالسماع عند قوله تعالى : {فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} (الروم : 15).
وفي "التأويلات النجمية" : ادخلوا جنة الوصال أنتم وأمثالكم في الطلب تتنعمون في رياض الأنس.
{يُطَافُ عَلَيْهِم} ؛ أي : على العباد المؤمنين بعد دخولهم الجنة.
وبالفارسية : (بكردانند برسر ايشان).
يدار بأيدي الغلمان والولدان والطائف الخادم ، ومن يدور حول البيوت حافظاً والإطافة كالطوف والطواف : (كرد جيزى در آمدن يعنى بكشتن).
{بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ} : (كاسانهن).
جمع صحفة كجفان جمع جفنة ، وهي القصعة العريضة الواسعة.
قال مجاهد : أي : أواني مدورة الأفواه.
قال السدي : أي : ليست لها أذان.
والمراد : قصاع فيها طعام.
{وَأَكْوَابٍ} من ذهب فيها شراب.
وبالفارسية : (وكوزهاى بى دست بى كوشه براز) : أصناف شراب.
جمع : كوب ، وهو كوز لا عروة له ولا خرطوم ليشرب الشارب من حيث شاء.
389
قال سعدي المفتي : قللت الأكواب وكثرت الصحاف ؛ أي : كما دل عليهما الصيغة ؛ لأن المعهود قلة أواني الشراب بالنسبة إلى أوني الأكل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يطاف بسبعين ألف صحفة من ذهب في كل صحفة سبعون ألف لون كل لون له طعم وهذا لأسفل درجة ، وأما الأعلى فيؤتى بسبعمائة ألف صحفة كما في "عين المعاني".
{وَفِيهَا} ؛ أي : في الجنة.
{مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ} من فنون الملاذ والمشتهيات النفسانية كالمطاعم والمشارب والمناكح والملابس والمراكب ، ونحو ذلك.
قال في "الأسئلة المقحمة" : أهل الجنة هل يعطيهم الله جميع ما يسألونه وتشتهي أنفسهم ، ولو اشتهت نفوسهم شيئاً من مناهي الشريعة كيف يكون حاله.
والجواب : معنى الآية أن نعيم الجنة كله مما تشتهيه الأنفس ، وليس فيها ما لا تشتهيه النفوس ، ولا تصل إليه ، وقد قيل : يعصم الله أهل الجنة من شهوة محال أو منهي عنها.
يقول الفقير : دل هذا على أنه ليس في الجنة اللواطة المحرمة في جميع الأديان والمذاهب ، ولو في دبر امرأته ، فإن الإمام مالكاً رحمه الله رجع عن تجويز اللواطة في دبر امرأته ، فليس فيها اشتهاء اللواطة لكونها مخالفة للحكمة الإلهية.
وقد جوزها بعضهم في "شرح الأشباح" وغلط فيه غلطاً فاحشاً ، وقد بيناه في قصة لوط ، وأما الخمر ، فليست كاللواطة لكونها حلالاً على بعض الأمم.
والحاصل : أنه ليس في الجنة ما يخالف الحكمة كائناً ما كان.
ولذا تستتر فيها الأزواج عن غير محارمهن ، وإن كان لا حل ولا حرمة هناك.
{وَتَلَذُّ الاعْيُنُ} يقال : لذذت الشيء بالكسر لذاذاً ولذاذة ؛ أي : وجدته لذيذاً.
والمعنى : تستلذه الأعين وتقر بمشاهدته.
قال سعدي المفتي : هذا من باب تنزل الملائكة والروح تعظيماً لنعيمها ، فإن منه النظر إلى وجهه الكريم.
انتهى.
فهذا النظر هو اللذة الكبرى.
قال جعفر : شتان بين ما تشتهي الأنفس وبين ما تلذ الأعين ؛ لأن ما في الجنة من النعيم والشهوات واللذات في جنب ما تلذ الأعين كأصبع يغمس في بحر ؛ لأن شهوات الجنة لها حد ونهاية ؛ لأنها مخلوقة ، ولا تلذ الأعين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الوجه الباقي الذي لا حد ولا نهاية له.
(در وسيط آورده كه بدين دو كلمة اخبار كرد از جملة نعيم اهل بهشت نعيم رياض جنان يا نصيب نفس است يا بهرة عين).
كذا قال في "كشف الأسرار" : هذا من جوامع القرآن ؛ لأن جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتماع الخلق كلهم على وصف ما فيهما على التفصيل لم يخرجوا عنه.
(دوريشى فرموده كه اهل نظر ميدانندكه لذت عين درجه جيزاست ميتوانند بود جمعى راكه غشاوة اعتزال بر نظر بصيرت ايشان طارى كشته يالمعات أنوار جمال انكم سترون ربكم برايشان بوشيده ماند با ايشان بكوى كه تلذ الأعين عبارت از جيست بر هر صاحب بصيرتى روشن است كه اهل شوق رالذت عين جز بمشاهدة جمال محبوب متصور نيست.
برده ازبيش براندازكه مشتاقانرا.
لذت ديده جز از ديدن ديدار تونيست.
امام قشيري رحمه الله فرموده كه لذت ديدار فرا خور اشتياق است عاشق راهر جندكه شوق بيشتر بو دلذت افزو نترباشد واز ذو النون مصري رحمه الله نقل كرده اندكه شوق ثمرة محبت است هركرا دوستى بيشتر شوق بديدار دوست زياده تر ودر زبور آمده كه اى داود بهشت من براى مطيعانست وكفايت من جهت متوكلان وزيادت من براى شاكران وانس من بهرة طالبان ورحمت من ازان محبان ومغفرت من براى تائبان ومن خاصة
390
(8/300)
مشتاقائم).
إلا طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا لهم أشد شوقاً : (دلم از شوق توخونست وندانم جونست.
درلا درون شوق جمالت زبيان بيرونست.
درد لم شوق توهر روز فزون ميكردد.
دل شوريده من بين كه جه روز افزونست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال بعض الكبار : وفيها ما تشتهي أنفس أرباب المجاهدات والرياضات لما قاسوا في الدنيا من الجوع والعطش وتحملوا وجوه المشاق ، فيمتازون في الجنة بوجوه من الثواب.
ويقال لهم : كلوا من ألوان الأطعمة في صحاف الذهب ، واشربوا من أصناف الأشربة من أكواب الذهب هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية.
وأما أرباب القلوب وأهل المعرفة والمحبة ، فلهم ما تلذ الأعين من النظر إلى الله تعالى لطول ما قاسوه من فرط الاشتياق بقلوبهم وبذل الأرواح في الطلب : (قومى خدايرا برستند بربيم وطمع آنان مردو رانند دربند باداش مانده وقومى اورا بمهر ومحبت برستند آنان عارفانند).
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : يا داود إن أود الأوداء إلى من عبدني لغير نوال ، ولكن ليعطي الربوبية حقها يا داود.
من أظلم ممن عبدني لجنة أو نار لو لم أخلق جنة وناراً لم أكن أهلاً ؛ لأن أطاع ومر عيسى عليه السلام بطائفة من العباد قد نحلوا : (يعنى از عبادت كداخته بودند).
وقالوا : نخاف النار ونرجو الجنة ، فقال : مخلوقاً خفتم ومخلوقاً رجوتم ومر بقوم آخرين كذلك ، فقالوا : نعبده حباً له وتعظيماً لجلاله ، فقال : أنتم أولياء الله حقاً ، أمرت أن أقيم معكم.
قال حسن البصري رحمه الله لذاذة شهادة أن لا إله إلا الله في الآخرة كلذاذة الماء البارد في الدنيا.
وفي الخبر : أن أعرابياً قال : يا رسول الله هل في الجنة إبل ، فإني أحب الإبل؟ فقال : "يا أعرابي إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك".
وقال آخر : يا رسول الله هل في الجنة خيل ، فإني أحب الخيل؟ قال : "إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها فرساً من ياقوتة حمراء تطير بك حيث شئت".
وفي الحديث : "إن أدنى أهل الجنة منزلة من أن له سبع درجات ، وهو على السادسة وفوقه السابعة ، وإن ثلاثمائة خادم ، وإنه يغدى عليه ويراح في كل يوم بثلاثمائة صحفة في كل صحفة لون من الطعام ليس في الأخرى وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره ، وأن له من الأشربة ثلاثمائة إناء في كل إناء شراب ليس في الآخر وأنه ليبذ أوله كما يلذ آخره ، وأنه ليقول : يا رب لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم ، ولم ينقص ذلك مما عندي شيئاً وإن له من الحور العين ثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه في الدنيا".
وعن أبي ظبية السلمي.
قال : إن أهل الجنة لتظلهم سحابة ، فتقول : ما أمطركم ، فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أمطرته حتى إن القائل منهم ليقول : أمطرينا كواعب أتراباً.
وعن أبي أمامة قال : إن الرجل من أهل الجنة يشتهي الطائر ، وهو يطير فيقع متفلقاً نضيجاً في كفه ، فيأكل منه حتى تنتهي نفسه ، ثم يطير ويشتهي الشراب ، فيقع الإبريق في بدء فيشرب منه ما يريد ، ثم يرجع إلى مكانه ، وأما الرؤية ، فلها مراتب حسب تفاوت طبقات الرائين ، وإذا نظروا إلى الله نسوا نعيم الجنان ، فإنه أعظم اللذات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفي الخبر : "أسألك لذة النظر إلى وجهك".
يقول الفقير : في الآية رد على من قال من الفقهاء لو قال : أرى الله في الجنة يكفر ، ولو قال : من الجنة لا يكفر.
انتهى.
وذلك لأن الحق سبحانه جعل ظرفاً للرؤية ، وإنما يلزم الكفر إذا اعتقد أن الجنة ظرف المرئي ؛ أي : الله ولا يلزم من تقيد رؤية العبد الرآئي بالجنة تقيد المعبود المرئي بها ، ألا ترى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رأى الله في الدنيا؟ مع أن الله ليس في الدنيا
391
فاعرف ، وفوقه مجال للكلام لكن لما كانت الرؤية نصيب أهل الشهود لا أهل القيود كان إلا وجب طي المقال ، إذ لا يعرف هذا بالقيل والقال (ع) : (نداند لذت اين باده زاهد).
{وَأَنتُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} : الالتفات للتشريف ؛ أي : باقون دائمون لا تخرجون ولا تموتون إذ لولا البقاء والدوام لنغص العيش ونقص السرور والاشتهاء واللذة ، فلم يكن التنعم كاملاً والخوف والحسرة زائلاً بخلاف الدنيا ، فإنها لفنائها عيشها مشوب بالكدر ونفعها مخلوط بالضرر :
جز حسرت وندامت وافسوس روزكار
لز زندكى اكر ثمرى يافتى بكو
{وَتِلْكَ} : مبتدأ إشارة إلى الجنة المذكورة {الْجَنَّةُ} : خبره.
{الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا} : أعطيتموها وجعلتم ورثتها.
والإيراث ميراث (دادن) {بِمَآ} الباء للسببية.
{كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الأعمال الصالحة.
والمقصود أن دخول الجنة بمحض فضل الله تعالى ورحمته.
واقتسام الدرجات بسبب الأعمال والخلود فيها بحسب عدم السيئات شبه جزاء العمل بالميراث ؛ لأن العامل يكون خليفة العمل على جزائه.
يعني : يذهب العمل ويبقى جزاؤه مع العامل ، فكان العمل كالمورث وجزاؤه كالميراث.
قال الكاشفي : (جزارا بلفظ ميراث ياد فرموده كه خالص است وباستحقاق بدست آيد).
(8/301)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : خلق الله لكل نفس جنة ونار.
فالكافر يرث نار المسلم ، والمسلم يرث جنة الكافر.
قال بعضهم : قارن ثواب الجنة بالأعمال ، وأخرج المعرفة واللقاء والمحبة والمشاهدة من العلل ؛ لأنها اصطفائية خاصة أزلية يورثها من يشاء من العارفين الصديقين ، فالجنة مخلوقة ، وكذا الأعمال ، فأعطيت للمخلوق بسبب المخلوق ، وجعل الرؤية عطاء لا يوازيها شيء.
{لَكُمْ فِيهَا} ؛ أي : في الجنة سوى الطعام والشراب.
{فَـاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ} بحسب الأنواع والأصناف لا بحسب الإفراط فقط.
والفواكه من أشهى الأشياء للناس وألذها عندهم وأوفقها لطباعهم وأبدانهم.
ولذلك أفردها بالذكر {مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} ؛ أي : بعضها تأكلون في نوبة لكثرتها.
وأما الباقي ، فعلى الأشجار على الدوام لا ترى فيها شجرة خلت عن ثمرها لحظة ، فهي مزينة بالثمار أبداً موفرة بها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وفي الحديث : "لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مثلاها مكانها" فمن تبعيضية.
والتقديم للتخصيص.
ويجوز أن تكون ابتدائية وتقدم الجار للفاصلة ، أو للتخصيص ، كالأول فيكون فيه دلالة على أن كل ما يأكلون للتفكه ليس فيها تفوت إذ لا تحلل حتى يحتاج إلى الغذاء.
ولعل تفصيل التنعم بالمطاعم والمشارب والملابس ، وتكريره في القرآن ، وهو حقير بالإضافة إلى سائر نعيم الجنة لما كان بهم من الشدة والفاقة ، ففيه تحريك لدواعيهم وتشويق لهم.
والفاسق من أهل الصلاة آمن بالله وآياته وأسلم ، فوجب أن يدخل تحت هذا الوعد.
والظاهر أنه خارج ، فإنه يخاف ويحزن يوم القيامة ، ولا محذور في خروجه.
والحاصل : أن الآية في حق المؤمنين الكاملين ، فإنهم الذين أسلموا وجوههمتعالى ، وأما الناقصون ، فإنهم وإن آمنوا لكن إسلامهم لم يكن على الكمال ، وإلا لما خصوا الله بترك التقوى ، فمقام الامتنان يأبى عن دخولهم تحت حكم الآية.
اللهم إلا بطريق الإلحاق ، فإن لهم نعيماً بعد انقضاء مدة خوفهم وحزنهم ، وانتهاء زمان حبسهم وعذابهم ، فعلى العاقل أن يجتهد في الظواهر والبواطن ، فإن من اكتفى بالمطاعم والمشارب الصورية حرم من طعام المشاهدات وشراب المكاشفات ، ومن لم يطعم في هذه الدار من أثمار أشجار المعارف لم
392
يلتذ في تلك الدار بالأذواق الحقيقية التي هي نصيب الخواص من أهل التقوى.
قال الحافظ :
عشق مى ورزم واميدكه اين فن شريف
جون هنر هاى دكر موجب حرمان نشود
اللهم اجعلنا من المشتاقين إلى جمالك والقابلين لوصالك بحرمة جلالك.
{لَكُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ وَلَـاكِن كَانُوا هُمُ الظَّـالِمِينَ} .
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} ؛ أي : الراسخين في الإجرام وهم الكفار ، وحسبما ينبىء عند إيرادهم في مقابلة المؤمنين بالآيات {فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ} متعلق بقوله : {خَـالِدُونَ} ؛ أي : لا ينقطع عذابهم في جهنم ، كما ينقطع عذاب عصاة المؤمنين على تقدير دخولهم فيها.
{لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} ؛ أي : لا يخفف العذاب عنهم ولا ينقص مقولهم فترت عنه الحمى إذ سكنت قليلاً ونقص حرها ، والتركيب للضعف والوهن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
قال الراغب : الفتر سكون بعد حدة ولين بعد شدة وضعف بعد قوة : (والتفتيرسست كردانيدن).
{وَهُمْ فِيهِ} ؛ أي : في العذاب.
{مُبْلِسُونَ} : آيسون من النجاة والراحة وخفة العقوبات قيل يجعل المجرم في تابوت من النار ، ثم يردم عليه ، فيبقى فيه خالداً لا يرى ولا يرى.
قال في "تاج المصادر" : الإبلاس (نومبيد شدن وشكسته واندوهكين شدن).
وفي "المفردات" : الإبلاس : الحزن المعترض من شدة اليأس ومنه اشتق إبليس ، ولما كان المبلس كثيراً ما يلزم السكوت ، وينسى ما يعنيه قيل أبلس فلان ، إذا سكنت وانقطعت حجته.
قال في "التأويلات النجمية" : في الآية إشارة إلى أن أهل التوحيد ، وإن كان بعضهم في النار ، لكن لا يخلدون فيها ، ويفتر عنهم العذاب بدليل الخطاب.
وقد ورد في الخبر أنه يميتهم الحق إماتة إلى أن يخرجهم من النار.
والميت لا يحس ، ولا يألم.
وذكر في الآية ، وهم مبلسون ؛ أي : خائبون.
وهذه صفة الكفار والمؤمنون ، وإن كانوا في بلائهم فهم على وصف رجائهم يعدون أيامهم إلى أن تنتهي أشجانهم.
وقال بعض الشيوخ : إن حال المؤمن من النار من وجه أروح لقلوبهم من حالهم في الدنيا ؛ لأن اليوم خوف الهلاك ، وهذا يعين النجاة ، ولقد أنشدوا : ()
عيب السلامة أن صاحبها
متوقع لقوا صم الظهر
وفضيلة البلوى ترقبه
عقبى الرجاء ودورة الدهر
هست در قرب همه بيم زوال
نيست در بعد جزاميد وصال
(8/302)
{وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ} بذلك {وَلَـاكِن كَانُوا هُمُ الظَّـالِمِينَ} لتعريض أنفسهم للعذاب الخالد بالكفر والمعاصي ، وهم ضمير فصل عند البصريين من حيث أنه فصل به بين كون ما بعده خبراً ونعتاً وتسمية الكوفيين له عماداً لكونه حافظاً لما بعده ، حتى لا يسقط عن الخبرية كعماد البيت ، فإنه يحفظ سقفه من السقوط.
{وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ وَلَـاكِن كَانُوا هُمُ الظَّـالِمِينَ * وَنَادَوْا يا مَـالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَا قَالَ إِنَّكُم مَّـاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَـاكُم بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَـارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} .
{وَنَادَوْا يا مَـالِكُ} : (درخواه ازخداى تو).
{لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ؛ أي : ليمتنا حتى نستريح من قضى عليه إذا أماته.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
والمعنى : سل ربك أن يقضي علينا ، وهذا لا ينافي ما ذكر من إبلاسهم ؛ لأنه جؤار ؛ أي : صياح وتمن للموت لفرط الشدة.
{قَالَ} : مالك مجيباً بعد أربعين سنة ، يعني : ينادون ملكاً أربعين سنة ، فيجيبهم بعدها أو بعد مائة سنة أو ألف.
(در تبيان أورده كه بعد از جهل روز از روزهاى آن سراى).
لأن تراخي الجواب أحزن لهم.
{إِنَّكُم مَّـاكِثُونَ} : المكث : ثبات مع انتظار ؛ أي : مقيمون في العذاب أبداً لا خلاص لكم منه بموت ، ولا بغيره ، فليس بعدها إلا جؤار كصياح
393
الحمير أوله زفير وآخره شهيق.
{لَقَدْ جِئْنَـاكُم بِالْحَقِّ} في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وهو خطاب توبيخ وتقريع من جهة الله تعالى مقرر لجواب مالك ومبين لسبب مكثهم.
وفي "التأويلات النجمية" : لقد جئناكم بالدين القويم ، فلم تقبلوا ؛ لأن أهل الطبيعة الإنسانية أكثرهم يميلون إلى الباطل ، كما قال {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ} ؛ أيَّ : حق كان {كَـارِهُونَ} ؛ أي : لا يقبلون وينفرون منه لما في طباعه من إتعاب النفس والجوارح ، وأما الحق المعهود الذي هو التوحيد ، أو القرآن ، فكلهم كارهون له مشمئزون منه.
هكذا قالوا والظاهر ما أشار إليه في "التأويلات" ، فاعرف.
والكراهة مصدر كره الشيء بالكسر ؛ أي : لم يرده فهو كاره.
وفي الآية إشارة إلى أن النفرة عن الحق من صفات الكفار ، فلا بدون قبول الحق حلواً ومراً وإلى أن الله تعالى ما ترك الناس سدى ، بل أرشدهم إلى طريق الحق بدلالات الأنبياء والأولياء لكن أكثرهم لم يقبلوا العلاج ، ثم إن أنفع العلاج هو التوحيد.
حكي عن الشبلي قدس سره : أنه اعتل فحمل إلى البيمارستان وكتب علي بن عيسى الوزير إلى الخليفة في ذلك ، فأرسل الخليفة إليه مقدم الأطباء وكان نصرانياً ليداويه ، فما أنجحت مداواته ، فقال الطبيب للشبلي ، والله لو علمت أن مداواتك من قطعة لحم في جسدي ما عسر علي ذلك ، فقال الشبلي : دوائي في دون ذلك.
قال الطبيب : وما هو؟ قال : في قطعك الزنار ، فقال الطبيب : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فأخبر الخليفة بذلك ، فبكى.
وقال : نفذنا طبيباً إلى مريض ، وما علمنا أنا نفذنا مريضاً إلى طبيب.
ونظيره ما حكي : أن الشيخ نجم الدين الأصفهاني قدس سره : خرج مع جنازة بعض الصالحين بمكة ، فلما دفنوه وجلس الملقن يلقنه ، ضحك الشيخ نجم الدين ، وكان من عادته لا يضحك ، فسأله بعض أصحابه عن ضحكه فزجره ، فلما كان بعد ذلك قال : ما ضحكت إلا لأنه لما جلس على القبر يلقن سمعت صاحب القبر يقول : ألا تعجبون من ميت يلقن حياً أشار إلى أن الملقن وإن كان من زمرة الأحياء صورة ، لكنه في زمرة الأموات حقيقة لممات قلبه بالغفلة عن الله تعالى ، فهو ماكث في جهنم النفس معذب بعذاب الفرقة ، لا ينفع نفسه ، فكيف ينفع غيره بخلاف الذي لقنه ، فإنه بعكس ذلك ، يعني أنه وإن كان في زمرة الأموات صورة لكن في زمرة الأحياء حقيقة ؛ لأن المؤمنين الكاملين لا يموتون ، بل ينقلبون من دار إلى دار ، فهو ماكث في جنة القلب منعم بنعيم منتفع بأعماله وأحواله.
وله تأثير في نفع الغير أيضاً بالشفاعة ونحوها على ما أشار إليه قوله تعالى : {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} (النازعات : 5) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
مشوبمرك زامداد اهل دل نوميد
كه خواب مردم آكاه عين بيداريست
فإذا عرفت حال ملقن القبر فقس عليه سائر أرباب التلقين من أهل النقصان وأصحاب الدعوى والرياء ، فإن الميت يحتاج في إحيائه إلى نفخ روح حقيقي وأنى ذلك لمن في حكم الأموات من النافخين ، فإن نفخته عقيم إذ ليس من أهل الولادة الثانية.
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا أحياء بالعلم والمعرفة والشهود ويعصمنا من الجهل والغفلة والقيود.
(8/303)
{أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا} : الإبرام : إحكام الأمر وأصله من إبرام الحبل ، وهو ترديد فتله ، وهو كلام مبتدأ ، وأم منقطعة ، وما فيها من معنى ، بل للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء.
والهمزة للإنكار فإن أريد بالإبرام الإحكام حقيقة ، فهي لإنكار الوقوع ، واستبعاده وإن أريد الإحكام صورة ،
394
فهي لإنكار الواقع واستقباحه ؛ أي : أبرم وأحكم مشركوا مكة أمر من كيدهم ومكرهم برسول الله {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} كيدنا حقيقة لا هم أو فإنا مبرمون بهم حقيقة ، كما أبرموا كيدهم صورة كقوله تعالى : {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} (الطور : 42) وكانوا يتناجون في أنديتهم ، ويتشاورون في أموره عليه السلام.
قال في "فتح الرحمن" : كما فعلوا في اجتماعهم على قتله عليه السلام في دار الندوة إلى غير ذلك.
وفي الآية إشارة إلى أن أمور الخلق منتقدة عليهم قلما يتم لهم ما دبروه ، وقلما يرتفع لهم من الأمور شيء على ما قدروه.
وهذه الحال أوضح دليل على إثبات الصانع.
{أَمْ يَحْسَبُونَ} ؛ أي : بل أيحسبون يعني : (بابندار ند نا كران كفار).
{أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} ، وهو ما حدثوا به أنفسهم من الكيد ؛ لأنهم كانوا مجاهرين بتكذيب الحق.
{وَنَجْوَاـاهُم} ؛ أي : بما تكلموا به فيما بينهم بطريق التباهي والتشاور.
وبالفارسية : (وآنجه براز بايكديكر مشاورت ميكنند).
يقال : ناجيته ؛ أي : ساررته وأصله أن تخلو في نجوة من الأرض ؛ أي : مكان مرتفع منفصل بارتفاعه عما حوله.
{بَلَى} نحن نسمعهما ونطلع عليهما.
{وَرُسُلُنَا} الذي يحفظون عليهم أعمالهم ويلازمونهم إينما كانوا {لَدَيْهِمْ} عندهم {يَكْتُبُونَ} ؛ أي : يكتبونهما ، أو يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال التي من جملتها ما ذكر من سرهم ونجواهم ، ثم تعرض عليهم يوم القيامة ، فإذا كان خفاياهم غير خفية على الملائكة ، فكيف على عالم السر والنجوى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
والجملة عطف على ما يترجم عنه بلى.
وفي "التأويلات النجمية" : خوفهم بسماعه أحوالهم وكتابة الملك عليهم أعمالهم لغفلتهم عن الله ، ولو كان لهم خبر عن الله لما خوفهم بغير الله ، ومن علم أن أعماله تكتب عليه ، ويطالب بمقتضاها قل إلمامه بما يخاف أن يسأل عنه.
قال أبو بكر بن طاهر رحمه الله : دل قوماً من عباده إلى الحياء منه ، ودل قوماً إلى الحياء من الكرام الكاتبين ، فمن استغنى بعلم نظر الله إليه ، والحياء منه أغناه ذلك عن الاشتغال بالكرام الكاتبين.
وعن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله من ستر من الناس ذنوبه وأبداها لمن لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض فقد جعله أهون الناظرين إليه ، وهو من علامات النفاق.
قال الشيخ سعدي : (في كلستانه بخشايش الهى كم شدة را در مناهي جراغ توفيق فراراه داشت وبخلقه أهل تحقيق در آمد وبيمن قدم درويشان وصدق نفس ايشان ذمايم اخلاق او بمحامد مبدل شده دست ازهوا وهوس كوتاه كرده بودو زبان طاعنان در حقش در ازكه همجنانكه قاعدة اولست وزهد وصلاحش نا معقول.
بعذر توبه توان رستن از عذاب خداى وليك مى نتوان از زبان مردم رست.
جون طاقت جورز بانها نياورد شكايت اين حال باببر طريقت بردشيخ بكريست وكفت شكرآن نعمت كجا كزارى كه بهترازانى كه بندار ندت نيك باشى وبدت كويند خلق به كه بد باشى ونيكت كويند ليكن مرابين كه حسن ظن همكنان در حق من بكمالست ومن درغايت نقصان) : ()
إني لمستتر من عين جيراني
والله يعلم أسراري وإعلاني
دربسته بروى خود زمردم
تاعيب نكسترند مارا
دربسته جه سود عالم الغيب
داناى نهان وآشكارا
يقول الفقير : دلت الآية على أن الحفظة يكتبون الأسرار والأمور
395
القلبية سئل سفيان بن عيينة رحمه الله : هل يعلم الملكان الغيب ، فقال : لا ، فقيل له : فكيف يكتبون ما لا يقع من عمل القلب ، فقال : لكل عمل سيما يعرف بها كالمجرم يعرف بسيماه ، فإذا هم العبد بحسنة فاح من فيه رائحة المسك ، فيعلمون ذلك ، فيكتبونها حسنة وإذا هم بسيئة استقر قلبه لها فاح منه ريح النتن.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : الملك لا سبيل له إلى معرفة باطن العبد في قول أكثرهم.
وقال في شرح الطريقة يكره الكلام في الخلاء ، وعند قضاء الحاجة أشد كراهة ؛ لأن الحفظة تتأذى بالحضور في ذلك الموضع الكريه ؛ لأجل كتابة الكلام ، فإن سلم عليه في هذه الحالة.
قال الإمام أبو حنيفة يرد السلام بقلبه لا بلسانه لئلا يلزم كتابة الملائكة ، فإنهم لا يكتبون الأمور القلبية.
وقال في "ريحان القلوب" : الذكر الخفي هو ما خفي عن الحفظة لا ما يحفض به الصوت ، وهو خاص به صلى الله عليه وسلّم ومن له به أسوة حسنة.
انتهى.
والله أعلم بتوفيق الأخبار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
(8/304)
{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاـاهُما بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ * قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ * سُبْحَـانَ رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَـاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} .
{قُلْ} للكفرة {إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ} فرضاً كما تقولون الملائكة بنات الله {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ} لذلك الولد وأسبقكم إلى تعظيمه والانقياد له ، وذلك لأنه عليه السلام أعلم الناس بشؤونه تعالى ، وبما يجوز عليه وبما لا يجوز وأولاهم بمراعاة حقوقه ، ومن مواجب تعظيم الوالد تعظيم ولده ؛ أي : أن يثبت بحجة قطعية كون الولد له تعالى كما تزعمون ، فأنا أولكم في التعظيم وأسبقكم إلى الطاعة تعظيماًتعالى وانقياداً ؛ لأن الداعي إلى طاعته وتعظيمه أول وأسبق في ذلك وكون الولد له تعالى مما هو مقطوع بعدم وقوعه ، ولكن نزل منزلة ما لا جزم لوقوعه واللاوقوعه على المساهلة وإرخاء العنان لقصد التبكيت والإسكات والإلزام فجيء بكلمة إن فلا يلزم من هذا الكلام صحة كينونة الولد وعبادته ؛ لأنها محال في نفسها يستلزم المحال.
يعني : (اين سخن بر سبيل تمثيل است ومبالغه در نفى ولد).
فليس هناك ولد ولا عبادة له.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى نوع من الاستهزاء بهم وبمقالتهم والاستخفاف بعقولهم ، يعني : قل إن كان للرحمن ولد كما تزعمون وتعبدون عيسى ، بأنه ولده فأنا كنت أول العابدين.
قال جعفر الصادق رضي الله عنه : أول ما خلق الله نور محمد صلى الله عليه وسلّم قبل كل شيء ، وأول من وحد الله تعالى ذرية محمد عليه السلام ، وأول ما جرى به القلم : لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال : فأنا أول العابدين أحق بتوحيد الله وذكر الله.
{سُبْحَـانَ رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} : في إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت تحت ملكوته وربوبيته كيف يتوهم أن يكون شيء منها جزءاً منه سبحانه.
{رَبِّ الْعَرْشِ} في تكرير اسم الرب تفخيم لشأن العرش {عَمَّا يَصِفُونَ} ؛ أي : يصفونه به ، وهو الولد.
قال في "بحر العلوم" ؛ أي : سبحوا رب هذه الأجسام العظام ؛ لأن مثل هذه الربوبية توجب التسبيح على كل مربوب فيها ونزهوه عن كل ما يصفه الكافرون به من صفات الأجسام ، فإنه لو كان جسماً لم يقدر على خلق هذا العالم وتدبير أمره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{فَذَرْهُمْ} ؛ أي : اترك الكفرة حيث لم يذعنوا للحق بعدما سمعوا هذا البرهان الجلي.
{يَخُوضُوا} يشرعوا في أباطيلهم وأكاذيبهم.
والخوض هو الشروع في الماء والمرور فيه ، ويستعار للأمور وأكثر ما ورد في القرآن فيما يذم الشروع فيه كما في "المفردات".
{وَيَلْعَبُوا} في دنياهم ، فإن ما هم فيه من الأقوال والأفعال ليست إلا من باب الجهل واللعب والجزم في الفعل لجواب الأمر ،
396
يقال : لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً ، قالوا : كل لعب لا لذة فيه ، فهو عبث ، وما كان فيه لذة ، فهو لعب.
{حَتَّى يُلَـاقُوا} يعاينوا {يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} على لسانك.
يعني : (روزى راكه وعده داده شده اند بملاقات آن).
وهو يوم القيامة ، فإنهم يومئذٍ يعلمون ما فعلوا ، وما يفعل بهم.
قال سعدي المفتي : والأظهر يوم الموت ، فإن خوضهم ولعبهم إنما ينتهي به.
يقول الفقير : وفيه أن الموعود هو يوم القيامة ؛ لأنه الذي كانوا ينكرونه لا يوم الموت الذي لا يشكون فيه ، ولما كان يوم الموت متصلاً بيوم القيامة على ما أشار إليه قوله عليه السلام : "من مات فقد قامت قيامته" جعل الخوض واللعب فتهيين بيوم القيامة.
وفي الآية إعلام بأنهم من الذين طبع الله على قلوبهم ، فلا يرجعون عما هم عليه أبداً ، وإشارة إلى أن الله خلق الخلق أطواراً مختلفة ، فمنهم من خلقه للجنة ، فيستعده للجنة بالإيمان والعمل الصالح ، وانقياد الشريعة ومتابعة النبي عليه السلام ، ومنهم من خلقه للنار ، فيستعده للنار برد الدعوة والإنكار والجحود والخذلان ، ويكله إلى الطبيعة النفسانية الحيوانية التي تميل إلى اللهو واللعب والخوض فيما لا يعنيه ، ومنهم من خلقه للقربة والمعرفة ، فيستعده لهما بالمحبة والصدق والتوكل واليقين والمشاهدات والمكاشفات والمراقبات ، وبذل الوجود بترك الشهوات وأنواع المجاهدات وتسليم تصرفات أرباب المؤلفات.
(8/305)
عن بهلول رحمه الله : قال بينما أنا ذات يوم في بعض شوارع البصرة إذا الصبيان يلعبون بالجوز واللوز وإذا أنا بصبي ينظر إليهم ، ويبكي فقلت هذا الصبي يتحسر على ما في أيدي الصبيان ، ولا شيء معه يلعب به ، فقلت له : أي بني ما يبكيك؟ أشتري لك من الجوز واللوز ما تلعب به مع الصبيان؟ فرفع بصره إليّ وقال : يا قليل العقل ما للعب خلقنا؟ فقلت : أي بني ، فلماذا خلقنا ، فقال : للعلم والعبادة ، فقلت : من أين لك ذلك بارك الله فيك ، قال : من قول الله تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} ().
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
وحكي : أنه كان سبب خروج إبراهيم بن أدهم رحمه الله عن أهله وماله وجاهه ورياسته.
وكان من أبناء الملوك أنه خرج يوماً يصطاد ، فأثار ثعلباً أو أرنباً ، فبينما هو في طلبه هتف به هاتف.
ألهذا خلقت أم بهذا أمرت ، ثم هتف به من قربوس سرجه.
والله ما لهذا خلقت ، ولا بهذا أمرت ، فنزل عن مركوبه ، وصادف راعياً لأبيه ، فأخذ جبة للراعي من صوف ، فلبسها وأعطاه فرسه وما معه ، ثم دخل البادية ، وكان من شأنه ما كان.
واعلم أن الاشتغال بما سوى الله تعالى من قبيل اللهو واللعب إذ ليس فيه مقصد صحيح ، وإنما المطلب الأعلى هو الله تعالى ، ولذا خرج السلف عن الكل ووصلوا إلى مبدأ الكل :
دلا ترك هو اكن قرب حق كر آزرو دارى
كه دور افتد حباب از بحر در كسب هوا كردن
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَـاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ * وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِى لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَـاعَةَ إِلا} .
جعلنا الله وإياكم من المشتغلين به.
{وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ} ؛ أي : مستحق لأن يعبد فيها ؛ أي : هو معبود أهل السماء من الملائكة وبه تقوم الساعة ، وليس حالاً فيها.
{وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ} ؛ أي : مستحق لأن يعبد فيها ؛ أي : فهو معبود أهل الأرض من الإنس والجن وإله الآلهة ، ولا قاضي لحوائج أهل الأرض إلا هو وبه تقوم الأرض وليس حالاً فيها ، فالظرفان يتعلقان بإله ؛ لأنه بمعنى المعبود بالحق ، أو متضمن معناه ، كقوله : هو حاتم ؛ أي : جواد لاشتهاره بالجود.
وكذا فيمن قرأ ، وهو الذي في السماء الله.
وفي الأرض الله ومنه قوله تعالى : في الأنعام {وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَفِى الأرْضِ} (الأنعام : 3) ؛ أي :
397
وهو الواجب الوجود المعبود المستحق للعبادة فيهما والراجع إلى الموصول مبتدأ محذوف لطول الصلة بمتعلق الخبر ، وهو في السماء والعطف عليه والتقدير.
وهو الذي هو في السماء.
{وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} كالدليل على ما قبله ؛ لأنه المتصف بكمال الحكمة والعلم المستحق للألوهية لا غيره ؛ أي : وهو الحكيم في تدبير العالم وأهله العليم بجميع الأحوال من الأزل إلى الأبد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَتَبَارَكَ} تعالى عن الولد والشريك وجل عن الزوال والانتقال وعمت بركة ذكره وزيادة شكره.
{الَّذِى} إلخ.
فاعل تبارك {لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} : (بادشاهى آسمان وزمين) ، {وَمَا بَيْنَهُمَا} : إما على الدوام كالهواء ، أو في بعض الأوقات كالطير والسحاب.
ومن أخبار الرشيد أنه خرج يوماً للصيد ، فأرسل بازياً أشب فلم يزل يعلو حتى غاب في الهواء ، ثم رجع بعد اليأس منه ، ومعه سمكة ، فأحضر الرشيد العلماء وسألهم عن ذلك ، فقال مقاتل : يا أمير المؤمنين روينا عن جدك ابن عباس رضي الله عنهما : أن الهواء معمور بأمم مختلفة الخلق سكان فيه ، وفيه دواب تبيض وتفرخ فيه شيئاً على هيئة السمك لها أجنحة ليست بذات ريش فأجاز مقاتلاً على ذلك كذا في "حياة الحيوان".
{وَعِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} ؛ أي : الساعة التي فيها تقوم القيامة لا يعلمها إلا هو.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : الالتفات للتهديد ؛ أي : تردون للجزاء فاهتموا بالاستعداد للقائه.
قال بعض الكبار : وإليه ترجعون بالاختيار والاضطرار ، فأهل السعادة يرجعون إليه بالاختيار على قدم الشوق والمحبة والعبودية وأهل الشقاوة يرجعون إليه بالاضطرار بالموت بالسلاسل والأغلال يسحبون على وجوههم إلى النار.
يقول الفقير : الرجوع باضطرار قد يكون نافعاً ممدوحاً مقبولاً ، وهو أن يؤخذ العبد بالجذبة الإلهية ويجر إلى الله جراً عنيفاً ، ووقع ذلك لكثير من المنقطعين إلى الله تعالى.
(8/306)
حكي عن الجنيد رحمه الله أنه قال : كنت في المسجد مرة ، فإذا رجل قد دخل علينا وصلى ركعتين ، ثم انتبذ ناحية من المسجد ، وأشار إليّ فلما جئته ، قال : يا أبا القاسم قد حان لقاء الله تعالى ولقاء الأحباب ، فإذا فرغت من أمري ، فسيدخل عليك شاب مغن فادفع إليه مرقعتي وركوتي ، فقلت : إلى مغن ، وكيف يكون ذلك.
قال : إنه قد بلغ رتبة القيام بخدمة الله في مقامي.
قال الجنيد : فلما قضى الرجل نحبه ؛ أي : مات وفرغنا من مواراته إذا نحن بشاب مصري قد دخل علينا وسلم وقال : أين الوديعة يا أبا القاسم؟ فقلت : كيف ذاك؟ أخبرنا بحالك ، قال : كنت في مشربة بني فلان ، فهتف بي هاتف أن قم إلى الجنيد وتسلم ما عنده ، وهو كيت وكيت ، فإنك قد جعلت مكان فلان الفلاني من الأبدال.
قال الجنيد : فدفعت إليه ذلك فنزع ثيابه ، واغتسل ولبس المرقعة ، وخرج على وجهه نحو الشام ، ففي هذه الحكاية تبين أن ذلك المغني انجذب إلى الله تعالى بصوت الهاتف.
وخرج إلى الشام مقام الأبدال ؛ لأن المهاجرة سنة قديمة وبها يحصل من الترقيات ما لا يحصل بغيرها ، فإذا جاءت الساعة يحصل أثر التوفيق ، ويظهر اللحوق بأهل التحقيق :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
{وَتَبَارَكَ} تعالى عن الولد والشريك وجل عن الزوال والانتقال وعمت بركة ذكره وزيادة شكره.
{الَّذِى} إلخ.
فاعل تبارك {لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} : (بادشاهى آسمان وزمين) ، {وَمَا بَيْنَهُمَا} : إما على الدوام كالهواء ، أو في بعض الأوقات كالطير والسحاب.
ومن أخبار الرشيد أنه خرج يوماً للصيد ، فأرسل بازياً أشب فلم يزل يعلو حتى غاب في الهواء ، ثم رجع بعد اليأس منه ، ومعه سمكة ، فأحضر الرشيد العلماء وسألهم عن ذلك ، فقال مقاتل : يا أمير المؤمنين روينا عن جدك ابن عباس رضي الله عنهما : أن الهواء معمور بأمم مختلفة الخلق سكان فيه ، وفيه دواب تبيض وتفرخ فيه شيئاً على هيئة السمك لها أجنحة ليست بذات ريش فأجاز مقاتلاً على ذلك كذا في "حياة الحيوان".
{وَعِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} ؛ أي : الساعة التي فيها تقوم القيامة لا يعلمها إلا هو.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : الالتفات للتهديد ؛ أي : تردون للجزاء فاهتموا بالاستعداد للقائه.
قال بعض الكبار : وإليه ترجعون بالاختيار والاضطرار ، فأهل السعادة يرجعون إليه بالاختيار على قدم الشوق والمحبة والعبودية وأهل الشقاوة يرجعون إليه بالاضطرار بالموت بالسلاسل والأغلال يسحبون على وجوههم إلى النار.
يقول الفقير : الرجوع باضطرار قد يكون نافعاً ممدوحاً مقبولاً ، وهو أن يؤخذ العبد بالجذبة الإلهية ويجر إلى الله جراً عنيفاً ، ووقع ذلك لكثير من المنقطعين إلى الله تعالى.
حكي عن الجنيد رحمه الله أنه قال : كنت في المسجد مرة ، فإذا رجل قد دخل علينا وصلى ركعتين ، ثم انتبذ ناحية من المسجد ، وأشار إليّ فلما جئته ، قال : يا أبا القاسم قد حان لقاء الله تعالى ولقاء الأحباب ، فإذا فرغت من أمري ، فسيدخل عليك شاب مغن فادفع إليه مرقعتي وركوتي ، فقلت : إلى مغن ، وكيف يكون ذلك.
قال : إنه قد بلغ رتبة القيام بخدمة الله في مقامي.
قال الجنيد : فلما قضى الرجل نحبه ؛ أي : مات وفرغنا من مواراته إذا نحن بشاب مصري قد دخل علينا وسلم وقال : أين الوديعة يا أبا القاسم؟ فقلت : كيف ذاك؟ أخبرنا بحالك ، قال : كنت في مشربة بني فلان ، فهتف بي هاتف أن قم إلى الجنيد وتسلم ما عنده ، وهو كيت وكيت ، فإنك قد جعلت مكان فلان الفلاني من الأبدال.
قال الجنيد : فدفعت إليه ذلك فنزع ثيابه ، واغتسل ولبس المرقعة ، وخرج على وجهه نحو الشام ، ففي هذه الحكاية تبين أن ذلك المغني انجذب إلى الله تعالى بصوت الهاتف.
وخرج إلى الشام مقام الأبدال ؛ لأن المهاجرة سنة قديمة وبها يحصل من الترقيات ما لا يحصل بغيرها ، فإذا جاءت الساعة يحصل أثر التوفيق ، ويظهر اللحوق بأهل التحقيق :
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
زين جماعت اكر جدا افتى
در نخستين قدم زيا افتى
{وَلا يَمْلِكُ} ؛ أي : لا يقدر {الَّذِينَ يَدْعُونَ} ؛ أي : يعبدهم الكفار {مِن دُونِهِ} تعالى {الشَّفَـاعَةَ} عند الله كما يزعمون {إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ} الذي هو التوحيد والاستثناء ، إما متصل والموصول عام لكل ما يعبد من دون الله ، كعيسى وعزير والملائكة وغيرهم ، أو منفصل
398
على أنه خاص بالأصنام {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بما يشهدون به عن بصيرة وإيقان وإخلاص.
وقال الكاشفي : وايشان ميداند خودكه بزبان خواهى داده اند وايشان شفاعت ثخواهند كرد الا مؤمنان كنهكار را.
وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن الإفراد أولاً باعتبار لفظها.
(8/307)
{وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَـاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِه يا رَبِّ إِنَّ هَـاؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَـامٌا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ} ؛ أي : سألت العابدين والمعبودين : من أوجدهم ، وأخرجهم من العدم إلى الوجود.
{لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} لنعذر الإنكار لغاية ظهوره ؛ لأن الإنسان خلق للمعرفة وطبع عليها وبها أكرمه الله تعالى ، فأما الشأن في معرفة الأشياء ، فقبول دعوتهم.
والتوفيق لمتابعتهم والتدين بأديانهم {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
الإفك بركر دانيدن أي : فكيف يصرفون عن عبادة الله تعالى إلى عبادة غيره مع اعترافهم بأن الكل مخلوق له تعالى ، فهو تعجيب من جحودهم التوحيد مع ارتكازه في فطرتهم.
قال في "الأسئلة المقحمة" : فإن قلت : هذا دليل على أن معرفة الله ضرورية ، ولا تجب بالسمع الضروريات ، لأنه تعالى أخبر عن الكفار أنهم كانوا يقرون بوحدانية الله قبل ورود السمع ، قلت : إنهم يقولون ذلك تقليداً لا دليلاً وضرورة ، ومعلوم أن في الناس من أهل الإلحاد من ينكر الصانع ، ولو كان ضرورياً لما اختلف فيه اثنان :
خانه بى صنع خانه سازكه ديد
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
نقش بى دست خامه زن كه شنيد
هركه شد زآدمى سوى تعطيل
نيست دروى خرد جوقدر فتيل
{وَقِيلِهِ} : القول والقيل والقال كلها مصادر قرأ عاصم وحمزة بالجر على أنه عطف على الساعة ؛ أي : عنده علم الساعة وعلم قوله عليه السلام شكاية.
وبالفارسية : (ونزديك خداست دانستن قول رسول آنجا كه كفت).
يا رَبِّ} ؛ أي : (برورد كار من).
{إِنَّ هَـاؤُلاءِ} : (بدرستى كه اين كروه يعنى معاند ان قريش).
{قَوْمٌ} : (كروهى اندكه از روى عناد مكابره).
{لا يُؤْمِنُونَ} : (نمى كروند).
ولم يضفهم إلى نفسه بأن يقول : إن قومي لما ساءه من حالهم ، أو على أن الواو للقسم.
وقوله : إن هؤلاء إلخ.
جوابه : فيكون إخباراً من الله عنهم لا من كلام رسوله.
وفي الإقسام به من رفع شأنه عليه السلام وتفخيم دعائه والتجائه إليه تعالى ما لا يخفى.
وقرأ الباقون بالنصب عطفاً على محل الساعة ؛ أي : وعنده أن يعلم الساعة وقيله أو على سرهم ونجواهم ، أو على يكتبون المحذوف ؛ أي : يكتبون ذلك ، وقيله.
قال بعضهم : والأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه ، يعني أن الجر على إضمار حرف القسم ، كما في قولك : الله لأفعلن.
والنصب على حذفه ، وإيصال فعله إليه كقولك الله لأفعلن ؛ كأنه قيل : وأقسم قيله أو بقيله.
والفرق بين الحذف والإضمار أنه في الحذف لا يبقى للذاهب أثر نحو واسأل القرية.
وفي الإضمار يبقى له الأثر نحو انتهوا خيراً لكم.
والتقدير : افعلوا ويجوز الرفع في قيله على أنه قسم مرفوع بالابتداء محذوف الخبر كقولهم يمن الله ، ويكون أن هؤلاء.
إلخ.
جواب القسم ؛ أي : وقيله يا رب قسمي أن هؤلاء.
إلخ.
وذلك لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، بما لا يحسن اعتراضاً إن كان مرفوعاً معطوفاً على علم الساعة بتقدير مضاف مع تنافر النظم ورجح الزمخشري احتمال القسم لسلامته عن وقوع الفصل ، وتنافر النظم ، ولكن فيه التزام حذف وإضمار بلا قرينة ظاهرة في اللفظ الذي لم يشتهر استعماله في القسم ، كما في "حواشي المفتي".
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} ؛ أي : فأعرض عن
399
دعوتهم واقنط من إيمانهم.
{وَقُلْ سَلَـامٌ} ؛ أي : أمري تسلم منكم ومن دينكم وتبرٍ ومتاركة ، فليس المأمور به السلام عليهم ، والتحية بل البراءة كقول إبراهيم عليه السلام : سلام عليك سأستغفر لك.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} حالهم البتة ، وإن تأخر ذلك.
وبالفارسية : (بس زود باشدكه بدانند عاقبت كفر خودرا وقتى كه عذاب برايشان فرود أيددر دنيا بروز بدر ودر عقبى بدخول درنار سوزان).
وهو وعيد من الله لهم وتسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فعلى العاقل أن يتدارك حاله قبل خروج الوقت بدخول الموت ونحوه.
ويقبل على قبول الدعوة ما دام الداعي مقبلاً غير صافح ، وإلا فمن كان شفيعه خصماً له لم يبق له رجاء النجاة.
(8/308)
قال ذو النون رحمه الله : سمعت بعض المتعبدين بساحل الشام يقول : إنعباداً عرفوه بيقين من معرفته فشمروا قصداً إليه وتحملوا فيه المصائب لما يرجون عنده من الرغائب صحبوا الدنيا بالأشجان ، وتنعموا فيها بطول الأحزان ، فما نظروا إليها بعين راغب ، ولا تزودوا منها إلا كزاد راكب خافوا البيات فأسرعوا ورجوا النجاة ، فأزمعوا بذلوا مهج أنفسهم في رضا سيدهم ، نصبوا الآخرة نصب أعينهم ، وأصغوا إليها بآذان قلوبهم ، فلو رأيتهم لرأيت قوماً ذبلاً شفاههم خمصاً بطونهم خزينة قلوبهم ناحلة أجسادهم باكية أعينهم لم يصحبوا التعليل والتسويف ، وقنعوا من الدنيا بقوت خفيف ولبسوا من اللباس أطماراً بالية ، وسكنوا من البلاد قفراء خالية هربوا من الأوطان ، واستبدلوا الوحدة من الإخوان ، فلو رأيتهم لرأيت قوماً قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر والنصب وفصل أعضاءهم بخناجر التعب خمص بطول السرى شعث بفقد الكرى قد وصلوا الكلال بالكلال ، وتأهبوا للنقلة والارتحال :
جواز جايكان در دويدن كرو
بتيزى هم افتان وحيزان برو
كران باد بايان برفتندتيز
توبى دست وبا ازنشستن بخيز
تمت سورة الزخرف بعون الله تعالى في أواخر جمادى الآخرة من الشهور المنتظمة في سلك سنة ثلاث عشرة ومائة وألف.
وتليها سورة الدخان ، وهي سبع أو تسع وخمسون آية مكية إلا قوله : إنا كاشفوا العذاب إلخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349
نقش بى دست خامه زن كه شنيد
هركه شد زآدمى سوى تعطيل
نيست دروى خرد جوقدر فتيل
{وَقِيلِهِ} : القول والقيل والقال كلها مصادر قرأ عاصم وحمزة بالجر على أنه عطف على الساعة ؛ أي : عنده علم الساعة وعلم قوله عليه السلام شكاية.
وبالفارسية : (ونزديك خداست دانستن قول رسول آنجا كه كفت).
يا رَبِّ} ؛ أي : (برورد كار من).
{إِنَّ هَاؤُلاءِ} : (بدرستى كه اين كروه يعنى معاند ان قريش).
{قَوْمٌ} : (كروهى اندكه از روى عناد مكابره).
{لا يُؤْمِنُونَ} : (نمى كروند).
ولم يضفهم إلى نفسه بأن يقول : إن قومي لما ساءه من حالهم ، أو على أن الواو للقسم.
وقوله : إن هؤلاء إلخ.
جوابه : فيكون إخباراً من الله عنهم لا من كلام رسوله.
وفي الإقسام به من رفع شأنه عليه السلام وتفخيم دعائه والتجائه إليه تعالى ما لا يخفى.
وقرأ الباقون بالنصب عطفاً على محل الساعة ؛ أي : وعنده أن يعلم الساعة وقيله أو على سرهم ونجواهم ، أو على يكتبون المحذوف ؛ أي : يكتبون ذلك ، وقيله.
قال بعضهم : والأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه ، يعني أن الجر على إضمار حرف القسم ، كما في قولك : الله لأفعلن.
والنصب على حذفه ، وإيصال فعله إليه كقولك الله لأفعلن ؛ كأنه قيل : وأقسم قيله أو بقيله.
والفرق بين الحذف والإضمار أنه في الحذف لا يبقى للذاهب أثر نحو واسأل القرية.
وفي الإضمار يبقى له الأثر نحو انتهوا خيراً لكم.
والتقدير : افعلوا ويجوز الرفع في قيله على أنه قسم مرفوع بالابتداء محذوف الخبر كقولهم يمن الله ، ويكون أن هؤلاء.
إلخ.
جواب القسم ؛ أي : وقيله يا رب قسمي أن هؤلاء.
إلخ.
وذلك لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، بما لا يحسن اعتراضاً إن كان مرفوعاً معطوفاً على علم الساعة بتقدير مضاف مع تنافر النظم ورجح الزمخشري احتمال القسم لسلامته عن وقوع الفصل ، وتنافر النظم ، ولكن فيه التزام حذف وإضمار بلا قرينة ظاهرة في اللفظ الذي لم يشتهر استعماله في القسم ، كما في "حواشي المفتي".
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} ؛ أي : فأعرض عن
399
دعوتهم واقنط من إيمانهم.
{وَقُلْ سَلَامٌ} ؛ أي : أمري تسلم منكم ومن دينكم وتبرٍ ومتاركة ، فليس المأمور به السلام عليهم ، والتحية بل البراءة كقول إبراهيم عليه السلام : سلام عليك سأستغفر لك.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} حالهم البتة ، وإن تأخر ذلك.
وبالفارسية : (بس زود باشدكه بدانند عاقبت كفر خودرا وقتى كه عذاب برايشان فرود أيددر دنيا بروز بدر ودر عقبى بدخول درنار سوزان).
وهو وعيد من الله لهم وتسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فعلى العاقل أن يتدارك حاله قبل خروج الوقت بدخول الموت ونحوه.
ويقبل على قبول الدعوة ما دام الداعي مقبلاً غير صافح ، وإلا فمن كان شفيعه خصماً له لم يبق له رجاء النجاة.
قال ذو النون رحمه الله : سمعت بعض المتعبدين بساحل الشام يقول : إنعباداً عرفوه بيقين من معرفته فشمروا قصداً إليه وتحملوا فيه المصائب لما يرجون عنده من الرغائب صحبوا الدنيا بالأشجان ، وتنعموا فيها بطول الأحزان ، فما نظروا إليها بعين راغب ، ولا تزودوا منها إلا كزاد راكب خافوا البيات فأسرعوا ورجوا النجاة ، فأزمعوا بذلوا مهج أنفسهم في رضا سيدهم ، نصبوا الآخرة نصب أعينهم ، وأصغوا إليها بآذان قلوبهم ، فلو رأيتهم لرأيت قوماً ذبلاً شفاههم خمصاً بطونهم خزينة قلوبهم ناحلة أجسادهم باكية أعينهم لم يصحبوا التعليل والتسويف ، وقنعوا من الدنيا بقوت خفيف ولبسوا من اللباس أطماراً بالية ، وسكنوا من البلاد قفراء خالية هربوا من الأوطان ، واستبدلوا الوحدة من الإخوان ، فلو رأيتهم لرأيت قوماً قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر والنصب وفصل أعضاءهم بخناجر التعب خمص بطول السرى شعث بفقد الكرى قد وصلوا الكلال بالكلال ، وتأهبوا للنقلة والارتحال :
جواز جايكان در دويدن كرو
بتيزى هم افتان وحيزان برو
كران باد بايان برفتندتيز
توبى دست وبا ازنشستن بخيز
تمت سورة الزخرف بعون الله تعالى في أواخر جمادى الآخرة من الشهور المنتظمة في سلك سنة ثلاث عشرة ومائة وألف.
وتليها سورة الدخان ، وهي سبع أو تسع وخمسون آية مكية إلا قوله : إنا كاشفوا العذاب إلخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 349(8/309)
سورة الدخان
وآياتها تسعة وخمسون
جزء : 8 رقم الصفحة : 399
.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{حم} ؛ أي : بحق {حم} ، وهي هذه السورة أو مجموع القرآن.
{وَالْكِتَابِ} عطف على {حم} إذ لو كان قسماً آخر لزم اجتماع القسمين على مقسم عليه واحد ومدار العطف على تقدير كون {حم} أسماً لمجموع القرآن المغايرة في العنوان {الْمُبِينِ} ؛ أي : البين معانيه لمن أنزل عليهم ، وهم : العرب لكونه بلغتهم وعلى أساليبهم ، أو المبين لطريق الهدى من طرق الضلالة الموضح لكل ما يحتاج إليه في أبواب الديانة.
وقال بعضهم : بحق الحي القيوم وبحق القرآن الفاصل بين لحق والباطل ، فالحاء : إشارة إلى الاسم الحي ، والميم إلى الاسم القيوم وهما أعظم الأسماء الإلهية لاشتمالهما على ما يشتمل عليه كل منها من المعاني والأوصاف والحقائق ، كما سبق في آية الكرسي.
وفي "عرائس البقلي" : الحاء الوحي الخاص إلى محمد ، والميم محمد عليه السلام وذلك ما كان بلا واسطة ، فهو سر بين المحب لا يطلع عليه أحد غيرهما ، كما قال تعالى :
400
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِه مَآ أَوْحَى} (النجم : 10).
وقال بعضهم : حميت المحبين.
يعني : (حمايت كردم دوستان خودرا از توجه بما سوى).
يقول الفقير : ويحتمل أن يكون إشارة إلى حمد الله إلى إنزاله القرآن الذي هو أجل النعم الإلهية فحم مقصور من الحمد.
والمعنى : وحق الحق الذي يستحق الحمد في مقابلة إنزال القرآن.
{إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ} ؛ أي : الكتاب المبين الذي هو القرآن ، وهو جواب القسم.
{فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} : هي ليلة القدر ، فإنه تعالى أنزل القرآن في ليلة القدر من شهر رمضان من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا دفعة واحدة وأملاه جبريل على السفرة ، ثم كان ينزله على النبي عليه السلام نجوماً ؛ أي : متفرقاً في ثلاث وعشرين سنة.
والظاهر أن ابتداء تنزيله إلى النبي عليه السلام أيضاً كان في ليلة القدر ؛ لأن ليلة القدر في الحقيقة ليلة افتتاح الوصلة ، ولا بد في الوصلة من الكلام والخطاب والحكمة في نزوله ليلاً.
إن الليل زمان المناجاة ومهبط النفحات ويشهد التنزلات ومظهر التجليات ومورد الكرامات ومحل الأسرار إلى حضرة الكبرياء.
وفي الليل فراغ القلوب بذكر حضرة المحبوب ، فهو أطيب من النهار عند المقربين والأبرار ووصف الليلة بالبركة لما أن نزول القرآن مستتبع للمنافع الدينية والدنيوية بأجمعها ، أو لما فيها من تنزل الملائكة والرحمة ، وإجابة الدعوة ونحوها.
وإلا فأجزاء الزمان متشابهة بحسب ذواتها وصفاتها ، فيمتنع أن يتميز بعض أجزائه عن بعض بمزيد القدر والشرف لنفس ذواتها وعلى هذا فقس شرف الأمكنة ، فإنه لعارض في ذاتها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال حضرة الشيخ صدر الدين قدس سره في "شرح الأربعين" : حديثاً وللأزمنة والأمكنة في محو السيئات ، وتغليب طرف الحسنات وإمدادها والتكفير والتضعيف مدخل عظيم.
وفي الحديث : "إن الله غفر لأهل عرفات وضمن عنهم التبعات" ، وإنه ينزل يوم عرفة إلى السماء الدنيا.
وقد وردت أحاديث دالة على فضيلة شهر رمضان وعشر ذي الحجة وليلة النصف من شعبان ، وأن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف.
وفي مسجد النبي عليه السلام بألف.
وفي المسجد الأقصى بخمسمائة.
وكلها دالة على شرف الأزمنة والأمكنة.
انتهى كلامه.(8/310)
قال الشيخ المغربي قدس سره : أفضل الشهور عندنا شهر رمضان ؛ أي : لأنه أنزل فيه القرآن ، ثم شهر ربيع الأول ؛ أي : لأنه مولد حبيب الرحمن ، ثم رجب ؛ أي : لأنه فرد الأشهر الحرم.
وشهر الله ثم شعبان ؛ أي : لأنه شهر حبيب الرحمن ومقسم الأعمال والآجال بين شهرين عظيمين : رجب ورمضان ، ففيه فضل الجوارين العظيمين ، كما أن ليوم الخميس وليوم السبت فضلاً عظيماً لكونها في جوار الجمعة.
ولذا ورد : "بارك الله في السبت والخميس" ، ثم ذو الحجة ؛ أي : لأنه موطن الحج والعشر التي تعادل كل ليلة منها ليلة القدر والأيام المعلومات ، أيام التشريق ، ثم شوال ؛ أي : لكونه في جوار شهر رمضان ، ثم ذو القعدة ؛ أي : لكونه من الأشهر الحرم ، ثم المحرم شهر الأنبياء عليهم السلام ، ورأس السنة وأحد الأشهر الحرم.
وقيل : فضل الله الأشهر والأيام والأوقات بعضها على بعض ، كما فضل الرسل والأمم بعضها على بعض لتبادر النفوس وتسارع القلوب إلى احترامها وتتشوق الأرواح إلى إحيائها بالتعبد فيها ، ويرغب الخلق في فضائلها ، وأما تضاعف الحسنات في بعضها ، فمن المواهب اللدنية والاختصاصات الربانية ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال القاشاني في "شرح التائية" : كما أن شرف الأزمنة وفضيلتها بحسب شرف الأحوال الواقعة فيها من حضور المحبوب ومشاهدته ، فكذلك
401
شرف الأعمال يكون بحسب شرف النيات والمقاصد الباعثة وشرف النية في العمل أن يؤدي للمحبوب ويكون خالصاً لوجهه غير مشوب بغرض آخر.
قال ابن الفارض : ()
وعندي عيدي كل يوم أرى به
جمال محياها بعين قريرة
وكل الليالي ليلة القدر إن دنت
كما كل أيام اللقا يوم جمعة
قال بعض الكبار وأشد الليالي بركة وقدراً ، ليلة يكون العبد فيها حاضراً بقلبه مشاهداً لربه يتنعم بأنوار الوصلة ، ويجد فيها نسيم القربة وأحوال هذه الطائفة في لياليهم مختلفة كما قالوا : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
لا أظلم الليل ولا أدعي
أن نجوم الليل ليست تزول
ليلى كما شاءت قصير إذا
جادت وإن ضنت فليلي طويل
وقال بعض المفسرين : المراد من الليلة المباركة ليلة النصف من شعبان ، ولها أربعة أسماء :
الأول : الليلة المباركة لكثرة خيرها وبركتها على العاملين فيها الخير ، وإن بركات جماله تعالى تصل إلى كل ذرة من العرش إلى الثرى ، كما في ليلة القدر.
وفي تلك الليلة اجتماع جميع الملائكة في حظيرة القدس.
(ودر كشف الأسرار فرموده كه آنرا مبارك خواند ازبهر آنكه برخير وبر بركت است همه شب دعيا نرا اجابت است وسائلا نرا اعطيت ومجتهد انرا معونت ومطيعا نرا مثوبت وغاصبا نرا اقالت ومحبانرا كرامت همه شب درهاى آسمان كشاده جنات عدن وفراديس اعلا درها نهاده ساكنان جنة الخلد بركنكرها نشسته ارواح انبيا وشهدا در عليين فراطرب آمده همه شب نسيم روح ازلي از جانب قربت بدل دوستان ميدمد وبادهواى فردانيث برجان عاشقان مى وزد وازدوست خطاب مى آيدكه).
هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ أي : (درويش بيدار باش درين شب كه همه بساط نزول بيفكنده وكل وصال جانان درباغ را زدارى شكفته نسيم سحر مبارك بهارى از وميدمد وبيغام ملك برمزى باريك وبزارى عجب ميكويد).
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (الحديد : 16) :
ألم يأن للهجران أن يتصرما
وللعود غصن البيان أن يتضرما
وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى
ألم يأن أن يبكي عليه ويرحما
وفي بعض الآثار عجباً لمن آمن بي كيف يتكل على غيري لو أنهم نظروا إلى لطائف بري ما عبدوا غيري.
(اى عجب كسى كه مارا شناخت باغير ما آرام كى كيرد كسى كه مارايافت باديكرى جون بردازد كسى كه رنك وبوى وصال ويا دمادارد دل دررنك وبوى دنيا جون بندد.
از تعجب هرزمان كوبد بنفشه كاى عجب.
هرجه زلف يا ردارد جنك درماجون زند).
والثاني : ليلة الرحمة.
والثالث : ليلة البراءة.
والرابع : ليلة الصك ، وذلك لأن البندار إذا استوفى في الخراج من أهله كتب لهم البراءة.
كذلك الله يكتب لعباده المؤمنين البراءات في هذه الليلة.
كما حكي : أن عمر بن عبد العزيز لما رفع رأسه من صلاته ليلة النصف من شعبان وجد رقعة خضراء قد اتصل نورها بالسماء مكتوب فيها.
هذه براءة من النار من الملك العزيز لعبده
402
عمر بن عبد العزيز ، وكما أن في هذه الليلة براءة للسعداء من الغضب ، فكذا فيها براءة للأشقياء من الرحمة نعوذ بالله تعالى ، ولهذه الليلة خصال :
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
الأولى : تفريق كل أمر حكيم كما سيأتي.
والثانية : فضيلة العبادة فيها.
وفي الحديث : "من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله تعالى إليه مائة ملك : ثلاثون يبشرونه بالجنة ، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار ، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا ، وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان".
(8/311)
قال في "الإحياء" : يصلي في الليلة الخامسة عشرة من شعبان مائة ركعة كل ركعتين بتسليمة ، يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الصمد : 1) : عشر مرات.
وإن شاء صلى عشر ركعات يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة مائة مرة : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فهذه أيضاً ؛ أي : كصلاة رجب مروية عن النبي عليه السلام في جملة الصلوات.
كان السلف يصلون هذه الصلاة في هذه الليلة ويسمونها صلاة الخير ويجتمعون فيها وربما صلوها جماعة.
روي عن الحسن البصري : أنه قال : حدثني ثلاثون من أصحاب النبي عليه السلام : "أن من صلى هذه الصلاة في هذه الليلة نظر الله إليه سبعين نظرة ، وقضى الله له بكل نظرة سبعين حاجة أدناها المغفرة".
انتهى كلام الإحياء.
قال الشيخ الشهير بافتاه قدس سره : أن النبي عليه السلام لما تجلى له جميع الصفات في ثمانية عشر ألف عالم ، وأكثر صلى تلك الصلاة بعد العشاء شكراً على النعمة المذكورة.
وروى مجاهد عن علي رضي الله عنه أنه عليه السلام قال : "يا علي من صلى مائة ركعة في ليلة النصف من شعبان ، فقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة ، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أحد عشرة مرات".
قال عليه السلام : "يا علي ما من عبد يصلي هذه الصلاة إلا قضى الله له كل حاجة طلبها تلك الليلة ، ويبعث الله سبعين ألف ملك يكتبون له الحسنات ويمحون عنه السيئات ، ويرفعون له الدرجات إلى رأس السنة ، ويبعث الله في جنات عدن سبعين ألف ملك وسبعمائة ألف يبنون له المدائن والقصور ، ويغرسون له الأشجار ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب المخلوقين ، وإن مات من ليلته قبل أن يحول الحول ، مات شهيداً ، ويعطيه الله بكل حرف من {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في ليلته تلك سبعين حوراء".
كما في "كشف الأسرار" قال بعضهم : أقل صلاة البراءة ركعتان وأوسطها مائة وأكثرها ألف.
يقول الفقير : الألف الذي هو إشارة إلى ألف اسم له تعالى ، تفضيل للمائة التي هي إشارة إلى مائة اسم له منتخبة من الألف ؛ لأن التسعة والتسعين باعتبار أحديتها مائة ، وهي تفصيل للواحد الذي هو الاسم الأعظم ، ولما لم تشرع ركعة منفردة ضم إليها أخرى ، إشارة إلى الذات والصفات والليل والنهار والجسد والروح والملك والملكوت.
ولهذا السر استحب أن يقرأ في الركعتين المذكورتين أربعمائة آية من القرآن ، فإن فرض القراءة آية واحدة ومستحبها أربع آيات ، والمائة أربع مرات أربعمائة ، فالركعتان باعتبار القراءة المستحبة في حكم المائة ، فاعرف جداً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وفي الحديث : "من أحيا الليالي الخمس وجبت له الجنة ليلة التروية وليلة عرفة وليلة النحر وليلة الفطر وليلة النصف من شعبان.
والثالثة : نزول الرحمة.
قال عليه السلام : "إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا" ؛ أي : تنزل رحمته.
والمراد في الحقيقة تنزل عظيم من تنزلات عالم الحقيقة مخصوص بتلك الليلة.
وأيضاً المراد تنزل من أول الليلة ؛ أي : وقت غروب الشمس إلى آخرها ؛ أي : إلى طلوع الفجر ، أو طلوع الشمس.
403
والرابعة : حصول المغفرة قال عليه السلام : "إن الله يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن ، أو ساحر ، أو مشاحن ، أو مدمن خمر ، أو عاق للوالدين ، أو مصر على الزنا.
قال في "كشف الأسرار" : فسر أهل العلم المشاحن في هذا الموضع بأهل البدع والأهواء والحقد على أهل الإسلام.
والخامسة : أنه أعطى فيها رسول الله عليه السلام تمام الشفاعة.
وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان الشفاعة في أمته ، فأعطي الثلث منها ، ثم سأل ليلة الرابع عشر ، فأعطي الثلثين ، ثم سأل ليلة الخامس عشر ، فأعطي الجميع إلا من شرد على الله شراد بعير.
وفي رواية أخرى قالت عائشة رضي الله عنها : رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم في ليلة النصف من شعبان ساجداً يدعو ، فنزل جبريل ، فقال : "إن الله قد أعتق من النار الليلة بشفاعتك ثلث أمتك" ، فزاد عليه السلام في الدعاء ، فنزل جبريل فقال : إن الله يقرئك السلام ، ويقول : "أعتقت نصف أمتك من النار" ، فزاد عليه السلام في الدعاء ، فنزل جبريل ، وقال : إن الله أعتق جميع أمتك من النار بشفاعتك إلا من كان له خصم حتى يرضى خصمه.
فزاد عليه السلام في الدعاء ، فنزل جبريل عند الصبح.
وقال : إن الله قد ضمن لخصماء أمتك أن يرضيهم بفضله ورحمته فرضي النبي عليه السلام.
والسادسة : أن من عادة الله في هذه الليلة أن يزيد ماء زموم زيادة ظاهرة.
وفيه إشارة إلى حصول مزيد العلوم الإلهية لقلوب أهل الحقائق.
{إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} استئناف مبين لما يقتضي الإنزال كأنه قيل : إنا أنزلناه ؛ لأن من شأننا الإنذار والتخويف من العقاب.
{إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍا إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
(8/312)
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ؛ أي : يكتب ويفصل كل أمر محكم ومتقن من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلا السعادة والشقاوة من هذه الليلة إلى الأخرى من السنة القابلة.
وقيل : يبدأ في انتساخ ذلك من اللوح في ليلة البراءة.
ويقع الفراغ في ليلة القدر ، فتندفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرائيل ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا ، وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت حتى أن الرجل ليمشي في الأسواق وأن الرجل لينكح ويولد له.
ولقد أدرج اسمه في الموتى : (كفته اند درميان فرشتكان فرشته حليم تر ورحيم تر ومهربان تر از ميكائيل نيست وفرشته مهيب ترو باسياست تراز جبرائيل نيست در خبراست كه روزى هردو مناظره كردند جبرائيل كفت مرا عجب مى آيدكه يا اين همه بى حرمتى وجفا كارى بخلق رب العزة بهشت ازبهرجه مى آفريد ميكائيل كفت مرا عجب مى آيدكه باآن همه فضل وكرم ورحمت كه الله را بربند كانست دوزخ از بهرجه مى آفريداز حضرت عزت وجناب جبروت ندا آمدكه).
أحبكما إلي : أحسنكما ظناً بي : (ازشما هر دواآنرا دوستتر دارم كه بمن ظن نيكو ترمى برد يعنى ميكائيل كه رحمت بر غضب فضل مى نهد).
وقد قال الله تعالى : {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى} ، وكما أن في هذه الليلة يفصل كل أمر صادر بالحكمة من السماء في السنة من أقسام الحوادث في الخير والشر والمحن والمنن والمنصرة والهزيمة والخصب والقحط ، فكذا الحجب والجذب والوصل والفصل والوفاق والخلاف والتوفيق والخذلان والقبض والبسط والستر والتجلي ، فكم بين عبد نزل له الحكم والقضاء بالشقاء والبعد وآخر ينزل حكمة بالوفاء والرفد.
{أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآ} : نصب على الاختصاص ؛ أي : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا على مقتضى حكمتنا ،
404
وهو بيان لفخامته الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية.
{إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} بدل من إنا كنا بدل الكل.
{رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} مفعول له للإرسال ؛ أي : إنا أنزلنا القرآن ؛ لأن عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد ؛ لأجل إفاضة رحمتنا عليهم ، فيكون قوله : رحمة غاية للإرسال متأخرة عنه على أن المراد منها الرحمة الواصلة إلى العباد ، أو لاقتضاء رحمتنا السابقة إرسالهم ، فيكون باعثاً متقدماً للإرسال على أن المراد مبدؤها ، ووضع الرب موضع الضمير للإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية ومقتضياتها وإضافته إلى ضميره عليه السلام للتشريف :
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
در دو عالم بخشش بخشايش است
خلق را از بخششش آسايش است
خواجه جون در مديح خويش سفت
إنما أنا رحمة مهداة كفت
كما قال في "التأويلات النجمية" : إنا كنا مرسلين محمداً عليه السلام رحمة مهداة من ربك ليخرج المشتاقين من ظلمات المفارقة إلى نور المواصلة ، وأيضاً إنا كنا مرسلين رحمة لنفوس أوليائنا بالتوفيق لقلوبهم بالتحقيق.
{إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يسمع كل شيء من شأنه أن يسمع خصوصاً أنين المشتاقين ، ويعلم كل شيء من شأنه أن يعلم خصوصاً حنين المحبين ، فلا يخفى عليه شيء من أقوال العباد وأفعالهم وأحوالهم ، وهو تحقيق لربوبيته تعالى ، وأنها لا تحق إلا لمن هذه نعوته الجليلة.
{رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ} بدل من ربك.
يقول الفقير : ألهمت بين النوم واليقظة.
أن معنى هذه الآية ؛ أي : إشارة لا عبارة أن مربي ومبلغي إلى كمالي هو رب السماوات والأرض وما بينهما يعني : جميع الموجودات العلوية والسفلية.
وذلك لأنها مظاهر الأسماء والصفات الإلهية ، ففي كل ذرة من ذرات العالم حقيقة مشهودة هي غذاء الروح العارف فيتربى بذلك الغذاء الشهودي بالغاً إلى أقصى استعداده كما يتربى البدن بالغذاء الحسي بالغاً إلى غاية نمائه ووقوفه.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب المثنوي بقوله :
آن ختالاتى كه دام أولياست
عكس مهرويان مستان خداست
فافهم جداً وقل : لا أعبد إلا الله ولا أقصد سواه.
{إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} بشيء فهذا أولى ما توقنون به لفرط ظهوره أو إن كنتم مريدين لليقين ، فاعلموا ذلك.
وبالفارسية : (اكر هستيد شمابى كمانان يعنى طلب كنند كان يقين).
{لا إله إِلا هُوَ} إذ لا خالق سواه.
جملة مستأنفة مقررة لما قبلها.
{لا إِلَـاهَ} يوجد الحياة في الجماد ، ويوجد الموت في الحيوان بقدرته كما يشاهد ذلك ؛ أي : يعلم علماً جلياً يشبه المشاهدة.
والظاهر أن المشاهدة تتعلق بالأثر ، فإن المعلوم هو الإحياء والإماتة ، والمشهود هو أثر الحياة في الحي ، وأثر الممات في الميت.
وفي "التأويلات النجمية" يحيي قلوب أوليائه بنور محبته وتجلي صفات جماله ، ويميت نفوسهم بتجلي صفات جلاله.
{رَبُّكُمْ} ؛ أي : هو ربكم وخالقكم ورازقكم.
{وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ} .
(8/313)
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وفي "التأويلات" : رب آدم وأولاده ورب الآباء العلوية.
وقال محمد بن علي الباقر قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف آدم وأكثر.
وذكر الشيخ ابن العربي قدس سره في "الفتوحات المكية" في باب حدوث الدنيا حديثاً ضعيفاً أنه انقضى قبل آدم مائة ألف آدم ، وجرى له كشف وشهود في طواف الكعبة أنه شاهد رجالاً تمثلوا له من الأرواح فسألهم من أنتم ، فأجابوه أنهم من أجداده الأول قبل آدم بأربعين ألف سنة.
قال الشيخ : فسألت عن ذلك إدريس النبي عليه السلام ، فصدقني في الكشف والخبر.
وقال : نحن معاشر الأنبياء نؤمن
405
بحدوث العالم كله ، ولم نعلم أوله.
والحق تعالى متفرد بأوائل الكائنات.
{بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ} : (لكه ايشان درشك اند) ؛ أي : مما ذكر من شؤونه تعالى غير موقنين في إقرارهم بأنه تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما.
{يَلْعَبُونَ} : لا يقولون ما يقولون عن جد وإذعان ، بل مخلوطاً بهزؤ ولعب ، وهو خبر آخر.
وفي "كشف الأسرار" : (در كمان خويش بازى ميكنند).
فالظرف متعلق بالفعل ، أو بل هم حال كونهم في شك مستقر في قلوبهم يلعبون كما في قوله : فهم في ريبهم يترددون.
وفيه إشارة إلى أن من استولت عليه الغفلة أداه ذلك إلى الشك ، ومن لزم الشك كان بعيداً من عين الصواب.
قال بعضهم : وصف أهل الشك والنفاق باللعب ، وذلك لترددهم وتحيرهم في أمر الدين واشتغالهم بالدنيا واغترارهم بزينتها.
قال أويس القرني رضي الله عنه : أف لهذه القلوب قد خالطها الشك ، فما تنفعها العظة.
وعن الشيخ فتح الموصلي قدس سره ، قال : رأيت في البادية غلاماً لم يبلغ الحنث يمشي ويحرك شفتيه ، فسلمت عليه فرد الجواب ، فقلت له : إلى أين يا غلام؟ فقال : إلى بيت الله الحرام.
قلت : فيماذا تحرك شفتيك؟ قال : بالقرآن.
قلت : فإنه لم يجر عليك قلم التكليف.
قال : رأيت الموت يأخذ من هو أصغر مني سناً ، فقلت : خطوك قصير وطريقك بعيد ، فقال : إنما علي نقل الخطا وعلى الله الإبلاغ ، فقلت : فأين الزاد والراحلة ، فقال : زادي يقيني وراحلتي رجلاي :
سدره توفيق بود كرد علايق
خواهى كه بمنزل برسى راحله بكذار
قلت : أسألك عن الخبز والماء ، قال : يا عماه أرأيت لو أن مخلوقاً دعاك إلى منزله أكان يجمل بك أن تحمل معك زادك ، فقلت : لا.
قال : إن سيدي دعا عباده إلى بيته ، وأذن لهم في زيارته ، فحملهم ضعف يقينهم على حمل زادهم ، وإني استقبحت ذلك ، فحفظت الأدب معه أفاره يضيعني ، فقلت : كلا وحاشا ، ثم غاب عن عيني ، فلم أره إلا بمكة ، فلما رآني ، قال : يا شيخ أنت بعد على ذلك الضعف في اليقين :
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
سيراب كن زبحر يقين جان تشنه را
زين بيش خشك لب منشين برسراب ريب
{بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ * فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَا هَـاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا} .
{فَارْتَقِبْ} : الارتقاب : (جشم داشتن) يعني : (منتظر شدن).
والمعنى : فانتظر يا محمد لكفار مكة على أن اللام للتعليل.
وبالفارسية : (بس تو منتظر باش براى ايشان).
{يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} ظاهر لا شك فيه ويوم مفعول ارتقب.
والباء : للتعدية يعني : (آن روزكه آسمان دودى آرد آشكارا).
ويجوز أن يكون ظرفاً له ، والمفعول محذوف ؛ أي : ارتقب وعد الله في ذلك اليوم أطلق الدخان على شدة القحط وغلبة الجوع على سبيل الكناية ، أو المجاز المرسل.
والمعنى : فانتظر لهم يوم شدة ومجاعة ، فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان ، إما لضعف بصره أو لأن في عام القحط يظلم الهواء لقلة الأمطار ، وكثرة الغبار.
ولذا يقال لسنة القحط السنة الغبراء ، كما قالوا عام الرمادة.
والظاهر أن السنة الغبراء ما لا تنبت الأرض فيها شيئاً.
وكانت الريح إذا هبت ألقت تراباً كالرماد ، أو لأن العرب تسمي الشر الغالب دخاناً ، وإسناد الإتيان إلى السماء ؛ لأن ذلك يكفها عن الأمطار ، فهو من قبيل إسناد الشيء إلى سببه.
وذلك أن قريشاً لما بلغوا في الأذية له عليه السلام.
دعا عليهم ، فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر ؛ أي : عقابك الشديد يعني : خذهم أخذاً شديداً واجعلها عليهم سنيناً كسني يوسف" ، وهي السبع الشداد ، فاستجاب الله دعاءه فأصابتهم سنة ؛ أي : قحط حتى أكلوا الجيف والجلود والعظام
406
والعلهز ، وهو الوبر والدم ؛ أي : يخلط الدم بأوبار الإبل ، ويشوى على النار كان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان من الجوع.
وكان يحدث الرجل ، ويسمع كلامه ، ولا يراه من الدخان.
وذلك قوله تعالى :
(8/314)
{يَغْشَى النَّاسَ} ؛ أي : يحيط ذلك الدخان بهم ويشملهم من جميع جوانبهم صفة للدخان {هَـاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ؛ أي : قائلين : هذا الجوع ، أو الدخان عذاب أليم فمشى إليه عليه السلام أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله والرحم ؛ أي : قالوا : نسألك يا محمد بحق الله وبحرمة الرحم أن تستسقي لنا ووعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا.
وذلك قوله تعالى :
"
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
ربنا اكشف عنا العذاب" (الدخان : 21) ؛ أي : الجوع ، أو عذاب الدخان ، ومآلهما واحد ، فإن الدخان إنما ينشأ من الجوع.
{رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَآاـاِدُونَ} .
{إِنَّا مْؤْمِنُونَ} بعد رفعه.
{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} رد لكلامهم واستدعائهم الكشف وتكذيب لهم في الوعد بالإيمان المنبىء عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهية.
والمراد بالاستفهام الاستبعاد لا حقيقته ، وهو ظاهر ؛ أي : كيف يتذكرون ، أو من أين يتذكرون ويقولون : بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم.
{وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} ؛ أي : والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر وموجبات الاتعاظ ماهو أعظم منه في إيجابهما حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ، وبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة تحرك صم الجبال.
{ثُمَّ} : كلمة ثم هنا للاستبعاد.
{تَوَلَّوْا} أعرضوا {عَنْهُ} ؛ أي : عن ذلك الرسول فيما شاهدوا منه من العظائم الموجبة للإقبال إليه ، ولم يقتنعوا بالتولي.
{وَقَالُوا} في حقه.
{مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} ؛ أي : قالوا تارة يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف واسمع عداس ، أو أبو فكهة ، أو جبر ، أو يسار وأخرى مجنون ، أو يقول بعضهم : كذا.
وآخرون كذا ، فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم أن يتأثروا منه بالعظة والتذكير ، وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع طغا وإذا شبع طغا {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ} : جواب من جهته تعالى عن قولهم : ربنا اكشف الخ ؛ أي : إنا نكشف العذاب المعهود عنكم بدعاء النبي عليه السلام ، وإنزال المطر كشفاً {قَلِيلا} ، وهو دليل على كمال خبث سريرتهم ، فإنهم إذا عادوا إلى الكفر بكشف العذاب كشفاً قليلاً ، فهم بالكشف رأساً أعود ، أو زماناً قليلاً ، وهو ما بقي من أعمارهم.
{إِنَّكُمْ عَآاـاِدُونَ} تعودون إثر ذلك إلى ما كنتم عليه من العتو والإصرار على الكفر وتنسون هذه الحالة.
وصيغة الفاعل في الفعلين للدلالة على تحققها لا محالة ، ولقد وقع كلاهما حيث كشفه الله بدعاء النبي عليه السلام ، فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا فيه من العتو والعناد ؛ لأن من مقتضى فساد طينتهم واعوجاج طبيعتهم المبادرة إلى خلف الوعد ونقض العهد والعود إلى الإشراك إذا زال المانع على ما بينه الله تعالى فيمن ركب الفلك إذ أنجاه إلى البر.
وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
آن ندامت از نتيجة رنج بود
نى زعقل روشن جون كنج بود
جونكه شدرنج آن ندامت شد عدم
مى نيرز دخاك آن توبة ندم
ميكند او توبة وبير خرد
بانك لو ردوا لعادوا ميزند
{إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَآاـاِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّه إِنِّى} .
{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} : البطش تناول الشيء بعنف وصولة ؛ أي : يوم القيامة ننتقم ونعاقب العقوبة العظمى.
{إِنَّا مُنتَقِمُونَ} فيوم ظرف لما دل عليه قوله : إنا منتقمون ؛ لا لمنتقمون لأن إنا مانعة عن ذلك.
قال الكاشفي : (يادكن روزى راكه بكيرم كافرا نرا كرفتن سخت
407
وبزرك يعنى روزقيامت).
وذلك لأنه تعالى أخذهم بالجوع والدخان ، ثم أذاقهم القتل والأسر يوم بدر.
وكل ذلك من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ، فإذا كان يوم القيامة يأخذهم أخذاً شديداً لا يقاس على ما كان في الدنيا.
نسأل الله العصمة من عذابه وجحيمه والتوفيق لما يوصل إلى رضاه ونعيمه.
وقال بعض المفسرين : المراد بالدخان ما هو من أشراط الساعة ، وهو دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة ، فيدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ؛ أي : المشوي ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام ، وتكون الأرض كلها كبيت ، أوقد فيه ليس فيه خصاص ؛ أي : فرجة يخرج منها الدخان.
وفي الحديث : "أول الآيات : الدخان ونزول عيسى بن مريم ونار تخرج من قعر عدن ـ أبين ، وهو بفتح الهمزة على ما هو المشهور : اسم رجل بنى هذه البلدة باليمن وأقام بها تسوق الناس إلى المحشر ؛ أي : إلى الشام والقدس.
(8/315)
قال حذيفة رضي الله عنه : فما الدخان فتلا الآية ، فقال : يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة ، وأما الكافر ، فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره.
وقال حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه : اطلع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن نتذاكر ، فقال عليه السلام : "ما تذاكرون؟ قالوا : نذكر الساعة ، قال عليه السلام : "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها آيات ؛ أي : علامات ، فذكر الدخان والدجال والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم".
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وأوّله بعض العلماء بفتنة الأتراك وأول خروج الدجال بظهور الشر والفساد ، ونزول عيسى باندفاع ذلك ، وظهور الخير والصلاح.
يقول الفقير : إن كان هذا التأويل من طريق الإشارة ، فمسلم لأنه لا تخلو الدنيا عن المظاهر الجلالية والجمالية إلى خروج الدجال ، ونزول عيسى.
وأما إن كان من طريق الحقيقة ، فلا صحة له إذ لا بد من ظهور تلك الآيات على حقيقتها على ما أخبر به النبي عليه السلام.
فعلى هذا القول ، وهو تفسير الدخان : بما هو من أشراط الساعة ، معنى قوله : ربنا اكشف عنا.
الخ.
وقوله : إنا كاشفو العذاب.
إلخ.
أنه إذا جاء الدخان تضور المعذبون به من الكفار والمنافقين وغوثوا وقالوا : ربنا اكشف عنا العذاب : إنا مؤمنون ، فيكشف الله عنهم بعد أربعين يوماً ، فريثما يكشف عنهم يرتدون ، ولا يتمهلون ، وظهور علامات القيامة لا يوجب انقطاع التكليف ، ولا يقدح في صحة الإيمان ، ولا يجب أيضاً لزومها وعدم انكشافها.
وقال بعض أهل التفسير : المراد بالدخان ما يكون في القيامة إذا خرجوا في قبورهم ، فيحتمل أن يراد به معناه الحقيقي ، وما يستلزمه فإنه لشدة أهوال يوم القيامة تظلم العين ، بحيث لا يرى الإنسان فيه أينما توجه إلا والظلمة مستولية عليه ، كأنه مملوء دخاناً ، فعلى هذا يبنى الكلام على الفرض والتقدير.
ومعناه : أنهم يقولون : ربنا اكشف عنا العذاب ؛ أي : ارددنا إلى الدنيا نعمل صالحاً ، فيقول الله : {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ} ، يعني : إن كشفنا ورددناكم إليها تعودوا إلى ما كنتم عليه من الكفر والتكذيب ، كما قال تعالى : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام : 28).
والتفسير الأول من هذه التفاسير الثلاثة : هو الذي يستدعيه مساق النظم الكريم قطعاً.
وفي "عرائس البقلي" رحمه الله ظاهر الآية دخان الكفرة من الجوع في الظاهر
408
ودخان بواطنهم.
دخان النفس الأمارة والأهواء المختلفة التي تغير سماء قلوبهم بغبار الشهوات وظلمة الغفلات.
وقال سهل قدس سره : الدخان في الدنيا قسوة القلب والغفلة عن الذكر.
وفي "التأويلات النجمية" : في الآية إشارة إلى مراقبة سماء القلب عن تصاعد دخان أوصاف البشرية يغشى الناس عن شواهد الحق.
هذا عذاب أليم لأرباب المشاهدة ، كما قال السري قدس سره : اللهم مهما عذبتني ، فلا تعذبني بذل الحجاب : ربنا اكشف عنا عذاب الحجاب ، إنا مؤمنون بأنك قادر على رفع الحجاب وإرخائه ، فإذا أخذوا في الاستغاثة يقال لهم : أنى لهم الذكرى.
وقد جاءهم رسول مبين بإلهام تقواهم وفجورهم ، ثم خالفوا وقالوا : خاطر شيطاني.
إنا كاشفو العذاب عن صورتهم في الدنيا قليلاً ؛ لأن جميع الدنيا عندنا قليل ، ولكن يوم نبطش البطشة الكبرى نورثهم حزناً طويلاً ، ولا يجدون في ضلال انتقامنا مقيلاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
يقول الفقير : ظهر من هذه التقريرات : أنه لا خير في الدخان في الظاهر والباطن.
ألا ترى أن من رآه في المنام يعبر بالهول العظيم والقتال الشديد وبالظلمات والحجب والكدورات ، فعلى العاقل أن يجتهد في الخروج من الظلمات إلى النور والدخول في دائرة الصفاء والحضور ؛ فإنه إن بقي مع دخان الوجود يظلم عليه وجه المقصود.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ} : (بيش از كفار مكه).
{قَوْمَ فِرْعَوْنَ} ؛ أي : القبط.
والمعنى : امتحناهم ؛ أي : فعلنا بهم ، فعل الممتحن بإرسال موسى عليه السلام إليهم ليؤمنوا ، ويظهر منهم ما كان مستوراً ، فاختاروا الكفر على الإيمان ، فالفعل حقيقة أو أوقعناهم في الفتنة بالإمهال ، وتوسيع الرزق عليهم ، فهو مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى سببه ؛ لأن المراد بالفتنة حينئذٍ ارتكاب المعاصي ، وهو تعالى كان سبباً لارتكابها بالإمهال ، والتوسيع المذكورين.
{وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} على الله تعالى ، وهو موسى عليه السلام بمعنى أنه استحق على ربه أنواعاً كثيرة من الإكرام ، أو كريم على المؤمنين ، أو في نفسه ؛ لأن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا من كان أفضل نسباً ، وأشرف حسباً على أن الكرم بمعنى الخصلة المحمودة.
(8/316)
وقال بعضهم : لمكالمته مع الله واستماع كلامه من غير واسطة.
وفي الآية إشارة إلى أنه تعالى جعل فرعون وقومه فيما فتنهم فداء أمة محمد عليه السلام لتعتبر هذه الأمة بهم ، فلا يصرون على جحودهم ، كما أصروا ، ويرجعوا إلى طريق الرشد ويقبلوا دعوة نبيهم ويؤمنوا بما جاء به لئلا يصيبهم ما أصابهم بعد أن جاءهم رسول كريم.
{أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ} : أن مصدرية ؛ أي : بأن أدوا إلى بني إسرائيل ، وسلموهم وأرسلوهم معي لأذهب بهم إلى موطن آبائهم الشام ، ولا تستعبدوهم ولا تعذبوهم ؛ أي : جئتكم من الله لطلب تأدية عباد الله إليَّ
(قال في "كشف الأسرار" : فرعون قبطى بود وقوم وى قبط بودند وبني إسرائيل در زمين ايشان غريب بودند از زمين كنعان بايشان افتادند نزاد يعقوب عليه السلام بودند بايدر خويش يعقوب بمصر شديد بر يوسف وآنروز هشتادو دوكس بودند وايشانرا در مصر توالد وتناسل بود بعد از غرق فرعون جون از مصر بيرون آمدند يا موسى بقصد فلسطين هزار هزار وششصد هزار بودند فرعون ايشانرا در زمين خويش زبون كرفته بود وايشانرا معذب همى داشت وكارهاى صعب ودشوار همى فرمود تا رب العزة موسى رابه بيغمبرى بايشان فرستاد بدوكار يكى اوردن ايمان
409
بوحدانيت حق تعالى وعبادت وى كردند ديكر بني إسرائيل را موسى دادن وايشانرا از عذاب رها كردن اينست كه رب العالمين فرمود أن أدوا إليّ عباد الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
يقول الفقير : فتكون التأدية بعد الإيمان ، كما قالوا في آية أخرى {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} (الأعراف : 134) ، ونظيره قول نوح عليه السلام لابنه : يا بُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُن مَّعَ الْكَـافِرِينَ} (هود : 42) ؛ أي : آمن واركب ، فإن الراكب إنما هو المؤمنون والركوب متفرع على الإيمان.
وقال بعضهم : عباد الله منصوب بحرف النداء المحذوف ؛ أي : بأن أدوا إليّ يا عباد الله حقه في الإيمان وقبول الدعوة.
{إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} على وحيه ورسالته صادق في دعواه بالمعجزات ، وهو علة للأمر بالتأدية.
وفيه إشارة إلى أن بني إسرائيل كانوا أمانة الله في أيدي فرعون وقومه ، يلزم تأديتهم إلى موسى لكونه أميناً ، فخانوا تلك الأمانة حتى آخذهم الله على ذلك.
{أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّه إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَن لا تَعْلُوا عَلَى اللَّه إِنِّى ءَاتِيكُم بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ * وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبَّه أَنَّ هَـاؤُلاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} .
{وَأَن لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} ؛ أي : وبأن لا تتكبروا عليه تعالى بالاستهانة بوحيه وبرسوله واستخفاف عباده وإهانتهم.
{وَأَن لا} ؛ أي : من جهته تعالى يحتمل أن يكون اسم فاعل ، وأن يكون فعلاً مضارعاً.
{بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} : تعليل للنهي ؛ أي : آتيكم بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها.
يعني : المعجزات.
وبالفارسية : (بدرستى كه من بشما آرنده ام حجتى روشن وبرهانى اشكارا بصدق مدعاى خود).
وفي إيراد الأداء مع الأمين والسلطان مع العلاء من الجزالة ما لا يخفى.
{وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ} ؛ أي : التجأت إليه وتوكلت عليه.
{أَن تَرْجُمُونِ} من أن ترجموني ، فهو العاصم من شركم والرجم : (سنكسار كردن).
يعني : الرمي بالرجام بالكسر ، وهي الحجارة أو تؤذوني ضرباً ، أو شتماً بأن تقولوا : هو ساحر ونحوه ، أو تقتلوني.
قيل : لما قال ، وأن لا تعلوا على الله توعدوه بالقتل.
وفي "التأويلات النجمية" : وإني عذب بربي من شر نفسي وربكم من شر نفوسكم أن ترجموني بشيء من الفتن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ} : الإيمان يتعدى باللام باعتبار معنى الإذعان والقبول.
والباء : باعتبار معنى الاعتراف وحقيقة آمن به أمن المخبر من التكذيب ، والمخالفة.
وقال ابن الشيخ : اللام للأجل بمعنى لأجل ما أتيت به من الحجة والمعنى وإن كابرتم مقتضى العقل ولم تصدقوني ، فكونوا بمعزل مني لا علي ولا لي ، ولا تتعرضوا لي بشر ولا أذى لا باليد ، ولا باللسان ، فليس ذلك من جزاء من يدعوكم إلى ما فيه فلاحكم ، فالاعتزال كناية عن الترك ، ولا يراد به الاعتزال بالأبدان.
قال القاضي عبد الجبار : من متأخري المعتزلة : كل موضع جاء فيه لفظ الاعتزال في القرآن.
فالمراد منه الاعتزال عن الباطل.
وبهذا صار اسم الاعتزال اسم مدح ، وهو منقوض بقوله تعالى : {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ} ، فإن المراد بالاعتزال هنا العزلة عن الإيمان التي هي الكفر لا العزلة عن الكفر والباطل.
وكذا في بعض كتب الكلام أخبر الله بهذه الآية ؛ لأن المفارقة من الأضداد واجبة.
(8/317)
قيل : إن بعض أصحاب الجنيد قدس سره وقع له إنكار في مسألة جرت له معه ، فكتب إليه ليعارضه فيها ، فلما دخل على الجنيد نظر إليه.
وقال : يا فلان ، وإن لم تؤمنوا لي ، فاعتزلون : (نقلست كه امام أحمد حنبل رحمه الله شبى نزد بشر حافى قدس سره رفتى ودر حق او ارادت تمام داشت تابحدى كه شاكر داتش كفتند امام عالم باشى ودر فقه وأحاديث وجمله علوم واجتهاد نظير ندارى هردم از بس شوريده بابر هنه مى دوى
410
اين جه لايق بود احمد كفت آن همه علوم كه شمر ديد جنانست من همه به ازان دانم اما او خدارابه از من داند).
فينبغي للمرء أن يعتزل عن الباطل أياً كان لا عن الحق ، وربما رأينا بعض أهل الإنكار في الغالب يعتزل عن صحبة الرجال ، ثم لا يكتفي باعتزاله حتى يؤذيهم باللسان ، فيكون بإهانة الأولياء عدو الله تعالى ، ومحروماً من فوائد الصحبة وعوائد المجلس ، فلزم على أهل الحق أن يتعوذوا بالله من شرور الظلمة والجبابرة ، وأهل الإنكار والمكابرة ، كما تعوذ الأنبياء عليهم السلام :
اى خدا كمترين كداى توام
جشم برخوان كبرياى توام
از بد ومنكران امانم ده
هرجه آنم بهست آنم ده
جونكه توكفتى فاستعذ بالله
بتو بردم زشر ديو بناه
باخصوص از بلاى ديو سفيد
كه نباشد از كريز مفيد
{فَدَعَا} موسى {رَبَّهُ} بعدما كذبوه.
{أَنَّ هَـاؤُلاءِ} ؛ أي : بأن هؤلاء القبط.
{قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} مصرون على كفرهم ومتابعة هواهم وأنت أعلم بهم ، فافعل بهم ما يستحقونه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{فَدَعَا رَبَّه أَنَّ هَـاؤُلاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} .
{فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلا} : الفاء عاطفة بإضمار القول بعد الفاء لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر والإسراء بشب رفتن.
يقال : أسرى به ليلاً : إذا سار معه بالليل ، وكذا سرى.
والسرى وإن كان لا يكون إلا بالليل لكنه أتى بالليل للتأكيد.
والمعنى : فأجاب الله دعاءه ، وقال له : أسر يا موسى ببني إسرائيل من مصر ليلاً على غفلة من العدو.
وبالفارسية : (بس ببر يشب بندكان مرا).
{إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} : علة للأمر بالسير ؛ أي : يتبعكم فرعون وجنوده بعد أن علموا بخروجكم ليلاً ليقتلكم : (جون بلب دريار سيده باشيد تو عصا بردريا زنى بشكافد ودرو راهها يديد آيد تا بني إسرائيل بكذرند).
{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ} ؛ أي : بحر القلزم ، وهو الأظهر الأشهر ، أو النيل حال كونه.
{رَهْوًا} مصدر سمي به البحر للمبالغة ، وهو بمعنى الفرجة الواسعة ؛ أي : ذا رهواً أو راهياً مفتوحاً على حاله منفرجاً ، ولا تخف أن يتبعك فرعون وقومه ، أو ساكناً على هيئته بعدما جاوزته ، ولا تضربه بعصاك لينطبق ، ولا تغيره عن حاله ليدخله القبط ، فإذا دخلوا فيه أطبقه الله عليهم يعني : (ساكن وآراميده برآن وجه كه راهها برو ظاهر بود).
فيكون معنى : رهواً ساكناً غير مضطرب.
وذلك لأن الماء وقف له كالطود العظيم حتى جاوز البحر.
{إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} : علة للأمر بترك البحر رهواً ، والجند جمع معد للحرب والإغراق : (غرق كردن).
والغرق : الرسوب في الماء والتسفل فيه.
يقول الفقير : لما كان فرعون يفتخر بالماء وجريان الأنهار من تحت قصره وأشجار بساتينه جاء الجزاء من جنس العمل ، ولذا أمر الله تعالى موسى عليه السلام ، بأن يسير إلى جانب البحر دون البر ، وإلا فالله سبحانه قادر على إهلاك العدو في البر أيضاً ، بسبب من الأسباب ، كما فعل بأكثر الكفار ممن كانوا قبل القبط.
{كَمْ تَرَكُوا} ؛ أي : كثيراً تركوا في مصر فكم في محل النصب على أنه مفعول تركوا ومن قوله : {مِن جَنَّـاتٍ} : بيان لإبهامه ؛ أي : بساتين كثيرة الأشجار ، وكانت متصلة من رشيد إلى أسوان وقدر المسافة بينهما أكثر من عشرين يوماً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وفي الآية اختصار.
والمعنى : فعل ما أمر به بأن ترك البحر رهواً ، فدخله فرعون وقومه ، فأغرقوا وتركوا بساتين كثيرة.
{وَعُيُونٍ} نابعة بالماء.
وبالفارسية : (جشمهاى آب روان).
ولعل المراد : الأنهار الجارية المتشعبة من النيل إذ ليس في مصر آبار وعيون ، كما قال بعضهم في ذمها : هي بين بحر رطب عفن
411
كثير البخارات الرديئة التي تولد الأدواء وتفسد الغذاء ، وبين جبل وبر يابس صلد ولشدة يبسه لا تنبت فيه خضراء ، ولا تتفجر فيه عين ماء.
انتهى.
{وَزُرُوعٍ} : جمع زرع ، وهو ما استنبت بالبذر تسمية بالمصدر من زرع الله الحرث إذا أنبته وأنماه.
قال في "كشف الأسرار" وفنون الأقوات وألوان الأطعمة ؛ أي : كانوا أهل ريف وخصب خلاف حال العرب.
{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} : محافل مزينة ومنازل محسنة.
(8/318)
{وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَـاكِهِينَ * كَذَالِكَا وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ} .
{وَنَعْمَةٍ} ؛ أي : تنعم ونضارة عيش.
وبالفارسية : (واسباب تنعم وبر خوردارى).
يقال : كم ذي نعمة لا نعمة له ؛ أي : كم ذي مال لا تنعم له فالنعمة بالكسر ما أنعم به عليك.
والنعمة بالفتح : التنعم ، وهو استعمال ما فيه النعومة واللين من المأكولات والملبوسات.
وبالفارسية : (بناز زيستن).
{كَانُوا فِيهَا فَـاكِهِينَ} : متنعمين متلذذين.
ومنه الفاكهة ، وهي ما يتفكه به ؛ أي : يتنعم ويتلذذ بأكله.
{كَذَالِكَ} : الكاف في حيز النصب وذلك إشارة إلى مصدر فعل يدل عليه تركوا ؛ أي : مثل ذلك السلب سلبناهم إياها.
{كَذَالِكَا وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا} ، فهو معطوف على الفعل المقدر وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم أو تمكينهم من التصرف فيها ، تمكين الوارث فيما يرثه ؛ أي : جعلنا أموال القبط لقوم ليسوا منهم في شيء من قرابة ، ولا دين ، ولا ولاء ، وهم بنو إسرائيل كانوا مسخرين لهم مستعبدين في أيديهم ، فأهلكهم الله وأورثهم ديارهم وملكهم وأموالهم.
وقيل : غيرهم لأنهم لم يعودوا إلى مصر.
قال قتادة : لم يرو في مشهور التواريخ أنهم رجعوا إلى مصر ولا ملكوها قط ، ورد بأنه لا اعتبار بالتواريخ ، فالكذب فيها كثير ، والله تعالى أصدق قيلاً ، وقد جاء في الشعراء التنصيص بإيراثها بني إسرائيل كذا في "حواشي سعدي المفتي".
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال المفسرون عند قوله تعالى : {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرْضِ} (الأعراف : 129) ؛ أي : يجعلكم خلفاء في أرض مصر ، أو في الأرض المقدسة.
وقالوا في قوله : {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـارِقَ الارْضِ وَمَغَـارِبَهَا} (الأعراف : 137) ؛ أي : أرض الشام ومشارقها ومغاربها جهاتها الشرقية والغربية ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة بعد انقضاء مدة التيه ، وتمكنوا في نواحيها ، فاضطرب كلامهم ، فتارة حملوا الأرض على أرض مصر ، وأخرى على أرض الشام.
والظاهر الثاني ؛ لأن المتبادر استخلاف أنفس المستضعفين لا أولادهم.
ومصر إنما ورثها أولادهم ؛ لأنها فتحت في زمان داود عليه السلام ، ويمكن أن يحمل على أرض الشام ومصر جميعاً.
والمراد بالمستضعفين هم وأولادهم ، فإن الأبناء ينسب إليهم ما ينسب إلى الآباء.
والله أعلم.
وفي الآية إشارة إلى ترك بحر الفضل رهواً ؛ أي : مشقوقاً بعصا الذكر ؛ لأن فرعون النفس وصفاتها فانون في بحر الوحدة تاركون لجنات الشهوات وعيون المستلذات الحيوانية وزروع الآمال الفاسدة والمقامات الروحانية بعبورهم عليها وسائر تنعمات الدنيا والآخرة بالسير ، والإعراض عنها بقوله كذلك : وأورثنا إلى إلخ.
يشير أن الصفات النفسانية ، وإن فنيت بتجلي الصفات الربانية فمهما يكن الغالب باقياً بالحياة يتولد منه الصفات النفسانية إلى أن تفنى هذه الصفات بالتجلي أيضاً ، ولو لم تكن هذه المتولدات ما كان للسائر الترقي ، فافهم جداً ، فإنه بهذا الترقي يعبر السائر عن المقام الملكي ؛ لأنه ليس للملك الترقي من مقامه ، كما قال تعالى : {وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} (الصافات : 164) ، فالكمال الملكي دفعي ، لا ترقي بعده ، والكمال البشري تدريجي ، ولا ينقطع سيره أبداً لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، والله
412
مفيض الجود.
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالارْضُ} : مجاز مرسل عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم ؛ لأن سبب البكاء على شيء هو المبالاة بوجوده ، يعني : أنه استعارة تمثيلية بعد الاستعارة المكنية في السماء والأرض بأن شبهتا بمن يصح منه الاكتراث على سبيل الكناية ، وأسند البكاء إليهما.
على سبيل التخييل كانت العرب إذا مات فيهم من له خطر وقدر عظيم يقولون : بكت عليه السماء والأرض ، يعني : أن المصيبة بموته عمت الخلق ، فبكى له الكل حتى الأرض والسماء ، فإذا قالوا : ما بكت عليه السماء والأرض ، يعنون به : ما ظهر بعد ما يظهر بعده ذوي الأقدار والشرف ، ففيه تهكم بالكفار وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده ، فيقال له : بكت عليه السماء والأرض.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال بعضهم : هو على حقيقته ويؤيده ما روي : أنه عليه السلام قال : "ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان : باب يخرج منه رزقه ، وباب يدخل منه عمله ، وإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا فما بكت.
إلخ.
يعني : (جون بنده وفات كند واين دودر از نزول رزق وخروج عمل محروم ماندبر وبكريند).
وفي الحديث : "إن المؤمن يبكي عليه من الأرض مصلاه ، موضع عبادته ، ومن السماء مصعد عمله".
وروي : إذا مات كافر استراح منه السماء والأرض والبلاد والعباد ، فلا تبكي عليه أرض ولا سماء.
(8/319)
وفي الحديث : "تضرعوا وابكوا ، فإن السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم يبكون من خشية الله.
(در معالم آورده جون مؤمن بميرد جمله آسمان وزمين برويكر يند وكفته اندكه كريه آسمان وزمين همجون كريه آدميانست).
يعني : بكاؤهما كبكاء الإنسان والحيوان ؛ فإنه ممكن قدرة كما في "الكواشي".
وقد ثبت أن كل شيء يسبح الله تعالى على الحقيقة ، كما هو عند محققي الصوفية ، فمن الجائز أن يبكي ويضحك بما يناسب لعالمه.
قال وهب بن منبه رضي الله عنه : لما أراد الله أن يخلق آدم أوحى إلى الأرض ؛ أي : أفهمها وألهمها إني جاعل منك خليفة ، فمنهم من يطيعني ، فأدخله الجنة ، ومنهم : من يعصيني ، فأدخله النار ، فقالت الأرض : أمتي تخلق خلقاً يكون للنار ، قال : نعم ، فبكت الأرض ، فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة ، وعن أنس رضي الله عنه رفعه لما عرج بي إلى السماء بكت الأرض ، من بعدي فنبت اللصف من نباتها ، فلما أن رجعت قطر عرقي على الأرض ، فنبت ورد أحمر ألا من أراد أن يشم رائحتي ، فليشم الورد الأحمر ، كما في "المقاصد الحسنة".
(وبعضى برانندكه علامتى بريشان ظاهر شودكه دليل بود بر حزن وتأسف همجون كريه كه در أغلب دالست برغم واندوه).
قال عطاء والسدي : بكاء السماء حمرة أطرافها وعن زيد بن أبي زياد لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أشهراً ، واحمرارها بكاؤها.
وعن ابن سيرين رحمه الله : أخبرونا أن الحمرة التي مع الشفق لم تكن حتى قتل الحسين رضي الله عنه ؛ أي : أنها زادت زيادة ظاهرة ، وإلا فإنها قد كانت قبل قتله :
اين سرخى شفق كه برين جرخ بيوفاست
هرشام عكس خون شهيد ان كربلاست
كر جرخ خون ببارد ازيم غصه در خورست
ورخاك خون بكريد ازين ماجرا رواست
والشفق : الحمرة.
وقال بعضهم : الشفق شفقان : الحمرة والبياض ، فإذا غابت الحمرة حلّت الصلاة.
وفي الحديث : "إذا غاب القمر في الحمرة ، فهو لليلة ، وإذا غاب في البياض ، فهو لليلتين".
وكانت العرب يجعلون الخسوف والحمرة التي تحدث في السماء بكاء على الميت ، ولما كسفت الشمس يوم موت
413
ابنه عليه السلام إبراهيم ، قال الناس : كسفت لموت إبراهيم ، فخطبهم ، فقال : "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتموها فادعوا الله وصلوا حتى تنجلي".
وهذا لا ينافي ما سبق ، فإن مراده عليه السلام رفع اعتقاد أهل الجاهلية ، ولا شك أن كل حادث ، فهو دال على أمر من الأمور ، ولذا أمر بالدعاء والصلاة وسر الدعاء أن النفوس عند مشاهدة ما هو خارق العادة تكون معرضة عن الدنيا ، ومتوجهة إلى الحضرة العليا ، فيكون أقرب إلى الإجابة.
هذا هو السر في استجابة الدعوات في الأماكن الشريفة ، والمزارات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال بعضهم : لا تبكي السماوات والأرض على العصاة ، وأهل الدعوى والأنانية ، فكيف تبكي السماء على من يصعد إليها منه طاعة ، وكيف تبكي الأرض على من عصى الله عليها ، بل يبكيان على المطيعين خصوصاً على العارفين ، إذا فارقوا الدنيا حين لا يصعد إلى السماء أنوار أنفاسهم ، ولا يجري على الأرض بركات آثارهم.
وفي الحديث : "إن السماء والأرض تبكيان لموت العلماء".
وفي الحديث : "ما مات مؤمن في غربة غابت عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض".
ثم قرأ الآية ، وقال : إنهما لا تبكيان على كافر.
وقال بعض المفسرين : معنى الآية : فما بكت عليهم أهل السماء والأرض ، فأقام السماء والأرض مقام أهلهما ، كما قال واسأل القرية.
وينصره قوله عليه السلام : "إذا ولد مولود من أمتي تباشرت الملائكة بعضهم ببعض من الفرح ، وإذا مات من أمتي صغير أو كبير بكت عليه الملائكة".
وكذا ورد في "الخبر" : "أن الملائكة يبكون إذا خرج شهر رمضان ، وكذا يستبشرون إذا ذهب الشتاء رحمة للمساكين".
{وَمَا كَانُوا} لما جاء وقت هلاكهم.
{مُنظَرِينَ} ممهلين إلى وقت آخر ، أو إلى الآخرة ، بل عجل لهم في الدنيا ، أما الأول فلأن العمر الإنساني عبارة عن الأنفاس ، فإذا نفدت لم يبق للتأخير مجال ، وأما الثاني : فإنهم مستحقون لنكال الدنيا والآخرة ، أما نكال الدنيا فلاشتغالهم بظواهرهم بأذية الداعي مستعجلين فيها ، وأما نكال الآخرة فلمحاربتهم مع الله ببواطنهم بالتكذيب والإنكار والدنيا من عالم الظاهر ، كما أن الآخرة من عالم الباطن فجوزوا في الظاهر والباطن بما يجري على ظواهرهم وبواطنهم.
وهذا بخلاف حال عصاة المؤمنين ، فإنهم إذا فعلوا ذنباً من الذنوب ينظرون إلى سبع ساعات ليتوبوا ، فلا يكتب في صحائف أعمالهم ، ولا يؤاخذون به عاجلاً ؛ لأن الله يعفو عن كثير ويجعل بعض المصائب كفارة الذنوب ، فلا يؤاخذ آجلاً أيضاً ، فلهم الرحمة الواسعة والحمدتعالى.
ولكن ينبغي للمؤمن أن يعتبر بأحوال الأمم فيطيع الله تعالى في جميع الأحوال ، ويجتهد في إحياء الدين لا في إصلاح الطين ، ونعم ما قال بعضهم :
خاك دردستش بودجون باد هنكام رحيل
هركه اوقات كرامى صرف آب وكل كند
ومن الله العون.
(8/320)
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالارْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ * وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسرائيل مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَا إِنَّه كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : التنجية : (نجات دادن وبرهانيدن) ؛ أي : خلصنا أولاد يعقوب بإغراق القبط في اليم {مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} : (از عذابى خوار كننده).
يعني : استعباد فرعون إياهم وقتل أبنائهم واستخدام نسائهم وبناتهم وتكليفه إياهم الأعمال الشاقة ، فالهوان يكون من جهة مسلط مستخف به ، وهو مذموم.
{مِن فِرْعَوْنَ} بدل من العذاب ، إما على جعله نفس العذاب لإفراطه في التعذيب ، وإما على حذف المضاف ؛ أي : من عذاب فرعون ، أو حال من المهين ، بمعنى واقعاً من جهته واصلاً من جانبه.
{إِنَّه كَانَ عَالِيًا} متكبراً.
{مِّنَ الْمُسْرِفِينَ} :
414
خبر ثاننٍ لكان ؛ أي : من الذين أسرفوا على أنفسهم بالظلم والعدوان ، وتجاوزوا الحد في الكفر والعصيان.
وقال الكاشفي : (از كافر انكه متجاوزاند از حدود ايمان).
ومن إسرافه أنه على حقارته وخسة شأنه ادعى الإلهية ، فكان أكفر الكفار وأطغاهم ، وهو أبلغ من أن يقال : مسرفاً لدلالته على أنه معدود في زمرتهم مشهور بأنه في جملتهم ، وفيه ذم لفرعون ، ولمن كان مثله في العلو والإسراف كنمرود وغيره.
وبيان أن من أهان المؤمن أهلكه الله وأذله ، ومن يهن الله فما له مكرم ، وإن النجاة من أيدي الأعداء من نعم الله الجليلة على الأحباب ، فإن من نكد الدنيا ومصائبها على الحر أن يكون مغلوباً للأعداء ، وأن يرى عدواً له ما من صداقته بد وإن الله إذا أراد للمرء ترقياً في دينه ودنياه يقدم له البلايا ثم ينجيه :
6
تامرا كعبة مقصود ببالين آمد
سالها بستر خودخار مغيلان كردم
{مِن فِرْعَوْنَا إِنَّه كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ * وَءَاتَيْنَـاهُم مِّنَ الايَـاتِ مَا فِيهِ بَلَـاؤٌا مُّبِينٌ * إِنَّ هَـاؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} .
{وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ} ؛ أي : فضلنا بني إسرائيل {عَلَى عِلْمٍ} في محل النصب على الحال ؛ أي : عالمين بأنهم أحقاء بالاختيار.
وبالفارسية : (بردانشى بى غلط يعنى نه بغلط بركزيديم بلكه بعلم باك كزيديم وبدانش تمام دانستيم كه از همه آفريد كان سزاى كزيدن ايشانند ازان كزيديم اختيار ما بعلم واردات ماست بى علت ونواخت ما بفضل وكرم بى سبب).
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
أو عالمين بأنهم يريغون في بعض الأوقات وتكثر منهم الفرطات ، كما قال الواسطي رحمه الله : اخترناهم على علم منا بجناياتهم ، وما يقترفون من أنواع المخالفات ، فلم يؤثر ذلك في سوابق علمنا بهم ليعلموا أن الجنايات لا تؤثر في الرعايات ، ومن هذا القبيل أولاد يعقوب عليه السلام ؛ فإنهم مع ما فعلوا بيوسف من إلقائه في الجب ونحوه.
اختارهم الله للنبوة على قول :
كرد عصيال رحمت حق رانمى آرد بشور
مشرب دريانكردد تيره ازسيلابها
ويجوز أن يكون المعنى لعلمهم وفضلهم على أن كلمة على للتعليل.
{عَلَى الْعَـالَمِينَ} على عالمي زمانهم ، يعني : (برجهانيان روزكار ايشان).
أو على العالمين جميعاً في زمانهم وبعدهم في كل عصر لكثرة الأنبياء فيهم ، حيث بعث فيهم يوماً ألف نبي ، ولم يكن هذا في غيرهم ، ولا ينافيه قوله تعالى في حق أمة محمد عليه السلام : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران : 110) ، الآية لتغاير جهة الخيرية.
يقول الفقير : والحق أن هذه الأمة المرحومة خير من جميع الأمم من كل وجه ، فإن خيرية الأمم إن كانت باعتبار معجزات أنبيائهم ، فالله تعالى قد أعطى لنبينا عليه السلام جميع ما أعطاه للأولين ، وإن كانت باعتبار كثرة الأنبياء في وقت واحد ، فعلماؤنا الذين كأنبياء بني إسرائيل أكثر وأزيد.
وذلك لأنه لا تخلو الدنيا كل يوم من أيام هذه الأمة إلى قيام الساعة من مائة ألف ولي وأربعة وعشرين ألف ولي ، فانظركم بينهم من الفرق هدانا الله وإياكم أجمعين.
قال في "المفردات" : الاختيار طلب ما هو خير فعله ، وقوله تعالى : {وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ} ، الآية.
يصح أن يكون إشارة إلى إيجاده تعالى إياهم خيراً ، وأن يكون إشارة إلى تقديمهم على غيرهم.
وفي "بحرالعلوم" : هذا الاختيار خاص بمن اختاره الله بالنبوة منهم ، أو عام لهم ، ولمن كانوا مع موسى اختارهم بما خصصهم به.
كما قال الكاشفي : ولقد اخترناهم : (وبدرستى كه بركز يديم موسى ومؤمنان بني إسرائيل راه).
فجعلنا فيهم الكتاب والنبوة والملك.
{وَءَاتَيْنَـاهُم مِّنَ الايَـاتِ} : (نشانهاى قدرت).
كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغيرها من عظائم الآيات التي لم يعهد مثلها
415
في غيرهم.
{مَا فِيهِ بَلَـاؤٌا مُّبِينٌ} : نعمة جليلة أو اختيار ظاهر لينظر كيف يعملون.
(8/321)
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وفي "كشف الأسرار" : ابتلاهم بالرخاء والبلاء ، فطالبهم بالشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء : (آدمى كهى خستة بتير بلاست كهى غرفة لطف وعطا وحق تعالى تقاضاى شكر مى كند بوقت راحت ونعمت وتقاضاى صبر مى كند درحال بلا وشدت مصطفى عليه السلام قومى را ديداز انصار كفت شما مؤمنان آيد كفتند آرى كفت نشان ايمان جيست كفتند بر نعمت شكر كنيم ودرمخث صبر كنيم وبقضاء الله راضى كفت أنتم مؤمنون ورب الكعبة).
قال ابن الشيخ : هو حقيقة في الاختيار ، وقد يطلق على النعمة وعلى المحنة مجازاً من حيث أن كل واحد منهما يكون سبباً وطريقاً للاختيار.
فإن قلت : إذا كانت الآيات المذكورة نعمة في أنفسها ، فما معنى قوله : ما فيه بلاء ؛ أي : نعمة.
قلت : كلمة "في" تجريدية فقد يكون نعمة في نعمة ، كما يكون نعمة فوق نعمة ومحنة فوق محنة.
(كفته انددو برادر توأمان بودند بيك شكم آمده بودند وبشث ايشان يكديكر جسببده بود جون بزرك شدند دائم زبان بشكر الهى داشتند يكى از ايشان برسيد كه باوجود جنين بلاى كه شمارا واقعست جه جاى شكر كزار يست ايشان كفتند ماميدانيم كه حق تعالى را بلاها ازين صعبتر بسيارست برين بلاشكو ميكوييم مباداكه بيلايى ازين عظميتر مبتلا شويم ناكاه يكى ازايشان بمردآن دكر كفت اينك بلاى صعبتر بيداشد اكنون اكراين مرده را از من قطع ميكنند من نيزمى ميرم واكر قطع نمى كنند مرا مرده كشى بايدكردنا وقتى كه بدن وى فرسوده شود بريزد وكفته اند خلاصة درويشى آنست كه از همه كس باركشد وبرهيجكس بارننهد نه بحسب صورت ونه).
بحسب معنى فلا بد من الصبر على البلاء والتحمل على الشدة :
اكر زكوه فروغلطد آسيا سنكى
نه عارفسث كه ازراه سنك برخيزد
والله الموفق لما يحب ويرضى من الأعمال.
{أَنَّ هَـاؤُلاءِ} ؛ أي : كفار قريش ؛ لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه للدلالة على تماثيلهم في الإصرار على الضلالة والتحذير عن حلول ما حل بهم من العذاب.
{لَيَقُولُونَ * إِنْ هِىَ إِلا مَوْتَتُنَا الاولَى} : لما أخبروا بأن عاقبة حياتهم ونهايتها أمران : الموت ثم البعث.
أنكروا ذلك بحصر نهاية الأمر في الموتة الأولى ؛ أي : ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية ، ولا بعث بعدها.
وتوصيفها بالأولى لا يستدعي أن يثبت الخصم موتة ثانية ، فيقصدوا بذلك إنكارها ؛ لأن كون الشيء أولاً لا يستلزم وجود ما كان آخراً بالنسبة إليه ، كما لو قال أول عبد أملكه حر ، فملك عبداً عتق سواء كان مالكاً بعده عبداً آخر أو لا؟.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال سعدي المفتي : وفيه بحث.
فإن الأول مضايف الآخر أو الثاني ، فيقضي المضايف الآخر بلا شبهة إذ المتضايفان متكافئان وجوداً ، وعدماً ثم قال : ويجوز أن يقال مقصود المصنف الإشارة إلى أن المراد بالأولية : عدم المسبوقية بأخرى مثلها على المجاز.
وقال في "الكشاف" : لما قيل لهم أنكم تموتون موتة تعقبها حياة ، كما تقدمتكم موتة كذلك قالوا : ما هي إلا موتتنا الأولى ؛ أي : ما الموتة التي تعقبها حياة إلا الموتة الأولى ، فالحصر بهذا المعنى راجع إلى معنى أن يقال : ما هي إلا حياتنا الأولى ، ولا تكلف في إطلاق الموت على ما كان قبل الحياة الدنيا ، كما في قوله تعالى : {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (البقرة : 28).
وقال بعضهم : المعنى ليست الموتة إلا هذه
416
الموتة دون الموتة التي تعقبها حياة القبر ، كما تزعمون يكون بعدها البعث والنشور ولا يبعد أن يحمل على حذف المضاف على أن يكون التقدير : إن الحياة ، إلا حياة موتتنا الأولى ، فالأولى صفة للمضاف ، والقرينة عليه قوله : {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} ، فالآية مثل قوله : إن هي إلا حياتنا الدنيا ، وما نحن بمبعوثين ، كما في "حواشي سعدي المفتي".
{وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} بمبعوثين بعد الموت يعني : (زنده شد كان وبر انكيختكان بعد از مرك).
من أنشر الله الموتى إذا بعثهم.
وغرضهم من هذا القول المبالغة في إنكار حشر الموتى ونشرهم من القبور.
{إِنْ هِىَ إِلا مَوْتَتُنَا الاولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُوا بِـاَابَآاـاِنَآ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَـاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَـاهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
{فَأْتُوا بِـاَابَآاـاِنَآ} : الخطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول والمؤمنين.
والمعنى بالفارسية : (بس بياريد بدران مارا ازكور وزنده كنيد).
{إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} : فيما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى.
يعني : إن كان البعث والنشور ممكناً معقولاً ، فجعلوا لنا إحياء من مات من آبائنا ليظهر صدق وعدكم.
(8/322)
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وقيل : كانوا يطلبون إليهم أن يدعوا الله فينشر لهم قصي بن كلاب ليشاوروه ويسألوا منه عن أحوال الموت ، وكان كبيرهم ومفزعهم في المهمات والملمات.
قال الكاشفي : (اين سخن ازايشان جهل بودزيرا هركه جائز بود وقوع آن ازخداى تعالى بوقتى خاص لازم بود وجود وظهور آن نه بهر وقت كه ديكرى خواهد بس جون وعده بعث در آخرت اكر دردنيا واقع نشود كسى رابرو تحكم نرسد).
وقال في "كشف الأسرار" : وإنما لم يجبهم لأن البعث الموعود إنما هو في دار الجزاء يوم القيامة ، والذي كانوا يطلبونه البعث في الدنيا في حالة التكليف وبينهما تغاير.
يقول الفقير : قد صح أن عيسى عليه السلام أحيا الموتى لا سيما سام بن نوح عليه السلام ، وكان بينه وبين موته أكثر من أربعة آلاف سنة ونبينا عليه السلام كان أولى بالإحياء ؛ لأنه أفضل لكنهم لما طلبوه بالاقتراح لم يأذن الله له فيه لكون غايته الاستئصال على تقدير الإصرار.
وقد ثبت عند العلماء الأخيار أن نبينا عليه السلام أحيى أبويه وعمه أبا طالب ، فآمنوا به كما سبق تفصيله في محله.
وفي الآية إشارة إلى أن من غلب عليه الحسن ، ولم تكن له عين القلب مفتوحة ليطلع ببصره وبصيرته عالم الغيب ، وهو الآخرة لا يؤمن إلا بما يريه بصر الحس ، ولهذا أنكروا البعث والنشور إذا لم يكن يشاهده نظر حسهم ، وقالوا : فائتوا بآياتنا ؛ أي : أحيوهم حتى نراهم بنظر الحس ونستخبر منهم أحوالهم بعد الموت إن كنتم صادقين فيما تدعون من البعث.
حكي عن الشيخ أبي علي الرودبادي قدس سره : أنه ورد عليه جماعة من الفقراء ، فاعتل واحد منهم وبقي في علته أياماً ، فملَّ أصحابه من خدمته وشكوا ذلك إلى الشيخ أبي علي ذات يوم ، فخالف الشيخ على نفسه وحلف أن يتولى خدمته بنفسه أياماً ، ثم مات الفقير ، فغسله وكفنه وصلى عليه ودفنه ، فلما أراد أن يفتح رأس كفنه عند أصحابه في القبر رآه وعيناه مفتوحتان إليه.
وقال له : يا أبا علي لأنصرنَّك بجاهي يوم القيامة ، كما نصرتني في مخالفتك نفسك.
وقال أبو يعقوب السوسي قدس سره : جاءني مريد بمكة.
وقال : يا أستاذ أنا غداً أموت وقت الظهر فخذ هذا الدينار ، فأحضر لي بنصفه حنوطاً وكفني بنصفه ، فلما كان الغد وقت الظهر جاء ، فطاف ثم تباعد ومات فغسلته وكفنته ووضعته في اللحد ، ففتح عينيه فقلت له : أحياة بعد الموت ، فقال : أنا حي ، فكل محبحيّ.
يقول الفقير :
417
ففي هاتين الحكايتين إشارات :
الأولى : أن للفقراء الصابرين جاهاً عند الله يوم القيامة ، فكل من أطعمهم أو كساهم ، أو فعل بهم ما يسرهم ، فهم له شفعاء عند الله مشفعون فيدخلونه الجنة بإذن الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
والثانية : أن حياة الأنبياء والأولياء حياة دائمة في الحقيقة ، ولا يقطعها الموت الصوري ، فإنه إنما يطرأ على الأجساد بمفارقة الأرواح مع أن أجسادهم لا تأكلها الأرض ، فهم بمنزلة الأحياء من حيث الأجساد أيضاً.
والثالثة : أن الإحياء أسهل شيء بالنسبة إلى الله تعالى ، فمن تأمل في تعلق الروح بالبدن أولاً لم يتوقف في تعلقه به ثانياً وثالثاً والرابعة أثر الحياة مرئي ومشهود في الميت بالنسبة إلى أرباب البصائر ، فإنهم ربما رأوا في بعض الأموات أثر الحياة وتكلموا معه ، فمن حرم من البصيرة وقصر نظره على الحس وقع في الإنكار وعلى تقدير رؤيته حمله على أمر آخر من السحر والتخييل ، ونحو ذلك كما وقع لبعض الكفار في زمان عيسى عليه السلام وغيره ونعم ما قيل :
در جشم اين سياه دلان صبح كاذبست
در روشنى اكريد بيضا شود كسى
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أهل الحياة الحقانية والنشأة العرفانية.
{أَهُمْ خَيْرٌ} : رد لقولهم وتهديد لهم ؛ أي : كفار قريش خير في القوة والشوكة اللتين يدفع بهما أسباب الهلاك لا في الدين حتى يردانه لا خيرية في واحد من الفريقين.
{أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} المراد بتبع هنا واحد من ملوك اليمن معروف عند قريش وخصه بالذكر لقرب الدار ، وسيأتي بقية الكلام فيه.
{وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} ؛ أي : قيل قوم تبع عطف على قوم تبع.
والمراد بهم : عاد وثمود وأضرابهم من كل جبار عنيد أولي بأس شديد.
والاستفهام لتقرير أن أولئك أقوى من هؤلاء.
{أَهْلَكْنَـاهُمْ} : (نيست كرديم ايشانرا).
استئناف لبيان عاقبة أمرهم ؛ أي : قوم تبع والذين من قبلهم.
{إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} كاملين في الإجرام والآثام مستحقين للهلاك ، وهو تعليل لإهلاكهم ليعلم أن أولئك حيث أهلكوا بسبب إجرامهم مع ما كانوا في غاية القوة والشدة ، فلأن يهلك هؤلاء وهم شركاء لهم في الإجرام وأضعف منهم في الشدة والقوة أولى.
(8/323)
بعض كبار : (فرمود كه تعالى رانسبت بأولياى خود قهرى ظاهر است ولطفى دران مخفى لطف مخفى آنست كه ميخواهد كه بآن قهر ظاهر حقيقت انسانرا از قيود لوازم بشرى باك ومطهر كرداند وباز حق تعالى رانسبت باعداى خود لطفى ظاهر است وقهرى دران مخفى آنست كه ميخواهد كه بآن لطف ظاهر علاقة باطن ايشانرا بعالم اجسام استحكام دهدتا واسطة كرفتارى بقيود اين عالم از شهود عالم اطلاق ولذات روحانى ومعنوى محروم بمانند وجون قهر ومكردر زير لطف ظاهرى بوشيده است عاقل ببايدكه برحذر باشد وبمال وجاه مغرور نباشد تاكه از هلاك صورى ومعنوى خلاص يابد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال الحافظ :
كمين كهست وتوخوش تيز ميروى هش دار
مكن كه كرد برآيد زشهرة عدمت
اعلم أولاً أن تبعاً كسكر واحد التبابعة ، ملوك اليمن ، ولا يسمى به إلا إذا كانت له حمير وحضرموت وحمير كدرهم موضع غربي صنعاء اليمن.
والحميرية : لغة من اللغات الاثنتي عشرة وواحد من الأقلام الاثني عشر ، وهو في الأصل أبو قبيلة من اليمن ، وهو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وحضرموت ، وهو بضم الميم بلد وقبيلة.
كما في "القاموس".
وتبع في الجاهلية بمنزلة الخليفة
418
في الإسلام ، كما في "كشف الأسرار" : (تبع بادشاهى بود ازبادشاهان از قبيلة قحطان جنانكه دار إسلام ملوك را خليفة كويند ودر روم قيصر ودر فرس كسرى ايشانرا تبع كويند).
فهم الأعاظم من ملوك العرب ، والقيل بالفتح والتخفيف : ملك من ملوك حمير دون الملك الأعظم ، وأصله : قيل بالتشديد كيفعل ، فخفف كميت وميت.
قال في "المفردات" : القيل : الملك من ملوك حمير سموه بذلك لكونه معتمداً على قوله ، ومقتدى به ، ولكونه متقيلاً لأبيه يقال : تقيل فلان أباه إذا تبعه.
وعلى هذا النحو سموا الملك بعد الملك تبعاً ، فتبع كانوا رؤساء سموا بذلك لاتباع بعضهم بعضاً في الرياسة والسياسة.
وفي "إنسان العيون" تبع بلغة اليمن الملك المتبوع.
وأصل القيل : من الواو لقولهم في جمعه أقوال نحو ميت وأموات.
وإذا قيل : أقيال فذلك نحو أعياد في جمع عيد أصله عود.
وقال بعضهم : قيل الملوك اليمن التبابعة ؛ لأنهم يتبعون ؛ أي : يتبعهم أهل الدنيا ، كما يقال لهم : الأقيال ؛ لأنهم يتقيلون والتقيل بالفارسية : (اقتدا كردن) ، أو لأن لهم قولاً نافذاً بين الناس.
يقول الفقير : والظاهر أن تبع الأول سمي به لكثرة قومه وتبعه ، ثم صار لقباً لمن بعده من الملوك سواء كانت لهم تلك الكثرة والأتباع أم لا ، فمن التبابعة الحارث الرائش ، وهو ابن همال ذي سدد ، وهو أول من غزا من ملوك حمير ، وأصاب الغنائم وأدخلها فراش الناس بالأموال والسبي والريش بالكسر الخصب ، والمعاش.
فلذل سمي الرائش وبينه وبين حمير خمس عشر أباً ودام ملك الحارث الرائش مائة وخمساً وعشرين سنة ، وله شعر يذكر فيه من يملك بعده ويبشر بنبينا صلى الله عليه وسلم فمنه : ()
ويملك بعدهم رجل عظيم
نبي لا يرخص في الحرام
يسمى أحمداً يا ليت أني
أعمر بعد مخرجه بعام
ومنهم أبرهة ذو المنار ، وهو ابن الحارث المذكور وسمي ذا المنار ؛ لأنه أول من ضرب المنار على طريقه في مغازيه ليهتدي إذا رجع وكان ملكه مائة وثلاثاً وثمانين سنة.
ومنهم : عمرو ذو الأذعار ، وهو ابن أبرهة لم يملك بعد أبيه ، وإنما ملك بعد أخيه إفريقس ، وسمي ذا الأذعار ؛ لأنه قتل مقتلة عظيمة حتى ذعر الناس منه ، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
ومنهم : شمر بن مالك الذي تنسب اليه سمرقند.
وحكي القتيبي أنه شمر بن إفريقس بن أبرهة بن الرائش وسمي بمرعش لارتعاش كان به ، ونسبت إليه سمرقند ؛ لأنها كانت مدينة للصفد ، فهدمها ، فنسبت إليه.
وقيل : شمركند أي : شمر خربها لأن كند بلسانهم حزب ثم عرب فقيل : سمرقند وقال ابن خلكان في "تاريخه" : إن سمر اسم لجارية إسكندر مرضت فوصف لها الأطباء أرضاً ذات هواء طيب ، وأشاروا له بظاهر صفتها ، وأسكنها إياها ، فلما طابت بنى لها مدينة وكند بالتركي هو المدينة ، فكأنه يقول : بلد سمر.
انتهى.
ويؤيده تسميتهم القرية الجديدة في تركستان بقولهم : (يكى كنت).
فالتاء والدال متقاربان.
وبه يعرف بطلان قول من قال : إن تبعاً الحميري بناها إلا أن يحمل على بناء ثان وفيه بعد.
وقال ابن السباهي في "أوضح المسالك" : سمرقند بالتركية شمركند ؛ أي : بلد الشمس.
ومنهم إفريقس بن أبرهة الذي ساق البربر إلى أفريقية من أرض كنعان.
وبه سميت إفريقية ، وكان
419
قد غزا حتى انتهى إلى أرض طنجة ، وملك مائة ونيفاً وستين.
تبع بين الأقرن ويقال فيه : تبع الأكبر.
ومنهم : أبو كرب أسعد بن كليكر بن تبع بن الأقرن.
واختلفوا في المراد من الآية ، فقال بعضهم : هو تبع الحميري الذي سار بالجيوش وبنى الحيرة ـ بالكسر ـ مدينة بالكوفة.
(8/324)
قال في "كشف الأسرار" : (معروف ازايشان سه بودنديكى مهينة اول بوده يكى ميازيكى كهينة اخربود واوكه نام اودر قرآن است تبع آخر بودنام وى اسعد الحميرى مردى مؤمن صالح بوده وبعيسى عليه السلام ايمان آورده وجون حديث ونعت وصفت رسول ما عليه السلام شنيد ازاهل كتاب بر سالت وى ايمان آورد وكفت) : ()
شهدت على أحمد أنه
رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره
وزيراً له وابن عم
وفي أوائل السيوطي : أول من كسا الكعبة أسعد الحميري ، وهو تبع الأكبر ، وذلك قبل الإسلام بتسمعمائة سنة كساها الثياب الحبرة ، وهي مثل عنبة ضرب من برود اليمن.
وفي رواية كساها الوصائل ، وهي برود حمر فيها خطوط خضر تعمل باليمن وعن بعضهم أول من كسا الكعبة كسوة كاملة تبع كساها العصب ، وهي ضرب من البرود وجعل لها باباً يغلق.
وقال في ذلك : ()
وكسونا البيت الذي حرم الله
ملاء معصباً وبرودا
وأقمنا به من الشهر عشرا
وجعلنا لبابه إقليدا
وخرجنا منه نؤم سهيلا
قد رفعنا لواءنا معقودا
وكان تبع مؤمناً بالاتفاق ، وقومه كافرين ، ولذلك ذمهم الله دونه واختلف في نبوته.
وقال بعضهم : كان تبع يعبد النار ، فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام وهم : حمير وكذبوه ، وكان قومه كهاناً وأهل كتاب ، فأمر الفريقين أن يقرب كل منهما قرباناً ، ففعلوا فتقبل قربان أهل الكتاب ، فأسلم وذكر ابن إسحاق في كتاب "المبدأ" و"قصص الأنبياء عليهم السلام" : أن تبع بن حسان الحميري ، وهو تبع الأول ؛ أي : الذي ملك الأرض كلها شرقها وغربها.
ويقال : له الرائش ؛ لأنه راش الناس بما أوسعهم من العطاء ، وقسم فيهم من الغنائم ، وكان أول من غنم.
ولما عمد البيت يريد تخريبه رمي بداء تمخض منه رأسه قيحاً وصديداً وأنتن حتى لا يستطيع أحد أن يدنو قدر رمح.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
يعنى جون تبع بمكه رسيد واهل مكه اورا طاعت نداشتد وخدمت نكردند تبع كفت وزير خودراكه اين جه شهراست وجه قوم اندكه درخدمت وطاعت ما تقصير كردند بعد ازانكه جهانيان سربر خط طاعت مانهاه اند وزير كفت ايشانرا خانة هست كه آنرا كعبه كويند مكر بآن خانة معجب شده اند تبع دردل خويش نيت كردكه آن خانه را خراب كند ومردان شهر رابكشد وزنان اسير كند هنور هنوز اين انديشه تمام نكرده بودكه رب العزة بدرد سرمبتلا كرد جنانكه اورا بطاقت نماندوآب كندبده از جشم وكوش وبينى وى كشاده كشت كه هيج كس رابنزديك وى قرار نبود واطبا همه از معالجه وى عاجز كشتند كفتند اين بيمارى از جهار طبع بيرون افتاده كار اسمانيست وما معالجة آن راه ثمى بريم بس دانشمندى فرابيش آمد وكفت أيها الملك اكر سرخود بامن بكويى من ابن دردرا
420
درمان سازم ملك كفت من دركار اين شهر وابن خانة كعبه جنين انديشه كرده ام دانشمند كفت زينهار اي ملك اين انديشه مكن وازين نيت باز كردكه اين خانه را خداوندى است قادر كه آنرا بحفظ خويش ميداردو هركه قضد ابن حانة كند دمار ازوى بر آرد تبع ازان انديشه توبه كرد وتعظيم خانة واهل كعبه ايمان آورد ودردين ابراهيم عليه السلام شد بس كعبه جامه بوشانيد وقوم خودرا فرمودتا آنرا بزرك دارند وبا اهل وى نيكويى كنند بس از مكه بزمين يثرب شد آنجاكه مدينة مصطفاست صلى الله عليه وسلم ودران وقت شهر وبنانبود جشمة آب بود تبع لشكر بسرآن جشمه فرو آورد انشمندانكه باوى بودند قريب دو هزار مرد عالم در كتاب خوانده بودند كه آن زمين يثرب مهاجر رسول آخر الزمانست ومهبط وحي قرآن جهار صد مرداز ايشانكه عالمتر وفاضلتر بودند بايكديكر بيعت كردندكه ازان بقعة مفارقت نكند وبراميد ديدار رسول آنجا مقام كنند اكر اورا خود دريابند والافر زندان ونسل ايشان ناجار اورادريا بند وبركات ديدار او باعقاب وارواح ايشان برسداين قصة باتبع كفتند وتبع راهمين رغبت افتاده يكسال آنجا مقام كرد وبفرمود تاجهار صد قصر بنا كردند انجايكه هر عالمى راقصرى وهريكى راكنيزكى بخريد وآزاد كرد وبزتى بوى داد با جهاز تمام وايشانرا وصيت كرد كه شما انيجا باشيد تابيغمبر آخر زمان رادر بابيد وخود نامة نبشت ومهر زرين يران نهاد وعالمى راسبر دو كفت اكر محمد رادريايى اين نامة بدورسان واكرنيابى بفرز ندان وصيت كن تابدو رسانند ومضمون آن نامه اين بودكه اي بيغمبر آخر الزمان اى كزيده خداوند جهان اى بروز شمار شفيع بندكان من كه تبعم بنو ايمان آوردم بآن خها وندكه توبنده وبيغمبر اويى كواه ياش كه برملت توأم وبر ملت بدرتو ابراهيم خليل عليه السلام اكرترابينم واكرنه بينم تامرا فراموش نكنى وروز قيامت مراشفيع باشى آنكه نامه را مهر برنها دوبرال مهر نوشته بود).
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وعنوان (نامه نوشته) إلى محمد بن عبد الله خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلّم من تبع أمانة الله في يد من وقع إلى أن يوصل إلى صاحبه.
(8/325)
كفته اند مردمان مدينة ايشان كه انصار رسول خدا اند ازنثراد آن جهار صد مرد عالم بودند وأبو أيوب الأنصاري كه رسول خدا بخانة اوفرو آمد از فرزندان آن عالم بودكه تبع را نصيحت كرده بود تا ازان علت شفايافت وخانة أبو أيوب الأنصاري كه رسول خدا آنجا فروآمد از جمله بناها بودكه تبع كرده بود جون رسول خدا هجرت كرد بمدينه نامه تبع بوى رسانيدند رسول خدا نامه بعلى داد تابرخواند رسول سخنان تبع بشنيد واورا دعا كرد وآنكس كه نامه رسانيد نام او أبو ليلى بوداورا بنواخت واكرمى كردو بروايتى تبع مردمى آتش برست بود بر مذهب مجوس از نواحى مشرق درآمد بالشكر عظيم ومدينه مصطفى عليه السلام بكذشت وبسرى ازان خويش آنجارها كرد اهل مدينة آن بسررا بفريب وحيله بكشتند تبع بازكشت بر عزم آنكه مدينة خراب كند وأهل آنرا استئصال كند جماعتى كه انصار رسول الله از نزاد ايشانند همه مجتمع شد وبفتال وى بيرون آمدند بروز
421
باوى جنك ميكردند وبشب اورا مهمان دارى ميكردند تبع را سيرت ايشان عجب آمد كفت أن هؤلاء كرام اينان قومى اندكر يمان وجوانمردان بس دوحبر از احبار بني قريظه نام ايشان كعبه واسد هرود ابن عم يكديكر بودند برخوا ستند وبيش تبع شدند واورا نصيحت كردند كفتند اين مدينه هجرت كاه بيغمبر آخر زمانست وما در كتاب خداى نعت وى خوانده ايم وبراميد ديداروى انيجانشته ايم ودانيم كه ترا اهل اين شهر دستى نباشد ونصرتى نبود خويشتن را در معرض بلا وعقوبت مكن نصيحت تابشنو ونيت خود بكردان بس آن وعظ بر تبع اثرى عظيم كرد وازايشان عذر خواست ايشان جو أثر قبول دروى ديدند أورا بردين خويش دعوت كردند تبع قبول كرد وبدين ايشان بازكشت وايشانرا اكرام كرد وازمدينه بسوى يمن باز كشت وآن دو حبرو نفرى ديكر از يهود بني قريظة باوى رفتند جمعى از بني هذيل بيش تبع آمدند كفتند أيها الملك أنا أدلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبر جد اكر خواهى بردست توآسان بود كفت آن كدام خانه است كفتند خانة ايست درمكه ومقصود هذيل هلاك تبع بودكه از نقمت وى مى ترسيدند دانستند كه هر كه قصد خانه كهبه كند هلاك شود تبع با احبار يهود مشورت كرد وآن سحن كه هذيل كفته بودند بايشان كفت اخبار كفتند زينهار كه انديشه بدنكنى دركار آن خانه كه درروى زمين خانه ازان عظيم ترنيست آنرا بيت الله كوبند آن قوم ترا اين دلالت كردن جز هلاك تونخوا ستند جون آنجا رسى تعظيم كن تاترا سعادت ابد حاصل شود تبع جون اين سخن بشنيد آن جمع هذيل بكرفت وسياست كرد جون بكعبه رسيد طواف كرد وكعبه درنبود آنرا دربرنهاد وقفل برزدو آنرا جامه بوشيد وشش روز آنجا مقيم شد هرروز درمنحر هزار شتر قربان كرد وازمكه سوى يمن شد قوم وى حمير بودند كاهنان وبت برستان تبع ايشانرا بر دين خويش وبر حكم نورات دعوت كرد ايشان نبذير فتندتا آنكه حكم خويش بر آتش بردند وآن آتشى بودكه فراديد آمدى در دامن كوه وهر كرا خصمى بودى وحكمى كه دران مختلف بودى هر دو خصم بنزديك آتش آمد ندى آنكس كه بر حق بودى اورا از آتش كزند نرسيدى واوكه نه بر حق بودى بسوختى جماعتى از حمير بتان خودرا برد اشتند وبدا من آن كوه آمدند وهمجنين اين دو وحبر كه باتبع بودند دفتر تورات بر داشته وبدامن آن كوه آمدند ودرراه آتش نشستند آتش از مخرج خود برآمد وآن قوم حمير را وآن بتانرا همه نيست كرد وبسوخت وآن دو حبر كه تورات داشتند وميخواند نداز آتش ايشانرا هيج رنج وكزند نرسيد مكر از بستانى ايشان عرقى روان كشت وآتش از ايشان در كذشت وبمخرج خويش بازشد آنكه باقى حمير كه بودند همه بدبن اخبار باز كشتند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
فمن هناك أصل اليهودية باليمن.
كذا في "كشف الأسرار" ، وقيل : حفر بئر بناحية حمير في الإسلام ، فوجد فيه امرأتان صحيحتان وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب حباً وتليس أو حباً وتماضراً ، وهذا قبر تماضر وقبر حبابنتي تبع على اختلاف الروايات.
وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئاً ، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.
422
(از همه در صفات وذات خدا).
ليس شيء كمثله أبداً :
(كرخدا بودى ازيكى افزون كى بماندى جهان بدين قانون.
داند آنكس زعقل باشد بهر.
كه دوشه راجوجا شود در شهر.
سلك جميعت از نظام افتد.
رخنه دركار خاص وعام افتد).
جل من لا إله إلا هو.
حسبنا الله لا إله إلا هو.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} ؛ أي : ما بين الجنسين وقرىء ما بينهن نظراً إلى مجموع السماوات والأرض.
{لَـاعِبِينَ} من غير أن يكون في خلقهما غرض صحيح وغاية حميدة.
يقال : لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً.
وفي "التعريفات" : اللعب فعل الصبيان يعقبه التعب من غير فائدة.
(8/326)
{مَا خَلَقْنَـاهُمَآ} ، وما بينهما ملتبساً بشيء من الأشياء {إِلا} ملتبساً {بِالْحَقِّ} ، فهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال أو ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق الذي هو الإيمان والطاعة والبعث ، والجزاء فهو استثناء من أعم الأسباب.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} ؛ أي : كفار مكة بسبب الغفلة وعدم الفكرة.
{لا يَعْلَمُونَ} أن الأمر كذلك فينكرون البعث والجزاء ، والآية دليل على ثبوت الحشر ، فإنه لو لم يحصل البعث والجزاء لكان هذا الخلق عبثاً ؛ لأنه تعالى خلقهم وما ينتظم به أسباب معايشهم ، ثم كلفهم بالإيمان والطاعة ليتميز المطيع من العاصي ، بأن يكون الأول متعلق فضله وإحسانه.
والثاني : متعلق عدله وعقابه.
وذلك لا يكون في الدنيا لقصر زمانها ، وعدم الاعتداد بمنافعها لكونها مشوبة بأنواع المضار والمحن ، فلا بد من البعث والجزاء لتوفى كل نفس ما عملت ، فالجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم من رأسها إذ لو لم يكن الجزاء ، كما يقول الكافرون لاستوت عند الله أحوال المؤمن والكافر ، وهو محال.
اعلم أن التجليات الوجودية إنما هي للتجليات الشهودية فكل من السماوات والأرض الصورية ، وما بينهما من الموجودات مظاهر صفات الحق ، فهي كالأصداف والصفات كالدرر.
والمقصود بالذات إنما هو الدرر لا الأصداف ، كما أن في المقصود من المرآة إنما هو الصورة المرئية فيها ، فكان كل موجود كاللباس على سر من الأسرار الإلهية ، وكذا كل وضع من أوضاع الشريعة رمز إلى حقيقة من الحقائق ، فلا بد من إقامته لتحصيل حقيقته.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وهذا بالنسبة إلى الآفاق ، وأما بالنسبة إلى الأنفس والأرواح كالسماوات والأشباح كالأرض والقلوب والأسرار والنفوس ، كما بينهما وكلها مظاهر حق لا سيما القلوب أصداف درر المعارف الإلهية التي لم يخلق الإنس والجن إلا لتحصيلها ، ولكن مرآة قلب أكثرهم مكدرة بصدأ صفات البشرية ، وهم لا يعلمون أنهم مرآة لظهور صفات الحق ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم "من عرف نفسه" يعني بالمرآتيه عند صفائها "فقد عرف ربه" ؛ أي : بتجلي صفاته فيها فقد عرفت أنه ما في الوجود إلا الحق ، وأما الباطل فإضافي لا يقدح في ذلك.
ألا ترى إلى الشيطان ، فإنه باطل من حيث وجوده الظلي ، ومن حيث دعوة الخلق إلى الباطل والضلال ، لكنه حق في نفسه ؛ لأنه موجود ، وكل موجود ، فهو من التجليات الإلهية.
حكي : أن رجلاً رأى خنفساء ، فقال : ماذا يريد الله من خلق هذه أحسن شكلها أم طيب ريحها فابتلاه بقرحة عجز عنها الأطباء حتى ترك علاجها ، فسمع يوماً صوت طبيب من الطرقيين ينادي في الدرب ، فقال : هاتوه حتى ينظر في أمري ، فقالوا : ما تصنع بطرقي ، وقد عجز عنك حذاق الأطباء ، فقال لي : لا بد لي منه ، فلما أحضروه ، ورأى القرحة استدعى بخنفساء ، فضحك
423
الحاضرون ، فتذكر العليل القول الذي سبق منه ، فقال : احضروا ما طلب ، فإن الرجل على بصيرة ، فأحرقها ووضع رمادها على قرحته فبرئت بإذن الله تعالى.
فقال للحاضرين : إن الله تعالى أراد أن يعرفني أن أخس المخلوقات أعز الأدوية.
(يكى از خواجكان نقشبنديه ميفرمودكه شبى در زمان جوانى بداعيه فسادى از خانه بيرون آمدم ودرده ما عسى بغايت شرير وبد نفس كه بشرارت نفس أو كسى نمى دانستم وهمه اهل ده ازومى ترسيد نددر آن دل شب ديدم جاى دركمين استاده جون اورا بديدم از وبغايت ترسيدم وترك فساد كردم وازان محل دانستم كه بدنيز درين كارخانه دركار بوده است.
جون بعض ظهورات حق آمد باطل.
بس منكر باطل نشود جز جاهل.
در كل وجوهر كه جز حق بيند ، باشدز حقيقة الحقايق غافل).
{مَا خَلَقْنَـاهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَـاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْـاًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلا مَن رَّحِمَ اللَّه إِنَّه هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} ؛ أي : يوم القيامة الذي يفصل فيه الحق عن الباطل ويميز المحق عن المبطل ويقضي بين الخلائق بين الأب والابن والزوج والزوجة ، ونحو ذلك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال بعضهم : يوم الفصل يوم يفصل فيه بين كل عامل وعمله ، ويطلب بإخلاص ذلك وبصحته ، فمن صح له مقامه وأعماله قبل منه وجزي عليه ، ومن لم تصح له أعماله كانت أعماله عليه حسرة.
وفي المثنوي :
اى دريغا بود مارا بيروباد
تا ابد يا حسرة شد للعباد
بركذشته حسرت آوردن خطاست
بازنايد رفته يادآن هباست
{مِيقَـاتُهُمْ} ؛ أي : وقت موعد الخلائق {أَجْمَعِينَ} يعني : (هنكام جمع شدن همه اولين وآخرين).
فيوم الفصل اسم إن ميقاتهم خبرها وأجمعين تأكيد للضمير المجرور في ميقاتهم ، والميقات اسم للوقت المضروب للفعل ، فيوم القيامة وقت لما وعدوا به من الاجتماع للحساب والجزاء.
(8/327)
قال في "بحر العلوم" : ميقاتهم ؛ أي : حدهم الذي يوقتون به ولا ينتهون إليه ، ومنه مواقيت الإحرام على الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرماً.
فإن الميقات ما وقت به الشيء ؛ أي : حد.
قال ابن الشيخ : الفرق بين الوقت والميقات أن الميقات وقت يقدر ؛ لأن يقع فيه عمل من الأعمال وأن الوقت ما يقع فيه شيء سواء قدره مقدر ؛ لأن يقع فيه ذلك الشيء أم لا؟
{يَوْمَ لا يُغْنِى} بدل من يوم الفصل {مَوْلًى} ولي من قرابة وغيرها.
وبالفارسية : (دوستى وخويشتاوندى).
{عَن مَّوْلًى} ؛ أي مولى كان.
وبالفارسية : (ازدوست وخويش خود).
{شَيْـاًا} ؛ أي : شيئاً من الإغناء والإجزاء على أن شيئاً واقع موقع المصدر وتنكيره للتقليل.
ويجوز أن يكون منصوباً على المفعول به على أن يكون لا يغني بمعنى لا يدفع بعضهم عن بعض شيئاً من عذاب الله ولا يبعد.
فإن الإغناء بمعنى الدفع وإبعاد المكروه.
وبالفارسية : (جيزى را از عذاب مايا سود نرسد كس كسى راهيج جيز).
وتنكير مولى في الموضعين للإبهام ، فإن المولى مشترك بين معان كثيرة يطلق على المالك والعبد والمعتق والصاحب والقريب كابن العم ونحوه.
والجار والحليف والابن والعم والنزيل والشريك ، وابن الأخت والولي والرب والناصر والمنعم والمنعم عليه ، والمحب والتابع والصهر.
كما في "القاموس" : وكل من ولي أمر واحد فهو وليه ومولاه ، فواحد من هؤلاء ؛ أي واحد كان لا يغني عن مولاه ؛ أي مولى كان شيئاً من الإغناء ؛ أي : إغناء قليلاً ، وإذا لم ينفع بعض الموالي بعضاً ولم يغن عنه شيئاً من العذاب بشفاعته كان عدم حصول ذلك ممن سواهم أولى.
وهذا في حق الكفار يقال : أغنى عنه كذا إذا كفاه.
والإغناء بالفارسية : (بى نياز كردانيدن وواداشتن
424
كسى را از كسى).
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} : الضمير لمولى الأول باعتبار المعنى : لأنه عام لوقوعه نكرة في سياق النفي ، فكأنه جمع ؛ أي : لا يمنعون مما نزل بهم من العذاب ولا يملكون أن يشفع لهم غيرهم.
{إِلا مَن رَّحِمَ اللَّهُ} بالعفو عنه وقبول الشفاعة في حقه ، وهم المؤمنون ومحله الرفع على البدل من الواو كما هو المختار ، أو النصب على الاستثناء.
{إِنَّه هُوَ الْعَزِيزُ} الذي لا ينصر من أراد تعذيبه كالكفار.
{الرَّحِيمُ} : لمن أراد أن يرحمه كالمؤمنين.
قال سهل : من رحم الله عليه في السوابق ، فأدركته في العاقبة بركة تلك الرحمة حيث جعل المؤمنين بعضهم في بعض شفيعاً.
وفي الآية إشارة إلى أن يوم القيامة يفصل بين أرباب الصفاء ، وأصحاب الصدأ ولا يغني مولى عن مولى ولا ناصر عن ناصر ، ولا حميم عن حميم ، ولا نسيب عن نسيب ، ولا شيخ عن مريد شيئاً من الصفاء إذ لم يحصلوا ها هنا في دار العمل ، ولا ينظرون في تحصيل الصفاء ، ودفع الصدأ إلا من رحم الله عليه بتوفيق تصفية القلب في الدنيا ، كما قال تعالى : {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء : 89) ، إنه هو العزيز يعز من يشاء بصفاء القلب الرحيم ، يرحم من يشاء بالتجلي لمرآة قلبه.
حكي : أنه كان أخوان فمات أحدهما فرآه الآخر في المنام ، وسأله عن حاله ، فقال : يا أخي من كان في الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى ، فكان هذا سبب توبته وإنابته حتى كان من الصلحاء الكاملين.
واعلم أن المقصود من العلم والعمل تزكية النفس ، فإذا حصلت هذه التزكية كان ثواب العمل الصالح كاللباس الفاخر على البدن الحسن الناضر ، وإذا لم تحصل كان كالزينة على الجسم القبيح ، فمن حسن ذاته في الدنيا بإزالة قبح نفسه جاء في القيامة حسناً بالحسن الذاتي والعارضي ، وإلا فبالحسن العارضي فقط ، وهو ثواب العمل ، فاعرف هذا ، فلا بد من الاجتهاد والوقت باققٍ.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
(8/328)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابا هريره را رضي الله عنه فرمودكه بر طريق أنهاش كه جون مردم بترسند ايشانرا هيج ترسى نباشد وجون مردم از آتش امان خواهند ايشان خود آمن باشند ابو هريرة كفت يا رسول الله آنها كدام اند صفت وحليت ايشان بامن بيان فرماى تا ايشانرا بشناسم مرمودكه قومى از امت من در آخر الزمان ايشانرا روز قيامت در محشر انبياء حشر كنند جون مردم بديشان نظر كنند ايشانرا بيغمبران بندارند از غايت علو مرتبت ومنزلت ايشان ناكاه من ايشانرا وكويم امت من امت من وخلايق بدانندكه ايشان بيغمبران نيستند بس مانند برق وباد بكذرند وجشمهاى مردم از انوار ايشان خيره شود ابو هريره كفت يا رسول الله مرا بعمل ايشان فرماى باشدكه بديشان ملحق شوم كفت صلى الله عليه وسلّم اى ابا هريره اين قوم طريق دشوار اختيار كردند تابدرجه انبيا رسيدند حق تعالى ايشانرا بطعام وشراب سير كردانيد وايشان كرسنكى وتشنكى اختيار كردند ولباس براى بوشيدن داد ايشان برهنكى كزبدند همه باميد رحمت ترك حلال كردند از خوف حساب بابدن خود دردنيا بودند ولكن بوى مشغول انكشتند ملائكة از اطاعت ايشان تعجب نمودند فطوبى لهم فطوبى لهم دوست ميدارم كه حق تعالى ميان من وايشان جمع كند ازان رسول الله عليه السلام كريه كرد در شوق ايشان وفرمودكه جون حق تعالى خواهد كه باهل زمين عقوبتى فرستد بديشان نظر كند عذاب را از اهل زمين بازكرداند
425
اى ابا هريره برتوبادكه طريقه ايشانرا رعايت كنى هركه طريقة انشانرا مخالفت كند درشدت حساب زحمت بيند.
روشن دلى كه لذت تجريد بافتست.
بيرون رود وخويش جو بيداشود كسى.
مى بايدش بخون جكر خورد غولها.
تا ازغبار جشم مصفا شود كسى).
{إِلا مَن رَّحِمَ اللَّه إِنَّه هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الاثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ * كَغَلْىِ الْحَمِيمِ} .
{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} : (بدرستى كه درخت زقوم يعني ميوة آن).
قال في "القاموس" : هي شجرة بجهنم وطعام أهل النار ، وفي "عين المعاني" ، شجرة في أسفل النار مرتفعة إلى أعلاها وما من دركة إلا وفيها غصن منها.
انتهى.
فتكون هي في الأسفل نظير طوبى في الأعلى.
وفي "كشف الأسرار" : شجرة الزقوم على صورة شجر الدنيا لكنها من النار والزقوم ثمرها ، وهو ما أكل بكره شديد ، وقيل : طعام ثقيل ، فهو زقوم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وفي "المفردات" : شجرة الزقوم عبارة عن أطعمة كريهة في النار ومنه استعير زقم فلان وتزقم إذا ابتلع شيئاً كريهاً.
يقول الفقير : وعلى تقدير أن يكون الزقوم بلسان البربر ، وهم : جيل بالغرب وأمة أخرى بين الحبش والزنج بمعنى الزبد والتمر ، فلعله وارد على سبيل التهكم كالتبشير في قوله : {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران : 21) ؛ لأنه تعالى وصف شجرة الزقوم بأنها تخرج في أصل الجحيم ، كما مر في الصافات فكيف يكون زبداً ، وفي "إنسان العيون" لا تسلط لجهنم على شجرة الزقوم ، فإن من قدر على خلق من يعيش في النار ويلتذ بها ، كالسمندل ، فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق بها.
وقد قال ابن سلام رضي الله عنه أنها تحيا باللهب ، كما تحيا شجرة الدنيا بالمطر ، وثمرة تلك الشجرة مر له زفرة.
انتهى.
يقول الفقير : لا حاجة إلى هذا البيان ، فإنه كما يشابه ثمر الجنة وشجرها ثمر الدنيا وشجرها وإن وقع الاشتراك في الاسم ، وكذا ثمر النار وشجرها ، فالشجرية لا تنافي النارية ، فكيف تحترق ، فما أصله النار ، فهو ناري.
والناري لا يحترق بالنار ، ولذا قيل : في إبليس أنه يعذب بالزمهرير ، وإن أمكن الاحتراق بحسب التركيب.
وقد رأيت في جزيرة قبرس حجراً يقال له : حجر القطن يدق ويطرق فينعم حتى يكون كالقطن ، فيتخذ منه المنديل فحجريته لا تنافي القطنية.
وقد مر في يس : أن الله أخرج من الشجر الأخضر ناراً.
{طَعَامُ الاثِيمِ} ؛ أي : الكثير الإثم.
والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه يعني : أنهم أجمعوا على أن المراد بقوله : {لا يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْـاًا} هم : الكفار.
وبقوله : {إِلا مَن رَّحِمَ اللَّهُ} المؤمنون.
وكذا دل عليه قوله : فيما سيأتي أن هذا ما كنتم به تمترون.
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه لا ينطلق لسانه ، فيقول : طعام اليتيم ، فقال عليه السلام : "قل طعام الفاجر" ، كما في "عين المعاني".
(8/329)
وقال في "الكواشي" عن أبي الدرداء : أنه أقرأ إنساناً طعام الأثيم ، فقال : طعام اليتيم مراراً ، فقال له : قل طعام الفاجر يا هذا.
وفي هذا دليل لمن يجوز إبدال كلمة بكلمة إذا أدت معناها ولأبي حنيفة في تجويز القراءة بالفارسية : إذا أدت المعنى بكماله قالوا : وهذه إجازة كلا إجازة ؛ لأن في كلام العرب خصوصاً في القرآن المعجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعنى ما لا يستقل بأدائه لغة ما قال الزمخشري أبو حنيفة ما كان يحسن الفارسية ، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر ، وعن أبي الجعد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قول صاحبيه في عدم جواز القراءة بالفارسية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
إلى هناك كلام "الكواشي".
وقال في "فتح الرحمن" : يجوز عند أبي حنيفة أن يقرأ بالفارسية إذا أدت المعاني بكمالها من غير أن يخرم منها شيئاً.
وعنه : لا تجوز القراءة بالفارسية
426
إلا لعاجز عن العربية ، وهو قول صاحبيه وعليه الاعتماد.
وعند الثلاثة لا يجوز بغير العربية.
انتهى.
ويروى رجوعه إلى قولهما في الأصح ، كما في الفقه والفتوى على قولهما ، كما في "عيون الحقائق".
وجاء من أحسن أن يتكلم بالعربية ، فلا يتكلم بالفارسية.
فإنه يورث النفاق ، كما في "إنسان العيون".
يقول الفقير : بطلان القراءة بالفارسية ظاهر على تقدير أن يكون كل من النظم.
والمعنى : ركناً للقرآن ، كما عليه الجمهور ولعل الإمام لم يجعل النظم ركناً لازماً في الصلاة عند العجز ، فأقام العبارة الفارسية مقام النظم ، كما أن بعضهم لم يجعل الإقرار باللسان ركناً من الإيمان ، بل شرطاً لازماً لإجراء أحكام المسلمين عليه ، وإن اعترض بأن تحت كل حرف من القرآن ما لا تفي به العبارة من الإشارات ، فلا تقوم لغة مقامه ، فيرد بأن علماء أصول الحديث جوزوا اختصارالحديث للعالم لا للجاهل مع أنه عليه السلام أوتي جوامع الكلم ، وفي كل كلمة من كلامه أسرار ورموز ، فاعرف هذا.
{كَالْمُهْلِ} : خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : هو كالمهل عن النبي عليه السلام في تفسير المهل كعكر الزيت ، وهو درديه فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه وشبه بالمهل في كونه غليظاً أسود.
وقال بعضهم : المهل ما يمهل في النار حتى يذوب كالحديد والرصاص والصفر ونحوها وشبه الطعام بالنحاس ، أو الصفر المذاب في الذوب ونهاية الحرارة ، لا في الغليان وإنما يغلي ما شبه به.
{يَغْلِى فِى الْبُطُونِ} ؛ أي : حال كون ذلك الطعام يغلي في بطون الكفار.
{كَغَلْىِ الْحَمِيمِ} غلياناً كغليان الماء الحار الذي انتهى حره وغليانه لشدة حرارته وكراهية المعدة إياه.
قال بعضهم : (باره باره كند رودهاى ايشان وبكذارد امعا واحشارا).
وفي الحديث : "أيها الناس اتقوا الله حق تقاته ، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم ، فكيف بمن هو طعامه ، وليس له طعام غيره ، والغلي والغليان التحرك والارتفاع.
وبالفارسية : (جوشيدن).
قال في "المفردات" : الغلي والغليان ، يقال : في القدر إذا طفحت ؛ أي : امتلأت وارتفعت.
ومنه استعير ما في الآية وبه شبه غليان الغضب والحرب.
وفي الآية إشارة إلى أن الأثيم ، وهو الذي عبد صنم الهوى وغرس شجرة الحرص ، فأثمرت الشهوات النفسانية اللذيذة على مذاق النفس في الدنيا يكون طعامه في الآخرة الزقوم الذي مر وصفه :
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
نفس رابد خوبناز ونعمت دنيا مكن
آب ونان سير كاهل ميكند مذدوررا
{كَغَلْىِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِه مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ} .
{خُذُوهُ} على إرادة القول والخطاب للزبانية ؛ أي : يقال : للزبانية يوم القيامة خذوا الأثيم ، فلا يأخذونه إلا بالنواصي والأقدام.
{فَاعْتِلُوهُ} ؛ أي : جروه بالعنف والقهر ، فإن العتل الأخذ بمجامع الثوب ونحوه وجره بقهر وعنف.
قال في "تاج المصادر" : العتل : (كشيدن) بعنف.
وفي "القاموس" : عتله يعتله ويعتله ، فالعتل جره عنيفاً ، فحمله ، وهو معتل كمنبر قوي على ذلك.
{إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ} ؛ أي : وسطها ومعظمها الذي تستوي المسافة إليه من جميع جوانبه.
وبالفارسية : (وبميانه دوزخ).
{ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِه مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} .
صب الماء : إراقته من أعلى ، والعذاب ليس بمصبوب ، لأنه ليس من الأجسام المائعة ، فكان الأصل يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، فقيل : يصب من فوق رؤوسهم العذاب ، وهو الحميم للمبالغة ، ثم أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف وزيد من للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع.
وبالفارسية : آنكاه بر بزيد بر زبرسراو از عذاب آب كرم تاتمام بيرون بدن
427
او بريختن آب معذب شود جنانجه درون آو از زقوم معذبست.
(8/330)
يروى : أن الكافر إذا دخل النار يطعم الزقوم ، ثم إن خازن النار يضربه على رأسه بمقمعة يسيل منها دماغه على جسده ثم يصب الحميم فوق رأسه ، فينفذ إلى جوفه ، فيقطع الأمعاء والإحشاء ويمرق من قدميه.
وفي الآية إشارة إلى عذاب الحسرة والحرمان وحرقة الهجران في قعر النيران.
{ذُقْ} هذا العذاب المذل المهين.
{إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ} في نظرك {الْكَرِيمُ} عند قومك ؛ أي : وقولوا له ذلك استهزاء به ، وتقريعاً له على ما كان يزعمه من أنه عزيز كريم ، فمعناه : الذليل المهان.
روي : أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما بين جبلي مكة أعز وأكرم مني ، فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعل بي شيئاً" ، فوردت الآية وعيداً له ولأمثاله عجباً كيف أقيم بالله تعظيماً له ، ثم نفى الاستطاعة عنه مع أن الرسول عليه السلام كان لا يدعو رباً سواه ، فالكلام المذكور من حيرة الكفر وحكم الجهل وتعصب النفس ، كما قالوا : أمطر علينا حجارة من السماء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وفي لفظ الذوق إشارة إلى أنه كان معذباً في الدنيا ، ولكن لما كان في نوم الغفلة وكثافة الحجاب ، لم يكن ليذوق ألم العذاب ، فلما مات انتبه وذاق ألم ما ظلم به نفسه.
{إِنَّ هَـاذَا} العذاب {مَا كُنتُم بِه تَمْتَرُونَ} تشكون في الدنيا أو تمارون فيه ؛ أي : تجادلون بالباطل.
وبالفارسية : (شك مى آورديد تا اكنون معاينه بديديد).
والجمع باعتبار المعنى ؛ لأن المراد جنس الأثيم ، ثم هذا الامتراء إنما كان بوساوس الشيطان ، وهو أجس النفس ، فلا بد من دفعهما والاتصاف بصفة القلب ، وهو اليقين.
ولذا قال عليه السلام ويل للشاكين في الله ، وهم الذين لم يؤمنوا به تعالى يقيناً ، ومن ذلك إنكار بعض أحكامه وأوامره.
وكذا الإصرار على المعاصي بحيث لا يبالي بها ، فلو ترك الصلاة متعمداً ، ولم ينو القضاء ولم يخف عقاب الله ، فإنه يكفر ؛ لأن الأمن كفر.
وفي المثنوي :
بود كبرى در زمان بايزيد
كفت اورا يك مسلمان سعيد
كه جه باشد كرتو اسلام أورى
تابيابى صد نجات وسرورى
كفت اين ايمان اكرهست اي
يد آنكه وارد شيخ عالم بايزيد
من ندارم طاقت آن تاب آن
كان فزون آمد زكو ششهاى جان
كرجه درايمان ودين ناموقنم
ليك در ايمان او بس مؤمنم
مؤمن ايمان اويم درنهان
كرجه مهرم هست محكم دردهان
باز ايمان كرخود ايمان شماست
نى بدان ميلستم ونى مشتهاست
آنكه صد ميلش سوى ايمان بود
جون شمارا ديدزان فاتر شود
زانكه نامى بيند ومغيش نى
جون بيابانرا مفازه كفتنى
وفيه إشارة إلى أن المريد إذا كان قوي الإيمان والعلم والمعرفة كان عمله واجتهاده في الظاهر بقدر ذلك وقس عليه حال الضعيف والشاك والمتردد نسأل الله سبحانه أن يسقينا من كأس قوة اليقين إنه هو المفيض المعين.
{إِنَّ هَـاذَا مَا كُنتُم بِه تَمْتَرُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ * فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَـابِلِينَ} .
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ} ؛ أي : عن الكفر والمعاصي ، وهم المؤمنون المطيعون.
{فِى مَقَامٍ} في موضع قيام.
والمراد : المكان على الإطلاق ، فإنه من الخاص الذي شاع استعماله في معنى العموم ، يعني : أنه عام ومستعمل في جميع الأمكنة حتى قيل لموضع القعود مقام ، وإن لم يقم فيه أصلاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{أَمِينٌ} يأمن صاحبه الآفات والانتقال عنه على أن وصف المقام بالأمن من المجاز في الإسناد ، كما في قولهم : جرى النهر فالأمن ضد الخوف والأمين ، بمعنى : ذي الأمن.
وأشار الزمخشري إلى وجه آخر ، وهو أن الأمين من
428
الأمانة التي هي ضد الخيانة ، وهي في الحقيقة صفة صاحب المكان ، لكن وصف به المكان بطريق الاستعارة التخييلية ؛ كأن المكان المخيف يحزن صاحبه ونازله بما يلقي فيه من المكاره ، أو كناية ؛ لأن الوصف إذا أثبت في مكان الرجل فقد أثبت له لقولهم : المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه كما في "بحر العلوم".
وفي الآية إشارة إلى أن من اتقى الله عما سواه يكون مقامه مقام الوحدة آمناً من خوف الاثنينية ، وإلى أن من كان في الدنيا على خوف العذاب ووجل الفراق كان في الآخرة على أمن وأمان.
وقال بعضهم : المقام الأمين مجالسة الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء.
يقول الفقير : أما مجالستهم يوم الحشر ، فظاهرة ؛ لأن فيها الأمن من الوقوع في العذاب إذ هم شفعاء عند الله ، وأما مجالستهم في الدنيا فلأن فيها الأمن من الشقاوة إذ لا يشقى بهم جليسهم.
وفي الآية إشارة أخرى لائحة للبال ، وهي أن المقام الأمين هو مقام القلب ، وهي جنة الوصلة ، ومن دخله كان آمناً من شر الوسواس الخناس ؛ لأنه لا يدخل الكعبة التي هي إشارة إلى مقام الذات ، كما لا يقدر على الوسوسة حال السجدة التي هي إشارة إلى الفناء في الذات الأحدية.
قال أهل السنة : كل من اتقى الشرك صدق عليه أنه متق ، فيدخل الفساق في هذا الوعد.
(8/331)
يقول الفقير : الظاهر أن المطلق مصروف على الكامل بقرينة أن المقام مقام الامتنان والكامل هو المؤمن المطيع كما أشرنا إليه في عنوان الآية ، نعم يدخل العصاة فيه انتهاء وتبعية لا ابتداء وأصالة ، كما يدل عليه الوعيد الوارد في حقهم ، وإلا لاستوى المطيع والعاصي.
وقد قال تعالى : {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص : 28) عفا الله عنا وعنكم أجمعين.
قال الشيخ سعدي :
كسى را كه باخواجة تست جنك
بدستش جرا مى دهي جوب وسنك
مع آخر كه باشد كه خوانش نهند
بفرماى تا استخوانش نهند
{فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ} : بدل من مقام جيء به دلالة على نزاهته واشتماله على طيبات المآكل والمشارب.
والمراد بالعيون : الأنهار الجارية والتنكير فيهما للتعظيم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} : خبر ثاننٍ.
وإستبرق بقطع الهمزة.
وقرأ الخليل بوصلها.
قال في "كشف الأسرار" : السندس : ما رق من الحرير يجري مجرى الشعار لهم ، وهو اللين من الدثار في المعتاد والإستبرق ما غلظ منه ، وصفق نسجه يجري مجرى الدثار ، وهو أرفع نوع من أنواع الحرير ، والحرير نوعان : نوع كلما كان أرق أنفس ، ونوع كلما كان أرزن بكثرة الإبريسم كان أنفس.
يقول الفقير : يحتمل عندي أن يكون السندس لباس المقربين.
والإستبرق لباس الأبرار يدل عليه أن شراب المقربين هو التسنيم الخالص وشراب الأبرار هو الرحيق الممزوج به.
وذلك أن المقربين أهل الذات والأبرار أهل الصفات ، فكما أن الذات أرق من الصفات ، فكذا لباس أهل الذات وشرابهم أرق وأصفى من لباس أهل الصفات وشرابهم ، ثم لإن الإستبرق من كلام العجم عرب بالقاف.
قال في "القاموس" : الإستبرق الديباج الغليظ معرب استروه وتصغيره أبيرق وستبر بالتاء والطاء ، بمعنى : الغليظ.
بالفارسية.
قال الجواليقي في "المعربات" : نقل الإستبرق من العجمية إلى العربية ، فلو حقر ، أو كسر لكان في التحقير أبيرق ، وبالتكسير أباريق بحذف السين والتاء جميعاً.
انتهى.
والتعريب : جعل العجمي بحيث يوافق اللفظ العربي بتغييره عن منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب.
وجاز وقوع اللفظ العجمي في القرآن العربي ؛ لأنه إذا عرب خرج من أن يكون عجمياً إذا
429
كان متصرفاً تصرف اللفظ العربي من غير فرق ، فمن قال القرآن أعجمي يكفر ؛ لأنه معارضة لقوله تعالى قرآناً عربياً ، وإذا قال : فيه كلمة أعجمية ، ففي أمره نظر ؛ لأنه إن أراد وقوع الأعجمي فيه بتعريب ، فصحيح وإن بلا تعريب فغلط.
{مُّتَقَـابِلِينَ} ؛ أي : حال كونهم متقابلين في المجالس ليستأنس بعضهم ببعض.
ومعنى متقابلين متواجهين لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرة بهم فهم أتم للأنس.
(ودر تفسير سور آبادى أورده كه اين مقابله روز مهمانى باشد در دار الجلال كه حق تعالى همه مؤمنا نرا بر سريك خوان بنشاند وهمه رويهاى يكديكر بينند).
وقال بعضهم : متقابلين بالمحبة غير متدابرين بالبغض والحسد ؛ لأن الله ينزع من صدورهم الغل وقت دخولهم الجنة.
وهذا التقابل من أوصاف أهل الله في الدارين فطوبى لهم حيث أنهم في الجنة وهم في الدنيا.
{يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَـابِلِينَ * كَذَالِكَ وَزَوَّجْنَـاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَـاكِهَةٍ ءَامِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
{كَذَالِكَ} ؛ أي : الأمر كذلك أو أثبناهم إثابة مثل ذلك.
{وَزَوَّجْنَـاهُم بِحُورٍ عِينٍ} ؛ أي : قرناهم بهن.
وبالفارسية : (وقرين مى سازيم متقيانرا بزنان سفيد روى كشاده جشم).
فيتمتعون تارة بمؤانسة الإخوان ومقابلتهم وتارة بملاعبة النسوان من الحور العين ومزاوجتهن ، فليس المعنى حصول عقد التزويج بينهم وبين الحور ، فإن التزويج بمعنى العقد لا يتعدى بالباء ، كما جاء في التنزيل ، {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَـاكَهَا} (الأحزاب : 37) ، وإذا لم يكن المراد عقد التزويج.
يقال : زوجناك بها بمعنى كنت فرداً فقرناك بها ؛ أي : جعلناك شفعاً بها ، والله تعالى جعلهم اثنين ذكراً وأنثى.
وقال في "المفردات" : لم يجىء في القرآن زوجناهم حوراً ، كما يقال : زوجته بامرأة تنبيهاً على أن ذلك لم يكن على حسب التعارف فيما بيننا من المناكح.
قال سعدي المفتي : ثم لا يكون العقد في الجنة ؛ لأن فائدته الحل.
والجنة ليست بدار كلفة من تحريم ، أو تحليل ، انتهى.
(8/332)
يقول الفقير : يرد عليه أن الله تعالى جعل مهر حواء في الجنة عشر صلوات على نبينا عليه السلام ، وهو لا يتعين بدون العقد إلا أن يقال : ذلك العقد إن صح ليس كالعقد المعهود ، وإنما المقصود منه تعظيم نبينا عليه السلام وتعريفه لا التحليل وجعل عنوان الأمر ماهو في صورة المهر ليسري في أنكحة أولادهما.
والظاهر أن المعاملة فيما بين آدم وحواء عليهما السلام في الجنة كانت من قبيل المؤانسة ، ولم يكن بينهما مجامعة ، كما في الدنيا ، وإن ذهب البعض إلى القربان في الجنة مستدلاً بقول قابيل : أنا من أولاد الجنة ، وذلك مطعون.
قال الشيخ الشهير بافتاده البرسوي : الشريعة لا ترتفع أبداً حتى أن بعض الأحكام يجري في الآخرة أيضاً مع أنها ليست دار التكليف ألا ترى أن كل واحد من أهل الجنة لا يتصرف إلا فيما عين له من قبل ، ولذلك قال الله تعالى : {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ} (الرحمن : 72) ، ولأهل الجنة بيوت الضيافة يعملون فيها للضيافة للأحباب ، ويتنعمون.
ولكن أهليهم لا يظهرون لغير المحارم كما في "واقعات" الهدائي قدس سره.
ثم الحور جميع الحوراء ، وهي البيضاء والعين جميع العيناء ، وهي العظيمة العينين.
فالحور هي النساء النقيات البيض يحار فيهن الطرف لبياضهن وصفاء لونهن واسعة الأعين حسانها أو الشديدات بياض الأعين الشديدات سوادها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
قال في "القاموس" : الحور بالتحريك أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها وتستدير حدقها وترق جفونها ويبيض ما حواليها ، أو شدة بياضها وسوادها في شدة بياض الجسد أو اسوداد العين كلها مثل الظباء.
ولا يكون في بني آدم ، بل يستعار لهم.
انتهى.
وفي "المفردات" : قليل ظهور
430
قليل من البياض في العين من بين السواد وذلك نهاية الحسن من البين.
واختلف في أنهن نساء الدنيا أو غيرهن ، فقال الحسن : أنهن من نساء الدنيا ينشئهن الله خلقاً آخر.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه : أنهن لسن من نساء الدنيا.
{يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَـاكِهَةٍ} ؛ أي : يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهونه من الفواكه لا يتخصص شيء منها بمكان ولا زمان.
وذلك لا يجتمع في الدنيا ، يعني : أن فواكه الدنيا لا توجد في كل مكان ولها أزمنة مخصوصة لا تستقدمها ولا تستأخرها {ءَامِنِينَ} أي : حال كونهم آمنين من كل ما يسؤوهم أياً كان خصوصاً الزوال والانقطاع وتولد الضرر من الإكثار وحجاب القلب ، كما يكون في الدنيا ، فيكونون في الصورة مشغولين بالحور العين وبما يشتهون من النعيم ، وبالقلوب متوجهين إلى الحضرة مشاهدين لها.
{لا يَذُوقُونَ فِيهَا} ؛ أي : في الجنات.
{الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الاولَى} الموت والموتة : مصدران من فعل واحد كالنفخ والنفخة إلا أن الموتة أخص من الموت ؛ لأن الموتة للوحدة ، والموت للجنس ، فيكون بعضاً من جنس الموت ، وهو فرد واحد ونفي الوحدة أبلغ من نفي الجنس ، فكانت أقوى وأنفى في نفي الموت عن أنفسهم ؛ كأنه قال : لا يذوقون فيها شيئاً من الموت.
يعني : أقل ما ينطلق عليه اسم الموت ، كما في "بحر العلوم)" ، والاستثناء منقطع ؛ أي : لا يذوقون الموت في الجنة لكن الموتة الأولى قد ذاقوها قبل دخول الجنة.
يعني : (مرك اول كه دردنيا جشيدند مؤمنا نرامرك آنست).
ثم إذا بعثوا ودخلوا الجنة يستمرون على الحياة : (جون معهود نزديك مردمان آنست كه هر زندكى را مرك دربى است حق تعالى خبرا دادكه حيات بهشت را مرك نيست بلكه حيات اوجاود انست).
فعيشتهم المرضية مقارنة للحياة الأبدية بخلاف أهل النار ، فإنه لا عيشة لهم ، وكذا لا يموتون فيها ، ولا يحيون.
ويقال : ليس في الجنة عشرة أشياء ليس فيها هرم ولا نوم ولا موت ولا خوف ولا ليل ولا نهار ولا ظلمة ولا حر ولا برد ولا خروج.
ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً على أن المراد بيان استحالة ذوق الموت فيها على الإطلاق ؛ كأنه قيل : لا يذوقون فيها الموتة إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل ، وذوق الماضي غير ممكن في المستقبل لا سيما في الجنة التي هي دار الحياة ، فهذا من باب التعليق بالمحال ، كقوله تعالى : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء : 22).
والمقصود أنهم لا يذوقون فيها الموت البتة ، وكذا لا ينكحون منكوحات آبائهم قطعاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وقيل : إلا بمعنى بعد أو بمعنى سوى ؛ فإن قلت : هذا دليل على نفي الحياة والموت في القبر.
قلت : أراد به جنس الموت المتعارف المعهود فيما بين الخلق ، فإن الموت المعهود لا يعرى عن الغصص ، والموت بعد الإحياء في القبر يكون أخف من الموت المعهود ، كما في "الأسئلة المقحمة".
يقول الفقير : دلت الآية على أن الموت وجودي ؛ لأنه تعلق به الذوق ، وهو الإحساس به إحساس الذائق المطعوم.
والأكثرون على أنه عدمي ؛ أي : معدوم في الخارج غير قائم بالميت ؛ لأن المعدوم لا يحتاج إلى المحل ، وسيجيء تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.
(8/333)
وفي الآية إشارة إلى أنهم لا يذوقون فيها موت النفس بسيف المجاهدة ، وقمع الهوى وترك الشهوات إلا الموتة الأولى في الدنيا بقتل النفس بسيف الصدق في الجهاد الأكبر ، وكما أن السيف لا يجري على المعدوم ، فكذا على النفس الفانية إذ لا يموت الإنسان مرتين ، وأيضاً : إن الموتة الأولى هي العدم قبل الوجود فبعد الوجود لا يذوق أحد الموت.
والعدم المحض ؛
431
لأن الله تعالى قد وهب له الوجود ، فلا يرجع عن هبته ؛ فإنه غني وما ورد من أن الحيوانات العجم تصير تراباً يوم القيامة حتى يتمنى الكافر أن يكون مثلها ، فذلك ليس بإعدام محض ، بل إلحاق بتراب أرض الآخرة.
ويجوز أن يقال : أن وجودات الأشياء الخسيسة لا اعتبار لها ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{وَوَقَـاـاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} : الوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره ؛ أي : حفظهم من النار وصرفها عنهم.
وبالفارسية : (ونكاه ميدارد حق تعالى بهشتيانرا واز ايشان دفع ميكند عذاب دوزخ).
وفيه إشارة إلى عذاب البعد وجحيم الهجران.
{لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الاولَى وَوَقَـاـاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلا مِّن رَّبِّكَا ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ} .
{فَضْلا مِّن رَّبِّكَ} منصوب بمقدر على المصدرية أو الحالية ؛ أي : أعطي المتقون ما ذكر من نعيم الجنة والنجاة من عذاب الجحيم عطاء وتفضلاً منه تعالى لا جزاء للأعمال المعلولة واحتج أهل السنة بهذه الآية على أن كل ما وصل إليه العبد من الخلاص من النار ، والفوز بالجنة ونعيمها ، فإنما يحصل بفضل الله وإحسانه ؛ وأنه لا يجب عليه شيء من ذلك ، ففي إثبات الفضل نفي الاستحقاق ، فجميع الكرامات فضل منه على المتقين حيث اختارهم بها في الأول وأخرجها من علل الاكتساب ، فإن الاكتساب أيضاً ، فضل إذ لو لم يخلق القدرة على كسب الكمالات وتحصيل الكرامات لما وجد العبد إليه سبيلاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
وفي الحديث : "لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ولا أنا إلا برحمة " ؛ أي : ولا أنا أدخل الجنة بعمل إلا برحمة الله.
وليس المراد به توهين أمر العمل ، بل نفي الاغترار به وبيان أنه إنما يتم بفضل الله ، فإن ابن الملك في الحديث دلالة على مذهب أهل السنة وحجة على المعتزلة حيث اعتقدوا أن دخولها إنما يحصل بالعمل ، وأما قوله تعالى : {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل : 32) ونظائره ، فلا ينافي الحديث ؛ لأن الآية تدل على سببية العمل والمنفي في الحديث عليته وإيجابه ، انتهى.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : الأظهر في مواقع النجوم : الدخول برحمة الله وقسمة الدرجات بالأعمال والخلود بالنيات ، فهذه ثلاثة مقامات ، وكذلك في دار الشقاوة دخول أهلها فيها بعدل الله وطبقات عذابها بالأعمال وخلودهم بالنيات ، وأصل ما استوجبوا به هذا العذاب المؤبد المخالفة ، كما كانت في السعادة الموافقة ، وكذلك من دخل من العاصين النار لولا المخالفة لما عذبهم الله شرعاً نسأل الله لنا وللمسلمين أن يستعملنا بصالح الأعمال ويرزقنا الحياء منه تعالى.
{ذَالِكَ} : (آن صرف عذاب وحيات ابدى دربهشت).
{هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز وراءه ، إذ هو خالص من جميع المكاره ، ونيل لكل المطالب والفوز الظفر مع حصول السلامة ، كما في "المفردات".
يقول الفقير : لما كان الموت وسيلة لهذا الفوز وباباً له ورد الموت تحفة المؤمن.
والموت وإن كان من وجه هلكاً ، فمن وجه فوز ، ولذلك قيل : ما أحد إلا والموت خير له أما المؤمن ، فإنما كان الموت خيراً له ؛ لأنه يتخلص به من السجن ويصل إلى النعيم المقيم في روضات الجنات ، وأما المعاصي فلأن الإمهال في الدنيا سبب لازدياد المعاصي والإثم ، كما قال تعالى : {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} (آل عمران : 178) ، وهو سبب لازدياد العذاب.
قال الشيخ سعدي :
نكو كفت لقمان كه نازيستن
به از سالها بر خطا زيستن
هم از با مدادان در كلبه بست
به از سود وسرماية دادن زدست
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـاهُ بِلِسَانِكَ} : فذلكة للسورة الكريمة ونتيجة لها ، واللسان آلة التكلم في الأصل ، واستعير هنا لمعنى اللغة ، كما في قوله عليه السلام : "لسان أهل الجاهلية
432
العربية".
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
والمعنى : إنما سهلنا الكتاب المبين حيث أنزلناه بلغتك.
{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} كي يفهمه قومك ويتذكروا ويعملوا بموجبه وإذا لم يفعلوا ذلك.
{فَارْتَقِبْ} فانتظر لما يحل بهم من المقادير ، فإن في رؤيتها عبرة للعارفين وموعظة للمتقين.
{إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ} منتظرون لما يحل بك من الدوائر ، ولم يضرك ذلك ، فعن قريب يتحقق أملك وتخيب آمالهم.
(8/334)
يعني : (ازان تو نصرت هرزمان الهى خواهد بود وازان ايشان عذاب نامتناهى دوستان را هردم فتحى تازه وخصمان را هرزمان رنجى آبى اندازه.
تابعانرا وعده حسن المآب.
منكر انرا هيبت ذوقوا العذاب).
وفي "عين المعاني" : أو فارتقب الثواب ؛ فإنهم كالمرتقبين العقاب ؛ لأن المسيء ينتظر عاقبة الإساءة وعلى كلا التقديرين ، فمفعول الارتقاب محذوف في الموضعين.
وفي الآية فوائد منها : أنه تعالى بين تيسير القرآن.
والتيسير ضد التعسير.
وقد قال في آية أخرى {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} (المزمل : 5) ، فبينهما تعارض.
والجواب : هو ميسر باللسان وثقيل من حيث اشتماله على التكاليف الشاقة على المكلفين.
ولا شك أن التلاوة باللسان أخف من العمل ، ولهذا جاء في بعض اللطائف أنه مرض ابن لبعض العلماء ، فقيل له : اذبح قرباناً لعل الله يشفي ولدك ، فقال : بل أقرأ قرآناً ، فقال بعض العرفاء : إنما أختار القرآن ؛ لأنه في لسانه وأعرض عن القربان لكونه في جنانه ؛ لأن حب المال مركوز في القلب ، ففي إخراجه منه صعوبة.
ومنها : أنه تعالى قال بلسسانك ، فأشار إلى أنه لو أسمعهم كلامه بغير الواسطة لماتوا جميعاً لعدم تحملهم.
قال جعفر الصادق رضي الله عنه : لولا تيسيره لما قدر أحد من خلقه أن يتلفظ بحرف من القرآن وأنى لهم ذلك ، وهو كلام من لم يزل ولا يزال.
وقال ابن عطاء : يسر ذكره على لسان من شاء من عباده ، فلا يفتر عن ذكره بحال ، وأغلق باب الذكر على من شاء من عباده ، فلا يستطيع بحال أن يذكره.
ومنها : أن بعض المعتزلة استدل بقوله لعلهم يتذكرون على أنه أراد من لكل الإيمان ، ولم يرد من أحد الكفر وأجيب بأن الضمير في لعلهم إلى أقوام مخصوصين ، وهم المؤمنون في علم الله تعالى.
يقول الفقير : في هذا الجواب نظر ؛ لأن ما بعد الآية يخالفه ، فإنهم لو كانوا مؤمنين في علم الله لآمنوا ، ولما أمر عليه السلام بانتظار الهلاك في حقهم ، فالوجه أن يكون لعلهم يتذكرون علة بمعنى طلب أن يفهمه قومك ، فيتذكروا به ، أو لكي يتذكروا ويتعظوا به فيفوا بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم وتفسيره بالإرادة ، كما فعله أهل الاعتزال خطأ ؛ لأن الإرادة تستلزم المراد لا محالة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 400
ومنها : أن انتظار الفرج عبادة على ما جاء في الحديث ؛ لأنه من الإيمان وجاء في فضيلة السورة الكريمة آثار صحيحة.
قال عليه السلام : "من قرأ {حم} الدخان ليلة الجمعة أصبح مغفوراً له" ؛ أي : دخل في الصباح حال كونه مغفوراً له ، فأصبح فعل تام بمعنى دخل في الصباح ؛ لأنه لو جعل ناقصاً يكون المعنى حصل غفرانه وقت الصباح ، وليس المراد ذلك نعم لا يظهر المنع عن جعله بمعنى صار ، وعنه عليه السلام "من قرأ الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك".
وهذان الحديثان رواهما أبو هريرة رضي الله عنه.
والأول أخرجه الترمذي ، وقال أبو أمامة : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : "من قرأ {حم} {حم} ليلة الجمعة ، أو يوم الجمعة بنى الله له بيتاً في الجنة" ، كما في "كشف الأسرار" و"بحر العلوم" ، وإسناد البناء إلى الله مجاز ؛ أي : يأمر الملائكة بأن يبنوا له في الجنة بثواب القراءة بيتاً عظيماً
433
عالياً من در وياقوت ، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
يقول الفقير : لما كان أصل البيت مأوى الإنسان بالليل ، وكان إحياء الليل الذي فيه ترك البيتوتة غالباً ، بمثل التلاوة جعل بناء البيت جزاء للقراءة الواقعة في الليلة المبنية على ترك البيتوتة ليكون الجزاء من جنس العمل وحمل النهار عليه ، فافهم جداً ، والله الموفق لمرضاته وتلاوة آياته وللعمل بحقائق بيناته ، وهو المعين لأهل عناياته.
تمت سورة الدخان بعون الملك المنان في خامس شعبان من الشهور المنتظمة في سلك سنة ثلاث عشرة ومائة وألف.
سورة الجاثية سبع أو ست وثلاثون آية مكية.
والاختلاف في {حم} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 400(8/335)
سورة الجاثية
جزء : 8 رقم الصفحة : 433
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
{حم} ؛ أي : هذه السورة مسماة بـ{حم} .
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بالحاء إلى حياته ، وبالميم إلى مودته كائن ، قال بحياتي ومودتي لأوليائي لا شيء إليَّ أحب من لقاء أحبائي ولا أعز ولا أحب على أحبابي من لقائي.
وفي "عرائس البقلي" : الحاء يدل على أن في بحر حياته حارت الأرواح ، والميم تدل على أن في ميادين محبته هامت الأسرار.
يقول الفقير : الحاء إشارة إلى الحب الأزلي المتقدم.
ولذا قدمه ، والميم إشارة إلى المعرفة الأبدية المتأخرة ، ولذا أخره ، كما دل عليه قوله تعالى لداود عليه السلام : "كنت كنزاً مخفياً ، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف" ، فإن المحبة في هذا الحديث القدسي متقدمة على المعرفة.
وذلك نزولاً وبالعكس عروجاً ، كما لا يخفى على أهل الذوق.
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ} ؛ أي : القرآن المشتمل على السور مطلقاً خصوصاً هذه السورة الجليلة ، وهو مبتدأ خبره قوله : {مِنَ اللَّهِ} فدل على أنه ؛ أي : القرآن حق وصدق.
{الْعَزِيزُ} فدل على أنه معجز غالب غير مغلوب {الْحَكِيمُ} فدل على أنه مشتمل على حكم بالغة وعلى أنه يحكم في نفسه بنسخ ولا ينسخ ، فليس كما يزعم المبطلون من أنه شعراً أو كهانة ، أو تقول من عنده ممكن معارضته ، وأنه كأساطير الأولين مثل حديث رستم وإسنفديار وغيرهما ، فيجب أن يعرف قدره وأن يكون الإنسان مملوءاً به صدره أبو بكر شبلي قدس سره : (ببازار بغداد بركذشت باره كاغد ديدكه نام دوست بروى رقم بود ودرزير اقدام خلق افتاده شبلي جون آنرا ديد اضطرابي بردل واعضاى وى افتاد آن رقعة برداشت وببوسيد وآنرا معطر ومعنبر كرد وباخود داشت كاه برسينه نهادى ظلمت غفلت بزدودى وكاه برديده نهادى نور جشم بيفزودى تاآن روزكه بقصد بيت الله الحرام از بغداد بيرون آمد روى بباديه نهادآن رقعه دردست كرفته وآنرا بدرقه روزكار خود ساخته درباديه جوانى راديد فريد وغريب بى زاد وراحله از خاك بستر كرده واز سنك بالين ساخنه سرشك از جشم او روان شده وديده در هوا نهاده شبلي بر بالين وى نشت وآن كاغد بيش ديده او داشت كفت اى جوان برين عهد هستى جوان روى بكردانيد شبلي كفت انامكر اندرين سكرات وغمرات حال اين جوانرا تبديل خواهد شد جوان باز نكريست وكفت اى شبلى دائماً در غلطى آنجه تو دركاغد مى بينى وميخوانى مادر صحيفة دل مى بينيم
434
ومى خوانيم).
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
يقول الفقير :
سر عشق يار من مخفى بود درجان من
كس نداند سر جانم رابجز جانان من
{إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} ؛ أي : في خلقهما وخلق ما فيهما من آثار القدرة كالكواكب والجبال والبحار ونحوها.
{لايَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} لشواهد الربوبية لأهل التصديق وأدلة الإلهية ، لأهل التوفيق خص المؤمنين بالذكر لانتفاعهم بتلك الآيات والدلالات ، فإنهم يستدلون بالمخلوق على الخالق ، وبالمصنوع على الصانع فيوحدونه ، وهو أول الباب ولذا قدم الإيمان على الإيقان ، ولعل الوجه في طي ذكر المضاف هنا ، وهو الخلق وإثباته في الآية الآتية أن خلق السماوات والأرض ليس بمشهود للخلق ، وإن كانتا مخلوقتين ، كما قال تعالى : {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} (الكهف : 51) بخلاف خلق الإنسان ، وما يلحق به من خلق سائر الدواب ، فإنه كما أنه يستدل بخلقه على خالقه ، فكذا يشاهد خلقه وتوالده ، فتكون المخلوقية فيه أظهر من الأول.
هكذا لاح بالبال والله أعلم بحقيقة الحال ، وهنا كلام آخر سيأتي.
{وَفِى خَلْقِكُمْ} ؛ أي : من نطفة ، ثم من علقة متقلبة في أطوار مخالفة إلى تمام الخلق.
{وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ} عطف على المضاف دون المضاف إليه ، وإلا يكون عطفاً على بعض الكلمة إذ المضاف والمضاف إليه ، كشيء واحد كالجار والمجرور.
قال سعدي المفتي رحمه الله : العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار منعه سيبويه وجمهور البصريين ، وأجازه الكوفيون ويونس والأخفش.
قال أبو حيان : واختاره الشلوبين ، وهو الصحيح ، وفصل بعض النحويين ، فأجاز العطف على المجرور بالإضافة دون الحرف.
انتهى.
والمعنى : وفي خلق ما ينشره الله تعالى ويفرقه من دابة ، وهي كل ما يدب على وجه الأرض من الحيوان مع اختلاف صورها وأشكالها وكثرة أنواعها وأضمر ذكر الله لقرب العهد منه بخلافه ، في وما أنزل الله كما سيأتي.
{ءَايَاتُ} بالرفع على أنه مبتدأ خبره الظرف المقدم والجملة معطوفة على ما قبلها من الجملة المصدرة بأن {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ؛ أي : من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه.
واليقين علم فوق المعرفة والدراية ونحوهما وبينه وبين الإيمان فروق كثيرة ، وحقيقة الإيمان هو اليقين حين باشر الأسرار بظهور الأنوار.
ألا ترى كيف سأل عليه السلام بقوله : "اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً ليس بعده كفر".
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
يقول الفقير : لم يقل للموقنين كما قال للمؤمنين إشارة إلى قلة هذا الفريق بالنسبة إلى الأول ، وخص الإيقان بخلق الأنفس ؛ لأن ما قبله من الإيمان بالآفاق ، وهو ما خرج عنك ، وهذا من الإيمان بالأنفس ، وهو ما دخل فيك ، وهذا أخص درجات الإيمان ، فإنه إذا كمل الإيمان في مرتبة الآفاق بترقي العبد إلى المشاهدة في مرتبة الأنفس ، فكمال اليقين إنما هو في هذه المرتبة ، لا في تلك المرتبة ؛ لأن العلم بما دخل فيك أقوى منه ، بما خرج عنك إذ لا يكذبه شيء ، ولذا جاء العلم الضروري أشد من العلم الاستدلالي وضم خلق الدواب إلى خلق الإنسان لاشتراك الكل في معنى الجنس ، فافهم جداً واقنع.(8/336)
وفي "التأويلات النجمية" : إن العبد إذا أمعن نظره في حسن استعداده ظاهراً وباطناً وأنه خلق في أحسن تقويم ورأى استواء قده وقامته وحسن صورته وسيرته واستكمال عقله وتمام تمييزه ، وما هو مخصوص به في جوارحه وجوانحه ، ثم تفكر فيما عداه من الدواب وأجزائها وأعضائها وأوصافها وطباعها وقف على اختصاص وامتياز بني آدم بين البرية من الجن في الفهم والعقل والتمييز ، ثم
435
في الإيمان ، ومن الملائكة في حمل الأمانة ، وتعلم علم الأسماء ووجوه خصائص أهل الصفوة من المكاشفات والمشاهدات والمعاينات.
وأنواع التجليات ، وما صار به الإنسان خليفة ومسجود الملائكة المقربين وعرف تخصيصهم بمناقبهم وانفرادهم بفضائلهم فاستيقن أن الله كرمهم ، وعلى كثير من المخلوقات فضلهم ، وأنهم محمولو العناية في بر الملك وبحر الملكوت.
قال الصائب :
اى رزانه فلك زوجودت عيان همه
در دامن تو حاصل دريا وكان همه
اسرار جار دفتر ومضمون نه كتاب
در نقطة تو ساخته ايزد نهان همه
قدوسيان بحكم خداوند امر ونهي
بيش توسركذاشته برآستان همه
روحانيان براى تماشاى جلوه ات
جون كودكان برآمده برآسمان همه
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ} .
{إِنَّ فِى خَلْقِ} ؛ أي : وفي اختلافهما بتعاقبهما أو بتفاوتهما طولاً وقصراً أو بسواد الليل وبياض النهار.
{وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ} عطف على اختلاف {مِن رِّزْقِ} ؛ أي : مطر ، وهو سبب الرزق عبر عنه بذلك تنبيهاً على كونه آية من جهتي القدرة والرحمة.
{فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ} بأن أخرج منها أصناف الزروع والثمرات والنباتات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
{بَعْدَ مَوْتِهَآ} يبسها وعرائها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها وخلو أشجارها عن الثمار ، ففيه تشبيه للرطوبة الأرضية بالروح الحيواني في كونها مبدأ التوليد والتنمية ، وتشبيه زوالها بزوال الروح وموت الجسد ، وفيه إشارة إلى أرض القلوب ، فإنها عند استيلاء أوصاف البشرية عليها في أوان الولادة إلى حدّ البلوغ محرومة من غذاء تعيش به ، وهو أوامر الشريعة ونواهيها المودعة فيها نور الإيمان الذي هو حياة القلوب ، فعند البلوغ ينزل غيث الرحمة رزقاً لها ، فيحصل لها الحياة المعنوية.
{وَتَصْرِيفِ الرِّيَـاحِ} تحويلها من جهة إلى أخرى ، وتبديلها من حال إلى حال إذ منها مشرقية ومغربية وجنوبية وشمالية ، وحارة وباردة ونافعة وضارة وتأخيره عن إنزال المطر مع تقدمه عليه في الوجود ، إما للإيذان بأنه آية مستقلة حيث لو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح وإنزال المطر آية واحدة ، وإما لأن كون التصريف آية ليس بمجرد كونه مبدأ لإنشاء المطر ، بل له ولسائر المنافع التي من جملتها سوق السفن في البحار.
{لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ ءَايَـاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّا فَبِأَىِّ حَدِيثا بَعْدَ اللَّهِ وَءايَـاتِه يُؤْمِنُونَ} بالرفع على أنه مبتدأ خبره ما تقدم من الجار والمجرور.
والجملة معطوفة على ما قبلها وتنكير آيات في المواضع الثلاثة للتفخيم ، كماً وكيفاً والعقل ، يقال : للقوة المتهيئة لقبول العلم ، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل ، ولهذا قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ، فإن العقل عقلان : فمطبوع ومسموع.
ولا ينفع مطبوع.
إذ لم يك مسموع.
كما لا ينفع الشمس ، وضوء العين ممنوع.
وإلى الأول أشار النبي عليه السلام بقوله : "ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من العقل" ، وإلى الثاني أشار بقوله : ما كسب أحد شيئاً أفضل من عقل يهديه إلى هدى ، أو يرده عن ردى وهذا العقل هو المعنى بقوله تعالى : {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَـالِمُونَ} (العنكبوت : 43) ، وكل موضع ذم الكفار بعدم العقل ، فإشارة إلى الثاني دون الأول ، وكل موضع رفع التكليف عن العبد لعدم العقل ، فإشارة إلى الأول ، كما في "المفردات".
والمعنى : لقوم ينظرون بعيون عقولهم ، ويعتبرون ؛ لأنها دلائل واضحة على وجود صانعها وعظيم قدرته وبالغ حكمته وخص العقلاء بالذكر ؛ لأنه بالعقل يمكن الوقوف على الدلائل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
يقول الفقير : لعل سر تخصيص العقل بهذا المقام وتأخيره عن الإيمان والإيقان
436
(8/337)
أن هذه الآية دائرة بين علوي وسفلي ، وما بينهما.
وللعقل مدخل تعقل كل ذلك ، واشتراك بين الإيمان والإيقان ، فافهم جداً.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى جعل العلوم الدينية كسبية مصححة بالدلائل وموهبية محققة بالشواهد ، فمن لم يستبصر بهما زلت قدمه عن الصراط المستقيم ووقع في عذاب الجحيم فاليوم في الحيرة والتقليد ، وفي الآخرة في الوعيد بالتخليد جعلنا الله وإياكم من أهل الدلائل والشواهد وعصمنا من عمى كل منكر جاحد إنه هو الفرد الواحد.
{تِلْكَ} الآيات القرآنية من أول السورة ، وهو مبتدأ خبره قوله : {اللَّهِ إِلا} المنبهة على الآيات التكوينية.
{نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} بواسطة جبرائيل حال كوننا {بِالْحَقِّ} ؛ أي : محقين ، أو حال كون الآيات ملتبسة بالحق والصدق بعيدة من الباطل والكذب.
وقال في "بحر العلوم" نتلوها عليك حال عاملها معنى الإشارة ؛ كأنه قيل : نشير إليها متلوة عليك تلاوة متلبسة بالحق مقترنة بعيدة من الباطل واللعب والهزل ، كما قال وما هو بالهزل.
انتهى.
ويجوز أن تكون تلك إشارة إلى الدلائل المذكورة ؛ أي : تلك دلائله الواضحة على وجوده ووحدته وقدرته وعمله وحكمته نتلوها عليك ؛ أي : بتلاوة النظم الدال عليها.
{فَبِأَىِّ حَدِيث} من الأحاديث وخبر من الأخبار {بَعْدَ اللَّهِ وَءايَـاتِهِ} ؛ أي : بعد آيات الله وتقديم الاسم الجليل لتعظيمه ، كما في قولهم : أعجبني زيد وكرمه يريدون أعجبني كرم زيد ، ونظيره قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (الأنفال : 41) ، فإن اسم الله هنا أيضاً ، مذكور بطريق التعظيم ، كما سبق.
فقول أبي حيان فيه إقحام الأسماء من غير ضرورة غير مفيد أو بعد حديث الله الذي هو القرآن حسبما نطق به قوله تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (الزمر : 23) ، وهو المراد بآياته أيضاً ، ومناط العطف التغاير العنواني.
{يُؤْمِنُونَ} : يعني أن القرآن من بين الكتب السماوية معجزة باهرة فحيث لم يؤمنوا به ، فبأي كتاب بعده يؤمنون ؛ أي : لا يؤمنون بكتاب سواه.
وقيل : معناه القرآن آخر كتب الله ومحمد آخر رسله ، فإن لم يؤمنوا به ؛ فبأي كتاب يؤمنون ، ولا كتاب بعده ولا نبي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وفي الآية إشارة إلى أن الإيمان لا يمكن حصوله في القلب إلا بالله وكتابته في القلوب وبإراءته المؤمنين آياته ، وإلا فلا يحصل بالدلائل المنطقية ، ولا البراهين العقلية.
قال الإمام الرازي لحضرة الشيخ نجم الدين قدس سره : بم عرفت ربك؟ قال : بواردات ترد على القلوب ، فتعجز النفوس عن تكذيبها.
وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال : "من أعجب الخلق إيماناً؟ قالوا : الملائكة" قال عليه السلام : "وكيف لا تؤمن الملائكة ، وهم يعاينون الأمر ، قالوا : فالنبيون" قال عليه السلام : وكيف لا يؤمن النبيون ، والروح ينزل عليهم بالأمر من السماء" ، قالوا : فأصحابك؟ قال عليه السلام : "وكيف لا يؤمن أصحابي وهم يرون ما يرون؟ ولكن أعجب الناس إيماناً قوم يجيئون بعدي يؤمنون بي ، ولم يروني ويصدقونني ، ولم يروني ، فأولئك إخواني".
وفي الحديث إشارة إلى أن الإيمان المبني على الشواهد القلبية أعلى من الإيمان المبني على الدلائل الخارجية.
وفي الكل فضل بحسب مقامه ، فأهل الإيمان والتوحيد مطلقاً مغفور لهم.
وعن أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي عليه السلام أنه قال : يا أبا ذر جدد إيمانك بكرة وعشياً" ، فإن سريعاً يندرس الإسلام حتى لا يدري أحد ما الصلاة ، وما الصيام ، وأن واحداً منهم يقول : إن من كان قبلنا يقولون : لا إله إلا الله ، ويدخلون هذه البيوت ؛ أي : المساجد.
قيل :
437
يا رسول الله إذا لم يصلوا ، ولم يصوموا ، فما يغني عنهم قولهم : لا إله إلا الله.
قال عليه السلام : "بهذه الكلمة ينجون من نار جهنم.
وعن حذيفة رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : "مات رجل من بني إسرائيل من قوم موسى عليه السلام ، فإذا كان يوم القيامة يقول الله لملائكته ، انظروا هل تجدون لعبدي من حسنة يفوز بها اليوم ، فيقولون : إنا لا نجد سوى أن نقش خاتمة لا إله إلا الله ، فيقول الله تعالى : أدخلوا عبدي الجنة فقد غفرت له".
{وَيْلٌ} كلمة عذاب بالفارسية : (سختى عذاب).
{لِّكُلِّ أَفَّاكٍ} : كذاب.
والإفك : كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه.
{أَثِيمٍ} صيغة مبالغة بمعنى كثير الإثم كعليم بمعنى كثير العلم.
{رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ * لا إله إِلا هُوَ يُحْى وَيُمِيتُا رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ * بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ * فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
(8/338)
{يَسْمَعُ ءَايَـاتِ اللَّهِ} صفة أخرى لأفاك.
والمراد : آيات القرآن ؛ لأن السماع إنما يتعلق بها.
وكذا التلاوة في قوله : {تُتْلَى عَلَيْهِ} حال من آيات الله {ثُمَّ يُصِرُّ} ؛ أي : يقيم على كفره ويدوم عازماً عليه عاقداً.
قال في "المفردات" : الإصرار التعقد في الذنب والتشدد فيه والامتناع من الإقلاع عنه وأصله في الصرا ؛ أي : الشد والصرة ما يعقد فيها الدراهم {مُسْتَكْبِرًا} عن الإيمان بما سمعه من آيات الله والإذعان بما نطق به من الحق مزدرياً لها معجباً بما عنده من الأباطيل.
وكان النضر بن الحارث بن عبد الدار.
وقد قتل صبراً يشتري من أحاديث العجم مثل حديث رستم وإسفنديار ، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن ، فوردت الآية ناعية عليه ، وعلى كل من يسير سيرته ما هم فيه من الشر والفساد ، وذلك التعميم لكلمة الإحاطة والشمول ، وكلمة ثم لاستبعاد الإصرار والاستكبار بعد سماع الآيات التي حقها أن تذعن لها القلوب وتخضع لها الرقاب ، فهي محمولة على المعنى المجازي ؛ لأنه الأليق بمرام المقام ، وإن كان يمكن الحمل على الحقيقة أيضاً ، واعتبار منتهى الإصرار.
{كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} ؛ أي : بصير كأنه لم يسمعها ؛ أي : مشابهاً حاله حال من لم يسمعها ، فخفف وحذف ضمير الشأن.
والجملة من يصير تشبيهاً بغير السامع في عدم القبول والانتفاع.
{فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ؛ أي : أنذره على إصراره واستكباره بعذاب أليم ، فإن ذكر العذاب قرينة على الاستعارة استعيرت البشارة التي هي الإخبار بما يظهر سرور في المخبر به للإنذار الذي هو صده بإدخال الإنذار في جنس البشارة على سبيل التهكم ، والاستهزاء هذا إذا أريد المعنى المتعارف للبشارة ، وهو الخبر السار ، ويجوز أن يكون على الأصل ، فإنها بحسب أصل اللغة عبارة عن الخبر الذي يؤثر في بشرة الوجه بالتغيير ، وهو يعم خبر السرور والحزن.
ولذا قال في "كشف الأسرار" ؛ أي : أخبره خبراً يظهره أثر على بشرته من الترح.
{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَـاتِنَا شَيْـاًا} ؛ أي : إذا بلغه من آياتنا شيء ، وعلم أنه من آياتنا إلا أنه علمه ، كما هو عليه ، فإنه بمعزل من ذلك الكلام.
{اتَّخَذَهَا} ؛ أي : الآيات كلها.
{هُزُوًا} ؛ أي : مهزواً بها لا ما سمعه فقط ، أو الضمير للشيء والتأنيث باعتبار الآية.
يعني : (بآن افسوس كندو بصورتى باز نمايدكه از حق وصواب دور باشد).
كالنضر استهزأ بها وعارضها بحديث الفرس يرى العوام أنه لا حقيقة لذلك ، وكأبي جهل حيث أطعمهم الزبد والتمر.
وقال : تزقموا أفهذا ما يتوعدكم به محمد ، فحمل الزقوم على الزبد والتمر.
{أولئك} : إشارة إلى كل أفاك من حيث الإنصاف بما ذكر من القبائح والجمع باعتبار شمول كل كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار كل واحد.
438
{لَهُمْ} بسبب جناياتهم المذكورة {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذلهم ويذهب بعزهم وصف العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
{مِّن وَرَآاـاِهِمْ جَهَنَّمُ} ؛ أي : جهنم كائنة من قدامهم ؛ لأنهم متوجهون إلى ما أعد لهم أو من خلفهم ؛ لأنهم معرضون عن ذلك مقبلون على الدنيا ، فإن الوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف ، أو قدام ؛ أي : يسترها.
وقال بعضهم : وراء في الأصل مصدر جعل ظرفاً ويضاف إلى الفاعل ، فيراد به ما يتوارى به ، وهو خلفه وإلى المفعول ، فيراد به ما يواريه ، وهو قدامه ، ولذلك عد من الأضداد.
وفي "القاموس" : الوراء يكون خلف وقدام ضد أولاً ؛ لأنه بمعنى ، وهو ما توارى عنك.
{وَلا يُغْنِى عَنْهُم} ولا يدفع {مَّا كَسَبُوا} من الأولاد والأموال {شَيْـاًا} من عذاب ، فيكون مفعولاً به أو لا يغني عنهم في ذلك شيئاً من الإغناء ؛ أي : إغناء قليلاً ، فيكون مصدراً ، يقال أغنى عنه إذا كفاه؟ {وَلا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ} ؛ أي : ولا ينفعهم أيضاً ما عبدوه من دون الله من الأصنام وتوسيط حرف النفي بين المعطوفين مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعاً مبني على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم وفيه تهكم {وَلَهُمْ} فيما وراءهم من جهنم {عَذَابٌ عَظِيمٌ} لا يعرف كنهه يعني : (شدت آن از حد متجاوزاست).
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَا هَـاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ} .
{هَـاذَآ} ؛ أي : القرآن {هُدًى} ؛ أي : في غاية الكمال من الهداية ؛ كأنه نفسها كقولك زيد عدل {هَـاذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا} القرآنية {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مِّن} ؛ أي : من شدة العذاب {أَلِيمٌ} بالرفع صفة عذاب.
وبالفارسية : (ازسخت ترين عذابي ألم رسانيده).
وفي الآيات إشارات :
(8/339)
منها : أن بعض الناس يسمع آيات الله في الظاهر إذ تتلى عليه ولا يسمعها بسمع الباطن ويتصامم بحكم الخذلان والغفلة ، فله عذاب أليم لاستكباره عن قبول الحق ، وعدم العمل بموجب الآيات ، وكذا إذا سمعها وتلاها بغير حضور القلب :
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
تعتيست اين كه بر لهجه وصوت
شوداز تو حضور خاصر فوت
فكر حسن غنا برد هوشت
متكلم شود فراموشت
نشود بردل توتا بنده
كين كلام خداست يابنده
ومن استمع بسمع الحق والفهم ، واستبصر بنور التوحيد ، فاز بذخر الدارين وتصدى لعز المنزلين.
ومنها : أن العالم الرباني إذا أفاد شيئاً من العلم ينبغي أن يكون في حيز القبول ، ولا يقابل بالعناد والتأول على المراد من غير أن يكون هناك تصحيح بإسناد ، وذلك فإن العبد يكاشف أموراً بتعريفات الغيب لا يتداخله فيها ريب ، ولا يتخالجه منها شك فمن استهان بها وقع في ذل الحجاب وجهنم البعد ، كما عليه أهل الإنكار في كل الأعصار حيث لا يقبلون أكثر ما ذكره مثل الإمام الغزالي.
والإمام المكي ، فيكونون كمن يؤمن ببعض ويكفر ببعض بموافقة الأهواء والأغراض.
ومنها : أن القرآن هداية لكن للمقرين لا للمنكرين ، فمن أقر بعباراته وإشاراته نجا من الخذلان والوقوع في النيران ، ومن أنكرها وقع في عذاب عظيم يذل فيه ويهان.
{اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ} بأن جعله أملس السطح يعلو عليه ما شأنه الغوص كالأخشاب ، ولا يمنع الغوص والحزق لميعانه فإنه لو جعل خشن السطح بأن كان ذا ارتفاع وانخفاض ، لم يتيسر جري الفلك عليه ، وكذا لو جعله بحيث لا تطفو عليه الأخشاب ونحوها ،
439
بل تسفلت وغرقت فيه ، لم يتيسر ذلك أيضاً ولو جعله صلباً مصمتاً يمنع الغوص فيه لم يمكن تحصيل المنافع المترتبة على الغوص.
{لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} ؛ أي : بإذنه وتيسيره وأنتم راكبوها {وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} بالتجارة والغوص على اللؤلؤ والمرجان ونحوها من منافع البحر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك بالإقرار بوحدانية المنعم بها.
وفي الآية إشارة إلى أنه تعالى سخر بحر العدم لتجري فيه فلك الوجود بأمره ، وهو أمر كن والحكمة في هذا التسخير مختصة بالإنسان لا بالفلك سخر البحر والفلك له وسخره لنفسه ليكون خليفته ، ومظهراً لذاته وصفاته نعمة منه وفضلاً لإظهار الكنز المخفي ، فبحسب كل مسخر من الجزئيات والكليات يجب على العبد شكره ، وشكره أن يستعمله في طلب الله بأمره ولا يستعمله في هوى نفسه ، وله أن يعتبر من البحر الصوري ، والذين يركبون البحر ، فربما تسلم سفينتهم ، وربما تغرق كذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير يمشي به في رياح المشيئة مرفوع له شراع التوكل مرسي في بحر اليقين ، فإن هبت رياح العناية نجت السفينة إلى ساحل السعادة ، وإن هبت نكباه الفتنة لم يبق بيد الملاح شيء وغرقت في لجة الشقاوة ، فعلى العبد أن يبتغي فضل الله ويسعى في الطلب بأداء شكر النعم ، كما في "التأويلات النجمية".
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} من الموجودات بأن جعلها مداراً لمنافعكم ودلت الآية على أن نسبة الحوادث الأرضية إلى الاتصالات الفلكية جائزة.
{جَمِيعًا} إما حال من ما في السماوات وما في الأرض أو تأكيد له.
{مِنْهُ} صفة لجميعاً ؛ أي : كائناً منه تعالى ، أو حال من ما ؛ أي : سخر لكم هذه الأشياء كائنة منه مخلوقة له أو خبر لمحذوف ؛ أي : هي جميعاً منه تعالى.
وفي "فتح الرحمن" جميعاً منه ؛ أي : كل إنعام فهو من فضله ؛ لأنه لا يستحق عليه أحد شيئاً ، بل هو يوجب على نفسه تكرماً.
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} ؛ أي : فيما ذكر من الأمور العظام {لايَـاتٍ} عظيمة الشأن كبيرة القدر دالة على وجود الصانع وصفاته.
{لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في بدائع صنع الله ، فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها ، ويوفقون لشكرها : (دبر جمله جهان زمغز تابوست.
هر ذره كواه قدرت اوست).
روي : أنه عليه السلام مر على قوم يتفكرون ، فقال : تفكروا في الخلق ، ولا تتفكروا في الخالق.
وفي الحديث : "إن الشيطان يأتي أحدكم ، فيقول : من خلق السماوات ، فيقول الله ، ويقول : من خلق الأرض ، فيقول الله ويقول : من خلق الله ، فإذا افتتن أحدكم بذلك ، فليقل آمنت بالله ورسوله ، واعلم أن التفكر على العبادات وأفضلها ؛ لأن عمل القلب أعلى وأجل من عمل النفس ، ولذلك قال عليه السلام "تفكر ساعة خير من عبادة سنة".
(8/340)
وفي رواية : ستين سنة.
وفي رواية : سبعين سنة.
وروي : أن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قل : دخلت على أبي هريرة رضي الله عنه ، فسمعته يقول : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "تفكر ساعة خير من عبادة سنة" ، ثم دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما ، فسمعته يقول : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : تفكر ساعة خير من عبادة سبع سنين ، ثم دخلت على أبي بكر رضي الله عنه ، فسمعته يقول : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة ، فقال المقداد : فدخلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرته بما قالوا ، فقال : صدقوا ، ثم قال : ادعهم إليَّ فدعوتهم ، فقال لأبي هريرة : كيف تفكرك؟ ، وفيما ذا قال
440
في قول تعالى ، {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (آل عمران : 19) ، الآية.
فإن تفكرك خير من عبادة سنة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
ثم سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفكره ، فقال : تفكري في الموت ، وهول المطلع ، قال : تفكرك خير من عبادة سبع سنين ، ثم قال لأبي بكر : كيف تفكرك ، قال : تفكري في النار وفي أهوالها ، وأقول : يا رب اجعلني يوم القيامة من العظم بحال يملأ النار مني حتى تصدق وعدك ، ولا تعذب أمة محمد في النار ، فقال عليه السلام : تفكرك خير من عبادة سبعين سنة ، ثم قال : أرأف أمتي بأمتي أبو بكر.
فالفضل راجع إلى مراتب النيات.
يقول الفقير : وجه التخصيص في الأول أن اختلاف الليل والنهار المذكور في آية التفكر يدور على السنة ، فبمقدار بُعد التفكر جاء الثواب.
وفي الثاني : أن خوف الموت ، وما بعده ينتهي إلى الجنة ، أو إلى النار والجنة فوق سبع سماوات كما أن النار تحت سبع أرضين.
وفي الثالث : أن بعد قعر جهنم سبعون سنة على ما ورد في الحديث ، فلما كان الصديق رضي الله عنه بعيد التفكر بالنسبة إلى الأولين أنيب بما ذكر وجاء أجره مناسباً لتفكره.
وفي الآية إشارة إلى أن السماوات والأرض ، وما فيهن خلقت للإنسان ، فإن وجودها تبع لوجوده.
وناهيك من هذا المعنى أن الله تعالى أسجد ملائكته لآدم عليه السلام.
وهذا غاية التسخير وهم أكرم مما في السماوات والأرض ، ومثال هذا أن الله تعالى لما أراد أن يخلق ثمرة خلق شجرة ، وسخرها للثمرة لتحملها ، فالعالم بما فيه شجرة وثمرتها الإنسان ولعظم هذا المعنى.
قال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ؛ أي : في هذا المعنى دلالات على شرف الإنسان وكماليته لقوم لهم قلوب منورة بنور الإيمان والعرفان إذ يتفكرون بتفكر سليم ، كما في "التأويلات النجمية".
{رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَآاـاِدُونَ} .
{قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا} : اغفروا يعني : (در كذرانيد وعفو كنيد).
وهو مقول القول حذف لدلالة الجواب عليه ، وهو قوله : {يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} (الجاثية : ) ، كما في قوله تعالى : {قُل لِّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَـاوةَ} (إبراهيم : 31) ؛ أي : قل لهم أقيموا الصلاة يقيموا الصلاة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
قال صاحب "الكشاف" : وجوزوا أن يكون يقيموا بمعنى ليقيموا ، ويكون هذا هو المقول ، قالوا : وإنما جاز حذف اللام ؛ لأن الأمر الذي هو : قل عوض عنه ، ولو قيل : يقيموا ابتداء بحذف اللام لم يجز وحقيقة الرجاء تكون في المحبوب ، فهو هنا محمول على المجاز ، وهو التوقع والخوف.
والمعنى : يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون ، ولا يخافون وقائعه تعالى بأعدائه في الأمم الماضية لقولهم أيام العرب لوقائعها كيوم بعاث ، وهو كغراب ويثلث موضع بقرب المدينة ويومه معروف ، كما في "القاموس".
وقيل : لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين ، ووعدهم الفوز فيها وإضافتها إلى الله كبيت الله.
وهذه الآية نزلت قبل آية القتال ، ثم نسخت بها ، وذلك لأن السورة مكية بالاتفاق إلا أن الماوردي استثنى هذه الآية.
وقال : إنها مدنية ، نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعزاه إلى ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة ، وذلك أن عمر رضي الله عنه شتمه غفاري فهمَّ أن يبطش به ، فنزلت في حقه.
قال في "القاموس" : وبنو غفار ككتاب رهط أبي ذر الغفاري.
وقيل : نزلت حين قال رئيس المنافقين عبد الله بن أبيّ ما قال.
وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها : مريسيع مصغر مرسوع ، فأرسل ابن أبي غلامه يستقي فأبطأ عليه ، فلما أتاه ، قال له : ما حبسك ، قال : غلام عمر قعد على طرف البئر ، فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبي عليه السلام.
وقرب أبي بكر وعمر ، فقال : ابن أبيّ ما مثلنا ومثل
441
(8/341)
هؤلاء إلا كما قيل : سمن قلبك يأكلك ، فبلغ ذلك عمر ، فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه ، فأنزلها الله.
(ودر تفسير امام ثعلبي مذكور است كه بعد از نزول آيت).
من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً : (فنحاص عاذور اليهودي بر سبيل طنز كفت خداى تعالى مكر محتاج است كه قرض ميطلبد ابن خبر يفاروق رضي الله عنه رسيده برجست وشمشير كشيد روى بجست وجوى او نهاد تاهر جابيند بقتلش رساند حضرت عليه السلام يطلب عمر فرستاد جون حاضر شد كفت اى عمر شمشير بنه كه حق سبحانه وتعالى بعفو فرموده وآيت بروى خواند عمر كفت يا رسول الله بدان خداى كه ترا بحق بخلق فرستاد كه ديكر اثر غضب درروى من نه بيند ودر مقابله كناه جز صفت عفو از من مشاهده نكند.
جويد بينى زخلق ودر كذارى.
تراز يبد طريق بردبارى.
اكرجه دامنت رامى دردخار.
توكل باش ودهان برخنده ميدار).
{لِيَجْزِىَ قَوْمَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} تعليل للأمر بالمغفرة.
والمراد بالقوم : المؤمنون والتنكير لمدحهم ، والثناء عليهم ؛ أي : أمروا بذلك ليجزي الله يوم القيامة قوماً ؛ أيَّ قوم لا قوماً مخصوصين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والمنافقين والإغضاء عنهم بكظم الغيظ ، واحتمال المكروه ، وما يقصر عنه البيان من الثواب العظيم ، وقد جوز أن يراد بالقوم الكفرة وبما كانوا يكسبون سيئاتهم التي من جملتها ما حكي من الكلمة الخبيثة والتنكير للتحقير ، فإن قلت : مطلق الجزاء لا يصلح تعليلاً للأمر بالمغفرة لتحققه على تقديري المغفرة وعدمها.
قلت : لعل المعنى : قل للمؤمنين يتجاوزوا عن إساءة المشركين والمنافقين ، ولا يباشروا بأنفسهم لمجازاتهم ليجزيهم الله يوم القيامة جزاء كاملاً يكافي سيئاتهم ويدل على هذا المعنى.
الآية الآتية.
وأيضاً أن الكسب في أكثر ما ورد في القرآن كسب الكفار ، ويجوز أن يكون المعنى ليجزيهم الله وقت الجزاء كيون بدر ونحوه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وفي الآية إشارة إلى أن المؤمن إذا غفر لأهل الجرائم ، وأن لم يكونوا أهل المغفرة لإصرارهم على الكفر والأذى يصير متخلقاً بأخلاق الحق ، ثم الله تعالى يجزي كل قوم جزاء عملهم من الخير والشر ، إما في الدنيا والآخرة ، أو في الآخرة.
{مِنْ} : (هركه).
{عَمِلَ صَـالِحًا} ، وهو ما طلب به رضي الله عنه تعالى.
{فَلِنَفْسِهِ} ؛ أي : فنفع ذلك العمل الصالح وثوابه لنفسه عائد إليها.
{وَمَنْ أَسَآءَ} : (وهركه كارى بدكند) {فَعَلَيْهَا} ؛ أي : فضرر إساءته وعقابها على نفسه لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله.
{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ} مالك أموركم لا إلى غيره.
{تُرْجَعُونَ} : تردون بالموت ، فيجازيكم على أعمالكم خيراً كان أو شراً ، فاستعدوا للقائه ففيه ترغيب على اكتساب العمل الصالح وترهيب عن ارتكاب العمل السيىء ، فمن الأول العفو والمغفرة للمجرم ، وصاحبه متصف بصفات الله تعالى.
ومن الثاني : المعصية والظلم وصاحبه متصف بصفات الشيطان ، فمن كان من الأبرار ، فإن الأبرار لفي نعيم ، ومن كان من الفجار ، فإن الفجار لفي جحيم.
والفجور نوعان :
فجوز صوري ، وهو ظاهر.
وفجور معنوي ، وهو إنكار أهل الله والتعرض لهم بسوء بوجه من التأول ، ونحو ذلك مما ظاهره صلاح وباطنه فساد ، فرحم الله أهل التسليم والرضا والقبول ، ومن ترك الحرام والشبهة والفضول.
وعن بعضهم : أنه كان يمشي في البرية ، فإذا هو بفقير يمشي حافي القدمين حاسراً الرأس عليه خرقتان متزر بإحداهما مرتدي بالأخرى ليس معه
442
زاد ولا ركوة ، قال : فقلت في نفسي : لو كان مع هذا ركوة وحبل إذا أراد الماء توضأ وصلى كان خيراً له ، ثم لحقت به ، وقد اشتدت الهاجرة ، فقلت له : يا فتى لو جعلت هذه الخرقة التي على كتفك على رأسك تتقي بها الشمس كان خيراً لك فسكت ومشى ، ولما كان بعد ساعة قلت له : أنت حاف أي شيء ترى في نعل تلبسها ساعة وأنا ساعة ، فقال : أراك كثير الفضول ، ألم تكتب الحديث؟ فقلت : بلى ، قال : فلم تكتب عن النبي عليه السلام من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" ، فكست ومشينا فعطشت ، ونحن على ساحل ، فالتفت إليّ وقال : أنت عطشان ، فقلت : لا ، فمشينا ساعة ، وقد كظني العطش ؛ أي : جهدني وأوقعني في الشدة ، ثم التفت ، وقال : أنت عطشان ، فقلت : نعم ، وما تقدر تعمل معي في مثل هذا الموضع ، فأخذ الركوة مني ودخل البحر وغرف من البحر وجاءني به ، وقال : اشرب ، فشربت ماء أعذب من النيل وأصفى لوناً ، وفيه حشيش ، فقلت في نفسي : هذا ولي الله ، ولكني أدعه حتى إذا وافينا المنزل سألته الصحبة ، فوقف ، وقال : أيما أحب إليك أن تمشي أو أمشي ، فقلت في نفسي : إن تقدم فاتني ، ولكن أتقدم أنا وأجلس في بعض الموضع ، فإذا جاء سألته الصحبة ، فقال : يا أبا بكر إن شئت تقدم واجلس ، وإن شئت تأخر ، فإنك لا تصحبني.
ومضى وتركني ، فدخلت المنزل ، وكان به صديق لي وعندهم عليل ، فقلت لهم : رشوا عليه من هذا الماء ، فرشوا عليه فبرىء وسألتهم عن الشخص فقالوا : ما رأينا.
(8/342)
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
ففي هذه الحكاية فوائد فتفطن لها.
واعلم أنك لا تصل إلى مثل هذه المرتبة إلا بالإيمان الكامل والعلم النافع والعمل الصالح ، فمن فقد شيئاً منها حرم نعوذ بالله.
قال الشيخ سعدي :
يى نيك مردان ببايد شتافت
كه هركس كرفت اين سعادت بيافت
ولكن تودنبال ديو خسى
ندانم بى صالحا كى رسى
بيمبر كسى راشفاعت كرست
كه برجاده شرع بيغمبر ست
{إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَآاـاِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّه إِنِّى} .
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ} ؛ أي : التوراة.
قال سعدي المفتي : ولعل الأولى أن يحمل الكتاب على الجنس حتى يشمل الزبور والإنجيل أيضاً.
انتهى.
وذلك لأن موسى وداود وعيسى عليهم السلام كانوا في بني إسرائيل.
{وَالْحُكْمَ} ؛ أي : الحكمة النظرية والعملية والفقه في الدين أو فصل الخصومات بين الناس إذ كان الملك فيهم.
{وَالنُّبُوَّةَ} حيث كثر فيهم الأنبياء ما لم تكثر في غيرهم ، فإن إبراهيم عليه السلام كان شجرة الأنبياء عليهم.
{وَرَزَقْنَـاهُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ} من اللذائذ كالمن والسلوى.
{وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ} حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من فلق البحر وتظليل الغمام ونظائرهما ، ولا يلزم منه تفضي لهم على غيرهم بحسب الدين والثواب ، أو على عالمي زمانهم ، فإنه لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله ، ولا أحب إليه منهم.
وقد سبق تحقيق المقام في السورة السابقة.
{وَءَاتَيْنَـاهُم بَيِّنَـاتٍ مِّنَ الامْرِ} دلائل ظاهرة في أمر الدين ومعجزات قاهرة فمن بمعنى في كما في قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ} ().
وقال ابن عباس رضي الله عنهما هو العلم بمبعث النبي عليه السلام ، وما بين لهم من أمره ، وأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب ويكون أنصار أهل يثرب.
{فَمَا اخْتَلَفُوا} ، فما وقع بينهم الخلاف في ذلك الأمر.
{إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} بحقيقته وحقيته ، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجباً لرسوخه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
{بَغْيَا بَيْنَهُمْ} تعليل ؛ أي : عداوة وحسداً حدث بينهم لا شكاً فيه.
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} بالمؤاخذة والجزاء.
{فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين.
{ثُمَّ جَعَلْنَـاكَ} : (بس بعد از بني
443
إسرائيل ساختيم ترا يعنى مقرر كرديم سلوك تو).
{عَلَى شَرِيعَةٍ} ؛ أي : سنة وطريقة عظيمة الشأن.
{مِنَ الامْرِ} ؛ أي : أمر الدين.
{فَاتَّبِعْهَا} بإجراء أحكامها في نفسك ، وفي غيرك من غير إخلال بشيء منها.
وفي "التأويلات النجمية" : إنا أفردناك من جملة الأنبياء بلطائف ، فاعرفها وخصصناك بحقائق ، فأدركها وسننا لك طرائق ، فاسلكها وأثبتنا لك الشرائع فاتبعها ، ولا تتجاوز عنها ، ولا تحتج إلى متابعة غيرك ، ولو كان موسى وعيسى حياً لما وسعهما إلا اتباعك.
قال جعفر الصادق رضي الله عنه : الشريعة في الأمور محافظة الحدود فيها ، ومن الله الإعانة.
{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ؛ أي : آراء الجهلة واعتقاداتهم الزائغة التابعة للشهوات ، وهم رؤساء قريش كانوا يقولون له عليه السلام : ارجع إلى دين آبائك ، فإنهم كانوا أفضل منك.
{أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّه إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَن لا تَعْلُوا عَلَى اللَّه إِنِّى ءَاتِيكُم بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ * وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} .
{إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا} لن يدفعوا {عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْـاًا} مما أراد بك من العذاب إن اتبعتهم.
قال بعضهم : يعني : إن أراد الله بك نعمة ، فلا يقدر أحد على منعها ، وإن أراد بك فتنة ، فلا يقدر أحد أن يصرفها عنك ، فلا تعلق بمخلوق فكرك ، ولا تتوجه بضميرك إلى غيرنا ، وثق بنا وتوكل علينا.
{وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} لا يواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالماً مثلهم ؛ لأن الجنسية علة الانضمام.
{وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ} الذين أنت قدوتهم فدم على ما أنت عليه من تولية خاصة بالتقوى والشريعة ، والإعراض عما سواه بالكلية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وفي "التأويلات النجمية" : سماهم الظالمين لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه وسمى المؤمنين المتقين ؛ لأنهم اتقوا عن هذا المعنى ، واتخذوا الله الولي في الأمور كلها.
(8/343)
{هَـاذَآ} : القرآن.
{بَصَآاـاِرَ لِلنَّاسِ} ، فإن ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب كأنه بمنزلة الروح والحياة ، فمن عري من القرآن ، فقد عدم بصره وبصيرته وصار كالميت والجماد الذي لا حس له ولا حياة ، فحمل البصائر على القرآن ، باعتبار أجزائه ونظيره قوله تعالى : {قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} (الأنعام : 104) ؛ أي : القرآن ، وآياته.
وقوله تعالى في حق الآيات التسع لموسى عليه السلام.
قال : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر والبصائر جمع بصيرة.
وهو النور الذي به تبصر النفس المقولات ، كما أن البصر نور به تبصر العين المحسوسات.
ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى اتباع الشريعة ، فحمل البصائر عليه ؛ لأن المصدر المضاف من صيغ العموم ؛ فكأنه قيل : جميع اتباعاتها.
{وَهَدَى} من ورطة الضلالة.
{وَرَحْمَةً} عظيمة ونعمة كاملة من الله ، فإن الفوز بجميع السعادات الدنيوية والأخروية ، إنما يحصل به {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} من شأنهم الإيقان بالأمور.
وبالفارسية : (مر كروهى راكه بى كمان شوند يعنى از باديه كمان كنشته طالب سر منزل يقين باشند).
وفي "التأويلات النجمية" : المستعدين للوصول إلى مقام اليقين بأنوار البصيرة ، فإذا تلألأت انكشف بها الحق والباطل ، فنظر الناس على مراتب من ناظر بنور العقل ومن ناظر بنور الفراسة ، ومن ناظر بنور الإيمان ، ومن ناظر بنور الإيقان ، ومن ناظر بنور الإحسان ، ومن ناظر بنور العرفان ، ومن ناظر بنور العيان ، ومن ناظر بنور العين ، فهو على بصيرة شمسها طالعة وسماؤها عن السحاب مصحية.
انتهى.
وعن النبي عليه السلام : "القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم.
أما داؤكم ، فالذنوب ، وأما دواؤكم فالاستغفار" وأعظم الذنوب الشرك وعلاجه التوحيد ، وهو على مراتب بحسب الأفعال والصفات والذات ، وللإشارة إلى المرتبة الأولى.
قال تعالى :
444
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} () ، فإن التوكل نتيجة توحيد الأفعال ، والتوكل كله الأمر كله إلى مالكه ، والتعويل على وكالته.
وللإشارة إلى المرتبة الثانية.
قال تعالى : {يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (الفجر : 27 ـ 28) ، فإن الرضا لإرادته الأزلية وترك الاعتراض وسرور القلب بمر القضاء ثمرة توحيد الصفات.
ومن هذا المقام قال أبو علي الدقاق رحمه الله : التوحيد هو أن يقرضك بمقاريض القدرة في إمضاء الأحكام قطعة قطعة ، وأنت ساكت حامد.
وللإشارة إلى المرتبة الثالثة.
قال تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} (القصص : 88).
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
حكي : أن واحداً من أصحاب أبي تراب النخشبي توجه إلى الحج ، فزار أبا يزيد البسطامي قدس سره ، فسأله عن شيخه ، فقال : إنه يقول : لو صارت السماء والأرض حديداً ما شككت في رزقي فاستقبحه أبو يزيد ؛ لأن فيه فناء الأفعال دون الصفات والذات ، وقال : كيف تقوم الأرض التي هو عليها فرجع فأخبر القصة لأبي تراب ، فقال : قل له : كيف أنت؟ فجاء وسأل ، فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم (بايزيد نيست) ، فلما رآه أبو تراب ، وكان في الاحتضار قال : آمنت بالله ، ثم توفي.
قال مولانا قدس سره :
هيج بغضى نيست در جانم زتو
زانكه اين را من نمى دانم زتو
آلت حقى توفاعل دست حق
جون زنم بر آلت حق طعن ودق
وقال أيضاً :
آدمى راكى رسد اثبات تو
اى بخود معروف وعارف ذات تو
فعليك بتدبر الآيات القرآنية والانتفاع بالبصائر النورانية لتكون من العلماء الربانية.
قال بعض الكبار : أربعة عالم حظه من الله ، الله وهو مقام السر والحقيقة.
قال الله تعالى : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إله إِلا هُوَ} () ، وعالم حظه من الله العلم والمعرفة ، وهو مقام الروح والمعرفة ، وعالم حظه علم السير إلى الله ، وهو مقام النفس والطريقة وعالم حظه علم السير إلى الآخرة ، وهو مقام الطبيعة والشريعة ؛ لأنه بالأعمال الصالحة يحصل السير الأخروي ، وأعلى الكل هو الأول.
قال بعض الكبار : رأيت أبا يزيد قعد في مسجد بعد العشاء إلى الصبح ، فقلت : أخبرني عما رأيت ، فقال : أراني الله ما في السماوات والأرض ، ثم قال : ما أعجبك؟ فقلت : ما أعجبني غيرك ، فبعضهم طلب منك المشي على الماء وبعضهم كرامة أخرى ، وأنا لا أريد غيرك.
قال : فقلت له : لم لم تطلب منه معرفته ، فقال : مه لا أريد أن يعرفه غيره.
قال بعضهم : مقام التوحيد فوق مقام المعرفة.
حكي : أن اثنين من الفقراء التقيا ، فتكلما على المعارف الإلهية كثيراً ، ثم قال أحدهما للآخر : رضي الله عنك إذ حصل لي ذوق عظيم من من صحبتك من المعارف.
وقال الآخر : ولا رضى عنك إذا استقطعتني بصحبتك من مقام التوحيد إلى مقام المعرفة ، فإذا كملت المعرفة حصل الشهود والفناء والسكون.
قال الشيخ سعدي المفتي :
اى مرغ سحر عشق زبروانه بياموز
كان سوخته راجان شد وآوز نيامد
اين مدعيان در طلبش بى خبرانند
كانراكه خبر شد خبرى باز نيامد
وقال :
(8/344)
كر كسى وصف او زمن برسد
بى دل از بى نشان جه كويدباز
عاشقان كشتكان معشوقند
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
برنيايدز كشتكان آواز
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الجامعين للمراتب والواصلين إلى أعلى المطالب ، فإن له ملك الوجود ومنه الكرم والفيض والوجود والإرشاد إلى حقيقة والفناء والسجود.
{وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبَّه أَنَّ هَـاؤُلاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} .
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّـاَاتِ} : أم منقطعة ، وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني.
والهمزة لإنكار الحسبان بطريق إنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه لا بطريق إنكار الوقوع ونفيه ، والاجتراح : الاكتساب.
445
ومنه الجوارح للأعضاء الكاسبة.
قال في "المفردات" : سمي الصائد من الكلاب والفهود والطير جارحة ، وجمعها جوارح إما لأنها تجرح وإما لأنها تكسب وسميت الأعضاء الكاسبة : جوارح تشبيهاً بها لأحد هذين.
انتهى.
والمراد بالسيئات : الكفر والمعاصي.
{أَن نَّجْعَلَهُمْ} أن نصيرهم في الحكم والاعتبار مع مالهم من مساوىء الأحوال ، وهو مع ما عمل فيه ساد مسد مفعولي الحسبان.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا} : مع ما لهم من محاسن الأعمال ونعاملهم معاملتهم في الكرامة ورفع الدرجة.
و(الكاف) : مفعول ثان للجعل.
{سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} ؛ أي : محيا الفريقين جميعاً ومماتهم حال من الضمير في الظرف والموصول معاً لاشتماله على ضميريهما على أن السواء بمعنى المستوي ، ومحياهم ومماتهم مرتفعان به على الفاعلية.
والمعنى : أم حسبوا أن نجعلهم كائنين مثلهم حال كون الكل مستوياً محياهم ومماتهم كلا لا يستوون في شيء منهما ، فإن هؤلاء في عز الإيمان والطاعة وشرفهما في المحيا ، وفي رحمة الله ورضوانه في الممات.
ولذا قال عليه السلام لما رأى أصحاب الصفة في المسجد "المحيا محياكم والممات مماتكم" ، وأولئك في ذل الكفر والمعاصي ، وهوانهما في المحيا وفي لعنة الله ، والعذاب الخالد في الممات (ع) : (كل وخار وكل وكوهر نه برابر باشد).
وكان كفار قريش يقولون : نحن أحسن حالاً من المؤمنين في الآخرة ؛ أي : على تقدير وقوع الساعة ، كما قالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين ؛ أي : فإن العزيز في الدنيا عزيز في الآخرة.
وقد قيل : إن المراد إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة ؛ لأن المسيئين والمحسنين مستوٍ محياهم في الرزق والصحة ، وإنما يفترقون في الممات.
{سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} ؛ أي : ساء حكمهم هذا على أن (ما) مصدرية والفعل للإخبار عن قبح حكمهم أو بئس شيئاً حكموا به ذلك على أن ساء بمعنى بئس وما نكرة موصوفة بمعنى شيء.
والفعل لإنشاء الذم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وبالفارسية : (بد حكميست كه ايشان ميكنند ونتيجة شرك وتوحيدرا برابر ميدارند (ع) نيست يكسان لاى زهر آميز باآب حيات).
وعن تميم الداري رضي الله عنه : أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكي ويردد إلى الصباح.
وعن الفضيل رحمه الله أنه بلغها ، فجعل يرددها ويبكي ويقول : يا فضيل ليت شعري من أي الفريقين أنت؟ فلا يطمعن البطال في ثواب العمال ولا الجبناء في مقام الأبطال ولا الجاهل في ثواب العالم ، ولا النائم في ثواب القائم ، فعلى قدر اجتهاد المرء يزيد أجره وبقدر تقصيره ينحط قدره.
وفي بعض الكتب السابقة أنمنادياً ينادي كل يوم أبناء الخمسين زرع دنا حصاده أبناء الستين هلموا إلى الحساب أبناء السبعين ، ماذا قدمتم؟ وما أخرتم؟ ، ثم أبناء الثمانين لا عذر لكم : ليت الخلق لم يخلقوا ، وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا وتجالسوا بينهم ، فتذكروا ما عملوا إلا أتتكم الساعة فخذوا حذركم.
وفي الخبر : إذا أراد الله بعبد خيراً بعث إليه ملكاً من عامه الذي يموت فيه فيسدده وييسره ، فإذا كان عند موته أتاة ملك الموت ، فقعد عند رأسه ، فقال : يا أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ، فذلك حين يحب لقاء الله ويحب الله لقاءه.
وإذا أراد بعبد شراً بعث إليه شيطاناً من عامه الذي يموت فيه ، فأغواه ، فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه ، فيقول : يا أيتها النفس المطمئنة الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب ، فتفرق في حسده فذلك حين يبغض لقاء الله ويبغض الله
446
لقاءه.
ويقال : إذا أراد الله أن ينقل العبد من ذل المعصية إلى عز الطاعة آنسه بالوحدة وأغناه بالقناعة وبصره بعيوب نفسه ، فمن أعطي ذلك ، فقد أعطي خير الدنيا والآخرة ، كما أنه فرق بين مطيع وفاسق ، فكذا فرق بين مطيع ومطيع وللتفاضل في الإطاعة والنيات تتفاضل المقامات والدرجات.
(8/345)
ولذا يرى بعض أهل الجنة البعض ، كما يرى في الدنيا الكوكب الدري ، وعن عبيد بن خالد رضي الله عنه : أن النبي آخى بين رجلين ، فقتل أحدهما في سبيل الله ، ثم مات الآخر بعده بجمعة أو نحوها ، فصلوا عليه ، فقال عليه السلام : ما قلتم؟ قالوا : دعونا الله أن يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه ، فقال النبي عليه السلام ، فأين صلاته بعد صلاته وعمله بعد عمله ، أو قال : صيامه بعد صيامه لما أن بينهما أبعد مما بين السماء والأرض".
وقد ورد في بعض الأخبار أن الموتى يتأسفون على انقطاع الأعمال عنهم حتى يتحسرون على رد السلام وثوابه ، فليحذر العاقل من حسرة السباق ، وفجيعة الفراق ، أما حسرة السباق فإنهم إذا قاموا من قبورهم ، وركب الأبرار نجائب الأنوار وقدمت بين أيديهم نجائب المقربين بقي المسبوق في جملة المحرومين.
وأما فجيعة الفراق ، فإنه إذا جمع الله الخلق في مقام واحد أمر ملكاً ينادي : أيها الناس امتازوا ، فإن المتقين قد فازوا.
كما قال : {وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (يس : 59) ، فيمتاز الولد من والديه ، والزوج من زوجته والحبيب من حبيبه ، فهذا يحمل مبجلاً إلى رياض النعيم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وهذا يساق مسلسلاً إلى عذاب الجحيم.
قال بعض الأخيار : رأيت الشيخ أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي قدس سره في النوم بعد وفاته وعليه ثياب بيض ، وعلى رأسه تاج ، فقلت له : ما هذا البياض؟ فقال : شرف الطاعة ، قلت : والتاج.
قال عز العلم.
وعن أبي بكر الوراق قدس سره : طلبنا أربعة فوجدناها في أربعة : وجدنا رضا الله في طاعة الله تعالى ، وسعة المعاش في صلاة الضحى ، وسلاءة الدين في حفظ اللسان ونور القلب في صلاة الليل ، فعليك بالتدارك قبل فوت الوقت ، فإن الوقت سيف قاطع.
قال الشيخ سعدي :
سر ازجيب غفلت برآوركنون
كه فردانماني بخلجت نكون
قيامت كه نيكان باعلى رسند
زقعر ثرى بر ثريا رسند
تراخود بماند سر ازننك بيش
كه كردت برآيد عملهاى خويش
برادر زكار بدان شرم دار
كه در روى نيكان شوى سر مسار
{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ} ؛ أي : بسبب الحق ولأجل ظهوره وحقيقته بالأمر الإيجادي والتجلي الحي الأحذي ، فما من ذرة من ذرات العالم ، إلا والله سبحانه متجل فيها بأسمائه وصفاته ، لكنه لا يشاهده إلا أهل الشهود ، وبظهور هذا الحق والوجود زهق الباطل والعدم وعليه يدور سر قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (يونس : 3) ، فإن الله متعال عن الاستواء بنفسه كما يقول الظالمون.
{وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ} من خير وشر عطف على بالحق ؛ لأن فيه التعليل ؛ لأن الباء للسببية وبيانه أن الحكمة في خلق العالم هو الجزاء إذ لو لم يكن الجزاء كما يقول الكافرون لاستوى المطيع والعاصي ، فالجزاء مترتب على الطاعة والعصيان ، وهما موقوفان على وجود العالم إذ التكليف لا يحصل إلا في هذه الدار.
وقدسبق في سورة الدخان عند قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (الدخان : 38).
{وَهُمْ} ؛ أي : النفوس المدلول عليها بكل نفس.
{لا يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب المحسن وزيادة عقاب
447
المسيء : (بلكه هر كس رافرا خور عمل اوجز ادهد).
وتسمية ذلك ظلماً مع أنه ليس كذلك على ما عرف من قاعدة أهل السنة لبيان غاية تنزه ساحة لطفه تعالى عما ذكر بتنزيله منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه تعالى ، فهذه الآية إخبار بأن التسوية في الجزاء سفه ، والله تعالى خلق العالم بالحق ليتميز المطيع من العاصي لا بالسفه ، فلا بد من المجازاة على وفق الأعمال بين عدل وفضل بلا ظلم وجهل ، فعليك بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة لا سيما التوحيد وذكر الله تعالى إذ به تحصل المعرفة المقصودة من خلق الثقلين ولفضل المعرفة.
قال عليه السلام في جواب من قال : أي الأعمال أفضل؟ العلم بالله" ، وبين معرفة ومعرفة فرق عظيم.
لذلك قال حافظ قبر أبي يزيد البسطامي قدس سره للسلطان محمود الغزنوي إن أبا جهل لم يبصر النبي عليه السلام إلا بأنه يتيم عبد المطلب وأبي طالب ، ولو نظر بأنه رسول الله وحبيب رب العالمين وعرف ذلك لآمن به ، ولا بد من العبادة من الإخلاص ، فمن عبد الله حباً أعلى رتبة ممن عبده خوف العقوبة.
يحكى أن محمدياً عبد الله أربعين سنة يجزى بأكثر من إسرائيلي عبد الله أربعمائة سنة ، فيقول الإسرائيلي : يا رب أنت العادل ، فيقول الله تعالى أنتم تخافون العقوبة العاجلة وتعبدونني وأمة محمد يعبدونني مع الأمن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
قال المولى الجامي :
جيست اخلاص آنكة كسب وعمل
باك سازى زشوب نفس ودغل
نه در آن صاحب غرض باشى
نه ازان طالب عوض باشى
كيسة خود از وبير دازى
ساية خود برونيندازى
{فَدَعَا رَبَّه أَنَّ هَـاؤُلاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} .
(8/346)
{أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} ، وهو ما تهواه نفسه الخبيثة.
وقال الشعبي : إنما سمي الهوى ؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار ، وهو تعجيب لحال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنه عبده.
ففيه استعارة تمثيلية أو حذف أداة التشبيه.
وكان الأصل كإلهه ؛ أي : أنظرت فرأيته ، فإن ذلك مما يقتضي التعجب.
وسبق تحقيق الآية في سورة الفرقان.
وفيه إشارة إلى أن من وقف بنفسه في مرتبة من المراتب دون المشاهدة ، فقد صار من أهل الهوى وعبد ما سوى المولى.
وفي الحديث : "ما عبد تحت ظل السماء أبغض إلى الله من هوى".
قال بعضهم : ()
نون الهوان من الهوى مسروقة
فأسير كل هوى أسير هوان
وقال بعضهم : ()
فاعص هوى النفس ولا ترضها
إنك إن أسخطتها زانكا
حتى متى تطلب مرضاتها
وإنما تطلب عدوا نكا
قال الشيخ سعدي :
مراد هر كه برارى مطيع امر توشد
خلاف نفس كه كردن كشد جويافت مراد
وقال المولى الجامي :
هيج اذاى براه خلق
نيست بدتر زنفس بدفر ما
{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ} وخذله عدلاً منه يعني : (كمراه ساخت وفرو كذاشت).
{عَلَى عِلْم} حال من الفاعل ؛ أي : حال كونه تعالى عالماً بضلاله وتبديله للفطرة الأصلية ، ويمكن أن يجعل حالاً من المفعول ؛ أي : علم من الضال بطريق الهداية بأن ضلّ عناداً نحو فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ونحوه ، فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم.
{وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} بحيث لا يتأثر من المواعظ ولا يسمع الحق.
{وَقَلْبُهُ} بحيث لا يتفكر في الآيات والنذر ، ولا يفهم الحق.
448
{وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِه غِشَـاوَةً} مانعة عن الاستبصار والاعتبار ، وهو ما يغشى العين ويغطيها عن الإبصار والإدراك وتنكيرها للتنويع أو للتعظيم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
قال بعض الكبار : ختم الله على سمعه ، فحرم من سماع خطابه ، وعلى قلبه فحرم من فهم خطابه وعلى عينيه ، فحرم من مشاهدة آثار القدرة في صنعه ، فلم ير الحق.
{فَمَن يَهْدِيهِ} : (بس كيست كه راه نمايد اين كس را).
{مِنا بَعْدِ اللَّهِ} ؛ أي : من بعد إضلاله إياه بموجب تعاميه عن الهدى وتماديه في الغي ؛ أي : لا يقدر ، فتعلموا أن الهداية لا يملكها أحد سواه ، أفلا تتعظون.
(آيا بند نمى يعنى يند كيريد ومتنبه شويد).
وفي الآية إشارة إلى الفلاسفة والدهرية والطبائعية ، ومن لم يسلك سبيل الاتباع ، ولم يستوف أحكام الرياضة بتأديب أرباب الطريقة على قانون الشريعة ، ولم ينسلخ عن هواه بالكلية ، ولم يؤد به ويسلكه إمام مقتدي في هذا الشأن من أرباب الوصال والوصول ، بل اقتدى بأئمة الكفر والضلالة ، واقتفى آثارهم بالشبهات العقلية وحسبان البراهين القطعية ، فوقع في شبكة الشيطان ، فأخذه بزمام هواه وأضله في تيه مهواه ، وربما دعاة إلى الرياضة وترك الشهوات لتصفية العقل وسلامة الفكر فيمنيه إدراك الحقائق حتى يوبقه في وهدات الشبهات ، فيهيم في كل ضلالة ويضل في كل فج عميق ، وأصبح خسرانه أكثر من ربحه ونقصانه أوفر من رجحانه ، فهم في ضلال بعيد يعملون القرب على ما يقع لهم من نشاط نفوسهم زمامهم بيد هواهم أولئك أهل المكر استدرجوا من حيث لا يشعرون.
وفي المثنوي :
جيست حبل الله رها كردن هوا
كين هواشد صرصرى مر عادرا
خلق درزندان نشته از هواست
روح را در غيب خود اشكنجهاست
ليك تانجهى شكنجه در خفاست
جون رهيدى بينى اشكنج ودمار
زانكه ضد از ضد كردد آشكار.
.
.
جون رهاكردى هوى از بيم حق
درر سد سغراق.
.
.
.
از تسنيم حق
{وَقَالُوا} : يعني : منكري البعث من غاية غيهم وضلالهم ، وهم كفار قريش ومشركو العرب.
وفي "كشف الأسرار" : هذا من قول الزنادقة الذين قالوا : الناس كالحشيش.
{مَا هِىَ} ؛ أي : ما الحياة؟.
{إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} التي نحن فيها.
{نَمُوتُ وَنَحْيَا} ؛ أي : يصيبنا الموت والحياة فيها ، وليس وراء ذلك حياة ، وتأخير نحيا ؛ لأن فيها شبهة مراعاة الفاصلة ؛ ولأن الواو لمطلق الجمع.
وقد جوّز أن يريدوا به التناسخ ، فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان ، يعني : (احتمال داردكه) قائلان : أين مذهب (تناسخ داشته باشند ونزد ايشان آنست كه هركه مى ميرد روح أو بجسد ديكر تعلق ميكيرد وهم دردينا ظهور ميكند تا ديكر بميرد وديكر باز آيد وازشا كمونى كه بزعم ايشان بيغمبر ست نقل كرده اندكه كفت من خودرا هزار وهفتصد قالت ديده ام).
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
قال الراغب : القائلون بالتناسخ قوم ينكرون البعث على ما أثبتته الشريعة ، ويزعمون أن الأرواح تنتقل من الأجساد على التأبيد ؛ أي : إلى الأجساد أخر.
وفي "التعريفات" : التناسخ عبارة عن تعلق الروح بالبدن بعد المفارقة من بدن آخر من غير تخلل زمان بين التعلقين للتعشق الذاتي بين الروح والجسد.
{وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلا الدَّهْرُ} ؛ أي : مرور الزمان ، وهو مدة بقاء العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ، ثم يعبر به عن كل مدة كبيرة ، وهو خلاف الزمان ، فإن الزمان يقع على المدة القليلة
449
والكثيرة.
(8/347)
قال في "القاموس" : الدهر الزمان الطويل والأبد الممدود ، وألف سنة.
والدهر عند الصوفية هو الآن الدائم ، ثم الذي هو امتداد الحضرة الإلهية ، وهو باطن الزمان وبه ويتجدد الأزل والأبد ، وكانوا يزعمون أن المؤثر في هلاك الأنفس ، وهو مرور الأيام والليالي وينكرون ملك الموت وقبضه للأرواح بأمر الله.
ويضيفون الحوادث إلى الدهر والزمان ويسبونه ويذمونه ويشتكون منه ، كما نطقت بذلك أشعارهم ، فنهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند ذلك بقوله : "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" ؛ أي : فإن الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر.
قال الكاشفي : (مقلب دهور ومصرف آن حضرت عزت است جبل شانه ودهوررا در هيج كار اختيارى نيست) :
دهر ترادهر يناهى ترا
حكم ترا زيبد وشاهى ترا
دور زان كار نسازد بخوذ
جرح فلك برنفرازد بخود
اين همه فرمان ترابنده اند
درره امرتو شتابنده اند
قال بعضهم : ()
يا عالماً يعجب من دهره.
.
.
لا تلم الدهر على غدره
فإن مأموله آمر قد ينتهي الدهر إلى أمره
كم كافر أمواله جمة
يزداد أضعافاً على كفره
ومؤمن ليس له درهم
يزداد إيماناً على فقره
قال في "المفردات" : قوله عليه السلام : لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر قد قيل : معناه أن الله فاعل ما يضاف إلى الدهر من الخير والشر والمسرة والمساءة ، فإذا سببتم الذي تعتقدون أنه فاعل ذلك ، فقد سببتموه تعالى.
وقال بعضهم : الدهر الثاني في الخبر غير الأول ، وإنما هو مصدر بمعنى الفاعل ، ومعناه أن الله تعالى هو الدهر ؛ أي : المصرف المدبر لكل ما يحدث والأول أظهر.
وفي الحديث : "قال الله لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر ، فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار ، فإذا شئت قبضتهما".
وهذا الحديث الأول سهل في تفسير الصوفية كما سبق ، فاعرف تفز.
{وَمَا لَهُم بِذَالِكَ} ؛ أي : بما ذكر من اقتصار الحياة على ما في الدنيا وإسناد الحياة والموت إلى الدهر.
{مِنْ عِلْمٍ} ، فأسند إلى عقل أو نقل.
ومن : مزيدة لتأكيد النفي.
{إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} ؛ أي : ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يكون لهم شيء يصح أن يتمسك به في الجملة هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم.
وأما المؤمنون فقد أخذوا بالنصوص وسلكوا طريق اليقين وتجاوزوا عن برازخ الظن والتخمين.
وأثبتوا الحشر الصوري والمعنوي ؛ أي : الحشر المحسوس والصراط المحسوس والجنة والنار المحسوستين.
وكذا جمع النفوس الجزئية إلى النفس الكلية والجمع بين المعقول والمحسوس أعظم في القدرة من نعيم وعذاب محسوسين بأكل وشرب ونكاح ولباس محسوسات ، وأتم في الكمال الإلهي ليستمر له سبحانه في كل صنف من الممكنات حكم عالم الغيب والشهادة ، ويثبت حكم الاسم الظاهر والباطن في كل صنف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وهذا معتقد الأنبياء والرسل ومؤمنيهم ، فمن اعتقد كاعتقادهم نجا وإلا هلك.
ومن لوازم هذا الاعتقاد والتوحيد إسناد كل حادثة إلى الله العزيز الحميد ، فإنه المؤثر في الكل ولذا نهى عن سب الريح إذ هي بيد ملك ، وهو بيد الله تعالى ، فجميع التصرفات راجع إليه.
حكي أن الحجاج : أرسل عبد الله الثقفي إلى أنس بن مالك رضي الله عنه يطلبه ، فقال : أجب أمير المؤمنين ، فقال له : أذله الله.
فإن العزيز من اعتز بطاعة الله ، والذليل من ذل بمعصيته ، ثم قام معه ، فلما حضر ، قال : أنت الذي تدعو علينا؟ قال : نعم.
قال : ومم ذلك؟ قال : لأنك عاصصٍ لربك تخالف سنة نبيك تعز أعداء الله وتذل أولياءه.
فقال : أقتلك
450
شر قتلة ، فقال أنس : لو علمت أن ذلك بيدك لعبدتك.
قال : ولم ذلك؟ قال : لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علمني دعاء.
وقال : من دعا به كل صباح لم يكن لأحد عليه سبيل ؛ أي : لم يضرّ به سم ولا سحر ولا سلطان ظالم.
وقد دعوت به في صباحي.
فقال الحجاج : علمنيه ، فقال : معاذ الله أن أعلمه ما دمت حياً ، وأنت حي ، فقال الحجاج : خلوا سبيله ، فقيل له : في ذلك ، فقال : رأيت على عاتقيه أسدين عظيمين قد فتحا أفواههما ، فدل هذا أن على التأثير بيد الله القدير لا في يد السلطان والوزير.
وإنما هو وهم المحجوب الناظر إلى جانب الأسباب والوسائل ، ثم إن أنساً رضي الله عنه لما حضره الموت ، قال لخادمه : إن لك علي حقاً ، حق الخدمة ، فعلمه الدعاء ، وقال له : "بسم الله الرحمن الرحيم ، بسم الله خير الأسماء ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء".
وأنس رضي الله عنه من خدام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خدمه عشر سنين ، وانتقل إلى البصرة في خلافة عمر رضي الله عنه ، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة سنة إحدى وتسعين وله مائة وثلاث سنين ، وهو أحد الستة المشهورين برواية الحديث.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
(8/348)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} ؛ أي : على منكري البعث.
{ءَايَـاتِنَا} الناطقة بالحق الذي من جملته البعث.
{بَيِّنَـاتٍ} واضحات الدلالة على ما نطقت أو مبينات له نحو قوله تعالى : {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (يس : 79).
وقوله : {إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَىا} (فصلت : 39) وغير ذلك.
{مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ} جواب إذا.
وبه استدل أبو حيان على أن العامل في إذا ليس جوابها ؛ لأن ما النافية لها صدر الكلام واعتذر عن عدم دخول الفاء في الجواب بأنها خالفت أدوات الشرط في ذلك وحجتهم بالنصب على أنه خبر كان ، أي ما كان متمسكاتهم بشيء من الأشياء يعارضونها به.
وبالفارسية : (نباشد حجت ايشان).
{إِلا أَن قَالُوا} عناداً واقتراحاً {وَإِذَا تُتْلَى} : (بياريد بدران ما).
يعني : أحيوهم وابعثوهم من قبورهم.
{إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في أنا نبعث بعد الموت.
وقد سبق في سورة الدخان ؛ أي : إلى هذا القول الباطل الذي يستحيل أن يكون من قبيل الحجة ؛ لأنها إنما تطلق على الدليل القطعي وتسميته حجة إما لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم ، أو لتنزيل التقابل منزلة التناسب للمبالغة ، فأطلق اسم الحجة على ما ليس بحجة من قبيل (تحية بينهم ضرب وجيع) ؛ أي : سماه حجة لبيان أنهم لا حجة لهم البتة ؛ لأن من كانت حجته هذا لا يكون له حجة البتة ، كما أن من ابتدأ بالضرب الوجيع في أول التلاقي لا يكون بينهم تحية البتة ، ولا تقصد بهذا الأسلوب إلا هذا المعنى ؛ كأنه قيل : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة.
{قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} ابتداء {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم لا كما تزعمون من أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر.
{ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ} بعد البعث منتهين {إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} للجزاء.
{لا رَيْبَ فِيهِ} ؛ أي : في جمعكم ، فإن من قدر على البدء قدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة والوعد المصدق بالمعجزات دل على وقوعها حتماً ، والإتيان بآبائهم حيث كان مزاحماً للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
قال الكاشفي : (إحياء موتى موقتست بوقتى خاص بروجهى كه مقتضاى حكمت است بس اكر وقت اقتراح وجود نكيرد حمل بر عجز نبا يد كرد).
وقد سبق منا تعليله بغير هذا الوجه في سورة الدخان فارجع.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ذلك استدراك من قوله تعالى : لا ريب فيه بأن فيه شائبة ريب ما.
وفيه إشارة إلى أن الله يحييكم بالحياة الإنسانية ، ثم يميتكم
451
عن صفة الإنسانية الحيوانية ثم يجمعكم بالحياة الربانية إلى يوم القيامة ، وهي النشأة الأخرى لا ريب في هذا عند أهل النظر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون لأنهم أهل النسيان والغفلة : ()
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله
وأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ لم يحيا بالعلم ميت
وليس له حين النشور نشور
وفي الحديث : "أنتم على بينة من ربكم ما لم تظهر منكم سكرتان سكرة الجهل وسكرة حب الدنيا" ، فعلى العاقل أن يتنبه ، ويكون على يقين من ربه ويصدق الكتاب فيما نطق به ، ولصعوبة الإيمان بالغيب وقع أكثر الناس في ورطة التكذيب ولانغلاق أبواب البرزخ والمعاد كثر الرد والإنكار.
(8/349)
حكي : أن الشيخ الإمام مفتي الأنام عز الدين بن عبد السلام سئل بعد موته في منام رآه السائل ما تقول فيما كنت تنكر من وصول ما يهدى من قراءة القرآن للموتى ، فقال : هيهات وجدت الأمر بخلاف ما كنت أظن ، فالله تعالى قادر على كل شيء : (نفلست بير خراسان أحمد حربى قدس سره همساية كبرداشت بهرام نام مكرش يكى بتجارت فرستاده بود در رآه آن مال برده بودند مال بسيار بودان خبر بشيخ أحمد رسانيد ند يارانرا كفت اين همساية مارا جنين كار افتاده است بر خيزند تابرويم واوراغم خواركى كنيم اكرجه كبراست همساية است جون بدر سراى اورسيدند واورا ديدند آتشى مى سوخته ومتوجه كشته بهرام برخاست واستقبال كرد وبوسه برآستين شيخ داد واعزاز واكرام نمود ودر بند آن شدكه سفره بنهد بنداشت كه مكر از بهر جيزى خوردن آمده أندكه قحط بود شيخ احمد كفت خاطر فارغ داركه مابغم خواركى توآمده ايم كه شنيده ايم دزدان مال توبرده اند بهرام كفت مراسه شكر واجب است يكى آنكه ديكران ازمن بردند ومن از ديكران نبردم دوم آنكه يك نيمه برده اندونيمة ديكر بامنست سوم آنكه دين بامنست دنيا خود آيد ورود.
هنر بايد وفضل ودين وكمال.
كه كاه آيدوكه رود جاه ومال احمد كفت ازين سخن توبوى آشنايى مى آيد بس شيخ كفت اى بهرام جرا آتش رامى برستى كفت تافردا مارا نسوزد وبا من بى وفايى نكندكه جندين هيزم درخورد او داده ام تامرا بخداى رساند شيخ كفت غلط كرده كه آتش ضعيف است وجاهل وبى وفاست هر حسابى كه ازو بر كرفته باطلست اكر طفلى باره آب بروريزد يا مشتى خاك برو افكنداو از خود دفع نكند ، وبميرد از ضعف كسى كه جنين ضعيف بودتر ابجنان قوى جكونه تواند رسانيد كسى قوت ندارد كه بارة خاك رادفع كند تراواسطه جون بود حق تعالى راديكر نادانست اكر مشك واكر نجاست درو اندازى هردور ابسوز دونداندكه يكى بهترست وازهيزم تاعود فرق نكند وبى وفاست اينك هفتاد سالست تو آتش مى برستى ومن هركز نيرستيده ام بيا تاهر دودست درآتش كنيم تاتو مشاهده كنى كه هر دور ابسوزد ووفانكند كبررا سخن او خوش آمد وكفت تراجهار مسألة برسم اكر جواب دهى ايمان آورم احمد كفت بكو كفت خداى تعالى خلق راجرا آفريدو جون آفريد جرا رزق داد وجون رزق داد
452
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
جرا ميرانيد وجون ميرانيد جرا برانكيزد احمد كفت آفريد تا ورا شناسند ورزق دادتا اورا برازقى بداند وميرانيد تا اورا بقهارى شناسند وزنده كردانيد تا ورا بقادرى بدانند بهرام كبرجون اين سخن راشنود بى خود انكشت بر آوردو شهادت برزبان راند جون شيح ديد نعرة زد وبيهوش شد جون بهواش آمد بهرام كفت يا شيخ سبب نعرة زدن وبيهوش شدن جه بود كفت درين ساعت كه توانكشت بر داشتى بدر ونم خطاب كردند كه هان اى احمد بهرام كبر راكه هفتاد سال در كبرى كذشت ايمان آورد تا تراكه هفتاد سال در مسلمانى كذشت عاقبت جه خواهد آورد).
ومن الله العصمة والتوفيق لمرضاته والاستبصار بآياته وبيناته.
{وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَـاكِهِينَ * كَذَالِكَا وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا} .
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} ؛ أي : الملك المطلق والتصرف الكلي فيهما وفيما بينهما مخصوص بالله تعالى ، وهو تعميم للقدرة بعد تخصيصها.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَـاـاِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} العامل في يوم يخسر ويومئذٍ بدل منه.
قال العلامة التفتازاني : مثل هذا لتأكيد أشبه وأنى يتأتى أن هذا مقصود بالنسبة دون الأول ، قلت : اليوم في البدل بمعنى الوقت.
والمعنى : وقت إذ تقوم الساعة ويحشر الموتى فيه ، وهو جزء من يوم تقوم الساعة ، فإنه يوم متسع مبدؤه من النفخة الأولى ، فهو بدل البعض والعائد مقدر ، ولما كان ظهور خسرهم وقت حشرهم يكون هو المقصود بالنسبة.
كذا في "حواشي سعدي المفتي" ، يقال : أبطل جاء بالباطل.
وقال شيئاً لا حقيقة له.
والمراد الذين يبطلون الحق ويكذبون بالبعث ومعنى يخسر المبطلون يظهر خسرانهم ثمة.
وبالفارسية : (زيان كنند تباه كاران وزيان ايشان آن بودكه بدوزخ باز كزدند).
قال في "الكبير" إن الحياة والعقل والصحة ؛ كأنها رأس المال والتصرف فيها لطلب سعادة الآخرة يجري مجرى تصرف التاجر في رأس المال لطلب الربح والكفار قد أتعبوا أنفسهم في طلب الدنيا ، فخسروا ربح الآخرة.
وفيه إشارة إلى إبطال الاستعداد الفطري (ع) على نفسه فليبك من ضاع عمره.
{وَتَرَى} رؤية عين {كُلُّ أُمَّة} من الأمم المجموعة ومؤمنيهم وكافريهم حال كونها.
{جَاثِيَةً} باركة على الركب من هول ذلك اليوم غير مطمئنة ؛ لأنها خائفة فلا تطمئن في جلستها عند السؤال والحساب يقال : جثا يجثو ويجثي جثواً وجثياً بضمهما جلس على ركبتيه ، أو قام على أطراف أصابعه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
(8/350)
وعن ابن عباس رضي الله عنه : جاثية ؛ أي : مجتمعة بمعنى أن كل أمة لا تختلط بأمة أخرى ، يقال : جثوت الإبل وجثيتها جمعتها.
والجثوة بالضم الشيء المجتمع ، فإن قيل الجثو على الركب إنما يليق بالكافرين ، فإن المؤمنين لا خوف عليهم يوم القيامة ، فالجواب أن الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذا إلى أن يظهر كونه محقاً مستحقاً للأمن.
قال كعب لعمر أمير المؤمنين رضي الله عنه : إن جهنم تزفر زفرة يوم القيامة ، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه حتى يقول : خليل الرحمن عليه السلام يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي.
قال الشيخ سعدي :
دران روز كز فعل برسند وقول
اولو العزم راتن بلرزد زهول
بجايى كه دهشت خورد انبيا
تو عذر كنه راجه دارى بيا
{كُلُّ أُمَّة} كرر كل أمة ؛ لأنه موضع الإغلاظ والوعيد.
(تدعى إلى كتابها أي إلى صحيفة أعمالها فالإضافة مجازية للملابسة ؛ لأن أعمالهم مثبتة فيه.
وفيه إشارة إلى عجز العباد وأن لا حول ولا قوة لهم فيما كتب الله لهم في الأزل وأنهم
453
لا يصيبهم في الدنيا والآخرة ، إلا ما كتب الله لهم على مقتضى أعيانهم الثابتة ، فلا يجرون في الأفعال إلا على القضاء.
قال الحافظ :
درين جمن نكنم سرزنش بخود رويى
جنانكه برور شم ميد هند ميرويم
{الْيَوْمَ} : معمول لقوله : {تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ؛ أي : يقال لهم ذلك ، فمن كان عمله الإيمان جزاه الله بالجنة ، ومن كان عمله الشرك والكفر جزاه بالنار ، كما قال النبي عليه السلام "إذا كان يوم القيامة جاء الإيمان والشرك فيجثيان بين يدي الرب تعالى ، فيقول الله للإيمان انطلق أنت وأهلك إلى الجنة ، ويقول للشرك : انطلق أنت وأهلك إلى النار".
{كَذَالِكَا وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالارْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ * وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} .
{هَـاذَا كِتَـابُنَا} إلخ من تمام ما يقال حينئذٍ ، وحيث كان كتاب كل أمة مكتوباً بأمر الله أضيف إلى نون العظمة تفخيماً لشأنه وتهويلاً لأمره ، وإلا فالظاهر أن يضاف إلى الأمة بأن يقال : كتابها كما فيما قبلها.
{يَنطِقُ عَلَيْكُم} ؛ أي : يشهد عليكم.
{بِالْحَقِّ} ؛ أي : من غير زيادة ولا نقص.
والجملة خبر آخر لهذا وبالحق حال من فاعل ينطق.
{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ} إلخ تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشيء منها ؛ أي : كنا فيما قبل نستكتب الملائكة.
{مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الأعمال حسنة كانت أو سيئة صغيرة أو كبيرة ؛ أي : نأمر الملائكة بكتب أعمالكم وإثباتها عليكم ؛ لأن السين للطلب والنسخ في الأصل هو النقل من أصل ، كما ينسخ كتاب من كتاب ، لكن قد يستعمل للكتبة ابتداء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وقال بعضهم : ما من صباح ولا مساء إلا وينزل فيه ملك من عند إسرافيل إلى كاتب أعمال كل إنسان ينسخ عمله الذي يعمله في يومه وليلته ، وما هو لاق فيها كما قال عليه السلام : أول ما خلق الله القلم وكتب ما يكون في الدنيا من عمل معمول بر أو فجور وأحصاه في الذكر واقرؤوا : إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ، فهل يكون النسخ إلا من شيء قد فرغ منه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله وكل ملائكة يستنسخون من ذلك الكتاب المكتوب عنده كل عام في شهر رمضان ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة فيعارضون به حفظة الله على عباده كل عشية خميس فيجدون ما رفع الحفظة موافقاً لما في كتابهم.
ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان ، فإذا أفني الورق مما قدر وانقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة ، فيطلبون عمل ذلك اليوم ، فتقول لهم الخزنة : ما نجد لصاحبكم عندنا شيئاً ، فترجع الحفظة فيجدونه قد مات.
ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما : ألستم قوماً عرباً؟ هل يكون الاستنساخ إلا من أصل ، وهو اللوح المحفوظ من التغير والتبدل والزيادة والنقصان على ما عليه كان بما كتبه القلم الأعلى ، وفيه دليل أن الحفظة يعلمون ما يقع في ذلك اليوم من العبد ، ويفعله قبل أن يفعله ، فإن قلت : إذا علمت الحفظة أعمال العبد من اللوح المحفوظ ، فما فائدة ملازمتهم العبيد وكتابتهم أعمالهم قلت : إلزام الحجة لا يحصل إلا بشهودهم فعل العبد في وقته المخصوص وكتابتهم على ما وقع.
قال بعضهم : إن الحفظة يكتبون جميع ما يكون من العبد يقابلونه بما في أم الكتاب فما فيه ثواب وعقاب أثبت ، وما لم يكن فيه ثواب ولا عقاب محي.
وذلك قوله تعالى : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} (الرعد : 39) ، فعلى العبد أن يتدارك الحال قبل حلول الآجال ، فإنه سوف ينفذ العمر وينقلب الأمر.
قال الشيخ سعدي :
دريغست فرموده ديوزشت
كه دست ملك برتو خواهد نوشت
روا دارى از جهل
454
وناباكيت
كه باكان نويسند نابا كيت
طريقى بدست آر وصلحى بجوى
شفيعى برانكيز وعذرى بكوى
كه يك لحظه صورت نه بنددامان
جو بيمانه برشد بدور زمان
(8/351)
جعلنا الله وإياكم من المسارعين إلى أسباب رضاه والمسابقين إلى قبول أمره وهداه.
{فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} من الأمم ؛ لأنه تفصيل لما قبله : {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ} ؛ أي : في جنته ؛ لأن الدخول حقيقة في الجنة دون غيرها من أقسام الرحمة ، فهو تسمية الشيء باسم حاله يعني : لما كانت الجنة محل الرحمة أطلق عليها الرحمة بطريق المجاز المرسل.
{ذَالِكَ} الذي ذكر من الإدخال في رحمته تعالى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
{هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} : الظاهر كونه فوزاً إلا فوز وراءه.
يقول الفقير : وما الفوز العظيم؟ فهو دخول جنة القلب ولقاؤه تعالى في الدنيا والآخرة ، ولكن لما كان هذا الفوز غير ظاهر بالنسبة إلى العامة ، وكان الظاهر عندهم الفوز بالجنة قيل : هو الفوز المبين ، وإن اشتمل الفوز المبين على الفوزالعظيم ؛ لأن الجنة محل أنواع الرحمة.
{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسرائيل مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَا إِنَّه كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ} .
{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَـاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ} ؛ أي : فيقال لهم بطريق التوبيخ والتقريع ألم تكن تأتيكم رسلي؟ أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف المعطوف عليه ثقة بدلالة القرينة عليه.
{فَاسْتَكْبَرْتُمْ} عن الإيمان به.
{وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} ؛ أي : قوماً عادتهم الإجرام.
قال الشيخ السمرقندي في "بحر العلوم" ، فإن قلت : أهذه الآية تشمل الذي في أقاصي الروم والترك والهند من الذين لم تبلغهم الدعوة ، ولم يتل عليهم شيء من آيات الله؟ وهم أكثر عدداً من رمال الدهناء.
وما قولك فيهم؟ قلت : لا بل الظاهر عندي بحكم الآية أن هؤلاء معذورون مغفورون شملتهم رحمة الله الواسعة ، بل أقول : تشمل كل من مات في الفترة ، وكل أحمق وهرم وكل أصم أبكم.
قال أبو هريرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "أربعة كلهم نزل على الله بحجة وعذر : رجل مات في الفترة ، ورجل أدرك الإسلام هرماً ، ورجل أصم أبكم معتوه ، ورجل أحمق".
فاستوسع أيها السائل رحمة الله ، فإن صاحب الشرع هو الذي استوسع رحمة الله تعالى قبلنا ، ولم يضيق على عباده ولا تشغل بالتكفير والتضليل لسانك وقلبك كطائفة بضاعتهم مجرد الفقه يخوضون في تكفير الناس وتضليلهم ، وطائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين ، وزعموا وقد كذبوا وفي غمرتهم عمهوا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بأدلتنا المحررة في كتبنا ، فهو كافر ، فأولئك عليهم العويل والنياحة أيام حياتهم ومماتهم حيث ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده ، وجعلوا الجنة حصراً ووقفاً على طائفة الفقهاء وشرذمة المتكلمين ، وكفروا وضللوا الذين هم براء من الكفر والضلالة ، وقد ذهلوا أو جهلوا بقول النبي عليه السلام أمتي كلها في الجنة إلا الزنادقة".
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وقد روي أيضاً : "الهالك منها واحدة" ، ويقول عبد الله بن مسعود وأبو هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد بعد ما يلبثون فيها أحقاباً ، وبما قال أنس رضي الله عنه ، قال النبي عليه السلام : "إذا كان يوم القيامة يغفر الله لأهل الأهواء أهواءهم وحوسب الناس بأعمالهم إلا الزنادقة ، انتهى كلام السمرقندي في "تفسيره".
والزنديق هو من يقول ببقاء الدهر ؛ أي : لا يؤمن بالآخرة ، ولا الخالق ؛ أي : لا يعتقد إلهاً ولا بعثاً ولا حرمة شيء من الأشياء ويعتقد أن الأموال والحرم مشتركة.
وفي قبول توبته روايتان ، والذي ترجح عدم
455
(8/352)
قبول توبته كما في "فتاوى قارىء الهداية" وفي "الأصول" من لم تبلغه الدعوة ، فهو غير مكلف بمجرد العقل ، فإذا لم يعتقد إيماناً ولا كفراً كان معذوراً إذا لم يصادف مدة يتمكن فيها من التأمل والاستدلال بأن بلغ في شاهق الجبل ، ومات في ساعته ، وإذا أعانه الله بالتجربة وأمهله لدرك العواقب لم يكن معذوراً ، وإن لم تبلغه الدعوة ؛ لأن الإمهال وإدراك مدة التأمل بمنزلة دعوة الرسل في حق تنبيه القلب من نوم الغفلة ، فإذا قصر في النظر لم يكن معذوراً وليس على حد الإمهال دليل يعتمد عليه ، وما قيل أنه مقدر بثلاثة أيام اعتباراً بالمرتد فإنه يمهل ثلاثة أيام ليس بقوي : لأن هذه التجربة تختلف باختلاف الأشخاص ؛ لأن العقول متفاوتة فرب عاقل يهتدي في زمان قليل إلى ما لا يهتدي إليه غيره في زمان طويل ، فيفوض تقديره إلى الله إذ هو العالم بمقدارها في حق كل شخص ، فيعفو عنه قبل إدراكها ، أو يعاقبه بعد استيفائها ، وعند الأشعرية إن غفل عن الاعتقاد حتى هلك ، أو اعتقد الشرك ، فلم تبلغه الدعوة كان معذوراً ؛ لأن المعتبر عندهم هو السمع دون العقل ، ومن قتل من لم تبلغه الدعوة ضمنه ؛ لأن كفرهم معفو عندهم ، فصاروا كالمسلمين في الضمان ، وعندنا لم يضمن وإن كان قتله حراماً قبل الدعوة ضمنه ؛ لأن غفلتهم عن الإيمان بعد إدراك مدة التأمل لا يكون عفواً ، وكان قتلهم مثل قتل نساء أهل الحرب ، فلا يضمن ، ثم الجهل في دار الحرب من مسلم لم يهاجر إلينا يكون عذراً حتى لو لم يصل ولم يصم مدة ، ولم تبلغ إليه الدعوة لا يجب عليه قضاؤهما ؛ لأن دار الحرب ليس بمحل لشهرة أحكام الإسلام بخلاف الذمي إذا أسلم في دار الإسلام يجب عليه قضاء الصلاة ، وإن لم يعلم بوجوبها ؛ لأنه متمكن من السؤال عن أحكام الإسلام وترك السؤال تقصير منه ، فلا يكون عذراً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
يقول الفقير : والذي تحرر من هذه التقريرات أن من لم تبلغه الدعوة ، فهو على وجهين : إما أن يمهل له قدر ما يتأمل في الشواهد ويعرف التوحيد أولاً ، فالثاني : معذور دون الأول ، وتكفي المعرفة المجردة وإن لم يكن هناك إيمان شرعي.
ولذا ورد في الخبر من مات ، وهو يعرف ، ولم يقل ، وهو يؤمن ، فدل على أن من عرف الله تعالى معرفة خالصة ليس فيها شرك نجا من النار.
ومعنى الإيمان الشرعي هو المتابعة لنبي من الأنبياء عليهم السلام.
وقس على هذا أحوال أهل الفترة ، فإنهم إن لم يخلوا بالتوحيد وبالأصول كانوا معذورين ، فقول من قال : ليأتين على جهنم زمان إلخ.
حق فإن الطبقة العالية من جهنم التي هي مقر عصاة المؤمنين تبقى خالية بعد مرور الأحقاب ، يعني : من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان ؛ أي : معرفة الله تعالى سواء سمي ذلك إيماناً شرعياً ، أم لا يخرج من النار ، فإذا لم يكفر أهل المعرفة المجردة ، فكيف أهل القبلة من المؤمنين بالإيمان الشرعي ما لم يدل دليل ظاهر أو خفي على كفره.
قال المولى الجامي في سلسلة الذهب :
هركه شد زاهل قبله برتوبديد
كه به آورده نبي كرويد
كرجه صد بدعت وخطا وخلل
بينى اورا زروى علم عمل ه
مكن اورا زسرزنش تكفير
مشمارش زاهل نار سعير
وربببنى كسى زاهل اصلاح
كه رود راه دين صباح ورواح
بيفين زاهل جنتش مشمار
ايمن از روز آخرش مكذار
مكر آنكس كه از رسول خدا
شد مبشر بجنة المأوى
قال الشيخ علاء الدولة في كتاب "العروة" : جميع الفرق الإسلامية أهل النجاة.
والمراد
456
من الناجية في حديث "ستفترق أمتي".
إلخ الناجية بلا شفاعة.
{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} أن ما وعده من الأمور الآتية ، فهو بمعنى الموعود.
{حَقٍّ} واقع لا محالة {وَالسَّاعَةُ} ؛ أي : القيامة التي هي أشهر ما وعده.
{لا رَيْبَ فِيهَآ} ؛ أي : في وقوعها لكونها مما أخبر به الصادق ، ولقيام الشواهد على وجودها.
{قُلْتُمْ} من غاية عتوكم يا منكري البعث من الكفار والزنادقة.
{مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ} ؛ أي : أي شيء هي استغراباً لها.
{إِن نَّظُنُّ إِلا ظَنًّا} ؛ أي : ما نفعل فعلاً إلا ظناً فإن ظاهره استثناء الشيء من نفسه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وفي "فتح الرحمن" ؛ أي : لا اعتقاد لنا إلا الشك والظن أحد طرفي الشك بصفة الرجحان ويجيء بمعنى اليقين.
انتهى.
ومقابل الظن المطلق هو الاستيقان ولذا قال : {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} ؛ أي : لإمكان الساعة ، يعني : (مارا يقينى نيست در قيام قيامت).
ولعل هؤلاء غير القائلين : ما هي إلا حياتنا الدنيا ، فمنهم من يقطع بنفي البعث والقيامة ، وهم المذكورون في الآية الأولى.
ومنهم : من يشك لكثرة ما سمعوه من الرسول عليه السلام من دلائل صحة وقوعه.
وهم المذكورون في هذه الآية.
(8/353)
قال في "التعريفات" : الظن هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ، ويستعمل في اليقين والشك.
انتهى.
واليقين إيقان العلم ينفي الشك والشبهة عنه نظراً واستدلالاً ، ولذلك لا يوصف به علم القديم ولا العلوم الضرورية إذ لا يقال : تيقنت أن السماء فوقي ، فعلى العاقل أن يرفع الشك عن الأمور التي أخبر الله بها ، ويكون على يقين تام منها.
وفي المثنوي :
وعدها باشد حقيق دلبذير
وعدها باشد مجازى تاسه كير
وعدة أهل كرم كنج روان
وعدة نا اهل شد رنج روان
ولا شك أن ليس من الله أصدق قيلاً ، فوعده للمؤمنين الموقنين يورث الفرح والسرور ، فإنهم وإن كانوا يخافون القيامة وأهوالها لكنهم يرجون رحمة الله الواسعة ، ولا يصلون إلى كمال تلك الرحمة إلا بوقوع القيامة ، فإنه هو الذي توقف عليه دخول الجنة ودرجاتهاونعيمها ولليقين مراتب الأولى : علم اليقين ، وهو العلم الحاصل بالإدراك الباطني بالفكر الصائب والاستدلال.
وهذا للعلماء الذين يوقنون بالغيب ولا نزيد هذه المرتبة العلمية إلا بمناسبة الأرواح القدسية ، فإذا بكون العلم عيناً ، وهي المرتبة الثانية التي يقال لها عين اليقين ، ولا مرتبة للعين إلا اليقين الحاصل ، من مشاهدة المعلوم ولا تزيد هذه المرتبة إلا بزوال حجاب الاثنينية ، فإذا بكون العين حقاً ، وهي المرتبة الثالثة التي يقال لها : حق اليقين وزيادة هذه المرتبة عدم ورود الحجاب بعده ، وعينه للأولياء حقه للأنبياء ، وأما باطن حق اليقين ، وهو حقيقة اليقين ، فهو لنبينا عليه السلام ، وهي المراتب لا تحصل إلا بالمجاهدة مثل دوام الوضوء وقلة الأكل وكثرة الذكر والسكوت بالفكر في ملكوت السماوات والأرض وبأداء السنن والفرائض ، وترك ما سوى الحق والفرض وتقليل المنام والعرض وأكل الحلال وصدق المقال ، والمراقبة بقلبه إلى الله ، فهذه مفاتيح المعاينة والمشاهدة ، وكلها من الشريعة النبوية ، فلا بد من المتابعة له في قوله وفعله.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
يايزيد بسطامي قدس سره كفت روح من بهمه ملكوت بر كذشت وبهشت ودوزخ بد ونمود بجيزى التفات نكرد وبجان هيج بيغمبر نرسيد الإسلام كردجون بروح باك مصطفى عليه السلام رسيدم آبجاصد هزاران درياى آتشين ديدم بى نهايت وهزاران حجاب ازنور ديدم اكر باول دريا قدم نهادمى بسوختمى لا جرم زان هيبت جنان مدهوش
457
شدم كه هيج نماندم با آنكه بحق رسيدم زهره نداشتم بمحمد عليه السلام رسيدن يعنى هركس بقدر خويش بخدا تواند رسيدكه حق باهمه است اما محمد عليه السلام دربيش شان درصدر خاص است تالاجرم وادى لا إله إلا الله قطع نكنى بوادى محمد رسول الله نتوانى رسيد وبحقيقت هرد ووادى يك انديس بايزيد كفت الهي هرجه ديدم همه من بوسم بامن بتوراه نيست وازخودى خود مرادر مكذارى مراجه بايدكرد فرمان آمد كه يا أبا يزيد خلاصى توازثوبى نواتدر متابعت دوست ما محمد عليه السلام بسته است ديده را بخاك قدم او اكتحال كن وبر متابعت أو مداومت نماى).
فظهر أنه كلما كان التصديق أقوى والمتابعة أوفر كان القرب أكثر ، ومن هذا عرف حال الكفار وأهل الإنكار في البعد والفراق نعوذ بالله الخلاق.
تم الجزء الخامس والعشرون ويليه الجزء السادس والعشرون†
{وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ * وَءَاتَيْنَـاهُم مِّنَ الايَـاتِ مَا فِيهِ بَلَـاؤٌا مُّبِينٌ * إِنَّ هَـاؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} .
{وَبَدَا لَهُمْ} ؛ أي : ظهر للكفار في الآخرة.
{سَيِّـاَاتُ مَا عَمِلُوا} من إضافة الصفة إلى موصوفها ؛ أي : أعمالهم السيئة على ما هي عليه من الصورة المنكرة الهائلة ، وعاينوا وخامة عاقبتها.
والمراد الشرك والمعاصي التي كانت تميل إليها الطبائع والنفوس وتشتهيها وتستحسنها ، ثم تظهر يوم القيامة في الصور القبيحة ، فالحرام في صورة الخنزير ، والحرص في صورة الفأرة والنملة والشهوة في صورة الحمار والعصفور والغضب في صورة الفهد والأسد والكبر في صورة النمر والبخل في صورة الكلب والحقد في صورة الجمل والأذية بلسانه في صورة الحية وشره الطعام والشراب ، والمنام في صورة الجاموس والبقر والعجب في صورة الدب واللواطة في صورة الفيل والحيلة في صورة الثعلب وسرقة الليل في صورة الدلق ، وابن عرس والرياء والدعوى في صورة الغراب ، والعقعق والبومة واللهو بالملاهي في صورة الديك ، والفكر بلا قاعدة في صورة القمل والبرغوث والنوح في صورة ما يقال بالفارسية : (شغال).
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
والعلم بلا عمل كالشجرة اليابسة والرجوع من الطريقة الحقة في صورة تحول الوجه إلى القفا إلى غير ذلك من الصور المتنوعة بحسب الأعمال المختلفة ، فكل ما أثمر لهم في الآخرة إنما هو في زرع زرعوه في مزرعة الدنيا بأعمالهم السيئة ، ويجوز أن يراد بسيئات ما عملوا جزاؤها ، فإن جزاء السيئة سيئة ، فسميت باسم سببها.
{وَحَاقَ بِهِم} أحاط ونزل.
(8/354)
وقال أبو حيان : لا يستعمل إلا في المكروه.
يقال : حاق به يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً ، أحاط به كأحاق والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله.
{مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} من الجزاء والعقاب.
{وَقِيلَ} من جانب الحق {الْيَوْمَ} ، وهو يوم القيامة {نَنسَـاـاكُمْ} نترككم في العذاب ترك المنسي ، ففي ضمير الخطاب استعارة بالكناية بتشبيههم بالأمر المنسي في تركهم في العذاب وعدم المبالاة بهم وقرينتها النسيان.
{كَمَا نَسِيتُمْ} في الدنيا {لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَآ} ؛ أي : كما تركتم عدته ، ولم تبالوا بها ، وهي الإيمان والعمل الصالح وإضافة اللقاء إلى اليوم إضافة المصدر إلى ظرفه ؛ أي : نسيتم لقاء الله وجزاءه في يومكم هذا فأجري اليوم مجرى المفعول به ، وجعل ملقياً.
وفيه إشارة إلى أنهم زرعوا في مزرعة الدنيا بذر النسيان فأثمرهم في الآخرة ثمرة النسيان :
اكر بدكنى جشم نيكى مدار
كه هركز نيارد كز انكوربار
درخت زقوم اربجان برورى
مبندار هركز كز وبر خورى
رطب ناورد
458
جوب خرز هره بار
جه تخم افكنى برهمان جشم دار
{وَمَأْوَاـاكُمُ النَّارُ} ومرجعكم ومكانكم جهنم.
وبالفارسية : (شما آتش است).
لأنها مأوى من نسينا ، كما الجنة مأوى من ذكرنا.
{وَمَا لَكُم مِّن نَّـاصِرِينَ} ؛ أي : ما لأحد منكم ناصر واحد يخلصكم منها.
{إِنَّ هَـاؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِىَ إِلا مَوْتَتُنَا الاولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُوا بِـاَابَآاـاِنَآ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ} .
{ذالِكُمْ} لعذاب {بِأَنَّكُمُ} ؛ أي : بسبب أنكم {ذَالِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَـاتِ} ؛ أي : مهزواً بها ، ولم ترفعوا لها رأساً بالتفكر والقبول.
{وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} ، فحسبتم أن لا حياة سواها :
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
نوشته اندبر ايوان جنة المأوى
كه هركه عشوة دنيا خريد واى بوى
{فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} ؛ أي : من النار والتفات إلى الغيبة للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب استهانة بهم أو بنقلهم من مقام الخطاب إلى غيابة النار.
{وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} ؛ أي : يطلب منهم أن يعتبوا ربهم ؛ أي : يرضوه بالطاعة لفوات أوانه.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى أظهر على مخلصي عباده بعض آياته ، فلما رآها أهل الإنكار اتخذوها هزواً على ما هو عادتهم في كل زمان وغرتهم الحياة الدنيا إذ ما قبلوا وصية الله إذ قال : فلا تغرنكم الحياة الدنيا ، فاليوم لا يخرجون من نار القهر الإلهي ؛ لأنهم دخلوا فيها على قدمي الحرص والشهوات ، ولا هم يستعتبون في الرجوع إلى الجنة على قدمي الإيمان والعمل الصالح.
{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ} خاصة {رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَرَبِّ الارْضِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} كلها من الأرواح والأجسام والذوات والصفات ، فلا يستحق الحمد أحد سواه وتكرير الرب للتأكيد والإيذان بأن ربيته تعالى لكل منها بطريق الأصالة.
{وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} ؛ أي : العظمة والقدرة والسلطان والعز لظهور آثارها وأحكامها فيهما وإظهارهما في موقع الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} الذي لا يغلب.
{الْحَكِيمُ} في كل ما قضى وقدر ، فاحمدوه ؛ أي : لأن له الحمد وكبروه ؛ أي : لأن له الكبرياء وأطيعوه ؛ أي : لأنه غالب على كل شيء.
وفي كل صنعه حكمة جليلة.
وفي الحديث : "إنثلاثة أثواب اتزر بالعزة وارتدى بالكبرياء وتسربل بالرحمة ، فمن تعزز بغير الله أذله الله" فذلك الذي يقول الله تعالى ذق إنك أنت العزيز الكريم.
ومن تكبر فقد نازع الله ، إن الله تعالى يقول : لا ينبغي لمن نازعني أن أدخله الجنة ، ومن يرحم الناس يرحمه الله ، فذلك الذي سربله الله سرباله الذي ينبغي له.
وفي الحديث القدسي يقول الله : "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم ، فللعبد أن يتخلق بأخلاق الحق تعالى ، ولكنه محال أن يتخلق بهذين الخلقين ؛ لأنهما أزليان أبديان لا يتطرق إليهما التغير.
وفي خلق العبد تغيير ، وله بداية ونهاية ، وله مبدىء ومعيد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
قال بعض الكبار : وصف الحق سبحانه وتعالى نفسه بالإزار والرداء دون القميص والسراويل ؛ لأن الأولين غير مخيطين ، وإن كانا منسوجين فهما إلى البساطة أقرب والثانيين مخيطان ، ففيهما تركيب ، ولهذا السر حرم المخيط على الرجل في الإحرام دون المرأة ؛ لأن الرجل وإن كان خلق من مركب فهو إلى البساطة أقرب ، وأما المرأة فقد خلقت من مركب محقق هو للرجل ، فبعدت عن البسائط والمخيط تركيب ، فقيل للمرأة أبقي على أصلك لا تلحقي الرجل.
وقيل للرجل : ارتفع عن تركيبك.
وفي تقديم الحمد على الكبرياء إشارة إلى أن الحامدين إذا حمدوه وجب أن يعرفوا أنه أعلى وأكبر من أن يكون الحمد الذي ذكروه لائقاً بإنعامه ، بل هو أكبر من حمد الحامدين وأياديه
459
أجل من شكر الشاكرين.
(8/355)
قال بعض العارفين : اعلم أن التكبير تنزيه ربك عن قيد الجهات والتحولات المختلفة ، وعن قيد التعينات العلمية والاعتقادية المتنوعة بحسب المراتب.
وعن سائر أحكام الحصر ما ظهر من ذلك المذكور وما بطن مما لا يتحقق بمعرفته إلا من عرف سر العبادات المشروعة وسر التوجهات الكونية إلى الحضرة الربانية ، فمعنى كل تكبير صلاتي الله أكبر من أن يتقيد بهذه التحولات العبادية ، والمراتب والتعينات الكونية.
وقال شيخ الإسلام : (خواهر زاده) : معنى الله أكبر ؛ أي : من يؤدي حقه بهذا القدر من الطاعة ، بل حقه الأعلى ، كما قالت الملائكة : ما عبدناك حق عبادتك.
وفي "جامع المضمرات" : ليس المعنى على أنه أكبر من غيره حتى يقال : أكبر منه ، بل كل ما سواه ، فهو نور من أنوار قدرته كما حكي أنه عطس رجل عند الجنيد ، فقال : الحمد ، فقال الجنيد : الحمدرب العالمين ، موافقاً للقرآن ، فقال الرجل : وهل للعالم وجود حتى يذكر مع الله ، فمعنى الله أكبر ؛ أي : أكبر من أن يناله الحواس ويدرك جلاله بالعقل والقياس ، بل أكبر من أن يدرك كنه جلاله غيره ، بل أكبر من أن يعرفه ، فإنه لا يعرف الله إلا الله.
قال بعض الفضلاء : الصحيح ما عليه المحققون من أن اسم التفضيل إذا أطلق على الله تعالى فهو بمنزلة المعرف باللام في المعنى ، فهو بمعنى الله هو الأكبر ولا يسوغ فيه تقدير من فإنه حينئذٍ يقتضي أن يشاركه غيره في أصل الكبرياء ، وهو سبحانه منزه عن أن يشاركه غيره في شيء من صفاته ، كيف يتصور ذلك؟ ولا كبرياء في غيره تعالى ، بل شعار ما سواه كمال الصغار والاحتياج إلى جنابه تعالى فضلاً عن الاتصاف بالكبرياء والعظمة والكبر في حق ما سواه من أسوء الأخلاق الذميمة وتعالى الله أن يشاركه غيره في صفة هي كمال لخلقه تعالى فضلاً عن صفة هي ذميمة لهم ، بل اسم التفضيل في حقه تعالى دال على زيادة المبالغة والكمال المطلق الذي لا يتصور أن يشاركه فيه أحد مما سواه.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434
وكان عليه السلام : يزيد في تكبيرات صلاة العيدين ، فتارة يجعل الزوائد ستاً وأخرى أكثر ، وسره أن العرب يجتمعون في الأعياد من القبائل ويزاحمون على مطالعة جماله ويعظمونه أشد التعظيم ، فكان ينفي الكبرياء عن نفسه فيثبتهاتعالى بما يحصل له كمال الاطمئنان من الأعداد.
قال في "كشف الأسرار" : (بسمع عمر بن عبد العزيز رسانيد ندكه بسرتو انكشترى ساخته است ونكينى بهزار درم خريد بروى نشانده نامه نوشته بوى كه اى بسر شنيدم كه انكشترى ساخته ونكينى بهزاردرم خريده ودروى نشانده اكر رضاى من ميخواهى آن نكين بفروش وازبهاى آن هزار كرسنه راطعام ده واز بارة سيم خودرا انكشترى ساز وبر آن نقش كن كه :
رحم الله امرأً عرف قدر نفسه :
زيرا كبربا صفت خداوند ذي الجلالست
مرورا سزد كبريا ومنى
كه ملكش قديمست وذاتش غنى
يكى رابسر بر نهد تاج بخت
يكى رابخاك اندر آرد زتخت
بتهديد اكر بر كشد تيغ حكم
بما نندكر وبيان صم وبكم
بدر كاه لطف وبز ركيش بر
بزركان بزركى زسر
بدرد يقين بردعاى خيال
نماند سرا برده الاجلال
أي : لا يبقى من الحجب إلا حجاب العظمة ورداء الكبرياء ، فإنه لا يرتفع أبداً ، وإلا لتلاشى وجود الإنسان ، والتحق بالعدم في ذلك الآن ، فاعرف هذا بالذوق والوجدان.
460
تمت سورة الجاثية في الرابع عشر من شهر رمضان المنتظم في سلك شهور سنة ثلاث عشرة ومائة وألف سورة الأحقاف أربع أو خمس وثلاثون آية مكية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 434(8/356)
سورة الأحقاف
جزء : 8 رقم الصفحة : 460
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{حم} ؛ أي : هذه السورة مسماة بـ{حم} .
وقال بعضهم : الحاء إشارة إلى حماية أهل التوحيد.
والميم إلى مرضاته منهم مع المزيد ، وهو النظر إلى وجهه الكريم.
وقال بعضهم : معناه حميت قلوب أهل عنايتي فصنتها عن الخواطر والهواجس فلاح فيها شواهد الدين وأشرقت بنور اليقين.
يقول الفقير : فيه إشارة إلى أن القرآن حياة الموتى ، كما قال أو كلم به الموتى.
وكذا حياة الموتى من القلوب ، فإن العلوم والمعارف والحكم حياة القلوب والأرواح والأسرار.
وأيضاً إلى الأسماء الحسنى ، فإن حاء وميم من حساب البسط تسعة وتسعون وأيضاً إلى الصفات السبع التي خلق الله آدم عليها ، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام.
فالحاء حاء الحياة والميم ميم الكلام ، فأشير بالأول والآخر إلى المجموع ، يعني أن الله تعالى أنزل القرآن لتحصي أسماؤه الحسنى ، وتعرف صفاته العليا ويتخلق بأخلاقه العظمى.
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ} ؛ أي : القرآن المشتمل على هذه السورة ، وعلى سائر السور الجليلة.
وبالفارسية : (فردستان كتاب بعضى از بى بعض).
وهو مبتدأ خبره قوله : {مِنَ اللَّهِ} وما كان من الله فهو حق وصدق ، فإنه قال : ومن أصدق من الله قيلاً {الْعَزِيزُ} وما كان من العزيز ، فهو عزيز غالب على جميع الكتب بنظمه ومعانيه ، ودليل ظاهر لأرباب الظواهر والباطن.
{الْحَكِيمُ} : وما كان من الحكيم ، ففيه حكمة بالغة ؛ لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما فيه مصلحة كما قال : {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ} (الحجر : 85) بما فيهما من حيث الجزئية منهما ، ومن حيث الاستقرار فيهما.
{وَمَا بَيْنَهُمَآ} من المخلوقات كالنار والهواء والسحاب والأمطار والطيور المختلفة ونحوها.
{إِلا} خلقاً ملتبساً {بِالْحَقِّ} ؛ أي : بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وإن جعلها مقراً للمكلفين ليعملوا ، فيجازيهم يوم القيامة لا بالعبث والباطل ؛ فإنه ما وجد شيء إلا لحكمة ، والوجود كله كلمات الله ولكل كلمة ظهر هو الصورة وبطن هو المعنى إلى سبعة أبطن ، كما ورد في الخبر "لكل حق حقيقة" ، فالوجود كله حق حتى أن النطق بكلمات لا معاني لها حق ، فإنها قد وجدت.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
والباطل هو المعنى الذي تحتها ، كقول من يقول : مات زيد ، ولم يمت ، فإن حروف الكلمة حق ، فإنها قد وجدت.
والباطل هو أن زيداً مات.
وهو المعنى الذي تحتها فالدنيا حق وحقيقتها الآخرة ، والبرزخ وصل بينهما وربط.
ومن ها هنا يعرف قول علي رضي الله عنه : الناس نيام إذا ماتوا تيقظوا ، فالرؤيا حق.
وكذا ما في الخارج من تعبيرها لكن كلاً منهما خيال بالنسبة إلى الآخرة لكونه من الدنيا ، وكونه خيالاً ، ومن الدنيا لا ينافي كونه حقاً ، وإنما ينافي كونه حقيقة.
ولذا قال يوسف الصديق عليه السلام : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً.
وقال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : إنما الكون خيال ، وهو حق في الحقيقة.
وفي الآية إشارة إلى أن المخلوقات كلها ما خلقت إلا لمعرفة الحق تعالى ، كما قال قائل : فخلقت لخلق لأعرف.
وفي الحديث : "لو عرفتم الله حق
461
معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال ، ولهذه المعرفة خلقت سماوات الأرواح وأراضي النفوس ، وما بينهما من العقول والقلوب والقوى.
{وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} عطف على الحق بتقدير المضاف ؛ أي : بتقدير أجل معين ينتهي إليه أمور الكل ، وهو يوم القيامة ، وذلك لأن اقتران الخلق ليس إلا به لا بالأجل نفسه.
وفيه إيذان بفناء العالم وموعظة وزجر ؛ أي : فانتبهوا أيها الناس ، وانظروا ما يراد بكم ولم خلقتم؟
وإشارة بأن لكل عارف أجل مسمى لمعرفته وأكثره في هذه الأمة أربعون سنة ، فإنها منتهى السلوك ، فلا يغتر العبد بعلمه وعرفانه ، فإنه فوق كل ذي علم عليم ، ولكل حد نهاية ، والأمور مرهونة بأوقاتها وأزمانها.
وهذا بالنسبة إلى من سلك على الفطرة الأصلية وعصم من غلبة أحكام الإمكان ، وإلا فمن الناس من يجتهد سبعين سنة ، ثم لا يقف دون الغاية ، ثم إنه فرق بين أوائل المعرفة وأواخرها ، فإن حصول أواخرها يحتاج إلى مدة طويلة بخلاف أوائلها إذ قد تحصل للبعض في أدنى مدة ، بل في لحظة كما حصلت لسحرة فرعون ؛ فإنهم حيث رأوا معجزة موسى عليه السلام.
قالوا : آمنا برب العالمين.
حكي : أن إبراهيم بن أدهم قدس سره لما قصد هذا الطريق لم يك إلا مقدار سيره من بلخ إلى مرو الروذ حتى صار بحيث أشار إلى رجل سقط من القنطرة في الماء الكثير هنالك ، فوقف الرجل مكانه في الهواء ، فتخلص وإن رابعة البصرية كانت أمة كبيرة يطاف بها في سوق البصرة ، ولا يرغب فيها أحد لكبر سنها ، فرحمها بعض التجار ، فاشتراها بنحو مائة درهم وأعتقها ، فاختارت هذا الطريق وأقبلت على العبادة ، فما تمت لها سنة حتى زادها زهاد البصرة وقراؤها وعلماؤها لعظم منزلتها ، فهذه من العناية القديمة والإرادة الأزلية الغير المعللة بشيء من العلل :
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
فيض روح القدس ارباز مدد فرمايد
ديكران هم بكنند آنجه مسيحا ميكرد
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : لم يكن يتخلص عندي أحد الجانبين في مسألة خلق الأعمال وتعسر عندي الفصل بين الكتب الذي يقول به قوم ، وبين الخلق الذي يقول به قوم ، فأوقفني الله تعالى بكشف بصري على خلقة المخلوق الأول الذي لم يتقدمه مخلوق ، وقال : هل هنا أمر يورث اللبس والحيرة.
قلت : لا يا رب ، فقال لي : هكذا جميع ما نراه من المحدثات ما لأحد فيه أثر ولا شيء من المخلوق ، فأنا الذي أخلق الأشياء عند الأسباب لا بالأسباب ، فتكون على أمري خلقت النفخ في عيسى وخلقت التكون في الطائر.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي : مشركو أهل مكة {عَمَّآ أُنذِرُوا} به وخوفوا من يوم القيامة ، وما فيه من الأهوال {مُّعْرِضُونَ} بترك الاستعداد له بالإيمان والعمل.(8/357)
وفيه إشارة إلى أن الإعراض عما أنذروا به كفر.
قال الفقهاء : إذا وصف الله أحد بما لا يليق به كالإمكان والحدوث والجسمية والجهات والظلم والنوم والنسيان والتأذي ونحو ذلك ، أو استهزأ باسم من أسمائه أو أمر من أوامره أو أنكر شيئاً من وعده ووعيده وما ثبت بدليل قطعي يكفر ولو زنى رجل ، أو عمل عمل قوم لوط ، فقال له الآخر : مكن ، فقال : (كنم ونيك أرم).
فهذا كفر ، ولو قيل لرجل : لا تعص الله ، فإن الله يدخلك النار ، فقال : (من از دوزخ نه انديشم يكفر).
ولو قيل الرجل : (بسيار مخور وبسيار مخب أو بسيار مخد) ، فقال : (جندان خورم وخسم وخندم خود خواهم يكفر).
لكون كل من الأكل والنوم والضحك الكثير منهياً عنه مميتاً
462
للقلب فرد القول فيه رد للنص حقيقة.
وفي آخر "فتاوى الظهيرية" : سئل الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل ، عمن يقول : أنا لا أخاف النار ، ولا أرجو الجنة ، وإنما أخاف الله وأرجوه ، فقال قوله : لا أخاف النار ، ولا أرجو الجنة غلط ، فإن الله تعالى خوف عباده بالنار بقوله تعالى : {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} (آل عمران : 131) ، ومن قيل له : خف مما خوفك الله ، فقال : لا أخاف رداً لذلك كفر ، انتهى.
يقول الفقير : صرح العلماء بأن الإيمان من أجل خوف النار ورجاء الجنة لا يصح ؛ لأنه إيمان غير خالص ، فلو كان مراده من نفي الخوف والرجاء ، أن إيماني ليس بمبني عليهما لم يكفر ، بل أصاب حقيقة الإيمان على أن المراد من اتقاء النار في الحقيقة اتقاء الله تعالى ، فإن الله هو الذي يدخله النار بمقتضى وعيده على تقدير عصيانه ، فيؤول المعنى في الآية إلى قولنا : فاتقوا الله ولا تعصوه حتى لا يدخلكم النار ، نعم رد ظاهر النص كفر إذا لم يقدر على الخروج عن عهدته بتأويل مطابق للشرع ، ومن أكبر الذنوب أن يقول الرجل لأخيه : اتق الله ، فيقول في جوابه : عليك نفسك ؛ أي : الزم نفسك وأنت تأمرني بهذا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
روي : أن يهودياً قال لهارون الرشيد في سيره مع عسكره : اتق الله ، فلما سمع هارون قول اليهودي نزل من فرسه ، وكذا العسكر نزلوا تعظيماً لاسم الله العظيم ، وجاء في كتب الأصول إذا حلف على مس السماء انعقد اليمين لتوهم البر ؛ لأن السماء ممسوسة ، كما قال تعالى حكاية عن الجن ، {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ} (الجن : 8) ، ثم يحنث ويلزمه موجب الحنث ، وهو الكفارة ، فيكون آثماً ؛ لأن المقصود باليمين تعظيم المقسم به ، وها هنا هتك حرمة الاسم.
انتهى.
فعلى العاقل أن يقبل قول الناصح ويخاف من الله ويعظم اسمه حتى يكون مظهر صفات لطفه ويعرف أنه تعالى لطيف ، فإذا كفر وأعرض يكون مظهر صفات قهره ، فيعرف أن الله تعالى قهار نسأل الله عفوه وعطاه ولطفه الواسع ورضاه.
{إِنَّ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ لايَـاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَـاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَـاحِ ءَايَـاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ ءَايَـاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} .
{قُلْ} للكافرين توبيخاً وتبكيتاً.
{أَرَءَيْتُمْ} : أخبروني.
وبالفارسية : (خبر ميد هيد مرا) {مَا تَدَّعُونَ} ؛ أي : ما تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} من الأصنام والكواكب وغيرها.
{أَرُونِىَ} : (بنما بيد بمن).
وهو تأكيد لأرأيتم.
{مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ} ؛ أي : كانوا آلهة وهو بيان الإبهام في ماذا ؛ أي : أي جزء من أجزاء الأرض تفردوا بخلقه دون الله ، فالمفعول الأول لأرأيتم قوله : ما تدعون.
والثاني : ماذا خلقوا ومآله أخبروني عن حال آلهتكم.
{أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} ؛ أي : شركة مع الله تعالى.
{فِى السَّمَـاوَاتِ} ؛ أي : في خلقها أو ملكها وتدبيرها حتى يتوهم أن يكون لهم شائبة استحقاق للعبودية ، فإن ما لا مدخل له في وجود شيء من الأشياء بوجه من الوجوه ، فهو بمعزل من ذلك الاستحقاق بالكلية ، وإن كانوا من الأحياء العقلاء ، فما ظنكم بالجماد.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وجون ظاهر ست كه معبودان شما عاجزاند وايشان را درزمين وآسمان تصرفى نيست بس جرا دربرستش بامن شريك مى سازيد).
فإن قلت : فما تقول في عيسى عليه السلام ، فإنه كان يحيي الموتى ويخلق الطير ، ويفعل ما لا يقدر عليه غيره.
قلت : هو بأقدار الله تعالى وإذنه.
وذلك لا ينافي عجزه في نفسه وذكر الشرك في الجهات العلوية دون السفلية ؛ أي : دون أن يعم بالأرض أيضاً ؛ لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على اختصاص الله تعالى بخلقها لعلوها وكونها مرفوعة بلا عمد وأوتاد ، أو للاحتراز عما يتوهم أن للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفلية ، يعني : لو قال أم لهم شرك في الأرض لتوهم أن للسماوات دخلاً وشركة في إيجاد الحوادث السفلية هذا على
463
تقدير أن تكون أم منقطعة.
(8/358)
والأظهر أن تجعل الآية من حذف معادل ، أم المتصلة لوجود دليله.
والتقدير : ألهم شرك في الأرض ، أم لهم شرك في السماوات؟ كما في "حواشي سعدي المفتي".
{ائْتُونِى بِكِتَـابٍ} إلخ.
تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي ، والباء للتعدية ؛ أي : ائتوني بكتاب إلهي كائن.
{مِّن قَبْلِ هَـاذَآ} ؛ أي : الكتاب أي : القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم ، يعني : أن جميع الكتب السماوية ناطقة بمثل ما نطق به القرآن.
{أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} ؛ أي : بقية كائنة من علم بقيت عليكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم للعبادة من قولهم : سمنت الناقة على أثارة من لحم وشحم ؛ أي : على بقية لحم وشحم كانت بها من لحم وشحم ذاهب ذائب.
{إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في دعواكم ، فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو نقلي ، وحيث لم يقم عليها شيء منهما ، وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل تبين بطلانها :
واحد اندر ملك اورا يارنى
بنكانش را جزا وسالارنى
نيست خلقش راد كركس مالكى
شركتش دعوى كند جز هالكى
وفيه إشارة إلى أن كل ما يعبد من دون الله من الهوى والشيطان وغيرهما لا يقدر على شيء في أرض النفوس وسماوات الأرواح ، فإن الله هو الخالق.
ومنه التأثير وبيده القلوب يقلبها كيف يشاء ، فإن شاء أقامها للحق وإن شاء أزاغها للباطل ، وليس لعبادة غير الله دليل من المعقول والمنقول ، ولم يجوزها أحد من أولي النهي والمكاشفة ، ومن ثمة اتفق العلماء من أهل الظاهر والباطن على وجوب الإخلاص حتى قالوا : الرغبة في الإيمان والطاعة لطلب الثواب والخوف من العقاب غير مقيدة فإن فيها ملاحظة غير الله فالعبادة إنما هيلا للجنة ولا للنار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{وَمِنْ} استفهام خبره قوله : {أَضَلَّ} : (كمراه ترست).
{مِمَّن يَدْعُوا} ويعبد {مِن دُونِ اللَّهِ} ؛ أي : حال كونه متجاوزاً دعاء الله وعبادته.
{مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} : الجملة مفعول بدعواى هم أضل من كل ضلل حيث تركوا عبادة خالقهم السميع القادر المجيب الخبير إلى عبادة مصنوعهم العاري عن السمع والقدرة والاستجابة.
يعني : (اكر مشرك معبود باطل خودرا بخواند اثر استجابت از وظاهر نخواهد شد).
{إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} : غاية لنفي الاستجابة ؛ أي : ما دامت الدنيا ، فإن قيل : يلزم منه أن منتهى عدم الاستجابة يوم القيامة للإجماع على اعتبار مفهوم الغاية.
قلنا : لو سلم فلا يعارض المنطوق.
وقد دل قوله : وإذا حشر الناس الآية على معاداتهم إياهم ، فأنى الاستجابة ، وقد يجاب بأن انقطاع عدم الاستجابة حينئذٍ لاقتضائه سابقة الدعاء ولا دعاء ويرده قوله تعالى : {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} (الكهف : 52) إلا أن يخص الدعاء بما يكون عن رغبة ، كما في "حواشي سعدي المفتي".
وقال ابن الشيخ : وإنما جعل ذلك غاية مع أن عدم استجابتهم أمر مستمر في الدنيا والآخرة إشعاراً بأن معاملتهم مع العابدين بعد قيام الساعة أشد وأفظع مما وقعت في الدنيا إذ يحدث هناك العداوة والتبري ونحوه ، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ، فإن اللعنة على الشيطان ، وإن كانت أبدية لكن يظهر يوم الدين أمر أفظع منها تنسى عنده ؛ كأنها تنقطع.
{وَهُمْ} ؛ أي : الأصنام.
{عَن دُعَآاـاِهِمْ} ؛ أي : عن دعاء الداعين المشركين وعبادتهم ، فالضمير الأول لمفعول يدعو ، والثاني : لفاعله.
والجمع فيهما باعتبار معنى من ، كما أن الإفراد فيما سبق
464
باعتبار لفظها.
{غَـافِلُونَ} لكونهم جمادات لا يعقلون ، فكيف يستجيبون.
وعلى تقدير كون معبوديهم أحياء كالملائكة ونحوهم ، فهم عباد مسخرون مشغولون بأحوالهم وضمائر العقلاء لإجرائهم الأصنام مجرى العقلاء ووصفها بما ذكر من ترك الاستجابة.
والغفلة مع ظهور حالها للتهكم بها وبعبدتها :
بى بهره كسى كه جشمه آب حيات
بكذا رد ورونهد بسوى ظلمات
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} عند قيام القيامة ، والحشر الجمع كما في "القاموس".
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال الراغب : الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب وغيرها ، ولا يقال : إلا في الجماعة وسمي القيامة يوم الحشر ، كما سمي يوم البعث ويوم النشر.
{كَانُوا} ؛ أي : الأصنام.
{لَهُمْ} ؛ أي : لعابديهم.
{أَعْدَآءِ} يضرونهم ولا ينفعونهم.
(خلاف آنجه كمان مى بردند بديشان ازشفاعت ومدد كارى).
{وَكَانُوا} ؛ أي : الأصنام {بِعِبَادَتِهِمْ} ؛ أي : بعبادة عابديهم.
{كَـافِرِينَ} ؛ أي : مكذبين بلسان الحال أو المقال على ما يروى أنه تعالى يحيي الأصنام فتتبرأ من عبادتهم وتقول : إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم ؛ لأنها الآمرة بالإشراك ، فالآية نظير ما تقدم في يونس.
(8/359)
وقال شركاؤهم : ما كنتم إيانا تعبدون.
وفي الآية إشارة إلى النشور عن نوم الغفلة ، فإنه عنده يظهر أن جميع ما سوى الله أعداء ، كما قال إبراهيم الخليل عليه السلام ، {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 77).
وقال : إني بريء مما تشركون : (نفلست كه ابو يزيد بسطامي قدس سره درراه حج شترى داشت زاد وذخيره خودرا وازان عديلان خودرا برآنجانهاده بودكسى كفت ييجاره آن اشترك را بار بسيارست واين ظلمى تمامست بايزيد جون اين سخن ازو بشنود كفت اى جوا نمرد بردارنده بارا شترنيست فرونكرتا بارهيج بريشت اشترهست فرونكر بست باربيك كذا ربشت اشتر بر ترديد واورا از كرانى هيج خبر نبود مرد كفت سبحان الله جه عجب كارست بايزيد كفت اكر حقيقت حال خود از شما بنهان دارم زبان ملامت دراز كنيد واكر شمارا مكشوف كردانيم طاقت نداريد باشما جه بايد كدربس جون برفت وبمدينه زيارت كرد امرش آمدكه بخدمت ما در باز كشتن بايد جماعتى روى به بسطام نهاد خبر در شهر افتاد همه أهل بسطام تابد ووجايى استقبال اوشدند جون نزديك اورسيدند شيخ قرصى را ز آستين بكرفت وشهر رمضان بود بخوردن يستاد جمله آن بديدند ازوى بركشتند شيخ أصحاب را كفت نديدكه بمسئلة از شريعت كار بستم همه خلق مرارد كردند).
يقول الفقير : كان مراد أبي يزيد تنفير الناس حتى لا يشغلوه عن الله تعالى إذ كل ما يشغل السالك عن الله ، فهو عدو له ، ولا بد من اجتناب العدو بأي وجه كان من وجوه الحيل ، فجعل الإفطار في نهار رمضان وسيلة لهذا المقصد ، فإن قلت : كيف جاز له هتك حرمة الشهر بما وقع له من الإفطار في نهاره.
قلت : له وجهان :
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
الأول : أنه لم يجد عند ملاقاتهم ما يدفعهم عنه سوى هذه الحيلة ، فأفطر وكفر تحصيلاً للأمر العظيم الذي هو القبول عند الله والإنس معه على الدوام على أنه إن كان مسافراً لا كفارة عليه إذ هو مرخص في الإفطار.
وبعضهم في مثل هذا المقام ارتكب أمراً بشيعاً عند العادة ، وهو الأوجب عند الإمكان ؛ لأنه يجب أن يكون ظاهر الشرع محفوظاً.
والوجه الثاني : أنه أفطر صورة لا حقيقة ، إذ كان قادراً على الإعدام والإفناء ، كما هو حال الملامية ونظيره شرب
465
الخمر ، فإنها تنقلب عسلاً عند الوصول إلى الحلقوم ؛ أي : بالنسبة إلا من كان قادراً على الاستحالة بإقدار الله تعالى ، لكن يعد أمثال هذا من أحوال الضعفاء دون الأقواء من الكمل فإنهم لا يفعلون ما يخالف ظواهر الشرع جداً نسأل الله العصمة.
{تِلْكَ ءَايَـاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّا فَبِأَىِّ حَدِيثا بَعْدَ اللَّهِ وَءايَـاتِه يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءَايَـاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَـاتِنَا شَيْـاًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} .
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} ؛ أي : على الكفار.
{ءَايَـاتِنَا} حال كونها {بَيِّنَـاتٍ} واضحات الدلالة على مدلولاتها من حلال وحرام وحشر ونشر وغيرها.
وقال الكاشفي : (در حالتى كه ظاهر باشد دلائل إعجازان).
{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ} ؛ أي : لأجله وشأنه ، ويجوز أن يكون المعنى : كفروا به والتعدية باللام من حمل النقيض على النقيض ، فإن الإيمان يتعدى بها كما في قوله : آمنتم له وغيره ، وهو عبارة عن الآيات المتلوة وضع موضع ضميرها تنصيصاً على حقيتها ووجوب الإيمان بها كما وضع الموصول موضع ضمير المتلو عليهم تسجيلاً بكمال الكفر والضلالة.
{لَمَّا جَآءَهُمْ} ؛ أي : في أول ما جاءهم من غير تدبر وتأمل.
{هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} ؛ أي : ظاهر كونه سحراً وباطلاً لا حقيقة له ، وإذا جعلوه سحراً ، فقد أنكروا ما نطق به من البعث والحساب والجزاء ، وصاروا أكفر من الحمير ؛ أي : أجهل ؛ لأن الكفر من الجهل والعياذ بالله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاهُ} بل : أيقولون افترى محمد القرآن؟ أي : اختلقه وأضافه إلى الله كذباً ، فقولهم : هذا منكر ومحل تعجب ، فإن القرآن كلام معجز خارج عن حيز قدرة البشر ، فكيف بقوله عليه السلام : ويفتريه.
واعلم أن كلاً من السحر والافتراء على الله أشنع من السحر.
{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} على الفرض والتقدير.
{فَلا تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيْـاًا} ؛ أي : فلا تقدرون أن تدفعوا عني من عذاب الله شيئاً إذ لا ريب في أن الله تعالى يعاقبني حينئذٍ ، فكيف أفتري على الله كذباً وأعرض نفسي للعقوبة التي لا خلاص منها.
(8/360)
{هُوَ} تعالى : {أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} .
يقال : أفاضوا في الحديث : إذا خاضوا فيه وشرعوا ؛ أي : تخوضون في قدح القرآن وطعن آياته وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى.
{كَفَى بِهِ} ؛ أي : الله والباء صلة.
{شَهِيدَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} حيث يشهد لي بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والجحود ، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم.
{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وعد بالغفران والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله عليهم مع عظم جراءتهم.
وفيه إشارة إلى أن الذين عموا عن رؤية الحق وصموا عن سماع الحق رموا ورثة الرسل بالسحر وكلامهم بالافتراء ، وخاضوا فيهم ، ولما كان شاهد الحال الكل جازى الصادق في الدنيا والآخرة بالمزيد ، والكاذب بالخذلان والعذاب الشديد : (أبو يزيد بسطامي را قدس سره برسيدندكه قومى كويند كه كليد بهشت كلمة لا إله إلا الله است كفت بلى وليكن كليد بى دندان در باز نكشايد ودندان اوجهار جيزست زبان از دروغ وبهتان وغيبت دور ودل از مكر وخيانت صافى وشكم از حرم وشبهت خالى وعمل از هوا وبدعت باك).
فظهر أنه لا بد من تظهير الظاهر والباطن من الأنجاس والأرجاس بمتابعة ما جاء به خير الناس ، فإنما يفترق السحر والكرامة بهذه المتابعة ، كما قالوا : إن السحر يظهر على أيدي الفساق والزنادقة والكفار الذين هم على غير الالتزام بالأحكام الشرعية ومتابعة السنة ، فأما الأولياء فهم الذين بلغوا في متابعة السنة وأحكام الشريعة وآدابها الدرجة العليا.
قال الشيوخ قدس الله أسرارهم : أقل عقوبة المنكر على الصالحين أن يحرم بركتهم ، وقالوا : ويخشى عليه سوء الخاتمة نعوذ بالله
466
من سوء القضاء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال الأستاذ أبو القاسم الجنيد قدس سره : التصديق بعلمنا هذا ولاية ، يعني : الولاية الصغرى دون الكبرى والعجب من الكفار كفروا بآيات الله مع وضوح برهانها ، فكيف يؤمنون بغيرها من آثار الأولياء نعم إذا كان من الله تعالى توفيق خاص يحصل المرام.
حكي عن أبي سليمان الداراني قدس سره أنه قال : اختلفت إلى مجلس بعض القصاص فأثر كلامه في قلبي ، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء ، فعدت ثانياً فسمعت كلامه فبقي في قلبي أثر كلامه في الطريق ، ثم ذهب ثم عدت ثالثاً ، فبقي أثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي ، فكسرت آلات المخالفة ولزمت الطريق ، ولما حكى هذه الحكاية للشيخ العارف الواعظ يحيى بن معاذ الرازي قدس سره قال : عصفور اصطاد كركياً يعني : بالعصفور القاص ، وبالكركي أبا سليمان الداراني ، فباب الموعظة مفتوح لكل أحد لكن لا يدخل بالقبول إلا من رحمه الله تعالى وأعظم المواعظ مواعظ القرآن.
قال المولى الجامي :
حق ازان حبل خواند قرآنرا
تابكيرى بسان حبل آنرا
بدرآيى زجاه نفس وهوى
كنى آهنك عالم بالا
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ} : البدع بالكسر بمعنى البديع ، وهو من الأشياء ما لم ير مثله كانوا يقترحون عليه صلى الله عليه وسلّم آيات عجيبة ويسألونه عن المغيبات عناداً ومكابرة ، فأمر عليه السلام بأن يقول لهم : ما كنت بدعاً من الرسل ؛ أي : لست بأول مرسل أرسل إلى البشر ، فإنه تعالى قد بعث قبلي كثيراً من الرسل وكلهم قد اتفقوا على دعوة عباد الله إلى توحيده وطاعته ، ولست داعياً إلى غير ما يدعون إليه ، بل أدعو إلى الله بالإخلاص في التوحيد والصدق في العبودية وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، ولست قادراً على ما لم يقدروا عليه حتى آتيكم بكل ما تقترحونه ، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من الغيوب ، فإن من قبلي من الرسل ما كانوا يأتون إلا بما آتاهم من الآيات ، ولا يخبرون قومهم إلا بما أوحي إليهم ، فكيف تنكرون مني إن دعوتكم إلى ما دعا إليه من قبلي من الأنبياء ، وكيف تقترحون علي ما لم يؤته الله إياي.
{وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلا بِكُمْ} ما : الأولى نافية ولا تأكيد لها.
والثانية : استفهامية مرفوعة بالابتداء خبرها يفعل ، وجوز أن تكون الثانية موصولة منصوبة بأدري ، والاستفهامية أقضى لحق مقام التبري من الدراية.
والمعنى : وما أعلم أي شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان ، وإلى من يصير أمري وأمركم في الدنيا ، فإنه قد كان في الأنبياء من يسلم من المحن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
ومنهم : من يمتحن بالهجرة من الوطن.
ومنهم : من يبتلى بأنواع الفتن ، وكذلك الأمم.
منهم : من أهلك بالخسف.
(8/361)
ومنهم : من كان هلاكه بالقذف وكذا بالمسخ وبالريح وبالصيحة والغرق وبغير ذلك ، فنفى عليه السلام علم ما يفعل به وبهم من هذه الوجوه ، وعلم من هو الغالب المنصور منه ومنهم ، ثم عرفه الله بوحيه إليه عاقبة أمره وأمرهم ، فأمره بالهجرة ووعده العصمة من الناس وأمره بالجهاد وأخبر أنه يظهر دينه على الأديان كلها ، ويسلط على أعدائه ويستأصلهم.
وقيل : يجوز أن يكون المنفي هي الدراية المفصلة ؛ أي : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدارين على التفصيل إذ لا علم لي بالغيب كان الإجمال معلوماً ، فإن جند الله هم الغالبون ، وأن مصير الأبرار إلى النعيم ، ومصير الكفار إلى الجحيم.
وقال المولى أبو السعود رحمه الله : والأظهر الأوفق لما ذكر من سبب النزول أن ما عبارة عما ليس في علمه من وظائف النبوة في الحوادث والواقعات الدنيوية دون
467
ما سيقع في الآخرة ، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة.
وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين.
هذا وقد روي عن الكلبي أن النبي عليه السلام رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر ، فأخبر أصحابه ، فحسبوا أنه وحي أوحي إليه فاستبشروا :
سعد يا حب وطن كرجه حديث است صحيح
نتوان مرد بسختى كه من انجازادم
ومكثوا بذلك ما شاء الله فلم يروا شيئاً مما قال لهم ، فقالوا له عليه السلام وقد ضجروا من أذية المشركين حتى متى نكون على هذا؟ فقال عليه السلام : إنها رؤيا رأيتها كما يرى البشر ، ولم يأتني وحي من الله ، فنزل قوله : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ؛ أي : أؤترك بمكة أم أؤمر بالخروج إلى ما رأيتها في المنام.
يقول الفقير : وعلى هذا يلزم أن يكون خطاب في بكم للمؤمنين ، وهو بعيد لما دل عليه ما قبل الآية ، وما بعدها من أنه للكفار.
وفي الإشارة إلى فساد أهل القدر والبدع حيث قالوا : إيلام البرايا قبيح في العقل ، فلا يجوز ؛ لأنه لو لم يجز ذلك لكان يقول : أعظم البرايا أعلم قطعاً أني رسول الله معصوم ، فلا محالة يغفر لي ، ولكنه قال : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ليعلم أن الأمر أمره والحكم حكمه له أن يفعل بعباده ما يريد ولا يسأل عما يفعل.
وفي "عين المعاني" : وحقيقة الآية البراءة من علم الغيب.
قال المولى الجامي :
اي دل تاكى فضولى وبو العجبي
ازمن جه نشان عافيت مى طلبى
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
سركوشته بود خواه ولى خواه نبى
در وادى ما أدري ما يفعل بي
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَىَّ} ؛ أي : ما أفعل إلا اتباع ما يوحي إلى على معنى قصر أفعاله عليه السلام على اتباع الوحي لا قصر اتباعه على الوحي ، كما هو المتسارع إلى الأفهام ، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه من الغيوب.
وقيل : عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذية المشركين.
والأول هو الأوفق لقوله تعالى : {وَمَآ أَنَا إِلا نَذِيرٌ} : أنذركم عقاب الله حسبما يوحى إلي {مُّبِينٌ} بين الإنذار لكم بالمعجزات الباهرة ، ففيه أنه عليه السلام أرسل مبلغاً وليس إليه من الهداية شيء ، ولكن الله يهدي من يشاء ، وإن علم الغيوب بالذات مختص بالله تعالى ، وأما إخبار الأنبياء والأولياء عليهم السلام ، فبواسطة الوحي والإلهام وتعليم الله سبحانه.
ومن هذا القبيل إخباره عليه السلام عن أشراط الساعة ، وما يظهر في آخر الزمان من غلبة البدع والهوى وأخباره عن حال بعض الناس كما قال عليه السلام : إن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة ، فدخل عبد الله بن سلام ، فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله ، فأخبروه بذلك ، وقالوا : لو أخبرتنا بأوثق عملك الذي ترجو به ، فقال : إني ضعيف ، وإن أوثق ما أرجو به سلامة الصدر وترك ما لا يعنيني ، وعن سيد الطائفة الجنيد البغدادي قدس سره قال لي خالي السري السقطي : تكلم على الناس ؛ أي : عظهم وكنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك ، فرأيت النبي عليه السلام في المنام.
وكان ليلة الجمعة ، فقال : تكلم على الناس ، فانتبهت وأتيت باب خالي ، فقال : لم تصدقنا حتى قيل لك : أي من جانب الرسول عليه السلام ، فقعدت من غد للناس فقعد على غلام نصراني متنكراً في صورة مجهولة.
وقال : أيها الشيخ : ما معنى قوله صلى الله عليه وسلّم "اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله" ، قال : فأطرقت رأسي ورفعت ، فقلت : أسلم فقد حان وقت إسلامك ، فأسلم الغلام ، فهذا إنما وقع بتعريف الله تعالى ؛ أي : للشبلي والجنيد.
468
{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَـاتِنَا شَيْـاًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مِّن وَرَآاـاِهِمْ جَهَنَّمُا وَلا يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْـاًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَا وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَـاذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآيات رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
(8/362)
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ} : أخبروني أيها القوم.
{إِن كَانَ} ما يوحى إليّ من القرآن في الحقيقة {مِنْ عِندِ اللَّهِ} لا سحراً ولا مفترى كما تزعمون.
وفي "كشف الأسرار" : أن هنا ليس بشك كقول شعيب ، ولو كنا كارهين لو هناك ليس بشك ، بل هما من صلات المكارم.
{وَكَفَرْتُم بِهِ} ؛ أي : والحال أنكم قد كفرتم به ، فهو حال بإضمار قد من الضمير في الخبر وسط بين أجزاء الشرط مسارعة إلى التسجيل عليهم بالكفر.
ويجوز أن يكون عطفاً على كان ، كما في قوله تعالى : {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ} (فصلت : 52) ، لكن لا على أن نظمه في سلك الشرط المتردد بين الوقوع وعدمه عندهم باعتبار حاله في نفسه ، بل باعتبار حال المعطوف عليه عندهم ، فإن كفرهم به متحق عندهم أيضاً ، وإنما ترددهم في أن ذلك كفر بما عند الله أم لا ، وكذا الحال في قوله تعالى : {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} وما بعده من الفعلين ، فإن الكل أمور متحققة عندهم ، وإنما ترددهم في أنها شهادة وإيمان بما عند الله واستكبار منهم أم لا {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} عظيم الشأن {مِنا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} الواقفين على شؤون الله وأسرار الوحي بما أوتوا من التوراة {عَلَى مِثْلِهِ} ؛ أي : مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة المطابقة لما في القرآن من التوحيد والوعد والوعيد ، وغير ذلك ، فإنها عين ما فيه في الحقيقة كما يعرب عنه قوله تعالى : {وَإِنَّه لَفِى زُبُرِ الاوَّلِينَ} (الشعراء : 196).
وقيل : المثل صلة ، يعني عليه ؛ أي : يشهد شاهد على أنه من عند الله.
{فَـاَامَنَ} : الفاء للدلالة على أنه سارع في الإيمان بالقرآن لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق ، وليس من كلام البشر.
{وَاسْتَكْبَرْتُمْ} : عطف على شهد شاهد وجواب الشرط محذوف.
والمعنى : أخبروني إن كان من عند الله.
وشهد على ذلك أعلم بني إسرائيل فآمن به من غير تلعثم واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه المرتبة من أضل منكم بقرينة قوله تعالى : {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِه مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقا بَعِيدٍ} (فصلت : 52).
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} الذي يضعون الجحد والإنكار موضع الإقرار والتسليم وصفهم بالظلم للإشعار بعلية الحكم ، فإن تركه تعالى لهدايتهم لظلمهم وعنادهم بعد وضوح البرهان.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وفيه إشارة إلى أنه لا عذر لهم بحال إذ عند وجود الشاهد على حقية الدعوى تبطل الخصومة ، وذلك الشاهد في الآية عبد الله بن سلام بن الحارث حبر أهل التوراة ، وكان اسمه الخصين ، فسماه رسول الله عبد الله رضي الله عنه لما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة أتاه ، فنظر إلى وجهه الكريم ، فعلم أنه ليس بوجه كذاب وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر ، فقال له : إني أسألك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام يأكله أهل الجنة والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه ، فقال عليه السلام : أما أول أشراط الساعة ، فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وأما الولد فإن سبق ماء الرجل نزعه ، وإن سبق ماء المرأة نزعته.
فقال : أشهد أنك رسول الله حقاً ، ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بهت ، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك ، فجاء اليهود ، وهم خمسون ، فقال لهم النبي عليه السلام : "أي رجل عبد الله فيكم" قالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا ، قال : "أرأيتم إن أسلم عبد الله" قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج إليهم عبد الله ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً
469
رسول الله ، فقالوا : شرنا وابن شرنا وانتقصوه.
قال : هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر.
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : ما سمعت رسول الله عليه السلام يقول لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام.
وفيه نزل وشهد شاهد إلخ.
وقال مسروق رضي الله عنه ، والله ما نزلت في عبد الله ، فإن آل حم نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بالمدينة وأجاب الكلبي بأن الآية مدنية ، وإن كانت السورة مكية ، فوضعت في السورة المكية على ما أمر رسول الله عليه السلام.
وفي الآية إشارة إلى التوفيق العام ، وهو التوفيق إلى الإيمان بالله وبرسوله ، وما جاء به ، وأما التوفيق الخاص ، فهو التوفيق إلى العمل بالعلم المشروع الذي ندبك الشارع إلى الاشتغال بتحصيله سواء كان العمل فرضاً أم تطوعاً وغاية العمل والمجاهدات والرياضات تصفية القلب والتخلق بالأخلاق الإلهية والوصول إلى العلوم الذوقية ، فالإيمان بالله وبالأنبياء والأولياء أصل الأصول ، كما أن الإنكار والاستكبار سبب الحرمان والخذلان ، فإن أقل عقوبة المنكر على الصالحين أن يحرم بركتهم.
(8/363)
قال أبو تراب النخشبي قدس سره : إذا ألف القلب الإعراض عن الله صحبته الوقيعة :
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
جون خدا خواهدكه
برده كس درد
ميلش اندر طعنة باكان برد
وقال الشيخ العارف شاه شجاع الكرماني قدس سره : ما تعبد متعبد بأكبر من التحبب إلى أولياء الله تعالى ؛ لأن محبة أولياء الله دليل على محبة الله ، والله يهدي من يشاء إلى مقام المحبة والرضا ولا يهدي الظالمين المعاندين ؛ لأنهم من أهل سوء القضاء.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي : كفار مكة من كمال استكبارهم {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} ؛ أي : لأجلهم ، فليس الكلام على المواجهة والخطاب حتى يقال : ما سبقونا {لَّوْ كَانَ} ؛ أي : ما جاء به محمد عليه السلام من القرآن والدين {خَيْرًا} حقاً {مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} ، فإن معالي الأمور لا ينالها أيدي الأرذال ، وهم سقاط عامتهم فقراء وموالي ورعاة.
وبالفارسية : (بيشى نكر فتندى برماو مسارعت نكردندى بسوى آن دين ادانى قبائل وفقراء ناس بلكه مادران سابق بودمى جه رتبة ما ازان بزر كترو بزركى وشهرت ما بيشتر).
قالوه زعماً منهم أن الرياسة الدينية مما ينال بأسباب دنيوية وزل عنهم أنها منوطة بكمالات نفسانية وملكات روحانية مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا الدنية ، والإقبال على الآخرة بالكلية ، وأن من فاز بها ، فقد حازها بحذافيرها ، ومن حرمها ، فما له منها من خلاق.
يقول الفقير : الأولى في مثل هذا المقام أن يقال : إن الرياسة الدينية فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء بغير علل وأسباب ، فإن القابلية أيضاً إعطاء من الله تعالى {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} ظرف لمحذوف يدل عليه ما قبله ويترتب عليه ما بعده لا لقوله ، فسيقولون ، فإنه للاستقبال.
وإذ للمضي ؛ أي : وإذا لم يهتدوا بالقرآن ، كما اهتدى به أهل الإيمان ما قالوا : {فَسَيَقُولُونَ} غير مكتفين بنفي خيريته {هَـاذَآ} القرآن.
{إِفْكٌ قَدِيمٌ} كما قالوا أساطير الأولين.
وبالفارسية : (ابن دروغ كهنه است يعنى بيشينيان نيز مثل اين كفته اند).
فقد جهلوا بلب القرآن وعادوه ؛ لأن الناس أعداء ما جهلوا :
توز قرآن اى بسر ظاهر مبين
ديو آدم رانبيند جزكه طين
ظاهر قرآن جو شخص آدميست
كه نقوشش ظاهر وجانش خفيست
ومن كان مريضاً مر الفم يجد الماء الزلال مراً ، فلا ينبغي لأحد أن يستهين بشيء من الحق إذا لم يهتد عقله به ، ولم يدركه
470
فهمه ، فإن ذلك من محض الضلالة والجهالة ، بل ينبغي أن يطلب الاهتداء من الهادي ، وبجد فيه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال بعض الكبار : قولهم : لو كان خيراً ما سبقونا إليه نوع من أنواع مكر النفس ليتوهم براءة ذمتها من إنكار الحق ، والتمادي في الباطل ، وإذا لم يهتدوا بما ليس من مشاربهم ، وما هم من أهل ذوق الإيمان بالقرآن وبالمواهب الربانية ، فسيقولون : هذا إفك قديم.
وعن بعض الفقهاء أنه قال : لو عاينت خارق عادة على يدي أحد لقلت : إنه طرأ فساد في دماغي ، فانظر ما أكثف حجاب هذا وما أشد إنكاره وجهله.
قال المولى الجامي :
كلى كه بهر كليم ازدرخت طور شكفت
توقع از خس وخاشاك ميكنى حاشاك
وقال : (مسكين فقيه ميكند انكار حسن دوست با و بكوكه ديده جانرا جلى كند).
{هَـاذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآيات رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ * اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِه وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ جَمِيعًا مِّنْه إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِىَ قَوْمَا} .
{وَمِن قَبْلِهِ} ؛ أي : من قبل القرآن ، وهو خبر لقوله تعالى : {كِتَـابُ مُوسَى} : رد لقولهم : هذا إفك قديم ، وإبطال له ، فإن كونه مصدقاً لكتاب موسى مقرر لحقيته قطعاً ، يعني : كيف يصح هذا القول منهم.
وقد سلموا لأهل كتاب موسى أنهم من أهل العلم وجعلوهم حكماً يرجعون لقولهم في هذا النبي ، وهذا القرآن مصدق له أو له ولسائر الكتب الإلهية.
{إِمَامًا} حال من كتاب موسى ؛ أي : إماماً يقتدى به في دين الله {وَرَحْمَةً} لمن آمن به وعمل بموجبه.
{وَهَـاذَآ} الذي يقولون في حقه ما يقولون {كِتَابٌ} عظيم الشأن {مُّصَدِّقُ} ؛ أي : لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة ، أو لما بين يديه من جميع الكتب الإلهية.
{لِّسَانًا عَرَبِيًّا} : حال من ضمير كتاب في مصدق ؛ أي : ملفوظاً به على لسان العرب ليكون القوم عرباً.
(8/364)
{لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} متعلق بمصدق ، وفيه ضمير الكتاب ، أو الله أو الرسول.
{وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} في حيز النصب عطفاً على محل لينذر ؛ لأنه مفعول له ؛ أي : للإنذار والتبشير ، ومن الظالمين اليهود والنصارى ، فإنهم قالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله وغيروا ذكر محمد صلى الله عليه وسلّم ونعمته في التوراة والإنجيل ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، فكان عليه السلام نذيراً لهم ، وبشيراً للذين آمنوا بجميع الأنبياء والكتب المنزلة ، وهدوا إلى الصراط المستقيم وثبتوا على الدين القويم إما الإنذار فبالنار وبالفراق الأبدي ، وإما التبشير فبالجنة وبالوصل السرمدي.
ولذا قال للمحسنين ، فإن الإحسان عبادة الله بطريق المشاهدة ، وإذا حصل الشهود حصل الوصل ، وبالعكس نسأل الله من فضله :
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
يكى را از صالحان برادرى وفات كرده بود اورا در خواب ديد وبرسيد كه حق تعالى باتوجه كرد كفت مرادر بهشت أورده است ميخورم ومى آشامم ونكاح ميكنم كفت ازين معنى نمى برسم ديدار بروردكار ديدى يانه كفت نى كسى كه آنجا أورا نشناخته است انيجا اورانمى بيند آن عزيز جون بيدار شد بر بهيمة خود سوار شد وبيش شيخ أكبر قدس سره الأطهر آمد در اشبيلية واين خواب را باز كفت وملازمت خدمت او كردتا آن مقدار كه ممكن بود از طريق كشفت وشهود نه از طريق دليل أهل نظر حق تعالى راشناخت وبعد ازان بمقام خود باز كشت سيد شريف جرجانى ميكفته كه تامن بصحبت شيخ زين الدين كلاله كه از مشايخ شيراز است نرسيدم از رفض نرستم وتا بصحبت خواجه علاء الدين عطار نببوستم خدايرا نشناختم).
فعلى العاقل أن يجتهد في طريق الحق حتى يستعد بسعادة الشهود ،
471
ويكون من أهل البشرى ، وعلى هذا جرى العلماء المخلصون وعباد الله الصالحون.
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا} ؛ أي : جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصه العلم ، والاستقامة في أمور الدين التي هي منتهى العمل ، وثم للدلالة على تراخي رتبة العمل ووقف الاهتداء به على التوحيد.
قال ابن طاهر : استقاموا على ما سبق منهم من الإقرار بالتوحيد ، فلم يروا سواه منعماً ، ولم يشكروا سواه في حال ، ولم يرجعوا إلى غيره وثبتوا معه على منهاج الاستقامة.
{فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من لحوق مكروه.
{وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} من فوات محبوب.
والمراد بيان دوام نفي الحزن.
{أولئك} الموصوفون بما ذكر من الوصفين الجليلين {أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ} ملازموها {خَـالِدِينَ فِيهَآ} حال من المستكن في أصحاب {جَزَآءُ} منصوب إما بعامل مقدر ؛ أي : يجزون جزاء أو بمعنى ما تقدم ، فإن قوله تعالى : أولئك أصحاب الجنة في معنى : جازيناهم.
{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الحسنات العلمية والعملية.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أنهم قالوا : ربنا الله من بعد استقامة الإيمان في قلوبهم ، ثم استقاموا بجوارحهم على أركان الشريعة وبأخلاق نفوسهم على آداب الطريقة بالتزكية وبأوصاف القلوب على التصفية وبتوجه الأرواح على التحلية بالتخلق بأخلاق الحق ، فقالوا : ربنا الله باستقامة الإيمان ، ثم استقاموا بالنفوس على أداء الأركان ، وبالقلوب على الإيقان وبالأسرار على العرفان وبالأرواح على الإحسان وبالإخفاء على العيان وبالحق تعالى على الفناء من أنانيتهم ، والبقاء بهويته ، فلا خوف عليهم بالانقطاع ، ولا هم يحزنون على ما فات لهم من حظ الدارين أولئك أصحاب جنة الوحدة باقين فيها آمنين من الاثنينية جزاء بما كانوا يعملون في استقامة الأعمال مع الأقوال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال الشيخ سعدي :
كر همه علم عالمت باشد
بى عمل مدعى وكذابى
وقال بعضهم (ع) :
كرامت نيابى مكر زاستقامت
قال بعض الكبار : كلما قرب العبد من الكمال اشتد عليه التكليف وعادت عليه البركات بالتعريف حتى يستغفر له الأملاك والأفلاك والسماوات والأرضون والحيتان في بحارها ، والوحش في قفارها ، والأوراق في أشجارها.
(8/365)
ولذلك قيل : ويل للجاهل إن لم يتعلم مرة ، وويل للعالم إن لم يعمل ألفاً ، قال عليه السلام : "فرض عليّ قيام الليل ، ولم يفرض عليكم ، ففيه تشديد الطاعة من حيث أكمليته ، فلا بد من العبودية والاستقامة عليها.
(ببرابو على سيادة قدس سره كفت اكرا ترا كويند بهشت خواهى ياد وركعت نماز نكر تابهشت اختيار نكنى دو ركعت نماز اختيار كن زيراكه بهشت نصيب تواست ونماز حق اوجل جلاله وهر كجا نصيب تودرميان آمدا كرجه كرامت بود روا باشدكه كمين كاء مكر كردد وكزارد حق أو بى غائلة ومكراست موسى عليه السلام جون بنزديك حضر عليه السلام آمد دوبار بروى اعتراض كرد يكى در حق آن غلام ديكر از جهت شكستن كشتى جون نصيب خود درميان نبود خضر صبر ميكرد امادر سوم حالت جون نصيب خود بيدا آمدكه لو شئت لاتخذت عليه أجراً خضر كفت مارابا توروى صحبت نماند هذا فراق بيني وبينك بس حذر كن كه جيزى از اغراض نفسانى وزينت دينا با عبادت آميخته كنى جمعى از ابدال در هوامى رفتند ممر ايشان برمر غزارى سبزه وخرم افتاد وجشمه آب صافى يكى از يشان را بخاطر كذشت وتمناى آن كرد كه ازان جشمه وضو سازدودران
472
روضه نماز كزارد في الحال ازميان آن جماعت بزمين افتاد وديكران اورار ها كردند ورفتند واو از مرتبة خود بازماند باين مقدار وبدانكه ابن سرى بغلت عجيب است تر معنى دقيق وحق تعالى تراباين حكايت يندداد اكر فهم كنى).
فالعبودية ترك التدبير وشهود التقدير وباقي ما يتعلق بالآية سبق في نظيرها في [غافر : 1]{حم} {الـم} نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أرباب الاستقامة ، ومن أصحاب دار المقامة إنه ذو الفضل والعطاء في الأولى والآخرة.
{قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِىَ قَوْمَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * مَنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَـاهُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ} عهدنا إليه وأمرناه بأن يحسن {بِوَالِدَيْهِ إِحْسَـانًا} ، فحذف الفعل واقتصر على المصدر دالاً عليه.
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} الأم بإزاء الأب ، وهي الوالدة القريبة التي ولدته ، والوالدة البعيدة التي ولدت من ولدته.
ولهذا قيل لحواء عليها السلام هي أمنا ، وإن كان بيننا وبينها وسائط.
ويقال : لكل ما كان أصلاً لوجود الشيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدؤه أم {كَرْهًا} : حال من فاعل حملته : أي : حال كونها ذات كره ، وهو المشقة والصعوبة بريد حالة ثقل الحمل في بطنها لا في ابتدائها ، فإن ذلك لا يكون فيه مشقة ، أو حملته حملاً ذكره وكذا قوله : {وَوَضَعَتْهُ} ؛ أي : ولدته.
{كَرْهًا} وهي شدة الطلق.
وفي الحديث : "اشتدي أزمة تنفرجي" قال عليه السلام لامرأة مسماة بأزمة حين أخذها الطلق ؛ أي : "تصبري يا أزمة حتى تنفرجي" عن قريب بالوضع.
كذا في "المقاصد الحسنة".
{وَحَمْلُهُ} ؛ أي : مدة حمله في البطن.
{وَفِصَـالُهُ} وهو الفطام ؛ أي : قطع الولد عن اللبن.
والمراد به الرضاع التام المنتهي به ، فيكون مجازاً مرسلاً عن الرضاع التام بعلاقة أن أحدهما بغاية الآخر ومنتهاه ، كماأراد بالأمد المدة من قال : ()
كل حي مستكمل مدة العمر
ومردى إذا انتهى أمده
أي : هالك إذا انتهت مدة عمره ونظيره التعبير عن المسافة بالغاية في قولهم من لابتداء الغاية وإلى الانتهاء الغاية.
{ثَلَـاثُونَ شَهْرًا} تمضي عليها بمقاساة الشدائد لأجله.
والشهر مدة معروفة مشهورة بإهلال الهلال ، أو باعتبار جزء من اثني عشر جزءاً من دوران الشمس من نقطة إلى تلك النقطة سمي به لشهرته.
وهذا دليل على أن أقل مدة الحمل ستة
473
أشهر لما أنه إذا حط منها للفصال حولان لقوله تعالى : {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِا لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة : 233) يبقى للحمل ذلك.
وبه قال الأطباء.
(8/366)
وفي الفقه : مدة الرضاع ثلاثون شهراً عند أبي حنيفة وسنتان عند الإمامين.
وهذا الخلاف في حرمة الرضاع أما استحقاق أجر الرضاع ، فمقدر بحولين لهما قوله تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (البقرة : 233).
وله قوله تعالى : {وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ثَلَـاثُونَ شَهْرًا} : ذكر شيئين وهما : الحمل والفصال.
وضرب لهما مدة ثلاثين شهراً ، وكان لكل واحد منهما بكمالها كلأجل المضروب لدينين ، لكن مدة الحمل انتقصت بالدليل ، وهو قول عائشة رضي الله عنها : الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين ، ولو بقدر ظل مغزل.
والظاهر أنها قالته سماعاً ؛ لأن المقادير لا يهتدي إليها بالرأي ، فبقي مدة الفصال على ظاهرها ، ويحمل قوله تعالى : {يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} (البقرة : 233) على مدة استحقاق أجرة الرضاع حتى لا يجب نفقة الإرضاع على الأب بعد الحولين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
والمراد : السنة القمرية على ما أفادته الآية ، كما قال : شهراً لا الشمسية.
وقال في "عين المعاني" : أقل مدة الحمل ستة أشهر ، فبقي سنتان للرضاع.
وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة : المراد منه الحمل على اليد لو حمل على حمل البطن كان بيان الأقل مع الأكثر انتهى.
قيل : ولعل تعيين أقل مدة الحمل وأكثر مدة الرضاع ؛ أي : في الآية لانضباطهما وتحقق ارتباط النسب والرضاع بهما ، فإن من ولدت لستة أشهر من وقت التزوج يثبت نسب ولدها ، كما وقع في زمان علي كرم الله وجهه ، فحكم بالولد على أبيه ، فلو جاءت بولد لأقل من ستة لم يلزم الولد للزوج ويفرق بينهما ، ومن مص ثدي امرأة في أثناء حولين من مدة ولادته تكون المرضعة أماً له ، ويكون زوجها الذي لبنها منه أباً له.
قال في "الحقائق" الفتوى في مدة الرضاع على قولهما.
وفي "فتح الرحمن" : اتفق الأئمة على أن مدة الحمل ستة أشهر ، واختلفوا في أكثر مدته ، فقال أبو حنيفة سنتان.
والمشهورعن ملك خمس سنين.
وروي عنه أربع وسبع ، وعند الشافعي وأحمد أربع سنين وغالبها تسعة أشهر.
انتهى.
وفي "إنسان العيون" ذكر : أن مالكاً رضي الله عنه مكث في بطن أمه سنتين.
وكذا الضحاك بن مزاحم التابعي.
وفي "محاضرات السيوطي" : إن مالكاً مكث في بطن أمه ثلاث سنين وأخبر سيدنا مالك أن جارة له ولدت ثلاثة أولاد في اثنتني عشرة سنة تحمل أربع سنين.
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} غاية لمحذوف ؛ أي : أخذ ما وصيناه به حتى إذا بلغ وقت أشده بحذف المضاف وبلوغ الأشد أن يكتهل ، ويستوفي السن الذي تستحكم فيه قوته وعقله وتمييزه وسن الكهولة ما بين الشباب وسن الشيخوخة.
قال في "فتح الرحمن" : أشده كمال قوته وعقله ورأيه وأقله ثلاث وثلاثون وأكثره أربعون.
{وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} ؛ أي : تمام أربعين بحذف المضاف.
قيل : لم يبعث نبي قبل أربعين ، وهو ضعيف جداً ، يدل على ضعفه أن عيسى ويحيى عليهما السلام بعثاً قبل الأربعين ، كما في "بحر العلوم" وجوابه أنه من إقامة الأكثر الأغلب مقام الكل ، كما في "حواشي سعد المفتي".
قال ابن الجوزي قوله : ما من نبي نبىء إلا بعد الأربعين موضوع ؛ لأن عيسى نبىء ورفع إلى السماء ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فاشتراط الأربعين في حق الأنبياء ليس بشيء ، انتهى.
وكذا نبىء يوسف عليه السلام ، وهو ابن ثماني عشرة سنة ، كما في التفاسير ، وقس على النبوة الولاية وقوة الإيمان والإسلام.
{قَالَ رَبِّ} : (كفت بروردكار من).
{أَوْزِعْنِى} ؛ أي : ألهمني.
وبالفارسية : (الهام ده مرا وتوفيق بخش).
وأصله : الإغراء بالشيء من قولهم : فلان موزع بكذا ؛ أي : مغرى به.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وقال الراغب : وتحقيقه أولعني بذلك والإيلاع سخت حريص شدن.
أو اجعلني بحيث أزع نفسي عن الكفران ؛ أي : أكفها.
{أَنِ اشْكُرْ} : (تاشكر كنم).
{نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ} ؛ أي : نعمة الدين والإسلام ؛ فإنها النعمة الكاملة ، أو ما يعمها وغيرها وجمع بين شكري النعمة عليه ، وعلى والديه ؛ لأن النعمة عليهما نعمة عليه.
{وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاـاهُ} ؛ أي : تقبله ، وهي الفرائض الخمس وغيرها من الطاعات والتنوين للتفخيم والتنكير.
وقال بعضهم : العمل الصالح المقرون بالرضا بذل النفس ، والخروج مما سوى الله إلى مشاهدة الله.
وفيه إشارة إلى أنه لا يمكن للعبد أن يعمل عملاً يرضى به ربه إلا بتوفيقه وإرشاده.
{وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى} ذرأ الشيء كثر.
ومنه الذرية لنسل الثقلين ، كما في "القاموس" ؛ أي : واجعل الصلاح سارياً في ذريتي راسخاً فيهم ، ولذا استعمل بفي ، وإلا فهو يتعدى بنفسه ، كما في قوله : وأصلحنا له زوجه.
474
قال سهل : اجعلهم لي خلف صدق ولك عبيداً حقاً.
وقال محمد بن علي : لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلاً.
وفيه إشارة إلى أن صلاحية الآباء تورث صلاحية الأبناء.
(8/367)
قال الكاشفي : (اكثر مفسران برانندكه اين آيت خاص است بابي بكر الصديق رضي الله عندكه شش ماه درشكم مادر بوده ودوسال تمام شير خورده وهجده سال بملازمت حضرت بيغمبر عليه السلام رسيد وآن حضرت بيست ساله بود ودرسفر وحضر رقيق وقرين وى بود وجون سال مبارك آن حضرت رسالتبناه بجهل رسيد مبعوث كشت وصديق سى وهشت ساله بودبوى ايمان أورد جون جهل ساله شد كفت رب أوزعني).
إلخ.
فأجاب الله تعالى دعاءه ، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله.
منهم : بلال الحبشي بن رباح (غلامى در بني مذحج مولد ايشان وعامر بن فهيرة از قبيلة از دبود مولد ايشان).
ولم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه ، ولم يكن له ولد إلا آمنوا جميعاً (ودخترش) عائشة رضي الله عنها بشرف (فراش حضرت أشرف رسل مشرف شد وبسرش عبد الرحمن مسلمان كنت وبسر عبد الرحمن أبو عتيق محمد نبز مسلمان كنت وبدولت خدمت حضرت بيغمبر سرافرازى يافت).
وأدرك أبوه أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم ، وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد رسول الله عليه السلام وآمنا به ، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضي الله عنهم (وسى قبائل نيزاز أولاد صديق در عالم هستند اغلب ايشان بشرف علم وصلاح آراسته).
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ} عما لا ترضاه أو عما يشغلني عن ذكرك {وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الذين أخلصوا لك أنفسهم.
{أولئك} إشارة إلى الإنسان والجمع ؛ لأن المراد به الجنس المتصف بالوصف المحكي عنه ؛ أي : أولئك المنعوتون بما ذكر من النعوت الجليلة.
{الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} من الطاعات واجبة ، أو مندوبة ، فإن المباحات حسن لا يثاب عليها.
وفي "ترجمة الفتوحات" : (وهر حركت كه كنى بايدكه بنيت قربت بحق تعالى باشد واكرجه اين حركت در امرى مباح باشد نيت قربت كن بحق تعالى ازين جهت كه تو اعتقاد دارى كه آن مباحت واكر مباح نمى بودبدان مشغول نمى شدى بدين نيت دران امر مباح مستحق ثواب شوى).
يقول الفقير : عندي وجه آخر في الآية ، وهو أن إضافة أحسن من إضافة الصفة إلى موصوفها ، كما في قوله : سيئات ما عملوا.
والتقدير : أعمالهم الحسنى ولا يلزم منه أن لا يتقبل منهم الأعمال الحسنة بل يكون فيه إشارة إلى كل أعمالهم أحسن عند الله تعالى بموجب فضله.
{وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّـاَاتِهِمْ} ؛ أي : ما فعلوا قبل التوبة ، ولا يعاقبون عليها.
قال الحسن : من يعمل سوءاً يجز به إنما ذلك من أراد الله هوانه ، وأما من أراد كرامته ، فإنه يتجاوز عن سيئاته {فِى أَصْحَـابِ الْجَنَّةِ} ؛ أي : حال كونهم كائنين في عداد أصحاب الجنة منتظمين في سلكهم.
{وَعْدَ الصِّدْقِ} مصدر مؤكد لما أن قوله تعالى نتقبل ونتجاوز وعد من الله لهم بالتفضل والتجاوز.
{الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ} في الدنيا على ألسنة الرسل.
قال الشيخ نجم الدين قدس سره في "تأويلاته".
في الآية إشارة إلى رعاية حق الوالدين على جهة الاحترام لما عليه لهما من حق التربية والإنعام ، ليعلم أن رعاية حق الحق تعالى على جهته التعظيم لما عليه له من حق الربوبية ، وإنعام الوجود أحق وأولى.
وقال بعضهم : دلت الآية على أن حق
475
الأم أعظم ؛ لأنه تعالى ذكر الأبوين معاً ، ثم خص الأم بالذكر وبين كثرة مشقتها بسبب الولد زمان حملها ووضعها وإرضاعها مع جميع ما تكابده في أثناء ذلك.
قال في "فتح الرحمن" : عدد تعالى على الأبناء منن الأمهات وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب.
والأب في واحدة جمعهما الذكر في قوله : بوالديه ، ثم ذكر الحمل للأم ، ثم أوضع لها ، ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال ، فهذا يناسب ما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر ، والرابع للأب.
وذلك إذ قال له رجل : يا رسول الله من أبر؟ قال : "أمك" ، ثم قال : ثم من؟ قال : "ثم أمك" ، ثم قال : ثم من؟ قال : "ثم أمك" ، ثم قال : ثم من؟ قال : "ثم أباك".
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال بعض الأولياء ، وهو إبراهيم الخواص قدس سره : كنت في تيه بني إسرائيل ، فإذا رجل يماشيني فتعجبت منه وألهمت أنه الخضر عليه السلام ، فقلت له : بحق الحق من أنت؟ قال : أخوك الخضر ، فقلت له : أريد أن أسألك ، قال : سل ، قلت : ما تقول في الشافعي؟ قال : هو من الأوتاد ؛ أي : من الأوتاد الأربعة المحفوظ بهم الجهات الأربع من الجنوب والشمال والشرق والغرب ، قلت : فما تقول في أحمد بن حنبل إمام السنة؟ ، قال : هو رجل صديق ، قلت : فما تقول في بشر بن الحارث؟ قال : رجل لم يخلف بعده مثله ، يعني : (ازبس اومثل اونبود).
قلت ، فبأي : وسيلة رأيتك؟ قال : ببرك أمك.
(8/368)
قال الإمام اليافعي : حكي أن الله سبحانه أوحى إلى سليمان بن داود عليهما السلام أن اخرج إلى ساحل البحر تبصر عجباً ، فخرج سليمان ، ومن معه من الجن والإنس ، فلما وصل إلى الساحل التفت يميناً وشمالاً ، فلم ير شيئاً ، فقال لعفريت غص في هذا البحر ، ثم ائتني بعلم ما تجد فيه فغاص فيه ، ثم رجع بعد ساعة.
وقال : يا نبي الله إني ذهبت في هذا البحر مسيرة كذا وكذا ، فلم أصل إلى قعره ولا أبصرت فيه شيئاً ، فقال لعفريت آخر : غص في هذا البحر وائتني بعلم ما تجد فيه ، فغاص ثم رجع بعد ساعة.
وقال مثل قول الأول : أنه غاص مثل الأول مرتين ، فقال لآصف بن برخيا ، وهو وزيره الذي ذكره الله تعالى في القرآن بقوله : حكاية عنه.
قال الذي عنده علم من الكتاب : ائتني بعلم ما في هذا البحر ، فجاءه بقبة من الكافور الأبيض لها أربعة أبواب باب من در وباب من جوهر وباب من زبرجد أخضر وباب من ياقوت أحمر ، والأبواب كلها مفتحة ، ولا يقطر فيها قطرة من الماء ، وهي في داخل البحر في مكان عميق مثل مسيرة ما غاص فيه العفريت الأول ثلاث مرات ، فوضعها بين يدي سليمان عليه السلام ، وإذا في وسطها شاب حسن الشباب نقي الثياب ، وهو قائم يصلي ، فدخل سليمان القبة وسلم على ذلك الشاب ، وقال له : ما أنزلك؟ في قعر هذا البحر ، فقال : يا نبي الله إنه كان أبي رجلاً مقعداً ، وكانت أمي عمياء ، فأقمت في خدمتهما سبعين سنة ، فلما حضرت وفاة أمي ، قالت : اللهم أطل حياة ابني في طاعتك ، فلما حضرت وفاة أبي ، قال : اللهم استخدم ولدي في مكان لا يكون للشيطان عليه سبيل ، فخرجت إلى هذا الساحل بعدما دفنتهما ، فنظرت هذه القبة موضوعة ، فدخلتها لأنظر حسنها ، فجاء ملك من الملائكة ، فاحتمل القبة وأنا فيها ، وأنزلني في قعر هذا البحر.
قال سليمان : ففي أي زمان كنت أتيت هذا الساحل؟ قال : في زمن إبراهيم الخليل عليه السلام ، فنظر سليمان في التاريخ ، فإذا له ألفا سنة وأربعمائة سنة ، وهو شاب لا شيبة فيه ، قال : فما طعامك وشرابك في داخل هذا البحر؟ قال : يا نبي الله يأتيني كل يوم طير أخضر في منقاره شيء أصفر مثل رأس
476
الإنسان ، فآكله فأجد فيه طعم كل نعيم في دار الدنيا ، فيذهب عني الجوع والعطش والحر والبرد والنوم والنعاس والفترة والوحشة.
فقال سليمان : أتقف معنا أم نردك إلى موضعك ، فقال : ردني يا نبي الله ، فقال : رده يا آصف فرده ، ثم التفت ، فقال : انظروا كيف استجاب الله دعاء الوالدين ، فأحذركم عقوق الوالدين رحمكم الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال الإمام السخاوي عن ابن عمر رضي الله عنه رفعه : أني سألت الله أن لا يقبل دعاء حبيب على حبيبه ، ولكن قد صح أن دعاء الوالد على ولده لا يرد ، فيجمع بينهما ، وجاء رجل إلى النبي عليه السلام ليستشيره في الغزو ، فقال : ألك والدة؟ قال : نعم ، قال : فالزمها فإن الجنة تحت قدميها :
جنت كه سراى مادرانست
زير قدمات مادرانست
روزى بكن اى خداى مارا
جيزى كه رضاى مادرانست
ومنه : الإعانة والتوفيق للخدمة المرضية بالنفوس الطيبة الراضية.
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَـاهُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ * وَءَاتَيْنَـاهُم بَيِّنَـاتٍ مِّنَ الامْرِا فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَـاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الامْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
{وَالَّذِى} مبتدأ خبره قوله : أولئك ؛ لأن المراد به ؛ أي : بالموصول الجنس.
{قَالَ لِوَالِدَيْهِ} عند دعوتهما له إلى الإيمان ، ويدخل فيه كل عبد سوء عاق لوالديه فاجر لربه.
{أُفٍّ لَّكُمَآ} : (كراهيت وننك مرشمارا).
وهو صوت يصدر عن المرء عند تضجره وكراهيته ، واللام لبيان المؤفف له كما في هيث لك ؛ أي : هذا التأفيف لكما خاصة.
وقال الراغب : أصل الأف كل مستقذر من وسخ وقلامة ظفر ، وما يجري مجراهما ، ويقال ذلك : لكل مستخف به استقذاراً له.
{أَتَعِدَانِنِى} : (آيا وعدمى دهيد مرا).
{أَنْ أَخْرِجْ} : أبعث من القبر بعد الموت {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى} ؛ أي : وقد دخلت أمة بعد أمة من قبلي ، ولم يبعث منهم واحد ، ولم يرجع ، والقرن القوم المقترنون في زمن واحد والخلو المضي.
(8/369)
{وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} ويسألانه أن يغيثه ويوفقه للإيمان.
{وَيْلَكَ} ؛ أي : قائلين له : ويلك ومعناه بالفارسية : (واى برتو).
وهو في الأصل دعاء عليه بالهلاك أريد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك وانتصابه على المصدر بفعل مقدر بمعناه لا من لفظه ، وهو من المصادر التي لم تستعمل أفعالها.
وقيل : هو مفعول به ؛ أي : ألزمك الله ويلك.
{مِن} ؛ أي : صدق بالبعث والإخراج من الأرض.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} ؛ أي : موعوده ، وهو البعث أضافه إليه تحقيقاً للحق وتنبيهاً على خطاه في إسناد الوعد إليهما.
{حَقٍّ} كائن لا محالة ؛ لأن الخلف في الوعد نقص يجب تنزيه الله عنه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{فَيَقُولُ} : مكذباً لهما {مَا هَـاذَآ} الذي تسميانه وعد الله {إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} أباطيلهم التي يسطرونها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة كأحاديث رستم وبهرام وإسفنديار.
{أولئك} القائلون هذه المقالات الباطلة {الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} ، وهو قوله تعالى لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ، كما ينبىء عنه قوله تعالى : {فِى أُمَمٍ} حال من اغجرور في عداد أمم.
{خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ} بيان للأمم {أَنَّهُمْ} جميعاً أي : هم والأمم {كَانُوا خَـاسِرِينَ} قد ضيعوا فطرتهم الأصلية الجارية مجرى الأم رؤوس أموالهم باتباع الشيطان.
والجملة تعليل للحكم بطريق الاستئناف التحقيقي.
{ثُمَّ جَعَلْنَـاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الامْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْـاًا وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍا وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ * هَـاذَا بَصَائرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
{وَلِكُلِّ} من الفريقين المذكورين {دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} مراتب من أجزية ما عملوا من الخير والشر ، فمن نعت الدرجات ، ويجوز أن تكون بيانية ، وما موصولة ، أو من أجل أعمالهم ، فما مصدرية ، ومن متعلق بقوله : لكل.
والدرجات في مراتب المثوبة وإيرادها هنا بطريق التغليب.
{وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ} وليعطيهم أجزية أعمالهم وافية تامة من وفاه حقه إذا أعطاه إياه وافياً تاماً.
477
{وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب الأولين وزيادة عقاب الآخرين ، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر ؛ كأنه قيل : وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم فعل ما فعل من تقدير الأجزية على مقادير أعمالهم ، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات.
وفي الآية ذم لمن اتصف في حق الوالدين في التأفيف.
وفي ذلك تنبيه على ما وراءه من التعنيف ، فحكم أن صاحبه من أهل الخسران.
والخسران نقصان في الإيمان ، فكيف بمن خالف مولاه وبالعصيان آذاه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وفي الحديث : "إن الجنة يوجد ريحها من مسيرة خمسمائة عام ، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم.
وقيل : لما دخل يعقوب على يوسف عليهما السلام لم يقم له ، فأوحى الله إليه ، أتتعاظم أن تقوم لأبيك؟ وعزتي لا أخرجت من صلبك نبياً ، كما في "الإحياء" قيل : إذا تعذر مراعاة حق الوالدين جميعاً بأن يتأذى أحدهما بمراعاة الآخر يرجح حق الأب فيما يرجع إلى التعظيم والاحترام ؛ لأن النسب منه ، ويرجح حق الأم فيما يرجع إلى الخدمة والإنعام حتى لو دخلا عليه يقوم للأب ، ولو سألا منه شيئاً يبدأ في الإعطاء بالأم ، كما في "منبع الآداب".
قال الإمام الغزالي : أكثر العلماء على أن طاعة الأبوين واجبة في الشبهات ، ولم تجب في الحرام المحض حتى إذا كانا ينتقصان بانفرادك عنهما بالطعام ، فعليك أن تأكل معهما ؛ لأن ترك الشبهة ورع ورضا الوالدين حتم.
وكذلك ليس لك أن تسافر في مباح أو نافلة ، إلا بإذنهما ، والمبادرة إلى الحج الذي هو فرض الإسلام نفل ؛ لأنه على التأخير والخروج لطلب العلم نفل إلا إذا كان خروجك لطلب علم الفرض من الصلاة والصوم ، ولم يكن في بلدك من يعلمك ، وذلك كمن يسلم ابتداء في بلد ليس فيه من يعلمه شرع الإسلام ، فعليه الهجرة ، ولا يتقيد بحق الوالدين ، ويثبت بولاية الحسبة للولد على الوالد ، والعبد على السيد ، والزوجة على الزوج ، والتلميذ على الأستاذ ، والرعية على الوالي لكن بالتعريف.
ثم الوعظ والنصح باللطف لا بالسب والتعنيف والتهديد ، ولا بمباشرة الضرب ، ويجب على الأبوين أن لا يحملا الولد على العقوق بسوء المعاملة والجفاء ، ويعيناه على البر.
قال عليه السلام : رحم الله والداً أعان ولده على البر ؛ أي : لم يحمله على العقوق بسوء عمله.
قال الحسن البصري : من عقل الرجل أن لا يتزوج وأبواه في الحياة.
انتهى.
فإنه ربما لا يرضى أحدهما عنه بسبب زوجته ، فيقع في الإثم.
قال الحافظ :
هيج رحمى نه برادر به برادر دارد
هيج شوقي نه بدر رابه بسر مى بينم
دخترا نرا همه جنكست وجدل بامادر(8/370)
بسرا نرا همه بدخواه بدر مى بينم
وفي الحديث : "حق كبير الأخوة على صغيرهم كحق الوالدين على ولدهما ، ومن مات والداه وهو لهما غير بار ، فليستغفر لهما ويتصدق لهما ، حتى يكتب باراً بوالديه ، ومن دعا لأبويه في كل يوم خمس مرات فقد أدى حقهما ، ومن زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة كتب باراً".
كما في الحديث ودعاء الأحياء للأموات واستغفارهم هدايا لهم ، والموتى يعلمون بزوارهم عشية الجمعة ويوم الجمعة ، وليلة السبت إلى طلوع الشمس لفضل يوم الجمعة.
وينوي بما يتصدق من ماله عن والديه إذا كانا مسلمين ؛ فإنه لا ينقص من أجره شيء ، ويكون لهما مثل أجره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وقال بعض الكبراء : يرمى الحجر في الطريق عن يمينه مرة وينوي عن أبيه وبآخر عن يساره ، وينوي عن أمه ، وكان يكظم غيظه يريد برهما ، ففيه دليل على أن جميع حسنات العبد يمكن أن تجعل من بر والديه إذا وجدت النية ، فعلى الولد أن يبرهما حيين وميتين ،
478
ولكن لا يطيعهما في الشرك والمعاصي :
جون نبود خويش را ديانت وتقوى
قطع رحم بهتر از مودت قربى
كما قال تعالى : {وَإِن جَـاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} (لقمان : 15) :
هزار خويش كه بيكانه از خدا باشد
فداى يك تن بيكانه كاشنا باشد
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} ؛ أي : يعذبون بها فالعرض محمول على التعذيب مجازاً من قولهم عرض الأسارى على السيف ؛ أي : قتلوا وإلا فالمعروض عليه يجب أن يكون من أهل الشعور والاطلاع والنار ليست منه.
وقيل : تعرض النار عليهم بأن يوقفوا بحيث تبدو لهم النار ومواقعهم فيها ، وذلك قبل أن يلقوا فيها ، فيكون من باب القلب مبالغة بادعاء كون النار مميزاً إذا قهر وغلبة.
يقول الفقير : لا حاجة عندي إلى هذين التأويلين ، فإن نار الآخرة لها شعور وإدراك بدليل أنها تقول : هل من مزيد؟ وتقول للمؤمنين جزيا مؤمن ، فإن نورك أطفأ ناري وأمثال ذلك.
وأيضاً لا بعد في أن يكون عرضهم على النار باعتبار ملائكة العذاب ، فإنهم حاضرون عندها بأسباب العذاب ، وأهل النار ينظرون إليهم ، وإلى ما يعذبونهم به عياناً ، والله أعلم.
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ} ؛ أي : يقال لهم ذلك على التوبيخ ، وهو الناصب للظرف ؛ أي : اليوم.
والمعنى : أصبتم وأخذتم ما كتب لكم من حظوظ الدنيا ولذائذها.
وبالفارسية : (ببرديد وبخورديد جيزهاى لذيذ خودرا).
{فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} : (در زندكانى آن جهان خويش) {وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} ، فلم يبق لكم بعد ذلك شيء منها ؛ لأن إضافة الطيبات تفيد العموم ، بالفارسية : (وبرخوردارى يافتيد بآن لذائذ يعني استيفاى لذات كرديد وهيج براى آخرت نكذاشتيد).
قال سعدي المفتي قوله : واستمتعتم بها كأنه عطف تفسيري لأذهبتم.
{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} ؛ أي : الهوان والحقارة ؛ أي : العذاب الذي فيه ذل وخزي {بِمَا كُنتُمْ} في الدنيا {تَسْتَكْبِرُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} بغير استحقاق لذلك وفيه إشارة إلى أن الاستكبار إذا كان بحق كالاستبكار على الظلمة لا ينكر.
{وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} ؛ أي : تخرجون من طاعة الله ؛ أي : بسبب استكباركم وفسقكم المستمرين.
علل سبحانه ذلك العذاب بأمرين أحدهما : الاستكبار عن قبول الدين الحق والإيمان بمحمد عليه السلام ، وهو ذنب القلب.
والثاني : الفسق والمعصية بترك المأمورات وفعل المنهيات ، وهو ذنب الجوارح.
وقدم الأول على الثاني ؛ لأن ذنب القلب أعظم تأثيراً من ذنب الجوارح.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال الكاشفي : (تنبيه است مر طالبان تجات راكه قدم از اندازه شرع بيرون تنهند.
باى از حدود شرع برون مى نهى منه.
خودرا اسير نفس وهو ميكنى مكن.
وفي الآية إشارة إلى أن للنفس طيبات من الدنيا الفانية وللروح طيبات من الآخرة الباقية ، فمن اشتغل باستيفاء طيبات نفسه في الدنيا يحرم في الآخرة من استيفاء طيبات روحه ؛ لأن في طلب استيفاء طيبات النفس في الدنيا إبطال استعداد الروح في استيفاء طيبات في الآخرة موعودة ، وفي ترك استيفاء طيبات النفس في الدنيا كمالية استعداد الروح في استيفاء طيبات في الآخرة موعودة ، فلهذا يقال لأرباب النفوس ، فاليوم تجزون عذاب الهون بأنكم استكبرتم في قبول دعوة الأنبياء في ترك شهوات النفس واستيفاء طيباتها لئلا تضيع طيبات أرواحكم ، وبما كنتم تخرجون من أوامر الحق ونواهيه ، ويقال للروح وأرباب القلوب : كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية ، وبما كانت نفوسهم تاركة لشهواتها بتبعية الروح ، يقال لهم ولكم فيها
479
(8/371)
ما تشتهيه الأنفس ؛ أي : من نعيم الجنة ؛ فإنها من طيباتها وتلذ الأعين ، وهو مشاهدة الجمال والجلال ، وهي طيبات الروح.
كذا في "التأويلات النجمية".
والآية منادية بأن استيفاء الحظ من الدنيا ولذاتها صفة من صفات أهل النار ، فعلى كل مؤمن ذي عقل وتمييز أن يجتنب ذلك اقتداء بسيد الأنبياء وأصحابه الصالحين ، حيث آثروا اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة.
قال الصائب :
افتد هماى دولت اكر در كمندما
از همت بلند رها ميكنيم ما
قال الواسطي : من سره شيء من الألوان الفانية دق أو جل دخل تحت هذه الآية.
روي عن عمر رضي الله عنه أنه دخل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهو على سرير ، وقد أثر بجنبيه الشريط ، فبكى عمر ، فقال : "ما يبكيك يا عمر؟" ، فقال : ذكرت كسرى وقيصر وما كانا فيه من الدنيا وأنت رسول رب العالمين قد أثر بجنبيك الشريط ، فقال عليه السلام : "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة".
قالت عائشة رضي الله عنها : ما شبع محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأول بدعة حدثت بعده الشبع ، وقالت أيضاً : وقد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً ، وما هو إلا الماء والتمر غير أنه جزى الله عنا نساء الأنصار خيراً.
كن ربما أهدين لنا شيئاً من اللبن.
قال في "كشف الأسرار" : (ملك زمين برسول الله عرض كردند واو بندكى اختيار كرد واز ملكى اعراض كرد وكفت).
أجوع يوماً وأشبع يوماً.
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحماً معلقاً في يدي ، فقال : ما هذا يا جابر؟ قلت : اشتهيت لحماً فاشتريته ، فقال عمر : أو كل ما اشتهيت يا جابر اشتريت ، أما تخاف هذه الآية؟ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا :
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
نفس را بدخوا بناز ونعمت دنيا مكن
آب ونان سير كاهل ميكند مزدوررا
قال أبو هريرة رضي الله عنه : لقد رأيت سبعين نفساً من أصحاب الصفة رضي الله عنهم ما منهم رجل عليه رداء إما إزاراً وكساء قد ربطوه فيف أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين ، ومنها : ما يبلغ الكعبين ، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
وفي الحديث : "من قضى نهمته في الدنيا حيل بينه وبين شهوته في الآخرة ، ومن مد عينه إلى زينة المترفين كان مهيناً في ملكوت السماوات ، ومن صبر على الفوت الشديد أسكنه الله الفردوس حيث شاء.
قال الشيخ سعدي :
مبرورتن ار مردراى وهشى
كه اورا جومى برورى مى كشى
خور وخواب تنها طريق ددست
بربن بدون آبين تانجر دست
قناعت توانكر كند مردرا
خبركن حريص جهان كردرا
غدا كر لطيفست وكز سرسرى
جوديرت بدست اوفتد خوش خورى
كر ازاده برزمين خسب وبس
مكن نهر قال زمين بوس كس
مكن خانه برراه سيل اى غلام
كه كس رانكشت ابن همارت تمام
ومن الله العون في طريقه والوصول إليه بإرشاده وتوفيقه.
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} ؛ أي : واذكر يا محمد لكفار مكة هوداً عليه السلام ليعتبروا من حال قومه.
وبالفارسية : (وياد بن برادر عاد يعنى بيغمبرى كه از قبيلة عاد بود).
فمعنا أخا عاد واحداً منهم في النسب لا في الدين ، كما في قولهم : يا أخا العرب وعاد هم ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وهود هو ابن عبد الله ابن رباح بن الخلود بن عاد {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ} بدل اشتمال منه ؛ أي : وقت إنذاره إياه {بِالاحْقَافِ} بموضع يقال له : الأحقاف : (وآن ريكستاني بود نزديك حضرموت
480
بولايت يمن).
جمع : حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج ، وإنما أخذ الحقف من احقوقف مع أن الأمر ينبغي أن يكون بالعكس ؛ لأن احقوقف أجلى معنى وأكثر استعمالاً ، فكانت له من هذه الجهة أصالة ، فأدخلت عليه كلمة الابتداء للتنبيه على هذا ، كما في "حواشي سعدي المفتي".
وعن بعضهم : كانت عاد أصحاب عمد سيارة في الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا من قبيلة إرم يسكنون بين رمال مشرفة على البحر بأرض يقال لها : الشحر من بلاد اليمن ، وهو بكسر الشين وسكون الحاء ، وقيل : بفتح الشين ساحل البحر بين عمان وعدن ، وقيل : يسكنون بين عمان ومهرة وعمان بالضم والتخفيف بلد باليمن ، وأما الذي بالشام ، فهو عمان بالفتح والتشديد ومهرة موضع ينسب إليه الإبل المهرية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال في "فتح الرحمن" : الصحيح من الأقوال أن بلاد عاد كانت في اليمن ولهم كانت إرم ذات العماد ، والأحقاف جمع : حقف ، وهو الجبل المستطيل المعوج من الرمل ، وكثيراً ما تحدث هذه الأحقاف في بلاد الرمل في الصحارى ؛ لأن الريح تصنع ذلك.
انتهى.
وعن علي رضي الله عنه شر وادٍ بين الناس وادي الأحقاف ووادٍ بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار وخير وادٍ : وادي مكة ، وواد نزل به آدم بأرض الهند.
وقال : خير بئر في الناس بئر زمزم ، وشر بئر في الناس بئر برهوت ، كذا في "كشف الأسرار".
(8/372)
{وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} ؛ أي : الرسل جمع نذير بمعنى : المنذر.
{مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ} ؛ أي : من قبله {وَمِنْ خَلْفِهِ} ؛ أي : من بعده والجملة اعتراض بين المفسر والمفسر أو المتعلق والمتعلق مقرر لما قبله مؤكد لوجوب العمل بموجب الإنذار وسط بين إنذار قومه وبين قوله : {أَن لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} مسارعة إلى ما ذكر من التقرير والتأكيد وإيذاناً باشتراكهم في العبادة المحكية.
والمعنى : واذكر لقومك إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم.
وقد أنذر من تقدمه من الرسل ، ومن تأخر عنه قومهم مثل ذلك فاذكرهم.
قال في "بحر العلوم" : أن مخففة من الثقيلة ؛ أي : أنه يعني أن الشأن ، والقصة لا تعبدوا إلا الله ، أو مفسرة بمعنى ؛ أي : لا تعبدوا إلا الله ، أو مصدرية بحذف الباء تقديره : بأن لا تعبدوا إلا الله والنهي عن الشيء إنذار عن مضرته.
انتهى.
{إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ؛ أي : هائل بسبب شرككم وإعراضكم عن التوحيد واليوم العظيم يوم نزول العذاب عليهم فعظيم مجاز عن هائل ؛ لأنه يلزم العظم ويجوز أن يكون من قبيل الإسناد إلى الزمان مجازاً ، وأن يكون الجر على الجوار.
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} ؛ أي : تصرفنا من الأفك بالفتح مصدر أفكه يأفكه قلبه وصرفه عن الشيء {عَنْ ءَالِهَتِنَا} عن عبادتها إلى دينك.
وهذا مما لا يكون {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} من العذاب العظيم والباء للتعدية.
{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِه وَقَلْبِه وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِه غِشَـاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنا بَعْدِ اللَّه أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَقَالُوا مَا هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلا الدَّهْرُا وَمَا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍا إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَن قَالُوا ائْتُوا بِـاَابَآاـاِنَآ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ} في وعدك بنزوله بنا.
{قَالَ} ؛ أي : هود {إِنَّمَا الْعِلْمُ} ؛ أي : بوقت نزوله ، أو العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك.
{عِندَ اللَّهِ} وحده لا علم لي بوقت نزوله ، ولا مدخل لي في إتيانه وحلوله ، وإنما علمه عند الله تعالى ، فيأتيكم به في وقته المقدر له.
{وَأُبَلِّغُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ} من مواجب الرسالة التي من جملتها بيان نزول العذاب إن لم تنتهوا عن الشرك من غير وقوف على وقت نزوله.
{وَلَـاكِنِّى أَرَاـاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} حيث يقترحون علي ما ليس من وظائف الرسل من الإتيان بالعذاب وتعيين وقته.
وفي "التأويلات
481
النجمية" : تجهلون الصواب من الخطأ والصلاح من الفساد حين أدلكم على الرشاد.
وفي الآية إشارة إلى أن الأصنام ظاهرة وباطنة ، فالأصنام الظاهرة ظاهرة.
وأما الأصنام الباطنة ، فهي النفس وهواها وشهواتها الدنيوية الفانية ، والنهي عنها مطلقاً من وظائف الأنبياء عليهم السلام ؛ لأنهم بعثوا لإصلاح النفوس وتهييج الأرواح إلى الملك القدوس ويليهم ورثتهم ، وهم الأولياء الكرام قدس الله أسرارهم ، فهم بينوا أن عبادة الهوى تورث العذاب العظيم وعبادة الله تعالى تورث الثواب العظيم ، بل رؤية الوجه الكريم ، ولكن القوم من كمال شقاوتهم قابلونا بالرد والعناد ، وزادوا في الضلال والفساد ، فحرموا من الثواب مع ما لحقهم من العذاب.
وهذا من كمال الجهالة إذ لو كان للمرء عقل تام ومعرفة كاملة لما تبع الهوى وعبد المولى.
قال بعضهم : يجب عليك أولاً أن تعرف المعبود ، ثم تعبد من لا تعرفه بأسمائه وصفات ذاته ، وما يجب له ، وما يستحيل في نعته ، فربما تعتقد شيئاً في صفاته يخالف الحق ، فتكون عبادتك هباء منثوراً ألا ترى أن بعضهم رأى الشيطان بين السماء والأرض فظنه الحق ، واستمر عليه مقدار عشرين سنة ، ثم لما تبين له خطأه في ذلك قضى صلوات تلك المدة.
وكذلك يجب عليك علم الواجبات الشرعية لتؤديها كما أمرت بها ، وكذا علم المناهي لتتركها : (شخصى بود صالح اما قليل العلم در حانة خود منقطع بود ناكاه بهيمة خريد واورابدان حاجتى ظاهرته بعد ازجند سال كسى ازوى برسيدتوا اين راجه ميكنى وترابوى شغلى وحاجتى نيست كفت دين خودرا باين محافظت مى كنم اوخود با ين بهيمة جمع مى آمده است تا از زنا معصوم ماند اورا اعلام كردندكه آن حرام است وصاحب شرع نهى فرموده است بسيار كريست وتوبه كرد وكفت ندا نستم بس برتو فرض عين است كه ازدين خود بازجويى وحلال وحرام را تمييز كنى تا تصرفات تو بر طريق استقامت باشد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
(8/373)
ويجب عليك أيضاً معرفة الأحوال والأخلاق القلبية والتحرز عن مذموماتها كالحسد والرياء والعجب والكبر وحب المال والجاه ونحو ذلك.
وتتخلق بممدوحاتها من التوكل والقناعة والرضا والتسليم واليقين ونحو ذلك ، ولا بد في هذا الباب من المعلم والمرشد خصوصاً في إصلاح الباطن :
درا بحلقة روشند لان عالم خاك
كه تاز جاجه دلرا كنى ز حادثه باك
{فَلَمَّا رَأَوْهُ} : الفاء فصيحة ؛ أي : فأتاهم العذاب الموعود به ، فلما رأوه حال كونه {عَارِضًا} ؛ أي : سحاباً يعرض في أفق السماء ، أو يبدو في عرض السماء.
{مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} ؛ أي : متوجهاً تلقاء أوديتهم.
والإضافة فيه لفظية ، ولذا وقع صفة للنكرة.
{قَالُوا هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} ؛ أي : يأتينا بالمطر ، والإضافة فيه أيضاً لفظية.
روى أنه خرجت عليهم سحابة سوداء من وادٍ لهم ، يقال له : المغيث وكانوا قد حبس عنهم المطر ، فلما شاهدوها قالوا ذلك مستبشرين بها مسرورين {بَلْ هُوَ} ؛ أي : قال هود : ليس الأمر كذلك ، بل هو {مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ} من العذاب.
وبالفارسية : (اين نه ابر باران دهنده است بلكه او آن جيزيست كه تعجيل مزكر ريد بدان).
{رِيحٌ} : خبر لمبتدأ محذوف ؛ أي : (حوريح).
{فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} صفة لريح وكذا قوله : {تُدَمِّرُ} ؛ أي : تهلك.
{كُلِّ شَىْءٍ} مرت به من نفوسهم وأموالهم ، فالاستغراق عرفي ، والمراد : المشركون منهم.
{بِأَمْرِ رَبِّهَا} إذ لا حركة ولا سكون إلا بمشيئته
482
تعالى.
وأضاف الرب إلى الريح مع أنه تعالى رب كل شيء لتعظيم شأن المضاف إليه.
وللإشارة إلى أنها في حركتها مأمورة ، وأنها من أكابر جنود الله ، يعني : ليس ذلك من باب تأثيرات الكواكب والقرانات ، بل هو أمر حدت ابتداء بقدرةتعالى لأجل التعذيب.
{فَأَصْبَحُوا} ؛ أي : صاروا من العذاب بحال {لا يُرَى إِلا مَسَـاكِنُهُمْ} : الفاء فصيحة ؛ أي : فجأتهم الريح فدمرتهم ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ، يعني : (بس كشتند بحالى كه اكر كسى بديار ايشان رسيدى ديده نشدى مكر جايكاههاى ايشان يعني همه هلاك شدند وجايكا ايشان خالى بماند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{كَذَالِكَ} : الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الجزاء الفظيع ، يعني : الهلاك بعذاب الاستئصال.
{نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} قيل : أوحى الله تعالى إلى خزان الريح أن أرسلوا مقدار منخر البقر ، فقالوا : يا رب إذاً ننسف الأرض ومن عليها ، فقال تعالى مثل حلقة الخاتم ، ففعلوا ، فجاءت ريح بادرة من قبل المغرب ، وأول ما عرفوا به أنه عذاب أن رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير بها الريح بين السماء والأرض ، وترفع الظعينة في الجو حتى ترى كأنها جرادة ، فتدمغها بالحجارة ، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم ، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم ، فأمال الله الأحقاف عليهم ، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ، ثم كشفت الريح عنهم الأحقاف ، فاحتملتم فطرحتهم في البحر.
وقد قالوا : من أشد منا قوة؟ فلا تستطيع الريح أن تزيل أقدامنا فغلبت عليهم الريح بقوتها ، فما أغنت عنهم قوتهم.
وفي المثنوي :
جمله ذرات زمين وآسمان
لشكر حقندكاه امتحان
بادرا ديدى كه با عادان جه كرد
آب را ديدى كه با طوفان جه كرد
روي : أن هوداً عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطاً إلى جنب عين تنبع ماء لا يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود ، وتلذ الأنفس وعمر هود بعدهم مائة وخمسين سنة.
وقد مرّ تفصيل القصة في سورة الأعراف ، فارجع ، والآية وعيد لأهل مكة على إجرامهم بالتكذيب ، فإن الله تعالى قادر على أن يرسل عليهم ريحاً مثل ريح عاد أو نحوها ، فلا بد من الحذر.
وعن عائشة رضي الله عنها : كان النبي عليه السلام إذا رأى ريحاً مختلفة تلون وجهه وتغير ودخل وخرج وأقبل وأدبر ، فذكرت ذلك له ، فقال : وما تدرون لعله ، كما قال الله تعالى : فلما رأوه عارضاً إلخ.
فإذا أمطرت سري عنه ، ويقول : {وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} (النمل : 63).
وفي الآية إشارة إلى أنه يعرض في سماء القلوب تارة عارض ، فيمطر مطر الرحمة يحيي به الله أرض البشرية فينبت منها الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة ، وتارة يعرض عارض ضده بسوء الأخلاق وفساد الأعمال ، فتكون أشخاصهم خالية عن الخير كالأخلاق والآداب والأعمال الصالحة وقلوبهم فارغة من الصدق والإخلاص والرضا والتسليم ، وهو جزاء القوم المعرضين عن الحق المقبلين على الباطل.
يقول الفقير : وفيه إشارة أيضاً إلى قوم ممكورين مقهورين يحسبون أنهم من أهل اللطف والكرم ، فيأمرون برفع القباب على قبورهم بعد موتهم ، أو يفعل بهم ذلك من جهة الجهلة ، فصاروا بحيث لا يرى إلا القبور.
والقباب وليس فيها أحد من الأحباب ، بلى من أهل العذاب ، ونعم ما قالوا لا تهيىء لنفسك قبراً وهيىء نفسك للقبر نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ويحفظنا مما يوجب أذاه ، ويخالف رضاه.
(8/374)
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَن قَالُوا ائْتُوا بِـاَابَآاـاِنَآ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَـاـاِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةًا كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَـابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
{وَلَقَدْ مَكَّنَّـاهُمْ} : (لتمكين دست دادن وجاى دادن).
والمعنى : أقدرنا عاداً وملكناهم.
483
وبالفارسية : (ايشان قدرت وقت داديم).
{فِيمَآ} ؛ أي : في الذي {ءَانٍ} نافية ؛ أي : ما.
{مَكَّنَّـاكُمْ} ؛ أي : يا أهل مكة.
{فِيهِ} من السعة والبسطة وطول الأعمار وسائر مبادي التصرفات ، ومما يحسن موقع أن دون ما ها هنا التفصي عن تكرار لفظة ما ، وهو الداعي إلى قلب ألفها ها في مهما ، وجعلها زائدة أو شرطية على أن يكون الجواب : كان بغيكم أكثر مما لا يليق بالمقام.
{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَـارًا وَأَفْـاِدَةً} ليستعملوها فيما خلقت له ، ويعرفوا بكل منها ما نيطت به معرفته من فنون النعم ، ويستدلوا بها على شؤون منعمها عز وجلّ ، ويدوموا على شكرها.
ولعل توحيد السمع ؛ لأنه لا يدرك به إلا الصوت ، وما يتبعه بخلاف البصر حيث يدرك به أشياء كثيرة بعضها بالذات وبعضها بالواسطة ، والفؤاد يعم إدراك كل شيء ، والفؤاد من القلب كالقلب من الصدر سمي به لتفؤده ؛ أي : لتوقده تحرقاً.
{فَمَآ} نافية {أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ} حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل يقال : أغنى عنه.
كذا إذا كفاه.
قال في "تاج المصادر" : (الإغناء بى نيلز كردانيدن وواداشتن كسى را از كسى).
{وَلا أَبْصَـارُهُمْ} حيث لم يجتلوا بها الآيات التكوينية المنصوبة في صحائف العالم.
{وَلا أَفْـاِدَتُهُم} حيث لم يستعملوها في معرفة الله سبحانه.
{مِن شَىْءٍ} ؛ أي : شيئاً من الإغناء ومن مزيدة للتأكيد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال الكاشفي : (همين كه عذاب فرود آيد بش دفع نكرد از ايشان كوش وديدها ودلهاى ايشان جيزبرا از عذاب خداى).
{إِذْ كَانُوا} : (ازروى تقليد وتعصب).
{يَجْحَدُونَ بآيات اللَّهِ} قوله : إذ متعلق بما أغنى ، وهو ظرف جرى مجرى التعليل من حيث أن الحكم مرتب على ما أضيف إليه ، فإن قولك : أكرمته إذ أكرمني في قوة قولك : أكرمته لإكرامه ؛ لأنك إذا أكرمته وقت إكرامه ، فإنما أكرمته فيه لوجود إكرامه فيه.
وكذا الحال في حيث.
{وَحَاقَ بِهِم} : نزل وأحاط.
{مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ، فيقولون ، فائتنا بما تعدنا إن كانت من الصادقين.
وفي الآية تخويف لأهل مكة ليعتبروا.
وفي المثنوي :
بس سباس اوراكه مارا درجهان
كرد بيدا از بس بيشينيان
تاشنيديم ازسياستهاى
بر قرون ماضيه اندر سبق
استخوان وبشم آن كركان عيان
بنكريد وبند كيريد اى مهان
عاقل از سر بنهد اين هستى وباد
جون شنيد انجام فرعونان وعاد
ورنه بنهد ديكران از حال او
عبرتى كيرند از اضلال او
وفي الآية إشارة إلى أن هذه الآلات التي هي السمع والبصر والفؤاد أسباب تحصيل التوحيد ، وبدأ بالسمع ؛ لأن جميع التكليف الوارد على القلب ، إنما يوجد من قبل السمع وثنى بالبصر ؛ لأنه أعظم شاهد بتصديق المسموع منه ، وبه حصول ما به التفكر والاعتبار غالباً تنبيهاً على عظمة ذلك ، وإن كان المبصر هو القلب.
[
ثم رجع إلى الفؤاد الذي هو العمدة في ذلك فتقديمها على جهة التعظيم له ، كما يقال : الجناب والمجلس ، وهما المبلغان إليه.
وعنه : وإنما شاركه هذان في الذكر تنبيهاً على عظم مشاركتهما إياه في الوزارة ولولاهما لما أمكن أن يبلغ قلب في القالب قلباً في هذا العالم ما يريد إبلاغه إليه ، فالسمع والبصر مع الفؤاد في عالم التكليف كالجسد والنفس مع الروح في عالم الخلافة ، ولا يتم لأحدهما ذلك إلا بالآخرين ، وإلا نقص بقدره.
والمراد : في جميع التكليف سلامة القلب والخطاب إليه من جهة كل عضو ، فعلى العاقل سماع الحق والتخلق بما يسمع والمبادرة إلى الانقياد للتكليفات في جميع الأعضاء ، وفعل ما قدر عليه من المندوبات ،
484
واجتناب ما سمع من المنهي عنه من المحرمات والتعفف عن المكروهات ، وترك فضلات المباحات ، فإن الاشتغال بفضول المباحات يحرم العبد من لذة المناجاة ، وفكر القلب في المباحات يحدث له ظلمة ، فكيف تدبير الحرام إذا غير المسك الماء منع الوضوء منه؟ ، فكيف ولوغ الكلب ، وكل عضو يسأل عنه يوم القيامة ، فليحاسب العبد نفسه قبل وقت المحاسبة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
(8/375)
وروي : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابياً لم يتعمده ، فأتى جبرائيل ، فقال : يا محمد إن الله لم يبعثك جباراً ولا متكبراً.
فدعا النبي عليه السلام الأعرابي ، فقال : "اقتص مني" فقال الأعرابي : قد أحللتك بأبي أنت وأمي ، وما كنت لأفعل ذلك أبداً ، ولو أتيت على نفسي ، فدعا له بخير ، فكما يجب ترك الظلم باليد ونحوها ، فكذا ترك معاونة الظلمة.
وطلب بعض الأمراء من بعض العلماء المحبوسين عنده أن يناوله طيناً ليختم به الكتاب ، فقال : ناولني الكتاب أولاً حتى أنظر ما فيه ، فهكذا كانوا يحترزون عن معاونة الظلمة ، فمن أقر بآيات الله الناطقة بالحلال والحرام ، كيف يجترىء على ترك العمل ، فيكون من المستهزئين بها ، فالتوحيد والإقرار أصل الأصول ، ولكن قال تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر : 10) ، ولا كلام في شرف العلم والعمل خصوصاً الذكر.
قال موسى عليه السلام : يا رب أقريب أنت ، فأناجيك أم بعيد؟ فأناديك ، فقال : أنا جليس من ذكرني ، قال : فإنا نكون على حال نجلك أن نذكرك عليها كالجناية والغائط ، فقال : اذكرني على أي حال.
قال الحسن البصري : إذا عطس على قضاء الحاجة يحمد الله في نفسه ، كما في "إحياء العلوم".
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم} : يا أهل مكة.
وبالفارسية : (بدرستى كه نيست كرديم آنجه كردا كرد شمابود).
وحول الشيء جانبه الذي يمكنه أن يحول إليه {مِّنَ الْقُرَى} كحجر ثمود ، وهي منازلها ، والمؤتفكات ، وهي قرى قوم لوط والظاهر من أهل القرى ، فيدخل فيهم عاد فإنهم أهلكوا ، وبقيت مساكنهم كما سبق.
{وَصَرَّفْنَا الايَـاتِ} التي يعتبر بها ؛ أي : كررنا عليهم الحجج وأنواع العبر.
وفي "كشف الأسرار" : وصرفنا الآيات بتكرير ذكرها وإعادة أقاصيص الأمم الخالية بتكذيبها وشركها.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لكي يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي ؛ لأنها أسباب الرجوع إلى التوحيد والطاعة ، ولم يرجع أحد منهم ليعلم أن الهداية بيد الله يؤتيها من يشاء ، قالوا : لعل هذا تطميع لهم وتأميل للمؤمنين ، وإلا فهو تعالى يعلم أنهم لا يرجعون.
يقول الفقير : هذا من أسرار القدر ، فلا يبحث عنه ، فإن الله تعالى خلق الجن والإنس ليعبدوه ، فما عبده منهم إلا أقل من القليل ، ولما كان تصريف الآيات ، والدعوة بالمعجزات من مقتضيات أعيانهم فعله الله تعالى والأنبياء عليهم السلام.
والفرق بين الأمر التكليفي والأمر الإرادي أن الأول لا يقتضي حصول المأمور به بخلاف الثاني ، وإلا لوقع التخلف بين الإرادة والمراد ، وهو محال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا ءَالِهَةَ} : القربان ما يتقرب به إلى الله واحده : مفعولي اتخذوا ضمير المفعول المحذوف.
والثاني : آلهة وقرباناً حال.
والتقدير : فهلا نصرهم وخلصهم من العذاب الذين اتخذوهم آلهة حال كونها متقرباً بها إلى الله تعالى حيث كانوا يقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وفيه تهكم بهم.
{بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} ؛ أي : غابوا عنهم ، وفيه تهكم آخر بهم كأن
485
عدم نصرتهم لغيبتهم ، أو ضاعوا عنهم ؛ أي : ظهر ضياعهم عنهم بالكلية.
{وَذَالِكَ} ؛ أي : ضياع آلهتهم عنهم وامتناع نصرتهم.
{إِفْكِهِمْ} ؛ أي : أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة ونتيجة شركهم.
{وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : عطف على إفكهم ؛ أي : وأثر افترائهم على الله أو أثر ما كانوا يفترونه عليه تعالى : (روى از تو هر كه تافت دكر آب رو نيافت).
وفي الآية إشارة إلى أن الأسباب والوسائل نوعان :
أحدهما : ما أذن الله تعالى في أن يتوسل العبد به إليه كالأنبياء والأولياء ، وما جاؤوا به من الوحي والإلهام.
فهذه أسباب الهدي كما قال تعالى : {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (المائدة : 35) ، {وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} (التوبة : 119).
والثاني : ما لم يأذن فيه الله ، كعبادة الأصنام ونحوها ، فهذه أسباب الهوى ، كما نطقت بها الآيات ، ثم إن الله تعالى إنما يفعل عند الأسباب لا بالأسباب ليعلم العبد أن التأثير من الله ، فيستأنس بالله لا بالأسباب :
حق تعالى موسى را فرمودكاى موسى جون مرغ باش كه از سر درختان مى خورد وآب صافى بكارمى بدد وجون شب درآمد در شكافى مأوى مى سازد وبامن انس ميكيرد واز خلق مستوحش ميكرد واى موسى هركه بغير من اميد دارد هر آينه اميد او قطع كنم وهركه باغير من تكيه كند بشت اوراشكسته كنم وهركه باغير من انس كيرد وحشت اودراز كرادنم وهركه غير مرا دوست دارد هر آينه ازوى اعراض نمايم.
(8/376)
وفي الآية أيضاً تهديد وتخويف حتى لا يغفل المرء عن الله ، ولا يتكل على غيره ، بل يتأمل العاقبة ، ويقبل الدعوة : (حق تعالى به بني إسرائيل خطاب فرمودكه شمارا بآخرت ترغيب كرديم رغبت نكرديد ودردنيا بزهد فرموديم زاهد نشديد وبا آنش ترسانيديم ترس دردل نكر فتيد وبه بهشت تشويق كرديم آرزومند نشديد برشما نوحه كردان داديم نكرستيد بشارت باد كشتكا نرا كه حق تعالى شمشير بست كه در نيام نيامد وان دار جهنم است).
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةًا كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَـابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَـاذَا كِتَـابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّا إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِه ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} .
{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ} : أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك والنفر دون العشرة وجمعه أنفار.
قال الراغب : النفر عدة رجال يمكنهم النفر ؛ أي : إلى الحرب ونحوها والجن بعض الروحانيين.
وذلك أن الروحانيين ثلاثة أخيار : وهم الملائكة وأشرارهم ، وهم الشياطين وأوساط فيهم أخيار وأشرار وهم الجن.
قال سعيد بن المسيب : الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث ، ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون.
والشياطين ذكور وإناث يتوالدون ولا يموتون ، بل يخلدون في الدنيا كما خلد إبليس.
والجن يتوالدون ، وفيهم ذكور وإناث ويموتون.
يقول الفقير : يؤيده ما ثبت أن في الجن مذاهب مختلفة كالإنس حتى الرافضي ونحوه ، وإن بينهم حروباً وقتالاً ، ولكن يشكل قولهم : إبليس هو أبو الجن ، فإنه يقتضي أن لا يكون بينهم وبين الشياطين فرق إلا بالإيمان والكفر فاعرف.
{يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ} : حال مقدرة من نفراً لتخصيصه بالصفة ، أو صفة أخرى له ؛ أي : واذكر لقومك وقت صرفنا إليك نفراً كائناً من الجن مقدراً استماعهم القرآن.
{فَلَمَّا حَضَرُوهُ} ؛ أي : القرآن عند تلاوته.
{قَالُوا} : أي قال بعضهم لبعض.
{أَنصِتُوا} : الإنصات هو الاستماع إلى الصوت مع ترك الكلام ؛ أي : اسكتوا لسمعه.
وفيه إشارة إلى أن من شأنهم فضول الكلام واللغط كالإنس ورمز إلى الحرص المقبول.
قال بعض العارفين : هيبة الخطاب وحشمة المشاهدة حبست ألسنتهم ، فإنه ليس
486
في مقام الحضرة إلا الخمول والذبول.
{فَلَمَّا قَضَى} : أتم وفرغ من تلاوته.
{وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} انصرفوا إلى قومهم مقدرين إنذارهم عند رجوعهم إليه ، يعني : آمنوا به ، وأجابوا إلى ما سمعوا ورجعوا إلى قومهم منذرين ، ولا يلزم من رجوعهم بهذه الصفة أن يكونوا رسل رسول الله عليه السلام إذ يجوز أن يكون الرجل نذيراً ، ولا يكون نبياً أو رسولاً من جانب أحد ، فالنذارة في الجن من غير نبوة.
وقد سبق بقية الكلام في سورة الأنعام عند قوله تعالى : يا معشر الجن والإنس ، الآية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
روي : أن الجن كانت تسترق السمع ، فلما حرست السماء ورجموا بالشهب ، قالوا : ما هذا إلا لنبأ حدث ، فنهض سبعة نفر أو ستة نفر من أشراف جن نصيبين ورؤسائهم.
ونصيبين : بلد قاعدة ديار ربيعة ، كما في "القاموس".
وقال في "إنسان العيون" : هي مدينة بالشام.
وقيل : باليمن.
أثنى عليها رسول الله عليه السلام بقوله : "رفعت إلى نصيبين حتى رأيتها ، فدعوت الله أن يعذب نهرها وينضر شجرها ويكثر مطرها".
وقيل : كانوا من ملوك جن نينوى بالموصل وأسماؤهم على ما في "عين المعاني" : (شاصر ناصر دس مس از دادنان احقم وكفته اندنه عدد بود وهشتم عمرو ونهم سرف وزوبعة بفتح الزاي المعجمة ، والباء الموحدة از ايشان بوده واوبسر ابليس است).
وقال في "القاموس" : الزوبعة : اسم شيطان ، أو رئيس الجن ، فتكون الأسماء عشرة ، لكن الأحقم بالميم أو الإحقب بالباء وصف لواحد منهم لا علم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : (تسعة سليط شاصر ماصر حاصر حسا مسا عليم ارقم ادرس) ، فضربوا في الأرض حتى بلغوا تهامة ، وهي بالكسر مكة شرفها الله تعالى ، وأرض معروفة لا بلد ، كما في "القاموس" : ثم اندفعوا إلى وادي نخلة عند سوق مكة شرفها الله تعالى ، وأرض معروفة لا بلد ، كما في "القاموس" ، ثم اندفعوا إلى وادي نخلة عند سوق عكاظ ، ونخلة محلة بين مكة والطائف ، ونخلة الشامية واليمانية واديان على ليلة من مكة وعكاظ ، كغراب سوق بصحراء بين نخلة والطائف كانت تقوم هلال ذي القعدة ، وتستمر عشرين يوماً تجتمع قبائل العرب قيتعاكظون ؛ أي : يتفاخرون ويتناشدون ، ومنه : الأديم العكاظي ، فوافوا ؛ أي : نفر الجن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؛ أي : صادفوه ووجدوه ، وهو قائم في جوف الليل يصلي ؛ أي : في وسطه ، وكان وحده أو معه مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه.
(8/377)
وفي رواية : يصلي صلاة الفجر إذ كان إذ ذاك مأموراً بركعتين بالغداة وبركعتين بالعشي ، فهي غير صلاة الفجر التي هي إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء إذ الحيلولة بين الجن وبين خبر السماء بالشهب.
كانت في أوائل الوحي وليلة الإسراء كانت بعد ذلك بسنين عديدة ، فاستمعوا لقراءته عليه السلام ، وكان يقرأ طه وذلك عند منصرفه من الطائف حين خرج إليهم يستنصرهم على الإسلام ، والقيام على من خالفه من قومه ، فلم يجيبوه إلى مطلوبه وأغروا به سفهاءهم ، فآذوه عليه السلام أذى شديداً ودقوا رجليه بالحجارة حتى أدموها ، كما سبق.
نبذة منه في آخر التوبة ، وكان أقام بالطائف يدعوهم ، عشرة أيام وشهراً وأقام بنخلة أياماً ، فلما أراد الدخول إلى مكة قال له زيد : كيف تدخل عليهم يعني : قريشاً ، وهم قد أخرجوك ؛ أي : كانوا سبباً لخروجك ، وخرجت لتستنصرهم ، فلم تنصر ، فقال : يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً ، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه ، فسار عليه السلام إلى جبل حراء وبعث إلى مطعم بن عدي ، وقد مات كافراً قبل بدر بنحو سبعة أشهر ، يقول له : إني داخل مكة في جوارك ، فأجابه إلى ذلك ، فدخل عليه السلام مكة ، ثم تسلح
487
مطعم وبنوه ، وهم ستة أو سبعة وخرجوا حتى أتوا المسجد الحرام ، فقام مطعم على راحلته ، فنادى يا معشر قريش : إني قد أجرت محمداً ، فلا يؤذيه أحد منكم ، ثم بعث إلى رسول الله عليه السلام أن ادخل ، فدخل وطاف بالبيت وصلى عنده ، ثم انصرف إلى منزله ومطعم وولده مطيفون به.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وكان من عادة العرب حفظ الجوار.
ولذا قال أبو سفيان لمطعم أجرنا من أجرت ، ثم إن مرور الجن به عليه السلام في هذه القصة ، ووقوفهم مستمعين لم يشعر به عليه السلام ، ولكن أنبأه الله باستماعهم وذكر اجتماعهم به عليه السلام في مكة مراراً ، فمن ذلك ما روي : أن النفر السبعة من الجن لما انصرفوا من بطن نخلة جاؤوا إلى قومهم منذرين ، ثم جاؤوا مع قومهم وافدين إلى رسول الله عليه السلام ، وهو بمكة ثلاثمائة أو اثنا عشر ألفاً ، فانتهوا إلى الحجون ، وهو موضع فيه مقابر مكة ، فجاء واحد من أولئك النفر إلى رسول الله ، فقال : إن قومنا قد حضروا بالحجون يلقونك ، فوعده عليه السلام ساعة من الليل ، ثم قال لأصحابه : إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة ، وأنذرهم ، فمن يتبعني قالها : ثلاثاً ، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، فقام معه ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون خط لي خطاً برجله.
وقال لي : لا تخرج منه حتى أعود إليك ، فإنك إن خرجت لن تراني إلى يوم القيامة.
وفي رواية : لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم ، ثم جلس وقرأ عليهم : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} () ، أو سورة الرحمن ، وسمعت لغطاً شديداً ، حتى خفت على رسول الله ، واللغط بالغين المعجمة والطاء المهملة اختلاط أصوات الكلام حتى لا يفهم وغشيته عليه السلام ، ثم انقطعوا كقطع السحاب ، فقال لي عليه السلام : "هل رأيت شيئاً"؟ قلت : نعم ، رجالاً سوداً ؛ كأنهم رجال الزط وهم طائفة من السودان ، الواحد منه زطي ، فقال : أولئك جن نصيبين ، قلت : سمعت منهم لغطاً شديداً ، حتى خفت عليك إلى أن سمعتك تفرعهم بعصاك وتقول : اجلسوا ؛ أي : فما سببه ، فقال : "إن الجن تداعت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليّ ، فحكمت بينهم بالحق".
وقال أبو الليث ، فلما رجع إليه ، قال : يا نبي الله ، سمعت هدتين ؛ أي : صوتين.
قال عليه السلام : إما إحداهما ، فإني سلمت عليهم وردوا عليّ السلام.
وأما الثانية : فإنهم سألوا الرزق ، فأعطيتهم عظماً وأعطيتهم روثاً رزقاً لدوابهم ؛ أي : أن المؤمنين منهم لا يجدون عظماً ذكر اسم الله عليه إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ولا روثة إلا وجد فيها حبها يوم أكلت أو يعود البعر خضراً لدوابهم.
ولهذا نهى عليه السلام عن الاستنجاء بالعظم والروث ، وأما الكافرون منهم : فيجدون اللحم على العظم الذي لم يذكر اسم الله عليه.
وعن قتادة : لما أهبط إبليس ، قال : أي رب لقد لعنته فما علمه ، قال : السحر ، قال : فما قراءته ، قال : الشعر :
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
در قيامت نرسد شعر بفرياد كسى
كر سراسر سخنش حكمت يونان كردد
قال : فما كتابته ، قال : الوشم وهو غرز الإبر في البدن ، وذر النيلج عليه ، قال : فما طعامه؟ قال : كل ميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه ؛ أي : من طعام الإنس يأخذه سرقة ، قال : فما شرابه؟ قال : كل مسكر ، قال : فأين مسكنه؟ قال : الحمام ، قال : فأين محله؟ قال : في الأسواق ، قال : فما صوته ، قال : المزمار ، قال : فما مصايده؟ قال : النساء فالحمام أكثر محل إقامته والسوق محل تردده في بعض الأوقات.
والظاهر أن كل من لم يؤمن من الجن مثل إبليس فيما ذكر ، قال في "إنسان العيون" في أكل الجان ثلاثة أقوال : يأكلون بالمضغ والبلع ويشربون بالازدراد ؛ أي : الابتلاع.
والثاني : لا يأكلون ولا
488
(8/378)
يشربون ، بل يتغذون بالشم ، والثالث : أنهم صنفان : صنف يأكل ويشرب وصنف لا يأكل ولا يشرب ، وإنما يتغذون بالشم ، وهو خلاصتهم.
وفي "آكام المرجان" : أن العمومات تقتضي أن الكل يأكلون ويشربون ، وكون الرقيق رقيقاً.
واللطيف لطيفاً لا يمنع عن الأكل والشرب ، وأما الملائكة فهم أجسام لطيفة لكنهم لا يأكلون ولا يشربون لإجماع أهل الصلاة على ذلك وللأخبار المروية في ذلك.
قال العلماء أنه عليه السلام بعث إلى الجن قطعاً ، وهم مكلفون.
وفيهم العصاة والطائعون ، وقد أعلمناأن نفراً من الجن رأوه عليه السلام ، وآمنوا به وسمعوا القرآن فهم صحابة فضلاء من حيث رؤيتهم وصحبتهم ، وحينئذٍ يتعين ذكر من عرف منهم في الصحابة رضي الله عنهم.
كذا في "شرح النخبة" لعلي القاري.
{قَالُوا} ؛ أي : عند رجوعهم إلى قومهم.
يا قَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـابًا} فيه إطلاق الكتاب على بعض أجزائه إذ لم يكن القرآن كله منزلاً حينئذٍ.
{أُنزِلَ مِنا بَعْدِ} كتاب {مُوسَى} ، قيل : قالوه لأنهم كانوا على اليهودية وأسلموا.
وقال سعدي المفتي في "حواشيه".
قلت : الظاهر أنه مثل قول ورقة بن نوفل : هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ، فقد قالوا في وجهه أنه ذكر موسى مع أنه كان نصرانياً تحقيقاً للرسالة ؛ لأن نزوله على موسى متفق عليه بين اليهود والنصارى بخلاف عيسى ، فإن اليهود ينكرون نبوته أو ؛ لأن النصارى يتبعون أحكام التوراة ، ويرجعون إليها ، وهذان الوجهان متأتيان هنا أيضاً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام ، فلذا قالوا : من بعد موسى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال سعدي المفتي : لعله لا يصح عن ابن عباس ، فإنه في غاية البعد إذ النصارى أمة عظيمة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها ، فكيف يجوز أن لا يسمعوا بأمر عيسى.
وقال في "إنسان العيون" قولهم : من بعد موسى بناء على أن شريعة عيسى مقررة لشريعة موسى لا ناسخة ، انتهى.
يقول الفقير : قد صح أن التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع بخلاف ما قبله من الكتب ، فإنها لم تشتمل على ذلك ، إنما كانت مشتملة على الإيمان بالله وتوحيده.
ومن ثمة قيل لها : صحف.
وإطلاق الكتب عليها مجاز كما صرح به في "السيرة الحلبية" ، فلما كان القرآن مشتملاً على الأحكام والشرائع أيضاً ، صارت الكتب الإلهية كلها في حكم كتابين التوراة والقرآن ، فلذا خصصوا موسى بالذكر ، وفيه بيان لشرف الكتابين وجلالتهما.
{مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ؛ أي : موافقاً لما قبله من التوراة والكتب الإلهية في الدعوة إلى التوحيد والتصديق وحقية أمر النبوة والمعاد وتطهير الأخلاق ونحو ذلك.
{يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ} من العقائد الصحيحة.
{وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} موصل إليه لا عوج فيه ، وهو الشرائع والأعمال الصالحة.
قال ابن عطاء : يهدي إلى الحق في الباطن ، وإلى طريق مستقيم في الظاهر.
{فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِه ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَـاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ * وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى} .
يا قَوْمَنَآ أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ} يعني : محمداً صلى الله عليه وسلّم أو أرادوا ما سمعوه من الكتاب ، فإنه كما أنه هاد كذلك ، هو داع إلى الله تعالى.
{وَءَامِنُوا بِه يَغْفِرْ لَكُم} ؛ أي : الله تعالى {مِّن ذُنُوبِكُمْ} ؛ أي : بعض ذنوبكم ، وهو ما كان في خالص حق الله ، فإن حقوق العباد لا تغفر بالإيمان بل برضى أربابها ، يعني : إذا أسلم الذمي لا يغفر عنه حقوق العباد بإسلامه ، وكذا لا تغفر عن الحربي إذا كان الحق مالياً ، قالوا : ظلامة الكافر وخصومة الدابة أشد ؛ لأن المسلم إما أن يحمل عليه ذنب خصمه بقدر حقه ، أو يأخذ من حسناته.
489
والكافر لا يأخذ من الحسنات ، ولا ذنب للدابة ، ولا يؤهل لأخذ الحسنات ، فتعين العقاب.
{وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} معد للكفرة ، وهو عذاب النار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{وَمَن لا يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأرْضِ} ؛ أي : فليس بمعجز له تعالى بالهرب ، وإن هرب كل مهرب من أقطارها ، أو دخل في أعماقها.
{وَلَيْسَ لَه مِن دُونِه أَوْلِيَآءُ} بيان لاستحالة نجاته بواسطة الغير إثر بيان استحالة نجاته بنفسه وجمع الأولياء باعتبار معنى من ، فيكون من باب مقابلة الجمع بالجمع لانقسام الآحاد إلى الآحاد.
{أولئك} الموصوفون بعدم إجابة الداعي.
{فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} ؛ أي : ظاهر كونه ضلالاً بحيث لا يخفى على أحد حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه.
(8/379)
وفي الحديث : "ألا أخبركم عني وعن ملائكة ربي البارحة حفوا بي عند رأسي وعند رجلي وعن يميني وعن يساري" ، فقالوا : يا محمد تنام عينك ولا ينام قلبك ، فلتعقل ما نقول ، فقال بعضهم لبعض : اضربوا لمحمد مثلاً ، قال قائل : مثله كمثل رجل بنى داراً وبعث داعياً يدعو ، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل مما فيها ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ، ولم يأكل مما فيها وسخط السيد عليه ، ومحمد الداعي ، فمن أجاب محمداً دخل الجنة ، ومن لم يجب محمداً لم يدخل الجنة ، ولم يأكل مما فيها ، ويسخط السيد عليه.
وفي الآية دليل بيّن على أنه عليه السلام مبعوث إلى الجن والإنس جميعاً ، ولم يبعث قبله نبي إليهما وأما سليمان عليه السلام ، فلم يبعث إلى الجن ، بل سخروا له.
وفي "فتح الرحمن" : ولم يرسل عليه السلام إلى الملائكة صرح به البيهقي في الباب الرابع من "شعب الإيمان".
وصرح في الباب الخامس عشر بانفكاكهم من شرعه.
)
وفي "تفسير الإمام الرازي" ، و"البرهان النسفي" حكاية الإجماع.
قال ابن حامد : من أصحاب أحمد : ومذهب العلماء إخراج الملائكة عن التكليف والوعد والوعيد ، وهم معصومون كالأنبياء بالاتفاق إلا من استثني كإبليس وهاروت وماروت على القول بأنهم من الملائكة.
انتهى.
وفي الحديث : "أرسلت إلى الخلق كافة" والخلق يشمل الإنس والجن والملك والحيوانات والنبات والحجر.
قال الجلال السيوطي : وهذا القول ؛ أي : إرساله للملائكة رجحته في كتاب "الخصائص" وقد رحجه قبلي الشيخ تقي الدين السبكي ، وزاد أنه مرسل لجميع الأنبياء والأمم السابقة من لدن آدم إلى قيام الساعة ، ورجحه أيضاً البارزي ، وزاد أنه مرسل إلى جميع الحيوانات والجمادات ، وأزيد على ذلك أنه مرسل لنفسه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
يقول الفقير : اختلف أهل الحديث في شأن الملائكة ، هل هم من الصحابة أو لا؟ فقال البلقيني : ليسوا داخلين في الصحابة ، وظاهر كلامهم كالإمام الرازي أنهم داخلون ، ففيه أن الإمام كيف يعد الملائكة من الصحابة؟ وقد حكي الإجماع على عدم الإرسال وبعيد أن يكونوا من صحابته وأمته عليه السلام من غير أن يرسل إليهم.
واختلف في حكم مؤمني الجن ، فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار لقوله تعالى : {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأحقاف : 31) حيث صرح باقتصارهم على المغفرة والإجارة.
وبه قال الحسن البصري رحمه الله حيث قال : ثوابهم أن يجاروا من النار ، ثم يقال لهم : كونوا تراباً مثل البهائم.
قال الإمام النسفي في "التيسير" توقف أبو حنيفة في ثواب الجن ونعيمهم.
وقال : لا استحقاق للعبد على الله ، وءنما ينال بالوعد ولا وعد في حق الجن إلا المغفرة والإجارة ، فهذا يقطع القول به ، وأما نعيم الجنة ، فموقوف على قيام الدليل.
انتهى.
قال سعدي المفتي : وبهذا تبين
490
أن أبا حنيفة متوقف لا جازم بأنه لا ثواب لهم ، كما زعم البيضاوي ، يعني أن المروي عن أبي حنيفة أنه توقف في كيفية ثوابهم لا أنه قال : لا ثواب لهم.
وذلك أن في الجن مسلمين ويهوداً ونصارى ومجوساً وعبدة أوثان ، فلمسلميهم ثواب لا محالة ، وإن لم نعلم كيفيته ، كما أن الملائكة لا يجازون بالجنة ، بل بنعيم يناسبهم على أصح قول العلماء ، وأما رؤوية الله تعالى ، فلا يراه الملائكة والجن في رواية كما في "إنسان العيون".
والظاهر أن رؤيتهم من وادٍ ورؤية لبشر من وادٍ ، فمن نفى الرؤية عنهم نفاها بهذا المعنى ، وإلا فالملائكة أهل حضور وشهود ، فكيف لا يرونه ، وكذا مؤمنو الجن وإن كانت معرفتهم دون معرفة الكمل من البشر على ما صرح به بعض العلماء.
وفي "البزازية" : ذكر في التفاسير توقف الإمام الأعظم في ثواب الجن ؛ لأنه جاء في القرآن فيهم يغفر لكم من ذنوبكم ، والمغفرة لا تستلزم الإثابة.
قالت المعتزلة : أوعد لظالميهم ، فيستحق الثواب صالحوهم.
قال الله تعالى : {وَأَمَّا الْقَـاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (الجن : 15) ، قلنا : الثواب فضل من الله تعالى لا بالاستحقاق ، فإن قيل قوله تعالى : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرحمن : 57) بعد عد نعم الجنة خطاب للثقلين ، فيرد ما ذكرتم ، قلنا : ذكر أن المراد منه التوقف في المآكل والمشارب والملاذ ، والدخول فيه كدخول الملائكة للسلام والزيارة والخدمة والملائكة يدخلون عليهم من كل باب الآية ، انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
والصحيح كما في "بحر العلوم" : والأظهر كما في "الإرشاد" : أن الجن في حكم بني آدم ثواباً وعقاباً لأنهم مكلفون مثلهم ، ويدل عليه قوله تعالى في هذه السورة لكل درجات مما عملوا ، والاقتصار ؛ لأن مقصودهم الإنذار ، ففيه تذكير بذنوبهم : (واز حمزة بن حبيب رحمه الله برسيدندكه مؤمنان جن را ثواب هست فرمودكه آرى وآيت لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان بخواند وكفت الانسيات للإنس والجنيات للجن).
فدل على تأني الطمث من الجن ؛ لأن طمث الحور العين إنما يكون في الجنة.
(8/380)
وفي "آكام المرجان" : في أحكام الجان اختلف العلماء في مؤمني الجن ، هل يدخلون الجنة على أقوال أحدها؟ إنهم يدخلونها ، وهو قول جمهور العلماء.
ثم اختلف القائلون بهذا القول إذا دخلوا الجنة هل يأكلون فيها ويشربون؟ فعن الضحاك : يأكلون ويشربون ، وعن مجاهد أنه سئل عن الجن المؤمنين أيدخلون الجنة؟ قال : يدخلونها ، ولكن لا يأكلون ولا يشربون ، بل يلهمون التسبيح والتقديس ، فيجدون فيه ما يجده أهل الجنة من لذة الطعام والشراب ، وذهب الحارث المحاسبي إلى أن الجن الذين يدخلون الجنة يكونون يوم القيامة بحيث نراهم ولا يروننا عكس ما كانوا عليه في الدنيا.
والقول الثاني : أنهم لا يدخلونها ، بل يكونون في ربضها ؛ أي : ناحيتها وجانبها يراهم الإنس من حيث لا يرونهم.
والقول الثالث : أنهم على الأعراف كما جاء في الحديث : "أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب ، وليسوا من أهل الجنة مع أمة محمد هم على الأعراف حائط الجنة تجري فيه الأنهار وتنبت فيه الأشجار والثمار".
ذكره صاحب "الفردوس الكبير".
وقال الحافظ الذهبي : هذا حديث منكر جداً.
وفي الحديث : "خلق الله الجن ثلاثة أصناف صنفاً حيات وعقارب وخشاش الأرض وصنفاً كالريح في الهواء وصنفاً عليه الثواب والعقاب ، وخلق الله الإنس ثلاثة أصناف : صنفاً كالبهائم ، كما قال تعالى : {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} إلى قوله : {أولئك كَالانْعَـامِ} (الأعراف : 179) ، الآية.
وصنفاً أجسادهم كأجساد بني آدم وأرواحهم كأرواح الشياطين وصنفاً في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله".
رواه أبو الدرداء رضي الله عنه.
والقول الرابع : التوقف.
491
واحتج أهل القول الأول بوجوه الأول العمومات كقوله تعالى : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} ، وقوله عليه السلام من شهد أن لا إله إلا الله خالصاً دخل الجنة ، فكما أنهم يخاطبون بعمومات الوعيد بالإجماع ، فكذلك يخاطبون بعمومات الوعد بالطريق الأولى ، ومن أظهر حجة في ذلك قوله تعالى : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ * فَبِأَىِّ} () إلى آخر السورة.
والخطاب للجن والإنس فامتن عليهم بجزاء الجنة ووصفها لهم وشوقهم إليها ، فدل ذلك على أنهم ينالون ما امتن عليهم به إذا آمنوا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وقد جاء في حديث : أن رسول الله عليه السلام قال لأصحابه لما تلا عليهم هذه السورة : "الجن كانوا أحسن رداً منكم ما تلوت عليهم من آية إلا قالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب".
والثاني : ما استدل به ابن حزم من قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـانُ وُدًّا} (البينة : 7 ـ ـ 8) إلى آخر السورة.
قال : وهذه صفة تعم الجن والإنس عموماً لا يجوز البتة أن يخص منها أحد النوعين ، ومن المحال أن يكون الله يخبرنا بخبر عام ، وهو لا يريد إلا بعض ما أخبرنا به ثم لا يبين لنا ذلك هذا هو ضد البيان الذي ضمنه الله لنا ، فكيف ، وقد نص على أنهم من جملة المؤمنين الذين يدخلون الجنة.
والثالث : سبق من خبر الطمث.
والرابع : ما قال ابن عباس رضي الله عنهما : الخلق أربعة ، فخلق في الجنة كلهم ، وخلق في النار كلهم وخلقان في الجنة والنار ، فأما لذين في الجنة كلهم ، فالملائكة ، وأما الذين في النار كلهم ، فالشياطين ، وأما الذين في الجنة والنار ، فالإنس والجن لهم الثواب ، وعليهم العقاب.
والخامس : أن العقل يقوي ذلك وإن لم يوجبه ، وذلك أن الله سبحانه قد أوعد من كفر منهم وعصى النار ، فكيف لا يدخل من أطاع منهم الجنة ، وهو سبحانه الحكم العدل ، فإن قيل : قد أوعد الله من قال من الملائكة : إني إله من دونه بالنار ، ومع هذا ليسوا في الجنة في الجواب أن المراد بذلك إبليس دعا إلى عبادة نفسه ، فنزلت الآية فيه ، وهي ومن يقل منهم إني إله من دونه ، فذلك نجزيه جهنم ، وأيضاً أن ذلك وإن سلمنا إرادة العموم منه ، فهذا لا يقع من الملائكة ، بل هو شرط ، والشرط لا يلزم وقوعه ، وهو نظير قوله : إن أشركت ليحبطن عملك ، والجن يوجد منهم الكافر ، فيدخل النار.
واحتج أهل القول الثاني بقوله تعالى : {يَغْفِرْ لَكُمْ} إلخ.
حيث لم يذكر دخول الجنة ، فدل على أنهم لا يدخلونها.
والجواب : أنه لا يلزم من سكوتهم أو عدم علمهم بدخول الجنة نفيه.
وأيضاً : إن الله أخبر أنهم ولوا إلى قومهم منذرين فالمقام مقام الإنذار لا مقام بشارة.
وأيضاً : إن هذه العبارة لا تقتضي نفي دخول الجنة ؛ لأن الرسل المتقدمين كانوا ينذرون قومهم بالعذاب ، ولا يذكرون دخول الجنة ؛ لأن التخويف بالعذاب أشد تأثيراً من الوعد بالجنة ، كما أخبر عن نوح في قوله : {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} (هود : 26) ، وعن هود {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء : 135) ، وعن شعيب {عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} (هود : 84) ، وكذلك غيرهم ، وأيضاً : إن ذلك يستلزم دخول الجنة ؛ لأن من غفر ذنوبه وأجير من العذاب ، وهو مكلف بشرائع الرسل ، فإنه يدخل الجنة.
(8/381)
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وقد سبق دليل القول الثالث والرابع والعلم عند الله الملك المتعال وإليه المرجع والمآل.
{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَـاـاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا وَمَأْوَاـاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـاصِرِينَ} .
{أَوَلَمْ يَرَوْا} : الهمزة للإنكار ، والواو : للعطف على مقدر يستدعيه المقام والرؤية قلبية ؛ أي : ألم يتفكروا ، ولم يعلموا علماً جازماً ، في حكم المشاهدة والعيان.
{أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} ابتداء من غير مثال {وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ} ؛ أي : لم يتعب ولم ينصب بذلك أصلاً ، أو لم يعجز عنه يقال : عييت بالأمر
492
إذا لم تعرف وجهه وأعييت تعبت.
وفي "القاموس" : أعيى الماشي كل.
وفي "تاج المصادر" : العي بكسر العين : (اندر ماندن).
والماضي : عيى وعي.
والنعت : عيي على فعيل وعى على فعل بالفتح ، والإعياء : (درماندن ومانده شده ودررفتن ومانده كردن).
وأعيى عليه الأمر.
انتهى.
وحكي في سبب تعلم الكسائي النحو على كبره أنه مشى يوماً حتى أعيى ، ثم جلس إلى قوم ليستريح ، فقال : قد عييت بالتشديد بغير همزة ، فقالوا له : لا تجالسنا وأنت تلحن.
قال الكسائي : وكيف قالوا إن أردت من التعب؟ فقل : أعييت وإن أردت من انقطاع الحيلة والتعجيز في الأمر ، فقل : عييت مخففاً ، فقام من فوره وسأل عمن يعلم النحو ، فأرشدوه إلى معاذ ، فلزمه حتى نفد ما عنده ، ثم خرج إلى البصرة إلى الخليل بن أحمد.
يقول الفقير : الظاهر أن المراد بالعي هنا اللغوب الواقع في قوله : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} (ق : 38) والقرآن يفسر بعضه بعضاً فالإعياء مرفوع محال ؛ لأنه لو كان لاقتضى ضعفاً واقتضى فساداً {بِقَـادِرٍ} خبر أن ووجه دخول الباء اشتمال النفي الوارد في صدر الآية على أن وما في حيزها ؛ كأنه قيل : أوليس الله بقادر {عَلَى أَن يُحِْـاىَ الْمَوْتَى} ولذا أجيب عنه بقوله : {بَلَى إِنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} تقريراً للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود يعني أن الله تعالى إذا كان قادراً على كل شيء كان قادراً على إحياء الموتى ؛ لأنه من جملة الأشياء وقدرته تعالى لا تختص بمقدور دون مقدور فبلى يختص بالنفي ويفيد إبطاله على ما هو المشهور ، وإن حكى الرضي عن بعضهم أنه جاز استعمالها في الإيجاب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} ؛ أي : يعذبون بها ، كما سبق في هذه السورة ، ويوم ظرف عامله قول مضمر ؛ أي : يقال لهم يومئذٍ {أَلَيْسَ هَـاذَا} العذاب الذي ترونه {بِالْحَقِّ} ؛ أي : حقاً وكنتم تكذبون به ، وفيه تهكم بهم وتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم : وما نحن بمعذبين {قَالُوا بَلَى} ؛ أي : إنه الحق {وَرَبُّنَا} وهو الله تعالى أكدوا جوابهم بالقسم ؛ لأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقيته ، كما في الدنيا وأنى لهم ذلك.
{قَالَ} الله تعالى ، أو خازن النار {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} ؛ أي : أحسوا به إحساس الذائق المطعوم {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} به في الدنيا.
والباء للسببية ، ومعنى الأمر الإهانة بهم والتوبيخ لهم على ما كان في الدنيا من الكفر والإنكار لوعد الله ووعيده.
قال ابن الشيخ : الظاهر أن صيغة الأمر لا مدخل لها في التوبيخ ، وإنما هو مستفاد من قوله : بما كنتم تكفرون.
وفي الآية إشارة إلى أنهم كانوا في الدنيا معذبين بعذاب البعد والقطيعة ، وإفساد الاستعداد الأصلي لقبول الكمالات وبلوغ القربات ، ولكن ما كانوا يذوقون مرارة ذلك العذاب وحرقته لغلبة الحواس الظاهرة ، وكلالة الحواس الباطنة ، كما أن النائم لا يحس قرص النملة وعض البرغوث ، وهنا ورد : "الناس نيام فإذا ماتوا تيقظوا".
واعلم كما أن الموت حق واقع لا يستريبه أحد ، فكذا الحياة بعد الموت ولا عبرة بإنكار المنكر ، فإنه من الجهل وإلا فقد ضرب الله له مثلاً بالتيقظ بعد النوم ، ولذا ورد النوم أخو الموت.
ثم إن الحياة على أنواع : حياة في الأرحام ينفخ الله الروح ، وحياة في القبور بنفخ إسرافيل في الصور وحياة للقلوب بالفيض الروحاني وحياة للأرواح بالسر الرباني ولن يتخلص أحد من العذاب الروحاني والجسماني إلا بدخول جنة الوصل الإلهي الرباني ، وهو إنما يحصل
493
(8/382)
بمقاساة الرياضات والمجاهدات ، فإن الجنة حفت بالمكاره : (نقلست كه يكروز حسن بصري ومالك بن دينار وشقيق بلخي نزد رابعه عدوية شدند واو رنجور بود حسن كفت ليس بصادق في دعواه من لم يصبر على ضرب مولاه شقيق كفت) ليس بصادق في دعواه من لم يشكر على ضرب مولاه مالك (كفت) ليس بصادق في دعواه من لم يتلذذ بضرب مولاه (رابعة را كفتند تو بكو كفت) ليس بصادق في دعواه من لم ينس الضرب في مشاهدة مولاه (وابن عجب نبودكه زنان مصر در شاهده مخلوق درد زخم نيافتند اكركس در شاهده خالق بدين ضعت بود عجب نبود) فعلم من هذا المرء إذا كان صادقاً في دعوى طلب الحق ، فإنه لا يتأذى من شيء مما يجري على رأسه ، ولا يريد من الله إلا ما يريد الله منه :
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
عاشقانرا كردر آتش مى نشاند قهر دوست
تنك جشمم كرنظر در جشمة كوثر كنم
وإن الصادق لا يخلو من تعذيب النفس في الدنيا بنار المجاهدة ، ثم من إحراقها بالكلية بالنار الكبرى التي هي العشق والمحبة ، فإذا لم يبق في الوجود ما يتعلق بالإحراق كيف يعرض على النار يوم القيامة لتخليص الجوهر ونفسه مؤمنة مطمئنة ، ومن الله العون والإمداد.
{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَـاـاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا وَمَأْوَاـاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـاصِرِينَ * ذَالِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَـاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا} .
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} : الفاء : جواب شرط محذوف.
والعزم في اللغة : الجد والقصد مع القطع ؛ أي : إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر ، فاصبر على ما يصيبك من جهتهم كما صبر أولو الثبات والحرم من الرسل ، فإنك من جملتهم بل من عليهم ، ومن للتبيين ، فيكون الرسل كلهم أولي عزم وجد في أمر الله.
قال في "التكملة".
وهذا لا يصح لإبطال معنى تخصيص الآية ، وقيل : من للتبعيض على أنهم صنفان أولو عزم وغير أولي عزم.
والمراد بأولي العزم أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها ، وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاعنين فيها ومشاهيرهم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ، وقد نظمهم بعضهم بقوله : ()
أولو العزم نوح والخليل بن آزر
وموسى وعيسى والحبيب محمد
قال في "الأسئلة المقحمة" : هذا القول هو الصحيح ، وقيل : هم الصابرون على بلاء الله كنوح صبر على أذية قومه كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم صبر على النار ، وعلى ذبح ولده ، والذبيح على الذبح ويعقوب على فقد الولد ، ويوسف على الجب والسجن وأيوب على الضر وموسى ، قال قومه : إنا لمدركون ، قال : كلا ، إن معي ربي سيهدين ، ويونس على بطن الحوت وداود بكى على خطيئته أربعين سنة وعيسى لم يضع لبنة على لبنة.
وقال : إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها صلوات الله عليهم أجمعين.
وقال قوم : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعجلة كانت منه ألا يرى أنه قيل للنبي عليه السلام ، {وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (القلم : 48) ولا آدم لقوله تعالى : {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا} (طه : 115).
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال في "حواشي ابن الشيخ" : ليس بصحيح ؛ لأن معنى قوله : ولم نجد له عزماً قصداً إلى الخلاف ، ويونس لم يكن خروجه بترك الصبر لكن توقياً عن نزول العذاب ، انتهى.
وفيه ما فيه كما لا يخفى على الفقيه.
قال بعضهم : أولو العزم اثنا عشر نبياً أرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم فأوحى الله إلى الأنبياء : إني مرسل عذابي على عصاة بني إسرائيل ، فشق ذلك
494
على الأنبياء ، فأوحى الله إليهم اختاروا لأنفسكم إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل ، وإن شئتم أنجيتكم ، وأنزلت العذاب ببني إسرائيل ، فتشاوروا بينهم ، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي بني إسرائيل ، فسلط عليهم ملوك الأرض ، فمنهم من نشر بالمنشار ، ومنهم من سلخ جلدة رأسه ووجهه ، ومنهم من صلب على الخشب حتى مات ، ومنهم من أحرق بالنار.
وقيل غير ذلك ، والله تعالى أعلم وأحكم.
(8/383)
يقول الفقير : لا شك أن الله تعالى فضل أهل الوحي بعضهم على بعض ببعض الخصائص ، وإن كانوا متساوين في أصل الوحي والنبوة ، كما قال تعالى : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (البقرة : 253) ، وكذا باين بينهم في مراتب الابتلاء ، وإن كان كل منهم لا يخلو عن الابتلاء من حيث أن أمر الدعوة مبني عليه ، فأولو العزم منهم فوق غيرهم من الرسل ، وكذا الرسل فوق الأنبياء ، وأما نبينا عليه السلام ، فأعلى أولي العزم دل عليه قوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم : 4) ، فإن كونه على خلق عظيم يستدعي شدة البلاء.
وقد قال : "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت" ، ففرق بين عزم وعزم.
وقوله تعالى : {وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (القلم : 48) مع قوله : {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا} (الأنبياء : 87) دل على أن يونس عليه السلام قد صدر منه الضجرة.
وقول يوسف عليه السلام فاسأله : {مَا بَالُ النِّسْوَةِ} (يوسف : 50)؟ دل على أنه صدر منه التزكية ، وقول لوط عليه السلام : {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (هود : 80) على أنه ذهل عن أن الله تعالى كان ركنه الشديد ، وقس على هذا المذكور قول عزيز {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} (البقرة : 259) ، ونحو ذلك ، فظهر أن الأنبياء عليهم السلام متفاوتون في درجات المعارف ومراتب الابتلاء ، وطبقات العزم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
قال بعضهم : أولو العزم من لا يكون في عزمه فسخ ، ولا في طلبه نسخ كما قيل لبعضهم بم وجدت ما وجدت.
قال : العزيمة كعزيمة الرجال ؛ أي : الرجال البالغين مرتبة الكمال.
{وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} ؛ أي : لكفار مكة بالعذاب ، فإنه على شرف النزول بهم وأمهلهم ليستعدوا بالتمتعات الحيوانية للعذاب العظيم ، فإني أمهلهم رويداً ، كأنه ضجر بعض الضجر فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم ، فأمر بالصبر وترك الاستعجال.
؛ أي : لم يمكثوا في الدنيا والتمتع بنعيمها {إِلا سَاعَةً} يسيرة وزماناً قليلاً {مِّن نَّهَار} لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته ، يعني : أن هول ما ينزل بهم ينسيهم مدة اللبث ، وأيضاً : إن ما مضى وإن كان دهراً طويلاً لكنه يظن زماناً قليلاً ، بل يكون كأن لم يكن فغاية التنعم الجسماني هو العذاب الروحاني ، كما في البرزخ ، والعذاب الجسماني أيضاً ، كما في يوم القيامة.
قافلة عمر جون نمايان نيست
دواسبه رفتن ليل ونهار را درياب
{بَلَاغٌ} خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة ، أو تبليغ من الرسول ، فالعبد يضرب بالعصا.
والحر يكفيه الإشارة {فَهَلْ يُهْلَكُ} ؛ أي : ما يهلك.
وبالفارسية : (بس آيا هلاك كرده خواهند شد بعذاب واقع كه نازل شود يعني نخوا هند شد).
{إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} ؛ أي : الخارجون عن الاتعاظ به أو عن الطاعة.
وقال بعض أهل التأويل ؛ أي : الخارجون من عزم طلبه إلى طلب ما سواه.
وفي هذه الألفاظ وعيد محض وإنذار بيّن.
وفي "الفردوس" قال ابن عباس رضي الله عنهما ، قال النبي عليه السلام : إذا عسر على المرأة ولادتها أخذ إناء نظيف وكتب عليه ؛ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} (الأحقاف : 35) إلخ.
495
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} (النازعات : 46) إلخ.
{لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَابِ} () إلخ.
ثم يغسل وتسقى منه المرأة وينضح على بطنها وفرجها كما في "بحر العلوم".
وقال في "عين المعاني" قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا عسر على المرأة الولادة ، فليكتب هاتان الآيتان في صحيفة ، ثم تسقى ، وهي هذه : بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا الله ، الحكيم ، الكريم ، لا إله إلا الله العلي العظيم ، سبحان الله رب السماوات السبع ، ورب العرش العظيم ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَارا بَلَاغٌا فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (الأحقاف : 35) ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَااهَا} (النازعات : 46).
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وفي شرعة الإسلام المرأة التي عسرت عليها الولادة يكتب لها في جام ، وهو طبق أبيض من زجاج أو فضة ، ويغسل ويسقى ماؤه : باسم الله الذي لا إله إلا هو العليم الحكيم ، سبحان الله رب العرش العظيم ، الحمدرب العالمين ؛ كأنهم يوم يرون إلخ.
ومر عيسى ابن مريم ببقرة اعترض ولدها في بطنها ، فقالت : يا كلمة الله ادعو الله أن يخلصني ، فقال عيسى : يا خالق النفس من النفس خلصها ، فألقت ما في بطنها ، فإذا عسرت على المرأة الولادة ، فليكتب لها هذا ، وكذا إذا عسرت على الفرس والبقر وغيرهما.
قال في "آكام المرجان" : يجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيء من كتاب الله ، وذكره بالمداد المباح ، ويغسل ويسقى كما نص على ذلك الإمام أحمد وغيره.
انتهى.
واحترز بكتاب الله وذكره عما لا يعرف معناه من لغات الملل المختلفة ، فإنه يحتمل أن يكون فيه كفر واحترز بالمداد المباح عن الدم ونحوه من النجاسات ، فإنه حرام بل كفر ، وكذا تقليب حروف القرآن وتعكيسها.
نعوذ بالله ثم من لطائف القرآن الجليل ختم السورة الشريفة بالعذاب القاطع لدابر الكافرين ، والحمدحمداً كثيراً إلى يوم الدين وإلى أبد الآبدين.
تمت سورة الأحقاف بعون ذي الألطاف في عاشر شوال المنتظم في سلك شهور سنة ثلاث عشرة بعد المائة ويليها سورة محمد صلى الله عليه وسلّم وتسمى سورة القتال أيضاً.
مدنية ، وقيل : مكية ، وآيها تسع أو ثمان وثلاثون.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461
وفي شرعة الإسلام المرأة التي عسرت عليها الولادة يكتب لها في جام ، وهو طبق أبيض من زجاج أو فضة ، ويغسل ويسقى ماؤه : باسم الله الذي لا إله إلا هو العليم الحكيم ، سبحان الله رب العرش العظيم ، الحمدرب العالمين ؛ كأنهم يوم يرون إلخ.
ومر عيسى ابن مريم ببقرة اعترض ولدها في بطنها ، فقالت : يا كلمة الله ادعو الله أن يخلصني ، فقال عيسى : يا خالق النفس من النفس خلصها ، فألقت ما في بطنها ، فإذا عسرت على المرأة الولادة ، فليكتب لها هذا ، وكذا إذا عسرت على الفرس والبقر وغيرهما.
قال في "آكام المرجان" : يجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيء من كتاب الله ، وذكره بالمداد المباح ، ويغسل ويسقى كما نص على ذلك الإمام أحمد وغيره.
انتهى.
واحترز بكتاب الله وذكره عما لا يعرف معناه من لغات الملل المختلفة ، فإنه يحتمل أن يكون فيه كفر واحترز بالمداد المباح عن الدم ونحوه من النجاسات ، فإنه حرام بل كفر ، وكذا تقليب حروف القرآن وتعكيسها.
نعوذ بالله ثم من لطائف القرآن الجليل ختم السورة الشريفة بالعذاب القاطع لدابر الكافرين ، والحمدحمداً كثيراً إلى يوم الدين وإلى أبد الآبدين.
تمت سورة الأحقاف بعون ذي الألطاف في عاشر شوال المنتظم في سلك شهور سنة ثلاث عشرة بعد المائة ويليها سورة محمد صلى الله عليه وسلّم وتسمى سورة القتال أيضاً.
مدنية ، وقيل : مكية ، وآيها تسع أو ثمان وثلاثون.
جزء : 8 رقم الصفحة : 461(8/384)
سورة محمد
وآياتها ثمانية وثلاثون
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي : أعرضوا عن الإسلام وسلوك طريقه من صد صدوداً ، فيكون التأكيد والتفسير لما قبله أو منعوا عن ذلك من صده كالمطعمين يوم بدر ، فإن مترفيهم أطعموا الجنود يستظهرون على عداوة النبي عليه السلام والمؤمنين ، فيكون مخصصاً لعموم قوله : الذين كفروا.
والظاهر أنه عام في كل من كفر وصد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 495
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} ؛ أي : أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا أثر لها أصلاً ، لا بمعنى أنه أبطلها وأحبطها بعد أن لم تكن بذلك ، بل بمعنى أنه حكم ببطلانها وضياعها.
قل ما كانوا يعملونه من أعمال البر ، كصلة الأرحام ، وقري الأضياف وفك الأسارى وغيرها من المكارم ليس لها أثر من أصلها لعدم مقارنتها للإيمان وأبطل ما عملوه من الكيد لرسول الله عليه السلام والصد عن سبيله بنصر رسوله ، وإظهار دينه على الدين كله ، وهو الأوفق بقوله : {فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد : 8) ، وقوله تعالى : {فَإِذَا لَقِيتُمُ} ، إلخ.
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يعلم كل من آمن وعمل صالحاً من المهاجرين وأهل الكتاب وغيرهم ، وكذا يعم الإيمان بجميع الكتب الإلهية.
{وَءَامَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} أخص
496
بالذكر الإيمان بذلك مع اندارجه فيا قبله تنويهاً بشأن المنزل عليه ، كما في عطف جبرائيل على الملائكة وتنبيهاً على سمو مكانه من بين سائر ما يجب الإيمان به ، وأنه الأصل في الكل ، ولذلك أكد بقوله تعالى : {وَهُوَ} ؛ أي : ما نزل على محمد {الْحَقِّ} حال كونه {مِّن رَّبِّهِمُ} بطريق حصر الحقية فيه والحق مقابل الباطل {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّاَاتِهِمْ} ؛ أي : سترها بالإيمان والعمل الصالح {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} ؛ أي : حالهم في الدين والدنيا بالتأييد والتوفيق.
قال الراغب في "المفردات" البال التي يكترث لها ، ولذلك يقال : ما باليت بكذا ؛ أي : ما اكترثت ، ويعبر عن البال بالحال الذي ينطوي عليه الإنسان ، فيقال : ما خطر كذا ببالي.
وفي "القاموس" : البال : الحال.
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّآ أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ} .(8/385)
{ذَالِكَ} إشارة إلى ما مر من إضلال الأعمال وتكفير السيئات وإصلاح البال ، وهو مبتدأ خبره قوله : {بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي : كائن بسبب أن الكافرين {اتَّبَعُوا الْبَـاطِلَ} ؛ أي : الشيطان ففعلوا ما فعلوا من لكفر والصد ، فبيان سببية اتباعه للإضلال المذكور متضمن لبيان مسببيتهما لكونه أصلاً مستتبعاً لهما قطعاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} ؛ أي : وبسبب أن المؤمنين {اتَّبَعُوا الْحَقَّ} الذي لا محيد عنه كائناً {مِّن رَّبِّهِمُ} ففعلوا ما فعلوا من الإيمان به وبكتابه ، ومن الأعمال الصالحة ، فبيان سببية اتباعه لما ذكر من التكفير والإصلاح بعد الإشعار بسببية الإيمان والعمل الصالح له متضمن لبيان مسببيتهما له لكونه مبدىء ومنشاىء لهما حتماً ، فلا تدافع بين الإشعار والتصريح في شيء من الموضعين.
{كَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الضرب البديع.
{يَضْرِبُ اللَّهُ} ؛ أي : يبين.
قال الراغب : قيل ضرب الدراهم اعتباراً بضربها بالمطرقة ، ومنه ضرب المثل ، وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره.
{لِلنَّاسِ أَمْثَـالَهُمْ} ؛ أي : أحوال الفريقين وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال ، وهي اتباع الأولين الباطل وخيبتهم وخسرانهم ، واتباع الآخرين الحق ، وفوزهم وفلاحهم.
وفي الخبر : "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه".
والحق يقال على أوجه :
الأول : يقال : لموجد الشيء بحسب ما تقضيه الحكمة.
ولذا قيل : في الله تعالى هو الحق.
والثاني : يقال : للموجد بحسب مقتضى الحكمة ، ولذلك قيل : فعل الله تعالى كله حق نحو قولنا الموت حق ، والبعث حق ، ويدخل فيه جميع الموجودات ، فإنه لا عبث في فعل الحكيم تعالى وبطلان بعض الأشياء إضافي لا حقيقي حتى الشيطان ونحوه.
والثالث : يقال للاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه كقولنا اعتقاد فلان في البعث والثواب والعقاب والجنة والنار حق.
والرابع : يقال للفعل.
والقول الواقع بحسب ما يجب وقدر ما يجب في الوقت الذي يجب كقولنا : فعلك حق وقولك حق.
والباطل نقيض الحق في هذه المعاني ، فالإيمان حق ؛ لأنه مما أمر الله به ، والكفر باطل ، لأنه مما نهى الله عنه وقس عليه الأعمال الصالحة والمعاصي.
والإيمان عبارة عن قطع الإشراك بالله مطلقاً ، والعمل الصالح ما كانتعالى خالصاً ، وكان الكبار يبذلون مقدورهم فيه ؛ لأن ما كان لرضى الله تعالى مفتاح السعادة في الدارين.
قال موسى عليه السلام : يا رب فأي عبادك أعجز ، قال : الذي يطلب الجنة بلا عمل والرزق بلا دعاء ، قال : وأي عبادك أبخل ، قال : الذي يسأله سائل ، وهو يقدر على إطعامه ، ولم يطعمه والذي يبخل بالسلام على أخيه :
497
كويند باز كشت بخيلان بود بخاك
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} ؛ أي : وبسبب أن المؤمنين {اتَّبَعُوا الْحَقَّ} الذي لا محيد عنه كائناً {مِّن رَّبِّهِمُ} ففعلوا ما فعلوا من الإيمان به وبكتابه ، ومن الأعمال الصالحة ، فبيان سببية اتباعه لما ذكر من التكفير والإصلاح بعد الإشعار بسببية الإيمان والعمل الصالح له متضمن لبيان مسببيتهما له لكونه مبدىء ومنشاىء لهما حتماً ، فلا تدافع بين الإشعار والتصريح في شيء من الموضعين.
{كَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الضرب البديع.
{يَضْرِبُ اللَّهُ} ؛ أي : يبين.
قال الراغب : قيل ضرب الدراهم اعتباراً بضربها بالمطرقة ، ومنه ضرب المثل ، وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره.
{لِلنَّاسِ أَمْثَـالَهُمْ} ؛ أي : أحوال الفريقين وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال ، وهي اتباع الأولين الباطل وخيبتهم وخسرانهم ، واتباع الآخرين الحق ، وفوزهم وفلاحهم.
وفي الخبر : "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه".
والحق يقال على أوجه :
الأول : يقال : لموجد الشيء بحسب ما تقضيه الحكمة.
ولذا قيل : في الله تعالى هو الحق.
والثاني : يقال : للموجد بحسب مقتضى الحكمة ، ولذلك قيل : فعل الله تعالى كله حق نحو قولنا الموت حق ، والبعث حق ، ويدخل فيه جميع الموجودات ، فإنه لا عبث في فعل الحكيم تعالى وبطلان بعض الأشياء إضافي لا حقيقي حتى الشيطان ونحوه.
والثالث : يقال للاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه كقولنا اعتقاد فلان في البعث والثواب والعقاب والجنة والنار حق.
والرابع : يقال للفعل.
والقول الواقع بحسب ما يجب وقدر ما يجب في الوقت الذي يجب كقولنا : فعلك حق وقولك حق.
والباطل نقيض الحق في هذه المعاني ، فالإيمان حق ؛ لأنه مما أمر الله به ، والكفر باطل ، لأنه مما نهى الله عنه وقس عليه الأعمال الصالحة والمعاصي.
والإيمان عبارة عن قطع الإشراك بالله مطلقاً ، والعمل الصالح ما كانتعالى خالصاً ، وكان الكبار يبذلون مقدورهم فيه ؛ لأن ما كان لرضى الله تعالى مفتاح السعادة في الدارين.
(8/386)
قال موسى عليه السلام : يا رب فأي عبادك أعجز ، قال : الذي يطلب الجنة بلا عمل والرزق بلا دعاء ، قال : وأي عبادك أبخل ، قال : الذي يسأله سائل ، وهو يقدر على إطعامه ، ولم يطعمه والذي يبخل بالسلام على أخيه :
497
كويند باز كشت بخيلان بود بخاك
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
حاشا كه هيج خاك بذيرد بخيل را
يقول الفقير : مجرد الإنفاق والإطعام لا يعتبر إلا إذا كان مقارناً بالخلوص ، وطلب الرضا ألا ترى أن قريشاً أطعموا الكفار في وقعة بدر ، فعاد إنفاقهم خيبة وخساراً ؛ لأنه كان في طريق الشيطان لا في طريق الله تعالى ، فأحبط أعمالهم ، وكذا مجرد الإمساك لا يعد بخلاً إلا إذا كان ذلك إمساكاً عن المستحق ألا ترى كيف قال الله تعالى : {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَـامًا} (النساء : 5) ، فحذرهم في غير محل الإسراف ، ولا سرف في الخير ، ثم إن أعمال المبتدعة باطلة أيضاً ؛ لأنها على زيغ وانحراف عن سننها ، وإن كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، فالكفر والبدعة والمعاصي أقبح الأشياء ، كما أن الإيمان والسنة والطاعة أحسن الأشياء.
(بشر حافى قدس سره كفت رسول الله را عليه السلام بخواب ديدم مرا كفت اى بشر هيج دانى كه جرا خداى تعالى ترا بر كزيد ازميان اقران وبلند كردانيد كفتم نه يا رسول الله كفت بسبب آنكه متابعت سنت من كردى وصالحا نرا حرمت نكاه داشتى وبرادرانر نصيحت كردى وأصحاب وأهل بيت مرا دوست داشتى حق تعالى ترابدين سبب بمقام ابرار رسانيد).
ثم إن طريق اتباع الحق إنما يتيسر باتباع أهل الحق ، فإنهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلّم في التحقق بالحق والإرشاد إليه ، فمن اتبع أهل الحق اهتدى ، ومن اتبع أهل الباطل ضل ، فالأول أهل جمال الله تعالى والملك خادمه.
والثاني : أهل جلال الله تعالى ، والشيطان سادنه ، فعلى العاقل الرجوع إلى الحق وصحبة أهله ، كما قال تعالى : {وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} (التوبة : 119).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يخدمون الحق بالحق ، ويعصمنا من البطالة والبطلان والزيغ المطلق إنه هو الحق الباقي وإليه التلاقي.
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} : اللقاء : (ديدن وكار زار كردن ورسيدن).
قال الراغب : اللقاء : يقال في الإدراك بالحس بالبصر والبصيرة ؛ أي : فإذا كان الأمر كما ذكر من ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم ، فإذا لقيتموهم في المحاربة يا معشر المسلمين.
{فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أصله : فاضربوا الرقاب ضرباً ، فحذف الفعل وقدم المصدر وأنيب منابه مضافاً ءلى المفعول والألف واللام بدل من الإضافة ؛ أي : فاضربوا رقابهم بالسيف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
والمراد : فاقتلوهم ، وإنما عبر عن القتل بضرب الرقاب تصويراً له بأشنع صورة ، وهو جز الرقبة وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه ، وإرشاداً للغزاة إلى أيسر ما يكون منه.
وفي الحديث : "أنا لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق".
{حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ} .
قال في "الكشاف" : الإثخان كثرة القتل ، والمبالغة فيه من قولهم : أثخنته الجراحات إذا أثبتته حتى تثقل عليه الحركة وأثخنه المرض إذا أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة.
وفي "المفردات" يقال : ثخن الشيء فهو ثخين إذا غلظ ، ولم يستمر في ذهابه ، ومنه استعير قولهم : أثخنته ضرباًواستخفافاً.
والمعنى حتى إذا أكثرتم قتلهم وأغلظتموه على حذف المضاف أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض.
{فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} : الوثاق بالفتح والكسر اسم ما يوثق به ويشد من القيد.
قال في "الوسيط" : الوثاق اسم من الإيثاق ، يقال : أوثقه إيثاقاً إذا شد أسره كيلا يفلت.
فالمعنى : فأسروهم واحفظوهم.
وبالفارسية : (بس استوار كنيد بندرا يعنى
498
بكيريد ايشانرا باسيرى وبند كنيد محكم تابكر يزيد).
وقال أبو الليث : يعني إذا قهرتموهم وأسرتموهم فاستوثقوا أيديهم من خلفهم كيلا يفلتوا ، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل.
{فَإِمَّا مَنَّا} ؛ أي : تمنون مناً ، وهو أن يترك الأمير الأسير الكافر من غير أن يأخذ منه شيئاً {بَعْدَ} ؛ أي : بعد شد الوثاق.
{وَإِمَّا فِدَآءً} ؛ أي : تفدون فداء هو أن يترك الأمير الأسير الكافر ، ويأخذ مالاً أو أسيراً مسلماً في مقابلته.
يقال : فداه يفديه فدى وفداء وافتداه وفاداه : أعطى شيئاً ، فأنقذه.
والفداء : ذلك المعطى ، ويقصر كما في "القاموس".
(8/387)
وقال الراغب : الفدى والفداء حفظ الإنسان عن النائبة بما يبذله عنه ، كما يقال : فديته بمالي وفديته بنفسي ، وفاديته بكذا.
انتهى.
قال الشيخ الرضي : المطلوب من شد الوثاق إما قتل أو استرقاق ، أو من أو فداء ، فالإمام يتخير في الأسارى البالغين من الكفار بين هذه الخصال الأربع ، وهذا التخيير ثابت عند الشافعي ، ومنسوخ عندنا بقوله تعالى : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة : 5) قالوا : نزل ذلك يوم بدر ، ثم نسخ ، والحكم إما القتل أو الاسترقاق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
قال في "الدرر" : وحرم منهم فداؤهم وردهم إلى دارهم ؛ لأن رد الأسير إلى دار الحرب تقوية لهم على المسلمين في الحرب ، فيكره كما يكره بيع السلاح لهم.
وفي المن خلاف الشافعي ، وأما الفداء ، فقبل الفراغ من الحرب جاز بالمال لا بالأسير المسلم ، وبعده لا يجوز بالمال عند علمائنا ، وبالنفس عند أبي حنيفة ، ويجوز عند محمد وعن أبي يوسف روايتان ، وعن مجاهد : ليس اليوم من ولا فداء إنما الإسلام أو ضرب العنق.
وعن الصديق رضي الله عنه : لا أفادي وإن طلبوا بمدين من ذهب ، وكتب إليه في أسير التمسوا منه الفداء ، فقال : اقتلوه ؛ لأن أقتل رجلاً من المشركين أحب إليّ من كذا ، وقد قتل عليه السلام يوم فتح مكة ابن الأخطل ، وهو متعلق بأستار الكعبة بعدما وقع في منعة المسلمين ، فهو كالأسير.
{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أوزار الحرب : آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها من السلاح والكراع ، يعني الخيل أسند وضعها إليها ، وهو لأهلها إسناداً مجازياً وأصل الوزر بالكسر : الثقل وما يحمله الإنسان ، فمسى الأسلحة أوزاراً ؛ لأنه تحمل ، فيكون جعل مثل الكراع من الأوزار من التغليب وحتى غاية عند الشافعي لأحد الأمور الأربعة ، أو للمجموع.
والمعنى : أنهم لا يتركون على ذلك أبداً إلى أن لا يكون مع المشركين حرب بأن لا يبقى لهم شوكة ، وأما عند أبي حنيفة ، فإنه حمل الحرب على حرب بدر ، فهي غاية للمن والفداء.
والمعنى : يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها ، وتنقضي وإن حملت على الجنس ، فهي غاية للضرب والشد.
والمعنى : أنهم يقتلون ويؤسرون حتى يضع جنس الحرب أوزارها بأن لا يبقى للمشركين شوكة.
وقال الكاشفي : (تابنهد اهل حرب سلاح حرب را يعنى دين اسلام بهمه جار سد وحكم قتال نماند وآن نزديك نزول عيسى عليه السلام خواهد بود جه در خبر آمده كه آخر قتال امت من بادجال است).
فما دام الكفر فالحرب قائمة أبداً {ذَالِكَ} ، أي : الأمر ذلك أو افعلوا ذلك {وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ} لو للمضي وإن دخل على المستقبل {انتَصَرَ مِنْهُمْ} : لانتقم منهم بغير قتال بأن يكون ببعض أسباب الهلكة والاستئصال من خسف أو رجفة أو حاصب أو غرق أو موت ذريع ونحو ذلك.
ويجوز أن يكون الانتقام بالملائكة بصيحتهم أو بصرعهم أو بقتالهم من حيث لا يراهم الكفار ، كما وقع
499
في بدر {وَلَـاكِنِ} لم يشأ ذلك : (تابيازمايد).
{بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} فأمركم بالقتال وبلاكم بالكافرين لتجاهدوهم فتستوجبوا الثواب العظيم بموجب الوعد ، والكافرين بكم ليعاجلهم على أيديكم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي الآية إشارة إلى كافر النفس حيثما وجدتموه ، وهو يمد رأسه إلى مشرب من مشارب الدنيا ونعيمها ، فاضربوا عنق ذلك الرأس وادفعوه عن ذلك المشرب حتى إذا غلبتموهم ؛ أي : النفوس وسخرتموهم ، فشدوهم بوثاق أركان الشريعة وآداب الطريقة ، فإنه بهذين الجناحين يطير صاحب الهمم العلية إلى عالم الحقيقة ، فإما مناً على النفوس بعد الوصول بترك المجاهدة ، وإما فداء بكثرة العبادة عوضاً عن ترك المجاهدة بعد الظفر بالنفوس ، وأما قتل النفوس بسيف المخالفة ، فإنه في مذهب أرباب الطلب يجوز كل ذلك بحسب نظر كل مجتهد ، فإن كل مجتهد منهم مصيب.
وذلك إلى أن يجد الطالب المطلوب ، ويصل العاشق إلى المعشوق ، بأن جرى على النفس بعد الظفر بها مسامحة في إغفاء ساعة وإفطار يوم ترويحاً للنفس من الكد وإجماعاً للحواس قوة لها على الباطل ، فيما يستقبل من الأمر ، فذلك على ما يحصل به استصواب من شيخ المريد ، أو فتوى ، أو فراسة صاحب الوقت ، ولو شاء الله لقهر النفوس بتجلي صفات الجلال بغير سعي المجاهد في القتال ، ولكن إلخ.
{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي : استشهدوا يوم بدر ويوم أحد وسائر الحروب.
{فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـالَهُمْ} ؛ أي : فلن يضيعها بل يثيب عليها.
(8/388)
{قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الارْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَـاوَاتِا ائْتُونِى بِكِتَـابٍ مِّن قَبْلِ هَـاذَآ أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَه إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآاـاِهِمْ غَـافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَـافِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} .
{سَيَهْدِيهِمْ} في الدنيا إلى أرشد الأمور ، وفي الآخرة إلى الثواب.
وعن الحسن بن زياد يهديهم إلى طريق الثواب في جواب منكر ونكير ، وفيه أن أهل الشهادة لا يسألون {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} ؛ أي : شأنهم وحالهم بالعصمة والتوفيق ، والظاهر أن السين للتأكيد ، والمعنى : يهديهم الله البتة إلى مقاصدهم الأخروية ، ويصلح شأنهم بإرضاء خصمائهم لكرامتهم على الله بالجهاد والشهادة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} : الجملة مستأنفة ؛ أي : عرفها لهم في الدنيا بذكر أوصافها بحيث اشتاقوا إليها ، أو بينها لهم بحيث يعلم كل أحد منزله ويهتدي إليه ، كأنه كان ساكنه منذ خلق.
وفي الحديث : "لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا".
وفي "المفردات" : عرفه جعل له عرفاً ؛ أي : رائحة طيبة ، فالمعنى زينها لهم وطيبها.
وقال بعضهم : حددها لهم وأفرزها من عرف الدار ، فجنة كل منهم محددة مفرزة ، ومن فضائل الشهداء أنه ليس أحد يدخل الجنة ، ويحب أن يخرج منها ، ولو أعطي ما في الدنيا جميعاً إلا الشهيد ، فإنه يتمنى أن يرده الله إلى الدنيا مراراً ، فيقتل في سبيل الله ، كما قتل أولاً ، لما يرى من عظيم كرامة الشهداء على الله تعالى ، ومن فضائلهم أن الشهادة في سبيل الله تكفر ما على العبد من الذنوب التي بينه وبين الله تعالى.
وفي الحديث : "يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين".
والمراد بالدين : كل ما كان من حقوق الآدميين كالغصب وأخذ المال بالباطل ، وقتل العمد ، والجراحة وغير ذلك من التبعات ، وكذلك الغيبة والنميمة والسخرية ، وما أشبه ذلك ، فإن هذه الحقوق كلها لا بد من استيفائها لمستحقها.
وقال القرطبي : الدين الذي يحبس صاحبه عن الجنة هو الذي قد ترك له وفاء ، ولم يوص به أو قدر على الأداء ، فلم يؤده ، أو أدانه على سفه أو سرف ومات ، ولم يوفه وأما من أدان في حق واجب كفاقة وعسر ، ومات ولم يترك وفاء ، فإن الله
500
لا يحبسه عن الجنة شهيداً كان أو غيره ويقضي عنه ويرضي خصمه ، كما قال عليه السلام : "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".
وفي الآية حث على الجهادين الأصغر والأكبر.
ومن قتله العدو الظاهر صار شهيداً ، ومن قتله العدو الباطن ، وهو النفس صار طريداً كما قيل :
وآنكه كشت كافران باشد شهيد
كشته نفس است نزد حق طريد
نسأل الله العون على محاربة النفس الأمارة والشيطان.
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ} ؛ أي : دينه ورسوله {يَنصُرْكُمُ} على أعدائكم ويفتح لكم.
{وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} في مواطن الحرب ومواقفها أو على حجة الإسلام.
واعلم أن النصرة على وجهين :
الأول : نصرة العبد ، وذلك بإيضاح دلائل الدين وإزالة شبهة القاصرين وشرح أحكامه ، وفرائضه وسننه وحلاله وحرامه ، والعمل بها ، ثم بالغزو والجهاد لإعلاء كلمة الله وقمع أعداء الدين ، إما حقيقة كمباشرة المحاربة بنفسه ، وإما حكماً بتكثير سواد المجاهدين بالوقوف تحت لوائهم ، أو بالدعاء لنصرة المسلمين وخذلان الكافرين ، بل يقول : اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل المسلمين ، ثم بالجهاد الأكبر بأن يكون عوناًعلى النفس حتى يصرعها ويقتلها ، فلا يبقى من هواها أثر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
والثاني : نصرة الله تعالى ، وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإظهار الآيات والمعجزات وتبيين السبل إلى النعيم والجحيم ، وحضرة الكريم والأمر بالجهاد الأصغر والأكبر والتوفيق للسعي فيهما طلباً لرضاه لا تبعاً لهواه وبإظهاره على أعداء الدين وقهرهم في إعلاء كلمة الله العليا ، وإيتاء رشده في إفناء وجوده الفاني في الوجود الباقي بتجلي صفات جماله وجلاله.
قال بعض الكبار : زلل الأقدام بثلاثة أشياء : بشرك الشرك لمواهب الله ، والخوف من غير الله ، والأمل في غيره ، وثبات الأقدام بثلاثة أشياء : بدوام رؤية المفضل والشكر على النعم ، ورؤية التقصير في جميع الأحوال ، والخوف منه والسكون إلى ضمان الله فيما ضمن من غير انزعاج ، ولا احتياج ، فعلى العاقل نصرة الدين على مقتضى العهد المتين.
قال الحافظ :
بيمان شكن هرآينه كردد شكسته حال
إن العهود لدى أهل النهى ذمم
(8/389)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُه فَلا تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيْـاًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيه كَفَى بِه شَهِيدَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَآ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِه وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنا بَنِى إسرائيل عَلَى مِثْلِه فَـاَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْه وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا} .
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ} : خوارى ورسوايى وهلاك ونا ميدى مرايشان راست.
قال في "كشف الأسرار" : أتعسهم الله فتعسوا تعساً ، والإتعاس هلاك (كردن وبرورى افكند).
وفي "الإرشاد" : وانتصابه بفعل واجب حذفه سماعاً ؛ أي : فقال : تعساً لهم ، والتعس : الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط ، ورجل تاعس وتعس والفعل كمنع وسمع وتعسه الله وأتعسه.
{وَأَضَلَّ أَعْمَـالَهُمْ} عطف عليه داخل معه في حيز الخبرية للموصول.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
يعني : (كم ونابود وباطر كرد الله تعالى عملهاى ايشانرا).
{ذَالِكَ} ؛ أي : ما ذكر من التعس وإضلال الأعمال {بِأَنَّهُمْ} ؛ أي : بسبب أنهم {كَرِهُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} من القرآن لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمارة بالسوء.
{فَأَحْبَطَ} الله {أَعْمَـالَهُمْ} لأجل ذلك ؛ أي : أبطلها كرره إشعاراً بأنه يلزم الكفر بالقرآن ، ولا ينفك عنه بحال.
والمراد بالأعمال طواف البيت وعمارة المسجد الحرام وإكرام الضيف وإغاثة الملهوفين وإعانة المظلومين ومواساة اليتامى والمساكين ونحو ذلك مما هو في صورة البر ، وذلك بالنسبة إلى كفار قريش ، وقس عليهم أعمال سائر
501
الكفرة إلى يوم الدين.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا} كفار العرب {فِى الأرْضِ} ؛ أي : أقعدوا في أماكنهم ، ولم يسيروا فيها إلى جانب الشام واليمن والعراق.
{فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم المكذبة كعاد وثمود وأهل سبأ ، فإن آثار ديارهم تنبىء عن أخبارهم {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام ؛ كأنه قيل : كيف كان عاقبتهم ، فقيل : استأصل الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم.
يقال : دمره وأهلكه ودمر عليه أهلك عليه ما يختص به.
قال الطيبي : كأن في دمر عليهم تضمين معنى أطبق ، فعدي بعلى ، فإذا أطبق عليهم دماراً لم يخلص مما يختص بهم أحد.
وفي "حواشي سعدي المفتي" : دمر الله عليهم ؛ أي : أوقع التدمير عليهم.
{وَلِلْكَـافِرِينَ} ؛ أي : ولهؤلاء الكافرين السائرين بسيرتهم {أَمْثَـالُهَا} ؛ أي : أمثال عواقبهم ، أو عقوباتهم لكن لا على أن لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافه ، بل مثله وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة حسب تعدد الأمم المعذبة.
وفي الآية إشارة إلى أن النفوس السائرة لتلحق نعيم صفاتها الذميمة كرهوا ما أنزل الله من موجبات مخالفات النفس والهوى وموافقات الشرع ، ومتابعة الأنبياء ، فأحبط أعمالهم لشوبها بالشرك والرياء والتصنع والهوى ، أو لم يسلكوا في أرض البشرية ، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم من القلوب والأرواح لما تابعوا الهوى ، وتلوثوا بحب الدنيا أهلكهم الله في أودية الرياء وبوادي البدعة والضلال.
وللكافرين من النفوس اللئام في طلب المرام أمثالها من الضلال والهلاك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
(8/390)
{ذَالِكَ} إشارة إلى ثبوت أمثال عقوبة الأمم السابقة لهؤلاء.
وقال بعضهم : ذلك المذكور من كون المؤمنين منصورين مظفرين ومن كون الكافرين مقهورين مدمرين.
{بِأَنَّ اللَّهَ} ؛ أي : بسبب أنه تعالى : {مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا} ؛ أي : ناصر لهم على أعدائهم في الظاهر والباطن بسبب إيمانهم {وَأَنَّ الْكَـافِرِينَ} ؛ أي : بسبب أنهم {لا مَوْلَى لَهُمْ} ؛ أي : لا ناصر لهم ، فيدفع عنهم العذاب الحال بسبب كفرهم ، فالمراد ولاية النصرة لا ولاية العبودية ، فإن الخلق كلهم عباده تعالى ، كما قال : {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَـاـاهُمُ الْحَقِّ} () ؛ أي : مالكهم الحق وخالقهم ، أو المعنى لا مولى لهم في اعتقادهم حيث يعبدون الأصنام ، وإن كان مولاهم الحق تعالى في نفس الأمر ، ويقال : أرجى آية في القرآن هذه الآية ؛ لأن الله تعالى ، قال : مولى الذين آمنوا ، ولم يقل مولى الزهاد والعباد وأصحاب الأوراد والاجتهاد ، والمؤمن ، وإن كان عاصياً ، فهو من جملة الذين آمنوا.
ذكره القشيري قدس سره.
واعلم أن الجند جندان جند الدعاء وجند الوغى ، فكما أن جند الوغى منصورون بسبب أقويائهم في باب الديانة والتقوى ، ولا يكونون محرومين من ألطاف الله تعالى ، كذلك جند الدعاء مستجابون بسبب ضعفائهم في باب الدنيا ، وظاهر الحال ، ولا يكونون مطرودين عن باب الله ، كما قال عليه السلام : "إنكم تنصرون بضعفائكم".
قال الشيخ سعدي : (دعاء ضعيفان أميدوار.
زبازوى مردى به آيد بكار).
ثم اعلم أن الله تعالى هو الموجود الحقيقي ، وما سواه معدوم بالنسبة إلى وجوده الواجب ، فالكفار لا يعبدون إلا المعدوم كالأصنام والطاغوت ، فلذا لا ينصرون ، والمؤمنون يعبدون الموجود الحقيقي ، وهو الله تعالى ، فلذا ينصرهم في الشدائد ، وأيضاً إن الكفار يستندون إلى الحصون والسلاح والمؤمنون يتوكلون على القادر القوي الفتاح ، فالله معينهم على كل
502
حال.
روي : أن النبي عليه السلام كان بعد غزوة تحت شجرة وحيداً ، فحمل عليه مشرك بسيف ، وقال : من يخلصك مني ، فقال النبي عليه السلام : "الله" ، فسقط المشرك والسيف ، فأخذه النبي عليه السلام ، فقال : "من يخلصك مني"؟ فقال : لا أحد ، ثم أسلم".
وروي : أن زيد بن ثابت رضي الله عنه خرج مع رجل من مكة إلى الطائف ، ولم يعلم أنه منافق ، فدخلا خربة وناما ، فأوثق المنافق يد زيد وأراد قتله ، فقال زيد : يا رحمن أعني ، فسمع المنافق قائلاً ، يقول : ويحك لا تقتله ، فخرج المنافق ، ولم ير أحداً ، ثم وثم ، ففي الثالثة قتله فارس ، ثم حل وثاقه.
وقال : أنا جبريل كنت في السماء السابعة حين دعوت الله فقال الله تعالى : أدرك عبدي فالله ولي الذين آمنوا قال الله تعالى في التوراة في حق هذه الأمة لا يحضرون قتالاً إلا وجبريل معهم ، وهو يدل على أن جبريل يحضر كل قتال صدر من الصحابة للكفار ، بل ظاهره كل قتال صدر من جميع الأمة ، يعني إذا كانوا على الحق والعدل ، ثم إن المجلس الذي تحضره الملائكة ، وكذا المعركة يقشعر فيه الجلد ، وتذرف فيه العينان ، ويحصل التوجه إلى الحضرة العليا ، فيكون ذلك سبباً لاستجابة الدعاء ، وحصول المقصود من النصرة وغيرها.
نسأل الله المعين أن يجعلنا من المنصورين آمين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْه وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِه فَسَيَقُولُونَ هَـاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِن قَبْلِه كِتَـابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةًا وَهَـاذَا كِتَـابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} بيان لحكم ولايته تعالى للمؤمنين وثمرتها الأخروية.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} ؛ أي : ينتفعون في الدنيا بمتاعها أياماً قلائل ويعيشون {وَيَأْكُلُونَ} حريصين غافلين عن عواقبهم {كَمَا تَأْكُلُ الانْعَـامُ} في مسارحها ومعالفها غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح والأنعام.
جمع نعم بفتحتين ، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز.
{وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} ؛ أي : منزل ثواء وإقامة ، والجملة إما حال مقدرة من واو يأكلون أو استئناف ، فإن قلت : كيف التقابل بينه وبين قوله : إن الله يدخل ، إلخ.
قلت : الآية والله أعلم من قبيل الاحتباك ذكر الأعمال الصالحة ، ودخول الجنة أولاً دليلاً على حذف الفاسدة ودخول النار ثانياً ، والتمتع والمثوى ثانياً ، دليلاً على حذف التمتع والمأوى أولاً.
(8/391)
قال القشيري : الأنعام تأكل بلا تمييز من أي موضع وجد كذلك الكافر لا تمييز له أمن الحلال وجد أم من الحرام؟ ، وكذلك الأنعام ليس لها وقت ، بل في كل وقت تقتات وتأكل كذلك الكافر أكول ، كما قال عليه السلام : "الكافر يأكل في سبعة أمعاء ، والمؤمن يأكل في معي واحد" ، والأنعام تأكل على الغفلة فمن كان في حالة أكله ناسياً لربه فأكله كأكل الأنعام.
قال الحدادي : الفرق بين أكل المؤمن والكافر ، أن المؤمن لا يخلو أكله عن ثلاث الورع عند الطلب واستعمال الأدب والأكل للسبب ، والكافر يطلب للنهمة ويأكل للشهوة وعيشه في غفلة.
وقيل : المؤمن يتزود ، والمنافق يتزين ويتريد الكافر يتمتع ويتمنع.
وقيل : من كانت همته ما يأكل فقيمته ما يخرج منه.
قال الكاشفي : في الآية يعني : (همت ايشان مصرو فست بخوردن وعاقل بايدكه خوردن اوبراى زيستن باشد يعنى بجهت قوام بدن وتقويت قواى نفسانى طعام خورد ونظر اوبرانكه بدن تحمل طاعت داشته باشد وقوتهاى نفسانى در استدلال بقدرت ربانى ممد ومعان بودنه آنكه عمر خود طفيل خوردن شناسد ودر مرعاى ذرهم يأكلوا ويتمتعوا مانند جهار بايان جز خوردن وخواب مطمح نظرش نباشد ونعم ما قيل.
خوردن براى زيستن وذكر
503
دنست.
تو معتقد كه زيستن از بهر خوردنست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
والحاصل ليس للذين كفروا هم إلا بطونهم وفروجهم ، ولا يلتفتون إلى جانب الآخرة فهم قد أضاعوا أيامهم بالكفر والآثام وأكلوا وشربوا في الدنيا كالأنعام ، وأما المؤمنون فقد جاهدوا في الله بالطاعات ، واشتغلوا بالرياضيات والمجاهدات ، فلا جرم أحسن الله إليهم بالجنات العاليات ، ومن هنا يظهر سر قوله عليه السلام الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فلما عرف المؤمن أن الدنيا سجن ونعيمها زائل حبس نفسه على طاعة الله ، فكان عاقبته الجنات والنعيم الباقي ، ولما كان الكافر منكر الآخرة اشتغل في الدنيا باللذات ، فلم يبق له في الآخرة إلا الحبس في الجحيم وأكل الزقوم ، وكان الكبار يقنعون بيسير من الغذاء ، كما حكي أن أويساً القرني رضي الله عنه كان يقتات ويكتسي مما وجد في المزابل ، فرأى يوماً كلباً يهتز ، فقال : كل ما يليك وأنا آكل ما يليني ، فإن دخلت الجنة ، فأنا خير منك ، وإن دخلت النار ، فأنت خير مني.
قال عليه السلام : "جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش ، فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهدة في سبيل الله ، وأنه ليس من عمل أحب إلى الله تعالى من جوع وعطش ، كما في "مختصر الإحياء".
وفي المثنوي :
زين خورشها اندك اندك بازبر
زين غذاى خربود نى آن حر
تا غذاى اصل را قابل شوى
لقمهاى نور را آكل شوى
وقال الجامي :
جوع باشد غذاى اهل صفا
محنت وابتلاى اهل هوا
جوع تنوير خانة دل تست
اكل تعمير حانه كل تست
خانة دل كذاشتى بى نور
خانة كل جه ميكنى معمور
وقال الشيخ سعدي :
باندازه خورزادا كر مردمى
جنين برشكم آدمى با خمى
درون جاى قوتست وذكر ونفس
توبندارى از بهر نانست وبس
ندارند تن بروران آكهى
كه بر معده باشد زحكمت تهى
ومن أوصاف المريدين المجاهدة ، وهو حمل النفس على المكاره البدنية من الجوع والعطش والعري ، ولا بد من مقاساة الموتات الأربع : الموت الأبيض ، وهو الجوع ، والموت الأحمر : وهو مخالفة الهوى ، والموت الأسود ، وهو تحمل الأذى ، والموت الأخضر وهو طرح الرقاء بعضها على بعض ؛ أي : لبس الخرقة المرقعة هضماً للنفس ما لم تكن لباس شهرة ، فإن النبي عليه السلام نهى عن الشهرتين في اللباس اللين الأرفع والغليظ الأقوى ، لأنه اشتهار بذلك وامتياز عن المسلمين له قد ، وقال عليه السلام : كن في الناس كواحد من الناس قال إبراهيم بن أدهم قدس سره للقمة تتركها من عشائك مجاهدة لنفسك خير لك من قيام ليلة هذا اذا كان حلالاً ، وإما إذا كان حراماً فلا خير فيه البتة ، فما ملىء وعاء شر من بطن مليء بالحلال وبالجوع يحصل الصمت ، وقلة الكلام والذلة والانكسار من جميع الشهوات ، ويذهب الوساوس ، وكل آفة تطرأ عليك من نتائج الشبع ، وأنت لا تدري قديماً كان أو حديثاً ، فإن المعدة حوض البدن يسقي منه هذه الأعضاء التي هي مجموعة ، فالغذاء الجسماني هو ماء حياة الجسم على التمام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
ولذلك قال سهل قدس سره : إن سره الخلوة في الماء ، وأنت لا تشك أن صاحب الزراعة لو سقاها فوق حاجتها ، وأطلق الماء عليها جملة واحدة هلكت ، ولو منعها الماء فوق الحاجة أيضاً هلكت سواء كان من الأرض ، أو من السماء وقس عليه الامتلاء من الطعام ، ولو كان حلالاً.
نسأل الله الحماية والرعاية.
{وَكَأَيِّن} كلمة مركبة من
504
الكاف وأي بمعنى كم الخبرية.
(8/392)
قال المولى الجامي في "شرح الكافية" : إنما بنى كأين لا كاف التشبيه دخلت على أي ، وأي في الأصل كان معرباً ، لكنه انمحى عن الجزءين معناهما الإفرادي ، فصار المجموع كاسم مفرد ، بمعنى كم الخبرية ، فصار كأنه اسم مبني على السكون آخره نون ساكنة كما في من لا تنوين تمكن ، ولهذا يكتب بعد الياء نون مع أن التنوين لا صورة له في الخط.
انتهى.
ومحلها الرفع بالابتداء.
{مِن قَرْيَةٍ} تمييز لها.
{هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ} صفة لقربة {الَّتِى أَخْرَجَتْكَ} : صفة لقريتك ، وهي مكية ، وقد حدف منهما المضاف ، وأجرى أحكامه عليهما ، كما يفصح عنه الخبر الذي هو قوله تعالى : {أَهْلَكْنَـاهُمْ} ؛ أي : وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك الذين كانوا سبباً لخروجك من بينهم ، ووصف القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوتها ، كما أن وصف الثانية بإخراجه عليه السلام للإيذان بأولويتها به لقوة جنايتها.
{فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} بيان لعدم خلاصهم من العذاب بواسطة الأعوان والأنصار أثر بيان عدم خلاصهم منهم بأنفسهم ، والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات ، وهو حكاية حال ماضية.
وقال ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم : لما خرج رسول الله عليه السلام من مكة إلى الغار التفت إلى مكة.
وقال : أنت أحب البلاد إلى الله ولي ، ولولا أن المشركين أخرجوني ما خرجت منك ، فأنزل الله هذه الآية ، فتكون الآية مكية وضعت بين الآيات المدنية.
وفي الآية إشارة إلى الروح وقريته ، وهي الجسد فكم من قالب هو أقوى وأعظم من قالب قد أهلكه الله بالموت ، فلا ناصر لهم في دفع الموت ، فإذا كان الروح خارجاً من القالب القوي بالموت ، فأولى أن يخرج من القالب الضعيف ، كما قال تعالى : {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} (النساء : 78) ؛ أي : في أجسام ضخمة ممتلئة :
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
سيل بى ونهاررا در زيل بل آرام نيست
ما بغفلت زير طاق آسمان اسوده ايم
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أولئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ خَـالِدِينَ فِيهَا جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَـانًا حَمَلَتْهُ أُمُّه كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ثَلَـاثُونَ شَهْرًا} .
{أَفَمَن كَانَ} : (آيا هركه باشد).
{عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} : الفاء للعطف على مقدر يقضيه المقام ، ومن عبارة عن المؤمنين المتمسكين بأدلة الدين ؛ أي : أليس الأمر كما ذكر ، فمن كان مستقراً على حجة ظاهرة ، وبرهان نير من مالك أمره ومربيه ، وهو القرآن وسائر المعجزات والحجج العقلية.
{كَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِهِ} من الشر وسائر المعاصي مع كونه في نفسه أقبح القبائح ، يعني : شيطان ونفس (اورا آرايش كرده است).
والمعنى : لا مساواة بين المهتدي والضال.
{وَاتَّبِعُوا} بسبب ذلك التزيين.
{أَهْوَآءَهُم} الزائغة ، وانهمكوا في فنون الضلالات من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه فضلاً عن حجة تدل عليها وجمع الضمير باعتبار معنى من ، كما أن إفراد الأولين باعتبار لفظها.
وفي الآية إشارة إلى أهل القلب ، وأهل النفس ، فإن أهل القلب بسبب تصفية قلوبهم عن صدأ الأخلاق الذميمة رأوا شواهد الحق ، فكانوا على بصيرة من الأمر ، وأما أهل النفس فزين لهم البدع ، ومخالفات الشرع واتبعوا أهواءهم في العقائد القلبية والأعمال القالبية ، فصاروا أضل من الحمير حيث لم يهتدوا لا إلى الله تعالى ولا إلى الجنة.
وقال أبو عثمان : البينة هي النور الذي يفرق المرء بين الإلهام والوسوسة ، ولا يكون إلا لأهل الحقائق في الإيمان وأصل البينة للنبي عليه السلام ، كما قال تعالى : {لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (النجم : 81) ، وقال تعالى : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم : 11).
قال بعض الكبار :
505
إنما لم يجمع لنبي من الأنبياء عليهم السلام ما جمع لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من العلوم ؛ لأن مظهره عليه السلام (رحماني).
والرحمن : أول اسم صدر بعد الاسم العليم ، فالمعلومات كلها يحتوي عليها الاسم الرحمن ، ومن هنا تحريم زينة الدنيا عليه صلى الله عليه وسلّم لكونها زائلة ، فمنع من التلبس بها ؛ لأن مظهره الرحماني ينافي الانقضاء ويلائم الأبد :
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
از ما مجوى زينت ظاهر كه جون صدف
ما اندرون خانه بكوهر كرفته ايم
(8/393)
{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} عبر عن المؤمنين بالمتقين إيذاناً بأن الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها ، وترك السيئات عن آخرها ومثلها وصفها العجيب الشأن ، وهو مبتدأ محذوف الخبر ؛ أي : مثل الجنة الموعودة للمؤمنين وصفتها العجيبة الشأن ما تسمعون فيما يتلى عليكم.
وقوله : {فِيهَآ} ؛ أي : في الجنة الموعودة إلى آخره مفسر له.
{أَنْهَـارٌ} جمع نهر بالسكون ، ويحرك مجرى الماء الفائض.
{مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ} من أسن الماء بالفتح من باب ضرب ، أو نصر أو بالكسر إذا تغير طعمه وريحه تغيراً منكراً في "عين المعاني" من أسن غشي عليه من رائحة البئر.
وفي "القاموس" : الآسن من الماء الأجن ؛ أي : المتغير الطعم واللون.
والمعنى : من ماء غير متغير الطعم والرائحة واللون ، وإن طالت إقامته بخلاف ماء الدنيا ، فإنه يتغير بطول المكث في مناقعه ، وفي أوانيه مع أنه مختلف الطعوم مع اتحاد الأرض ببساطتها وشدة اتصالها ، وقد يكون متغيراً بريح منتنة من أصل خلقته ، أو من عارض عرض له من منبعه أو مجراه كذا في المناسبات.
يقول الفقير : قد صح أن المياه كلها تجري من تحت الصخرة في المسجد الأقصى ، فهي ماء واحد في الأصل عذب فرات سائغ للشاربين ، وإنما يحصل التغير من المجاري ، فإن طباعها ليست متساوية دل عليها قوله تعالى : {وَفِى الارْضِ قِطَعٌ مُّتَجَـاوِرَاتٌ} وتجاور أجزائها لا يستلزم اتحادها في نفس الأمر ، بل هي متجاورة مختلفة ، ومثلها العلوم ، فإنها إذا مرت بطبع غير مستقيم تتغير عن أصلها ، فتكون في حكم الجهل ، ومن هذا القبيل علوم جميع أهل الهوى والبدع والضلال.
{وَأَنْهَـارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} بأن كان قارصاً ، وهو الذي يقرص اللسان ويقبضه أو حازراً بتقديم الزاي ، وهو الخامض أو غير ذلك ، كألبان الدنيا.
والمعنى : لم يتغير طعمه بنفسه عن أصل خلقته ، ولو أنهم أرادوا تغييره بشهوة اشتهوها تغير.
{وَأَنْهَـارٌ مِّنْ خَمْرٍ} وهو ما أسكر من عصير العنب ، أو عام أي لكل مسكر ، كما في "القاموس".
{لَذَّةٍ لِّلشَّـارِبِينَ} : أما تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب وطبيب ، أو مصدر نعت به ؛ أي : لذيذة ليس فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر وخمار ، كما في خمر الدنيا ، وإنما هي تلذذ محض.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
قال الحافظ :
مادر بياله عكس رخ يار ديده ايم
اى بى خبرز لذت شرب مدام ما
يقول الفقير :
باده جنت مثال كوثرست اى هوشيار نيست
اندر طبع كوثر آفت سكر وخمار
{وَأَنْهَـارٌ مِّنْ عَسَلٍ} هو لعاب النحل وقيئه ، كما قال ظهير الفارابي :
بدان غرض كه دهن خوش كنى زغايت حرص
نشته مترصد كه في كندزنبور
وعن علي رضي الله عنه أنه قال في تحقير الدنيا : أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة وأشرف شرابه رجيع نحلة وظاهر هذا أنه من غير الفم.
قال في "حياة الحيوان" : وبالجملة أنه يخرج من بطون النحل ، ولا ندري أمن فمها أم من غيره ،
506
وقد سبق جملة النقل في سورة النحل.
{مُّصَفًّى} لا يخالطه الشمع وفضلات النحل وغيرها خلقه الله مصفى لا أنه كان مختلطاً ، فصفي.
قال بعضهم في الفرق بين الخالص والصافي : إن الخالص ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه ، والصافي قد يقال لما لا يشوب فيه فقد حصل بهذا غاية التشويق إلى الجنة بالتمثيل بما يستلذ من أشربة الدنيا ؛ لأنه غاية ما نعلم من ذلك مجرداً عما ينقصها ، أو ينغصها مع الوصف بالغزارة والاستمرار ، وبدأ بأنهار الماء لغرابتها في بلاد العرب وشدة حاجتهم إليها ، ولما كان خلوها عن تغير أغرب نفاه بقوله : غير آسن ، ولما كان اللبن أقل ، فكان جريه أنهاراً أغرب ثنى به ، ولما كان الخمر أعز ثلث به ، ولما كان العسل أشرفها وأقلها ختم به.
قال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة.
ونهر الفرات : نهر لبنهم.
ونهر مصر : نهر خمرهم ، ونهر سيحان : نهر عسلهم.
وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس هنا مما في الجنة سوى الأسامي.
قال كعب : قلت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كيف أنهار الجنة ، فقال : على حافاتها كراسي وقباب مضروبة وماؤها أصفى من الدمع ، وأحلى من الشهد وألين من الزبد ، وألذ من كل شيء ، فيه حلاوة عرض كل نهر مسيرة خمسمائة عام ، تدور تحت القصور والحجال لا يرطب ثيابهم ، ولا يوجع بطونهم ، وأكبر أنهارها : نهر الكوثر ، طينه المسك الأذفر وحافتاه الدر والياقوت.
قال الكاشفي : (ارباب اشارات كفت اندكه جنانجه أنهار اربعة درزمين بهشت بزير شجرة طوبى روانست جهار جوى نيزدر زمين دل عارف درزير شجرة طيبه أصلها ثابت وفرعها في السماء جاريست ازمنبع قلب آب انابت واز ينبوع صدر لبن صفوت واز خمخانة سر خمر محبت واذ حجر روح عسل مودت).
وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
آب صبرت جوى آب خلد شد
جوى شير خلد مهر تست وود
ذوق طاعت كشت جوى انكبين
مستى وشوق توجوى خمر بين
(8/394)
اين سببها جون بفرمان توبود
جارجوهم مرترا فرمان نمود
(ودر بحر الحقائق فرموده كه آب اشارت بحيات دل است ولبن بفطرت اصليه كه بحموضت هوى وتفاهت بدعت متغير نكشته وخمر جوشن محبت الهى وعسل مصفى حلاوت قرب).
يقول الفقير : يفهم من هذا وجه آخر لترتيب الأنهار ، وهو أن تحصل حياة القلب بالعلم أولاً ، ثم تظهر صفوة الفطرة الأصلية ، ثم يترقى السالك من محبة الأكوان إلى محبة الرحمن ، ثم يصل إلى مقام القرب والجوار الإلهي.
وقيل : التجلي العلمي لا يقع إلا في أربع صور : الماء واللبن والخمر والعسل.
فمن شرب الماء يعطى العلم اللدني ، ومن شرب اللبن يعطى العلم بأمور الشريعة ، ومن شرب الخمر يعطى العلم بالكمال ، ومن شرب العسل يعطى العلم بطريق الوحي والعلم إذا حصل بقدر استعداد القابل أعطاه الله استعداد العلم الآخر ، فيحصل له عطش آخر.
ومن هذا قيل : طالب العلم كشارب ماء البحر ، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً ، ومن هذا الباب ما نقل عن سيد العارفين أبي يزيد البسطامي قدس سره من أنه قال : ()
شربت الحب كأساً بعد كأس
فما نفد الشراب ولا رويت
وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} () ، وأما الري في العلم فإضافي لا حقيقي.
قال بعض
507
العارفين : من شرب بكأس الوفاء لم ينظر في غيبته إلى غيره ومن شرب بكأس الصفاء خلص من شوبه وكدورته ، ومن شرب بكأس الفناء عدم فيه القرار ، ومن شرب في حال اللقاء أنس على الدوام ببقائه ، فلم يطلب مع لقائه شيئاً آخر لا من عطائه ولا من لقائه لاستهلاكه في علائه عند سطوات جلاله وكبريائه ، ولما ذكر ما للشرب ذكر ما للأكل ، فقال : {وَلَهُمْ} ؛ أي : للمتقين {فِيهَآ} ؛ أي : في الجنة الموعودة مع ما فيها من فنون الأنهار.
{مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ؛ أي : صنف من كل الثمرات على وجه لا حاجة معه من قلة ، ولا انقطاع.
وقيل : زوجان انتزاعاً من قوله تعالى : {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ} (الرحمن : 52) ، وهي جمع ثمرة ، وهي اسم لكل ما يطعم من أحمال الشجر ، ويقال لكل نفع يصدر عن شيء ثمرة ، كقولك : ثمرة العلم العمل الصالح ، وثمرة العمل الصالح الجنة.
{وَمَغْفِرَةٌ} عظيمة كائنة.
{مِّن رَّبِّهِمُ} ؛ أي : المحسن إليهم بمحو ذنوبهم السالفة أعيانها وآثارها بحيث لا يخشون لهما عاقبة بعقاب ولا عتاب ، وإلا لتنغص العيش عليهم يعني : (ببوشد ذنوب ايشانرا نه بران معاقبه كندونه معاتبه نمايد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفيه تأكيد لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية.
قال في "فتح الرحمن" : قوله : ومغفرة عطف على الصنف المحذوف ؛ أي : ونعيم أعطته المغفرة وسببته ، وإلا فالمغفرة إنما هي قبل الجنة.
وفي "الكواشي" : عطف على أصناف المقدرة للإيذان بأنه تعالى راضضٍ عنهم مع ما أعطاهم ، فإن السيد قد يعطي مولاه مع ما سخطه عليه.
قال بعض العارفين : الثمرات عبارة عن المكاشفات والمغفرة عن غفران ذنب الوجود كما قيل :
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
بندار وجود ماكنا هيست عظيم
لطفى كن واين كنه زما در كذران
{كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ} : خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمن هو خالد في هذه الجنة حسبما جرى به الوعد الكريم ، كمن هو خالد في النار التي لا يطفأ لهيبها ، ولا يفك أسيرها ، ولا يؤنس غريبها ، كما نطق به قوله تعالى : {وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} (محمد : 12).
وبالفارسية : (آيا هركه درجنين نعمتى باشد مانند كسى است كه اوجاودانست درآتش دوزخ).
{وَسُقُوا} الجمع باعتبار معنى من ؛ أي : سقوا بدل ما ذكر من أشربة أهل الجنة.
{مَآءً حَمِيمًا} حاراً غاية الحرارة.
{فَقَطَّعَ} : (بس باره باره ميكند آب از فرط حرارت).
{أَمْعَآءَهُمْ} : (رودهاى ايشانرا).
جمع معيّ : بالكسر والقصر ، وهو من أعفاج البطن ؛ أي : ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة قيل : إذا دنا منهم شوى وجوههم ، وانمازت فروة رؤوسهم ؛ أي : انعزلت وانفرزت ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم ، فخرجت من أدبارهم ، فانظر بالاعتبار أيها الغافل عن القهار ، هل يستوي الشراب العذب البارد والماء الحميم المر ، وإنما ابتلاهم الله بذلك ، لأن قلوبهم كانت خالية عن العلوم والمعارف الإلهية ممتلئة بالجهل والغفلة ، ولا شك أن اللذة الصورية الأخروية إنما تنشأ من اللذة المعنوية الدنيوية ، كما أشار إليه مالك بن دينار قدس سره بقوله : خرج الناس من الدنيا ، ولم يذوقوا أطيب الأشياء.
قيل : وما هو؟ قال : معرفة الله تعالى ، فبقدر هذا الذوق في الدنيا يحصل الذوق في الآخرة ، فمن كمل له الذوق كمل له النعيم.
قال أبو زيد البسطامي قدس سره : حلاوة المعرفة الإلهية خير من جنة الفردوس وأعلى عليين.
واعلم أن الإنسان لو حبس في بيت حمام حار لا يتحمله ، بل يؤدي إلى موته ، فكيف حاله إذا حبس في دار جهنم التي حرارتها فوق كل حرارة ، لأنها سجرت بغضب القهار ، وكيف حاله إذا سقي
508
(8/395)
مثل ذلك الماء الحميم.
وقد كان في الدنيا بحيث لا يدفع عطشه كل بارد ، فلا ينبغي الاغترار بنعيم الدنيا إذا كان عاقبته الجحيم والحميم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي الخبر : أن مؤمناً وكافراً في الزمان الأول انطلقا يصيدان السمك ، فجعل الكافر يذكر آلهته ويأخذ السمك حتى أخذ سمكاً كثيراً ، وجعل المؤمن يذكر الله كثيراً فلا يجيء شيء ، ثم أصاب سمكة عند الغروب ، فاضطربت ووقعت في الماء ، فرجع المؤمن وليس معه شيء ، ورجع الكافر ، وقد امتلأت شبكته ، فأسف ملك المؤمن الموكل عليه ، فلما صعد إلى السماء أراه الله مسكن المؤمن في الجنة ، فقال : والله ما يضره ما أصابه بعد أن يصير إلى هذا وأداه مسكن الكافر في جهنم ، فقال الله : ما يغني عنه ما أصابه من الدنيا بعد أن يصير إلى هذا :
نعيم هر دو جهان بيش عاشقان بدوجو
كه آن متاع قليلست واين بهاى كثير
{وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَـانًا حَمَلَتْهُ أُمُّه كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ثَلَـاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّه وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاـاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أولئك الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّـاَاتِهِمْ فِى أَصْحَـابِ الْجَنَّةِا وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ * وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـاذَآ إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} .
{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} يقال : استمع له ، وإليه ؛ أي : أصغى ، وهم المنافقون كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يراعونه حق رعايته تهاوناً منهم.
{حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ} جمع الضمير باعتبار معنى من كما أن إفراده فيما قبله باعتبار لفظه {قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} يعني : علماء الصحابة كعبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وابن عباس وأبي الدرداء رضي الله عنهم.
{مَاذَا قَالَ ءَانِفًا} ؛ أي : ما الذي قال الساعة على طريق الاستهزاء ، وإن كان بصورة الاستعلام.
وبالفارسية : (جه كفت بيغمبر اكنون يعنى ما فهم نكرديم سخن اورا واين بروجه سخريت ميكفنند).
وآنفاً من قولهم أنف الشيء ، لما تقدم منه مستعار من الجارحة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
قال الراغب : استأنفت الشيء أخذت آنفه ؛ أي : مبدأه.
ومنه : ماذا قال آنفاً ؛ أي : مبتدأ انتهى.
قال بعضهم : تفسير الآنف بالساعة يدل على أنه ظرف حالي لكنه اسم للساعة التي قبل ساعتك التي أنت فيها ، كما قاله صاحب "الكشاف" ، وفي "القاموس" ، قال : آنفاً كصاحب وكتف وقرىء بهما ؛ أي : مذ ساعة ؛ أي : في أول وقت يقرب منا.
انتهى.
وبه يندفع باعتراض البعض ، فإن الساعة ليست محمولة على الوقت الحاضر في مثل هذا المقام ، وإنما يراد بها ما في تفسير صاحب "القاموس".
ومن هنا قال بعضهم : يقال : مر آنفاً ؛ أي : قريباً أو هذه الساعة ؛ أي : إن شئت قل هذه الساعة ، فإنه بمعنى الأول ، فاعرف {أولئك} الموصوفون بما ذكر {الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ختم عليها لعدم توجهها نحو الخير أصلاً ، ومنه الطابع للخاتم.
قال الراغب : الطبع أن يصور الشيء بصورة ما كطبع السكة وطبع الدراهم ، وهو أعم من الختم وأخص من النقش والطابع والخاتم ، ما يطبع به ويختم.
والطابع فاعل ذلك {وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم} الباطلة ، فلذلك فعلوا ما فعلوا مما لا خير فيه.
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} إلى طريق الحق وهم المؤمنون {زَادَهُمْ} ؛ أي : الله تعالى {هُدًى} بالتوفيق والإلهام.
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} ؛ أي : خلق التقوى فيهم ، أو بين لهم ما يتقون منه.
قال ابن عطاء قدس سره : الذين تحققوا في طلب الهداية أوصلناهم إلى مقام الهداية وزدناهم هدى بالوصول إلى الهادي.
{وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـاذَآ إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ * أولئك الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِا إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .
(8/396)
{فَهَلْ يَنظُرُونَ} ؛ أي : المنافقون والكافرون.
{إِلا السَّاعَةَ} ؛ أي : ما ينتظرون إلا القيامة {أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً} ، وهي المفاجأة بدل اشتمال من الساعة ؛ أي : تباغتهم بغتة.
والمعنى : أنهم لا يتذكرون بذكر أحوال الأمم الخالية ولا بالأخبار بإتيان الساعة ، وما فيها من عظائم الأمور ، وما ينتظرون للتذكر إلا إتيان
509
نفس الساعة بغتة.
{فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} تعليل لمفاجأتها لا لإتيانها مطلقاً على معنى أنه لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذا جاء أشراطها ، فلم يرفعوا لها رأساً ، ولم يعدوها من مبادىء إتيانها ، فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة ، والأشراط جمع شرط بالتحريك ، وهو العلامة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
والمراد بها : مبعثه عليه السلام وأمته آخر الأمم فمبعثه يدل على قرب انتهاء الزمان.
{فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاـاهُمْ} حكم بخطئهم وفساد رأيهم في تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفع التذكر حينئذٍ كقوله يومئذٍ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ؛ أي : وكيف لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة على أن أنى خبر مقدم وذكراهم مبتدأ وإذا جاءتهم اعتراض وسط بينهما رمزاً إلى غاية سرعة مجيئها وإطلاق المجيء عن قيد البغتة لما أن مدار استحالة نفع التذكر كونه عند مجيئه مطلقاً لا مقيداً بقوله : البغتة.
وروي عن مكحول عن حذيفة ، قال : سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : متى الساعة؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، ولكن لها أشراط تقارب الأسواق" ، يعني : كسادها ومطر لا نبات ، يعني : مطر من غير حينه وتفشو الفتنة وتظهر أولاد البغية ، ويعظم رب المال ، وتعلو أصوات الفسقة في المساجد ، ويظهر أهل المنكر على أهل الحق.
وفي الحديث : "إذا ضيعت الأمانة ، فانتظر الساعة ، فقيل : كيف إضاعتها ، فقال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة :
بقومى كه نيكى بسندد خداى
دهد خسرو عال نيك راى
جو خواهدكه ويران كند عالمى
كند ملك دربنجة ظالمى
وقال الكلبي : أشراط الساعة كثرة المال والتجارة وشهادة الزور ، وقطع الأرحام ، وقلة الكرام ، وكثرة اللئام.
وفي الحديث : "ما ينتظر أحدكم إلا غنى مطغياً أو فقراً منسياً ، أو مرضاً مفسداً ، أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً".
والدجال : شر غائب ينتظر ، والساعة أدهي وأمر انتهى ، وقيامة كل أحد موته ، فعليه أن يستعد لما بعد الموت قبل الموت ، بل يقوم بالقيامة الكبرى التي هي قيامة العشق والمحبة التي تهلك عندها جميع ما سوى الله ، ويزول تعيين الوجود المجازي ، ويظهر سر الوجود الحقيقي.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المسارعين إلى مرضاته والأعضاء والقوى تساعد لا من المسومين في أمره والأوقات تمر وتباعد.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ} ؛ أي : الشأن الأعظم {لا إله إِلا اللَّهُ} ؛ أي : انتفى انتفاء عظيماً أن يكون معبوداً بحق غير الملك الأعظم ؛ أي : إذا علمت أن مدار السعادة هو التوحيد والطاعة ومناط الشقاوة هو الإشراك والعصيان ، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية والعمل بموجبه كقوله تعالى : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة : 5) ؛ أي : ثبتنا على الصراط لمستقيم وقدم العلم على العمل تنبيهاً على فضله واستبداده بالمزية عليه لا سيما العلم بوحدانية الله تعالى ، فإنه أول ما يجب على كل أحد والعلم أرفع من المعرفة ، ولذا قال : فاعلم دون فاعرف ؛ لأن الإنسان قد يعرف الشيء ولا يحيط به علماً ، فإذا علمه وأحاط به علماً ، فقد عرفه والعلم بالألوهية من قبيل العلم بالصفات ؛ لأن الألوهية صفة من الصفات ، فلا يلزم أن يحيط بكنهه تعالى أحد ، فإنه محال إذ لا يعرف الله إلا الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
قال بعض الكبار : لما كان ما تنتهي إليه معرفة كل عارف مرتبة الألوهية ، ومرتبة أحديتها المعبر عنها بتعين الأول لاكنه ذاته وغيب هويته ، ولا إحاطة صفاته أمر في كتابه العزيز نبيه ، لذا هو أكمل
510
(8/397)
الخلق قدراً أو منزلة ، وقابلية ، فقال : فاعلم أنه لا إله إلا الله تنبيهاً له ، ولمن يتبعه من أمته على قدر ما يمكن معرفته من جناب قدسه ، ويمكن الظفر به ، وهو مرتبة الألوهية وما وراءها من حضرة الغيب المطلق وغيب الهوية خارج عن طوق الكون إذ ليس وراءها اسم ولا رسم ولا نعت ولا وصف ولا حكم ، وليس في قوة الكون المقيد أن يعطي غير ما يقتضيه تقييده ، فكيف يمكن له أن يدرك حضرة الغيب المطلق ، وغيب الهوية ، ولما كان حصول التوحيد الذي هو كمال النفس موجباً للإجابة.
قال تعالى معلماً أنه يجب على الإنسان بعد تكميل نفسه السعي في تكميل غيره ، ليحصل التعاون على ما خلق العباد له من العبادة.
{وَاسْتَغْفِرِ} ؛ أي : اطلب الغفران من الله {لِذَنابِكِ} ، وهو كل مقام عاللٍ ارتفع عليه السلام عنه إلى أعلى وما صدر عنه عليه السلام من ترك الأولى ، وعبر عنه بالذنب نظراً إلى منصبه الجليل ، كيف لا وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، وإرشاداً له عليه السلام إلى التواضع وهضم النفس واستقصاء العمل {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} ؛ أي : لذنوب أمتك بالدعاء لهم وترغيبهم فيما يستدعي غفرانهم ؛ لأنهم أحق الناس بذلك منك ؛ لأن ما عملوا من خير كان لك مثل أجره إذ لمكمل الغير مثل أجر ذلك الغير ، وفي إعادة صلة الاستغفار على اختلاف متعلقيه جنساً.
وفي حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه إشعار بعراقتهم في الذنب وفرط افتقارهم إلى الاستغفار ، وهو سؤال المغفرة وطلب الستر ، إما من إصابة الذنب ، فيكون حاصله العصمة والحفظ ، وإما من إصابة عقوبة الذنب ، فيكون حاصله العفو والمحو.
قال بعضهم للنبي عليه السلام أحوال ثلاثة :
الأول : مع الله ، فلذا قيل وحده.
والثاني : مع نفسه ولذا أمر بالاستغفار لذنبه.
والثالث : مع المؤمنين ولذا أمر بالاستغفار لهم ، وهذه أرجى آية في القرآن ، فإنه لا شك أنه عليه السلام ائتمر بهذا الأمر وأنه لا شك أن الله تعالى أجابه فيه ، فإنه لو لم يرد إجابته فيه لما أمره بذلك :
هركرا جون توبيشوا باشد
نا اميد ازخدا جراباشد
جون نشان شفاعت كبرى
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
يافت برنام ناميت طغرا
امتان با كناهكا ريها
بتودارند اميد واريها
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} ؛ أي : مكانكم الذي تتقلبون عليه في معاشكم ومتاجركم في الدنيا ، فإنها مراحل لا بد من قطعها.
وبالفارسية : (وخداى ميداند جاى رفتن وكرديدن شمادر دنيا كه جون ميكرديد از حال بحال).
{وَمَثْوَاـاكُمْ} في العقبى ، فإنها موطن إقامتكم.
وبالفارسية : (وآرامكاه شمادر عقبى بهشت است يا دوزخ).
فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم في الدنيا والآخرة ، فبادروا إلى الامتثال بما أمركم به ، فإنه المهم لكم في المقامين.
قال في "بحر العلوم" : الخطاب في قوله : فاعلم واستغفر للنبي عليه السلام ، وهو الظاهر ، أو لكل من يتأتى منه العلم والاستغفار من أهل الإيمان وينصره الخطاب بلفظ الجمع في قوله : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاـاكُمْ} .
انتهى.
وفي "كشف الأسرار" : يعني : (يا محمد آنجه بنظر واستدلال دانسته از توحيد ما بخير نيز بدان ويقين باش كه الله تعالى يكانه ويكتاست درذات وصفات ودر حقايق سلمى أورده كه جون عالمى را كويند اعلم مرادبان ذكر باشد يعني يادكن آنجه دانسته).
وقال أبو الحسين النوري قدس سره : والعلم الذي دعي إليه المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم هو علم الحروف وعلم الحروف في لام ألف وعلم لام ألف في الألف وعلم الألف
511
في النقطة وعلم النقطة في المعرفة الأصلية ، وعلم المعرفة الأصلية ، في علم الأول وعلم الأول في المشيئة ، وعلم المشيئة في غيب الهوية ، وهو الذي دعاه إليه ، فقال : فاعلم ، فالهاء راجع إلى غيب الهوية.
انتهى.
(اكر كسى كويد ابراهيم خليل را عليه السلام كفتند اسلم جواب دادكه اسلمت مصطفى حبيب را كفتند فاعلم نكفت علمت جواب آنست كه خليل رونده بود درراه كه انى ذاهب إلى ربى در وادى تفرقت مانده لا جرم جوابش خود بايست داد وحبيب ربوده حق بوددر نقطه جمع نواخته اسرى بعبده حق اورا بخود باز نكذاشت از بهر او جواب دادكه آمن الرسول).
والإيمان هو العلم وإخبار الحق تعالى عنه أنه آمن وعلم أتم من إخباره بنفسه علمت قوله ، واستغفر لذنبك ؛ أي : إذا علمت أنك علمت فاستغفر لذنبك هذا ، فإن الحق على جلال قدره لا يعلمه غيره :
تراكه داندكه تراتو دانى تو
ترانداندكس تراتو دانى كس
(8/398)
وفي "التأويلات النجمية" : فاعلم بعلم اليقين أنه لا إله بعلم اليقين إلا الله بحق اليقين ، فإذا تجلى الله بصفة علمه الذاتي للجهولية الذاتية للعبد تفنى ظلمة جهوليته بنور علمه ، فيعلم بعلم الله أن لا موجود إلا الله ، فهذه مظنة حسبان العبد أن العالم يعلم أنه لا إله إلا الله ، فقيل له : واستغفر لذنبك بأنك علمت وللمؤمنين والمؤمنات بأنهم يحسبون أن يحسنوا علم لا إله إلا الله ، فإن من وصفه وما قدروا الله حق قدره ، والله يعلم متقلب كل روح من العدم بوصف خاص إلى عالم الأرواح في مقام مخصوص به ومثوى كل روح إلى أسفل سافلين قالب خاص بوصف خاص ، ثم متقلبه من أسفل سافلين القالب بالإيمان ، والعمل الصالح ، أو بالكفر والعمل الطالح إلى الدرجات الروحانية ، أو الدركات النفسانية ، ثم مثواه إلى عليين القرب المخصوص به ، أو إلى سجين البعد المخصوص به مثاله ، كما أن لكل حجر ومدر وخشب يبنى به دار متقلباً مخصوصاً به وموضعاً من الدار مخصوصاً به ليوضع فيه لا يشاركه فيه شيء آخر كذلك لكل روح منقلب مخصوص به لا يشاركه فيه أحد.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وقال البقلي : واستغفر من وجودك في مطالعتي ووجود وصالي ، فإن بقاء الوجود الحدثاني في بقاء الحق أعظم الذنوب.
وفي "الأسئلة المقحمة" : المراد الصغائر والعثرات التي هي من صفات البشرية ، وهذا على قول من جوز الصغائر على الأنبياء عليهم السلام : (ودر معالم أورده كه آن حصرت مأمور شد باستغفار با آنكه مغفورست نا امت درين سنت بوى قندا كننده).
يعني : واستغفر لذنبك ليستن بك غيرك : (ودر تبيان آوورد كه مراد آنست كه طلب عصمت كن ازخداى تاثرا از كاهان نكاه دارد).
وقيل : من التقصير في حقيقة العبودية التي لا يدركها أحد ، وقال بعض الكبار : الذنب المضاف إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلّم هو ما أشير إليه في قوله : فاعلم ولا يفهمه إلا أهل الإشارة.
يقول الفقير : لعله ذنب نسبة العلم إليه في مرتبة الفرق إذ هو الحق في مرتبة الجمع ، لذا قيل في الروضة المنيفة عند رأسه الشريف عليه السلام : لا تجوز السجدة لمخلوق إلا لباطن رسول الله فإنه الحق.
والذنب المضاف إلى المؤمنين والمؤمنات هو قصورهم في علم التوحيد بالنسبة إلى النبي المحترم صلى الله عليه وسلّم ثم هذه الكلمة كلمة التوحيد ، فالتوحيد لا يماثله ولا يعادله شيء ، وإلا لما كان واحداً ، بل كان اثنين فصاعداً وإذا أريد بهذه الكلمة التوحيد الحقيقي ، لم تدخل في الميزان ؛ لأنه ليس له مماثل ومعادل ، فكيف
512
تدخل فيه؟
وإليه أشار الخبر الصحيح عن الله تعالى ، قال الله تعالى : لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع وعامرهن غيري في كفة ، ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله.
فعلم من هذه الإشارة أن المانع من دخولها في ميزان الحقيقة هو عدم المماثل والمعادل ، كما قال تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ} (الشورى : 11) ، وإذا أريد بها التوحيد الرسمي تدخل في الميزان ؛ لأنه يوجد لها ضد بل أضداد كما أشير إليه بحديث صاحب السجلات التسعة والتسعين ، فما مالت الكفة إلا بالبطاقة التي كتبها الملك فيها فهي الكلمة المكتوبة المنطوقة المخلوقة ، فعلم من هذه الإشارة أن السبب لدخولها في ميزان الشريعة ، هو وجود الضد والمخالف ، وهو السيئات المكتوبة في السجلات ، وإنما وضعها في الميزان ليرى أهل الموقف في صاحب السجلات فضلها ، لكن إنما يكون ذلك بعد دخول من شاء الله من الموحدين النار ، ولم يبق في الموقف إلا من يدخل الجنة ؛ لأنها لا توضع في الميزان لمن قضى الله أن يدخل النار ، ثم يخرج بالشفاعة ، أو بالعناية الإلهية ، فإنها لو وضعت لهم أيضاً لما دخلوا النار أيضاً ، ولزم الخلاف للقضاء ، وهو محال ووضعها فيه لصاحب السجلات اختصاص إلهي يختص برحمته من يشاء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
(8/399)
واعلم أن الله تعالى ما وضع في العموم إلا أفضل الأشياء وأعمها نفعاً ؛ لأن يقابل به أضداداً كثيرة ، فلا بد في ذلك الوضع من قوة ما يقابل به كل ضد ، وهو كلمة لا إله إلا الله ، ولهذا كانت أفضل الأذكار ، فالذكر بها أفضل من الذكر بكلمة الله ، الله وهو هو عند العلماء بالله ؛ لأنها جامعة بين النفي والإثبات وحاوية على زيادة العلم والمعرفة ، فعليك بهذا الذكر الثابت في العموم ، فإنه الذكر الأقوى ، وله النور الأضوى ، والمكانة الزلفى ، وبه النجاة في الدنيا والعقبى ، والكل يطلب النجاة وإن جعل البعض طريقها ، فمن نفى بلا إله عين الخلق حكماً ، لا علماً فقد أثبت كون الحق حكماً وعلماً ، والإله من جميع الأسماء ، ما هو إلا عين واحد هي مسمى الله الذي بيده ميزان الرفع والخفض.
ثم اعلم أن التوحيد لا ينفع بدون الشهادة له صلى الله عليه وسلّم بالرسالة وبين الكلمتين مزيد اتفاق يدل على تمام الاتحاد والاعتناق.
وذلك أن أحرف كل منهما إن نظرنا إليها خطأ كانت اثني عشر حرفاً على عدد أشهر السنة يكفر كل حرف منها شهراً ، وإن نظرنا إليها نطقاً ، كانت أربعة عشر تملأ الخافقين نوراً ، وإن نظرنا إليها بالنظرين معاً كانت خمسة عشر لا يوقفها عن ذي العرش موفق ، وهو سر غريب دال على الحكم الشرعي الذي هو عدم انفكاك إحداهما عن الأخرى ، فمن لم يجمعهما اعتقاده لم يقبل إيمانه وإسلام اليهود والنصارى مشروط بالتبري من اليهودية والنصرانية بعد الإتيان بكلمتي الشهادة وبدون التبري لا يكونان مسلمين ، ولو أتيا بالشهادتين مراراً ؛ لأنهما فسرا بقولهما بأنه رسول الله إليكم لكن هذا في الذين اليوم بين ظهراني أهل الإسلام ، أما إذا كان في دار الحرب ، وحمل عليه رجل من المسلمين فأتى بالشهادتين ، أو قال : دخلت في دين الإسلام ، أو في دين محمد عليه السلام ، فهذا دليل توبته ، ولهذه الكلمة من الأسرار ما يملأ الأقطار منها أنها بكلماتها الأربع مركبة من ثلاثة أحرف إشارة إلى الوتر الذي هو الله تعالى ، والشفع الذي هو الخلق أنشأه الله تعالى أزواجاً ، ومنها : أن أحرفها اللفظية أربعة عشر حرفاً على عدد السماوات والأرض الدالة على الذات الأقدس الذي هو غيب محض ، والمقصود منها ، مسمى الجلالة الذي هو الإله
513
الحق والجلالة الدالة عليه خمسة أحرف على عدد دعائم الإسلام الخمس ووتريته ثلاثة أحرف دلالة على التوحيد.
ومنها أنه إن لم يفعل فيها شيئاً شفهياً ليمكن ملازمتها لكونها أعظم مقرب إلى الله ، وأقرب موصل إليه مع الإخلاص ، فإن الذاكر بها يقدر على المواظبة عليها ، ولا يعلم جليسه بذلك أصلاً ؛ لأن غيرك لا يعلم ما في وراء شفتيك إلا بإعلامك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
ومنها : أن هذه الكلمة مع قرينتها الشاهدة بالرسالة سبع كلمات ، فجعلت كل كلمة منها نابعة من باب من أبواب جهنم السبعة.
ومنها : أن عدد حروفها مع قرينتها أربعة وعشرون وساعات اليوم والليلة كذلك فمن الها فقد أتى بخير ينجيه من المكاره في تلك الآيات.
قال المولى الجامي : (نقطه بصورت مكس است وكلمة شهادت از نقطه معراست يعنى اين شهد از آلايش مكس طبعان معراست).
وقال بعض العارفين : لا يجوز لشخص أن يتصدر في مرتبة الشيخوخة إلا إن كان عالماً بالكتاب والسنة عارفاً بأمراض الطريق عارفاً بمقامات التوحيد الخمسة والثمانين نوعاً عارفاً باختلاف السالكين وأوديتهم حال كونهم مبتدئين وحال كونهم متوسطين ، وحال كونهم كاملين ، ويجمع كل ذلك قولهم ما اتخذ الله ولياً جاهلاً قط ، ولو اتخذه لعلمه.
قال الشيخ الشهير بافتاده قدس سره : ليس في طريق الشيخ الحاجي بيرام الرقص حال التوحيد وليس في طريقنا أيضاً ، بل نذكر الله قياماً وقعوداً ، ولا نرقص وفق قوله تعالى : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران : 196).
وقال : الرقص والأصوات كلها إنما وضعت لدفع الخواطر ، ولا شيء في دفعها أشد تأثيراً من التوحيد فطريقنا طريق الأنبياء عليهم السلام ، فنبينا عليه السلام لم يلقن إلا التوحيد.
وقال في "إحياء العلوم" : الكامل هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق ، ولكن حسنات الإبرار سيئات المقربين ، ومن أحاط بعلم علاج القلوب ووجوه التلطف بها للسياقة إلى الحق علم قطعاً أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غنى عنه انتهى.
وأراد بأمثال هذه الأمور السماع والغناء واللهو المباح ونحو ذلك.
وقال حضرة الشيخ افتاده قدس سره : إذا غلبت الخواطر واحتجت إلى نفسها فاجهر بذكر النفي وخافت الإثبات ، أما إذا حصلت الطمأنينة وغلب الإثبات على النفي ، فاجهر بالإثبات ، فإنه المقصود الأصلي وخافت النفي.
(8/400)
يقول الفقير : قال حضرة شيخي وسندي روح الله روحه : ينبغي أن يبدأ النفي من جانب اليسار ويحول الوجه إلى اليمين ، ثم يوقع الإثبات على اليسار أيضاً ، وذلك لأن الظلمة في اليسار فبابتداء النفي منه تطرح تلك الظلمة إلى طرف اليمين ، وهو التخلية التي هي سر الخلوتية والنور في اليمين ، فبتحويل الوجه إلى جانبها ، ثم الميل في الإثبات إلى اليسار يطرح ذلك النور إلى جانب اليسار الذي هو موضع الإيمان ؛ لأنه في يسار الصدر ، وهي التجلية التي هي سر الجلوتية ، وهذا لأننا في قولهم النفي في طرف اليمين ، والإثبات إلى طرف اليسار ؛ لأن النفي من في طرف اليمين حقيقة ، وإنما الابتداء من اليسار ، وهذا الابتداء لا ينافي كون النفي من طرفها ، فاعرف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
ومن آداب الذكر أن يكون الذاكر في بيت مظلم وأن ينظر بعين قلبه إلى ما بين حاجبيه ، وفي ذلك سر ينكشف لمن ذاقه.
قال بعض الأكابر : من قال في الثلث الأخير من ليلة الثلاثاء : لا إله إلا الله ألف مرة بجمع همة وحضور قلب وأرسلها إلى ظالم عجل الله دماره وخرب دياره وسلط عليه الآفات وأهلك بالعاهات.
ومن قال : ألف مرة لا إله إلا الله ، وهو على طهارة في كل صبيحة يسر الله
514
عليه أسباب الرزق وكذا من قالها عند منامه العدد المذكور باتت روحه تحت العرش تتغذى من ذلك العالم حسب قواها ، وكذلك من قالها عند وقوف الشمس ضعف منه شيطان الباطن.
وفي الحديث : "لو يعلم الأمير ما له في ذكر الله لترك إمارته ، ولو يعلم التاجر ما له في ذكر الله لترك تجارته ، ولو أن ثواب تسبيحه قسم على أهل الأرض لأصاب كل واحد منهم عشرة أضعاف الدنيا".
وفي حديث آخر : "للمؤمنين حصون ثلاثة ذكر الله وقراءة القرآن ، والمسجد ، والمراد بالمسجد : مصلاه سواء كان في بيته ، أو في الخارج.
كذا أوله بعض الكبار.
قال الحسن البصري : حادثوا هذه القلوب بذكر الله ؛ فإنها سريعة الدثور والمحادثة.
بالفارسية : (بزدودن والدثور زنك افكندن كارد وشمشير).
وقال الجامي :
يادكن آنكه درشب
اسرى باحبيب خدا خليل خدا
كفت كوى ازمن اى رسول كرام
امت خويش راز بعد سلام
كه بودباك وخوش زمين بهشت
ليك آنجا كسى درخت نكشت
خاك او باك وطيب افتاده
ليك هست از درختا ساده
غرس أشجار آن بسعى جميل
بسمله حمد له است بس تهليل
هست تكبير نيزازان أشجار
خوش.
.
.
.
.
.
.
.
.
كسى كش جزاين نباشد كار
باغ جنات تحتها الأنهار
سبز وخرم شودازان اشجار
وفي الحديث : "استكثروا من قوله : لا إله إلا الله والاستغفار ، فإن الشيطان ، قال : قد أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله ، والاستغفار فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء حتى يحسبون أنهم مهتدون ، فلا يستغفرون".
وفي الحديث : "جددوا إيمانكم" ، قالوا : يا رسول الله كيف نجدد إيماننا ، قال : "أكثروا من قول لا إله إلا الله" ، ولما بعث عليه السلام معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن أوصاه.
وقال : "إنكم ستقدمون على أهل الكتاب ، فإن سألوكم عن مفتاح الجنة فقولوا : لا إله إلا الله".
وفي الحديث : إذا قال العبد المسلم : لا إله إلا الله خرقت السماوات حتى تقف بين يدي الله ، فيقول الله : اسكني اسكني ، فتقول : كيف أسكن ، ولم تغفر لقائلها ، فيقول : ما أجريتك على لسانه إلا وقد غفرت له" ، وفي طلب المغفرة للمؤمنين والمؤمنات تحصيل لزيادة الحسنة لقوله عليه السلام : "من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة".
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي الخبر : من لم يكن عنده ما يتصدق به فليستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، فإنه صدقة.
وكان عليه السلام : يستغفر الله في كل يوم سبعين مرة.
وفي رواية : مائة مرة ، ويستغفر للمؤمنين خصوصاً للشهداء ويزور القبور ، ويستغفر للموتى ويعرف من الآية أنه يلزم الابتداء بنفسه ، ثم بغيره.
قال في ترجمة "الفتوحات" : (بعد از رسل هيجكس را آن حق نيست مادر وبدررا ومع هذا نوح عليه السلام دردعاى نفس خودرا مقدم داشت).
قال : رب اغفر لي ولوالدي وإبراهيم عليه السلام : (فرمود) واجبني وبني أن نعبد الأصنام.
رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ابتدأ بنفس خود كرد والداعي للغير لا ينبغي أن يراه أحوج إلى الدعاء من نفسه وإلا لداخله العجب ، فلذا أمر الداعي بالدعاء لنفسه أولاً ، ثم لغيره.
اللهم اجعلنا من المغفورين.
{وَلِكُلٍّ دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ * وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَه بِالاحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ} .
(8/401)
{وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا} اشتياقاً منهم إلى الوحي وحرصاً على الجهاد ؛ لأن فيه إحدى الحسنيين اما الجنة والشهادة وإما الظفر والغنيمة.
{لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} ؛ أي : هلا نزلت تؤمر فيها بالجهاد.
وبالفارسية : (جرا فر وفرستاده نمى شود سورة درباب قتال با كفار).
{فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} بطريق الأمر به ؛ أي : سورة مبينة لا تشابه ،
515
ولا احتمال فيها بوجه آخر سوى وجوب القتال.
عن قتادة : كل سورة فيها ذكر القتال ، فهي محكمة لم تنسخ.
{رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ؛ أي : ضعف في الدنيا ، أو نفاق ، وهو الأظهر فيكون المراد الإيمان الظاهري الزعمي ، والكلام من إقامة المظهر مقام المضمر.
{يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} ؛ أي : تشخص أبصارهم جبناً وهلعاً كدأب من أصابته غشية الموت ؛ أي : حيرته وسكرته إذا نزل به وعاين الملائكة.
والغشي : تعطل القوى المتحركة والحساسة لضعف القلب ، واجتماع الروح إليه بسبب يحققه في داخل ، فلا يجد منقذاً ، ومن أسباب ذلك امتلاء خانق أو مؤذ بارد ، أو جوع شديد ، أو آفة في عضو مشارك كالقلب والمعدة ، كذا في "المغرب".
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي الآية إشارة إلى أن من أمارات الإيمان تمني الجهاد والموت شوقاً إلى لقاء الله ، ومن أمارات الكفر والنفاق كراهة الجهاد كراهية الموت.
{فَأَوْلَى لَهُمْ} ؛ أي : فويل لهم ، وبالفارسية : (بس واى برايشان باد ودوزخ مريشا نراست).
وهو أفعل من الولي ، وهو القرب ، فمعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه.
وقيل : فعلى من آل ، فمعناه الدعاء عليهم بأن يؤول إلى المكروه أمرهم.
قال الراغب : أولى كلمة تهدد وتخوف يخاطب به من أشرف على الهلاك ، فيحث به على عدم التعرض ، أو يخاطب به من نجا منه ، فينهى عن مثله ثانياً ، وأكثر ما يستعمل مكرراً ، وكأنه حث على تأمل ما يؤول إليه أمره ليتنبه المتحرر زمنه.
{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} كلام مستأنف ؛ أي : أمرهم طاعةولرسوله ، وقول معروف بالإجابة لما أمروا به من الجهاد أو طاعة ، وقول معروف خير لهم أو حكاية لقولهم ويؤيده قراءة أبي ، يقولون : طاعة ، وقول معروف ؛ أي : أمرنا ذلك ، كما قال في النساء ، {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ} (النساء : 81) {فَإِذَا عَزَمَ الامْرُ} : العزم العزيمة : الجد وعقد القلب إلى إمضاء الأمر والعزيمة تعويذ ؛ كأنه تصور أنك قد عقدت على الشيطان أن يمضي إرادته منك.
والمعنى : فإذا جدوا في أمر الجهاد وافترض القتال وأسند العزم إلى الأمر وهو لأصحابه مجازاً ، كما في قوله تعالى : {إِنَّ ذَالِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ} (لقمان : 17) ، وعامل الظرف محذوف ؛ أي : خالفوا وتخلفوا.
وبالفارسية : (بسجون لازم شد امر قتال وعزم كردن اصحاب جهاد ايشان خلاف ورزيده يازنان درخانها نشستند).
{فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} ؛ أي : فيما قالوا من الكلام المنبىء عن الحرص على الجهاد بالجري على موجبه.
وبالفارسية : (بس اكر راست كفتندى باخداى در اظهار حرص برجهاد).
{لَكَانَ} : أي الصدق.
{خَيْرًا لَّهُمْ} من الكذب والنفاق والقعود عن الجهاد ، وفيه دلالة على اشتراك الكل فيما حكي عنهم من قوله تعالى : {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} (محمد : 20) ، فالمراد بهم الذين في قلوبهم مرض.
واعلم أنه كما يلزم الصدق والإجابة في الجهاد الأصغر إذا كان متعيناً عليه كذلك يلزم ذلك في الجهاد الأكبر إذا اضطر إليه ، وذلك بالرياضيات والمجاهدات على وفق إشارة المرشد أو العقل السليم ، وإلا فالقعود في بيت الطبيعة والنفس سبب الحرمان من غنائم القلب والروح.
وفي بذل الوجود حصول ما هو خير منه ، وهو الشهود والأصل الإيمان واليقين : (نقلست كه روزى حسن بصري نزد حبيب عجمى آمد بزيارت حبيب دوقرص جوين باياره نمك بيش حسن نهاد حسن خوردن كرفت سائل بدر آمد حبيب آن دو قرص بدان نمك بدان سائل داد حسن همجنان بماند كفت اى
516
حبيب تومر دشايسته اكر باره علم داشتى مى بودى كه نان ازبيش مهمان بركرفتى وهمه را بسائل دادى باره شايد داد بان وبارة بمهمان حبيب هيج نكفت ساعتى بود غلامى بيامد وخوانى برسر نهاد وترى وحلوى ونان باكيزه وبا نصددرم نقد دربيش حبيب نهاد حبيب درم بدر ويشان داد وخوان بيش حس نهاد وحسن باره نان خورد حبيب كفت اي استاد تونيك مردى اكر باره يقين داشتى به بودى باعلم بهم يقين بايد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
يعني : أن من كان له يقين تام عوضه الله تعالى خيراً من مفقوده وتداركه بفضله وجوده ، فلا بد من بذل المال والوجود في الجهاد الأصغر والأكبر.
قال الحافظ :
فداى دوست نكرديم عمر ومال دريغ
كه كار عشق زما اين قدر نمى آيد
(8/402)
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَه بِالاحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِه أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِه وَلَـاكِنِّى أَرَاـاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} .
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ} ؛ أي : يتوقع منكم يا من في قولهم مرض.
وبالفارسية : (بس آيا شايد وتوقع هست از شما اي منافقان).
{إِن تَوَلَّيْتُمْ} : أمور الناس وتأمرتم عليهم ؛ أي : إن صرتم متولين لأمور الناس وولاة وحكاماً عليهم متسلطين ، فتوليتم من الولاية.
{أَن تُفْسِدُوا فِى الارْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} تحارصاً على الملك وتهالكاً على الدنيا ، فإن من شاهد أحوالكم الدالة على الضعف في الدين والحرص على الدنيا حين أمرتم بالجهاد الذي هو عبارة عن إحراز كل خير وصلاح ودفع كل شر وفساد وأنتم مأمورون شأنكم الطاعة والقول المعروف يتوقع منكم إذا أطلقت أعنتكم ، وصرتم آمرين ما ذكر من الإفساد وقطع الأرحام والرحم رحم المرأة ، وهو منبت الولد ووعاؤه في البطن ، ثم سميت القرابة ، والوصلة من جهة الولاد رحماً بطريق الاستعارة لكونهم خارجين من رحم واحد ، وقرأ عليّ رضي الله عنه : إن توليتم بضم تاء وواو وكسر لام ؛ أي : ولي عليكم الظلمة ملتم معهم وعاونتموهم في الفتنة ، كما هو المشاهد في هذا الإعصار.
وقال أبو حيان : الأظهر أن المعنى إن عرضتم أيها المنافقون عن امتثال أمر الله في القتال أن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإسلام على أعدائهم وتقطعوا أرحامكم ؛ لأن من أرحامكم كثيراً من المسلمين ، فإذا لم تعينوهم قطعتم أرحامكم.
{أولئك} إشارة إلى المخاطبين بطريق الالتفات إيذاناً بأن ذكر إهانتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب ، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم ، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} ؛ أي : أبعدهم من رحمته {فَأَصَمَّهُمْ} عن استماع الحق لتصامهم عنه بسوء اختيارهم.
والإصمام : (كركردن).
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{وَأَعْمَى أَبْصَـارَهُمْ} لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق والإعماء : (كور كردن).
قيل : لم يقل أصم آذانهم ؛ لأنه لا يلزم من ذهاب الآذان ذهاب السماع ، فلم يتعرض لها ، ولم يقل أعماهم ؛ لأنه لا يلزم من ذهاب الأبصار ، وهي الأعين ذهاب الأبصار.
قال سعدي المفتي : إصمام الآذان غير إذهابها ، ولا يلزم من أحدهما الآخر والصمم والعمى يوصف بكل منهما الجارحة ، وكذلك مقابلهما من السماع والإبصار ، ويوصف به صاحبها في العرف المستمر.
وقد ورد التنزيل على الاستعمالين.
اختصر في الإصمام ، وأطنب في الإعماء مع مراعاة الفواصل.
وفي الآية إشارة إلى أهل الطلب وأصحاب المجاهدة إن أعرضتم عن طلب الحق أن تفسدوا في أرض قلوبكم بإفساد استعدادها لقبول الفيض الإلهي وتقطعوا أرحامكم مع أهل الحب في الله ، فتكونوا في سلك أولئك الذين ، إلخ.
وهذا كما قال الجنيد قدس سره : لو أقبل صديق على الله ألف سنة ، ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته
517
أكثر مما ناله.
يقول الفقير : وقع لي في الحرم النبوي على صاحبه السلام : أني قعدت يوماً عند الرأس المبارك على ما هو عادتي مدة مجاورتي.
فرأيت بعض الناس يسيئون الأدب في تلك الحضرة الجليلة ، وذلك من وجوه كثيرة ، فغلبني البكاء الشديد ، فإذا هذه الآية تقرأ على أذني أولئك الذين لعنهم الله ، يعني أن المسيئين للأدب في مثل هذا المقام محرومون من درجات أهل الآداب الكرام.
وفي المثنوي :
از خدا جوييم توفيق أدب
بى أدب محروم كشت از لطف رب
بى ادب تنها نه خودرا داشت بد
بلكه آتش در همه آفاق زد
هركه بى باكى كند در راه دوست
رهزن مردان شده نامرد اوست
{قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِه وَلَـاكِنِّى أَرَاـاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِه رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءا بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَـاكِنُهُمْ كَذَالِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ} .
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ} التدبر النظر في دبر الأمور وعواقبها ؛ أي : ألا يلاحظون القرآن ، فلا يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يقعوا في المعاصي الموبقة {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} ، فلا يكاد يصل إليها ذكر أصلاً ، وبالفارسية : (بلكه بر دلهاى ايشان است قفلهاى آن يعنى جيزى كه دلهارا بمنزلة قفلها باشد وآن ختم) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
(8/403)
وطبع الهيست بران
دركه خدابست بروى عباد
هيج كليدش نتواند كشاد
قفل كه اوبر در دلها زند
كيست كه بردارد ودرواكند
والأقفال : جمع قفل بالضم ، وهو الحديد الذي يغلق به الباب ، كما في "القاموس".
قال في "الإرشاد" : أم منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من التوبيخ بعدم التدبر إلى التوبيخ بكون قلوبهم مقفلة لا تقبل التدبر والتفكر والهمزة للتقرير وتنكير القلوب ، إما لتهويل حالها وتفظيع شأنها بإبهام أمرها في الفساد والجهالة ؛ كأنه قيل على قلوب منكرة لا يعرف حالها ، ولا يقادر قدرها في القسوة.
وإما لأن المراد قلوب بعض منهم ، وهم المنافقون وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنها أقفال مخصوصة بها مناسبة لها غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة التي من الحديد إذ هي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح.
وفي "التأويلات النجمية" : أفلا يتدبرون القرآن ، فإن فيه شفاء من كل داء ليفضي بهم إلى حسن العرفان ويخلصهم من سجن الهجران أم على قلوب أقفالها ، أم قفل الحق على قلوب أهل الهوى ، فلا يدخلها زواجر التنبيه ولا ينبسط عليها شعاع العلم ، ولا يحصل لهم فهم الخطاب ، وإذا كان الباب متقفلاً فلا الشك ، والإنكار الذي فيها يخرج ولا الصدق واليقين الذي هم يدعون إليه يدخل في قلوبهم ، انتهى.
(نقلست كه بشرحا في قدس سره بخانه خواهر او بيامد كفت اى خواهر بريام ميشوم وقدم بنهادوباى جند بر آمد وبيستاد وتاروز همجينان ايستاده بود جون روزشد فرود آمد ونيماز جماعت رفت بامداد باز آمد خواهرش برسيدكه ايستادن تراسبب جه بود كفت درخاطرم آمد در بغداد جندين كس اندكه نام ايشان بشرست يكى جهود ويكى ترسا ويكى مع مرا نام بشراست وبجنين دولتى رسيده واسلام يافنه درين حيرت مانده بودم كه ايشان جه كرده اندازين دولت محروم ماندند ومن جه كرده ام كه بدين دولت رسيدم).
يعني : أن انفتاح أقفال القلوب من فضل علام الغيوب ولا يتيسر لكل أحد مقام القرب والقبول ورتبة الشهود والوصول وعدم تدبر القرآن إنما هو من آثار الخذلان ومقتضيات الأعيان وإلا فكل طلب ينتهي إلى حصول إرب.
قال الصائب : (تواز فشاندن تخم اميد دست مدار.
كه دركرم نكندا ابرنو بهارا مساك).
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَـارِهِم} : الارتداد
518
والردة : الرجوع في الطريق الذي جاء منه.
لكن الردة تختص بالكفر والارتداد يستعمل فيه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي غيره الأدبار جمع دبر ودبر الشيء خلاف القبل ، وكنى بهما عن العضوين المخصوصين ، والمعنى : أن الذين رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ، وهم المنافقون الموصوفون بمرض القلوب وغيره من قبائح الأفعال والأحوال ، فإنهم قد كفروا به عليه السلام.
{مِّنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} بالدلائل الظاهرة والمعجزات القاهرة {الشَّيْطَـانُ سَوَّلَ لَهُمْ} جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبراً ؛ لأن أي : سهل لهم ركوب العظائم من السول ، وهو الاسترخاء.
وقال الراغب : السول الحاجة التي تحرص عليها النفس والتسويل تزيين النفس لما تحرص عليه ، وتصوير القبيح منه بصورة الحسن.
{وَأَمْلَى لَهُمْ} وأمد لهم في الأماني والآمال ، وقيل : أمهلهم الله ، ولم يعاجلهم بالعقوبة.
قال الراغب : الإملاء والإمداد ومنه قيل للمدة الطويلة : ملاوة من الدهر ، وملوة من الدهر.
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءا بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَـاكِنُهُمْ كَذَالِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّـاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّـاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَـارًا وَأَفْـاِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَـارُهُمْ وَلا أَفْـاِدَتُهُم مِّن شَىْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بآيات اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الايَـاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا ءَالِهَةَا بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَالِكَ إِفْكُهُمْ} .
(8/404)
{ذَالِكَ} الارتداد كائن {بِأَنَّهُمْ} ؛ أي : بسبب أن المنافقين المذكورين.
{قَالُوا} سراً.
{لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} ؛ أي : لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول عليه السلام مع علمهم ، بأنه من عند الله حسداً وطمعاً في نزوله عليهم.
{سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الامْرِ} ، وهو ما أفاده قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ، ونلا نطيع فيكم أحداً أبداً ، وإن قوتلتم لننصرنكم ، وهم بنو قريظة والنضير الذين كانوا يوالونهم ويودونهم ، وأرادوا بالبعض الذي أشاروا إلى عدم إطاعتهم فيه إظهار كفرهم وإعلان أمرهم بالفعل قبل قتالهم وإخراجهم من ديارهم ، فإنهم كانوا يأبون ذلك قبل مساس الحاجة الضرورية الداعية إليه لما كان لهم في إظهار الإيمان من المنافع الدنيوية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} ؛ أي : إخفاءهم لما يقولون لليهود.
{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة} ؛ أي : يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيلة ، فكيف يفعلون إذا قبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه؟ {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـارَهُمْ} بمقامع الحديد وأدبارهم وظهورهم وخلفهم.
قال الكاشفي : (مى زنند رويهاى ايشان كه از حق بكر دانيده اند ويشتهاى ايشان كه بر اهل حق كرده اند).
والجملة حال من فاعل توفتهم ، وهو تصوير لتوفيهم على أهوال الوجوه وأفظعها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة وجهه ودبره.
{ذَالِكَ} التوفي الهائل.
وبالفارسية : (اين قبض ارواح ايشان بدين وصف).
{بِأَنَّهُمْ} ؛ أي : بسبب أنهم {اتَّبَعُوا مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ} من الكفر والمعاصي ، يعني : (متابعت كردند آن جيزى راكه بخشم أورد خداى تعالى را يعنى موجب غضب وى كردد).
{وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} ؛ أي : ما يرضاه من الإيمان والطاعة حيث كفروا بعد الإيمان وخرجوا عن الطاعة بما صنعوا من المعاملة مع اليهود.
{فَأَحْبَطَ} لأجل ذلك {أَعْمَـالَهُمْ} التي عملوها حال إيمانهم من الطاعات ، أو بعد ذلك من أعمال البر التي لو عملوها حال الإيمان لانتفعوا بها ، فالكفر والمعاصي سبب لإحباط الأعمال وباعث على العذاب والنكال.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : الفاجر تنسل روحه كالسفود من الصوف المبلول والميت الفاجر يظن أن بطنه قد ملئت شوكاً ، وكان نفسه يخرج من ثقب أبرة ، وكأنما السماء انطبقت على لأرض ، وهو بينهما ، ولهذا سئل كعب الأحبار عن الموت ، فقال : كغصن شجر ذي شوك
519
أدخل في جوف رجل ، فجذبه إنسان شديد البطش ذو قوة فقطع ما قطع ، وأبقى ما أبقى.
وقال النبي عليه السلام : "لسكرة من سكرات الموت أمر من ثلاثمائة ضربة بالسيف وعند وقت الهلاك يطعنه الملائكة بحربة مسمومة قد سقيت سماً من نار جهنم ، فتفر النفس وتنقبض خارجة فيأخذها الملك في يده ، وهي ترعد أشبه شيء بالزئبق على قدر النخلة شخصاً إنسانياً يناولها الملائكة الزبانية ، وهي ملائكة العذاب.
هذا حال الكافر والفاجر ، وأما المؤمن المطيع ، فعلى خلاف هذا ؛ لأنه أهل الرضا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
قال ميمون بن مهران : شهدت جنازة ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف ، فلما وضع على المصلى ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى وقع على أكفانه ، ثم دخل فيها ، فالتمس ، ولم يوجد فلما سوي عليه سمعنا صوتاً ، وما رأينا شخصاً يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ، فعلى العاقل أن يتهيأ للموت ، ولا يضيع الوقت.
قال الصائب :
تراكر حاصل هست ازحيات خود غنيمت دان
كه من از حاصل دوران غم بى حاصلى دارم
{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا ءَالِهَةَا بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَالِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يا قَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـابًا أُنزِلَ مِنا بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى} .
(8/405)
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ؛ أي : المنافقون ، فإن النفاق مرض قلبي كالشك ونحوه.
{أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَـانَهُمْ} ، فأم منقطعة وأن مخففة من أن والأضغان جمع ضغن بالكسر ، وهو الحقد ، وهو إمساك العداوة في القلب والتربص لفرصتها وبه شبه الناقة ، فقالوا : ذات ضغن.
والمعنى : بل أحسب الذين في قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين أن لن يخرج الله أحقادهم ، ولن يبرزها لرسول الله وللمؤمنين ، فتبقى أمورهم مستورة ؛ أي : أن ذلك مما يكاد يدخل تحت الاحتمال.
وفي بعض الآثار : لا يموت ذو زيغ في الدين حتى يفتضح ، وذلك لأنه كحامل الثوم ، فلا بد من أن تظهر رائحته ، كما أن الثابت في طريق السنة كحامل المسك إذ لا يقدر على إمساك رائحته.
اكر مسك خالص ندارى مكوى
وكرهست خودفاش كردد ببوى
{وَلَوْ نَشَآءُ} إراءتهم.
وبالفارسية : (واكر ماخواهيم).
{لارَيْنَـاكَهُمْ} لعرفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم معرفة متاخمة للرؤية.
{فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـاهُمْ} بعلامتهم التي نسمهم بها.
قال في "القاموس" : السومة بالضم ، والسمية والسيما والسيميا بكسرهن العلامة وذكر في السوم.
وعن أنس رضي الله عنه ما خفي على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم.
ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكون فيهم الناس ، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى وجه كل منهم مكتوب هذا منافق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي "عين المعاني" : وعلى جبهة كل واحد مكتوب كهيئة الوشم : هذا منافق واللام لام الجواب كررت في المعطوف للتأكيد والفاء لترتيب المعرفة على الإراءة.
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ} : اللام جواب قسم محذوف ولحن القول فحواه ، ومعناه وأسلوبه أو إمالته إلى جهة تعريض وتورية ، يعني : (بشناسى توايشازا در كردانيدن سخن از صوب صواب بجهت تعريض وتوريت).
ومنه قيل للمخطىء لاحن لعدله بالكلام عن سمت الصواب.
وفي الحديث : "لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض" أي أذهب بها في الجهات.
قال في "المفردات" : اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه ، إما بإزالة الإعراب أو التصحيف ، وهو المذموم ، وذلك أكثر استعمالاً ، وإما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى ، وهو محمود من حيث البلاغة عند أكثر الأدباء ، وإليه قصد بقول الشاعر ، فخير الأحاديث ما كان
520
لحناً ، وإياه قصد بقوله : ولتعرفنهم في لحن القول ، ومنه قيل : للفطنة لما يقتضي فحوى الكلام لحن.
انتهى.
وفي "المختار" : اللحن : الخطأ في الإعراب ، وبابه قطع ، واللحن بفتح الحاء الفطنة ، وقد لحن من باب طرب.
وفي الحديث : "لعل أحدكم ألحن بحجته" ؛ أي : أفطن بها.
انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو قولهم : ما لنا إن أطعنا من الثواب ، ولا يقولون : ما علينا إن عصينا من العقاب.
قال بعض الكبار : الأكابر والسادات يعرفون صدق المريد من كذبه بسؤاله وكلامه ؛ لأن الله يقول : ولتعرفنهم في لحن القول {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـالَكُمْ} ، فيجازيكم بحسب قصدكم ، وهذا وعد للمؤمنين وإيذان بأن حالهم بخلاف حال المنافقين.
وفي الآية إشارة إلى أن من مرض القلوب الحسبان الفاسد والظن الكاذب ، فظنوا أن الله لا يطلع على خبث عقائدهم ، ولا يظهره على رسوله ، وليس الأمر كما توهموه ، بل الله فضحهم وكشف تلبيسهم بالإخبار والتعريف مع أن المؤمن ينظر بنور الفراسة والعارف ينظر بنور التحقيق ، والنبي عليه السلام ينظر بالله ، فلا يستتر عليه شيء ، فالأعمال التي تصدر بخيانة النيات لها شواهد عليها ، كما سئل سفيان بن عيينة رحمه الله ، هل يعلم الملكان الغيب؟ فقال : لا ، فقيل له : فكيف يكتبان ما لا يقع من عمل القلب؟ فقال : لكل عمل سيما يعرف بها كالمجرم يعرف بسيماه إذا هم العبد بحسنه فاح من فيه رائحة المسك ، فيعلمون ذلك ، فيكتبونها حسنة ، فإذا هم بسيئة استقر عليها قلبه فاح منه ريح النتن ، ففي كل شيء شواهد ألا ترى أن الحارث بن أسد المحاسبي رحمه الله كان إذا قدم له طعام فيه شبهة ، ضرب عرقه على أصبعه وكأم أبي يزيد السبطامي رحمهما الله ما دامت حاملاً بأبي يزيد لا تمتد يدها إلى طعام حرام ، وآخر ينادي ، ويقال له : تورع وآخر يأخذه الغثيان ، وآخر يصير الطعام أمامه دماً ، وآخر يرى عليه سواداً ، وآخر يراه خنزيراً إلى أمثال هذه المعاملات التي خص الله بها أولياءه وأصفياءه ، فعليك بالمراقبة مع الله والورع في المنطق ، فإنه من الحكمة ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
(8/406)
قال مالك بن أنس رضي الله عنه : من عد كلامه من عمله ، قل كلامه ، والتزم أربعة الدعاء للمسلمين بظهر الغيب وسلامة الصدر وخدمة الفقراء ، وكان مع كل أحد على نفسه قال بعض الكبار : أنصت لحديث الجليس ، ما لم يكن هجراً ، فإن كان هجراً ، فانصحه في الله إن علمت منه القبول ، بألطف النصح ، وإلا فالاعتذار في الانفصال ، فإن كان ما جاء به حسناً ، فحسن الاستماع ، ولا تقطع عليه حديثه :
سخن را سرست اى خرد مندوبن
مياور سخن درميان سخن
خداوند تدبير وفرهنك وهوش
نكويت سخن تانبيند خموش
{قَالُوا يا قَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـابًا أُنزِلَ مِنا بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يا قَوْمَنَآ أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ وَءَامِنُوا بِه يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لا يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارْضِ وَلَيْسَ لَه مِن دُونِه أَوْلِيَآءُا أولئك فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} .
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم} بالأمر بالقتال ونحوه من التكاليف الشاقة إعلاماً لا استعلاماً أو نعاملكم معاملة المختبر ليكون أبلغ في إظهار العذاب.
{حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَـاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّـابِرِينَ} على مشاق الجهاد علماً فعلياً يتعلق به الجزاء.
وقد سبق تحقيق المقام بما لا مزيد عليه من الكلام.
{وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} الإخبار بمعنى المخبر بها ؛ أي : ما يخبر به عن أعمالكم ، فيظهر حسنها وقبحها ؛ لأن الخبر على حسب المخبر عنه إن حسناً فحسن وإن قبيحاً فقبيح.
ففيه إشارة إلى أن بلاء الإخبار كناية عن بلاء الأعمال.
قال الكاشفي : (نامى از ماييم خبرها شمارا كه ميكوييد درايمان يعنى تاصدق وكذب آن همه آشكارا شود).
وكان الفضيل رحمه الله إذا قرأ هذه الآية بكى ، وقال : اللهم لا تبلنا ،
521
فإنك إن بلوتنا هتكت أستارنا وفضحتنا.
وفيه إشارة إلى أنه بنار البلاء يخلص إبريز الولاء.
قيل : البلاء للولاء كاللهب للذهب ، فإن الابتلاء والامتحان نتبين جواهر الرجال ، فيظهر المخلص ويفتضح المنافق ، وعند الامتحان يكرم الرجل ، أو يهان ، والله تعالى عالم بخصائص جواهر الإنسان من الأزل إلى الأبد ؛ لأنه خلقها على أوصافها من السعادة والشقاوة ، ألا يعلم من خلق ، وهو اللطيف الخبير وبتغير أحوال الجواهر في الأزمان المختلفة لا يتغير علم الله ، فإنه تعالى يراهم في حالة واحدة ، وتغيرات الأحوال كلها ، كما هي بحيث لا يشغله حالة عن حالة ، وإنما يبلو للإعلام والكشف عن حقيقة الحال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
قال بعض الكبار : العارفون يعرفون بالأبصار ما تعرفه الناس بالبصائر ، ويعرفون بالبصائر ما لم يدرك أحد في النادر ، ومع ذلك ، فلا يأمنون على نفوسهم من نفوسهم ، فكيف يأمنون على نفوسهم من مقدورات ربهم؟ مما يقطع الظهور ، وكان الشيخ عبد القادر الجبيلي قدس سره يقول : أعطاني الله تعالى ثلاثي عهداً وميثاقاً أن لا يمكر بي ، فقيل له : فهل آمنت مكره بعد ذلك ، فقال : حالي بعد ذلك كحالي قبل العهد ، والله عزيز حكيم ، فإذا كان حال العارف الواقف هكذا فما حال الجاهل الغافل ، فلا بد من اليقظة :
بر غفلت سياه دلان خنده مى زند
غافل مشو زخنده دندان نماى صبح
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا} ؛ أي : منعوا الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي : عن دين الإسلام الموصل إلى رضا الله تعالى.
{وَشَآقُّوا الرَّسُولَ} وعادوه وخالفوه وصاروا في شق غير شقه.
والمخالفة أصل كل شر إلى يوم القيامة.
{مِّنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} بما شاهدوا نعته عليه السلام في التوراة ، وبما ظهر على يديه من المعجزات ، ونزل عليه من الآيات ، وهم قريظة والنضير ، أو المطعمون يوم بدر وهم رؤساء قريش.
{لَن يَضُرُّوا اللَّهَ} بكفرهم وصدهم {شَيْـاًا} من الأشياء يعني : (زيانى نتواند رسانيد خدا يرا جيزى يعنى از كفر ايشان اثر ضررى بدين خداى وبيغمبر او نرسد بلكه شرر آن شر بديشان عائد كردد).
أو شيئاً من الضرر ، أو لن يضروا رسول الله بمشاقته شيئاً ، وقد حذف المضاف لتعظيمه وتفظيع مشاقته.
{وَسَيُحْبِطُ} السين لمجرد التأكيد {أَعْمَـالَهُمْ} ؛ أي : مكايدهم التي نصبوها في إبطال دينه تعالى ومشاقة رسوله ، فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل ولا يتم لهم إلا القتل كما لقريظة وأكثر المطعمين ببدر والجلاء عن أوطانهم كما للنضير.
(8/407)
{وَمَن لا يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارْضِ وَلَيْسَ لَه مِن دُونِه أَوْلِيَآءُا أولئك فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَـادِرٍ عَلَى أَن يُحِـاىَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَـاذَا بِالْحَقِّا قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} في العقائد والشرائع كلها ، فلا تشاقوا الله ورسوله في شيء منها.
{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَـالَكُمْ} ؛ أي : بمثل ما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنفاق والرياء والمن والأذى والعجب وغيرها.
وفي الحديث : "إن العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" :
در هر عملى كه عجب ره يافت
رويشن زره قبول بر تافت
اى كشته بكار خويش مغرور
وزدركه قرب كشته مهجور
تاجند زعجب وخود نمايى
وزد بدبه منى ومايى
معجب مشو از طريق تلبيس
كز عجب بجه فتاد إبليس
وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر على ما زعمت المعتزلة والخوارج ، فإن جمهورهم على أن بكبيرة واحدة تحبط جميع الطاعات ، حتى أن من عبد الله طول عمره ، ثم شرب جرعة من خمر ، فهو كمن لم يعبده قط.
وفي الآية إشارة إلى أن كل عمل وطاعة ، لم يكن بأمر الله وسنة
522
رسوله ، فهو باطل لم يكن له ثمرة ؛ لأنه صدر عن الطبع ، والطبع ظلماني ، وإنما جاء لشرع ، وهو نوراني ليزيل ظلمة الطبع بنور الشرع ، فيكون مثمراً وثمرته أن يخرجكم من الظلمات إلى النور ؛ أي : من ظلمات الطبع إلى نور الحق فعليك بالإطاعة واستعمال الشريعة وإياك والمخالفة والإهمال : (نقلست كه احمد حنبل وشافعي رضي الله عنها نشسته بودند حبيب عجمى از كوشه در آمد أحمد كفت من اورا سؤالى كنم شافعى كفت ايشانرا سؤال نشايد كردكه ايشان قومى عجب باشند احمد كفت جاره نيست جون حبيب فرا رسيد احمد كفت جه كويى در حق كسى كه ازين بنج نماز يكى ازو فوت شده است ونمى داندكه كدامست حبيب كفت هذا قلب غفل عن الله فليؤدب يعنى اين دل كسى بودكه از خداوند غافل بود اورا ادب بايد كرد در جواب او متحير شد شافعى كفت نكفتم كه ايشانرا شؤال نشايد كرد).
والجواب في الشريعة أن يقضي صلاة ذلك اليوم ، فالتي توافقها تكون قضاء لها ، والبواقي من النوافل نسأل الله الإطاعة والانقياد في كل حال على الاطراد.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله تعالى ورسوله {وَصُدُّوا} الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} الموصل إلى رضاه {ثُمَّ مَاتُوا} وفارقوا الدنيا {وَهُمْ كُفَّارٌ} : الواو : للحال.
{فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} في الآخرة ؛ لأنهم ماتوا على الكفر ، فيحشرون على ما ماتوا عليه ، كما ورد : "تموتون كما تعيشون وتحشرون كما تموتون" ، وهو حكم يعم كل من مات على الكفر ، وإن صح نزوله في أصحاب القليب ، وهو كأمير البئر ، أو العادية القديمة منها ، كما في "القاموس".
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
والمراد : البئر التي طرح فيها جيف الكفار المقتولين يوم بدر ، وأما البئر التي سقي منه المشركون ذلك اليوم ، وهي بئر لماء ، فهي منتنة الآن ، سمعته من بعض أهل بدر حين مروري بها.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَـادِرٍ عَلَى أَن يُحِـاىَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَـاذَا بِالْحَقِّا قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَارا بَلَـاغٌ} .
{فَلا تَهِنُوا} من الوهن وهو الضعف.
والفاء فصيحة ؛ أي : إذا تبين لكم بما يتلى عليكم أن الله عدوهم يبطل أعمالهم ، فلا يغفر لهم ، فلا تهنوا ؛ أي : لا تضعفوا فإن من كان الله عليه لا يفلح {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} مجزوم بالعطف على تهنوا ، والسلم بفتح السين وكسرها لغتان بمنى الصلح ؛ أي : ولا تدعوا الكفار إلى الصلح فوراً ، فإن ذلك فيه ذلة ، يعني : (طلب صلح مكنيد از ايشان كه نشأنه ضعف وتذلل شما بود).
(8/408)
{وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ} جمع الأعلى بمعنى ، الأغلب أصله : أعليون فكرهوا الجمع بين أخت الكسرة والضمة ؛ أي : الأغلبون.
وقال الكلبي : آخر الأمر لكم ، وإن غلبوكم في بعض الأوقات ، وهي جملة حالية مقررة لمعنى النهي مؤكدة لوجوب الانتهاء ، وكذا قوله تعالى : {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} ، فإن كونهم الأغلبين وكونه تعالى معهم ؛ أي : ناصرهم في الدارين من أقوى موجبات الاجتناب عما يوهم الذل والضراعة ، وكذا توفيته تعالى لأجور الأعمال حسبما يعرب عنه قوله تعالى : {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ} : (الوتر كم وضائع كردن) ؛ أي : ولن يضيعها من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلاً من ولد أو أخ أو حميم ، فأفردته منه من الوتر الذي هو الفرد.
وفي "القاموس" : وتر الرجل أفزعه وأدركه بمكروه ووتره ماله نقصه إياه انتهى ، وعبر عن ترك الإثابة في مقابلة الأعمال بالوتر الذي هو إضاعة شيء معتد به من الأنفس والأموال مع أن الأعمال غير موجبة للثواب على قاعدة أهل السنة أبرز الغاية اللطف بتصوير الصواب بصورة الحق المستحق ، وتنزيل ترك الإثابة بمنزلة إضاعة
523
أعظم الحقوق وإتلافها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي الحديث : "إنما هي أعمالكم ثم أؤديكم إياها" ، وهي ضمير القصة ، يعني ما جزاء أعمالكم إلا محفوظ عندي لأجلكم ، ثم أؤديه إليكم وافية كاملة.
وعن أبي ذر رضي الله عنه رفعه يقول الله تعالى : إني حرمت الظلم على نفسي وحرمته على عبادي ، فلا تظالموا ، فإذا كان الله منزهاً عن الظلم ونقص جزاء الأعمال ، فليطلب العبد نفساً ، بل لا ينبغي له أن يطلب الأجر ؛ لأن الله تعالى أكرم الأكرمين ، فيعطيه فوق مطلوبه :
توبندكى جو كدايان بشرط مزدمكن
كه دوست خود روش بنده برورى داند
وفي المثنوي :
عاشقانرا شادمانى وغم اوست
دست مزد واجرت خدمت هم اوست
غير معشوق از تماشايى بود
عشق نبود هرزه سودايى بود
عشق آن شعله است كوجون بر فروخت
هرجه جز معشوق باقى جمله سوخت
قال أبو الليث رحمه الله في "تفسيره" : وفي الآية دليل على أن أيدي المسلمين إذا كانت عالية على المشركين لا ينبغي أن يجيبوهم إلى الصلح ؛ لأن فيه ترك الجهاد ، وإن لم تكن يدهم عالية ، فلا بأس بالصلح لقوله تعالى : {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (الأنفال : 61) ؛ أي : وإن مالوا إلى الصلح ، فمل إليه ، وكذا قال غيره.
هذا نهي للمسلمين عن طلب صلح الكافرين.
قالوا : هو دليل على أنه عليه السلام لم يدخل مكة صلحاً ؛ لأنه نهى عن الصلح.
وكذا قال الحدادي في "تفسيره" في سورة النساء : لا يجوز مهادنة العدو وترك أحد منهم على الكفر من غير جزية إذا كان بالمسلمين قوة على القتال وأما إذا عجزوا عن مقاومتهم وخافوا على أنفسهم وذراريهم جاز لهم مهادنة العدو من غير جزية يؤدونها إليهم ؛ لأن حظر الموادعة كان بسبب القوة ، فإذا زال السبب زال الخطر.
انتهى.
والجمهور : على أن مكة فتحت عنوة ؛ أي : قهراً لا صلحاً لوقوع القتال بها ، ولو كان صلحاً لما قال عليه السلام : "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" إلى آخر الحديث.
{إِنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} عند أهل البصيرة {لَعِبٌ وَلَهْوٌ} باطل وغرور لا اعتبار بها ولا ثبات لها إلا أياماً قلائل.
وبالفارسية : (جزاين نيست كه زندكانى دنيا بازيست نابايدار ومشغولى بى اعتبار) يقال : لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً ، واللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه.
وفي الخبر أن الله تعالى خلق ملكاً وهو يمد لا إله من أول الدنيا ، فإذا قال : إلا الله قامت القيامة.
وفيه إشارة إلى أن الدنيا وما فيها من أولها إلى آخرها لا وجود لها في الحقيقة ، وإنما هي أمر عارض زائل ، والله هو الأزلي الأبدي {وَإِن تُؤْمِنُوا} أيها الناس بما يجب به الإيمان {وَتَتَّقُوا} عن الكفر والمعاصي {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} ؛ أي : ثواب إيمانكم وتقواكم من الباقيات الصالحات التي يتنافس فيها المتنافسون.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
وفي الآية حث على طلب الآخرة العلية الباقية وتنفير عن طلب الدنيا الدنية الفانية :
مكن تكيه بر ملك وجاه وحشم
كه بيش از تو بودست وبعد از توهم
بدنيا توانى كه عقبى خرى
بخرجان من ورنه حسرت خورى
{وَلا يَسْـاَلْكُمْ} ؛ أي : الله تعالى {أَمْوَالَكُمْ} الجمع المضاف من صيغ العموم ، فالمراد : جميع أموالكم بحيث يخل أداؤها بمعاشكم ، إنما اقتصر على شيء قليل منها ، وهو ربع العشر ، أو العشر تؤدونها إلى فقرائكم ، فطيبوا بها نفساً.
(8/409)
{إِن يَسْاَلْكُمُوهَا} أَمْوَلَكُمْ * ؤإِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَنَكُمْ * هَآ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَلَكُم} ؛ أي : أموالكم {فَيُحْفِكُمْ} ؛ أي : يجهدكم بطلب الكل.
وبالفارسية : (بس مبالغه كند درخواستن يعنى كويد همه ارا نفقه كنيد).
وذلك
524
فإن الإحفاء والإلحاف : المبالغة بلوغ الغاية ، يقال : أحفى شاربه ؛ أي : استأسله ؛ أي : قطعه من أصله.
{تَبْخَلُوا} بها فلا تعطوا {وَيُخْرِجْ} ؛ أي : الله تعالى ويعضد القراءة بنون العظمة ، أو البخل ؛ لأنه سبب الأضغان.
{أَضْغَانَكُمْ} ؛ أي : أحقادكم.
وقد سبق تفسيره في السورة.
قال في "عين المعاني" ؛ أي : يظهر أضغانكم عند الامتناع.
وقال قتادة : علم الله أن ابن آدم ينقم ممن يريد ماله.
ويقال : ويخرج ما في قلوبكم من حب المال.
وهذه المرتبة لمن يوقى شح نفسه ، فأما الأحرار عن رق الكونين ، ومن علت رتبتهم في طلب الحق ، فلا يسامحون في استبقاء ذرة ويطالبون ببذل الروح والتزام الغرامات ، فإن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
{أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم} ها : تنبيه بمعنى : (آكاه باشيد وكوش داريد).
وأنتم : كلمة على حدة وهو مبتدأ خبره قوله : {هَاؤُلاءِ} : أي أنتم أيها المخاطبون ، هؤلاء الموصوفون ، يعني في قوله تعالى : {إِن يَسْاَلْكُمُوهَا} ، الآية.
{تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} استئناف مقرر لذلك حيث ذل على أنهم يدعون لإنفاق بعض أموالهم في سبيل الله ، فيبخل ناس منهم أو صلة لهؤلاء على أنه بمعنى الذين ؛ أي : ها أنتم الذين تدعون ، ففيه توبيخ عظيم وتحقير من شأنهم ، والإنفاق في سبيل الله يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرهما.
{مَّن يَبْخَلُ} بالرفع لأن من هذه ليست بشرط أي ناس يبخلون ، وهو في حيز الدليل على الشرطية الثانية كأنه قيل : الدليل عليه إنكم تدعون إلى أداء ربع العشر فمنكم ناس يبخلون به {وَمَن يَبْخَلْ} بالجزم ؛ لأن من شرط {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} فإن كلا من نفع الإنفاق وضرر البخل عائد إليه ، والبخل يستعمل بعن وعلى لتضمنه معنى الإمساك والتعدي ؛ أي : فإنما أمسك الخير عن نفسه بالبخل {وَاللَّهُ الْغَنِىُّ} عنكم وعن صدقاتكم دون من عداه {وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ} إليه وإلى ما عنده من الخير ، فما يأمركم به فهو لاحتياجكم إلى ما فيه من المنافع ، فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم.
قال الجنيد قدس سره : الفقر يليق بالعبودية والغنى يليق بالربوبية ، ويلزم الفقر من الفقر أيضاً ، وهو الغنى التام ، ولذلك قال ابن مشيش للشيخ أبي الحسن الشاذلي قدس الله سرهما : لئن لقيته بفقرك لتلقينه بالصنم الأعظم ، وبتمام الفقر يصح الغنى عن الغير ، فيكون متخلقاً بالغنى.
وفي "التأويلات النجمية" : والله الغني لذاته بذاته ، ومن غناه تمكنه من تنفيذ مراده واستغناؤه عما سواه وأنتم الفقراء إلى الله في الابتداء ليخلقكم.
وفي الوسط ليربيكم ، وفي الانتهاء ليغنيكم عن أنانيتكم ويبقيكم بهويته ، فالله غني عنكم من الأزل إلى الأبد ، وأنتم الفقراء محتاجون إليه من الأزل إلى الأبد :
مراورا رسد كبريا ومنى
كه ملكش قديسمت وذاتش غنى
ولما كان الله غنياً جواداً أحب أن يتخلق بأخلاقه فأمرهم بالبذل والإنفاق ، فإن السخاء سائق إلى الجنة والرضى والقربة : (در خبر ست كه خالد بن وليد از سفرى بازآمد ازجانب روم وجماعتى ازايشان اسير آورده رسول عليه السلام برايشان اسلام عرضه كرد قبول نكردند بفرمود تاجند كس را ازايشان بكشتند بآخر جوانى را بياوردندكه اورابكشند خالد ميكويد تيغ بركشيدم تابزنم رسول عليه السلام كفت آن يكى رامزان يا خالد كفتم يا رسول الله درميان اين قوم هيج كس در كفر قوى ترازين جوان نبوده است رسول
525
فرمود جبريل امده وميكويد كه اين يكى رامكش كه او درميان قوم خويش جوانمرد بوده است وجوا نمردرا كشتن روانيست آن جوان كفت جه بوده است كه مرابياران خود نرسانيديد كفتند درحق تووحى آمده است اى بشير ترا درين سراى با كافر جوانمرد عتاب نيست ومارا دران سراى با مؤمن جوا نمرد حساب نيست آن جوان كفت اكنون بدانستم كه دين شما حقست وراست ايمان برمن عرضه كنيد كه از جوانمردى من جز قوم من خبر ندا شتند اكنون يقين همى دانم كه اين سيد راست كويست أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله بس رسول خدا فرمودكه آن جوانمرد خلعت ايمان ببركت جوا نمردى يافت) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 496
جوانمرد اكر راست خواعى وليست
كرم بيشه شاه مردان عليست
{وَإِن تَتَوَلَّوْا} عطف على أن تؤمنوا ؛ أي : وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى وعما دعاكم إليه ورغبكم فيه من الإنفاق في سبيله.
{يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} ؛ أي : يذهبكم ويخلق مكانكم قوماً آخرين {ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} في التولي عن الإيمان والتقوى والإنفاق ، بل يكونوا راغبين فيها وكلمة ثم للدلالة على أن مدخولها مما يستبعده المخاطب لتقارب الناس في الأحوال ، واشتراك الجل في الميل إلى المال ، والخطاب في تتولوا لقريش والبدل الأنصار ، وهذا كقوله تعالى : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ، أو للعرب والبدل : العجم وأهل فارس.
كما روي أنه عليه السلام سئل عن القوم ، وكان سلمان إلى جنبه ، فضرب على فخذه ، فقال : هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا ؛ أي : معلقاً بالنجم المعروف لتناوله رجال من فارس ، فدل على أنهم الفرس الذين أسلموا ، وفيه فضيلة لهذه القبيلة.
وفي الحديث : "خيرتان من خلقه في أرضه : قريش خيرة الله من العرب ، وفارس خيرة الله من العجم" ، كما في "كشف الأسرار" : (ودر لباب آوردكه أبو الدرداء رضي الله عنه بعد از فرائت اين آيت مى كفت ابشروا يا بني فروخ ومراد بارسيانند).
قال في "القاموس" : فروخ كتنور أخو إسماعيل وإسحاق أبو العجم الذين في وسط البلاد ، انتهى.
وفيه إشارة إلى منقبة قوم يعرفون (بخواجكان) ونحوهم من كبار أهل الفرس وعظماء أهل الله منهم ، وهم كثيرون.
ومنهم : الشيخ سعدي الشيرازي.
وقد تقطب من الفجر إلى الظهر ثم تركه باختياره على ما في "الواقعات المحمودية" ، ثم هذا يدل على أنتعالى قد استبدل بأولئك الكفار غيرهم من المؤمنين.
وقيل : معناه : وإن تتولوا كلكم عن الإيمان ، فحينئذٍ يستبدل غيركم.
قال تعالى : {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الزخرف : 33) ، الآية.
قال بعضهم : لا يستقر على حقيقة بساط العبودية إلا أهل السعادة ألا تراه يقول : {وَإِن تَتَوَلَّوْا} ، الآية.
وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان خلق ملولاً غير ثابت في طلب الحق وإن من خواصهم من يرغب في طلب الحق بالجد والاجتهاد من حسن استعداده الروحاني ، ثم في أثناء السلوك بمجاهدة النفس ومخالفة هواها بظمأ النهار وسهر الليل تمل النفس من مكايده الشيطان وطلب الرحمة ، فيتولى عن الطلب بالخذلان ، ويبتلى بالكفران إن لم يكن معاناً بجذبة العناية وحسن الرعاية ، فالله تعالى قادر على أن يستبدل به قوماً آخرين في الطلب صادقين وعلى قدم العبودية ثابتين وقد داركتهم جذبات العناية موفقين للهداية ، وهم أشد رغبة وأعز رهبة منكم ، ثم لا يكونوا أمثالكم في الإعراض
526
بعد الإقبال والإنكار بعد الإقرار وترك الشكر والثناء ، بل يكونوا خيراً منكم في جميع الأحوال إظهاراً للقدرة على ما يشاء والحكمة فيما يشاء كذا في "التأويلات النجمية".
527
جزء : 8 رقم الصفحة : 496(8/410)