وفي "التأويلات النجمية" لما ذكرهم أصنافاً ثلاثة رتبها ولما ذكر حديث الجنة والتنعم والتزين فيها ذكرهم على الجمع {جَنَّـاتُ عَدْنٍ} الآية نبه على أن دخولهم الجنة لا باستحقاق بل بفضله وليس في الفضل تميز فيما يتعلق بالنعمة دون ما يتعلق بالمنعم لأن في الخبر "إن من أهل الجنة من يرى الله سبحانه في كل جمعة بمقدار أيام الدنيا مرة ومنهم من يراه في كل يوم مرة ومنهم من هو غير محجوب عنه لحظة" كما سبق {يُحَلَّوْنَ} (التحلية : بازيور كردن) أي : يلبسون على سبيل التزين والتحلي نساء ورجالاً خبر ثان أو حال مقدرة {فِيهَا} أي : في تلك الجنات {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} من الأولى تبعيضية والثانية بيانية.
وأساور جمع أسورة وهو جمع سوار مثل كتاب وغراب معرب "دستواره" والمعنى يحلون بعض أساور من ذهب لأنه أفضل من سائر أفرادها أي : بعضاً سابقاً لسائر الأبعاض
351
كما سبق المسورون به غيرهم وقال في سورة هل أتى {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} (الإنسان : 21) قيل يجمع لهم الذهب والفضة جميعاً وهو أجمل أو بعضهم يحلون بالذهب وهم المقربون وبعضهم يحلون بالفضة وهم الأبرار {وَلُؤْلُؤًا} بالنصب عطفاً على محل من أساور.
واللؤلؤ الدر سمي بذلك لتلألئه ولمعانه والمعنى ويحلون لؤلؤاً.
قال الكاشفي : (نانه ادشاهان عجم).
وقرىء بالجر عطفاً على ذهب أي : من ذهب مرصع باللؤلؤ ومن ذهب في صفاء اللؤلؤ وذلك لأنه لم يعهد الأسورة من نفس اللؤلؤ إلا أن تكون بطريق النظم في السلك.
وقال في "بحر العلوم" : عطف على ذهب فإنهم يسورون بالجنسين أساور من ذهب ومن لؤلؤ وذلك على الله يسير وكم من أمر من أمور الآخرة يخالف أمور الدنيا وهذا منها
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} لا كحرير الدنيا فإنه لا يوجد من معناه في الدنيا إلا الاسم واللباس اسم ما يلبس وبالفارسية : (جامه ووشش) والحرير من الثياب مارق كما في "المفردات" وثوب يكون سداه ولحمته ابريسما وإن كان في الأصل الابريسم المطبوخ كما في القهستاني.
ويحرم لبسه على الرجال دون النساء إلا في الحرب ولكن لا يصلي فيه إلا أن يخاف العدو أو لضرورة كحكة أو جرب في جسده أو لدفع القمل ولا يلبسه وإن لم يتصل بجلده وهو الصحيح وجاز أن يكون عروة القميص وزره حريراً كالعلم في الثوب ولا بأس أن يشد خماراً أسود من الحرير على العين الرامدة والناظرة إلى الثلج وأن تكون التكة حريراً ورخص قدر أربع أصابع كما هي.
وقيل مضمومة ولا يجمع المتفرق من الحرير.
ويجوز عند الإمام أن يجعل الحرير تحت رأسه وجنبه ويكره عندهما وبه أخذ أكثر المشايخ.
وعلى هذا الخلاف تعليق الحرير على الجدر ولا بأس بالجلوس على بساط الحرير والصلاة على السحادة منه ويوضع ملاءة الحرير على مهد الصبي.
ويلبس الرجل في الحرب وغيره بلا كراهة إجماعاً ما سداه ابريسم ولحمته وغيره سواء كان مغلوباً أو غالباً أو مساوياً للحرير وهو الصحيح.
ويلبس عكسه أي : ما لحمته ابريسم وسداه غيره في حرب فقط.
وكره إلباس الصبي ذهباً أو حريراً لئلا يعتاده والإثم على الملبس لأن الفعل مضاف إليه.
وكذا يكره كل لباس خلاف السنة والمستحب أن يكون من القطن والكتان أو الصوف.
وأحب الألوان البياض.
ولبس الأخضر سنة.
ولبس الأسود مستحب ولا بأس بالثوب الأحمر كما في الزاهدي الكل من القهستاني وقد سبق باقي البيان في سورة الحج وغيرها {وَقَالُوا} أي : ويقولون عند دخول الجنة حمداً لربهم على ما صنع بهم وصيغة الماضي للدلالة على التحقق وبالفارسية : (وكويند اين جمع ون ازحفره دوزخ برهند وبروضه بهشت برسند) {الْحَمْدُ} أي : الإحاطة بأوصاف الكمال لمن له تمام القدرة {الَّذِى أَذْهَبَ} أزال {عَنَّا} بدخولنا الجنة {الْحَزَنَ} الحزن بفتحتين والحزن بالضم والسكون واحد وهو خشونة الأرض وخشونة في النفس لما يحصل فيه من الغم ويضاده الفرح.
وفي "التأويلات النجمية" : سمي الحزن حزناً لحزونة الوقت على صاحبه وليس في الجنة وهي جوار الحضرة حزونة وإنما هي رضى واستبشار انتهى.
والمراد جنس الجزن سواء كان حزن الدنيا أو حزن الآخرة من هم المعاش وحزن زوال النعم والجوع والعطش وقوت من الحلال وخوف السلطان ودغدغة التحاسد والتباغض وحزن الأعراض والآفات ووسوسة إبليس والسيآت
352
ورد الطاعات وسوء العاقبة والموت وأهوال يوم القيامة والنار والمرور على الصراط وخوف الفراق وتدبير الأحوال وغير ذلك وفي الحديث "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في منشرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم ينفضون التراب عن وجوههم ويوقولون الحمدالذي أذهب عنا الحزن".
قال أبو سعيد الخراز قدس سره : أهل المعرفة في الدنيا كأهل الجنة في الآخرة فتركوا الدنيا في الدنيا فتنعموا وعاشوا عيش الجنانيين بالحمد والشكر بلا خوف ولا حزن.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
(7/275)
جنت نقدست اينجا ذوق ارباب حضور
دردل ايشان نباشد حزن وغم تانفخ صور
{إِنَّ رَبَّنَا} المحسن إلينا مع إساءتنا {لَغَفُورٌ} للمذنبين فيبالغ في ستر ذنوبهم الفائتة للحصر {شَكُورٌ} للمطيعين فيبالغ في إثابتهم فإن الشكر من الله الإثابة والجزاء والوفاق.
وفي "التأويلات" : غفور للظالم لنفسه شكور للمقتصد والسابق وإنما قدم ما للظالم رفقاً بهم لضعف أحوالهم انتهى.
ثم وصفوا الله بوصف آخر هو شكر له فقالوا :
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَا إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِه لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا} .
{الَّذِى أَحَلَّنَا} أنزلنا يقال حلت نزلت من حل الأحمال عند النزول ثم جرد استعماله للنزول فقيل : حل حلولاً وأحله غيره والمحلة مكان النزول كما في "المفردات" {دَارَ الْمُقَامَةِ} مفعول ثانٍ لأحل وليست بظرف لأنها محدودة.
والمقامة بالضم مصدر تقول أقام يقيم إقامة ومقامة أي : دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبداً فلا يريد النازل بها ارتحالاً منها ولا يراد به ذلك {مِّن فَضْلِهِ} أي : من أنعامه وتفضله من غير أن يوجبه شيء من قبلنا من الأعمال فإن الحسنات فضل منه أيضاً فلا واجب عليه.
وذلك أن دخول الجنة بالفضل والرحمة واقتسام الدرجات بالأعمال والحسنات هذا مخلوق تحت رق مخلوق مثله لا يستحق على سيده عوضاً لخدمته فكيف الظن بمن له الملك على الإطلاق أيستحق من يعبده عوضاً عن عبادته تعالى الله عما يقول المعتزلة من الإيجاب.
وفي "التأويلات" وبقوله : {الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} من فضله كشف القناع عن وجه الأحوال كلها فدخل كل واحد من الظالم والمقتصد والسابق في مقام أحله الله فيه من فضله لا بجهده وعمله وأن الذي أدخله الله الجنة جزاء بعمله فتوفيقه للعمل الصالح أيضاً من فضل الله وهذا حقيقة قوله عليه السلام : "قبل من قبل لا لعلة ورد من رد لا لعلة" {لا يَمَسُّنَا} المس كاللمس وقد يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى والمعنى بالفارسية : (نميرسد مارا) {فِيهَا} أي : في دار الإقامة في وقت من الأوقات {نَصَبٌ} تعب بدن ولا وجع كما في الدنيا {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} كلال وفتور إذ لا تكليف فيها ولا كدّ وبالفارسية : (ماندكى وملال ه كفتى ومحنتى نيست دروى بلكه همه عيش وحضور وفرح وسرورست) وإذا أرادوا أن يروه لا يحتاجون إلى قطع مسافة وانتظار وقت بل هم في غرفهم يلقون فيها تحية وسلاماً وإذا رأوه لا يحتاجون إلى تحديق مقلة في جهة يرونه كما هم بلا كيفية كل صفة لهم أرادت الرؤية لقوله تعالى : {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُ} (الزخرف : 71) والفرق بين النصب واللغوب أن النصب نفس المشقة والكلفة واللغوب ما يحدث منه من الفتور للجوارح.
قال أبو حيان هو لازم من تعب البدن فهي الجديرة لعمري بأن يقال فيها :
353
علياء لا تنزل الأحزان ساحتها
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
لو مسها حجر مسته سراء
والتصريح بنفي الثاني مع استلزام نفي الأول له وتكرير الفعل المنفي للمبالغة في بيان انتفاء كل منهما.
(7/276)
ـ روي ـ عن الضحاك رحمه الله قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة استقبلهم الولدان والخدم كأنهم اللؤلؤ المكنون فبعث الله من الملائكة من معه هدية من رب العالمين وكسوة من كسوة الجنة فيلبسه فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك كما أنت ويقف ومعه عشرة خواتيم من خواتيم الجنة هدية من رب العالمين فيضعها في أصابعه مكتوب في أول خاتم منها {سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ} (الزمر : 73) وفي الثاني مكتوب {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍا ذَالِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (ق : 34) وفي الثالث مكتوب "رفعت عنكم الأحزان والهموم" وفي الرابع مكتوب "زوجناكم الحور العين" وفي الخامس مكتوب {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ ءَامِنِينَ} (الحجر : 46) وفي السادس مكتوب {إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} (المؤمنون : 111) وفي السابع مكتوب {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآاـاِزُونَ} (المؤمنون : 111) وفي الثامن مكتوب "صرتم آمنين لا تخافوا أبداً" وفي التاسع مكتوب "رافقتم النبيين والصديقين والشهداء" وفي العاشر مكتوب "في جوار من لا يؤذي الجيران" ثم يقول الملك {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ ءَامِنِينَ} فلما دخلوا {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} إلى آخر الآية (اى جوانمرد.
قدر ترياق مار كزيده دند.
قدر آتش سوزان روانه داند.
قدر يرهن يوسف يعقوب غمكين داند اوكه مغرور سلامت خويش است اكر اورا ترياق دهى قدر آن ه داند جان بلب رسيده بايد تاقدر ترياق بداند درويشى دل شكسته غم خورده اندوه كشيده بايد تاقدر اين شناسد وعزاين خطاب بداندكه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} باش تافردا كه آن درويش دلريش را در حظيره قدس بر سرير سرور نشانند وآن غلمان وولدان غكرواريش تخت دولت او سماطين بركشند شب محنت بايان رسيده خورشيد سعادت از افق كرامت برآمده وحضرت عزت از الطاف وكرم روى بدرويش نهاده بزبان ناز ودلال همى كويد بنعت شكر {الْحَمْدُ} ) الخ :
نماند اين شب تاريك ميرسد سحرش
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
نماند ابر زخورشيد ميرود كدرش
نسأل الله الانكشاف.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} جحدوا بوجود الله تعالى أو بوحدته {لَهُمْ} بمقابلة كفرهم الذي هو أكبر الكبائر وأقبح القبائح {نَارُ جَهَنَّمَ} التي لا تشبه ناراً {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ} لا يحكم عليهم بموت ثان يعني : (وقتى كه در دوزخ باشند) {فَيَمُوتُوا} ويستريحوا من العذاب ونصبه بإضمار ان لأنه جواب النفي {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} طرفة عين بل كلما خبت زيد استعارها يعني : (هركاه كه آتش فرونشيند زياده كنند احراق والتهاب اورا).
وقوله كلما خبت لا يدل على تخفيف عنهم بل على نقصان في النار ثم يزداد كما في "كشف الأسرار".
قوله عنهم نائب مناب الفاعل ومن عذابها في موقع النصب أو بالعكس وإن كانت زائدة يتعين له الرفع {كَذَالِكَ} أي : مثل هذا الجزاء الفظيع {نَجْزِى} (جزاميدهيم) {كُلَّ كَفُورٍ} مبالغ في الكفر أو في الكفران لا جزاء أخف وأدنى منه.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَالِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـالِحًا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُا أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُا فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ * إِنَّ اللَّهَ عَـالِمُ غَيْبِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{وَهُمْ} أي : الكفار {يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} يستغيثون وبالفارسية : (فرياد ميخواهند در
354
(7/277)
دوزخ) والاصطراخ افتعال من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدة دخلت الطاء فيه للمبالغة كدخولها في الاصطبار والاصطناع والاصطياد استعمل في الاستغاثة بالفارسية (فرياد خواستن وشفاعت كردن خواستن) لجهر المستغيث صوته {رَبَّنَآ} بإضمار القول يقولون ربنا {أَخْرِجْنَا} من النار وخلصنا من عذابها وردنا إلى الدنيا {نَعْمَلْ صَـالِحًا} (عمل بسنديده) أي : نؤمن بدل الكفر ونطيع بدل المعصية وذلك لأن قبول الأعمال مبني على الإيمان {غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ} قيدوا العمل الصالح بهذا الوصف إشعاراً بأنهم كانوا يحسبون ما فعلوه صالحاً والآن تبين خلافه إذ كان هوى وطبعاً ومخالفة يعني : (اكنون عذاب را معاينه ديديم ودانستيم كه كردارمادر دنيا شايسته نبود) {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} جواب من جهته تعالى وتوبيخ لهم والهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام (والتعمير : زندكانى دادن) والعمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة وما نكرة موصوفة أو مصدر يراد به الزمان كقولك آتيك غروب الشمس (والتذكر : ندكر فتن) والمعنى ألم نعطكم مهلة ولم نعمركم عمراً أو تعميراً أو وقتاً وزمناً يتذكر فيه من تذكر وإلى الثاني مال الكاشفي حيث قال بالفارسية : (آيا زندكانى نداديم وعمر ارزانى نداشتيم شمارا آن مقدار ندكيريد ودران عمر هركه خواهد كه ند كيرد) ومعنى يتذكر فيه أي : يتمكن فيه المتذكر من التذكر والتفكر لشأنه وإصلاح حاله وإن قصر إلا أن التوبيخ في المطاولة أعظم يعني إذا بلغ حد البلوغ يفتح الله له نظر العقل فيلزم حينئذٍ على المكلف أن ينظر بنظر العقل إلى المصنوعات فيعرف صانعها ويوحده ويطيعه فإذا بلغ إلى الثماني عشرة أو العشرين أو ما فوق ذلك يتأكد التكليف ويلزم الحجة أشد من الأول وفي الحديث "اعذر الله إلى امرىء وأخر أجله حتى بلغ ستين سنة" أي : أزال عذره ولم يبق منه موضعاً للاعتذار حيث أمهله طول هذه المدة ولم يتعذر ولعل تعيين الستين ما قال عليه السلام : "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين" وأقلهم من يجوز ذلك فإذا بلغ الستين وجاوزها كانت السبعون آخر زمان التذكر لأن ما بعدها زمان الهرم وفي الحديث : "إنملكاً ينادي كل يوم وليلة أبناء الأربعين زرع قد دنا حصاده وأبناء الستين ما قدمتم وما عملتم وأبناء السبعين هلموا إلى الحساب".
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
وكان الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره : إذا قام إليه شاب ليتوب يقول : يا هذا ما جئت حتى طلبوك ولا قدمت من سفر الجفاء حتى استحضروك يا هذا ما تركناك لما تركتنا ولا نسيناك لما نسيتنا أنت في إعراضك وعيننا تحفظك ثم حركناك لقربنا وقدمناك لأنسنا.
وكان إذا قام إليه شيخ ليتوب يقول يا هذا أخطأت وأبطأت كبر سنك وتمردجنك هجرتنا في الصبى فعذرناك وبادرتنا في الشباب فمهلناك فلما قاطعتنا في المشيب مقتناك فإن رجعت إلينا قبلناك.
ذل زدنيا زودتر كردد جوانا نرا خنك
كهنكى از سردىء آبست مانع كوزه را
وكان جماعة من الصحابة ومن بعدهم إذا بلغ أربعين سنة أو رأى شيباً بالغ في الاجتهاد وطوى الفراش وأقبل على قيام الليل وأقل معاشرة الناس ولا فرق في ذلك بين الأربعين فما دونها
355
لأن الأجل مكتوم لا يدري متى يحل أيقظنا الله وإياكم من رقدة الغافلين {وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ} عطف على الجملة الاستفهامية لأنها في معنى قد عمرناكم حيث أن همزة الإنكار إذا دخلت على حرف النفي أفادت التقرير كما في قوله تعالى : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا} (الانشراح : 1) الخ لأنه في معنى قد شرحنا الخ.
والمراد بالنذير رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليه الجمهور أو ما معه من القرآن أو العقل فإنه فارق بين الخير والشر أو موت الأقارب والجيران والإخوان أو الشيب وفيه أن مجيىء الشيب ليس بعام للجميع عموم ما قبله.
قال الكاشفي : (وأكثر علما برآنند كه مراد از نذير شيب است ه زمان شيب فلارو نشاننده شعله حياتست وموسم يرى زنك فزاينده آيينه ذات) :
نوبت يرى و زند كوس درد
دل شود ازخوشد لى وعيش فرد
درتن واندام در آيد شكست
لرزه كند اى زسستى ودست
موى سفيد از اجل آرد يام
شت خم ازمرك رساند سلام
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
(7/278)
قيل : أول من شاب من ولد آدم عليه السلام إبراهيم الخليل عليه السلام فقال : ما هذا يا رب؟ قال : هذا وقار في الدنيا ونور في الآخرة فقال : رب زدني من نورك ووقارك ، وفي الحديث : "إن الله يبغض الشيخ الغربيب" أي : الذي لا يشيب كما في "المقاصد الحسنة".
وقال في "الكواشي" : يجوز أن يراد بالنذير كل ما يؤزن بالانتقال فلا بد من التنبه عند مجيئه ولذا قال أهل الأصول الصحيح من قولي محمد أن الحج يجب موسعاً يحل فيه التأخير إلا إذا غلب على ظنه أنه إذا أخر يفوت فإذا مات قبل أن يحج فإن كان الموت فجأة لم يلحقه إثم وإن كان بعد ظهور إمارات يشهد قلبه بأنه لو أخر يفوت لم يحل له التأخير ويصير مضيقاً عليه لقيام الدليل فإن العمل بدليل القلب أوجب عند عدم دلالته (در موضح آورده كه ون دوزخيان استغاثه كنند وبفرياد آيند وكويند خدايا مارا بدنيا فرست تا عمل خير كنيم بمقدار زمان دنيا از اول ابداع تا آخر انقطاع فرياد كنند تا حق سبحانه وتعالى جواب فرمايدكه زندكانى دادم شمارا ونذير فرستادم بشما كويند بلا زندكانى يافتيم ونذيررا ديديم خداى تعالى فرمايد) {فَذُوقُوا} (س بشيد عذاب دوزخ فالفاء لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجيىء النذير {فَمَا} ) الفاء للتعليل {لِلظَّـالِمِينَ} على أنفسهم بالكفر والشرك {مِن نَّصِيرٍ} يدفع العذاب عنهم.
وفيه إشارة إلى أنهم كانوا في الدنيا نائمين ولذا لم يذوقوا الألم فلما ماتوا وبعثوا وتيقظوا تيقظاً تاماً ذاقوا العذاب وأدركوه {إِنَّ اللَّهَ عَـالِمُ غَيْبِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي : يختص بالله علم كل شيء فيهما غاب عن العباد وخفي عليهم فكيف يخفى عليه أحوالهم وإنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه {إِنَّهُ} تعالى {عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} لم يقل ذوات الصدور لإرادة الجنس وذات تأنيث ذي بمعنى صاحب والمعنى عليم بالمضمرات صاحبة الصدور أي : القلوب وبالفارسية : (داناست بيزها كه مضمراست درسينها) فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه وجعلت الخواطر القائمة بالقلب صاحبة له بملازمتها وحولها كما يقال للبن ذو الإناء ولولد المرأة وهو جنين ذو بطنها فالإضافة لأدنى ملابسة.
وفي "التأويلات
356
النجمية" أي : عالم بإخلاص المخلصين وصدق الصادقين وهما من غيب سموات القلوب وعالم بنفاق المنافقين وجحد الجاحدين وهما من غيب أرض النفوس انتهى.
ففيه وعد ووعيد وحكم الأول الجنة والقربة وحكم الثاني النار والفرقة.
قيل : لا يا رب إلا ما لا خير فيه قال كذلك لا أدخل النار من عبادي إلا من لا خير فيه وهو الإيمان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
در خلائق روحهاى اك هست
روحهاى شيره كلناك هست
واجتست اظهار اين نيك وتباه
همنان اظهار كندمها زكاه
{إِنَّ اللَّهَ عَـالِمُ غَيْبِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ * هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائفَ فِى الارْضِا فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه وَلا يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا * قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى} .(7/279)
{هُوَ} أي : الله تعالى وهو مبتدأ خبره قوله : {الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائفَ فِى الأرْضِ} جمع خليفة وأما خلفاء فجمع خليف وكلاهما بمعنى المستخلف أي : جعلكم خلفاء في أرضه وألقى إليكم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها وأباح لكم منافعها أو جعلكم خلفاء ممن كان قبلكم من الأمم وأورثكم ما بأيديهم من متاع الدنيا لتشكروه بالتوحيد والطاعة.
وفيه إشارة إلى أن كل واحد من الأفاضل والأراذل خليفة من خلفائه في أرض الدنيا.
فالأفاضل يظهرون جمال صنائعه في مرآة أخلاقهم الربانية وعلومهم اللدنية.
والأراذل يظهرون كمال بدائعه في مرآة حرفهم وصنعة أيديهم.
ومن خلافتهم أن الله تعالى استخلفهم في خلق كثير من الأشياء كلخبز فإنه تعالى يخلق الحنطة بالاستقلال والإنسان بخلافته يطحنها ويخبزها وكالثوب فإنه تعالى يخلق القطن والإنسان يغزله وينسج منه الثوب بالخلافة وهلمّ جرا {فَمَن} (س هركه) {كَفَرَ} منكم نعمة الخلافة بأن يخالف أمر مستخلفه ولا ينقاد لأحكامه ويتبع هواه {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي : وبال كفره وجزاؤه وهو الطرد واللعن والنار لا يتعداه إلى غيره {وَلا يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا} .
قال الراغب المقت البغض الشديد لمن يراه متعاطياً لقبيح يعني : (نتيجه كفرايشان بنسبت مكر بغض رباني كه سبب غضب جاودانى همان تواند بود) {وَلا يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا} (مكر زياني در آخرت كه حرمانست ازجنت) والتكرير لزيادة التقرير والتنبيه على أن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين الهائلين القبيحين بطريق الاستقلال والأصالة.
والتنكير للتعظيم أي : مقتاً عظيماً ليس وراءه خزي وصغار وخساراً عظيماً ليس بعده شر وتبار.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{قُلْ} تبكيتاً لهم {أَرَءَيْتُمْ} (آياديديد) {شُرَكَآءَكُمُ} أي : آلهتكم وأصنامكم والإضافة إليهم حيث لم يقل شركائي لأنهم جعلوهم شركاء الله وزعموا ذلك من غير أن يكون له أصل مّا أصلاً {الَّذِينَ تَدْعُونَ} (ميخوانيد ايشانرا ومى رستيد) {مِن دُونِ اللَّهِ} أي : حال كونكم متجاوزين دعاء الله وعبادته {أَرُونِى} أخبروني وبالفارسية : (بنماييد وخبر كنيدمرا) وذلك لأن الرؤية والعلم سبب الأخبار فاستعمل الإراءة في الأخبار وهو بدل من أرأيتم بدل اشتمال كأنه قيل اخبروني عن شركائكم أروني {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ} أي : جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله والمراد من الاستفهام نفي ذلك وبالفارسية : (اين شركا ه يز آفريده اند از زمين وآنه درو برويست) {أَمْ لَهُمْ} (آيا هست ايشانرا) {شِرْكٌ فِى السَّمَـاوَاتِ} شركة مع الله في خلق السموات ليستحقوا بذلك شركة في الألوهية
357
ذاتية {قُلْ أَرَءَيْتُمْ} أي : الشركاء ويجوز أن يكون الضمير للمشركين {كِتَـابًا} ينطق بإنا اتخذناهم شركاء {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِّنْهُ} أي : حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية.
ولما نفى أنواع الحجج في ذلك أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه وهو التقرير فقال : {بَلْ} (نه نين است بلكه) {إِنَّ} نافية أي : ما {يَعِدُ الظَّـالِمُونَ} (وعده نمى دهند مشركان برخى ايشان كه اسلاف يا رؤسا واشرافند) {بَعْضًا} (برخى ديكررا كه اخلاف ويا اراذل واتباعند) {إِلا غُرُورًا} باطلاً لا أصل له وهو قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله وهو تغرير محض يسفه بذلك آراءهم وينبئهم على ذميم أحوالهم وأفعالهم وخسة هممهم ونقصان عقولهم بإعراضهم عن الله وإقبالهم على ما سواه.
فعلى العاقل أن يصحح التوحيد ويحققه ولا يرى الفاعل والخالق إلا الله.
وعن ذي النون رضي الله عنه قال : بينا أنا أسير في تيه بني إسرائيل إذا أنا بجارية سوداء قد استلبها الوله من حب الرحمن شاخصة ببصرها نحو السماء فقلت : السلام عليك يا أختاه فقالت : وعليك السلام ياذا النون فقلت لها من أين عرفتني يا جارية فقالت : يا بطال إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ثم ادارها حول العرش فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فعرفت روحي روحك في ذلك الجولان فقلت : إني لأراك حكيمة علميني شيئاً مما علمك الله فقالت : يا أبا الفيض ضع على جوارحك ميزان القسط حتى يذوب كل ما كان لغير الله ويبقى القلب مصفى ليس فيه غير الرب فحينئذٍ يقيمك على الباب ويوليك ولاية جديدة ويأمر الخزان لك بالطاعة فقلت : يا أختاه زيديني فقالت : يا أبا الفيض خذ من نفسك لنفسك وأطع اي إذا خلوت يجبك إذا دعوت ولن يستجيب إلا من قلب غير غافل وهو قلب الموحد الحقيقي الذي زال عنه الشرك مطلقاً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
اكره آينه دارى از براى رخش
ولى ه سودكه دارى هميشه آينه تار
بيا بصيقل توحيد زآينه بزدآى
غبار شرك كه تا ك كرددا ز نكار(7/280)
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الارْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَـاوَاتِ أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِّنْه بَلْ إِن يَعِدُ الظَّـالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلا غُرُورًا * إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ أَن تَزُولا وَلَـاـاِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّنا بَعْدِه إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ لئن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الامَمِا فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِى الارْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىاِا وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الاوَّلِينَا فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} أي : يحفظهما بقدرته فإن الإمساك ضد الإرسال وهو التعلق بالشيء وحفظه {أَن تَزُولا} الزوال الذهاب وهو يقال في كل شيء قد كان ثابتاً قبل أي : كراهة زوالهما عن أماكنهما فإن الممكن حال بقائه لا بد له من حافظ فعلى هذا يكون مفعولاً له أو يمنعهما من أن تزولا لأن الإمساك منع يقال أمسكت عنه كذا أي : منعته فعلى هذا يكون مفعولاً به {وَلَـاـاِن زَالَتَآ} أي : والله لئن زالت السموات والأرض عن مقرهما ومركزهما بتخليتهما كما يكون يوم القيامة {إِنَّ} نافية أي : ما {أَمْسَكَهُمَا} (نكاه ندارد ايشانرا) أي : ما قدر على إعادتهما إلى مكانهما {مِنْ أَحَدٍ} (هي يكى) ومن مزيدة لتأكيد نفي الإمساك عن كل أحد {مِّنا بَعْدِهِ} من للابتداء أي : من بعد إمساكه تعالى أو من بعد الزوال والجملة سادة مسد الجوابين للقسم والشرط {إِنَّهُ} سبحانه {كَانَ حَلِيمًا} غير معاجل بالعقوبة التي تستوجبها جنايات الكفار حيث أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدّاً لعظم كلمة الشرك {غَفُورًا} لمن رجع عن كلمة الكفر وقال بالوحدانية.
والحلم ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب كما في "المفردات".
والفرق بين الحليم والصبور
358
أن المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم يعني أن الصبور يشعر بأنه يعاقب في الآخرة بخلاف الحليم كما في المفاتيح ولعل هذا بالنسبة إلى المؤمنين دون الكفار.
قال في"بحر العلوم" : الحليم مجازي أي : يفعل بعباده فعل من يحلم على المسيء ولا يعاجلهم بالعقوبة مع تكاثر ذنوبهم.
وفي "شرح الأسماء" : للإمام الغزالي رحمه الله تعالى الحليم هو الذي يشاهد معصية العصاة ويرى مخالفة الأمر ثم لا يستفزه غضب ولا يعتريه غيظ ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام مع غاية الاقتدار عجلة وطيش.
فعلى العاقل أن يتخلق بهذا الاسم بأن يصفح عن الجنايات ويسامح في المعاملات بل يجازي الإساءة بالإحسان فإنه من كمالات الإنسان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
بدى را بدى سهل باشد جزا
اكر مردى احسن الى من اساء
ـ روي ـ عن بعضهم أنه كان محبوساً وكان يعرض غدوة وعشية ليقتل فرأى النبي عليه السلام في النوم فقال له : اقرأ وأشار إلى هذا الآية فقال : كم أقرأ؟ فقال : أربعمائة مرة فقرأ فلم يذكر عشرين ليلة حتى أخرج.
ولعل سره أن السموات والأرض إشارة إلى الأرواح والأجساد فكما أن الله تعالى يحفظ عالم الصورة من أوجه وحضيضه فكذا يحفظ ما هو أنموذجه وهو عالم الإنسان.
وأيضاً أن الجاني وإن كان مستحقاً للعقوبة لكن مقتضى الاسم الحليم ترك المعاجلة بل الصفح بالكلية ففي مداومة الآية استعطاف واستنزال للرحمة على الجسم والروح وطلب بقائهما.
واعلم أن التوحيد سبب لنظام العالم بأسره ألا يرى أنه لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله أي : لا يوجد من يوحد توحيداً حقيقياً فإنه إذا انقرض أهل هذا التوحيد وانتقل الأمر من الظهور إلى البطون يزول العالم وينتقض أجزاؤه لأنه إذا يكون كجسد بلا روح والروح إذا فارق الجسد يتسارع إلى الجسد البلي والفساد.
ففي الآية أخبار عن عظيم قدرة الله على حفظ السموات والأرض وإمساكهما عن الزوال والذهاب وأن الإنسان الكامل من حيث أنه خليفة الله هو العماد المعنوي فيه يحفظ الله عالم الأرواح والأجسام.
وفي "الفتوحات المكية" : لا بد في كل إقليم أو بلد أو قرية من ولي به يحفظ الله تلك الجهة سواء كان أهل تلك الجهة مؤمنين أو كفاراً.
ـ يروى ـ أن آخر مولود في النوع الإنساني يكون بالصين فيسري بعد ولادته العقم في الرجال والنساء ويدعوهم إلى الله فلا يجاب في هذه الدعوة فإذا قبضه الله وقبض مؤمني زمانه بقي من بقي مثل البهائم لا يحلون حلالاً ولا يحرمون حراماً فعليهم تقوم الساعة وتخرب الدنيا وينتقل الأمر إلى الآخرة.
مدار نظم امور جهان انسانست
جميع اهل جهان جسم وجان انسانست
فناى عالم صورت برحلتش مربوط
(7/281)
مقام بود سما اوت كرد بارض هبوط
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} أقسم حلف أصله من القسامة وهي أيمان تقسم على أولياء المقتول ثم صار اسماً لكل حلف كما في "المفردات" والضمير لمشركي مكة والمعنى بالفارسية : (وسوكند خوردند اهل مكة بخداى تعالى) {جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ} مصدر في موقع الحال أي : جاهدين في أيمانهم.
والجهد والجهد الطاقة والمشقة.
وقيل الجهد بالفتح المشقة وبالضم الوسع والإيمان
359
بالفتح جمع يمين واليمين في الحلف مستعار من اليمين بمعنى اليد اعتباراً بما يفعل المحالف والمعاهد عنده.
قال الراغب : أي : حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم انتهى وكان أهل الجاهلية يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك وكانوا يحلفون بالله ويسمونه جهد اليمين وهي اليمين المغلظة كما قال النابغة :
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مطلب
أي كما أن الله تعالى أعلى المطالب كذلك الحلف به أعلى الاحلاف.
ـ روي ـ أن قريشاً بلغهم قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وحلفوا {لَـاـاِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ} أي : والله لئن جاء قريشاً نبي منذر {لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى} أطوع وأصوب ديناً {مِنْ إِحْدَى الامَمِ} (از يكى امتان كذشته) أي : من كل من اليهود والنصارى وغيرهم لأن إحدى شائعة.
والأمم جمع فليس المراد إحدى الأمتين اليهود والنصارى فقط ولم يقل من الأمم بدون إحدى لأنه لو قال لجاز أن يراد بعض الأمم وقوله في أواخر الأنعام {أَن تَقُولُوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَـابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} (الأنعام : 156) أي : اليهود والنصارى ثم قوله : {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَـابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ} (الأنعام : 157) أي : إلى الحق لا ينافي العموم لأن تخصيص الطائفتين وكتابيهما إنما هو لاشتهارهما بين الأمم واشتهارهما فيما بين الكتب السماوية.
وقال بعضهم : معنى من إحدى الأمم من الأمة التي يقال لها إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها في الهدي والاستقامة ومنه قولهم للداهية هي إحدى الدواهي أي : العظيمة وإحدى سبع أي : إحدى ليالي عاد في الشدة وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان لما كان مركباً من الروح والجسد فبروحانيته يميل إلى الدين وما يتعلق به وببشريته يميل إلى الدنيا وما يتعلق بها الكافر والمؤمن فيه سواء إلا أن الكافر إذا مال إلى شيء من الدين بحسب غلبة روحانيته على بشريته وعاهد عليه ثم وقع في معرض الوفاء به لم توافقه نفسه لأنها مائلة إلى الكفر راغبة عن الدين وظلمة الكفر تحرّضه على نقض العهد فينقضه وأن المؤمن إذا مال إلى شيء من الدنيا بحسب غلبة بشريته على روحانيته وعاهد عليه وهو يريد الوفاء به يمنعه نور إيمانه عن ذلك ويحرضه على نقض العهد فينقضه وكذلك المريد الصادق إذا اشتد عليه القبض وملت نفسه من مقاساة شدة الرياضة والمجاهدة يمني نفسه بنوع من الرخص استمالة لها وربما عاهد الله عليه ويؤكد الشيطان فيه عهده ويمنيه وبعده فإذا وقع في معرض الوفاء وأراد أن يفي بعده فإذا صدقت إرادته تسبق عزيمته وتحرك سلسلة طلبه فينقض عهده مع النفس ويجدد عهد الطلب مع الله ويتمسك بدوام الذكر وملازمته إلى أن يفتح الله بمفتاح الذكر باب قلبه إلى الحضرة ويزهق بمجيىء الحق باطل ما تمناه {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ} وأي نذير أفضل الكل وأشرف الأنبياء والرسل عليهم السلام {مَّا زَادَهُمْ} أي : النذير أو مجيئه على التسبب {إِلا نُفُورًا} تباعداً عن الحق والهدي وبالفارسية : (مكر رميدن از حق ودورشدن).
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ لئن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الامَمِا فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِى الارْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىاِا وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الاوَّلِينَا فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةًا وَمَا كَانَ اللَّهُ} .
{اسْتِكْبَارًا فِى الأرْضِ} بدل من نفوراً أو مفعول له يعني عتواً على الله وتكبراً عن الإيمان به وبالفارسية : (كردن كشى ازفرمان
360
الهي).
قال في "بحر العلوم" : الاستكبار التكبر كالاستعظام والتعظم لفظاً ومعنى انتهى.
قال بعض الكبار : إن الله تعالى قد أنشأك من الأرض فلا ينبغي لك أن تعلو على أمك.
زخاك آفريدت خداوند اك
س اى بنده افتادكى كن وخاك
(7/282)
{وَمَكْرَ السَّيِّىاِ} عطف على استكباراً أو على نفوراً وأصله أن مكروا المكر السيىء فحذف الموصوف استغناء بوصفه ثم بدل أن مع الفعل بالمصدر ثم أضيف اتساعاً.
قال في "تاج المصادر" : (المكر : تاريك شدن شب) ومنه اشتق المكر لأنه السعي بالفساد في خفية.
وقال الراغب : المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وذلك ضربان محمود وهو أن يتحرى بذلك فعل جميل وعلى ذلك قوله : {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ} ومذموم وهو أن يتحرى به فعل قبيح انتهى ومنه الآية ولذا وصف بالسيىء والمعنى ما زادهم إلا المكر السيىء في دفع أمره عليه السلام بل وفي قتله وإهلاكه وبالفارسية : (وآنكه مكر كردند مكرى بد يعنى حيله انديشيدند درهلاك كردن آن تدبير) {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} .
قال في "القاموس" : حاق به يحيق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً أحاط به كأحاق وحاق بهم العذاب أحاط ونزل كما في "المختار" والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله والمعنى ولا يحيط المكر السيىء إلا بأهله وهو الماكر وقد حاق بهم يوم بدر وبالفارسية : (وأحاطه نميكنند مكر بدمكر باهل وى يعنى مكر هر ما كرى بوى احاطه كند واطراف وجوانب وى فرو كيرد وهره در باب قصد كسى انديشيده باشد در باره خود مشاهد نمايد).
قال في "بحر العلوم" : المعنى إلا حيقاً ملصقاً بأهله وهو استثناء مفرغ فيجب أن يقدر له مستثنى منه عام مناسب له من جنسه فيكون التقدير ولا يحيق المكر السيىء حيقاً إلا حيقاً بأهله وفي الحديث : "لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله ولا تبغوا ولا تعينوا باغياً فإن الله يقول إنما بغيكم على أنفسكم" وأما قوله عليه السلام : "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" فمعناه بالنسبة إلى نصرة الظالم أن تنصره على إبليس الذي يوسوس في صدره بما يقع منه في الظلم بالكلام الذي تستحليه النفوس وتنقاد إليه فتعينه على رد ما وسوس إليه الشيطان من ذلك وفي حديث آخر "المكر والخديعة في النار" يعني : أصحابهما لأنهما من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار وفي أمثالهم من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً فلا يصيب الشر إلا أهل الشر (وابن باميين را درين باب قطعه است اين دو بيت اينجا ثبت افتاد) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
درباب من زروى حسد يكدو ناشناس
دمها زدند وكوره تزوير تافتند
زاعمال نفسهم همه نيكى بمن رسيد
وايشان جزاى فعل بدخويش يافتند
جعلنا الله وإياكم ممن صفا قلبه من الغل والكدر وحفظنا من الوقوع في الخطر {فَهَلْ يَنظُرُونَ} النظر هنا بمعنى الانتظار أي : ما ينتظرون وبالفارسية : (س آيا انتظار ميبرند مكذبان ومكاران يعنى نمى برند وشم نمى دارند) {اسْتِكْبَارًا فِى الأرْضِ} أي : سنة الله في الأمم المتقدمة بتعذيب مكذبيهم وماكريهم.
والسنة الطريقة وسنة النبي طريقته التي كان يتحراها وسنة الله طريقة حكمته {فَلَن} الفاء لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب من مجيئه {تَجِدَ} (س نيابى توالبته) {لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} بأن يضع موضع العذاب
361
غير العذاب هو الرحمة والعفو {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} بأن ينقله من المكذبين إلى غيرهم (والتحويل : بكردانيدن) ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما بالطريق البرهاني وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما.
وفي الآية تنبيه على أن فروع الشرائع وإن اختلفت صورها فالغرض المقصود منها لا يختلف ولا يتبدل وهو تطهير النفس وترشيحها للوصول إلى ثواب الله وجواره كما في "المفردات".
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأرْضِ} الهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر أي : اقعد مشركوا مكة في مساكنهم ولم يسيروا ولم يمضوا في الأرض إلى جانب الشام واليمن والعراق للتجارة {فَيَنظُرُوا} بمشاهدة آثار ديار الأمم الماضية العاتية {كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ} جاءوا {مِن قَبْلِهِمْ} أي : هلكوا لما كذبوا الرسل وآثار هلاكهم باقية في ديارهم {وَكَانُوا} أي : والحال أن الذين من قبلهم كعاد وثمود وسبأ كانوا {أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (سخترين ازمكيان ازروى توانايى) وأطول أعماراً فما نفعهم طول المدى وما أغنى عنهم شدة القوى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَه مِن شَىْءٍ} (الاعجاز : عاجز كردن) واللام ومن لتأكيد النفي والمعنى استحال من كل الوجوه أن يعجز الله تعالى شيء ويسبقه ويفوته {فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا} تأكيد آخر لما النافية ففي هذا الكلام ثلاثة تأكيدات {فِى الأرْضِ} (س هره خواهد كند وكسى بر حكم او يشى نكيرد) {إِنَّهُ} تعالى {كَانَ عَلِيمًا} بليغ العلم بكل شيء في العالم مما وجد ويوجد {قَدِيرًا} بليغ القدرة على كل ممكن ولذلك علم بجميع أعمالهم السيئة فعاقبهم بموجبها فمن كان قادراً على معاقبة من قبلهم كان قادراً على معاقبتهم إذا كانت أعمالهم مثل أعمالهم والآية وعظ من الله تعالى ليعتبروا :
(7/283)
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
نرود مرغ سوى دانه فراز
ون دكر مرغ بينداندر بند
ند كيراز مصائب دكران
تانكيرند ديكران زتويند
والإشارة أنه ما خاب له تعالى ولي ولا ربح له عدو فقد وسع لأوليائه فضلاً كثيراً ودمر على أعدائه تدميراً وسبب الفضل والولاية هو التوحيد كما أن سبب القهر والعداوة هو الشرك.
قال بعض الكبار : ما أخذ الله من أخذ من الأمم إلا في آخر النهار كالعنين وذلك لأن أسباب التأثير الإلهي المعتاد في الطبيعة قد مرت عليه وما آثرت فيه فدل على أن العنة فيه استحكمت لا تزول فلما عدمت فائدة النكاح من لذة وتناسل فرق بينهما إذ كان النكاح موضوعاً للالتذاذ أو للتناسل أولهما معاً أو في حق طائفة لكذا وفي حق أخرى لكذا وفي حق أخرى للمجموع وكذلك اليوم في حق من أخذ من الأمم إذا انقضت دورته وقع الأخذ الإلهي في آخيه انتهى كلامه قدس سره.
واعلم أن الله تعالى أمهل عباده ولم يأخذهم بغتة ليروا أن العفو والإحسان أحب إليه من الأخذ والانتقام وليعلموا شفقته وبره وكرمه وأن رحمته سبقت غضبه ثم أنهم إذا لم يعرفوا الفضل من العدل واللطف من القهر والجمال من الجلال أخذهم في الدنيا والآخرة بأنواع البلاء والعذاب وهي تطهير في حق المؤمن وعقوبة محضة في حق الكافر لأنه ليس من أهل التطهير إذ التطهير إنما يتعلق بلوث المعاصي غير الكفر
362
عصمنا الله وإياكم مما يوجب سخطه وعذابه وعقابه.
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةًا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَه مِن شَىْءٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلا فِى الارْضِا إِنَّه كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِه بَصِيرَا} .
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} جميعاً {بِمَا كَسَبُوا} من المعاصي وبالفارسية : (واكر مؤاخذه كرد خداى تعالى مردمانرا بجزاى آنه كسب ميكنند از شرك ومعصيت نانكه مؤاخذه كرد امم ماضيه) {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} الظهر بالفارسية : (شت) والكناية راجعة إلى الأرض وإن لم يسبق ذكرها لكونها مفهومة من المقام {مِن دَآبَّةٍ} من نسمة تدب عليها من بني آدم لأنهم المكلفون المجازون ويعضده ما بعد الآية أو من غيرهم أيضاً فإن شؤم معاصي المكلفين يلحق الدواب في الصحاري والطيور في الهواء بالقحط ونحوه.
ولذا يقال : من أذنب ذنباً فجميع الخلق من الإنس والدواب والوحوش والطيور والذر خصماؤه يوم القيامة وقد أهلك الله في زمان نوح عليه السلام جميع الحيوانات إلا ما كان منها في السفينة وذلك بشؤم المشركين وسببهم.
وقال بعض الأئمة : ليس معناه أن البهيمة تؤخذ بذنب ابن آدم ولكنها خلقت لابن آدم فلا معنى لإبقائها بعد إفناء من خلقت له {وَلَاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وقت معين معلوم عند الله وهو يوم القيامة {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} (س ون بيايد وقت هلاك ايشان) {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِه بَصِيرَا} فيجازيهم عند ذلك بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311
آنرا بلوامع رضا بنوازد
اين را بلوامع غضب بكدازد
كس را بقضاى قدرتش كارى نيست
آنست صلاح خلق كوميسازد
وفي الآية : إشارة إلى أنه ما من إنسان إلا ويصدر منه ما يستوجب المؤاخذة ولكن الله تعالى بفضله ورحمته يمهل ثم يؤاخذ من كان أهل المؤاخذة ويعفو عمن هو أهل العفو.
ففي الآية بيان حلمه تعالى وإرشاد للعباد إلى الحلم فإن الحلم حجاب الآفات وملح الأخلاق.
وساد أحنف بن قيس بعقله وحلمه حتى كان يتجرد لأمره مائة ألف سيف وكان أمراء الأمصار يلتجئون إليه في المهمات وهو المضروب به المثل في الحلم وقال له رجل : دلني على المروءة فقال : عليك بالخلق الفسيح والكف عن القبيح ثم قال : ألا أدلك على أدوى الداء قال : بلى قال : اكتساب الذم بلا منفعة.
ومن بلاغات الزمخشري "البأس والحلم حاتمي واحنفي ، والدين والعلم حنيفي وحنفي" وفيه لف ونشر على الترتيب والبأس الشجاعة وفيها السخاوة إذ لا تكون الشجاعة إلا بسخاوة النفس ولا تكون السخاوة إلا بالشجاعة فإن المال محبوب لا يصدر إنفاقه إلا ممن غلب على نفسه.
والجود منسوب إلى حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي.
والحلم منسوب إلى الأحنف المذكور.
والدين منسوب إلى.
والعلم منسوب إلى أبي حنيفة وفي هذا المعنى قيل :
الفقه زرع ابن مسعود وعلقمة
حصاده ثم ابراهيم دوّاس
نعمان طاحنه يعقوب عاجنه
محمد خابز والآكل الناس
ثم إن الحلم لا بد وأن يكون في محله كما قيل :
أرى الحلم في بعض المواضع ذلة
وفي بعضها عزاً يسود فاعله
وكذلك الإحسان فإنه إنما يحسن إذ وقع في موقعه :
هر آنكس كه بردزد رحمت كند
ببازوى خود كاروان ميزند
363
ثم أن البصير هو المدرك لكل موجود برؤيته.
وخاصية هذا الاسم وجود التوفيق فمن قرأه قبل صلاة الجمعة مائة مرة فتح الله بصيرته ووفّقه لصالح القول والعمل نسأل الله سبحانه أن يفتح بصيرتنا إلى جانب الملكوت ويأخذنا عن التعلق بعالم الناسوت ويحلم عنا باسمه الحليم ويختمنا بالخير ويجعلنا ممن أتى بقلب سليم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 311(7/284)
سورة يس
ثلاث وثمانون آية مكية
جزء : 7 رقم الصفحة : 363
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{يس} أما مسرود على نمط التعديل فلا حظ له من الإعراب أو اسم للسورة وعليه الأكثر فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هذه يس أو النصب على أنه مفعول لفعل مضمر أي : اقرأ يس ويؤيد كونه اسم السورة قوله عليه السلام : "إن الله تعالى قرأ طه ويس قبل أن خلق آدم بألفي عام فإذا سمعت الملائكة قالوا : طوبى لأمة ينزل عليهم هذا وطوبى لألسن تتكلم بهذا وطوبى لأجواف تحمل هذا" (ودر خبرست كه ون دوستان حق در بهشت رسند از جناب جبروت ندا آيدكه از ديكران بسيار بشنيديد وقت آن آمدكه از ما شنويد "فيسمعهم سورة الفاتحة وطه ويس" مصطفى عليه السلام كفت) "كأن الناس لم يسمعوا القرآن حين سمعوا الرحمن يتلوه عليهم" كما في "كشف الأسرار".
وقال بعضهم : إن الحروف المقطعة أسماء الله تعالى ويدل عليه أن علياً رضي الله عنه كان يقول : "يا كهيعص يا حمعسق" فيكون مقسماً به مجروراً أو منصوباً بإضمار حرف القسم وحذفه والمراد بحذفه أن لا يكون أثره باقياً وبإضماره أن يبقى أثره مع عدم ذكره ففي نحو الله لأفعلن يجوز النصب بنزع الخافض وأعمال فعل القسم المقدر ويجوز الجر أيضاً بإضمار حرف الجر أي : اقسم بيس أي : الله تعالى.
وفي "الإرشاد" : لا مساغ للنصب بإضمار فعل القسم لأن ما بعده مقسم به وقد أبوا الجمع بين القسمين على شيء واحد قبل انقضاء الأول.
وقال بعض الحكماء الإلهية : إنها أسماء ملائكة هم أربعة عشر كما سبق بيانه في طسم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما وهو قول كثير منهم أن معنى {يس} يا إنسان في لغة طي على أن المراد به رسول عليه السلام ولعل أصله يا أنيسين تصغير إنسان للتكبير فإن صيغة التصغير قد تكون لإظهار العطف والتعظيم ولا سيما أن المتكلم بصيغة التصغير هو الله تعالى وهو لا يقول ولا يفعل إلا ما هو صواب وحكمة فتكون "يا" من يس حرف نداء و"سين" شطر انيسين فلما كثر النداء به في ألسنتهم اقتصروا على شطره الثاني للتخفيف كما قالوا في القسم من الله أصله أيمن الله (واين خطاب باصورت رد بشريت مصطفاست عليه السلام نانكه جاى ديكر كفت {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (الكهف : 110) ازانجاكه انسانيست وجنسيت آنست او مشاكل خلق است واين خطاب با نسان بروفق آنست وازآنجاكه
364
شرف نبوتست وتخصيص رسالت خطاب باوى اينست كه يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ} يا اأَيُّهَا الرَّسُولُ} واين خطاب كه باصورت وبشريت ازبهر آن رفت كه تانقاب غيرت سازند وهر نامحرمرا برجمال وكمال وى اطلاع ندهند اين نانست كه كويند) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ارسلانم خوان تاكس نه بداندكه كيم
وعن ابن الحنفية معناه يا محمد دليله قوله بعده إنك لمن المرسلين وفي الحديد : "إن الله سماني بسبعة أسماء محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله" ويؤيده أنه يقال لأهل البيت آل يس كما قيل سلام على آل طه ويس وسلام على آل خير النبيين.
دركمو يا آل ياسينا
يقول الفقير : يحتمل أن يكون المراد بآل يس أول من عظمه الله تعالى بما في سورة يس فلا يحصل التأييد.
وقال الكاشفي : (حقيقت آنست كه دركلام عرب از كلمه بحر في تعبير ميكنند نانه.
قد قلت لها قفي فقالت ق
أي وقفت س ميشايدكه حرف سين اشارت بكلمه ياسيد البشر أو يا سيد الأولين والآخرين وحديث "أنا سيد ولد آدم" تفسير اين حرف بود) كما قال في "لعرائس" : لم يمدح عليه السلام بذلك نفسه ولكن أخبر عن معنى مخاطبة الحق إياه بقوله يس انتهى (وديكر ببايد دانست كه ازميان حروف سين را سويت اعتداليه هست كه ميان زبر وبينات او توافق وتساوى هست وهي حرفى ديكر آن حال ندارد لا جرم مخصوص بحضرت ختميه است صلى الله عليه وسلّم كه عدالت حقيقى خواه در طريق توحيد وخواه دراحكام شرع بدو اختصاص دارد.
تراست مرتبه اعتدال درهمه حال
كه در خصائص توحيد اعدل ازهمه
تمكن است ترا در مقام جمع الجمع
بدين فضيلت مخصوص افضلى ازهمه(7/285)
واز فحواى كلمات سابقه روايح رياحين قلب القرآن يس استشمام ميتواند نمود) وسيجيىء تمامه في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
وقال نعمة الله النقشبندي : يا من تحقق بينبوع بحر اليقين وسبح سالماً من الانحراف والتلوين.
وشيخ نجم الدين (كفت قسمست بيمن نبوت حبيب وبسر مطهر او).
وقال البقلي : أقسم بيد القدرة الأزلية وسناء الربوبية.
وقال القشيري : الياء يشير إلى يوم الميثاق والسين إلى سره مع الأحباب كأنه قال بحق يوم الميثاق وسرى مع الأحباب والقرآن الخ.
وذهب قوم إلى أن الله تعالى لم يجعل لأحد سبيلاً إلى إدراك معاني الحروف المقطعة في أوائل السور وقالوا : إن الله تعالى متفرد بعلمها ونحن نؤمن بأنها من جملة القرآن العظيم ونكل علمها إليه تعالى ونقرأها تعبداً وامتثالاً لأمر الله وتعظيماً لكلامه وإن لم نفهم منهم ما نفهمه من سائر الآيات (درينابيع آورده كه هر حرفى از حروف مقطعه را سريست از اسرار خزانه غيب كه حضرت حق حبيب خودرا برآن اطلاع داده بعد ازان جبرائيل برآن نازل شده وجزخدا ورسول مقبول كسى برآن وقوف ندارد).
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال الشيخ ابن نور الدين في بعض وارداته : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن أسرار المتشابهات من الحروف فقال : هي من أسرار المحبة بيني وبين الله فقلت : هل يعرفها أحد فقال : ولا يعرفها جدي إبراهيم
365
عليه السلام هي من أسرار الله تعالى التي لا يطلع عليها نبي مرسل ولا ملك مقرب ويؤيده ما في الأخبار أن جبريل عليه السلام نزل بقوله تعالى : {كاهيعاص} فلما قال كاف قال النبي عليه السلام : "علمت" فقال ها فقال : "علمت" فقال : يا فقال : "علمت" فقال عين فقال : "علمت" فقال صاد فقال : "علمت" فقال جبريل كيف علمت ما لم أعلم؟ يقول الفقير : لا شك أنه عليه السلام وصل إلى مقام في الكمال لم يصل إليه أحد من كمل الأفراد فضلاً عن الغير ويدل عليه عبوره ليلة المعراج جميع المواطن والمقامات فلهذا جاز أن يقال لم يعرف أحد من الثقلين والملائكة ما عرفه النبي عليه السلام فإن علوم الكل بالنسبة إلى علمه كقطرة من البحر فله عليه السلام علم حقائق الحروف بما لا مزيد عليه بالنسبة إلى ما في حد البشر وأما غيره فلهم علم لوازمها وبعض حقائقها بحسب استعداداتهم وقابلياتهم هذا ما يعطيه الحال والله تعالى أعلم بالخفايا والأسرار وما ينطوي عليه كتابه ويحيط به خطابه.
{وَالْقُرْءَانِ} بالجر على أنه مقسم به ابتداء {الْحَكِيمِ} أي : الحاكم كالعليم بمعنى العالم فإنه يحكم بما فيه من الأحكام أو المحكم من التناقض والعيب ومن التغير بوجه ما كما قال تعالى : {وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} وهو الذي أحكم نظمه وأسلوبه وأتقن معناه وفحواه أو ذي الحكمة أي : المتضمن لها والمشتمل عليها فإنه منبع كل حكمة ومعدن كل عظة فيكون بمعنى النسب مثل تامر بمعنى ذي تمر أو هو من قبيل وصف الكلام بصفة المتكلم به أي : الحكيم قائله.
{وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} .
{إِنَّكَ} يا أكمل الرسل وأفضل الكل وهو مخاطبة المواجهة بعد شرف القسم بنفسه وهو مع قوله : {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} جواب للقسم والجملة لرد انكار الكفرة بقولهم في حقه عليه السلام لست مرسلاً وما أرسل الله إلينا رسولاً.
والإرسال قد يكون للتسخير كإرسال الريح والمطر وقد يكون ببعث من له اختيار نحو إرسال الرسل كما في "المفردات".
قال في "بحر العلوم" : هو من الأيمان الحسنة البديعة لتناسب بين المرسل به والمرسل إليه اللذين أحدهما المقسم المنزل والآخر المقسم عليه المنزل إليه انتهى.
وهذه الشهادة منه تعالى من جملة ما أشير إليه بقوله تعالى : {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (الرعد : 43) ولم يقسم الله لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له.
قال في "إنسان العيون" : من خصائصه عليه السلام أن الله تعالى أقسم على رسالته بقوله : {يسا * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ندانم كدامين سخن كويمت
كه والا ترى زانه من كويمت
تر اعز لولاك تمكين بس است
ثناى توطه ويس بس است
ومعنى ثناء طه أنه عليه السلام صلى في الليالي حتى تورمت قدماه فقال تعالى : طه أي : يا طه أو يا طالب الشفاعة وهادي البشر ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى أي : لتقع به في التعب.
وقال بعضهم : الطاء تسعة والهاء خمسة معناه يا من هو كالقمر المنير ليلة البدر ومعنى ثناء يس ما ذكر من الأقسام على رسالته مع أنه يحتمل أن يراد بيس يا سيد البشر ونحوه على ما سلف وذلك ثناء من الله أي : ثناء.
(7/286)
{عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} خبر آخر لإن أي : : متمكن على توحيد وشرائع موصلة إلى الجنة والقربة والرضى واللذة واللقاء وفي موضع إنك لعلى هدى مستقيم (يعني كه تو از مرسلانى بر طريقى راست بردينى درست وشريعتي اك وسيرتي سنديده)
366
كما في "كشف الأسرار".
فإن قلت : أي : حاجة إلى قوله {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ومن المعلوم أن الرسل لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟ قلت : فائدته وصف الشرع بالاستقامة صريحاً وإن دل عليه {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} التزاماً فجمع بين الوصفين في نظام واحد كأنه قال : إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت استقامته وقد نكره ليدل به على أنه أرسل من بين الصرط على صراط مستقيم لا يوازيه صراط ولا يكتنه وصفه في الاستقامة فالتنكير للتفخيم.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بقوله : {يس} إلى {مُّسْتَقِيمٍ} إلى سيادة النبي عليه السلام وإلى أنه ما بلغ أحد من المرسلين إلى رتبته في السيادة وذلك لأنه تعالى أقسم بالقرآن الحكيم إنه لمن المرسلين على صراط مستقيم إلى قاب قوسين من القرب أو أدنى أي : بل أدنى من كمال القرب كما قال صلى الله عليه وسلّم "لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل" فإن لكل نبي مرسل سيرة إلى مقام معين على صراط مستقيم هو صراط الله كما أن النبي عليه السلام أخبر أنه رأى ليلة المعراج في كل سماء بعض الأنبياء حتى قال عليه السلام : "رأيت موسى عليه السلام في السماء السادسة ورأى إبراهيم عليه السلام في السماء السابعة" وقد عبر عنهم إلى كمال رتبة ما بلغ أحد من العالمين إليها.
{لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} نصب على المدح بإضمار أعني والتقدير أعني بالقرآن الحكيم تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر الخ وهو مصدر بمعنى المفعول أي : المنزل كما تقول العرب هذا الدرهم ضرب الأمير أي : مضروبه عبر به عن القرآن لكمال عراقته في كونه منزلاً من عند الله تعالى كأنه نفس التنزيل (وتنزيل بناء كثرات ومبالغه است اشارت است كه اين قرآن بيكبار ازآسمان فرو آمد بلكه بكرات ومرات فروآمد بمدت بيست وسه سال سيزده سال بمكة وده سال بمدينه نجم نجم آيت آيت سورت سورت نانكه حاجت بود ولائق وقت بود).
والعزيز الغالب على جميع المقدورات المتكبر الغني عن طاعة المطيعين المنتقم ممن خالفه ولم يصدق القرآن.
وخاصية هذا الاسم وجود الغنى والعز صورة أو حقيقة أو معنى فمن ذكره أربعين يوماً في كل يوم أربعين مرة أعانه الله تعالى وأعزه فلم يحوجه إلى أحد من خلقه.
وفي "الأربعين الإدريسية" يا عزيز المنيع الغالب على أمره فلا شيء يعادله.
قال السهروردي : من قرأه سبعة أيام متواليات كل يوم ألفاً أهلك الله خصمه وإن ذكره في وجه العسكر سبعين مرة ويشير إليهم بيده فإنهم ينهزمون.
والرحيم المتفضل على عباده المؤمنين بإنزال القرآن ليوقظهم من نوم الغفلة ونعاس النسيان.
وخاصية هذا الاسم رقة القلب والرحمة للمخلوقين فمن داومه كل يوم مائة كان له ذلك ومن خاف الوقوع في مكروه ذكره مع قرينه وهو اسم الرحمن أو حمله.
وفي "الأربعين الإدريسية" : يا رحيم كل صريخ ومكروب وغيائه ومعاذه.
وقال السهروردي إذا كتبه ومحاه بماء وصب في أصل شجرة ظهر في ثمرها البركة ومن شرب من ذلك اشتاق لكاتبه وكذا إن كتب مع اسم الطالب والمطلوب وأمه فإنه يهيم ويدركه من الشوق ما لا يمكنه الثبات معه إن كان وجهاً يجوز فيه ذلك وإلا فالعكس.
قال في "الإرشاد" في تخصيص الاسمين الكريمين المعربين عن الغلبة التامة والرأفة العامة حث على الإيمان به ترهيباً وترغيباً حسبما نطق به قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107).
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن القرآن تنزيل من عزيز غني لا يحتاج
367
إلى تنزيله لعلة بل هو رحيم اقتضت رحمته تنزيل القرآن فإنه حبل الله يعتصم به الطالب الصادق ويصعد إلى سرادقات عزته وعظمته.
وفي "كشف الأسرار" : (عزيز به بيكانكان رحيم بمؤمنان اكر عزيز بود بى رحيم هركز اورا كسى نيابد واكر رحيم بود بى عزيز همه كس اورا يابد عزيز است تا كافران دردنيا اورا ندانند رحيم است در عقبى تا مؤمنان اورا بينند) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
دست رحمت نقاب خود بكشيد
عاشقان ذوق وصل او بشيد
ماند اهل حجاب در رده
ببلاى فراق او مرده
{لِتُنذِرَ} متعلق بتنزيل أي : لتخوف بالقرآن {قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ} ما نافية والجملة صفة مبينة لغاية احتياجهم إلى الإنذار.
(7/287)
والمعنى لتنذر قوماً لم ينذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة ولم يكونوا من أهل الكتاب ويؤيده قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ} (سبأ : 44) يعني العرب وقوله : {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامِّيِّـانَ} (الجمعة : 2) إلى قوله : {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة : 2) ويجوز أن تكون ما موصولة أو موصوفة على أن تكون الجملة مفعولاً ثانياً لتنذر بحذف العائد.
والمعنى لتتنذر قوماً العذاب الذي أنذره أو عذاباً أنذره آباؤهم الأبعدون في زمن إسماعيل عليه السلام وإنما وصف الآباء في التفسير الأول بالأقربين وفي الثاني بالأبعدين لئلا يلزم أن يكونوا منذرين وغير منذرين فآباؤهم الأقدمون أتاهم النذير لا محالة بخلاف آبائهم الادنين وهم قريش فيكون ذلك بمعنى قوله : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ الاوَّلِينَ} (المؤمنون : 68).
فإن قلت : كيف هذا وقد وقعت الفترات في الأزمنة بين نبي ونبي حسبما يحكى في التواريخ وأما الحديث فقيل كان خالد مبعوثاً إلى بني عبس خاصة دون غيرهم من العرب وكان بين عهد عيسى وعهد نبينا عليه السلام.
ويقال إن قبره بناحية جرجان على قلة جبل يقال له خدا وقد قال فيه الرسول عليه السلام لبعض من بناته جاءته "يا بنت نبي ضيعه قومه" كذا في "الأسئلة المقحمة".
ويحتمل التوفيق بوجه آخر وهو أن المراد بالأمة التي خلا فيها نذير هي الأمة المستأصلة فإنه لم يستأصل قوم إلا بعد النذير والإصرار على تكذيبه وأيضاً إن خلو النذير في كل عصر يستلزم وجوده في كل ناحية والله أعلم {فَهُمْ غَـافِلُونَ} متعلق بنفي الإنذار مترتب عليه.
والضمير للفريقين أي : لم ينذر آباؤهم فهم جميعاً لأجله غافلون عن الإيمان والرشد وحجج التوحيد وأدلة البعث والفاء داخلة على الحكم المسبب عما قبله فالنفي المتقدم سبب له يعني أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله لتنذر رداً لتعليل إنذاره فالضمير للقوم خاصة أي : فهم غافلون بما أنذر آباؤهم الأقدمون لامتداد المدة فالفاء داخلة على سبب الحكم المتقدم.
والغفلة ذهاب المعنى عن النفس والنسيان ذهابه عنها بعد حضوره.
قال بعضهم : الغفلة نوم القلب فلا تعتبر حركة اللسان إذا كان القلب نائماً ولا يضر سكونه إذا كان متيقظاً ومعنى التيقظ أن يشهده تعالى حافظاً له رقيباً عليه قائماً بمصالحه ، قال المولى الجامي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
رب نال يفوه بالقرآن
وهو يفضي به إلى الخذلان
لعنتست اين كه بهر لهجه وصوت
شود ازتو حضور خاطر فوت
فكر حسن غنا برد هوشت
متكلم شود فرا موشت
368
نشود بر دل توتابنده
كين كلام خداست يابنده
حكم لعنت ز قفل بى اخلاص
نيست باقارئان قرآن خاص
س مصلى كه درميان نماز
ميكند بر خداى عرض نياز
ون در صدق نيست باز برو
ميكند لعنت آن نماز برو
وفي الحديث "الغفلة في ثلاث الغفلة عن ذكر الله والغفلة فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وغفلة الرجل عن نفسه في الدين".
وفي "كشف الأسرار" : (غافلان دواند يكى ازكار دين غافل واز طلب اصلاح خود بى خبر سربدنيا درنهاده ومست شهوت كشته وديده فكرت وعبرت برهم نهاده حاصل وى آنست كه رب العزه كفت) {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَـاتِنَا غَـافِلُونَ * أولئك مَأْوَاـاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يونس : 7 ـ 8) وفي الخبر : "عجبت لغافل وليس بمغفول عنه" (ديكر غافلى است سنديده ازكار دنيا وترتيب معاش غافل سلطان حقيقت برباطن وى استيلا نموده درمكاشفه جلال احديت نان مستهلك شده كه ازخود غائب كشته نه ازدنيا خبردارد نه از عقبا بزبان حال ميكويد) :
اين جهان دردست عقلست آن جهان دردست روح
اى همت بر قفاى هر دوده سالار زن
قالوا الصوفى كائن بائن :
هركه حق دادنور معرفتش
كائن بائن بود صفتش
جان بحق تن بغير حق كائن
تن زحق جان زغير حق بائن
ظاهر او بخلق يوسته
باطن او زخلق بكسسته
از درون آشنا وهمخانه
وزبرون درلباس بيكانه
فأهل هذه الصفة هم المتيقظون حقيقة وإن ناموا لأنه لا تنام عين العارفين وما سواهم هم النائمون حقيقة وإن سهروا لأنه لم تنفتح أبصار قلوبهم (ودر وصايا واردست كه يا علي بامردكان منشين علي رضي الله عنه كفت يا رسول الله مردكان كيانند كفت اهل جهلت وغفلت) اللهم اجعلنا من أهل العلم والعرفان والإيقان والشهود والعيان وشرفنا بلقائك في الدارين واصرفنا عن ملاحظة الكونين آمين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/288)
{لَقَدْ} اللام جواب القسم أي : ولله لقد {حَقَّ الْقَوْلُ} وجب وتحقق {عَلَى أَكْثَرِهِمْ} أي : أكثر القوم الذين تنذرهم وهم أهل مكة {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي : بإنذارك إياهم والفاء داخلة على الحكم المسبب عما قبله.
واختلفوا فقال بعضهم : القول حكم الله تعالى إنهم من أهل النار.
وفي "المفردات" علم الله بهم.
وقال بعضهم : القول كناية عن العذاب أي : وجب على أكثرهم العذاب.
والجمهور على أن المراد به قوله تعالى لإبليس عند قوله : {لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 82) {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 85) وهو المعنيّ بقوله : {وَلَـاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَـافِرِينَ} (الزمر : 71) وهذا القول لما تعلق بمن تبع إبليس من الجنّ والإنس وكان أكثر أهل مكة ممن علم الله منهم الإصرار على اتباعه واختيار الكفر إلى أن يموتوا كانوا ممن وجب وثبت عليهم مضمون هذا القول لكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يقتضيه بل بسبب إصرارهم الاختياري على الكفر والإنكار وعدم
369
تأثرهم من التذكير والإنذار.
ولما كان مناط ثبوت القول وتحققه عليهم إصرارهم على الكفر إلى الموت كان قوله : {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} متفرعاً في الحقيقة على ذلك لا على ثبوت القول.
فإن الكاشفي (مراد آنانندكه خداى تعالى ميدانست كه ايشان بركفر ميرند يابر شرك كشته شوند ون أبو جهل واضراب او) وحقيقة هذا المقام أن الكل سعيداً كان أو شقياً يجرون في هذه النشأة على مقتضى استعداداتهم فالله تعالى يظهر أحوالهم على صفحات أعمالهم لا يجبرهم في شيء أصلاً فمن وجد خيراً فليحمد الله تعالى ومن وجد غيره فلا يلومن إلا نفسه والأعمال أمارات وليست بموجبات فإن مصير الأمور في النهاية إلى ما جرى به القدر في البداية.
وفي الخبر الصحيح روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفي يديه كتابان فقال للذي في يده اليمنى "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً" ثم قال للذي بشماله : "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً" ثم قال بيده فنبذهما ثم قال : "فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير" وحكم الله تعالى على الأكثر بالشقاوة فدل على أن الأقل هم أهل السعادة وهم الذين سمعوا في الأزل خطاب الحق ثم إذا سمعوا نداء النبي عليه السلام أجابوه لما سبق من الإجابة لنداء الحق.
وإنما كان أهل السعادة أقل لأن المقصود من الإيجاد ظهور الخليفة من العباد وهو يحصل بواحد مع أن الواحد على الحق هو السواد الأعظم في الحقيقة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال بعض الكبار : من رأى محمداً عليه السلام في اليقظة فقد رأى جميع المقربين لانطوائهم فيه ومن اهتدى بهداه فقد اهتدى بهدي جميع النبيين.
والإسلام عمل.
والإيمان تصديق.
والإحسان رؤية أو كالرؤية فشرط الإسلام الانقياد وشرط الإيمان الاعتقاد وشرط الإحسان الإشهاد فمن آمن فقد أعلى الدين ومن أعلاه فقد تعرض لعلوه وعزه عند الله تعالى ومن كفر فقد أراد إطفاء نور الله والله متم نوره وفي "المثنوي" :
هركه بر شمع خدا آردفو
شمع كى ميرد بسوز ووزاو
لما قال المشركون يوم أحد أعل هبل أعل هبل أذلهم الله وهبلهم وهو صنم كان يعبد في الجاهلية وهو الحجر الذي يطأه الناس في العتبة السفلى من باب بني شيبة وهو الآن مكبوب على وجهه وبلط الملوك فوقه البلاط فإن كنت تفهم مثل هذه الأسرار وإلا فاسكت والله تعالى حكيم يضع الأمور كلها في مواضعها فكل ما ظهر في العالم فهو حكمة وضعه في محله لكن لا بد من الإنكار لما أنكره الشارع فإياك والغلط.
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـاقِهِمْ أَغْلَـالا فَهِىَ إِلَى الاذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ} .
{إِنَّآ} بمقتضى قهرنا وجلالنا {جَعَلْنَا} خلقنا أو صيرنا {فِى أَعْنَـاقِهِمْ} جمع عنق بالفارسية (كردن) والضمير إلى أكثر أهل مكة {أَغْلَـالا} عظيمة ثقالاً جمع غل ، بالضم وهو ما يشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد سواء كان من الحديد أو غيره.
وقال القهستاني : الغل الطوق من حديد الجامع لليد إلى العنق المانع عن تحرك الرأس.
وفي "المفردات" أصل الغلل تدرع الشيء وتوسطه ومنه الغلل للماء الجاري مختص بما يقيد به فيجعل الأعضاء وسطه وغل فلان قيد به.
وقيل للبخيل هو مغلول اليد قال تعالى :
370
(7/289)
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌا غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} (المائدة : 64) انتهى {فَهِىَ إِلَى الاذْقَانِ} الفاء للنتيجة أو التعقيب.
والأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين بالفارسية (زنخدان) أي : فالأغلال منتهية إلى أذقانهم بحيث لا يتمكن المغلول معها من تحرك الرأس والالتفات وبالفارسية : (س آن غلها وزنجيرها يوسته شده بزنخدانهاى ايشان ونمى كذارندكه سرها بجنبانند) ووجه وصول الغل إلى الذقن هو إما كونه غليظاً عريضاً يملأ ما بين الصدر والذقن فلا جرم يصل إلى الذقن ويرفع الرأس إلى فوق وما كون الطوق الغل الذي يجمع اليدين إلى العنق بحيث يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة يدخل فيها رأس العمود الواصل بين ذلك الطوق وبين قيد اليد خارجاً عن الحلقة إلى الذقن فلا يخليه يحرك رأسه {فَهُم مُّقْمَحُونَ} رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم فإن الأقماح رفع الرأس إلى فوق مع غض البصر يقال قمح البعير قموحاً فهو قامح إذا رفع رأسه عند الحوض بعد الشرب إما لارتوائه أو لبرودة الماء أو لكراهة طعمه وأقمحت البعير شددت رأسه إلى خلف وأقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعاً من ضيقه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال بعضهم لفظ الآية وإن كان ماضياً لكنه إشارة إلى ما يفعل بهم في الآخرة كقوله تعالى : {وَجَعَلْنَا الاغْلَـالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (سبأ : 33) الآية ولهذا قال الفقهاء كره جعل الغل في عنق عبده لأنه عقوبة أهل النار.
قال الفقيه : إن في زماننا جرت العادة بذلك إذا خيف من الأباق بخلاف التقييد فإنه غير مكروه لأنه سنة المسلمين في المتمردين هذا والجمهور على أن الآية تمثيل لحال الأكثر في تصميمهم على الكفر وعدم امتناعهم عنه وعدم التفاتهم إلى الحق وعدم انعطاف أعناقهم نحوه بحال الذين غلت أعناقهم فوصلت الأغلال إلى آذانهم وبقوا رافعين رؤوسهم غاضين أبصارهم فهم أيضاً لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم ولا يكادون يرون الحق أو ينظرون إلى جهته.
وقال الراغب : قوله فهم مقحمون تشبيه بحال البعير ومثل لهم وقصد إلى وصفهم بالتأبي عن الانقياد للحق وعن الإذعان لقبول الرشد والتأبي عن الإنفاق في سبيل الله انتهى ، وفي "المثنوي" :
كفت اغلالاً فهم به مقمحون
نيست آن اغلال برما از برون
بند نهان ليك ازآهن را بتر
بند آهن را كند اره بتر
بند آهن را توان كردن جدا
بند غيبى را نداند كس دوا
مرد را زنبور اكر نيشى زند
طبع او آن لحظه بر دفعى تند
زخم نيش اما و ازهستى تست
غم قوى باشد نكردد درد ست
قال النقشبندي : هي أغلال الأماني والآمال وسلاسل الحرص والطمع بمزحرفات الدنيا الدنية وما يترتب عليها من اللذات الوهمية والشهوات البهيمية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَجَعَلْنَا} أي : خلقنا لهم من كمال غضبنا عليهم وصيرنا {مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} (ازيش روى ايشان) {سَدًّا} (ديوارى وحجابى) قرأه حفص بالفتح والباقون بالضم وكلاهما بمعنى.
وقيل : ما كان من عمل الناس بالفتح وما كان من خلق الله بالضم {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} (واز س ايشان) {سَدًّا} (رده ومانعى) {فَأَغْشَيْنَـاهُمْ} (الإغشاء : بر وشانيدن وكور كردن) والمضاف محذوف
371
(7/290)
والتقدير غطينا أبصارهم وجعلنا عليها غشاوة وهو ما يغشى به الشيء وبالفارسية : (س بوشيديم جشمهاى ايشانرا) {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} الفاء داخلة على الحكم المسبب عما قبله لأن من أحاطه السد من جميع جوانبه لا يبصر شيئاً إذ الظاهر أن المراد ليس جهتي القدام والخلف فقط بل يعم جميع الجهات إلا أن جهة القدام لما كانت أشرف الجهات وأظهرها وجهة الخلف كانت ضدها خصت بالذكر.
والآية إما تتمة للتمثيل وتكميل له أي : تكميل أي : وجعلنا مع ما ذكر من أمامهم سداً عظيماً ومن ورائهم سداً كذلك فغطينا بهما أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يقدرون على أبصار شيء ما أصلاً.
وإما تمثيل مستقل فإن ما ذكر من جعلهم محصورين بين سدين هائلين قد غطينا بهما أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئاً قطعاً كاف في الكشف عن فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغي والجهالات محرومين من النظر في الأدلة والآيات.
قال الإمام : المانع من النظر في الآيات والدلائل قسمان : قسم يمنع من النظر في الآيات التي في أنفسهم فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحاً لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه.
وقسم يمنع من النظر في آيات الآفاق فشبه بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق فلا تتبين له الآيات التي في الآفاق كما أن المقمح لا تتبين له الآيات التي في الأنفس فمن ابتلي بهما حرم من النظر بالكلية لأن الدلائل والآيات مع كثرتهما منحصرة فيهما كما قال تعالى : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} (فصلت : 53) وقوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـاقِهِمْ} مع قوله : {وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الخ إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله تعالى في الأنفس والآفاق (حققان كويندكه سد يش طول املست وطمع بقا وسد عقب غفلت ازجنايات كذشته وقلت ندم واستغفار برو هركه اورا دوسد نين احاطه كرده باشدهر آينه شم او وشيده باشد از نظردر دلائل قدرت ونه بيند راه فلاح وهدايت) وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
خلفهم سداً فأغشيناهمو
مى نه بيند بندرا يش وس او
رنك صحرا دارد آن سدى كه خاست
او نمى داند كه آن سر قضاست
شاهد تو سد زوى شاهداست
مرشدتو سد كفت مرشداست
(وآوردند كه ابو جهل سوكند خورد بلات وعزى كه اكر يغمبررا عليه السلام درنماز بيند سر مبارك او نعوذ بالله بشكند وعرب را ازو باز رهاند روزى ديدكه آن حضرت نماز مى كرد ودرحرم كعبه آن ملعون سنكى برداشت ونزد آن حضرت آمد وون دست بالا برد كه سنك بروى زند دست او بركردن نبر شده سنك بردست او سبيد دركردنش بماند نوميد باز كشت قوم بني مخزوم دست اورا بجهد بسياراز كردن او دور كردند واين آيت يعني : {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـاقِهِمْ} الخ آمد كه ما ايشانرا بازداشتيم نانه مغلولان ازكارها بازداشته شوند ومحزومى ديكركه وليد بن مغيره است كفت من بروم وبدين سنك محمدرا عليه السلام بكشم نعوذ بالله ون بنزديك آن حضرت آمد نابينا شد تا حس وآواز مى شنيد وكس را نديد) فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه وأخبرهم بالحال فنزل في حقه قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الخ فيكون ضمير الجمع في الآيتين
372
على طريقة قولهم بنو فلان فعلوا كذا والفاعل واحد منهم (وكفته اند اين آيت حرزى نيكوست كسى راكه ازدشمن ترسد اين آيت برروى دشمن خواند الله تعالى شر آن دشمن ازوى بازدارد دشمن را ازوى در حجاب كند نانكه بارسول خدا كرد آن شب كه كافران قصدوى كردند بدر سراى وى آمدند تا بر سروى هجوم برند رسول خدا علي را رضي الله عنه برجاي خود خوابانيد وبيرون آمد وبايشان بركذشت واين آيت مى خواند {وَجَعَلْنَا} الخ ودشمنان اورا نديدند ودر حجاب بماندند رسول بر كذشت وقصد مدينه كرد وآن ابتداى هجرت بود) كذا في "كشف الأسرار".
وقال "إنسان العيون" لما خرج عليه السلام من بيته الشريف أخذ حفنة من تراب ونثره على رؤوس القوم عند الباب وتلا {يسا * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ} إلى قوله : {فَأَغْشَيْنَـاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} فأخذ الله تعالى أبصارهم عنه عليه السلام فلم يبصروه.
{وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَـاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِا فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/291)
{وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} أي : مستو عند أكثر أهل مكة إنذارك إياهم وعدمه لأن قوله : {ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} وإن كانت جملة فعلية استفهامية لكنه في معنى مصدر مضاف إلى الفاعل فصح الإخبار عنه فقد هجر فيه جانب اللفظ إلى المعنى ومنه "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" وهمزة الاستفهام وأم لتقرير معنى الاستواء والتأكيد فإن معنى الاستفهام منسلخ منهما رأساً بتجريدهما عنه لمجرد الاستواء كما جرد حرف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم : "اللهم اغفر لنا أيتها العصابة" فكما أن هذا جرى على صورة النداء وليس بنداء كذلك {ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} على صورة الاستفهام وليس باستفهام {لا يُؤْمِنُونَ} (نمى كردند ايشان كه علم قديم موت ايشان بر كفر حكم كرده است بسبب اختيار ايشان) وهو استئناف مؤكد لما قبله مبين لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء.
قال في "كشف الأسرار" : أي من أضله الله هذا الضلال لم ينفعه الإنذار.
ـ روي ـ أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى دعا غيلان القدري فقال : يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر فقال : يا أمير المؤمنين إنهم يكذبون عليّ قال : يا غيلان اقرأ أول سورة يس إلى قوله : {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فقال غيلان : يا أمير المؤمنين والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أتكلم به في القدر فقال عمر بن عبد العزيز : اللهم إن كان صادقاً فتب عليه وثبته وإن كان كاذباً فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمؤمنين قال : فأخذه هشام بن عبد الملك فقطع يديه ورجليه قال بعضهم : أنا رأيته مصلوباً على باب دمشق.
دلت الحكاية على أن القدرية هم الذين يزعمون أن كل عبد خالق لفعله ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله تعالى وقال الإمام المطرزي في "المغرب" : والقدرية هم الفرقة المجبرة الذين يثبتون كل الأمر بقدر الله وينسبون القبائح إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
ولما بين كون الإنذار عندهم كعدمه عقبه ببيان من يتأثر منه فقيل :
{إِنَّمَا تُنذِرُ} أي : ما ينفع إنذارك {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي : القرآن بالتأمل فيه أو الوعظ والتذكير ولم يصر على اتباع خطوات الشيطان {وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِ} أي : خاف عقابه تعالى والحال أنه غائب عن العقاب على أنه حال من الفاعل أو الحال إن العقاب غائب عنه أي : قبل نزول العقاب وحلوله
373
على أنه حال من المفعول أو حال كونه غائباً عن عيون الناس في خلوته ولم يغتر برحمته فإنه منتقم قهار كما أنه رحيم غفار وكيف يؤمن سخطه وعذابه بعد أن قال : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} (المعارج : 28) ومن كان نعمته بسبب رحمته أكثر فالخوف منه أتم مخافة أن يقطع عنه النعم المتواترة فظهر وجه ذكر الرحمن مع الخشية مع أن الظاهر أن يذكر معها ما ينبىء عن القهر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وفي "التأويلات النجمية" {وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِ} أي : بنور غيبتي يشاهد وخامة عاقبة الكفر والعصيان ويتحقق عنده بشواهد الحق كمالية حلاوة الإيمان ورفعة رتبة العرفان {فَبَشِّرْهُ} أي : من اتبع وخشي وحد الضمير مراعاة اللفظ من {بِمَغْفِرَةٍ} عظيمة لذنوبه {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} حسن مرضى لأعماله الصالحة لا يقادر قدره وهو الجنة وما فيها مما أعده الله لعباده الجامعين بين اتباع ذكره وخشيته والفاء لترتيب البشارة أو الأمر بها على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية.
يقول الفقير : رتب التبشير بمثنى على مثنى فالتأمل في القرآن والتأثر من الوعظ يؤدي إلى الإيمان المؤدي إلى المغفرة لأن الله تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء والخشية تؤدي إلى الحسنات المؤدية إلى الأجر الكريم لأنه تعالى قال : {جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الواقعة : 24).
قال بعضهم : الإنذار لا يؤثر إلا في أصحاب الذكر لأنهم في مشاهدة عظمة المذكور فبركة موعظة الصادق تزيد لهم تعظيم الله تعالى وإجلاله وإذا زاد هذا المعنى زادت العبودية وزال التعب وحصل الإنس مع الرب.
واعلم أن الجنة دار جمال وأنس وتنزل إلهي لطيف.
وأما النار فهي دار جلال وجبروت فالاسم الرب مع أهل الجنة والاسم الجبار مع أهل النار أبد الآبدين ودهر الداهرين وقد قال تعالى : "هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي" وإنما كان الحق تعالى لا يبالي بذلك لأن رحمته سبقت غضبه في حق الموحدين أو في حق المشركين ويكون المراد بالرحمة رحمة الإيجاد من العدم لأنها سابقة على سبب الغضب الواقع منهم فلذلك كان تعالى لا يبالي بما فعل بالفريقين.
ولو كان المراد من عدم المبالاة ما توهمه بعضهم لما وقع الأخذ بالجرائم ولا وصف الحق نفسه بالغضب ولا كان البطش الشديد هذا كله من المبالاة والتهم بالمأخوذ كذا في "الفتوحات المكية".
(7/292)
{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِا فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ * إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ * وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا أَصْحَـابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِنَّآ} من مقام كمال قدرتنا والجمع للتعظيم ولكثرة الصفات.
وقال بعضهم لما في إحياء الموتى من حظ الملائكة وينافيه الحصر الدال عليه قوله : {نَحْنُ} قال في "البحر" : كرر الضمير لتكرير التأكيد {إِنَّا نَحْنُ} نبعثهم بعد مماتهم ونجزيهم على حسب أعمالهم فيظهر حينئذٍ كمال الإكرام والانتقام للمبشرين والمنذرين من الأنام.
والإحياء جعل الشيء حياً ذا حس وحركة والميت من أخرج روحه وقد أطلق النبي عليه السلام لفظ الموتى على كل غني مترف وسلطان جائر وذلك في قوله عليه السلام : "أربع يمتن القلب الذنب على الذنب وكثرة مصاحبة النساء وحديثهن وملاحاة الأحمق تقول له ويقول لك ومجالسة الموتى قيل : يا رسول الله وما مجالسة الموتى؟ قال : كل غني مترف وسلطان جائر".
وفي "التأويلات النجمية" : نحيى قلوباً ماتت بالقسوة بما نمطر عليها من صوب الإقبال والزلفة انتهى فالإحياء إذاً مجاز عن الهداية {وَنَكْتُبُ} أي : نحفظ ونثبت في اللوح المحفوظ يدل عليه آخر الآية أو يكتب رسلنا وهم الكرام الكاتبون وإنما أسند
374
إليه تعالى ترهيباً ولأنه الآمر به {مَاَ قَدَّمُوا} أي : أسلفوا من خير وشر وإنما أخر الكتابة مع أنها مقدمة على الإحياء لأنها ليست مقصودة لذاتها وإنما تكون مقصودة لأمر الإحياء ولولا الإحياء والإعادة لما ظهر للكتابة فائدة أصلاً {وَءَاثَارَهُمْ} أثر الشيء حصول ما يدل على وجوده أي : آثارهم التي أبقوها من الحسنات كعلم علموه أو كتاب ألفوه أو حبيس وقفوه أو بناء شيء من المساجد والرباطات والقناطر وغير ذلك من وجوه البرّ قال الشيخ سعدي :
نمرد آنكه ماند س از وى بجاى
ل ومسجد وخان ومهمان سراى
هر آن كو نماند از سش ياد كار
درخت وجودش نياورد بار
وركرفت آثار خيرش نماند
نشايد س از مرك الحمد خواند
ومن السيآت كوظيفة وظفها بعض الظلمة على المسلمين مسانهة أو مشاهرة وسكة أحدثها فيها تحسيرهم وشيء أحدث فيه صدّ عن ذكر الله من ألحان وملاهي ونحوه قوله تعالى : {يُنَبَّؤُا الانسَـانُ يَوْمَـاـاِذا بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} أي : بما قدم من أعماله وأخر من آثاره وفي "المثنوي" :
هركه بنهد سنت بد اى فتى
تا در افتد بعد او خلق از عمى
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
جمع كردد بر وى آن جمله بزه
كوسرى بودست وايشان دم غزه
فعلى العدول أن يرفعوا الأحداث التي فيها ضرر بين للناس في دينهم ودنياهم وإلا فالراضي كالفاعل وكل مجزي بعمله :
از مكافات عمل غافل مشو
كندم از كندم برويد جو ز جو
كين نين كفتست ير معنوي
كاى برادر هره كارى بدروى
وقال بعض المفسرين : هي آثار المشائين إلى المساجد ولعل المراد أنها من جملة الآثار كما في "الإرشاد".
ـ روي ـ أن جماعة من الصحابة بعدت دورهم عن المسجد النبوي فأراد النقلة إلى جوار المسجد فقال عليه السلام : "إن الله يكتب خطواتكم ويثيبكم عليها فالزموا بيوتكم" والله تعالى لا يترك الجزاء على الخطى سواء كانت في حسنة أو في سيئة وفي الحديث : "أعظم الناس أجراً من يصلي ثم ينام".
واختلف فيمن قربت داره من المسجد هل الأفضل له أن يصلي فيه أو يذهب إلى الأبعد فقالت طائفة : الصلاة في الأبعد أفضل لكثرة الثواب الحاصل بكثرة الخطى.
وقال بعضهم : الصلاة في الأقرب أفضل لما ورد "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" ولإحياء حق المسجد ولماله من الجوار وإن كان في جواره مسجد ليس فيه جماعة وبصلاته فيه يحصل الجماعة كان فعلها في مسجد الجوار أفضل لما فيه من عمارة المسجد وإحيائه بالجماعة وأما لو كان إذا صلى في مسجد الجوار صلى وحده فالبعيد أفضل ولو كان إذا صلى في بيته صلى جماعة وإذا صلى في المسجد صلى وحده ففي بيته أفضل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال بعضهم : جار المسجد أربعون داراً من كل جانب.
وقيل : جار المسجد من سمع النداء.
قال في مجمع الفتاوى : رجل لو كان في جواره مسجدان يصلي في أقدمهما لأن له زيادة حرمة وإن كانا سواء أيهما أقرب يصلي هناك وإن كان فقيهاً يذهب إلى الذي قومه أقل حتى يكثر بذهابه وإن لم يكن فقيهاً يخير قالوا : كل ما فيه الجماعة كالفرائض والتراويح فالمسجد فيه أفضل فثواب المصلين في البيت بالجماعة
375
(7/293)
دون ثواب المصلين في المسجد بالجماعة وفي الحديث : "صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته ، وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً" وفي رواية "سبعة وعشرين" وذلك لأن فرائض اليوم والليلة سبع عشرة ركعة والرواتب عشر فالجميع سبع وعشرون.
وأكثر العلماء على أن الجماعة واجبة.
قال بعضهم : سنة مؤكدة وفي الحديث : "لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس وأنظر إلى أقوام يتخلفون عن الجماعة فاحرّق بيوتهم" وهذا يدل على جواز إحراق بيت المتخلف عن الجماعة لأن الهم على المعصية لا يجوز من الرسول عليه السلام لأنه معصية فإذا جاز إحراق البيت على ترك الواجب أو السنة المؤكدة فما ظنك في ترك الفرض وفي الحديث : "بشروا المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" وفيه إشارة إلى أن كل ظلمة ليست بعذر لترك الجماعة بل الظلمة الشديدة وإطلاق اللفظ يشعر بأن المتحري للأفضل ينبغي أن لا يتخلف عن الجماعة بأي وجه كان إلا أن يكون العذر ظاهراً والأعذار التي تبيح التخلف عن الجماعة هي المرض الذي يبيح التيمم ومثله كونه مقطوع اليد والرجل من خلاف أو مفلوجاً أو لا يستطيع المشي أو أعمى والمطر والطين والبرد الشديد والظلمة الشديدة في الصحيح وكذا الخوف من السلطان أو غيره من المتغلبين جعلنا الله وإياكم ممن قام بأمره في جميع عمره {وَكُلَّ شَىْءٍ} من الأشياء كائناً ما كان سواء كان ما يصنعه الإنسان أو غيره وهو منصوب بفعل مضمر يفسره قوله : {أَحْصَيْنَـاهُ} ضبطناه وبيناه.
قال ابن الشيخ : أصل الإحصاء العد ثم استعير للبيان والحفظ لأن العد يكون لأجلهما.
وفي "المفردات" الإحصاء التحصيل بالعدد يقال : أحصيت كذا وذلك من لفظ الحصى واستعمال ذلك فيه لأنهم كانوا يعتمدون عليه في العد اعتمادنا فيه على الأصابع {فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} أصل عظيم الشان مظهر لجميع الأشياء مما كان وما سيكون وهو اللوح المحفوظ سمي إماماً لأنه يؤتم به ويتبع.
قال الراغب : الإمام المؤتم به إنساناً كان يقتدي بقوله وبفعله أو كتاباً أو غير ذلك محقاً كان أو مبطلاً وجمعه أئمة نحو قوله تعالى : {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ} (الإسراء : 71) أي : بالذي يقتدون به وقيل بكتابهم {وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} فقد قيل : إشارة إلى اللوح المحفوظ انتهى.
وفي الأحصاء ترغيب وترهيب فإن المحصى لم يصح منه الغفلة في حال من الأحوال بل راقب نفسه في كل وقت ونفس وحركة وسكنة.
وخاصية هذا الاسم تسخير القلوب فمن قرأه عشرين مرة على كل كسرة من الخبز والكسر عشرون فإنه يسخر له الخلق.
فإن قيل : ما فائدة تسخير الخلق؟ قلت : دفع المضرة أو جلب المنفعة وأعظم المنافع التعليم و"الإرشاد" واختار بعض الكبار ترك التصرف والالتفات إلى جانب الخلق بضرب من الحيل فإن الله تعالى يفعل ما يريد والأهم تسخير النفس الأمارة حتى تنقاد للأمر وتطيع للحق فمن لم يكن له أمارة على نفس كان ذليلاً في الحقيقة وإن كان مطاعاً في الظاهر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وفي "التأويلات النجمية" {وَكُلَّ شَىْءٍ} مما يتقربون به إلينا {أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} أي : أثبتنا آثاره وأنواره في لوح محفوظ قلوب أحبابنا انتهى.
واعلم أن قلب الإنسان الكامل اسم مبين ولوح إلهي فيه أنوار الملكوت منتقشة وأسرار الجبروت منطبعة مما كان في حد البشر دركه وطوق العقل الكلي كشفه وإنما يحصل هذا بعد التصفية بحيث لم يبق في القلب
376
صورة ذرة مما يتعلق بالكونين ومعنى التصفية إزالة المتوهم ليظهر المتحقق فمن لم يدر المتوهم من المتحقق حرم من المتحقق ، قال المولى الجامي قدس سره :
سككى مى شد استخوان بدهان
كرده رد بر كنار آب روان
بسكه آن آب صاف وروشن بود
عكس آن استخوان در آب نمود
برد بياره سك كمان كه مكر
هست در آب استخوان دكر
لب و بكشاد سوى آن بستاد
استخوان ازدهان در آب فتاد
نيست را هستى توهم كرد
بهر آن نيست هست راكم كرد
فعلى العاقل أن يجلو المرآة ليظهر صورة الحقيقة وحقيقة الوجود ويحصل كمال العيان والشهود نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل الصفوة ويحفظنا من الكدورات والهفوة إنه غاية المقصود ونهاية الأمل من كل علم وعمل.
{إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ * وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا أَصْحَـابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّآ إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/294)
{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا أَصْحَـابَ الْقَرْيَةِ} إلى قوله : خامدون يشير إلى أصناف ألطافه مع أحبائه وأنواع قهره مع أعدائه كما في "التأويلات النجمية" أمر الله تعالى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلّم بإنذار مشركي مكة بتذكيرهم قصة أصحاب القرية ليحترزوا عن أن يحل بهم ما نزل بكفار أهل تلك القرية.
قال في "الإرشاد" ضرب المثل يستعمل على وجهين : الأول في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها فالمعنى اجعل أصحاب القرية مثلاً لأهل مكة في الغلو في الكفر والإصرار على تكذيب الرسل أي : طبق حالهم بحالهم على أن مثلاً مفعول ثان وأصحاب القرية مفعوله الأول أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه.
والثاني في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيرة لها فالمعنى اذكر وبين لهم قصة هي في الغرابة كالمثل فقوله أصحاب القرية أي : مثل أصحاب القرية على تقدير المضاف كقوله : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82) وهذا المقدر بدل من الملفوظ أو بيان له.
والقرية انطاكية من قرى الروم وهي بالفتح والكسر وسكون النون وكسر الكاف وفتح الياء المخففة قاعدة بلاد يقال لها العواصم وهي ذات عين وسور عظيم من صخر داخله خمسة أجبل دورها اثنا عشر ميلاً كما في "القاموس" ويقال لها انتاكية بالتاء بدل الطاء وهو المسموع من لسان الملك في قصة ذكرت في "مشارع الأشواق".
قال الإمام السهيلي : نسبت انطاكية إلى انطقيس وهو اسم الذي بناها ثم غيرت.
وفي "التكملة" وكانت قصتهم في أيام ملوك الطوائف.
وفي "بحر العلوم" انطاكية من مدائن النار بشهادة النبي عليه السلام حيث قال : "أربع مدائن من مدائن الجنة مكة والمدينة وبيت المقدس وصنعاء اليمن وأربع مدائن من مدائن النار أنطاكية وعمورية وقسطنطينية وظفار اليمن" وهو كقطام بلد باليمن قرب صنعاء إليه ينسب الجزع وهو بالفتح خرز فيه سواد وبياض يشبه به الأعين وكانت انطاكية إحدى المدن الأربع التي يكون فيها بطارقة النصارى وهي انطاكية والقدس والاسكندرية ورومية ثم بعدها قسطنطينية.
قال في "خريدة العجائب" : رومية الكبرى مدينة عظمية في داخلها كنيسة عظيمة طولها ثلاثمائة ذراع وأركانها من نحاس مفرع مغطى كلها بالنحاس الأصفر وبها كنيسة أيضاً بنيت على هيئة بيت المقدس وبها ألف حمام وألف فندق وهو الخان ورومية أكبر من أن يحاط بوصفها ومحاسنها وهي
377
للروم مثل مدينة فرانسة للافرنج كرسي ملكهم ومجتمع أمرهم وبيت ديانتهم وفتحها من اشراط الساعة {إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} بدل من أصحاب القرية بدل الاشتمال لاشتمال الظروف على ما حل فيها كأنه قيل واجعل وقت مجيىء المرسلين مثلاً أو بدل من المضاف المقدر كأنه قيل واذكر لهم وقت مجيىء المرسلين وهم رسل عيسى عليه السلام إلى أهل انطاكية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/295)
{إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} بدل من إذ الأولى أي : وقت أرسلنا اثنين إلى أصحاب القرية وهما يحيى ويونس ونسبة إرسالهما إليه تعالى بناء على أنه بأمره تعالى فكانت الرسل رسل الله.
ويؤيده مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل بأن قال الموكل له اعمل برأيك يكون وكيلاً للموكل لا للوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول {فَكَذَّبُوهُمَا} أي : فأتياهم فدعواهم إلى الحق فكذبوهما في الرسالة بلا تراخ وتأمل وضربوهما وحبسوهما على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما وسيأتي {فَعَزَّزْنَا} أي : قويناهما فحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه ولأن القصد ذكر المعزز به وبيان تدبيره اللطيف الذي به عز الحق وذل الباطل يقال عزز المطر الأرض إذا لبدها وسددها وأرض عزاز أي : صلبة وتعزز اللحم اشتد وعز كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه.
وفي "تاج المصادر" (التعزيز والتعزة : ليرومنكد كردند) ومنه الحديث "إنكم لمعزز بكم" أي : مشدد (وفرونشاند باران زمين را) انتهى {بِثَالِثٍ} هو شمعون الصفار ويقال له شمعون الصخرة أيضاً رئيس الحواريين وقد كان خليفة عيسى عليه السلام بعد رفعه إلى السماء.
قال في "التكملة" : اختلف في المرسلين الثلاثة فقيل : كانوا أنبياء رسلاً أرسلهم الله تعالى وقيل : كانوا من الحواريين أرسلهم عيسى بن مريم إلى أهل القرية المذكورة ولكن لما كان إرساله إياهم عن أمره أضاف الإرسال إليه انتهى علم منه أن الحواريين لم يكونوا أنبياء لا في زمان عيسى ولا بعد رفعه وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : "ليس بيني وبينه نبي" أي : بين عيسى وإن احتمل أن يكون المراد النبي الذي يأتي بشريعة مستقلة وهو ينافي وجود النبي المقرر للشريعة المتقدمة {فَقَالُوا} أي : جميعاً {إِنَّآ إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} مؤكدين كلامهم لسبق الإنكار لما أن تكذيبهما تكذيب للثالث لاتحاد كلمتهم.
قال في "كشف الأسرار" : (قصه آنست كه رب العالمين وحى فرستاد بعيسى عليه السلام كه من ترا بآسمان خواهم برد حواريان را يكان يكان ودوان دوان بشهرها فرست تا خلق را بدين حق دعوت كنند عيسى ايشانرا حاضر كرد ورئيس ومهترايشان شمعون وايشانرا يكان يكان ودوان دوان قوم بقوم فرستاد وشهر شهر ايشانرا نامزد مى زد وايشانرا كفت ون من بآسمان رفتم شماهر كجاكه معين كرده ام ميرويد ودعوت ميكنيد واكر زبان آن قوم ندانيد در آن راه كه ميرويد شمارا فرشته يش ايد جامى شراب بر دست نهاده از ان شراب نوراني بازخوريد تاز بان ان قوم بدانيد ودوكس را بشهر انطاكية فرستاد) وكانوا عبدة أصنام.
وقال أكثر أهل التفسير : ارسل إليهم عيسى اثنين قبل رفعه ولما أمرهما أن يذهبا إلى القرية قالا : يا نبي الله إنا لا نعرف لسان القوم فدعا الله لهما فناما بمكانهما فاستيقظا وقد حملتهما الملائكة وألقتهما إلى أرض أنطاكية فكلم كل واحد صاحبه بلغة القوم فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار الذي ينحت الأصنام وهو صاحب
378
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
يس لأن الله تعالى ذكره في سورة يس في قوله تعالى : {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} فسلما عليه فقال : من أنتما؟ فأخبراه بأنهما من رسل عيسى (آمده ايم تا شمارا بردين حق دعوت كنيم وراه راست وملت اك شما نماييم كه دين حق توحيداست وعبادت خداى يكتا ير كفت شمارا برراستى اين سخن هي معجزه هست كفتند آرى) نحن نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله وكان للرسل من المعجزة ما للأنبياء بدعاى عيسى (يركفت مرا سريست ديوانه وياخود دير كاه تاوى بيماراست ودرد وى علاج اطبانه ذيرد خواهم كه اورا به بينيد ايشانرا بخانه برد) فدعوا الله تعالى ومسحا المريض فقام بإذن الله صحيحاً :
قدم نهادي وبرهر دوديده جاكردى
بيكنفس دل بيمار را دوا كردى
فآمن حبيب وفشا الخبر وشفى على أيديهما خلق كثير وبلغ حديثهما إلى الملك واسمه بحناطيس الرومي او انطيخس او شلاحن فطلبهما فأتياه فاستخبر عن حالهما فقالا : نحن رسل عيسى ندعوك إلى عبادة رب وحده فقال : ألنا رب غير آلهتنا؟ قالا : نعم وهو من أوجدك وآلهتك ، من آمن به دخل الجنة ومن كفر به دخل النار وعذب فيها أبداً فغضب وضربهما وحبسهما فانتهى ذلك إلى عيسى فأرسل ثالثاً وهو شمعون لينصرهما فإنه رفع بعده كما قاله البعض فجاء القرية متنكراً أي : لم يعرف حاله ورسالته وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا حديثه إلى الملك فأنس به وكان شمعون يظهر موافقته في دينه حيث كان يدخل معه على الصنم فيصلي ويتضرع وهو يظن أنه من أهل دينه كما قال الشيخ سعدي في قصة صنم سومنات لما دخل الكنيسة متنكراً وأراد أن يعرف كيفية الحال :
بتك را يكى بوسه دادم بدست
كه لعنت بروباد وبربت رست
بتقليد كافر شدم روز ند
برهمن شدم در مقالات زند
(7/296)
فقال شمعون للملك يوماً : بلغني أنك حبست رجلين دعواك إلى إله غير إلهك فهل لك أن تدعوهما فأسمع كلامهما وأخاصمهما عنك فدعاهما.
وفي بعض الروايات لما جاء شمعون إلى انطاكية دخل السجن أولاً حتى انتهى إلى صاحبيه فقال لهما : ألم تعلما أنكما لا تطاعان إلا بالرفق واللطف :
و بينى كه جاهل بكين اندراست
سلامت بتسليم دين اندراست
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال : وأن مثلكما مثل امرأة لم تلد زماناً من دهرها ثم ولدت غلاماً فأسرعت بشأنه فأطعمته الخبز قبل أوانه فغص به فمات فكذلك دعوتكما هذا الملك قبل أوان الدعاء ثم انطلق إلى الملك يعني بعد التقرب إليه استدعاهما للمخاصمة فلما حضرا قال لهما شمعون : من أرسلكما؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك فقال : صفاه وأوجزا قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال : وما برهانكما على ما تدعيانه قالا : ما يتمنى الملك فجيىء بغلام مطموس العينين أي : كان لا يتميز موضع عينيه من جبهته فدعوا الله حتى انشق له موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظر بهما فتعجب الملك فقال له شمعون : أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف قال : ليس لي عنك سر مكتوم إن
379
الهنا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع ثم قال له الملك : إن هنا غلاماً مات منذ سبعة أيام كان لأبيه ضيعة قد خرج إليها وأهله ينتظرون قدومه واستأذنوا في دفنه فأمرتهم أن يؤخروه حتى يحضر أبوه فهل يحييه ربكما فأمر بإحضار ذلك الميت فدعوا الله علانية ودعا شمعون سراً فقام الميت حياً بإذن الله (كفت ون جانم از كالبد جدا كشت مرا بهفت وادىء آتش بكذرانيدند ازآنكه بكفر مرده ام) وأنا أنذركم عما أنتم فيه من الشرك فآمنوا (وكفت ابنك درهاى آسمان مى بينم كشاده وعيسى يغمبر ايستاده زير عرش واز بهر اين ياران شفاعت ميكند وميكويدكه بار خدايا ايشانرا نصرت ده كه ايشان رسولان من اند) حتى أحياني الله وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن عيسى روح الله وكلمته وأن هؤلاء الثلاثة رسل الله قال الملك : ومن الثلاثة قال الغلام شمعون وهذان فتعجب الملك فلما رأى شمعون أن قول الغلام قد أثر في الملك أخبره بالحال وأنه رسول المسيح إليهم ونصحه فآمن الملك فقط كما حكاه القشيري خفية على خوف من عتاة ملئه وأصر قومه فرجموا الرسل بالحجارة وقالوا : إن كلمتهم واحدة وقتلوا حبيب النجار وأبا الغلام الذي أحيى لأنه أيضاً كان قد آمن ثم إن الله تعالى بعث جبريل فصاح عليهم صيحة فماتوا كلهم كما سيجيء تمام القصة.
وقال وهب بن منبه وكعب الأحبار : بل كفر الملك أيضاً وأصروا جميعاً هو وقومه على تعذيب الرسل وقتلهم ويؤيده حكاية تماديهم في اللجاج والعناد وركوبهم متن المكابرة في الحجاج ولو آمن الملك وبعض قومه كما قال بعضهم لكان الظاهر أن يظاهروا الرسل ويساعدوهم قبلوا في ذلك أو قتلوا كدأب النجار الشهيد ولم ينقل ذلك مع أن الناس على دين ملوكهم لا سيما بعد وضوح البرهان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّآ إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَآ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنزَلَ الرَّحْمَـانُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ} .
{قَالُوا} أي : أهل انطاكية الذين لم يؤمنوا مخاطبين للثلاثة {مَآ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ} آدمي {مِّثْلُنَا} هو من قبيل قصر القلب فالمخاطبون وهم الرسل لم يكونوا جاهلين بكونهم بشراً ولا منكرين لذلك لكنهم نزلوا منزلة المنكرين لاعتقاد الكفار أن الرسول لا يكون بشراً فنزلوهم منزلة المنكرين للبشرية لما اعتقدوا التنافي بين الرسالة والبشرية فقلبوا هذا الحكم وعكسوه وقالوا : ما أنتم إلا بشر مثلنا أي : أنتم مقصورون على البشرية ليس لكم وصف الرسالة التي تدعونها فلا فضل لكم علينا يقتضي اختصاصكم بالرسالة دوننا ولو أرسل الرحمن إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة على زعمهم {وَمَآ أَنزَلَ الرَّحْمَـانُ مِن شَىْءٍ} من وحي سماوي ومن رسول يبلغه فكيف صرتم رسلاً وكيف يجب علينا طاعتكم وهو تتمة الكلام المذكور لأنه يستلزم الإنكار أيضاً {إِنْ أَنتُمْ} أي : ما أنتم {إِلا تَكْذِبُونَ} في دعوى رسالته.
{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ} بعلمه الحضوري {إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} وإن كذبتمونا استشهدوا بعلم الله وهو يجري مجرى القسم في التوحيد مع ما فيه من تحذيرهم معارضة علم الله وزادوا اللام المؤكدة لما شاهدوا منهم من شدة الإنكار.
(7/297)
{وَمَا عَلَيْنَآ} أي : من جهة ربنا {إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ} أي : إلا تبليغ رسالته تبليغاً ظاهراً مبيناً بالآيات الشاهدة بالصحة فإنه لا بد للدعوى من البينة وقد خرجنا من عهدته فلا مؤاخذة لنا بعد ذلك من جهة ربنا وليس في وسعنا إجباركم على الإيمان ولا أن نوقع
380
في قلوبكم العلم بصدقنا فإن آمنتم وإلا فينزل العذاب عليكم وفيه تعريض لهم بأن إنكارهم للحق ليس لخفاء حاله وصحته بل هو مبني على محض العناد والحمية الجاهلية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَمَا عَلَيْنَآ إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لئن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائرُكُم مَّعَكُمْ أَاـاِن} .
{قَالُوا} لما ضاقت عليهم الحيل ولم يبق لهم علل {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أصل التطير التفاؤل بالطير فإنهم يزعمون أن الطائر السانح سبب للخير والبارح سبب للشر كما سبق في النمل ثم استعمل في كل ما يتشاءم به والمعنى إنا تشاءمنا بكم جرياً على ديدن الجهلة حيث كانوا يتيمنون بكل ما يوافق شهواتهم وإن كان مستجلباً لكل شر ووبال ويتشاءمون بكل ما لا يوافقها وإن كان مستتبعاً لسعادة الدارين.
وقال النقشبندي : قد تشاءمنا بقدومكم إذ منذ قدمتم إلى ديارنا ما نزل القطر علينا وما أصابنا هذا الشر إلا من قبلكم اخرجوا من بيننا وارجعوا إلى أوطانكم سالمين وانتهوا عن دعوتكم ولا تتفوهوا بها بعد.
وكان عليه السلام يحب التفاؤل ويكره التطير والفرق بينهما أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله والتطير إنما هو من طريق الاتكال على شيء سواه وفي الخبر لما توجه النبي عليه السلام نحو المدينة لقي بريدة بن أسلم فقال : "من أنت يا فتى" قال بريدة فالتفت عليه السلام إلى أبي بكر فقال : "برد أمرنا وصلح" أي : سهل ومنه قوله : "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة" ثم قال عليه السلام : "ابن من أنت يا فتى" قال : ابن أسلم فقال عليه السلام لأبي بكر رضي الله عنه : "سلمنا من كيدهم".
وفي الفقه : لو صاحت الهامة أو طير آخر فقال : رجل يموت المريض يكفر ولو خرج إلى السفر ورجع فقال : ارجع لصياح العقعق كفر عند البعض وفي الحديث : "ليس عبد إلا سيدخل في قلبه الطيرة فإذا أحس بذلك فليقل أنا عبد الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله لا يأتي بالحسنات إلا الله ولا يذهب بالسيآت إلا الله أشهد أن الله على كل شيء قدير ثم يمضي بوجهه" يعني : يمضي مارّاً بوجهه أي : بجهة وجهه فعدى يمضي بالباء لتضمين معنى المرور قالوا : من تطير تطيراً منهياً عنه حتى منعه مما يريده من حاجته فإنه قد يصيبه ما يكرهه كما في "عقد الدر" {لَـاـاِن لَّمْ تَنتَهُوا} والله لئن لم تمتنعوا عن مقالتكم هذه ولم تسكتوا عنا وبالفارسية : (واكر نه باز ايستيد ازدعواى خود) {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} (الرجم : سنكسار كردن) أي : لنرمينكم بالحجارة {وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (وبشما رسد ازما عذابى دردنماى) أي : لا نكفي برجمكم بحجر أو حجرين بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو العذاب الأليم أو ليمسنكم بسبب الرجم منا عذاب مؤلم.
وفسر بعضهم الرجم بالشتم فيكون المعنى لا نكتفي بالشتم بل يكون شتمنا مؤدياً إلى الضرب والإيلام الحسي.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ـ حكي ـ أن دباغاً مر بسوق العطارين فغشي عليه وسقط فاجتمع عليه أهل السوق وعالجوه بكل ما يمكن من الأشياء العطرة فلم يفق بل اشتد عليه الحال ولم يدر أحد من أين صار مصروعاً ثم أخبر أقرباؤه بذلك فجاء أخوه وفي كمه شيء من نجاسة الكلب فسحقه حتى إذا وصلت رائحته إلى شمه أفاق وقام وهكذا حال الكفار كما قال جلال الدين قدس سره في "المثنوي" :
ناصحان او را بغنبر يا كلاب
مى دوا سازند بهر فتح باب
مر خبيثانرا نشايد طيبات
درخور ولايق نباشد اى ثقات
ون زعطر وحى كم كشتندوكم
بدفغان شان كه تطيرنا بكم
381
رنج بيماريست مارا زين مقال
نيست نيكو وعظمتان مارا بفال
كر بيا غازيد نصحى آشكار
ماكنيم آن دم شمارا سنكسار
ما بلغو ولهو فربه كشته ايم
در نصيحت خويش را نسرشته ايم
هست قوت ما دروغ ولاف ولاغ
شورش معده است مارازين بلاغ
هركرا مشك نصيحت سودنيست
لا جرم بابوى بدخو كردنيست
مشركانرازان نجس خواندست حق
كاندرون شك زادند از سبق
كرم كوزادست در سركين ابد
مى نكرداند بعنبر خوى خود(7/298)
{قَالُوا} أي : المرسلون لأهل أنطاكية {طَائرُكُم} أي : سبب شؤمكم {مَّعَكُمْ} لا من قبلنا وهو سوء اعتقادكم وقبح أعمالكم فالطائر بمعنى ما يتشاءم به مطلقاً {أَإِن ذُكِّرْتُم} بهمزتين استفهام وشرط أي : وعظتم بما فيه سعادتكم وخوّفتم وبالفارسية : (آيا اكر ند داده مى شويد) وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه أي : تطيرتم أو توعدتم بالرجم والتعذيب {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} إضراب عما تقتضيه الشرطية من كون التذكير سبباً للشؤم أو مصححاً للتوعد أي : ليس الأمر كذلك بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان والتجاوز فيه عن الحد فلذلك أتاكم الشؤم أو في الظلم والعدوان ولذلك توعدتم وتشاءمتم بمن يجب إكرامه والتبرك به.
وهؤلاء القوم في الحقيقة هم النفس وصفاتها فإن أسرفت في موافقة الطبع ومخالفة الحق فكل من كان في يد مثل هذه النفس فهو لا يبالي بالوقوع في المهالك ولا يزال يدعو الناس إلى ما سلكه من شر المسالك :
هركرا باشد مزاج وطبع سست
او نخواهد هي كس راتن درست
وكل من تخلص عنها وزكاها أفلح هو ومن تبعه ولذا وعظ الأنبياء والأولياء وذكروا ونبهوا الناس على خطاهم وإسرافهم وردوهم عن طريقة أسلافهم ولكن الذكرى إنما تنفع المؤمنين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ـ حكي ـ أن غلام الخليل سعى بالصوفية إلى خليفة بغداد وقال : إنهم زنادقة فاقتلهم ولك ثواب جزيل فأحضرهم الخليفة وفيهم الجنيد والشبلي والنوري فأمر بضرب أعناقهم فتقدم أبو الحسين النوري فقال السياف : أتدري إلى ما تبادر؟ فقال : نعم فقال : وما يعجلك فقال : أوثر أصحابي بحياة ساعة فتحير السياف وأنهى الأمر إلى الخليفة فتعجب الخليفة ومن عنده من ذلك فأمر بأن يختبر القاضي حالهم فقال القاضي : يخرج إليّ واحد منهم حتى أبحث معه فخرج إليه أبو الحسين النوري فألقى إليه القاضي مسائل فقهية فالتفت عن يمينه ثم التفت عن يساره ثم أطرق ساعة ثم أجابه عن الكل ثم أخذ يقول وبعد فإنعباداً إذا قاموا قاموا بالله وإذا نطقوا نطقوا بالله وسرد كلاماً أبكى القاضي ثم سأله القاضي عن التفاته فقال : سألتني عن المسائل ولا أعلم لها جواباً فسألت عنها صاحب اليمين فقال : لا علم لي ثم سألت صاحب الشمال فقال : لا علم لي فسألت قلبي فأخبرني قلبي عن ربي فأجبتك بذلك فأرسل القاضي إلى الخليفة إن كان هؤلاء زنادقة فليس على وجه الأرض مسلم (خليفه ايشانرا بخواند وكفت حاجتى خواهيد كفتند حاجت ما آنست كه مارا فراموش كنى نه بقبول خود مارا
382
مشرف كردانى نه برد مهجوركه مارا رد توون قبول تست خليفه بسيار بكريست وايشانرا با كرامى تمام روانه كرد ون درنهاد خليفه وقاضي عدل وإنصاف سرشته مى شد لا جرم بجانب حق ميل كردند ودرحق صوفيه محققين طريقه ظلم وإسراف سالك نشدند) عصمنا الله وإياكم من مخالفة الحق الصريح بعد وضوحه بالبرهان الصحيح.
{قَالُوا طَائرُكُم مَّعَكُمْ أَاـاِن ذُكِّرْتُما بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لا يَسْـاَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِىَ لا أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
{وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} أبعد جوانب أنطاكية وبالفارسية : (وآد ازدورتر جايى ازان شهر) {رَجُلٌ} فيه إشارة إلى رجولية الجائي وجلادته وتنكيره لتعظيم شأنه لا لكونه رجلاً منكوراً غير معلوم فإنه رجل معلوم عند الله تعالى وكان منزله عند أقصى باب في المدينة وفي مجيئه من أقصى المدينة بيان لكون الرسل أتوا بالبلاغ المبين حتى بلغت دعوتهم إلى أقصى المدينة حيث آمن الرجل وكان دور السور اثني عشر ميلاً كما سبق {يَسْعَى} حال كونه يسرع في مشيه فإن السعي المشي السريع وهو دون العدو كما في "المفردات" والمراد حبيب بن مرى النجار المشهور عند العلماء بصاحب يس كما سبق وجهه.
وفي بعض التواريخ كان من نسل الاسكندر الرومي وإنما سمي حبيب النجار لأنه كان ينحت أصنامهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364(7/299)
يقول الفقير : هذا ظاهر على تقدير أن يكون إيمانه على أيدي الرسل وهو الذي عليه الجمهور وأما قوله عليه السلام : "سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين علي بن أبي طالب وصاحب يس ومؤمن آل فرعون" فمعناه إنهم لم يسجدوا للصنم ولم يخلوا بما هو من أصول الشرائع ولا يلزم من نحت الأصنام السجدة لها والأظهر أنه كان نجاراً كما في التعريف للسهيلي ولا يلزم من كونه نجاراً كونه ناحتاً للأصنام وقد قالوا : إنه ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلّم وبينهما ستمائة سنة.
وكان سبب إيمانه به أنه كان من العلماء بكتاب الله ورأى فيه نعته ووقت بعثته فآمن به ولم يؤمن بنبي غيره عليه السلام قبل مبعثه وقد آمن به قبل مبعثه أيضاً غير حبيب النجار كما قال السيوطي : أول من أظهر التوحيد بمكة وما حولها قس بن ساعدة وفي الحديث : "رحم الله قساً إني لأرجو يوم القيامة أن يبعث أمة وحده" وورقة بن نوفل ابن عم خديجة رضي الله عنها وزيد بن عمرو بن نفيل وكذا آمن به عليه السلام قبل مبعثه وأظهر التوحيد تبع الأكبر.
وقصته أنه اجتاز بمدينة الرسول عليه السلام وكان في ركابه مائة ألف وثلاثون ألفاً من الفرسان ومائة ألف وثلاثة عشر ألفاً من الرجالة فأخبر أن أربعمائة رجل من اتباعه من الحكماء والعلماء تبايعوا أن لا يخرجوا منها فسألهم عن الحكمة فقالوا : إن شرف البيت إنما هو برجل يخرج يقال له محمد هذه دار إقامته ولا يخرج منها فبنى فيها لكل واحد منهم داراً واشترى له جارية وأعتقها وزوجها منه وأعطاهم عطاءً جزيلاً وكتب كتاباً وختمه ورفعه إلى عالم عظيم منهم وأمره أن يدفع ذلك الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلّم إن أدركه وفي ذلك الكتاب أنه آمن به وعلى دينه وبنى له صلى الله عليه وسلّم داراً ينزلها إذا قدم تلك البلدة ويقال إنها دار أبي أيوب وأنه من ولد ذلك العالم الذي دفع إليه الكتاب فهو عليه السلام لم ينزل إلا في داره ووصل إليه عليه السلام الكتاب المذكور على يد بعض ولد العالم المسطور في أول البعثة أو حين هاجر وهو بين مكة والمدينة ولما قرىء عليه قال : "مرحباً بتبع الأخ الصالح" ثلاث مرات وكان إيمانه قبل مبعثه بألف سنة ويقال
383
أن الأوس والخزرج من أولاد أولئك العلماء والحكماء.
وذكر أنه حفر قبره بصنعاء قبل الإسلام فوجد فيه امرأتان لم تبليا وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب هذا قبر فلانة وفلانة ابنتي تبع ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما وفي الحديث : "من مات وهو يعلم لا إله إلا الله دخل الجنة" وإنما لم يقل من مات وهو يؤمن أو يقول ليعلمنا أن كل موحدفي الجنة يدخلها من غير شفاعة ولو لم يوصف بالإيمان كقس بن ساعدة وأضرابه ممن لا شريعة بين أظهرهم يؤمنون بها وبصاحبها فقس موحد لا مؤمن كما في "الفتوحات المكية" (كفتند حبيب نجار خانه داشت درآن كوشه ازشهر بدورتر جايى ازمردمان وكسب كردى هرروز آنه كسب وى بود يك نيمه بصدقه دادى ويك نيمه بخرج عيال كردى وخدايرا نهان عبادت كردى وكس ازحال وى خبر نداشتى تا آن روزكه رسولان عيسى را رنجانيدند وجفا كردند ازان منزل خويش بشتاب بيامد وايمان خويش آشكارا كرد.
وكفته اند اهل انطاكية دارها بردند وآن رسولا نرا باجهل تن كن ايمان آورده بودند كلوهاى شان سوراخ كردند ورسنها بكلو دركشيدند وازدار بياويختند خبر بحبيب نجار رسيدكه خدايرا مى رستيد درغارى نانكه ابدال دركوه نشينند وازخلق عزلت كيرند بشاب ازمنزل خويش بيامد)
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{قَالَ} استئناف بياني كأنه قيل فما قال عند ما جاء ساعياً ووصل إلى المجمع ورآهم مجتمعين على الرسل قاصدين قتلهم فقيل قال : يا قَوْمِ} أصله يا قومي معناه بالفارسية : (اى كروه من) خاطبهم بياقوم لتأليف قلوبهم واستمالتها نحو قبول نصيحته وللاشارة إلى أنه لا يريد بهم إلا الخير وإنه غير متهم بإرادة السوء بهم.
قال بعضهم : وكان مشهوراً بينهم بالورع واعتدال الأخلاق {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} المبعوثين إليكم بالحق تعرض لعنوان رسالتهم حثاً لهم على اتباعهم (قتاده كفت ون بيامد نخست رسولانرا بديد كفت شما باين دعوت كه ميكنيد هي مزد ميخواهيد كفتند ما هي مزد نميخواهيم وجز اعلاى كلمه حق واظهار دين الله مقصود نيست حبيب قوم را بكفت).
(7/300)
{اتَّبِعُوا مَن لا يَسْـاَلُكُمْ} (نمى خواهند ازشما) {أَجْرًا} أجرة ومالاً على النصح وتبليغ الرسالة {وَهُم مُّهْتَدُونَ} إلى خير الدين والدنيا والمهتدي إلى طريق الحق الموصل إلى هذا الخير إذا لم يكن متهماً في الدعوة يجب اتباعه وإن لم يكن رسولاً فكيف وهم رسل ومهتدون ومن قال الايغال هو ختم الكلام بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها تكون الآية عنده مثالاً له لأن قوله وهم مهتدون مما يتم المعنى بدونه لأن الرسول مهتد لا محالة إلا أن فيه زيادة حث على اتباع الرسل وترغيب فيه فقوله : من لا يسألكم بدل من المرسلين معمول لاتبعوا الأول والثاني تأكيد لفظ للأول.
قال في "الإرشاد" : تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يرغبهم في اتباعهم من التنزه عن الغرض الدنيوي والاهتداء إلى خير الدنيا والدين انتهى.
وفيه ذم للمتشيخة المزوّرين الذين يجمعون بتلبيساتهم أموالاً كثيرة من الضعفاء الحمقى المائلين نحو أباطيلهم كما في "التأويلات النقشبندية" :
ره كاروان شير مردان زنند
ولى جامه مردم اينان كنند
384
عصاى كليمند بسيار خوار
بظاهر نين زرد روى ونزار
(ون حبيب آن قوم را نصيحت كرد ايشان كفتند) وأنت مخالف لديننا ومتابع لهؤلاء الرسل فقال :
{اتَّبِعُوا مَن لا يَسْـاَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِىَ لا أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِه ءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّى شَفَـاعَتُهُمْ شَيْـاًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّى إِذًا لَّفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{مَالِيَ} وأي شيء عرض لي {لا أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى} خلقني وأظهرني من كتم العدل ورباني بأنواع اللطف والكرم وقد سبق الفطر في أول فاطر وهذا تلطف في "الإرشاد" بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه والمراد لنفسه والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره كما ينبىء عنه قوله : {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} مبالغة في التهديد أي : إليه تعالى لا إلى غيره تردون أيها القوم بعد البعثة للمجازاة أو للمحاسبة.
قال في "فتح الرحمن" : أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم لأن الفطرة أثر النعمة وكانت عليه أظهر وفي الرجوع معنى الزجر وكان بهم أليق.
قال بعض العارفين العبودية ممزوجة بالفطرة والمعرفة فوق الخلقة والفطرة وهذا المعنى مستفاد من قول النبي عليه السلام : "كل مولود يولد على الفطرة" ولو كانت المعرفة ممزوجة بالفطرة لما قال : "وأبواه يهودانه ويمجسانه وينصرانه" بل المعرفة تتعلق بكشف جماله وجلاله صرفاً بالبديهة بغير علة واكتساب لقوله : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَه مِن قَبْلُ} (الأنبياء : 51).
قال بعضهم : العبد الخالص من عمل على رؤية الفطرة لا غير وأجل منه من يعمل على رؤية الفاطر ثم عاد على المساق الأول وهو إبراز الكلام في صورة النصيحة لنفسه فقال :
{ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ} أي : دون الذي فطرني وهو الله تعالى {ءَالِهَةً} باطلة وهي الأصنام وهو إنكار ونفي لاتخاذ الآلهة على الإطلاق أي : لا أتخذ ثم استأنف لتعليل النفي فقال : {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـانُ بِضُرٍّ} يعني : (اكرخواهد رحمن ضررى بمن رسد) والضر اسم لكل سوء ومكروه يتضرر به {لا تُغْنِ عَنِّى شَفَـاعَتُهُمْ} أي : الآلهة {شَيْـاًا} أي : لا تنفعني شيئاً من النفع إذ لا شفاعة لهم فتنفع فنصب شيئاً على المصدرية وقوله : لا تغن جواب الشرط والجملة الشرطية استئناف لا محل لها من الإعراب {وَلا يُنقِذُونِ} الإنقاذ التخليص أي : لا يخلصونني من ذينك الضر والمكروه بالنصرة والمظاهرة وهو عطف على لا تغن وعلامة الجزم حذف نون الإعراب لأن أصله لا ينقذونني وهو تعميم بعد تخصيص مبالغة بهما في عجزه وانتفاء قدرتهم.
قال الإمام السهيلي : ذكروا أن حبيباً كان به داء الجذام فدعا له الحواري فشفي فلذلك قال : إن يردن الرحمن الخ انتهى.
وقال بعضهم : إن المريض كان ابنه كما سبق إلا أن يقال لا مانع من ابتلاء كليهما أو أن مرض ابنه في حكم مرض نفسه فلذا أضاف الضر إلى نفسه ويحتمل أن الضر ضر القوم لأنه روى شفاء كثير من مرضاهم على يدي الرسل فأضافه حبيب إلى نفسه على طريقة ما قبله من الاستمالة وتعريفاً للإحسان بهم بطريق اللطف.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِنِّى إِذًا} أي : إذا اتخذت من دونه آلهة {لَّفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} فإن إشراك ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر بالخالق المقتدر الذي لا قادر غيره ولا خير إلا خيره ضلال بين لا يخفى على أحد ممن له تمييز في الجملة.
{إِنِّى إِذًا لَّفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * إِنِّى ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَا قَالَ يا لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى} .
(7/301)
{إِنِّى ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ} الذي خلقكم ورباكم بأنواع النعم وإنما قال : آمنت بربكم وما قال آمنت بربي ليعلموا أن ربهم هو الذي يعبده فيعبدوا ربهم ولو قال إني آمنت بربي لعلهم يقولون أنت تعبد ربك ونحن نعبد
385
ربنا وهو آلهتهم {فَاسْمَعُونِ} أجيبوني في وعظي ونصحي واقبلوا قولي كما يقال سمع الله لمن حمده أي : قبله فالخطاب للكفرة شافههم بذلك إظهاراً للتصلب في الدين وعدم المبالاة بالقتل.
وإضافة الرب إلى ضميرهم لتحقيق الحق والتنبيه على بطلان ما هم عليه من اتخاذ الأصنام أرباباً كما في "الإرشاد" : وإنما أكده إظهاراً لصدوره عنه بكمال الرغبة والنشاط.
ولما فرغ من نصيحته لهم وثبوا عليه فوطئوه بأرجلهم حتى خرجت إمعاؤه من دبره ثم ألقى في البئر وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال السدي رجموه يعني (ايشان اورا سنك مى زدند تا هلاك شد وهو يقول رب اهد قومي آن دليل است بركمال وفرط شفقت وى بر خلق اين آننان است كه ابو بكر الصديق بني تيم را كفت آنكه كه اورا مى رنجانيدند واز دين حق بادين باطل ميخواندند كفت "اللهم اهد بني تيم فإنهم لا يعلمون يأمرونني بالرجوع من الحق إلى الباطل" كمال شفقت ومهربانىء ابو بكر رضي الله عنه برخلق خدا غرفه بود از بحر نبوت عربى عليه السلام بآن خبركه كفت "ما صب الله تعالى شيئاً في صدري إلا وصببته في صدر أبي بكر" وخلق مصطفى عليه السلام باخلق نان بود كه كافران بقصدوى برخاسته بودند ودندان عزيزوى ميشكستند ونجاست برمهر نبوت مى انداختند وآن مهتر عالم دست شفقت بر سر ايشان نهاده كه) "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" وفي "المثنوي" :
طبع را كشتند در حمل بدى
نا حمولى كر بود هست ازدىاى مسلمان خود ادب اندر طلب
نيست الا حمل ازهر بى ادب
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وقال الحسن : خرقوا خرقاً في حلق حبيب فعلقوه من وراء سوء المدينة.
وقيل نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه.
وقيل : ألقي في البئر وهو الرس وقبره في سوق أنطاكية.
قيل : طوّل معهم الكلام ليشغلهم بذلك عن قتل الرسل إلى أن قال : إني آمنت بربكم فاسمعون فوثبوا عليه فقتلوه وباشتغالهم بقتله تخلص الرسل كما في "حواشي ابن الشيخ" وكذا قال الكاشفي : (وبقولى آنست بسلامت بيرون رفتند وحبيب كشته شد وقولى آنست كه يغمبران وملك ومؤمنان كشته شدند) كما قال أبو الليث في تفسيره وقتلوا الرسل الثلاثة
ون سفيها نراست اين كار وكيا
لازم آمد يقتلون الأنبيا {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} قيل له أي : الحبيب النجار ذلك لما قتلوه إكراماً له بدخولها حينئذٍ كسائر الشهداء.
وقيل معناه البشري بدخول الجنة وإنه من أهلها يدخلها بعد البعث لا أنه أمر بدخولها في الحال لأن الجزاء بعد البعث وإنما لم يقل قيل له لأن الغرض بيان المقول لا المقول له لظهوره وللمبالغة في المسارعة إلى بيانه والجملة استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ من حكاية حاله ومقاله كأنه قيل كيف كان لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه والتسخي بروحه لوجهه تعالى فقيل : قيل ادخل الجنة وكذا قوله تعالى : {قَالَ} إلى آخره فإنه جواب عن سؤال نشأ من حكاية حاله كأنه قيل فماذا قال عند نيله تلك الكرامة السنية فقيل : قال متمنياً علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب مثله بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان
386
(7/302)
والطاعة جرياً على سنن الأولياء في كظم الغيظ والترحم على الأعداء وليعلموا أنهم كانوا على خفاء عظيم في أمره وإنه كان على الحق وأن عداوتهم لم تكسبه إلا سعادة يا لَيْتَ قَوْمِى} يا في مثل هذا المقام لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه (اى كاشكى قوم من) {يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى} ما موصولة أي : بالذي غفر لي ربي بسببه ذنوبي أو مصدرية أي : بمغفرة ربي والباء صلة يعلمون أو استهامية وردت على الأصل وهو أن لا تحذف الألف بدخول الجار والباء متعلقة بغفر أي : بأي شيء غفر لي ربي يريد به تفخيم شأن المهاجرة عن ملتهم والمصابرة على إذيتهم لإعزاز الدين حتى قتل {وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ} أي : المنعمين في الجنة وإن كان على النصف إذ تمامه إنما يكون بعد تعلق الروح بالجسد يوم القيامة وفي الحديث المرفوع "نصح قومه حياً وميتاً" (اكرآن قوم اين كرامت ديدندى ايشان نيز ايمان آوردندى) وهكذا ينبغي للمؤمن أن يكون ناصحاً للناس لا يلتفت إلى تعصبهم وتمردهم ويستوي حاله في الرضى والغضب.
قال حمدون القصار : لا يسقط عن النفس رؤية الخلق بحال ولو سقط عنها في وقت لسقط في المشهد الأعلى في الحضرة ألا تراه في وقت دخول الجنة يقول : يا ليت قومي يعلمون يحدّث نفسه إذ ذاك.
يقول الفقير وذلك لأن حجاب الإمكان الذي هو متعلق بجانب النفس والخلق والكثرة لا يزول أبداً وإن كان الانسلاخ التام ممكناً لا كامل البشر عند كمال الشهود فإن هذا الانسلاخ لا يخرجهم عن حد الحدوث والإمكان بالكلية والا يلزم أن ينقلب الحادث الممكن واجباً قديماً وهو محال.
قال في "كشف الأسرار" : (نشان كرامت بنده آنست كه مردوار درآيد وجان ودل وروز كار فداى حق ودين اسلام كند نانكه حبيب كرد تا از حضرت عزت اين خلعت كرامت بدور سيدكه
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{ادْخُلِ الْجَنَّةَ} دوستان او ون بآن عقبه خطرناك رسند بايشان خطاب آيد {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} (فصلت : 30) بازايشانرا بشارت دهندكه {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} (فصلت : 30) احمد بن حنبل رحمة الله در نزع بود بدست اشارت مى كرد وبزبان دند نه مى كفت عبد الله سرش كوش بردهان او نهاد تاه شنود او درخويشتن مى كفت "لا بعد لا بعد" سرش كفت اى در اين ه حالتست كفت اى عبد الله وقتى باخطراست بدعا مددى ده اينك ابليس بر ايستاده وخاك ادبار برسر مى ريزد وميكويدكه جان ببردى اززخم ما ومن ميكويم "لا بعد" هنوز نه بايك نفس مانده جاى خطراست نه جاى ايمن وكار موقوف بعنايت حق.
أمير المؤمنين علي رضي الله عنه كويد يكى را درخاك مى نهادم سه بار روى او بجانب قبله كردم هربار روى ازقبله بكردانيد س ندايى شنيدكه اى على دست بدار آنكه ما ذليل كرديم تو عزيز نتوانى كرد وكذا العكس در خبر آيد كه بنده مؤمن ون از سراى فانى روى بدان منزل بقا نهد غسال اورا بدان تخته وب خواباند تا بشويد از جناب قدم بنعت كرم خطاب آيدكه اى مقربان دركاه دركريد نانكه آن غسال ظاهر او بآب ميشويد ما باطن او بآب رحمت ميشوييم ساكنان حضرت جبروت كويند ادشاها مارا خبركن تا آنه نورست كه ازدهان وى شعله مى زند وكويد از نور جلال ماست كه از باطن وى رظاهر تجلى ميكند
387
حبيب نجار ون بآن مقام دولت رسيد اورا كفتند {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} أي : در آى درين جاى ناز دوستان وميعادرا زمحبان ومنزل آسايش مشتاقان تاهم طوبى بينى هم زلفى هم حسنى.
طوبى عيش بى عتابست.
وزلفى ثواب بى حسابست.
وحسنى ديدار بى حجابست حبيب ون آن نواخت وكرامت ديد كفت يا لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ} الخ آرزو كردكه كاشكى قوم من دانستندى كه ماكجا رسيديم وه ديديم تواخت حق ديديم وبمغفرت الله رسيديم) :
آنجايكه ابرار نشستند نشستيم
صدكونه شراب از كف اقبال شيديم
مارا همه مقصود بخشايش حق بود
المنة بمقصود رسيديم
{بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِه مِنا بَعْدِه مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/303)
{وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ} أي : قوم حبيب وهم أهل أنطاكية {مِنا بَعْدِهِ} أي : من بعد قتله {مِن جُندٍ} (عسكر) {مِّنَ السَّمَآءِ} لإهلاكهم والانتقام منهم كما فعلناه يوم بدر والخندق بل كفينا أمرهم بصيحة ملك {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} وما صح في حكمتنا أن ننزل لإهلاك قومه جنداً من السماء لما أن قدرنا لكل شيء سبباً حيث أهلكنا بعض الأمم بالحاصب وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالإغراق وجعلنا إنزال الجند من السماء من خصائصك في الانتصار من قومك.
وفي الآية استحقار لأهل أنطاكية ولإهلاكهم حيث اكتفى في استئصالهم بما يتوسل به إلى زجر نحو الطيور والوحوش من صيحة عبد واحد مأمور وإيماءً إلى تفخيم شأن الرسول عليه السلام لأنه إذا كان أدنى صيحة ملك واحد كافياً في إهلاك جماعة كثيرة ظهر أن إنزال الجنود من السماء يوم بدر والخندق لم يكن إلا تعظيماً لشأنه وإجلالاً لقدره لا لاحتياج الملائكة إلى المظاهرة والمعاونة فإنه قيل كما لم ينزل عليهم جنداً من السماء لم يرسل إليهم جنداً من الأرض أيضاً فما فائدة قوله من السماء فالجواب أنه ليس للاحتراز بل لبيان أن النازل عليهم من السماء لم يكن إلا صيحة واحدة أهلكتهم بأسرهم.
{إِن كَانَتْ} أي : ما كانت الأخذة أو العقوبة على أهل أنطاكية {إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} (مكر يك فرياد كه جبرائيل هردوبازى درشهر ايشان كرفته صيحه زد) {فَإِذَا هُمْ} (س آنجا ايشان) {خَـامِدُونَ} ميتون لا يسمع لهم حس ولا يشاهد لهم حركة شبهوا بالنار الخامدة رمزاً إلى أن الحي كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب والميت كالرماد يقال خمدت النار سكن لهبها ولم ينطفىء جمرها وهمدت إذا طفىء جمرها.
قال في "الكواشي" : لم يقل هامدون وإن كان أبلغ لبقاء أجسادهم بعد هلاكهم ووقعت الصيحة في اليوم الثالث من قتل
388
حبيب والرسل أو في اليوم الذي قتلوهم فيه.
وفي رواية في الساعة التي عادوا فيها بعد قتلهم إلى منازلهم فرحين مستبشرين وإنما عجل الله عقوبتهم غضباً لأوليائه الشهداء فإنه تعالى يغضب لهم كما يغضب الأسد لجروه نسأل الله أن يحفظنا من موجبات غضبه وسخطه وعذابه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} المصرين على العناد تعالى فهذه من الأحوال التي حقها أن تحضري فيها وهي ما دل عليه قوله تعالى : {مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} فإن المستهزئين بالناصحين الذين نيطت بنصائحهم سعادة الدارين أحقاء بأن يتحسروا ويتحسر عليهم المتحسرون وقد تلهف على حالهم الملائكة والمؤمنين من الثقلين فقوله : يا حَسْرَةً} نداء للحسرة عليهم والحسرة وهي أشد الغم والندامة على الشيء الفائت لا تدعي ولا يطلب إقبالها لأنها مما لا تجيب والفائدة في ندائها مجرد تنبيه المخاطب وإيقاظه ليتمكن في ذهنه أن هذه الحالة تقتضي الحسرة وتوجب التلهف فإن العرب تقول يا حسرة يا عجباً للمبالغة في الدلالة على أن هذا زمان الحسرة والتعجب والنداء عندهم يكون لمجرد التنبيه.
وقد جوز أن يكون تحسراً عليهم من جهة الله بطريق الاستعارة لتعظيم ما جنوه على أنفسهم شبه استعظام الله لجنايتهم على أنفسهم بتحسر الإنسان على غيره لأجل ما فاته من الدولة العظمى من حيث أن ذلك التحسر يستلزم استعظام ما أصاب ذلك الغير والإنكار على ارتكابه والوقوع فيه ويؤيده قراءة يا حسرتا لأن المعنى يا حسرتي ونصبها لطولها بما تعلق بها من الجار أي : لكونها مشابهة بالمنادي المضاف في طولها بالجار المتعلق.
وفي "بحر العلوم" قوله : {مَا يَأْتِيهِم} الخ حكاية حال ماضية مستمرة أي : كانوا في الدنيا على الاستمرار يستهزئون بمن يأتيهم من الرسول من غاية الكبر ويستحقرون ويستنكفون عن قبول دينه ودعوته وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عن استهزاء قومه.
وفي "تفسير العيون" قوله : يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} بيان حال استهزائهم بالرسل أي : يقال يوم القيامة يا حسرة وندامة على الكفار حيث لم يؤمنوا برسلهم وقوله : {مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} تفسير لسبب الحسرة النازلة بهم وفي الحديث "إن المستهزئين بالناس في الدنيا يفتح لهم يوم القيامة باب من أبواب الجنة فيقال لهم هلم هلم فيأتيه أحدهم بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فلا يزال يفعل به ذلك حتى يفتح له الباب فيدعى إليه فلا يجيب من الإياس".
وقال مالك بن دينار قرأت في زبور داود طوبى لمن لم يسلك سبيل الآثمين ولم يجالس الخاطئين ولم يدخل في هزؤ المستهزئين ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
اره دوزى ميكنى اندر دكان
زير اين دكان تو مدفون دو كان
هست اين دكان كر آيى زودباش
تيشه بستان وتكش را مى تراش
تاكه تيشه ناكهان بر كان نهى
ازد كان واره دوزى وارهى
اره دوزى يست خورد آب ونان
مى زنى اين اره بر دلق كران
(7/304)
هر زمان مى درد اين دلق تنت
اره بروى مى زنى زين خوردنت
اره بركن ازين قعر دكان
تابر آرد سر به يش تو دو كان
يش ازان كين مهلت خانه كرى
آخر آيد تو نبردى زو برى
389
س ترا بيرون كند صاحب دكان
وين دكانرا بركند از روى كان
تو ز حسرت كاه بر سر مى زنى
كاه ريش خام خود بر ميكنى
كاى دريغا آن من بود اين دكان
كور بودم برنخوردم زين مكان
اى دريغا بود ما را برد باد
تا ابد يا حسرة شد للعباد
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِا مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ * وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} .
{أَلَمْ يَرَوْا} وعيد للمشركين في مكة بمثل عذاب الأمم الماضية ليعتبروا ويرجعوا عن الشرك أي : ألم يعلم أهل مكة {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ} كم خبرية.
والقرن القوم المقترنون في زمن واحد أي : كثرة إهلاكنا من قبلهم من المذكورين آنفاً ومن غيرهم بشؤم تكذيبهم وقوله ألم يروا معلق عن العمل فيما بعده لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها وإن كانت خبرية لأن أصلها الاستفهام خلا أن معناه نافذ في الجملة كما نفذ في قولك ألم تر أن زيداً لمنطلق وإن لم يعمل في لفظه فالجملة منصوبة المحل بيروا {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} بدل من أهلكنا على المعنى أي : ألم يعلموا كثرة إهلاكنا القرون الماضية والأمم السالفة كونهم أي : الهالكين غير راجعين إليهم أي : إلى هؤلاء المشركين أي : أهلكوا إهلاكاً لا رجوع لهم من بعده في الدنيا وبالفارسية : (ومشاهده نكردند كه هلاك شدكان سوى اينان بازنمى كردند يعنى بدنيا معاودت نمى كنند) أفلا يعتبرون ولم لا ينتبهون فكما أنهم مضوا وانقرضوا إلى حيث لم يعودوا إلى ما كانوا فكذلك هؤلاء سيهلكون وينقرضون أثرهم ثم لا يعودون.
وقال بعضهم : ألم يروا أن خروجهم من الدنيا ليس كخروج أحدهم من منزله إلى السوق أو إلى بلد آخر ثم عودته إلى منزله عند إتمام مصلحته هناك بل هو مفارق من الدنيا أبداً فكونهم غير راجعين إليهم عبارة عن هلاكهم بالكلية ويجوز أن يكون المعنى أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بسبب الولادة وقطعنا نسلهم وأهلكناهم كما في "التفسير الكبير" (سلمان فارسي رضي الله عنه هركاه كه بخرابى بر كذشتى توقف كردى دل بدادند ومال ورفتكان آن منزل ياد كردى كفتى كجايند ايشان كه اين بنا نهادند واين مسكن ساختند وبزارى بناليدى وجان بردر باختند تا آن غرفها بياراستند ون دلبران نهادند وون كل بشكفتند برك بريختند ودر كل خفتند) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
سل الطارم العالي الذرى عن قطينه
نجا ما نجا من بؤس عيش ولينه
فلما استوى في الملك واستعبد العدى
رسول المنايا تله لجبينه
وهذه الآية ترد قول أهل الرجعة أي : من يزعم أن من الخلق من يرجع قبل القيامة بعد الموت كما حكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له إن قوماً يزعمون أن علياً رضي الله عنه مبعوث قبل يوم القيامة فقال : بئس القوم نحن إذا نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه أي : لو كان راجعاً لكان حياً والحي لا تنكح نساؤه ولا يقسم ميراثه كما قال الفقهاء إذا بلغ إلى المرأة وفاة زوجها فاعتدت وتزوجت وولدت ثم جاء زوجها الأول فهي امرأته لأنها كانت منكوحته ولم يعترض شيء من أسباب الفرقة فبقيت على النكاح السابق ولكن لا يقربها حتى تنقضي عدتها من النكاح الثاني.
ويجب إكفار الروافض في قولهم بأن علياً وأصحابه يرجعون
390
إلى الدنيا فينتقمون من أعدائهم ويملأون الأرض قسطاً كما ملئت جوراً وذلك القول مخالف للنص نعم إن روحانية علي رضي الله عنه من وزراء المهدي في آخر الزمان على ما عليه أهل الحقائق ولا يلزم من ذلك محذور قطعاً لأن الأرواح تعين الأرواح والأجسام في كل وقت وحال فاعرف هذا {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} إن نافية وتنوين كل عوض عن المضاف إليه.
ولما بمعنى إلا.
وجميع فعيل بمعنى مفعول جمع بين كل وجميع لأن الكل يفيد الإحاطة دون الاجتماع والجميع يفيد أن المحشر يجمعهم.
ولدينا بمعنى عندنا ظرف لجميع أو لما بعده.
والمعنى ما كل الخلائق إلا مجموعين عندنا محضرون للحساب والجزاء.
وهذه الآية بيان لرجوع الكل إلى المحشر بعد بيان عدم الرجوع إلى الدنيا وإن من مات ترك على حاله ولو لم يكن بعد الموت بعث وجمع وحبس وعقاب وحساب لكان الموت راحة للميت ولكنه يبعث ويسأل فيكرم المؤمن والمخلص والصالح والعادل ويهان الكافر والمنافق والمرائي والفاسق والظالم فيفرح من يفرح ويتحسر من يتحسر فللعباد موضع التحسر إن لم يتحسروا اليوم.
(7/305)
واعلم أنه غلبت على أهل زماننا مخالفة أهل الحق ومعاداة أولياء الله واستهزاؤهم ألا ترون أنهم يستمعون القول من المحققين فيتبعون أقبحه ويقعون في أولياء الله ويستهزئون بهم وبكلماتهم المستحسنة إلا من يشاء الله به خيراً من أهل النظر وأرباب الإرادة وقليل ما هم فكما أن الله تعالى هدد كفار الشريعة في هذا المقام من طريق العبارة كذلك هدد كفار الحقيقة من طريق الإشارة فإنه لم يفت منهم أحد ولم ينفلت من قبضة القدرة إلى يومنا هذا ولم يكن لواحد منهم عون ولا مدد وكلهم رجعوا إليه وأحضروا لديه وعوتبوا بل عوقبوا على ما هم عليه.
ثم اعلم أن الله تعالى جعل هذه الأمة آخر الأمم فضلاً منه وكرماً ليعتبروا بالماضين وما جعلهم عبرة لأمة أخرى وأنه تعالى قد شكا لهم من كل أمة وما شكا إلى أحد من غيرهم شكايتهم إلا ما شكا إلى نبيهم المصطفى صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج كما قال عليه السلام : "شكا ربي من أمتي شكايات : الأولى : أني لم أكلفهم عمل الغد وهم يطلبون مني رزق الغد.
والثانية : أني لا أدفع أرزاقهم إلى غيرهم وهم يدفعون عملهم إلى غيري.
والثالثة : أنهم يأكلون رزقي ويشكرون غيري ويخونون معي ويصالحون خلقي.
والرابعة : أن العزة لي وأنا المعز وهم يطلبون العز من سواي.
والخامسة أني خلقت النار لكل كافر وهم يجتهدون أن يوقعوا أنفسهم فيها".
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
فغان از بديها كه در نفس ماست
نه فعل نكوهست نه كفتار راست
دوخواهنده بودن بمحشر فريق
ندانم كدامين دهندم طريق
خدايا دو شمم زباطل بدوز
بنورم كه فردا بنارت مسوز
{وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * وَءَايَةٌ لَّهُمُ الارْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَـاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّـاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِه وَمَا عَمِلَتْهُ} .
{وَءَايَةٌ} علامة عظيمة ودلالة واضحة على البعث والجمع والإحضار وهو خبر مقدم للاهتمام به وقوله {لَهُمُ} أي : لأهل مكة إما متعلق بآية لأنها بمعنى العلامة أو بمضمر هو صفة لها والمبتدأ قوله {الارْضُ الْمَيْتَةُ} اليابسة الجامدة وبالفارسية : (خشك وبى كياه) {أَحْيَيْنَـاهَا} استئناف مبين لكيفية كون الأرض الميتة آية كأن قائلاً قال كيف تكون آية
391
فقال : أحييناها والإحياء في الحقيقة إعطاء الحياة وهي صفة تقتضي الحس والحركة والمعنى ههنا هيجنا القوى النامية فيها وأحدثنا نضارتها بأنواع النباتات في وقت الربيع بإنزال الماء من بحر الحياة وكذلك النشور فإنا نحيى الأبدان البالية المتلاشية في الأجداث بإنزال رشحات من بحر الجود فنعيدهم أحياء كما أبدعناهم أولاً من العدم {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا} أي : من الأرض {حَبًّا} الحب الذي يطحن والبزر الذي يعصر منه الدهن وهو جمع حبة والمراد جنس الحبوب التي تصلح قواماً للناس من الأرز والذرة والحنطة وغيرها {فَمِنْهُ} أي : فمن الحب {يَأْكُلُونَ} تقديم الصلة ليس لحصر جنس المأكول في الحب حتى يلزم أن لا يؤكل غيره بل هو لحصر معظم المأكول فيه فإن الحب معظم ما يؤكل ويعاش به ومنه صلاح الإنس حتى إذا قلّ قلّ الصلاح وكثر الضر والصياح وإذا فقد فقد النجاح باختلال الأشباح والأرواح ولأمر مّا قال عليه السلام : "أكرموا الخبز فإن الله أكرمه فمن أكرم الخبز أكرمه الله" وقال عليه السلام : "أكرموا الخبز فإن الله سخر له بركات السموات والأرض والحديد والبقر وابن آدم ولا تسندوا القصعة بالخبز فإنه ما أهانه قوم إلا ابتلاهم الله بالجوع" وقال عليه السلام : "اللهم متعنا بالإسلام وبالخبز فلولا الخبز ما صمنا ولا صلينا ولا حججنا ولا غزونا وارزقنا الخبز والحنطة" كما في "بحر العلوم".
قال في "شرعة الإسلام" : ويكرم الخبز بأقصى ما يمكن فإنه يعمل في كل لقمة يأكلها الإنسان من الخبز ثلاثمائة وستون صانعاً أولهم ميكائيل الذي يكيل الماء من خزانة الرحمة ثم الملائكة التي تزجر السحاب والشمس والقمر والأفلاك وملائكة الهواء ودواب الأرض وآخرهم الخباز ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ابروباد ومه وخورشيد وفلك دركارند
تاتونانى بكف آرى وبغفلت نخورى
همه ازبهر توسر كشته وفرمان بردار
شرط انصاف نباشد كه توفرمان نبرى
(7/306)
ومن إكرام الخبز أن يلتقط الكسرة من الأرض وإن قلت فيأكلها تعظيماً لنعمة الله تعالى وفي الحديث : "من أكل ما يسقط من المائدة عاش في وسعة وعوفي في ولده وولد ولده من الحمق" ويقال أن التقاط الفتات مهور الحور العين ولا يضع القصعة على الخبز ولا غيرها إلا ما يؤكل به من الأدام.
ويكره مسح الأصابع والسكين بالخبز إلا إذا أكله بعده.
وكذا يكره وضع الخبز جنب القصعة لتستوي.
وكذا يكره أكل وجه الخبز أو جوفه ورمي باقيه لما في كل ذلك من الاستخفاف بالخبز والاستخفاف بالخبز يورث الغلاء والقحط كذا في "شرح النقاية والعوارف".
ـ وذكر ـ أن الأرز خلق من عرق النبي عليه السلام.
زعم بعضهم أن أهل الهند لما منعوا من إخراجه إلى الروم أطعموه البط ثم ذبحوه فأخرجوه خيفة منهم بهذه الحيلة.
قال بعض الكبار : من لم يأكل الأرز بهذا الزعم فليأكل السم.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا} وخلقنا في الأرض {جَنَّـاتٍ} بساتين مملوءة {مِّن نَّخِيلٍ} جمع نخلة {وَأَعْنَـابٍ} جمع عنب أي : من أنواع النخل والعنب ولذلك جمعا دون الحب فإن الدال على الجنس مشعر بالاختلاف ولا كذلك الدال على الأنواع.
فإن قلت : لم ذكر النخيل دون التمور حتى يطابق الحب والأعناب في كونها مأكولة لأن التمور والحب والأعناب كلها مأكولة دون النخيل.
قلت لاختصاص شجرها بمزيد النفع وآثار الصنع
392
وذلك لأنها أول شجرة استقرت على وجه الأرض وهي عمتنا لأنها خلقت من فضل طينة آدم عليه السلام وهي تشبه الإنسان من حيث استقامة قدّها وطولها وامتياز ذكرها من بين النبات واختصاصها باللقاح ورائحة طلعها كرائحة المني ولطلعها غلاف كالمشيمة التي يكون الولد فيها ولو قطع رأسها ماتت كما قالوا أقرب الجماد إلى النبات المرجان لأنه ينبت في البحر كالنبات ويكون له أغصان وأقرب النبات إلى الحيوان النخل لأنها تموت بقطع رأسها ولا تثمر بدون اللقاح كما ذكر وأقرب الحيوان إلى الإنسان الفرس يعني : (ازحيثيت شعور وزيركى) ويرى المنامات كبني آدم ولو أصاب جمار النخلة آفة هلكت والجمار من النخلة كالمخ من الإنسان وإذا تقارب ذكورها وإناثها حملت حملاً كثيراً لأنها تستأنس بالمجاورة وإذا كانت ذكورها بين إناثها ألحقتها بالريح وربما قطع ألفها من الذكور فلا تحمل لفراقه ويعرض لها العشق وهو أن تميل إلى نخلة أخرى ويخف حملها وتهزل وعلاجه أن يشد بينها وبين معشوقها الذي مالت إليه بحبل أو يعلق عليها سعفة منه أو يجعل فيها من طلعه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ومن خواص النخلة أن مضغ خوصها يقطع رائحة الثؤم وكذا رائحة الخمر.
وأما العنب فقد جاء في بعض الكتب المنزلة أتكفرون بي وأنا خالق العنب وله خواص كثيرة وكذا الزبيب روي أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الزبيب فقال : "بسم الله كلوا نعم الطعام الزبيب يشد العصب ويذهب الوصب ويطفىء الغضب ويرضي الرب ويطيب النكهة ويذهب البلغم ويصفي اللون" وماء الكرم الذي يتقاطر من قضبانها بعد كسحها ينفع للجرب شرباً ويجمع ويسقي للمشغوف بالخمر بعد شرب الخمر من غير علمه فيبغض الخمر قطعاً.
وأول من استخرج الخمر جمشيد الملك فإنه توجه مرة إلى الصيد فرأى في بعض الجبال كرمة وعليها عنب فظنها من السموم فأمر بحملها حتى يجرّ بها ويطعم العنب لمن يستحق القتل فيحملوه فتكسرت حباته فعصروها وجعلوا ماءها في ظرف فما عاد الملك إلى قصره إلا وقد تخمر العصير فأحضر رجلاً وجب عليه القتل فسقاه من ذلك فشربه بكره ومشقة ونام نومة ثقيلة ثم انتبه وقال : اسقوني منه فسقوه أيضاً مراراً فلم يحدث فيه إلا السرور والطرب فسقوا غيره وغيره فذكروا أنهم انبسطوا بعدما شربوه ووجدوا سروراً وطرباً فشرب الملك فأعجبه ثم أمر بغرسه في سائر البلاد وكانت الخمر حلالاً في الأمم السالفة فحرمها الله تعالى علينا لأنها مفتاح لكل شر وجالبة لكل سوء وضرّ ومميتة للقلب ومسخطة للرب في الحديث "خير خلكم خل خمركم" وذلك لأن انقلاب الخمر إلى الخل مرضاة للرب.
وفيه خواص كثيرة وأكثر الناس السعال والتنحنح في مجلس معاوية فأمر بشرب خل الخمر.
والخل ورد فيه "نعم الأدام" وقد تعيش به كثير من السلف الكرام نسأل الله القناعة على الدوام {وَفَجَّرْنَا} الفجر شق الشيء شقاً واسعاً كما في "المفردات".
قال بعضهم : التفجير كالتفتيح لفظاً ومعنى وبناء التفعيل للتكثير والمعنى بالفارسية : (دركشاديم وروانه كرديم) {فِيهَا} أي : في الأرض {مِنَ الْعُيُونِ} جمع عين وهي في الأصل الجارحة ويقال لمنبع الماء عين تشبيهاً بها في الهيئة وفي سيلان الماء منها ومن عين الماء اشتق ماء معين أي : ظاهر للعيون ومعنى من العيون من ماء العيون فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه أو العيون
393
ومن مزيدة على رأي الأخفش.
(7/307)
واعلم أن تفجير الأنهار والعيون في البلاد رحمة من الله تعالى على العباد إذ حياة كل شيء من الماء وللبساتين منه النضارة والنماء.
والعيون إما جارية وإما غير جارية والجارية غير الأنهار إذ هي أكثر وأوسع من العيون ومنبعها غير معلوم غالباً كالنيل المبارك حيث لم يوجد رأسه وغير الجارية هي الآبار.
وفي الدنيا عيون وآبار كثيرة وفي بعضها خواص زائدة كعين شبرم وهي بين أصفهان وشيراز وهي من عجائب الدنيا وذلك أن الجراد إذا وقعت بأرض يحمل إليها من ذلك العين ماء في ظرف أو غيره فيتبع ذلك الماء طيور سود تسمى السمرمر ويقال له السوادية بحيث أن حامل الماء لا يضعه إلى الأرض ولا يلتفت وراءه فتبقى تلك الطيور على رأس حامل الماء في الجو كالسحابة السوداء إلى أن يصل إلى الأرض التي بها الجراد فتصيح الطير عليها فتقتلها فلا يرى شيء من الجراد متحركاً بل يموت من أصوات تلك الطيور.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
يقول الفقير : في حد الروم أيضاً عين يقال لها ماء الجراد وهي مشهورة في جميع البلاد الرومية ينقل ماؤها من بلدة إلى بلدة القتل الجراد إذا استولت وقد حصلت تلك الخاصية لها بنفس من أنفاس بعض الأولياء وإن كان التأثير في كل شيء من الله تعالى ولهذا نظائر منها أن في قبر إبراهيم بن أدهم قدس سره ثقبة إذا قصد ظالم بسوء البلدة التي فيها ذلك القبر المنيف يخرج من تلك الثقبة نحل وزنابير تلسعه ومن يتبعه فيتفرقون ، وفي "المثنوي" :
اولياراهست قوت ازآله
تير جسته باز كرداند زراه
نسأل الله العصمة والتوفيق والشرب من عين التحقيق.
{لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ} متعلق بجعلنا وتأخيره عن تفجير العيون لأنه من مبادي الأثمار أي : وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب ورتبنا مبادي أثمارها ليأكلوا من ثمر ما ذكر من الجنات والنخيل ويواظبوا على الشكر أداء لحقوقنا ففيه إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} عطف على ثمره وأيديهم كناية عن القوة لأن أقوى جوارح الإنسان في العمل يده فصار ذكر اليد غالباً في الكناية ومثله ذلك بما قدمت أيديكم وفي كلام العجم (بدست خويش كردم بخويشتن) وأنت لا تنوي اليد بعينها كما في "كشف الأسرار" والمعنى وليأكلوا من الذي عملته أيديهم وهو ما يتخذ منه من العصير والدبس ونحوهما.
وقيل ما نافية والمعنى أن الثمر بخلق الله تعالى لا بفعلهم ومحل الجملة النصب على الحالية ويؤكد الأول قراءة عملت بلا هاء فإن حذف العائد من الصلة أحسن من الحذف من غيرها {أَفَلا يَشْكُرُونَ} إنكار واستقباح لعدم شكرهم النعم المعدودة والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي : يرون هذه النعم أو يتنعمون بها فلا يشكرونها بالتوحيد والتقديس والتحميد (صاحب بحر الحقائق فرموده كه معنى آيت بزبان اهل اشارت آنست كه زمين دلرازنده كرديم بباران عنايت وبيرون آورديم ازان حب طاعت تا ارواح ازان غذامى يابند وساختيم بوستانها ازنخيل اذكار واعناب أشواق وعيون حكمت دورى روان كرديم تا ازاثمار مكاشفات ومشاهدات تمتع مى كيرند از نتايج اعمال كه كرده اند از صدقات وخيرات آياساس دارى نميكنند يعنى ساس نمى بايد داشت برين نعم ظاهره وباطنه تا موجب مزيد آن شودكه) {لَـاـاِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم : 7) :
394
كر شكر كنى زياده كردد نعمت
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وزدل ببرد دغدغه بيش وكمت
س زود بسر منزل مقصود رسى
از منهج شكر آكه نلغزد قدمت
{لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِه وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَـانَ الَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنابِتُ الارْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا} .
{سُبْحَـانَ الَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا} سبحان علم للتسبيح الذي هو التبعيد عن السوء اعتقاداً وقولاً أي : اعتقاد البعد عنه والحكم به فإن العلم كما يكون علماً للأشخاص كزيد وعمرو وللأجناس كأسامة يكون للمعاني أيضاً لكن علم الأعيان لا يضاف وهذا لا يجوز بغير إضافة كما في الآية أقيم مقام المصدر وبين مفعوله بإضافته إليه والمراد بالأزواج الأصناف والأنواع جمع زوج بالفارسية : (جفت) خلاف الفرد ويقال للأنواع أزواج لأن كل نوع زوج بقسميه.
وفي سبحان استعظام ما ذكر في حيز الصلة من بدائع آثار قدرته وروائع نعمائه الموجبة للشكر وتخصيص العبادة به والتعجب من إخلال الكفرة بذلك والحالة هذه فإن التنزيه لا ينافي التعجب.
والمعنى أسبح الذي أوجد الأصناف والأنواع سبحانه أي : أنزهه عما لا يليق به عقداً وعملاً تنزيهاً خاصاً به حقيقاً بشأنه فهو حكم منه تعالى بتنزهه وبراءته عن كل ما لا يليق به كما فعله الكفار من الشرك وما تركوه من الشكر وتلقين للمؤمنين أن يقولوه ويعتقدوا مضمونه ولا يخلوا به ولا يغفلوا عنه.
(7/308)
وقال بعضهم سبحان مصدر كغفران أريد به التنزه التام والتباعد الكلي عن السوء على أن تكون الجملة أخبار من الله بالتنزه تعالى بذاته عن كل ما لا يليق به تنزهاً خاصاً ومن هو خالق الأصناف والأنواع كيف يجوز أن يشرك به ما لا يخلق شيئاً بل هو مخلوق عاجز.
قال ابن الشيخ : والتنزيه يتناول التنزيه بالقلب وهو الاعتقاد الجازم وباللسان مع ذلك الاعتقاد وهو الذكر الحسن وبالأركان معهما جميعاً وهو العمل الصالح والأول هو الأصل والثاني ثمرة الأول والثالث ثمرة الثاني وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد شيئاً ظهر من قلبه على لسانه وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أفعال جوارحه فاللسان ترجمان الجنان والأركان ترجمان اللسان {مِمَّا تُنابِتُ الارْضُ} بيان للأزواج والمراد كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} أي : خلق الأزواج من أنفسهم أي : الذكر والأنثى {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} أي : والأزواج مما لا يطلعهم على خصوصياته لعدم قدرتهم على الإحاطة بها ولما أنه لم يتعلق بها شيء من مصالحهم الدينية والدنيوية.
قال القرطبي : أي من أصناف خلقه في البر والبحر والسماء والأرض ثم يجوز أن يكون ما يخلقه لا يعلمه البشر ويعلمه الملائكة ويجوز أن لا يعلمه مخلوق.
يقال : دواب البحر والبر ألف صنف لا يعلم الناس أكثرها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال في "بحر العلوم" : ويجوز أن يكون المعنى مما لا يدركون كنهه مما خلق من الأشياء من الثواب والعقاب كما قال عليه السلام : "أربع لا تدرك غايتها شرور النفس وخداع إبليس وثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار" ومنه الروح فإنه ما بلغنا أن الله تعالى اطلع أحداً على حقيقة الروح.
وفي الآية إشارة إلى أنه ما من مخلوق إلا وقد خلق شفعاً إذ الفردية من أخص أوصاف الربوبية كما قال عبد العزيز المكي رحمه الله خلق الأزواج كلها ثم قال : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ} ليستدل بذلك أن خالق الأشياء منزه عن الزوج وإلى أن في كل شيء دليلاً على وجوده تعالى ووحدته وكمال قدرته.
قال في "كشف الأسرار" : (هريكى برهستى الله كواه وبريكانكىء وى نشان نه كواهى دهنده را خردنه نشان دهنده را زبان) :
395
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
قال في "أنيس الوحدة وجليس الخلوة" (وقتى ادشاهى بوداورا بكفر وزندقه ميلى بود وزيرى داشت عاقل ومسلمان خواست كه ادشاهرا ازان باز آورد وعادت وزير آننان بودكه هرسال ادشاهرا يكبار ضيافت كردى ون وقت ضيافت در رسيد ادشاهرا دعوت كرد بزمين شورستان كفت آنجاى ه اى ميزبانيست وزير كفت آنجا بوستانهاى خوش وانهار دلكش رواه وعمارتهاى كران ظاهر شده است بى آنكه كسى مباشرت واقدام نموده ادشاه ون اين سخن دور از عقل شنيد بخنديد وكفت در عقل ه كونه كنجد كه بنابى بنا كننده ظاهر شود وزير كفت ظاهر شدن عالم علوى وسفليست باندين عجائب وغرائب بى آفريدكارى ه كونه معقول بود ادشاهرا اين سخن عظيم خوش آمد واورا سعادت وهدايت روى نمود) :
شمها وكوشهارا بسته اند
جز مراآنهاكه از خود رسته اندجز عنايت كى كشايد شم را
جز محبت كى نشاند خشم را
ون كريزم زانكه بى توزنده نيست
بى خداونديت بود بنده نيستتوبه بى توفيقت اى نور بلند
يست جز بدريش توبه ريش خند
نسأل الله الوقوف على أسراره والاستنارة بأنوار آثاره إنه الظاهر في المجالي بحسن أسمائه وصفاته والباطن بحقائق كمالاته في غيب ذاته.
{وَءَايَةٌ لَّهُمُ} أي : علامة عظيمة لأهل مكة على كمال قدرتنا وهو مبتدأ خبره قوله {الَّيْلُ} المظلم كأنه قيل كيف كان آية فقيل {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} المضيىء أي : نزيل النهار ونكشفه على مكان الليل ونلقي ظله بحيث لا يبقى معه شيء من ضوئه الذي هو شعاع الشمس في الهواء مستعار من السلخ وهي إزالة ما بين الحيوان وجلده من الاتصال وإن غلب في الاستعمال تعليقه بالجلد يقال سلخت الاهاب بمعنى أخرجتها عنه {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} داخلون في الظلام مفاجأة فإن إذا للمفاجأة أي : ليس لهم بعد ذلك أمر سوى الدخول فيه.
وفيه رمز إلى أن الأصل هو الظلمة والنور عارض متداخل في الهواء فإذا خرج منه أظلم فعلى هذا المعنى كان الواقع عقيب إذهاب الضوء عن مواضع ظلمة الليل هو ظهور الظلمة كما كان الواقع عقيب سلخ الإهاب هو ظهور المسلوخ وأما على معنى الإخراج فالواقع بعده وإن كان هو الإبصار دون الإظلام والمقام مقام أن يقال فإذا هم مبصرون لكن لما كان الليل زمان ترح وألم وعدم إبصار والنهار وقت فرح وسرور وإبصار جعل الليل كأنه يفاجئهم عقيب إخراج النهار من الليل بلا مهلة إذ زمان السرور ليس فيه مهلة حكماً وإن كان ممتداً بخلاف زمان الغم فإنه كان فيه المهلة وإن كان قصيراً كما قيل سنة الوصل سنة وسنة الهجر ألف سنة ، وقيل :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ويوم لا أراك كألف شهر
وشهر لا أراك كألف عام
قال الحافظ :
آندم كه باتو باشم يكساله هست روزى
(7/309)
واندم كه بى توباشم يكلحظه هست سالى
محن الزمان كثيرة لا تنقضي
وسروره يأتسك كالأعياد
396
وفي الخبر عن سلمان رضي الله عنه قال : الليل موكل به ملك يقال له شراهيل فإذا حان وقته أخذ خرزة سوداء فدلاها من قبل المغرب فإذا نظرت إليها الشمس وجبت" أي : سقطت في أسرع من طرفة العين وقد أمرت أن لا تغرب حتى ترى الخرزة فإذا غربت جاء الليل وقد نشرت الظلمة من تحت جناحي الملك فلا تزال الخرزة معلقة حتى يجيىء ملك آخر يقال له هراهيل بخرزة بيضاء فيعلقها من قبل المطلع فإذا رأتها الشمس طلعت في طرفة عين وقد أمرت أن لا تطلع حتى ترى الخرزة البيضاء فإذا طلعت جاء النهار وقد نشر النور من تحت جناحي الملك فلنور النهار ملك موكل ولظلمة الليل ملك موكل عند الطلوع والغروب كما وردت الأخبار ذكره السيوطي في كتاب "الهيئة السنية".
قال في "كشف الأسرار" : (بزركى رامر سيدندكه شب فاضلتر يا روز جواب دادكه شب فاضلتركه درهمه شب آسايش وراحت بود والراحة من الجنة ودر روز همه رنج ودشوارى بود اندر طلب معاش والمشقة من النار).
يقول الفقير : فكون النهار زمان سرور بالنسبة إلى العامة أيضاً إذا كانت ليلة الإفطار فإن للصائم فرحة عند ذلك كما ورد في الحديث (وبزركى كفت شب حظ مخلصانست كه عبادت باخلاص كنند ريا دران نه وروز حظ مرائيانست كه عبادت بريا كنند اخلاص دران نه وحى آمد ببعض انبياكه) كذب من ادعى محبتي إذا جنه الليل نام عني أليس كل محب يحب خلوة حبيبه ها أنا مطلع عليكم أسمع وأرى.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ} البشرية {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} الروحانية {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} بظلمة الخلقية فإن الله خلق الخلق بظلمة ثم رش عليهم من نوره.
{وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَالشَّمْسُ} معطوف على الليل أي : وآية لهم الشمس المضيئة المشرقة على صحائف الكائنات كإشراق نور الوجود مطلق الفائض على هياكل الموجودات حسب التجليات الإلهية كأنه قيل كيف كانت آية فقيل : {تَجْرِى} أو حال كونها جارية وسائرة {لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} فيه وجوه : الأول أن اللام في المستقر للتعليل والمستقر اسم مكان أي : تجري لبلوغ مستقر واحد معين ينتهي إليه دورها في آخر السنة فشبه بمستقر المسافر إذا قطع سيره.
والثاني : أن اللام بمعنى إلى والمستقر كبد السماء أي : وسطها والمعنى تجري إلى أن تبلغ إلى وسط السماء وتستقر فيه شبه بطؤ حركتها فيه بالوقفة والاستقرار وإلا فلا استقرار لها حقيقة كما قال في "المفردات" : الزوال يقال في شيء قد كان ثابتاً ومعلوم أن لا ثبات للشمس فكيف يقال زوال الشمس فالجواب قالوه لاعتقادهم في الظهيرة أن لها ثباتاً في كبد السماء وكما قال في "شرح التقويم" : فإن قلت : لم سميت السيارة بها وليست السموات بساكنة؟ قلت : لسرعة حركتها بالنسبة إلى حركة الكواكب الباقية فإن حركتها في غاية البطؤ ولذلك تسمى ثوابت.
والثالث أن اللام لام العاقبة والمستقر مصدر ميمي أي : تجري بحيث يترتب على جريها استقرارها في كل برج من البروج الإثني عشر على نهج مخصوص بأن تستقر في كل برج شهراً ويأخذ الليل من النهار في نصف الحول والنهار من الليل في النصف الآخر منه وتبلغ نهاية ارتفاعها في الصيف ونهاية انحطاطها في الشتاء ويترتب عليه اختلاف الفصول الأربعة وتهيئة أسباب معاش الأرضيات وتربيتها.
والرابع أن المعنى المنتهى مقدر لكل يوم من المشارق والمغارب فإن لها في دورها ثلاثمائة وستين
397
مشرقاً ومغرباً تطلع كل يوم من مطلع وتغرب من مغرب ثم لا تعود إليها إلى العام القابل فالمستقر اسم زمان أي : تجري إلى زمان استقرارها وانقطاع حركتها عند خراب العالم أو إلى وقت قرارها وتغير حالها بالطلوع من مغربها كما قال أبو ذر رضي الله عنه : دخلت المسجد ورسول الله عليه السلام جالس فلما غابت الشمس قال عليه السلام : "يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس" فقلت : الله ورسوله أعلم فقال : "تذهب تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد ولا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها ويقال لها : ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله والشمس تجري لمستقر لها" وفهم من الحديث أن المستقر أيضاً تحت العرش والمراد بالسجدة الانقياد ويجوز أن تكون على حقيقتها فإن الله تعالى قادر على أن يخلق فيها حياة وإدراكاً يصح معهما سجدتها كما سبق نظائرها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال بعض العارفين : تسجد بروحها عند العرش كما تسجد الروح عند النوم إذا باتت على طهارة.
(7/310)
قال إمام الحرمين وغيره من الفضلاء : لا خلاف أن الشمس تغرب عند قوم وتطلع عند قوم آخرين والليل يطول عند قوم ويقصر عند قوم آخرين وعند خط الاستواء يكون الليل والنهار مستويين أبداً والأرض مدورة مسيرة خمسمائة عام كأنها نصف كرة مدورة فيكون وسطها أرفع ولذلك سموا الجزيرة التي هي وسط الأرض كلها المستوي فيها الليل والنهار قبة الأرض وحول الأرض البحر الأعظم المحيط فيها ماء غليظ منتن لا تجري فيه المراكب وحول هذا البحر جبل قاف خلق من زمرد أخضر وسماء الدنيا مقبية عليه ومنه خضرتها.
وسئل الشيخ أبو حامد رضي الله عنه عن بلاد بلغار كيف يصلون لأن الشمس لا تغرب عندهم إلا مقدار ما بين المغرب والعشاء ثم تطلع فقال : يعتبر صومهم وصلاتهم بأقرب البلاد إليهم والأصح عند أكثر الفقهاء أنهم يقدرون الليل والنهار ويعتبرون بحسب الساعات كما قال عليه السلام في حق الدجال : "يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة فيقدر الصلاة والصيام في زمنه" {ذَالِكَ} الجري البديع المنطوي على الحكم العجيبة التي تتحير في فهمها العقول والافهام {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} الغالب بقدرته على كل مقدور {الْعَلِيمِ} المحيط علمه بكل معلوم.
قال في "المفردات" : التقدير تبيين كمية الشيء.
وتقدير الله الأشياء على وجهين : "أحدهما" : بإعطاء القدرة.
"والثاني" : أن يجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسبما اقتضته الحكمة.
وذلك أن فعل الله ضربان : ضرب أوجده بالفعل ومعنى إيجاده بالفعل إظهاره.
وضرب إجراه بالقوة وقدره على وجه لا يتأتى غير ما قدر فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون التفاح والزيتون وتقدير مني الآدمي أن يكون منه الإنسان دون سائر الحيوانات.
فتقدير الله على وجهين : أحدهما بالحكم منه أن يكون كذا ولا يكون كذا إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الإمكان.
والثاني بإعطاء القدرة عليه.
وفي الآية إشارة إلى شمس نور الله فإنها {تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} وهو قلب استقر فيه رشاش نور الله {ذَالِكَ} المستقر {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} الذي لا يهتدي إليه أحد إلا به {الْعَلِيمِ} الذي يعلم حيث يجعل رسالته فليس كل قلب مستقراً لذلك النور فلا بد من التهيئة والتصقيل إلى أن يتلطف ويزول منه كل ثقيل مما يتعلق بظلمات الكون والفساد.
398
كوهر انواررا دلهاى اك آمد صدق†
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ} بالنصب بإضمار فعل يفسره الظاهر كما في زيداً ضربته أي : وقدرنا القمر قدرناه أي : قدرنا له وعينا {مَنَازِلَ} وهي ثمان وعشرون مقسومة على الاثني عشر برجاً كما استوفينا الكلام عليها في أوائل سورة يونس ينزل القمر كل ليلة في واحدة من تلك المنازل لا يتخطاها ولا يتقاصر عنها فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين أو ليلة إن كان تسعة وعشرين وقد صام عليه السلام ثمانية أو تسعة رمضانات خمسة منها كانت تسعة وعشرين يوماً والباقي ثلاثين وقد قال عليه السلام : "شهرا العيد لا ينقصان" أي : حكمهما إذا كانا تسعاً وعشرين مثل حكمهما إذا كانا ثلاثين في الفضل وقد صح أن دور هذه الأمة هو الدور القمري العربي الذي حسابه مبني على الشهر لا الدور الشمسي الذي مبني حسابه على الأيام {حَتَّى عَادَ} (تا عود كرد ماه).
وقال ابن الشيخ : حتى صار القمر في آخر الشهر وأول الشهر الثاني في دقته واستقواسه واصفراره {كَالْعُرْجُونِ} فعلون من الانعراج وهو الاعوجاج وهو عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة.
والعذق بالكسر في النخل بمنزلة العنقود في الكرم بالفارسية (خوشه خرما).
والشماريخ جمع شمراخ او شمروخ ما عليه البسر من العيدان {الْقَدِيمِ} العتيق فإذا قدم وعتق دق وتقوس واصفر شبه به القمر في آخر الشهر في هذه الوجوه الثلاثة أي : في عين الناظر وإن كان في الحقيقة عظيماً بنفسه فالقديم ما تقادم عهده بحكم العادة ولا يشترط في إطلاق لفظ القديم عليه مدة بعينها إذ يقال لبعض الأشياء قديم وإن لم يمض عليه حول وقيل أقل هذا القديم الحول فمن حلف كل مملوك قديم لي فهو حر عتق من مضى عليه الحول
(7/311)
قال في "كشف الأسرار" : (ازروى حكمت كفته اندكه زيادت ونقصان ماه از آنست كه در ابتداى آفرينش نور او بر كمال بود بخود نظرى كرد عجبى دورى يدا شد رب العزة جبريل را فرمود تا رخويش برروى ماه زد وآن نور ازوى بستاد ابن عباس رضي الله عنهما كفت آن خطهاكه برروى ماه مى بينيد نشان ر جبرائيل است نور ازوى بست اما نقش برجاى بماند ونقش كلمه توحيداست بريشانى ماه نبشت "لا اله إلا الله محمد رسول الله" ياخود حروفى كه ازان اسم جميل حاصل ميشود ون نور ازماه بستدند اورا از خدمت دركاه منع كردند ماه ازفرشتكان مدد خواست تا از بهروى شفاعت كردند كفتند بارخدايا ماه درخدمت دركاه عزت خوى كرده هي روى آن دارد كه بيكباركى اورا مهجور كنى رب العزة شفاعت ايشان قبول كرد واورا دستورى داد تا هر ما هى بيكبار سجود كند درشب ارده اكنون هرشب كه برآيد وبوقت خدمت نزديكتر مى كردد نوروى مى افزايد تاشب هارده كه وقت سجود بود نورش بكمال رسد بازون از هارده در كذرد هرشب در نوروى نقصان مى آيد ازبساط خدمت دورتر مى كردد).
وقيل شبيه الشمس عبد يكون ابداً في ضياء معرفته وهو صاحب تمكين غير متلون أشرقت شمس معرفته من بروج سعادته دائماً لا يأخذه كسوف ولا يستره حجاب.
وشبيه القمر عبد تكون أحواله في التنقل وهو صاحب تلوين له من البسط ما يرقيه
399
إلى حد الوصال ثم يرد إلى الفترة ويقع في القبض مما كان به من صفاء الحال فيتناقص ويرجع إلى نقصان أمره إلى أن يرفع قلبه من وقته ثم يجود عليه الحق فيوفقه لرجوعه عن فترته وإفاقته من سكرته فلا يزال يصفو حاله إلى أن يقرب من الوصال ويرتقي إلى ذروة الكمال فعند ذلك يقول بلسان الحال :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ما زلت أنزل من ودادك منزلاً
تتحير الألباب عند نزوله
وفي "التأويلات النجمية" : وبقوله : {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ مَنَازِلَ} يشير إلى قمر القلب فإن القلب كالقمر في استفادة النور من شمس الروح أولاً ثم من شمس شهود الحق تعالى ثانياً وله ثمانية وعشرون منزلاً على حسب حروف القرآن كما أن للقمر ثمانية وعشرون منزلاً فالقلب ينزل في كل حين منها بمنزل وهذه أسماؤها الإلفة والبر والتوبة والثبات والجمعية والحلم والخلوص والديانة والذلة والرأفة والزلفة والسلامة والشوق والصدق والضرر والطلب والظمأ والعشق والغيرة والفتوة والقربة والكرم واللين والمروءة والنور والولاية والهداية واليقين فإذا صار إلى آخر منازله فقد تخلق بخلق القرآن واعتصم بحبل الله وله آن أن يعتصم بالله ولهذا قال الله تعالى لنبيه في قطع منازل العبودية {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر : 99) ويقال للمؤمن في الجنة اقرأ وارق يعني اقرأ القرآن وارتق في مقامات القرب وبقوله {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} يشير إلى سير قمر القلب في منازله فإذا ألف الحق تعالى في أول منزله ثم بر بالإيمان والعمل الصالح ثم تاب وتوجه إلى الحضرة ثم ثبت على تلك التوبة جعل له الجمعية مع الله فيستنير قمر قلبه بنور ربه حتى يصير بدراً كاملاً ثم يتناقص بدنوه من شمس شهود الحق تعالى قليلاً كلما ازداد دنوه من الشمس ازداد في نفسه نقصاناً إلى أن يتلاشى ويخفى ولا يرى له أثر وهذا مقام الفقر الحقيقي الذي افتخر به النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله : "الفقر فخري" لأنه عليه السلام كلما ازداد دنوه إلى الحضرة ليلة المعراج ازداد في فقره عن الوجود كما أخبر الله تعالى عنه بقوله : {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (النجم : 9) كمل ههنا فقره عن الوجود فوجده الله تعالى عائلاً فأغناه بجوده انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
واعلم أن القمر مرآة قابلة لأن تكتسب النور من قرص الشمس حسب المحاذاة بينهما ولما كان دور الشمس بطيئاً كان ظهور أثرها دائراً على حصول الفصول الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء ولما كان دور القمر سريعاً كان ظهور أثره في الكون سريعاً وإلى القمر ينظر القلب في سرعة الحركة ولهذا السر أسكن الله آدم في فلك القمر لمناسبة باطنه به في سرعة حركاته وتقلباته.
ثم إن القمر مرئي مدرك وأما الشمس في إشراقها وإضاءتها وتلألؤ شعاعها لا تدرك كيفيتها وكميتها على ما هي عليه من تمنعها وامتناعها واحتيج إلى طريق يتوصل به إلى أبصارها بقدر الوسع فأفادت الفكرة والخبرة أن يأخذ الإنسان إناءً كثيفاً ويملأه ماءً صافياً نظيفاً ويضعه في مقابلة الشمس لتنعكس صورة من الشمس في الماء فيلاحظ الإنسان الشمس بغير دفع تلألؤ الأضواء ويراها في أسفل قعر الإناء فإن اللطيف من شأنه القبول والكثيف من شأنه الإمساك فقبل الماء وأمسك الإناء وهذا تدبير من يريد إبصار الشمس الظاهرة بمقلته
400
(7/312)
الباصرة فإذا كان الشمس الظاهرة المتناهية لا يدرك عكسها بالاستعدادات السابقة والتدبيرات اللاحقة فما ظنك بشمس عالم الأحدية الإلهية الربوبية الغير المتناهية وإن نسبتها إليه في الإنارة والإضاءة والظهور والإظهار ودفع أنوار العظمة ليست إلا كذرّة في الآفاق والسبع الطباق أو كقطرة بالنسبة إلى البحار الزاخرة أو كجزء لا يتجزأ بالنسبة إلى الدنيا والآخرة سبحان الله وله المثل الأعلى في الأرض والسماء فإذا عرفت هذا المثال عرفت حال القلب مع شمس الربوبية وانعكاس نورها فيه.
قال الشيخ المغربي قدس سره :
نخست ديده طلب كن س آنكهى ديدار
از آنكه يار كند جلوه بر اولو الأبصار
تراكه شم نباشد ه حاصل از شاهد
تراكه كوش نباشد ه سود از كفتار
اكره آينه دارى از براى رخش
ولى ه سود كه دارى هميشه آينه تار
بيا بصيقل توحيد ز آينه بزدآى
غبار شرك كه تا اك كردد از نكار
وقال أيضاً :
كجا شود بحقيقت عيان جمال حقيقت
اكر مظاهر وآينه مجاز نباشد
مجوى دردل ما غير دوست زانكه نيابى
از آنكه در دل محمود جز اياز نباشد
به يش عقل مكو قصهاى عشق كه آنرا
قبول مى نكند آنكه عشقباز نباشد
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ} هو أبلغ من لا ينبغي للشمس كما أن أنت لا تكذب بتقديم المسند إليه آكد من لا تكذب أنت لاشتمال الأول على تكرر الإسناد.
ففي ذكر حرف النفي مع الشمس دون الفعل دلالة على أن الشمس مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها وقدر لها وينبغي أن الانفعال وثلاثيه بغي يبغي بمعنى طلب تجاوز الاقتصار فيما يتحرى تجاوزه أو لم يتجاوز وإما استعمال انبغى ماضياً فقليل.
قال في "كشف الأسرار" : يقال بغيت الشيء فانبغى لي أي : استسهلته فتسهل لي وطلبته فتيسر لي والمعنى لا الشمس يصح لها ويتسهل وبالفارسية : (نه آفتاب سزد مرورا وشايد) {أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ} في سرعة سيره فإن القمر أسرع سيراً حيث يقطع فلكه ويدور في منازله الثماني والعشرين في شهر واحد بخلاف الشمس فإنها أبطأ منه حيث لا تقطع فلكها ولا تدور في تلك المنازل المقسومة على الاثني عشر برجاً إلا في سنة فيكون مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يوماً فهي لا تدرك القمر في سرعة سيره فإنه تعالى جعل سيرها أبطأ من سير القمر وأسرع من سير زحل وهو كوكب السماء السابعة وذلك لأن الشمس كاملة النور فلو كانت بطيئة السير لدامت زماناً كثيراً في مسامته شيء واحد فتحرقه ولو كانت سريعة السير لما حصل لها لبث في بقعة واحدة بقدر ما يخرج النبات من الأرض والأوراق والثمار من الأشجار وبقدر ما ينضج الثمار والحبوب ويجف فلو أدركت القمر في سرعة سيره لكان في شهر واحد صيف وشتاء فيختل بذلك أحكام الفصول وتكوّن النبات وتعيش الحيوان ويجوز أن يكون المعنى ليس للشمس أن تدرك القمر في آثاره ومنافعه مع قوة نورها وإشراقها فإن لكل واحد منهما آثاراً ومنافع تخصه وليس للآخر أن يدركه فيها كما قالوا الثمرة تنضجها الشمس ويلونها القمر ويعطيها الطعم الكوكب.
وقالوا إن سهيلاً
401
وهو كوكب يمنّى يعطي الحجر اللون الأحمر فيصير عقيقاً.
ويجوز أن يكون معنى أن تدرك القمر أي : في مكانه فإن القمر في السماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة فهي لا تدركه في مكانه ولا يجتمعان في موضع أو لا تدركه في سلطانه أي : نوره الذي هو برهان لوجوده فإن نوره إنما يكون بالليل فليس للشمس أن تجامعه في وقت من أوقات ظهور سلطانه بأن تطلع بالليل فتطمس نوره فسلطان القمر بالليل وسلطان الشمس بالنهار ولو أدركت الشمس القمر لذهب ضوءه وبطل سلطانه ودخل النهار على الليل.
وفي بعض التصاوير لا ينبغي للشمس أن تدرك سلطان القمر فتراه ناقصاً وذلك أن الله تعالى لما قبض نور القمر سأله القمر أن لا ترى الشمس نقصانه.
وقال بعض الكبار : جعل الله شهورنا قمرية ولم يجعلها شمسية تنبيهاً من الله تعالى للعارفين من عباده أن آية القمر بمحوه عن العالم لمن اعتبر في قوله تعالى وتدبر
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/313)
{لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ} أي : في علو المرتبة والشرف فكان ذلك تقوية لكتم آياتهم التي أعطاها للمحمديين العربيين وأجراها وأخفاها فيهم يعني : أن آيات المحمديين ليست بظاهرة في ظواهرهم غالباً كآية القمر وستظهر كراماتهم في الآخرة التي هي آثار ما في بواطنهم من العلوم والكشوف والحقائق والخوارق {وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي : ولا الليل يسبق النهار فيعجزه من أن ينتهي إليه ويجيىء الليل بعده ولكن الليل يعاقب النهار ويناوبه.
وقيل : المراد بهما آيتاهما وهما النيران وبالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس في محو نورها فيكون عكساً للأول فالمعنى لا يصح للقمر أيضاً أن يطلع في وقت ظهور سلطان الشمس وضوئها بحيث يغلب نورها ويصير الزمان كله ليلاً فهما يسيران الدهر ولا يدخل أحدهما على الآخر ولا يجتمعان إلا عند إبطال الله هذا التدبير ونقض هذا التأليف وتطلع الشمس من مغربها ويجتمع معها القمر كما قال تعالى : {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة : 9) وذلك من أشراط الساعة.
فإن قلت إذا كان هذا عكس ما ذكر قبله كان المناسب أن يقال ولا الليل مدرك النهار.
قلت : إيراد السبق مكان الإدراك لأنه الملائم لسرعة سيره.
وفيه إشارة إلى أنه كما لا يصير القمر شمساً والشمس قمراً فكذلك قمر القلب بتوجهه إلى شمس شهود الحق يتنور بنورها كما قال تعالى : {وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (الزمر : 69) ولكنه لا يصير الرب تعالى عبداً ولا العبد رباً فإن للرب الربوبية وللعبد العبودية تعالى ا لله تعالى عما يقول أصحاب الحلول وأرباب الفضول {وَكُلَّ} أي : وكلهم على أن التنوين عوض عن المضاف إليه الذي هو الضمير العائد إلى الشمس والقمر والجمع باعتبار التكاثر العارض لهما بتكاثر مطلعهما فإن اختلاف الأحوال يوجب تعدداً ما في الذات أو إلى الكواكب فإن ذكرهما مشعر {فِى فَلَكٍ} مخصوص معين من الأفلاك السبعة.
وفي "بحر العلوم" في جنس الفلك كقولهم كساهم الأمير حلة يريدون كساهم هذا الجنس والفلك مجرى الكواكب ومسيرها وتسميته بذلك لكونه كالفلك كما في "المفردات" والجار متعلق {يَسْبَحُونَ} السبح المر السريع في الماء أو في الهواء واستعير لمر النجوم في الفلك كما في "المفردات".
وقال في "كشف الأسرار" : والسبح الانبساط في السير كالسباحة في الماء وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه والمعنى يسيرون بانبساط
402
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وسهولة لا مزاحم لهم سير السابح في سطح الماء.
وأخرج السيوطي في كتاب "الهيئة السنية" خلق الله بحراً دون السماء جارياً في سرعة السهم قائماً في الهواء بأمر الله تعالى لا يقطر منه قطرة يجري فيه الشمس والقمر والنجوم فذلك قوله تعالى : {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} والقمر يدور دوران العجلة في لجة غمر ذلك البحر فإذا أحب الله أن يحدث الكسوف حرف الشمس عن العجلة فتقع في غمر ذلك البحر ويبقى سائراً على العجلة النصف أو الثلث أو ما شاء الرب تعالى للحكمة الربانية واقتضاء الاستعداد الكوني.
قال المنجمون قوله تعالى : {يَسْبَحُونَ} يدل على أن الشمس والقمر والكواكب السيارة أحياء عقلاء لأن الجمع بالواو والنون لا يطلق على غير العقلاء.
وقال الإمام الرازي : إن أرادوا القدر الذي يصح به التسبيح فنقول به لأن كل شيء يسبح بحمده وإن أرادوا شيئاً آخر فذلك لم يثبت والاستعمال لا يدل عليه كما في قوله تعالى في حق الأصنام {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} (الصافات : 92) وقوله : {أَلا تَأْكُلُونَ} (الذاريات : 27).
وقال الإمام النسفي جمع يسبحون بالواو والنون لأنه تعالى وصفها بصفات العقلاء كالسباحة والسبق والإدراك وإن لم يكن لها اختيار في أفعالها بل مسخرة عليها يفعل بها ذلك تجبراً.
يقول الفقير : هنا وجه آخر هو أن صيغة العقلاء باعتبار مبادي حركات الأفلاك والنجوم فإن مبادي حركاتها جواهر مجردة عن مواد الأفلاك في ذواتها ومتعلقة بها في حركاتها ويقال لتلك الجواهر النفوس الفلكية على أنه ليس عند أهل الله شيء خال عن الحياة فإن سرّ الحياة سار في جميع الأشياء أرضية كانت أو سماوية لا سيما الشمس والقمر اللذان هما عينا هذا التعين الكوني :
جمله ذرات زمين وآسمان
مظهر سرّ حياتست أي : جوان
كى تواند يافتن آنرا خرد
هست او سرى خرد كى ى برد
نسأل الله تعالى حقيقة الإدراك والحفظ عن الزلق والهلاك.
{لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِا وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِه مَا يَرْكَبُونَ * وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَـاعًا إِلَى حِينٍ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/314)
{وَءَايَةٌ لَّهُمُ} أي : علامة عظيمة لأهل مكة على كمال قدرتنا وهو خبر مقدم لقوله : {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} (الحمل : برداشتن).
قال في "القاموس" ذرأ كجعل خلق والشيء كثر ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين انتهى.
قال الراغب : الذرية أصلها الصغار من الأولاد وإن كان يقع على الصغار والكبار في المتعارف ويستعمل في الواحد والجمع وأصله الجمع انتهى ويطلق على النساء أيضاً لا سيما مع الاختلاط مجازاً على طريقة تسمية المحل باسم الحال لأنهم مزارع الذرية كما في حديث عمر رضي الله عنه حجوا بالذرية يعني النساء وفي الحديث نهى عن قتل الذراري يعني النساء والمعنى إنا حملنا أولادهم الكبار الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم {فِى الْفُلْكِ} (در كشتى) وهو ههنا مفرد بدليل وصفه بقوله : {الْمَشْحُونِ} أي : المملوء منهم ومن غيرهم والشحناء عداوة امتلأت منها النفوس كما في "المفردات" أو حملنا صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم يعني : (برداشتيم فرزندان خرد وزنان ايشانرا كه آنانرا قوت سفر نيست بر خشكى) وتخصيص الذرية بمعنى الضعفاء الذين يستصحبونهم في سفر البحر مع أن تسخير البحر والفلك نعمة في حق أنفسهم أيضاً لما أن استقرارهم في السفن أشق واستمساكهم فيها أعجب.
403
{وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ} مما يماثل الفلك {مَا يَرْكَبُونَ} من الإبل فإنها سفائن البر فتعريف الفلك للجنس لأن المقصود من الآية الاحتجاج على أهل مكة ببيان صحة البعث وإمكانه.
استدل عليه أولاً بإحياء الأرض الميتة وجعلها سبباً لتعيشهم.
ثم استدل عليه بتسخير الرياح والبحار والسفن الجارية فيها على وجهه يتوسلون بها إلى تجارات البحر ويستصحبون من يهمهم حمله من النساء والصبيان كما قال تعالى : {وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الإسراء : 70).
وقيل تعريفه للعهد الخارجي والمراد فلك نوح عليه السلام المذكور في قوله : {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (هود : 37) فيكون المعنى إنا حملنا ذريتهم أي : أولادهم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك المشحون منهم ومن سائر الحيوانات التي لا تعيش في الماء ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل ولا عقب وخلقنا لهم من مثله أي : مما يماثل ذلك الفلك في صورته وشكله من السفن والزوارق وبالفارسية : (ون زورق وصندل وناو).
فإن قلت فعلى هذا لم لم يقل حملناهم وذريتهم مع أن أنفسهم محمولون أيضاً.
قلت : إشارة إلى أن نعمة التخليص عامة لهم ولأولادهم إلى يوم القيامة ولو قيل : حملناهم لكان امتناناً بمجرد تخليص أنفسهم من الغرق وجعل السفن مخلوقةتعالى مع كونها من مصنوعات العباد ليس لمجرد كونها صنعتهم بأقدار الله تعالى وإلهامه بل لمزيد اختصاص أهلها بقدرته تعالى وحكمته حسبما يعرب عنه قوله تعالى :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (هود : 37) والتعبير عن ملابستهم بهذه السفن بالركوب لأنها باختيارهم كما أن التعبير عن ملابسة ذريتهم بفلك نوح بالحمل لكونها بغير شعور منهم واختيار وأما قوله تعالى في سورة المؤمنين {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (المؤمنون : 22) فبطريق التغليب وجعل بعضهم المعنى الثاني أظهر لأنه إذا أريد بمثل الفلك الإبل لكان قوله : {وَخَلَقْنَا لَهُم} إلخ فاصلاً بين متصلين لأن قوله : {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} متصل بالفلك واعتذر عنه في "الإرشاد" بأن حديث خلق الإبل في خلال الآية بطريق الاستطراد لكمال التماثل بين الإبل والفلك فكأنها نوع منه.
وقيل : المراد بالذرية الآباء والأجداد فإن الذرية تطلق على الأصول والفروع لأنها من الذرء بمعنى الخلق فيصلح الاسم للأصل والنسل لأن بعضهم خلق من بعض فالآباء ذريتهم لأن منهم ذرأ الأبناء.
وفيه أن الذرية في اللغة لم تقع إلا على الأولاد وعلى النساء كما ذكر اللهم إلا أن يراد ذرية أبيهم آدم عليه السلام وهم الأصول والفروع إلى قيام الساعة والعلم عند الله تعالى (كفتند سه يزرا الله تعالى راند بكمال قدرت خويش شتران در صحرا وميغ در هوا وكشتى در دريا) وفهم من الامتنان بالحمل جواز ركوب البحر إلا من دخول الشمس العقرب إلى آخر الشتاء فإنه لا يجوز ركوبه حينئذٍ لأنه من الإلقاء إلى التهلكة كما في شرح "حزب البحر" للشيخ الزروقي قدس سره.
{وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} الخ من تمام الآية فإنهم معترفون بمضمونه كما ينطق به قوله تعالى : {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (لقمان : 32) وفي تعليق الإغراق وهو بالفارسية (غرقه كردن) بمحض المشيئة إشعار بأنه قد تكامل ما يوجب هلاكهم من معاصيهم ولم يبق إلا تعلق مشيئته تعالى به.
قال في "بحر العلوم" : وهو محمول على الفرض والتقدير بدليل قوله {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلا رَحْمَةً مِّنَّا} (يس : 43 ـ 44) الخ والمعنى أن نشأ إغراقهم نغرقهم في اليم مع ما حملناهم فيه من الفلك
(7/315)
404
وبالفارسية (واكر خواهيم اهل كشتى راكه مراد ذريت مذكوره است غرقه سازيم ودر آب كشيم) فإن الغرق الرسوب في الماء {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} فعيل بمعنى مفعول أي : مصرخ وهو المغيب بالفارسية (فريادرس) والصريخ أيضاً صوت المستصرخ والمعنى فلا مغيث لهم يحرسهم من الغرق ويدفعه عنهم قبل وقوعه وبالفارسية : (س هي فريادرسى نيست مر ايشانرا كه از غرقه شدن نكاه دارد) قبل الوقوع {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} ينجون منه بعد وقوعه يقال أنقذه واستنقذه إذا خلصه من ورطة ومكروه {إِلا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَـاعًا إِلَى حِينٍ} استثناء مفرغ من أعم العلل الشاملة للباعث المتقدم والغاية المتأخرة أي : لا يغاثون ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة عظيمة ناشئة من قبلنا داعية إلى الإغاثة والإنقاذ وتمتع بالفارسية (برخور دارى وانتفاع دادن) بالحياة مترتب عليهما إلى زمان قدر لآجالهم.
وفي الآية رد على ما زعم الطبيعي من أن السفينة تحمل بمقتضى الطبيعة وأن المجوف لا يرسب فقال تعالى في رده : ليس الأمر كذلك بل لو شاء الله تعالى إغراقهم لأغرقهم وليس ذلك بمقتضى الطبيعة وإلا لما طرأ عليها آفة ورسوب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
والإشارة إلى أن المنعم عليه ينبغي أن لا يأمن في حال النعمة عذاب الله تعالى فإن كفار الأمم السالفة آمنوا من بطشه تعالى فأخذوا من حيث لا يشعرون فكيف يأمن أهل مكة وأهل السفينة لكن لا يعرفون قدر النعمة إلا بعد تحولها عنهم ولا قدر العافية إلا بعد الابتلاء بمصيبة.
قال الشيخ سعدي : (ادشاهى باغلام عجمى در كشتى نشسة بود غلام دريا را هر كزنديده بود ومحنت كشتى نكشيده كريه وزارى درنهاد ولرزه براندامش افتاد ندانكه ملاطفت كردند آرام نكرفت ملك را عيش از ومنغص شد اره ندانستند حكيمى دران كشتى بود ملك را كفت اكر فرمان دهى من اورا بطريقى خاموش كنم كفت غايت لطف باشد فرمود تا غلام را بدريا انداختند بارى ند غوطه بخورد مويش كرفتند وسوى كشتى آوردند بهر دودست درسكان كشتى آويخت ون بر آمد بكوشه بنشست وقرار كرفت ملك را عجب آمد ورسيد درين ه حكمت بود كفت اي خداوند اول محنت غرق شدن نشيده بود قدر سلامت كشتى نمى دانست همنان قدر عافيت كسى داندكه بمصيبت كرفتار آيد) :
اى سير ترا نان جوين خوش ننمايد
معشوق منست آنكه بنزديك توز شتست
حوران بهشتى را دوزخ بود اعراف
از دوز خيان رس كه اعراف بهشتست
فلا بد من مقابلة النعمة بالشكر والعطاء بالطاعة والاجتهاد في طريق التوحيد والمعرفة فإن المقصود من الإمهال هو تدارك الحال.
وفي "التأويلات النجمية" {وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} يشير إلى حمله عباده في سفينة الشريعة خواصهم في بحر الحقيقة وعوامهم في بحر الدنيا فإن من نجا من تلاطم أمواج الهوى في بحر الدنيا إنما نجا بحمله للعناية في سفينة الشريعة وكذا من نجا من تلاطم أمواج الشبهات في بحر الحقيقة إنما نجا بحمله لعواطف إحسان ربه في سفينة الشريعة بملاحية أرباب الطريقة {وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِه مَا يَرْكَبُونَ} وهو جناح همة المشايخ الواصلين الكاملين {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} يعني العوام في بحر الدنيا والخواص في بحر الحقيقة بكسر سفينة الشريعة فمن ركب من المتمنين بحر الحقيقة بلا سفينة الشريعة أو كسروا
405
السفينة أغرقوا فادخلوا ناراً {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَـاعًا} وهم المشايخ فإنهم صورة رحمة الحق تعالى {وَمَتَـاعًا إِلَى حِينٍ} أي : إلى حين تدركهم العناية الأزلية انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِلا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَـاعًا إِلَى حِينٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ} .
(7/316)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} أي : لكفار مكة بطريق الإنذار وبالفارسية : (وون كفته شود مر كافرانراكه) {اتَّقُوا} (بترسيد) {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أي : العقوبات النازلة على الأمم الماضية الذين كذبوا رسلهم واحذروا من أن ينزل بكم مثلها إن لم تؤمنوا جعلت الوقائع الماضية باعتبار تقدمها عليهم كأنها بين أيديهم {وَمَا خَلْفَكُمْ} من العذاب المعد لكم في الآخرة بعد هلاككم جعلت أحوال الآخرة باعتبار أنها تكون بعد هلاكهم كأنها خلفهم أو ما بين أيديكم من أمر الآخرة فاعملوا لها وما خلفكم من الدنيا فلا تغتروا بها وقيل غير ذلك وما قدمناه أولى لأن الله خوف الكفار في القرآن بشيئين أحدهما العقوبات النازلة على الأمم الماضية والثاني عذاب الآخرة {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} إما حال من واو اتقوا أي : راجين أن ترحموا أو غاية لهم أي : كي ترحموا فتنجوا من ذلك لما عرفتم أن مناط النجاة ليس إلا رحمة الله وجواب إذا محذوف أي : اعرضوا عن الموعظة حسبما اعتادوه وتمرنوا عليه وزادوا مكابرة وعناداً كما دلت عليه الآية الثانية.
كسى راكه ندار در سر بود
مندار هركزكه حق بشنود
ز علمش ملال آيد ازوعظ ننك
شقايق بباران نرويد زسنك
وفي "التأويلات النجمية" : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أي : احذروا من الدنيا وما فيها من شهواتها ولذائذها {وَمَا خَلْفَكُمْ} من الآخرة وما فيها من نعيمها وحورها وقصورها وأشجارها وأثمارها وأنهارها وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين منها {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بمشاهدة الجمال ومكاشفة الجلال وكمالات الوصال.
وقال بعضهم : {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من أحوال القيامة الكبرى {وَمَا خَلْفَكُمْ} من أحوال القيامة الصغرى فإن الأولى تأتي من جهة الحق والثانية تأتي من جهة النفس بالفناء في الله وبالتجرد عن الهيآت البدنية في الثانية والنجاة منها والرحمة هي الخلاص من الغضب بالكلية فإنه ما دامت في النفس بقية فالعبد لا يخلو عن غضب وحجاب وتشديد بلاء وعذاب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَمَآ} نافية {تَأْتِيهِم} تنزل إليهم {مِّنْ} مزيدة لتأكيد العموم {ءَايَةٍ} تنزيلية كائنة {مِّنْ} تبعيضية {رَبِّهِمْ إِلا} التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها {إِلا كَانُوا عَنْهَا} متعلق بقوله : {مُعْرِضِينَ} يقال : أعرض أي : أظهر عرضه أي : ناحيته والجملة حال من مفعول تأتي والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم في حال من الأحوال إلا حال إعراضهم عنها على وجه التكذيب والاستهزاء ويجوز أن يراد بالآيات ما يعم الآيات التنزيلية والتكوينية فالمراد بإتيانهم ما يعم نزول الوحي وظهور تلك الأمور لهم والمعنى ما يظهر لهم آية من الآيات الشاهدة بوحدانيته تعالى وتفرده بالألوهية إلا كانوا تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدي إلى الإيمان به تعالى فكل ما في الكون فهو صورة صفة من صفاته تعالى وسر من أسرار ذاته.
مغربى آنه عالمش خواند
عكس رخسارتست در مرآت
406
وانه او آدمش همى داند
نسخه عالمست مظهر ذات
وقال المولى الجامي قدس سره :
جهان مرآت حسن شاهد ماست
فشاهد وجهه في كل ذرات
ثم إن أعظم الآيات وأكبر العلامات الرجال البالغون الكاملون في الدين من أرباب الحقيقة وأهل اليقين فمن وفق للقبول والتسليم وتربى بتربيتهم الحسنة إلى أن يحصل على القلب السليم نجا وكان مقبلاً مقبولاً.
ومن قابلهم بالإعراض ونازلهم بالاعتراض هلك وكان مدبراً مردوداً.
قال بعض الكبار : من عدم الإنصاف إيمان الناس بما جاء من أخبار الصفات على لسان الرسل وعدم الإيمان بها إذا أتى بها أحد من العلماء الوارثين لهم فإن البحر واحد وإذا لم يؤمنوا بما جاءت به الأولياء فلا أقل من أن يأخذوه منهم على سبيل الحكاية وكما جاءت الأنبياء مما تحيله العقول من الصفات وآمنا به كذلك يجب الإيمان بما جاء به الأولياء المحفوظون وكما سلمنا ما جاء به الأصل كذلك نسلم ما جاء به الفرع بجامع الموافقة انتهى.
(7/317)
وأما قول أبي حنيفة رضي الله عنه ما أتانا عن الرسول صلى الله عليه وسلّم فعلى الرأس والعين وما أتانا عن الصحابة رضي الله عنهم فنأخذ تارة ونترك أخرى وما أتانا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال فإنما هو بالنظر إلى الاجتهاد الظاهر الذي يختلف فيه العلماء والإعراض فيه انتقال من الأدنى إلى الأعلى بحسب الدليل الأقوى وقد يفتح الله على الطالب على لسان شيخه بعلوم لم تكن عند الشيخ لحسن أدبه مع الله ومع شيخه.
وسأل الأعمش أبا حنيفة عن مسائل فأجاب فقال الأعمش من أين لك هذا قال مما حدثتنا به فقال : يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة وهي الجماعة المنسوبة إلى الصندل وهو شجر طيب الرائحة قلبت النون ياء كما يقال صندلاني وصيدلاني والمراد من يبيع مواد الأدوية.
ومن علامة العلم المكتسب دخوله في ميزان العقول وعلامة العلم الموهوب أن لا يقبله ميزان إلا في النادر وترده العقول من حيث أفكارها.
ومن أعظم المكر بالعبد أن يرزق العلم ويحرم العمل به أو يرزق العمل ويحرم الإخلاص فيه فإذا رأيت يا أخي هذا من نفسك أو علمته من غيرك فاعلم أن المقبل به ممكور به فالإقبال إلى الله تعالى إنما هو بالإخلاص فإن وجه الرياء إلى الغير حفظنا الله تعالى وإياكم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَه إِنْ أَنتُمْ إِلا فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} أي : للكافرين بطريق النصيحة {أَنفِقُوا} على المحتاجين {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي : بعض ما أعطاكم بطريق التفضل والإنعام من أنواع الأموال فإن ذلك مما يرد البلاء ويدفع المكاره {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالصانع تعالى وهم زنادقة كانوا بمكة.
والزنديق من لا يعتقد إلهاً ولا بعثاً ولا حرمة شيء من الأشياء {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} تهكماً بهم وبما كانوا عليه من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى حيث كانوا يقولون لو شاء الله لأغنى فلاناً ولو شاء الله لأعزه ولو شاء لكان كذا وكذا وإنما حمل على التهكم لأن المعطلة ينكرون الصانع فلا يكون جوابهم المذكور عن اعتقاد وجدّ {أَنُطْعِمُ} من أموالنا حسبما تعظوننا به وبالفارسية : (آيا طعام دهيم) أي : لا نطعم فإن الهمزة للإنكار والطعام في الأصل البر وقوله عليه السلام في ماء زمزم "إنه طعام طعم وشفاء سقم" فتنبيه منه إنه غذاء بخلاف سائر المياه {مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} أي : على
407
زعمكم يعني : (خداكه بزعم شما قادرست بر اطعام خلق بايستى كه ايشانرا طعام دهد ون او طعام نداد مانيز نمى دهيم) {إِنْ أَنتُمْ} (نيستيد شما اى مؤمنان) {إِلا فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} الضلال العدول عن الطريق المستقيم ويضاده الهداية ويقال الضلال لكل عدول عن المنهج عمداً كان أو سهواً يسيراً كان أو كثيراً ولهذا صح أن يستعمل فيمن يكون منه خطأ ما كما في "المفردات".
والمعنى في خطأ بين بالفارسية : (كمراهى آشكارا) حيث تأمروننا بما يخالف مشيئة الله تعالى (واين سخن ازايشان خطا بود براى آنكه بعض مردم را خداى تعالى توانكر ساخته وبعضى را دوريش كذشته وبجهت ابتلا حكم في فرموده كه اغنيا مال خدايرا بفقرا دهند س مشيت را بهانه ساختن وامر الهى راكه بانفاق فرموده فرو كذاشتن محض خطا وعين جفاست) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
درويش را خدا بتوانكر حواله كرد
تاكار او بسازد وفارغ كند دلش
ازروى بخل اكرنشود ملتفت بوى
فردا بود ندامت واندوه حاصلش
وفي الحديث "لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم ولو شاء لجعلكم فقراء لا غني فيكم ولكنه ابتلى بعضهم ببعض لينظر كيف عطف الغني وكيف صبر الفقير" وهذه الآية ناطقة بترك شفقتهم على خلق الله وجملة التكاليف ترجع إلى أمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وهم قد تركوا الأمرين جميعاً وقد تمسك البخلاء بما تمسكوا به حيث يقولون لا نعطي من حرم الله ولو شاء لأغناه نعم لو كان مثل هذا الكلام صادراً عن يقين وشهود وعيان لكان مفيداً بل توحيداً محضاً يدور عليه كمال الإيمان ولكنهم سلكوا طريق التقليد والإنكار والعناد ومن لم يهد الله فما له من هاد.
وكان لقمان يقول.
إذا مر بالأغنياء : يا أهل النعيم لا تنسوا النعيم الأكبر وإذا مر بالفقراء يقول : إياكم أن تغبنوا مرتين.
وعن علي رضي الله عنه أن المال حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة وقد يجمعهما الله لأقوام.
قال الفضيل رحمه الله : من أراد عز الآخرة فليكن مجلسه مع المساكين نسأل الله تعالى فضله الكثير ولطفه الوفير فإنه مسبب الأسباب ومنه فتح الباب وفي "المثنوي" :
(7/318)
ما عيال حضرتيم وشير خواه
كفت الخلق عيال للالهآنكه او از آسمان باران دهد
هم تواند كو زرحمت نان دهد
كل يوم هو في شأن بخوان
مرورا بى كار وبى فعلى مدان {وَيَقُولُونَ} أي : أهل مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين إنكاراً واستبعاداً {مَتَى} (كى است) {هَـاذَا الْوَعْدُ} بقيام الساعة والحساب والجزاء.
ومعنى طلب القرب في هذا إما بطريق الاستهزاء وإما باعتبار قرب العهد بالوعد.
والوعد يستعمل في الخير والشر والنفع والضر والوعيد في الشر خاصة.
والوعد هنا بتضمن الأمرين لأنه وعد بالقيامة وجزاء العباد إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
قال في "كشف الأسرار" : : إنما ذكر بلفظ الوعد دون الوعيد لأنهم زعموا أن لهم الحسنى عند الله إن كان الوعد حقاً.
يقول الفقير : هذا إنما يتمشى في المشركين دون المعطلة وقد سبق أنهم زنادقة كانوا بمكة {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ}
408
في وعدكم فقولوا متى يكون وهذا الاستعجال بهجوم الساعة والاستبطاء لقيام القيامة إنما وقع تكذيباً للدعوة وإنكاراً للحشر والنشر ولو كان تصديقاً وإقراراً واستخلاصاً من هذا السجن وشوقاً إلى الله تعالى ولقائه لنفعهم جداً ولما قامت عليهم القيامة عند الموت كما لا تقوم على المؤمنين بل يكون الموت لهم عيداً وسروراً وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
خلق در بازار يكسان مى روند
آن يكى در ذوق وديكر دردمند
همنان درمرك وزنده مى رويم
نيم در خسران ونيمى خسرويم
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ} .
{مَا يَنظُرُونَ} جواب من جهته والنظر بمعنى الانتظار أي : ما ينتظر كفار مكة {إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} لا تحتاج إلى ثانية هي النفخة الأولى التي هي نفخة الصعق والموت والصيحة رفع الصوت {تَأُخُذُهُمْ} مفاجأة وتصل إلى جميع أهل الأرض.
والأخذ حوز الشيء وتحصيله وذلك تارة بالتناول نحو {مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلا مَن وَجَدْنَا مَتَـاعَنَا عِندَهُ} (يوسف : 79) وتارة بالقهر نحو {لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} (البقرة : 55) ويقال أخذته الحمى ويعبر عن الأسير بالمأخوذ والأخيذ {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أصله يختصمون فقلبت التاء صاداً ثم أسكنت وأدغمت في الصاد الثانية ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين وخاصمته نازعته وأصل المخاصمة أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر بالضم أي : جانبه وأن يجذب كل واحد خصم الجوالق من جانب وهو الجانب الذي فيه العروة.
والمعنى والحال أنهم يتخاصمون ويتنازعون في تجاراتهم ومعاملاتهم ويشتغلون بأمور دنياهم حتى تقوم الساعة وهم في غفلة عنها فلا يغتروا لعدم ظهور علامتها ولا يزعموا أنها لا تأتيهم.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : تهيج الساعة والدجلان يتبايعان قد نشرا أثوابهما فلا يطويانها والرجل يلوط حوضه فلا يستقي منه والرجل قد انصرف بلبن لقحته فلا يطعمه والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يأكلها ثم تلا {تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} .
ـ روي ـ أن الله تعالى يبعث ريحاً بمانية ألين من الحرير وأطيب رائحة من المسك فلا تدع أحداً في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا قبضته ثم يبقى شرار الخلق مائة عام لا يعرفون ديناً وعليهم تقوم الساعة وهم في أسواقهم يتبايعون.
فإن قلت : هم ما كانوا منتظرين بل كانوا جازمين بعدم الساعة والصيحة.
قلت : نعم إلا أنهم جعلوا منتظرين نظراً إلى ظاهر قولهم متى يقع لأن من قال متى يقع الشيء الفلاني يفهم من كلامه أنه ينتظر وقوعه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{فَلا يَسْتَطِيعُونَ} الاستطاعة استفعال من الطوع وذلك وجود ما يصير به الفعل متأتياً أي : لا يقدرون {تَوْصِيَةً} مصدر بالفارسية : (وصيت كردن) والوصية اسم من الإيصاء يقال وصيت الشيء بالشيء إذا وصلته به وسمي إلزام شيء من مال أو نفقة بعد الموت بالوصية لأنه لما أوصى به أي : أوجب وألزم وصل ما كان من أمر حياته بما بعده من أمر مماته والتنكير للتعميم أي : في شيء من أمورهم إذ كانت فيما بين أيديهم.
قال ابن الشيخ : لا يستطيعون توصية ما ولو كانت بكلمة يسيرة فإذا لم يقدروا عليها يكونون أعجز عما يحتاجون فيه إلى زمان طويل من أداء الواجبات ورد المظالم ونحوها لأن القول أيسر من الفعل فإذا عجزوا عن أيسر ما يكون من القول تبين أن الساعة لا تمهلهم بشيء ما واختيار الوصية من جنس الكلمات لكونها أهم بالنسبة إلى المحتضر فالعاجز
409
(7/319)
عنها يكون أعجز من غيرها {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ} الأهل يفسر بالأزواج والأولاد بالعبيد والإماء والأقارب وبالأصحاب وبالمجموع كما في "شرح المشارق" لابن الملك.
قال الراغب : أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب وعبر بأهل الرجل عن امرأته.
{يَرْجِعُونَ} إن كانوا في خارج أبوابهم بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيث ما كانوا وبالفارسية : (س نتوانند وصيت كردن با حاضران ونه بسوى ايشان كر غائب باشند باز كردند يعني مجال از بازار بخانه رفتن نداشته باشند الحاصل دران وقت كه دربازار بخصومت وجدال ومعاملات مشغول باشند ومهمات دنيايى سازند يكبار اسرافيل بصور در دمد وهمه خلق برجاى بميرند) إلا ما شاء الله كما يأتي في سورة الزمر إن شاء الله تعالى.
واعلم أن الموت يدرك الإنسان سريعاً والإنسان لا يدرك كل الأماني فعلى العبد أن يتدارك الحال بقصر الآمال ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
تو غافل در انديشه سود ومال
كه سرمايه عمر شد ايمال
غبار هوى شم عقلت بدوخت
شموس هوس كشت عمرت بسوخت
خبر دارى اى استخوان قفس
كه جان تو مرغيست نامش نفس
و مرغ ازقفس رفت وبكسست قيد
دكر ره نكردد بسعى تو صيد
نكه دار فرصت كه عالم دميست
دمى يش دانا به از عالميست
سكندر كه برعالمى حكم داشت
دران دم كه بكذشت عالم كذاشت
ميسر نبودش كزو عالمى
ستانند ومهلت دهندش دمى
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
دل اندر دلارام دنيا مبند
كه ننشست باكس كه دل برنكند
سر ازجيب غفلت برآور كنون
كه فردا نمانى بحسرت نكون
طريقى بدست آر وصلحى بجوى
شفيعى بر انكيز وعذري بكوى
كه يك لحظه صورت نبندد امان
و يمانه ر شد بدور زمان
دعا عمرو بن العاص رضي الله عنه حين احتضاره بالغل والقيد فلبسهما ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "إن التوبة مبسوطة ما لم يغرغر ابن آدم بنفسه" ثم استقبل القبلة فقال : اللهم أمرتنا فعصينا ونهيتنا فارتكبنا هذا مقام العائذ بك فإن تعف فأهل العفو أنت وإن تعاقب فيما قدمت يداي سبحانك لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين فمات وهو مغلول مقيد فبلغ الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال : استسلم الشيخ حين أيقن بالموت ولعله ينفعه.
ومن السنة حسن الوصية عند الموت وإن كان الذي يوصي عند الموت كالذي يقسم ماله عند الشبع.
ومن مات بغير وصية لم يؤذن له في الكلام بالبرزخ إلى يوم القيامة ويتزاور الأموات ويتحدثون وهو ساكت فيقولون إنه مات من غير وصية فيوصي بثلث ماله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما الضرار في الوصية من الكبائر ويوصي بإرضاء خصومه وقضاء ديونه وفدية صلاته وصيامه جعلنا الله وإياكم من المتداركين لحالهم والمتفكرين في مآلهم والمكثرين من صالحات الأعمال والمنتقلين من الدنيا على اللطف والجمال.
{فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الاجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يا وَيْلَنَا مَنا بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَـاذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَـانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا} .
{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} أي : ينفخ
410
في الصور وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع والنفخ نفخ الريح في الشيء وبالفارسية : (دردميد) والجمهور على إسكان واو الصور.
وفيه وجهان :
أحدهما أنه القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام وفيه بعدد كل روح ثقبة هي مقامه فالمعنى ونفخ في القرن نفخاً هو سبب لحياة الموتى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/320)
والثاني جمع صورة كصوف جمع صوفة ويؤيد هذا الوجه قراءة بعض القراء ونفخ في الصور بفتح الواو فالمعنى ونفخ في الصور الأرواح وذلك أيضاً بنفخ القرن والمراد النفخة الثانية التي يحيى الله بها كل ميت لا النفخة الأولى التي يميت الله بها كل حي وبينهما أربعون سنة تبقى الأرض على حالها مستريحة بعدما مر بها من الأهوال العظام والزلازل وتمطر سماؤها وتجري مياهها وتطعم أشجارها ولا حي على ظهرها من المخلوقات فإذا مضى بين النفختين أربعون عاماً أمطر الله من تحت العرش ماء غليظاً كمني الرجال يقال له ماء الحيوان فتنبت أجسامهم كما ينبت البقل وتأكل الأرض ابن آدم إلا عجب الذنب فإنه يبقى مثل عين الجرادة لا يدركه الطرف فينشأ الخلق من ذلك وتركب عليه أجزاؤه كالهباء في شعاع الشمس فإذا تكاملت الأجساد يحيى الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور فيطير كل روح إلى جسده ثم ينشق عنه القبر {فَإِذَا هُمْ} بغتة من غير لبث أي : الكفار كما دل عليه ما بعد الآية {مِّنَ الاجْدَاثِ} أي : القبول جمع جدث محركة وهو القبر كما في "القاموس".
فإن قيل أين يكون في ذلك الوقت أجداث وقد زلزلت الصيحة الجبال.
أجيب بأن الله يجمع أجزاء كل ميت في الموضع الذي أقبر فيه فيخرج من ذلك الموضع وهو جدثه {إِلَى رَبِّهِمْ} أي : إلى دعوة ربهم ومالك أمرهم على الإطلاق وهي دعوة إسرافيل للنشور أو إلى موقف ربهم الذي أعد للحساب والجزاء وقد صح أن بيت المقدس هي أرض المحشر والمنشر وكل من الجارين متعلق بقوله : {يَنسِلُونَ} كما دل عليه قوله : {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ سِرَاعًا} (المعارج : 43) أي : يسرعون بطريق الإجبار دون الاختيار لقوله تعالى : {لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} من نسل الثعلب ينسل أسرع في عدوه والمصدر نسل ونسلان وإذا المفاجأة بعد قوله : {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} إشارة إلى كمال قدرته تعالى وإلى أن مراده لا يتخلف عن إرادته زماناً حيث حكم بأن النسلان وهو سرعة المشي وشدة العدو ويتحقق في وقت النفخ لا يتخلف عنه مع أن النسلان لا يكون إلا بعد مراتب وهي جمع الأجزاء المفترقة والعظام المتفتة وتركيبها وإحياؤها وقيام الحي ثم نسلانه.
فإن قيل قال تعالى في آية أخرى {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} (الزمر : 68) وقال ههنا {فَإِذَا هُم مِّنَ الاجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} والقيام غير النسلان وقد صدر كل واحد منهما في موضعه بإذا المفاجأة فيلزم أن يكونا معاً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
والجواب من وجهين :
الأول : أن القيام لا ينافي المشي السريع لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر أيضاً.
والثاني : أن الأمور المتعاقبة التي لا يتخلل بينها زمان ومهلة تجعل كأنها واقعة في زمان واحد كما إذا قيل مقبل مدبر.
{قَالُوا} أي : الكفار في ابتداء بعثهم من القبور منادين لويلهم وهلاكهم من شدة ما غشيهم من أمر القيامة يا وَيْلَنَا} أحضر فهذا أوانك ووقت مجيئك.
وقال الكاشفي : (اى واى برما) فويل منادي أضيف إلى ضمير المتكلمين وهو كلمة عذاب وبلاء كما أن ويح كلمة رحمة {مِّنْ} استفهام {بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} كان حفص يقف على مرقدنا وقفة لطيفة دون قطع نفس
411
(7/321)
لئلا يتوهم أن اسم الإشارة صفة لمرقدنا ثم يبتدىء هذا ما وعد الرحمن على أنها جملة مستأنفة ويقال لهذه الوقفة وقفة السكت وهي قطع الصوت مقداراً أخصر من زمان النفس.
والبعث (برانكيختن) والمرقد إما مصدر أي : من رقادنا وهو النوم أو اسم مكان أريد به الجنس فينتظم مرقد الكل أي : من مكاننا الذي كنا فيه راقدين وبالفارسية : (كه برانكيخته يعني يدار كرد مارا زخوابكاه ما) فإن كان مصدراً تكون الاستعارة الأصلية تصريحية فالمستعار منه الرقاد والمستعار له الموت والجامع عدم ظهور الفعل والكل عقلي وإن كان اسم مكان تكون الاستعارة تبعية فيعتبر التشبيه في المصدر لأن المقصود بالنظر في اسم المكان وسائر المشتقات إنما هو المعنى القائم بالذات وهو الرقاد ههنا لا نفس الذات وهي ههنا القبر الذي ينام فيه واعتبار التشبيه في المقصود الأهم أولى.
قال في "الأسئلة المقحمة" : إن قيل أخبر الكفار بأنهم كانوا في القبر قبل البعث في حال الرقاد وهذا يرد عذاب القبر قلت : إنهم لاختلاط عقولهم يظنون أنهم كانوا نياماً أو أن الله تعالى يرفع عنه العذاب بين النفختين فكأنهم يرقدون في قبورهم كالمريض يجد خفة ما فينسلخ عن الحس بالمنام فإذا بعثوا بعد النفخة الآخرة وعاينوا القيامة دعوا بالويل ويؤيد هذا الجواب قوله عليه السلام : "بين النفختين أربعون سنة وليس بينهما قضاء ولا رحمة ولا عذاب إلا ما شاء ربك" أو أن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها وافتضحوا على رؤوس الإشهاد وصار عذاب القبر في جنبها كالنوم قالوا من بعثنا من مرقدنا وذلك إن عذاب القبر روحاني فقط.
وقول الإمام الأعظم رحمه الله إن سؤال القبر للروح والجسد معاً أراد به بيان شدة تعلق أحدهما بالآخر كأرواح الشهداء ولذا عدوا أحياء وأما عذاب يوم القيامة فجسداني وروحاني وهو أشد من الروحاني فقط {هَـاذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَـانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} جملة من مبتدأ وخبر وما موصولة والعائد محذوف أي : هذا البعث هو الذي وعده الرحمن في الدنيا وأنتم قلتم متى هذا الوعد إنكاراً وصدق فيه المرسلون بأنه حق وهو جواب من قبل الملائكة أو المؤمنين عدل به عن سنن سؤال الكفار تذكيراً لكفرهم وتقريعاً لهم عليه وتنبيهاً على أن الذي يهمهم هو السؤال عن نفس البعث ماذا هو دون الباعث كأنهم قالوا بعثكم الرحمن الذي وعدكم ذلك في كتبه وأرسل إليكم الرسل فصدقوكم فيه وليس بالبعث الذي تتوهمونه وهو بعث النائم من مرقده حتى تسألوا عن الباعث وإنما هذا البعث الأكبر ذو الإفزاع والأهوال.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِن كَانَتْ} أي : ما كانت النفخة الثانية المذكورة {إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} حصلت من نفخ إسرافيل في الصور وقيل صيحة البعث هو قول إسرافيل على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة والأعضاء المتمزقة والشعور المنتشرة إن الله المصور الخالق يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء فاجتمعوا وهلموا إلى العرض وإلى جبار الجبابرة.
يقول الفقير : الظاهر إن هذا ليس غير النفخ في الحقيقة فيجوز أن يكون المراد من أحدهما المراد من الآخر أو أن يقال ذلك أثناء النفخ بحيث يحصل هو ولنفخ معاً إذ ليس من ضرورة التكلم على الوجه المعتاد حتى يحصل التنافي بينهما {فَإِذَا هُمْ} بغتة من غير لبث ما طرفة عين وهم مبتدأ خبره قوله : {جَمِيعٌ}
412
أي : مجموع وقوله : {لَّدَيْنَا} أي : عندنا متعلق بقوله : {مُحْضَرُونَ} للفصل والحساب.
وفيه من تهوين أمر البعث والحشر والإيذان باستغنائهما عن الأسباب ما لا يخفى كما هو عسير على الخلق يسير على الله تعالى لعدم احتياجه إلى مزاولة الأسباب ومعالجة الآلات كالخلق وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
وفي الآية إشارة إلى الحشر المعنوي الحاصل لأهل السلوك في الدنيا وذلك أن العالم الكبير صورة الإنسان وتفصيله فكما أنه تتلاشى أجزاؤه وقت قيام الساعة بالنفخ الأول ثم تجتمع بالنفخ الثاني فيحصل الوجود بعد العدم كذلك الإنسان العاشق يتفرق أنياته ويتقطع تعيناته وقت حصوله العشق بالجذبة القوية الإلهية ثم يظهر ظهوراً آخر فيحصل البقاء بعد الفناء فإذا وصل إلى هذه المرتبة يكون هو إسرافيل وقته كما جاء في "المثنوي" :
هين كه اسرافيل وقتند اوليا
مرده را زايشان حياتست ونما
جان هريك مرده از كورتن
برجهد زآواز شان اندر كفن
فالرقاد : هو غفلة الروح في جدث البدن ولا يبعثه في الحقيقة غير فضل الله تعالى وكرمه ولا يفنيه عنه إلا تجلي من جلاله والأنبياء والأولياء عليهم السلام وسائط بين الله تعالى وبين أرباب الاستعداد فمن ليس له قابلية الحياة لا ينفعه النفخ.
همه فيلسوفان يونان وروم
ندانند كردانكبين از زقوم
ز وحشى نيايدكه مردم شود
بسعى اندر وتربيت كم شود
بكوشش نرويد كل ازشاخ بيد
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
نه زنكى بكر ما به كردد سفيد
نسأل الله المحسان كثير الإحسان.
(7/322)
{إِن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـاًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُلٍ فَـاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِى ظِلَـالٍ عَلَى الارَآاـاِكِ مُتَّكِـاُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} .
{فَالْيَوْمَ} أي : فيقال للكفار حين يرون العذاب المعد لهم اليوم أي : يوم القيامة وهو منصوب بقوله : {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ} من النفوس برة كانت أو فاجرة والنفس الذات والروح أيضاً {شَيْـاًا} نصب على المصدرية أي : شيئاً من الظلم بنقص الثواب وزيادة العقاب {وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي : الإجزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الكفر والمعاصي والأوزار أيها الكفار على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للتنبيه على قوة التلازم والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد او إلا بما كنتم تعملونه أي : بمقابلته أو بسببه فقوله : {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ} ليأمن المؤمن وقوله : {وَلا تُجْزَوْنَ} الخ لييأس الكافر.
فإن قلت ما الفائدة في إيثار طريق الخطاب عند الإشارة إلى يأس المجرم والعدول عن الخطاب عند الإشارة إلى أمان المؤمن.
فالجواب أن قوله : {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـاًا} يفيد العموم وهو المقصود في هذا المقام فإنه تعالى لا يظلم أحداً مؤمناً كان أو مجرماً وأما قوله : {وَلا تُجْزَوْنَ} فإنه يختص بالكافر فإنه تعالى يجزي المؤمن بما لم يعمله من جهة الوراثة وجهة الاختصاص الإلهي فإنه تعالى يختص برحمته من يشاء من المؤمنين بعد جزاء أعمالهم فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله أضعافاً مضاعفة :
فضل أو بي نهايت وايان
لطف او از تصورت بيروز
فيض أو هم سعد آرامبذول
أجر او ميشده غير ممنون
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِنَّ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ} الخ من جملة ما سيقال لهم يومئذٍ زيادة لحسرتهم وندامتهم فإن الأخبار
413
بحسن حال أعدائهم أثر بيان سوء حالهم مما يزيدهم مساءة على مساءة {الْيَوْمَ} أي : يوم القيامة مستقرون {فِى شُغُلٍ} قال في "المثنوي" : الشغل بضم الغين وسكونها العارض الذي يذهل الإنسان.
وفي "الإرشاد" والشغل هو الشان الذي يصد المرء ويشغله عما سواه من شؤونه لكونه أهم عنده من الكل إما لإيجابه كمال المسرة والبهجة أو كمال المساءة والغم والمراد هنا هو الأول والتنوين للتفخيم أي : في شغل عظيم الشأنن {فَـاكِهُونَ} خبر آخر لأن من الفكاهة بفتح الفاء وهي طيب العيش والنشاط بالتنعم وأما الفكاهة بالضم فالمزاح والشطارة أي : حديث ذوي الإنس ومنه قول علي رضي الله عنه لا بأس بفكاهة يخرج بها الإنسان من حد العبوس والمعنى متنعمون بنعيم مقيم فائزون بملك كبير.
ويجوز أن يكون فاكهون هو الخبر وفي شغل متعلق به ظرف لغوله أي : متلذذون في شغل فشلغهم شغل التلذذ لا شغل فيه تعب كشغل أهل الدنيا.
والتعبير عن حالهم هذه بالجملة الإسمية قبل تحققها تنزيل للمترقب المتوقع منزلة الواقع للإيذان بغاية سرعة تحققهاووقوعها ولزيادة مساءة المخاطبين بذلك وهم الكفار ثم إن الشغل فسر على وجوه بحسب اقتضاء مقام البيان ذلك :
(7/323)
منها افتضاض الأبكار وفي الحديث : "إن الرجل ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع" فقال رجل من أهل الكتاب : إن الذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة فقال عليه السلام : "يفيض من جسد أحدهم عرق مثل المسك الأذفر فيضمر بذلك بطنه" وفي الحديث : "إن أحدهم ليفتض في الغداة الواحدة مائة عذراء".
قال عكرمة : فتكون الشهوة في أخراهن كالشهوة في أولاهن وكلما افتضها رجعت على حالها عذراء ولا تجد وجع الافتضاض أصلاً كما في الدنيا وجاء رجل فقال : يا رسول الله أنفضي إلى نسائنا في الجنة كما نفضي إليهن في الدينا؟ قال : "والذي نفسي بيده أن المؤمن ليفضي في اليوم الواحد إلى ألف عذراء" (عبد الله بن وهب كفت كه درجنت غرفه ايست كه ويرا عاليه كفته مى شود دروى حوريست ويرا غنه كفته مى شود هر كاه كه دوست خداى بوى آيد آيد بوى جبرائيل اذن دهد ويرا س بر خيزد براطرافش باوى هار هزار كنيزك باشدكه جمع كنند دامنهاى وى وكيسوهاى ويرا بخور كنند از براى وى بمجمرهاى بى آتس.
كفته اند در صحبت بهشتيان مني ومذي وفضولات نباشد نانكه دردنيا بلى لذت صحبت آن باشدكه زير هر تار موى يك قطره عرق بيايدكه رنكش رنك عرق بود وبويس بوى مشك).
وفي "الفتوحات المكية" : ولذة الجماع هناك تضاعف على لذة جماع أهل الدنيا أضعافاً مضاعفة فيجد كل من الرجل والمرأة لذة لا يقدر قدرها لو وجداها في الدنيا غشي عليهما من شدة حلاوتها لكن تلك اللذة إنما تكون بخروج ريح إذ لا مني هناك كالدنيا كما صرحت به الأحاديث فيخرج من كل من الزوجين ريح كرائحة المسك وليس لأهل الجنة أدبار مطلقاً لأن الدبر إنما خلق في الدنيا مخرجاً للغائط ولا غائط هناك ولولا أن ذكر الرجل أو فرج المرأة يحتاج إليه في جماعهم لما كان وجد في الجنة فرج لعدم البول فيها ونعيم أهل الجنة مطلق والراحة فيها مطلقة إلا راحة النوم فليس عندهم من نعيم راحته شيء لأنهم لا ينامون ولا يعرف شيء إلا بضده.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
ومنها سماع الأصوات الطيبة والنغمات اللذيذة (ون بنده مؤمن دربهست آرزوى سماع
414
كند رب العزت اسرافيل بفرستد تا برجانب راست وى بايستد وقرآن خواندن كيرد داود برب بايستد زبور خواندن كيرد بنده سماع همى كند تاوقت وى خوش كردد وجان وى در شهود جانان مستغرق رب العزت در آن دم رده جلال بردارد ديدار بنمايد بنده بجام شراب طهور بنوازد طه ويس خواندن كيرد جان بنده آنكه بحقيقت درسماع آيد).
ثم إنه ليس في الجنة سماع المزامير والأوتار بل سماع القرآن وسماع أصوات الأبكار المغنية والأوراق والأشجار ونحو ذلك كما سبق بعض ما يتعلق بهذا المقام في أوائل سورة الروم وأواخر الفرقان.
قال بعض العلماء : السماع محرك للقلب مهيج لما هو الغالب عليه فإن كان الغالب عليه الشهوة والهوى كان حراماً وإلا فلا.
قال بعض الكبار : إذا كان الذكر بنغمة لذيذة فله في النفس أثر كما للصورة الحسنة في النظر ولكن السماع لا يتقيد بالنغمات المعروفة في العرف إذ في ذلك الجهل الصرف فإن الكون كله سماع عند صاحب الاستماع فالمنتهى غني عن تغني أهل العرف فإن محركه في باطنه وسماعه لا يحتاج إلى الأمر العارض الخارج المقيد الزائد.
ومنها التزاور يعني : (شغل ايشان دربهشت زرايت يكديكرست اين بزيارت آن ميرود وآن بزيارت اين مى آيد وقتى يغمبران بزيارت صديقان واوليا وعلما روند وقتى صديقان واوليا وعلما بزيارت يغمبران روند وقتى همه بهم جمه شوند بزيارت دركاه عزت وحضرت الهيت روند) وفي الحديث : "إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة في رحال الكافور وأقربهم منه مجلساً أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدواً".
قال بعض الكبار : إن أهل النار يتزاورون لكن على حالة مخصوصة وهي أن لا يتزاور إلا أهل كل طبقة مع أهل طبقته كالمحرور يزور المحرورين والمقرور يزور المقرورين فلا يزور المقرور محروراً وعكسه بخلاف أهل الجنة للإطلاق والسراح الذي لأهلها المشاكل للنعيم ضد ما لأهل النار من الضيق والتقييد.
ومنها ضيافة الله تعالى (خدايرا عز وجل دو ضيافت است مر بندكانرا يكى اندر ربض بهشت بيرون بهشت ويكى اندر بهشت ولكن آن ضيافت كه دربهشت است متكرر ميشود نانكه) رؤيت وما ظنك بشغل من سعد بضيافة الله والنظر إلى وجهه وفي الحديث : "إذا نظروا إلى الله نسوا نعيم الجنة".
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/324)
ومنها شغلهم عما فيه أهل النار على الإطلاق وشغلهم عن أهاليهم في النار لا يهمهم ولا يبالون بهم ولا يذكرونهم كيلا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم يعني : (بهشتيانرا ندان ناز ونعيم بودكه ايشانرا رواى اهل دوزخ نبود نه خبرايشان رسند نه رواى ايشان دارندكه نام ايشان برند) وذلك لأن الله تعالى ينسيهم ويخرجهم من خاطرهم إذ لو خطر ذكرهم بالبال تنغص عيش الوقت (وكفته اند شغل بهشتيان ده يزاست ملكى كه در وعزل نه.
جوانى كه با او يرى نه.
صحتى بردوام كه با اوبيمارى نه.
عزى يوسته كه با اوذل نه.
راحتى كه با وشدت نه.
نعمتى كه با او محنت نه بقايى كه با اوفنانه ، حياتى كه با اومرك نه.
رضايى كه با اوسخط نه.
انسى كه با و وحشت نه) والظاهر أن المراد بالشغل ما هم فيه من فنون الملاذ التي تلهيهم عما عداها بالكلية أي : شغل كان.
وفي الآية إشارة إلى أن أهل النار لا نعيم لهم من الطعام والشراب والنكاح وغيرها لأن النعيم من تجلي الصفات الجمالية وهم ليسوا من أهله لأن حالهم القهر والجلال
415
غير أن بعض الكبار قال : أما أهل النار فينامون في أوقات ببركة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم وذلك هو القدر الذي ينالهم من النعيم فنسأل الله العافية انتهى وهذا كلام من طريق الكشف وليس ببعيد إذ قد ثبت في تذكرة القرطبي أن بعض العصاة ينامون في النار إلى وقت خروجهم منها ويكون عذابهم نفس دخولهم في النار فإنه عار عظيم وذل كبير ألا يرى أن من حبس في السجن كان هو عذاباً له بالنسبة إلى مرتبته وإن لم يعذب بالضرب والقيد ونحوهما ثم إنا نقول والعلم عند الله تعالى (ودربحر الحقائق كويد مراد از اصحاب جنت طالبان بهشت اندكه مقصد ايشان نعيم جنات بود حق سبحانه وتعالى ايشانرا بتنعم مشغول كرداند وآن حال اكره نسبت بادوزخيان ازجلائل احوال است نسبت باطلبان حق بغايت فرو مى نمايد واينجا سر "أكثر أهل الجنة البله" ى توان برد).
وعن بعض أرباب النظر أنه كان واقفاً على باب الجامع يوم الجمعة والخلق قد فرغوا من الصلاة وهم يخرجون من الجامع قال : هؤلاء حشو الجنة وللمجالسة أقوام آخرون.
وقد قرىء عند الشبلي رحمه الله قوله تعالى : {إِنَّ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ} الخ فشهق شهقة وغاب فلما أفاق قال مساكين : لو علموا أنهم عما شغلوا لهلكوا يعني : (بياركان اكردانندكه ازكه مشغول شده اند في الحال درورطه هلاك مى افتند.
ودر كشف الأسرار از شيخ الإسلام الأنصاري نقل ميكندكه مشغول نعمت بهشت ازان عامه مؤنانست اما مقربان حضرت از مطالعه شهود وملاحظه نور وجود يك لحظه بانعيم بهشت نردازند) قال علي رضي الله عنه : لو حجبت عنه ساعة لمت.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
روزيكه مرا وصل تودر نك آيد
از حال بهشتيان مرا ننك آيد
وربي تو بصحراى بهشتم خوانند
صحراى بهشت بر دلم تنك آيد
وفي "التأويلات النجمية" : إنتعالى عباداً استخصهم للتخلق بأخلاقه في سر قوله : "كنت سمعه وبصره فبي يسمع وبين يبصر" فلا يشغلهم شأن اشتغالهم بأبدانهم مع أهلهم عن شأن شهود مولاهم في الجنة كما أنهم اليوم مستديمون لمعرفته بأي حال من حالاتهم ولا يقدح اشتغالهم باستيفاء حظوظهم من معارفهم.
فعلى العاقل أن يكون في شغل الطاعات والعبادات لكن لا يحتجب به عن المكاشفات والمعاينات فيكون له شغلان : شغل الظاهر وهو من ظاهر الجنة وشغل الباطن وهو من باطنها فمن طلبه تعالى لم يضره أن يطلب منه لأن عدم الطلب مكابرة له في ربوبيته ومن طلب منه فقط لم ينل لقاءه.
قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه : رأيت رب العزة في منامي فقال لي : يا معاذ كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني.
واعلم أن كل مطلوب يوجد في الآخرة فهو ثمرة بذر طلبه في الدنيا سواء تعلق بالجنة أو بالحق كما قال عليه السلام : "يموت المرء على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه" {هُمْ} الخ استئناف مسوق لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم بهجة وسراراً من شركة أزواجهم لهم فيما هم فيه من الشغل والفكاهة وهم مبتدأ والضمير لأصحاب الجنة {وَأَزْوَاجُهُمْ} عطف عليه والمراد نساؤهم اللاتى كن لهم في الدنيا أو الحور العين أو أخلاؤهم كما في قوله تعالى : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (الصافات : 22) ويجوز أن يكون الكل مراداً فقوله وأزواجهم
416
(7/325)
إشارة إلى عدم الوحشة لأن المنفرد يتوحش إذا لم يكن له جليس من معارفه وإن كان في أقصى المراتب ألا ترى أنه عليه السلام لحقته الوحشة ليلة المعراج حين فارق جبريل في مقامه فسمع صوتاً يشابه صوت أبي بكر رضي الله عنه فزالت عنه تلك الوحشة لأنه كان يأنس به وكان جليسه في عامة الأوقات ولأمر ما نهى النبي عليه السلام عن أن يبيت الرجل منفرداً في بيت {فِى ظِلَـالٍ عَلَى الارَآاـاِكِ مُتَّكِـاُونَ} قوله متكئون خبر المبتدأ والجاران صلتان له قدمتا عليه لمراعاة الفواصل ويجوز أن يكون في ظلال خبراً ومتكئون على الأرائك خبراً ثانياً.
والظلال جمع ظل كشعاب جمع شعب والظل ضد الضح بالفارسية (سايه) أو جمع ظلة كقباب جمع قبة وهي الستر الذي يسترك من الشمس.
والأرائك جمع أريكة وهي كسفينة سرير في حجله وهي محركة موضع يزين بالثياب والستور للعروس كما في "القاموس".
قال في "المختار" : الأريكة سرير متخذ مزين في قبة أو بيت فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة أي : لا أريكة وتسميتها بالأريكة إما لكونها في الأصل متخذة من الأراك وهو شجر يتخذ منه المسواك أو لكونها مكاناً للإقامة فإن أصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في سائر الإقامات.
والاتكاء الاعتماد بالفارسية : (تكيه زدن) أي : معتمدون في ظلال على السرر في الحجال والاتكاء على السرر دليل التنعم والفراغ.
قال في "كشف الأسرار" : (معنى آنست كه ايشان وجفتان ايشان زير سايها اند بناها وخيمها كه از براى ايشان ساخته اند خيمهاست از مرواريد سفيد هار فرسنك در هار فرسنك آن خيمه زده شصت ميل ارتفاع آن ودران خيمه سريرها وتختها نهاده هر تختى سيصد كزار ارتفاع آن بهشتى ون خواهدكه بران تخت شودتخت بزمين هن باز شودتا بهشتى آسان بى رنج بران تخت شود).
فإن قيل كيف يكون أهل الجنة في ظلال والظل إنما يكون حيث تكون الشمس وهم لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً.
أجيب بأن المراد من الظل ظل أشجار الجنة من نور العرش لئلا يبهر أبصار أهل الجنة فإنه أعظم من نور الشمس.
وقيل من نور قناديل العرش كذا في "حواشي ابن الشيخ".
وقال في "المفردات" : ويعبر بالظل عن العز والمنعة وعن الرفاهة قال تعالى :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَـالٍ وَعُيُونٍ} أي : في عزة ومنعة وأظلني فلان أي : حرسني وجعلني في ظله أي : في عزه ومنعته وندخلهم ظلاً ظليلاً كناية عن نضارة العيش انتهى.
وقال الإمام في سورة النساء : إن بلاد العرب كانت في غاية الحرارة فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة وهذا المعنى جعلوه كناية عن الراحة قال عليه السلام : "السلطان ظل الله في الأرض".
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى يقول لأقوام فارغين عن الالتفات إلى الكونين مراقبين للمشاهدات إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم أي : أشكالهم فارغبوا أنتم إليّ واشتغلوا بي وتنعموا بنعيم وصالي وتلذذوا بمشاهدة جمالي فإنه لا لذة فوقها رزقنا الله وإياكم ذلك قال الحافظ :
صحبت حور نخواهم كه بود عين قصور
باخيال تواكر باد كرى ردازم
وقال أيضاً :
نعيم أهل جهان يش عاشقان يك جو
417
(7/326)
{لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ} الخ بيان لما يتمتعون به في الجنة في المآكل والمشارب ويتلذذون به من الملاذ الجسمانية والروحانية بعد بيان مالهم فيها من مجالس الإنس ومحافل القدس تكميلاً لبيان كيفية ما هم فيه من الشغل والبهجة والفاكهة الثمار كلها والمعنى لهم في الجنة غاية مناهم فاكهة كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه عظيمة لا توصف جمالاً وبهجة وكمالاً ولذة كما روي أن الرمانة منها تشبع السكن وهو أهل الدار والتفاحة تنفتق عن حوراء عيناء وكل ما هو من نعيم الجنة فإنما يشارك نعيم الدنيا في الاسم دون الصفة.
وفيه إشارة إلى أن لا جوع في الجنة لأن التفكه لا يكون لدفع ألم الجوع {وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} الجملة معطوفة على الجملة السابقة وعدم الاكتفاء بعطف ما يدعون على فاكهة لئلا يتوهم كون ما عبارة عن توابع الفاكهة وتتماتها وما عبارة عن مدعو عظيم الشان معين أو مبهم.
ويدعون أصله يدتعيون على وزن يفتعلون من الدعاء لا من الادّعاء بمعنى الإتيان بالدعوى وبالفارسية : (دعوى كردن بركسى) فبناء افتعل الشيء فعله لنفسه وإعلاله أنه استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى ما قبلها فحذفت لاجتماع الساكنين فصار يدتعون ثم أبدلت التاء دالاً فأدغمت الدال في الدال فصار يدعون والمعنى ولهم ما يدعون الله به لأنفسهم من مدعو عظيم الشان أو كل ما يدعون به كائناً ما كان من أسباب البهجة وموجبات السرور.
قال ابن الشيخ : أي : ما يصح أن يطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب كما قال الإمام ليس معناه أنهم يدعون لأنفسهم شيئاً فيستجاب لهم بعد الطلب بل معناه لهم ذلك فلا حاجة إلى الدعاء كما إذا سألك أحد شيئاً فقلت : لك ذلك وإن لم تطلبه ويجيىء الادعاء بمعنى التمني كما قال في "تاج المصادر" (الادعاء : آرزو خواستن) من قولهم ادع علي ما شئت بمعنى تمنه عليّ فالمعنى ولهم ما يتمنونه وبالفارسية : (ومرايشانرا آنه خواهند وآرزو برند وابن عباس رضي الله عنهما كفت كه بهشتى از أطعمه وأشربه بى آنكه بزبان آرد يش خود حاضر بيند).
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ * وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} .
{سَلَـامٌ} بدل من ما يدعون كأنه قيل ولهم سلام وتحية يقال لهم {قَوْلا} كائناً {مِّنْ} جهة {رَّبٍّ رَّحِيمٍ} أي : يسلم عليهم من جهته تعالى بواسطة الملك أو بدونها مبالغة في تعظيمهم فقولا مصدر مؤكد لفعل هو صفة لسلام وما بعده من الجار متعلق بمضمر هو صلة له والأوجه أن ينتصب قولاً على الاختصاص أي : بتقدير أعني فإن المقام مقام المدح من حيث أن هذا القول صادر من رب رحيم فكان جديراً بأن يعظم أمره وفي الحديث "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله سلام قولاً من رب يحيم فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم".
سلام دوست شنيدن سعادتست وسلامت
بوصل يار رسيدن فضيلتست وكرامت
قال في "كشف الأسرار" (معنى سلام آنست كه سلمت عبادى من الحرقة والفرقة واشارت رحمت درين موضع آنست كه ايشانرا برحخت خويش قوت وطاقت دهد تا بى واسطه كلام حق بشنوند وديدار وى بينند وايشانرا دهشت وحيرت نبود).
وفي "التأويلات النجمية"
418
يشير إلى أن سلامه تبارك وتعالى كان قولاً منه بلا واسطة وأكده بقوله رب ليعلم أنه ليس بسلام على لسان سفير وقوله رحيم فالرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية حال ما يسلم عليهم ليكمل لهم النعمة.
وفي "حقائق البقلى" سلام الله أزلي إلى الأبد غير منقطع عن عباده الصادقين في الدنيا والآخرة لكن في الجنة يرفع عن آذانهم جميع الحجب فيسمعون سلامه وينظرون إلى وجهه كفاحا :
سلامت من دلخسته درسلام توباشد
زهى سعادت اكر دولت سلام تويابم
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/327)
قال في "كشف الأسرار" : (سلام خداوند كريم بربندكان ضعيف دو ضرب است يكى بسفير وواسطه ويكى بى سفير وبى واسطه اما آنه بواسطه است اول سلام مصطفاست عليه السلام وذلك في قوله : {وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتنا فَقُلْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ} (الأنعام : 54) أي : محمد ون مؤمنان برتو آيند ونواخت ما طلبند تو بنيابت ما برايشان سلام كن وبكوى {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام : 54) باز ون روز كار حيات بنده برسد وبريد مرك در رسد دران دم زدن بازسين ملك الموت را فرمان آيدكه توبريد حضرت مايى بفرمان ما قبض روح بنده ميكنى نخست اورا شربت شادى ده ومرهمى بردل خسته بروى نه بروى سلام كن ونعمت بروى تمام كن اينست كه رب العزت كفت {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَه سَلَـامٌا وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (الأحزاب : 44) آن فرشتكان ديكركه اعوان ملك الموت اند ون آن نواخت وكرامت بينندهمه كويند {سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل : 32) أي : بنده مؤمن خوشدلى وديعت جان تسليم كردى نوشت بادوسلام ودرود مرترا باد ازسراى حكم قدم درساخت بهشت نه كه كار كارتست ودولت دولت تو وازان س ون ازحساب وكتاب ديوان قيامت فارغ شود بدربهشت رسد ورضوان اورا استقبال كند كويد {سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ} (الزمر : 73) سلام ودرود برشماخوش كشتيد واك آمديد واك زندكانى كرديد اكنون دررويد درين سراى جاودان ونازونعيم بى كران وازان س كه در بهشت آيد بغرفه خويش آرام كيرد فرستادكان ملك آيندواورا مده دهند وسلام رسانند وكويند {سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد : 24) ون كوش بنده ازشنيدن سلام واسطه رشود وازدرود فرشتكان رشود آرزوى ديدارحق وسلام وكلام متكلم مطلب كند كويد بزبان افتقار درحالت انكسارى بساط انبساط كه.
اى معدن ناز من اين نياز من تاكى.
اى شغل جان من اين شغل جان من تاكى.
اى همراز دل من اين انتظار دل من تاكى.
اى ساقى سر من اين تشنكى من تاكى.
اى مشهود جان من اين خبر رسيدن من تاكى.
خداوندا موجود دل عارفانى در ذكر يكانه آرزوى مشتقانى دروجود يكانه هي روى آن دارد خداونداكه ديدار بنمايى وخود سلام كنى برين بنده) فيتجلى الله عز وجل ويقول سلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} .
قيل : سبعة أشياء ثواب لسبعة أعضاء لليد {يَتَنَـازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا} للرجل {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ} للبطن {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِياـاَا} للعين {وَتَلَذُّ الاعْيُنُ} للفرج {وَحُورٌ عِينٌ} للاذن {سَلَـامٌ قَوْلا} للسان {وَءَاخِرُ دَعْوَاـاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (يوسف : 10).
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَامْتَـازُوا} يقال مازه عنه يميزه ميزا اى عزله
419
ونحاه فامتاز والتمييز الفصل بين المتشابهات ودل الامتياز على أنه حين يحشر الناس يختلط المؤمن والكافر والمخلص والمنافق ثم يمتاز أحد الفريقين عن الآخر كقوله تعالى : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَـاـاِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} (الروم : 14) وهو عطف قصة سوء حال هؤلاء وكيفية عقابهم على قصة حسن حال أولئك ووصف ثوابهم وكان تغيير السبك لتخييل كمال التباين بين الفريقين وحاليهما ويجوز أن يكون معطوفاً على مضمر ينساق إليه حكاية حال أهل الجنة كأنه قيل بعد بيان كونهم في شغل عظيم الشان وفوزهم بنعيم مقيم يقصر عنه البيان فليقروا بذلك عيناً وامتازوا عنهم وانفردوا {الْيَوْمَ} وهو يوم القيامة والفصل والجزاء {أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} إلى مصيركم فكونوا في السعير وفنون عذابها ولهبها بدل الجنة لهم وألوان نعمها وطربها وبالفارسية : (وجدا شويد آنروز أي : مشركان ازموحدان واى منافقان از مخلصان كه شما بزندان دشمنان مى رانند وايشانرا ببوستان دوستان خوانند).
وعن وقتادة اعتزلوا عما ترجون وعن كل خير أو تفرقوا في النار لكل كافر بيت من النار ينفرد به ويردم بابه بالنار فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى ولا يرى وهو على خلاف ما للمؤمن من الاجتماع بالإخوان وعذاب الفرقة عن القرناء والأصحاب من أسوء العذاب وأشد العقاب.
(7/328)
وفي "التأويلات" : يشير إلى امتياز المؤمن والكافر في المحشر والمنشر بابيضاض وجه المؤمن واسوداد وجه الكافر وبإيتاء كتاب المؤمن بيمينه وبإيتاء كتاب الكافر بشماله وبثقل الميزان وبخفته وبالنور وبالظلمة وثبات القدم على الصراط وزلة القدم عن الصراط وغير ذلك.
قال بعض الكبار : اعلم أن أهل النار الذين لا يخرجون منها أربع طوائف : المتكبرون ، والمعطلة ، والمنافقون ، والمشركون ويجمعها كلها المجرمون قال تعالى : {وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} أي : المستحقون لأن يكونوا أهلاً لسكنى النار فهؤلاء أربع طوائف هم الذي لا يخرجون من النار من إنس وجن وإنما جاء تقسيمهم إلى أربع طوائف من غير زيادة لأن الله تعالى ذكر عن إبليس أنه يأتينا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ولا يدخل أحد النار إلا بواسطته فهو يأتي للمشرك من بين يديه ويأتي للمتكبر عن يمينه ويأتي للمنافق عن شماله ويأتي للمعطل من خلفه وإنما جاء للمشرك من بين يديه لأن المشرك بين يديه جهة غيبية فأثبت وجود الله ولم يقدر على إنكاره فجعله إبليس يشرك بالله في ألوهيته شيئاً يراه ويشاهده وإنما جاء للمتكبر من جهة اليمين لأن اليمين محل القوة فلذلك تكبر لقوته التي أحس بها من نفسه وإنما جاء للمنافق من جهة شماله الذي هو الجانب الأضعف لكون المنافق أضعف الطوائف كما أن الشمال أضعف من اليمين ولذلك كان في الدرك الأسفل من النار ويعطي كتابه بشماله وإنما جاء للمعطل من خلفه لأن الخلف ما هو محل نظر فقال له ما ثم شيء فهذه أربع مراتب لأربع طوائف ولهم من كل باب من أبواب جهنم جزء مقسوم وهي منازل عذابهم فإذا ضربت الأربع التي هي المراتب في السبعة أبواب كان الخارج ثمانية وعشرين منزلاً عدد منازل القمر وغيره من الكواكب السيارة انتهى كلامه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِى ءَادَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيطَـانَا إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِى هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ} .
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِى ءَادَمَ} الخ من جملة ما يقال لهم يوم القيامة بطرق التقريع والإلزام والتبكيت بين الأمر بالامتياز وبين الأمر بدخول جهنم بقوله تعالى : {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} (يس : 64)
420
الخ والعهد والوصية التقدم بأمر فيه خير ومنفعة والمراد ههنا ما كلفهم الله تعالى على ألسنة الرسل من الأوامر والنواهي التي من جملتها قوله تعالى : يا بَنِى ءَادَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَـانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} (الأعراف : 27) وقوله تعالى : {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِا إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (الأنعام : 142) وغيرها من الآيات الكريمة الواردة في هذا المعنى والمراد ببني آدم المجرمون والمعنى بالفارسية : (أيا عهد نكرده ام شمارا يعني عهد كردم وفرمودم شمارا) {أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيطَـانَ} إن مفسرة للعهد الذي فيه معنى القول بالأمر والنهي أو مصدرية حذف منها الجار أي : ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان والمراد بعبادة الشيطان عبادة غير الله لأن الشيطان لا يعبده أحد ولم يرد عن أحد أنه عبد الشيطان إلا أنه عبر عن عبادة غير الله بعبادة الشيطان لوقوعها بأمر الشيطان وتزيينه والانقياد فيما سوّله ودعا إليه بوسوسته فسمي إطاعة الشيطان والانقياد له عبادة له تشبيهاً لها بالعبادة من حيث أن كل واحد منهما ينبىء عن التعظيم والاجلال ولزيادة التحذير والتنفير عنها ولوقوعها في مقابلة عبادته تعالى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : من أطاع شيئاً عبده دل عليه {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} (الجاثية : 23) والمعنى بالفارسية : (نرستيد شيطانرا يعني بتان بفرموده شيطان) {إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي : ظاهر العداوة لكم يريد أن يصدكم عما جبلتم عليه من الفطرة وكلفتم به من الخدمة وهو تعليل لوجوب الانتهاء عن المنهي عنه ووجه عداوة إبليس لبني آدم أنه تعالى لما أكرم آدم عليه السلام عاداه إبليس حسداً والعاقل لا يقبل من عدوه وإن كان ما يلقاه إليه خيراً إذ لا أمن من مكره فإن ضربة الناصح خير من تحية العدو.
قال الشيخ سعدي قدس سره : (دشمن ون ازهمه حيلتي درماند سلسله دوستى بجنباند س آنكاه بدوستى كارهاً كندكه هي دشمن نتواند كرد) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
حذركن زانه دشمن كويد آن كن
كه بر زانوا زنى دست تغابن
كرت راهى نمايد راست ون تير
ازان بر كرد وراه دست ب كير
(7/329)
قال بعض الكبار : اعلم أن عداوة إبليس لبني آدم أشد من معاداته لأبيهم آدم عليه السلام وذلك أن بني آدم خلقوا من ماء والماء منافر للنار وأما آدم فجمع بينه وبين إبليس اليبس الذي في التراب فبين التراب والنار جامع ولهذا صدقه لما أقسم له بالله إنه لناصح وما صدقه الأبناء لكونه لهم ضداً من جميع الوجوه فبهذا كانت عداوة الأبناء أشد من عداوة الأب ولما كان العدو محجوباً عن إدراك الأبصار جعل الله لنا علامات في القلب من طريق الشرع نعرفه بها تقوم لنا مقام البصر فنتحفظ بتلك العلامة من إلقائه وإعانة الله عليه بالملك لذي جعله الله مقابلاً له غيباً بغيب انتهى.
وفي "التأويلات النجمية" : في الآية إشارة إلى كمال رأفته وغاية مكرمته في حق بني آدم إذ يعاتبهم معاتبة الحبيب للحبيب ومناصحة الصديق للصديق وأنه تعالى يكرمهم ويجلهم عن أن يعبدوا الشيطان لكمال رتبتهم واختصاص قربتهم بالحضرة وغاية ذلة الشيطان وطرده ولعنه من الحضرة وسماه عدواً لهم وله وسمي بني آدم الأولياء والأحباب وخاطب المجرمين منهم كالمعتذر الناصح لهم ألم أعهد إليكم ألم أنصح ألم أخبركم عن خباثة الشيطان وعداوته لكم وإنكم أعز من أن تعبدوا مثله ملعوناً مهيناً.
{وَأَنِ اعْبُدُونِى}
421
لأن مثلكم يستحق لعبادة مثلي فإني أنا العزيز الغفور وإني خلقتكم لنفسي وخلقت المخلوقات لأجلكم وعززتكم وأكرمتكم بأن أسجدت لكم ملائكتي المقربين وعبادي المكرمين وهو عطف على أن لا تعبدوا وإن فيه كما هي فيه أي : وحدوني بالعبادة ولا تشركوا بها أحداً وتقديم النهي على الأمر لما أن حق التخلية التقدم على التحلية وليتصل به قوله تعالى : {هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (الحجر : 41) فإنه إشارة إلى عبادته تعالى التي هي عبارة عن التوحيد والإسلام وهو المشار إليه بقوله تعالى : {هَـاذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ} (الأعراف : 16) والمقصود بقوله تعالى : {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} والتنكير للتفخيم.
قال البقلى : طلب الحق منهم ما خلق في فطرتهم من استعداد قبول الطاعة أي : اعبدوني بي لا بكم فهذا صراط مستقيم حيث لا تنقطع العبودية عن العباد أبداً ولا يدخل في هذا الصراط اعوجاج واضطراب أصلاً وكل قول يقبل الاختلاف بين المسلمين إلا قول : "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فإنه غير قابل للاختلاف فمعناه متحقق وإن لم يتكلم به أحد.
قال الواسطي : من عبد الله لنفسه فإنما يعبد نفسه ومن عبده لأجله فإنه لم يعرف ربه ومن عبده بمعنى أن العبودية جوهرة فطرة الربوبية فقد أصاب ومن علامات العبودية ترك الدعوى واحتمال البلوى وحب المولى وحفظ الحدود والوفاء بالعهود وترك الشكوى عند المحنة وترك المعصية عند النعمة وترك الغفلة عند الطاعة.
قال بعض الكبار : لا يصح مع العبودية رياسة أصلاً لأنها ضد لها ولهذا قال المشايخ رضوان الله عليهم آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الجاه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
واعلم أنه كم نصح الله ووعظ وأنذر وحذر ووصل القول وذكر ولكن المجرمين لم يقبلوا النصح ولم يتعظوا بالوعظ ولم يعملوا بالأمر بل عملوا بأمر الشيطان وقبلوا إغواءه إياهم فليرجع العاقل من طريق الحرب إلى طريق الصلح قال الشيخ سعدي قدس سره :
نه ابليس در حق ما طعنه زد
كزاينان نيايد بجز كاربد
فغان ازبديها كه درنفس ماست
كه ترسم شودظن ابليس راست
و ملعون سند آمدش قهرما
خدايش بر انداخت ازبهرما
كجا بر سر آيم ازين عاروننك
كه با و بصلحيم وباحق بجنك
نظر دوست تادر كند سوى تو
كه درروى دشمن بودروى تو
ندانى كه كمترنهد دوست اى
وبيندكه كه دشمن بوددر سراى
وقال أيضاً من طريق الإشارة :
نه مارا درميان عهد ووفا بود
جفا كردى وبدعهدى نمودى
هنوزت ارسر صلحست بازآى
كزان محبوبتر باشى كه بودى
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلا كَثِيرًا} جواب قسم محذوف والخطاب لبني آدم.
وفي "الإرشاد" الجملة استئناف مسوق لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع ببيان أن جناياتهم ليست بنقض العهد فقط بل به وبعدم الاتعاظ بما شاهدوا من العقوبات النازلة على الأمم الخالية بسبب طاعتهم للشيطان والخطاب لمتأخريهم الذين من جملتهم كفار مكة
422
(7/330)
خصوا بزيادة التوبيخ والتقريع لتضاعف جناياتهم والجبل بكسر الجيم وتشديد اللام الخلق أي : المخلوق ولما تصور من الجبل العظم قيل للجماعة العظيمة جبل تشبيهاً بالجبل في العظم وإسناد الإضلال إلى الشيطان مجاز والمراد سببيته كما في قوله تعالى : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} (إبراهيم : 36) وإلا فالهداية والإضلال و"الإرشاد" والإغواء صفة الله تعالى في الحقيقة بدليل قوله عليه السلام : "بعثت داعياً ومبلغاً وليس إليّ من الهدى شيء وخلق إبليس مزيناً وليس إليه من الضلالة شيء" والمعنى وبالله لقد أضل الشيطان منكم خلقاً كثيراً يعني صار سبباً لضلالهم عن ذلك الصراط المستقيم الذي أمرتكم بالثبات عليه فأصابهم لأجل ذلك ما أصابهم من العقوبات الهائلة التي ملأ الآفاق أخبارها وبقي مدى الدهر آثارها.
وقال بعضهم : وكيف تعبدون الشيطان وتنقادون لأمره مع أنه قد أضل منكم يا بني آدم جماعة متعددة من بني نوعكم فانحرفوا بإضلاله عن سواء السبيل فحرموا من الجنة الموعودة لهم {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} الفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي : أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون إنها لضلالهم وطاعتهم إبليس أو فلم تكونوا تعقلون شيئاً أصلاً حتى ترتدعوا عما كانوا عليه كيلا يحيق بكم العقاب.
وقال الكاشفي : (ايا نيستيد شماكه تعقل كنيد وخودرا دردام فريب او بيفكنيد).
وفي "كشف الأسرار" هو استفهام تقريع على تركهم الانتفاع بالعقل وفي الحديث "قسم الله العقل ثلاثة أجزاء فمن كانت فيه فهو العاقل حسن المعرفة بالله" أي : الثقة بالله في كل أمر والتفويض إليه والائتمار له على نفسك وأحوالك والوقوف عند مشيئته لك في كل أمر دنيا وآخرة "وحسن الطاعة " وهو أن تطيعه في كل أموره "وحسن الصبر"وهو أن تصبر في النوائب صبراً لا يرى عليك في الظاهر أثر النائبة كذا في "درر الأصول".
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وفي "التأويلات النجمية" : {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلا كَثِيرًا} عن صراط مستقيم عبوديتي وأبعدكم عن جواري وقربتي {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} لتعلموا أن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل فلا تظلموا على أنفسكم وارجعوا إلى ربكم واعلم أن العقل نور يستضاء به كما قال في "المثنوي" :
كربصورت وانمايد عقل رو
تيره باشد روز يش نوراوورمثال احمقى يدا شود
ظلمت شب يش اوروشن بود
اندك اندك خوى كن بانور روز
ورنه خفاشىء بمانى بى فروز
عقل كل راكفت ما زاغ البصر
عقل جزئي ميكند هرسونظر ثم اعلم أن الجاهل الأحمق والضال المطلق في يد الشيطان يقوده حيث يشاء ولو علم حقيقة الحال وعقل أن الله الملك المتعال واهتدى إلى طريق التوحيد والطاعة لحفظه الله من تلك الساعة فإن التوحيد حصنه الحصين ومن دخل فيه أمن من مكر العدو المهين ومن خرج عنه طالباً للنجاة أدركه الهلاك ومات في يد الآفات ومن أهمل نفسه فلم يتحرك لشيء كان كمجنون لا يعرف شمساً من فيىء فنسأل الله الاشتغال بطاعته واستيعاب الأوقات بعبادته وطرد الشيطان بأنوار الخدمة وقهر النفس بأنواع الهمة.
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} .
{هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ} أيها المرجون {تُوعَدُونَ} أي : توعدونها على ألسنة الرسل في الدنيا في أزمنتها المتطاولة
423
بمقابلة عبادة الشيطان مثل قوله تعالى {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 85) وغير ذلك وهو استئناف يخاطبون به من خزنة جهنم بعد تمام التوبيخ والتقريع والإلزام والتبكيت عند إشرافهم على شفير جهنم {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} يقال : صلي اللحم كرمي يصليه صلياً شواه وألقاه في النار وصلى النار قاسى حرها وأصله أصليوها فاعل كاحشيوا وهو أمر تنكيل وإهانة كقوله تعالى : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49) والمعنى ادخلوها وقاسوا حرها وفنون عذابها اليوم بكفركم المستمر في الدنيا وفي ذكر اليوم ما يوجب شدة ندامتهم وحسرتهم يعني أن أيام لذاتكم قد مضت ومن هذا الوقت واليوم وقت عذابكم
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال أبو هريرة رضي الله عنه : أوقدت النار ألف عام فابيضت ثم أوقدت ألف عام فاحمرت ثم أوقدت ألف عام فاسودت فهي سوداء كالليل المظلم وهي سجن الله تعالى المجرمين قال النبي عليه السلام لجبرائيل : "مالي لم أر ميكائيل ضاحكاً قط" قال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار.
قال بعضهم : ذكر النار شديد فكيف القطيعة والفضيحة فيها ولذا ورد فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة.
(7/331)
وعن السري السقطي رحمه الله : أشتهي أن أموت ببلدة غير بغداد مخافة أن لا يقبلني قبري فافتضح عندهم.
وقال العطار رحمه الله : لو أن ناراً أوقدت فقيل من قبل الرحمن من ألقى نفسه فيها صار لاشياً لخشيت أن أموت من الفرح قبل أن أصل إلى النار لخلاصي من العذاب الأبدي فانظر إلى إنصاف هؤلاء السادات كيف أساءوا الظن بأنفسهم مع أنهم موحدون توحيداً حقيقياً عابدون عارفون وقد جعل دخول النار مسبباً عن الكفر والشرك والأوزار.
خدايا بعزت كه خوارم مكن
بذل كنه شرمسارم مكن
مرا شر مسارى زروى توبس
دكر شر مسارم مكن يش كس
بلطفم بخوان يابران ازدرم
ندارد بجز آستانت سرم
بحقت كه شمم زباطل بدوز
بنورت كه فردا بنارم مسوز
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} الختم في الأصل الطبع ثم استعير للمنع والأفواه جمع فم وأصل فم فوه بالفتح وهو مذهب سيبويه والبصريين كثوب وأثواب حذفت الهاء حذفاً على غير قياس لخفائها ثم الواو لاعتدالها ثم أبدل الواو المحذوفة ميماً لتجانسهما لأنهما من حروف الشفة فصار فم فلما أضيف رد إلى أصله ذهاباً به مذهب أخواته من الأسماء.
وقال الفراء جمع فوه بالضم كسوق وأسواق وفي الآية التفات إلى الغيبة للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعى أن يعرض عنهم ويحكي أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيمان إلى أن ذلك من مقتضيات الختم لأن الخطاب لتلقى الجواب وقد انقطع بالكلية والمعنى تمنع أفواههم من النطق ونفعل بها ما لا يمكنهم معه أن يتكلموا فتصير أفواههم كأنها مختومة فتعترف جوارحهم بما صدر عنها من الذنو.
{وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم} باستنطاقنا إياها {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فتنطق الأربع بما كسبوه من السيآت والمراد جميع الجوارح لا أن كل عضو يعترف بما صدر منه (والكسب : حاصل
424
كردن كسى يزى را) والمعنى بالفارسية : (امروز مهر مى نهيم بر دهنهاى ايشان ون ميكويد كه مشرك نبوده ايم وتكذيب رسل نكرده وشيطانرا نرستيده وسخن كويد بامادستهاى ايشان وكواهى دهد ايهاى ايشان بآنه بودند در دنيا ميكردند).
قال بعضهم لما قيل لهم :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِى ءَادَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيطَـانَ} جحدوا وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين وما عبدنا من دونك من شيء وما أطعنا الشيطان في شيء من المنكرات فيختم على أفواههم وتعترف جوارحهم بمعاصيهم.
والختم لازم للكفار أبداً.
أما في الدنيا فعلى قلوبهم كما قال تعالى : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (البقرة : 7).
وأما في الآخرة فعلى أفواههم ففي الوقت الذي كان الختم على قلوبهم كان قولهم بأفواههم كما قال تعالى : {ذَالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} (التوبة : 30) فلما ختم على أفواههم أيضاً لزم أن يكون قولهم بأعضائهم لأن الإنسان لا يملك غير القلب واللسان والأعضاء فإذا لم يبق القلب واللسان تعين الجوارح والأركان.
وفي "كشف الأسرار" (روز قيامت عمل كافران بركافران عرضه كنند وصحيفهاى كردار ايشان بايشان نمايند آن رسواييها بينند وكردها برمثال كوههاى عظيم انكار كنند وخصومت دركيرند وبر فرشتكان دعوى دروغ كنند كويند ما اين كه در صحيفهاست نكرده ايم وعمل ما نيست همسايكان برايشان كواهى دهند همسايكانرا دروغ زن كيرند اهل وعشيرت كواهى دهند وايشانرا نيز دروغ زن كيرند س رب العزة مهر بردهنهاى ايشان نهد وجوارح ايشان بسخن آردتا بر كردهاى ايشان كواهى دهند) وعن أنس رضي الله عنه : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فضحك فقال : "هل تدرون مم أضحك" قلنا : الله ورسوله أعلم قال : "في مخاطبة العبد ربه يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم يقول : بلى فيقول : لا أجيز عن نفسي إلا شاهداً مني فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكنّ وسحقاً فعنكنّ كنت أناضل" أي : أدافع وأول عظم من الإنسان ينطق يوم يختم على الأفواه فخذه من رجله الشمال وكفه كما جاء في الحديث.
والسر في نطق الأعضاء والجوارح بما صدر عنها ليعلم أن ما كان عوناً على المعاصي صار شاهداً فلا ينبغي لأحد أن يلتفت إلى ما سوى الله ويصحب أحداً غير الله لئلا يفتضح ثمة بسبب صحبته.
نكشود صائب ازمدد خلق هي كار
از خلق روى خود به خدا ميكنيم ما
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/332)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الغالب على الأفواه الكذب كما قال : {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} (آل عمران : 167) والغالب على الأعضاء الصدق ويوم القيامة يوم يسأل الصادقين عن صدقهم فلا يسأل الأفواه فإنها كثيرة الكذب ويسأل الأعضاء فإنها كثيرة الصدق فتشهد بالحق أما الكفار فشهادة أعضائهم عليهم مبيدة لهم وأما العصاة من المؤمنين الموحدين فقد تشهد عليهم أعضاؤهم بالعصيان ولكن تشهد لهم بعض أعضائهم أيضاً بالإحسان كما جاء في بعض الأخبار المروية المسندة أن عبداً تشهد عليه أعضاؤه بالزلة فتتطاير شعرة من جفن عينيه فتستأذن بالشهادة له فيقول الحق تعالى : تكلمي يا شعرة جفن عين عبدي واحتجي عن عبدي
425
فتشهد له بالبكاء من خوفه فيغفر له وينادي مناد هذا عتيق الله بشعرة (دركشف الأسرار فرمودكه نانكه جوارح اعدا بر افعال بدايشان كواهى ميدهد همنين اعضاى بر طاعت ايشان اقامت شهادت كند نانه در آثار آورده اندكه حق سبحانه وتعالى بنده مؤمن را خطاب كندكه ه آورده او شرم داردكه عبادات وخيرات خود برشمارد حق سبحانه اعضاى ويرا بسخن در آورد تاهريك اعمال خودرا باز كويند انامل كواهى بردهد بر تسبيحات) كما قال عليه السلام لبعض النساء : "عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات" يعني : بالشهادة يوم القيامة ولذا سن عد الأذكار بالأصابع وإن لم يعلم العقد المعهود يعدّهن بأصابعه كيف شاء كما في "الأسرار المحمدية".
وقال بعض العرفاء معنى الختم على الأفواه وتكلم الأيدي وشهادة الأرجل تغيير صورهم وحبس ألسنتهم عن النطق وتصوير أيديهم وأرجلهم عن صورة تدل بهيآتها وأشكالها على أعمالها وتنطق بألسنة أحوالها على ما كان من هيئة أفعالها انتهى.
فكما أن هيئة أعضاء المجرمين تدل على قبح أحوالهم وسوء أفعالهم كذلك شكل جوارح المؤمنين يدل على حسن أحوالهم وجمال أفعالهم وكل إناء يترشح بما فيه فطوبى للسعداء ومن يتبعهم في زيهم وهيآتهم وطاعاتهم وعباداتهم.
ى نيك مردان بيايد شتافت
كه هركين سعادت طلب كرد يافت
ليكن تو دنبال ديو خسى
ندانم كه درصالحان كى رسى
يمبر كسى را شفاعت كرست
كه برجاده شرع يغمبرست
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَـاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَـاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَلَوْ نَشَآءُ} لو للمضي إن دخل على المضارع ولذا لا يجزمه أي : ولو أردنا عقوبة المشركين في الدنيا هم أهل مكة {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} طمس الشيء إزالة أثره بالكلية يقال طمسته أي : محوته واستأصلت أثره كما في "القاموس" أي : لسوينا أعينهم ومحوناها بأن أزلنا ضوءها وصورتها بحيث لا يبدو لها شق ولا جفن وتصير مطموسة ممسوخة كسائر أعضائهم وبالفارسية : (هرآينه ناييدا كنيم يعني رقم محو كشيم بر شمهاى ايشان) يعني كما أعمينا قلوبهم ومحونا بصائرهم لو نشاء لأعمينا أبصارهم الظاهرة وأزلناها بالكلية فيكون عقوبة على عقوبة {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} الاستباق افتعال وبالفارسية : (بر يكديكر يش كرفتن) والصراط من السبيل ما لا التواء فيه بل يكون على سبيل القصد وانتصابه بنزع الجار لأن الصراط مسبوق إليه لا مسبوق أي : فأرادوا أن يستبقوا ويتبادروا إلى الطريق الواسع الذي اعتادوا سلوكه وبالفارسية : (س يشى كيرند وآهنك كنند راهى راكه در سلوك آن معتادند) {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} أي : فكيف يبصرون الطريق وجهة السلوك إلى مقاصدهم حين لا عين لهم للابصار فضلاً عن غيره أي : لا يبصرون لأن أنى بمعنى كيف وكيف هنا إنكار فتفيد النفي وحاصله تهديد لأهل مكة بالطمس فإن الله تعالى قادر على ذلك كما فعل بقوم لوط حين كذبوه وراودوه عن ضيفه.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى طمس عين الظاهر بحيث لا يكون لها شق فكيف تبكي حتى تشهد بالبكاء على صاحبها ويشير أيضاً إلى طمس عين
426
الباطن فإذا كانت مطموسة كيف يبصر بها الحق والباطل ليرجع من الباطل إلى الحق وإذا لم يبصر بها الحق كيف يخاف من الباطل ليحترق قلبه بنار الخوف فيسيل منه الدمع ليشهد له بالبكاء من الخوف.
كريه وزارى دليل رهبتست
هركرا اين نيست اهل شقوتست
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/333)
{وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَـاهُمْ} المسخ تحويل الصورة إلى ما هو أقبح منها سواء كان ذلك التحويل بقلبها إلى صورة البهيمية مع بقاء الصورة الحيوانية أو بقلبها حجراً ونحوه من الجمادات بإبطال القوى الحيوانية.
والمعنى ولو نشاء نسقطهم عن رتبة التكليف ودرجة الاعتبار لغيرنا صورهم بأن جعلناهم قردة وخنازير كما فعلنا بقوم موسى أي : بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام أو بأن جعلناهم حجارة ومدرة وهذا أشد من الأول وأقبح لأن الأول خروج عن رتبة الإنسانية إلى الحيوانية وهذا عن الحيوانية إلى الجمادية التي ليس فيها شعور أصلاً وقطعاً {عَلَى مَكَانَتِهِمْ} بمعنى المكان إلا أن المكانة أخص كالمقامة والمقام أي : مكانهم ومنزلهم الذي هم فيه قعود وبالفارسية : (برجاى خويش تاهم آنجا افسرده شوند) وقال بعضهم : لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم {فَمَا اسْتَطَـاعُوا مُضِيًّا} ذهاباً وإقبالاً إلى جانب أمامهم أي : لم يقدروا أن يبرحوا مكانهم بإقبال.
أصله مضوي قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وكسرت الضاد قبل الياء لتسلم الياء ومن قرأ مضياً بكسر الميم فإنما كسرها اتباعاً للضاد {وَلا يَرْجِعُونَ} أي : ولا رجوعاً وإدباراً إلى جهة خلفهم فوضع موضع الفعل لمراعاة الفاصلة وليس مساق الشرطين لمجرد بيان قدرته تعالى على ما ذكر من عقوبة الطمس والمسخ بل لبيان أنهم بما هم عليه من الكفر ونقص العهد وعدم الاتعاظ بما شاهدوا من آثار دثار امثالهم أحقاء بأن يفعل بهم في الدنيا لتلك العقوبة كما فعل بهم في الآخرة عقوبة الختم وأن المانع من ذلك ليس إلا عدم تعلق المشيئة الإلهية به كأنه قيل لو نشاء عقوبتهم بما ذكر من الطمس والمسخ لفعلناها لكنا لم نفعل جرياً على سنن الرحمة العامة والحكمة التامة الداعيتين إلى إمهالهم زماناً إلى أن يتوبوا ويؤمنوا ويشكروا النعمة أو إلى أن يتولد منهم من يتصف بذلك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال بعض الحكماء : المسخ ضربان خاص وهو تشويه الخلق بالفتح وعام في كل زمان وهو تبديل الخلق بالضم وذلك أن يصير الإنسان متخلقاً بخلق ذميم من أخلاق بعض الحيوانات نحو أن يصير في شدة الحرص كالكلب أو الشره كالخنزير أو الغمارة كالثور.
فعبارة الآية في تحويل الصورة وإشارتها في تحويل الصفات الإنسانية بالصفات السبعية والشيطانية فلا يقدرون على إزالة هذه الصفات ولا يقدرون على رجوعهم إلى صفاتهم الإنسانية فمن مسخه الله في الدنيا بصفات حشره في صورة صفته الممسوخة كما جاء في الحديث الصحيح "إن آزر يحشر على صفة ضبع".
قال في "حياة الحيوان" : في الحديث : "يلقي إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعص فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزي من أن يكون أبي في النار فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال : يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا
427
هو بذيح متلطخ وهو بكسر الذال والخاء المعجمتين ذكر الضباع الكثيرة الشعر فيؤخذ بقوائمه ويلقى في النار والحكمة في كون آزر مسخ ضبعاً دون غيره من الحيوان أن الضبع تغفل عما يجب التيقظ له وتوصف بالحمق فلما لم يقبل آزر النصيحة من أشفق الناس عليه وقبل خديعة عدوه الشيطان أشبه الضبع الموصوفة بالحمق لأن الصياد إذا أراد أن يصيدها رمى في حجرها بحجر فتحسبه شيئاً تصيده فتخرج لتأخذه فتصاد عند ذلك ولأن آزر لو مسخ كلباً أو خنزيراً كان فيه تشويه لخلقه فأراد الله تعالى إكرام إبراهيم عليه السلام بجعل أبيه على هيئة متوسطة".
قال في "المحكم" : يقال خزيته أي : ذللته فلما خفض إبراهيم عليه السلام له جناح الذل من الرحمة لم يخز بصفة الذل يوم القيامة فإذا كان حال إبراهيم فما ظنك بغيره ممن لم يأت الله بقلب سليم فينبغي أن لا يلتفت إلى الاكتساب بل يؤخذ بصالحات الأعمال وخالصات الأحوال نرجو من الله المتعال أن لا يفضحنا يوم السؤال.
{وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَـاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَـاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ * وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِا أَفَلا يَعْقِلُونَ * وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنابَغِى لَه ا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ * لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَـافِرِينَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/334)
{وَمَن نُّعَمِّرْهُ} (التعمير : زندكانى دادن) والعمر مدة عمارة البدن بالروح أي : ومن نطل عمره في الدنيا وبالفارسية : (هركرا عمر دراز دهيم) {نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ} (التنكيس : نكونسار كردن) وهو أبلغ والنكس أشهر وهو قلب الشيء على رأسه ومنه نكس الولد إذا خرج رجله قبل رأسه والنكس في المرض أن يعود في مرضه بعد إفاقته والنكس في الخلق وهو بالفارسية : (آفرينش) الرد إلى أرذل العمر والمعنى نقلبه فيه ونخلقه على عكس ما خلقناه أولاً فلا يزال يتزايد ضعفه وتتناقص قوته وتنتقض بنيته ويتغير شكله وصورته حتى يعود إلى حالة شبيهة بحال الصبي في ضعف الجسد وقلة العقل والخلو عن الفهم والإدراك.
أراني كل يوم في انتقاص
ولا يبقى على النقصان شيء
{أَفَلا يَعْقِلُونَ} أي : أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على ما ذكر من الطمس والمسخ فإنه مشتمل عليهما وزيادة غير أنه على تدرج وأن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما.
نزد قدرت كارها دشوار نيست†
وفي "البحر" : فإن لم نفعلها بكم في الدنيا نفعلها بكم في الآخرة إن لم تتوبوا عن الكفر والمعاصي فإنه روى أن بعض الناس من هذه الأمة يحشرون على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكوسين أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها وبعضهم عمياً وبعضهم صماً وبكماً وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع إلى غير ذلك وسيجيء تفصيله في محله.
قال أبو بكر الوراق قدس سره : من عمره الله بالغفلة فإن الأيام والأحوال مؤثرة فيه حالاً فحالاً من طفولة وشباب وكهولة وشيبة إلى أن يبلغ ما حكى الله عنه من قوله : {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ} ومن أحياه الله بذكره فإن تلون الأحوال لا يؤثر فيه فإنه متصل الحياة بحياة الحق حي به وبقربه قال الله تعالى : {فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَواةً طَيِّبَةً} (النحل : 97).
قال في "كشف الأسرار" : (اين بندكانرا تنبيهي است عظيم بيدار كردن ايشان ازخواب غفلت يعني كه خودرا دريابيد وروز كار جوانى وقوت بغنيمت داريد وعمل كنيد يش ازانكه
428
نتوانيد) قال النبي صلى الله عليه وسلّم "اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وحياتك قبل موتك وفراغك قبل شغلك" (س اكر روز كار جوانى ضايع كند ودر عمل تقصير كند برسر يرى وعجز عذري باز خواهد هم نكوبود) قال النبي عليه السلام : "إذا بلغ الرجل تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وكتب أسير الله في الأرض وشفع في أهل بيته وإذا بلغ مائة سنة استحيى الله عز وجل منه أن يحاسبه" أي : رضي عنه وسامح في حسابه ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
دلم ميدهد وقت وقت اين اميد
كه حق شرم دارد زموى سفيد
عجب دارم ار شرم دارد زمن
كه شرمم نمى آيد از خويشتن
{وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ} رد وإبطال لما كانوا يقولون في حقه عليه السلام من أنه شاعر وما يقوله شعر والظاهر في الرد أن يقال أنه ليس بشاعر وأن ما يتلوه عليكم ليس بشعر إلا أن عدم كونه شاعراً لما كان ملزوماً لعدم كون معلمه علمه الشعر نفي اللازم وأريد نفي الملزوم بطريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح.
قال الراغب : يقال : شعرت أصبت الشعر ومنه استعير شعرت كذا أي : علمت علماً في الدقة كإصابة الشعر وسمي الشاعر شاعراً لفطنته ودقة معرفته.
فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم : لست شعري وصار في التعارف اسماً للموزون المقفى من الكلام والشاعر المختص بصناعته.
وفي "القاموس" : الشعر غلب على منظوم القول لشرفه بالوزن والقافية وإن كان كل علم شعراً والجمع إشعار يقال شعر به كنصر وكرم علم به وفطن له وعقله.
والشعر عند الحكماء القدماء ليس على وزن وقافية ولا الوزن والقافية ركن في الشعر عندهم بل الركن في الشعر إيراد المقدمات المخيلة فحسب ثم قد يكون الوزن والقافية معينين في التخيل فإن كانت المقدمة التي تورد في القياس الشعري مخيلة فقط تمحض القياس شعرياً وإن انضم إليها قول إقناعي تركبت المقدمة من معنيين شعري وإقناعي وإن كان الضميم إليه قولاً يقينياً تركبت المقدمة من شعريّ وبرهانيّ.
قال بعضهم : الشعر إما منطقي وهو المؤلف من المقدمات الكاذبة وإما اصطلاحي وهو كلام مقفى موزون على سبيل القصد والقيد الأخير يخرج ما كان وزنه اتفاقياً كآيات شريفة اتفق جريان الوزن فيها أي : من بحور الشعر الستة عشر نحو قوله تعالى : {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا} (آل عمران : 92) وقوله : {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَـاتٍ} (سبأ : 13) وقوله : {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} (الصف : 13) ونحو ذلك وكلمات شريفة نبوية جاء الوزن فيها اتفاقياً من غير قصد إليه وعزم عليه نحو قوله عليه السلام حين عثر في بعض الغزوات فأصاب إصبعه حجر فدميت.
هل أنت إلا إصبع دميت
(7/335)
وفي سبيل الله ما لقيت وقوله يوم حنين حين نزل ودعا واستنصر أو يوم فتح مكة :
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب وقوله يوم الخندق :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
باسم الإله وبه بدأنا
ولو عبدنا غيره شقينا
429
وغير ذلك سواء وقع في خلال المنثورات والخطب أم لا.
والمراد بالشعر الواقع في القرآن الشعر المنطقي سواء كان مجرداً عن الوزن أم لا والشعر المنطقي أكثر ما يروج بالاصطلاحي.
قال الراغب : قال بعض الكفار للنبي عليه السلام : إنه شاعر فقيل لما وقع في القرآن من الكلمات الموزونة والقوافي.
وقال بعض المحصلين أرادوا به أنه كاذب لأن ظاهر القرآن ليس على أساليب الشعر ولا يخفى ذلك على الأغتم من العجم فضلاً عن بلغاء العرب فإنما رموه بالكذب لأن أكثر ما يأتي به الشاعر كذب ومن ثمة سموا الأدلة الكاذبة شعراً.
قال الشريف الجرجاني في "حاشية المطالع" : والشعر وإن كان مفيداً للخواص والعوام فإن الناس في باب الإقدام والأحجام أطوع للتخييل منهم للصدق إلا أن مداره على الأكاذيب ومن ثمة قيل أحسن الشعر أكذبه فلا يليق بالصادق المصدوق لما شهد به قوله تعالى : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ} الآية والمعنى وما علمنا محمداً الشعر بتعليم القرآن على معنى أن القرآن ليس بشعر فإن الشعر كلام متكلف موضوع ومقال مزخرف مصنوع منسوج على منوال الوزن والقافية مبني على خيالات وأوهام واهية فأين ذلك من التنزيل الجليل الخطر المنزه عن مماثلة كلام البشر المشحون بفنون الحكم والأحكام الباهرة الموصلة على سعادة الدنيا والآخرة ومن أي : اشتبه عليهم الشؤون واختلط بهم الظنون قاتلهم الله أنى يؤفكون.
وفي الآية : إشارة إلى أن النبي عليه السلام معلم من عند الله لأنه تعالى علمه علوم الأولين والآخرين وما علمه الشعر لأن الشعر قرآن إبليس وكلامه لأنه قال رب اجعل لي قرآناً قال تعالى قرآنك الشعر.
قال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في قوله تعالى : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ} اعلم أن الشعر محل للإجمال واللغز والتورية أي : وما رمزنا لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم شيئاً ولا ألغزنا ولا خاطبناه بشيء ونحن نريد شيئاً ولا أجملنا له الخطاب حيث لم يفهم انتهى وهل يشكل على هذه الحروف المقطعة في أوائل السور ولعله رضي الله عنه لا يرى أن ذلك من قبيل المتشابه أو أن المتشابه ليس مما استأثر الله بعلمه
وفي "التأويلات النجمية" : يشير قوله : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ} إلى أن كل أقوال وأعمال وأحوال تجري على العباد في الظاهر والباطن كلها تجري بتعليم الحق تعالى حتى الحرف والصنائع وذلك سر قوله تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} وتعليمه الصنائع لعباده على ضربين بواسطة وبغير واسطة أما بالواسطة فبتعليم بعضهم بعضاً وأما بغير الواسطة فكما علم داود عليه السلام صنعة اللبوس وكل حرفة وصنعة يعملها الإنسان من قريحته بغير تعليم أحد فهي من هذا القبيل انتهى ، وفي "المثنوي" :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قابل تعليم وفهمست اين جسد
ليك صاحب وحى تعليمش دهد
جمله حرفتها يقين از وحى بود
اول اوليك عقل آنرا فزود
هي حرفت را ببين كين عقل ما
داند او آموختن بى اوستا
كره اندر مكر موى اشكاف بد
هي بيشه رام بى استاد شد
ثم حكى قصة قابيل فإنه تعلم حفر القبر من الغراب حتى دفن أخاه هابيل بعد قتله وحمله على عاتقه أياماً {وَمَا يَنابَغِى لَه} البغاء الطلب والإنبغاء انفعال منه يقال بغيته أي : طلبته فانطلب.
430
قال الراغب : هو مثل قوله النار ينبغي أن تحرق الثوب أي : هي مسخرة للإحراق والمعنى وما يصح لمحمد الشعر ولا يتسخر ولا يتسهل ولا يتأتى له لو طلبه أي : جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يكن لسانه يجري به إلا منكسراً عن وزنه بتقديم وتأخير أو نحو ذلك كما جعلناه أمياً لا يهتدي للخط ولا يحسنه ولا يحسن قراءة ما كتبه غيره لتكون الججة أثبت وشبهة المرتابين في حقية رسالته ادحض فإنه لو كان شاعراً لدخلت الشبهة على كثير من الناس في أن ما جاء به يقوله من عند نفسه لأنه شاعر صناعته نظم الكلام.
وقال في "إنسان العيون" والحاصل أن الحق الحقيق بالاعتماد وبه تجتمع الأقوال أن المحرم عليه صلى الله عليه وسلّم إنما هو إنشاء الشعر أي : الإتيان بالكلام الموزون عن قصد وزنه وهذا هو المعنى بقوله : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ} فإن فرض وقوع كلام موزون منه عليه السلام لا يكون ذلك شعراً اصطلاحاً لعدم قصد وزنه فليس من الممنوع منه والغالب عليه أنه إذا أنشد بيتاً من الشعر متمثلاً به أو مسنداً لقائله لا يأتي به موزوناً.
وادعى بعض الأدباء أنه عليه السلام كان يحسن الشعر أي : يأتي به موزوناً قصداً ولكنه كان لا يتعاطاه أي : لا يقصد الإتيان به موزوناً قال : وهذا أتم وأكمل مما لو قلنا إنه كان لا يحسن وفيه أن في ذلك تكذيباً للقرآن.
(7/336)
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وفي "التهذيب" للبغوي : من أئمتنا قيل كان عليه السلام يحسن الشعر ولا يقوله والأصح أنه كان لا يحسنه ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه ولعل المراد بين الموزون منه وغير الموزون.
ثم رأيته في "ينبوع الحياة" قال : كان بعض الزنادقة المتظاهرين بالإسلام حفظاً لنفسه وماله يعرض في كلامه بأن النبي عليه السلام كان يحسن الشعر يقصد بذلك تكذيب كتاب الله تعالى في قوله : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنابَغِى لَه} الآية الكل في "إنسان العيون".
يقول الفقير أغناه الله القدير : هذا ما قالوه في هذا المقام وفيه إشكال كما لا يخفى على ذوي الإفهام لأنهم حين حملوا الشعر في هذا الكلام على المنطقي ثم بنوا قوله وما ينبغي له على القريض لم يتجاوب آخر النظم بأوله والظاهر أن المراد وما ينبغي له من حيث نبوته وصدق لهجته أن يقول الشعر لأن المعلم من عند الله لا يقول إلا حقاً وهذا لا ينافي كونه في نفسه قادراً على النظم والنثر ويدل عليه تمييزه بين جيد الشعر ورديئه أي : موزونه وغير موزونه على ما سبق ومن كان مميزاً كيف لا يكون قادراً على النظم في الإلهيات والحكم لكن القدرة لا تستلزم الفعل في هذا الباب صوناً عن إطلاق لفظ الشعر والشاعر الذي يوهم التخييل والكذب وقد كان العرب يعرفون فصاحته وبلاغته وعذوبة لفظه وحلاوته منطقه وحسن سرده والحاصل أن كل كمال إنما هو مأخوذ منه كما سبق في أواخر الشعراء.
وكان أحب الحديث إليه صلى الله عليه وسلّم الشعر أي : ما كان مشتملاً على حكمة أو وصف جميل من مكارم الأخلاق أو نصرة الإسلام أو ثناء على الله ونصيحة للمسلمين.
وأيضاً كان أبغض الحديث إليه صلى الله عليه وسلّم الشعر أي : ما كان فيه كذب وقبح وهجو ونحو ذلك.
وأما ما روي من أنه عليه السلام كان يضع لحسان في المسجد منبراً فيقوم عليه يهجو من كان يهجو رسول الله والمؤمنين فذلك من قبيل المجاهدة التي أشير إليها في قوله : "جاهدوا بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".
شاعران شيران شدند وهجوشان
همو نكال وو دندانست دان
431
تيزكن دندان وموزى قطع كن
اين نين باشد مكافات بدان
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{إِنْ هُوَ} أي : ما القرآن {إِلا ذِكْرٌ} أي : عظة من الله تعالى وإرشاد للإنس والجن كما قال تعالى : {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ} (يوسف : 104) {وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ} أي : كتاب سماوي بين كونه كذلك أو فارق بين الحق والباطل يقرأ في المحاريب ويتلى في المعابد وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدين فكم بينه وبين ما قالوا.
فعطف القرآن على الذكر عطف الشيء على أحد أوصافه فإن القرآن ليس مجرد الوعظ بل هو مشتمل على المواعظ والأحكام ونحوها فلا تكرار.
قال في "كشف الأسرار" : (هريغمبرى كه آمد برهان نبوت وى ازراه ديدها در آمد و آتش ابراهيم وعصا ويد بيضاء موسى وإحياى موتاى عيسى عليهم السلام وبرهان نبوت محمد عربي أزراه دلها در آمد بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم اكره مصطفى را نيز معجزات بسيار بود كه محل اطلاع ديدها بود ون انشقاق قمر وتسبيح حجر وكلام ذئب وإسلام ضب وغير آن إما مقصود آنست كه موسى تحدى بعصا كرد وعيسى تحدى بإحياء موتى كرد ومصطفى عليه السلام تحدى بكلام كرد {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة : 23) عصاى موسى هرند درو صفت ربانى تعبيه بودازدرخت عوسج بود ودم عيسى هرندكه درو لطف الهى تعبيه بود اما وديعت سنيه بشر بود اى محمد توكه مى روى دمى ووبى باخود مبر وب نفقه خران باشد ودم نصيب بيماران توصفت قديم ما قرآن مجيد باخود بير تا معجزه تو صفت ما بود).
{لِّيُنذِرَ} أي : القرآن متعلق بقوله وقرآن أو بمحذوف دل عليه قوله إلا ذكر وقرآن اى إلا ذكر أنزل لينذر ويخوف {مَن كَانَ حَيًّا} أي : عاقلاً فهيماً يميز المصلحة من المفسدة ويستخدم قلبه فيما خلق له ولا يضيعه فيما لا يعنيه فإن الغافل بمنزلة الميت وجعل العقل والفهم للقلب بمنزلة الحياة للبدن من حيث أن منافع القلب منوطة بالعقل كما أن منافع البدن منوطة بالحياة.
وفيه إشارة إلى أن كل قلب تكون حياته بنور الله وروح منه يفيده الإنذار ويتأثر به وأمارة تأثره الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والمولى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/337)
وقال بعضهم : من كان حياً أي : مؤمناً في علم الله فإن الحياة الأبدية بالإيمان يعني أن إيمان من كان مؤمناً في علم الله بمنزلة الحياة للبدن لكونه سبباً للحياة الأبدية.
قال ابن عطاء : من كان في علم الله حياً أحياه الله بالنظر إليه والفهم عنه والسماع منه والسلام عليه.
وقال الجنيد : الحي من كان حياته بحياة خالقه لا من تكون حياته ببقاء نفسه ومن كان بقاؤه ببقاء نفسه فإنه ميت في وقت حياته ومن كان حياته بربه كان حقيقة حياته عند وفاته لأنه يصل بذلك إلى رتبة الحياة الأصلية وتخصيص الإنذار بمن كان حي القلب مع أنه عام له ولمن كان ميت القلب لأنه المنتفع به {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} أي : يجب كلمة العذاب وهو {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (السجدة : 13) {عَلَى الْكَـافِرِينَ} المصرين على الكفر لأنه إذا انتفت الريبة إلا المعاندة فيحق القول عليهم وفي إيرادهم بمقابلة من كان حياً إشعار بأنهم لخلوهم عن آثار الحياة وأحكامها التي هي المعرفة أموات في الحقيقة كالجنين ما لم ينفخ فيه الروح فالمعرفة تؤدي إلى الإيمان والإسلام والإحسان التي لا يموت أهلها بل ينتقل من مكان إلى مكان.
قال
432
حضرة شيخي وسندي روح الله روحه : حالة النوم وحالة الانتباه إشارة إلى الغفلة ويقظة البصيرة فوقت الانتباه كوقت انتباه القلب في أول الأمر ثم الحركة إلى الوضوء إشارة إلى التوبة والإنابة ثم الشروع في الصلاة إشارة إلى التوجه الإلهي والعبور من عالم الملك والناسوت والدخول في عالم الملكوت ففي الحركات بركات كما أشار إليه المولوي في قوله :
فرقتي لو لم تكن في ذا السكوت
لم يقل إنا إليه راجعون
ثم إن الإنذار صفة النبي عليه السلام في الحقيقة وقد قرىء لتنذر بتاء الخطاب ثم صفة وارثه الأكمل الذي هو على بصيرة من أمره.
قال الشيخ الشهير بأفتاده قدس سره : إن الوعظ لا يليق بمن لم يعرف المراتب الأربع لأنه يعالج مرض الصفراء بعلاج البلغم أو السوداء نعم يحصل له الثواب إذا كان لوجه الله تعالى ولكن لا يحصل الترقي قدر ذرة فإنه لا بد أن يعرف الواعظ أن أية آية تتعلق بالطبيعة وأية آية تتعلق بالنفس ولذلك بكى الأصحاب دماً فمن وجب عليه القول الأزلي بموت قلبه وقساوته كالكافرين والغافلين فلا يتأثر بالإنذار إذ الباز الأشهب إنما يصيد الصيد الحي فنسأل الله الحياة واليقظة والتأثر من كل الإنذار والتنبيه والعظة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَـافِرِينَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعَـامًا فَهُمْ لَهَا مَـالِكُونَ * وَذَلَّلْنَـاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ وَمَشَارِبُا أَفَلا يَشْكُرُونَ} .
{أَوَلَمْ يَرَوْا} الهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على مقدر والضمير للمشركين من أهل مكة أي : ألم يتفكروا ولم يعلموا علماً يقينياً هو في حكم المعاينة أي : قد رأوا وعلموا {إِنَّآ} بمقتضى جودنا {خَلَقْنَا لَهُم} أي : لأجلهم وانتفاعهم {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} العمل كل فعل من الحيوان يقصد فهو أخص من الفعل أي : مما تولينا إحداثه بالذات لم يشاركنا فيه غيرنا بمعاونة وتسبب وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة تمثيلية من عمل يعمل بالأيدي لأنه تعالى منزه عن الجوارح.
قال الكاشفي : (ميان مردمان مثاليست هركارى كه تنهاكند كويند من اين مهم بدست خود ساخته ام يعني ديكر مرا درساختن يارى نداده) وإنما تخاطب العرب بما يستعملون في مخاطباتهم (اينجا نيز ميفرمايدكه ما آفريديم براى ايشان بخود بى مشاركت غيري).
قال الراغب : الأيدي جمع يد بمعنى الجارحة خص لفظ اليد لقصورنا إذ هي أجل الجوارح التي يتولى بها الفعل فيما بيننا.
وقال العتبي : الأيدي هنا القوة والقدرة وقوله عملت أيدينا حكاية عن الفعل وإن لم يباشر الفعل باليد هذا كقوله جرى بناء هذه القنطرة وهذا القصر على يدي فلان.
وفي الخبر على اليد ما أخذت حتى تؤديه فالأمانة مؤداة وإن لم تباشر باليد فيقول مالي في يد فلان أو اليتيم تحت يد القيم فاليد يكنى بها عن الملكة والضبط.
(7/338)
وقال في "الأسئلة المقحمة" : الأيدي هنا صلة وهو كقوله : {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى : 30) ومذهب العرب الكناية باليد والوجه عن الجملة انتهى وهذه المعاني متقاربة في الحقيقة {أَنْعَـامًا} مفعول خلقنا آخر جمعاً بينه وبين أحكامه المتفرعة عليه بقوله تعالى : {فَهُمْ} إلخ جمع نعم وهو المال الراعية وهي الإبل والبقر والغنم والمعز مما في سيره نعومة أي : لين ولا يدخل فيها الخيل والبغال والحمر لشدة وطئها الأرض وخص بالذكر من بين سائر ما خلق الله من المعادن والنبات والحيوان غير الأنعام لما فيها من بدائع الفطرة كما في الإبل وكثرة المنافع كما في البقر والغنم أي : الضأن والمعز {فَهُمْ لَهَا مَـالِكُونَ} .
قال ابن الشيخ :
433
الفاء للسببية ومالكون من ملك السيد والتصرف أي : فهم لسبب ذلك مالكون لتلك الأنعام بتمليكنا إياها وهم متصرفون فيها بالاستقلال يختصون بالانتفاع بها لا يزاحمهم في ذلك غيرهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{وَذَلَّلْنَـاهَا لَهُمْ} (التذليل : خوار وذليل ومنقاد كردن) والذل بالضم ويكسر ضد الصعوبة.
وفي "المفردات" الذل ما كان عن قهر والذل ما كان بعد تصعب وشماس من غير قهر وذلت الدابة بعد شماس ذلاً وهي ذلول ليست بصعبة.
والمعنى وصيرنا تلك الأنعام منقادة لهم وبالفارسية : (رام كرديم انعام را براى ايشان) بحيث لا تستعصي عليهم في شيء مما يريدون بها من الركوب والحمل والسوق إلى ما شاءوا والذبح مع كمال قوتها وقدرتها فهو نعمة من النعم الظاهرة ولهذا ألزم الله الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبح بقوله : {سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا وَمَا كُنَّا لَه مُقْرِنِينَ} (الزخرف : 13) {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} بفتح الراء بمعنى المركوب كالحلوب بمعنى المحلوب أي : فبعض منها مركوبهم أي : معظم منافعها الركوب وقطع المسافات وعدم التعرض للحمل لكونه من تتمات الركوب.
قال الكاشفي : (س بعضى ازان مركوب ايشانست كه بران سوارى كنند ون شتر) والركوب في الأصل كون الإنسان على ظهر حيوان وقد يستعمل في السفينة والراكب اختص في التعارف بممتطي البعير (والامتطاء : مركب ومطيه كرفتن) {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي : وبعض منها يأكلون لحمه وشحمه.
{وَلَهُمْ فِيهَا} أي : في الأنعام المركوبة والمأكولة {مَنَـافِعُ} أخر غير الركوب والأكل كالجلود والأصواف والأوبار والأشعار والنسيلة أي : النتائج وكالحراثة بالثيران {وَمَشَارِبُ} من اللبن جمع مشروب والشرب تناول كل مائع ماء كان أو غيره {أَفَلا يَشْكُرُونَ} أي : أيشاهدون هذه النعم التي يتنعمون بها فلا يشكرون المنعم بها بأن يوحدوه ولا يشركوا به في العبادة فقد تولى المنعم أحداث تلك النعم ليكون أحداثها ذريعة إلى أن يشكروها فجعلوها وسيلة إلى الكفران كما شكا مع حبيبه وقال :
{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ وَمَشَارِبُا أَفَلا يَشْكُرُونَ * وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ * فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ} .
{وَاتَّخَذُوا} أي : مع هذه الوجوه من الإحسان {مِن دُونِ اللَّهِ} أي : متجاوزين الله المتفرد بالقدرة المتفضل بالنعمة {ءَالِهَةً} من الأصنام وأشركوها به تعالى في العبادة {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} رجاء أن ينصروا من جهتهم فيما أصابهم من الأمور أو ليشفعوا لهم في الآخرة ثم استأنف فقال :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أي : لا تقدر آلهتهم على نصرهم والواو لوصفهم الأصنام بأوصاف العقلاء {وَهُمْ} أي : المشركون {لَهُمُ} أي : لآلهتهم {جُندٌ} عسكر {مُحْضَرُونَ} أثرهم في النار أي : يشيعون عند مساقهم إلى النار ليجعلوا وقوداً لها وبالفارسية : (ساه اند حاضر كرده شد كان فرداكه لشكر ايشانند با ايشان حاضر شوند فردوزخ).
قال الكواشي : روي أنه يؤتى بكل معبود من دون الله ومعه اتباعه كأنهم جنده فيحضرون في النار هذا لمن أمر بعبادة نفسه أو كان جماداً :
عابد ومعبود باشد در جحيم
حسرت ايشان شود تاكه عظيم
{فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} الفاء لترتيب النهي على ما قبله والنهي وإن كان بحسب الظاهر متوجهاً إلى قولهم لكنه في الحقيقة متوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونهي له عن التأثر منه
434
(7/339)
بطريق الكناية على أبلغ وجه وآكده فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية.
وقد يوجه النهي إلى المسبب ويراد النهي عن السبب كما في قوله لا أرينك ههنا يريد به نهي مخاطبه عن الحضور لديه والمراد بقولهم ما ينبىء عنه ما ذكر من اتخاذهم الأصنام آلهة فإن ذلك مما لا يخلو عن التفوه بقولهم هؤلاء آلهتنا وأنهم شركاء الله تعالى في المعبودية وغير ذلك مما يورث الحزن كذا في "الإرشاد".
قال ابن الشيخ : الفاء جزائية أي : إذا سمعت قولهم في الله أن له شريكاً وولداً وفيك أنك كاذب شاعر وتألمت من أذائهم وجفائهم فتسل بإحاطة علمي بجميع أحوالهم وبأني أجازيهم على تكذيبهم إياك وإشراكهم بي {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} .
قال في "الإرشاد" : تعليل صريح للنهي بطريق الاستئناف بعد تعليله بطريق الإشعار فإن العلم بما ذكر مستلزم للمجازاة قطعاً أي : نعلم بعلمنا الحضوري عموم ما يضمرون في صدورهم من العقائد الفاسدة ومن العداوة والبغض وجميع ما يظهرون بألسنتهم من كلمات الكفر والشرك بالله والإنكار للرسالة فنجازيهم على جميع جناياتهم الخافية والبادية.
بآشكار ونهان هره كفتى وكردى
جزا دهد بتو داناى آشكار ونهان
وتقديم السر على العلن إما للمبالغة في بيان شمول علمه تعالى لجميع المعلومات كأنه علمه تعالى بما يسرون أقدم منه بما يعلنون مع استوائهما في الحقيقة فإن علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة وإما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب قبل ذلك فتعلق علمه بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقة.
وفي الآية إشارة إلى أن كلام الأعداء الصادر من العداوة والحسد جدير أن يحزن قلوب الأنبياء مع كمال قوتهم وأنهم ومتابعيهم مأمورون بعدم الالتفات وتطييب القلوب في مقاساة الشدائد في الله بأن لها ثمرات كريمة عند الله وللحساد مطالب بها عند الله كما قال : {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} من الحسد والضغائن {وَمَا يُعْلِنُونَ} من العداوة والطعن وأنواع الجفاء وإذا علم العبد أن ألمه آت من الحق هان عليه ما يقاسيه لا سيما إذا كان في الله كما في "التأويلات النجمية".
قال بعض الكبار : ليخفف ألم البلاء علمك بأن الله هو المبتلي.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
هره ازجانان مى آيد صفا باشد مرا†
هذا ، قال في "برهان القرآن" قوله : {فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ} وفي يونس {وَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (يونس : 65) تشابهاً في الوقف على قولهم في السورتين لأن الوقف عليه لازم وإن فيهما مكسورة في الابتداء لا في الحكاية ومحكي القول فيهما محذوف ولا يجوز الوصل لأن النبي صلى الله عليه وسلّم منزه عن أن يخاطب بذلك انتهى.
قال في "بحر العلوم" قوله : {إِنَّآ} الخ تعليل للنهي على الاستئناف ولذلك لو قرىء أنا بفتح الهمزة على حذف لام التعليل جاز وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لبيك إن الحمد والنعمة لك" كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي وكلاهما تعليل انتهى.
وفي "الكواشي" وزعم بعضهم أن من فتح {إِنَّآ} بطلت صلاته وكفر وليس كذلك لأنه لا يخلو إما أن يفتحها تعليلاً فمعناه كالمكسورة أو يفتحها بدلاً من قولهم وليس بكفر
435
أيضاً لجواز أن يخاطب هو صلى الله عليه وسلّم والمراد غيرة نحو {لَـاـاِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) بل إن اعتقد أن محمداً عليه السلام يحزن لعلمه تعالى سرهم وعلانيتهم فقد كفر أو يفتحها معمولة قولهم عند من يعمل القول بكل حال وليس بكفر أيضاً انتهى كلامه بإجمال.
{فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِىَ خَلْقَه قَالَ مَن يُحْىِ} .
{أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ} كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث بعد ما شاهدوا في أنفسهم أوضح دلائله وأعدل شواهده كما أن ما سبق مسوق لبيان بطلان إشراكهم بالله بعدما عاينوا فيما بأيديهم ما يوجب التوحيد والإسلام.
والهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على مقدر والرؤية قلبية والنطفة الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/340)
ـ روي ـ أن جماعة من كفار قريش منهم أبيّ بن خلف ووهب بن حذافة بن جمع وأبو جهل والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة اجتمعوا يوماً فقال أبيّ بن خلف : ألا ترون إلى ما يقول محمد أن الله يبعث الأموات ثم قال : واللات والعزى لأذهبن إليه ولأخصمنه وأخذ عظماً بالياً فجعل يفتيه بيده ويقول : يا محمد إن الله يحيي هذا بعدما رمّ قال عليه السلام : "نعم ويبعثك ويدخلك جهنم" فنزلت رداً عليه في إنكاره البعث لكنها عامة تصلح رداً لكل من ينكره من الإنسان لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وفي "الإرشاد" وإيراد الإنسان موضع المضمر لأن مدار الإنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان كما في قوله تعالى : {أَوَلا يَذْكُرُ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْـاًا} (مريم : 67) والمعنى ألم يتفكر الإنسان المنكر للبعث أياً من كان ولم يعلم علماً يقينياً إنا خلقناه من نطفة وبالفارسية : (آيا نديد وندانست ابيّ وغير او آنراكه ما بيافريديم اورا از آبى مهين در قرارى مكين هل روز اور در طور نطفه نكه داشتيم تا مضغه كشت مصطفى عليه السلام كفت "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله عز وجل إليه ملكاً بأربع كلمات فيقول : اكتب أجله ورزقه وإنه شقي أو سعيد" آنكه تقطيع هيكل أو صورت شخص او در ظهور آورديم واورا كسوت بشريت وشانيديم وازان قرار مكين باين فضاى رحيب آورديم واز بستان رازخون اورا شير صافى داديم وبعقل وفهم وسمع وبصر ودل وجان اورا بياراستيم وبقبض وبسط ومشي وحركات اورا قوت ديديم وون ازان نطفه باين رتب رسانيديم وسخن كوى ودلير كشت) {فَإِذَا هُوَ} (س آنكاء او) {خَصِيمٌ} شديد الخصومة والجدال بالباطل {مُّبِينٍ} أي : مبين في خصومته أو مظهر للحجة وهو عطف على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار والتعجيب كأنه قيل أولم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر يشهد بصحته وتحققه مبدأ فطرته شهادة بينة فهذا حال الإنسان الجاهل الغافل ونعم ما قيل :
أعلمه الرماية كل يوم
فلما اشتد ساعده رماني
أعلمه القوافي كل حين
فلما قال قافية هجاني
وما قيل :
لقدر ربيت جرواً طول عمري
فلما صار كلباً عض رجلي
436
قال السمرقندي : العامل في إذا المفاجأة معنى المفاجأة وهو عامل لا يظهر استغنى عن إظهاره بقوة ما فيها من الدلالة عليه ولا يقع بعدها إلا الجملة المركبة من المبتدأ والخبر وهو في المعنى فاعل لأن معنى {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} فاجأه خصومة بينة كما أن معنى قوله : {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الروم : 36) فاجأهم قنوطهم أو مفعول أي : فاجأ الخصومة وفاجأوا القنوط يعني خاصم خالقه مخاصمة ظاهرة وقنطوا من الرحمة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
(7/341)
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا} عطف على الجملة الفجائية أي : ففاجأ خصومتنا وضرب لنا مثلاً أي : أورد في شأننا قصة عجيبة في نفس الأمر وهي في الغرابة والبعد عن العقول كالمثل وهي إنكار إحيائنا العظام ونفي قدرتنا عليه.
قال ابن الشيخ المثل يستعار للأمر العجيب تشبيهاً له في الغرابة بالمثل العرفي الذي هو القول السائر ولا شك أن نفي قدرة الله على البعث مع أنه من جملة الممكنات وأنه تعالى على كل شيء قدير من أعجب العجائب {وَنَسِىَ خَلْقَهُ} عطف على ضرب داخل في حيز الإنكار والتعجيب والمصدر مضاف إلى المفعول أي : خلقنا إياه من النطفة أي : ترك التفكر في بدء خلقه ليدله ذلك على قدرته على البعث فإنه لا فرق بينهما من حيث أن كلاً منهما إحياء موات وجماد.
وقال البقلى في "خلق الإنسان والوجوه الحسان" : من علامات قدرته أكثر مما يكون في الكون لأن الكونين والعالمين في الإنسان مجموعون وفيه علمه معلوم لو عرف نفسه فقد عرف ربه لأن الخليقة مرآة الحقيقة تجلت الحقيقة في الخليقة لأهل المعرفة ورب قلب ميت أحياه بجمالته بعد موته بجهالته {قَالَ} استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ عن حكاية ضرب المثل كأنه قيل أي : مثل ضرب أو ماذا قال فقيل : قال {مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ} منكراً له أشد النكير مؤكداً له بقوله : {وَهِىَ رَمِيمٌ} أي : بالية أشد البلى بعيدة من الحياة غاية البعد حيث لا جلد عليها ولا لحم ولا عروق ولا أعصاب يقال رمّ العظم يرم رمة بكسر الراء فيهما أي : بلى فهو رميم وعدم تأنيث الرميم مع وقوعه خبراً للمؤنثة لأنه اسم لما بلى من العظام غير صفة كالرفات.
وقد تمسك بظاهر الآية الكريمة من أثبت للعظم حياة وبنى عليه الحكم بنجاسة عظم الميت وهو الشافعي ومالك وأحمد وأما أصحابنا الحنفية فلا يقولون بنجاسته كالشعر ويقولون المراد بإحياء العظام ردها إلى ما كانت عليه من الغضاضة والرطوبة في بدن حي حساس.
واختلفوا في الآدمي هل يتنجس بالموت.
فقال أبو حنيفة : يتنجس لأنه دموي إلا أنه يطهر بالغسل كرامة له وتكره الصلاة عليه في المسجد.
وقال الشافعي وأحمد لا يتنجس به ولا تكره الصلاة عليه فيه وعن مالك خلاف والأظهر الطهارة وأما الصلاة عليه في المسجد فالمشهور من مذهبه كراهتها كقول أبي حنيفة.
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِىَ خَلْقَه قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍا وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
{قُلْ} يا محمد تبكيتاً لذلك الإنسان المنكر بتذكير ما نسيه من فطرة الدالة على حقيقة الحال وإرشاده الطريقة للاستشهاد بها {يُحْيِيهَا} أي : تلك العظام {الَّذِى أَنشَأَهَآ} أوجدها {أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي : في أول مرة ولم تكن شيئاً فإن قدرته كما هي لاستحالة التغير فيها والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها وهو من النصوص القاطعة الناطقة بحشر الأجساد استدلالاً بالابتداء على الإعادة وفيه رد على من لم يقل به وتكذيب له {وَهُوَ} أي : الله المنشيء
437
{بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} مبالغ في العلم بتفاصيل كيفيات الخلق والإيجاد إنشاء وإعادة محيط بجميع الأجزاء المتفتتة المتبددة لكل شخص من الأشخاص أصولها وفروعها وأوضاع بعضها من بعض من الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق فيعيد كلاً من ذلك على النمط السابق مع القوى التي كانت قبل.
وفي "بحر العلوم" بليغ العلم بكل شيء من المخلوقات لا يخفى عليه شيء من الأجزاء المتفتتة وأصولها وفروعها فإذا أراد أن يحيي الموتى يجمع أجزاءهم الأصلية ويعيد الأرواح إليها ويحيون كما كانوا أحياء وهو معنى حشر الأجساد والأرواح وبعث الموتى.
قال القاضي عضد الدين في "المواقف" هل يعدم الله الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التأليف والحق إنه لم يثبت ذلك ولا نجزم فيه نفياً ولا إثباتاً لعدم الدليل على شيء من الطرفين وقوله تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} لا يرجح أحد الاحتمالين لأن هلاك الشيء كما يكون بإعدام أجزائه يكون أيضاً بتفريقها وإبطال منافعها انتهى.
فالجسم المعاد هو المبتدأ بعينه أي : بجميع عوارضه المشخصة سواء قلنا أن المبتدأ قد فنى بجميع أعضائه وصار نفياً محضاً وعدماً صرفاً ثم إنه تعالى أعاده بإعادة أجزائه الأصلية وصفاته الحالة فيها أو قلنا أن المبتدأ قد فنى بتفرق أجزائه الأصلية وبطلان منافعها ثم إنه تعالى ألف بين الأجزاء المتفرقة وضم بعضها إلى بعض على النمط السابق وخلق فيها الحياة.
(7/342)
واعلم أن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثرون كقولهم : {أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الارْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيد} (السجدة : 10) وقولهم : {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (المؤمنون : 82) ومن قال : {مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} قاله على طريق الاستبعاد فأبطل الله استبعادهم بقوله : {وَنَسِىَ خَلْقَهُ} أي : نسي أنا خلقناه من تراب ثم من نطفة متشابهة الأجزاء ثم جعلنا له من ناصيته إلى قدمه أعضاء مختلفة الصور وما اكتفينا بذلك حتى أودعناه ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل واللذان بهما استحق الإكرام فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن محلاً للحياة أصلاً ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه.
ومنهم من ذكر شبهة وإن كانت في آخرها تعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين :
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
الأول : أنه بعد العدم لم يبق شيئاً فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود فأجاب تعالى عن هذه الشبهة بقوله : {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعني أنه كما خلق الإنسان ولم يك شيئاً مذكوراً كذلك يعيده وإن لم يبق شيئاً مذكوراً.
والثاني : أن من تفرقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضه في أبدان السباع وبعضه في حواصل الطيور وبعضه في جدران المنازل كيف يجتمع وأبعد من هذه أنه لو أكل إنسان إنسان وصارت أجزاء المأكول داخلة في أجزاء الآكل فإن أعيدت أجزاء الآكل لا يبقى للمأكول أجزاء تتخلق منها أعضاؤه وإن أعيدت الأجزاء المأكولة إلى بدن المأكول وأعيد المأكول بأجزائه لا تبقى للآكل أجزاء يتخلق منها فأبطل الله هذه الشبهة بقوله : {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} .
ووجهه أن في الآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول أيضاً كذلك فإذا أكل إنسان إنساناً صارت الأجزاء الأصلية للمأكول
438
فضلة بالنسبة إلى الآكل والأجزاء الأصلية للآكل وهي ما كان قبل الأكل هي التي تجمع وتعاد مع الآكل والأجزاء المأكولة مع المأكول والله بكل خلق عليم يعلم الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه الروح وكذلك يجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع المتباعدة بحكمته وقدرته.
قال بعض الأفاضل : لما كان تمسكهم بكون العظام رميمة من وجهين :
أحدهما : اختلاط أجزاء الأبدان والأعضاء بعضها مع بعض فكيف يميز أجزاء بدن من أجزاء رميمة يابسة جداً مع أن الحياة تستدعي رطوبة البدن.
أشار إلى جواب الأول بقوله : {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} فيمكنه تمييز أجزاء الأبدان والأعضاء.
وإلى جواب الثاني بقوله : {الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا} بدل من الموصول الأول وعدم الاكتفاء بعطف الصلة للتأكيد ولتفاوتهما في كيفية الدلالة.
والشجر من النبت : ماله ساق والخضرة أحد الألوان بين البياض والسواد وهو إلى السواد أقرب فلهذا سمي الأسود أخضر والأخضر أسود.
وقيل : سواد العراق للموضع الذي تكثر فيه الخضرة ووصف الشجر بالأخضر دون الخضراء نظراً إلى اللفظ فإن لفظ الشجر مذكر ومعناه مؤنث لأنه جمع شجرة كثمر وثمرة والجمع مؤنث لكونه بمعنى الجماعة.
والمعنى خلق لأجلكم ومنفعتكم من الشجر الأخضر كالمرخ والعفار ناراً والمرخ بالخاء المعجمة شجر سريع الورى والعفار بالعين المهملة كسحاب شجر آخر تقدح منه النار.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال الحكماء : لكل شجر نار إلا العناب فمن ذلك يدق القصار الثوب عليه ويتخذ منه المطرقة والعرب تتخذ زنودها من المرخ والعفار وهما موجودات في أغلب الواضع من بوادي العرب يقطع الرجل منهما غصنين كالسواكين وهما أخضران يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فتنقدح النار بإذن الله تعالى وذلك قوله تعالى : {فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} إذا للمفاجأة والجار متعلق بتوقدون والضمير راجع إلى الشجر (والإيقاد : آتش افروختن) أي : تشعلون النار من ذلك الشجر لا تشكون في أنها نار تخرج منه كذلك لا تشكون في أن الله يحيي الموتى ويخرجهم من القبور للسؤال والجزاء من الثواب والعقاب فإن من قدر على إحداث النار وإخراجها من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفية كان أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضاً فطرأ عليه اليبوسة والبلى وعلم منه أن الله تعالى جامع الأضداد ألا يرى أنه جمع الماء والنار في الخشب فلا الماء يطفىء النار ولا النار تحرق الخشب.
(7/343)
ويقال إن الله تعالى خلق ملائكة نصف أبدانهم من الثلج ونصفها من النار فلا الثلج يطفىء النار ولا النار تذيب الثلج.
وفي الآية إشارة إلى شجرة أخضر البشرية ونار المحبة فمصباح القلوب إنما يوقد منه.
قال بعض الكبار : ظاهر البدن من عالم الشهادة والقلب من عالم الملكوت وكما تنحدر من معارف القلب آثار إلى الجوارح فكذلك قد ترتفع من أحوال الجوارح التي هي من عالم الشهادة آثار إلى القلب والحاصل أنه ينقدح الظاهر بالأعمال فيحدث منها نور يتنور به البال ويزيد الحال.
ادخلوا الأبيات من أبوابها
واطلبوا الأغراض من أسبابها
نسأل الله الدخول في الطريق والوصول إلى منزل التحقيق
439
{أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} الهمزة للإنكار وإنكار النفي إيجاب والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام فهمزة الإنكار وإن دخلت على حرف العطف ظاهراً لكنها في التحقيق داخلة على كلمة النفي قصداً إلى إثبات القدرة له وتقريرها.
والمعنى : أليس القادر المقتدر الذي أنشأ الأناسي أول مرة وأليس الذي جعل لهم من الشجر الأخضر ناراً وأليس الذي خلق السموات أي : الإجرام العلوية وما فيها والأرض أي : الإجرام السفلية وما عليها مع كبر جرمهما وعظم شأنهما وبالفارسية : (ريانيست آنكس كه بيافريد آسمانها وزمينها بابزركى اجرام ايشان) {بِقَـادِرٍ} في محل النصب لأنه خبر ليس {عَلَى أَن يَخْلُقَ} في الآخرة {مِثْلَهُم} أي : مثل الأناسي في الصغر والحقارة بالنسبة إليهما ويعيدهم أحياء كما كانوا فإن بديهة العقل قاضية بأن من قدر على خلقهما فهو على خلق الأناسي أقدر كما قال تعالى : {لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر : 57) أو مثلهم في أصول الذات وصفاتها وهو المعاد فإن المعاد مثل الأول في الاشتمال على الأجزاء الأصلية والصفات المشخصة وإن غايره في بعض العوارض لأن أهل الجنة جرد مرد وأن الجهنمي ضرسه مثل أحد وغير ذلك.
وقال شرف الدين الطيبي : لفظ مثل ههنا كناية عن المخاطبين نحو قولك مثلك يجود أي : على أن يخلقهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وفي "التأويلات النجمية" : قال : إن الإعادة في معنى الابتداء فإذا قررتم بالابتداء فأي إشكال بقي في جواز الإعادة في الانتهاء ثم قال الذي قدر على خلق النار في الأغصان من المرخ والعفار قادر على خلق الحياة في الرمية البالية ثم زاد في البيان بأن قال القدرة على مثل الشيء كالقدرة عليه لاستوائهما بكل وجه وأنه يحيى النفوس بعد موتها في العرصة كما يحيي الإنسان من النطفة والطير من البيضة ويحيي القلوب بالعرفان لأهل الإيمان كما يحيي نفوس أهل الكفر بالهوى والطغيان.
دل عاشق وباغ وفيض حق ابر بهارآسا
حياة تازه بخشد حق دمادم باغ دلهارا
{بَلَى} جواب من جهته تعالى وتصريح بما أفاده الاستفهام الإنكاري من تقرير ما بعد النفي وإيذان بتعين الجواب نطقوا به أو تلعثموا فيه مخافة الإلزام.
قال ابن الشيخ : هي مختصة بإيجاب النفي المتقدم ونقضه فهي ههنا لنقض النفي الذي بعد الاستفهام أي : بلى إنه قادر كقوله تعالى : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (الأعراف : 172) أي : بلى أنت ربنا.
وفي "المفردات" بلى جواب استفهام مقترن بنفي نحو {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} .
ونعم يقال في الاستفهام المجرد نحو : {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} (الأعراف : 44) ولا يقال ههنا بلى فإذا قيل ما عندي شيء فقلت : بلى فهو رد لكلامه فإذا قلت نعم فإقرار منك انتهى {وَهُوَ الْخَلَّـاقُ الْعَلِيمُ} عطف على ما يفيده الإيجاب أي : بلى هو قادر على ذلك والمبالغ في العلم والخلق كيفا وكماً.
وقال بعضهم : كثير المخلوقات والمعلومات يخلق خلقاً بعد خلق ويعلم جميع الخلق.
ـ ذكر البرهان الرشيدي ـ أن صفات الله تعالى التي على صيغة المبالغة كلها مجاز لأنها موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكثر مما له وصفاته تعالى متناهية في الكمال لا يمكن المبالغة فيها.
وأيضاً فالمبالغة تكون في صفات تفيد الزيادة والنقصان وصفات الله منزهة عن ذلك واستحسنه الشيخ تقي الدين السبكي.
وقال الزركشي في "البرهان" : التحقيق إن صيغة المبالغة قسمان :
"أحدهما" : ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل.
"والثاني" : بحسب زيادة
440
(7/344)
المفعولات ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة إذ الفعل الواقع قد يقع على جماعة متعددين وعلى هذا القسم تنزل صفات الله وارتفع الإشكال ولهذا قال بعضهم في حكيم معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع.
وقال في "الكشاف" : المبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده أو لأنه بليغ في قبول التوبة ينزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه {إِنَّمَآ أَمْرُهُ} أي : شأنه تعالى {إِذَآ أَرَادَ شَيْـاًا} وجود شيء من الأشياء خلقه {أَن يَقُولَ لَه كُن} أي : أن يعلق به قدرته {فَيَكُونُ} قرىء بالنصب على أن يكون معطوف على يقول والجمهور على رفعه بناء على أنه في تقدير فهو يكون بعطف الجملة الاسمية على الاسمية المتقدمة وهي قوله {إِنَّمَآ أَمْرُه إِذَآ أَرَادَ شَيْـاًا أَن يَقُولَ لَه كُن} فالمعنى فهو يحدث من غير توقف على شيء آخر أصلاً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وهذا تمثيل لتأثير قدرته تعالى فيما أراده بأمر الآمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة حصول المأمور به من غير توقف على شيء ما وهو قول أبي منصور الماتريدي لأنه لا وجه لحمل الكلام على الحقيقة إذ ليس هناك قول ولا آمر ولا مأمور لأن الأمر إن كان حال وجود المكون فلا وجه للأمر وإن كان حال عدمه فكذلك إذ لا معنى لأن يؤمر المعدوم بأن يوجد نفسه.
قال النقشبندي : والتعقيب في فيكون إنما نشأ من العبارة وإلا فلا تأخير ولا تعقيب في سرعة نفوذ قضائه سبحانه (وكويند اين كن كلمه علامتيست كه ون ملائكة بشنوند دانندكه خير حادث خواهد شد) :
حرفيست كاف ونون زتو امير صنع او
ازقاف تابقاف بدين حرف كشته دال
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الإرادة الأزلية كما تعلقت بإيجاد المكونات تعلقت القدرة الأزلية على وفق الحكمة الأزلية بالمقدورات إلى الأبد على وفق الإرادة بإشارة أمر كن فيكون إلى الأبد ما شاء في الأزل انتهى.
فإن قلت إرادته قديمة فلو كان القول قديماً صار المكون قديماً.
قلت : تعلق الإرادة حادث في وقت معين وهو وقت وجود المكون في الخارج والعين فلا يلزم ذلك.
وعن بعض الكبار في قوله عليه السلام : "إن الله فرد يحب الفرد" إن مقام الفردية يقتضي التثليث فهو ذات وصفة وفعل وأمر الإيجاد يبتني على ذلك وإليه الإشارة بقوله : {إِنَّمَآ أَمْرُهُ} الخ فهو ذات وإرادة وقول والقول مقلوب اللقاء بعد الإعلال فليس عند الحقيقة هناك قول وإنما لقاء الموجد اسم فاعل بالموجد اسم مفعول وسريان هويته إليه وظهور صفته وفعله فيه فافهم هذه الدقيقة وعليها يدور سر قوله تعالى : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (الحجر : 29) إذ لا نفخ هناك أصلاً وإنما هو تصوير قال الحسين النوري قدس سره : ابدأ الأكوان كلها بقوله كن إهانة وتصغيراً ليعرف الخلق إهانتها ولا يركنوا إليها ويرجعوا إلى مبدئها ومنشئها فشغل الخلق زينة الكون فتركهم معه واختار من خواصه من أعتقهم من رق الكون وأحياهم به فلم يجعل للعلل عليهم سبيلاً ولا للآثار فيهم طريقاً :
محو معنى وفارع از صورم
نيست از جلوه صور خبرم
تاشدم از سواى حق فانى
يافتم من وجود حقانى
شد زمن غائب عالم اكوان
ديده ام كشت رزنور جهان
441
{فَسُبْحَـانَ الَّذِى بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ} الملكوت والرحموت والرهبوت والجبروت مصادر زيدت الواو والتاء فيها للمبالغة في الملك والرحمة والرهبة والجبر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
قال في "المفردات" : الملكوت مختص بملك الله تعالى والملك ضبط الشيء والتصرف فيه بالأمر والنهي أي : فإذا تقرر ما يوجب تنزهه تعالى وتنزيهه أكمل إيجاب من الشؤون المذكورة كالإنشاء والإحياء وأن إرادته لا تتخلف عن مراده ونحو ذلك فنزهوا الله الذي بيده أي : تحت قدرته وفي تصرف قبضته ملك كل شيء وضبطه وتصرفه عما وصفوه تعالى به من العجز وتعجبوا مما قالوه في شأنه تعالى من النقصان وبالفارسية : (س وصف كنيد به اكى وبى عيبى آنكسى راكه بدست اقتدار اوست ادشاهى همه يز) {وَإِلَيْهِ} لا إلى غيره إذ لا مالك سواه على الإطلاق {تُرْجَعُونَ} تردون بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم وهو وعد للمقرين ووعيد للمنكرين يعني : (وعده دوستانست ووعيد دشمنان اينانرا شديد العقابست وآنانرا) طوبى لهم وحسن مآب فالخطاب للمؤمنين والكافرين.
وفي "التأويلات النجمية" : أثبت لكل شيء ملكوتاً وملكوت الشيء ما هو الشيء به قائم ولو لم يكن للشيء ملكوت يقوم به لما كان شيء والملكوتات قائمة بيد قدرته.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالاختيار أهل القبول وبالاضطرار أهل الرد عصمنا الله من الرد بفضله وسعة كرمه اهـ.
(7/345)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كنت لا أعلم ما روي في فضل يس وقراءتها كيف خصت به فإذا أنه لهذه الآية ، وفي الحديث : "اقرأوا سورة يس على موتاكم" قال الإمام : وذلك لأن الإنسان حينئذٍ ضعيف القوة وكذا الأعضاء لكن القلب يكون مقبلاً على الله تعالى بكليته فإذا قرىء عليه هذه السورة الكريمة تزداد قوة قلبه ويشتد تصديقه بالأصول فيزداد إشراق قلبه بنور الإيمان وتتقوى بصيرته بلوامع العرفان انتهى.
يقول الفقير أغناه الله القدير : وأيضاً إن المشرف على النزع يناسبه خاتمة السورة إذ الملكوت الذي هو الروح القائم هو به وسر الفائض عليه من ربه يرجع إلى أصله حينئذٍ وينسلخ عن عالم الملك وقتئذٍ وإليه الإشارة بالقول المذكور لابن عباس رضي الله عنهما وفي الحديث "إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس".
خدايت لشكرى داده زقرآن
س آنكه قلب آن لشكر ز يس
قيل : إنما جعل يس قلب القرآن أي : أصله ولبه لأن المقصود الأهم من إنزال الكتب بيان أنهم يحشرون وأنهم جميعاً لديه محضرون وأن المطيعين يجازون بأحسن ما كانوا يعملون ويمتاز عنهم المجرمون وهذا كله مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه وأتمه.
ونقل عن الغزالي أنه إنما كانت قلب القرآن لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر والنشر وهذا المعنى مقرر فيها بأبلغ وجه فشابهت القلب الذي يصح به البدن.
وقال أبو عبد الله : القلب أمير على الجسد وكذلك يس أمير على سائر السور موجود فيه كل شيء.
ويجوز أن يقال في وجه شبهه بالقلب إنه لما كان القلب غائباً عن الإحساس وكان محلاً للمعاني الجليلة وموطناً للإدراكات الخفية والجلية وسبباً لصلاح البدن وفساده شبه الحشر به فإنه من عالم الغيب وفيه يكون انكشاف
442
الأمور والوقوف على حقائق المقدور وبملاحظته وإصلاح أسبابه تكون السعادة الأبدية وبالإعراض عنه وإفساد أسبابه يبتلى بالشقاوة السرمدية
جزء : 7 رقم الصفحة : 364
وقال النسفي : يمكن أن يقال في كونه قلب القرآن إن هذه السورة ليس فيها إلا تقرير الأصول الثلاثة الوحدانية والرسالة والحشر وهو الذي يتعلق بالقلب والجنان وأما الذي باللسان والأركان ففي غير هذه السورة فلما كان فيها أعمال القلب لا غير سماها قلباً.
وآخر الحديث المذكور : "من قرأها يريد بها وجه الله غفر الله له وأعطى من الأجر كأنما قرأ القرآن ثنتين وعشرين مرة وأيما مسلم قرىء عنده إذا نزل به ملك الموت يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفاً يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون غسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه وأيما مسلم قرأ يس وهو في سكراته لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة يشربها وهو على فراشه ويقبض روحه وهو ريان ويمكث في قبره وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان" ، وفي الحديث : "إن في القرآن لسورة تشفع لقارئها ويغفر لسامعها تدعى في التوراة المعمة" قيل : يا رسول الله وما المعمة؟ قال : "تعم صاحبها بخير الدارين وتدفع عنه أهاويل الآخرة وتدعى الدافعة والقاضية" قيل : يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال : "تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة" وفي الحديث : "من قرأها عدلت له عشرين حجة ومن سمعها كان له ثواب صدقة ألف دينار في سبيل الله ومن كتبها ثم شربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف نور وألف بركة وألف رحمة ونزع منه كل داء وغل" وفي الحديث "من قرأ سورة يس في ليلة أصبح مغفوراً له".
وعن يحيى بن كثير قال : "بلغنا أنه من قرأ يس حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي ومن قرأها حين يمسي لم يزل في فرح حتى يصبح" وفي الحديث : "اقرأوا يس فإن فيها عشر بركات ما قرأها جائع إلا شبع وما قرأها عار إلا اكتسى وما قرأها أعزب إلا تزوج وما قرأها خائف إلا أمن وما قرأها مسجون إلا فرج وما قرأها مسافر إلا عين على سفره وما قرأها رجل ضلت له ضالة إلا وجدها وما قرئت عند ميت إلا خفف عنه وما قرأها عطشان إلا روي وما قرأها مريض إلا برىء" وفي الحديث "يس لما قرئت له" وفي الحديث "من دخل المقابر وقرأ سورة يس خفف عنهم يومئذٍ وكان له بعدد من فيها حسنات".
وفي "ترجمة الفتوحات" (وون ببالين محتضر حاضر شوى سورة يس بخوان شيخ اكبر قدس سره ميفرمايدكه وقتى بيمار بودم ودرين مرض مراغشيانى شد بحدى كه مرا از جمله مردكان شمردند دران حالت قومى ديدم منظر هاى كريه وصورتهاى قبيح ميخواستندكه بمن اذيتي رسانند وشخصي ديدم بغايت خوب روى باقوت تمام وازوى بوى خوش مى آمد آن طائفه را ازمن دفع كرد وتابدان حدكه ايشانرا مقهور كردانيد واورا رسيدم توكيستى كفت من سوره يس ام ازتو دفع ميكنم ون ازان حالت بهوش آمدم در خودرا ديدم كه ميكريست وسورة يس ميخواند دران لحظه ختم كرد اورا از آنه مشاهده كرده بودم خبر دادم وبعد ازان بمدتى از رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمن رسيدكه) "اقرأوا على موتاكم يس".
قال الإمام اليافعي : قد جاء في الحديث : "إن عمل الإنسان يدفن معه في قبره
443
فإن كان العمل كريماً أكرم صاحبه وإن كان لئيماً آلمه" أي : إن كان عملاً صالحاً آنس صاحبه وبشره ووسع عليه قبره ونوّره وحماه من الشدائد والأهوال وإن كان عملاً سيئاً فزع صاحبه وروّعه وأظلم عليه قبره وضيقه وعذبه وخلى بينه وبين الشدائد والأهوال والعذاب والوبال كما جاء في "المثنوي" :
در زمانه مرترا سه همره اند
آن يكى وافى واين يك غدر مند
آن يكى رايان وديكر رخت ومال
وآن سوم وافيست وان حسن الفعال
مال انايد باتو بيرون از قصور
يار آيد ليك آيد تا بكور
ون ترا روز اجل آيد به يش
يار كويد از زبان حال خويش
تابدينجا بيش همره نيستم
بر سر كورت زمانى بيستم
فعل تو وافيست زوكن ملتحد
كه در آيد باتو در قعر لحد
بس يمر كفت بهر اين طريق
باو فاتر از عمل نبود رفيق
كربود نيكوابد يارت شود
وربود بد در لحد مارت شود
وعن بعض الصالحين في بعض بلاد اليمن أنه لما دفن بعض الموتى وانصرف الناس سمع في القبر صوتاً ودقاً عنيفاً ثم خرج من القبر كلب أسود فقال له الشيخ الصالح : ويحك أيّ شيء أنت؟ فقال : أنا عمل الميت قال : فهذا الضرب فيك أم فيه قال : فيّ وجدت عنده سورة يس وأخواتها فحالت بينه وبيني وضربت وطردت.
قال اليافعي : قلت لما قوي عمله الصالح غلب عمله الصالح وطرد عنه بكرم الله ورحمته ولو كان عمله القبيح أقوى لغلبه وأفزعه وعذبه نسأل الله الكريم الرحيم لطفه ورحمته وعفوه وعافيته لنا ولأحبابنا لإخواننا المسلمين اللهم أجب دعاءنا بحرمة سورة يس.
جزء : 7 رقم الصفحة : 364(7/346)
سورة الصافات
إحدى واثنتان وثمانون آية مكية
جزء : 7 رقم الصفحة : 443
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} الواو للقسم والصافات جمع صافة بمعنى جمع صافية بمعنى جماعة صافة فالصافات بمعنى الجماعات الصافات ولو قيل والصافين وما بعدها بالتذكير لم يحتمل الجماعات.
والصف أن يجعل الشيء على خط مستقيم كالناس والأشجار وبالفارسية : (رسته كردن) تقول صففت القوم من باب ردّ فاصطفوا إذا أقمتم على خط مستو لأداء الصلاة أو لأجل الحرب.
أقسم الله سبحانه بالملائكة الذين يصفون للعبادة في السماء ويتراصون في الصف أي : بطوائف الملائكة الفاعلات للصفوف على أن المراد إيقاع نفس الفعل من غير قصد إلى المفعول واللاتي يقفن صفاً صفاً في مقام العبودية والطاعة ، وبالفارسية : (وبحق فرشتكان صف بركشيده در مقام عبوديت صف بركشيدنى) أو الصافات أنفسها أي : الناظمات لها في سلك الصفوف بقيامها في مواقف الطاعة ومنازل الخدمة وفي الحديث : "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم" قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال : "يتمون الصفوف المقدّمة ويتراصون في الصف" (والتراص : نيك در يكديكر بايستادن).
وكان عمر بن الخطاب رضي الله
444
عنه إذا أراد أن يفتتح بالناس الصلاة قال استووا تقدم يا فلان تأخر يا فلان إن الله عز وجل يرى لكم بالملائكة إسوة.
يقول : والصافات صفاً يعني : (خداى تعالى مى نمايد برشمارا به بملائكه اقتدا كويد) والصافات صفاً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ترد الملائكة صفوفاً صفوفاً لا يعرف كل ملك منهم من إلى جانبه لم يلتفت منذ خلقه الله تعالى.
وفي "القاموس" والصافات صفاً الملائكة المصطفون في الهواء يسبحون ولهم مراتب يقومون عليهاصفوفاً كما يصطف المصلون انتهى.
وقال بعضهم : الصافات أجنحتها في الهواء منتظرة لأمر الله تعالى فيما يتعلق بالتدبير وقيل غير ذلك وقوله تعالى في أواخر هذه السورة {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} يحتمل الكل.
قال بعض الكبار : الملائكة على ثلاثة أصناف مهيمون في جلال الله تعالى تجلى لهم في اسمه الجليل فهيمهم وأفناهم عنهم فلا يعرفون نفوسهم ولا من هاموا فيه وصنف مسخرون ورأسهم القلم الأعلى سلطان عالم التدوين والتسطير وصنف أصحاب التدبير للأجسام كلها من جميع الأجناس كلها وكلهم صافون في الخدمة ليس لهم شغل غير ما أمروا به وفيه لذتهم وراحتهم.
وفي الآية بيان شرف الملائكة حيث أقسم بهم وفضل الصفوف وقد صح أن الشيطان يقف في فرجة الصف فلا بد من التلاصق والإنضمام والاجتماع ظاهراً وباطناً.
{فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا} يقال زجرت البعير إذا حثثته ليمضي وزجرت فلاناً عن سوء فانزجر أي : نهيته فانتهى فزجر البعير كالحث له وزجر الإنسان كالنهي.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وفي "كشف الأسرار" الزجر الصرف عن الشيء بتخويف.
وفي "المفردات" : الزجر طرد بصوت ثم يستعمل في الطرد تارة وفي الصوت أخرى.(7/347)
وفي "تاج المصادر" : (الزجر : تهديد كردن وبانك برستور زدن تابرود) أي : الفاعلات للزجر والزاجرات لما نيط بها زجره من الأجرام العلوية والسفلية وغيرها على وجه يليق بالمزجور ومن جملة ذلك زجر العباد عن المعاصي وزجر الشيطان عن الوسوسة والإغواء وعن استراق السمع كما يأتي.
قال بعضهم : يعني الملائكة الذين يزجرون السحاب ويؤلفونه ويسوقونه إلى البلد الذي لا مطر به {فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا} مفعول التاليات وأما صفاً وزجراً فمصدران مؤكدان لما قبلهما بمعنى صفاً بديعاً وزجراً بليغاً أي : التاليات ذكراً عظيم الشأن من آيات الله وكتبه المنزلة على الأنبياء عليهم السلام وغيرهما من التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد.
أو المراد بالمذكورات نفوس العلماء العمال الصافات أنفسها في صفوف الجماعات وإقدامها في الصلاة الزاجرات بالمواعظ والنصائح التاليات آيات الله الدارسات شرائعه وأحكامه.
أو طوائف الغزاة الصافات أنفسهم في مواطن الحرب كأنهم بنيان مرصوص.
أو طوائف قوادهم الصافات لهم فيها الزاجرات الخيل للجهاد سوقاً والعدو في المعارك طرداً التاليات آيات الله وذكره وتسبيحه في تضاعيف ذلك لا يشغلهم عن الذكر مقابلة العدوّ وذلك لكمال شهودهم وحضورهم مع الله وفي الحديث : "ثلاثة أصوات يباهي الله بهن الملائكة : الأذان والتكبير في سبيل الله ورفع الصوت بالتلبية".
أو نفوس العابدين الصافات عند أداء الصلاة بالجماعة الزاجرات الشياطين بقراءة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم التاليات القرآن بعدها.
ويقال {فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا} أي : الصبيان يتلون في الكتاب فإن الله تعالى يحول العذاب عن الخلق ما دامت تصعد هذه الأربعة إلى السماء أولها أذان المؤذنين.
445
والثاني : تكبير المجاهدين.
والثالث : تلبية الملبين.
والرابع : صوت الصبيان في الكتاب (صاحب تأويلات فرموده كه سوكند ميخورد بنفوس سالكان طريق توحيدكه در مواقف مشاهده صف بركشيده دواعي شيطاني ونوازع شهوات نفساني را زجرى نمايند وبأنواع ذكر لساني يا قلبي يا سري يا روحي بحسب أحوال خود اشتغال ميفرمايند).
وفي "التأويلات النجمية" : {وَالصَّـافَّـاتِ صَفًّا} يشير إلى صفوف الأرواح وجاء أنهم لما خلقوا قبل الأجساد كانوا في أربعة صفوف.
كان الصف الأول أرواح الأنبياء والمرسلين.
وكان الصف الثاني أرواح الأولياء والأصفياء.
وكان الصف الثالث أرواح المؤمنين والمسلمين.
وكان الصف الرابع أرواح الكفار والمنافقين {فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا} هي الإلهامات الربانية الزاجرات للعوام عن المناهي والخواص عن رؤية الطاعات والأخص عن الالتفات إلى الكونين {فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا} هم الذاكرون الله تعالى كثيراً والذاكرات انتهى وهذه الصفات إن أجريت على الكل فعطفها بالفاء للدلالة على ترتيبها في الفضل إما بكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة أو على العكس وإن أجريت كل واحدة منهن على طوائف معينة فهو للدلالة على ترتب الموصوفات في مراتب الفضل بمعنى أن طوائف الصافات ذوات فضل والزاجرات أفضل والتاليات أبهر فضلاً أو على العكس.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وفي "تفسير الشيخ" وغيره وجاء بالفاء للدلالة على أن القسم بمجموع المذكورات {إِنَّ إِلَـاهَكُمْ} يا أهل مكة فإن الآية نزلت فيهم إذ كانوا يقولون بطريق التعجب أجعل الآلهة إلهاً واحداً أو يا بني آدم وبالفارسية : (وبدرستى كه خداى شمادرذات وحدانيت خود) {لَوَاحِدٌ} لا شريك له فلا تتخذوا آلهة من الأصنام والدنيا والهوى والشيطان.
والجملة جواب للقسم والفائدة فيه مع أن المؤمن مقر من غير حلف والكافر غير مقرّ ولو بالحلف تعظيم المقسم به وإظهار شرفه وتأكيد المقسم عليه على ما هو المألوف في كلامهم وقد أنزل القرآن على لغتهم وعلى أسلوبهم في محاوراتهم.
وقيل تقدير الكلام فيها وفي مثلها ورب الصافات ورب التين والزيتون.
وفي "المفردات" : الوحدة الانفراد والواحد في الحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتة ثم يطلق على كل موجود حتى أنه ما من عدد إلا ويصح وصفه به فيقال عشرة واحدة ومائة واحدة.
فالواحد لفظ مشترك يستعمل في خمسة أوجه :
الأول : ما كان واحداً في الجنس أو في النوع كقولنا الإنسان والفرس واحد في الجنس وزيد وعمرو واحد في النوع.
والثاني : ما كان واحداً بالاتصال إما من حيث الخلقة كقولك شخص واحد وإما من حيث الصناعة كقولك حرفة واحدة.
"والثالث" ما كان واحداً لعدم نظيره إما في الخلقة كقولك الشمس واحدة وإما في دعوى الفضيلة كقولك فلان واحد دهره وكقولك هو نسيح وحده.
"والرابع" : ما كان واحد الامتناع التجزي فيه إما لصغره كالهباء وإما لصلابته كالماس.
(7/348)
"والخامس" للمبتدأ إما لمبدأ العدد كقولك واحد اثنين وإما لمبدأ الخط كقولك النقطة الواحدة والوحدة في كلها عارضة فإذا وصف الله عز وجل بالواحد فمعناه هو الذي لا يصح عليه التجزي ولا التكثر ولصعوبة هذه الوحدة قال الله تعالى : {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} (الزمر : 45) انتهى.
قال الغزالي رحمه الله : الواحد هو الذي لا يتجزى
446
ولا يثنى.
أما الذي لا يتجزى فكالجوهر الواحد الذي لا ينقسم فيقال إنه واحد بمعنى أنه لا جزء له وكذا النقطة لا جزء لها والله تعالى واحد بمعنى أنه يستحيل تقدير الانقسام على ذاته.
وأما الذي لا يثنى فهو الذي لا نظير له كالشمس مثلاً فإنها وإن كانت قابلة للقسمة بالوهم متجزئة في ذاتها لأنها من قبيل الأجسام فهي لا نظير لها إلا أنه يمكن لها نظير فما في الوجود موجود ينفرد بخصوص وجود إلا ويتصور أن يشاركه فيه غيره إلا الله تعالى فإنه الواحد المطلق أزلاً أبداً فالعبد إنما يكون واحداً إذا لم يكن في أبناء جنسه نظير له في خصلة من خصال الخير وذلك بالإضافة إلى أبناء جنسه وبالإضافة إلى الوقت إذ يمكن أن يظهر في وقت آخر مثله وبالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع فلا وحدة على الإطلاق إلاتعالى انتهى.
ولا يوحده تعالى حق توحيده إلا هو إذ كل شيء وحده أي : أثبت وجوده وفعله بتوحيده فقد جحده بإثبات وجود نفسه وفعله وإليه الإشارة بقول الشيخ أبي عبد الله الأنصاري قدس سره تعالى :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
ما وحد الواحد من واحد
إذ كل من ينعته جاحد
فإذا أفنى الوجود المجازي صح التوحيد الحقيقي الذاتي وكل شيء من الأشياء عين مرآة توحيده كما قالوا :
ففي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وذلك لأن كل شيء واحد بهويته أو بانتهائه إلى الجزء الذي لا يتجزى أو بغير ذلك :
تادم وحدت زدى حافظ شوريده حال
خامه توحيد كش برورق اين وآن
قال الشيخ الزروقي في "شرح الأسماء" : من عرف أنه الواحد أفرد قلبه له فكان واحداً به وقد فسر قوله عليه السلام "إن الله وتر يحب الوتر" يعني : القلب المنفرد له.
وخاصة هذا الاسم الواحد إخراج الكون من القلب فمن قرأه ألف مرة خرج الخلائق من قلبه فكفى خوف الخلق وهو أصل كل بلاء في الدنيا والآخرة وسمع عليه السلام رجلاً يقول في دعائه : "اللهم إني أسألك باسمك الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فقال : "سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى".
وفي "الأربعين الإدريسية" يا واحد الباقي أول كل شيء وآخره.
قال السهرودي يذكره من توالت عليه الأفكار الرديئة فتذهب عنه وإن قرأه الخائف من السلطان بعد صلاة الظهر خمسمائة مرة فإنه يأمن ويفرج همه ويصادقه أعداؤه {رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} خبر ثانٍ لأن أي : مالك السموات والأرض وما بينهما من الموجودات ومربيها ومبلغها إلى كمالاتها {وَرَبُّ الْمَشَـارِقِ} أي : مشارق الشمس وهي ثلاثمائة وستون مشرقاً تشرق كل يوم من مشرق منها وبحسبها تختلف المغارب ولذلك اكتفى بذكرها يعني إذا كانت المشارق بهذا العدد تكون المغارب أيضاً بهذا العدد فتغرب في كل يوم من مغرب منها وأما قوله تعالى : {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} (الرحمن : 17) فهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما وقوله : {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أراد به الجهة فالمشرق جهة والمغرب جهة وإعادة الرب في المشارق لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم كما ذكر آنفاً.
تلخيصه هو رب جميع الموجودات وربوبيته لذاته لا لنفع يعود إليه بخلاف
447
تربية الخلق والربوبية بمعنى المالكية والخالقية ونحوهما عامة وبمعنى التربية خاصة بكل نوع بحسبه فهو مربي الأشباح بأنواع نعمه ومربي الأرواح بلطائف كرمه ومربي نفوس العابدين بأحكام الشريعة ومربي قلوب المشتاقين بآداب الطريقة ومربي أسرار المحبين بأنوار الحقيقة والرب عنوان الأدعية فلا بد للداعي من استحضاره لساناً وقلباً حتى يستجاب في دعائه اللهم ربنا إنك أنت الواحد وحدة حقيقية ذاتية لا انقسام لك فيها فاجعل توحيدنا توحيداً حقانياً ذاتياً سرياً لا مجازية فيه وإنك أنت الرب الكريم الرحيم فكما أنك ربنا وخالقنا فكذا مربينا ومولينا فاجعلنا في تقلبات أنواع نعمك شاغلين بك فارغين عن غيرك وأوصل إلينا من كل خيرك
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/349)
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا} أي : القربى منكم ومن الأرض وأما بالنسبة إلى العرش فهي البعدي.
والدنيا تأنيث الأدنى بمعنى الأقرب {بِزِينَةٍ} عجيبة بديعة {الْكَوَاكِبِ} بالجر بدل من زينة على أن المراد بها الاسم أي : يزان به لا المصدر فإن الكواكب بأنفسها وأوضاع بعضها عن بعض زينة وأي زينة.
وفيه إشارة إلى أن الزينة التي تدرك بالبصر يعرفها الخاصة والعامة وإلى الزينة التي يختص بمعرفتها الخاصة وذلك أحكامها وسيرها والكواكب معلقة في السماء كالقناديل أو مكوكبة عليها كالمسامير على الأبواب والصناديق وكون الكواكب زينة للسماء الدنيا لا يقتضي كونها مركوزة في السماء الدنيا ولا ينافي كون بعضها مركوزة فيما فوقها من السموات لأن السموات إذا كانت شفاعة وأجراماً صافية فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو في سماوات أخرى فهي لا بد وأن تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها فتكون سماء الدنيا مزينة بالكواكب.
"والحاصل" : أن المراد هو التزيين في رأي العين سواء كانت أصول الزينة في سماء الدنيا أو في غيرها وهذا مبني على ما ذهب إليه أهل الهيئة من أن الثوابت مركوزة في الفلك الثامن وما عدا القمر في السنة المتوسطة وإن لم يثبت ذلك فحقيقة العلم عند الله تعالى {وَحِفْظًا} منصوب بعطفه على زينة باعتبار المعنى كأنه قيل إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً برمي الشهب {مِّن كُلِّ شَيْطَـانٍ مَّارِدٍ} أي : خارج عن الطاعة متعر عن الخير من قولهم شجر أمرد إذا تعرى من الورق ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر.
وفي "التأويلات النجمية" بقوله : {إِنَّا زَيَّنَّا} إلخ يشير إلى الرأس فإنه بالنسبة إلى البدن كالسماء مزين {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} الحواس وأيضاً زين سماء الدنيا بالنجوم وزين قلوب أوليائه بنجوم المعارف والأحوال وكما حفظ السموات بأن جعل النجوم للشياطين رجوماً كذلك زين القلوب بأنوار التوحيد فإذا قرب منها الشياطين رجموهم بنور معارفهم كما قال : {وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَـانٍ مَّارِدٍ} يعني : من شياطين الإنس.
وحكي أن أبا سعيد الخراز قدس سره رأى إبليس في المنام فأراد أن يضربه بالعصا فقال : يا أبا سعيد أنا لا أخاف العصا وإنما أخاف من شعاع شمس المعرفة :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
بسوزد نور اك اهل عرفان دير نارى را†
{لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلا الاعْلَى} أصل يسمعون يتسمعون فأدغمت التاء في السين وشددت والتسمع وتعديته بإلى لتضمنه معنى الإصغاء.
والملأ جماعة يجتمعون على رأي فيملأون
448
العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء والملأ الأعلى الملائكة أو أشرافهم أو الكتبة وصفوا بالعلو لسكونهم في السموات العلى ، والجن والإنس هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض وهذا كلام مبتدأ مسوق لبيان حالهم بعد بيان حفظ السماء منهم مع التنبيه على كيفية الحفظ وما يعتريهم في أثناء ذلك من العذاب.
والمعنى : لا يتطلبون السماء والإصغاء إلى الملائكة الملكوتية يعني : (ملائكه كه مطلع اند بر بعضى از اسرار لوح بايكديكر ميكويند ايشانرا نمى شنوند بلكه طاقت شنودن وكوش فرانهادن ندارند) {وَيُقْذَفُونَ} القذف الرمي البعيد ولاعتبار البعد فيه قيل منزل قذف وقذيف وقذفته بحجر رميت إليه حجراً منه قذفه بالفجور أي : يرمون وبالفارسية : (وانداخته مى شوند) {مِن كُلِّ جَانِبٍ} من جميع جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها {دُحُورًا} علة للقذف أي : للدحور وهو الطرد يقال دحره دحراً ودحوراً إذا طرده وأبعده {وَلَهُمُ} في الآخرة غير ما في الدنيا من عذاب الرجم بالشهب {عَذَابٌ وَاصِبٌ} دائم غير منقطع من وصب الأمر وصوباً إذا دام.
(7/350)
قال في "المفردات" : الوصب السقم اللازم {إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} استثناء من واو يسمعون ومن بدل منه.
والخطف الاختلاس بسرعة والمراد اختلاس الكلام أي : كلام الملائكة مسارقة كما يعرب عنه تعريف الخطفة أي : لا يسمع جماعة الشياطين إلا الشيطان الذي خطف أي : اختلس الخطفة أي : المرة الواحدة يعني كلمة واحدة من كلام الملائكة وبالفارسية : (وانرا قوت استماع كلام ملائكه نيست مكر كسى كه درربايد يك ربودن يعنى بد زدد سخنى ازفرشته) {فَأَتْبَعَهُ} أي : طبعه ولحقه وبالفارسية : (س ازى در ريد اورا).
قال ابن الكمال : الفرق بين اتبعه وتبعه أنه يقال اتبعه اتباعاً إذا طلب الثاني اللحوق بالأول وتبعه تبعاً إذا مر به ومضى معه {شِهَابٌ} .
قال في "القاموس" : الشهاب ككتاب شعلة من نار ساطعة انتهى والمراد هنا ما يرى منقضاً من السماء {ثَاقِبٌ} .
قال في "المفردات" : الثاقب النير المضيىء يثقب بنوره وإضاءته ما يقع عليه انتهى أي : مضى في الغاية كأنه يثقب الجو بضوئه يرجم به الشياطين إذا صعدوا لاستراق السمع.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بينما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستنار فقال عليه السلام : "ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية" فقالوا : يموت عظيم أو يولد عظيم فقال : "إنه لا يرمى لموت أحد ولا لحياته ولكن الله إذا قضى أمراً يسبحه حملة العرش وأهل السماء السابعة يقولون" أي : أهل السماء السابعة "لحملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم فيستخبر أهل كل سماء أهل سماء حتى ينتهي الخبر إلى السماء الدنيا فيتخطف الجن فيرمون فما جاءوا به على وجهه هو حق ولكنهم يزيدون فيه ويكذبون فما ظهر صدقه فهو من قسم ما سمع من الملائكة وما ظهر كذبه فهو من قسم ما قالوه".
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قيل : كان ذلك في الجاهلية أيضاً لكن غلظ المنع وشدّد حين بعث النبي عليه السلام.
قيل : هيئة استراقهم أن الشياطين يركب بعضهم بعضاً إلى السماء الدنيا فيسمع من فوقهم الكلام فيلقيه إلى من تحته ثم هو يلقيه إلى الآخر حتى إلى الكاهن فيرمون بالكوكب فلا يخطىء أبداً فمنهم من يقتل ومنهم من يحرق بعض أعضائه وأجزائه ومنهم من يفسد عقله وربما
449
أدركه الشهاب قبل أن يلقيه وربما ألقاه قبل أن يدركه ولأجل أن يصيبهم مرة ويسلمون أخرى لا يرتدعون عن الاستراق بالكلية كراكب البحر للتجارة فإنه قد يصيبه الموج وقد لا يصيبه فلذا يعود إلى ركوب البحر رجاء السلامة.
ولا يقال إن الشيطان من النار فلا يحترق لأنه ليس من النار الصرف كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها ثم إن المراد بالشهاب شعلة نار تنفصل من النجم لا أنه النجم نفسه لأنه قار في الفلك على حاله.
"وقالت الفلاسفة" : إن الشهب إنما هي أجزاء نارية تحصل في الجو عند ارتفاع الأبخرة المتصاعدة واتصالها بالنار التي دون الفلك انتهى.
وقال بعض كبار أهل الحقيقة : لولا الأثير الذي هو بين السماء والأرض ما كان حيوان ولا نبات ولا معدن في الأرض لشدة البرد الذي في السماء الدنيا فهو يسخن العالم لتسري فيه الحياة بتقدير العزيز العليم وهذا الأثير الذي هو ركن النار متصل بالهواء والهواء حار رطب ولما في الهواء من الرطوبة إذا اتصل بهذا الأثير أثر فيه لتحركه اشتعالاً في بعض أجزاء الهواء الرطبة فبدت الكواكب ذوات الأذناب لأنها هواء محترق لا مشتعل وهي سريعة الاندفاع وإن أردت تحقيق هذا فانظر إلى شرر النار إذا ضرب الهواء النار بالمروحة يتطاير منها شرر مثل الخيوط في رأى العين ثم تنطفىء كذلك هذه الكواكب وقد جعلها الله رجوماً للشياطين الذين هم كفار الجن كما قال الله تعالى انتهى كلامه قدس سره.
قال بعضهم : لما كان كل نير يحصل في الجو مصابيح لأهل الأرض فيجوز أن تنقسم إلى ما تكون باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد وهي الكواكب المركوزة في الأفلاك وإلى ما لا تبقى بل تضمحل وهو الحادث بالبخار الصاعد على ما ذهب إليه الفلاسفة أو بتحريك الهواء الأثير وإشعاله على ما ذهب إليه بعض الكبار فلا يبعد أن يكون هذا الحادث رجماً للشيطان.
يقول الفقير أغناه الله القدير : قول بعض الكبار يفيد حدوث بعض الكواكب ذوات الأذناب من التحريك المذكور وهي الكواكب المنقضة سواء كانت ذوات أذناب أو لا وهذا لا ينافي ارتكاز الكواكب الغير الحادثة في أفلاكها أو تعليقها في السماء أو بأيدي الملائكة كالقناديل المعلقة في المساجد أو كونها ثقباً في السماء أو عروقاً نيرة من الشمس على ما ذهب إلى كل منها طائفة من أهل الظاهر والحقيقة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/351)
قال قتادة : جعل الله النجوم لثلاث زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به ، فعلى طالب الحق أن يرجم شيطانه بنور التوحيد والعرفان كيلا يحوم حول جنانه ويكون كالملأ الأعلى في الاشتغال بشأنه :
كاه كويى اعوذوكه لا حول
ليك فعلت بود مكذب قول
بحقيقت بسوز شيطانرا
ساز از نور حال درمانرا
{فَاسْتَفْتِهِمْ} خطاب للنبي عليه السلام والضمير لمشركي مكة (والاستفتاء : فتواى خواستن) والفتيا والفتوى الجواب عما يشكل من الأحكام يقال استفيته فأفتاني بكذا.
قال بعضهم : الفتوى من الفتى وهو الشاب القوي وسمي الفتوى فتوى لأن المفتي يقوي السائل في جواب الحادثة وجمعه فتاوي بالفتح والمراد بالاستفتاء هنا الاستخبار كما في قوله تعالى في قصة أهل
450
الكهف {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} (الكهف : 22) وليس المراد سؤال الاستفهام بل التوبيخ.
والمعنى فاستخبر يا محمد مشركي مكة توبيخاً واسألهم سؤال محاجة {أَهُمْ} (آيا ايشان) {أَشَدُّ خَلْقًا} أقوى خلقة وأمتن بنية أو أصعب على الخالق خلقاً أو أشق إيجاداً {أَم مَّنْ} أي : أم الذي {خَلَقْنَا} من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب والشياطين المردة ومن لتغليب العقلاء على غيرهم {إِنَّا خَلَقْنَـاهُم} أي : خلقنا أصلهم وهو آدم وهم من نسله {مِّن طِينٍ لازِب} لاصق يلصق ويعلق باليد لا رمل فيه.
قال في ا"المفردات" : اللازب الثابت الشديد الثبوت ويعبر بالازب عن الواجب فيقال ضربة لازب اهـ والباء بدل من الميم والأصل لازم مثل مكة وبكة كما في "كشف الأسرار".
والمراد إثبات المعاد ورد استحالتهم وتقريره أن استحالة المعاد إما لعدم قابلية المادة ومادتهم الأصلية هي الطين اللازب الحاصل من ضم الجزء المائي إلى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان الإنضمام بعد وإما لعدم قدرة الفاعل وهو باطل فإن من قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة قادر على ما يعتد به بالإضافة إليها وهو خلق الإنسان وإعادته سيما ومن الطين اللازب بدأهم وقدرته ذاتية لا تتغير فهي بالنسبة إلى جميع المخلوقات على السواء (س هركاه خورشيد قدرت ازافق ارادت طلوع نمايد ذرات مقدورات در هواى ابداع وفضاى اختراع بجلوه در آيند) قدس سره :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
كاينك زعدم سوى وجود آمده ايم†
قال الشيخ سعدي قدس سره :
بامرش وجود از عدم نقش بست
كه داند جزاو كردن ازنيست هست
دكرره بكتم عدم در برد
واز آنجا بصحراى محشر برد
وفي الآية إشارة إلى أنه تعالى أودع في الطينة الإنسانية خصوصية لزوب ولصوق يلصق بكل شيء صادفه فصادف قوما الدنيا فلصقوا بها وصادف قوماً الآخرة فلصقوا بها وصادف قوماً نفحات ألطاف الحق فلصقوا بها فأذابتهم وجذبتهم عن أنانيتهم بهويتها كما تذيب الشمس الثلج وتجذبه إليها فطوبى لعبد لم يتعلق بغير الله تعالى.
قال الحافظ :
غلام همت آنم كه زير رخ كبود
زهره رنك تعلق ذيرد آزادست
{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} .
قال سعدي المفتي إضراب عن الأمر بالاستفتاء أي : لا تستفتهم فإنهم معاندون ومكابرون لا ينفع فيهم الاستفتاء وانظر إلى تفاوت حالك وحالهم أنت تعجب من قدرة الله تعالى على خلق هذه الخلائق العظيمة ومن قدرته على الإعادة وإنكارهم للبعث وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث.
وقال قتادة : عجب نبي الله من هذا القرآن حين أنزل وضلال بني آدم وذلك أن النبي عليه السلام كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن فسخروا منه ولم يؤمنوا عجب من ذلك النبي عليه السلام فقال الله تعالى : {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} والسخرية الاستهزاء والعجب والتعجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء ولهذا قال بعض الحكماء العجب ما لا يعرف سببه ولهذا قيل :
451
لا يصح على الله التعجب إذ هو علام الغيوب لا يخفى عليه خافية.
والعجب في صفة الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار الشديد والذم كما في قراءة بل عجبت بضم التاء وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضى كما في حديث "عجب ربكم من شاب ليست له صبوة ونخوة".
وفي "فتح الرحمن" هي عبارة عما يظهره الله في جانب المتعجب منه من التعظيم والتحقير حتى يصير الناس متعجب منه انتهى.
وسئل الجنيد عن هذه الآية فقال : إن الله تعالى لا يعجب من شيء ولكن الله وافق رسوله فقال : {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} (الرعد : 5) أي : هو كما تقوله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/352)
وفي "المفردات" : بل عجبت ويسخرون أي : عجبت من إنكارهم البعث لشدة تحققك بمعرفته ويسخرون بجهلهم.
وقرأ بعضهم بل عجبت بضم التاء وليس ذلك إضافة التعجب إلى نفسه في الحقيقة بل معناه إنه مما يقال عنده عجبت أو تكون عجبت مستعارة لمعنى أنكرت نحو : {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (هود : 73) انتهى {وَإِذَا ذُكِّرُوا} أي : ودأبهم المستمر أنهم إذا وعظوا بشيء من المواعظ وبالفارسية : (وون ندداده شوندبه يزى) {لا يَذْكُرُونَ} ولا يتعظون وبالفارسية : (ياد نكنند آنرا وبدان ند ذير نشوند).
وفيه إشارة إلى أنهم نسوا الله غاية النسيان بحيث لا يذكرونه وإذا ذكروا يعني بالله تعالى لا يتذكرون {وَإِذَا رَأَوْا ءَايَةً} أي : معجزة تدل على صدق القائل بالبعث {يَسْتَسْخِرُونَ} (الاستسخار : افسوس داشتن) والسين والتاء للمبالغة والتأكيد أي : يبالغون في السخرية والاستهزاء أو للطلب على أصله أي : يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها يعني : (يكديكررا بسخريه مى خوانند) {وَقَالُوا إِنْ هَـاذَآ} (نيست اين كه ماديدم) إن نافية بمعنى ما وهذا إشارة إلى ما يرونه من الآية الباهرة {إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهر سحريته.
وفيه إشارة إلى أن أهل الإنكار إذا رأوا رجلاً يكون آية من آيات الله يسخرون منه ويعرضون عن الإيمان به ويقولون لما يأتي به إن هذا إلا سحر مبين لانسداد بصائرهم عن رؤية حقيقة الحال بغطاء الإنكار ونسبة أهل الهدى إلى الضلال.
ون نباشد شم ويرانور جان
كفت وكوى وجه باقى شد خيال
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
أي : أنبعث إذا {مِتْنَا} وبالفارسية : (آيا برانكيختكان باشيم ون ميريم ما) {وَكُنَّا تُرَابًا} (وباشيم خاك) {وَعِظَـامًا} (واستخوانهاى بى كوشت ووست) أي : كان بعض أجزائنا تراباً وبعضها عظاماً وتقديم التراب لأنه منقلب من الأجزاء البالية {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي : لانبعث فإن الهمزة للإنكار الذي يراد به النفي وتقديم الظرف لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إلى حالة منافية له غاية المنافاة {أَوَ ءَابَآؤُنَا الاوَّلُونَ} الهمزة للاستفهام والواو للعطف وآباؤنا رفع على الابتداء وخبره محذوف عند سيبويه أي : وآباؤنا الأولون أي : الأقدمون أيضاً مبعوثون ومرادهم زيادة الاستبعاد بناء على أنهم أقدم فبعثهم أبعد على زعمهم {قُلْ} تبكيتاً لهم {نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} نعم بفتحتين يقع في جواب الاستخبار المجرد من النفي ورد الكلام الذي بعد حرف الاستفهام والخطاب لهم ولآبائهم على التغليب.
والدخور أشد الصغار والذلة يقال ادخرته فدخر أي : أذللته فذل والجملة حال من فاعل ما دل عليه نعم أي : كلكم مبعوثون والحال أنكم صاغرون أذلاء على رغم منكم
452
{فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} لا تحتاج إلى نعم الأخرى وهي إما ضمير مبهم يفسره خبره أو ضمير البعثة المذكورة في ضمن نعم لأن المعنى نعم مبعوثون والجملة جواب شرط مضمر أو تعليل لنهي مقدر أي : إذا أمر الله بالبعث فإنما هي الخ ولا تستصعبوه فإنما هي الخ.
والزجرة الصيحة من زجر الراعي غنمه أو إبله إذا صاح عليها وهي النفخة الثانية {فَإِذَا هُمْ} إذا للمفاجأة والضمير للمشركين.
وفي بعض التفاسير للخلائق كلهم أي : فإذا هم قائمون من مراقدهم أحياء {يَنظُرُونَ} حيارى أو يبصرون كما كانوا أو ينتظرون ما يفعل بهم {وَقَالُوا} أي : المبعوثون وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق والتقرر يا وَيْلَنَا} الويل الهلاك أي : يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك.
وقال الكاشفي : (اى واى برما) {هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ} تعليل لدعائهم الويل بطريق الاستئناف أي : اليوم الذي نجازي فيه بأعمالنا وإنما علموا ذلك لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويحاسبون ويجزون بأعمالهم فلما شاهدوا البعث أيقنوا بما بعده أيضاً فتقول لهم الملائكة بطريق التوبيخ والتقريع
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/353)
{هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} أي : القضاء أو الفرق بين فريقي الهدى والضلال {الَّذِى كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} أي : كنتم على الاستمرار تكذبون به وتقولون إنه كذب ليس له أصل أبداً فيقول الله تعالى للملائكة {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} الحشر يجيىء بمعنى البعث وبمعنى الجمع والسوق وهو المراد ههنا دون الأول كما لا يخفى والمراد بالظالمين المشركون من بني آدم (جمع كنيدوبهم آريد آنانرا كه ستم كردند برخود بشرك) {وَأَزْوَاجَهُمْ} أي : أشباههم من أهل الشرك والكفر والنفاق والعصيان عابد الصنم مع عبدته وعابد الكواكب مع عبدتها واليهود مع اليهود والنصارى مع النصارى والمجوس مع المجوس وغيرهم من الملل المختلفة ويجوز أن يكون المراد بالأزواج نساءهم اللاتي على دينهم أو قرناءهم من الشياطين كل كافر مع شيطانه في سلسلة {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ} من الأصنام ونحوها زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} الضمير للظالمين وأزواجهم ومعبوديهم أي : فعرّفوهم طريق جهنم ووجهوهم إليها وفيه تهكم بهم.
ويقال : الظالم في الآية عام على من ظلم نفسه وغيره فيحشر كل ظالم مع من كان معيناً له أهل الخمر مع أهل الخمر وأهل الزنى مع أهل الزنى وأهل الربا مع أهل الربا وغيرهم كل مع مصاحبه (درقوت القلوب آورده كه يكى از عبد الله بن مبارك قدس سره رسيدكه من خياطم واحيانا براى ظلمه امه مى دوزم ناكاه ازعوان ايشان نباشيم ابن مبارك فرمودنى توكه ازاعوان نيستى بلكه از ظالمانى اعوان ظلمه آنها اندكه سوزن ورشته بتو ميفروشند).
وفي الفروع ويكره للخفاف والخياط أن يستأجر على عمل من زي الفساق ويأخذ في ذلك أجراً كثيراً لأنه إعانة على المعصية (نقليست كه يكبار امام اعظم رضي الله عنه را محبوس كردنديكى از ظلمه بيامدكه مر اقلمى تراش كن كفت ترسم كه ازان قوم باشم كه حق تعالى ميفرمايد) {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} أي : أتباعهم وأعوانهم وأقرانهم المقتدين بهم في أفعالهم وفي الحديث "امرؤ القيس قائد لواء الشعراء إلى النار" كما في "تذكرة القرطبي" :
يار ظالم مباش تانشوى
روز حشر ازشماره ايشان
453
ـ روي ـ ان ابن المبارك رؤي في المنام فقيل له : ما فعل بك ربك؟ فقال : عاتبني وأوقفني ثلاث سنين بسبب أني نظرت باللطف يوماً إلى مبتدع فقال : إنك لم تعاد عدوى فكيف حال القاعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وفي "الروضة" : يجيب دعوة الفاسق والورع أن لا يجيب ويكره للرجل المعروف الذي يقتدى به أن يتردد إلى رجل من أهل الباطل وأن يعظم أمره بين الناس فإنه يكون مبتدعاً أيضاً ويكون سبباً لترويج أمره الباطل واتباع الناس له في اعتقاده الفاسد وفعله الكاسد.
والحاصل أن أرباب النفوس الأمارة كانوا يدلون في الدنيا على صراط الجحيم من حيث الأسباب من الأقوال والأفعال والأخلاق فلذا يحشرون على ما ماتوا وكذلك من أعان صاحب فترة في فترته أو صاحب زلة في زلته كان مشاركاً في عقوبته واستحقاق طرده وإهانته كما اشتركت النفوس والأجساد في الثواب والعقاب نسأل الله العمل بخطابه والتوجه إلى جنابه والسلوك بتوفيقه والاهتداء إلى طريقه إنه المعين {وَقِفُوهُمْ} قفوا أمر من وقفه وقفاً بمعنى حبسه لا من وقف وقوفاً بمعنى دام قائماً فالأول متعد والثاني لازم.
والمعنى : احبسوا المشركين أيها الملائكة عند الصراط كما قال بطريق التعليل {إِنَّهُم مَّسْـاُولُونَ} عما ينطق به وقوله تعالى : {مَالَكُمْ} (يست بشماكه) {لا تَنَاصَرُونَ} حال من معنى الفعل في مالكم أي : ما تصنعون حال كونكم غير متناصرين وحقيقته ما سبب عدم تناصركم وأن لا ينصر بعضكم بعضاً بالتخليص من العذاب كما كنتم تزعمون في الدنيا كما قال أبو جهل يوم بدر نحن جميع منتصر يعني : (ما همه هم شتيم يكد يكررا تاكين كشيم از محمد) وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت لأنه وقت تنجز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة وحالة انقطاع الرجاء منها بالكلية فالتوبيخ والتقريع حينئذٍ أشد وقعاً وتأثيراً وفي الحديث : "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربعة عن شبابه فيم أبلاه وعن عمره فيم أفناه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن عمله ماذا عمل به".
(7/354)
قال بعض الكبار مقام السؤال صعب قوم يسألهم الملك وقوم يسألهم الملك فالذين تسألهم الملائكة أقوام لهم أعمال صالحة تصلح للعرض والكشف وأقوام لهم أعمال لا تصلح للكشف وهم قسمان : الخواص يسترهم الحق عن اطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة وأقوام هم أهل الزلات يخصهم الله تعالى برحمته فلا يفضحهم وأما الأغيار والأجانب فيقال لهم كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً فإذا قرأوا كتابهم يقال لهم فما جزاء من عمل هذا فيقولون جزاؤه النار فيقال لهم ادخلوا بحكمكم كما أن جبرائيل جاء في صورة البشر إلى فرعون وقال ما جزاء عبد عصى سيده وادعى العلو عليه وقد رباه بأنواع نعمه قال جزاؤه الغرق قال : اكتب لي فكتب له صورة فتوى فلما كان يوم الغرق أظهر الفتوى وقال : كن غريقاً بحكمك على نفسك.
ويجوز أن يقال لهم في بعض أحوال استيلاء الفزع عليهم مالكم لا تناصرون فيكون منقطعاً عما قبله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال في "بحر العلوم" : والآية نص قاطع ينطق بحقية الصراط وهو جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعر واحد من السيف يعبره أهل الجنة وتزل به أقدام أهل النار وأنكره بعض المعتزلة لأنه لا يمكن العبور عليه وإن أمكن فهو تعذيب للمؤمنين وأجيب بأن الله قادر
454
أن يمكن من العبور عليه ويسهله على المؤمنين حتى أن منهم من يجوزه كالبرق الخاصف ومنهم كالريح الهابّة ومنهم كالجواد إلى غير ذلك ، وفي "سلسلة الذهب" للمولى الجامي :
هركه باشد زمؤمن وكافر
بر سرل كنند شان حاضر
هركه كافر بود و بنهد اى
قعر دوز خ بود مر او راجاى
مؤمنانرا زحق رسد تأييد
ليك بر قدر قوت توحيد
هر كرا بر طريقت نبوى
ره نبود ست غير راست روى
دوزخ از نور او كند رهيز
بكذرد همو برق خاطف تيز
ياو مرغ ران وباد وزان
ياو يزى دكر سبكترازان
وانكه ضعفى بود در ايمانش
نبود زان كذشتن آسانش
بلكه درربخ آن كذركه تنك
باشد اورا بقدر ضعف درنك
ليك يابد خلاص آخر كار
كره بيند مشقت بسيار
وفي الحديث : "إذا اجتمع العالم والعابد على الصراط قيل للعابد ادخل الجنة وتنعم بعبادتك وقيل للعالم قف ههنا فاشفع لمن أحببت فإنك لا تشفع لأحد إلا شفعت فقام مقام الأنبياء" وقد جاء في الفروع رجلان تعلما علماً كعلم الصلاة أو نحوها أحدهما يتعلم ليعلم الناس والآخر يتعلم ليعمل به فالأول أفضل لأن منفعة تعليم الخلق أكثر لكونه خيراً متعدياً فكان هو أفضل من الخير اللازم لصاحبه وقد جاء في الآثار "إن مذاكرة العلم ساعة خير من إحياء الليلة" خصوصاً إذا كان مما يتعلق بالعلم بالله وقد قل أهله في هذا الزمان وانقطعت مذاكرته عن اللسان لانقطاع ذوق الجنان وانسداد البصيرة والعياذ بالله من الخذلان والحرمان {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} (استسلام : كردن نهادن) يقال استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع وأصله طلب السلامة.
والمعنى : منقادون ذليلون خاضعون بالاضطرار لظهور عجزهم وانسداد باب الحيل عليهم أسلم بعضهم بعضاً وخذله عن عجز فكل مستسلم غير منتصر كقوم متحابين انكسرت سفينتهم فوقعوا في البحر فأسلم كل واحد منهم صاحبه إلى الهلكة لعجزه عن تنجية نفسه فضلاً عن غيره بخلاف حال المتحابين في الله.
قال الحافظ :
يار مردان خدا باش كه دركشتى نوح
هست خاكى كه بآبى نخرد طوفانرا
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{وَأَقْبَلَ} حينئذٍ (والاقبال : يش آمدن وروى فراكسى كردن).
يقال : أقبل عليه بوجهه وهو ضد الإدبار {بَعْضُهُمْ} هم الاتباع أو الكفرة {عَلَى بَعْضٍ} هم الرؤساء أو القرناء حال كونهم {يَتَسَآءَلُونَ} يسأل بعضهم بعضاً سؤال توبيخ بطريق الخصومة والجدال ولذا فسر بيتخاصمون كأنه قيل كيف يتساءلون فقيل : {قَالُوا} أي : الاتباع للرؤساء أو الكفرة للقرناء {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا} في الدنيا {عَنِ الْيَمِينِ} عن القوة والإجبار فنتجبروننا على الغي والضلال فاتبعناكم خوفاً منكم بسبب القهر والقوة وبها يقع أكثر الأعمال.
أو عن الناحية التي كان منها الحق فتصرفوننا عنها كما في ا"المفردات".
وعن الجهة التي كنا نأمنكم منها لحلفكم أنكم على الحق فتصدقناكم فأنتم أضللتمونا كما في "فتح الرحمن"
فاليمين
455
إذا بمعنى الحلف والأول أوفق للجواب الآتي كما في "الإرشاد".
ويقال : من أتاه الشيطان من جهة اليمين أتاه من قبل الدين لتلبيس الحق عليه.
ومن أتاه من جهة الشمال أتاه من قبل الشهوات.
ومن أتاه من بين يديه أتاه من قبل تكذيب القيامة.
ومن أتاه من خلفه أتاه من قبل تخويفه بالفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده فلم يصل رحماً ولم يؤد زكاة.
وفي الآية إشارتان :
"الأولى" : أن دأب أهل الدنيا أنهم يلقون ذنب بعضهم على بعض ويدفعون عن أنفسهم ويبرئون اعراض الإخوان من تهمة الذنوب ويتهمون أنفسهم بها كما كان عيسى عليه السلام إذا رأى قد سرق شيئاً يقول له أسرقت؟ فيقول : لا والذي لا إله إلا هو فيقول عيسى : صدقت وكذبت عيناي.
"
(7/355)
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
والثانية" : أن من كان مؤمناً حقيقياً لا يقدر أحد على إضلاله ومن كان مؤمناً تقليدياً يضل بإضلال أهل الهوى والبدع ويزول إيمانه بأدنى شبهة كما أشار بنفي الإيمان في الجواب الآتي {قَالُوا} استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال الرؤساء أو القرناء فقيل : قالوا : {بَلْ لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي : لم نمنعكم من الإيمان بالقوة والقهر أو بنحو ذلك بل لم تؤمنوا باختياركم وأعرضتم عنه مع تمكنكم منه وآثرتم الكفر عليه {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـان} من قهر وتسلط نسلب به اختياركم.
والسلاطة التمكن من القهر سلطه فتسلط ومنه سمي السلطان بمعنى الغالب والقاهر والسلطان يقال في السلاطة أيضاً ومنه ما في الآية ونظائرها {بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَـاغِينَ} مختارين للطغيان مصرين عليه والطغيان مجاوزة الحد في العصيان {فَحَقَّ عَلَيْنَا} أي : لزم وثبت علينا {قَوْلُ رَبِّنَآ} وهو قوله : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} {إِنَّا لَذَآاـاِقُونَ} أي : العذاب الذي ورد به الوعيد وبالفارسية : (بدرستى كه شند كانيم عذاب را دران روز) {فَأَغْوَيْنَـاكُمْ} فدعوناكم إلى الغي والضلال دعوة غير ملجئة فاستجبتم لنا باختياركم الغي على الرشد وبالفارسية : (س ما شمارا دعوت كرديم بكمراهى وكراهى بجهت آنكه) {إِنَّا كُنَّا غَـاوِينَ} ثابتين على الغواية فلا عتب علينا في تعرضنا لإغوائكم بتلك المرتبة من الدعوة لتكونوا أمثالنا في الغواية وبالفارسية : (ما بوديم كمراهان خواستيم كه شما نيز مثل ما باشيد در مثل است كه خر من سوخته خر من سوخته طلبد :
من مستم وخواهم كه توهم مست شوى
تا همو من سوخته همدست شوى
حق سبحانه وتعالى فرمودكه) {فَإِنَّهُمْ} أي : الأتباع والمتبوعين {يَوْمَـاـاِذٍ} (آنروز) {فِى الْعَذَابِ} متعلق بقوله : {مُشْتَرِكُونَ} حسبما كانوا مشتركين في الغواية {إِنَّا كَذَالِكَ} أي : مثل ذلك الفعل البديع الذي تقتضيه الحكمة التشريعية وهو الجمع بين الضالين والمضلين في العذاب {نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} المتناهين في الإجرام وهم المشركون كما يعرب عنه التعليل بقوله تعالى : {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ} بطريق الدعوة والتلقين بأن يقال قولوا : {لا إله إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} يتعظمون عن القول ، وقع ذكر لا إله إلا الله في القرآن في موضعين : أحدهما في هذه السورة.
والثاني في سورة القتال في قوله : {فَاعْلَمْ أَنَّه لا إله إِلا اللَّهُ} وليس في القرآن لهما ثالث.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وفي "التلويح" : لا يخفى أن الاستثناء ههنا بدل من اسم لا على المحل والخبر محذوف أي : لا إله موجود في الوجود إلا الله انتهى.
قال الهندي : ويجوز في المستثنى النصب على الاستثناء
456
ولا يضعف إلا في نحو لا إله إلا الله من حيث أنه يوهم وجهاً ممتنعاً وهو الإبدال من اللفظ انتهى.
قال العصام لأن إيهام البدل ههنا من اللفظ إيهام الكفر وبينه وبين قصد المخبر بالتوحيد تناف {وَيَقُولُونَ أَاـاِنَّا} (آياما) {لَتَارِكُوا ءَالِهَتِنَا} (ترك كنند كانيم عبادات خداى خودرا) {لِشَاعِرٍ مَّجْنُون} أي : لأجل قول شاعر مغلوب على عقله يعنون محمداً صلى الله عليه وسلّم وهمزة الاستفهام للإنكار أي : ما نحن بتاركي عبادة آلهتنا وهي الأصنام وبالفارسية : (ما بسخن أو ترك عبادت اصنام نكنيم) ولقد كذبوا في ذلك حيث جننوه وشعروه وقد علموا أنه أرجح الناس عقلاً وأحسنهم رأياً وأشدهم قولاً وأعلاهم كعباً في المآثر والفضائل كلها وأطولهم باعاً في العلوم والمعارف بأسرها ويشهد بذلك خطبة أبي طالب في تزويج خديجة الكبرى في محضر بني هاشم ورؤساء مضر على ما سبق في سورة آل عمران عند قوله تعالى : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ} (آل عمران : 164) الآية {بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ} أي : ليس الأمر على ما قالوه من الشعر والجنون بل جاء محمد بالحق وهو التوحيد {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} جميعاً في مجيئهم بذلك فما جاء به هو الذي أجمع عليه كافة الرسل فأين الشعر والجنون من ساحته الرفيعة :
هركرا در عقل كل باشد كمال
نيست او مجنون اى شوريده حال
(7/356)
{إِنَّكُمْ} بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول والاستكبار {لَذَآاـاِقُوا الْعَذَابِ الالِيمِ} والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الغضب عليهم {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي : الإجزاء ما كنتم تعملونه من السيآت أو إلا ما كنتم تعملونه منها.
قال ابن الشيخ ولما كان المقام مظنة أن يقال كيف يليق بالكريم الرحيم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده أجاب عنه بقوله : {وَمَا تُجْزَوْنَ} إلخ وتقريره أن الحكمة تقتضي الأمر بالخير والطاعة والنهي عن القبيح والمعصية ولا يكمل المقصود من الأمر والنهي إلا في الترغيب في الثواب والترهيب بالعقاب ولما وقع الاخبار بذلك وجب تحقيقه صوناً للكلام عن الكذب فلهذا السبب وقعوا في العذاب انتهى.
فعلى العاقل أن يحذر من يوم القيامة وجزائه فينتقل من الإنكار إلى الإقرار ومن الشك إلى اليقين ومن الكبر إلى التواضع ومن الباطل إلى الحق ومن الفاني إلى الباقي ومن الشرك إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص.
وسئل علي رضي الله عنه ما علامة المؤمن قال أربع : أن يطهر قلبه من الكبر والعداوة.
وأن يطهر لسانه من الكذب والغيبة.
وأن يطهر قلبه من الرياء والسمعة.
وأن يطهر جوفه من الحرام والشبهة وأعظم الكبر أن يتكبر عن قول لا إله إلا الله الذي هو أساس الإيمان وخير الاذكار وكلمة الإخلاص وبه يترقى العبد إلى جميع المراتب الرفيعة لكن بشرائطه وأركانه (حسن بصري را رسيدند كه ه كويى درين خبر كه) "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" قال لمن عرف حدها وأدى حقها :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
هركرا از خدا بود تأييد
نشود كار او بجز توحيد
ذكر توحيد مايه حالست
ون ازان بكذرى همه قالست
{إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء منقطع من ضمير ذائقون وما بينهما اعتراض جيىء به مسارعة
457
إلى تحقيق الحق ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلاً ولكون الاستثناء منقطعاً وإلا بمعنى لكن.
قال في "كشف الأسرار" : تم الكلام ههنا أي : عند قوله تعالى : {إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} والمعنى إنكم لذائقوا العذاب الأليم لكن عباد الله المخلصين لا يذوقونه.
والمخلصون بالفتح من أخلصه الله لدينه وطاعته واختاره لجناب حضرته كقوله تعالى : {وَسَلَـامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىا} (النمل : 59) أي : اصطفاهم الله تعالى فلهم سلامة من الأزل إلى الأبد.
والمخلص بالكسر من أخلص عبادتهتعالى ولم يشرك بعبادته أحداً كقوله تعالى : {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ} (النساء : 46).
وحقيقة الفرق بينهم على ما قال بعض العارفين أن الصادق والمخلص بالكسر من باب واحد وهو من تخلص من شوائب الصفات النفسانية مطلقاً والصديق والمخلص بالفتح من باب واحد وهو من تخلص من شوائب الغيرية أيضاً والثاني أوسع فلكاً وأكثر إحاطة فكل صديق ومخلص بالفتح صادق ومخلص بالكسر من غير عكس فرحم الله حفصا حيث قرأ بالفتح حيثما وقع في القرآن {أولئك} الخ استئناف فكأن سائلاً سأل ما لهؤلاء املخلصين من الأجر والثواب فقيل : أولئك الممتازون عما عداهم بالإضافة والإخلاص {لَهُمُ} بمقابلة إخلاصهم في العبودية {رِزْقٌ} لا يدانيه رزق ولا يحيط به وصف على ما يفيده التنكير والرزق اسم لما يسوقه الله إلى الحيوان فيأكله {مَّعْلُومٌ} الخصائص من حسن المنظر ولذة الطعم وطيب الرائحة ونحوها من نعوت الكمال والظاهر أن معناه معلوم وجوداً وقدراً وحسناً ولذة وطيباً ووقتاً بكرة وعشياً أو دواماً كل وقت اشتهوه فإن فيه فراغ الخاطر وإنما يضطرب أهل الدنيا في حق الرزق لكون أرزاقهم غير معلومة لهم كما في الجنة :
تشنكانرا نمايد اندر خواب
همه عالم بشم شمه آب
هركرا شمه شد جدا لب او
كى بماند بآنكه در لب جو
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{فَوَاكِهُ} بدل من رزق جمع فاكهة وهي كل ما يتفكه به أي : يتنعم بأكله من الثمار كلها رطبها ويابسها وتخصيصها بالذكر لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه أي : ما يأكل بمجرد التلذذ دون الاقتيات وبالفارسية : (قوت كرفتن) لأنهم مستغنون عن القوت لكون خلقتهم على حالة تقتضي البقاء فهي محكمة محفوظة من التحلل المحوج إلى البدل بخلاف خلقة أهل الدنيا فإنها على حالة تقتضي الفناء فهي ضعيفة محتاجة إلى ما يحصل به القوام اللهم إلا خلقة بعض الأفراد المصونة من التحلل والتفسخ دنيا وبرزخاً.
(7/357)
وقال بعضهم : لأن الفواكه من اتباع سائر الأطعمة فذكرها مغن عن ذكرها.
يقول الفقير : والظاهر أن الاقتصار على الفواكه للترغيب والتشويق من حيث أنه لا يوجد في أغلب ديار العرب خصوصاً في الحجاز أنواع الفواكه {وَهُم مُّكْرَمُونَ} عنده لا يلحقهم هوان وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأولى الهمم.
وقال بعضهم لما فصل خصائص رزقهم بين أن ذلك الرزق يصل إليهم بالتعظيم والإكرام لأن مجرد المطعوم من غير إعزاز وإكرام يليق بالبهائم.
ولما ذكر مأكولهم وصف مساكنهم فقال : {فِى جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} النعيم النعمة أي : في جنات ليس فيها إلا النعيم بالإضافة للاختصاص والظرف يقرر محل الرزق والإكرام أو خبر آخر
458
لقول هم مثل قوله : {عَلَى سُرُرٍ} (برتختهاى آراسته) جمع سرير وهو الذي يجلس عليه من السرور إذ كان كذلك لأولي النعمة وسرير الميت يشبه به في الصورة وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق بالميت برجوعه إلى الله وخلاصه من السجن المشار إليه بقوله عليه السلام : "الدنيا سجن المؤمن" ويجوز أن يتعلق على سرر بقوله : {مُّتَقَـابِلِينَ} أي : حال كونهم متقابلين على سرر وهو حال من الضمير في قوله على سرر والمعنى بالفارسية : (روى در روى يكديكر تابديدار هم شاد وخرم باشند) والتقابل وهو أن ينظر بعضهم وجه بعض أتم للسرور والإنس.
وقيل : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرة بهم ثم إن استئناس بعضهم برؤية بعض صفة الأبرار فإن من صفة الأحرار لا يستأنسوا إلا بمولاهم.
وسئل يحيى بن معاذ رضي الله عنه هل يقبل الحبيب بوجهه على الحبيب؟ فقال : وهل يصرف الحبيب وجهه عن الحبيب وذلك لكون أحدهما مرآة للآخر فالله تعالى يتجلى للمقربين كل لحظة فيدوم عليهم انسهم الباطن حال كون ظواهرهم مستغرقة في نعيم الجنان ، قال الكمال الخجندي :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
دولت آن نيست كه يابم دو جهان زير نكين
دولت اينست وسعادت كه ترا يافته ام
ولما ذكر مأكل المخلصين ومسكنهم ذكر بعده صفة شربهم فقال : {يُطَافُ عَلَيْهِم} استئناف مبني على ما نشأ عن حكاية تكامل مجالس أنسهم.
والطواف الدوران حول الشيء وكذا الإطافة كما قال في "التهذيب" : (الإطافة : كرد يزى بركشتن) والمعنى بالفارسية : (كردانيده ميشود برايشان يعني ساقيان بهشت وخادمان برسر ايشان مى كردانند) {بِكَأْسٍ} (جامى تر) اى باناء فيه خمر فإن الكأس يطلق على الزجاجة ما دام فيها خمر وإلا فهو قدح وإناء {مِّن مَّعِين} صفة كأس أي : كائنة من شراب معين أي : ظاهر للعين أو من نهر معين أي : جار على وجه أرض الجنة فإن في الجنة أنهاراً جارية من خمر كأنهار جارية من ماء.
قال في ا"المفردات" : هو من قولهم معن الماء جرى فهو معين وقيل ماء معين هو من العين والميم زائدة فيه انتهى.
وفي الآية إشارة إلى أن قوماً شربوا ومشربهم الشراب بالكأس والشراب معين محسوس وقوماً شربوا ومشربهم الحب والحب مغيب مستور وقوماً شربوا ومشربهم المحبوب هو سر مكنون.
نسيم الحب يحييكم
رحيق الحب يلهيكم
من المحبوب تأتيكم
إلى المحبوب ينهيكم
{بَيْضَآءَ} لوناً أشد من لون اللبن والخمر البيضاء لم تر في الدنيا ولن ترى وهذا من جملة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
وبيضاء تأنيث أبيض صفة أيضاً لكأس وكذا قوله : {لَذَّةٍ لِّلشَّـارِبِينَ} لكل من يشرب منها.
ووصفها بلذة ما للمبالغة أي : كأس لذيذة عذبة شهية طيبة صارت في لذتها كأنها نفس اللذة أو لأنها تأنيث اللذ بمعنى اللذيذ وصفها باللذة بياناً لمخالفتها لخمور الدنيا لانقطاع اللذة عن خمور الدنيا كلها رأساً بالكلية {لا فِيهَا غَوْلٌ} بخلاف خمور الدنيا فإن فيها غولاً كالصداع ووجع البطن وذهاب العقل والإثم فهو من قصر المسند إليه على المسند.
يعني إن عدم الغول مقصور على الاتصاف بفي إذ خمور الجنة لا تتجاوز الاتصاف بفي كخمور الدنيا وبالفارسية : (نيست دران شراب آفتى وعلتى كه بر
459
خمر دنيا مرتب است ون فساد حال وذهاب عقل وصداع سر وخواب وجزآن) وهي صفة لكأس أيضاً وبطل عمل لا وتكررت لتقدم خبرها.
والغول اسم بمعنى الغائلة يطلق على كل أذية ومضرة.
قال في ا"المفردات" : قال تعالى في صفة خمر الجنة {لا فِيهَا غَوْلٌ} نفياً لكل ما نبه عليه بقوله : {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} وبقوله : {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ} انتهى يقال غاله الشيء إذا أخذه من حيث لم يدر وأهلكه من حيث لا يحس به ومنه سمي السعلاة غولاً بالضم والسعلاة سحرة الجن كما سبق في سورة الحجر.
قال في "بحر العلوم" : ومنه الغول الذي يراه بعض الناس في البوادي ولا يكذبه ولا ينكره إلا المعتزلة من جميع أصناف الناس حتى جعلوه من كذبات العرب مع أنه يشهد بصحته قوله عليه السلام : "إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان" انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/358)
قال ابن الملك عند قوله عليه السلام : "لا عدوى ولا طيرة ولا غول" هو واحد الغيلان وهي نوع من الجن كانت العرب يعتقدون أنه في الفلاة يتصرف في نفسه ويتراءى للناس بألوان مختلفة وأشكال شتى ويضلهم عن الطريق ويهلكهم.
فإن قيل ما معنى النفي وقد قال عليه السلام : "إذا تغولت الغيلان" أي : تلونت لوناً بصور شتى "فعليكم بالأذان".
أجيب بأنه كان ذلك في الابتداء ثم دفعه الله عن عباده.
أو يقال المنفي ليس وجود الغول بل ما يزعمه العرب من تصرفه في نفسه انتهى أي : من تلونه بالصور المختلفة واغتياله أي : إضلاله وإهلاكه والغول يطلق على ما يهلك كما في ا"المفردات" ، وفي "المثنوي" :
ذكر حق كن بانك غولانرا بسوز†
أخذ ذكر الحق من الأذان في الحديث وأراد بالغيلان ما يضل السالك أياً كان {وَلا هُمْ} أي : المخلصون {عَنْهَا} أي : عن خمر الجنة {يُنزَفُونَ} يسكرون من نزف الشارب فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله من السكر وبالكسر من أنزف الرجل إذا سكر وذهب عقله أو نفد شرابه.
وفي "المفردات" : نزف الماء نزحه كله من البئر شيئاً بعد شيء ونزف دمه ودمعه أي : نزح كله ومنه قيل سكران نزف أي : نزف فمه بسكره.
وقرىء ينزفون أي : بالكسر من قولهم أنزف القوم إذا نزف ماء بئرهم انتهى.
ثم إنه أفرد هذا بالنفي مع اندراجه فيما قبله من نفي الغول عنها لما أنه من معظم مفاسد الخمر كأنه جنس برأسه.
والمعنى لا فيها نوع من أنواع الفساد من مغص أي : وجه في البطن أو صداع أو حمى أو عربدة أي : سوء خلق والمعربد مؤذ نديمه في سكره "قاموس" أي : لا لغو ولا تأثيم ولا هم يسكرون.
وفي "بحر العلوم" وبالجملة ففي خمر الدنيا أنواع من الفساد من السكر وذهاب العقل ووقوع العداوة والبغضاء والصداع والخسارة في الدين والدنيا حتى جعل شاربها كعابد الوثن ومن القيىء والبول وكثيراً ما تكون سبباً للقتال والضراب والزنى وقتل النفس بغير حق كما شوهد من أهلها ولا شيء من ذلك كله في خمر الجنة.
قال بعض العرفاء جميع البلاء والارتكابات ليس إلا لكثافتنا فلولا هذه الكثافة لما عرض لنا الأمراض والأوجاع ولم يصدر منا ما يقبح في العقول والأوضاع ألا يرى أنه لا مرض في عالم الآخرة ولا شيء مما يتعلق بالكثافة ولكن معرفة الله تعالى لا تحصل لو لم تكن تلك الكثافة فهي مدار الترقي والتنزل ولذلك لا يكون للملائكة ترق وتدل فهم على خلقتهم وجبلتهم الأصلية {وَعِندَهُمْ}
460
أي : عند المخلصين {قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} القصر الحبس والمنع وطرف العين جفنه والطرف تحريك الجفن وعبر به عن النظر لأن تحريك الجفن يلازمه النظر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
والمعنى حور قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفاً إلى غيرهم ولا يبغين بهم بدلاً لحسنهم عندهن ولعفتهن كما في بعض التفاسير {عِينٌ} صفة بعد صفة لموصوف ترك ذكره للعلم به.
جمع عيناء بمعنى واسعة العين وأصله فعل بالضم كسرت الفاء لتسلم الياء والمعنى حسان الأعين وعظامها.
قال في "المفردات" : يقال للبقر الوحشي عيناء وأعين لحسن عينه وبها شبه الإنسان {كَأَنَّهُنَّ} أي : القاصرات {بَيْضٌ} بفتح الباء جمع بيضة وهو المعروف سمي البيض لبياضه والمراد به هنا بيض النعام يعني : (خايه شتر مرغ) {مَّكْنُونٌ} ذكر المكنون مع أنه وصف به الجمع فينبغي أن يؤنث اعتباراً للفظ الموصوف ومكنون أي : مستور من كننته أي : جعلته في كن وهو السترة شبهن بيض النعام المصون من الغبار ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة فإن ذلك أحسن ألوان الأبدان أي : لم تنله الأيدي فإن ما مسته الأيدي يكون متدنساً.
وقال الطبري أولى الأقاويل أن يقال : إن البيض هو الجلدة التي في داخل القشرة قبل أن يمسها شيء لأنه مكنون يعني هو البيض أول ما ينحى عنه قشره.
يقول الفقير أغناه الله القدير : ذكر الله تعالى في هذه الآيات ما كان لذة الجسم ولذة الروح.
أما لذة الجسم فالتنعم بالفواكه وأنواع النعم والخمر التي لم يكن عند العرب أحب منها والتمتع بالأزواج الحسان.
وأما لذة الروح فالسرور الحاصل من الإكرام والإنس الحاصل من صحبة الإخوان والانبساط الحاصل من النظر إلى وجوه الحسان وفي الحديث : "ثلاث يجلين البصر النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري وإلى الوجه الحسن" قال ابن عباس رضي الله عنهما والاثمد عند النوم نسأل الله لقاءه وشهوده ونطلب منه فضله وجوده :
دارم اندك روشنايى در بصر
بى جمال او ولى فيه النظر
(7/359)
قال بعض العرفاء : البيضة حلال لطيف ولكن أهل التصوف لا يأكلها لأنها ناقصة وإنما كمالها إذا كانت دجاجة وكذا لا يحصل منها الشبع التام وكذا من مرق العمارة لعدم طهارته فلتكن هذه المسألة نقلاً وفاكهة لأهل الإرادة ومن الله الوصول إلى أسباب السعادة {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} معطوف على يطاف أي : ليشرب عباد الله المخلصون في الجنة فيتحادثون على الشراب كما هو عادة الشرب في الدنيا فيقبل بعضهم على بعض حال كونهم يتساءلون عن الفضائل والمعارف وعما جرى عليهم ولهم في الدنيا وبالفارسية : (مى رسند از احوال دنيا وما جراى ايشان بادوست ودشمن) فالتعبير عنهم بصيغة الماضي للتأكيد والدلالة على تحقق الوقوع حتماً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وفي الآية إشارة إلى أن أهل الجنة هم الذين كانوا ممن لم يقبلوا على الله بالكلية وإن كانوا مؤمنين موحدين وإلا كانوا في مقعد صدق مع المقربين {قَالَ قَآاـاِلٌ مِّنْهُمْ} في تضاعيف محاوراتهم وأثناء مكالماتهم {إِنِّى كَانَ لِى} في الدنيا {قَرِينٌ} مصاحب وجليس وبالفارسية : (مرايارى وهمنشينى بود) {يَقُولُ} لي على
461
طريقة التوبيخ بما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث (آياتو) {لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} المعتقدين والمقرين بالبعث {أَءِذَا مِتْنَا} (آيا ون بميريم) {وَكُنَّا تُرَابًا} (وخاك كرديم) {وَعِظَـامًا} (واستخوانهاى كهنة) {أَءِنَّا لَمَدِينُونَ} جمع مدين من الدين بمعنى الجزاء ومنه كما تدين تدان أي : لمبعوثون ومحاسبون ومجزيون أي : لانبعث ولانجزى {قَالَ} أي : ذلك القائل بعدما حكى لجلسائه مقالة قرينه في الدنيا {هَلْ أَنتُم} (آياشما) {مُّطَّلِعُونَ} (الاطلاع : ديده ور شدن) أي : ناظرون إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين المكذب بالبعث يريد بذلك بيان صدقه فيما حكاه فقال جلساؤه : أنت أعرف به منا فاطلع أنت {فَاطَّلَعَ} عليه يعني : (فرونكيرد برايشان) {فَرَءَاهُ} أي : قرينه {فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ} في وسط جهنم وبالفارسية : (درميان آتش دوزخ) وسمي وسط الشيء سواء لاستواء المسافة منه إلى جميع الجوانب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : "في الجنة كوى ينظر منها أهلها إلى أهل النار ويناظرونهم" لأن لهم في توبيخ أهل النار لذة وسروراً.
يقول الفقير : لا شك أن الجنة في جانب الأوج والنار في طرف الحضيض فلأهل الجنة النظر إلى النار وأهلها كما ينظر أهل الغرف إلى من دونهم وأما سرور وهم لعذابهم مع كونهم مؤمنين رحماء فلأن يوم القيامة يوم ظهور اسم المنتقم والقهار ونحوهما فكما أنهم في الدنيا رحماء بينهم أشداء على الكفار كذلك لا يرحمون الأعداء كما لا يرحمهم الله إذ لو رحمهم لأدخلهم الجنة نسأل الله ثوابه وجنته {قَالَ} أي : القائل مخاطباً لقرينه متشمتاً به حين رآه على صورة قبيحة {تَاللَّهِ إِن} أي : إن الشان {كِدتَّ} قاربت وبالفارسية : (بخداى كه نزديك توبودى كه) {لَتُرْدِينِ} (مراهلاك كردى وتباه) أي : لتهلكني بالإغواء والردى الهلاك والارداء الإهلاك وأصله ترديني بياء المتكلم فحذفت اكتفاء بالكسرة {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّى} بالهداية والعصمة {لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} الإحضار لا يستعمل إلا في الشر كما في "كشف الأسرار" أي : من الذين أحضروا العذاب ما أحضرته أنت وأمثالك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وفي "التأويلات النجمية" : {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّى} حفظه وخصمته وهدايته {لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} معكم فيما كنتم فيه من الضلالة في البداية وفيما أنتم فيه من العذاب والبعد في النهاية وإنما أخبر الله تعالى عن هذه الحالة قبل وقوعها ليعلم أن غيبة الأشياء وحضورها عند الله سواء لا يزيد حضورها في علم الله شيئاً ولا ينقص غيبتها من علمه شيئاً سواء في علمه وجودها وعدمها بل كانت المعدومات في علمه موجودة :
برو علم يك ذره وشيده نيست
كه يدا ونهان بنزدش يكيست
{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} رجوع إلى محاورة جلسائه بعد إتمام الكلام مع قرينه سروراً بفضل الله العظيم والنعيم المقيم فإن تذكر الخلود في الجنة لذة عظيمة والهمزة للتقرير وفيها معنى التعجب والفاء للعطف على مقدر يقتضيه نظم الكلام أي : أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين أي : بمن شأنه الموت {إِلا مَوْتَتَنَا الاولَى} (الدخان : 56) التي كانت في الدنيا وهي متناولة لما في القبر بعد الاحياء للسؤال قاله تصديقاً لقوله تعالى : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الاولَى} أي : لا نموت في الجنة أبداً سوى موتتنا الأولى في الدنيا ونصبها على المصدر من اسم الفاعل يعني إنه مستثني مفرغ معرب
462
(7/360)
على حسب العوامل منصوب بميتين كما ينصب المصدر بالفعل المذكور قبله في مثل قولك ما ضربت زيداً إلا ضربة واحدة كأنه قيل وما نحن نموت موتة إلا موتتنا الأولى وقيل نصبها على الاستثنا المنقطع بمعنى لكن الموتة الأولى قد كانت في الدنيا.
وقيل إلا هنا بمعنى بعد وسوى {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كالكفار فإن النجاة من العذاب أيضاً نعمة جليلة مستوجبة للتحدث بها كما أن العذاب محنة عظيمة مستدعية لتمني الموت كل ساعة.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه "الموت أشد مما قبله وأهون مما بعده".
وفي الآية إشارة إلى أن مات الموتة الأولى وهي الموتة الإرادية عن الصفات النفسانية الحيوانية فقد حيى بحياة روحانية ربانية لا يموت بعدها أبداً بل ينقل المؤمن من دار إلى دار في جوار الحق ولا يعذب بنار الهجران وآفة الحرمان :
هركه فانى شد ازارادت خويش
زندكى يافت او زمهجت خويش
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
از عذاب والم مسلم كشت
در جوار خدا منعم كشت
{إِنْ هَـاذَآ} أي : الأمر العظيم الذي نحن فيه من النعمة والخلود والأمن من العذاب {لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الفوز الظفر مع حصول السلامة أي : لهو السعادة والظفر بكل المراد الدنيا وما فيها تحتقر دونه كما تحتقر القطرة من البحر المحيط والحبة من البيدر الكبير {لِمِثْلِ هَـاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَـامِلُونَ} أي : لنيل هذا المرام الجليل يجب أن يعمل العاملون ويجتهد المجتهدون لا للحظوظ الدنيوية السريعة الانقطاع المشوبة بفنون الآلام والبلايا والصداع.
قال الكاشفي : (ازبراى اين نعمتها س بايدكه عمل كنند كان نه براى مال وجاه دنياكه برشرف زوال وصدد انتقال است) :
كربار كشى بار نكارى بارى
وركار كنى براى يارى بارى
ورروى بخاكراهى خواهى ماليد
برخاك ره طرفه سوارى بارى
ويحتمل أن يكون قوله إن هذا الخ من كلام رب العزة فهو ترغيب في طلب ثواب الله بطاعته ويقال فليحتمل المحتملون الأذى لأنه قد حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات كما قال جلال الدين الرومي قدس سره :
حفت الجنة بمكروهاتنا
حفت النيران من شهواتنا
يعني : جعلت الجنة محفوفة بالأشياء التي كانت مكرهة لنا وجعلت النار محاطة بالأشياء التي محبوبة لنا فما بين المرء وبين الجنة حجاب إلا المكاره وهو حجاب عظيم صعب خرقه وما بين النار وبينه حجاب إلا الشهوات وهو حجاب حقير سهل لأهله والعياذ بالله من الإقبال على الشهوات والإدبار عن الكرامات في الجنات.
قال في "كشف الأسرار" : (س عارفان سزاتراندكه براميد ديدار جلال احديت ويافت حقائق قربت وتباشير صبح وصلت ديده ديده ودل فرا كنند وجان ورواه درين بشارت نثار كنند) يعني إن هبت نفحة من نفحات الحق من جنات القدس أو شم رائحة من نسيم القرب أو بدت شطبة من الحقائق وتباشير الوصلة حق للعارف أن يقول إن هذا لهو الفوز العظيم وبالحرى أن يقول : {لِمِثْلِ هَـاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَـامِلُونَ} بل لمثل هذه الحالة تبذل الأرواح وتفدى الأشباح كما قيل :
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه
وإن بات من سلمى على اليأس طاوياً
463
والحاصل : أن لكل من العابدين والعارفين حصة من إشارة هذا في الآية وكان بعض الصلحاء يصلي الضحى مائة ركعة ويقول لهذا خلقنا وبهذا أمرنا يوشك أولياء الله أن يكفوا ويحمدوا أي : على ما آتاهم الله في مقابلة مجاهداتهم وطاعتهم من الأجر الجزيل والثواب الجميل.
وقد ثبت أن كثيراً من الصلحاء تلوا عند النزع قوله تعالى : {لِمِثْلِ هَـاذَا} إلى آخر ما أشير إليه لما شاهده من حيث مقامه فنسأل الله القلب السليم في الدنيا والنعيم المقيم في العقبى ولله تعالى ألطاف لا تحويها الأفكار.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/361)
ـ حكي ـ أن موسى عليه السلام سأل ربه تعالى من أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال : رجل يجيىء بعدما دخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل الجنة فيقول رب وكيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذهم فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا فيقول رضيت يا رب فيقول لك ذلك ومثله ومثله فيقول في الخامسة رضيت يا رب فيقول هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول رضيت يا رب قال موسى عليه السلام : فمن أعلاهم منزلة؟ فقال أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر والكل فوز لكن الفوز بالأعلى فوز عظيم ألا ترى أنه لا تستوي الرعية والسلطان في الدنيا فإن كل للرعية عباء فللسلطان قباء وإن كان لهم حجرة فله غرفة وإن كان لهم كسرة خبز فله ألوان نعمة وهكذا فقد تفاوتت الهمم في الدنيا واختلف الأغراض ولذا تفاوت المراتب في العقبى وتباين الأعواض فمن وجد الله تعالى وجد الجنة أيضاً بكل ما فيها ولكن ليس كل من يجد الجنة بأسرها يصل إلى الله تعالى والإنسان به والاحتظاظ بلقائه المستغرق جميع الأوقات وشهوده المستوعب لكل الحالات فكن عالي الهمة فإن علو الهمة من الإيمان وغاية الإيمان الإحسان ونهايته الاستغراق في شهود المنان {أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} الهمزة للتقرير والمراد حمل الكفار على إقرار مدخولها وذلك إشارة إلى نعيم الجنة.
وخير وارد على سبيل التهكم والاستهزاء بهم وانتصاب نزلاً على الحالية وهو ما يهيأ من الطعام الحاضر للنازل أي : الضيف ومنه إنزال الأجناد لأرزاقهم.
والزقوم : اسم شجرة صغيرة الورق مرة كريهة الرائحة تكون بتهامة يعرفها المشركون سميت بها الشجرة الموصوفة بقوله إنها شجرة الخ.
وفي "المفردات" : شجرة الزقوم عبارة عن أطعمة كريهة في النار ومنه استعير زقم فلان وتزقم إذا ابتلع شيئاً كريهاً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
والمعنى : أن نعم الجنة والرزق المعلوم للمؤمنين فيها خير طعاماً يعني أن الرزق المعلوم نزل أهل الجنة وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم أي : ثمرها فأيهما خير في كونهما نزلاً وفي ذكره دلالة على أن ما ذكره من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يعد ويرفع للنازل ولهم وراء ذلك ما تقصر عنه الإفهام وكذلك الزقوم لأهل النار ويقال أصل النزل الفضل والزيادة والريع ومنه قولهم العسل ليس من إنزال الأرض أي : من ريعها وما يحصل منه فاستعير للحاصل من الشيء فانتصاب نزلاً على التمييز.
والمعنى أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير حاصلاً أم شجرة الزقوم التي حاصلها الألم والغم {إِنَّا جَعَلْنَـاهَا فِتْنَةً لِّلظَّـالِمِينَ} محنة وعذاباً لهم في الآخرة فإن الفتن في اللغة الإحراق أو ابتلاء في الدنيا حيث فتنوا وضلوا عن الحق بسببه فإن الفاتن قد يطلق على المضل عن الحق فإن الكفار لما سمعوا كون هذه الشجرة في النار فتنوا به في دينهم وتوسلوا به إلى الطعن
464
في القرآن والنبوة والتمادي في الكفر وقالوا : كيف يمكن ذلك والنار تحرق الشجر ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويتلذذ بها أقدر على خلق الشجرة في النار وحفظه من الإحراق {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ} أي : تنبت في قعر جهنم فمنبتها في قعرها وأغصانها ترتفع إلى دركاتها ولما كان أصل عنصرها النار لم تحرق بها كسائر الأشجار ألا ترى أن السمك لما تولد في الماء لم يغرق بخلاف ما لم يتولد ليه.
ولعله رد على ابن الزبعري وصناديد قريش وتجهيل لهم حيث قال ابن الزبعري لهم : إن محمداً يخوفنا بالزقوم والزقوم بلسان البربر الزبد والتمر فأدخلهم أبو جهل بيته وقال : يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال استهزاء تزقموا فهذا ما توعدكم به محمد فقال تعالى : {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ} فليس الزقوم ما فهم هؤلاء الجهلة الضلال {طَلْعُهَا} أي : حملها وثمرها الذي يخرج منها ويطلع مستعار من طلع النخلة لمشاركته له في الشكل.
والطلع شيء يخرج من النخل كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود {كَأَنَّهُ} (كويا او) {رُءُوسُ الشَّيَـاطِينِ} في تناهي القبح والهول لأن صورة الشيطان أقبح الصور وأكرهها في طباع الناس وعقائدهم ومن ثمة إذا وصفوا شيئاً بغاية القبح والكراهة قالوا : كأنه شيطان وإن لم يروه فتشبيه الطلع برؤوس الشياطين تشبيه بالمخيل كتشبيه الفائق في الحسن بالملك قال تعالى حكاية
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/362)
{مَا هَـاذَا بَشَرًا إِنْ هَـاذَآ إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف : 31).
وفيه إشارة إلى أن من كان ههنا معلوماته في قبح صفات الشياطين يكون هناك مكافأته في قبح صورة الشياطين {فَإِنَّهُمْ} (بس دوز خيان) {لاكِلُونَ مِنْهَا} أي : من الشجرة ومن طلعها فالتأنيث مكتسب من المضاف إليه {فَمَالِـاُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} لغلبة الجوع أو للقسر على أكلها وإن كرهوها ليكون ذلك نوعاً آخر من العذاب.
وفيه إشارة إلى أنهم كانوا لها في مزرعة الآخرة أعني الدنيا زارعين فما حصدوا إلا ما زرعوا.
والمالىء : اسم فاعل من ملأ الإناء ماء يملؤه فهو مالىء ومملوء.
والبطون جمع بطن وهو خلاف الظهر في كل شيء {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا} أي : على الشجرة التي ملأوا منها بطونهم بعدما شبعوا منها وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم كما ينبىء عنه كلمة ثم فتكون للتراخي الزماني ويجوز أن تكون للرتبى من حيث أن كراهة شرابهم وبشاعته لما كانت أشد وأقوى بالنسبة إلى كراهة طعامهم كان شرابهم أبعد من طعامهم من حيث الرتبة فيكونون جامعين بين أكل الطعام الكريه البشيع وشرب شراب الأكره الأبشع {لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ} الشوب الخلط والحميم الماء الحار الذي قد انتهى حره أي : شراباً من دم أو قيح أسود أو صديد ممزوجاً مشوباً بماء حار غاية الحرارة يقطع إمعاءهم {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} أي : مصيرهم {لالَى الْجَحِيمِ} أي : إلى درجاتها أو إلى نفسها فإن الزقوم والحميم نزل يقدّم إليهم قبل دخولها وقيل الجحيم خارج عنها لقوله تعالى : {هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} (الرحمن : 43 ـ 44) يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم من الجحيم إلى شجره الزقوم فيأكلون منها إلى أن يتملئوا ثم يسقون من الحميم ثم يردون إلى الجحيم كما يرد الإبل عن موارد الماء ويؤيده قراءة ابن مسعود "ثم إن منقلبهم" وفي الحديث : "يا أيها الناس اتقوا الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون فلو أن قطرة من الزقوم قطرت لأمرّت
465
على أهل الدنيا معيشتها فكيف بمن هو طعامه وشرابه وليس له طعام غيره" {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ} تعليل لاستحقاقهم ما ذكر من فنون العذاب بتقليد الآباء في الدين من غير أن يكون لهم ولآبائهم شيء يتمسك به أصلاً.
والإلفاء بالفاء الوجدان وبالفارسية : (يافتن) وضالين مفعول ثان لقوله ألفوا بمعنى وجدوا.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
والمعنى : وجدوهم ضالين في نفس الأمر عن الهدى وطلب الحق ليس لهم ما يصلح شبهة فضلاً عن صلاحية الدليل {فَهُمْ} أي : الكافرون الظالمون {عَلَى ءَاثَارِهِمْ} أي : آثار الآباء جمع أثر بالفارسية (ى) {يُهْرَعُونَ} يسرعون من غير أن يتدبروا أنهم على الحق أو لا مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمل ، والإهراع : الإسراع الشديد كأنهم يزعجون ويحثون حثاً على الإسراع على آثارهم {وَلَقَدْ} جواب قسم أي : وبالله لقد {ضَلَّ} (كمراه شد) {قَبْلَهُمْ} أي : قبل قومك قريش {أَكْثَرُ الاوَّلِينَ} من الأمم السابقة أضلهم إبليس ولم يذكر لأن في الكلام دليلاً فاكتفى بالإشارة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم} (وبتحقيق ما فرستاديم درميان ايشان) يعني الأكثرين {مُّنذِرِينَ} أي : أنبياء أولى عدد كثير ذوي شأن خطير بينوا لهم بطلان ما هم عليه وأنذروهم عاقبته الوخيمة {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} أي : آخر أمر الذين أنذروا من الهول والفظاعة والهلاك لما لم يلتفتوا إلى الإنذار ولم يرفعوا لهم رأساً.
والخطاب إما للرسول أو لكل أحد ممن يتمكن من مشاهدة آثارهم وسماع أخبارهم وحيث كان المعنى أنهم أهلكوا إهلاكاً فظيعاًاستثنى منهم المخلصون بقوله تعالى : {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي : الذين أخلصهم الله بتوفيقهم للإيمان والعمل بموجب الإنذار يعني أنهم نجوا مما أهلك به كفار الأمم الماضية.
وفي الآية تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ببيان أنه تعالى أرسل قبله رسلاً إلى الأمم الماضية فأنذروهم بسوء عاقبة الكفر والضلال فكذبهم قومهم ولم ينتهوا بالإنذار وأصروا على الكفر والضلال فصبر الرسل على أذاهم واستمروا على دعوتهم إلى الله تعالى فاقتد بهم وما عليك إلا البلاغ ثم إن عاقبة الإصرار الهلاك وغاية الصبر النجاة والفوز بالمراد.
فعلى العاقل تصحيح العمل بالإخلاص وتصحيح القلب بالتصفية.
قال الواسطي : مدار العبودية على ستة أشياء : التعظيم والحياء والخوف والرجاء والمحبة والهيبة.
فمن ذكر التعظيم يهيج الإخلاص.
ومن ذكر الحياء يكون العبد على خطرات قلبه حافظاً.
ومن ذكر الخوف يتوب العبد من الذنوب ويأمن من المهالك.
ومن ذكر الرجاء يسارع إلى الطاعات.
ومن ذكر المحبة يصفو له الأعمال.
ومن ذكر الهيبة يدع التملك والاختيار ويكون تابعاً في إرادته لإرادة الله تعالى ولا يقول إلا سمعنا وأطعنا.
(7/363)
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وقد صح أن ذا القرنين لما دخل الظلمات قال لعسكره ليرفع كل منكم من الأحجار التي تحت أقدام الافراس فإنها جواهر فمن رفع بلغ نهاية الغنى ومن خالف وأنكر ندم وبقي في التحسر أبداً :
كاشكى بهر امتحان بارى
كردمى نان ذخيره مقدارى
تا كنون نقد وقت من كشتى
وقتم اينسان بمقت نكذشتى
كاشكى كزكهر بكردم بار
برسكندر نكردمى انكار
تانيفتادمى ازان تقصير
در حجاب وخجالت وتشوير
466
آين بود حال كافر ومسلم
كاو درين تنك موطن ومظلم
ون رشيد ازخدا كتاب ورسول
آن برد يش رفت اين بقبول
نزدند از سر فساد وغلو
كافران جز در عناد وعتو
مؤمنان كرده در يمبر روى
هم سمعنا وهم أطعنا كوى
شد بلايا نهايت انكار
شد عطايا نهايت اقرار
ومن الله التوفيق بطريق التحقيق {وَلَقَدْ نَادَاـانَا نُوحٌ} نوع تفصيل لحسن عاقبة المنذرين بالكسر وسوء خاتمة المنذرين بالفتح.
والنداء الدعاء بقرينة فلنعم المجيبون.
والمعنى وبالله لقد دعانا نوح وهو أول المرسلين حين يئس من إيمان قومه بعدما دعاهم إليه أحقاباً ودهوراً فلم يزدهم دعاؤه إلا فراراً ونفوراً فأجبناه أحسن الإجابة حيث أوصلناه إلى مراده من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بأبلغ ما يكون {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} أي : فوالله لنعم المجيبون نحن نحذف ما حذف ثقة بدلالة ما ذكر عليه والجمع دليل العظمة والكبرياء {وَنَجَّيْنَـاهُ} (التنجية : نجات دادن) {وَأَهْلَهُ} (وكسان او) {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (ازاندوه بزرك) أي : من الغرق أو من أذى قومه دهراً طويلاً.
والكرب الغم الشديد والكربة كالغمة وأصل ذلك من كرب الأرض وهو قلبها بالحفر فالغم يثير النفس إثارة ذلك ويصح أن يكون الكرب من كربت الشمس إذا دنت للمغيب {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ} نسله {هُمُ} فحسب {الْبَاقِينَ} حيث أهلكنا الكفرة بموجب دعائه رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً.
وقد روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير أبنائه وأزواجهم وهم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة.
قال قتادة : إنهم كلهم من ذرية نوح وكان له ثلاثة أولاد : سام وحام ويافث.
فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى.
وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب والسند والهند والنوبة والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم.
ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال في "كشف الأسرار" : (أصحاب التورايخ كفتند فرزاندن يافث هفت بودند نامهاى ايشان ترك وخزر وصقلاب وتاريس ومنسلك وكمارى وصين ومسكن ايشان ميان مشرق ومهب شمال بود وهره ازين جنس مردم اند از فرزندان اين هفت برادرانند وهمنين فرزندان حام بن نوح هفت بودند نامهاى ايشان سند وهند وزنج وقبط وحبش ونوب وكنعان ومسكن ايشان ميان نوب ودبور وصبابود وجنس سياهان همه ازفرزندان اين هفت برادرانند اما فرزندان سام ميكويند ن بودند وقومى ميكويندكه هفت بودندارم وارفخشد وعالم ويفر واسود وتارخ وتورخ ارم درعاد وثمود بودار فحشد بدر عرب بود از ايشان فالغ وقحطان بود فالغ جد ابراهيم عليه السلام قحطان ابو اليمن بود وعالم بدر خراسان واسود در فارس ويفر در روم بود وتورخ در ارمين بود صاحب ارمينيه وتارخ در كرمان بود وابن ديار واقطاع همه بنام ايشان باز ميخوانند وبعد ازنوع خليفه وى سام بود برسر فرزندان نوح فرمانده بود وكارساز ومسكن وى زمين عراق بود وايران شهر) وقيل يشتوا بأرض خوخى ويصيف بالموصل (ونوح راسرهارمين بودنام او يام) وهو الغريق
467
ولم يكن له عقب {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ} أبقينا على نوح {فِى الاخِرِينَ} من الأمم وبالفارسية : (درميان سينيان) {سَلَـامٌ عَلَى نُوحٍ} أي : هذا الكلام بعينه وهو وارد على الحكاية كقولك قرأت سورة أنزلناها فلم ينتصب السلام لأن الحكاية لا تزال عن وجهها.
والمعنى يسلمون عليه تسليماً ويدعون له على الدوام أمة بعد أمة {فِى الْعَـالَمِينَ} بدل من قوله في الآخرين لكونه أدل منه على الشمول والاستغراق لدخول الملائكة والثقلين فيه.
والمراد الدعاء بثبات هذه التحية واستمرارها أبداً في العالمين من الملائكة والثقلين جميعاً.
وفي "تفسير القرطبي" جاءت الحية والعقرب لدخول السفينة فقال نوح : لا أحملكما لأنكما سبب الضر والبلاء فقالا : احملنا فنحن نضمن لك أن لا نضر أحداً ذكرك فمن قرأ حين يخاف مضرتهما {سَلَـامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَـالَمِينَ} لم يضراه ذكره القشيري.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/364)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بهذا إلى أن المستحق لسلام الله هو نوح روح الإنسان لأنه ما جاء أن الله سلم على شيء من العالمين غير الإنسان كما قال تعالى ليلة المعراج : "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فقال عليه السلام : "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" وما قال وعلى ملائكتك المقربين.
وإنما كان اختصاص الإنسان بسلام من بين العالمين لأنه حامل الأمانة الثقيلة التي أعرض عنها غيره فكان أحوج شيء إلى سلام الله ليعبر بالأمانة على الصراط المستقيم الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف ولهذا قال النبي عليه السلام : "تكون دعوة الرسل حينئذٍ رب سلم سلم" وهل سمعت أن يكون لغير الإنسان العبور على الصراط وإنما اختصوا بالعبور على الصراط لأنهم يؤدون الأمانة إلى أهلها وهو الله تعالى فلا بد من العبور على صراط الله الموصل إليه لأداء الأمانة {إِنَّا كَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} الكاف متعلقة بما بعدها أي : مثل ذلك الجزاء الكامل من إجابة الدعاء وإبقاء الذرية والذكر الجميل وتسليم العالمين أبداً نجزي الكاملين في الإحسان لاجزاء أدنى منه فهو تعليل لما فعل بنوح من الكرامات السنية بأنه مجازاة له على إحسانه {إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} تعليل لكونه من المحسنين بخلوص عبوديته وكمال إيمانه.
وفيه إظهار لجلالة قدر الإيمان وأصالة أمره وترغيب في تحصيله والثبات عليه.
وفي "كشف الأسرار" : خص الإيمان بالذكر والنبوة أشرف منه بياناً لشرف المؤمنين لا لشرف نوح كما يقال إن محمداً عليه السلام من بني هاشم.
قال عباس بن عطاء أدنى منازل المرسلين أعلى مراتب النبيين وأدنى مراتب النبيين أعلى مراتب الصديقين وأدنى مراتب الصديقين أعلى مراتب المؤمنين {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخَرِينَ} أي : المغايرين لنوح وأهله وهم كفار قومه أجمعين (والإغراق : غرقه كردن يعني آنكه ديكرانرا بآب كشتيم) وهو عطف على نجيناه.
وثم لما بين الإنجاء والإغراق من التفاوت وكذا إذا كان عطفاً على تركنا وليس للتراخي لأن كلاً من الإنجاء والإبقاء إنما هو بعد الإغراق دون العكس كما يقتضيه التراخي {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ} أي : ممن شايع نوحاً وتابعه في أصول الدين {لابْرَاهِيمَ} وإن اختلفت فروع شريعتيهما ويجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق كلي أو أكثري.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما من أهل دينه وعلى سنته أو ممن شايعه على التصلب
468
في دين الله ومصابرة المكذبين وما كان بينهما الأنبياء هود وصالح وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة.
وفي بعض التفاسير أن الضمير عائد إلى حضرة صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلّم وإن كان غير مذكور فإبراهيم وإن كان سابقاً في الصورة لكنه متابع لرسول الله في الحقيقة ولذا اعترف بفضله ومدح دينه ودعا فيه حيث قال : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ} (البقرة : 129) الآية :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
يش آمدند بسى انبيا وتو
كر آخر آمدى همه را يشوا تويى
خوان خليل هست نمكدان خوان تو
برخوان اصطفا نمك انبيا تويى
(7/365)
{إِذْ جَآءَ رَبَّهُ} منصوب باذكر {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الباء للتعدية أي : بقلب سليم من آفات القلوب بل من علاقة من دون الله مما يتعلق بالكونين ومعنى مجيئه به ربه إخلاصه له كأنه جاء به متحضناً إياه بطريق التمثيل وإلا فليس القلب مما ينقل من مكان إلى مكان حتى يجاء به {إِذْ قَالَ} الخ بدل من إذ الأولى {لابِيهِ} آزر بن باعر بن ناحور بن فالغ بن سالح بن ارفخشد بن سام بن نوح {وَقَوْمِهِ} وكانوا عبدة الأصنام {مَاذَا تَعْبُدُونَ} استفهام إنكاري وتوبيخ أي : أي شيء تعبدون {أَاـاِفْكًا ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} الإفك أسوء الكذب أي : أتريدون آلهة من دون الله إفكاً أي : للافك فقدم المفعول على الفعل للعناية ثم المفعول له على المفعول به لأن الأهم مكافحتهم بأنهم على أفك آلهتهم وباطل شركهم {فَمَا ظَنُّكُم} أي : أي شيء ظنكم فما مبتدأ خبره ظنكم {بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره أن يغفل عنكم أو لا يؤاخذكم بما كسبت أيديكم أي : لاظن فكيف القطع.
قال في "كشف الأسرار" : (دردل ابراهيم بود كه بتان ايشان را كيدى سازد تا حجت برايشان الزام كنند وآشكارا نمايد كه ايشان مبعودى را نشايند روزى در وياران وى كفتندكه اى ابراهيم بيا تا بحصرا بيرون شويم وبعيد كاه ما برويم) {فَنَظَرَ} ابراهيم {نَظْرَةً فِى النُّجُومِ} جمع نجم وهو الكوكب الطالع أي : في علمها وحسابها إذ لو نظر إلى النجوم أنفسها لقال إلى النجوم وكان القوم يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه واعتل في التخلف عن عيدهم أي : عن الخروج معهم إلى معبدهم {فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ} .
قال في "المفردات" : السقم والسقم المرض المختص بالبدن والمرض قد يكون في البدن وفي النفس.
وقوله : {إِنِّى سَقِيمٌ} فمن التعريض والإشارة به إما إلى ماض وإما إلى مستقبل وإما إلى قليل مما هو موجود في الحال إذ كان الإنسان لا ينفك من خلل يعتريه وإن كان لا يحس به ويقال مكان سقيم إذا كان فيه خوف انتهى.
وقال ابن عطاء : إني سقيم ممن مخالفتكم وعبادتكم الأصنام أو بصدد الموت فإن من في عنقه الموت سقيم وقد فوجىء رجل فاجتمع عليه الناس وقالوا : مات وهو صحيح فقال أعرابي : أصحيح من الموت في عنقه وأياً ما كان فلم يقل إلا على تأويل فإن العارف لا يقع في انهتاك الحرمة أبداً وكان ذلك من إبراهيم لذب عن دينه وتوسل إلى إلزام قومه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال عز الدين بن عبد السلام : الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام فإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان
469
تحصيل ذلك المقصود مباحاً.
وواجب إن كان ذلك المقصود واجباً فهذا ضابطه.
وفي "الأسئلة المقحمة" : ومن الناس من يجوّز الكذب في الحروب لأجل المكيدة والخداع وإرضاء الزوجة والإصلاح بين المتهاجرين والصحيح أن ذلك لا يجوز أيضاً في هذه المواضع لأن الكذب في نفسه قبيح والقبيح في نفسه لا يصير حسناً باختلاف الصور والأحوال وإنما يجوز في هذه المواضع بتأويل وتعريض لا بطريق التصريح.
ومثاله يقول الرجل لزوجته : إذا كان لا يحبها كيف لا أحبك وأنت حلالي وزوجتي وقد صحبتك وأمثال هذه فأما إذا قال صريحاً بأني أحبك وهو يبغضها فيكون كذباً محضاً ولا رخصة فيه.
مثاله كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أراد النهضة نحو يمينه كان يسأل عن منازل اليسار ليشبه على العدو من أي : جانب يأتيه وأما إذا كان يقصد جانباً ويقول أمضي إلى جانب آخر فهذه من قبيلها انتهى.
وكان القوم يتطيرون من المريض فلما سمعوا من إبراهيم ذلك هربوا منه إلى معبدهم وتركوه في بيت الأصنام فريداً ليس معه أحد وذلك قوله تعالى : {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ} فأعرضوا وتفرقوا عن إبراهيم {مُدْبِرِينَ} هاربين مخافة العدوى أي : السراية.
وقال بعضهم : إن المراد بالسقم هو الطاعون وكان أغلب الأسقام وكانوا يخافون العدوى.
يقول الفقير : المشهور إن الطاعون قد فشا في بني إسرائيل ولم يكن قبلهم إلا على رواية كما قال عليه السلام : "الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم" {فَرَاغَ إِلَى ءَالِهَتِهِمْ} أي : ذهب إليها في خفية وأصله الميل بحيلة من روغة الثعلب وهو ذهابه في خفية وحيلة.
قال في "القاموس" : راغ الرجل والثعلب روغاً وروغاناً مال وحاد عن الشيء.
وفي "تاج المصادر" : (الروغ والروغان : روباهى كردن) (والروغ : نهان سوى يزى شدن).
وفي "التهذيب" (الروغ والروغان : دستان كردن) {فَقَالَ} للأصنام استهزاء (ون ديد ايشانرا آراسته وخوانهاى طعام دريش ايشان نهاده) {أَلا تَأْكُلُونَ} (آيا نمى خوريد ازين طعامها) وكانوا يضعون الطعام عند الأصنام لتحصل له البركة بسببها
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/366)
{مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} أي : ما تصنعون غير ناطقين بجوابي وبالفارسية : (يست شمارا كه سخن نمى كوييد ومرا جوابى ندهيد) {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} فمال مستعلياً عليهم حال كونه يضربهم {ضَرْبَا بِالْيَمِينِ} أو حال كونه ضارباً باليمين فالمصدر بمعنى الفاعل أي : ضرباً شديداً قوياً وذلك لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما وقوة الآلة تقتضي قوة الفعل وشدته.
وقيل : بالقوة والمتانة وعلى ذلك مدار تسمية الحلف باليمين لأنه يقوي الكلام ويؤكده.
وقيل بسبب الحلف وهو قوله : {وَتَاللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَـامَكُم} فلما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام وجدوها مكسورة يعني : (اره اره كشته) فسألوا عن الفاعل فظنوا أن إبراهيم عليه السلام فعله فقيل فائتوا به {فَأَقْبَلُوا} أي : توجه المأمورون بإحضاره {إِلَيْهِ} إلى إبراهيم.
قال ابن الشيخ : إليه يجوز أن يتعلق بما قبله وبما بعده {يَزِفُّونَ} حال من واو أقبلوا أي : يسرعون من زفيف النعام وهو ابتداء عدوها.
قال في "المفردات" : أصل الزفيف في هبوب الريح وسرعة النعامة التي تخلط الطيران بالمشي وزفزف النعام إذا أسرع ومنه استعير زف العروس استعارة ما تقتضي السرعة لا لأجل مشيها ولكن
470
للذهاب بها على خفة من السرور {قَالَ} أي : بعدما أتوا به وجرى بينهم وبينه من المحاورات ما نطق به قوله تعالى : {قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَـاذَا بِـاَالِهَتِنَا يا اإِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء : 62) إلى قوله : {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـاؤُلاءِ يَنطِقُونَ} (الأنبياء : 65) {أَتَعْبُدُونَ} همزة الاستفهام للإنكار {مَا تَنْحِتُونَ} ما تنحتونه من الأصنام فما موصولة.
والنحت نحت الشجر والخشب ونحوهما من الأجسام وبالفارسية : (تراشيدن يعني آيامى رستيد آنه مى تراشيد از سنك ووب بدست خود) {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} حال من فاعل تعبدون مؤكدة للإنكار والتوبيخ أي : والحال أنه تعالى خلقكم والخالق هو الحقيق بالعبادة دون المخلوق {وَمَا تَعْمَلُونَ} أي : وخلق ما تعملونه من الأصنام وغيرها فإن جواهر أصنامهم ومادتها بخلقه تعالى وشكلها وإن كان بفعلهم لكنه بأقدار الله تعالى إياهم عليه وخلقه ما يتوقف عليه فعلهم من الدواعي والعدد والأسباب فلم يلزم أن يكون الشيء مخلوقاًتعالى ومعمولاً لهم وظهر من فحوى الآية أن الأفعال مخلوقةتعالى مكتسبة للعباد حسبما قالته أهل السنة والجماعة وبالاكتساب يتعلق الثواب والعقاب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال المولى الجامي :
فعل ماخواه زشت وخواه نكو
يك بيك هست آفريده او
نيك وبد كره مقتضاى قضاست
اين خلاف رضا وآن برضاست
{قَالُوا} (كفت نمرود وخواص او).
وقال السهيلي في "التعريف" : قائل هذه المقالة لهم فيما ذكر الطبري اسمه الهيزن رجل من أعراب فارس وهم الترك وهو الذي جاء في الحديث "بينا رجل يمشي في حلة يتبختر فيها فخسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" {ابْنُوا لَه بُنْيَـانًا} (بنا كنيد براى سوختن ابراهيم بنايى واز هيزم رساخته آتش دران زنيد).
ـ روي ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : بنوا حائطاً من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً وملأوه حطباً وأشعلوه ناراً وطرحوه فيها كما قال : {فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ} في النار الشديدة الإيقاد وبالفارسية : (س طرح كنيد ودر افكنيد اورا در آتش سوزان) من الجحمة وهي شدة التأجج والالتهاب واللام عوض عن المضاف إليه أي : ذلك البنيان {فَأَرَادُوا بِه كَيْدًا} أي : شراً وهو أن يحرقوه بالنار عليه السلام لما قهر لهم بالحجة وألقمهم الحجر قصداً أن يكيدوا به ويحتالوا لإهلاكه كما كاد أصنامهم بكسره إياهم لئلا يظهر للعامة عجزهم والكيد ضرب من الاحتيال كما في "المفردات" {فَجَعَلْنَـاهُمُ الاسْفَلِينَ} الأذلين بإبطال كيدهم وجعله برهاناً نيراً على علو شأنه عليه السلام بجعل النار عليه برداً وسلاماً على ما سبق تفصيل القصة في سورة الأنبياء.
فإن قلت لم ابتلاه تعالى بالنار في نفسه؟ قلت : لأن كل إنسان يخاف بالطبع من ظهور صفة القهر كما قيل لموسى عليه السلام {وَلا تَخَفْا سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاولَى} (طه : 21) فأراه تعالى أن النار لا تضر شيئاً إلا بإذن الله تعالى وإن ظهرت بصورة القهر وصفته وكذلك أظهر الجمع بين المتضادين بجعلها برداً وسلاماً.
وفيه معجزة قاهرة لأعدائه فإنهم كانوا يعبدون النار والشمس والنجوم ويعتقدون وصف الربوبية لها فأراهم الحق تعالى أنها لا تضر إلا بإذن الله تعالى.
وقد ورد في الخبر "أن النمرود لما شاهد النار كانت على إبراهيم برداً وسلاماً قال : إن ربك لعظيم نتقرب إليه بقرابين فذبح تقرباً إليه
471
آلافاً كثيرة فلم ينفعه لإصراره على اعتقاده وعمله وسوء" حاله ، قال المولى الجامي :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
يافت ناكاه آن حكيمك راه
يش جمعى زاو لياء الله
فصل دى بود ومنقلى آتش
(7/367)
شعله ميزد ميان ايشان خوش
شد بتقريب آتش ومنقل
از خليلى برى زنقص وخلل
ذكر آن قصه كهن بتمام
كه برونار كشت برد وسلام
آن حكيمك زجهل واستكبار
كفت بالطبع محرق آمدنار
آنه بالطبع محرقست كجا
كردد از مقتضاى طبع جداً
يكى از حاضران زغيرت دين
كفت هين دامنت بيار وببين
منقل رتشش بدامان ريخت
آتش خجلتش زجان آنكيخت
كفت دركن ميان آتش دست
هي كرمى ببين در آتش هست
ون نه دستش بسوخت نى دامن
شدازان جهل او برو روشن
طبع راهم مسخر حق ديد
حانش ازتيركى عقل رهيد
اكر آن علم او يقين بودى
قصه اوكى ايننين بودى
علم كامد يقين زبيم زوال
بيقين ايمن است درهمه حال
{وَقَالَ} إبراهيم بعدما أنجاه الله تعالى من النار قاله لمن فارقه من قومه فيكون ذلك توبيخاً لهم أو لمن هاجر معه من أهله فيكون ذلك ترغيباً لهم {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} أي : مهاجر من أرض حرّان أو من بابل أو قرية بين البصرة والكوفة يقال لها من مزبحره إلى حيث أمرني ربي وهو الشام أو إلى حيث أتجرد فيه لعبادته تعالى أي : موضع كان فإن الذهاب إلى ذات الرب محال إذ ليس في جهة.
وفي "بحر العلوم" : ولعله أمره الله تعالى بأن يهجر دار الكفر ويذهب إلى موضع يقدر على زيارة الصخرة التي هي قبلته وعلى عمارة المسجد الحرام أو هي القرية التي دفن فيها كما أمر نبينا بالهجرة من مكة إلى المدينة.
وفي بعض التواريخ : دفن إبراهيم بأرض فلسطين وهي بكسر الفاء وفتح اللام وسكون السين المهملة البلاد التي بين الشام وأرض مصر منها الرملة وغزة وعسقلان وغيرها {سَيَهْدِينِ} إلى مقصدي الذي أردت وهو الشام أو إلى موضع يكون فيه صلاح ديني وبت القول بذلك لسبق الوعد أو للبناء على عادته تعالى معه ولم يكن كذلك حال موسى حيث قال : {عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ} (القصص : 22) ولذلك أتى بصيغة التوقع.
وهذه الآية أصل في الهجرة من ديار الكفر إلى أرض يتمكن فيها من إقامة وظائف الدين والطاعة وأول من فعل ذلك إبراهيم هاجر مع لوط وصار إلى الأرض المقدسة.
قال في "كشف الأسرار" : (برذوق أهل معرفت {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} اشارتست بانقطاع بنده ومعنى انقطاع باحق بريدنست در بدايت بجهد ودر نهايت بكل بدايت تن درسعى وزبان در ذكر وعمر در جهد ونهايت باخلق عاريت وباخود بيكانه واز تعلق آسوده) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وصل ميسر نشود جز بقطع
قطع نخست از همه ببريدنست
فمن بقي له في القلب لمحة للعالم بأسره الملك والملكوت لم ينفتح له باب العلم بالله من حيث المشاهدة
472
ولم يدخل عالم الحقيقة.
واسطى (كفت خليل از خلق بحق مى شد وحبيب ازحق بخلق مى آمد اوكه از خلق بحق ثود حق را بدليل شناسد واوكه ازحق بخلق آيد دليل را بحق شناسد).
ـ روي ـ أن إبراهيم عليه السلام لما جعل الله النار عليه برداً وسلاماً وأهلك عدوه النمرود وتزوج بسارة وكانت أحسن النساء وجهاً وكانت تشبه حواء في حسنها عزم الانتقال من أرض بابل إلى الشام (س روى مبارك بشام نهاد ودران راه هاجر بدست ساره خاتون افتاد وآنرا بابراهيم بخشيد وون ملك يمين وى شد دعا كرده كه) {رَّبُّ} (اى رودكار من) {هَبْ لِى مِنَ الصَّـالِحِينَ} المراد ولد كامل الصلاح عظيم الشأن فيه أي : بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة يعني الولد لأن لفظ الهبة على الإطلاق خاص به وإن كان قد ورد مقيداً بالأخ في قوله {وَوَهَبْنَا لَه مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَـارُونَ نَبِيًّا} (مريم : 53) ولقوله تعالى : {فَبَشَّرْنَـاهُ بِغُلَـامٍ حَلِيمٍ} فإنه صريح في أن المبشر به غير ما استوهبه عليه السلام.
والغلام الطارّ الشارب والكهل ضد أو من حين يولد إلى أن يشيب كما في "القاموس".
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/368)
وقال بعض أهل اللغة : الغلام من جاوز العشر وأما من دونها فصبي والحليم من لا يعجل في الأمور ويتحمل المشاق ولا يضطرب عند إصابة المكروه ولا يحركه الغضب بسهولة.
والمعنى بالفارسية : (س مده داديم اورا بفرزندى بردبار يعني ون ببلوغ رسد حليم بود) ولقد جمع فيه بشارات ثلاث بشارة إنه غلام وإنه يبلغ أوان الحلم فإن الصبي لا يوصف بالحلم وإنه يكون حليماً أي : حلم يعادل حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق فاستسلم.
قال الكاشفي : (س خداى تعالى اسماعيل را ازهاجر بوى ارزانى داشت وبحكم سبحانه از زمين شام هاجر يسر آورده را بمكة برد واسماعيل آنجا نشو ونمايافت) {فَلَمَّا بَلَغَ} الغلام {مَعَهُ} مع إبراهيم {السَّعْىَ} الفاء فصيحة معربة عن مقدر أي : فوهبنا له فنشأ فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه ومصالحه ومعه متعلق بالسعي وجاز لأنه ظرف فيكفيه رائحة من الفعل لا يبلغ لاقتضائه بلوغهما معاً حد السعي ولم يكن معاً كذا في "بحر العلوم".
وتخصيصه لأن الأدب أكمل في الرفق والاستصلاح فلا نستسعيه قبل أوانه لأنه استوهبه لذلك وكان له يومئذٍ ثلاث عشرة سنة {قَالَ} إبراهيم : يا بُنَىَّ} (اى سرك من تصغير شفقت است){إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ} قرباناًتعالى أي : أرى هذه الصورة بعينها أو ما هذه عبارته وتأويله.
وقيل : إنه رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فلما أصبح روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله تعالى هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثمة سمي يوم التروية فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فمن ثمة سمي يوم عرفة ثم رأى في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي اليوم يوم النحر {فَانظُرْ مَاذَا} منصوب بقوله : {تَرَى} من الرأي فيما ألقيت إليك وبالفارسية : (س در نكر درين كاره يزى بيني رأى تو ه تقاضا ميكند) فإنما يسأله عما يبديه قلبه ورأيه أي : شيء هل هو الإمضاء أو التوقف فقوله ترى من الرأي الذي يخطر بالبال لا من رؤية العين وأنما شاوره فيه وهو أمر محتوم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله تعالى فتثبت قدمه إن جزع ويأمن إن سلم ويكتسب
473
المثوبة عليه بالانقياد له قبل نزوله وتكون سنة في المشاورة.
فقد قيل لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك {قَالَ يا اأَبَتِ افْعَلْ} (كفت اى دربكن) {مَا تُؤمَرُ} (آنه فرموده شدى بدان) أي : ما تؤمر به فحذف الجار أولاً على القاعدة المطردة ثم حذف العائد إلى الموصول بعد انقلابه منصوباً بإيصاله إلى الفعل أو حذفاً دفعة أو افعل أمرك إضافة المصدر إلى المفعول وتسمية المأمور به أمراً وصيغة المضارع حيث لم يقل ما أمرت للدلالة على أن الأمر متعلق به متوجه إليه مستمر إلى حين الامتثال به ولعله فهم من كلامه أنه رأى ذبحه مأموراً به ولذا قال : ما تؤمر وعلم أن رؤيا الأنبياء حق وإن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/369)
وإنما أمر به في المنام دون اليقظة مع أن غالب وحى الأنبياء أن يكون في اليقظة ليكون مبادرتهما إلى الامتثال أدل على كمال الإنقياد والإخلاص.
قالوا : رؤيا الأنبياء حق من قبيل الوحي فإنه يأتيهم الوحي من الله إيقاظاً إلا لا تنام قلوبهم أبداً ولأنه لطهارة نفوسهم ليس للشيطان عليهم سبيل.
وفي "أسئلة الحكم" لم أمر الله تعالى إبراهيم بذبح ولده في المنام ورؤيا الأنبياء حق وقتل الإنسان بغير حق من أعظم الكبائر.
قيل : أمره في المنام دون اليقظة لأنه ليس شيء أبغض إلى الله من قتل المؤمن {سَتَجِدُنِى} (زود باشدكه يابى مرا) ثم استعان بالله في الصبر على بلائه حيث استثنى فقال : {إِن شَآءَ اللَّهُ} ومن أسند المشيئة إلى الله تعالى والتجأ إليه لم يعطب {مِنَ الصَّـابِرِينَ} على الذبح أو على قضاء الله تعالى قال : الذبيح من الصابرين أدخل نفسه في عداد الصابرين فرق عليه وموسى عليه السلام تفرق بنفسه حيث قال للخضر : {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا} (الكهف : 69) فخرج والتفويض أسلم من التفرد وأوفق لتحصيل المرام ولما كان إسماعيل في مقام التسليم والتفويض إلى الله تعالى وقف وصبر ولما كان موسى في صورة المتعلم ومن شأن المتعلم أن يتعرض لأستاذه بالاعتراض فيما لم يفهمه خرج ولم يصبر.
وقال بعضهم : ظاهر موسى تعرض وباطنه تسليم أيضاً لأنه إنما اعترض على الخضر بغيرة الشرع {فَلَمَّآ أَسْلَمَا} أي : استسلم إبراهيم وابنه لأمر الله وانقادا وخضعا له وبالفارسية : (س هنكام كه كردن نهادند خدايرا) يقال : سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد قرىء بهن جميعاً وأصلها من قولك سلم هذا لفلان إذا خلص له ومعناه سلم أن ينازع فيه وقولهم سلم لأمر الله وأسلم له منقولان منه ومعناهما أخلص نفسهوجعلها سالمة وكذلك معنى استسلم استخلص نفسهتعالى.
وعن قتادة في أسلما أسلم إبراهيم ابنه وإسماعيل نفسه {وَتَلَّه لِلْجَبِينِ} .
قال في "القاموس" : تله صرعه وألقاه على عنقه وخده.
والجبين أحد جانبي الجبهة فللوجه فوق الصدغ جبينان عن يمين الجبهة وشمالها.
قال الراغب : أصل التل المكان المرتفع والتليل العنق وتله للجبين أسقطه على التل أو على تليله.
وقال غيره صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض لمباشرة الأمر بصبر وجلد ليرضيا الرحمن ويحزنا الشيطان وكان ذلك عند الصخرة من منى أو في الموضع المشرف على مسجد منى أو في المنحر الذي ينحر فيه اليوم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
ـ وروي ـ أن إبليس عرض لإبراهيم عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم عرض له عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى وعزم على الذبح ومنه شرع رمي الجمرات في الحج فهو
474
من واجبات الحج يجب بتركه الفدية باتفاق الأئمة.
قال في "التأويلات النجمية" : ومن دقة النظر في رعاية آداب العبودية في حفظ حق الربوبية في القصة أن إسماعيل أمر أباه أن يشد يديه ورجليه لئلا يضطرب إذا مسه ألم الذبح فيعاتب ثم لما هم بذبحه قال : افتح القيد عني فإني أخشى أن أعاتب فيقال لي أمشدود اليد حبيب يطيعني :
ولو بيد الحبيب سقيت سماً
لكان السم من يده يطيب
وقد قيل ضرب الحبيب يطيب :
ازدست تومشت بردهان خوردن
خوشتركه بدست خويش نان خوردن
{وَنَـادَيْنَـاهُ أَن} مفسرة لمفعول ناديناه المقدر أي : ناديناه بلفظ هو قولنا يا اإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ} بالعزم على الإتيان بالمأمور به وترتيب مقدماته وبالفارسية : (بدرستى كه راست كردى خوابى كه ديده بودى).
وفي "شرح الفصوص" للمولى الجامي أي : حققت الصورة المرئية وجعلتها صادقة مطابقة للصورة الحسية الخارجية بالإقدام على الذبح والتعرض لمقدماته وقد قيل إنه أمرّ السكين بقوته على حلقه مراراً فلم يقطع ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين.
آن توكل تو خليلانه ترا
تانبرد تيغت اسماعيل را
فعند ذلك وقع النداء.
وفي الخبر سأل نبينا عليه السلام جبريل : هل أصابك مشقة وتعب في نزولك من السماء قال : نعم في أربعة مواضع :
الأول : حين ألقي إبراهيم في النار كنت تحت العرش قال الله تعالى : أدرك عبدي فأدركته وقلت له : هل لك من حاجة فقال : أما إليك فلا.
والثاني : حين وضع إبراهيم السكين على حلق إسماعيل كنت تحت العرش قال الله تعالى : أدرك عبدي فأدركته طرفة عين فقلبت السكين.
والثالث : حين شجك الكفار وكسروا رباعيتك يوم أحد قال الله تعالى : أدرك دم حبيبي فإنه لو سقط من دمه على الأرض قطرة ما أخرجت منها نباتاً ولا شجراً فقبضت دمك بكفي ثم رميته في الهواء.
والرابع : حين ألقي يوسف في الجب قال الله تعالى : أدرك عبدي فأدركته قبل أن وصل إلى قعر الجب وأخرجت حجراً من أسفل البئر فأجلسته عليه.
(7/370)
وجواب لما محذوف إيذاناً بعدم وفاء التعبير بتفاصيله كأنه قيل : كان ما كان مما لا يحيط به نطاق البيان من استبشارهما وشكرهماتعالى على ما أنعم به عليهما من رفع البلاء بعد حلوله والتوفيق لما لم يوفق أحد لمثله وإظهار فضلهما بذلك على العالمين مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال بعض العارفين : الإنسان مجبول على حب الولد فاقتضت غيرة الخلة ومقام المحبة أن يقطع علاقة القلب عن غيره فأمر بذبح ولده امتحاناً واختباراً له ببذل أحب الأشياء في سبيل الله من غير توقف وإشعاراً للملائكة بأنه خليل الله لا يسعه غير الحق فليس المبتغى منه تحصيل الذبح إنما هو إخلاء السر عنه وترك عادة الطبع.
وقال المولى الجامي : غلبت عليه محبة الحق حتى تبرأ من أبيه في الحق ومن قومه وتصدى لذبح ابنه في سبيل الله وخرج عن جميع ماله مع كثرته المشهورةتعالى.
ـ ورد ـ في الخبر : أنه كان له خمسة آلاف قطيع من الغنم فتعجب الملائكة من كثرة ماله مع خلته العظيمة عند الله فخرج يوماً خلف غنمه وكلاب قطائع الأغنام عليها أطواق الذهب فطلع ملك في صورة آدمي على شرف الوادي فسبح قائلاً : سبوح قدوس رب الملائكة والروح فلما سمع الخليل تسبيح حبيبه أعجبه وشوّقه نحو لقائه فقال : يا إنسان كرر ذكر ربي فلك نصف مالي فسبح
475
بالتسبيح المذكور فقال : كرر تسبيح خالقي فلك جميع أموالي مما ترى من الأغنام والغلمان وكانوا خمسة آلاف غلام فأنصفت الملائكة وسلمت بخلته كما سلمت بخلافة آدم وهذا من جملة الأسرار التي جعل بها أباً ثانياً لنا.
يقول الفقير أغناه الله القدير : سمعت من شيخي قدس سره إنه قال : إن إبراهيم له الإحراز بجميع مراتب التوحيد من الأفعال والصفات والذات وذلك لأن الحجب الكلية ثلاثة هي المال والولد والبدن فتوحيد الأفعال إنما يحصل بالفناء عن المال وتوحيد الصفات بالفناء عن الولد وتوحيد الذات بالفناء عن الجسم والروح فتلك الحجب على الترتيب بمقابلة هذه المقامات من التوحيد فأخذ الله من إبراهيم المال تحقيقاً للتوحيد الأول وابتلاه بذبح الولد تحقيقاً للتوحيد الثاني وبجسمه حين رمى به في نار نمرود تحقيقاً للتوحيد الثالث فظهر بهذا كله فناؤه في الله وبقاؤه بالله حققنا الله وإياكم بحقيقة التوحيد وأوصلنا وإياكم إلى سر التجريد والتفريد {إِنَّا كَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} تعليل لتفريج تلك الكربة عنهما بإحسانهما واحتج به من جوز النسخ قبل وقوع المأمور به فإنه عليه السلام كان مأموراً بالذبح ولم يحصل.
قال في "الأسئلة المقحمة" وهذه القصة حجة على المعتزلة فإن الآية تدل على أن الله تعالى قد يأمر بالشيء ولا يريده فإنه تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده ولم يرد ذلك منه والمعتزلة لا يجوزون اختلاف الأمر والإرادة {إِنْ هَـاذَآ} (بدرستى كه اين كار) {لَهُوَ الْبَلَـاؤُا الْمُبِينُ} الابتلاء البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره أو المحنة البينة الصعوبة إذ لا شيء أصعب منها.
قال البقلى أخبر سبحانه وتعالى أن هذا بلاء في الظاهر ولا يكون بلاء في الباطن لأن في حقيقته بلوغ منازل المشاهدات وشهود أسرار حقائق المكاشفات وهذا من عظائم القربات وأصل البلاء ما يحجبك عن مشاهدة الحق لحظة ولم يقع هذا البلاء بين الله وبين أحبابه قط فالبلاء لهم عين الولاء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال الحريري : البلاء على ثلاثة أوجه على المخالفين نقم وعقوبات وعلى السابقين تمحيص وكفارات وعلى الأولياء والصديقين نوع من الاختبارات.
جاميا دل بغم ودرد نه اندرره عشق
كه نشد مردره آنكس كه نه اين درد كشيد
{وَفَدَيْنَـاهُ بِذِبْحٍ} بما يذبح بدله فيتم به الفعل المأمور وهو فرى الأوداج وإنهار الدم أي : جعلنا الذبح بالكسر اسم لما يذبح فداء له وخلصناه به من الذبح وبالفارسية : (وفدا داديم اسماعيل را بكبشى) والفادي في الحقيقة هو إبراهيم وإنما قال وفديناه لأنه تعالى هو المعطي له والآمر به على التجوز في الفداء أو الإسناد {عَظِيمٍ} أي : عظيم الجثة سمين وهي السنة في الأضاحي كما قال عليه السلام : "عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم" أو عظيم القدر لأنه يفدي به الله نبياً ابن نبي وأي نبي من نسله سيد المرسلين.
وفي "التأويلات النجمية" : إنما سمي الذبح عظيماً لأنه فداء نبيين عظيمين أحدهما أعظم من الآخر وهما إسماعيل ومحمد عليهما السلام لأنه كان محمد في صلب إسماعيل انتهى.
وفي "أسئلة الحكم" : لم عظَّم الله الذبح مع أن البدن أعظم في القربان من الكبش لأنها تنوب عن سبعة الجواب لشدة المناسبة بين الكبش وبين النفس المسلمة الفانية في الله فإنه خلق مستسلماً للذبح فحسب فيكون الكبش في الآخرة صورة الموت يذبح على الصراط كما كان صورة الفناء الكلي والتسليم والانقياد ولذلك المعنى عظمه الله تعالى لأن فضل كل
476
(7/371)
شيء بالمعنى بالصورة إذ فضل الصورة تابع لفضل المعنى بخلاف البدنة فإن المقصود الأعظم منها الركوب وحمل الأثقال عليها قيل : كان ذلك كبشاً من الجنة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إنه الكبش الذي قربه هابيل فتقبل منه وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل وحينئذٍ تكون النار التي نزلت في زمن هابيل لم تأكله بل رفعته إلى السماء وحينئذٍ يكون قول بعضهم فنزلت النار فأكلته محمولاً على التسمح كما في "إنسان العيون".
ويحتمل أن تتجسم الروح كما تتجسم المعاني وتبقى أبداً فلا ينافي أن تأكله النار في زمن هابيل أن يذبحه إبراهيم ثانياً.
وروي أنه هرب من إبراهيم عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقي سنة في الرمي.
وروي أنه رمي الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده كما سبق.
وروي أنه لما ذبحه قال جبريل : "الله أكبر الله أكبر" فقال الذبيح : "لا إله إلا الله والله أكبر" فقال إبراهيم : "الله أكبر ولله الحمد" فبقي سنة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
واعلم أن الذبح ثلاثة : وهو ذبح هابيل ثم ذبح إبراهيم ثم ذبح الموت في صورة الكبش.
وكذا الفداء فإنه فداء إسماعيل بكبش هابيل وفداء المؤمنين يوم القيامة يفدى عن كل مؤمن بكافر يأخذ المؤمن بناصيته فيلقيه في النار وفداء الله عن الحياة الأبدية بالموت يذبح في صورة الكبش على الصراط فيلقى به في النار بشارة لأهل الجنة بالخلود الدائم وتبكيتاً لأهل النار بالعقوبة الدائمة.
ففيه إشارة إلى مراتب التوحيد فذبح هابيل إشارة إلى توحيد الأفعال وذبح يحيى إلى توحيد الصفات وذبح إبراهيم إلى توحيد الذات لأنه مظهر توحيد الذات والفناء الكلي في ذات الله تعالى فذبحه أعظم من كل ذبح وفداؤه أتم من كل فداء.
قالوا : إن الدم إذا تعين على الحاج فلا يسقط عمن تعين عليه ولما تعين ذبح ولد إبراهيم لم يسقط عنه الدم أصلاً ففداه الله تعالى بكبش عظيم حيث جعله بدل إفساد نبي مكرم فحصل الدم وبعد أن وجب فلا يرتفع ولذا من نذر بذبح ولده لزمه شاة عند الحنفية فصارت صورة ولد إبراهيم صورة الكبش يساق إلى الجنة يدخل فيها في أي : صورة شاء فذبحت صورة الكبش ولبست صورة ولد إبراهيم صورة الكبش وهذا سبب العقيقة التي كل إنسان مرهون بعقيقته ولو لم يفد الله بالكبش لصار ذبح الناس واحداً من أبنائهم سنة إلى يوم القيامة.
وتحقيق المقام أنه كان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام لمناسبة واقعة بينهما وهي الاستسلام والانقياد فكان مراد الله الكبش لا ابن إبراهيم فما كان ذلك المرئي عند الله إلا الذبح العظيم متمثلاً في صورة ولده ففدى الحق ولده بالذبح العظيم وهدا كما أن العلم يرى في صورة اللبن فليس ما يرى في حضرة الخيال عين اللبن وحقيقته فلو تجاوز إبراهيم عليه السلام عما رآه في حضرة الخيال إلى المعنى المقصود منه بأن يعبر ذبح ابنه في منامه بذبح الكبش الذي في صورته لما ظهر لأهل الآفاق كمال فنائه وتمام استسلامه وكذلك انقياد ابنه لكن الله سبحانه أراد إراءة استسلامهما وإظهار انقيادهما لأمره تعالى فأخفى عليه تعبير رؤياه وستر المقصود من المنام حتى صدق الرؤيا وفعل ما فعل لتلك الحكمة العلية.
واختلف في أن الذبيح إسماعيل وإسحاق فذهب أكثر المفسرين إلى الأول لوجوه ذكرت في التفاسير ولأن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج ولم يكن
477
إسحاق ثمة.
وفي "فضائل القدس" : كان في السلسلة التي في وسط القبة على صخرة الله درة يتيمة وقرنا كبش إبراهيم وتاج كسرى معلقات فيها أيام عبد الملك بن مروان فلما صارت الخلافة إلى بني هاشم حولوا إلى الكعبة حرسها الله انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
يقول الفقير : هذا يقتضي أن لا تأكل النار الكبش الذي جاء فداء لأن بقاء القرن من موجبات ذلك وأكل النار القربان كان عادة إلهية من لدن آدم إلى زمان نبينا عليه السلام ثم رفع عن قربان هذه الأمة.
اللهم إلا أن يحمل على أحد وجوه : الأول : أن معنى أكل النار القربان إحراقه بحيث يخرج عن الانتفاع به وهذا لا يوجب كون القرنين حريقين بالكلية.
والثاني : أن الذي كان يحرقه النار ليس جثة القربان بمجموعها من القرن إلى القدم بل ثروبه وأطايب لحمه كما روي أن بني إسرائيل كانوا إذا ذبحوا قرباناً وضعوا ثروبه وأطايب لحمه في موضع فيدعو النبي فتأتي نار فتأكله فلا يلزم أن يكون جميع أجزائه مأكولة محروقة.
(7/372)
والثالث : أنه محمول على التسمح كما سبق في قربان هابيل.
فإن قلت : قد صح أن عبد المطلب نذر أن يذبح ولداً إن سهل الله حفر بئر زمزم أو بلغ بنوه عشرة فلما سهل الله فخرج السهم على عبد الله والد رسول الله منعه أخواله ففداه بمائة من الإبل ولذلك سنت الدية بمائة فقد روي أنه فرق لحوم القرابين المذكورة إلى الفقراء ولم تأكلها النار فكيف كان سنة إلهية بين جميع الملل.
قلت : المتقرب إن كان جاهلياً فلا شك أن قربانه غير معتد به وإن كان إسلامياً فلا بد أن يكون في محضر نبي من الأنبياء إذ هو الذي يدعو فتأتي النار كما لا يخفى على من له حظ أو في من علم التفسير والتأويل.
وذهب إلى الثاني بعض أرباب الحقائق والتوفيق بين الروايتن عند التحقيق أن صورة الذبح جرى في الظاهر إلى حقيقة إسماعيل أولاً ثم سري ثانياً إلى حقيقة إسحاق لتحققه أيضاً بمقام الإرث الإبراهيمي من التسليم والتفويض والإنقياد الذي ظهر في صورة الكبش ولهذا السر اشتركا في البشارة الإلهية {فَبَشَّرْنَـاهُ بِغُلَـامٍ حَلِيمٍ} فكان إسماعيل وإسحاق مختلفين في الصورة والتشخص متفقين في المعنى والحقيقة فإن شئت قلت أن الذبيح هو إسماعيل وإن شئت قلت : إنه إسحاق فإنت مصيب في كل من القولين في الحقيقة لما عرفت أن أحدهما عين الآخرة في التحقق بسر إبراهيم عليه وعليهما السلام إلى يوم القيامة {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ} أي : أبقينا على إبراهيم {فِى الاخِرِينَ} من الأمم {سَلَـامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي : هذا الكلام بعينه كما سبق في قصة نوح {كَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} الكاف متعلقة بما بعدها وذلك إشارة إلى إبقاء ذكره الجميل فيما بين الأمم لا إلى ما أشير إليه فيما سبق فلا تكرار أي : مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي المحسنين لأجزاء أدنى منه يعني أن إبراهيم من المحسنين وما فعلناه به مما ذكر مجازاة له على إحسانه {إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} الراسخين في الإيمان على وجه الإيقان والإطمئنان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وفي "التأويلات النجمية" : أي : من عبادنا المخلصين لا من عباد الدنيا والهوى والسوى {وَبَشَّرْنَـاهُ} أي : إبراهيم ، والتبشير بالفارسية : (مده دادن) وهو الإخبار بما يظهر سروراً في المخبر به ومنه تباشير الصبح لما ظهر من أوائل ضوئه {بِإِسْحَـاقَ} من سارة رضي الله عنها {نَبِيًّا مِّنَ الصَّـالِحِينَ} أي : مقضياً بنبوته مقدراً كونه من الصالحين
478
وبهذا الاعتبار وقعا حالين ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة فإن وجود ذي الحال ليس بشرط وإنما الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار معنى الحال.
وفي "التأويلات النجمية" : {نَبِيًّا} أي : ملهماً من الحق تعالى كما قال بعضهم حدثني قلبي عن ربي {مِنَ الصَّـالِحِينَ} أي : من المستعدين لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة انتهى.
وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه وإيماء إلى أنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الإطلاق وقد سبق الكلام المشبع فيه في أواخر سورة يوسف {وَبَـارَكْنَا عَلَيْهِ} على إبراهيم في أولاده ، وبالفارسية : (وبركت داديم بر ابراهيم) {وَعَلَى إِسْحَـاقَ} بأن أخرجنا من صلبه أنبياء من بني إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب أو أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} في عمله أو لنفسه بالإيمان والطاعة {وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} بالكفر والمعاصي {مُّبِينٌ} ظاهر ظلمه.
وفيه تنبيه على أن الظلم في أولادها وذريتهما لا يعود عليهما بعيب ولا نقيصة وأن المرء يجازي بما صدر من نفسه طاعة أو معصية لا بما صدر من أصله وفرعه كما قال : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام : 164) وأن النسب لا تأثير له في الصلاح والفساد والطاعة والعصيان فقد يلد الصالح العاصي والمؤمن الكافر وبالعكس ولو كان ذلك بحسب الطبيبعة لم يتغير ولم يتخلف.
وفيه قطع لأطماع اليهود المفاخرين بكونهم أولاد الأنبياء وفي الحديث "يا بني هاشم لا تأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم" الواو في تأتوني واو الصرف ولهذا نصب وتأتوني حذف نون تأتون علامة للنصب وهذه النون نون الوقاية أي : لا يكون أعمال الناس وأنسابكم مجتمعين فائتوني بالأعمال والغرض تقبيح افتخارهم لديه عليه السلام بالأنساب حين يأتي الناس بالأعمال.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
أتفخر باتصالك من عليّ
وأصل البولة الماء القراح
وليس بنافع نسب زكي
تدنسه صنائعه القباح
وقال بعضهم :
وما ينفع الأصل من هاشم
إذا كانت النفس من باهله
وقبيلة باهلة عرفوا بالدناءة لأنهم كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية ويأكلون نقي عظام الميتة :
كر بنكرى باصل همه بنى آدمند
زان اعتبار جمله عزيز ومكرمند
بيش اندناس صورت نسناس سيرتان
خلقي كه آدمند بخلق وكرم كمند
(7/373)
وفي المثل : "ذهب الناس وما بقي إلا النسناس" وهم الذين يتشبهون بالناس وليسوا بالناس أو هم خلق في صورة الناس وقال بعضهم :
أصل را اعتبار ندان نيست
روى همو ورد خندان نيست
مى زغوره شود شكر ازنى
عسل از نحل حاصلست بقى
فعلى العاقل ترك الاغترار بالأنساب والأحساب والاجتهاد فيما ينفعه يوم الحساب.
وكان زين العابدين رضي الله عنه يقول : اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوامع العيون علانيتي وتقبح سريرتي ومن الله التوفيق {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَـارُونَ} المنان في صفة الله تعالى المعطي ابتداء من غير أن يطلب عوضاً يقال منّ عليه منا إذا أعطاه شيئاً ومنّ عليه منة إذا أعد
479
نعمته عليه وامتن وهو مذموم من الخلق لا من الحق كما قال تعالى : {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} والمعنى وبالله لقد أنعمنا على موسى وأخيه هارون بالنبوة وغيرها من النعم الدينية والدنيوية {وَنَجَّيْنَـاهُمَا وَقَوْمَهُمَا} وهم بنو إسرائيل {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} من تعذيب فرعون وأذى قومه القبط وقد سبق معنى الكرب في هذه السورة ولما كانت النتيجة عبارة عن التخليص من المكروه وهي لا تقتضي الغلبة أتبعها بقوله : {وَنَصَرْنَـاهُمْ} أي : موسى وهارون وقومهما {فَكَانُوا} بسبب ذلك {هُمُ} فحسب {الْغَـالِبِينَ} على عدوهم فرعون وقومه غلبة لا غاية وراءها بعد أن كان قومهما في أسرهم وقسرهم مقهورين تحت أيديهم.
وفيه إشارة إلى تنجية موسى القلب وهارون السر من غرق بحر الدنيا وماء شهواتها ونصرتهما مع صفاتهما على فرعون النفس وصفاتها فليصبر المجاهدون على أنواع البلاء إلى أن تظهر آثار الولاء فإن آخر الليل ظهور النهار وغاية الخريف والشتاء طلوع الأزهار والأنوار ، قال الحافظ :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
ه جورها كه كشيدند بلبلان ازدى
ببوى آنكه دكر ثوبهار باز آمد
{وَءَاتَيْنَـاهُمَا} بعد ذلك المذكور من النتيجة {الْكِتَـابَ الْمُسْتَبِينَ} أي : البيلغ والمتناهي في البيان والتفصيل وهو التوراة فإنه كتاب مشتمل على جميع العلوم التي يحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا قال تعالى : {إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاـاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} .
فاستبان مبالغة بان بمعنى ظهر ووضح وجعل الكتاب بالغاً في بيانه من حيث أنه لكماله في بيان الأحكام وتمييز الحلال عن الحرام كأنه يطلب من نفسه أن يبينها ويحمل نفسه على ذلك وقيل : هذه السين كهي في قوله يستسخرون فإن بان واستبان وتبين واحد نحو عجل واستعجل وتعجل فيكون معناه الكتاب المبين {وَهَدَيْنَـاهُمَا} بذلك الكتاب {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الموصل إلى الحق والصواب بما فيه من تفاصيل الشرائع وتفاريع الأحكام.
وفي "كشف الأسرار" : وهديناهما دين الله الإسلام أي : ثبتناهما عليه واستعير الصراط المستقيم من معناه الحقيقي وهو الطريق المستوي للدين الحق وهو ملة الإسلام وهذا أمر تحقق عقلاً فقد نقل اللفظ إلى أمر معلوم من شأنه أن ينص عليه ويشار إليه إشارة عقلية ولأجل تحققه سميت هذه الاستعارة بالتحقيقية.
وفيه إشارة إلى إيتاء العلوم الحقيقية والإلهامات الربانية والهداية بذلك إلى الحضرة الواحدية والأحدية {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاخِرِينَ * سَلَـامٌ عَلَى مُوسَى وَهَـارُونَ} أي : أبقينا عليهما فيما بين الأمم الآخرين هذا الذكر الجميل والثناء الجزيل فهم يسلمون عليهما يقولون سلام على موسى وهارون ويدعون لهما دعاء دائماً إلى يوم الذين {إِنَّا كَذَالِكَ} أي : مثل هذا الجزاء الكامل {نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} الذين هما من جملتهم لاجزاء قاصراً عنه {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} يشير إلى أن طريق الإحسان هو الإيمان فالإيمان هو مرتبة الغيب والإحسان هو مرتبة المشاهدة ولما كان الإيمان ينشأ عن المعرفة كان الأصل معرفة الله والجري على مقتضى العلم فالإنسان من حيث ما يتغذى نبات ومن حيث ما يحس ويتحرك حيوان ومن حيث الصورة التخطيطية فكصورة في جدار وإنما فضيلته بالنطق والعلم والفهم وسائر الكمالات البشرية وفي الحديث : "ما فضلكم
480
أبو بكر بكثير صوم ولا صلاة ولكن بسرّ وقر في صدره" ومن آثار هذا السر الموقور ثباته يوم موت الرسول عليه السلام وعدم تغيره كسائر الأصحاب حيث صعد المنبر وقرأ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (آل عمران : 144) الآية فكان إيمانه أقوى وثباته أوفى ومشاهدته أعلى {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي : إلى بني إسرائيل وهو الياس بن ياسين بن شير بن فخاص بن العيزار بن هارون بن عمران وهو من سبط هارون أخي موسى بعث بعد موسى هذا هو المشهور وعليه الجمهور.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/374)
ودل عليه ما في بعض المعتبرات أن الموجود من الأنبياء بأبدانهم العنصرية أربعة : اثنان في السماء إدريس وعيسى واثنان في الأرض الخضر وإلياس فإدريس وإلياس اثنان من حيث الهوية والتشخص.
وقال جماعة من العلماء منهم أحمد بن حنبل : إن إلياس هو إدريس أي : أخنوخ بن متوشلخ بن لمك وكان قبل نوح كما قالوا خمسة من الأنبياء لهم إسمان إلياس هو إدريس ويعقوب هو إسرائيل ويونس هو ذو النون وعيسى هو المسيح ومحمد هو أحمد صلوات الله عليهم أجمعين ووافقهم في ذلك بعض أكابر المكاشفين فعلى هذا معناه أن هوية إدريس مع كونها قائمة في أنيته وصورته في السماء الرابعة ظهرت وتعينت في أنية إلياس الباقي إلى الآن فتكون من حيث العين والحقيقة واحدة ومن حيث التعين الصوري اثنتين كنحو جبرائيل وميكائيل وعزرائيل يظهرون في الآن الواحد في مائة ألف مكان بصور شتى كلها قائمة بهم وكذلك أرواح الكمل كما يروى عن قضيب البان الموصلي قدس سره أنه كان يرى في زمان واحد في مجالس متعددة مشتغلاً في كل بأمر غير ما في الآخر وليس معناه أن العين خلع الصورة الإدريسية ولبس الصورة الإلياسية وإلا لكان قولاً بالتناسخ {إِذْ قَالَ} أي : اذكر وقت قوله : {لِقَوْمِه أَلا تَتَّقُونَ} أي : عذاب الله تعالى وبالفارسية : (آيانمى ترسيد از عذاب الهي) {أَتَدْعُونَ بَعْلا} أتعبدونه أي : لا تعبدوه ولا تطلبوا منه الخير.
والبعل هو الذكر من الزوجين ولما تصور من الرجل استعلاء على المرأة فجعل سائسها والقائم عليها شبه كل مستعل على غيره به فسمي باسمه فسمى العرب معبودهم الذي يتقربون به إلى الله بعلا لاعتقادهم ذلك.
فالبعل اسم صنم كان لأهل بك من الشام وهو البلد المعروف اليوم ببعلبك وكان من ذهب طوله عشرون ذراعاً وله أربعة أوجه وفي عينيه ياقوتتان كبيرتان فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه فكان الشيطان يدخل جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَـالِقِينَ} وتتركون عبادته {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ} بالنصب على البدلية من أحسن الخالقين والتعرض لذكر ربوبيته تعالى لآبائهم للإشعار ببطلان آرائهم أيضاً.
ثم إن الخلق حقيقة في الاختراع والإنشاء والإبداع ويستعمل أيضاً بمعنى التقدير والتصوير وهو المراد به ههنا لأن الخلق بمعنى الاختراع لا يتصور من غير الله حتى يكون هو أحسنهم كما قال الراغب.
إن قيل قوله : {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} (المؤمنون : 14) يدل على أنه يصح أن يوصف غيره بالخلق.
قيل ذلك معناه أحسن المقدرين أو يكون على تقدير ما كانوا يعبدون ويزعمون أن غير الله يبدع فكأنه قيل : وهب أن ههنا مبدعين وموجودين فالله تعالى أحسنهم إيجاداً على ما يعتقدون كما قال خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وعبد الخالق عند الصوفية المتحققين
481
هو الذي يقدر الأشياء على وفق مراد الحق لتجليه له بوصف الخلق والتقدير فلا يقدر إلا بتقديره له تعالى.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : إذا بلغ العبد في مجاهدة نفسه بطريق الرياضة في سياستها وسياسة الخلق مبلغاً ينفرد فيه باستنباط أمور لم يسبق إليها ويقدر مع ذلك على فعلها والترغيب فيها كان كالمخترع لما لم يكن له وجود قبل إذ يقال لواضع الشطرنج إنه الذي وضعه واخترعه حيث وضع ما لم يسبق إليه انتهى.
(7/375)
يقول الفقير : إن بعض الكمل كانوا يتركون في مكانهم بدلاً منهم على صورتهم وشكلهم ويكونون في أكنة في آن واحد كما روي عن قضيب البان فيما سبق فهو من أسرار هذا المقام لأنه إنما يقدر عليه بعد المظهرية للاسم الخالق والوصول إلى سره فاعرف واكتم وصن وصم {فَكَذَّبُوهُ} أي : إلياس {فَإِنَّهُمْ} بسبب تكذيبهم إياه {لَمُحْضَرُونَ} لمدخلون في النار والعذاب لا يغيبون منها ولا يخفف عنهم كقوله : {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر عرفاً {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء متصل من فاعل كذبوه.
وفيه دلالة على أن من قومه من لم يكذبه ولم يحضر في العذاب وهم الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعمل بموجب الدعوة والإرشاد {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ} وأبقينا على إلياس {فِى الاخِرِينَ} من الأمم {سَلَـامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} أي : هذا الكلام بعينه فيدعون له ويثنون عليه إلى يوم القيامة وهو لغة في إلياس كسيناء في سينين فإن كل واحد من طور سيناء وطور سينين بمعنى الآخر زيد في أحدهما الياء والنون فكذا إلياس وإلياسين وقرىء بإضافة آل إلى ياسين لأنهما في المصحف مفصولان فيكون ياسين أبا إلياس والآل هو نفس الياس {إِنَّا كَذَالِكَ} مثل هذا الجزاء الكامل {نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} إحساناً مطلاقاً ومن جملتهم إلياس {أَنَّهُ} لا شبهة إن الضمير لإلياس فيكون إلياس وإلياسين شخصاً واحداً وليس الياسين جمع إلياس كما دل عليه ما قبله من قوله : {سَلَـامٌ عَلَى نُوحٍ} (الصافات : 79) {سَلَـامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الصافات : 109) {سَلَـامٌ عَلَى مُوسَى وَهَـارُونَ} (الصافات : 120) {مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} .
قال الكاشفي : (ايمان اسميست من جميع كمالات صوري ومعنوي ونام بندكى بتشريفيست خاص ازبراى اهل اختصاص) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
اكر بنده خويش خوانى مرا
به از مملكت جاودانى مرا
شهانى كه با بخت فرخنده اند
همه بندكان ترا بنده اند
ـ روي ـ أنه بعث بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون ثم كالب بن يوقنا ثم حزقيل ثم لما قبض الله حزقيل النبي عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد الله وعبدوا الأوثان وكانت الأنبياء من بني إسرائيل يبعثون بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة وبنو إسرائيل كانوا متفرقين بأرض الشام وكان سبط منهم حلوا ببعلبك ونواحيها من أرض الشام وهم السبط الذين كان منهم الناس فلما أشركوا وعبدوا الصنم المذكور وتركوا العمل بالتوراة بعث الله إلياس إليهم نبياً وتبعه يسع بن أخطوب وآمن به وكان على سبط إلياس ملك اسمه أجب وكان له امرأة يقال لها أزبيل يستخلفها على رعيته إذا غاب عنهم وكانت تبرز للناس وتقضي بينهم وكانت قتالة للأنبياء والصالحين يقال : إنها هي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام وقد تزوجت سبعة من ملوك بني إسرائيل وقتلتهم كلهم غيلة وكانت معمرة يقال إنها ولدت سبعين ولداً وكان لزوجها
482
أجب جار صالح يقال له مزدكى وكانت له جنينة يعيش منها في جنب قصرهما فحسدته في ذلك حتى إذا خرج الملك إلى سفر بعيد أمرت جمعاً من الناس أن يشهدوا على مزدكى أنه سب زوجها أجب فأطاعوها فيه وكان في حكم ذلك الزمان يحل قتل من سبب الملك إذا قامت عليه البينة فأحضرته فقالت له : بلغني أنك شتمت الملك فأنكر فأحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور فأمرت بقتله وأخذت جنينة غصباً ثم لما قدم الملك أوحى الله إلى إلياس أن يخبرهما بأن الله قد غضب عليهما لوليه مزدكى حين قتلاه ظلماً وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ولم يردا الجنينة على ورثة مزدكى أن يهلكهما في جوف الجنينة ثم يدعهما جيفتين ملقاتين حتى تتعرى عظامهما من لحومهما فلما سمعا ذلك اشتد غضبهما إلى الياس ولم يظهر منهما ولا من قومهما إلا المخالفة والعصيان والإصرار إلى أن همّ الملك بتعذيب إلياس وقتله فلما أحس إلياس بالشر خرج من بينهم لأن الفرار مما لا يطاق من سسن المرسلين وارتقى إلى أصعب جبل وأرفعه فدخل مغارة فيه يقال أنه بقي فيها سبع سنين يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم في طلبه قد وضعوا عليه العيون والله تعالى ستره كما وقع مثله لأصحاب الكهف فلما طال عصيانهم دعا عليهم بالقحط والجوع سبع سنين فقال الله تعالى : يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين ولكن أعطيك مرادك ثلاث سنين فقحطوا بتلك المدة فلم يقلعهم ذلك عن الشرك ولما رأى ذلك منهم إلياس دعا الله تعالى بأن يريحه منهم فقيل له : اخرج يوم كذا إلى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه فخرج إلياس في ذلك اليوم ومعه خادمه أليسع فوصل الموضع الذي أمر فاستقبله فرس من نار وجميع الآلة من النار حتى وقف بين يديه فركب عليه فانطلق به الفرس إلى جانب السماء فناداه أليسع ما تأمرني فقذف إليه إلياس بكسائه من الجو الأعلى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/376)
يعني : (كه ترا خليفه خويش كردم بربنى اسرائيل) ورفع الله إلياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً.
وقال بعضهم : كان قد مرض وأحس بالموت فبكى فأوحى الله إليه لِمَ تبكي؟ أحرصاً على الدنيا أم جزعاً من الموت أم خوفاً من النار؟ قال : لا ولكن وعزتك وجلال إنما جزعي كيف يحمدك الحامدون بعدي ولا أحمدك ويذكرك الذاكرون بعدي ولا أذكرك ويصوم الصائمون بعدي ولا أصوم ويصلي المصلون بعدي ولا أصلي فقيل له : يا إلياس لأوخرنك إلى وقت لا يذكرني ذاكر يعني يوم القيامة وسلط الله على قومه عدواً لهم من حيث لا يشعرون فأهلكم وقتل أجب وامرأته أزبيل في جنينة مزدكى فلم تزل جيفتاهما ملقاتين فيها إلى أن بليت لحومهما ورمت عظامهما ونبأ الله أليسع وبعثه إلى بني إسرائيل وأيده فآمنت به بنو اسرائيل وكانوا يعظمونه ويطيعونه وحكم الله فيهم قائم إلى أن فارقهم أليسع.
ـ روي ـ أن الياس والخضر عليهما السلام يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان الموسم في كل عام وهما آخر من يموت من بني آدم.
وقيل إن إلياس موكل بالفيافي جمع فيفاة بمعنى الصحراء والخضر موكل بالبحار وذكر أنهما يقولان عند افتراقهما من الموسم ما شاء الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله.
483
ما شاء الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله.
ما شاء الله ما شاء الله ما يكون من نعمة فمن الله.
ما شاء الله ما شاء الله توكلنا على الله حسبنا الله ونعم الوكيل (محمد بن أحمد العابد كويد در منسجد اقصى نشسته بودم روز آزينه بعد ازنماز ديكركه دو مرد ديدم يكى برصفت وهيئت ما وآن ديكر شخصى عظيم بود قدى بلند ويشانى فراخ هن صدر وذراعين اين شخص عظيم ازمن دورنشست وآن يركه برصفت وقدما بود فرا يش آمد وسلام كرد جواب سلام دادم وكفتم "من أنت رحمك الله" توكيستى وآنكه ازما دور نشسته است كيست كفت من خضرم واو برادرم الياس از كفتار ايشان دردل من هراس آمد وبلرزيدم خضر كفت "لا بأس عليك نحن نحبك" ماترا دوست داريم ه انديشه برى.
آنكه كفت هركه روز آزينه نماز ديكر بكزارد وروى بسوى قبله كند رتا بوقت فروشدن آفتاب همى كويد "يا الله يا رحمن" رب العزة دعاى وى مستجاب كرداند وحاجت وى روا كند كفتم "آنستني آنسك الله بذكره" كفتم طعام توه باشد كفت كرفس وكماءة كفتم طعام الياس ه باشد كفت دو رغيف خوارى هرشب وقت افطار كفتم مقام او كجا باشد كفت در جزاثر دريا كفتم شنماكى فراهم آييد كفت ون يكى از اولياء الله از دنيا بيرون شود هردو بروى نماز كنيم ودر موسم عرفات فراهم آييم وبعد از فراغ مناسك او موى من بازكند ومن موى اوباز كنم كفتم اولياء الله را همه شناسى كفت قومى معدودرا شناسم كفت ون رسول خدا صلوات الله عليه ازدنيا بيرون شد زمين بالله ناليدكه "بقيت لا يمشي عليّ نبي إلى يوم القيامة" رب العالمين كفت من از اين امت مردانى را بديدارم دلها انبيا باشد.
آنكه خضر برخاست تارود من تيز برخاستم تاباوى باشم كفت توبا من نتوانى بود من هر روز نماز بامداد بمكه كزارم در مسجد حرام وهمنان نشينم نزديك ركن شامى در حجر تا آفتاب برآيد آنكه طواف كنم ودو ركعت خلف المقام بكزارم ونماز يشين بمدينه مصطفى عليه السلام كزارم ونماز شام بطورسينا ونماز خفتن بر سد ذو القرنين وهمه شب آنجا اس دارم ون وقت صبح باشد نماز بامداد بامكه برم درمسجد حرام)
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{وَإِنَّ لُوطًا} هو لوط بن هاران أخي إبراهيم الخليل عليه السلام {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى قومه وهم أهل سدوم بالدال المهملة فكذبوه وأرادوا إهلاكه فقال : رب نجني وأهلي مما يعملون فنجاهم الله وأهله فذلك قوله تعالى {إِذْ نَجَّيْنَـاهُ} أي : اذكر وقت تنجيتنا إياه ولا يتعلق بما قبله لأنه لم يرسل إذ نجى {وَأَهْلَه أَجْمَعِينَ} (وهمه اهل بيت اورا ازدختران وغير ايشان) {إِلا عَجُوزًا} هي امرأته الخائنة واهلة كانت كافرة وكان نكاح الوثنيات والإقامة عليهن جائزاً في شريعته وسميت المرأة المسنة عجوزاً لعجزها عن كثير من الأمور كما في "المفردات".
{فِى الْغَـابِرِينَ} صفة لها بمعنى إلا عجوزاً مقدراً غبوراً لأن الغبور لم يكن صفتها وقت تنجيتهم فلم يكن بد من تقدير مقدر أي : الباقين في العذاب والهلاك وقيل للباقي غابر تصوراً بتخلف الغبار عن الذي يعدو فيخلفه أو الماضين الهالكين وقيل غابر تصورا لمضي الغبار عن الأرض.
والمعنى بالفارسية : (مكر يره زنى كه زن اوبوده اواقرار كرفت در بازار ماندكان بعذاب وبالوط همراهى نكرد) قال الشيخ سعدي :
484
بابدان يار كشت همسر لوط
خاندان نبوتش كم شد
سك اصحاب كهف روزى ند
ى نيكان كرفت ومردم شد
(7/377)
{ثُمَّ دَمَّرْنَا} التدمير إدخال الهلاك على الشيء أي : أهلكنا {الاخِرِينَ} بالائتفاك بهم وإمطار الحجارة عليهم فإنه تعالى لم يرض بالائتفاك حتى اتبعه مطراً من حجارة وبالفارسية : (س هلاج كردم ديكرانرا از قوم وى وديار ايشان وقتى زير وزبر ساختيم) فإن في ذلك شواهد على جلية أمره وكونه من جملة المرسلين وتقدم ذكر قصته في سورة هود والحجر فارجع {وَإِنَّكُمْ} يا أهل مكة {لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِم} أي : على ديار قوم لوط المهلكين ومنازلهم في متاجركم إلى الشام وتشاهدون آثار هلاكهم فإن سدوم في طريق الشام وهو قوله تعالى : {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} (الحجر : 76) {مُّصْبِحِينَ} حال من فاعل تمرون أي : حال كونكم داخلين في الصباح {وَبِالَّيْلِ} أي : وملتبسين بالليل أي : مساء ولعلها وقعت بقرب منزل يمر به المرتحل عنه صباحاً والقاصد له مساء ويجوز أن يكون المعنى نهاراً وليلاً على أن يعمم المرور للأوقات كلها من الليل والنهار ولا يخصص بوقتي الصباح والمساء {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي : أفتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به وتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فإن من قدر على إهلاك أهل سدوم واستئصالهم بسبب كفرهم وتكذيبهم كان قادراً على إهلاك كفار مكة واستئصالهم لاتحاد السبب ورحجانه لأنهم أكفر من هؤلاء وأكذب كما يشهد به قوله : {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أولئكم} (القمر : 43) وكان النبي عليه السلام يقول لأبي جهل "إن هذا أعتى على الله من فرعون".
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
فعلى العاقل أن يعتبر ويؤمن بوحدانية الحق ويرجع إلى أبواب فضله وكرمه ورحمته ويؤدب عجوز نفسه الأمارة ويحملها على التسليم والامتثال كي لا تهلك مع أهل القهر والجلال.
قال بعض الكبار : لا بد من نصرة لكل داخل طريق أهل الله عز وجل ثم إذا حصلت فإما أن يعقبها رجوع إلى الحال الأول من العبادة والاجتهاد وهم أهل العناية الإلهية وإما أن لا يعقبها رجوع فلا يفلح بعد ذلك أبداً انتهى أي : فيكون كالمصر على ذنبه ابتداء وانتهاء.
ثم إن الله تعالى ركب العقل في الوجود الإنساني ومن شأنه أن يرى ويختار أبداً الأصلح والأفضل في العواقب وإن كان على النفس في المبدأ مؤونة ومشقة وأما الهوى فهو على ضد ذلك فإنه يؤثر ما يدفع به المؤذي في الوقت وإن كان يعقبه مضرة من غير نظر منه في العواقب كالصبي الرمد الذي يؤثر أكل الحلاوات واللعب في الشمس على أكل الاهليلج والحجامة ولهذا قال النبي عليه السلام : "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات".
تو بركره توسنى در كمر
نكر تانيد زحكم توسر
اكر الهنك از كفت در كسيخت
تن خويشتن كشت وخونت بريخت
ففيه إشارة إلى فكر العواقب.
وجاء في الأمثال (وقتى زنبورى مورى را ديدكه بهزار حيله دانه بخانه ميكشيد ودران رنج بسيارى ديد اورا كفت اى مور اين ه رنجست كه برخود نهاده واين ه بارست كه اختيار كرده بيا مطعم ومشرب من ببين كه هر طعام كه
485
لطيف ولذيذ ترست تا ازمن زياده نيايد بادشاهان نرسد هر آنجاكه خواهم كزينم وخورم درين سخن بودكه برريد وبدكان قصابى برمسلوخى نشست قصاب كاردكه دردست داشت بران زنبور مغرور زد ودوياره كرد وبرزمين انداخت ومور بيامد واى كشان اورامى برد وكفت "رب شهوة ساعة أورثت صاحبها حزناً طويلاً" زنبور كفت مرا بجايى مبركه نخواهم مور كفت هركه از روى حرص وشهوت جايى نشيندكه خواهد بجايى كشندش كه نخواهد) نسأل الله أن يوفقنا لإصلاح الطبيعة والنفس ويجعل يومنا خيراً من الإمس في التوجه إلى جنابه والرجوع إلى بابه إنه هادى القلوب الراجعة في الأوقات الجامعة ومنه المدد كل يوم لكل قوم {وَإِنَّ يُونُسَ} ابن متى بالتشديد وهو اسم أبيه أو أمه.
وفي "كشف الأسرار" اسم أبيه متى واسم أمه تنجيس كان يونس من أولاد هود كما في "أنوار المشارق" وهو ذو النون وصاحب الحوت لأنه التقمه.
وأما ذو النون المصري من أولياء هذه الأمة فقيل : إنما سمي به لأنه ركب سفينة مع جماعة فقد واحد منهم ياقوتاً فلم يجده فآل رآيهم إلى أن هذا الرجل الغريب قد سرقه فعوتب عليه فأنكر الشيخ فحلف فلم يصدقوه بل أصروا على أنه ليس إلا فيه فلما اضطر توجه ساعة فأتى جميع الحوت من البحر في فيها يواقيت فلما رأوا ذلك اعتذروا عن فعلتهم فقام وذهب إلى البحر ولم يغرق بإذن الله تعالى فسمي ذا النون.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى بقية ثمود وهم أهل نينوى بكسر النون الأولى وفتح الثانية وقيل بضمها قرية على شاطىء دجلة في أرض الموصل.(7/378)
وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر قد اجتمعت بجماعة من قوم يونس سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالأندلس حيث كنت فيه وقست أثر رجل واحد منهم في الأرض فرأيت طول قدمه ثلاثة أشبار وثلثي شبر انتهى.
ولما بعث إليهم دعاهم إلى التوحيد أربعين سنة وكانوا يعبدون الأصنام فكذبوه وأصروا على ذلك فخرج من أظهرهم وأوعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث أو بعد أربعين ليلة ثم إن قومه لما أتاهم إمارات العذاب بأن أطبقت السماء غيماً أسود يدخن دخاناً شديداً ثم يهبط حتى يغشى مدنيتهم حتى صار بينهم وبين العذاب قدر ميل أخلصوا الله تعالى بالدعاء والتضرع بأن فرقوا بين الأمهات والأطفال وبين الاتن والجحوش وبين البقر والعجول وبين الإبل والفصلان وبين الضأن والحملان وبين الخيل والإفلاء ولبسوا المسوح ثم خرجوا إلى الصحراء متضرعين ومستغفرين حتى ارتفع الضجيج إلى السماء فصرف الله عنهم العذاب وقبل توبتهم ويونس ينتظر هلاكهم فلما أمسى سأل محتطباً مر بقومه كيف كان حالهم فقال : هم سالمون وبخير وعافية وحدثه بما صنعوا فقال : لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم وخرج من ديارهم مستنكفاً خجلاً منهم ولم ينتظر الوحي وتوجه إلى جانب البحر وذلك قوله تعالى : {إِذْ أَبَقَ} أي : أذكر وقت إباقه أي : هربه وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه بطريق المجاز تصويراً لقبحه فإنه عبد الله فكيف يفر بغير الإذن وإلى أين يفر والله محيط به وقد صح أنه لا يقبل فرض الآبق ولا نفله حتى يرجع فإذا كان الأدنى مأخوذاً بزلة فكيف الأعلى.
{إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي : المملوء من الناس
486
والدواب والمتاع ويقال المجهز الذي فرغ من جهازه يقال شحن السفينة ملأها كما في "القاموس".
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
ـ روي ـ أن يونس لما دخل السفينة وتوسطت البحر احتبست عن الجري ووقفت فقال الملاحون : هنا عبد آبق من سيده وهذا رسم السفينة إذا كان فيها عبد آبق لا تجرى.
وقال الإمام فقال الملاحون : إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر وقال التجار : قد جربنا مثل هذا فإذا رأينا نقترع فمن خرج سهمه نرميه في البحر لأن غرق الواحد خير من غرق الكل فاقترعوا ثلاث مرات فخرجت القرعة على يونس في كل مرة وذلك قوله تعالى : {فَسَاهَمَ} المساهمة المقارعة يعني : (باكسى قرعه زدن) والسهم ما يرمي به من القداح ونحوه.
والمعنى فقارع أهل الفلك من الآبق وألقوا السهام على وجه القرعة.
والمفهوم من تفسير الكاشفي أن الضمير إلى يونس يعني : (يونس قرعه زد باهل كشتى سه نوبت) {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} فصار من المغلوبين بالقرعة وأصله المزلق عن مقام الظفر والغلبة.
قال في "القاموس" : دحضت رجله زلقت والشمس زالت والحجة دحوضاً بطلت انتهى.
فالإدحاض بالفارسية : (باطل كردن حجت) وحين خرجت القرعة على يونس قال : أنا العبد الآبق أو يا هؤلاء أنا والله العاصي فتلفف في كسائه ثم قام على رأس السفينة فرمى بنفسه في البحر يعني : (يونس كليم در سرخود كشيده خود رادربحر افكند) {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} الإلتقام الابتلاع يعني : (لقمه كردن وفرو بردن) يقال لقمت اللقمة والتقمتها إذا ابتلعتها أي : فابتلعه السمك العظيم.
قال الكاشفي : (حق تعالى وحي فرستاد بما هي كه در آخرين ديارها باشد تايش كشتى رمده دهن بازكرده).
وقال في "كشف الأسرار" : فصادفه حوت جاء من قبل اليمن فابتلعه فسفل به إلى قرار الأرضين حتى سمع تسبيح الحصى {وَهُوَ مُلِيمٌ} حال من مفعول التقمه أي : داخل في الملامة ومعنى دخوله في الملامة كونه يلام سواء استحق اللوم أم لا وأتى بما يلام عليه فيكون المليم بمعنى من يستحق اللوم سواء لاموه أم لا يقال : ألام الرجل إذا أتى بما يلام عليه أو يلوم نفسه يعني : (واوملامت كننده بود نفس خودراكه را ازقوم كريختى) فالهمزة على هذا للتعدية لا على التقديرين الأولين.
(7/379)
ـ روي ـ أن الله تعالى أوحى إلى السمكة أني لم أجعله لك رزقاً ولكن جعلت بطنك له وعاء فلا تكسري منه عظماً ولا تقطعي منه وصلاً فمكث في بطن الحوت أربعين ليلة كما دل عليه كونه منبوذاً على الساحل وهو سقيم.
قال الكاشفي : (سه روز ياهفت روز اشهر آنست كه هل روز درشكم ماهى بود وآن ماهى هفت دريارا بكشت وحق سبحانه وتعالى كوشت ويوست اورا نازك وصافى ساخته بود ون آبكينه تايونس عجائب وغرائب بحر را مشاهده كرد ويوسته بذكر حق سبحانه وتعالى اشتغال داشت) {فَلَوْلا أَنَّهُ} (س اكرنه آنست كه يونس) {كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} في بطن الحوت وهو قوله : {أَن لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} (الأنبياء : 87) أو من الذاكرين الله كثيراً بالتسبيح مدّة عمره.
وعن سهل من القائمين بحقوق الله قبل البلاء ذكراً أو صلاة أو غيرهما {لَلَبِثَ} لمكث حياً أو ميتاً {فِى بَطْنِهِ} أي : في بطن الحوت {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يعني : (تاآن روز كه خلق را برانكيزند از قبور).
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال في "كشف الأسرار" :
487
فيه ثلاثة أوجه : أحدها : يبقى هو والحوت إلى يوم البعث.
والثاني : يموت الحوت ويبقى هو في بطنه.
والثالث : يموتان ثم يحشر يونس من بطنه فيكون بطن الحوت قبراً له إلى يوم القيامة فلم يلبث لكونه من المسبحين ، وفيه حث على إكثار الذكر وتعظيم لشأنه وإشارة إلى أن خلاص يونس القلب إذا التقمه حوت النفس لا يكون إلا بملازمة ذكر الله ومن أقبل عليه في السراء أخذ بيده عند الضراء والعمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر وإذا صرع يجد متكئاً.
وفي الوسيط كان يونس عبداً صالحاً ذاكراًفلما وقع في بطن الحوت قال الله : {فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} الآية وإن فرعون كان عبداً طاغياً ناسياً ذكر الله {حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّه لا إله إِلا الَّذِى ءَامَنَتْ بِه بَنُوا إِسْرَاءِيلَ} (يونس : 90) قال الله تعالى : {ءَآلَْاـانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} (يونس : 91) وعن الشافعي أنفس ما يداوي به الطاعون التسبيح لأن الذكر يرفع العقوبة والعذاب كما قال الله تعالى : {فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} .
وعن كعب قال : سبحان الله يمنع العذاب.
وعن عمر رضي الله عنه أنه أمر بجلد رجل فقال في أول جلده سبحان الله فعفا عنه.
ذكر حق شافع بود دركاه را
راضى وخشنود كند الله را
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال في "كشف الأسرار" : (خداوند كريم ون يونس را درشكم ما هى بزندان كرد نام الله راغ ظلمت اوبود يا الله أنس ورحمت اوبود هرندكه ازروى ظاهر ماهى بلاى يونس بود اما ازروى باطن خلوتكاه وى بود ميخواست بى زحمت اخيار بادوست رازى كويد نانكه يونس را درشكم ماهى خلوتكاه ساختند خليل را درمبان آتش نمرود خلوتكاه ساختند وصديق اكبررا بامهتر عالم دران كوشه غار خلوتكاه ساختند همنين هركجا مؤمنين وموحدين است اوراخلوتكاهى است وآن سينه عزيزوى است وغار سورى نزول كاه لطف الهى وموضع نظر رباني) روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "سبح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : ربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة فقال تعالى : ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في يوم وليلة عمل صالح قال : نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه بالساحل في أرض نصيبين" وهي بلدة قاعدة ديار ربيعة وذلك قوله تعالى : {فَنَبَذْنَـاهُ بِالْعَرَآءِ} النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به.
والعراء ممدوداً مكان لا سترة فيه وهو من التعري سمي به الفضاء الخالي عن البناء والأشجار المظلة لتعريه عما يستر أهله ومعاري الإنسان الأعضاء التي من شأنها أن تعرى كاليد والوجه والرجل.
والإسناد المعبر في قوله فنبذناه من قبيل إسناد الفعل إلى السبب الحامل على الفعل فالمعنى فحملنا الحوت على لفظه ورميه بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت {وَهُوَ سَقِيمٌ} أي : عليل البدن من أجل ما ناله في بطن الحوت من ضعف بدنه فصار كبدن الطفل ساعة يولد لا قوة له أو بلي لحمه ونتف شعره حتى صار كالفرخ ليس عليه شعر وريش ورق عظمه وضعف بحيث لا يطيق حر الشمس وهبوب الرياح.
وفيه إشارة إلى أن القلب وإن تخلص من سجن النفس وبحر الدنيا يكون سقيماً بانحراف مزاجه القلبي بمجاورة صحبة النفس واستراق طبعه {وَأَنابَتْنَا عَلَيْهِ} أي : فوقه مظلة عليه {شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} يفعيل مشتق
488
(7/380)
من قطن بالمكان إذا أقام به كاشتقاق الينبوع من نبع فهو موضوع لمفهوم كلي متناول للقرع والبطيخ والقثاء ونحوها مما كان ورقه كله منبسطاً على وجه الأرض ولم يقم على ساق واحدته يقطينة.
وفي "القاموس" اليقطين ما لا ساق له من النبات ونحوه وبهاء القرعة الرطبة انتهى أطلق هنا على القرع استعمالاً للعام في بعض جزئياته.
قال ابن الشيخ : ولعل إطلاق اسم الشجرة على القرع مع أن الشجر في كلامهم اسم لكل نبات يقوم على ساقه ولا ينبسط على وجه الأرض مبني على أنه تعالى أنبت عليه شجرة صارت عريشاً لما نبت تحتها من القرع بحيث استولى القرع على جميع أغصانها حتى صارت كأنها شجرة من يقطين وكان هذا الإنبات كالمعجزة ليونس فاستظل بظلها وغطته بأوراقها عن الذباب فإنه لا يقع عليها كما يقع على سائر العشب وكان يونس حين لفظه البحر متغيراً يؤلمه الذباب فسترته الشجرة بورقها.
قيل لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إنك تحب القرع قال : "أجل هي شجرة أخي يونس" وعن أبي يوسف لو قال رجل : إن رسول الله كان يحب القرع مثلاً فقال الآخر أنا لا أحبه فهذا كفر يعني : إذا قاله على وجه الإهانة والاستخفاف وإلا فلا يكفر على ما قاله بعض المتأخرين.
وروي أنه تعالى قيض له أروية وهي الأنثى من الوعل تروح عليه بكرة وغشية فيشرب من لبنها حتى اشتد لحمه ونبت شعره وعادت قوته
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{وَأَرْسَلْنَـاهُ إِلَى مِا ئَةِ أَلْفٍ} هم قومه الذين هرب منهم المراد إرساله السابق وهو إرساله إليهم قبل أن خرج من بينهم والتقمه الحوت.
أخبر أولاً بأنه من المرسلين على الإطلاق ثم أخبر بأنه قد أرسل إلى مائة ألف جمة وكان توسيط تذكير وقت هربه إلى الفلك وما بعده بينهما لتذكير سببه وهو ما جرى بينه وبين قومه من إنذاره إياهم عذاب الله وتعيينه لوقت حلوله وتعللهم وتعليقهم لإيمانهم بظهور إمارته ليعلم أن إيمانهم الذي سيحكى بعد لم يكن عقيب الإرسال كما هو المتبادر من ترتب الإيمان عليه بالفاء بل بعد اللتيا والتي {أَوْ يَزِيدُونَ} أي : في مرأى الناظر فإنه إذا نظر إليهم قال : إنهم مائة ألف أو يزيدون عليها عشرين ألفاً أو ثلاثين أو سبعين فأو التي للشك بالنسبة إلى المخاطبين إذ الشك على الله محال والغرض وصفهم بالكثرة وهذا هو الجواب عن كل ما يشبه هذا كقوله : {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} (المرسلات : 6) {لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه : 44) {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (طه : 113) وغير ذلك {فَـاَامَنُوا} أي : بعدما شاهدوا علائم حلول العذاب إيماناً خالصاً {فَمَتَّعْنَـاهُمْ} أي : بالحياة الدنيا وأبقيناهم {إِلَى حِينٍ} قدره الله سبحانه لهم وهذا كناية عن رد العذاب عنهم وصرف العقوبة.
ـ روي ـ أن يونس عليه السلام نام يوماً تحت الشجرة فاستيقظ وقد يبست فخرج من ذلك العراء ومر بجانب مدينة نينوى فرأى هنالك غلاماً يرعى الغنم فقال له من أنت يا غلام فقال من قوم يونس قال فإذا رجعت إليهم فاقرأ عليهم مني السلام وأخبرهم إنك قد لقيت يونس ورأيته فقال الغلام : إن تكن يونس فقد تعلم أن من يحدث ولم يكن له بينة قتلوه وكان في شرعهم أن من كذب قتل فمن يشهد لي فقال له يونس تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة فقال الغلام ليونس : مرهما بذلك فقال لهما : إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له قالتا نعم فرجع الغلام إلى قومه فأتى الملك فقال : إني لقيت يونس وهو
489
يقرأ عليكم السلام فأمر الملك أن يقتل فقال : إن لي بينة فأرسل معه جماعة فانتهوا إلى الشجرة والبقعة فقال لهما الغلام أنشدكما الله عز وجل أي : أسألكما بالله تعالى هل أشهدكما يونس؟ قالتا : نعم فرجع القوم مذعورين فأتوا الملك فحدثوه بما رأوا فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في منزله وقال له : أنت أحق مني بهذا المقام والملك فأقام بهم الغلام أربعين سنة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
ـ روي ـ في بعض التفاسير : أن قومه آمنوا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى يونس لأن النبي إذا هاجر لم يرجع إليهم مقيما فيهم.
(7/381)
ـ وروي ـ أنه لما استيقظ فوجد أنه قد يبست الشجرة فأصابته الشمس حزن لذلك حزناً شديداً فجعل يبكي فبعث الله إليه جبرائيل وقال : قل له : أتحزن على شجرة لم تخلقها أنت ولم تنبتها ولم تربها وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون تريد مني أن أستأصلهم في ساعة واحدة وقد تابوا وتبت عليهم فأين رحمتي يا يونس وأنا أرحم الراحمين وما أحسن ما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ترغيباً للعبد فيما يوصله إلى ما خلق له وتفضيلاً لهذا الموصل على هدم النشأة الإنسانية وإن كان ذلك الهدم واقعاً بموجب الأمر وكان للهادم رتبة إعلاء كلمة الله وثواب الشهادة "ألا أنبئكم بما هو خير لكم وأفضل من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم ذكر الله" أي : ما هو خير لكم مما ذكر ذكر الله تعالى فأبقاء هذه النشأة أفضل من هدمها وإن كان بالأمر.
وفي "كشف الأسرار" (درقصه رورده اندكه ون يونس عليه السلام ازان ظلمت نجات يافت وازان محنت برست وباميان قوم خودشد وحى آمدبوى كه فلان مرد فخارى را كوى تا آن خنورهاى ويرانهاكه باين يكسال ساخته ورداخته همه بشكند وبتلف آرد يونس باين فرمان كه آمده اندوهكين كشت وبران فخار بخشايشى كرد وكفت بار خدايا مرا رحمت مى آيد بران مردكه يكساله عمل وى تباه خواهى كرد ونيست خواهد شد الله تعالى كفت اى يونس بخشايش مى نمايى بمردى كه عمل يكساله وى تباه ونيست ميشود وبرصد هزار مرد از بندكان من بخشايش ننمودى وهلاك وعذاب ايشان خواستى "يا يونس لم تخلقهم ولو خلقتهم لرحمتهم" بشر حافى را رحمه الله بخواب ديدند كفتند حق تعالى باتوه كرد كفت بامن عتاب كرد كفت اى بشر آن همه خوف ووجل در دنيا ترا ازبهر ه بود "اما علمت أن الرحمة والكرم صفتي" فردا مصطفى عربى را عليه السلام دركنهكاران امت شفاعت دهدتا آنكه كه كويد خداوند مرا درحق كسانى شفاعت ده كه هرنيكى نكرده اند فيقول الله عز وجل يا محمد اين يكى مراست حق من وسراى منست آنكه خطاب آيدكه "اخرجوا من النار من ذكرني مرة في مقام أو خاف مني في وقت" اين آن رحمتست كه سؤال دروى كم كشت اين آن لطف است كه انديشه دروى نيست كشت اين آن كرم است كه وهم درو متحير كشت اين آن فضلست كه حد آن ازغايت اندازه در كذشت.
اى بنده اكر طاعت كنى قبول برمن.
ورسؤال كنى عطا برمن.
وركناه كنى عفو برمن.
آب درجوى من.
راحت دركوى من.
طرب در طلب من.
انس باجمال من.
سرورببقاى من.
شادى بلقاى من).
قال الكاشفي : {فَمَتَّعْنَـاهُمْ إِلَى حِينٍ} (س برخور دارى داديم ايشانرا تاهنكام اجل ايشان وبعد ازانكه متقاضى اجل باسترداد وديعت روح
490
متوجه كردد نه بمدافعت ابطال منع او ميسراست ونه ببذل اموال دفع او متصور) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
روزى كه اجل دست كشايد بستيز
وزبهر هلاك بر كشد خنجرتيز
نه وقت جدل بود نه هنكام دخيل
نه روى مقاومت نه ياراى كريز
وصارت قصة يونس آخر القصص لما فيها من ذكر عدم الصبر على الأذى والإباق كما أنهم أخروا ذكر الحلاج في المناقب لما صدر منه من الدعوى على الإطلاق ولعل عدم ختم هذه القصة وقصة لوط بما ختم به سائر القصص من ذكر السلام وما يتبعه للتفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع الكبار وأولي العزم من الرسل أو اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة قاله البيضاوي والشيخ رشيد الدين في "كشف الأسرار" وأورده المولى أبو السعود في تفسيره بصيغة التمريض.
(7/382)
يقول الفقير : وجهه أن إلياس ويونس سواء في أن كلاً منهما ليس من أرباب الشرائع الكبار وأولى العزم من الرسل فلا بد لتخصيص أحدهما بالسلام من وجه وأن التسليم المذكور في آخر السورة شامل لكل من ذكر هنا ومن لم يذكر فحينئذٍ كان الظاهر أن يقتصر على ذكر سلام نوح ونحوه ثم يعمم عليهم وعلى غيرهم ممن لم يكن في درجتهم {فَاسْتَفْتِهِمْ} (س رس از ايشان) أي : إذا كان الله موصوفاً بنعوت الكمال والعظمة والجلال متفرداً بالخلق والربوبية وجميع الأنبياء مقرين بالعبودية داعين للعبيد إلى حقيقة التنزيه والتوحيد فاستخبر على سبيل التوبيخ والتجهيل قريشاً وبعض طوائف العرب نحو جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح فإنهم كانوا يقولون إن الله تعالى تزوج من الجن فخرجت منها الملائكة فهم بنات الله ولذا يسترهن من العيون فأثبتوا الأولادتعالى ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور وقسموا القسمة الباطلة حيث جعلوا الإناثتعالى وجعلوا الذكور لأنفسهم فإنهم كانوا يفتخرون بذكور الأولاد ويستنكفون من البنات ولذا كانوا يقتلونهن ويدفنونهن حياء قال تعالى : {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالانثَى ظَلَّ وَجْهُه مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (النحل : 58) الآية ومن هنا أنه من رأى في المنام أنه اسود وجهه فإنه يولد له بنت والذي يستنكف منه المخلوق كيف يمكن إثباته للخالق كما قال تعالى : {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ} اللاتي هن أوضع الجنسين {وَلَهُمُ الْبَنُونَ} الذين هم أرفعهما.
وفيه تفضيل لأنفسهم على ربهم وذلك مما لا يقول به من له أدنى شيء من العقل وهذا كقوله تعالى : {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الانثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} (النجم : 21 ـ 22) أي : قسمة جائرة غير عادلة.
وفيه إشارة إلى كمال جهالة الإنسان وضلالته إذا وكل إلى نفسه الخسيسة وخلي إلى طبيعته الركيكة إنه يظن بربه ورب العالمين نقائص لا يستحقها أدنى عاقل بل غافل من أهل الدنيا :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
برى ذاتش ازتهمت ضد وجنس
غنى ذاتش از تهمت جن وانس
نه مستغنى از طاعتش شت كست
نه برحرف اوجاى انكشت كس
ثم انتقل إلى تبكيت آخر فقال : {أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَـاثًا} الإناث ككتاب جمع الأنثى أي : بل أم خلقنا الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق وأبعدهم من صفات الأجسام ورذائل الطبائع إناثاً والأنوثة من أخس صفات الحيوان ولو قيل لأدناهم فيك أنوثة لتمزقت نفسه
491
من الغيظ لقائله ففي جعلهم الملائكة أناثاً استهانة شديدة بهم {وَهُمْ شَـاهِدُونَ} حال من فاعل خلقنا مفيد للاستهزاء والتجهيل أي : والحال إنهم حاضرون حينئذٍ فيقدمون على ما يقولون فإن أمثال هذه الأمور لا تعلم إلا بالمشاهدة إذ لا سبيل إلى معرفتها بطريق العقل الصرف بالضرورة أو بالاستدلال إذ الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم بل من اللوازم الخارجية وانتفاء النقل مما لا ريب فيه فلا بد أن يكون القائل بأنوثتهم شاهداً أي : حاضراً عند خلقهم إذ أسباب العلم هذه الثلاثة فكيف جعلوهم إناثاً ولم يشهدوا خلقهم ثم استأنف فقال : {إِلا} حرف تنبيه يعني : (بدانكه) {إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ} أي : من أجل كذبهم الأسوء وهو متعلق بقوله {لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ} (بزاد خداى تعالى يعني براى او بزادند آن) يعني مبني مذهبهم الفاسد ليس إلا الإفك الصريح والافتراء القبيح من غير أن يكون لهم دليل أو شبهة قطعاً.
والولد يعم الذكور والإناث والقليل والكثير وفيه تجسيم له تعالى وتجويز الفناء عليه لأن الولادة مختصة بالأجسام القابلة للكون والفساد {وَإِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ} في قولهم ذلك كذباً بيناً لا ريب فيه {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} بفتح الهمزة على أنها همزة استفهام للإنكار والاستبعاد دخلت على ألف الافتعال أصله أاصطفى فحذفت همزة الافتعال التي هي همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام.
والاصطفاء أخذ صفوة الشي لنفسه أي : أتقولون أنه اختار البنات على البنين من نقصانهن رضي بالأخص الأدنى وبالفارسية : (آيا بركزيد خداى تعالى دخترانرا كه مكروه طباع شما اند به سران كه ماده افتخار واستظهار شما ايشانند) {مَالَكُمْ} أي : شيء لكم في هذه الدعوى.
وقال الكاشفي : (يست شمارا قسمت) {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} على الغني عن العالمين بهذا الحكم الذي تقضي ببطلانه بديهة العقول ارتدعوا عنه فإنه جور وبالفارسية : (كونه حكم ميكنيد ونسبت ميدهيد بخداى آنراكه براى خود نمى سنديد).
جزء : 7 رقم الصفحة : 444(7/383)
قال ابن الشيخ جملتان استفهاميتان ليس لأحديهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب استفهم أولاً عما استقر لهم وثبت استفهام إنكار ثم استفهم استفهام تعجب من حكمهم هذا الحكم الفاسد وهو أن يكون أحسن الجنسين لأنفسهم وأخسهما لربهم {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} بحذف إحدى التائين من تتذكرون والفاء للعطف على مقدر أي : أتلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه فإنه مركوز في عقل زكي وغبي ثم انتقل إلى تبكيت آخر فقال : {أَمْ لَكُمْ سُلْطَـانٌ مُّبِينٌ} أي : هل لكم حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له من سند حسي أو عقلي وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي {فَأْتُوا بِكِتَـابِكُمْ} الناطق بصحة دعواكم وبالفارسية : (س بياريد آن كتاب منزل را) فالباء للتعدية {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} فيها فإذا لم ينزل عليكم كتاب سماوي فيه ذكر ذلك الحكم فلم تصرون على الكذب ثم التفت إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم ويحكى جناياتهم لآخرين فقال : {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ} تعالى {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ} الجنة بالكسر جماعة الجن والملائكة كما في "القاموس" والمراد هنا الملائكة
492
وسموا جنة لاجتنانهم واستتارهم عن الأبصار ومنه سمي الجنين وهو المستور في بطن الأم والجنون لأنه خفاء العقل.
والجنة بالضم الترس لأنه يجن صاحبه ويستره.
والجنة بالفتح لأنها كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض فمن له اجتنان عن الأعين جنس يندرج تحته الملائكة والجن المعروف.
قالوا : الجن واحد ولكن من خبث من الجن ومرد وكان شراً كله فهو شيطان ومن طهر منهم ونسك وكان خيراً فهو ملك.
قال الراغب الجن يقال على وجهين : أحدهما للروحانيين المستترة عن الحواس كلها بإزاء الإنس فعلى هذا يدخل فيه الملائكة والشياطين فكل ملائكة جن وليس كل جن ملائكة.
وقيل : بل الجن بعض الروحانيين وذلك أن الروحانيين ثلاثة أخيار وهم الملائكة وأشرار وهم الشياطين وأوساط فهم أخيار وأشرار وهم الجن ويدل على ذلك قوله تعالى : {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} إلى قوله : {وَمِنَّا الْقَـاسِطُونَ} (الجن : 13 ـ 14) {نَسَبًا} النسب والنسبة اشتراك من جهة الأبوين وذلك ضربان نسب بالطول كالاشتراك بين الآباء والأبناء ونسب بالعرض كالنسبة بين الأخوة وبني العم وقيل فلان نسيب فلان أي : قريبه.
والمعنى وجعل المشركون بما قالوا نسبة بين الله وبين الملائكة وأثبتوا بذلك جنسية جامعة له وللملائكة.
وفي ذكر الله الملائكة بهذا الاسم في هذا الموضع إشارة إلى أن من صفته الاجتنان وهو من صفات الأجرام لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك.
وفيه إشارة إلى جنة الإنسان وقصور نظر عقله عن كمال أحدية الله وجلال صمديته إذا وكل إلى نفسه في معرفة ذات الله وصفاته فيقيس ذاته على ذاته وصفاته فيثبت له نسباً كما له نسب ويثبت له زوجة وولداً كما له زوجة وولد ويثبت له جوارح كما له جوارح ويثبت له مكاناً كما له مكان تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً وهو يقول تبارك وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌا وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى : 11) :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
جهان متفق بر الهيتش
فرومانده از كنه ماهيتش
بشر ما وراى جلالش نيافت
بصر منتهاى كمالش نيافت
نه ادراك در كنه ذاتش رسد
نه فكرت بنور صفاتش رسد
ثم إن هذا وهو قوله تعالى : {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ} الخ عبارة عن قولهم الملائكة بنات الله وإنما أعيد ذكره تمهيداً لما يعقبه من قوله : {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ} أي : وبالله لقد علمت الجنة التي عظموها بأن جعلوا بينها وبينه تعالى نسباً وهم الملائكة {إِنَّهُمْ} أي : الكفرة {لَمُحْضَرُونَ} النار معذبون بها لا يغيبون عنها لكذبهم وافترائهم في ذلك والمراد به المبالغة في التكذيب ببيان أن الذي يدعى هؤلاء المشركون لهم تلك النسبة ويعلمون أنهم أعلم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكماً مؤكداً.
قال في "كشف الأسرار" : (نحويان كفتند ون ان ازقفاى علم وشهادت آيد مفتوح بايد مكر كه در خبر لام آيد آنكه مكسور باشد) كقول العرب أشهد أن فلاناً عاقل وإن فلاناً لعاقل وجهه أن إن المكسورة لا تغير معنى الجملة واللام الداخلة على الخبر لتأكيد معنى الجملة.
ثم إن الله تعالى نزه نفسه عما قالوه من الكذب فقال : {سُبْحَـانَ اللَّهِ} أي : تنزه تعالى
493
(7/384)
تنزهاً لائقاً بجنابه {عَمَّا يَصِفُونَ} به من الولد والنسب أو نزهوه تنزيهاً عن ذلك أو ما أبعد وما أنزه من هؤلاء خلقه وعبيده عما يضاف إليه من ذلك فهو تعجب من كلمتهم الحمقاء وجعلتهم العوجاء {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء منقطع من الواو في يصفون أي : يصفه هؤلاء بذلك ولكن المخلصين الذين أخلصهم الله بلطفه من ألواث الشكوك والشبهات ووفقهم للجريان بموجب اللب برءاء من أن يصفوه به.
وجعل أبو السعود قوله سبحان الله عما يصفون بتقدير قول معطوف على علمت الملائكة أن المشركين لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عما يصفون به من الولد والنسب لكن عباد الله المخلصين الذين نحن من جملتهم برءاء من ذلك الوصف بل نصفه بصفات العلى فيكون المستثنى أيضاً من كلام الملائكة {فَإِنَّكُمْ} أيها المشركون عود إلى خطابهم لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{وَمَا تَعْبُدُونَ} ومعبوديكم وهم الشياطين الذين أغووهم {مَآ أَنتُمْ} ما نافية وأنتم خطاب لهم ولمعبوديهم تغليباً للمخاطب على الغائب {عَلَيْهِ} الضميروعلى متعلقة بقوله : {بِفَـاتِنِينَ} الفاتن هنا بمعنى المضل والمفسد يقال فتن فلان على فلان امرأته أي : أفسدها عليه وأضلها حاملاً إياها على عصيان زوجها فعدى الفاتن بعلى لتضمينه معنى الحمل والبعث.
والمعنى ما أنتم بفاتنين أحداً من عباده أي : بمضلين ومفسدين بحمله على المعصية والخلاف فمفعول فاتنين محذوف {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} منهم أي : داخلها لعلمه تعالى بأنه يصر على الكفر بسوء اختياره ويصير من أهل النار لا محالة فيضلون بتقدير الله من قدر الله أن يكون من أهل النار وأما المخلصون منهم فإنهم بمعزل عن إفسادهم وإضلالهم فهم لا جرم برءاء من أن يفتنوا بكم ويسلكوا مسلككم في وصفه تعالى بما وصفتموه به.
قوله صال بالكسر أصله صالي على وزن فاعل من الصلي وهو الدخول في النار يقال صلي فلان النار يصلى صلياً من الباب الرابع دخل فيها واحترق فاعل كقاض فلما أضيف إلى الجحيم سقط التنوين وأفرد حملاً على لفظ من.
واحتج أهل السنة والجماعة بهذه الآية وهي قوله : {فَإِنَّكُمْ} الخ على أنه لا تأثير لإلقاء الشيطان ووسوسته ولا لأحوال معبودهم في وقوع الفتنة وإنما المؤثر هو قضاء الله وتقديره وحكمه بالشقاوة ولا يلزم منه الجبر وعدم لوم الضال والمضل بما كسبا لما أشير إليه من أنهم لا يقدرون على إضلال أحد إلا إضلال من علم الله منه اختيار الكفر والإصرار عليه وعلم الله وتقديره وقضاؤه فعلاً من أفعال المكلفين لا ينافي اختيار العبد وكسبه.
هركه در فعل خود بود مختار
فعل او دور باشد از اجبار
بهر آن كرد امر ونهي عباد
تاشود ظاهر انقياد وعناد
زايد از انقياد حب ورضا
وزخلاف وعناد سوء قضا
س بود امر ونهي شرط ظهور
فعلها را ز بنده مأمور
{وَمَا مِنَّآ} حكاية اعتراف الملائكة للرد على عبدتهم كأنه قيل ويقول الملائكة الذين جعلتموهم بنات الله وعبدتموهم بناء على ما زعمتم من أن بينهم وبينه تعالى مناسبة وجنسية
494
جامعة وما منا أحد أي : ملك على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه فالموصوف المقدر في الآية مبتدأ وقوله : {إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} صفة وما منا مقدم خبره أي : أحد استثنى منه من له مقام معلوم ليس منا يعني لكل واحد منا مرتبة في المعرفة والعبادة والانتهاء إلى أمر الله في تدبير العالم مقصور عليها لا يتجاوزها ولا يستطيع أن ينزل عنها قدر ظفر خضوعاً لعظمته وخشوعاً لهيبته وتواضعاً لجلاله كما روى فمنهم راكع لا يقيم صلبه وساجد لا يرفع رأسه.
ففيه تنبيه على فساد قول المشركين أنهم أولاد الله لأن مبالغتهم في إظهار العبودية تدل على اعترافهم بالعبودية فكيف يكون بينه تعالى وبينهم جنيسة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
قال ابن عباس رضي الله عنهما ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يسبح" بل والعالم مشحون بالأرواح فليس فيه موضع بيت ولا زاوية إلا وهو معمور بما لا يعلمه إلا الله ولذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالتستر في الخلوة وأن لا يجامع الرجل امرأته عريانين.
وقال السدي : {إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} في القربة والمشاهدة.
وقال أبو بكر الوراق قدس سره : {إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} يعبد الله عليه كالخوف والرجاء والمحبة والرضى يعني : (مراد مقامات سنيه است ون خوف ورجا ومحبت ورضاكه هريك از مقربان حظائر ملكوت ومقدسان صوامع جبرون در مقامى ازان ممكن اند).
(7/385)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن للملك مقاماً معلوماً لا يتعدى حده وهو مقام الملك الروحاني أو الكروبي فالروحاني لا يعبر عن مقامه إلى مقام الكروبي والكروبي لا يقدم على مقام الروحاني فلا عبور لهم من مقامهم إلى مقام فوق مقامهم ولا نزول لهم إلى مقام دون مقامهم ولهم بهذا فضيلة على إنسان بقي في أسفل سافلين في الدرك الأسفل من النار واللذين عبروا منهم عن أسفل سافلين بالإيمان والعمل الصالح وصعدوا إلى أعلى عليين بل ساروا إلى مقام قاب قوسين بل طاروا إلى منزل أو أدنى فضيلة عليهم ولهذا أمروا بسجدة أهل الفضل منهم فقعوا له ساجدين فللإنسان أن يتنزل من مقام الإنسانية إلى دركة الحيوانية كقوله تعالى : {أولئك كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} (الأعراف : 179) وله أن يترقى بحيث يعبر عن المقام الملكي ويقال له تخلقوا بأخلاق الله انتهى.
وقال جعفر رضي الله عنه : الخلق مع الله على مقامات شتى من تجاوز حده هلك فللأنبياء مقام المشاهدة وللرسل مقام العيان وللملائكة مقام الهيبة وللمؤمنين مقام الدنو وللعصاة مقام التوبة وللكفار مقام الغفلة والطرد واللعنة.
وقال الحسين قدس سره : المريدون يتحولون من مقام إلى مقام والمرادون يتجاوزون المقامات إلى رب المقامات.
وقال بعضهم : العارف يأكل في هذه الدار الحلوى والعسل فهذا مقامه والكامل المحقق يأكل فيها الحنظل لا يتلذذ فيها بنعمة لاشتغاله بما كلفه الله تعالى من الشكر عليها وغير ذلك من تحمل هموم الناس فكم من فرق بين المقامين وأهل الفناء وإن تألموا هنا ولكن ذلك ليس بألم بل أشد العذاب والألم فيما إذا رأى أهل الذوق مراتب أهل الفناء فوقهم وأقله التألم من تقدمهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
باش تافانى شود احوال تو
بكزرد از حال كل تا حال تو
از مقامى ساز بقعه خويش را
كه بماند جمله زير بال تو
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} في مواقف الطاعة ومواطن الخدمة وبالفارسية : (وبدرستى كه
495
ماصف كشيدكانيم در مواقف در طاعات ومواضع خدمت).
قال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : ليس للملائكة نافلة إنما هم دائماً في فرائض بعدد أنفاسهم فلا نفل لهم بخلاف البشر انتهى.
قيل إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية وليس يصطف أحد من أهل الملل في صلاتهم غير المسلمين ، يقول الفقير : الاصطفاف في الصلاة حصل بفعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في أول ما صلى من الصلوات وهي صلاة الظهر فإنه لما نزل من المعراج وزالت الشمس أمر فصيح بأصحابه الصلاة جامعة ، فاجتمعوا فصلى به عليه السلام جبريل وصلى النبي عليه السلام بالناس إلا أن يتفق نزول الآية في ذلك الوقت ولكن كلام القائل يقتضي كونهم مقيمين للصلاة فرادى قيل نزولها كما قال قتادة : كان الرجال والنساء يصلون معاً حتى نزلت {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} المقدسونتعالى عن كل ما لا يليق بجناب كبريائه وتحلية كلامهم بفنون التأكيد لإبراز صدوره عنهم بكمال الرغبة والنشاط.
قال البيضاوي : ولعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعات وهذا في المعارف انتهى.
قال بعض الكبار : للملائكة الترقي في العلم لا في العمل فلا يترقون بالأعمال كما لا نترقى بأعمال الآخرة إذا انتقلنا إليها وأما الإنسان فله الترقي في العلم والعمل ولو أن الملائكة ما كان لها الترقي في العلم ما قبلت الزيادة حين علمت الأسماء كلها فإنه زادهم علماً بالأسماء لم يكن عندهم.
قال البقلي رحمه الله : لما كانوا من أهل المقامات افتخروا بمقاماتهم في العبودية من الصلاة والتسبيح ولو كانوا من أهل الحقائق في المعرفة لفنوا عن ملاحظة طاعاتهم من استيلاء أنوار مشاهدة الحق.
وفي "التأويلات النجمية" : ولو كان من مفاخر الملك أن يقولوا وإنا لنحن الصافون يعني في الصلاة والعبودية فإن للإنسان معه شركة في هذا وللإنسان صف يحبه الله وليس للملك فيه شركة وذلك قوله : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِه صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَـانٌ مَّرْصُوصٌ} (الصف : 4) وأن يقولوا : {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} أيضاً للإنسان معهم شركة ومن مفاخر الإنسان أن يقولوا : إنا لنحن المحبون وإنا لنحن المحبوبون وهم المخصوصون به في الترقي من مقام المحبية إلى مقام المحبوبية انتهى وهذا بالنسبة إلى أكاملهم وأفاضلهم :
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
لفظ إنسان يكى ولى هركس
زده ازوى بقدر خويش نفس
جنبش هركسى زجاى ويست
روى هركس بفكر ورأى ويست
تا بر اهل طلب خداى مجيد
متجلى نشد باسم مريد
يارادت كسى نشد موصوف
بمحبت كسى نشد معروف
(7/386)
{وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ} إن هي المخففة من الثقيلة وضمير الشان محذوف واللام هي الفارقة بينها وبين النافية وفي الإتيان بأن المخففة واللام إشارة إلى أنهم كانوا يقولون ما قالوه مؤكدين جادّين فيه فكم بين أول أمرهم وآخره.
والمعنى وأن الشان كان قريش تقول قبل المبعث : {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الاوَّلِينَ} أي كتاباً من كتب الأولين من التوراة والإنجيل وبالفارسية : (اكربودى نزديك ما كتابي كه سبب بند ونصيحت بودى)
496
{لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي لأخلصنا العبادةولما خالفنا كما خالفوا {فَكَفَرُوا بِهِ} الفاء فصيحة أي فجاءهم ذكر أي ذكر سيد الأذكار وكتاب مهيمن على سائر الكتب والأسفار وهو القرآن فكفروا به وأنكروه وقالوا في حقه وفي حق من أنزل عليه ما قالوا {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي عاقبة كفرهم وغائلته من المغلوبية في الدنيا والعذاب العظيم في العقبى وهو وعيد لهم وتهديد.
وفيه إشارة إلى تنزل الإنسان إلى الدرك الأسفل وإلى أن مآل الدعوى بلا تطبيق للصورة بالمعنى خزي وقهر وجلال عصمنا الله الملك الكريم المتعال.
قال بعضهم : وكان الملامية الذين هم أكابر القوم لا يصلون مع الفرائض إلا ما لا بد منه من مؤكدات النوافل خوفاً أن يقوم بهم دعوى أنهم أتوا بالفرائض على وجه الكمال الممكن وزادوا على ذلك فإنه لا نفل إلا عن كمال فرض ونعم ما فهموا ولكن ثم ما هو أعلى وهو أن يكثروا من النوافل توطئة لمحبة الله لهم ثم يرون ذلك جبراً لبعض ما في فرائضهم من النقص وفي الحديث "حسنوا نوافلكم فبها تكمل فرائضكم" وفي المرفوع : "النافلة هدية المؤمن إلى ربه فليحسن أحدكم هديته وليطيبها" ولكون الهدية سبباً للمحبة قال عليه السلام : "تهادوا تحابوا".
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
واعلم أن القرآن ذكر جليل أنزل تذكيراً للناس وطرداً للوسواس الخناس فإنه كلما ذكر الإنسان خنس الشيطان أي تأخر والقرآن وإن كان كله ذكراً لكن ما كل آي القرآن يتضمن ذكر الله فإن فيه حكاية الأحكام المشروعة وفيه قصص الفراعنة وحكايات أقوالهم وكفرهم وإن كان في ذلك الأجر العظيم من حيث هو قرآن بالإصغاء إلى القارىء إذا قرأه من نفسه وغيره فذكر الله إذا سمع في القرآن أتم من استماع قول الكافرين في الله ما لا ينبغي فالأول من قبيل استماع القول الأحسن والثاني من استماع القول الحسن فاعرف ذلك.
ويستحب لقارىء القرآن في المصحف أن يجهر بقراءته ويضع يده على الآية يتتبعها فيأخذ اللسان حظه من الرفع ويأخذ البصر حظه من النظر واليد حظها من المس وكان كبار السلف يقرأون على سبيل التأني والتدبر للوقوف على أسراره وحقائقه كما حكي أن الشيخ العطار قدس سره كان يختم في أوائله في كل يوم ختمة وفي كل ليلة ختمة ثم لما آل الأمر إلى الشهود وأخذ الفيض من الله ذي الجود بقي في السبع الأول من القرآن أكثر من عشرين سنة ومن الله العناية والهداية {وَلَقَدْ سَبَقَتْ} أي وبالله لقد تقدمت في الأزل أو كتبت في اللوح المحفوظ ثم إن السبق والتقدم الموقوف على الزمان إنما هو بالنسبة إلى الإنسان وإلا فالأمر بالإضافة إلى الله كائن على ما كان {كَلِمَتُنَا} وعدنا على مالنا من العظمة {لِعِبَادِنَا} الذين أخلصوا لنا العبادة في كل حركة وسكون {الْمُرْسَلِينَ} الذين زدناهم على شرف الإخلاص في العبودية شرف الرسالة ثم فسر ذلك الوعد بطريق الاستئناف فقال : {إِنَّهُمْ لَهُمُ} خاصة {الْمَنصُورُونَ} فمن نصرناه فلا يغلب كما أن من خذلناه لا يغلب ثم عمم فقال : {وَإِنَّ جُندَنَا} أي من المرسلين وأتباعهم المؤمنين والجند العسكر {لَهُمُ} أي لا غيرهم {الْغَـالِبُونَ} على أعدائهم في الدنيا والآخرة وإن رؤي أنهم مغلوبون في بعض المشاهد لأن العاقبة لهم والحكم للغالب والنادر كالمعدوم والمغلوبية لعارض كمخالفة أمر الحاكم
497
وطمع الدنيا والعجب والغرور ونحو ذلك لا تقدح في النصر المقضي بالدات.
والنصر منصب شريف لا يليق إلا بالمؤمن وأما الكافر فشأنه الاستدراج وغاية الخذلان.
وقال بعضهم : لم يرد بالنصر هذا النصر المعهود بل الحجة لأن الحق إنما يتبين من الباطل بالحجة لا بالسيف فأراد بذلك أن الحجة تكون للأنبياء على سائر الأمم في اختلاف الأطوار والأعصار.
وقال الحسن البصري رحمه الله : أراد بالنصرة هذه النصرة بعينها دون الحجة ثم قال ما انتهى إلى أن نبياً قتل في حرب قط.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/387)
يقول الفقير : أراد الحسن المأمور بالحرب منصور لا محالة بخلاف غير المأمور وهو التوفيق بين قوله تعالى : {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ} (آل عمران : 21) ونظائره وبين هذه الآية وأمثالها.
والحاصل أن المؤمنين المخلصين هم المنصورون والغالبون لأن المستند إلى المولى الغالب العزيز هو المنصور المظفر الغالب القاهر وأعداءهم هم المنهزمون المغلوبون لأن المستند إلى غير الله خصوصاً إلى الحصون والقلاع المبنية من الأحجار هو المنهزم المدمر المغلوب المقهور :
تكيه بر غير بود جهل وهوى
نيست آنجام اعتماد سوى
ثم إن جنده تعالى هم مظاهر اسمه العزيز والمنتقم ومظاهر قوله : {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَـاطِلِ فَيَدْمَغُه فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء : 18).
وفي "التأويلات النجمية" : جنده الذين نصبهم لنشر دينه وأقامهم لنصر الحق وتبيينه فمن أراد إذلالهم فعلى أذقانه يخرّ.
والجند كما ورد في الحديث : "جندان جند الوغى وجند الدعاء" فلا بد لجند الوغي من عمل الوغي وشغل الحرب ولجند الدعاء من عمل الدعاء وشغل الأدب فمن وجد في قلبه الحضور واليقظة فليطمع في الإجابة ومن وجد الفتور والغفلة فليخف عدم الإصابة :
كى دعاى تو مستجاب شود
كه بيك روى دردو محرابى
وفي الحديث : "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم" أي عاداهم "حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال" ولا شك أن الملوك العثمانية خاتمة هذه الطائفة وعيسى والمهدي عليهما السلام خاتمة الخاتمة والصيحة الواحدة الآخذة كل من بقي على الأرض عند قيام الساعة من الكفرة الفجرة خاتمة خاتمة الخاتمة {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي إذا علمت أن النصرة والغلبة لك ولأتباعك فأعرض عن كفار مكة واصبر على أذاهم {حَتَّى حِينٍ} أي مدة يسيرة وهي مدة الكف عن القتال فالآية محكمة لا منسوخة بآية القتال {وَأَبْصِرْهُمْ} على أسوء حال وأفظع نكال حل بهم من القتل والأسر والمراد بالأمر بأبصارهم الإيذان بغاية قربه كأنه بين يديه يبصره في الوقت وإلا فمتعلق الأبصار لم يكن حاضراً عند الأمر {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ما يقع حينئذٍ من الأمور.
وفي "التأويلات" : وأبصر أحوالهم فسوف يبصرون جزاء ما عملوا من الخير والشر انتهى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
وسوف للوعيد ليتوبوا ويؤمنوا دون التبعيد لأن تبعيد الشيء المحذر منه كالمنافي لإرادة التخويف به ولما نزل {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} قالوا استعجالاً واستهزاء لفرط جهلهم متى هذا فنزل قوله تعالى : {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} أي أبعد هذا التكرير من الوعيد يستعجلون بعذابنا والهمزة للإنكار والتعجب يعني تعجبوا من هذا الأمر المستنكر وبالفارسية : (آيا بعذاب ما شتاب ميكنند ووقت نزول آن مى رسند).
وفي التوراة "أبي يغترون أم عليّ يجترئون؟" يعني : (بمهلت دادن وفراكذشتن من فريفته شوند يا بر من ديرى كنند ونمى ترسند) {فَإِذَا نَزَلَ} العذاب الموعود {بِسَاحَتِهِمْ} .
498
قال في "المفردات" : الساحة المكان الواسع ومنه ساحة الدار انتهى.
وفي "حواشي" ابن الشيخ الساحة الفناء الخالي عن الأبنية وفناء الدار بالكسر ما امتد من جوانبها معداً لمصالحها وبالفارسية : (يشكاه منزل) والمعنى بفنائهم وقربهم وحضرتهم كأنه جيش قد هزمهم فأناخ بفنائهم بغتة {فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} فبئس صباح المنذرين صباحهم أي صباح من أنذر بالعذاب وكذبه فلم يؤمن واللام للجنس فإن أفعال المدح والذم تقتضي الشيوع والإبهام والتفصيل فلا يجوز أن تكون للعهد.
والصباح مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب ولما كثرت منهم الإغارة في الصباح سموها صباحاً وإن وقعت ليلاً.
قال الكاشفي : (آورده اندكه درميان عرب قتل وغارت واسر بسيار بود هر لشكركه قصد قبيله داشتندى شب همه شب راه يموده وقت سحر كه خواب كرانيست بحواله ايشان آمدندى ودست بقتل وغارت واسر وتاراج بر كشاده قوم را مستأصل كردندى وبدين سبب كه اغلب غارت در صباح واقع مى شد غارت را صباح نام نهادند وهرند دروقتى ديكر وقوع يافتى همان صباح كفتندى) {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أثر تسلية وتأكيد لوقوع الميعاد غب تأكيد مع ما في إطلاق الفعلين عن المفعول من الإيذان بأن ما يبصره عليه السلام من فنون المسار وما يبصرون من أنواع المضار لا يحيط به الوصف والبيان.
وفي "البرهان" حذف الضمير من الثاني اكتفاء بالأول {سُبْحَـانَ رَبِّكَ}
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
(7/388)
خطاب للنبي عليه السلام وقوله : {رَبِّ الْعِزَّةِ} بدل من الأول {عَمَّا يَصِفُونَ} أي نزه يا محمد من هو مربيك ومكفلك ومالك العزة والغلبة على الإطلاق عما يصفه المشركون به مما لا يليق بجناب كبريائه من الأولاد والأزواج والشركاء وغير ذلك من الأشياء التي من جملتها ترك نصرتك عليهم كما يدل عليه استعجالهم بالعذاب.
قال في "بحر العلوم" : أضاف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل ذي العزة كقولك صاحب صدق لاختصاصه بالصدق فلا عزة إلا له على أن العزة ذاتية أو لمن أعزه من الأنبياء وغيرهم فالعزة حادثة كائنة بين خلقه وهي وإن كانت صفة قائمة بغيره تعالى إلا أنها مملوكة له مختصة به يضعها حيث يشاء كما قال تعالى : {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} (آل عمران : 26) وفيه إشعار بالسلوب والإضافات كما في قوله تعالى : {تَبَـارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَـالِ وَالاكْرَامِ} (الرحمن : 78) وذلك أن قوله سبحان إشارة إلى السلوب كالجلال فإن كل منهما يفيد ما أفاد الآخر في قولنا سبحان ربنا عن الشريك والشبيه وجل ربنا عنهما.
وقوله ربك رب العزة إشارة إلى الإضافات كالإكرام وإنما قدم السلب على الإضافة لأن السلوب كافية فيها ذاته من حيث هو هو بخلاف الإضافات فإنه لا بد من تحققها من غيره لأن الإضافة لا توجد إلا عند وجود المضافين.
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام سبحان الله كلمة مشتملة على سلب النقص والعيب عن ذات الله وصفاته فما كان من أسمائه سلباً فهو مندرج تحت هذه الكلمة كالقدوس وهو الطاهر من كل عيب والسلام وهو الذي سلم من كل آفة فنفينا بسبحان الله كل عيب عقلناه وكل نقص فهمناه.
ثم إن المرسلين لما كانوا وسائط بين الله وبين عباده نبه على علو شأنهم بقوله : {وَسَلَـامٌ} وسلامة ونجاة من كل المكاره وفوز
499
بجميع المآرب {عَلَى الْمُرْسَلِينَ} الذين يبلغون رسالات الله إلى الأمم ويبينون لهم ما يحتاجون إليه من الأمور الدينية والدنيوية أولهم آدم وآخرهم محمد عليهم السلام فهو تعميم للرسل بالتسليم بعد تخصيص بعضهم فيما سبق لأن تخصيص كل واحد بالذكر يطول وفي الحديث "إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين فإنما أنا أحدهم" كما في "فتح الرحمن" و"حواشي" ابن الشيخ وغيرهما وفي الحديث "إذا صليتم عليّ فعمموا" أي للآل والأصحاب.
قال في "المقاصد الحسنة" : لم أقف عليه بهذا اللفظ ويمكن أن يكون بمعنى صلوا عليّ وعلى أنبياء الله فإن الله بعثهم كما بعثني انتهى
جزء : 7 رقم الصفحة : 444
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} .
قال الشيخ عز الدين : الحمدكلمة مشتملة على إثبات ضروب الكمال لذاته وصفاته تعالى فما كان من أسمائه متضمناً للإثبات كالعليم والقدير والسميع والبصير فهو مندرج تحتها فأثبتنا بالحمدكل كمال عرفناه وكل جلال أدركناه.
قال المولى أبو السعود : هذا إشارة إلى وصفه تعالى بصفاته الكريمة الثبوتية بعد التنبيه على اتصافه بجميع صفاته السلبية وإيذان باستتباعها للأفعال الجميلة التي من جملتها إفاضته عليهم من فنون الكرامات السنية والكمالات الدينية والدنيوية وأسباغه عليهم وعلى من اتبعهم من فنون النعماء الظاهرة والباطنة الموجبة لحمده تعالى وإشعار بأن ما وعده من النصرة والغلبة قد تحقق.
والمراد تنبيه المؤمنين على كيفية تسبيحه وتحميده والتسليم على رسله الذين هم وسائط بينهم وبينه عز وجل في فيضان الكمالات الدينية والدنيوية عليهم ولعل توسط التسليم على المرسلين بين تسبيحه تعالى وتحميده لختم السورة الكريمة بحمده مع ما فيه من الإشعار بأن توفيقه عليهم من جملة نعمه الموجبة للحمد انتهى.
وقال بعضهم : والحمدعلى إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين وعلى كل حال يعني هو المحمود في كل من الحالات ساء أم سرّ نفع أم ضرّ :
در بلا ودر ولا الحمد خوان
اين بود آيين اك عاشقان
وعن علي رضي الله تعالى عنه : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه سبحان ربك الخ.
وفي بعض النسخ من أحب أن يكال له وإليه الإشارة بقوله الكاشفي : (هركه دوست ميداردكه برو يمايند مزد ثواب را به يمانه بزركتر بايدكه آخر كلام او از مجلس اين آيت باشد).
يقول الفقير : أصلحه الله القدير فللمؤمن أن يتدارك حاله بشيئين قبل أن يقوم من مجلسه أحدهما يجلب الأجر الجزيل وهو بالآية المذكورة.
والثاني بالكفارة وهو بما أشار إليه النبي عليه السلام وقوله : "من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فقد غفر له" يعني من الصغائر ما لم يتعلق بحق آدمي كالغيبة كما في شرح الترغيب المسمى "بفتح القريب" فعلى العاقل أن لا يغفل في مجلسه بل يذكر ربه لأنسه ويختمه بما هو من باب التخلية والتحلية والتصفية والتجلية وآخر دعواهم أن الحمدرب العالمين.
500
جزء : 7 رقم الصفحة : 444(7/389)
سورة ص
مكية آيها ست أو ثمان وثمانون
جزء : 7 رقم الصفحة : 500
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{} : خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : هذه سورة ص كما مرّ في أخواته : (يعني برآنندكه حروف مقطعة براى اسكات كفارست كه هروقت كه حضرت محمد عليه السلام در نماز وغير آن قرآن بجهر تلاوت فرمودي إيشان أزروى عناد صفير زدندى ودست وبردست كوفتندى تا آن حضرت درغلط افند حق سبحانه وتعالى اين حروف فرستاد تا ايشان بعد آز استماع آن متأمل ومتفكر شده از تغليظ باز مي ماندند).
وقال الشعبي : إنتعالى في كل كتاب سراً وسره في القرآن فواتح السور.
وقال بعضهم : {} : مفتاح اسمه الصادق والصبور والصمد والصانع.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى القسم بصاد صمديته في الأزل وبصاد صانعيته في الوسط ويصاد صبوريته إلى الأبد وبصاد صدق الذي جاء بالصدق وصاد صديقية الذي صدق به وبصاد صفوته في مودته ومحبته.
هـ.
وقال ابن جبير رضي الله عنه : {} يحيي الله به الموتى بين النفختين.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : {} كان بحراً بمكة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار.
وفي بعض المعتبرات : كان جبلاً بمكة ومضى شرح هذا الكلام في أول {الاماص} .
وقيل في {} : معناه أن محمداً عليه السلام صاد قلوب الخلائق ، واستمالها حتى آمنوا به كما قال في إنسان العيون ، ومما لا يكاد يقضى منه العجب حسن تدبيره عليه السلام للعرب الذين هم كالوحوش الشاردة كيف ساسهم واحتمل جفاءهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه واجتمعوا عليه صلى الله عليه وسلّم واختاروه على أنفسهم ، وقاتلوا دونه أهلهم وآباءهم وأبناءهم وهجروا في رضاه أوطانهم.
انتهى.
يقول الفقير أغناه الله القدير : سمعت
2
شيخي وسندي قدس سره ، وهو يقول : إن قوله تعالى {ق} إشارة إلى مرتبة الأحدية التي هي التعيين الأول كما في سورة الإخلاص المصدرة بكلمة : قل المبتدأة بحرف ق.
وقوله ص : إشارة إلى مرتبة الصمدية التي هي التعيين الثاني المندرجة تحته مرتبة بعد مرتبة وطوراً بعد طور إلى آخر المراتب والأطوار.
{ا وَالْقُرْءَانِ ذِى} : (الواو) : للقسم ، والذكر : الشرف والنباهة ، أو الذكرى والموعظة أو ذكر ما يحتاج إليه في أمر الدين من الشرائع والأحكام ، وغيرها من أقاصيص الأنبياء وأخبار الأمم الماضية والوعد والوعيد ، وحذف جواب القسم في مثل ذلك غير عزيز والتقدير : على ما هو الموافق لما في أول يس ولسياق الآية أيضاً ، وهو عجبوا الخ.
إن محمداً الصادق في رسالته وحق نبوته ليس في حقيته شك ، ولا فيما أنزل عليه من القرآن ريب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} :
من رؤساء أهل مكة فهو إضراب عن المفهوم من الجواب {فِى عِزَّةٍ} .
قال الراغب : العزة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب ويمدح بالعزة تارة كما في قوله : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون : 8) ؛ لأنها الدائمة الباقية ، وهي العزة الحقيقية ويذم بها أخرى ، كما في قوله تعالى : {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى عِزَّةٍ} : لأن العزة التي هي التعزز وهي في الحقيقة ذل ، وقد تستعار للحمية والأنفة المذمومة ، وذلك في قوله تعالى : {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاثْمِ} (البقرة : 206).
انتهى.
وقد حمل أكثر أهل التفسير العزة في هذا المقام على الثاني لما قالوا ، بل هم في استكبار عن الاعتراف بالحق والإيمان وحمية شديدة : وبالفارسية (در سركشي اند ازقبول حق).
{وَشِقَاقٍ} ؛ أي : مخالفةوعداوة عظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فلذا لا ينقادون.
وفي "التأويلات النجمية" وبقوله : {ا وَالْقُرْءَانِ ذِى} يشير إلى القسم بالقرآن الذي هو مخصوص بالذكر ، وذلك لأن القرآن قانون معالجات القلوب المريضة وأعظم مرض القلب نسيان الله تعالى كما قال : {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} ، وأعظم علاج مرض النسيان بالذكر كما قال : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) ، ولأن العلاج بالضد وبقوله : {بَلِ الَّذِينَ} إلخ.
يشير إلى انحراف مزاج قلوب الكفار بمرض نسيان الله من اللين والسلامة إلى الغلظة والقساوة ومن التواضع إلى التكبر ومن الوفاق إلى الخلاف ومن الوصلة إلى الفرقة ومن المحبة إلى العداوة ، ومن مطالعة الآيات إلى الإعراض عن البحث في الأدلة والسير للشواهد.
{كَمْ} : مفعول قوله : {أَهْلَكْنَا} .
ومن في قوله : {مِن قَبْلِهِم} : لابتداء الغاية.
وقوله : {مِّن قَرْنٍ} : تمييز.
والقرن : القوم المقترنون في زمن واحد.
والمعنى : قرناً كثيراً أهلكنا من القرون المتقدمة ؛ أي : أمة من الأمم الماضية بسبب الاستكبار والخلاف.
{فَنَادَوا} عند نزول بأسنا وحلول نقمتنا استغاثة أو توبة واستغفاراً لينجوا في ذلك ، وبالفارسية : (بس ندا كردند وآواز بلند برداشتدتا كسي ايشانرا بفريادرسد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2(8/1)
{وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} : حال من ضمير نادوا ؛ أي : نادوا ، واستغاثوا طلباً للنجاة ، والحال أن ليس الحين حين مناص ؛ أي : فوت وفرار ونجاة لكونه حالة اليأس : وبالفارسية : (ونيست آن هنكام وقت رجوع بكريزكاه).
فقوله : لا هي المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب وثم وخصت بنفي الأحيان ، ولم يبرز إلا أحد معموليها اسمها أو خبرها ، والأكثر حذف اسمها.
وفي بعض التفاسير لات بمعنى ليس بلغة أهل اليمن.
انتهى.
والوقف عليها بالتاء عند الزجاج وأبي علي وعند الكسائي نحو قاعدة وضاربة وعند أبي عبيد على لا.
3
ثم يبتدىء تحين مناص ، لأنه عنده أن هذه التاء تزاد مع حين ، فيقال : كان هذا تحين كان ذاك كذا في "الوسيط".
والمناص : المنجأ ؛ أي : النجاة والفوت عن الخصم على أنه مفعل من ناصه ينوصه إذا فاته أريد به المصدر.
ويقال : ناص ينوص ؛ أي : هرب.
ويقال : أي : تأخر ، ومنه : ناص قرنه ؛ أي : تأخر عنه حيناً.
وفي "المفردات" : ناص إلى كذا ، التجأ إليه ، وناص عنه تنحى ينوص نوصاً.
والمناص : الملجأ.
انتهى.
(در معالم فرموده كه عادت كفار مكي آن بودكه جون دركارزاركار برايشان زار شدي كفتندي مناص مناص يعني بكر زيد حق سبحانه وتعالى خبر ميدهدكه بهنكام حلول عذاب دربدر خلاص مناس خواهند كفت وآنجا جاي كريز نخوا هدبود).
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌا مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا سَـاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ}
{وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌا مِّنْهُمْ} ؛ أي : عجب كفار أهل مكة من أن جاءهم منذر ينذرهم النار ؛ أي : رسول من جنسهم بل أدون منهم في الرياسة الدنيوية والمال على معنى أنهم عدوا ذلك خارجاً عن احتمال الوقوع وأنكروه أشد الإنكار لا أنهم اعتقدوا وقوعه ، وتعجبوا منه ، وقالوا : إن محمداً مساوٍ لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب والشكل والصورة ، فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي ولم يتعجبوا من أن تكون المنحوتات آلهة ، وهذه مناقضة ظاهرة ، فلما تحيروا في شأن النبي عليه السلام نسبوه إلى السحر والكذب كما قال حكاية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَقَالَ الْكَـافِرُونَ} : وضع فيه الظاهر موضع المضمر غضباً عليهم وإيذاناً بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولونه إلا المتوغلون في الكفر والفسوق {هَـاذَآ} (اين منذر) {سَـاحِرٌ} فيما يظهره من الخوارق {كَذَّابٌ} فيما يسنده إلى الله من الإرسال والإنزال لم يقل كاذب لرعاية الفواصل ، ولأن الكذب على الله ليس كالكذب على غيره ولكثرة الكذب في زعمهم ، فإنه يتعلق بكل آية من الآيات القرآنية بخلاف إظهار الخوارق فإنه قليل بالنسبة إليه.
هكذا لاح لي هذا المقام.
وفي "التأويلات النجمية" : لما كانوا منحرفي مزاج القلوب لمرض نسيان الحق جاءت النبوة على مذاق عقولهم المتغيرة سحراً والصدّيق كذاباً.
قال الكاشفي (جه تيره رايي كه أنوار لمعات وحى را أزتاريكىء سحر امتياز نكند وجه بي بصيرتي كه آثار شعاع صدق را از ظلمات كذب بازنشناسند).
كشته طالع آفتابي أنيينين عالم فروز
ديدة خفاش را يكذره ازوى نورته
از شعاع روز روشن روى كيتى مستنير
تيركي شب هنوز از ديده دورنه
واعلم : أن إثبات النبوة والولاية سهل بالنسبة إلى أهل العناية والتوفيق فإن قلوبهم ألفت الإعراض عما سوى الله بخلاف أهل الإنكار والخذلان ، فإن قلوبهم ألفت الإعراض عن الله ، فلذا صحبتهم الوقيعة في أنبياء الله وأوليائه.
قال الأستاذ أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه التصديق بعلمنا هذا ولاية يعني : الولاية الصغرى دون الكبرى.
قال اليافعي : والناس على أربعة أقسام :
القسم الأول : حصل لهم التصديق بعلمهم ، والعلم بطريقتهم والذوق لمشربهم وأحوالهم.
والقسم الثاني : حصل لهم التصديق ، والعلم المذكور دون الذوق.
والقسم الثالث : حصل لهم التصديق دونهما.
والقسم الرابع : لم يحصل لهم من الثلاثة شيء ، نعوذ بالله من الحرمان ونسأله التوفيق والغفران ، فهم الذين أطالوا ألسنتهم في حق الخواص ورموهم بالسحر والكذب والجنون لكونهم ليسوا من المحارم في شأن من الشؤون : وفي "المثنوي" :
4
جون خدا خواهد كه برده كس درد
ميلش اندر طعنه با كان برد
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
(8/2)
{أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا} : (الهمزة) : للإنكار والاستبعاد.
والآلهة : جمع إله وحقه أن لا يجمع إذ لا معبود في الحقيقة سواه تعالى لكن العرب لاعتقادهم أن ههنا معبودات جمعوه.
فقالوا : آلهة.
وإلهاً واحداً : مفعول ثان لجعل ؛ لأنه بمعنى صير ؛ أي : صيرهم إلهاً واحداً في زعمه وقوله لا في فعله ؛ لأن جعل الأمور المتعددة شيئاً واحداً بحسب الفعل محال (آورده اندكه بعد ازاسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما أشراف قريش جون وليد وأبو سفيان وأبو جهل وعتبة وشيبة وأمية ازروى اضطراب نزد أبو طالب آمده در مرض موت أو كفتند اي عبد مناف تو بزر كتر ومهتر مايي آمده ايم تاميان ما وبرادر زاده خود حكم فرمايي كه يك يك ازسفهاي قوم را مي فريبد ودين محدث وآيين مجدد خودرا بديشان جلوه ميدهد سنك تفرقه در مجمع ما افكنده است ونزديك بآن رسيده كه دست تدارك از اطفاي اين نائره عاجز آيد أبو طالب آن حضرت را صلى الله تعالى عليه وسلم طلبيد وكفت اي محمد قوم تو آمده اند وايشانرا أزتو مدعاييست يكباركي طرف انحراف مورد متمناي ايشان تأمل نماي حضرت عليه السلام فرمود اي معشر قريش مطلوب شما ازمن جه جيزست كفتند آنكه دست ازنقض دين ما بداري وسب آلهة ما فرو كذاري تامانيز متعرض تو ومتابعان تونشويم حضرت عليه السلام فرمودكه من هم ازشما مي طلبم كه بيك كلمه بامن متفق شويد تاممالك غرب شمارا مسخر شود واكابر عجم كمر فرمان برادري شما بربندند كفتند آن كلمه كدامست سيد عالم عليه السلام فرمودكه : "لا إله إلا الله محمد رسول الله" بيكبار أشراف قريش ازان حضرت اعراض نموده كفتند).
أجعل إلخ ؛ أي : أصير محمد بزعمه الآلهة إلهاً واحداً بأن نفى الألوهية عنهم وقصرها على واحد ولم يعلموا أنهم جعلوا الإله الواحد آلهة {إِنَّ هَـاذَآ} : (بدرستى كه يكانكى خداى تعالى).
{لَشَىْءٌ عُجَابٌ} : العجاب : بمعنى العجيب ، وهو الأمر الذي يتعجب منه كالعجب إلا أن العجيب أبلغ منه ، والعجاب بالتشديد أبلغ من العجاب بالتخفيف مثل كبار في قوله : {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} (نوح : 22) ، فإنه أبلغ من الكبار بالتخفيف ونحوه طويل وطوال.
والمعنى : بليغ في العجب ، لأنه خلاف ما اتفق عليه آباؤنا إلى هذا الآن.
وقال بعضهم : (نيك شكفت جه سيصد وشصت بت كه مداريم كاريك شهر مكه راست نمى توانندكرد يك خداي كه محمد ميكويد كار تمام عالم جون سازد).
يعني : أنهم ما كانوا أهل النظر والبصيرة ، بل أوهامهم كانت تابعة للمحسوسات ، فقاسوا الغائب على الشاهد ، وقالوا : لا بدّ لحفظ هذا العالم الكبير من آلهة كثيرة يحفظونه بأمره وقضائه تعالى ولم يعرفوا الإله ، ولا معنى الآلهية ، فإن الآلهية هي القدرة على الاختراع وتقدير قادرين على الاختراع غير صحيح لما يجب من وجوده التمانع بينهما وجوازه ، وذلك يمنع من كمالها ، ولو لم يكونا كاملي الوصف لم يكونا إلهين وكل أمر جرّ ثبوته سقوطه فهو مطروح.
باطل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ} : الانطلاق الذهاب والملأ الأشراف لا مطلق الجماعة ، ويقال لهم : ملأ لأنهم إذا حضروا مجلساً ملأت العيون وجاهتهم والقلوب مهابتهم ؛ أي : وذهب الأشراف من قريش وهم خمسة وعشرون عن مجلس أبي طالب بعد ما أسكتهم رسول الله عليه السلام بالجواب الحاضر ،
5
وشاهدوا تصلبه عليه السلام في الدين وعزيمته على أن يظهره على الدين كله ويئسوا مما كانوا يرجونه بتوسط أبي طالب من المصالحة على الوجه المذكور.
{إِنَّ} : مفسرة للمقول المدلول عليه بالانطلاق لأن الانطلاق عن مجلس التقاول لا يخلو عن القول ؛ أي : وانطلق الملأ منهم بقول هو قول بعضهم لبعض على وجه النصيحة.
{امْشُوا} : سيروا على طريقتكم وامضوا فلا فائدة في مكانة هذا الرجل.
وحكى المهدوي أن قائلها عقبة بن أبي معيط.
{وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ} ؛ أي : واثبتوا على عبادتها متحملين لما تسمعونه في حقها من القدح.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الكفار إذا تراضوا فيما بينهم بالصبر على آلهتهم فالمؤمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم والاستقامة في دينهم بل الطالب الصادق والعاشق الوامق أولى بالصبر والثبات على قدم الصدق في طلب المحبوب المعشوق.
{إِنَّ هَـاذَآ} : تعليل للأمر بالصبر أو لوجوب الامتثال به ؛ أي : هذا الذي شاهدناه من محمد من أمر التوحيد ونفي آلهتنا وإبطال أمرنا.
{لَشَىْءٌ يُرَادُ} : من جهته عليه السلام إمضاؤه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لا قول يقال من طرف اللسان ، أو أمر يرجى فيه المسامحة بشفاعة أو امتناع ، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله عن رأيه بواسطة أبي طالب وشفاعته وحسبكم أن لا تمنعوا من عبادة آلهتكم بالكلية فاصبروا عليها وتحملوا ما تسمعونه في حقها من القدح وسوء المقالة هذا ما ذهب إليه المولى أبو السعود في "الإرشاد".
وقال في "تفسير الجلالين" : لأمر يراد بنا ومكر يمكر علينا.
(8/3)
وقال سعدي المفتي : وسنح بالبال أنه يجوز أن يكون المراد أن دينكم لشيء يستحق أن يطلب ويعض عليه بالنواجذ ، فيكون ترغيباً وتعليلاً للأمر السابق.
وقال بعضهم : (بدرستى كه مخالفت محمد باما جيز نيست كه خواسته اند بما از حوادث زمان واز وقوع آن جاره نيست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
ويقول الفقير أمده الله القدير بالفيض الكثير ويجوز أن يكون المعنى : أن الصبر والثبات على عبادة الآلهة التي هي الدين القديم يراد منكم فإنه أقوى ما يدفع به أمر محمد كما قالوا نتربص به ريب المنون ، فيكون موافقاً لقرينه في الإشارة إلى المذكور فيما قبله أو أن شأن محمد لشيء يراد دفعه وإطفاء نائرته بأي وجه كان قبل أن يعلو ويشيع ، كما قيل :
علاج واقعه بيش از وقوع بايد كرد
ودل عليه اجتماعهم على مكره عليه السلام مراراً فأبى الله إلا أن يتم نوره.
{وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَـاذَا فِى الْمِلَّةِ الاخِرَةِ إِنْ هَـاذَآ إِلا اخْتِلَـاقٌ * أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنا بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَآاـاِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ * أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِى الاسْبَـابِ} .
{مَا سَمِعْنَا بِهَـاذَا} : الذي يقوله من التوحيد.
{فِى الْمِلَّةِ الاخِرَةِ} : ظرف لغو سمعنا ؛ أي : في الملة التي أدركنا عليها آباءنا ، وهي ملة قريش ودينهم الذي هم عليه ، فإنها متأخرة عما تقدم عليها من الأديان والملل.
وفيه إشارة إلى ركون الجهال إلى التقليد والعادة وما وجدوا عليه أسلافهم من الضلال وإخطاء طريق العبادة :
ترسم نرسى بكعبه اي اعرابى
كين ره كه توميروى بتركستانست
والملة كالدين اسم لما شرع الله لعباده على يد الأنبياء ليتوصلوا به إلى ثواب الله وجواره فإطلاق كل منهما على طريقة المشركين مجاز مبني على التشبيه.
{إِنَّ هَـاذَآ} : نافية بمعنى ما {إِلا اخْتِلَـاقٌ} .
(الاختلاق دروغ كفتن ازنزد خود) ؛ أي : كذب اختلقه من عند نفسه.
قال
6
في "المفردات" : وكل موضع استعمل فيه الخلق في وصف الكلام ، فالمراد به الكذب ومن هذا امتنع كثير من الناس من إطلاق لفظ الخلق على القرآن ، وعلى هذا قوله : أن هذا إلاَّ اختلاق.
{عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنا بَيْنِنَا بَلْ} : ونحن رؤساء الناس وأشرافهم وأكبرهم سناً وأكثرهم أموالاً وأعواناً وأحقاء بكل منصب شريف ومرادهم إنكار كون القرآن ذكراً منزلاً من الله تعالى.
وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد على اختصاصه عليه السلام بشرف النبوة من بينهم وحرمانهم منه وقصر النظر على متاع الدنيا وغلطوا في القصر والقياس.
أما الأول فلأن الشرف الحقيقي إنما هو بالفضائل النفسانية دون الخارجية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وأما الثاني فلأن قياس نفسه عليه السلام بأنفسهم فاسد إذ هو روح الأرواح وأصل الخليقة ، فأنى يكون هو مثلهم وأما الصورة الإنسانية فميراث عام من آدم عليه السلام لا تفاوت فيها بين شخص وشخص نعم وجهه عليه السلام كان يلوح منه أنوار الجمال بحيث لم يوجد مثله فيما بين الرجال :
اى حسن سعادت زجبين تو هويدا
اين حسن جه حسنست تقدس وتعالى
وفيه إشارة إلى حال أكثر علماء زماننا وعبادهم أنهم إذا رأوا عالماً ربانياً من أرباب الحقائق يخبر عن حقائق لم يفهموها ويشير إلى دقائق لم يذوقوها دعتهم النفوس المتمردة إلى تكذيبه ، فيجحدونه بدل الاغتنام بأنفاسه والاقتباس من أنواره ويقولون أكوشف هو بهذه الحقائق من بيننا ويقعون في الشك من أمرهم كما قال تعالى : {بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى} ؛ أي : القرآن أو الوحي بميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن النظر في الأدلة المؤدية إلى العلم بحقيته وليس في عقيدتهم ما يجزمونه فهم مذبذبون بين الأوهام ينسبونه تارة إلى السحر وأخرى إلى الاختلاق.
وفيه إشارة إلى أن القرآن قديم لأنه سماه الذكر ثم أضافه إلى نفسه ، ولا خفاء بأن ذكره قديم ، لأن الذكر المحدث يكون مسبوقاً بالنسيان ، وهو منزه عنه.
{بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} في لما دلالة على أن ذوقهم العذاب على شرف الوقوع ، لأنها للتوقع ؛ أي : بل لم يذوقوا بعد عذابي ، فإذا ذاقوه تبين لهم حقيقة الحال.
وفيه تهديد لهم ؛ أي : سيذوقون عذابي فيلجئهم إلى تصديق الذكر حين لا ينفع التصديق.
(8/4)
وفيه إشارة إلى أنهم مستغرقون في بحر عذاب الطرد والبعد ونار القطيعة لكنهم عن ذوق العذاب بمعزل لغلبة الحواس إلى أن يكون يوم تبلى السرائر فتغلب السرائر على الصور والبصائر على البصر ، فيقال لهم : ذوقوا العذاب ، يعني : كنتم معذبين وما كنتم ذائقي العذاب ، فالمعنى : لو ذاقوا عذابي ووجدوا ألمه لما قدموا على الجحود دل على هذا قوله عليه السلام : "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا".
شو زخواب كران جان بيدار
تا جمالش عيان ببين اي يار
{أَمْ عِندَهُمْ خَزَآاـاِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} : أم منقطعة بمعنى : بل ، والهمزة وهي للإنكار.
والخزائن جمع خزانة بالكسر بمعنى المخزن ؛ أي : بل أعندهم خزائن رحمته تعالى يتصرفون فيها حسبما يشاؤون حتى يصيبوا بها من شاؤوا ويصرفوها عمن شاؤوا ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم ، فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم.
والمعنى : أن النبوة عطية من الله تعالى
7
يتفضل بها على من يشاء من عباده ، لا مانع له فإنه العزيز ؛ أي : الغالب الذي لا يغالب الوهاب الذي له أن يهب كل ما يشاء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
جون زحال مستحقان آكهي
هرجه خواهي هركرا خواهي دهي
ديكرا نرا اين تصرف كي رواست
اختيار اين تصرفها تراست
{أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا} : ترشيح ؛ أي : تربية لما سبق ؛ أي : بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتكلموا في الأمور الربانية ويتحكموا في التدابير الإلهية التي يستأثر بها رب العزة والكبرياء.
{فَلْيَرْتَقُوا فِى الاسْبَـابِ} : جواب شرط محذوف ، والارتقاء : الصعود.
قال الراغب : السبب الحبل الذي يصعد به النخل ، وقوله تعالى : {فَلْيَرْتَقُوا فِى الاسْبَـابِ} : إشارة إلى قوله : {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ} (الطور : 38) فيه وسمي كل ما يتوصل به إلى شيء سبباً.
انتهى.
والمعنى : إن كان لهم ما ذكر من الملك فليصعدوا في المعارج والمناهج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وينزلوا الوحي إلى ما يختارون ويستصوبون.
وفيه من التهكم بهم ما لا غاية وراءه.
{أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِى الاسْبَـابِ * جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الاحَزَابِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الاوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَـابُ لْـاَيْكَةِا أولئك الاحْزَابُ * إِن كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} .
{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الاحَزَابِ} : الجند جمع معد للحرب وما مزيدة للتقليل والتحقير نحو أكلت شيئاً ما وهنالك مركب من ثلاث كلمات إحداها ها هنا وهو إشارة إلى مكان قريب.
والثانية : اللام وهي للتأكيد ، والثالثة : الكاف وهي للخطاب.
قالوا : واللام فيها كاللام في ذلك في الدلالة على بعد المشار إليه ، والهزم : الكسر.
يقال : هزم العدو كسرهم وغلبهم والاسم : الهزيمة.
وهزمه يهزمه ، فانهزم غمزه بيده فصارت فيه حفرة كما في "القاموس".
والحزب جماعة فيها غلظ كما في "المفردات" قال ابن الشيخ : جند خبر مبتدأ محذوف ومن الأحزاب صفته ؛ أي : جملة الأحزاب وهم القرون الماضية الذين تحزبوا وتجمعوا على الأنبياء بالتكذيب ، فقهروا وهلكوا ومهزوم خبر ثاننٍ للمبتدأ المقدر أو صفة لجند ، وهنالك ظرف لمهزوم أو صفة أخرى لجند ، وهو إشارة إلى الموضع الذي تقاولوا وتحاوروا فيه بالكلمات السابقة ، وهو مكة ؛ أي : سيهزمون بمكة ، وهو إخبار بالغيب لأنهم انهزموا في موضع تكلموا فيه بهذه الكلمات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وقال بعضهم : هنالك إشارة إلى حيث وضعوافيه أنفسهم من الانتداب ؛ أي : الإجابة والمطاوعة لمثل ذلك القول العظيم من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله لست هنالك فإن هواهم الزائغ وحسدهم البالغ حملهم على أن يقولوا : أأنزل عليه الذكر من بيننا فانتدبوا له ووضعوا أنفسهم في مرتبة أن يقولوا ذلك العظيم ، فإنه لاستلزامه الاعتراض على مالك الملك والملكوت لا ينبغي لأحد أن يجترىء عليه ويضع نفسه في تلك المرتبة.
والمعنى : هم كجند ما من الكفار المتحزبين على الرسل مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بما يقولون ، ولا تكترث بما يهذون.
ففي إشارة إلى عجزهم وعجز آلهتهم ، يعني : أن هؤلاء الكفار ليس معهم حجة ولا لأصنامهم من النفع والضر مكنة ولا في الدفع والردّ عن أنفسهم قوة.
وسمعت من فم حضرة شيخي وسندي قدس سره يقول استناد الكفار إلى الأحجار ألا ترى إلى القلاع والحصون واستناد المؤمنين إلى "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
ألا ترى أنهم لا يتحصنون بحصن سوى التوكل على الله تعالى ، وهو يكفيهم كما قال تعالى :
8
(لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي).
انتهى.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} ؛ أي : قبل قومك يا محمد ، وهم : قريش.
(8/5)
{قَوْمُ نُوحٍ} ؛ أي : كذبوا نوحاً ، وقد دعاهم إلى الله وتوحيده ألف سنة إلا خمسين عاماً.
{وَعَادٌ} : قوم هود.
{وَفِرْعَوْنُ} : موسى عليه السلام.
{ذُو الاوْتَادِ} : جمع وتد محركة وبكسر التاء ، وهو ما غرز في الأرض أو الحائط من خشب : وبالفارسية : (ميخ) ؛ أي : ذو الملك الثابت ، لأنه استقام له الأمر أربعمائة سنة من غير منازع وأصله أن يستعمل في ثبات الخيمة بأن يشد أطنابها على أوتاد مركوزة في الأرض ، فإن أطنابها إذا اشتدت عليها كانت ثابتة فلا تلقيها الريح على الأرض ولا تؤثر فيها ثم استعير لثبات الملك ورسوخ السلطنة واستقامة الأمر ، بأن شبه ملك فرعون بالبيت المطنب استعارة بالكناية ، وأثبت له لوازم المشبه به.
وهو الثبات بالأوتاد تخييلاً.
وجه تخصيص هذه الاستعارة أن أكثر بيوت العرب كانت خياماً ، وثباتها بالأوتاد ويجوز أن يكون المعنى ذو الجموع الكثيرة سموا بذلك ونهم يشدون البلاد ، والملك ويشد بعضهم بعضاً كالوتد يشد البناء والخباء ، فتكون الأوتاد استعارة تصريحية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وفي الحديث : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" ؛ أي : لا يتقوى في أمر دينه ودنياه إلا بمعونة أخيه كما أن بعض البناء يتقوى ببعضه ويكفي دليلاً على كثرة جموع فرعون أنه قال في حق بني إسرائيل إن هؤلاء لشرذمة قليلون مع أنهم كانوا ينيفون على ستمائة ألف مقاتل سوى الصغير والشيخ.
ويجوز أن يكون الأوتاد حقيقة لا استعارة فإنه على ما روي كانت له أوتاد من حديد يعذب الناس عليها فكان إذا غضب على أحد مده مستلقياً بين أربعة أوتاد ، وشد كل يد وكل رجل منه إلى سارية وكان كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتى يموت ، أو كان يمد الرجل مستلقياً على الأرض ثم يشد يديه ورجليه ورأسه على الأرض بالأوتاد.
يقول الفقير : هذه الرواية هي الأنسب لما ذكروه في قصة آسية امرأة فرعون في سورة التحريم من أنها لما آمنت بموسى أوتد لها فرعون بأوتاد في يديها ورجليها كما سيجيء.
{وَثَمُودُ} : قوم صالح.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن قوم صالح آمنوا به ، فلما مات صالح رجعوا بعده عن الإيمان فأحيى الله صالحاً وبعثه إليهم ثانياً فأعلمهم أنه صالح ، فكذبوه فأتاهم بالناقة فكذبوه فعقروها فأهلكهم الله.
قال الكاشفي : (بعضى إيمان آوردند وجمعى تكذيب نمودند وبسبب عقر ناقه هلاك شدند).
{وَقَوْمُ لُوطٍ} : قال مجاهد : كانوا أربعمائة ألف بيت ، في كل بيت عشرة.
وقال عطاء : ما من أحد من الأنبياء إلا ويقوم معه يوم القيامة قوم من أمته ، إلا لوط فإنه يقوم وحده كما هو في "كشف الأسرار".
{وَثَمُودُ وَقَوْمُ} : أصحاب الغيضة من قوم شعيب بالفارسية (أهل بيشه).
قال الراغب : الأيك شجر ملتف.
وأصحاب الأيكة : قيل : نسبوا إلى غيضة كانوا يسكنونها.
وقيل : هي اسم بلد كما في "المفردات".
{أولئك الاحْزَابُ} : بدل من الطوائف المذكورة ، يعني المتحزبين ؛ أي : المجتمعين على أنبيائهم الذين جعل الجند المهزوم ، يعني : قريشاً منهم.
{إِن كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرٌّسُلَ} : استئناف جيء به تهديداً لما يعقبه ؛ أي : ما كل حزب وجماعة من أولئك الأحزاب إلا كذب رسوله على نهج مقابلة الجمع بالجمع لتدل على انقسام الآحاد بالآحاد ، كما في قولك : ركب القوم دوابهم.
والاستثناء : مفرغ من أعم الأحكام
9
في حيز المبتدأ ؛ أي : ما كل واحد منهم محكوماًعليه بحكم إلا محكوم عليه ، بأنه كذب الرسل ، ويجوز أن يكون قوله : {أولئك الاحْزَابُ} : مبتدأ.
وقوله : {إِن كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرٌّسُلَ} : خبره محذوف العائد ؛ أي : إن كل منهم.
{فَحَقَّ عِقَابِ} ؛ أي : ثبت ووقع على كل منهم عقابي الذي كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات المفصلة في مواقعها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{إِن كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ * وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ * وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ * اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ ذَا الايْدِا إِنَّه أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَه يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالاشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةًا كُلٌّ لَّه أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَه وَءَاتَيْنَـاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} .
{وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ} : الإشارة إلى كفار مكة بهؤلاء تحقير لشأنهم وتهوين لأمرهم وما ينتظر هؤلاء الكفرة الذين هم أمثال أولئك الطوائف المذكورة المهلكة في الكفر والتكذيب.(8/6)
{إِلا صَيْحَةً واحِدَةً} : هي النفخة الثانية ؛ أي : ليس بينهم وبين حلول ما أعد لهم من العقاب الفظيع إلا هي حيث أخرت عقوبتهم إلى الآخرة لما أن تعذيبهم بالاستئصال حسبما يستحقونه.
والنبي عليه السلام بين أظهرهم خارج عن السنة الإلهية المبنية على الحكم الباهرة كما نطق به قوله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} (الأنفال : 33).
ثم إن الانتظار يحتمل أن يكون حقيقة أو استهزاء فهم ، وإن كانوا ليسوا بمنتظرين لأن تأتيهم الصيحة إلا أنهم جعلوا منتظرين لها تنبيهاً على قربها منهم ، فإن الرجل إنما ينتظر الشيء ، ويمدّ طرفه إليه مترقباً في كل آن حضوره إذا كان الشيء في غاية القرب منه.
{مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} ؛ أي : ما للصيحة من توقف مقدار فواق ، ففيه تقدير مضاف هو صفة لموصوف مقدر.
والفواق : بالضم كغراب ويفتح كما في "القاموس" ما بين حلبتي الحالب من الوقت ؛ لأن الناقة تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لإدرار اللبن ثم تحلب ثانية ، يعني : إذا جاء وقت الصيحة لم تستأخر هذا القدر من الزمان كقوله تعالى : {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} (الأعراف : 34) : وهو عبارة عن الزمان اليسير.
وفي الحديث : "من اعتكف قدر فواق فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل".
وفي الحديث : "من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة".
وفي الآيتين إشارة إلى تسلية قلب النبي عليه السلام وتصفيته عن الاهتمام بكفار مكة لئلا يضيق قلبه من تكذيبهم ولا يحزن عليهم لكفرهم فإن هؤلاء الأحزاب كذبوا الرسل كما كذبه قومه وكانوا أقوياء متكثرين عدداً وقومه جنداً قليلاً من تلك المتحزبين ثم إنهم كانوا مظهر القهر وحطب نار الغضب ما أغنى عنهم جمعهم وقوتهم أبداناً وكثرتهم أسباباً ، فكذا حال قريش فانتظارهم أيضاً أثر من آثار القهر الإلهي ، ونار من نيران الغضب القهاري.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَقَالُوا} : بطريق الاستهزاء والسخرية عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة ، والقائل النضر بن الحرث بن علقمة بن كندة الخزاعي وأضرابه ، وكان النضر من شياطينهم ونزل في شأنه في القرآن بضع عشرة آية وهو الذي قال : {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ} (الأنفال : 32).
{رَبَّنَا} : وتصدير دعائهم بالنداء للإمعان في الاستهزاء كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة والابتهال.
{عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} : القط : القطعة من الشيء من قطه إذا قطعه.
والمراد هنا : القسط والنصيب ؛ لأنه قطعة من الشيء مفرزة.
قال الراغب : أصل القط : الشيء المقطوع عرضاً كما أن القدّ هو المقطوع طولاً.
والقط : النصيب المفروض كأنه قط ، وأفرز.
وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما الآية به.
انتهى.
فالمعنى : عجل لنا قسطنا وحظنا من العذاب الذي توعدنا به محمد ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدأه الصيحة المذكورة.
ويقال لصحيفة
10
الجائزة أيضاً قط ؛ لأنها قطعة من القرطاس.
فالمعنى : عجل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها.
قال سهل بن عبد الله التستري ـ رحمه الله ـ ـ : لا يتمنى الموت إلا ثلاثة : رجل جاهل بما بعد الموت ، أو رجل يفر من أقدار الله عليه ، أو مشتاق محب لقاء الله.
وفيه إشارة إلى أن النفوس الخبيثة السفلية يميل طبعها إلى السفليات ، وهي في الدنيا لذائد الشهوات الحيوانية.
وفي الآخرة دركات أسفل سافلين جهنم كما أن القلوب العلوية اللطيفة يميل طبعها إلى العلويات ، وهي في الدنيا حلاوة الطاعة ولذاذة القربات.
وفي الآخرة درجات أعلى عليين الجنات ، وكما أن الأرواح القدسية تشتاق بخصوصيتها إلى شواهد ومشاهدات أنوار الجمال والجلال ولكل من هؤلاء الأصناف جذبة بالخاصية جاذبة بلا اختيار كجذبة المغناطيس للحديد وميلان طبع الحديد إلى المغناطيس من غير اختيار بل اضطرار كذا في "التأويلات النجمية" : وفي "المثنوي".
ذره ذره كاندرين ارض وسماست
جنس خودرا همجوكاه وكهرباست
{اصْبِرْ} : يا محمد.
{عَلَى مَا يَقُولُونَ} ؛ أي : ما يقوله كفار قريش من المقالات الباطلة التي من جملتها قولهم في تعجيل العذاب ربنا عجل لنا إلخ.
فعن قريب سينزل الله نصرك ويعطيهم سؤلهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال شاه الكرماني : الصبر ثلاثة أشياء ترك الشكوى وصدق الرضا وقبول القضاء بحلاوة القلب.
قال البقلي : كان خاطر النبي عليه السلام أرق من ماء السماء بل ألطف من نور العرش والكرسي من كثرة ما ورد عليه من نور الحق فلكمال جلاله في المعرفة كان لا يحتمل مقالة المنكرين وسخرية المستهزئين ، لا أنه لم يكن صابراً في مقام العبودية.
{وَاذْكُرْ} : من الذكر القلبي ؛ أي : وتذكر.
{عَبْدَنَآ} : المخصوص بعنايتنا القديمة.
{دَاوُادُ} : ابن إيشا من سبط يهودا بن يعقوب عليه السلام بينه وبين موسى عليه السلام خمسمائة وتسع وستون سنة.
وقام بشريعة موسى وعاش مائة سنة.
(8/7)
{ذَا الايْدِ} : يقال : آد يئيد أيداً مثل باع يبيع بيعاً اشتد وقوي.
والأيد : القوة كما في "القاموس" والقوة الشديدة كما في "المفردات" ؛ أي : ذا القوة في الدين القائم بمشاقه وتكاليفه.
وفي "الكواشي" : ويجوز أن يراد القوة في الجسد والدين.
انتهى.
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً قوة داود في أمر الدين ثم زلته بحسب القضاء الأزلي ، ثم توبته بحسب العناية السابقة وأمره عليه السلام بذكر حاله وقوته في باب الطاعة ليتقوى على الصبر ولا يزل عن مقام استقامته وتمكينه كما زل قدم داود فظهرت المناسبة بين المسندين واتضح وجه عطف واذكر على اصبر.
{إِنَّه أَوَّابٌ} : من الأوب ، وهو الرجوع ؛ أي : رجاع إلى الله ومرضاته ؛ أي : عن كل ما يكره الله إلى ما يحب الله ، وهو تعليل لكونه ذا الأيد.
ودليل على أن المراد به القوة في أمر الدين وما يتعلق بالعبادة لا قوة البدن ؛ لأن كونه راجعاً إلى مرضاة الله لا يستلزم كونه قوي البدن.
وقد روى أنه لم يكن جسيماً كسائر الأنبياء بل قصير القامة ، وأكثر القوى البدنية كان فيمن زاده الله بسطة في جسمه.
"وفي التأويلات النجمية" : تشير الآية إلى كماليته في العبودية بأنه لم يكن عبد الدنيا ولا عبد الآخرة ، وإنما كان عبدنا خالصاً ومخلصاً وله قوة في العبودية ظاهراً وباطناً.
فأما قوته ظاهراً فبأنه قتل جالوت ، وكثيراً من جنوده بثلاثة أحجار رماها عليهم وأما قوته في الباطن فلأنه كان أواباً وقد سرت أوابيته في الجبال والطير ، فكانت تؤوب
11
معه انتهى.
ومن قوة عبادة داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ، وذلك أشد الصوم ، وكان ينام النصف الأول من الليل ويقوم النصف الأخير منه مع سياسة الملك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وفي بعض التفاسير كان ينام النصف الأول من الليل ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، وهو الموافق لما في المشارق من قوله عليه السلام : "أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً وأحب الصلاة إلى الله" ؛ أي : في النوافل : "صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه" ، وإنما صار هذا النوع أحب ؛ لأن النفس إذا نامت الثلثين من الليل تكون أخف وأنشط في العبادة.
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} : بيان لفضله مع داود ؛ أي : ذللناها ومع متعلق بالتسخير وإيثارها على اللام لكون تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق تفويض التصرف فيها إليه كتسخير الريح وغيرها لسليمان سيرها معه بطريق تفويض التبعية له ، فتكون مع على حالها ، ويجوز أن تكون مع متعلقة بما بعدها.
وهو قوله : {يُسَبِّحْنَ} ؛ أي : حال كونها تقدس الله تعالى مع داود لم يقل مسبحات للدلالة على تجدد التسبيح حالاً بعد حال.
قال في "كشف الأسرار" : كان داود يسمع ويفهم تسبيح الجبال على وجه تخصيصه به كرامة له ومعجزة.
انتهى.
واختلفوا في كيفية التسبيح ، فقيل : بصوت يتمثل له وهو بعيد.
وقيل : بلسان الحال ، وهو أبعد.
وقيل : بخلق الله في جسم الجبل حياة وعقلاً وقدرة ونطقاً فحينئذٍ يسبح الله كما يسبح الأحياء العقلاء.
وهذا لسان أهل الظاهر ، وأما عند أهل الحقيقة فسر الحياة سار في جميع الموجودات حيواناً أو نباتاً أو جماداً ، فالحياة في الكل حقيقة لا عارضية أو حالية أن تمثيلية لكن إنما يدركها كُمَّل المكاشفين فتسبيح الجبال مع داود على حقيقته لكن لما كان على كيفية مخصوصة وسماعه على وجه غريب خارج عن العقول كان من معجزات داود عليه السلام وكراماته.
وقد سبق مراراً تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه من الكلام.
{بِالْعَشِىِّ} : في آخر النهار.
{وَالاشْرَاقِ} : في أول النهار ووقت الإشراق هو حين تشرق الشمس ؛ أي : تضيء.
ويصفو شعاعها وهو وقت الضحى.
وأما شروقها فطلوعها.
يقال : شرقت الشمس ولما تشرق.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كنت أمر بهذه الآية ولا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانىء بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل عليها يوم فتح مكة فدعا بوضوء فتوضأ.
وفي "البخاري" : واغتسل في بيتها ثم صلى الضحى ثماني ركعات.
وقال : "يا أم هانيء هذه صلاة الإشراق".
ومن هنا قال بعضهم : من دخل مكة وأراد أن يصلي الضحى أول يوم اغتسل وصلاها كما فعله عليه السلام يوم فتح مكة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وقال بعضهم : صلاة الضحى غير صلاة الإشراق كما دل عليه قوله عليه السلام : "من صلى الفجر بجماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة".
وهي صلاة الإشراق كما في "شرح المصابيح" وقوله عليه السلام : "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال من الضحى".
والمعنى : أن صلاة الضحى تصلى إذا وجد الفصيل حرّ الشمس من الرمضاء ؛ أي : من الأرض التي اشتد حرها من شدة وقع الشمس عليها ، فإن الرمض : شدة وقع الشمس على الرمل وغيره والفصيل الذي يفصل ويفطم عن الرضاع من الإبل وخص الفصال هنا بالذكر ؛ لأنها التي ترمض لرقة جلد رجلها.
(8/8)
وفيه إشارة إلى مدحهم بصلاة الضحى في الوقت الموصوف ؛
12
لأن الحر إذا اشتد عند ارتفاع الشمس تميل النفوس إلى الاستراحة ، فيرد على قلوب الأوابين المستأنسين بذكر الله تعالى أن ينقطعوا عن كل مطلوب سواه.
يقول الفقير : يمكن التوفيق بين الروايتين بوجهين :
الأول : يحتمل أن يكون الإشراق من أشرق القول إذا دخلوا في الشروق ؛ أي : الطلوع ، فلا يدل على الضحى الذي هو الوقت المتوسط بين طلوع الشمس وزوالها.
والثاني : أن أول وقت صلاة الإشراق هو أن ترتفع الشمس قدر رمح وآخر وقتها هو أول وقت صلاة الضحى فصلاة الضحى في الغداة بإزاء صلاة العصر في العشي ، فلا ينبغي أن تصلى حتى تبيض الشمس طالعة ويرتفع كدرها بالكلية وتشرق بنورها كما يصلى العصر إذا اصفرت الشمس.
فقوله عليه السلام : "هذه صلاة الإشراق" ، إما بمعنى : أنها إشراق بالنسبة إلى آخر وقتها ، وإما بمعنى : أنها ضحى باعتبار أول وقتها.
قال الشيخ عبد الرحمن البسطامي ـ ـ قدس سره ـ ـ في "ترويح القلوب" يصلي أربع ركعات بنية صلاة الإشراق فقد وردت السنة يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة الشمس وضحاها.
وفي الثانية : والليل إذا يغشى ، وفي الثالثة : والضحى.
وفي الرابعة : ألم نشرح لك.
ثم إذا حان وقت صلاة الضحى ، وهو إذا انتصف الوقت من صلاة الصبح إلى الظهر يصلي صلاة الضحى.
وأقلّ صلاة الضحى : ركعتان أو أربع ركعات أو أكثر إلى ثنتي عشرة ركعة ولم ينقل أزيد منها بثلاث تسليمات وإن شئت بست تسليمات ورد في فضلها أخبار كثيرة من صلاها ركعتين ، فقد أدى ما عليه من شكر الأعضاء لأن الصلاة عمل بجميع الأعضاء التي في البدن ، ومن صلاها ثنتي عشرة ركعة بني له قصر من ذهب في الجنة وللجنة باب يقال له : الضحى.
فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : أين الذين كانوا يدومون على صلاة الضحى هذا بابكم ، فادخلوه برحمة الله عزّ وجلّ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَالطَّيْرَ} : عطف على الجبال.
جمع طائر كركب وراكب ، وهو كل ذي جناح يسبح في الهواء.
{مَحْشُورَةً} : حال من الطير ، والعامل سخرنا ؛ أي : وسخرنا الطير حال كونها محشورة مجموعة إليه من كل جانب وناحية : وبالفارسية : (جمع كرده شد نزد وى وصف زده بالاى سروى).
وكانت الملائكة تحشر إليه ما امتنع عليه منها كما في "كشف الأسرار" عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبحت.
وذلك حشرها وإنما لم يراع المطابقة بين الحالين ، بأن يقال : يحشرن ؛ لأن الحشر جملة أدل على القدرة منه متدرجاً كما يفهم من لفظ المضارع.
{كُلٌّ} ؛ أي : كل واحد من الجبال والطير {لَهُ} ؛ أي : لأجل داود لأجل تسبيحه ، فهو على حذف المضاف.
{أَوَّابٌ} : رجاع إلى التسبيح إذا سبح سبحت الجبال والطير معه : وبالفارسية : (بازكرداننده أواز خود باوى بتسبيح).
ووضع الأواب موضع المسبح ؛ لأنها كانت ترجح التسبيح والمرجع رجاع ؛ لأنه يرجع إلى فعله رجوعاً بعد رجوع.
والفرق بينه وبين ما قبله وهو يسبحن.
أن يسبحن يدل على الموافقة في التسبيح.
وهذا يدل على المداومة عليها.
وقيل : الضمير ؛ أي : كل من داود والجبال والطيرأواب ؛ أي : مسبح مرجع .
التسبيح والترجيع بالفارسية (نغمت كردانيدن) ـ روي ـ أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه ما أعطى داود من حسن الصوت ، فلما وصل إلى الجبال ألحان داود تحركت من لذة السماع فوافقته في الذكر والتسبيح ولما سمعت الطيور نغماته صفرت بصفير التنزيه والتقديس ولما
13
أصغت الوحوش إلى صوته ودنت منه حتى كانت تؤخذ بأعناقها فقبل الكل فيض المعرفة والحالة بحسب الاستعداد إلا ترى إلى الهدهد والبلبل والقمرى والحمامة ونحوها.
دانى جه كفت مرا آن بلبل سحرى
توخو دجه آدمى كزعشق بيخبرى
اشتر بشعر عرب در حالتست وطرب
كر ذوق نيست تراكز طبع جانورى
فالتأثر والحركة والبكاء ونحوها ليست من خواص الإنسان فقط بل إذا نظرت بنظر الحقيقة وجدتها في الحيوانات بل في الجمادات أيضاً لكونها أحياء بالحياة الحقيقية كما أشير إليه فيما سبق.
قال الكاشفي : (يكى أزاوليا سنكى راديدكه جون قطرات باران آب ازوميجكد ساعتى توقف كرد بتأمل دران نكريست سنك باوى بسخن در آمدكه اي ولى خدا جندين سالست كه خداى تعالى مرا آفريده وازبيم سياست اواشك حسرت ميريزم آن ولى مناجات كردكه خدايا اين سنك را ايمن كردان دعاى اوباجابت بيوسته مزده امان بدان سنك رسيد آن ولى بعذار مدتى ديكر باره هما نجا رسيد وآن سنك راديدكه ازنوبت أول بيشتر قطرها ميريخت فرمودكه اى سنك جون ايمن شدى اين كريه ازجيست جواب دادكه اول مى كريستم از خوف عقوبت وحالا ميكريم ازشادى امن وسلامت).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
ازسنك كريه بين ومكو آن ترشحست
دركوه ناله بين ومبندار كان صداست
(8/9)
قال بعض كبار المكاشفين : سبحت الجبال وكذا الطير لتسبيح داود ليكون له عملها ، لأن تسبيحها لما كان لتسبيحه منتشأ منه لا جرم يكون ثوابه عائداً إليه لا إليها لعدم استحقاقها لذلك بخلاف الإنسان فإنه إذا وافقه إنسان آخر في ذكره وتسبيحه ، أو عمل بقوله يكون له مثل ثواب ذكره وتسبيحه لإحيائه وإيقاظه فهو صيده ، وأحق به ، وإنما كان يسبح الجبال والطير لتسبيحه ، لأنه لما قوي توجهه عليه السلام بروحه إلى معنى التسبيح والتحميد سرى ذلك إلى أعضائه وقواه ؛ فإنها مظاهر روحه ومنها إلى الجبال والطير فإنها صور أعضائه وقواه في الخارج ، فلا جرم يسبحن لتسبيحه وتعود فائدة تسبيحها إليه وخاصية العشي والإشراق أن فيهما زيادة ظهور أنوار قدرته وآثار بركة عظمته ، وأن وقت الضحى وقت صحو أهل السكر من خمار شهود المقامات المحمودة ، وأن العشي وقت إقبال المصلين إلى المناجاة وعرض الحاجات.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} : قوينا ملكه بالهيبة والنصرة ونحوهما.
قال الكاشفي : (ومحكم كرديم بادشاهى ويرا بدعاى مظلومان.
يابو زراى نصيحت كنندكان.
يابكوتاه كردن ظلم ازرعيت.
يابا لقاى رعب وى دردل اعادى.
يابيافتن زره وساختن آلات حرب ، يابه بسيارى لشكر.
يابكثرت باسبانان جه هرشب سى وششن هزار مردباس خانه وى ميداشتند).
وقيل : كان أربعون ألف لابسي درع يحرسونه ، فإذا أصبح قيل : ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله وكان نبينا عليه السلام يحرس أيضاً إلى نزول قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة : 67).
ومن ذلك أخذ السلاطين الحرس في السفر والحضر فلا يزالون يحرسونهم في الليالي ولهم أجر في ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ادعى رجل على رخر بقرة وعجز عن إقامة البينة فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : أن اقتل المدعى عليه فأعلم الرجل فقال : صدقت يا نبي الله ، إن الله لم يأخذني بهذا
14
الذنب.
ولكن بأني قتلت أبا هذا غيلة ، فقتله فقال الناس : إن أذنب أحد ذنباً أظهره الله عليه فقتله فهابوه ، وعظمت هيبته في القلوب.
والغيلة : بالكسر هو أن يخدع شخصاً فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} ؛ أي : العلم بالأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاه إن كان متعلقاً بكيفية العمل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
واعلم أن الحكمة نوعان :
أحدهما : الحكمة المنطوق بها وهي علم الشريعة والطريقة.
والثاني : الحكمة المسكوت عنها وهي أسرار الحقيقة التي لا يطلع عليها عوام العلماء على ما ينبغي فيضرهم أو يهلكهم.
كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يجتاز في بعض سكك المدينة مع أصحابه فأقسمت عليه امرأة أن يدخلوا منزلها ، فدخلوا فرأوا ناراً موقدة وأولاد المرأة يلعبون حولها ، فقالت : يا نبي الله أرحم بعباده أم أنا بأولادي ، فقال عليه السلام : "بل الله أرحم فإنه أرحم الراحمين".
فقالت : يا رسول الله أتراني أحب أن ألقي ولدي في النار فقال : "لا".
فقالت : فكيف يلقي الله عبيده فيها ، وهو أرحم بهم.
قال الراوي : فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : "هكذا أوحي إلي".
{وَفَصْلَ الْخِطَابِ} : لبيان تلك الحكمة على الوجه المفهم كما في "شرح الفصوص" للمولى الجامي رحمه الله ، فيكون بمعنى الخطاب الفاصل ؛ أي : المميز والمبين ، أو الخطاب المفصول ؛ أي : الكلام الملخص الذي ينبه المخاطب على المرام من غير التباس.
وفي "شرح الجندي" : يعني الإفصاح بحقيقة الأمر وقطع القضايا والأحكام باليقين من غير ارتياب ، ولا شك ولا توقف ، فيكون بمعنى فصل الخصام بتمييز الحق من الباطل ، فالفصل على حقيقته ، وأريد بالخطاب المخاصمة لاشتمالها عليه.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} : في الظاهر بأن جعلناه أشد ملوك الأرض في الباطن بأن {وَءَاتَيْنَـاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} .
والحكمة : هي أنواع المعارف من المواهب وفصل الخطاب بيان تلك المعارف بأدل دليل وأقل قليل.
انتهى.
وإنما سمي به.
أما بعد ، لأنه يفصل المقصود عما سبق تمهيداً له من الحمد والصلاة.
وقال زياد : أول من قال في كلامه أما بعد داود عليه السلام ، فهو فصل الخطاب ورد بأنه لم يثبت عنه أنه تكلم بغير لغته.
وأما بعد لفظة عربية وفصل الخطاب الذي أوتيه داود هو فصل الخصومة كما في "إنسان العيون".
اللهم إلا أن يقال إن صح هذا القول لم يكن ذلك بالعربية على هذا النظم وإنما كان بلسانه عليه السلام.
وقال عليّ ـ ـ رضي الله عنه ـ ـ : فصل الخطاب أن يطلب البينة من المدعي ويكلف اليمين من أنكر ، لأن كلام الخصوم لا ينقطع ولا ينفصل إلا بهذا الحكم.
(8/10)
قالوا : كان قبل ذلك قد علق الله سلسلة من السماء وأمره بأن يقضي بها بين الناس ، فمن كان على الحق يأخذ السلسلة وتصل يده إليها.
ومن كان ظالماً لا يقدر على أخذ السلسلة ثم قال المدعى عليه : خذ مني العصا ، فأخذ عصاه فقال : إني دفعت اللؤلؤ إليه وإني صادق في مقالتي فجاء وأخذ السلسلة ، فاتفق أن رجلاً غصب من رجل آخر لؤلؤاً فجعل اللؤلؤ في جوف عصاه ، ثم خاصم المدعي إلى داودعليه السلام ، فقال : إن هذا قد أخذ لؤلؤاً وإني صادق في مقالتي فجاء وأخذ السلسلة فتحير داود في ذلك ورفعت السلسلة وأمر عليه السلام بأن يقضي بالبينات والإيمان فذلك قوله : {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} ، يعني : العلم والفهم وفصل الخطاب يعني القضاء بالبينات والإيمان على الطالبين والمدعى عليهم كذا في "تفسير الإمام أبي الليث" رحمه الله.
وكان
15
الحكم في شرعنا أيضاً بذلك ؛ لأنه أسدّ الطرق وأحسن الوسائل في كل مسألة من المسائل لكل سائل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَشَدَدْنَا مُلْكَه وَءَاتَيْنَـاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ * وَهَلْ أَتَـاـاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُادَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْا خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَـاذَآ أَخِى لَه تِسْعٌ وَتِسْعُونَ} .
{وَهَلْ أَتَـاـاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ} : استفهام معناه التعجب والتشويق إلى استماع ما في حيزه للإيذان بأنه من الأخبار البديعة التي حقها أن لا تخفى على أحد.
والنبأ : الخبر العظيم والخصم بمعنى المخاصم وأصل المخاصمة أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر بالضم ؛ أي : جانبه ولما كان الخصم في الأصل مصدراً متساوياً أفراده وجمعه ، أطلق على الجمع في قوله تعالى : {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} .
يقال : تسور المكان إذا علا سوره وسور المدينة حائطها المشتمل عليها.
وقد يطلق على حائط مرتفع وهو المراد هنا.
والمراد من المحراب البيت الذي كان داود عليه السلام يدخل فيه ويشتغل بطاعة ربه.
قيل : كان ذلك البيت غرفة وسمي ذلك البيت محراباً لاشتماله على المحراب على طريقة تسمية الشيء بأشرف أجزائه وإذ متعلقة بمحذوف ، وهو التحاكم ؛ أي : نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا المحراب ؛ أي : تصعدوا سور الغرفة ونزلوا إليه.
والمراد بالخصم المتسورين : جبرائيل وميكائيل بمن معهما من الملائكة على صورة المدعي والمدعى عليه ، والشهود والمزكين من بني آدم.
{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُادَ} : بدل مما قبله.
{فَفَزِعَ مِنْهُمْ} : الفزع انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف وهو من جنس الجزع ، ولا يقال : فزعت من الله كما يقال خفت منه وإنما فزع منهم ، لأنه كان الباب مغلقاً وهو يتعبد في البيت فنزلوا عليه بغتة من فوق ؛ أي : من غير الباب على خلاف العادة.
وفيه إشارة إلى كمال ضعف البشرية مع أنه كان أقوى إذ فزع منهم ، ولعل فزع داود كان لاطلاع روحه على أنه تنبيه له وعتاب فيما سلف منه كما سيأتي فلما رأوه فزعاً {قَالُوا} : إزالة لفزعه {لا تَخَفْ} منا.
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنه لا تخف من صورة أحوالنا ، فإنا جئنا لتحكم بيننا بالحق ولكن خف من حقيقة أحوالنا ، فإنها كشف أحوالك التي جرت بينك وبين خصمك أوريا {خَصْمَانِ} ؛ أي : نحن فريقان متخاصمان على تسمية مصاحب الخصم خصماً تجوزاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
والحاصل أنه أطلق لفظ الخصم فيما سبق على الجمع بدليل تسوروا ثم ثنى بتأويل الفريق ، وهم وإن لم يكونوا فريقين بل شخصين اثنين بدليل {إِنَّ هَـاذَآ أَخِى} الآية لكن جعل مصاحب الخصم خصماً فكانا بمن معهما فريقين من الخصوم ، فحصل الانطباق بين صيغة التثنية في قوله خصمان وبين ما مر من إرادة الجمع.
{بَغَى} : (ستم وجور كرد).
{بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} : هو على الفرض وقصد التعريض بداود لا على تحقيق البغي من أحدهما ، فلا يلزم الكذب إذ الملائكة منزهون عنه ، فلا يحتاج إلى ما قيل أن المتخاصمين كانا لصين دخلا عليه للسرقة ، فلما رآهما اخترعا الدعوى كما في "شرح المقاصد".
{فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} : بالعدل : وبالفارسية : (بس حكم كن درميان ما براستى).
{وَلا تُشْطِطْ} : (الإشطاط : بيدا كردن واز حد در كذشتن) من الشطط وهو مجاوزة الحد وتخطي الحق.
والمعنى : لا تجر في الحكومة وهو تأكيد للأمر بالحكم بالحق والمقصود من الأمر والنهي والاستعطاف.
{وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ} إلى وسط طريق الحق بزجر الباغي عما سلكه من طريق الجور وإرشاده إلى منهاج العدل.
{إِنَّ هَـاذَآ} : استئناف لبيان ما فيه الخصومة {أَخِى} في الدين أو في الصحبة
16
والتعرض لذلك تمهيد لبيان كمال قبح ما فعل به صاحبه.
(8/11)
{لَه تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ} : فرأ حفص بن عاصم ولي بفتح الياء والباقون بإسكانها على الأصل.
{نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} : النعجة هي الأنثى من الضأن وقد يكنى بها عن المرأة والكناية والتعريض أبلغ في المقصود وهو : التوبيخ فإن حصول العلم بالمعرض به يحتاج إلى تأمل فإذا تأمله واتضح قبحه كان ذلك أوقع في نفسه وأجلب لخجالته وحيائه.
{فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} : أي ملكنيها وحقيقته : اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي.
والكافل : هو الذي يعولها وينفق عليها.
{وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ} ؛ أي : غلبني في مخاطبته إياي محاجة بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان أعز مني وأقوى على مخاطبتي ؛ لأنه كان الملك ، فالمعنى : كان أقدر على الخطاب لعزة ملكه كما في "الوسيط".
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{قَالَ} : داود بعد اعتراف المدعى عليه أو على تقدير صدق المدعي وإلا فالمسارعة إلى تصديق أحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر لا وجه له في الحديث : "إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر".
{لَقَدْ ظَلَمَكَ} : جواب قسم محذوف قصد به عليه السلام المبالغة في إنكار فعل صاحبه وتهجن طعمه في نعجة من ليس له غيرها مع أن له قطيعاً منها.
{بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} : السؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة والضم كأنه قيل بضم نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب.
وفي هذا إشارة إلى أن الظلم في الحقيقة من شيم النفوس ، فإن وجدت ذا عفة ، فالعلة كما قال يوسف : {وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى} (يوسف : 53) الآية.
فالنفوس جبلت على الظلم والبغي وسائر الصفات الذميمة ولو كانت نفوس الأنبياء عليهم السلام كذا ، في "التأويلات النجمية".
يقول الفقير : هذا بالنسبة إلى أصل النفوس وحقيقتها وإلا فنفوس الأنبياء مطمئنة لا أمارة إذ لم يظهر فيهم إلا آثار المطمئنة وهي أول مراتب سلوكهم.
وقد إشار الشيخ إلى الجواب بقوله ، فإن وجدت الخ.
فاعرف ذلك ، فإنه من مزالق الأقدام وقد سبق التحقيق فيه في سورة "يوسف".
ثم قال داود عليه السلام حملاً للنعجة على حقيقتها لا على كونها مستعارة للمرأة.
{وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَآءِ} ؛ أي : الشركاء الذين خلطوا أموالهم.
جمع : خليط ، كظريف.
والخلطة : الشركة ، وقد غلبت في الماشية.
{لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ؛ أي : ليتعدى غير مراعي لحق الصحبة والشركة : يعني : (ازحق خودزياده مى طلبند).
{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} : منهم فإنهم يجتنبون عن البغي والعدوان.
{وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} : وهم قليل فهم : مبتدأ وقليل خبره.
قدم عليه للاهتمام به وإنما أفرد تشبيهاً بفعيل بمعنى مفعول وما مزيدة لتأكيد القلة أو للإبهام ، أو التعجب من قلة الموصوفين بالإيمان وصالح العمل.
{وَظَنَّ دَاوُادُ أَنَّمَا فَتَنَّـاهُ} : الظن مستعار للعلم الاستدلالي لما بينهما من المشابهة.
يعني : أن الظن الغالب لما كان يقارب العلم استعير له فالظن يقين لكنه ليس بيقين عيان ، فلا يقال فيه إلا العلم.
وما في إنما كافة.
والمعنى : وعلم داود بما جرى في مجلس الحكومة أنما فعلنا به الفتنة والامتحان لا غير ، بتوجيه الحصر إلى نفس الفعل بالقياس إلى ما يغايره من الأفعال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} : إثر ما علم أن ما صدر عنه ذنب كما استغفر آدم عليه السلام بقوله ربنا ظلمنا أنفسنا إلخ وموسى عليه السلام بقوله : تبت إليك وغيرهما من الأنبياء
17
الكرام على ما بين في موضعه.
{وَخَرَّ} : سقط حال كونه {رَاكِعًا} ؛ أي : ساجداً على تسمية السجود ركوعاً لأنه مبدأه ؛ لأنه لا يكون ساجداً حتى يركع وفي كل من الركوع والسجود التحني والخضوع.
وبه استشهد أبو حنيفة وأصحابه في سجدة التلاوة على أن الركوع يقوم مقام السجود أو خرّ للسجود راكعاً ؛ أي : مصلياً إطلاقاً للجزء ، وإرادة الكل كأنه أحرم بركعتي الاستغفار والدليل على الأول ؛ أي : على الركوع هاهنا بمعنى السجود ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام كان يقول في سجدة {} وسجدة الشكر : "اللهم اكتب لي عندك بها أجراً ، واجعلها لي عندك ذخراً وضع عني بها وزراً ، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود سجدته".
{وَأَنَابَ} ؛ أي : رجوع إلى الله بالتوبة من جميع المخالفات التي هي الزلات وما كان من قبيل ترك الأولى والأفضل لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام سجد في {} وقال : "سجدها داود توبة ونسجدها شكراً".
وهذه السجدة من عزائم السجود عند أبي حنيفة ومالك رحمهما الله وكل منهما على أصله ، فأبو حنيفة يقول : هي واجبة.
ومالك : هي فضيلة عند الشافعي وأحمد سجدة شكر تستحب في غير الصلاة فلو سجد بها في الصلاة بطلت عندهما كما في فتح الرحمن.
(8/12)
وقال الكاشفي : (اين سجده نزد امام اعظم سجدة عزيمت است وميكويد بتلاوت وى سجده بايد كرد در نماز وغير غاز ونزد امام شافعي از عزائم نيست واز امام احمد درين سجده دو روايتست واين سجده دهم است بقول امام اعظم.
ودر فتوحات مكيه اين را سجده انابت كفته وفر موده كه).
يقال لها : سجدة الشكر في حضرة الأنوار ؛ لأن داود سجدها شكراً.
{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِه وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُادُ أَنَّمَا فَتَنَّـاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّه وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَا * فَغَفَرْنَا لَه ذَالِكَا وَإِنَّ لَه عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَـاَابٍ * يادَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُا بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{فَغَفَرْنَا لَه ذَالِكَ} ؛ أي : ما استغفر منه ، وكان ذلك في شهر ذي الحجة كما في "بحر العلوم" ، وروي ، أنه عليه السلام بقي في سجوده أربعين يوماً وليلة لا يرفع رأسه لصلاة مكتوبة أو لما لا بدّ منه ، ولا يرقأ دمعه حتى نبت منه العشب حول رأسه ولم يشرب ماء إلا ثلثاه دمع وجهد نفسه راغباً إلى الله في العفو عنه حتى كاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له : إيشا على ملكه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل ، فلما نزلت توبته بعد الأربعين وغفر له حاربه فهزمه.
وقد قال نبينا عليه السلام : "إذا بويع لخليفتين" ؛ أي : لأحدهما أولاً وللآخر بعده : "فاقتلوا الآخر منهما" ، لأنه كالباغي هذا إذا لم يندفع إلا بقتله.
{وَإِنَّ لَهُ} ؛ أي : داود {عِندَنَا لَزُلْفَى} : لقربة وكرامة بعد المنفرة كما وقع لآدم عليه السلام.
والزلفى : القربة والإزلاف : التقريب.
والازدلاف : الاقتراب ومنه سميت المزدلفة لقربها من الموقف.
وعن مالك بن دينار في قوله : {وَإِنَّ لَهُ} إلخ.
يقول الله تعالى لداود عليه السلام وهو قائم بساق العرش يا داود مجدني بذلك الصوت الرخيم اللين ، فيقول : كيف وقد سلبتنيه في الدنيا فيقول : إني أرده عليك فيرفع داود صوته بالزبور ، فيستفرغ نعيم أهل الجنة كما في "الوسيط".
{وَحُسْنَ مَـاَابٍ} : حسن مرجع في الجنة.
وفي "كشف الأسرار" : هو الجنة يعني الجنة هي مآب الأنبياء والأولياء.
وأصل هذه القصة†
أن داود عليه السلام رأى امرأة رجل يقال له : أوريا بن حنانا ، ويقال لها : بنشاوع أو بنشاويع بنت شايع ، فمال قلبه إليها وابتلي بعشقها وحبها من غير اختيار منه كما ابتلي نبينا عليه السلام بزينب رضي الله عنها لما رآها يوماً حتى قال : يا مقلب القلوب فسأله داود أن يطلقها فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها وهي أم
18
سليمان عليه السلام ، وكان ذلك جائزاً في شريعته معتاداً فيما بين أمته غير مخل بالمروءة حيث كان يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل عن امرأته ، فيتزوجها إذا أعجبته خلا أنه عليه السلام لعظم منزلته وارتفاع مرتبته ، وعلو شأنه نبه بالتمثيل على أنه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته ، ويسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة أن ينزل عنها ، فيتزوجها مع كثرة نسائه ، بل كان يجب عليه أن يصبر على ما امتحن به ، كما صبر نبينا عليه السلام حتى كان طالب الطلاق هو زوج زينب ، وهو المذكور في سورة الأحزاب لا هو عليه السلام ؛ أي : لم يكن هو عليه السلام طالت الطلاق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال البقلي : عشق داود عليه السلام لعروس من عرائس الحق حين تجلى الحق منها له ؛ فإنه كان عاشق الحق فسلاه بواسطة من وسائطه.
وهذه القصة تسلية لقلب نبينا عليه الصلاة السلام ، حيث أوقع الله في قلبه محبة زينب ، فضاق صدره ، فقال سبحانه : {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} (الإسراء : 77) ، وفرح بذلك وزاد له محبة الله والشوق إلى لقائه.
(8/13)
قال أبو سعيد الخراز ـ ـ قدس سره ـ ـ زلات الأنبياء في الظاهر زلات وفي الحقيقة كرامات وزلفى ألا تَرى إلى قصة داود حين أحس بأوائل أمره كيف استغفر وتضرع ورجع ، فكان له بذلك عنده زلفى وحسن مآب صدق أبو سعيد فيما قال ؛ لأن بلاء الأنبياء والأولياء لا ينقص اصطفائيتهم بل يزيدهم شرفاً على شرفهم ، وذلك لأن مقام الخلافة مظهر الجمال والجلال ، فيتحقق تجليات الجلال بالافتتان والابتلاء.
وفي ذلك ترق له كما قال في "التأويلات النجمية" : إن من شأن النبي والولي أن يحكم كل واحد منهم بين الخصوم بالحق كما ورد الشرع به بتوفيق الله وأن الواجب عليهم أن يحكموا على أنفسهم بالحق كما يحكمون على غيرهم كما قال تعالى : {كُونُوا قَواَّمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} (النساء : 135).
فلما تنبه داود أنه ما حكم على نفسه بالحق كما حكم على غيره استغفر ورجع إلى ربه متضرعاً خاشعاً باكياً بقية العمر معتذراً عما جرى عليه ، فتقبل الله منه ورحم عليه وعفا عنه كما قال : {فَغَفَرْنَا لَه ذَالِكَا وَإِنَّ لَه عِندَنَا لَزُلْفَى} ؛ أي : لقربة بكل تضرع وخضوع وخشوع وبكاء وأنين وحنين وتأوه صدر منه لهذه المراجعات {وَحُسْنَ مَـاَابٍ} عندنا.
انتهى.
وفي الحديث : "أوحى الله تعالى إلى داود يا داود قل للعاصين أن يسمعوني ضجيج أصواتهم ، فإني أحب أن أسمع ضجيج العاصين إذا تابوا إليّ يا داود ، لن يتضرع المتضرعون إلى من هو أكرم مني ولا يسأل السائلون أعظم مني جوداً ، وما من عبد يطيعني إلا وأنا معطيه قبل أن يسألني ومستجيب له ، قبل أن يدعوني وغافر له قبل أن يستغفرني".
وقد أنكر القاضي عياض ما نقله المؤرخون والمفسرون في هذه القصة ، وهي قولهم فيها.
ونقل عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم : أنهما قالا ما زاد داود على أن قال للرجل : انزل لي عن امرأتك وأكفلنيها ، فعاتبه الله على ذلك ونبه عليه وأنكر عليه شغله بالدنيا.
قال : وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمره ـ وحكى ـ بعضهم أن أوريا كان خطب تلك المرأة : يعني (أوريا آن زن را خطبه كره بود أورا بخواسته واز قوم وي أجابت يافته ودل بروى نهاده "فأما عقد نكاح" هنوز نرفته بود "فلما غاب أوريا" يعني بغزا رفت).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وكان من غزاة البلقاء ثم خطبها داود فزوجت منه لجلال قدره ، فاغتم لذلك أوريا ، فعاتبه الله على ذلك ، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المسلم مع عدم احتياجه ؛ لأنه
19
كانت تحت نكاحه وقتئذٍ تسع وتسعون امرأة ، ولم يكن لأوريا غير من خطبها.
يقول الفقير : دلّ نظم القرآن على الرواية فقوله : {أَكْفِلْنِيهَا} دلّ على أنها كانت تحت نكاح أوريا.
وأيضاً دل لفظ : {الْخَصْمِ} على أن أوريا بصدد الخصام ، ولا يكون بهذا الصدد إلا بكونها تحت نكاحه مطلوبة منه بغير حسن رضاه وصفاء قلبه ومجرد جواز استنزال الرجل عن امرأته في شريعتهم لا يستلزم جواز الجبر ، فلما طلقها أوريا استحياء من داود بقيت الخصومة بينه وبين داود إذ كان كالجبر كما دلّ : {وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ} ، فكان السائل العزيز الغالب فهاتان الروايتان أصح ما ينقل في هذه القصة ، فإنهم وإن أكثروا القول فيها لكن الأنبياء منزهون عما يشين بكمالهم أو لا يزين بجمالهم خصوصاً عما يقوله القصاص من حديث قتل أوريا وسببية داود في ذلك بتزوج امرأته.
ولذلك قال علي ـ ـ رضي الله عنه ـ ـ : من حدّث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين ، وذلك حدّ الفرية على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
وفي "الفتوحات المكية" في الباب السابع والخمسين بعد المائة : ينبغي للواعظ أن يراغب الله في وعظه ويجتنب عن كل ما فيه تجر على انتهاك الحرمات مما ذكره المؤرخون عن اليهود من ذكر زلات الأنبياء كداود ويوسف عليهما السلام مع كون الحق أثنى عليهم واصطفاهم ، ثم الداهية العظمى أن يجعل ذلك في تفسير القرآن.
ويقول : قال المفسرون : كذا وكذا مع كون ذلك كله تأويلات فاسدة بأسانيد واهية عن قوم غضب الله عليهم ، وقالوا في الله ما قصه الله علينا في كتابه ، وكل واعظ ذكر ذلك في مجلسه مقته الله وملائكته لكونه ذكر لمن في قلبه مرض من العصاة حجة يحتجّ بها.
ويقول : إذا كان مثل الأنبياء في مثل ذلك ، فأي شيء أنا فعلم أن الواجب على الواعظ ذكر الله وما فيه تعظيمه وتعظيم رسله وعلماء أمته وترغيب الناس في الجنة وتحذيرهم من النار وأهوال الموقف بين يدي الله تعالى ، فيكون مجلسه كله رحمة.
انتهى كلام "الفتوحات" على صاحبه أعلى التجليات.
(8/14)
قال الشيخ الشعراني قدس سره في "الكبريت الأحمر" : وكذلك لا ينبغي له أن يحقق المناط في نحو قوله تعالى : {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ انفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران : 159).
ولا نحو قوله : {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخِرَةَ} (آل عمران : 152).
وقوله : {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآاـاِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ} (المائدة : 13).
فإن العامة إذا سمعوا مثل ذلك استهانوا بالصحابة ثم احتجوا بأفعالهم.
انتهى كلامه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله : يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين رضي الله عنه وحكاية ما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم ، فإنه يهيج بغض الصحابة والطعن فيهم وهم أعلام الدين ، وما وقع بينهم من المنازعات ، فيحمل على محامل صحيحة ، فلعل ذلك الخطأ في الاجتهاد لا لطلب الرياسة أو الدنيا ، كما لا يخفى.
انتهى.
والحاصل : أن معاصي الخواص ليست كمعاصي غيرهم بأن يقعوا فيها بحكم الشهوة الطبيعية ، وإنما تكون معاصيهم بالخطأ في التأويل ، فإذا أظهر الله لهم فساد ذلك التأويل الذي أداهم إلى ذلك الفعل حكموا على أنفسهم بالعصيان ، وتابوا ورجعوا إلى حكم العزيز المنان.
{يادَاوُادُ} ؛ أي : فغفرنا له ذلك وقلنا له : يا داود {إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الأرْضِ} .
الخلافة : النيابة عن الغير إما لغيبة المنوب عنه وإما لموته ، وإما لعجزه ، وإما لتشريف المستخلف وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض إذ الوجوه الأول محال في حق
20
الله تعالى فالخليفة عبارة عن الملك النافذ الحكم ، وهو من كان طريقته وحكومته على طريقة النبي وحكومته والسلطان أعم ، والخلافة في خصوص مرتبة الإمامة أيضاً أعمّ.
والمعنى : استخلفناك على الملك في الأرض والحكم فيما بين أهلها ؛ أي : جعلناك أهل تصرف نافذ الحكم في الأرض كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها.
وكان النبوة قبل داود في سبطه والملك في سبط آخر فأعطاهما تعالى داود عليه السلام ، فكان يدبر أمر العباد بأمره تعالى.
وفي دليل بيّن على أن حاله عليه السلام بعد التوبة كما كان قبلها لم يتغير قط ، بل زادت اصطفائيته كما قال في حق آدم عليه السلام : {ثُمَّ اجْتَبَـاهُ رَبُّه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (طه : 122).
قال بعض كبراء المكاشفين : ثم المكانة الكبرى والمكانة الزلفى التي خصه الله بها التنصيص على خلافته ، ولم يفعل ذلك مع أحد من أبناء جنسه وهم الأنبياء وإن كان فيهم خلفاء.
فإن قلت : آدم عليه السلام قد نص الله على خلافته ، فليس داود مخصوصاً بالتنصيص على خلافته.
قلنا : ما نص على خلافة آدم مثل التنصيص على خلافة داود وإنما قال للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة فيحتمل أن يكون الخليفة الذي أراده الله غير آدم بأن يكون بعض أولاده ، ولو قال أيضاً : إني جاعل آدم لم يكن مثل قوله : إنا جعلناك خليفة بضمير الخطاب في حق داود ، فإن هذا محقق ليس فيه احتمال غير المقصود.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال بعضهم : تجبرت الملائكة على آدم ، فجعله الله خليفة وتجبر طالوت على داود فجعله خليفة وتجبرت الأنصار على أبي بكر رضي الله عنه ، فجعله خليفة ، فلذا جعل الله الخلفاء ثلاثة : آدم وداود وأبا بكر.
وكان مدة ملك داود أربعين سنة مما وهبه الخليفة الأول من عمره ، فإن آدم وهب لداود من عمره ستين سنة ، فلذا كان خليفة في الأرض كما كان آدم خليفة فيها.
وفي الآية إشارة إلى معان مختلفة :
منها : أن الخلافة الحقيقية ليست بمكتسبة للإنسان وإنما هي عطاء وفضل من الله يؤتيه من يشاء كما قال تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً} ؛ أي : أعطيناك الخلافة.
ومنها : أن استعداد الخلافة مخصوص بالإنسان كما قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائفَ الأرْضِ} (الأنعام : 165).
ومنها : أن الإنسان وإن خلق مستعداً للخلافة ، ولكن بالقوة فلا يبلغ درجاتها بالفعل إلا الشواذ منهم.
ومنها : أن الجعلية تتعلق بعالم المعنى ، كما أن الخلقية تتعلق بعالم الصورة ولهذا لما أخبر الله تعالى عن صورة آدم عليه السلام قال : {إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ} (ص : 71).
ولما أخبر عن معناه قال : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً} (البقرة : 30).
ومنها : أن الروح الإنساني هو الفيض الأول ، وهو أول شيء تعلق به أمركن ولهذا نسبه إلى أمره ، فقال تعالى : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85) ، فلما كان الروح هو الفيض الأول كان خليفة الله.(8/15)
ومنها : أن الروح الإنساني خليفة الله بذاته وصفاته إما بذاته ، فلأنه كان له وجود من وجود وجوده بلا واسطة ، فوجوده كان خليفة وجود الله.
وإما بصفاته ، فلأنه كان له صفات من صفات الله بلا واسطة ، فكل وجود وصفات تكون بعد وجود الخليفة يكون خليفة ، خليفة الله بالذات والصفات وهلم جراً إلى أن يكون القالب الإنساني هو أسفل سافلين الموجودات وآخر شيء لقبول الفيض الإلهي ، وأقل حظ من الخلافة ، فلما أراد الله أن يجعل الإنسان خليفة خليفته في الأرض خلق لخليفة روحه منزلاً صالحاً لنزول الخليفة فيه ، وهو قالبه وأعدّ له عرشاً فيه ليكون محل استوائه عليه ، وهو القلب ونصب له خادماً وهو النفس ، فلو بقي الإنسان على
21
فطرة الله التي فطر الناس عليها يكون روحه مستفيضاً من الحق تعالى فائضاً بخلافة الحق تعالى على عرش القلب والقلب فائض بخلافة الروح على خادم النفس والنفس فائضة بخلافة القلب على القالب والقالب فائض بخلافة النفس على الدنيا ، وهي أرض الله فيكون الروح بهذه الأسباب والآلات خليفة الله في أرضه بحكمه وأمره بتواقيع الشرائع.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
ومنها : أن من خصوصية الخلافة الحكم بين الناس بالحق والإعراض عن الهوى بترك متابعته كما أن من خصوصية أكل الحلال العمل الصالح قال تعالى : {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَـاتِ وَاعْمَلُوا صَـالِحًا} (المؤمنون : 51).
ومنها : أن الله تعالى جعل داود الروح خليفة في أرض الإنسانية وجعل القلب والسر والنفس والقالب والحواس والقوى والأخلاق والجوارح والأعضاء كلها رعية له ثم على قضية كلكم راععٍ وكلكم مسؤول عن رعيته أمر بأن يحكم بين رعيته بالحق ؛ أي : بأمر الحق لا بأمر الهوى ، كما قال تعالى : {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} ؛ أي : بحكم الله تعالى ، فإن الخلافة مقتضية له حتماً وحكم الله بين خلقه هو العدل المحض وبه يكون الحاكم عادلاً لا جائراً.
والحكم لغة : الفصل وشرعاً : أمر ونهي يتضمنه إلزاماً.
{وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} ؛ أي : ما تهواه النفس وتشتهيه في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا : وبالفارسية : (وبيروى مكن هواى نفس را وآرزوهاي أورا).
قال بعضهم : وهو يؤيد ما قيل أن ذنب داود الهم الذي هم به حين نظر إلى امرأة أوريا ، وهو أن يجعلها تحت نكاحه أو ما قيل : أن ذنبه المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مسألته : {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} بالنصب على أنه جواب النهي ؛ أي : فيكون الهوى أو اتباعه سبباً لضلالك عن دلائله التي نصبها على الحق تكويناً وتشريعاً.
قال بعض الكبار : {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} ؛ أي : ما يخطر لك في حكمك من غير وحي مني ، {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي : عن الطريق الذي أوحى بها إلى رسلي.
انتهى.
فإن قلت : كيف يكون متابعة الهوى سبباً للضلال.
قلت : لأن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية فيشغل عن طلب السعادات الروحانية التي هي الباقيات الصالحات فمن ضلّ عن سبيل الله الذي هو اتباع الدلائل المنصوبة على الحق أو اتباع الحق في الأمور وقع في سبيل الشيطان ، بل في حفرة النيران والحرمات.
{إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} : تعليل لما قبله ببيان غائلته وإظهار في سبيل الله في موضع الإضمار للإيذان بكمال شناعة الضلال عنه.
{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُا بِمَا نَسُوا} ؛ أي : بسبب نسيانهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{يَوْمِ الْحِسَابِ} : مفعول لنسوا.
ولما كان الضلال عن سبيل الله مستلزماً لنسيان يوم الحساب كان كل منهما سبباً وعلة لثبوت العذاب الشديد تأدب سبحانه وتعالى مع داود ، حيث لم يسند الضلال إليه ؛ بأن يقول : فلئن ضللت عن سبيلي فلك عذاب شديد لما هو مقتضى الظاهر بل أسنده إلى الجماعة الغائبين الذين داود عليه السلام واحد منهم.
واعلم أن الله تعالى خلق الهوى الباطل على صفة الضلالة مخالفاً للحق تعالى ؛ فإن من صفته الهداية والحكمة في خليفته يكون هادياً إلى الحضرة بضدية طبعه ومخالفة أمره كما أن الحق تعالى كان هادياً إلى حضرته بنور ذاته وموافقة أمره ليسير السائر إلى الله على قدمي موافقته أمر الله ومخالفته هواه.
ولهذا قال المشائخ : لولا الهوى ما سلك أحد طريقاً إلى الله تعالى ، وأعظم جنايات العبد وأقبح
22
خطاياه متابعة الهوى كما قال عليه السلام : "ما عبد إله في الأرض أبغض على الله من الهوى".
(8/16)
وفي الحديث : "ثلاث مهلكات : شحّ مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه".
وللهوى كمالية في الإضلال لا توجد في غيره ذلك لأنه يحتمل أن يتصرف في الأنبياء عليهم السلام بإضلالهم عن سبيل الله كما قال لداود عليه السلام : {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} .
وبقوله : {إِنَّ الَّذِينَ} إلخ : يشير إلى أن الضلال الكبير هو : الانقطاع عن طلب الحق ومن ضل عن طريق الحق أخذ بعذاب شديد القطيعة والحرمان من القرب وجوار الحق وذلك بما نسوا يوم الحساب ، وهو يوم يجازى فيه كل محق بقدر هدايته وكل مبطل بحسب ضلالته كما في "التأويلات النجمية".
وفي الآية دليل على وجوب الحكم بالحق وأن لا يميل الحاكم إلى أحد الخصمين بشيء من الأشياء.
وفي الحديث ، أنه عليه السلام قال لعلي : "يا علي احكم بالحق فإن لكل حكم جائر سبعين درعاً من النار لو أن درعاً واحداً وضع على رأس جبل شاهق لأصبح الجبل رماداً".
(درفوائد السلوك آورده كه بنكركه بادشاهى جه صعب كاريست كه حضرت داود عليه السلام با كمال درجه نبوت وجلال مرتبه رسالت بحمل اعباى جنين أمري مأمور وبخطب اثقال جنين خطابي مخاطب مي شودكه {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} ميان مردمان بطريق معدلت ونصفت كن وداورى برمنهج عدل وإنصاف نماي وباي برجاي حق نه بر طريق باطل ومتابعت هواي نفس برمتابعت مراد حق اختيار مكن كه تراز مسالك مراضى ما كمراه كردند : ودر سلسلة الذهب ميفرمايد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
نص قرآن شنوكه حق فرمود
در مقام خطاب يا داود
كه ترازان حليفكى داديم
سوى خلقان ازان فرستاديم
تادهى ملك را زعدل اساس
حكم راني بعدل بين الناس
هركرا نه زعدل دستورست
از مقام خليفكي دورست
آنكه كيرد ستم زديو سبق
عدل جون خواندش خليفة حق
بيشه كرده خلاف فرمان را
كشته نائب مناب شيطان را
حق زشاهان بغير عدل نخواست
آسمان وزمين بعدل بباست
شاه باشد شبان خلق همه
رمه وكرك آن رمه زكرك امان
بهر آنست هاي هوى شبان
تابيايد رمه زكرك امان
جون شبان سازكار كرك بود
رمه را آفت بزرك بود
هركرا دل بعدل شد مائل
طمع از مال خلق كوبكسل
طمع وعدل آتش وآبند
هردو يكجا قرار كي يابند
هركرا از خليفكي خداي
نشود سير نفس بد فرماي
سيرمشكل شود ازان زروسيم
كه كشدكه زبيوه كه زيتيم
ومن الله التوفيق للعدل في الأنفس والآفاق وإجراء أحكام الشريعة وآداب الطريقة على الإطلاق إنه المحسن الخلاق.
{يادَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُا بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـاطِلا ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلُُ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الارْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَـاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الالْبَـابِ} .
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} : من المخلوقات {بَـاطِلا}
23
؛ أي : خلقاً باطلاً لا حكمة فيه ، بل ليكون مدار للعلم والعمل ومذكراً للآخرة وما فيها من الحساب والجزاء ؛ فإن الدنيا لا تخلو عن الصفو والكدر وكل منهما يفصح عما في الآخرة من الراحة والخطر.
وأيضاف ليكون مرآة يشاهد فيها المؤمنون الذين ينظرون بنور الله شواهد صفات الجمال والجلال.
جهان مرآت حسن شاهدماست
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
فشاهد وجهه في كل ذرات
{ذَالِكَ} ؛ أي : كونه خلقاً باطلاً خالياً عن الغاية الجليلة والحكمة الباهرة.
{ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي : مظنون كفار مكة فإنهم وإن كانوا مقرين بأن الله هو الخالق لكن لما اعتقدوا بأن الجزاء الذي هو علة خلق العالم باطل لزمهم أن يظنوا أن المعلول باطل ويعتقدوا ذلك.
{فَوَيْلُُ} ؛ أي : فإذا كان مظنونهم هذا فالهلال كل الهلاك ؛ أي : فشدة هلاك حاصل : وبالفارسية : (بس واي).
{لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} : خبر لويل.
{مِنَ النَّارِ} : من تعليلية مفيدة لعلية النار لثبوت الويل لهم صريحاً بعد الإشعار بعلية ما يؤدي إليها من ظنهم وكفرهم ؛ أي : فويل لهم بسبب النار المرتبة على ظنهم وكفرهم فلابدّ من رؤية الحق والباطل باطلاً وتدارك زاد اليوم ؛ أي : يوم الجزاء ظاهراً وباطناً ليحصل الخلاص والنجاة والنعيم واللذات في أعلى الدرجات.
(8/17)
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} : أم منقطعة بمعنى بل.
و(الهمزة) الإنكارية ؛ أي : بل أنجعل المؤمنين المصلحين في الأرض {كَالْمُفْسِدِينَ فِى الأرْضِ} بالكفر والمعاصي ؛ أي : لا نجعلهم سواء ، فلو بطل البعث والجزاء كما يظن الكفار لاستوت عند الله حال من أصلح ومن أفسد ومن سوى بينهما ، كان سفيهاً والله تعالى منزه عن السفه ، فإنما بالإيمان والعمل الصالح يرفع المؤمنين إلى أعلى عليين ويرد الكافرين إلى أسفل سافلين.
{أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ؛ أي : كما لا نجعل أهل الإيمان والعمل الصالح الذين هم مظاهر صفات لطفنا وجمالنا كالمفسدين الذين هم مظاهر صفات قهرنا وجلالنا كذلك لا نجعل أهل التقوى ، كالفجار.
والفجر : شق الشيء شقاً واسعاً.
والفجور : شق سر الديانة.
أنكر التسوية أولاً بين أهل الإيمان والشرك ، ثم بين أهل التقوى والهوى يعني من المؤمنين ، وهو المناسب لمقام التهديد والوعيد كي يخاف من الله تعالى كل صنف بحسب مرتبته.
ويجوز أن يكون تكرير الإنكار الأول باعتبار وصفين آخرين يمنعان التسوية من الحكيم الرحيم.
وروي : أن كفار قريش قالوا للمؤمنين : إنا نعطى في الآخرة من الخير ما تعطون بل أكثر فقال تعالى : {أَمْ نَجْعَلُ} إلخ.
وإنما قالوا ذلك على تقدير وقوع الآخرة كما سبق من قوله تعالى : {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلَـادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (سبأ : 35).
وسيجيء في قوله تعالى : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (القلم : 35) ؛ أي : في ثواب الآخرة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
واعلم أن الله تعالى سوى بين الفريقين في التمتع بالحياة الدنيا بل الكفار أوفر حظاً من المؤمنين ؛ لأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، لكن الله جعل الدار الآخرة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً ، وهم المؤمنون المخلصون المنقادونولأمره ، وإنما لم يجازهم في هذه الدار لسعة رحمته وضيق هذه الدار ، فلذا أخر الجزاء إلى الدار الآخرة ، فإذا ترقى الإنسان من الهوى إلى الهدى ومن الفجور إلى التقوى أخذ الأجر بالكيل الأوفى.
ثم لما كان القرآن منبع جميع السعادات والخيرات وصفه
24
أولاً ثم بين المصلحة فيه فقال : {كِتَـابٌ} : خبر مبتدأ محذوف وهو عبارة عن القرآن ؛ أي : هذا كتاب {أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ} : صفته {مُبَـارَكٌ} : خبر ثان للمبتدأ ؛ أي : كثير المنفعة دنيا وديناً لمن آمن به وعمل بأحكامه وحقائقه وإشاراته ، فإن البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء والمبارك ما فيه ذلك الخير {لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ} : متعلق بأنزلنا وأصله : يتدبروا فأدغمت التاء في الدال ؛ أي : أنزلناه ليتفكروا في آياته بالفكر السليم فيعرفوا ما يتبع ظاهرها من المعاني الفائقة والتأويلات اللائقة ؛ أي : ليتفكروا في معانيها فإن التدبر عبارة عن النظر في عواقب الأمور والتفكر : تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب.
{وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الالْبَـابِ} ؛ أي : وليتعظ به أصحاب العقول الخالصة عن شوب الوهم ، عمم التدبر لعموم العلماء وخص التذكر بخصوص العقلاء ؛ لأن التدبر للفهم والتذكر لوقوع الإجلال والخشية الخاص بأكابر أهل العلم.
قال بعضهم : التفكر عند فقدان المطلوب لاحتجاب القلب بالصفات النفسانية.
وأما التذكر فهو عند رفع الحجاب والرجوع إلى الفطرة الأولى ، فيتذكر ما انطبع في النفس في الأزل من التوحيد والمعارف انتهى.
فعلم أن المقصود من كلام الحق التفكر والتذكر والاتعاظ به لا حفظ الألفاظ فقط.
قال الشبلي قدس سره : قرأت أربعة آلاف حديث ثم اخترت منها حديثاً واحداً ، وكان علم الأولين والآخرين مندرجاً فيه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لبعض أصحابه : "اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها واعملبقدر حاجتك إليه واعمل للنار بقدر صبرك عليها".
وكان الصحابة يكتفون ببعض السور القرآنية ويشتغلون بالعمل بها ؛ فإن المقصود من القرآن العمل به.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
روي أن رجلاً جاء إلى النبي عليه السلام وقال : علمني مما علمك الله ، فدفعه إلى رجل يعلمه القرآن ، فعلمه : {إِذَا زُلْزِلَتِ الارْضُ} (الزلزلة : 1)حتى بلغ {فَمَن يَعْمَلْ} (الزلزلة : 7) إلخ.
قال : حسبي ، فأخبر النبي عليه السلام بذلك فقال : "دعوه فقد فقه الرجل".
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : مررت بحجر مكتوب عليه : قلبني ينفعك ، فقلبته ، فإذا مكتوب عليه : أنت بما تعلم لا تعمل فكيف تطلب ما لم تعلم.
(8/18)
وعن البصري رحمه الله : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله وحفظوا حروفه وضيعوا حدوده حتى أن أحدهم ليقول : والله ، لقد قرأت القرآن ، فما أسقطت منه حرفاً ، والله وقد أسقط كله ما يرى عليه للقرآن أثر في خلق ولا عمل والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء ، فمن اقتفى بظاهر المتلوّ كان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها ومهرة نتوج لا يستولدها.
قال أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "تعوذوا بالله من فخر القراء ، فإنهم أشد فخراً من الجبابرة.
ولا أحد أبغض إلى رسول الله من قارىء متكبر".
وعن علي رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "تعوذوا بالله من دار الحزن فإنها إذا فتحت استجارت منها جهنم سبعين مرة ، أعدها الله للقراء المرائين بأعمالهم وإن شر القراء لمن يزور الأمراء" : وفي سلسلة الذهب للمولى الجامي قدس سره.
رُب تاللٍ يفوه بالقرآن وهو يفضي به إلى الخذلان.
25
خواجه را نيست جزتلاوت كار
ليكن آن طرد ولعنت آرد بار
لعنتست اين كه بهر لهجه وصوت
شود از تو حضور خاطر فوت
نشود بر دل توتا بنده
كين كلام خداست يابنده
لعنتست اين كه سازدت بي سيم
روز شب با مير وخواجه نديم
خانه شان مزبله است وقرآن نور
دار اين نور را زمز بله دور
معنى لعن جيست مردودى
بمقامات بعد خشنودى
هركه ماند از خدا بيك سرمو
آمد اندر مقام بعد فرو
كرجه ملعون نشد زحق مطلق
هست ملعون بقدر بعد ازحق
{كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَـاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الالْبَـابِ * وَوَهَبْنَا لِدَاوُادَ سُلَيْمَـانَا نِعْمَ الْعَبْدُا إِنَّه أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّـافِنَـاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَىَّا فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ وَالاعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّه جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُادَ سُلَيْمَـانَ} : (وبخشيديم داودرا فرزندى كه آن سليمانست) عليهما السلام.
والهبة : عطاء الواهب بطريق الإنعام لا بطريق العوض ، والجزاء الموافق لأعمال الموهوب له.
فسليمان : النعمة التامة على داود ؛ لأن الخلافة الظاهرة الإلهية قد كملت لداود وظهرت أكمليتها في سليمان ، وكذا على العالمين لما وصل منه إليهم من آثار اللطف والرحمة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أولادنا من مواهب الله ، ثم قرأ : {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} (الشورى : 49).
روي : أن داود عليه السلام عاش مائة سنة ومات يوم السبت فجأة.
ويوم السبت لهم كيوم الجمعة لنا أتاه ملك الموت وهو يصعد في محرابه ؛ أي : الغرفة وينزل.
وقال : جئت لأقبض روحك ، فقال : دعني حتى أنزل وأرتقي ، فقال : ما لي إلى ذلك سبيل ، نفدت الأيام والشهور والسنون والآثار والأرزاق ، فما أنت بمؤثر بعدها ، فسجد داود على مرقاة من الدرج فقبض نفسه على تلك الحال.
وموت الفجأة رحمة للصالحين وتخفيف ورفق بهم إذ هم المنقطعون المستعدون ، فلا يحتاجون إلى الإيصاء وتجديد التوبة ورد المظالم بخلاف غيرهم ولذا كان من آثار غضب الله على الفاسقين ، وأوصى داود لابنه سليمان بالخلافة.
{نِعْمَ الْعَبْدُ} سليمان لصلاحية استعداده للكمال النوعي الإنساني وهو مقام النبوة والخلافة.
قال بعضهم : العبودية هي الذبول عن موارد الربوبية والخمول تحت صفات الألوهية.
{إِنَّه أَوَّابٌ} : رجاع إلى الحضرة بإخلاص العبودية بلا علة دنيوية ولا أخروية أو رجاع إلى الله في جميع الأحوال في النعمة بالشكر وفي المحنة بالصبر.
(بظاهر ملك ومملكت ميراند وبباطن فقر وفاقت همى برورد سليمان روزى تمنى كرد كفت بار خدايا جن وانس وطيور ووحوش بفرمان من كردى جه بود كه ابليس رانيز بفرمان من كنى تا أورا كنم كفت اي سليمان اين تمنى مكن كه دران مصلحت نيست كفت بار خدايا كر هم دو روز باشد اين مراد من بده كفت دادم سليمان ابليس را در بند كرد ومعاش سليمان با آن همه ملك ومملكت از دست رنج خويش بود هر روز نبيلى ببافتى وبدو قرص بدادى ودر مسجد با درويشى بهم بخوردى وكفتى).
مسكين وجالس مسكيناً.
يك كدا بود سليمان بعصا وزنبيل
يافت از لطف توآن حشمت وملك آرايى
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
آن روز كه ابليس در بند كرد زنبيل ببازار فرستاد وكس نخريد كه در بازار آن
26
(8/19)
روز هيج معاملت وتجارب نبود ومردم همه بعبادت مشغول بودند آن روز سليمان هيج طعام نخورد ديكر روز همجنان بر عادت زنبيل بافت وكس نخريد سليمان كرسنه شد بالله ناليد كفت بار خدايا كرسنه وكس زنبيلى نمى خرد فرمان آمد كه اي سليمان نمى دانى كه جون تو مهتر بازاريان در بند كنى در معاملات بر خلق فروبسته شود ومصلحت خلق نباشد أو معمار دنياست ومشارك خلق در أموال واولاد).
يقول الله تعالى : {وَشَارِكْهُمْ فِى الامْوَالِ وَالاوْلَـادِ} (الإسراء : 64) فظهر من هذه الحكاية حال سليمان مع الله تعالى وكونه متخلياً عن المال فارغاً عن الملك في الحقيقة.
جوهر ساعت از بجايى رود دل
بتنهايى اندر صفايى نبينى
ورت مال وجاهست وزرع وتجارت
جو دل باخدايست خلوت نشينى
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} ؛ أي : اذكر ما صدر عنه إذ عرض عليه يقال : عرض له أمر كذا ؛ أي : ظهر وعرضته له ؛ أي : أظهرته وعرض الجند إذا أمرهم عليه ونظر ما حالهم.
{بِالْعَشِىِّ} : هو من الظهر إلى آخر النهار.
{الصَّـافِنَـاتُ} : مرفوع بعرض جمع صافن لا صافنة ، لأنه لذكور الخيل وصفة المذكر الذي لا يعقل يجمع هذا الجمع مطرداً كما عرف في النحو.
والصفن : الجمع بين الشيئين ضاماً بعضهما إلى بعض يقال : صفن الفرس قوائمه إذا قام على ثلاث وثنى الرابعة ؛ أي : قلب أحد حوافره وقام على طرف سنبك يد أو رجل.
والسنبك : طرف مقدم الحافر.
وهو من الصفات المحمودة في الخيل لا يكاد يتفق إلا في العربي الخالص.
والمعنى بالفارسية : (اسبان ايستاده سه باى وبركناره سم از قائم جهارم).
{الْجِيَادُ} : جمع جواد وجود وهو الذي يسرع في جريه تشبيهاً له بالمطر الجود.
والمعنى بالفارسية : (اسبهاى تازى نيورنك نيكوقد تيزرو).
كذا قاله صاحب "كشف الأسرار" ، وكأنه جمع بين معنى الجيد والجواد.
قال في "القاموس" : الجواد السخي والسخية.
والجمع : الأجواد.
والجيد ضد الرديء والجمع : الجياد.
وقيل : الجواد هو : الفرس الذي يجود عند الركض ؛ أي : العدو.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الجياد : الخيل السوابق ، وإذا جرت كانت سراعاً خفافاً في جريها.
روي أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين ، وهي قاعدة ديار ربيعة ، فأصاب ألف فرس عربي ، أو أصابها أبوه من العمالقة فورثها منه ، وهذا على تقدير عدم بقاء قوله عليه السلام : "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة" على عمومه أو يحمل على الاستعارة بعلاقة المشابهة في ثبوت ولاية التصرف ، فإن لسليمان حق التصرف فيما تركه أبوه في بيت المال ، كالدروع ونحوها كما كان للخلفاء حق التصرف فيما تركه نبينا عليه السلام ، ولذا منع أبو بكر رضي الله عنه فاطمة رضي الله عنها عن الميراث حيث طلبته وذلك أن ما تركه عليه السلام من صفايا أموال النفير وفدك كان مصروفاً إلى نفقة نسائه كما في حياته لكونهن محبوسات عليه إلى وفاتهن.
وأيضاً إلى نفقة خليفته لكونه خادماً له قائماً مقامه وما فضل من ذلك كان يصرف إلى مصالح المسلمين ، فلم يبق له بعد وفاته ما يكون ميراثاً لأهل بيته.
(وكفته اند اسبان دريايى بودند وبر داشتند وديوان.
براى سليمان از بحر بر آوردند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وسيجيء ما يؤيده
27
وعلى كل تقدير قعد سليمان يوماً بعد ما صلى الظهر على كرسيه وكان يريد جهاداً ، فاستعرض تلك الأفراس ؛ أي : طلب عرضها عليه ، فلم تزل تعرض عليه وهو ينظر إليها ويتعجب من حسنها حتى غربت الشمس وغفل عن العصر ، وكانت فرضاً عليه كما في "كشف الأسرار" ، وعن ورد : كان له من الذكر وقتئذٍ وتهيبه قومه فلم يعلموه فاغتم لما فاته بسبب السهو والنسيان فاستردها فعقرها تقرباً إلى الله وطلباً لمرضاته على أن يكون العقر قربة في تلك الشريعة ، ولذا لم ينكر عليه فعله أو مباحاً في ذلك اليوم ، وإنما أراد بذلك الاستهانة بمال الدنيا لمكان فريضة الله كما قال أبو الليث فلم يكن من قبيل تعذيب الحيوان.
يقول الفقير : سر العقر هاهنا هو أن تلك الخيل لما شغلته عن القيام إلى الصلاة كان العقد كفارة موافقة له.
وقال بعضهم : المراد من العقر : الذبح فيكون تقديم السوق كما يأتي لرعاية الفاصلة ، فذبحها وتصدق بلحومها.
وكان لحم الخيل حلالاً في ذلك الوقت وإنما لم يتصدق بها ، لأنه يحتاج إلى زمان ووجدان محل صالح له.
والحاصل : أنه ذبح تسعمائة وبقي مائة وهو ما لم يعرض عليه بعد فما في أيدي الناس من الجياد ، فمن نسل تلك المائة الباقية كذا.
قالوا : وفيه أن هذا يؤيد كون تلك الخيل قد أخرجت من البحر إذ لو كانت من غنائم الغزو لم يلزم أن يكون نسل الجياد من تلك المائة لوجود غيرها في الدنيا ، وأيضاً على تقدير كونها ميراثاً من أبيه بالمعنى الثاني كما سبق تكون أمانة في يده.
والأمانة لا تعقر ولا تذبح كما لا يخفى.
(8/20)
{فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى} ، قاله عليه السلام عند غروب الشمس اعترافاً بما صدر عنه من الاشتغال بها عن الصلاة وندماً عليه وتمهيداً لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها ، والتعقيب بالفاء باعتبار آواخر العرض المستمر دون ابتدائه والتأكيد للدلالة على أن اعترافه وندمه عن صميم القلب لا لتحقيق مضمون الخبر وأصل أحببت : أن يعدى بعلى لأنه بمعنى آثرت كما في قوله تعالى : {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فصلت : 17).
وكل من أحب شيئاً فقد آثره ، لكن لما أنيب مناب أنبت وضمن معناه عدي تعديته بعن وحب الخير مفعوله ؛ أي : مفعول به لانبت المضمن ، والذي أنيب مناب الذكر هو الاطلاع على أحوال الخيل لا حب الخيل إلا أنه عدى الفعل إلى حب الخيل للدلالة على غاية محبته لها فإن الإنسان قد يحب شيئاً ، ولكنه يحب أن لا يحبه كالمريض الذي يشتهي ما يضره ، ولذا لما قيل لمريض : ما تشتهي.
قال : أشتهي أن لا أشتهي ، وأما من أحب شيئاً وأحب أن يحبه فذلك غاية المحبة.
والخير : المال الكثير والمراد به : الخيل التي شغلته عليه السلام ؛ لأنها مال ويحتمل أنه سماها خيراً كأنها نفس الخير لتعلق الخير بها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال عليه السلام : "الخير" ؛ أي : الأجر والمغنم (معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة).
والمراد بالذكر : صلاة العصر بدليل قوله : بالعشي ، وسميت الصلاة ذكراً ؛ لأنها مشحونة بالذكر كما في "كشف الأسرار" أو الورد المعين وقتئذٍ.
ومعنى الآية : أنبت حب الخيل ؛ أي : جعلته نائباً عن ذكر ربي ووضعته موضعه ، وكان يحب لمثلي أن يشتغل بذكر ربه وطاعته.
{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} : التواري : الاستتار.
والضمير للشمس ، وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها إذ لا شيء يتوارى حينئذٍ غيرها ، فالحجاب : مغيب الشمس ومغربها ، كما في "المفردات".
وحتى متعلق بقوله : أحببت.
28
وغاية له باعتبار استمرار المجبة ودوامها حسب استمرار العرض.
والمعنى : أنبت حب الخير عن ذكر ربي واستمر ذلك حتى توارت ؛ أي : غربت الشمس تشبيهاً لغروبها في مغربها بتواري الجارية المخبأة بحجابها ؛ أي : المستترة بخبائها وخدرها.
وقيل : الضمير في توارت للصافنات ؛ أي : حتى توارت بحجاب الليل ؛ أي : بظلامه ؛ لأن ظلام الليل يستر كل شيء.
{رُدُّوهَا عَلَىَّ} : من تمام مقالة سليمان ومرمى غرضه من تقديم ما قدمه ، والخطاب لأهل العرض من قومه ؛ أي : أعيدوا تلك الخيل عليّ.
{فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ وَالاعْنَاقِ} : الفاء : فصيحة مفصحة عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذاناً بغاية سرعة الامتثال بالأمر وطفق من أفعال المقاربة الدالة على شروع فاعلها في مضمون الخبر ، فهو بمعنى أخذ وشرع وخبر هذه الأفعال يكون فعلاً مضارعاً في الأغلب ومسحاً نصب على المصدرية بفعل مقدر ، هو خبر طفق.
والمسح : إمرار اليد على الشيء.
والجمهور على أن المراد به هنا القطع من قولهم : مسح علاوته ؛ أي : ضرب عنقه وقطع رأسه.
والعلاوة : بالكسر أعلى الرأس أو العنق.
قال في "المفردات" : مسحته بالسيف كناية عن الضرب.
والسوق : جمع ساق كدور ودار.
والساق : ما بين الكعبين كعب الركبة وكعب الرجل.
والأعناق : جمع عنق ، بالفارسية : (كردن).
والباء : مزيدة كما في قوله تعالى : {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} : فإن مسحت رأسه ومسحت برأسه بمعنى واحد.
والمعنى : فردوها عليه فأخذ يمسح بالسيف مسحاً سوقها وأعناقها ؛ أي : يقطع أعناقها ويعرقب أرجلها ؛ أي : هو وأصحابه ، أو يذبح بعضها ويعرقب بعضها إزالة للعلاقات ورفعاً للحجاب الحائل بينه وبين الحق واستغفاراً وإنابه إليه بالترك والتجريد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وفي الآية إشارة إلى أن حب غير الله شاغل عن الله وموجب للحجاب ، وأن كل محبوب سوى الله إذا حجبك عن الله لحظة يلزمك أن تعالجه بسيف نفي لا إله إلا الله.
"لا" نهنكيست كائنات آشام
عرض تا فرش در كشيده بكام
هر كجا كرده آن نهنك آهنك
ازمن وما نه بوى ماندونه رنك
(8/21)
وقال الإمام في "تفسيره" : الصواب أن يقال : إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما هو مندوب إليه في شرعنا.
ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس على كرسيه وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها.
وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا وحظ النفس وإنما أجريها وأحبها لأمر الله تعالى وتقوية دينه ، وهو المراد من قوله : عن ذكر ربي ثم إنه أمر بإجرائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب ؛ أي : غابت عن بصره ، فإنه كان له ميدان واسع مستدير يسابق فيه بين الخيل حتى تتوارى عنه وتغيب عن عينه ، ثم إنه أمر الرائضين بأن يردوها فردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها ؛ أي : بيده حبالها وتشريفاً وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في قهر الأعداء وإعلاء الدين ، وهو قول الزهري وابن كيسان ، وليس فيه نسبة شيء من المنكرات إلى سليمان عليه السلام ، فهو أحق بالقبول عند أولي الأفهام.
وفي "الفتوحات المكية" : معنى الآية : أحببت الخير عن ذكر ربي الخير بالخيرية فأحببته لذلك.
والخير : هي الصافنات : الجياد من الخيل.
وأما قوله : فطفق مسحاً ؛ أي : يمسح بيده
29
على أعناقها وسوقها فرحاً وإعجاباً بخير ربه لا فرحاً بالدنيا ؛ لأن الأنبياء منزهون عن ذلك وهذه تشبه ما وقع لأيوب عليه السلام حين أرسل الله له جراداً من ذهب ، فصار يحثو في ثوبه منه ويقول : لا غنى لي عن بركتك يا رب ، فما أحب سليمان الخير إلا لكونه تعالى أحب حب الخير ولذلك اشتاق إليها لما توارت بالحجاب ، يعني : الصافنات الجياد لكونه فقد المحل الذي أوجب له حب الخير عن ذكر ربه ، فقال : ردوها عليّ.
وليس للمفسرين الذين جعلوا التواري للشمس دليل ، فإن الشمس ليس لها هنا ذكر ولا الصلاة التي يزعمون ومساق الآية لا يدل على ما قالوه بوجه ظاهر البتة.
انتهى كلام "الفتوحات".
وعن علي رضي الله عنه : اشتغل سليمان عليه السلام بعرض الأفراس للجهاد حتى توارت بالحجاب ؛ أي : غربت الشمس ، فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس : ردوها ، يعني : الشمس فردوها إلى موضع وقت العصر حتى صلى العصر في وقتها فذلك من معجزات سليمان عليه السلام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال في "كشف الأسرار" : (سليمان عليه السلام درراه خدا آن همه اسبان فدا كرد ودل ازان زينب وآرايش دنيا بر داشت وباعبادت الله برادخت لا جرم رب العزة أورا به ازان عوض داد بجاي اسبان بادرا مركب أوساخت وبسبب آن اندوه كه بوى رسيد برفوت عبادت فرشته قرص آفتاب ازمغرب باز كردانيد بهروى تانماز ديكر بوقت خويش بكزارد وآن ويرا معجزة كشت وجنانكه ابن معجزة ازبهر سليمان بيغمبر بيدا كشت درين امت ازبهر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه زروى كرامت بيدا كشت درخبر ست مصطفى عليه السلام سربر كنار على نهاد وبخفت على نماز ديكر نرده بود نخواست كه خواب بررسول قطع كند مرد عالم بود كفت نماز طاعت حق وخدمت راست رسول طاعت حق همجنان مي بود تاقرص آفناب بمغرب فروشد مصطفى عليه السلام از خواب در آمد على كفت يا رسول الله وقت نماز ديكر فوت شد ومن نماز نكردم رسول كفت اي علي جرا نماز نكردى كفت نخواستم كه لذت خواب برتو قطع كنم جبريل آمد كه يا محمد حق تعالى مرا فرمود تاقرص آفتاب را از مغرب باز آرم تا على نماز ديكر بوقت بكنرارد بعض ياران كفتند قرص آفتاب را جندان باز آوردكه شعاع آفتاب ديديم كه بر ديوار هاي مدينة مي تافت).
قال الكاشفي : (وانكه آفتاب بدعاى حضرت بيغمبر عليه السلام در صهباى خيبر بعد از غروب بازكشت وبجاي عصر آمد تا حضرت علي رضي الله عنه نماز كزارد ونزد محدثان مشهورست وإمام طحاوي در شرح آثار خويش فرمود كه روات اين ثقات اند واز أحمد بن صالح رحمه الله نقل كرده كه أهل علم را سزاوار نيست كه تغافل كنند از حفظ اين حديث كه از علامات نبوتست).
ولا عبرة بقول بعضهم بوضعه :
كه دعوتش كرفته كريبان آفتاب
بالا كشيده ازجه مغرب برآسمان
كه قرص بدررا بسر كردخوان جرخ
دستش دونيم كرده بيك ضربت بنان
واعلم أن حبس الشمس وردها وقع مراراً.
ومعنى حبسها : وقوفها عن السير والحركة بالكلية أو بطء حركتها أو ردها إلى ورائها.
ومعنى ردها : إعادتها بعد غروبها ومغيبها فقد
30
حبست لداود عليه السلام.
وذلك في رواية ضعيفة وردت لسليمان على ما قرر.
وحبست أيضاً لخليفة موسى عليه السلام ، وهو : يوشع بن نون ، فإنه سار مع بني إسرائيل لقتال الجبارين ، وكان يوم الجمعة ولما كاد يفتحها كادت الشمس تغرب ، فقال للشمس : أيتها الشمس إنك مأمورة وأنا مأمور بحرمتي عليك ، إلا ركدت ؛ أي : مكثت ساعة من النهار.
وفي رواية : اللهم احبسها عليّ فحبسها الله حتى افتتح المدينة ، وإنما دعا بحبسها خوفاً من دخول البيت المحرم عليهم فيه المقاتلة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
(8/22)
وردت أيضاً لعلي رضي الله عنه بدعاء نبينا عليه السلام على ما سبق.
وحبست أيضاً عن الغروب لنبينا عليه السلام ، وذلك أنه أخبر في قصة المعراج أن عير قريش تقدم يوم كذا ، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون ذلك ، وقد ولى النهار حتى كادت الشمس تغرب ، فدعا الله تعالى فحبس الشمس عن الغروب حتى قدمت العير ، وفي بعض الروايات حبست له عن الطلوع ؛ لأنه عليه السلام قال : "وتطلع العير عليكم من الثنية عند طلوع الشمس" ، فحبس الله الشمس عن الطلوع حتى قدمت العير.
وحبست أيضاً له عليه السلام في بعض أيام الخندق إلى الاحمرار والاصفرار وصلى حينئذٍ.
وفي بعضها لم تحبس بل صلى بعد الغروب.
وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : "شغلونا عن الصلاة الوسطى" ؛ أي : عن صلاة العصر.
في كلام سبط ابن الجوزي إن قيل : حبسها ورجوعها مشكل ؛ لأنها لو تخلفت أو ردّت لاختلت الأفلاك وفسد النظام ، قلنا : حبسها وردها من باب المعجزات ولا مجال للقياس في خرق العادات.
وذكر أنه وقع لبعض الوعاظ ببغداد أنه قعد يعظ بعد العصر ثم أخذ في ذكر فضائل آل البيت ، فجاءت سحابة غطت الشمس وظن الناس الحاضرون عنده أن الشمس غابت فأرادوا الانصراف فأشار إليهم ألا يتحركوا ، ثم أدار وجهه إلى ناحية المغرب ، وقال : ()
لا تغربي يا شمس حتى ينتهي
مدحي لآل المصطفى ولنجله
إن كان للمولى وقوفك فليكن
هذا الوقوف لولده ولنسله
فطلعت الشمس فلا يحصى ما رمي عليه من الحليّ والثياب.
هذا كلامه رحمه الله سبحانه وتعالى :
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـانَ} : الفتنة : الاختبار والابتلاء.
{وَأَلْقَيْنَا} : الإلقاء : الطرح.
{عَلَى كُرْسِيِّهِ} : الكرسي : اسم لما يقعد عليه والمراد : سريره المشهور ، وقد سبق في سورة سبأ.
{جَسَدًا} :
قال في "المفردات" : الجسد : الجسم لكنه أخص.
قال الخليل : لا يقال : الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه.
وأيضاً فإن الجسد يقال : لما له لون.
والجسم يقال : لما لا يبين له لون كالماء والهواء.
وقال في "أنوار المشارق" : الفرق بين الجسد والبدن ، أن الأول يعمّ لذي الروح وغيره.
ويتناول الرأس والشوى.
[
والثاني : مخصوص بذي الروح ولا يتناولهما.
ومن هذا قد اشتهر فيما بينهم حشر الأجساد بإضافة الحشر الخاص بذي الروح إلى الأجساد العامة له ، ولغيره دون الأبدان المخصوصة وذلك لأن في إضافته إلى البدن باعتبار أنه لا يتناول الرأس والشوى على ما نص عليه الزمخشري في "الفائق" والخليل في كتاب "العين" قصوراً مخلاً بحكم الإعادة بعينه.
وأما ما في الجسد من العموم الزائد على قدر الحاجة ، فمندفع بقرينة إضافة الحشر.
انتهى كلام "الأنوار".
والمراد به في الآية : القالب بلا روح كما سيأتي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{ثُمَّ أَنَابَ} ؛ أي : سليمان
31
عليه السلام.
والإنابة : الرجوع إلى الله تعالى.
روي أن سليمان كان له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية ، وكان في ظهره ماء مائة رجل ؛ أي : قوتهم.
وهكذا أنبياء الله أعطي كل منهم من القوة الجماعية ما لم يعط أحد من أفراد أمته ، وكذا الولي الأكمل ؛ فإن له قوة زائدة على سائر الآحاد ، وإن لم تبلغ مرتبة قوة النبي ، فقال سليمان عليه السلام يوماً : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ؛ أي : أجامعهن أو تسعين أو تسع وتسعين أو مائة ، تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل إن شاء الله ، فقال له صاحبه ؛ أي : وزيره آصف ، قل : إن شاء الله فلم يقل فطاف عليهن تلك الليلة ، فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق ولد له عين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة فألقته القابلة على كرسيه وهو الجسد المذكور.
قال نبينا عليه السلام : "لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون".
قال القاضي عياض رحمه الله : وإن سئل : لم لم يقل سليمان في تلك القصة المذكورة : إن شاء الله فعنه أجوبة.
أسدّها ما روي في الحديث الصحيح أنه نسي أن يقولها ؛ أي : كلمة إن شاء الله.
وذلك لينفذ مراد الله.
والثاني : أنه لم يسمع صاحبه وشغل عنه.
انتهى.
فمعنى ابتلائه قوله : لأطوفن إلخ ، وتركه الاستثناء ومعنى إلقاء الجسد على كرسيه ، إلقاء الشق المذكور عليه.
ومعنى إنابته : رجوعه إلى الله تعالى عن زلته ، وهو تركه الاستثناء في مثل ذلك الأمر الخطير ، لأن ترك الأولى زلة للأنبياء إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين ، ألا ترى أن نبينا عليه السلام لما سئل عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين قال : "ائتوني غداً أخبركم" ولم يستثن فحبس عنه الوحي أياماً ، ثم نزل قوله تعالى : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا * إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} (الكهف : 23 ، 24).
(8/23)
روي أن سليمان عليه السلام ولد له ابن فاجتمعت الشياطين على قتله وذلك أنهم كانوا يقدرون في أنفسهم أنهم سيستريحون مما هم فيه من تسخير سليمان إياهم على التكاليف الشاقة والأعمال المستمرة الدائمة بموته ، فلما ولد له ابن قال بعضهم لبعض : إن عاش له ولده لم ننفك عما نحن فيه من البلاء ، فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله.
والتخبيل : إفساد العقل والعضو فلم سليمان بذلك فأمر السحاب ، فحكله وكانت الريح تعطيه غذاءه وربا فيه خوفاً من مضرة الشياطين فابتلاه الله لأجل خوفه هذا وعدم توكله في أمر ابنه على ربه العزيز بموت ابنه حيث مات في السجاب وألقي ميتاً على كرسيه ، فهو المراد من الجسد الملقى على كرسيه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال في "شرح المقاصد" : فتنبه لخطئه في ترك التوكل فاستغفر وتاب ، فهذا مما لا بأس به وغايته ترك الأولى إذ ليس في التحفظ ومباشرة الأسباب ترك الامتثال لأمر التوكل على ما قال عليه السلام : "اعقلها وتوكل".
انتهى.
فإن قلت : كان الشياطين يصعدون إلى السماء وقتئذٍ فما فائدة رفعه في السحاب في المنع عنهم.
قلت : فائدته أن الشياطين التي خاف سليمان على ابنه منهم كانوا في خدمته الدائمة في الأرض فكان في الرفع إلى السحاب رفعه عن أبصارهم وتغييبه عن عملهم وتسليمه إلى محافظة الملائكة ، ولما ألقي ابنه الميت على كرسيه جزع سليمان عليه إذ لم يكن له إلا ابن واحد ، فدخل عليه ملكان ، فقال أحدهما : إن هذا مشى في زرعي ، فأفسده ، فقال له سليمان : لم مشيت في زرعه؟ قال : لأن هذا الرجل زرع في طريق الناس ، فلم أجد مسلكاً غير ذلك.
فقال سليمان للآخر : لم زرعت على طريق الناس ، أما علمت أن الناس لا بد لهم من طريق يمشون
32
فيه ، فقال لسليمان : صدقت لم ولدت على طريق الموت ، أما علمت أن ممر الخلق على الموت ، ثم غابا عنه ، فاستغفر سليمان وأناب إلى الله تعالى : قال الشيخ سعدي قدس سره :
مكن خانه در راه سيل اي غلام
كه كس را نكشت اين عمارت تمام
نه از معرفت باشد وعقل ورأى
كه در ره كند كارواني سراي
ز هجران طفلي كه در خاك رفت
جه نالي كه باك آمد وباك رفت
توباك آمدي بر حذر باش وباك
كه ننكست ناباك رفتن بخاك
مكن عمر ضايع بافسوس وحيف
كه فرصت عزيز ست والوقت سيف
قال الكاشفي : (ومشهور آنست كه بواسطه ترك ازلي انكشتر مملكت سليمان بدست صخر جن افتاد وجهل روز برتخت سليمان نشست وباز آن خاتم بدست سليمان آمد بمملكت بازكشت).
فيكون المعنى : ولقد ابتليناه بسبب ملكه وألقينا على كرسيه جسداً ، يعني : العفريت الذي أخذ خاتمه وجلس على كرسيه وهو صخر صاحب البحر على أشهر الأقاويل وسمي جسداً ؛ لأنه تمثل بصورة سليمان ، ولم يكن هو فكان جسداً محضاً وصورة بلا معنى ، ثم أناب ؛ أي : رجع إلى ملكه بعد أربعين يوماً.
يقول الفقير : أرشده الله القدير هذا وإن كان مشهوراً محرراً خصوصاً في نظم بعض العرب والعجم ، لكنه مما ينكر جداً ولا يكاد يصح قطعاً ، وذلك لوجوه :
أحدها : أنه ليس في جلوس الجن على الكرسي معنى الإلقاء إلا أن يتكلف.
والثاني : أن جميع الأنبياء معصومون من أن يظهر شيطان بصورهم في النوم واليقظة لئلا يشتبه الحق بالباطل ؛ لأن الأنبياء عليهم السلام صور الاسم الهادي ومظاهر صفة الهداية والشيطان مظهر الاسم المضل والظاهر بصفة الضلالة فهما ضدان ، فلا يجتمعان ، ولا يظهر أحدهما بصورة الآخر.
وقس على الأنبياء أحوال الكمل من الأولياء ، فإنهم ورثتهم ومتحققون بمعارفهم وحقائقهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
فإن قيل : عظمة الحق سبحانه أتم من عظمة كل عظيم ، فكيف امتنع على إبليس أن يظهر بصورة الأنبياء مع أن اللعين قد تراءى لكثيرين وخاطبهم بأنه الحق طلباً لإضلالهم.
وقد أضل جماعة بمثل هذا حتى ظنوا أنهم رأوا الحق وسمعوا خطابه.
قلنا : إن كل عاقل يعلم أن الحق ليست له صورة معينة معلومة توجب الاشتباه ، ولذا جوز بعض العلماء رؤية الله في المنام في أي صورة كانت ، لأن ذلك المرئي غير ذات الله إذ ليس لها صورة.
وأما الأنبياء فإنهم ذوو صور معينة معلومة مشهودة توجب الاشتباه.
والثالث : أنه كيف يصح من الحكيم أن يجلس شيطاناً من الشياطين على كرسي نبي من الأنبياء ويسلطه على المسلمين ويحكمه عليهم مع أنه لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً أبداً.
كس نيايد يزير سايه بوم
ورهماي ازجهان شود معدوم
والرابع : أن الخاتم كان نورانياً فكيف صح أن يستقر في يد الشيطان الظلماني بطريق تقلد الحكومة ، وقد ثبت أن الشيطان يحرقه النور مطلقاً ، ولذا جعل الشهاب رجماً للشياطين.
والخامس : أنه كان ملك سليمان في الخاتم ، فكيف يصح أن يجلس الجني على كرسيه على تقدير قذف الخاتم في البحر على ما قالوا.
قال في "كشف الأسرار" : (ملك سليمان در خاتم وى بود
33
ونكين آن خاتم كبريت أحمر بود).
انتهى.
(8/24)
وفي "عقد الدرر" : أنه كان خاتم آدم عليه السلام قبل خروجه من الجنة ألبسه الحق إياه ، ثم أودع في ركن من أركان العرش وكان مكتوب عليه في السطر الأول : "بسم الله الرحمن الرحيم".
وفي الثاني : "لا إله إلا الله" ، وفي الثالث : "محمد رسول الله".
فلما أنزله جبريل إلى سليمان اضطرب العالم من مهابته ، ولما وضعه في أصبعه غاب عن أعين الناس ، فقالوا : يا نبي الله نريد أن نتشرف بمشاهدة جمالك ، فقال : اذكروا الله ، فلما ذكروه رأوه فالتأثير من الله وبسليمان المظهرية والخاتم واسطة في الحقيقة.
وإنما وضع ملكه في فص خاتم ؛ لأنه تعالى أراه في ذلك أن ما أعطيت في جنب ما لم تعط قدر هذا الحجر من بين سائر الأحجار إذ كان ملك الدنيا عند الله تعالى كقدر حجر من الأحجار والله يعز من يشاء بما يشاء.
{قَالَ} : سليمان وهو بدل من أناب وتفسير له.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّه جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِه رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَـاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاصْفَادِ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{رَبِّ} (اي بروردكار من).
{اغْفِرْ لِى} : ما صدر مني من الزلة التي لا تليق بشأني وتقديم الاستغفار على الاستيهاب الآتي لمزيد اهتمامه بأمر الدين جرياً على سنن الأنبياء والصالحين وكون ذلك أدخل في الإجابة.
{وَهَبْ لِى} : (وببخش مرا).
{مُلْكًا} : (بادشاهي وتصرفي كه).
{لا يَنابَغِى} : (نسنرد ونشايد) {لاحَدٍ} من الخلق {مِّنا بَعْدِى} إلى يوم القيامة بأن يكون الظهور به بالفعل في عالم الشهادة في الأمور العامة والخاصة مختصاً بي ، وهو الغاية التي يمكنه بلوغها دل على هذا المعنى قول نبينا عليه السلام : "إن عفريتاً من الجن".
وهو الخبيث المنكر "تفلت عليّ البارحة ؛ أي : تعرض في صورة هر كما في حياة الحيوان.
قال في "تاج المصادر" : (التفلت بجستن).
وفي الحديث : "إن عفريتاً من الجن تفلّت عليّ البارحة" ؛ أي : تعرض له فلتة ؛ أي : فجأة "ليقطع عليّ صلاتي فأمكنني الله منه".
الإمكان : القدرة على الشيء مع ارتفاع الموانع ؛ أي : أعطاني الله مكنة من أخذه وقدرة عليه "فأخذته فأردت أن أربطه" بكسر الباء وضمنها ؛ أي : أشده "على سارية من سواري المسجد" ؛ أي : أسطوانة من أساطينه "حتى تنظروا إليه كلكم ويلعب به ولدان أهل المدينة فذكرت دعوة أخي سليمان : رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي فرددته خاسئاً" ؛ أي : ذليلاً مطروداً ، لم يظفر بي ولم يغلب على صلاتي ، فدل على أن الملك الذي آتاه الله سليمان ولم يؤته أحداً غيره من بعده هو الظهور بعموم التصرف في عالم الشهادة لا التمكن منه ، فإن ذلك مما آتاه الله غيره من الكمل نبياً كان أو ولياً ألا ترى أن نبينا عليه السلام قال : "فأمكنني الله منه" ؛ أي : من العفريت فعلمنا أن الله تعالى قد وهب التصرف فيه بما شاء من الربط وغيره ، ثم إن الله تعالى ذكره فتذكر دعوة سليمان ، فتأدب معه كمال التأديب حيث لم يظهر بالتصرف في الخصوص فكيف في العموم فردّ الله ذلك العفريت ببركة هذا التأدب خاسئاً عن الظفر به.
وكان في وجود سليمان عليه السلام قابلية السلطنة العامة ولهذا ألهمه الله تعالى أن يسأل الملك المخصوص به ، فلم يكن سؤاله للبخل والحسد والحرص على الاستبداد بالنعمة والرغبة فيها كما توهمه الجهلة.
وأما سلطان الأنبياء صلى الله عليه وسلّم فقد أفنى جميع ما في ملك وجوده من جهة الأفعال والصفات ، فلم يبق شيء فظهر مكانه شيء لا يوصف حيث وقع تجلي الذات في مرتبة لم ينلها أحد من أفراد الخلق سابقاً ولا لاحقاً ، وستظهر سلطنته الصورية أيضاً بحيث يكون آدم ومن دونه تحت لوائه.
34
در بزم احتشام تو سياره هفت جام
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وز مطبخ نوال تو افلاك نه طبق
هر خطبه كمال بنام تو شد ازل
كس تا بد زلوح نمى خوانده اين سبق
{إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} : لجميع استعدادات كل ما سألت من الكمالات كما قال تعالى : {وَءَاتَـاـاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} (إبراهيم : 34).
وفي "التأويلات النجمية" : بقوله : {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى} الآية.
يشير إلى معاننٍ مختلفة.
منها : أنه لما أراد طلب الملك الذي هو رفعة الدرجة بنى الأمر في ذلك على التواضع الموجب للرفعة ، وهو قوله : {رَبِّ اغْفِرْ لِى} .
ومنها : أنه قدم طلب المغفرة على طلب الملك ؛ لأنه لو كان طلب الملك زلة في حق الأنبياء كانت مسوقة بالمغفرة لا يطالب بها.
ومنها : أن الملك مهما يكن في يد مغفور له منظور بنظر العناية ما يصدر منه تصرف في الملك إلا مقروناً بالعدل والنصفة ، وهو محفوظ من آفات الملك وتبعاته.
(8/25)
ومنها : قوله : {وَهَبْ لِى مُلْكًا لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى} ؛ أي : يكون ذلك موهوباً له بحيث لا ينزعه منه ويؤتيه من ويؤتيه كما هي السنة الإلهية جارية فيه.
ومنها : قوله : {لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى} ؛ أي : لا يطلبه أحد غيري لئلا يقع في فتنة الملك على مقتضى قوله تعالى : {إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى} (العلق : 6 ، 7) ، فإن الملك جالب للفتنة كما كان جالباً لها إلى سليمان بقوله : {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـانَ} .
ومنها : قوله : {لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى} ؛ أي : لا يكون هذا الملك ملتمس أحد منك غيري للتمتع والانتفاع به ، وهو بمعزل عن قصدي ونيتي في طلب هذا ، فإن لي في طلب هذا الملك نية لنفسي ونية لقلبي ونية لروحي ونية للممالك بأسرها ونية للرعايا.
فأما نيتي لنفسي فتزكيتها عن صفاتها الذميمة وأخلاقها اللئيمة.
وذلك في منعها عن استيفاء شهواتها وترك مستلذاتها النفسانية بالاختيار دون الاضطرار وإنما يتيسر ذلك بعد القدرة الكاملة عليه بالمالكية والملكية بلا مانع ولا منازع ، وكماليته في المملكة بحيث لا يكون فيها ما يحرك داعية من دواعي البشرية المركوزة في جبلة الإنسان ليكون كل واحدة من المشتهيات والمستلذات النفسانية محركة لداعية تناسبها عند تملكها ، والقدرة عليها عند توقان النفس إليها وغلبات هواها فيحرم على النفس مراضعها ويحرمها من مشاربها وينهاها عن هواها خالصاً ، وطلباً لمرضاته فتموت النفس عن صفاتها كما يموت البدن عند إعواز فقدان ما هو غذاء يعيش به ، فإذا ماتت عن صفاتها الذميمة يحييها الله بالصفات الحميدة كما قال : {فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَواةً طَيِّبَةً} (النحل : 97).
وقال : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا} (الشمس : 9) ، فلا يبقى لها نظر إلى الدنيا وسائر نعمها كما كان حال سليمان لم يكن له نظر إلى الدنيا ونعيمها ، وإنما كان مع تلك الوسعة في المملكة يأكل كسرة من كسب يده مع جليس مسكين ويقول : مسكين جالس مسكيناً ، وأما نيته لقلبه فتصفيته عن محبة الدنيا وزينتها وشهواتها وتوجيهه إلى الآخرة بالإعراض عنها عند القدرة عليها والتمكن فيها ، ثم صرفها في سبيل الله وقلع أصلها من أرض القلب ، ليبقى القلب صافياً من الدنس قابلاً للفيض الإلهي ، فإنه خلق مرآة لجميع الصفات الإلهية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وأما نيته لروحه فلتحليته بالأخلاق الحميدة الربانية ولا سبيل إليها إلا بعلو الهمة وخلوص النية ، فإن المرء يطير بهمته كالطائر يطير بجناحيه وتربية الهمة بحسب نيل المقاصد الدنيوية الدينية وصرفها في نيل المراتب الدينية الأخروية الباقية ، وإن ترك المقاصد الدنيوية الدينية ، وإن كان أثر التربية الهمة ولكن لا يبلغ حد أثر صرف ما يملك
35
من المقاصد الدنيوية لنيل الدرجات العلية فلما كان من أخلاق الله أن يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها.
التمس سليمان أقصى مراتب الدنيا ونهاية مقاصدها لئلا يلتفت ويستعملها في تربية الهمة لتتخلى روحه بأن يحسن إليهم ويؤلف قلوبهم ببذل المال والجاه ، فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها ، فإنهم إذا أحبوا نبي الله لزمهم حب الله ، فيكون حب الله وحب نبيه في قلوبهم محض الإيمان ، ومن لم يمكن أن يؤمن بالإحسان ، فيدخلهم في الإيمان بالقهر والغلبة بأن يأتيهم بجنود لم يروها كما أدخل بلقيس وقومها في الإيمان.
وأما نيته للممالك ، فبأن يجعل الممالك الدنيوية الفانية أخروية باقية بأن يتوسل بها إلى الحضرة بصرفها بإظهار الدين وإقامة الحق وإعلاء كلمة الإسلام.
فإن قيل قوله : {لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى} ، هل يتناول النبي عليه السلام أو لا؟.
قلنا : أما بالصورة ، فيتناول ، ولكن لعلو همته وكمال قدره لا لعدم استحقاقه ؛ لأنه عرض عليه صلى الله عليه وسلّم ملك أعظم من ملكه ، فلم يقبله.
وقال : "الفقر فخري".
وأما بالمعنى : فلم يتناول النبي صلى الله عليه وسلّم لأنه قال : "فضلت على الأنبياء بست" ، يعني على جميع الأنبياء ولا خفاء في أن سليمان عليه السلام ما بلغ درجة واحد من أولي العزم من الرسل مع اختصاصه بصورة الملك منهم ، وهم معه مفضولون بست فضائل من النبي عليه السلام ، فمعنى الملك الحقيقي الذي كان ملك سليمان صورته بلا ريب يكون داخلاً في الفضائل التي اختصه الله بها وأخبر عنها بقوله : {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء : 113).
بل أعطاه الله ما كان مطلوب سليمان من صورة الملك ومعناه أوفر ما أعطى سليمان وفتنه به من غير زحمة مباشرة صورة الملك والافتتان به عزة ودلالاً.
انتهى كلام التأويلات على مكاشفة أعلى التجليات.
(8/26)
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} .
قال أبو عمرو : إنه ريح الصبا ؛ أي : فذللناها لطاعة سليمان ؛ أي : جعلناها مطيعة لا تخالفه إجابة لدعوته ، فعاد أمره عليه السلام على ما كان عليه قبل الفتنة فيكون ذلك مسبباً عن إنابته : وبالفارسية : (بس رام كردانيدم مر سليمان را باد تافر مان وى برد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وفيه إشارة إلى أن سليمان لما فعل بالصافنات الجياد ما فعل في سبيل الله عوضه الله مركباً مثل الريح كان غدوها شهراً ورواحها شهراً كما في "التأويلات النجمية".
وقد سبق أيضاً من "كشف الأسرار".
قال البقلي رحمه الله : كان سليمان عليه السلام من حبه جمال الحق يحب أن ينظر إلى صنائعه وممالكه ساعة فساعة من الشرق إلى الغرب حتى يدرك عجائب ملكه وملكوته ، فسخر الله له الريح وأجراها بمراده.
وهذا جزاء صبره في ترك حظوظ نفسه.
{تَجْرِى بِأَمْرِهِ} : بيان لتسخيرها له.
{رُخَآءً} : حال من ضمير تجري.
والرخاء : الريح اللينة من قولهم شيء رخو كما في "المفردات" : وبالفارسية : (نرم وخوش).
وفي "الفتوحات المكية" : أن الهواء لا يسمى ريحاً إلا إذا تحرك وتموج ، فإن اشتدت حركته كان زعزعاً ، وإن لم تشتد كان رخاء ، وهو ذو روح يعقل كسائر أجزاء العالم وهبوبه تسبيحه تجري به الجواري ، ويطفأ به السراج وتشتعل به النار وتتحرك المياه والأشجار ويموج البحر وتزلزل الأرض ويزجى السحاب.
انتهى.
والمعنى : حال كون تلك الريح لينة طيبة لا تزعزع ولا تنافي بين كونها لينة الهبوب ، وبين قوله تعالى : {وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} (الأنبياء : 81) ؛ لأن المراد : أن تلك الريح أيضاً في قوة الرياح العاصفة إلا أنها لما جرت بأمره عليه السلام ، كانت لينة رخاء أو تسخر له كلا نسيميها.
36
{حَيْثُ أَصَابَ} : ظرف لتجري أو لسخرنا.
وأصاب بمعنى أراد لغة حمير أو هجر.
وفي "القاموس" : الإصابة : القصد ؛ أي : حيث قصد وأراد من النواحي والأطراف.
واعلم أن المراد بقوله بأمره جريان الريح بمجرد أمره من غير جمعية خاطر ولا همة قلب فهو الذي جعل الله من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده لا مجرد التسخير ، فإن الله تعالى سخر لنا أيضاً ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما ، لكن إنما تفعل أجرام العالم لهمم النفوس إذا أقيمت في مقام الجمعية ، فهذا التسخير عن أمر الله لا عن أمرنا كحال سليمان عليه السلام.
{وَالشَّيَـاطِينَ} : عطف على الريح.
{كُلَّ بَنَّآءٍ} : بدل من الشياطين ، وهو مبالغة بأن اسم الفاعل من بني ، وكانوا يعملون له عليه السلام ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب ، وقدور راسيات لما سبق في سورة سبأ ويبنون له الأبنية الرفيعة بدمشق واليمن ، ومن بنائهم بيت المقدس وإصطخر ، وهي من بلاد فارس ، تنسب إلى صخر الجني المراد بقوله تعالى : {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ} (النمل : 39).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَغَوَّاصٍ} : مبالغة غائص من غاص يغوص غوصاً ، وهو الدخول تحت الماء وإخراج شيء منه.
قال في "المفردات" : قوله تعالى : {وَمِنَ الشَّيَـاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ} (الأنبياء : 82) ؛ أي : يستخرجون له الأعمال الغريبة والأفعال البديعة وليس استنباط الدر فقط.
انتهى.
وكانوا يستخرجون الدرر والجواهر والحليّ من البحر ، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر.
{وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاصْفَادِ} : عطف على كل بناء داخل في حكم البدل يقال : قرنت البعيرين إذا جمعت بينهما وقرنت على التكثير كما في الآية.
قال الراغب : والتقرين بالفارسية : (برهم كردن).
قال ابن الشيخ : مقرنين صفة لآخرين ، وهو اسم مفعول من باب التفعيل منقول من قرنت الشيء بالشيء ؛ أي : وصلته به وشدد العين للمبالغة والكثرة.
والأصفاد : جمع صفد محركة ، وهو القيد وسمي به العطاء ؛ لأنه يرتبط بالمنعم عليه ، وفرقوا بين فعلهما ، فقالوا : صفده قيده وأصفده أعطاه على عكس وعد وأوعد ، فإن الثلاثي فيه للخير والمنفعة والرباعي للشر والمضرة ولكن في كون أصفد ، بمعنى : أعطى نكتة ، وهي أن الهمزة للسلب.
والمعنى : أزلت ما به من الاحتياج بأن أعطيته ما تندفع به حاجته بخلاف أوعد ، فإنه لغة أصلية موضوعة للتهديد.
ومعنى الآية : وسخرنا له شياطين آخرين لا يبنون ولا يغوصون ، كأنه عليه السلام فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في أعمال الشاقة من البناء والغوص ونحو ذلك.
وإلى مردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل وأوثقهم بالحديد لكفهم على الشر والفساد.
(8/27)
فإن قيل : إن هذه الآية تدل على أن الشياطين لها قوة عظيمة ، قدروا بها على تلك الأبنية العظيمة التي لا يقدر عليها البشر وقدروا على الغوص في البحار ، واستخراج جواهرها ، وأنى يمكن تقييدهم بالأغلال والأصفاد.
وفيه إشكال ، وهو أن هذه الشياطين إما أن تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة ، فإن كانت كثيفة وجب أن يراهم من كان صحيح الحاسة إذ لو جاز أن لا يراهم مع كثافة أجسادهم لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة لا نراها ، ولا نسمعها وذا سفسطة ، وإن كانت أجسادهم لطيفة واللطافة تنافي الصلابة ، فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفاً بالقوة الشديدة بحيث يقدر بها على ما لا يقدر عليه البشر ؛ لأن الجسم اللطيف يكون ضعيف القوام تتمزق أجزاؤه بأدنى المدافعة ، فلا يطيق
37
تحمل الأشياء الثقيلة ومزاولة الأعمال الشاقة.
وأيضاً لا يمكن تقييده بالأصفاد والأغلال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قلنا : إن أجسادهم لطيفة ولكن شفافة ولطافتها لا تنافي صلابتها بمعنى الامتناع من التفرق ، فلكونها لطيفة لا ترى ولكونها صلبة يمكن تقييدها وتحملها الأشياء الثقيلة ومزاولتها الأعمال الشاقة ، ولو سلم أن اللطافة تنافي الصلابة إلا أنا لا نسلم أن اللطيف الذي لا صلابة له يمتنع أن يتحمل الأشياء الثقيلة ويقدر على الأعمال الشاقة.
ألا ترى أن الرياح العاصفة تفعل أفعالاً عجيبة لا تقدر عليها جماعة من الناس.
وقال في "بحر العلوم" : والأقرب أن المراد تمثيل كفهم عن الشرور بالتقرين في الصفد ، يعني : أن قولهم : لا يمكن تقييده بالأصفاد والأغلال حقيقة مسلم.
ولكن ليس الكلام محمولاً على حقيقته ؛ لأنهم لما كانوا مسخرين مذللين لطاعته عليه السلام بتسخير الله إياهم له كان قادراً على كفهم عن الإضرار بالخلق.
فشبه كفهم عن ذلك بالتقرين في الأصفاد ، فأطلق على الكف المذكور لفظ التقريب استعارة أصلية ، ثم اشتق من التقرين ؛ يعني بمعنى المجازي لفظ مقرنين ، فهو استعارة تبعية بمعنى ممنوعين عن الشرور.
"وفي الأسئلة المقحمة" : الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة ولا دليل يقضي ؛ بأن تلك الأجسام لطيفة أو كثيفة ، بل يجوز أن تكون لطيفة ، وإن تكون كثيفة ، وإنما لا نراهم لا للطافتهم كما يزعمه المعتزلة.
ولكن لأن الله تعالى لا يخلق فينا إدراكاً لهم.
انتهى.
قال القاضي أبو بكر : الأصل الذي خلقوا منه هي النار ، ولسنا ننكر مع ذلك أن يكثفهم الله تعالى ويغلظ أجسامهم ويخلق لهم أعراضاً زائدة على ما في النار ، فيخرجون عن كونهم ناراً ويخلق لهم صوراً وأشكالاً مختلفة ، فيجوز أن نراهم إذا قوى الله أبصارنا كما يجوز أن نراهم لو كثف الله أجسامهم.
قال القاضي عبد الجبار : إن الله تعالى كثفهم لسليمان حتى كان الناس يرونهم وقواهم حتى كانوا يعملون له الأعمال الشاقة.
والمقرّن في الأصفاد لا يكون إلا جسماً كثيقاً.
وأما إقداره عليهم وتكثيفهم في غير أزمان الأنبياء فإنه غير جائز ؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون نقضاً للعادة ، كما في "آكام المرجان في أحكام الجان".
وقال بعضهم : إن الشياطين كانوا يشاهدون في زمن سليمان ، ثم إنه لما توفي أمات الله أولئك الشياطين وخلق نوعاً آخر في غاية الرقة واللطافة.
وفيه أن الشياطين منظرون ، فكيف يموتون إلا أن يختص الأنظار بإبليس أو إلا أن يحمل الشياطين على كفار الجن ، فإنهم ماردون أيضاً.
روي : أن الله تعالى أجاب دعاء سليمان بأن سخر له ما لم يسخره لأحد من الملوك ، وهو الرياح والشياطين والطير ، وسخر له من الملوك ما لم يتيسر لغيره مثل ذلك ، فإنه روي : أنه ورث ملك أبيه داود في عصر كيخسرو بن سياوش ، وسار من الشام إلى العراق فبلغ خبره إلى كيخسرو ، فهرب إلى خراسان ، فلم يلبث قليلاً حتى هلك ، ثم سار إلى مرو ، ثم سار إلى بلاد الترك ، فوغل فيها ، ثم جاز بلاد الصين ، ثم عطف إلى اين وافى بلاد فارس ، فنزلها أياماً ، ثم عاد إلى الشام ثم أمر ببناء بيت المقدس ، فلما فرغ منه سار إلى تهامة ، ثم إلى صنعاء.
وكان من حديثه مع صاحبة صنعاء ، وهي بلقيس ما ذكره الله تعالى كتابه الكريم وغزا بلاد المغرب ، الأندلس وطنجة وإفرنجة ونواحيها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاصْفَادِ * هَـاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَه عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَـاَابٍ * وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّه أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَـانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَا هَـاذَا مُغْتَسَلُ} .
{هَـاذَآ} ؛ أي : فسخرنا وقلنا له : هذا الذي أعطيناك من الملك العظيم والبسطة والتسلط على ما لم يسلط
38
عليه غيرك.
{عَطَآؤُنَا} الخاص بك الذي لا يقدرعليه غيرنا {فَامْنُنْ} من قوله منّ عليه منّاً ؛ أي : أنعم ؛ أي : فأعط منه من شئت.
{أَوْ أَمْسِكْ} وامنع منه من شئت ، وأو للإباحة.
(8/28)
{بِغَيْرِ حِسَابٍ} : حال من المستكن في الأمر ؛ أي : غير محاسب على منّه وإحسانه ومنعه وإمساكه ، لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت لتفويض التصرف فيه إليك على الإطلاق.
وفي "المفردات" : قيل تصرف فيه تصرف من لا يحاسب ؛ أي : تناول كما تحب وفي وقت ما تحب وعلى ما تحب وأنفقه كذلك.
انتهى.
قال الحسن : ما أنعم الله على أحد نعمه إلا كان عليه تبعة إلا سليمان ؛ فإن أعطى أجر عليه وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة وإثم.
وهذا مما خص به والتبعة ما يترتب على الشيء من المضرة ، وكل حق يجب للمظلوم على الظالم بمقابلة ظلمه عليه.
قال بعض الكبار المحققين : كان سؤال سليمان ذلك عن أمر ربه ، والطلب إذا وقع عن الأمر الإلهي كان امتثال أمر وعبادة ، فللطالب الأجر التام على طلبه من غير تبعة حساب ولا عقاب ، فهذا الملك والعطاء لا ينقصه من ملك آخرته شيئاً ، ولايحاسب عليه أصلاً ، كما يقع لغيره.
وأما ما روي : أن سليمان آخر الأنبياء دخولاً الجنة لمكان ملكه ، فعلى تقدير صحته لا ينافي الاستواء بهم في درجات الجنة ، ومطلق التأخر في الدخول لا يستلزم الحساب.
وقد روي : (إن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة سنة).
ويجوز أن يكون بغير حساب حالاً من العطاء ؛ أي : هذا عطاؤنا ملتبساً بغير حساب لغاية كثرته كما يقال للشيء الكثير.
هذا لا يحيط به حساب أو صلة له وما بينها اعتراض على التقديرين.
{وَإِنَّ لَه عِندَنَا لَزُلْفَى} ؛ أي : لقربة في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا.
{وَحُسْنَ مَـاَابٍ} ، وهو الجنة.
وفي الحديث : "أرأيتم ما أعطي سليمان بن داود من ملكه ، فإن ذلك لم يزده إلا تخشعاً ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعاً لربه".
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
أي : ولذا وجد الزلفى ، وحسن المرجع ، فطوبى له حيث كان فقيراً في صورة الغنى.
وفي الإشارة إلى أن الإنسان إذا كمل في إنسانيته يصير قابلاً للفيض الإلهي بلا واسطة ، فيعطيه الله تعالى من آثار الفيض تسخير ما في السماوات من الملائكة كما سخر لآدم بقوله : {اسْجُدُوا لادَمَ} (البقرة : 34).
وما في الأرض كما سخر لسليمان الجن والإنس والشياطين والوحوش والطيور.
وذلك لأن كل ما في السماوات وما وفي الأرض أجزاء وجود الإنسان الكامل ، فإذا أنعم الله عليه بفيضه سخر له أجزاء وجوده في المعنى.
أما في الصورة ، فيظهر على بعض الأنبياء تسخَر بعضها إعجازاً له كما ظهر على نبينا عليه السلام تسخر القمر عند انشقاقه بإشارة أصبع ، ولذا قال : هذا عطاؤنا إلخ يشير إلى أن للأنبياء بتأييد الفيض الإلهي ولاية إفاضة الفيض على من هو أهله عند استفاضته.
ولهم إمساك الفيض عند عدم الاستفاضة من غير أهله ولا حرج عليهم في الحالتين ، وإن له عندنا لزلفى في الإفاضة والإمساك وحسن مآب ؛ لأنه كان متقرباً إلينا بالعطاء والمنع كما في "التأويلات النجمية".
روي : أن سليمان عليه السلام فتن بعدما ملك عشرين سنة وملك بعد الفتنة عشرين سنة ثم انتقل إلى حسن مآب : قال الشيح سعدي :
جهان اي بسر ملك جاويد نيست
ز دنيا وفادارى أميد نيست
نه بر باد رفتى سحر كاه وشام
سرير سليمان عليه السلام
بآخر نديدى كه برباد رفت
خنك آنكه باذانش وداد رفت
39
أيقظنا الله تعالى وإياكم.
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ} ابن آموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام ، وأمه من أولاد لوط بن هاران وزوجته رحمة بنت إفراييم بن يوسف عليه السلام أوليا بنت يعقوب عليه السلام.
ولذا قال في "كشف الأسرار" : كان أيوب في زمان يعقوب أوماخير بنت ميشا بن يوسف.
والأول أشهر الأقاويل.
قال القرطبي : لم يؤمن بأيوب إلا ثلاثة نفر وعمره ثلاث وتسعون.
وقوله : أيوب ، عطف بيان للعبد.
{إِذْ نَادَى رَبَّهُ} بدل من عبدنا ؛ أي : دعا وتضرع بلسان الاضطرار والافتقار.
{إِنِّى} ؛ أي : بأني {مَسَّنِىَ الشَّيْطَـانُ} أصابني.
وبالفارسية (ديو بمن رسيد) ، فتكون الباء في قوله : {بِنُصْبٍ} للتعدية ؛ أي : تعب ومشقة وكذا النصب بفتحتين {وَعَذَابٍ} العذاب : الإيجاع الشديد ؛ أي : ألم ووصب يريد مرضه وما كان يقاسيه من فنون الشدائد ، وهو المراد بالضر في قوله في سورة الأنبياء : {أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ} (الأنبياء : 83) ، وهو حكاية لكلامه الذي ناداه به بعبارته ، وإلا لقيل أنه مسه إلخ ، وليس هذا تمام دعائه عليه السلام ، بل من جملة قوله : {وَأَنتَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ} ، فاكتفى هاهنا عن ذكره بما في سورة الأنبياء كما ترك هناك ذكر الشيطان ثقة بما ذكر هاهنا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
فإن قلت : لا قدرة للشيطان البتة على إيقاع الناس في الأمراض والأسقام ؛ لأنه لو قدر على ذلك لسعى في قتل الأنبياء والأولياء والعلماء والصالحين ، فهو لا يقدر أن يضر أحداً إلا بطريق إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة.
فما معنى إسناد المس إليه.
(8/29)
قلت : إن الذي أصابه لم يصبه إلا من الله تعالى إلا أنه أسنده إلى الشيطان لسؤال الشيطان منه تعالى أن يمسه الله تعالى بذلك الضر امتحاناً لصبره ، ففي إسناده إليه دون الله تعالى مراعاة للأدب.
روي : أن أيوب عليه السلام كان له أموال كثيرة من صنوف مختلفة.
وهو مع ذلك كان مواظباً على طاعة الله محسناً للفقراء واليتامى وأرباب الحاجات ، فحسده إبليس لذلك.
وقال : إنه يذهب بالدنيا والآخرة ، فقال : إلهي عبدك أيوب قد أنعمت عليه ، فشكرك وعافيته ، فحمدك ولو ابتليته بنزع النعمة والعافية لتغير عن حاله ، فقال تعالى : إني أعلم منه أن يعبدني ويحمدني على كل حال ، فقال إبليس : يا رب سلطني عليه وعلى أولاده وأمواله ، فسلطه على ذلك ، فأحرق زرعه وأسقط الأبنية على أولاده ، فلم يزدد أيوب إلا حمداً لربه ، ثم نفخ في جسده نفخة خرجت بها فيه النفاخات ، ثن تقطرت بالدم الأسود وأكله الدود سبع سنين ، وهو على حاله في مقام الصبر والرضى والتسليم ، فكان بلاؤه امتحاناً من غير أن يكون منه ذنب يعاقب عليه ليبرز الله ما في ضميرة ، فيظهر لخلقه درجته ، أين هو من ربه كما ذكره الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول".
وعلى هذا القول اعتماد الفحول ، فدع ما عداه فإنه غير مقبول.
وفي "التأويلات النجمية" يشير بقوله : {وَاذْكُرْ} إلخ إلى معاني مختلفة.
{مِنْهَا} : إن من شرط عبودية خواص عباده من الأنبياء والأولياء الصبر عند نزول البلاء والرضى بجريان أحكام القضاء.
ومنها : ليعلم أن الله تعالى لو سلط الشيطان على بعض من أوليائه وأنبيائه لا يكون لإهانتهم بل يكون لعزتهم وإعانتهم على البلوغ إلى رتبة نعم العبدية ودرجة الصابرين المحبوبين.
ومنها : أن العباد من الأنبياء لو لم يكونوا في كنف عصمة الله وحفظه لمستهم الشياطين ينصب وعذاب.
ومنها : أن من آداب العبودية إجلال الربوبية وإعظامها عن إحالة الضر والبلاء والمحن عليها لا على الشيطان ، كما قال يوسف عليه السلام :
40
{وَجَآءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِنا بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَـانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى} (يوسف : 100).
وقال يوشع عليه السلام : {وَمَآ أَنسَـاـانِيهُ إِلا الشَّيْطَـانُ} (الكهف : 63).
وقال موسى عليه السلام : {هَـاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ} (القصص : 15).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
ومنها : ليعلم أنه ما بلغ مقام الرجال البالغين ؛ إلا بالصبر على البلوى وتفويض الأمور إلى المولى والرضى بما يجري عليه من القضاء.
انتهى.
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} الركض الضرب والدفع القوي بالرجل ، فمتى نسب إلى الراكب ، فهو إغراء مركوبه وحثه للعدو نحو ركضت الفرس ، ومتى نسب إلى الماشي ، فوطىء الأرض كما في الآية كذا قاله الراغب.
والرجل : القدم أو من أصل الفخذ إلى رؤوس الأصابع.
والمعنى : إذ نادى فقلنا له على لسان جبريل عليه السلام حين انقضاء مدة بلائه اركض برجلك ؛ أي : من اضرب بها الأرض : وبالفارسية (بزن باي خودرا بزمين) ، وهي أرض الجابية بلد في الشام من إقطاع أبي تمام ، فضربها فنبعت عين.
فقلنا له : {هَـاذَآ} (اين جمشه).
{مُغْتَسَلُا بَارِدٌ} تغتسل به.
وقال الكاشفي : (جاي غسل كردنست يا آبيست كه بدان غسل كنند).
أشار إلى أن المغتسل هو الموضع الذي يغتسل فيه ، والماء الذي يغتسل به.
والاغتسال : غسل البدن وغسلت الشيء غسلاً أسلت عليه الماء ، فأزلت درنه.
{وَشَرَابٌ} تشرب منه فيبرأ باطنك.
والشراب : هو ما يشرب ويتناول من كل مائع ماء كان أو غيره.
والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف.
وقال بعض الكبار : هذا مغتسل به ؛ أي : ماء يغتسل به وموضعه وزمانه بارد يبرد حرارة الظاهر وشراب يبرد حرارة الباطن ، يعني : إنما كان الماء بارداً لما كان عليه من إفراط حرارة الألم ، فسكن الله إفراطها الزائد المهلك ببرد الماء وأبقى الحرارة النافعة للإنسان.
وفي كلام الشيخ الشهير بافتاده البرسوي قدس سره أن المراد بالماء في هذه الآية صورة إحياء الله تعالى.
وهو المراد بماء المطر أيضاً فيما روي أنه إذا كان يوم القيامة ينزل المطر على الأموات أربعين سنة ، فيظهرون من الأرض كالنبات.
انتهى.
فاغتسل أيوب عليه السلام من ذلك الماء وشرب فذهب ما به من الداء من ظاهره وباطنه ، فإن الله تعالى إذا نظر إلى العبد بنظر الرضى يبدل مرضه بالشفاء وشدته بالرخاء وجفاءه بالوفاء ، فقام صحيحاً وكسي حلة ، وعاد إليه جماله وشبابه أحسن ما كان.
وقال ابن عباس ـ ـ رضي الله عنهما ـ ـ : مكث في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات لم يغمض فيهن ولم ينقلب من جنب إلى جنب كما في "زهرة الرياض".
(8/30)
قال حضرة الشيخ بالى الصوفي في "شرح الفصوص" : الإشارة فيه أن الله تعالى أمر نبيه بضرب الرجل على الأرض ، ليخرج منها الماء لإزالة ألم البدن ، فهو أمر لنا بالسلوك والمجاهدة ، ليخرج ماء الحياة ، وهو العلم بالله من أرض وجودنا لإزالة أمراض أرواحنا ، وهي الحجب المبعدة عن الحق.
ثم قال : وفي هذه الآية سر لطيف ، وهو أن السالكين مسلك التقوى بالمجاهدة والرياضات إذا اجتمعوا في منزل وذكروا الله كثيراً بأعلى صوت وضربوا أرجلهم على الأرض مع الحركة ، أية حركة كانت ، وكانت نيتهم بذلك إزالة الألم الروحاني.
جاز منهم ذلك إذا ضرب الرجل الصورية على الأرض الصورية مع الذكر الصوري بنية خالصة يوصل إلى الحقيقة إذ ما من حكم شرعي إلا وله حقيقة توصل عامله إلى حقيقته.
انتهى كلامه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال بعض العلماء : بالله ارتفاع الأصوات في بيوت العبادات بحسن النيات وصفاء الطويات يحل ما عقدته الأفلاك الدائرات حتى قال
41
أهل البصائر : إن الأنفاس البشرية هي التي تدير الأفلاك العلوية.
انتهى.
فقد شرطوا في ضرب الرجل وكذا في رفع الصوت حسن النية وصفوة الباطن من كل غرض ومرض ، فإذا كان المرء حسن النية يراعي الأدب الظاهري والباطني من كل الوجوه ، فيعرج بمعراج الخلوص على ذروة مراتب أهل الخصوص ، ويسلم من الجرح والقدح لكون حركته على ما أشار إليه النصوص.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في "الفتوحات المكية" : لا يجوز لأحد التواجد إلا بإشارة شيخ عارف بأمراض الباطن.
وفي محل آخر من شرط أهل الله في السماع أن يكونوا على قلب رجل واحد وأن لا يكون فيهم من ليس من جنسهم ، أو غير مؤمن بطريقهم ، فإن حضور مثل هؤلاء يشوش.
وفي آخر لا ينبغي للأشياخ أن يسلموا للمريد حركة الوجد الذي تبقي معه الإحساس بمن في المجلس ولا يسلم له حركته إلا إن غاب.
ومهما أحس بمن كان في المجلس تعين عليه أن يجلس إلا أن يعرف الحاضرون أنه متواجد لا صاحب وجد ، فيسلم له ذلك ؛ لأن هذه الحالة غير محمودة بالنظر إلى ما فوقها.
وفي آخر إذا كانت حركة المتواجد نفسية فليست بقدسية وعلامتها الإشارة بالأكمام والمشي إلى خلف وإلى قادم والتمايل من جانب إلى جنب ، والتفريق بين راجع وذاهب فقد أجمع الشيوخ على أن مثل هذا محروم مطرود.
انتهى.
فقد شرط الشيخ رضي الله عنه في هذا الكلمات لمن أراد الوجد والسماع ، حضور القلب والعشق والمحبة والصدق وغلبة الحال.
فقول القرطبي استدل بعض الجهال المتزهدة وطغاة المتوصفة ، بقوله تعالى لأيوب عليه السلام : {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} على جواز الرقص.
وهذا احتجاج بارد ؛ لأنه تعالى إنما أمر بضرب الرجل لنبع الماء لا لغيره ؛ وإنما هو لأهل التكلف كما دل عليع صيغة التزهد والتصوف ؛ فإن أتقياء الأمة برآء من التكلف ، فهو زجر لفسقة الزمان عما هم عليه من الاجتماع المنافي لنص القرآن ؛ فإنهم لو كانوا صلحاء مستأهلين لأباحت لهم إشارة القرآن ذلك ، لكنهم بمعزل عن الركض بشرائط فهم ممنوعون جداً.
قال الشيخ الشهير بافتاده قدس سره : ليس في طريق الشيخ الحاجي بيرام قدس سره : الرقص حال التوحيد وليس في طريقنا أيضاً ، بل نذكر الله قياماً وقعوداً ولا نرقص على وفق قوله تعالى : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران : 191).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وقال أيضاً : ليس في طريقنا رقص ، فإن الرقص والأصوات كلها إنما وضع لدفع الخواطر ، ولا شيء في دفعها أشد تأثيراً من التوحيد فطريقنا طريق الأنبياء عليهم السلام ، فنبينا عليه السلام لم يلقن إلا التوحيد.
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَا هَـاذَا مُغْتَسَلُا بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَه أَهْلَه وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّه وَلا} .
{وَوَهَبْنَا لَه أَهْلَهُ} معطوف على مقدار ؛ أي : فاغتسل وشرب ، فكشفنا بذلك ما به من ضر كما في سورة الأنبياء ووهبنا له أهله : يعني (فرزندان ويرا زنده كرديم).
وكانوا ثلاثة عشر.
روى الحسن : أن الله تعالى أحياهم بعد هلاكهم ؛ أي : بما ذكر من أن إبليس هدم عليهم البناء فماتوا تحته.
{وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} عطف على أهله ، فكان له من الأولاد ضعف ما كان له قبل ؛ أي : زاده على ما كان له قبل البلاء ، قال الصائب :
زفوت مطلب جزؤى مشوغمين كه فلك
ستاره ميبرد وآفتاب مى آرد
{رَحْمَةً مِّنَّا} ؛ أي : لرحمة عظيمة عليه من عندنا {وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ} ، ولتذكيرهم
42
بذلك ليصبروا على الشدائد كما صبر ، ويلجؤوا إلى الله فيما ينزل بهم كما لجأ ليفعل بهم ما فعل به من حسن العاقبة : قال الكاشفي : (رحمت إلهي فرج را بصير ناريست).
اصبر فإن الصبر مفتاح الفرج
كليد صبر كسى راكه باشد اندردست
هرآينه در كنج مراد بكشايد
بشام تيره مخت بساز وصبر نماى
كه دمبدم سحر از برده روى بنمايد
(8/31)
(آورده أندكه درزمان مرض أيوب عليه السلام زوجه أو رحمه بهمى رفته بود وديرمى آمد أيوب سوكند خورد كه أورا صدجوب بزند جون تباشير صبح صحت أزافق رحمت روى نمود وأيوب بحالت تن درستي وجواني بازآمه خواست تاسوكند خودرا راست كند خطاب از حضرت عزت رسيدكه).
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} .
قال في "الإرشاد" : معطوف على اركض أو على وهبنا بتقدير.
وقلنا خذ بيدك إلخ والأول أقرب لفظاً.
وهذا أنسب معنى ؛ فإن الحاجة إلى هذا الأمر لا تمس إلا بعد الصحة.
والضغث : الحزمة الصغيرة من الحشيش ونحوه في "المفردات" الضغث : قبضة ريحان أو حشيش.
وبه شبه الأحلام المختلطة التي لا يتبين حقائقها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
انتهى.
وقال الكاشفي : (وبكير بدست خود سته از جوب ازخر ما يا از حشائش خشك شده كه بعدد صد باشد وفي "كشف الأسرار" مفسران كفتند إبليس برصورت طبيبي برسر راه نشست وبيماران را مداوات مي كرد زن أيوب آمد وكفت بيماري كه فلان علت دارد أورا مداوات كنى إبليس كفت أورا مداوات كنم وشفادهم بشرط آنكه جون أورا شفادهم اومرا كويد "أنت شفيتني" يعني : تومرا شفا دادي ازشما جزاين نخواهم زن بيامد وآنجه ازوي شنيد بأيوب كفت أيوب بدانست كه آن شيطانست وأورا از راه مي برد وكفت "والله لئن برئت لأضربنك مائة" بس جون به شد جبريل آمد وبيام آورد ازحق تعالى كه آن زن ترا درايام بلا خدمت نيكو كرد اكنون تخفيف ويرا وتصديق سوكند خودرا دسته كياه وريحان كه بعدد صد شاخ باشد با قبضه كه ازين درخت كندم كه خوشه برسردارد آنرا بدست خويش كير).
فإنه قال في "التكملة"ـ : وقد روي : أنه أخذ مائة سنبلة في كف واحد فضربها بها.
وقيل : باعت ذؤابتيها برغيفين وكانتا متعلق أيوب إذا قام فحلف بذلك.
قال في "فتح الرحمن" : روي أن أيوب عليه السلام كانت زوجته مدة مرضه تختلف إليه فيتلقاها الشيطان مرة في صورة طبيب ومرة في هيئة ناصح ، فيقول لها : لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني لبرىء ، ولو ذبح عناقاً للصنم الفلاني لبرىء.
ويعرض لها وجوهاً من الكفر فكانت هي ربما عرضت ذلك على أيوب ، فيقول : لقيت عدو الله في طريقك ، فلما أغضبته حلف إن عوفي ليجلدنها مائة جلدة.
انتهى.
يقول الفقير : هذه الوجوه ذكرت أيضاً في غيره من التفاسير لكنها ضعيفة ، فإن امرأة أيوب ، وهي رحمة وكانت بنت ابن يوسف الصديق عليه السلام على ما هو الأرجح ، ولا يتصور من مثل هذه المرأة المتدينة أن تحمل أيوب على ما هو كفر في دينه وفي سائر الأديان ، وبمجرد نقل كلام العدو لا يلزم الغضب والحلف ، فالوجه الأول أليق بالمقام.
{فَاضْرِب بِّهِ} ؛ أي : بذلك الضغث زوجك.
في يمينك ، فإن البر يتحقق به ، فأخذ
43
ضغثاً فضربها ضربة واحدة.
يقال : حنث في يمينه إذا لم يف بها.
وقال بعضهم : الحنث : الإثم ويطلق على فعل ما حلف على تركه وترك ما حلف على فعله من حيث أن كل واحد منهما سبب له.
وفي "تاج المصادر" (الحنث : دروغ شدن سوكند) ويعدى بفي (وبزه مند شدن).
فإن قيل : لم قال الله تعالى لأيوب عليه السلام {وَلا تَحْنَثْ} .
وقال لمحمد صلى الله عليه وسلّم {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـانِكُمْ} (التحريم : 2).
قلنا : لأن كفارة اليمين لم تكن لأحد قبلنا ، بل هي لنا مما أكرم الله به هذه الأمة بدليل قوله تعالى : لكم.
كذا في "أسئلة الحكم".
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وفي كلام بعض المفسرين : لعل التكفير لم يجز في شرعهم أو أن الأفضل الوفاء به.
انتهى.
قال الشيخ نجم الدين رحمة الله : أراد الله أن يعصم نبيه أيوب عليه السلام من الذنبين اللازمين.
أحدهما : إما الظلم وإما الحنث ، وأن لا يضيع أجر إحسان المرأة مع زوجها ، وأن لا يكافئها بالخير شراً ، وتبقى ببركتها هذه الرخصة في الأمم إلى يوم القيامة.
انتهى.
فقد شرع الله هذه الرحمة رحمة عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها ، وهي رخصة باقية في الحدود يجب أن يصيب المضروب كل واحد من المائة إما بأطرافها قائمة أو بأعراضها مبسوطة على هيئة الضرب ؛ أي : بشرط أن توجد صورة الضرب ؛ ويعمل بالحيل الشرعية بالاتفاق.
روي : أن الليث بن سعد حلف أن يضرب أبا حنيفة بالسيف ، ثم ندم من هذه المقالة وطلب المخرج من يمينه ، فقال أبو حنيفة رحمه الله : خذ السيف واضربني بعرضه ، فتخرج عن يمينك كما في "مناقب الإمام" رضي الله عنه.
(8/32)
قال في "فتح الرحمن" : مذهب الشافعي إذا وجب الحد على مريض وكان جلداً أخر للمرض ، فإن لم يرج برؤه جلد بعثكال عليه مائة غصن ، فإن كان خمسين ضرب به مرتين وتمسه الأغصان ، أو ينكبس بعضها على بعض ليناله بعض الألم ، فإن برىء أجرأه.
ومذهب أبي حنيفة رحمه الله يؤخر فلا يجلد حتى يبرأ كمذهب الشافعي ، فإن كان ضعيف الخلقة يخاف عليه الهلاك لو ضرب شديداً ، يضرب مقدار ما يتحمله من الضرب.
ومذهب مالك : لا يضرب إلا بالسوط ويفرق الضرب وعدد الضربات مستحق لا يجوز تركه ، فإن كان مريضاً آخر إلى أن يبرأ كمذهب الشافعي وأبي حنيفة ومذهب أحمد : يقام الحد في الحال ولا يؤخر للمرض ، ولو رجى زواله ويضرب بسوط يؤمن معه التلف كالقضيب الصغير ، فإن خشي عليه من السوط أقيم بأطراف الثياب وعثكول النخل ، فإن خيف عليه من ذلك جمع ضغث فيه مائة شمراخ ، فضرب به ضربة واحدة كقول الشافعي.
وأما إذا كان الحد رجماً ، فلا يؤخر بالاتفاق ولا يقام الحد على حامل حتى تضع بغير خلاف ، فأبو حنيفة : إن كان حدها الجلد ، فحتى تتعالّ ؛ أي : تخرج من نفاسها ، وإن كان الرجم فعقيب الولادة ، وإن لم يكن للصغير من يربيه ، فحتى يستغني عنها.
والشافعي حتى ترضعه اللبان ويستغني بغيرها ، أو فطام لحولين.
ومالك وأحمد بمجرد الوضع.
{إِنَّا وَجَدْنَـاهُ} علمناه {صَابِرًا} فيما أصابه في النفس والأهل لولا أنا وجدناه صابراً ؛ أي : جعلناه يدل على هذا المعنى قوله تعالى لنبيه عليه السلام : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} (النحل : 127) ؛ أي : هو الذي صبرك وإن لم تكن تصبر.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
روي : أنه بلغ أمر أيوب عليه السلام إلى أن لم يبق منه إلا القلب واللسان ، فجاءت دودة إلى القلب فعضته ، وأخرى إلى اللسان
44
فعضته ، فعند ذلك دعا أيوب فوقعت دودة في الماء فصار علقاً وأخرى في البر فصار نحلاً يخرج منه العسل.
وفي "زهرة الرياض" : أنه بقي على بدنه أربعة من الديدان.
واحد طار ووقع على شجرة الفرصاد ، فصار دود القز وواحد وقع في الماء فصار علقاً وواحد وقع في الحبوب فصار سوساً ، والرابع طار ووقع في الجبال والأشجار فصار نحلاً ، وهذا بعدما كشف الله عنه.
واعلم أن العلماء قالوا : إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الأمراض المنفرة ويناقش فيه بحديث أيوب عليه السلام إذ روي أنه تفرق عنه الناس حتى ارتد بعض من آمن به إلا أن يستثنى أيوب عليه السلام ، فإن ابتلاءه كان خارقاً للعادة وابتلاء الناس به أي ابتلاء.
ثم اعلم أنه ليس في شكواه إلى الله تعالى إخلال بصبره فإن الصبر حبس النفس عن الشكوى لغير الله لا إلى الله تعالى ، وفي حبس النفس عن الشكوى إلى الله في رفع الضر مقاومة القهر الإلهي ، وهو ليس من آداب العبودية ، فلا بد من الشكاية ليصح الافتقار الذي هو حقيقتك المميزة نسبة العبودية من الربوبية.
ولذا قال أبو زيد البسطامي قدس سره :
جارجيز آورده ام شاها كه دركنج تونيست
نيستى وحاجت وعجز ونياز آورده ام
وجاع بعض العارفين فبكى فعاتبه في ذلك بعض من لا ذوق له ، فقال : إنما جوّعني لأبكي ، وأسأل {نِعْمَ الْعَبْدُ} ؛ أي : أيوب {إِنَّه أَوَّابٌ} تعليل لمدحه ؛ أي : إنما كان نعم العبد ؛ لأنه رجاع إلى الله تعالى لا إلى الأسباب مقبل بجملة وجوده إلى طاعته أو رجاع إلى الحضرة في طلب الصبر على البلاء ، والرضى بالقضاء.
ولقد سوى الله تعالى بين عبديه اللذين أحدهما أنعم عليه فشكر ، والآخر ابتلي فصبر حيث أثنى عليهما ثناء واحداً فقال في وصف سليمان : {نِعْمَ الْعَبْدُا إِنَّه أَوَّابٌ} (ص : 30).
وفي وصف أيوب كذلك ، ولم يلزم من الأوابية الذنب ؛ لأن بلاء أيوب كان من قبيل الامتحان على ما سبق.
واعلم أن العيش في البلاء مع الله عيش الخواص ، وعيش العافية مع الله عيش العوام.
وذلك لأن الخواص يشاهدون المبلى ، وفي البلاء وتطيب عيشتهم بخلاف العوام ؛ فإنهم بمعزل من الشهود ، فيكون البلاء لهم عين المحنة ، ولذا صبر لهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال ابن مسعود رضي الله عنه : أيوب عليه السلام رأس الصابرين إلى يوم القيامة.
قال بعضهم : (بلا ذخيرة أوليا واختيار اصفيا است هر يكنى بنوعى ممتحن بودند.
نوح بدست قوم خويش كرفتار.
إبراهيم بآتش نمرود.
إسماعيل بفتنه ذبح.
يعقوب بفراق فرزند.
زكريا ويحيى بمحنت قتل.
موسى بدست فرعون وقبطيان وعلى هذا أوليا وأصفيا.
يكى را محنت غربت بود ومذلت.
يكى راكر سنكى وفاقت.
يكى بيماري وعلت.
يكى را قتل وشهادت.
مصطفى عليه السلام كفت (إن الله ادخر البلاء لأوليائه كما ادخر الشهادة لأحبابه) جون رب عزت آن بلاها از أيوب كشفت كرد روزى بخاطروى بكذشت كه نيك صبر كردم دران بلا ندا آمدكه "أنت صبرت أم نحن صبرناك يا أيوب لولا أنا وضعنا تحت كل شعرة من البلاء جبلاً من الصبر لم تصبر" جنيد قدس سره كفت).
من شهد البلاء بالبلاء ضجّ من البلاء ، ومن شهد البلاء من المبلى حنّ إلى البلاء.
(8/33)
قال ابن عطاء : ليخفف ألم البلاء عنك علمك بأن الله هو المبلي.
واعلم أن لكل بلاء خلفاً إما في الدنيا ، وإما في الآخرة وإما في كليهما.
قال الصائب :
45
هر محنتى مقدمه راحتي بود
شد همز بان حق جو زبان كليم سوخت
يروى : أن الله تعالى لما أذهب عن أيوب ما كان به من الأذى أنزل عليه ثوبين أبيضين من السماء ، فاتزر بأحدهما ، وارتدى بالآخر.
ثم مشى إلى منزله ، فأقبلت سحابة فسحت في أندر قمحه ذهباً حتى امتلأ ، وأقبلت سحابة أخرى إلى أندر شعيره ، فسحت فيه ورقاً حتى امتلأ وشكر الله خدمة زوجته فردها إلى شبابها وجمالها.
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّه وَلا تَحْنَثْا إِنَّا وَجَدْنَـاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُا إِنَّه أَوَّابٌ * وَاذْكُرْ عِبَـادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الايْدِى وَالابْصَـارِ * إِنَّآ أَخْلَصْنَـاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاخْيَارِ} .
{وَاذْكُرْ عِبَـادَنَآ} المخصوصين من أهل العناية {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ} ابن إبراهيم {وَيَعْقُوبَ} ابن إسحاق.
ثم أومأ إلى وجه اختصاصهم بجنابه تعالى.
فقال : {أُوْلِى الايْدِى} ذوي الأيدي ، وهي جمع يد ، بمعنى الجارحة في الأصل أريد بها القوة مجازاً بمعونة المقام ، وذلك لكونها سبب التقوى على أكثر الأعمال.
وبها يحصل البطش والقهر ، ولم تجمع القوة لكونها مصدراً يتناول الكثير.
{وَالابْصَـارِ} جمع بصر.
حمل على بصر القلب ويسمى البصيرة ، وهي القوة التي يتمكن بها الإنسان من إدراك المعقولات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال في "المفردات" : البصر يقال للجارحة الناظرة ، وللقوة التي فيها يقال لقوة القلب المدركة : بصيرة وبصر ، ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة.
وجمع البصر : أبصار.
وجمع البصيرة : بصائر.
والمعنى : ذوي القوة في الطاعة والبصيرة في أمور الدين.
ويجوز أن يراد بالأيدي الأعمال الجليلة لأن أكثر الأعمال تباشر بها ، فغلب الأعمال بالأيدي على سائر الأعمال التي تباشر بغيرها ، وأن يراد بالأبصار المعارف والعلوم الشريفة ؛ لأن البصر والنظر أقوى مباديها ، وهم أرباب الكمالات العملية والنظرية ، والذين لا يفكرون فكر ذوي الديانات في حكم من لا استبصار لهم.
وفيه تعريض بالجهلة البطالين ، وأنهم كالزمنى والعميان حيث لا يعملون عمل الآخرة ولا يستبصرون في دين الله وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع تمكينهم منهما.
وفي المثنوي :
أندرين ره مى تراش ومى خراش
تا دم آخر دمى فارغ مباش
{إِنَّآ أَخْلَصْنَـاهُم بِخَالِصَةٍ} تعليل لما وصفوا به من شرف العبودية وعلو الرتبة.
والتنكير للتفخيم ؛ أي : إنا جعلناهم لنا بخصلة خالصة عظيمة الشأن لا شوب فيها.
{ذِكْرَى الدَّارِ} مصدر بمعنى التذكر مضاف إلى مفعوله ، وهو خبر مبتدأ محذوف.
والجملة صفة خالصة.
والتقدير : هي تذكرهم للدار الآخرة دائماً ولا همّ لهم غيرها وإطلاق الدار يعني مراداً بها الآخرة للإشعار بأنها الدار في الحقيقة وإنما الدنيا معبر.
فإن قيل : كيف يكونون خالصينتعالى وهم مستغرقون في الطاعة ، وفيما هو سبب لها ، وهو تذكر الآخرة.
قلت : إن استغراقهم في الطاعة إنما هو لاستغراقهم في الشوق إلى لقاء الله ، ولما لم يكن ذلك إلا في الآخرة ، استغرقوا في تذكرها وفي الآخرة : (آن ياد كردن سراى آخر تست جه مطمح نظر أنبيا جزفوز بلقاى حضرت كبريا نيست وآن در آخرت ميسر شود).
وفي "التأويلات النجمية" : إنا صفيناهم عن شوب صفات النفوس وكدورة الأنانية وجعلناهم لنا خالصين بالمحبة الحقيقية ليس لغيرنا فيهم نصيب لا يميلون إلى الغير بالمحبة العارضة لا إلى أنفسهم ولا إلى غيرهم بسبب خصلة خالصة غير مشوبة بهمّ آخر هي ذكرى الدار الباقية ، والمقر الأصلي ؛ أي : استخلصناهم لوجهنا بسبب تذكرهم لعالم القدس وإعراضهم عن معدن الرجس مستشرقين لأنواره لا التفات لهم في الدنيا وظلماتها أصلاً.
46
انتهى.
يقول الفقير : أراد أن الدنيا ظلمة ؛ لأنها مظهر جلاله تعالى والآخرة نور ؛ لأنها مجلى جماله تعالى.
والتاء : للتخصيص.
والأصل : الآخر الذي هو الله تعالى ، ولذا يرجع العباد إليه بالآخرة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ} .
قوله : عند ظرف لمحذوف دل عليه المصطفين ، ولا يجوز أن يكون معمولاً لقوله : من المصطفين ؛ لأن الألف واللام فيه بمعنى الذي.
وما في حيز الصلة لا يتقدم على الموصول.
والمصطفين : بفتح التاء والنون جمع مصطفى.
أصله : مصطفيين بالياءين وبكسر الأولى.
والمعنى لمن المختارين من أمثالهم {الاخْيَارِ} المصطفين عليهم في الخير.
وفي "التأويلات النجمية" : وأنهم في الحضرة الواحدية لمن الذين اصطفيناهم لقربنا من بني نوعهم الأخيار المنزهين عن شوائب الشر والإمكان والعدم والحدثان.
انتهى.
(8/34)
وذكر العندية وقرن بها الاصطفائية إشارة إلى أن الاصطفائية في العبودية أزلية قبل وجود الكون فشرفهم خاص وموهبة خالصة بلا علل.
والأخيار : جمع خير كشر وأشرار على أنه اسم تفضيل أو خير بالتشديد أو خير بالتخفيف كأموات جمع : ميت وميت.
{وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَـاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِا وَكُلٌّ مِّنَ الاخْيَارِ * هَـاذَا ذِكْرٌا وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَـاَابٍ * جَنَّـاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابْوَابُ * مُتَّكِـاِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَـاكِهَةٍ} .
{وَاذْكُرْ إِسْمَـاعِيلَ} ابن إبراهيم عليهما السلام ، وليس هو بأشموئيل بن هلقاثان على ما قال قتادة.
وإنما فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه للإشعار بعراقته في الصبر الذي هو المقصود بالتذكر ، وذلك لأنه أسلم نفسه للذبح في سبيل الله ، أو ليكون أكثر تعظيماً ، فإنه جد أفضل الأنبياء والمرسلين.
{وَالْيَسَعَ} هو ابن أخطوب من العجوز استخلفه إلياس عليه السلام على بني إسرائيل ، ثم استنبىء ودخل اللام على العلم لكونه منكراً بسبب طرو الاشتراك عليه فعرف باللام العهدية على إرادة اليسع الفلاني مثل قول الشاعر : ()
رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً
{وَذَا الْكِفْلِ} : هو ابن عم يسع أو يشير بن أيوب عليه السلام بعث بعد أبيه إلى قوم في الشام.
واختلف في نبوته.
والأكثرون على أنه نبي لذكره في سلك الأنبياء ، واختلف أيضاً أنه إلياس ، أو يوشع ، أو زكريا ، أو غيرهم.
وإنما لقب بذي الكفل ؛ لأنه فرّ إليه مائة نبي من بني إسرائيل من القتل فآواهم وكفلهم بمعنى : أطعمهم وكساهم وكتمهم من الأعداء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وفي "التأويلات النجمية" : قيل : إن اليسع وذا الكفل كانا أخوين ، وذو الكفل تكفل بعمل رجل صالح مات في وقته كان يصليكل يوم مائة صلاة ، فأحسن الله إليه الثناء.
{وَكُلٌّ} ؛ أي : وكلهم على أن لا يكذبوا بدلاً منهم {مِّنَ الاخْيَارِ} المشهورين بالخيرية.
والآيات تعزية وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم فإن الأنبياء عليهم السلام إذا اجتهدوا في الطاعات وقاسوا الشدائد والآفات وصبروا على البلايا والأذيات من أعدائهم مع أنهم مفضولون ، فالنبي عليه السلام أولى بذلك لكونه أفضل منهم والأفضل يقاسي ما لا يقاسي المفضول إذ به تتم رتبته وتظهر رفعته.
قال في "كشف الأسرار" : (اسما دختر صديق رضي الله عنها روايت كندكه مصطفى عليه السلام روزى در انجمن قريش بكذشت يكى از ايشان برخاست كفت تويى كه خدايان مارا بد ميكويى ودشنام مى دهى رسول خدا كفت من ميكويم كه معبود عالميان يكيست بي شريك وبي نظير شما در برستش
47
اصنام برباطليد ايشان همه بيكبار هجوم كردند ودر رسول آو يختندن واورا ميزدند اسما كفت اين ساعت يكى آمد بدر سراى أبو بكر وكفت "أدرك صاحبك" صاحب خويش را در ياب كه در زخم دشمنانى كرفتارست أبو بكر يشتاب رفت وبا ايشان كفت "ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم" ايشان رسول رابكذاشتند وأبو بكر را بيمحابا زدند وأبو بكر كيسوان داشت جون بخانه باز آمدد ست بكيسوان فرو مى آورد وموى بدست وبازمى آمد وميكفت "تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام" رب العالمين اين همه رنج وبلا بردوستان نهد كه از ايشان دوجيز دوست دارد جشمى كريان ودلى بريان ودوست داردكه بنده مى كريد واورا دران كريه مى ستايدكه "ترى أعينهم تقيض من الدمع" ودوست دارد كه بنده مى نالد وبردركاه او مى زارد آن مى ستايدكه).
وجلت قلوبهم.
وفي المثنوي :
باسياستهاى جاهل صبركن
خوش مدارا كن بعقل من لدن
صبر برنا اهل اهلا نراجليست
صبر صافي ميكندهر جادليست
آتش نمرود إبراهيم را
صفوت آينه آمد در جلا
جور كفر نوحيان وصبر نوح
نوح را شد صيقل مرآت نوح
أنبيا رنج خسان بس ديده اند
از جنين ماران بسى بجيده اند
روبكش خندان وخوش بار حرج
از بى الصبر مفتاح الفرج
اللهم أعنا على الصبر {هَـاذَآ} المذكور من الآيات الناطقة بمجالس الأنبياء {ذِكْرِ} ؛ أي : شرف لهم وذكر جميل يذكرون به أبداً كما يقال : يموت الرجل ويبقى اسمه وذكره ، ويموت الفرس ويبقى ميدانه :
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
ياد كارست جون حديث بشر
ياد كارت بخير به كه بشر
وفي التفسير الفارسي : (اين خبر انبيا سبب ياد كردست ترا اي محمد وقوم ترا).
كما في قوله تعالى : {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} (الزخرف : 44).
وعن ابن عباس رضي عنهما : هذا ذكر من مضى من الأنبياء.
وفي "التأويلات النجمية" : هذا ؛ أي : القرآن فيه ذكر ما كان ، وذكر الأنبياء وقصصهم لتعتبر بهم وتقتدي بسيرهم.
{وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} الذين يتقون الله لا ما سواه وهذا لأن جنات عدن مقام أهل الخصوص {لَحُسْنَ مَـاَابٍ} ، مرجع في الآخرة مع ما لهم في الدنيا من الثناء الجميل ، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ؛ أي : مآباً حسناً.
(8/35)
{جَنَّـاتِ عَدْنٍ} عطف بيان لحسن مآب.
وأصل العدن في اللغة : الإقامة ثم صار علماً بالغلبة.
روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "إن الله تعالى بنى جنة عدن بيده وبناها بلبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل ملاطها المسك وترابها الزعفران وحصباءها الياقوت ، ثم قال لها : تكلمي فقالت : قد أفلح المؤمنون.
قالت الملائكة طوبى لك منزل الملوك".
يقول الفقير : دل الحديث على أن جنة عدن مقر الخواص والمقربين الذين هم بمنزلة الملوك من الرعايا ودل عليه إطلاق في قوله أيضاً : قد أفلح المؤمنون ؛ لأن الله تعالى عقب في القرآن
48
قوله : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون : 1)بصفات لا تتيسر إلا للخواص ، فأين السياس من منازل السلاطين.
{مُّفَتَّحَةً} ؛ أي : حال كون تلك الجنات مفتحة.
{لَّهُمُ الابْوَابُ} منها ، والأبواب : مفعول مفتحة ؛ أي : إذا وصلوا إليها وجدوها مفتوحة الأبواب لا يحتاجون إلى فتح بمعاناة ولا يلحقهم ذل الحجاب ولا كلفة الاستئذان تستقبلهم الملائكة بالتبجيل والترحيب والإكرام يقولون : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
وقيل : هذا مثل كما تقول : متى جئتني وجدت بابي مفتوحاً لا تمنع من الدخول.
فإن قيل : ما فائدة العدول عن الفتح إلى التفتيح.
قلنا : المبالغة وليست لكثرة الأبواب بل لعظمها كما ورد من المبالغة في وسعها وكثرة الداخلين ، ويحتمل أن يكون للإشارة إلى أن أسباب فتحها عظيمة شديدة ؛ لأن الجنة قد حفت بالمكاره على وجه ما رآها جبرائيل عليه السلام مع عظمة نعيمها ، قال : يا رب أنى هذه لا يدخلها أحد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{جَنَّـاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابْوَابُ * مُتَّكِـاِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَـاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ} .
{مُتَّكِـاِينَ فِيهَا} ، حال من لهم ؛ أي : حال كونهم جالسين فيها جلسة المتنعمين للراحة ولا شك أن الاتكاء على الأرائك دليل التنعم ثم استأنف لبيان حالهم في الجنات ، فقال : {يَدْعُونَ فِيهَا} .
(مى خوانند دران بهشتها).
{بِفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} ؛ أي : بألوان الفاكهة ، وهي ما يؤكل للذة لا للغذاء والاقتصار على دعاء الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي ، فإنه لتحصيل بدل المتحلل ولا تحلل فيها.
{وَشَرَابٌ} ؛ أي : ويدعون فيها أيضاً بشراب.
وقيل : تقديره : وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول ؛ أي : يدعون بشراب كثير بمعنى ألوانه.
يقال : نطق القرآن بشعرة أشربة في الجنة منها : الخمر الجارية من العيون في والأنهار.
ومنها : العسل واللبن وغيرهما.
ولا شك أن الأذواق المعنوية في الدنيا متنوعة ومقتضاه تنوع التجليات الواقعة في الجنة سواء كانت تجليات شرابية أو غيرها.
{وَعِندَهُمْ} ؛ أي : عند المتقين {قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} ؛ أي : زوجات قصرن طرفهن ؛ أي : نظرهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم : يعني (زنانى كه از غير شوهر جشم باز كيرند).
قال في "كشف الأسرار" : هذا كقولهم فلانة عند فلان ؛ أي : زوجته {أَتْرَابٌ} جمع : ترب بالكسرة ، وهي اللدة ؛ أي : من ولد معك والهاء في اللدة عوض عن الواو الذاهبة من أوله ؛ لأنه من الولادة.
والمعنى : لدات أقران ينشأن معاً تشبيهاً في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر ولوقوعهن على الأرض معاً ؛ أي : يمسهن التراب في وقت واحد.
قال في "كشف الأسرار" : لدات مستويات في السن لا عجوز فيهن ولا صبية.
وقال بعضهم : لدات لأزواجهن ؛ أي : هن في سن أزواجهن : يعني : (تمام زنان بهشت درسن متساوى ازواج باشند مجموع سى وسه سال) لا أصغر ولا أكبر.
وفيه : أن رغبة الرجل فيمن هي دونه في السن وأنه كان التحاب بين الأقران أرسخ ، فلا يكون كونهن لدات لأزواجهن صفة مدح في حقهن.
(وبعضى برانندكه مراد از أتراب آنست همه زنان متساوى باشند در حسن يعنى هيج يك را رديكرى فضلى نبود دران تاطبع بفاضله كشد واز مفضوله منصرف كردد).
وفي الخبر الصحيح : "يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين سنة" ، "لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من ورائها".
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{هَـاذَآ} ؛ أي : تقول لهم الملائكة : هذا المعد من الثواب والنعيم.
{مَا تُوعَدُونَ}
49
أيها المتقون على لسان النبي عليه السلام {لِيَوْمِ الْحِسَابِ} ؛ أي : لأجله فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء.
يقول الفقير : ويحتمل أن يكون التقدير : ما توعدون بوقوعه في يوم الحساب والجزاء.
{إِنَّ هَـاذَآ} ؛ أي : ما ذكر من ألوان النعم والكرامات.
{لَرِزْقُنَا} عطاؤنا أعطيناكموه.
{مَا لَه مِن نَّفَادٍ} ؛ أي : ليس له انقطاع أبداً وفناء وزوال.
قال في "المفردات" : النفاد : الفناء.
(8/36)
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ليس لشيء نفاد ما أكل من ثمارها خلف مكانه مثله ، وما أكل من حيوانها وطيرها عاد مكانه حياً.
وفي "التأويلات النجمية" : وبقوله : {جَنَّـاتِ عَدْنٍ} إلى قوله : {لِيَوْمِ الْحِسَابِ} يشير إلى أن هذه الجنات بهذه الصفات مفتوحة لهم الأبواب.
وأبواب الجنة بعضها مفتوحة إلى الخلق ، وبعضها مفتوحة إلى الخالق لا يغلق عليهم واحد منها ، فيدخلون من باب الخلق وينتفعون بما أعد لهم فيها ثم يخرجون من باب الخالق وينزلون في مقعد صدق عند مليك مقتدر لا يقيدهم نعيم الجنة ليكونوا من أهل الجنة كما لم يقيدهم نعيم الدنيا ليكونوا من أهل النار ، بل أخلصهم من حبس الدارين ومتعهم بنزل المنزلين وجعلهم من أهل الله وخاصته {إِنَّ هَـاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَه مِن نَّفَادٍ} ؛ أي : هذا ما رزقناهم في الأزل ، فلا نفاد له إلى الأبد.
انتهى.
فعلى العاقل الإعراض عن اللذات الفانية والإقبال على الأذواق الباقية ، فالفناء يوصل إلى البقاء كما أن الفقر يوصل إلى الغنى ولكل احتياج استغناء.
(حكايت كنند مردى مال بسيار داشت درداش افتادكه بازركاني كند دران كشتى كه نشسته بود بشكست ومال او جمله غرق شد واو برلوحى بماند بجزيره افتاد حالى بى مونسى ورفيقى سالها بروى آمد دلتنك كشت وغمكين شدشبي برلب دريا نشسته بود باليده وجامها ازوى فروشداين بيت ميكفت).
()
إذا شاب الغراب أتيت أهلي
وهيهات الغراب متى يشيب
(آو وازى درياشنيدكه كسى ميكفت) : ()
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
يكون وراءه فرج قريب
(ديكر روز آن مردرا جشم بردريا افناد وجيزى عظيم ديد جون نزديك آمد كشتى جو عروسى بودجون اين مردرا بديد ند كفتند حال توجيست قصة اش بكفت واز شهر ش خبر داد كفتند ترا هيج بر بود كفت نعم وصفتش بيان كرد ايشان همه بروى افتادند بوسه بروى دادند وكفتند اين بسر تواست واين كشتى ازان اوست ومابند كان اوييم وهرجه ازان اوست توبود واورا موى فروكرند وجامهاى فاخر بوشيدند وبراحت باجايكاه خويش آوردند).
فظهر أن ذلك الرجل ظن أن نفسه هلك ورزقه نفد فوجد الله تعالى قد أعطاه حالاً أحسن من حاله الأولى ؛ فإن رزقه ليس له نفاد وعطاءه غير مجذوذ.
{إِنَّ هَـاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَه مِن نَّفَادٍ * هَـاذَا وَإِنَّ لِلطَّـاغِينَ لَشَرَّ مَـاَابٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَـاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَءَاخَرُ مِن شَكْلِه أَزْوَاجٌ} .
{هَـاذَآ} ؛ أي : الأمر في حق المتقين هذا الذي ذكرناه.
وقال بعضهم : هذا من قبيل ما إذا فرغ الكاتب من فصل وأراد الشروع في فصل آخر منفصل عما قبله.
قال هذا أي : احفظ ما كان كيت وكيت وانتظر إلى ما يجيء.
{وَإِنَّ لِلطَّـاغِينَ} ؛ أي : للذين طغوا على الله وكذبوا الرسل ، يعني : للكافرين.
قال الراغب : الطغيان تجاوز الحد في العصيان {لَشَرَّ مَـاَابٍ} مرجع في الآخرة.
50
{جَهَنَّمَ} عطف بيان لشر مآب {يَصْلَوْنَهَا} ، حال من المنوي في للطاغين ؛ أي : حال كونهم يدخلونها ، ويجدون حرها يوم القيامة ، ولكن اليوم مهدوا لأنفسهم ، {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} ؛ أي : جهنم : وبالفارسية : (بس بد آرامكاهيست دوزخ).
وهو : المهد والفرش مستعار من فراش النائم إذ لا مهاد في جهنم ولا استراحة ، وإنما مهادها نار وغواشيها نار كما قال تعالى : {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} (الأعراف : 41) ؛ أي : فراش من تحتهم ، ومن تجريدية.
{وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} (الأعراف : 41) ؛ أي : أغطية : يعني : (زيروزبر ايشبان آتش باشد).
{هَـاذَا فَلْيَذُوقُوهُ} ؛ أي : ليذوقوا هذا العذاب ، فليذوقوه.
والذوق : وجود الطعم بالفم وأصله في القليل لكنه يصلح للكثير الذي يقال له : الأكل وكثر استعماله في العذاب تهكماً.
{حَمِيمٌ} ؛ أي : هو حميم وهو الماء الذي انتهى حره : يعني (آن آب كرم است درنهايت حرارت جون بيش لب رسد ويرا بسوزد وجون بخورند دو باره شود).
{وَغَسَّاقٌ} : ما يغسق من صديد أهل النار ؛ أي : يسيل من غسقت العين سال دمعها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال الكاشفي : (مراد ريم است كه از كوشت وبوست دوزخيان واز فروج زانيان سيلان ميكند آنرا جمع كرده بديشان مى خورانند).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الزمهرير يحرقهم برده كما يحرقهم النار بحرّها.
وفي "القاموس" : الغساق كسحاب وشداد البارد المنتن فلو قطرت منه قطرة في المشرق لنتنت أهل المغرب ، ولو قطرت قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق.
وعن الحسن : هو عذاب لا يعلمه إلا الله إن ناساً اخفواطاعة فأخفى لهم ثواباً في قوله : {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم} (السجدة : 17).
وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة.
وقيل : هو مستنقع في جهنم يسيل إليه سم كل ذي سم من عقرب وحية يغمس فيه الآدمي فيسقط جلده ولحمه عن العظام.
(8/37)
وفي "التأويلات النجمية" : الذي مهدوا اليوم {فَلْيَذُوقُوهُ} يوم القيامة ، يعني قد حصلوا اليوم معنى صورته {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} يوم القيامة ولكن مذاقهم بحيث لا يجدون ألم عذاب ما حصلوه بسوء أعمالهم فليذوقوه يوم القيامة :
هركه أونيك ميكند يابد
نيك وبدهر كه ميكند يابد
فإذا تنعم المؤمنون بالفاكهة والشراب تعذب الكافرون بالحميم والغساق.
{وَءَاخَرُ} ومذوق آخر أو عذاب آخر {مِن شَكْلِهِ} ؛ أي : من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة والفظاعة.
{أَزْوَاجٌ} قوله : آخر مبتدأ وأزواج : مبتدأ ثان.
ومن شكله : خبر لأزواج.
والجملة خبر المبتدأ الأول وأزواج ؛ أي : أجناس ؛ لأنه يجوز أن يكون ضروباً : يعني (اين عذاب كونا كونست أما همه متشابه يكديكرند در تعذيب وإيلام).
وفي "التأويلات النجمية" : أي فنون أخر مثل ذلك العذاب يشير به إلى أن لكل نوع من المعاصي نوعاً آخر من العذاب كما أن كل بذر يزرعونه يكون له ثمرة تناسب البذر :
همينت بسندست اكر بشنوى
كه كرخار كارى سمن ندروى
{وَءَاخَرُ مِن شَكْلِه أَزْوَاجٌ * هَـاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لا مَرْحَبَا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبَا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ} .
{هَـاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} : الفوج : الجماعة والقطيع من الناس.
وأفاج : أسرع وعدا وندّ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال الراغب : الفوج الجماعة المارة المسرعة ، وهو مفرد اللفظ ، ولذا قيل : مقتحم لا مقتحمون.
والاقتحام : الدخول في الشيء بشدة والقحمة : الشدة.
قال في "القاموس" : قحم في الأمر كنصر قحوماً رمى
51
بنفسه فيه فجأة بلا رؤية.
والمعنى : يقول الخزنة لرؤوساء الطاغين إذا دخلوا النار مشيرين إلى الأتباع الذين أضلوهم هذا ؛ أي : الأتباع فوج تبعكم في دخول النار بالاضطرار كما كانوا قد تبعوكم في الكفر والضلالة بالاختيار ، فانظروا إلى أتباعكم لم يحصل بينكم وبينهم تناصر ، وانقطعت مودتكم وصارت عداوة.
قيل : يضرب الزبانية المتبوعين والأتباع معاً بالمقامع ، فيسقطون في النار خوفاً من تلك المقامع ، فذلك هو الاقتحام : وبالفارسية : (اين كردهست كه در آمد كانند در دوزخ برنج وسختى باشما هركه أز روى حرص وشهوت جايى نشيندكه خواهد بجاى كشندش كه نخواهد).
{لا مَرْحَبَا بِهِمْ} مصدر بمعنى الرحب ، وهو السعة ، وبهم بيان للمدعو وانتصابه على أنه مفعول به لفعل مقدر ؛ أي : لا يصادفون رحباً وسعة أو لا يأتون رحب عيش ولا وسعة مسكن ، ولا غيره.
وحاصله : لا كرامة لهم ، أو على المصدر ؛ أي : لا رحبهم عيشهم ومنزلهم رحباً ، بل ضاق عليهم : وبالفارسية : (هيج مرحبا مباد ايشانرا).
يقول الرجل لمن يدعوه مرحباً ؛ أي : أتيت رحباً من البلاء ، وأتيت واسعاً وخيراً كثيراً.
قال الكاشفي : (مرحبا كلمه ايست براى اكرام مهمان ميكويند).
وقال غيره : يقصد به إكرام الداخل وإظهار المسرة بدخوله ، ثم يدخل عليه كلمة لا في دعاء السوء.
وفي بعض شروح الحديث التكلم بكلمة مرحباً سنة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلّم حيث قال : "مرحباً يا أم هانىء" حين ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عام الفتح ، وهي بنت أبي طالب أسلمت يوم الفتح ، ومن أبواب الكعبة باب أم هانىء لكون بيتها في جانب ذلك الباب ، وقد صحّ أنه عليه السلام عرج به من بيتها كما قال المولى الجامي :
جو دولت شد زبد خواهان نهانى
سوى دولت سراى أم هاني
{إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} تعليل من جهة الخزنة لاستحقاقهم الدعاء عليهم ؛ أي : داخلون النار بأعمالهم السيئة وباستحقاقهم.
{قَالُوا} ؛ أي : الأتباع عند سماع ما قيل في حقهم.
{بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبَا بِكُمْ} (بلكه شما مرحبا مباد شمارا بدين نفرين سزاوار تريد).
خاطبوا الرؤساء مع أن الظاهر أن يقولوا بطريق الاعتذار إلى الخزنة طمعاً ، بل هم لا مرحباً بهم قصداً منهم إلى إظهار صدقهم بالمخاصمة مع الرؤساء والتحاكم إلى الخزنة في قضائهم بتخفيف عذابهم ، أو تضعيف عذاب خصمائهم ؛ أي : بل أنتم أيها الرؤوساء أحق بما قيل لنا من جهة الخزنة لإغوائكم إيانا مع ضلالكم في أنفسكم.
{أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} تعليل لأحقيتهم بذلك ؛ أي : أنتم قدمتم العذاب أو الصليّ لنا واوقعتمونا فيه بتقديم ما يؤدي إليه من العقائد الزائغة ، والأعمال السيئة وتزيينها في أعيننا وإغرائنا عليها لا أنا باشرنا من تلقاء أنفسنا.
وذلك أن سبب عذاب الأتباع هو تلك العقائد والأعمال والرؤساء لم يقدموها ، بل الذين قدموها هم الأتباع باختيارهم إياها واتصافهم بها ، والذي قدمه الرؤساء لهم ما يحملهم عليها من الإغواء والإغراء عليها ، وهذا القدر من السببية كاف في إسناد تقديم العذاب أو الصليّ إلى الرؤساء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
(8/38)
{فَبِئْسَ الْقَرَارُ} ؛ أي : فبئس المقر جهنم قصدوا بذمها جناية الرؤساء عليهم.
{قَالُوا} ؛ أي : الأتباع معرضين عن خصومتهم متضرعين إلى الله.
{رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـاذَا} العذاب أو الصليّ.
وفي "التفسير"
52
الفارسي : (هركه فرا بيش داشت براى ما اين كفر وضلال ومارا ازراه حق بلغزانيد).
{فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِى النَّارِ} .
(بس زياده كن أورا عذابي دوباره در آتش يعني ان مقدار عذاب كه دارد دوجندان كن).
ومن يجوز أن تكون شرطية وفزده جوابها ، وأن تكون موصولة بمعنى الذي مرفوعة المحل على الابتداء والخبر ، فزده ، والفاء : زائدة لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، وضعفاً صفة لعذاباً بمعنى مضاعفاً.
وفي النار ظرف لزده ، أو نعت لعذاباً.
قال الراغب : الضعف من الأسماء المتضايفة التي يقتضي وجود أحدها وجود الآخر كالضعف والزوج ، وهو تركب قدرين مساويين ويختص بالعدد ، فإذا قيل : ضعفت الشيء وضاعفته ؛ أي : ضممت إليه مثله فصاعداً ، فمعنى عذاباً : ضعفاً ؛ أي : عذاباً مضاعفاً ؛ أي : ذا ضعف بأن يزيد عليه مثله ، ويكون ضعفين ؛ أي : مثلين ، فإن ضعف الشيء وضعفيه مثلاه كقولهم ربنا وآتهم ضعفين من العذاب.
فإن قلت : كل مقدار يعرض من العذاب ، إن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفاً ، وإن كان زائداً عليه كان ظلماً ، فكيف يجوز سؤاله من الله تعالى يوم القيامة.
قلت : إن المسؤول من التضعيف ما يكون بقدر الاستحقاق بأن يكون أحد الضعفين بمقابلة الضلال ، والآخر بمقابلة الإضلال.
قال عليه السلام : "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
ونظيره أن الكافرين إذا قتل أحدهما وزنى دون الآخر ، فهما متساويان في وزر الكفر.
وأما القاتل والزاني ، فعذابه مضاعف لمضاعفة عمله السيىء.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : العذاب الضعف هو الحيات والأفاعي.
وذلك المضل آذى روح من أضله في الدنيا ، فسلط الله عليه المؤذي في الآخرة ، لأن الجزاء من جنس العمل.
فعلى العاقل إصلاح الباطن وتزكيته من الأخلاق الذميمة ، والأوصاف القبيحة وإصلاح الظاهر وتحليته عن الأقوال الشنيعة ، والأعمال الفظيعة ، ولا يغتر بالقرناء السوء فإنهم منقطعون غداً عن كل خلة ومودة ، ولا ينفع لأحد إلا القلب السليم والعلم النافع والعمل الصالح :
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
بضاعت بجندانكه آرى برى
وكر مفلسى شر مسارى برى
اللهم اجعلنا من أهل الرحمة لا من أهل الغضب.
{قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـاذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِى النَّارِ * وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الاشْرَارِ * أَتَّخَذْنَـاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابْصَـارُ * إِنَّ ذَالِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} .
{وَقَالُوا} ؛ أي : الطاغون مثل أبي جهل وأضرابه : وبالفارسية : (وكويند صناديد قريش دردوزخ).
{مَا لَنَا} (جيست مارا امروز).
وما : استفهامية مبتدأ ولنا خبره ، وهو مثل قوله : {مَالِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} (النمل : 20) في أن الاستفهام محمول على التعجب لا على حقيقته إذ لا معنى لاستفهام العاقل عن نفسه.
{لا نَرَى رِجَالا} الفعل المنفي حال من معنى الفعل في ما لنا كما تقول ما لك قائماً بمعنى ما تصنع قائماً ؛ أي : ما نصنع حال كوننا غير رائين رجالاً.
والمعنى ؛ أي حال لنا لا نرى في النار رجالاً {كُنَّا} في الدنيا {نَعُدُّهُم مِّنَ الاشْرَارِ} يعني (از بدان ومردودان) ، جمه شر ، وهو الذي يرغب عنه الكل كما أن الخير هو الذي يرغب فيه الكل يعنون فقراء المسلمين كانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم مثل صهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي وحباب وضار وغيرهم من صعاليك المهاجرين الذين كانوا يقولون لهم : هؤلاء منّ الله عليهم من بيننا سموهم أشراراً ، إما بمعنى الأراذل والسفلة الذين لا خير فيهم ولا جدوى ، كما قال هذا من شر المتاع ، أو لأنهم
53
كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشراراً.
{أَتَّخَذْنَـاهُمْ سِخْرِيًّا} بقطع الهمزة على أنها استفهام.
والأصل أاتخذناهم حذفت همزة الوصل للاستغناء عنها بهمزة الاستفهام.
وسخرياً : بضم السين وكسرها مصدر سخر.
قال في "القاموس" : سخر ؛ أي : هزىء كاستسخر ، والاسم : السخرية ، والسخرى ويكسر.
انتهى.
زيد فيه ياء النسبة للمبالغة ، لأن في ياء النسبة زيادة قوة في الفعل كما قيل : الخصوصية في الخصوص قالوه إنكاراً على أنفسهم ، ولو مالها في الاستخبار منهم ، فمعنى الاستفهام : الإنكار والتوبيخ والتعنيف واللوم : وبالفارسية : (ما ايشانرا كرفتيم مهزوء بهم).
{أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابْصَـارُ} .
يقال : زاغ ؛ أي : مال عن الاستقامة وزاغ البصر كل وأم متصلة معادلة لاتخذناهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
والمعنى ؛ أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم الازدراء بهم وتحقيرهم ؛ فإن زيغ البصر وعدم الالتفات إلى الشيء من لوازم تحقيره فكني به عنه.
(8/39)
قال الحسن : كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخرياً ، وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم.
والمعنى : إنكار كل واحد من الفعلين على أنفسهم توبيخاً لهم.
ويجوز أن تكون أم منقطعة.
والمعنى : اتخذناهم سخرياً ، بل زاغت عنهم أبصارنا في الدنيا تحقيراً لهم ، وكانوا خيراً منا ونحن لا نعلم على معنى توبيخ أنفسهم على الاستسخار ، ثم الإضراب ، والانتقال منه إلى التوبيخ على الازدراء والتحقير (در آثار آمده كه حق سبحانه وتعالى آن كروه فقرارا برغرفات بهشت جلوه دهد تاكفار ايشانرا بينند وحسرت ايشان زياده شود).
{إِنَّ ذَالِكَ} الذي حكي من أحوالهم.
{لَحَقٌّ} لا بد من وقوعه البتة.
{تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} : خبر مبتدأ محذوف.
والجملة بيان لذلك ؛ أي : هو تخاصم إلخ ، يعني تخاصم القادة والأتباع : وبالفارسية : (جنك وجدل كردن أهل دوزخ وماجراى ايشان).
وهذا إخبار عما سيكون وسمي ذلك تخاصماً على تشبيه تقاولهم ، وما يجري بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك.
وفي "التأويلات النجمية" وبقوله : {وَقَالُوا مَا لَنَا} إلخ ، يشير إلى تخاصم أهل النار مع أنفسهم يسخرون بأنفسهم كما كانوا يسخرون بالمؤمنين ، فيقولون : {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الاشْرَارِ * أَتَّخَذْنَـاهُمْ سِخْرِيًّا} ، وما كانوا من الأشرار.
{أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابْصَـارُ} فلا نراهم معنا وهم ها هنا.
{إِنَّ ذَالِكَ} التخاصم {لَحَقٌّ} مع أنفسهم {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} من الندامة حين لا ينفعهم التخاصم ولا الندامة.
انتهى.
وفي الآية ذم ، وفي الحديث : "اتخذوا الأيادي عند الفقراء قبل أن تجيء دولتهم ، فإذا كان يوم القيامة يجمع الله الفقراء والمساكين ، فيقال : تصفحوا الوجوه ، فكل من أطعمكم لقمة أو سقاكم شربة ، أو كساكم خرقة ، أو دفع عنكم غيبة ، فخذوا بيده وأدخلوه الجنة" : قال الحافظ :
ازكر ان تابكران لشكر ظلمست ولى
از ازل تابايد فرصت دوريشانست
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وفي الحديث : "ملوك الجنة كل أشعث أغبر إذا استأذنوا في الدنيا لم يؤذن لهم ، وإن خطبوا النساء لم ينكحوا ، وإذا قالوا لم ينصت لقولهم ، ولو قسم نور أحدهم بين أهل الأرض لوسعهم" ، كذا في "أنيس المنقطعين" : قال الحافظ :
نظر كردن بدر ويشان منافى بزركى نيست
سليمان باجنان حشمت نظر هابود بامورش
اللهم اجعل حليتنا حب الفقراء واحشرنا في الدنيا والآخرة مع الفقراء.
{إِنَّ ذَالِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ * قُلْ إِنَّمَآ أَنَا مُنذِرٌا وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّـارُ * قُلْ هُوَ نَبَؤٌا عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْما بِالْمَلا} .
{قُلْ} يا محمد لمشركي
54
مكة {إِنَّمَآ أَنَا مُنذِرٌ} رسول منذر من جهته تعالى أنذركم وأحذركم عذابه على كفركم ومعاصيكم.
وقل أيضاً : {وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ} في الوجود {إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ} الذي لا يقبل الشركة والكثرة أصلاً ؛ أي : لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، فلا ملجأ ولا مفر إلا إليه ، يعني من عرف أنه الواحد أفرد قلبه له ، فكان واحداً به.
وقد فسر قوله عليه السلام : "إن الله وتر يحب الوتر" ، يعني : القلب المنفرد له : ()
إذا كان ما تهواه في الحسن واحداً
فكن واحداً في الحب إن كنت تهواه
ومن خاصية هذا الاسم أن من قرأها ألف مرة خرج الخلائق من قلبه {الْقَهَّارُ} لكل شيء سواه ، ومن الأشياء آلهتهم ، فهو يغلبهم ، فكيف تكون له شركاء ، وأيضاً يقهر العباد بذنوبهم ومعاصيهم.
قال الكاشفي : (قهر كننده كه بناى آمال را بقواصف آجال درهم شكند باشركت متوهم وكثرت بي اعتبار را في نفس الأمروجود ندارد در نظر عارف مضمحل ومتلاشى سازد) :
غيرتش غير درجهان نكذاشت
وحدتشن اسم اين وآن برداشت
كم شود جمله ظلمت بندار
نزد أنوار واحد قهار
يقول الفقير : سمعت من حضرة شيخي وسندي قدس سره ، يقول : في هذه الآية ترتيب أنيق ، فإن الذات الأحدية تدفع بوحدتها الكثرة وبقهرها الآثار ، فيضمحل الكل ، فلا يبقى سواه تعالى.
قال بعضهم : القهار الذي له الغلبة التامة على ظاهر كل أمر وباطنه ، ومن عرف قهره لعباده نسي مراد نفسه لمراده ، فكان له ، وبه لا لأحد سواه ، ولا شيء دونه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وخاصية هذا الاسم إذهاب حب الدنيا وعظمة ما سوى الله تعالى عن القلب ، ومن أكثر ذكره ظهرت له آثار القهر على عدوه ، ويذكر عند طلوع الشمس ، وجوف الليل لإهلاك الظالم بهذه الصفة : يا جبار ، يا قهار ، يا ذا البطش الشديد مرة ثم تقول : خذ حقي ممن ظلمني وعداً عليّ.
وفي "الأربعين الإدريسية" : يا قاهر ، ذا البطش الشديد الذي لا يطاق انتقامه يكتب على جام صيني لحل المعقود وعلى ثوب الحرب في وقته لقهر الأعداء وغلبة الخصوم.
(8/40)
{رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} من المخلوقات ؛ أي : مالك جميع العوالم ، فكيف يتوهم أن يكون له شريك.
{الْعَزِيزُ} الذي لا يغلب في أمر من أموره.
وأيضاً العزيز بالانتقام من المجرمين ، فالعزةتعالى.
وبه التعزز أيضاً ، كما قيل : ليكن بربك عزك تستقر وتثبت ، فإن أعززت بمن يموت ، فإن عزك يموت.
قال الشيخ أبو العباس المرسي رحمه الله : والله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن المخلوقين.
وخاصية هذا الاسم أن من ذكره أربعين يوماً في كل يوم أربعين مرة أعانه الله وأعزه ، فلم يحوجه لأحد من خلقه.
وفي "الأربعين الإدريسية" : يا عزيز المنيع الغالب على أمره ، فلا شيء يعادله.
قال السهروردي : من قرأه سبعة أيام متواليات كل يوم ألفاً أهلك الله خصمه ، وإن ذكره في وجه العسكر سبعين مرة ، ويشير إليهم بيده ، فإنهم ينهزمون.
{الْغَفَّـارُ} : المبالغ في المغفرة والستر والمحو لمن تاب وآمن وعمل صالحاً.
قال بعضهم : الغفار كثير المغفرة لعباده ، والمغفرة : الستر على الذنوب وعدم المؤاخذة بها.
وما جاء على فعال فإشعار بترداد الفعل.
وفي الحديث : "إذا قال العبد يا رب اغفر لي قال الله : أذنب
55
عبدي ذنباً ، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ، ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت له".
وخاصية هذا الاسم وجود المغفرة ، فمن ذكره إثر صلاة الجمعة مائة مرة ظهرت له آثار المغفرة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ويرزقه من حيث لا يحتسب".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا تضوّر من الليل قال : "لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار".
ومعنى تضوّر : تلوّى إذا قام من النوم.
وفي "تاج المصادر" : (التضور : برخويشتن بجيدن ازكر سنكى يا از زخم).
وفي هذه الأوصاف الجارية على اسم الله تعالى تقرير للتوحيد ، فإن إجراء الواحد عليه يقرر وحدانيته وإجراء القهار العزيز عليه وعيد للمشركين ، وإجراء الغفار عليه وعد للموحدين وتثنية ما يشعر بالوعيد من وصفي القهر وتقديم وصف القهارية على وصف الغفارية لتوفية مقام الإنذار حقه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{قُلْ هُوَ} ؛ أي : القرآن وما أنبأكم به من أمر التوحيد والنبوة وأخبار القيامة والحشر والجنة والنار وغيرها.
{نَبَؤٌا عَظِيمٌ} وشأن جسيم ؛ لأنه كلام الرب القديم وارد من جانبه الكريم يستدل به على صدقي في دعوى النبوة.
والنبأ : ما أخبر النبي عليه السلام عن الله تعالى ، ولا يستعمل إلا في خبر ذي فائدة عظيمة.
{أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} لا تتفكرون فيه وتعدونه كذباً لغاية ضلالتكم وغاية جهالتكم ، فلذا لا تؤمنون به مع عظمته وكونه موجباً للإقبال الكلي عليه ، وتلقيه بحسن القبول ، فالتصديق فيه نجاة ، والكذب فيه هلكة.
{مَا كَانَ لِىَ} قرأ حفص عن عاصم بفتح الياء والباقون بإسكانها ؛ أي : ما كان لي فيما سبق.
{مِنْ عِلْم} ؛ أي : علم ما بوجه من الوجوه على ما يفيده حرف الاستغراق.
{بِالْمَلا الاعْلَى} ؛ أي : بحال الملأ الأعلى ، وهم الملائكة وآدم عليهم السلام وإبليس عليه اللعنة ، سموا بالملأ الأعلى ؛ لأنهم كانوا في السماء وقت التقاول.
قال الراغب : الملأ : الجماعة يجتمعون على رأي ، فيملؤون العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء.
{إِذْ يَخْتَصِمُونَ} ؛ أي : بحالهم وقت اختصامهم ورجوع بعضهم إلى بعض في الكلام في شأن آدم ، فإن إخباره عن تقاول الملائكة ، وما جرى بينهم من قولهم : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} ( : ) حين قال الله لهم : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً} (البقرة : 30) على ما ورد في الكتب المتقدمة من غير سماع ومطالعة كتاب لا يتصور إلا بالوحي ؛ أي : فلو لم يكن لي نبوة ما أخبرتكم عن اختصامهم وإذ متعلق بالحال المحذوف الذي يقتضيه المقام إذ المراد نفي علمه بحالهم لا بذواتهم.
والحال يشمل الأقوال الجارية فيما بينهم ، والأفعال أيضاً من سجود الملائكة ، واستكبار إبليس وكفره.
{مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْما بِالْمَلا الاعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلا أَنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَه سَـاجِدِينَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{إِنَّ} ؛ أي : ما {يُوحَى إِلَىَّ} ؛ أي : من حال الملأ الأعلى وغيره من الأمور المغيبة.
{إِلا أَنَّمَآ} بفتح الهمزة على تقدير لأنما بإسقاط اللام.
{أَنَا نَذِيرٌ} نبي من جهته تعالى.
{مُّبِينٌ} ظاهر النظارة والنبوة بالدلائل الواضحة عبر عن النبي بالنذير ، لأنه صفته وخصص النذير مع أنه بشير أيضاً ؛ لأن المقام يقتضي ذلك.
(8/41)
قال في "كشف الأسرار" : (وكفته اند اين نبأ عظيم سه خبر ست هول مرك وحساب قيامت وآتش دوزخ يحيى بن معاذ رحمه الله كفت "لو ضربت السماوات والأرض بهذه السياط الثلاثة لانقادت خاشعة فكيف ، وقد ضرب بها ابن آدم
56
الموت والحساب والنار" مسكين فرزند آدم أورا عقبهاى عظيم دربيش است وآنجه در كمانها مى افتد بيش امادر درياى عشق دنيا بموج غفلت جنان غرق كشسته كه نه از سابقه خويش مى انديشه نه از خاتمه كار مى ترسد هر روز بامداد فرشته ندا ميكندكه "خلقتم لأمر عظيم وأنتم عنه غافلون" دركار روزكار خود جون انديشه كند كسى زبانرا بدورغ ملوث كرده ودلرا يخلف آلوده وسر از خيانت شوريده كردانيده سرى كه موضع امانت است بخيانت سبرده دلى كه معدن تقوى است زنكار خلف كرفته زبانى كه آلت تصديق است بردروغ وقف كرده لا جرم سخن جز خداع نيست ودين جز نفاق نيست) : ()
إذا ما الناس جرّبهم لبيب
فإني قد أكلتهمو وذاقا
فلم أر ودّهم إلا خداعاً
ولم أر دينهم إلا نفاقا
(اكنون اكر ميخواهى كه درد غفلت را مداوات كنى راه توآنست كه تخته نفاق را بآب جشم كه از حسرت خيزد بشويى وبر راء كذر بادى كه از مهب ندامت بر آمد بنهى وبدبيرستان شرع شوى وسوره اخلاص بنويسى كه خداوند عالم از بندكان اخلاص درخواهد ميكويد.
{وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} (البينة : 5) ومصطفى عليه السلام كفت).
اخلص العمل يجزك منه القليل.
والله الموفق.
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} بدل من إذ يختصمون.
فإن قيل : كيف يجوز أن يقال : إن الملائكة اختصموا بهذا القول والمخاصمة مع الله تعالى كفر.
قلت : لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب.
وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة والمشابهة تجوّز إطلاق اسم المشبه به على المشبه ، فحسن إطلاق المخاصمة على المقاولة الواقعة هناك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
فإن قلت : إن الاختصام المذكور سابقاً مسند إلى الملأ الأعلى وواقع فيما بينهم ، وما وقع في جملة البدل ، هو التقاول الواقع بين الله تعالى وبينهم ؛ لأنه تعالى هو الذي قال لهم وقالوا له ، فكيف تجعل هذه الجملة بدلاً من قوله : إذ يختصمون مبيناً ومشتملاً له.
قلت : حيث كان تكليمه تعالى إياهم بواسطة الملك صح إسناد الاختصام إلى الله تعالى لكونه سبباً آمراً ، وقد سبق المراد بالملائكة في سورة الحجر فارجع.
{إِنِّى خَـالِقُ} ؛ أي : فيما سيأتي.
{بَشَرًا} .
قال الراغب : عبر عن الإنسان بالبشر اعتباراً بظهور جلده من الشعر ، فإن البشرة هي ظاهر الجلد بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الشعر ، أو الوبر.
وقال بعضهم : أي أرباب الحقائق سمي آدم بشراً ، لأنه باشره الحق سبحانه بيديه عند خلقه مباشرة لائقة بذلك الجناب مقدسة عن توهم التشبه ، فإن المباشرة حقيقة هي الإفضاء بالبشرتين.
ولذا كنى بها عن الجماع.
{مِّن طِينٍ} ؛ أي : من تراب مبلول.
قال بعض الكبار : من عجز وضعف كما قال الله تعالى : {الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ} (الروم : 54).
قالوا : مقام التراب مقام التواضع والمسكنة ومقام التواضع الرفعة والثبات ، ولذا ورد : (من تواضعرفعه).
وكان من دعائه عليه السلام : "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} ؛ أي : صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية ، أو سويت أجزاء بدنه بتعديل طبائعه كما في الجنين الذي أتى عليه أربعة أشهر ، فلا بدّ لنفخ الروح من هذه التسوية البتة ،
57
كما لا بدّ لنفخ روح الحقيقة من تسوية الشريعة والطريقة ، فليحافظ.
ولذا قال النجم في "تأويلاته" : {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} تسوية تصلح لنفخ الروح والمضاف إلى الحضرة.
{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} .
النفخ : إجراء الريح إلى تجويف جسم صلح لإمساكها والامتلاء بها ، وليس ثمة نفخ ، ولا منفوخ ، وإنما هو تمثيل لإضافة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها ؛ أي : فإذا أكملت استعداده ، وأفضت عليه ما يحيى به من الروح التي هي من أمري وإضافته إلى نفسه لشرفه وطهارته ، أو على سبيل التعظيم ؛ لأن المضاف إلى العظيم عظيم كما في بيت الله وناقة الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
وبهذا ظهر فساد ما ذهب إليه الحلولية من أن من تبعيضية ، فيكون الروح جزء من الله تعالى.
وذلك أنه ليستعالى هذا الروح من أجزائه ، وإنما روحه نفسه الرحماني.
وأيضاً : إن كل ما له جزء ، فهو ممكن ومحدث ، والله تعالى منزه عنهما.
قال القاضي عياض رحمه الله في "الشفاء" من ادعى حلول الباري تعالى في أحد الأشخاص كان كافراً بإجماع المسلمين.
(8/42)
قال الراغب : الروح اسم للنفس ، وذلك لكون النفس بعض الروح ، فهو كتسمية النوع باسم الجنس كتسمية الإنسان بالحيوان وجعل اسماً للجزء الذي به تحصل الحياة والتحرك واستجلاب المنافع واستدفاع المضار ، وهو المذكور في قوله : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85).
وقوله : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} ، وإضافته تعالى إلى نفسه إضافة ملك وتخصيصه بالإضافة تشريف له وتعظيم كقوله : {وَطَهِّرْ بَيْتِىَ} (الحج : 26).
انتهى.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : إن الروح روحان : حيواني وهي التي تسميها الأطباء المزاج ، وهي جسم لطيف بخاري معتدل سار في البدن الحامل لقواه من الحواس الظاهرة ، والقوى الجسمانية.
وهذه الروح تفنى بفناء البدن وتنعدم بالموت.
وروح روحاني ، وهي التي يقال لها : النفس الناطقة ، ويقال لها : اللطيفة الربانية ، والعقل والقلب من الألفاظ الدالة على معنى واحد لها تعليق بقوى النفس الحيوانية.
وهذه الروح لا تفنى بفناء البدن وتبقى بعد الموت.
يقول الفقير : قال شيخي وسندي روح الله روحه في بعض تحريراته : اعلم أن الروح من حيث جوهره وتجرده ، وكونه من عالم الأرواح المجردة مغاير للبدن متعلق به تعلق التدبير والتصرف قائم بذاته غير محتاج إليه في بقائه ودوامه ، ومن حيث أن البدن صورته ومظهر كمالاته وقواه في عالم الشهادة محتاج إليه غير منفك عنه ، بل سار فيه لا كسريان الحلول المشهور عند أهله ، بل كسريان الوجود المطلق الحق في جميع الموجودات ، فليس بينهما مغايرة من كل الوجوه بهذا الاعتبار ، ومن علم كيفية ظهور الحق في الأشياء ، وأن الأشياء من أي وجه عينه ، ومن أي وجه غيره يعلم كيفية ظهور الروح في البدن ، ومن أي وجه عينه ، ومن أي وجه غيره ؛ لأن الروح رب بدنه ، فمن تحقق له حال الرب مع المربوب تحقق له ما ذكرنا ، وهو الهادي إلى العلم والفهم.
هذا كلامه قدس سره ، فاحفظه ودع عنك القيل والقال.
قال السمرقندي في "بحر العلوم" : الظاهر أن هذا النفخ بغير وسط وسبب من ملك ويجوز أن يكون بوسط ملك نفخ فيه الروح بإذنه ، كما صرح به النبي عليه السلام في خلق بني آدم بقوله : (يرسل الله ملكاً فينفخ فيه الروح).
الحديث ، وفيه كلام.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
يقول الفقير : لا يجوز ذلك ، لأن مقام التشريف يأبى عنه لا سيما وقد قال :
58
{وَنَفَخْتُ فِيهِ} .
وقال : {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} ، فإنه لا معنى لارتكاب التجوز في مثله.
وأما أولاده ، فيجوز ذلك فيهم لظهورهم بالوسائط.
ومنهم عيسى عليه السلام لظهوره بوساطة أمه ، فيجوز أن النافخ في حقه هو جبريل عليه السلام ، وإن كان الله قد أضافه إلى نفسه في قوله : {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} (الأنبياء : 91).
ثم يقول الفقير : نفخ الروح عندي عبارة عن إظهارها في محلها وعبر عنه بالنفخ ؛ لأن البدن بعد ظهور الروح فيه يكون كالمنفوخ المرتفع الممتلىء ألا ترى إلى أن الميت يبقى بعد مفارقة الروح كالخشب اليابس ، ففيه رمز آخر في سورة الحجر.
ثم في إضافة الروح إشارة إلى تقديم روح آدم على أرواح الملائكة وغيرها ؛ لأن المضاف إلى القديم قديم ، وإن كان جسد بعض الأشياء متقدماً على جسده.
{فَقَعُوا لَهُ} أمر من وقع يقع ؛ أي : اسقطوا له : وبالفارسية : (بس بروى در افتيد).
وفيه دليل على أن المأمور به ليس مجرد انحناء كما قيل ، وكذا في قوله : {سَـاجِدِينَ} ، فإن حقيقة السجود وضع الوجه على الأرض ؛ أي : حال كونكم ساجدين لاستحقاقه للخلافة.
وهذه السجود من باب التحية والتكريم ، فإنه لا يجوز السجود لغير الله على وجه العبادة لا في هذه الأمة ولا في الأمم السابقة ، إنما شاع بطريق التحية للمتقدمين ثم أبطله الإسلام.
{فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَه سَـاجِدِينَ * فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَـافِرِينَ * قَالَ يا اإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّا أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْه خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن} .
{فَسَجَدَ الملائكة} ؛ أي : فخلقه فسواه ، فنفخ فيه الروح ، فسجد له الملائكة خلافة عن الحق تعالى إذ كان متجلياً فيه ، فوقعتت هيبته على الملائكة ، فسجدوا له وأول من سجد له إسرافيل.
ولذلك جوزي بولاية اللوح المحفوظ قاله السهيلي نقلاً عن النقاش.
{كُلُّهُمْ} بحيث لم يبق منهم أحد إلا سجد {أَجْمَعُونَ} بطريق المعية بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية ، بل يفيده التأكيد أيضاً :
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
جون ملك أنوار حق دوري بيافت
در سجود افتاد ودرخدمت شتافت
(8/43)
{إِلا إِبْلِيسَ} ؛ فإنه لم يسجد والاستثناء متصل ؛ لأنه من الملائكة فعلاً ومن الجن نوعاً.
ولذلك تناوله أمرهم.
وكان اسم إبليس قبل أن يبلس من رحمة الله عزازيل ، والحارث وكنيته أبو كردوس وأبو مرة ؛ كأنه سئل كيف ترك السجود هل كان ذلك للتأمل والتروي ، أو غير ذلك فقيل : {اسْتَكْبَرَ} .
(الاستكبار : كردن كشى كردن) ؛ أي : تعظم : وبالفارسية : (بزرك داشت خودرا وفرمان نبرد).
وسببه أنه كان أعور فما رأى آثار أنوار التجلي على آدم عليه السلام :
در محفلى كه خورشيد أندرشمار ذره است
خودرا بزرك ديدن شرط ادب نباشد
{وَكَانَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} في علم الله أزلاً بالذات.
وفي الخارج أبداً باستقباح أمر الله ولذا كانت شقاوته ذاتية لا عارضية وسعادته في البين عارضية لا ذاتية : قال الحافظ :
من آن نكين سليمان بهيج نستانم
كه كاه كاه برودست اهر من باشد
فالعبرة لما هو بالذات.
وذلك لا يزول لا لما هو بالعرض إذ ذاك يزول ، ومن القبيل حال برصيصا وبلعام ونحوهما ، ممن هو مرزوق البداية ومحروم النهاية.
فالعصاة كلهم في خطر المشيئة بل الطائعون لا يدرون بما ذا يختم لهم.
قالوا : إن الإصرار على المعاصي يجر كثيراً من العصاة إلى الموت على الكفر والعياد بالله تعالى كما جاء في تفسير قوله تعالى :
59
{كَانَ عَـاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّواأَى أَن كَذَّبُوا بآيات اللَّهِ} .
(الروم : 10) والاستهزاء بها.
وذلك هو الكفر أعاذنا الله وإياكم منه.
ومن أسبابه المؤدية إليه وأماتنا على ملة الإسلام ، وجعلنا من المقبولين لديه ، إنه السميع للدعاء في كل الحضرات والمجيب للرجاء في كل الحالات.
{قَالَ} الله تعالى لإبليس مشافهة حين امتنع من السجود.
يا اإِبْلِيسُ} ، وهذه مشافهة لا تدل على إكرام إبليس إذ يخاطب السيد عبده بطريق الغضب وتمامه في سورة الحجر.
{مَآ} ؛ أي : شيء {مَنَعَكَ} من {أَن تَسْجُدَ} ؛ أي : دعاك إلى ترك السجود {لِمَا} ؛ أي : لمن.
{خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} خصصته بخلقي إياه بيدي كرامة له ؛ أي : خلقته بالذات من غير توسط أب وأم ، فذكر اليد لنفي توهم التجوز ؛ أي : لتحقيق إضافة خلقه إليه تعالى وإسناد اليد إلى أب بعد قيام البرهان على تنزهه عن الأعضاء مجاز عن التفرد في الخلق والإيجاد تشبيهاً لتفرده بالإيجاد باختصاص ما عمل الإنسان بها ، والتثنية في اليد لما في خلقه من مزيد القدرة ، واختلاف الفعل ، فإن طينته خمرت أربعين صباحاً ، وكان خلقه مخالفاً لسائر أبناء جنسه المتكونة من نطفة الأبوين ، أو من نطفة الأم مميزاً عنه ببديع صنعه تعالى.
ولقد نظم الحكيم السنائي بعض التأويلات الفارسية :
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
يد او قدرتست ووجه بقاش
آمدن حكمش ونزول عطاش
اصبعيش نفاذ حكم قدر
قد مينش جلال وقهر وخطر
(ودر بعضى تفسير آمده كه مراد يد قدرت ويد نعمتست ودر فتوحات فرموده كه قدرت ونعمت شاملست همه موجودات را "لأنه خلق إبليس بالقدرة التي خلق بها آدم" بس بدين منوال تأويل آدم راهيج شر في ثابت نشود بس لابداست از آنكه بيدى معنى باشدكه دلالت كند برتشريف آدم عليه السلام بر حمل نسبتين تنزيه وتشبيه كه آدم جامع هر دو صفتست مناسب مى نمايد).
وفي "بحر الحقائق" : يشير بيدي إلى ضفتي اللطف والقهر ، وهما تشتملان على جميع الصفات ، وما من صفة إلا وهي.
إما من قبيل اللطف ، وإما من قبيل القهر ، وما من مخلوق من جميع المخلوقات إلا وهو إما مظهر صفة اللطف ، أو مظهر صفة القهر ، كما أن الملك مظهر صفة لطف الحق والشيطان مظهر صفة قهر الحق إلا الآدمي ، فإنه خلق مظهر كلتا صفتي اللطف والقهر والعالم بما فيه بعضه مرآة صفة لطفه تعالى ، وبعضه مرآة صفة قهره تعالى.
والآدمي مرآة ذاته وصفاته تعالى كما قال : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت : 53) وبهذه الجامعية كان مستحقاً لمسجوديه الملائكة : (ودرين معنى كفته اند).
آمد آبينه جميله ولى
همجو آبينه نكرده جلى
كشت آدم جلاء ابن مرآت
شدعيان ذات أو بجمله صفات
مظهرى كشت كلى وجامع
سر ذات وصفات از ولامع
والحاصل : إن الله تعالى أوجد العالم ذا خوف ورجاء فنخاف غضبه ونرجو رضاه ، فهذا الخوف والرجاء أثر صفتي الغضب والرضا ، ووصف تعالى نفسه بأنه جميل وذو جلال ؛ أي : متصف بالصفات الجمالية ، وهي ما يتعلق باللطف والرحمة ومتصف بالصفات الجلالية ، وهي
60(8/44)
ما يتعلق بالقهر والغلبة ، فأوجدنا على أنس وهيبة ، فالإنس من كونه جميلاً ، والهيبة من كونه جليلاً.
وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ، ويسمى به من الأسماء المتقابلة كالهداية والإضلال والإعزاز والإذلال وغيره ، فإنه سبحانه أوجدنا بحيث نتصف بها تارة ، ويظهر فينا آثارها تارة ، فعبر عن هذين النوعين المتقابلين من الصفات باليدين لتقابلهما ، وتصرف الحق بهما في الأشياء ، وهاتان اليدان هما اللتان توجهتا من الحق سبحانه على خلق الإنسان الكامل ، لكونه الجامع لحقائق العالم ومفرداته التي هي مظاهر لجميع الأسماء ، فلهذا السر ثنى الله اليدين.
وأما الجمع في قوله : {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} (يس : 71) ، فوارد على طريق التعظيم كما هو عادة الملوك.
وأيضاً : إن العرب تسمى الاثنين جميعاً ، كما في قوله تعالى : {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التحريم : 4).
وأما الواحد في قوله تعالى : {يَدُ اللَّهِ} (الفتح : 10) فباعتبار المبدأ والمآل ، والله الملك المتعال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{أَسْتَكْبَرْتَ} بقطع الألف ، أصله : أستكبرت ، أدخلت همزة الاستفهام للتوبيخ والإنكار على همزة الوصل ، فحذفت همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام وبقيت همزة الاستفهام مفتوحة.
والمعنى : أتكبرت من غير استحقاق.
{أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} المستحقين للتفوق والعلو ، ويحتمل أن يكون المراد بالعالين ، الملائكة المهيمين الذين ما أمروا بالسجود لآدم لاستغراقهم في شهود الحق ، وهم الأرواح المجردة كما سبق بيانهم في سورة الحجر.
{قَالَ} إبليس إبداء للمانع.
قال الكاشفي : (إبليس شق ثاني اختيار كرده كفت).
{أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} ؛ أي : أفضل من آدم.
وفي المثنوي :
علتى بدتر زبندار كمال
نيست اندرجان تو اى ذو دلال
علت إبليس انا خيرى بدست
وين مرض در نفس هر مخلوق هست
كرجه خودرا بس شكسته بيند او
آب صافى دان وسركين زير جو
جون بشوراند ترا در امتحان
آب سركين رنك كرد در زمان
ثم بين وجه الخيرية بقوله : {خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ} .
(بيافريدى مرا ازآتش واورا لطافت ونورانيت است).
نسب خلقه إلى النار باعتبار الجزء الغالب إذ الشيطان مخلوق من نار وهواء مع أنا نقول أن الله تعالى قادر على أن يخلقه من نار فقط من غير اختلاط شيء آخر معها من سائر العناصر ، ولا يستحيله إلا فلسفي أو متفلسف.
{وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ} .
(وبيافريدي ازكل كه در كثافت وظلمانيت است).
نسب خلقه إلى الطين باعتبار الجزء الغالب أيضاً إذ آدم مخلوق من العناصر الأربعة.
والمعنى : لو كان آدم مخلوقاً من نار لما سجدت له ؛ لأنه مثلي ، فكيف أسجد لمن هو دوني ، لأنه من طين.
والنار تغلب الطين وتأكله ، فلا يحسن أن يسجد الفاضل للمفضول ، فكيف يحسن أن يؤمر ظنّ أن ذلك شرف له ، ولم يعلم أن الشرف يكتسب بطاعة الله تعالى.
ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة ، والعنصر وزلّ عما من جهة الفاعل كما أنبأ عنه قوله تعالى : {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} .
وما من جهة الصورة كما نبه عليه قوله تعالى : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} .
وأما من جهة الغاية ، وهو ملاك الأمر كما قال تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ} (البقرة : 31).
ولذلك أمر الملائكة بسجوده حين ظهر لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه أمر الخلافة في الأرض ، وأن له خواص ليست لغيره.
وفي تفسير سورة {ا وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ} يعني أن النار أقرب إلى الأشرف الذي
61
هو الفلك ، وهي خليفة الشمس والقمر في الإضاءة والحرارة ، وهي ألطف من الأرض ، وهي مشرقة ، وهي شبيه الروح ، وأشرف الأعضاء القلب والروح.
وهما على طبيعة النار ، وكل جسم أشبه النار كالذهب والياقوت ، فهو أشرف ، والشمس أشرف الأجسام.
وهي تشبه النار في الطبع والصورة.
وأيضاً : لم يتم المزاج إلا بالحرارة ومآل كل هذه إلى أن أصله خير فهو خير وهذا ممنوع.
ولذا قال من قال : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
أنفخر باتصالك من عليّ
وأصل البولة الماء القراع
وليس بنافع نسب زكي
تدنسه صنائعك القباح
فيجوز أن يكون أصل أجد الشيئين أفضل وينضم إليه ما يقتضي مرجوحيته ، كما في إبليس.
فإنه قد انضم إلى أصله عوارض رديئة كالكبر والحسد والعجب والعصيان ، فاقتضت اللعنة عليه.
وأمر آدم عليه السلام بالعكس.
وقال في آكام المرجان} : اعلم أن هذه الشبهة التي ذكرها إبليس إنما ذكرها على سبيل التعنت ، وإلا فامتناعه عن السجود لآدم إنما كان عن كبر وكفر ومجرد إباء وحسد.
ومع ذلك فما أبداه من الشبهة ، فهو داحض ؛ أي : باطل ؛ لأنه رتب على ذلك أنه خير من آدم لكونه خلق من نار ، وآدم خلق من طين.
ورتب على هذا أنه لا يحسن منه الخضوع لمن هو دونه ، وهذا باطل من وجوه :
الأول : أن النار طبعها الفساد وإتلاف ما تعلقت به بخلاف التراب ، فإنه إذا وضع القوت فيه أخرجه أضعاف ما وضع فيه بخلاف النار ، فإنها آكلة لا تبقي ولا تذر.
(8/45)
والثاني : أن النار طبعها الخفة والطيش والحدة ، والتراب طبعه الرزانة والسكون والثبات.
والثالث : أن التراب يتكون فيه ، ومنه أرزاق الحيوانات وأقواتهم ولباس العباد وزينهم وآلات معايشهم ومساكنهم.
والنار لا يتكون فيها شيء من ذلك.
والرابع : أن التراب ضروري للحيوان لا يستغني عنه البتة ، ولا عما يتكون فيه ومنه.
والنار يستغني عنها الحيوان مطلقاً ، وقد يستغني عنها الإنسان أياماً وشهوراً ، فلا تدعوه إليها ضرورة.
والخامس : أن النار لا تقوم بنفسها ، بل هي مفتقرة إلى محل تقوم به يكون حاملاً لها ، والتراب لا يفتقر إلى حامل ، فالتراب أكمل منها لغناه وافتقارها.
والسادس : أن النار مفتقرة إلى التراب ، وليس التراب فقر إليها ، فإن الذي تقوم به النار لا يكون إلا متكوناً من التراب ، أو فيه ، فهي المفتقرة إلى التراب ، وهو الغني عنها.
والسابع : أن المادة الإبليسية هي المارج من النار ، وهو ضعيف تتلاعب به الأهوية فيميل معها كيفما مالت.
ولهذا غلب الهوى على المخلوق منه ، فأسره وقهره.
ولما كانت المادة الآدمية هي التراب ، وهو قوي لا يذهب مع الهواء أينما ذهب ، فهو قهر هواه وأسره ورجع إلى ربه ، فاجتباه ، فكان الهواء الذي مع المادة الآدمية عارضاً سريع الزوال فزال ، فكان الثبات والرزانة أصلاً له ، فعاد إليه وكان إبليس بالعكس من ذلك ، فعاد كل منهما إلى أصله وعنصره آدم إلى أصله الطيب الشريف واللعين إلى أصله الرديء الخبيث.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
والثامن : أن النار ، وإن حصل بها بعض المنفعة من الطبخ والتسخين والاستضاءة بها ، فالشر كامن فيها لا يصدها عنه إلا قسرها وحبسها ، ولولا القاسر والحابس لها ، لأفسدت الحرث والنسل.
وأما التراب ، فالخير والبركة كامن فيه
62
كلما أثير ، وقلب ظهر خيره وبركته وثمرته ، فأين أحدهما من الآخر.
التاسع : أن الله تعالى أكثر ذكر الأرض في كتابه وأخبر عن منافعها ، وأنه جعلها مهاداً وفراشاً وبساطاً وقراراً وكفاتاً للأحياء والأموات.
ودعا عباده إلى التفكر فيها ، والنظر في آياتها وعجائبها ، وما أودع فيها ، ولم يذكر النار إلا في معرض العقوبة والتخويف والعذاب إلا موضعاً أو موضعين ، ذكرها فيه بأنها تذكرة ومتاع للمقوين تذكرة بنار الآخرة ، ومتاع لبعض أفراد الناس ، وهم المقوون النازلون بالقواء.
وهي الأرض الخالية إذا نزلها المسافر تمنع بالنار في منزلة ، فأين هذا من أوصاف الأرض في القرآن.
والعاشر : أن الله تعالى وصف الأرض بالبركة في غير موضع من كتابه ، وذلك عموماً كما في قوله تعالى : {وَبَـارَكَ فِيهَا} (فصلت : 10).
وخصوصاً كما في قوله : {وَنَجَّيْنَـاهُ وَلُوطًا إِلَى الارْضِ الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا} (الأنبياء : 71).
.
الآية ونحوها.
وأما النار فلم يخبر أنه جعل فيها بركة بل المشهور أنها مذهبة للبركات ، فأين المبارك في نفسه من المزيل لها.
والحادي عشر : أن الله تعالى جعل الأرض محل بيوته التي يذكر فيها اسمه ويسبح له فيها بالغدو والآصال عموماً وبيته الحرام الذي جعله قياماً للناس مباركاً وهدى للعالمين خصوصاً ، فلو لم يكن في الأرض إلا بيته الحرام لكفاها ذلك شرفاً وفخراً على النار.
والثاني عشر : أن الله تعالى أودع في الأرض من المعادن والأنهار والعيون والثمرات والحبوب والأقوات وأصناف الحيوانات وأمتعتها ، والجبال والرياض والمراكب البهية ، والصور البهيجة ما لم يودع في النار شيئاً من ذلك ، فأي روضة وجدت في النار أو جنة أو معدن أو صورة أو عين فوّارة أو نهر أو ثمرة لذيذة.
والثالث عشر : أن غاية النار أنها وضعت خادمة في الأرض ، فالنار إنما محلها محل الخادم لهذه الأشياء ، فهي تابعة لها خادمة فقط إذا استغنت عنها طردتها وأبعدتها عن قربها ، وإذا احتاجت إليها استدعتها استدعاء المخدوم لخادمه.
الرابع عشر : أن اللعين لقصور نظره وضعف بصره رأى صورة الطين تراباً ممتزجاً بماء ، فاحتقره ولم يعلم أنه مركب من أصلين الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي ، والتراب الذي جعله خزانة المنافع والنعم.
هذا ولم يتجاوز من الطين إلى المنافع وأنواع الأمتعة ، فلو تجاوز نظره صورة الطين إلى مادته ونهايته لرأى أنه خير من النار ، وأفضل.
ثم لو سلم بطريق الفرض الباطل أن النار خير من الطين ، لم يلزم من ذلك أن يكون المخلوق منها خيراً من المخلوق من الطين ، فإن القادر على كل شيء يخلق من المادة المفضولة من هو خير من المادة الفاضلة ، فإن الاعتبار بكمال النهاية لا ينقصان المادة ، فاللعين لم يتجاوز نظره محل المادة ، ولم يعبر منها إلى كمال الصورة ونهاية الخلقة.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
(8/46)
ودر كشف الأسرار فرموده كه آتش سبب فرقتست وخاك وسيلة وصلت واز آتش كستن آيد واز خاك بيوستن آدم كه از خاك بود ببيوست تاخلقه {ثُمَّ اجْتَبَـاهُ رَبُّهُ} (طه : 122) يافت إبليس كه از آتش بودبكسست تافرمان {فَاهْبِطْ مِنْهَا} (الأعراف : 13) مردود كشت روزى شوريده باسلطان العارفين أبو يزيد كفت جه بودى اكر اين خاك بى اك نبودى أبو يزيد بانك بروزدكه اكر اين خاك نبودى آتش عشق افروخته نشدى وسوز سينها وآب ديدها ظاهر نكشتى اكر خاك نبودى بوى مهرازل كه شنودى وآشناى قرب لم يزل كه بودى) :
63
اي خاك جه خوش طينت قابل دارى
كلهاى لطيفست كه در كل دارى
در مخزن كنت كنز هر كنج بودى
تسليم توكر دندكه در دل دارى
ثم في الآية إشارة إلى أن أهل الدعوى والإنكار لايدركون فضائل الأنبياء والأولياء إلى أبد الآبدين ولا يرون أنوار الجمال والجلال عليهم ، فلا يذوقون حلاوة برد الوصال ، بل يخاطبون من جانب رب العزة بالطرد والإبعاد إلى يوم المعاد.
مدعى خواست كه آيد بتماشا كه راز
دست غيب آمد وبرسنيه نامحرم زد
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْه خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} .
{قَالَ} الله تعالى بقهره وعزته.
{فَاخْرُجْ مِنْهَا} : الفاء : لترتيب الأمر على مخالفته وتعليلها بالباطل ؛ أي : فاخرج يا إبليس من الجنة ، أو من زمرة الملائكة ، وهو المراد بالأمر بالهبوط لا الهبوط من السماء ، كما قال البيضاوي ، فإن وسوسته لآدم كانت بعد هذا الطرد.
يقول الفقير : عظم جناية إبليس يقتضي هبوطه من السماء إلى الأرض لا التوقف فيها إلى زمان الوسوسة ، وأما أمر الوسوسة ، فيجوز أن يكون بطريق الصعود إلى السماء ابتلاء من الله تعالى ودخوله الجنة ، وهو في السماء ليس بأهون من دخوله ، وهو في الأرض إذ هو ممنوع من الدخول مطلقاً سواء كان في الأرض ، أو في السماء إلا بطريق الامتحان.
ثم إن الحكمة الإلهية اقتضت أن يخرج إبليس من الخلقة التي كان عليها وينسلخ منها ، فإنه كان يفتخر بخلقته ، فغير الله خلقته ، فاسود بعدما كان أبيض وقبح بعدما كان حسناً وأظلم بعدما كان نورانياً ، وكذا حال العصاة مطلقاً ، فإنه كما تتغير بواطنهم بسبب العصيان تتغير ظواهرهم أيضاً بشؤمه ، فإذا رأيت أحداً منهم بنظر الفراسة ، والحقيقة وجدت عليه أثر الاسوداد.
وذلك أن المعصية ظلمة وصاحبها ظلماني ، والطاعة نور وأهلها نوراني ، فكل يكتسي بكسوة حال نفسه.
{فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} تعليل للأمر بالخروج ؛ أي : مطرود عن كل خير وكرامة ، فإن من يطرد يرجم بالحجارة إهانة له ، أو شيطان يرجم بالشهب السماوية ، أو الأثيرية ، وإلى الثاني : ذهب بعض أهل الحقائق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى} ؛ أي : إبعادي عن الرحمة ، فإن اللعن طرد وإبعاد على سبيل السخط ، وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة.
وفي الدنيا انقطاع عن قبول فيضه وتوفيقه.
ومن الإنسان دعاء على غيره وتقييدها بالإضافة مع إطلاقها في قوله تعالى : {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} (الحجر : 35) لما أن لعنة اللاعنين من الملائكة والثقلين أيضاً من جهته تعالى ، وأنهم يدعون عليه بلعنة الله وإبعاده من الرحمة.
يقول الفقير : اللعنة المطلقة هي لعنة الله تعالى ، فمآل الآيتين واحد ، ويجوز أن يكون المعنى ، وإن عليك لعنتي على ألسنة عبادي يلعنونك.
{إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} ؛ أي : يوم الجزاء والعقوبة ، يعني أن عليك اللعنة في الدنيا ، ولا يلزم من هذا التوقيت انقطاع اللعنة عنه في الآخرة إذ من كان ملعوناً مدة الدنيا ، ولم يشم رائحة الرحمة في وقتها كان ملعوناً أبدياً في الآخرة.
ولم يجد أثر الرحمة فيها لكونها ليست وقت الرحمة للكافر ، وقد علم خلوده في النار بالنص وكذا لعنه كما قال : {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُا بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ} (الأعراف : 44) مع ما ينضم إليه من عذاب آخر ينسى عنده اللعنة ، والعياذ بالله تعالى.
قال بعضهم : أما طرد إبليس فلعجبه ونظره إلى نفسه ليعتبر كل مخلوق بعده.
قال : أنا خير منه.
ويقال : طرده وخذله ترهيباً للملائكة ولبني آدم كي يحذروا مما لا يرضى عنه ، ويحصل لهم العبرة :
64
اين خوديرا كن اندر خدا
تانماني همجوآن إبليس جدا
كن حذر ازسطوت قهاريش
روبسوى حضرت غفاريش
عبرت بيشينيان كير اى خلف
تا خلاصى يا بى از قهر وتلف
ومن الله العصمة والتوفيق.
(8/47)
{قَالَ} إبليس {رَبِّ} .
(اى برورد كارمن).
{فَأَنظِرْنِى} .
الإنظار : الإمهال والتأخير والفاء : فصيحة ؛ أي : إذا جعلتني رجيماً ، فأمهلني ولا تمتني.
{إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
من قبورهم للجزاء ، وهو يوم القيامة.
والمراد آدم وذريته.
(والبعث : مرده زارنده كردن).
وأراد بدعائه أن يجد فسحة لإغوائهم ويأخذ منهم ثأره وينجو من الموت بالكلية إذ لا موت بعد يوم البعث ، فلم يجب ، ولم يوصل إلى مراده.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{قَالَ} الله تعالى {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} ؛ أي : من جملة الذين أخرت آجالهم أزلاً بحسب الحكمة كالملائكة ونحوهم.
{إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} الذين قدره الله وعينه لفناء الخلائق ، وهو وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذي هو المسؤول.
قال في "آكام المرجان" : ظاهر القرآن يدل على أن إبليس غير مخصوص بالإنظار.
وأما ولده وقبيله ، فلم يقم دليل على أنهم منظرون معه.
وقال بعضهم : الشياطين يتوالدون ولا يموتون إلى وقت النفخة الأولى بخلاف الجن ، فإنهم يتوالدون ويموتون ، ويحتمل أن بعض الجن أيضاً منظرون ، كما أن بعض الإنس ، كالخضر عليه السلام كذلك.
وفيه أن الظاهر أن يموت الخضر ، وأمثاله حين يموت المؤمنون ، ولا يبقى منهم أحد وذلك قبل الساعة بكثير من الزمان ، ثم إن قوله تعالى : {فَإِنَّكَ} إلخ.
إخبار من الله تعالى بالإنظار المقدر أزلاً لا إنشاء لإنظار خاص به قد وقع إجابة لدعائه.
وكان استنظاره طلباً لتأخير الموت لا لتأخير العقوبة هكذا في "الإرشاد".
يقول الفقير : لا شك أن الله تعالى استجاب دعاء إبليس ليكون طول بقائه في الدنيا أجراً له في مقابلة طول عبادته قبل لعنه ودعاء الكافر مستجاب في أمور الدنيا ، فلا مانع أن يكون إنظاره بطريق الإنشاء يدل عليه ترتيبه على دعائه الحادث ، وذلك لا يمنع كونه من المنظرين أزلاً لأن كل أمر حادث في جانب الأبد ، فهو مبني على أمر قديم في الأزل ألا ترى أن كفره بإنشاء استقباح أمر الله تعالى مبني على كفره الأزلي في علم الله تعالى ثم لا مانع أن يكون الاستنظار لطلب تأخير الموت وتأخير العقوبة جميعاً ، لأن اللعن من موجبات العقوبة ، فطلب الإنظار خوفاً من العذاب المعجل ولما حصر مراده صرح بالإغواء لأجل الانتقام ؛ لأن آدم هو الذي كان سبب لعنه.
وفي الآية إشارة إلى أن من أبعده الحق وطرده قلب عليه أحواله حتى يجر إلى نفسه أسباب الشقاوة كما دعا إبليس ربه وسأله الإنظار من كمال شقاوته ليزداد إلى يوم القيامة إثمه الذي هو سبب عقوبته واغتر بالمدة الطويلة ، ولم يعلم أن ما هو آت قريب (عمر اكرجه دراز بود جون مرك روغود ازان درازى جه سود نوح عليه السلام هزار سال در جهان بسر برده است امروز جند هزار سالست كه مرده است) :
دريغا كه بكذشت عمر عزيز
بخواهد كذشت اين دم جندنيز
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
فأنظره الله تعالى وأجابه إذ سأله بربويته ليعلم أن كل من سأله باسم الرب ، فإنه يجيبه كما أجاب إبليس ، وكما أجاب آدم عليه السلام إذ قال) {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} (الأعراف : 23) ، فأجابه {فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (طه : 122).
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} .
{قَالَ}
65
إبليس عليه ما يستحق.
{فَبِعِزَّتِكَ} الباء : للقسم ؛ أي : فأقسم بعزتك ؛ أي : بقهرك وسلطانك.
وبالفارسية : (بغالبيت وقهر توسو كند).
ولا ينافيه قوله تعالى حكاية : {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى} (الأعراف : 16) ، لأن إغواء إياه أثر من آثار قدرته وعزته ، وحكم من أحكام قهره وسلطنته.
ولهذه النكتة الخفية ورد الحلف بالعزة مع أن الصفات اللائقة للحلف كثير.
وفي "التأويلات النجمية" : ثم إبليس لتمام شقاوت.
قال : فبعزتك إلخ.
ولو عرف عرته لما أقسم بها على مخالفته.
{لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} لأحملنهم على الغي ، وهو ضد الرشد ولأكونن سبباً لغوايتهم ؛ أي : ذرية آدم بتزيين المعاصي لهم وإدخال الشكوك والشبهات فيهم ، والإغواء بالفارسية (كمراه كردن).
ثم صدق حيث استثنى ، فقال :
{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ؛ أي : عبادك المخلصين من ذرية آدم ، وهم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته ، وعصمهم من الغواية.
وقرىء بالكسر على صيغة الفاعل ؛ أي : الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهمتعالى من غير شائبة الرياء.
وفي "التأويلات النجمية" ، ثم لعجزه وعزة عباد الله ، قال : إلا عبادك منهم المخلصون في عبوديتك.
انتهى.
(8/48)
قال بعضهم : العبد المخلص هو الذي يكون سره بينه وبين ربه بحيث لا يعلمه ملك ، فيكتبه ولا شيطان ، فيفسده ، ولا هوى ، فيميله ، ثم لا شك أن من العباد عباداً إذا رأى الشيطان أثر سلطنة ولايتهم وعزة أحوالهم يذوب كما يذوب الملح في الإناء ، ولا يبقى له حيل ولا يطيق أن يمكر بهم ، بل ينسى في رؤيتهم جميع مكرياته ، ولا يطيق أن يرمي إليهم من أسهم وسوسته بل مكره محيط به لا بأهل الحق.
وهكذا حال ورثة الشيطان من المنكرين المفسدين مع أهل الله تعالى ، فإنهم محفوظون عما سوى الله تعالى مطلقاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ} .
{قَالَ} الله تعالى {فَالْحَقُّ} بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر ؛ أي : فالحق قسمي على أن الحق.
إما اسمه تعالى كما في قوله تعالى : {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (النور : 25) أو نقيض لباطل عظمه الله تعالى بإقسامه به ، ويحتمل أن يكون التقدير ، فالحق مني كما قال الحق من ربك.
{وَالْحَقَّ أَقُولُ} بالنصب على أنه مفعول لأقوله قدم عليه للقصر ؛ أي : لا أقول إلا الحق.
{لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ} ؛ أي : من جنسك من الشيطان {وَمِمَّن تَبِعَكَ} في الغواية والضلال بسوء اختياره {مِنْهُمْ} ؛ أي : من ذرية آدم.
{أَجْمَعِينَ} تأكيد للكاف وما عطف عليه ؛ أي : لأملأنها من المتبوعين.
والأتباع أجمعين لا أترك أحداً منهم.
وفي "التأويلات النجمية" : ولما كان تجاسره في مخاطبته الحق حيث أصر على الخلاف وأقسم عليه أقبح وأولى في استحقاق اللعنة من امتناعه للسجود لآدم قال : فالحق إلخ.
انتهى.
فعلى العاقل أن يتأدب بالآداب الحسنة قولاً وفعلاً ولا يتجاسر على الله تعالى أصلاً ولا يتبع خطوات الشيطان حتى لا يرد معه النار وعن أبي موسى الأشعري ، قال : إذا أصبح إبليس بث جنوده ، فيقول : من أضل مسلماً ألبسته التاج ، قال : فيقول له القائل : لم أزل بفلان حتى طلق امرأته ، قال : يوشك أن يتزوج.
ويقول الآخر : لم أزل بفلان حتى عق ؛ أي : عصى والديه أو أحدهما.
قال : يوشك أن يبر ، قال : فيقول القائل : لم أزل بفلان حتى شرب.
قال : أنت ، أي : أنت فعلت شيئاً عظيماً أرضى عنه.
قال : ويقول الآخر : لم أزل بفلان حتى زنى ، فيقول : أنت.
قال : ويقول الآخر : لم أزل بفلان حتى قتل ، فيقول : أنت أنت ، أي : أنت صنعت شيئاً أعظم وحصلت غاية أمنيتي ، وكمال رضاي ، وذلك لأن وعيد القتل أشد وأعظم كما قال
66
تعالى ، {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُه جَهَنَّمُ خَـالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَه وَأَعَدَّ لَهُ} (النساء : 93).
إلخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
فلذلك كرر : أنت.
إشارة إلى كمال رضاه عنه وعن بعض الأشياخ أنه قال : الشيطان أشد بكاء على المؤمن إذا مات لما فاته من افتنانه إياه في الدنيا.
ويقال : لما أنظر الله إبليس وأهبطه إلى الأرض أعطاه منشور الدنيا ، فأول نظره منه وقعت على الجبال فمن شؤمه من ذلك الوقت لا تحتمل الماء للأحجار بل يرسلها إلى أسفله ، ومن كان على دينه لا يبقى على الصراط ما لم ينته إلى أسفل السافلين فيا خسارة من كان إنساناً دخل النار معه.
{قُلْ} يا محمد للمشركين {قُلْ مَآ} نيمخواهيم ازشما {عَلَيْهِ} ؛ أي : على القرآن الذي أتيتكم به ، أو على تبليغ الوحي وأداء الرسالة.
6
{مِنْ أَجْرٍ} من مال دنيوي ، ولكن أعلمكم بغير أجر ، وذلك لأن من شرط العبودية الخالصة أن لا يراد عليها الجزاء ولا الشكور ، فمن قطع رأس كافر في دار الحرب أو أسره وأحضره عند رئيس العسكر ، ليعطي له مالاً ، فقد فعله للأجر لاتعالى ، وعلى هذه جميع ما يتعلق به الأغراض الفاسدة :
فرادا كه بيشكاه حقيقت شود بديد
شرمنده رهروى كه عمل برمجاز كرد
{وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} ؛ أي : المتصنعين بما ليسوا من أهله على ما عرفتم من حالي حتى انتحل النبوة ؛ أي : أدعيها لنفسي كاذباً وأتقول القرآن من تلقاء نفسي وبالفارسية : (ومن نيستم از جماعتى كه بتصنع ازخود جيزى ظاهر كنند وبرسازند كه ندارند).
وحاصله : ما جئتكم باختياري دون أن أرسلت إليكم ، فكل من قال شيئاً من تلقاء نفسه ، فقد تكلف له.
والتكلف في الأصل التعسف في طلب الشيء الذي لا يقتضيه إلا العقل.
وفي "تاج المصادر" : التكلف (رنج جيزى بكشيدن واز حويشتن جيزى نمودن كه آن نباشد).
والمتكلف : المتعرض لما لا يعينه.
انتهى.
(8/49)
وفي "المفردات" : تكلف الشيء ما يفعله الإنسان بإظهار كلفة مع مشقة تناله في تعاطيه ، وصارت الكلفة في التعاريف اسماً للمشقة.
والتكلف اسم لما يفعل بمشقة أن بتصنع أو تشبع.
ولذلك صار التكليف ضربين : محموداً ، وهو ما يتحراه الإنسان ليتوصل به إلى أن يصير الفعل الذي يتعاطاه سهلاً عليه ويصبر كلفاً به ومحباً له ، وبهذا النظر استعمل التكليف في تكليف العبادات.
والثاني : ما يكون مذموماً ، وإياه عنى بقوله : {وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} .
وصح في الحديث النهي عن التكلف كما قال عليه السلام : "أنا بريء من التكلف" ، وصالحوا أمتي.
وفي حديث آخر : "أنا والأتقياء من أمتي برأآء من التكلف".
وكذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم النهي عن السجع في الدعاء ؛ لأنه من باب التكلف والتصنع.
ومن هذا قال أهل الحقائق : لا يعين للصلاة شيئاً من القرآن بل يقرأ أول ما يقرع خاطره في أول الركعة ، فإنه المسلك الذي اختار الله تعالى له وعنه عليه السلام للمتكلف ثلاث علامات ينازع من فوقه ، يعني : (يكى آنكه نزاع كند باكسى كه بر ترازوست ، "ويتعاطى ما لا ينال" يعني : دوم آنكه ميخواهد كه فرا كيرد آنجه يافتن آن نه مقدور اوست) "ويقول ما لم يعلم" ، يعني : (سوم آنكه كويد جيزى كه نداند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 2
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : يا أيها الناس من علم شيئاً ، فليقل ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، فإن من
67
العلم أن تقول لما لا تعلم.
الله أعلم.
فإنه تعالى قال لنبيه عليه السلام : {وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} .
وفي الحديث : "من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض".
{إِنْ هُوَ} ؛ أي : ما هو يعني : (نيست اين كه من أوردم ازخدا).
يعني : القرآن والرسالة.
{قُلْ مَآ أَسْاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَه بَعْدَ حِين} .
{إِلا ذِكْرٌ} ؛ أي : عظة من الله تعالى ، وأيضاً : شرف وذكر باق {لِّلْعَالَمِينَ} للثقلين كافة.
{وَلَتَعْلَمُنَّ} أيها المشركون.
{نَبَأَهُ} ؛ أي : ما أنبأ القرآن به من الوعد والوعيد وغيرهما ، أو صحة خبره ، وأنه الحق والصدق.
{بَعْدَ حِين} .
بعد الموت ، أو يوم القيامة حين لا ينفع العلم وفيه تهديد.
قال في "المفردات" : الحين وقت بلوغ الشيء وحصوله ، وهو مبهم المعنى ويتخصص بالمضاف إليه نحو {وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (ص : 3).
ومن قال حين على أوجه للأجل نحو {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (يونس : 98) وللسنة نحو {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِين} (إبراهيم : 25).
وللساعة نحو {حِينَ تُمْسُونَ} ، وللزمان المطلق نحو {هَلْ أَتَى عَلَى الانسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} (الإنسان : 1).
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَه بَعْدَ حِين} ، فإنما فسر ذلك بحسب ما وجده ، وقد علق به.
انتهى.
قال الحسن بن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين ، فينبغي للمؤمن أن يكون بحيث لو كشف الغطاء ما ازداد يقيناً ، ومن كلام سيدنا علي رضي الله عنه : لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً :
حال وخلد وجحيم دانستم
بيقين آنجنانكه مى بايد
كر حجاب از ميانه بركير ند
آن يقين ذره نيفزايد
(معنى اين كلمه آنست كه داردنيا سراى حجابست وأحوال آخرت مرا يقين كشته است ازحشر ونشر وثواب ونعيم وجحيم وغير آن بس اكر حجاب بردارندتا آن جمله ار مشاهده كنم يك ذره در يقين من زيادت نشود كه علم اليقين من امروز جو عين اليقين منست در فردا).
وأخبر القرآن أن الكفار يؤمنون بعد الموت بالقرآن ، وبما أخبر به ، ولكن لا يقبل إيمانهم.
وسئل أبو القاسم الحكيم ، فقيل له : العاصي يتوب من عصيانه أم كافر يرجع من الكفر إلى الإيمان ، فقال : بل عاص يتوب من عصيانه ، لأن الكافر في حال كفره أجنبي ، والعاصي في حال عصيانه عارف بربه ، والكافر إذا أسلم ينتقل من درجة الأجانب إلى درجة المعارف والعاصي إذا تاب ، ينتقل من درجة المعارف إلى درجة الأحباء ، فلا بدّ من التوبة والتوجه إلى الله تعالى قبل الموت حتى يزول التهديد والوعيد ، ويظهر الوعد والتأييد ويحصل الانبساط في جميع المواطن ، وينصب الفيض في الظاهر والباطن بلطفه تعالى وكرمه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 2(8/50)
سورة الزمر
خمس وسبعون أو اثنتان وسبعون آية مكية
جزء : 8 رقم الصفحة : 67
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ} ؛ أي : القرآن ، وخصوصاً منه هذه السورة الشريفة ، وهو مبتدأ خبره قوله : {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} لا من غيره كما يقول المشركون : إن محمداً تقوّله من تلقاء نفسه.
وقيل : معناه تنزيل الكتاب من الله ، فاستمعوا له واعملوا به ، فهو كتاب عزيز.
نزل من رب عزيز على عبد عزيز بلسان ملك عزيز في شأن أمة عزيزة ، والتعرض لوصفي العزة
68
والحكمة للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب ، بجريان أحكامه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مدافع ولا ممانع ، وبابتناء جميع ما فيه على أساس الحكم الباهرة.
وقال الكاشفي : {الْعَزِيزِ} (خداوند غالب در تقدير {الْحَكِيمِ} دانا است در تدبير).
وفي "فتح الرحمن" : العزيز في قدرته الحكيم في إبداعه.
{إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} .
شروع في بيان شأن المنزل إليه ، وما يجب عليه أثر بيان شأن المنزل ، وكونه من عند الله ، فلا تكرار في إظهار الكتاب في موضع الإضمار لتعظيمه ، ومزيد الاعتناء بشأنه.
والباء : إما متعلقة بالإنزال ؛ أي : بسبب الحق وإثباته وإظهاره ، وإما بمحذوف هو حال من نون العظمة ؛ أي : أنزلناه إليك حال كوننا محقين في ذلك ، أو حال من الكتاب ؛ أي : أنزلناه حال كونه ملتبساً بالحق والصواب ؛ أي : كل ما فيه حق لا ريب فيه موجب للعمل حتماً.
وفي "التأويلات النجمية" : أي من الحق نزل وبالحق نزل وعلى الحق نزل.
قال في "برهان القرآن" : كل موضع خاطب الله النبي عليه السلام بقوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} ، ففيه تكليف ، وإذا خاطبه بقوله : {أَنزَلْنَا عَلَيْكَ} (النمل : 64) ، ففيه تخفيف.
ألا ترى إلى ما في أول السورة إليك ، فكلفه الإخلاص في العبودية ، وإلى ما في آخرها عليك ، فختم الآية بقوله : {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنفال : 107) ؛ أي : لست بمسؤول عنهم ، فخفف عنه ذلك {فَاعْبُدِ اللَّهَ} حال كونك {مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} .
الإخلاص أن يقصد العبد بنيته وعمله إلى خالقه لا يجعل ذلك لغرض من الأغراض ؛ أي : ممحضاً له الطاعة من شوائب الشرك والرياء ، فإن الدين الطاعة كما في "الجلالين" وغيره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال في "عرائس البيان" : أمر حبيبه عليه السلام بأن يعبده بنعت أن لا يرى نفسه في عبوديته ، ولا الكون وأهله ، ولا يتجاوز عن حدّ العبودية في مشاهدة الربوبية ، فإذا سقط عن العبد حظوظه من العرش إلى الثرى ، فقد سلك مسلك العبودية الخالصة :
كر نباشد نيت خالص
جه حاصل از عمل
قال بعض الكبار : العبادة الخالصة معانقة الأمر على غاية الخضوع.
وتكون بالنفس فإخلاصها فيها التباعد عن الانتقاص.
وبالقلب فإخلاصه فيها العمى عن رؤية الأشخاص.
وبالروح فإخلاصه فيها التنقي عن طلب الاختصاص وأهل هذه العبادة موجود في كل عصر لما قال عليه السلام : "لايزال الله يغرس في هذا لدين غرساً يستعملهم في طاعته".
قال الكاشفي : (مخاطب حضرتست ومراد امت است كه مأمورند بآنكه طاعت خودرا از شرك وريا خالص سازند).
وفي "كشف الأسرار" : (فرموده رسول خدا عليه السلام باين خطاب جنان ادب كرفت كه جبريل وكفت "يا محمد أتختار أن تكون ملكاً نبياً أو عبداً نبياً" كفت خداوندا بندكى مارا مسلم اكر ملك اختيار كنم با ملك بنا نم وآنكه افتخار من يملك باشد ليكن بندكى خواهم وملكي نخواهم ملكى ترا مسلم است وبندكى اختيار كنم تا مملوك تو باشم وافتخار من بملك توباشد ازنيجا كفت "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" يعني مار بهيج جيز فخر نيست فخر ما بخالقست زيراكه برماكس نيست جزاوا كر بغير او فخر كنم بعير او نكر سته باشم وفرمان {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا} بكذاشته باشم وبكذاشته فرمان نيست وبغيراو نكر ستن شرط نيست لا جرم بغير أو فخر نيست).
قال الحافظ :
69
كدايى درجانا بسلطنت مفروش
كسى زسايه اين در بآفتاب رود
{إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُا وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَا إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا اصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا} .(8/51)
{أَلا} بدانيد كه ؛ أي : من حقه وواجباته {الدِّينُ الْخَالِصُ} من الشرك ؛ أي : إلا هو الذي يجب أن يخص بإخلاص الطاعة له : (يعني او سزاوار آنست كه طاعة او خالص باشد) لتفرده بصفات الألوهية واطلاعه على الغيوب والأسرار ، وخلوص نعمته عن استجرار النفع.
وفي "الكواشي" : ألا لدين الخالص من الهوى والشك والشرك ، فيتقرب به إليه رحمة لا أن له حاجة إلى إخلاص عبادته.
وفي "التأويلات النجمية" : الدين الخالص ما يكون جملته ، وما للعبد فيه نصيب والمخلص من خلصه الله من حبس الوجود بجوده لا بجهده.
وعن الحسن : الدين الخالص الإسلام ، لأن غيره من الأديان ليس بخالص من الشرك ، فليس بدين الله الذي أمر به فالله تعالى لا يقبل إلا دين الإسلام.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، إني أتصدق بالشيء وأضع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس ، فقال عليه السلام : والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئاً شورك فيه ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا لدين الخالص.
وقال عليه السلام ، قال الله سبحانه : "من عمل لي عملاً أشرك فيه معي غيري ، فهو له كله ، وأنا بريء منه ، وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك" ، وقال عليه السلام : "لا يقبل الله عملاً فيه مقدار ذرة من رياء" :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
زعمرو اى بسر جشم اجرت مدار
جو درخانه زيد باشى بكار
(سزاى الله تعالى عبادت باكست بي نفاق وطاعت خالصة بى ريا وكوهر إخلاص كه يابنددر صدق دل يا بند يادر درياى سينه واز انيجاست كه حذيقه كويد رضي الله عنه ازان مهتر كائنات عليه السلام بر سيدم كه اخلاص جيست كفت ازجبريل برسيدم إخلاص جيست كفت از رب العزة برسيدم كه إخلاص جيست كفت سر من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي كفت كوهر ست كه از خزينه أسرار خويش بيرون آوردم ودرسو يداى دل دوستان خويش وديعت نهادم اين إخلاص نتجه دوستى است واثر بندكى هركه لباس محبت بوشيد وخلقت بندكى برافكند هر كاركه كند ازميان دل كند دوستى حق تعالى بآرزوهاى برا كنده دريك دل جمع نشود وفريضه تن نماز وروزه است وفريضه دل دوستى حق نشان دوستى آنست كه هر مكروه طبيعت ونهاد كه) :
از دوست بتو آيد ديده نهى
ولو بيد الحبيب سقيت سما
لكل السم من يده يطيب
زهرى كه بيادتو خورم نوش آيد
ديوانه ترا بيند وباهوش آيد
آن دل كه توسوختى تراشكر كند
(وآن خون كه توريختى بتو فخر كند).
{وَالَّذِينَ} عبارة عن المشركين {اتَّخَذُوا} : يعني عبدوا.
{مِن دُونِهِ} ؛ أي : حال كونهم متجاوزين الله وعبادته.
{أَوْلِيَآءَ} : أرباباً أوثاناً كالملائكة وعيسى وعزير والأصنام لم يخلصوا العبادةتعالى ، بل شابوها بعبادة غيره حال كونهم قائلين.
{مَا نَعْبُدُهُمْ} ؛ أي : الأولياء لشيء من الأشياء.
{إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}
70
أي : تقريباً ، فهو مصدر مؤكد على غير لفظ مصدر ملاق له في المعنى ، وكانوا إذا سئلوا عمن خلق السماوات والأرض.
قالوا الله ، فإذا قيل لهم : لم تعبدون الأصنام.
قالوا : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله.
وفي "تفسير الكاشفي" : (درخواست كنند تا بشفاعت ايشان ميزلت يا بيم).
وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني : أن أصل وضع الأصنام إنما كان من قوة التنزيه من العلماء الأقدمين ، فإنهم نزهوا الله عن كل شيء وأمروا بذلك عامتهم ، فلما رأوا أن بعض عامتهم صرح بالتعطيل وضعوا لهم الأصنام وكسوها الديباج والحلي والجواهر وعظموها بالسجود وغيره ، ليتذكروا بها الحق الذي غاب عن عقولهم.
وغاب عن أولئك العلماء أن ذلك لا يجوز إلا بإذن من الله تعالى : {أَنَّ اللَّهَ} إلخ.
خبر للموصول : {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ؛ أي : بين المتخذين بالكسر غير المخلصين ، وبين خصمائهم المخلصين للدين ، وقد حذف لدلالة الحال عليه {فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من الدين الذي اختلفوا فيه بالتوحيد والإشراك وادعى كل فريق صحة ما انتحله وحكمه تعالى في ذلك إدخال الموحدين الجنة والمشركين النار ، فالضمير للفريقين.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى} لا يوفق إلى الاهتداء إلى الحق الذي هو طريق النجاة من المكروه.
والفوز بالمطلوب.
{مَنْ هُوَ كَـاذِبٌ كَفَّارٌ} ؛ أي : راسخ في الكذب مبالغ في الكفر كما يعرب عنه قراءة كذاب وكذوب ؛ فإنهما فاقدان للبصيرة غير قابلين للاهتداء لتغييرهما : الفطرة الأصلية بالتمرن في الضلالة والتمادي في الغيّ ، قال في "الوسيط" : هذا فيمن سبق عليه القضاء بحرمان الهداية ، فلا يهتدي إلى الصدق والإيمان البتة.
قال الحافظ :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
كرجان بدهد سنك سيه لعل نكردده
باطينت أصلى جه كند بدكهر افتاد
(8/52)
وكذبهم قولهم في بعض أوليائهم بنات الله وولده.
قولهم : إن الآلهة تشفع لهم وتقربهم إلى الله وكفرهم عبادتهم تلك الأولياء وكفرانهم النعمة بنسيان المنعم الحقيقي.
وفي "التأويلات النجمية" : أن الإنسان مجبول على معرفة صانعه ، وصانع العالم ومقتضى طبعه عبادة صانعه ، والتقرب إليه من خصوصية فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ولكن لا عبرة بالمعرفة الفطرية والعبادة الطبيعية ؛ لأنها مشوبة بالشركة لغير الله ؛ ولأنها تصدر من نشاط النفس واتباع هواها ، وإنما تعتبر المعرفة الصادرة عن التوحيد الخالص ومن أماراتها قبول دعوة الأنبياء والإيمان بهم ، وبما أنزل عليهم من الكتب ومخالفة الهوى والعبادة على وفق الشرع لا على وفق الطبع ، والتقرب إلى الله بأداء ما افترض الله عليهم ونافلة قد استن النبي صلى الله عليه وسلّم بها ، أو بمثلها ، فإنه كان من طبع إبليس السجودولما أمر بالسجود على خلاف طبعه أبى واستكبر ، وكان من الكافرين بعد أن كان من الملائكة المقربين.
وكذلك حال الفلاسفة ممن لا يتابع الأنبياء منهم ويدعي معرفة الله ويتقرب إلى الله بأنواع العلوم ، وأصناف الطاعات والعبادات بالطبع لا بالشرع ، ومتابعة الهوى لا بأمر المولى ، فيكون حاصل أمره ما قاله تعالى ، {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} (الفرقان : 23) ، فاليوم كل مدع يدعي حقيقة ما عنده من الدين والمذهب على اختلاف طبقاتهم ، فالله تعالى يحكم بينهم في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فيحق الحق باتساع صدور أهل الحق بنور الإسلام وبكتابة الإيمان في قلوبهم وتأييدهم بروح منه ، وكشف شواهد الحق عن أسرارهم وتجلي صفات جماله وجلاله لأرواحهم ، ويبطل الباطل
71
بتضييق صدور أهل الأهواء والبدع وقسوة قلوبهم وعمى أسرارهم وبصائرهم وغشاوة أرواحهم بالحجب.
وأما في الآخرة فتبييض وجوه أهل الحق وإعطاء كتابهم باليمين وتثقيل موازينهم وجوازهم على الصراط وسعي نورهم بين أيديهم وإيمانهم ودخول الجنة ورفعتهم في الدرجات ، وبتسويد وجوه أهل الباطل ، وإيتاء كتبهم بالشمال ومن وراء ظهورهم ، وتخفيف موازينهم ، وزلة أقدامهم على الصراط ، ودخول النار ونزولهم في الدركات ، وبقوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَـاذِبٌ كَفَّارٌ} .
يشير إلى تهديد من يتعرض لغير مقامه ويدعي رتبة ليس بصادق فيها ، فالله لا يهديه قط إلى ما فيه سداده ورشده وعقوبته أن يحرمه تلك الرتبة التي تصدى لها بدعواه قبل تحققه بوجودها.
قال الحافظ :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
كرانكشست سليماني نباشد
جه خاصيت دهد نقش نكينى
خدازان خرقه بيزارست صدبار
كه صد بت ماندش در آستينى
ومن الله العصمة من الدعوى قبل التحقق بحقيقة الحال ، وهو المنعم المتعال.
{لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} .
كما زعم المشركون بأنتعالى اتخذ ولداً.
{اصْطَفَى} لاتخذ واختار.
{مِمَّا يَخْلُقُ} ؛ أي : من جنس مخلوقاته.
{مَا يَشَآءُ} .
ولم يخص مريم ولا عيسى ولا عزيراً بذلك ولخلق جنساً آخر أعز وأكرم مما خلق ، واتخذه ولداً لكنه لا يفعله لامتناعه والممتنع لا تتعلق به القدرة والإرادة ، وإنما أمره اصطفاء من شاء من عباده وتقريبهم منه ، وقد فعل ذلك الملائكة وبعض الناس كما قال الله تعالى : {اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ} (الحج : 75) ، ولذا وضع الاصطفاء مكان الاتخاذ.
وقال بعضهم : معناه لو اتخذ من خلقه ولداً لم يتخذه باختيارخم ، بل يصطفي من خلقه من يشاء.
وقال الكاشفي : (هر آينه اختيار كردى از آنجه مى آفريند آنجه خواستى از اعزاشيا واحسن آن واكمل كه بنون اندنه از نقص كه بتانند اما مخلوق مماثل خالق نيست وميان والد ومولود مجانست شرط است بس اورا فرزند نبود).
{سُبْحَـانَهُ} مصدر من سبح إذا بعد ؛ أي : تنزه تعالى بالذات عن ذلك الاتخاذ وعما نسبوا إليه من الأولاد والأولياء وعلم للتسبيح مقول على ألسنة العباد ؛ أي : أسبحه تسبيحاً لائقاً به أو سبحوه تسبيحاً حقيقياً بشأنه.
{هُوَ} : مبتدأ خبره.
قوله : {اللَّهَ} المتصف بالألوهية.
{الْوَاحِدُ} الذي لا ثاني له والولد ثاني والده وجنسه وشبهه.
وفي "بحر العلوم" : واحد ؛ أي : موجود جلّ عن التركيب والمماثلة ذاتاً وصفة ، فلا يكون له ولد ؛ لأنه يماثل الوالد في الذات والصفات.
{الْقَهَّارُ} الذي بقهاريته لا يقبل الجنس والشبه بنوع ما.
وفي "الإرشاد" : قهار لكل الكائنات كيف يتصور أن يتخذ من الأشياء الفانية ما يقوم مقامه.
(8/53)
{لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا اصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُا سُبْحَـانَه هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّا يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِا وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَا كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّـارُ * خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الانْعَـامِ ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍا يَخْلُقُكُمْ فِى} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} ، وما بينهما من الموجودات حال كونها ملتبسة.
{بِالْحَقِّ} .
والصواب مشتملة على الحكم والمصالح لا باطلاً وعبثاً.
قال الكاشفي : (بيافريد آسمان وزمين را براستى نه بباطل وازى بلكه در آفرينش هريك ازان صد هزار آثار قدرت وأطوار حكمت است نعميه تاديده وران از روى اعتبار ارقام معرفت آفريد كار بر صفحات آن دلائل مطالعه نمايند) :
نوشته براوراق آسمان وزمين
خطى كه فاعتبروا منه يا أولي الأبصار
72
{يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ} .
قال في "تاج المصادر" : تكوير الليل على النهار تغشيته إياه ، ويقال : زيادته من هذا في ذاك ، كما قال الراغب في "المفردات" : تكوير الشيء إدارته وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة.
وقوله تعالى : {يُكَوِّرُ الَّيْلَ} إلخ.
إشارة إلى جريان الشمس في مطالعها ، وانتقاص الليل والنهار وازديادهما.
انتهى.
والمعنى : يغشى كل واحد منهما الآخر ، كأنه يلفه عليه لف اللباس على اللابس.
وبالفارسية : (برمى بيجد ودر مى آرد شب بروز وبه برده ظلمت آت نور اين مى بوشد ودر مى آرد روزرا برشت وشعله روشنى آن تاريكى اين را مختفى سازد).
وذلك أن النور والظلمة عسكران مهيبان عظيمان ، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك كما في "الكبير" أو يغيب كل واحد منهما بالآخر ، كما يغيب الملفوف باللفافة عن مطامح الأبصار ، أو يجعله كارّاً عليه كروراً متتابعاً تتابع أكوار العمامة بعضها على بعض.
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} : جعلهما منقادين لأمره تعالى.
{كُلِّ} منهما {يَجْرِى} يسير في بروجه {لاجَلٍ مُّسَمًّى} لمدة معينة ، هي منتهى دورته في كل يوم أو شهر ، أو منقطع حركته ؛ أي : وقت انقطاع سيره ، وهو يوم القيامة ، وإنما ذلك لمنافع بني آدم.
وفي الحديث : "وكل بالشمس سبعة أملاك يرمونها بالثلج ولولا ذلك ما أصابت شيئاً إلا أحرقته".
(وكفته اند ستاركان آسمان دو قسم اند قسمي بر آفتاب كذر كنند وازوى روشنايى كيرند وقسمى آفتاب برايشان كذر كند وايشانرا روشنايى دهد ازروى اشارت ميكويد مؤمنان ذو كروهند كروهى بدركاه شوند بجهد واجتهاد تانور هدايت يابند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت : 69).
(وكروهى آنند كه عنايت ازلى برايشان كذر كند وايشانرا نور معرفت دهد).
كما قال تعالى : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر : 22).
{أَلا} اعلموا {هُوَ} وحده {الْعَزِيزِ} الغالب القادر على كل شيء ، فيقدر على عقاب العصاة {الْغَفَّـارُ} المبالغ في المغفرة.
ولذلك لا يعاجل بالعقوبة ، وسلب ما في هذه الصنائع البديعة من آثار الرحمة ، وعموم المنفعة.
وبالفارسية : (سلب اين نعمتها نمى كند از آدميان باوجود وقوع شرك ومعصيت ازايشان).
قال الإمام الغزالي رحمه الله : هو الغفار هو الذي أظهر الجميل وستر القبيح والذنوب من جملة القبائح التي سترها بإسبال الستر عليها في الدنيا ، والتجاوز عن عقوبتها في الآخرة.
والغفر : هو الستر.
وأول ستره على عبده أن جعل مقابح بدنه التي تستقبحها الأعين مستورة في باطنه مغطاة بجمال ظاهره فكم بين باطن العبد وظاهره في النظافة والقذارة.
وفي القبح والجمال ، فانظر ما الذي أظهره ، وما الذي ستره.
وستره الثاني أن جعل مستقر خواطره المذمومة وإرادته القبيحة سر قلبه حتى لا يطلع أحد على سر قلبه ، ولو انكشفت للخلق ما يخطر بباله في مجاري وسواسه ، وما ينطوي عليه ضميره من الغش والخيانة ، وسوء الظن بالناس لمقتوه ، بل سعوا في تلف روحه وإهلاكه ، فانظر كيف ستر عن غيره أسراره وعوارفه.
والثالث : مغفرة ذنوبه التي كان يستحق الافتضاح بها على ملأ من الخلق ، وقد وعد أن يبدل من سيئاته حسنات ليستر مقابح ذنوبه بثواب حسناته إذا مات على الإيمان.
وحظ العبد من هذا الاسم أن يستر
73
(8/54)
من غيره ما يحب أن يستر منه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم "من ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته يوم القيامة".
والمغتاب والمتجسس والمكافىء على الإساءة بمعزل ، وعن هذا الوصف ، وإنما المتصف به من لا يفشي من خلق الله إلا أحسن ما فيهم ، ولا ينفك مخلوق عن كمال ونقص وعن قبح وحسن ، فمن تغافل عن المقابح ، وذكر المحاسن ، فهو ذو نصيب من هذا الاسم والوصف كما روي عن عيسى عليه السلام أنه مر مع الحواريين بكلب ميت قد غلب نتنه ، فقالوا : ما أنتن هذه الجيفة ، فقال عيسى عليه السلام : ما أحسن بياض أسنانها تنبيهاً على أن الذي ينبغي أن يذكر من كل شيء ما هوأحسنه.
قال الشيخ سعدي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
مكن عيب خلق اي خردمند فاش
بعيب خود از خلق مشغول باش
جو باطل سرايند نمكمار كوش
جو بى ستر بينى نظر رابيوش
{خَلَقَكُم} ؛ أي : الله تعالى أيها الناس جميعاً {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} هي نفس آدم عليه السلام.
{ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا} ؛ أي : خلق من جنس تلك النفس واحدة ، أو من قصيراها ، وهي الضلع التي تلي الخاصرة ، أو هي آخر الأضلاع.
وبالفارسية : (ازاستخوان بهلوى جب) ، أو {زَوْجَهَا} حواء عليها السلام ، وثم عطف على محذوف هو صفة لنفس ؛ أي : من نفس واحدة خلقها ، ثم جعل منها زوجها ، فشفعها وذلك ، فإن ظاهر الآية يفيدان خلق حواء بعد خلق ذرية آدم ، وليس كذلك.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى خلق الإنسان من نفس واحدة هي الروح ، وخلق منها زوجها وهو القلب ، فإنه خلق من الروح كما خلقت حواء من ضلع آدم عليه السلام ، فالله تعالى متفرد بهذا الخلق مطلقاً ، فينبغي أن يعرف ويعبد بلا إشراك.
{وَأَنزَلَ لَكُم} ؛ أي : قضى وقسم لكم ، فإن قضاياه تعالى وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث تكتب في اللوح المحفوظ ، أو أحدث لكم وأنشأ بأسباب نازلة من السماء كالأمطار وأشعة الكواكب.
وهذا كقوله : قد أنزلنا عليكم لباساً ، ولم ينزل اللباس نفسه ، ولكن أنزل الماء الذي هو سبب القطن والصوف واللباس منهما.
{مِّنَ الانْعَـامِ} (از جهار بايان).
{ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ} ذكراً وأنثى ، هي الإبل والبقر والضأن والمعز والأنعام جمع نعم بفتحتين ، وهي جماعة الإبل في الأصل لا واحد لها من لفظها.
قال ابن الشيخ في أول المائدة : الأنعام مخصوص بالأنواع الأربعة ، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز ، ويقال لها : الأزواج الثمانية ؛ لأن ذكر كل واحد من هذه الأنواع زوج بأنثاه وأنثاه زوج بذكره ، فيكون مجموع الأزواج ثمانية بهذا الاعتبار من الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين والخيل والبغال والحمير خارجة من الأنعام.
قال في "بحر العلوم" الواحد إذا كان وحده ، فهو فرد ، وإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منهما زوجاً ، فهي زوجان بدليل قوله تعالى : خلق الزوجين الذكر والأنثى ، وعند الحساب الزوج خلاف الفرد كالأربعة والثمانية في خلاف الثلاثة والسبعة.
وخصصت هذه الأنواع الأربعة بالذكر لكثرة الانتفاع بها من اللحم والجلد والشعر والوبر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "التأويلات النجمية" : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ؛ أي : خلق فيكم من صفات الأنعام ثماني صفات ، وهي الأكل والشرب والتغوط والتبول والشهوة والحرص والشره
74
والغضب.
وأصل جميع هذه الصفات الصفتان الاثنتان : الشهوة والغضب ، فإنه لا بدّ لكل حيوان من هاتين الصفتين لبقاء وجوده بهما فبالشهوة يجلب المنافع إلى نفسه وبالغضب يدفع المضرات.
{يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ} ؛ أي : في أرحامهن جمع أم زيدت الهاء فيه كما زيدت في أهراق من أراق.
{خَلْقًا} كائناً {مِّنا بَعْدِ خَلْقٍ} ؛ أي : خلقاً مدرجاً حيواناً سوياً من بعد عظام مكسوة لحماً من بعد عظام عارية من بعد مضغ مخلقة من بعد مضغ غير مخلقة من بعد علقة من بعد نطفة ونظيره قوله تعالى : {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (نوح : 14).
{فِى ظُلُمَـاتٍ ثَلَـاثٍ} متعلق بيخلقكم ، وهي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة ، وهي بالفتح محل الولد ؛ أي : الجلد الرقيق المشتمل على الجنين ، أو ظلمة الصلب أو البطن والرحم.
وفيه إشارة إلى ظلمة الخلقية وظلمة وجود الروح وظلمة البشرية ، وإن شئت قلت : ظلمة الجسد وظلمة الطبيعة وظلمة النفس ، فكما أن الجنين يخرج في الولادة الأولى من الظلمات المذكورة إلى نور عالم الملك والشهادة ، فكذا السالك يخرج في الولادة الثانية من الظلمات المسطورة إلى نور عالم الملكوت والغيب في مقام القلب والروح.
قال الحافظ :
بال بكشا وصفير از شجر طوبى زن
حيف باشد جو تومر غى كه اسير قفسى
{ذَالِكُمُ} إشارة إليه تعالى باعتبار أفعاله المذكورة ومحله الرفع على الابتداء ؛ أي : ذلكم العظيم الشأن الذي عدت أفعاله.
{اللَّهَ} خبره.
وقوله تعالى : {رَبِّكُمْ} خبر آخر له ؛ أي : مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيما بعدها ومالككم المستحق لتخصيص العبادة به.
(8/55)
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "التأويلات النجمية" ؛ أي : أنا خلقتكم وأنا صورتكم ، وأنا الذي أسبغت عليكم إنعامي وخصصتكم بجميع إكرامي وغرقتكم في بحار أفضالي وعرفتكم استحقاق شهود جمالي وجلالي وهديتكم إلى توحيدي وأدعوكم إلى وحدانيتي ، فما لكم لا تنطقون إلي بالكلية وما لكم لا تطلبون مني ولا تطلبونني ، وقد بشرتكم بقولي ألا من طلبني وجدني ومن كان لي كنت له ومن كنت له يكون له ما كان لي.
{لَهُ الْمُلْكُ} على الإطلاق في الدنيا والآخرة ليس لغيره شركة في ذلك بوجه من الوجوه.
وبالفارسية : (مرورا بادشاهى مطلق كه زوال وفنا بدوراه نيابد).
وقال بعض الكبار : له ملك القدرة على تبليغ العباد إلى المقامات العلية والكرامات السنية ، فينبغي للعبد أن لا يقنط ، فإن الله تعالى قادر ليس بعاجز وبالجملة خبر آخر وكذا قوله تعالى : {لا إله إِلا هُوَ} (نيست معبودى بسزا مكرا) وفكما أن لا معبود إلا هو ، فكذا لا مقصود ، بل لا موجود إلا هو ، فهو الوجود المطلق والهوية المطلقة والواحدة الذاتية.
{فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ؛ أي : فكيف ، ومن أي وجه تصرفون وتردون عن ملازمة بابه بالعبودية إلى باب عاجز مثلكم من الخلق ؛ أي : عن عبادته تعالى إلى عبادة الأوثان مع وفور موجباتها ودواعيها وانتفاء الصارف عنها بالكلية إلى عبادة غيره من غير داع إليها من كثرة الصوارف عنها.
قال علي كرم الله وجهه : قيل للنبي عليه السلام : هل عبدت وثناً قط.
قال : لا ، قيل : هل شربت خمراً.
قال : لا وما زلت أعرف أن الذي هم ؛ أي : الكفار عليه من عبادة الأوثان ونحوها ، كفر وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان" ، فأدلة العقل وحدها كافية في الحكم ببطلان عبادة غير الله ، فكيف وقد انضم إليها أدلة الشرع ، فلا بد من الرجوع إلى باب الله تعالى ، فإنه المنعم الحقيقي والعبودية له ؛ لأنه
75
الخالق.
قال أبو سعيد الخراز قدس سره : العبودية ثلاثة : الوفاءعلى الحقيقة ومتابعة الرسول في الشريعة والنصيحة لجماعة الأمة.
واعلم أن العبادة ، هي المقصود من خلق الأشياء كما قال الله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) سواء فسرت العبادة بالمعرفة أم لا إذ لا يتكون المعرفة الحقيقية إلا من طريق العبادة.
وعن معاذ رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الحنة ويباعدني من النار.
قال : "لقد سألت عن عظيم ، وإنه يسير على من يسر الله تعالى تعبد الله لا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ، ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة كما تطفأ النار بالماء ، وصلاة الرجل في جوف الليل".
ثم تلا : {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} (السجدة : 16) الآية.
ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذورة سنامه : الجهاد".
ثم قال : "ألا أخبرك بملاك ذلك كله".
قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه.
وقال : "كف عليك هذا".
قلت : يا نبي الله وإنا المؤاخذون بما نتكلم به فقال : "ثكلتك أمك ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
تراديده درسر نهادند وكوش
دهن جاى كفتار ودل جاى هوش
مكر بازدانى نشيب ازفراز
نكويى كه اين كوته است آن دراز
{إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَا وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَا إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّه مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَه نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِه قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ} .
{إِن تَكْفُرُوا} به تعالى بعد مشاهدة ما ذكر من فنون نعمائه ومعرفة شؤونه العظيمة الموجبة للإيمان والشكر.
والخطاب لأهل مكة كما في "الوسيط".
والظاهر التعميم لكل الناس كما في قوله تعالى : {إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِى الارْضِ جَمِيعًا} (إبراهيم : 8).
{فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ} وعن العالمين ؛ أي : فاعلموا أنه تعالى غني عن إيمانكم وشكركم غير متأثر من انتفائهما ، والغني هو الذي يستغني عن كل شيء لا يحتاج إليه لا في ذاته ولا في صفاته ؛ لأنه الواجب من جميع جهاته.
{وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} ، وإن تعلقت به إرادته تعالى من بعضهم ؛ أي : عدم رضاه بكفر عباده لأجل منفعتهم ودفع مضرتهم رحمة عليهم لا لتضرره به تعالى.
وإنما قيل لعباده لا لكم لتعميم الحكم للمؤمنين والكافرين وتعليله بكونهم عباده.
(8/56)
واعلم أن الرضا ترك السخط ، والله تعالى لا يترك السخط في حق الكافر ، لأنه لسخطه عليه أعدَّ له جهنم ، ولا يلزم منه عدم الإرادة إذ ليس في الإرادة ما في الرضا من نوع استحسان ، فالله تعالى مريد الخير والشر ، ولكن لا يرضى بالكفر والفسوق ، فإن الرضا إنما يتعلق بالحسن من الأفعال دون القبيح ، وعليه أهل السنة ، وكذا أهل الاعتزال.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : والذي لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، وهم الذين ذكرهم في قوله : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) ، فيكون عاماً مخصوصاً كقوله : {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الإنسان : 6) ، يريد بعض العباد ، وعليه بعض الماتريدية حيث قالوا : إن الله يرضى بكفر الكافر ومعصية العاصي ، كما أنه يريدهما صرح بذلك الخصاف في "أحكام القرآن".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
ونقل أن هشام بن عبد الملك إنما قتل غيلان القدري بإشارة علماء الشام بقوله : إن الله لا يرضى ، فلا يكون إلهاً ، وإن قدر فلم يدفع يكون راضياً فأفحم غيلان.
وفي "الأسئلة المقحمة" : فإن قيل : هل يقولون بأن كفر الكافر قد رضيه الله تعالى للكافر.
قلنا : إن الله تعالى خلق كفر الكافر ورضيه له
76
وخلق إيمان المؤمن ، ورضيه له وهو مالك الملك على الإطلاق.
وتكلف بعض أهل الأصول ، فقال : إن الله تعالى لا يرضى بكون الكفر حسناً وديناً ، لأنه تعالى يرضى وجوده ، وهو حسن ، ولا يخلقه ، وهو حسن ، وعلى هذا معنى قوله تعالى : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة : 205).
والأليق بأهل الزمان ، والأبعد عن التشنيع ، والأقرب أن لا يرضى من عباده الكفر مؤمناً كان أو كافراً.
يقول الفقير : إن رضى الله بكفر الكافر ومعصية العاصي اختياره وإرادته له في الأزل ، فلذا لم يتغير حكمه في الأبد لا مدحه وثناؤه وترك السخط عليه فارتفع النزاع ، ومن تعمق في إشارة قوله تعالى : {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُا بِنَاصِيَتِهَآا إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (هود : 56).
انكشف له حقيقة الحال.
{وَإِن تَشْكُرُوا} تؤمنوا به تعالى وتوحدوه يدل عليه ذكره في مقابلة الكفر.
{يَرْضَهُ لَكُمْ} أصله يرضاه على أن الضمير عائد إلى الشكر حذف الألف علامة للجزم ، وهو باختلاس ضمة الهاء عند أهل المدينة وعاصم وحمزة ، وبإسكان الهاء عند أبي عمرو ، وبإشباع ضمة الهاء عند الباقين ، لأنها صارت بخلاف الألف موصولة بمتحرك.
والمعنى : يرضى الشكر والإيمان لأجلكم ومنفعتكم ؛ لأنه سبب لفوزكم بسعادة الدارين لا لانتفاعه تعالى به.
وفي "التأويلات النجمية" : يعني : لا يرضى لكفركم ؛ لأنه موجب للعذاب الشديد ويرضى لشكركم ؛ لأنه موجب لمزيد النعمة ، وذلك لأن رحمته سبقت غضبه يقول : يا مسكين أنا لا أرضى لك أن لا تكون لي يا قليل الوفاء كثير التجني ، فإن أطعتني شكرتك وإن ذكرتني ذكرتك.
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} بيان لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره أصلاً.
والوزر : الحمل الثقيل ووزره ؛ أي : حمله.
والمعنى : ولا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى من الذنب والمعصية (بلكه هريك بردارنده وزر خود بردارد جنانكه كناه كسى دردفتر ديكر نمى نويسند) :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
كه كناه دكران
برتو نخواهند نوشت
{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ} ؛ أي : رجوعكم بالبعث بعد الموت لا إلى غيره.
{فَيُنَبِّئُكُم} عند ذلك.
وبالفارسية : (بس خبر دهد شمارا).
{بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ؛ أي : بما كنتم تعملونه في الدنيا من أعمال الكفر والإيمان ؛ أي : يجازيكم بذلك ثواباً وعقاباً كما قال الكاشفي.
(واخبار از آن بمحاسبه ومجازات باشد).
وفي "تفسير أبي السعود" في غير هذا المحل عبر عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم ، تنبيهاً على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه غافلين عن سوء عاقبته ؛ أي : يظهر لكم على رؤوس الأشهاد ويعلمكم ؛ أي شيء شنيع كنتم تفعلونه في الدنيا على الاستمرار ، ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء.
{إِنَّهُ} تعالى {عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
تعليل للتنبئة ؛ أي : مبالغ في العلم بمضمرات القلوب ، فكيف بالأعمال الظاهرة ، وأصله عليم بمضمرات صاحبة الصدور.
وفي الآية دليل على أن ضرر الكفر والطغيان يعود إلى نفس الكافر ، كما أن نفع الشكر والإيمان يعود إلى نفس الشاكر ، والله غني عن العالمين كما وقع في الكلمات القدسية : "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم" ؛ أي : على تقوى أتقى قلب رجل "ما زاد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً".
وفي آخر الحديث ، فمن وجد خيراً ، فليحمد الله ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومنّ إلا نفسه.
77
(8/57)
واعلم أن الشكر سبب الرضوان ألا ترى إلى قوله تعالى {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} ، ولشرف الشكر أمر أنبياءه ، فقال لموسى فخذ ما آتيتك ، وكن من الشاكرين.
روي : أنه أخذ التوراة ، وهي خمسة ألواح أو تسعة من الياقوت ، وفيها مكتوب يا موسى من لم يصبر على قضائي ، ولم يشكر نعمائي ، فليطلب رباً سواي.
وكان الأنبياء لمعرفتهم لفضل الشكر يبادرون إليه.
روي : أنه عليه السلام لما تورمت قدماه من قيام الليل ؛ أي : انتفختا من الوجع الحاصل من طول القيام في الصلاة.
قالت عائشة ـ ـ رضي الله عنها ـ ـ.
.
أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال عليه السلام : أفلا أكون عبداً شكوراً ؛ أي : مبالغاً في شكر ربي.
وفي ذلك تنبيهه على كمال فضل قيام الليل حيث جعله النبي عليه السلام شكراً لنعمته تعالى ، ولا يخفى أن نعمه عظيمة وشكره أيضاً عظيم ، فإذا جعل النبي عليه السلام قيام الليل شكراً لمثل هذه نعم الجليلة ثبت أنه من أعظم الطاعات ، وأفضل العبادات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي الحديث صلاة في مسجدي هذا أفضل من عشرة آلاف في غيره إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في غيره ، ثم قال : "ألا أدلكم على ما هو أفضل من ذلك" ، قالوا : نعم.
قال : "رجل قام في سواد الليل فأحسن الوضوء وصلى ركعتين يريد بهما وجه الله تعالى".
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كان إذا فاته قيام الليل بعذر قضاه ضحوة ؛ أي : من غير وجوب عليه ، بل على طريق الاحتياط ، فإن الورد الملتزم إذا فات عن محله يلزم أن يتدارك في وقت آخر حتى يتصل الأجر ولا ينقطع الفيض ، فإنه بدوام التوجه يحصل دوام العطاء وشرط عليه السلام إرادة وجه الله تعالى ، فإنه تعالى لا يقبل ما كان لغيره ولذا وعدوا وعداً بقوله : إنه عليم بذات الصدور ، فمن اشتمل صدره على الخلوص تخلص من يد ، ومن اشتمل على الشرك والرياء وجد الله عند عمله فوفاه حسابه :
اكر جز بحق ميرود جاده ات
در آتش فشانند سجاده ات
اكر جانب حق ندارى نكاه
بكويى بروز اجل آه آه
جه وزن آورد جايى ابنان باد
كه ميزان عدلست وديوان داد
مرايى كه جندان عمل مى نمود
بديدند هيجش در انبان نبوت
منه آب روى ريارا محل
كه اين آب در زير دارد وحل
جعلنا الله وإياكم من الصالحين الصادقين والمخلصين في الأقوال والأفعال والأحوال دون الفاسقين الكاذبين المرائين آمين يا كريم العفو كثير النوال.
{إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَا وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَا إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّه مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَه نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِه قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـابِ النَّارِ * أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا يَحْذَرُ الاخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّه قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَا إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ} .
{وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ ضُرٌّ} أصابه ووصل إليه سوء حال من فقر أو مرض أو غيرهما.
وبالفارسية : (وجون آنكاه كه برسيد ايشانرا سختى).
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال الراغب : المس ، يقال : في كل ما ينال الإنسان من أذى والضر يقابل بالسراء والنعماء والضرر وبالنفع {دَعَا رَبَّهُ} في كشف ذلك الضر حال كونه {مُنِيبًا إِلَيْهِ} راجعاً إليه مما كان يدعوه في حالة الإنابة إلى الله ، والرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل والنوب رجوع الشيء مرة بعد أخرى.
وهذا وصف للجنس بحال بعض أفراده كقوله تعالى : {إِنَّ الانسَـانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم : 34) ، وفيه إشارة إلى أن من طبيعة الإنسان أنه إذا مسه ضر
78
خشع وخضع ، وإلى ربه فزع وتملق بين يديه وتضرع.
وفي المثنوي :
بندمى نالد بحق ازدر دونيش
صد شكايت ميكند از رنج خويش
حق همى كويد كه آخر رنج ودرد
مر ترا لابه كان او راست كرد
در حقيقت هر عدد را روى تست
كيميا ونافع دلجوى تست
كه از واندر كريزى درخلا
استعانت جويى از لطف خدا
در حقيقت دوستان دشمن اند
كه زحضرت دور مشغولت كنند
(8/58)
{ثُمَّ إِذَا خَوَّلَه نِعْمَةً مِّنْهُ} ؛ أي : أعطاه نعمة عظيمة من جنابه تعالى ، وأزال عنه ضره وكفاه أمره وأصلح باله ، وأحسن حاله من التخول ، وهو التعهذ ؛ أي : المحافظة والمراعاة ؛ أي : جعله خائل مال من قولهم فلان خائل ماله إذا كان متعهداً له حسن القيام به ، ومن شأن الغني الجواد أن يراعي أحوال الفقراء أو من الخول ، وهو الافتخار ، لأن الغني يكون متكبراً طويل الذيل ؛ أي : جعله يخول ؛ أي : يختال ويفتخر بالنعمة.
{نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ} ؛ أي : نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه.
{مِن قَبْلِ} ؛ أي : من قبل التخويل كقوله تعالى : مر كألم يدعنا إلى ضر مسه أو نسي ربه الذي كان يدعوه ويتضره إليه إما بناء على أن ما بمعنى من كما في قوله تعالى : {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالانثَى} (الليل : 3) ، وإما إيذاناً بأن نسيانه بلغ إلى حيث لا يعرف مدعوه ما هو فضلاً عن أن يعرفه من هو ، فيعود إلى رأس كفرانه وينهمك في كبائر عصيانه ويشرك بمعبوده ويصر على جحوده ، وذلك لكون دعائه المحسوس معلولاً بالضرالممسوس لا ناشئاً عن الشوق إلى الله المأنوس.
وفي المثنوي :
آن ندامت از نتيجه رنج بود
نى زعقل روشن جون كنج بود
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
جونكه شد ربح آن ندامت شد عدم
مى نيرز دخاك آن توبه ندم
ميكند او توبه وبير خرد
بابك لو ردوا لعادوامى زند
وفي "عرائس البقلي" : وصف الله أهل الضعف من اليقين إذا مسه ألم امتحانه دعاه بغير معرفته ، وإذا وصل إليه نعمته احتجب بالنعمة عن المنعم ، فبقي جاهلاً من كلا الطريقين لا يكون صابراً في البلاء ولا شاكراً في النعماء ، وذلك من جهله بربه ولو أدركه بنعت المعرفة وحلاوة المحبة لبذل له نفسه حتى يفعل به ما يشاء.
وقال بعضهم : أقل العبيد علماً ومعرفة أن يكون دعاؤه لربه عند نزول ضر به ، فإن من دعاه بسبب أو لسبب فذلك دعاء معلول مدخول حتى يدعوه رغبة في ذكره وشوقاً إليه.
وقال الحسين : من سني الحق عند العوافي لم يجب الله دعاءه عند المحن والاضطرار ، ولذلك قال النبي عليه السلام لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما : "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
وقال النهر جوري : لا تكون النعمة التي تحمل صاحبها إلى نسيان المنعم نعمة ، بل هي إلى النقم أقرب.
اين كله زان نعمتي كن كنت زند
ازدرما دور مطر ودت كند
شركاء في العبادة ؛ أي : رجع إلى عبادة الأوثان جمع ند ، وهو يقال : لما يشارك في الجوهر فقط كما في "المفردات".
وقال في "بحر العلوم" : هو المثل المخالف ؛ أي : أمثالاً يعتقد أنها قادرة على مخالفة الله ومضادته.
{لِّيُضِلَّ} الناس بذلك يعني : (تاكمراه كندمر دمانرا).
79
{عَن سَبِيلِهِ} الذي هو التوحيد.
والسبيل : من الطرق ما هو معتاد السلوك استعين للتوحيد ، لأنه موصل إلى الله تعالى ورضاه قرى ليضل بفتح الياء ؛ أي : ليزداد ضلالاً ، أو يثبت عليه ، وإلا فأصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور.
واللام : لام العاقبة ، فإن النتيجة قد تكون غرضاً في الفعل ، وقد تكون غير غرض والضلال والإضلال ليسا بغرضين ، بل نتيجة الجعل وعاقبته.
{قُلْ} الأمر الآتي للتهديد كقوله : {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (فصلت : 40) ، فالمعنى : قل يامحمد تهديداً لذلك الضال المضل وبياناً لحاله ومآله.
وفي "التأويلات النجمية" : قل للإنسان الذي هذه طبيعته في السراء والضراء.
{تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا} ؛ أي : تمتعاً قليلاً ، فهو صفة مصدر محذوف ، أو زماناً قليلاً ، فهو صفة زمان محذوف يعني : (ازمتمتعات بهرجه خواهى اشتغال كن در دنيا تاوقت مرك والتمتع برخوردارى كرفتن) ، يعني : الانتفاع.
{إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـابِ النَّارِ} في الآخرة ؛ أي : من ملازميها والمعذبين فيها على الدوام : (ولذتهاى دنيا درجنب شدت عذاب دوزخ بغايت محقراست).
وهو تعليل لقلة التمتع.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفيه من الإقناط من النجاة ما لا يخفى كأنه قيل ، وإذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك أن تؤمر بتركه لتذوق عقوبته.
وفيه إشارة إلى أن من صاحب في الدنيا أهل النار وسلك على إقدام مخالفات المولى وموافقات الهوى طريق الدركات السفلى ، وهو صاحب النار وأهلها ، وإلى أن عمر الدنيا قليل ، فكيف بعمر الإنسان ، وأن التمتع بمشتهيات الدنيا لا يغني عن الإنسان شيئاً ، فلا بد من الانتباه قبل نداء الأجل.
وصلى أبو الدرداء رضي الله عنه في مسجد دمشق ، ثم قال : يا أهل دمشق ألا تستحيون إلى متى تؤمّلون ما لا تبلغون وتجمعون ما لا تأكلون وتبنون ما لا تسكنون إن من كان قبلكم أمّلوا بعيداً وبنوا مشيداً وجمعوا كثيراً ، فأصبح أملهم غروراً وجمعهم بوراً ومساكنهم قبوراً.
(8/59)
وذكر في "الأخبار" : أن رجلاً قال لموسى عليه السلام : ادعو الله أن يرزقني مالاً فدعا ربه ، فأوحى الله إليه يا موسى أقليلاً سألت أم كثيراً.
قال : يا رب ، كثيراً ، قال : فأصبح الرجل أعمى فغدا على موسى ، فتلقاه سبع فقتله ، فقال موسى : يا رب سألتك أن ترزقه كثيراً ، وأكله السبع ، فأوحى الله إليه : يا موسى ، إنك سألت له كثيراً ، وكل ما كان في الدنيا ، فهو قليل ، فأعطيته الكثير في الآخرة ، فطوبى لمن أبغض الدنيا وما فيها وعمل للآخرة والمولى قبل دنو الأجل وظهور الكسل ، جعلنا الله وإياكم من المتيقظين آمين.
{أَمَّنْ} بالتشديد على أن أصله أم من ، والاستفهام بمعنى التقرير ، والمعنى الكافر القاسي الناسي خير حالاً وأحسن مالاً أم من ، وهو عثمان رضي الله عنه على الأشهر ، ويدخل فيه كل من كان على صفة التزكية ، ومن خفف الميم تبع المصحف ، لأن فيه ميماً واحدة ، فالألف للاستفهام دخلت على من ومعناه أم من.
{هُوَ قَـانِتٌ} كمن ليس بقانت.
القنوت : يجيء على معاني : منها : الدعاء فقنوت الوتر دعاؤه ، وأما دعاء القنوت ، فالإضافة فيه بيانية كما في "حواشي أخي جلبي".
ومنها : الطاعة كما في قوله تعالى : {وَالْقَـانِتَـاتِ} (الأحزاب : 35).
ومنها : القيام ، فالمصلي قانت ؛ أي : قائم.
وفي الفروع وطول القيام أولى من كثرة السجود لقوله عليه السلام : "أفضل الصلاة طول القنوت" ؛ أي : القيام كما في "الدرر".
وفي الحديث : "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم".
يعني المصلي الصائم كما في "كشف الأسرار".
والتعقيب : بآناء الليل وبساجداً
80
وقائماً يخصصه ؛ أي : القنوت بالقيام ، فالمعنى : أم من هو قائم.
{أَمَّنْ هُوَ} ؛ أي : في ساعاته واحده أنى بكسر الهمزة وفتحها مع فتح النون ، وهو الساعة وكذا الإنى والإنو بالكسر وسكون النون.
يقال : مضى إنوان وإنيان من الليل ؛ أي : ساعتان.
{سَاجِدًا} : حال من ضمير قانت ؛ أي : حال كونه ساجداً.
{وَقَآاـاِمًا} : تقديم السجود على القيام لكونه أدخل في معنى العبادة.
والواو : للجمع بين الصفتين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والمراد بالسجود والقيام : الصلاة عبر عنها بهما لكونها من أعظم أركانها.
فالمعنى : قانت ؛ أي : قائم طويل القيام في الصلاة كما يشعر به آناء الليل ، لأنه إذا قام في ساعات الليل فقد أطال القيام بخلاف من قام في جزء من الليل.
{يَحْذَرُ الاخِرَةَ} : حال أخرى على الترادف أو التداخل أو استئناف ؛ كأنه قيل : ما باله يفعل القنوت في الصلاة ، فقيل : يحذر عذاب الآخرة لإيمانه بالبعث.
{رَحْمَةَ رَبِّهِ} ؛ أي : المغفرة أو الجنة ، لا أنه يحذر ضرّ الدنيا ويرجو خيرها فقط كالكافر.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى القيام بأداء العبودية ظاهراً أو باطناً من غير فتور ولا تقصير.
{يَحْذَرُ الاخِرَةَ} ونعيمها كما يحذر الدنيا وزينتها.
{رَحْمَةَ رَبِّهِ} لا نعمة ربه.
انتهى.
ودلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء يرجو رحمة ربه لعمله ويحذر عذابه لتقصيره في عمله.
ثم الرجاء إذا جاوز حدّه يكون أمناً ، والخوف إذا جاوز حدّه يكون إياساً ، وكل منهما كفر ، فوجب أن يعتدل كما قال عليه السلام : "لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا".
كرجه دارى طاعتى ازهيبتش ايمن مباش
وركنه دارى زفيض رحمتش دل برمدار
نيك ترسان شوكه قهر اوست بيرون از قياس
باش بس خوش دل كه لطف اوست افزون ازشمار
ثم في الآية تحريض على صلاة الليل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : من أحب أن يهوّن الله عليه الموقف يوم القيامة ، فليره الله في سواد الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ، ويرجو رحمة ربه كما في "تفسير الحدادي".
قال ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه : كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأتيت بوضوئه وحاجته ، فقال : "سل" ، فقالت : أسألك مرافقتك في الجنة ، فقال : "أو غير ذلك" ، فقلت : هو ذلك.
قال : "فأعن نفسك على كثرة السجود" ؛ أي : بكثرة الصلاة.
قال بعض العارفين : إن الله يطلع على قلوب المستيقظين في الأسحار فيملؤها نوراً ، فترد الفوائد على قلوبهم ، فتستنير ثم تنتشر العوافي من قلوبهم إلى قلوب الغافلين.
خروسان در سحر كويد كه قم يا أيها الغافل
سعادت آنكسى داردكه وقت صبح بيدارست
{قُلْ} بياناً للحق وتنبيهاً على شرف العلم والعمل.
{هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} حقائق الأعمال ، فيعملون بموجب علمهم كالقانت المذكور.
{وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ما ذكر ، فيعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم كالكافر.
والاستفهام : للتنبيه على كون الأولين في أعلى معارج الخير وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
(8/60)
وفي "بحر العلوم" : الفعل منزل منزلة اللازم ولم يقدّر له مفعول ، لأن المقدر كالمذكور.
والمعنى : لا يستوي من يوجد فيه حقيقة العلم ومن لا يوجد.
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ} كلام مستقل غير داخل في الكلام المأمور به وارد من جهته تعالى ؛ أي : إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل والوهم.
وهؤلاء
81
بمعزل عن ذلك.
قيل : قضية اللب الاتعاظ بالآيات ، ومن لم يتعظ ، فكأنه لا لب له ومثله مثل البهائم.
وفي "المفردات" : اللب العقل الخالص من الشوائب وسمي بذلك ، لكونه خالص ما في الإنسان من قواه كاللباب من الشيء.
وقيل : هو ما زكا من العقل ، فكل لب عقل ، وليس كل عقل لباً.
ولذا علق الله تعالى الأحكام التي لا تدركها إلا العقول الزكية بأولي الألباب نحو قوله : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الالْبَـابِ} .
ونحو ذلك من الآيات.
انتهى.
وفي "التأويلات النجمية" : {هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} قدر جوار الله وقربته ويختارونه على الجنة ونعيمها.
{وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} قدر جوار الله وقربته ويختارونه على الجنة ونعيمها ، {وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} قدره.
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} حقيقة هذا المعنى {أُوْلُوا الالْبَـابِ} .
وهم الذين انسخلوا من جلد وجودهم بالكلية ، وقد ماتوا عن أنانيتهم وعاشوا بهويته ، انتهى.
وفي الآية بيان لفضل العلم وتحقير للعلماء الغير العاملين فهم عند الله جهلة حيث جعل القانتين هم العلماء.
قال الشيخ السهروردي في عوارف المعارف : أرباب الهمة أهل العلم الذين حكم الله تعالى لهم بالعلم في قوله تعالى : {أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ} إلى قوله : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى} إلخ.
حكم لهؤلاء الذين قاموا بالليل بالعلم فهم لموضع علمهم أزعجوا النفوس عن مقار طبيعتها ورقوها بالنظر إلى اللذات الروحانية إلى ذرى حقيقتها ، فتجافت جنوبهم عن المضاجع وخرجوا من صفة الغافل الهاجع.
انتهى.
وفي الحديث : "يشفع يوم القيامة ثلاث : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : "خير سليمان بن داود عليهما السلام بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم فأعطي المال والملك.
وفي الخبر "إن الله تعالى أرسل جبرائيل إلى آدم عليهما السلام بالعقل والحياء والإيمان ، فخيره بينهن ، فاختار العقل ، فتبعاه.
وفي بعض الروايات أرسل بالعلم والحياء والعقل ، فاستقر العلم في القلب ، والحياء في العين والعقل في الدماغ.
وفي الحديث : "من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار ، فلينظر إلى المتعلمين فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب العلم.
إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة ويمشي على الأرض تستغفر له ، ويستغفر له كل من يمشي على الأرض ويمسي ويصبح مغفور الذنب وشهدت الملائكة هؤلاء عتقاء الله من النار".
وذكر أن شرف العلم فوق شرف النسب ، ولذا قيل : إن عائشة رضي الله عنها أفضل من فاطمة رضي الله عنها ، ولعله المراد بقول الأمالي : ()
وللصدّيقة الرجحان فاعلم
على الزهراء في بعض الخصال
لأن النبي عليه السلام ، قال : "خذوا ثلثي دينكم من عائشة".
وأما أكثر الخصال ، فالرجحان للزهراء على الصدّيقة كما دل عليه قوله عليه السلام : "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد".
وفي الحديث : "طلب العلم فريضة على كل مسلم".
قال في "الإحياء" : اختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم.
فقال المتكلمون : هو علم الكلام إذ به يدرك التوحيد ويعلم ذات الله وصفاته.
وقال الفقهاء : هو علم الفقه إذ به يعرف العبادات والحلال والحرام.
وقال المفسرون والمحدثون : هو علم الكتاب والسنة إذ بهما يتوصل العلوم كلها.
وقال المتصوفة : هو علم التصوّف إذ به يعرف العبد مقامه من الله تعالى.
وحاصله : إن كل فريق نزل الوجوب على العلم الذي هو بصدده قوله : "على كل مسلم" ؛
82
أي : مكلف ذكراً كان أو أنثى.
قال في "شرح الترغيب" مراده علم ما لا يسع الإنسان جهله كالشهادة.
باللسان والإقرار بالقلب واعتقاد أن البعث بعد الموت ونحوه حق وعلم ما يجب عليه من العبادات ، وأمر معايشه كالبيع والشراء ، فكل من اشتغل بأمر شرعيّ يجب طلب علمه عليه مثلاً إذا دخل وقت الصلاة تعين عليه أن يعرف الطهارة وما يتيسر من القرآن ، ثم تعلم الصلاة وإن أدركه رمضان وجب عليه أن ينظر في علم الصيام ، وإن أخذه الحج وجب عليه حينئذ علمه ، وإن كان له مال.
وحال عليه الحول تعين عليه علم زكاة ذلك الصنف من المال لا غير ، وإن باع أو اشترى وجب عليه علم البيوع والمصارفة.
وهكذا سائر الأحكام لا يجب عليه إلا عند ما يتعلق به الخطاب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
(8/61)
فإن قيل : يضيق الوقت على نيل علم ما خوطب به في ذلك الوقت.
قلنا : لسنا نريد عند حلول الوقت المعين ، وإنما نريد بقربه بحيث أن يكون له من الزمان بقدر ما يحصل ذلك العلم المخاطب به وليدخل عقيبه وقت العمل وهذا المذكور هو المراد بعلم الحال ، فعلم الحال بمنزلة الطعام لا بدّ لكل أحد منه وعلم ما يقع في بعض الأحايين بمنزلة الدواء يحتاج إليه في بعض الأوقات.
وقال في "عين العلم" : المراد المكاشفة فيما ورد : "فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي" ، إذ غيره وهو علم المعاملة تبع للعمل لثبوته شرطاً له ، وكذا المراد المعاملة القلبية الواجبة فيما ورد : "طلب العلم فريضة على كل مسلم" ؛ أي : يفترض عليه علم أحوال القلب من التوكل والإنابة والخشية والرضا ، فإنه واقع في جميع الأحوال وكذلك في سائر الأخلاق نحو الجود والبخل والجبن والجراءة والتكبر والتواضع والعفة والشره والإسراف والتقتير وغيرها.
ويمتنع أن يراد غير هذه المعاملات ، أما التوحيد فللحصول ، وأما الصلاة فلجواز أن يتأهلها شخص وقت الضحى بالإسلام ، أو البلوغ ، ومات قبل الظهر ، فلا يفترض عليه طلب علم تلك الصلاة ، فلا يستقيم العموم المستفاد من لفظه كل ، وكذا المراد علم الآخرة مطلقاً ؛ أي : مع قطع النظر عن المعاملة والمكاشفة فيما ورد : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ، لئلا يفضل علماء الزمان على الصحابة ، فمجادلة الكلام والتعمق في فتاوى ندر وقوعها محدث.
وبالجملة علم التوحيد أشرف العلوم لشرف معلومه ، وكل علم نافع ، وإن كان له مدخل في التقرب إلى الله تعالى إلا أن القربة التامة ، إنما هي بالعلم الذي اختاره الصوفية المحققون على ما اعترف به الإمام الغزالي رحمه الله في "منقذ الضلال".
وكان المتورعون من علماء الظاهر يعترفون بفضل أرباب القلوب ويختلفون إلى مجالسهم.
وسأل بعض الفقهاء أبا بكر الشبلي قدس سره اختباراً لعلمه.
وقال كم في خمس من الإبل ، فقال : أما الواجب فشاة وأما عندنا فكلها ، فقال : وما دليلك فيه.
قال أبو بكر رضي الله عنه : حين خرج عن جميع مالهولرسوله ، فمن خرج عن ماله كله فإمامه أبو بكر رضي الله عنه ، ومن ترك بعض فإمامه عمر رضي الله عنه ، ومن أعطىومنعفإمامه عثمان رضي الله عنه ، ومن ترك الدنيا لأهلها ، فإمامه علي رضي الله عنه ، فكل علم لا يدل على ترك الدنيا ، فليس بعلم ، وقد قال عليه السلام : "أعوذ بك من علم لا ينفع" ، وهو العلم الذي يمنع صاحبه عن المنهي ولا يجره إلى المأمور به.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "كشف الأسرار" : (علم سه است علم خبري وعلم الهامي وعلم غيبي.
علم خبرى كشها شنود.
وعلم الهامى دلها شنود.
وعلم غيبي جانها شنود.
علم خبري
83
بروايت است.
علم الهامى بهدايت است.
علم غيبى بعنايت است.
علم خبرى را كفت {فَاعْلَمْ أَنَّه لا إله إِلا اللَّهُ} (محمد : 19) "فقدم العلم لأنه إمام العمل" علم الهامى راكفت {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ} (الإسراء : 107) علم غيبي راكفت {وَعَلَّمْنَـاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} (الكهف : 65) ووراى ابن همه است كه وهم آدمي بدان نرسد وفهم ازان درماند).
وذلك علم الله عز وجل بنفسه على حقيقته.
قال الله تعالى : {وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلْمًا} (الكهف : 110).
قال الشبلي قدس سره : العلم خبر والخبر جحود وحقيقة العلم عندي بعد أقوال المشايخ الاتصاف بصفة الحق من حيث علمه حتى يعرف ما في الحق.
وقال بعض الكبار : المقامات كلها علم والعلم حجاب ؛ أي : ما لم يتصل بالمعلوم ويفنى فيه ، وكذا الاشتغال بالقوانين والعلوم الرسمية حجاب مانع عن الوصول ، وذلك لأن العلم الإلهي الذي يتعلق بالحقائق الإلهية لا يحصل إلا بالتوجه والافتقار التام وتفريغ القلب وتعريته بالكلية عن جميع المتعلقات الكونية بالعلوم والقوانين السمية ، وأما علم الحال فمن مقدمات السلوك فحجبه مانع لا هو نفسه وعينه ، ولا يدعي أحد أن العلم مطلقاً حجاب ، وكيف يكون حجاباً ، وهو سبب الكشف والعيان لا بد من فنائه في وجود العالم وفناء ما يقتضيه من الافتخار والتكبر والازدراء بالغير ونحوها ، ولكون بقائه حجاباً قلما سلك العلماء بالرسوم نسأل الله سبحانه أن يزين ظواهرنا بالشرائع والأحكام وينور بواطننا بأنواع العلوم والإلهام ، ويجعلنا من الذين يعلمون وهم الممدوحون لا من الذين لايعلمون وهم المذمومون آمين ، وهو المعين.
(8/62)
{أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا يَحْذَرُ الاخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّه قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَا إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ * قُلْ يا عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌا وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌا إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ * قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{قُلْ يا عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} ؛ أي : قل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة ، فإن أصله يا عبادي بالياء حذفت اكتفاء بالكسرة.
وفي "كشف الأسرار" : (اين خطاب يا قومي است كه مراد نفس خويش بموافقت حق بدادند ورضاى الله برهواى نفس بركزيدند تاصفت عبوديت ايشان درست كشت ورب العالمين رقم اضافت بر ايشان كشيدكه {عِبَادِ} ومصطفى عليه السلام كفت "من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من عذاب يوم القيامة" ، وأبو يزيد بسطامى قدس سره ميكويد اكر فرادى قيامت مرا كويندكه آرزويى كن آرزوى من آنست بدوزخ انذر آيم واين نفس بر آتش عرض كنم كه دردنيا ازوبسيار بيجيدم ورنج وى كشيدم).
انتهى.
وأيضاً : إن أخص الخواص هم العباد الذين خلصوا من عبودية الغير من الدنيا والآخرة لكونهما مخلوقتين وآمنوا بالله الخالق إيمان الطلب شوقاً ومحبة.
{اتَّقُوا رَبَّكُمْ} ؛ أي : اثبتوا على تقوى ربكم ، لأن الإيمان حصول التقوى عن الكفر والشرك أو اتقوا عذابه وغضبه باكتساب طاعته ، واجتناب معصيته ، أو اتقوا به عما سواه حتى تتخلصوا من نار القطيعة وتفوزوا بوصاله ونعيم جماله.
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا} ؛ أي : عملوا الأعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص ورأسها كلمة الشهادة ، فإنها أحسن الحسنات.
{حَسَنَةٌ} : مبتدأ وخبره للذين.
وفي هذه الدنيا متعلق بأحسنوا.
وفيه إشارة إلى قوله : "الدنيا مزرعة الآخرة" ؛ أي : حسنة ومثوبة عظيمة في الآخرة لا يعرف كنهها ، وهي الجنة والشهود ؛ لأن جزاء الإحسان الإحسان ، والإحسان أن تعبد الله ، كأنك تراه فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك فالمحسن هو المشاهد وبمشاهدة الله يغيب ما سوى الله ،
84
فلا يبقى إلا هو وذلك حقيقة الإخلاص ، وأما غير المحسن ، فعلى خطر لبقائه مع ما سوى الله تعالى ، فلا يأمن من الشرك والرياء القبيح ومن كان عمله قبيحاً لم يكن جزاؤه حسناً.
وفي "التأويلات النجمية" : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} في طلبي {فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا} ، ولا يطلبون من غيري حسنة ؛ أي : أي لهم حسنة وجداني يعني : حسن الوجدان مودع في حسن الطلب : قال الخجندي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
بكوش تابكف آرى كليد كنج وجود
كه بى طلب نتوان يافت كوهر مقصود
توجاكر در سلطان عشق شو جواياز
كه هست عاقبت كار عاشقان محمود
{وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} ، فمن تعسر عليه التوفر على التقوى والإحسان ، وفي وطنه ، فليهاجر إلى حيث يتمكن فيه من ذلك ، كما هو سنة الأنبياء والصالحين ، فإنه لا عذر له في التفريط أصلاً.
وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي ، وقد ورد : "إن من فر بدينه من أرض إلى أرض وجبت له الجنة" ، وإنما قال : بدينه احترازاً عن الفرار بسبب الدنيا ولأجلها خصوصاً إذا كان المهاجر إليه أعصى من المهاجر منه.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى حضرة جلاله أنه لا نهاية لها فلا يغتر طالب بما يفتح عليه من أبواب المشاهدات والمكاشفات ، فيظن أنه قد بلغ المقصد الأعلى والمحل الأقصى ، فإنه لا نهاية لمقامات القرب ، ولا غاية لمراتب الوصول.
وفي المثنوي :
اى برادر بى نهايت دركهيست
هر كجاكه ميرسى بالله مأيست
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ} الذين صبروا على دينهم ، فلم يتركوه للأذى وحافظوا على حدوده ، ولم يفرطوا في مراعاة حقوقه لما اعتراهم في ذلك من فنون الآلام والبلايا التي من جملتها مهاجرة الأهل ومفارقة الأوطان (والتوفية : تمام بدادن).
قال في "المفردات" : توفية الشيء بذله وافياً كاملاً واستيفاؤه تناوله وافياً.
والمعنى : يعطون {أَجْرَهُم} بمقابلة ما كابدوا من الصبر {بِغَيْرِ حِسَابٍ} ؛ أي : بحيث لا يحصى ويحصر.
وفي الحديث : "أنه تنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج ، فيوفون بها أجورهم ولا تنصب لأهل البلاء ، بل يصب عليهم الأجر صباً حتى يتمنى أهل المعافاة في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل".
تو مبين رنجورى غمديدكان
كاندران رنجيده ازبكزيد كان
هراكرا از زخمها غم بيشتر
لطف يارش داده مرهم بيشتر
(8/63)
قال سفيان : لما نزل {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام : 160) قال عليه السلام : "رب زد لأمتي" ، فنزل : {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنابَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنابُلَةٍ مِّا ئَةُ حَبَّةٍ} (البقرة : 261) ، فقال عليه السلام : "رب زد لأمتي" ، فنزل : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسئل النبي عليه السلام ؛ أي : الناس أشد بلاء ، قال : "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه" ، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان في دينه ذا رقة هون عليه ، فما زال كذلك حتى يمشي على الأرض كمن ليس له ذنب.
وقال صلى الله عليه
85
وسلّم "إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله ، أو في ولده ، ثم صبر على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله" ، "وإن أعظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ومن سخط ، فله السخط.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "عرائس البقلي" وصف الله القوم بأربع خصال : بالإيمان والتقوى والإحسان والصبر.
فأما إيمانهم فهو المعرفة بذاته وصفاته من غير استدلال بالحدثان ، بل عرفوا الله بالله ، وأما تقواهم فتجريدهم أنفسهم عن الكون حتى قاموا بلا احتجاب عنه ، وأما إحسانهم فإدراكهم رؤيته تعالى بقلوبهم وأرواحهم بنعت كشف جماله ، وأما صبرهم فاستقامتهم في مواظبة الأحوال وكتمان الكشف الكلي.
وحقيقة الصبر أن لا يدعي الديمومة بعد الاتصاف بها ومعنى {أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} أرض القلوب ووسعها بوسع الحق ، فإذا كان العارف بهذه الأوصاف ، فله أجران : أجر الدنيا وهو المواجيد والواردات الغريبة وأجر الآخرة ، وهو غوصه في بحار الآزال والآباد ، والفناء في الذات والبقاء في الصفات.
قال الحارث المحاسبي : الصبر التهدّف لسهام البلاء.
وقال طاهر المقدسي : الصبر على وجوه صبر منه وصبر له وصبر عليه وصبرفيه أهونه الصبر على أوامر الله ، وهو الذي بين الله ثوابه ، فقال : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ} إلخ.
وقال يوسف بن الحسين : ليس بصابر من يتجرع المصيبة ويبدي فيها الكراهة ، بل الصابر من يتلذذ بصبره حتى يبلغ به إلى مقام الرضا.
{قُلْ} : روي أن كفار قريش قالوا للنبي عليه السلام : ما يحملك على الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة آبائك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى ، فتأخذ بتلك الملّة ، فقال تعالى : قل يا محمد للمشركين : {إِنِّى أُمِرْتُ} من جانبه تعالى : {إِنْ} ؛ أي : بأن.
{أَعْبُدَ اللَّهَ} حال كوني {مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} ؛ أي : العبادة من الشرك والرياء بأن يكون المقصد من العبادة هو المعبود بالحق لا غير كما في قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} (الرعد : 36).
{وَأُمِرْتُ} بذلك.
{لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} من هذه الأمة ؛ أي : لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة ؛ لأن السبق في الدين إنما هو بالإخلاص فيه ، فمن أخلص عدّ سابقاً ، فإذا كان الرسول عليه السلام متصفاً بالإخلاص قبل إخلاص أمته فقد سبقهم في الدارين إذ لا يدرك المسبوق مرتبة السابق ألا ترى إلى الأصحاب مع من جاء بعدهم والظاهر أن اللام مزيدة ، فيكون كقوله تعالى : {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} (الأنعام : 14) ، فالمعنى : وأمرت أن أكون أول من أسلم من أهل زماني ؛ لأن كل نبي يتقدم أهل زمانه في الإسلام والدعاء إلى خلاف دين الآباء ، وإن كان قبله مسلمون.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال بعضهم : الإخلاص أن يكون جميع الحركات في السر والعلانيةتعالى وحده لا يمازجه شيء.
وقال الجنيد قدس سره : أمر جميع الخلق بالعبادة وأمر النبي عليه السلام بالإخلاص فيها إشارة إلى أن أحداً لا يطيق تمام مقام الإخلاص سواه.
{وَأُمِرْتُ لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّه دِينِى * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِه قُلْ إِنَّ الْخَـاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِا أَلا ذَالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ} .
{قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى} بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك.
{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ؛ أي : أخاف من عذاب يوم القيامة ، وهو يوم عظيم لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال بحسب عظم المعصية وسوء الحال.
وفيه زجر عن المعصية بطريق المبالغة ؛ لأنه عليه السلام مع جلالة قدره إذا
86
خاف على تقدير العصيان فغيره من الأمة أولى بذلك.
(8/64)
ودلت الآية على أن المترتب على المعصية ليس حصول العقاب ، بل الخوف من العقاب ، فيجوز العفو عن الصغائر والكبائر.
قال الصائب :
محيط از جهره سيلاب كرده راه ميشويد
جه اند يشد كسى باعفو حق از كرد زلتها
{قُلِ اللَّهَ} نصب بقوله : {أَعْبُدَ} على ما أمرت لا غيره لا استقلالاً ولا اشتراكاً.
{مُخْلِصًا لَّه دِينِى} من كل شوب ، وهو بالإضافة ؛ لأن قوله : أعبد إخبار عن المتكلم بخلاف ما في قوله مخلصاً له الدين ؛ لأن الإخبار فيه أمرت وما بعده صلته ومفعوله ، فظهر الفرقان كما في "برهان القرآن".
وقال الكاشفي : (باك كننده براى أوكيش خودرا از شرك يا خالص سازنده عمل خودرا ازريا).
وفي "التأويلات النجمية" : قل الله أعبد لا الدنيا ولا العقبى وأطلب بعبادتي المولى مخلصاً له ديني : ()
وكل له سؤل ودين ومذهب
فلي أنتمو سؤلي وديني هوا كمو
زبشت آينه روى مراد نتوان ديد
تراكه روى بخلق است ازخداجه خبر
{فَاعْبُدُوا} ؛ أي : قد امتثلت ما أمرت به ، فاعبدوا يا معشر الكفار {مَا شِئْتُم} أن تعبدوه {مِن دُونِهِ} تعالى.
والأمر للتحديد كما في قوله تعالى : {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (فصلت : 40).
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال في "الإرشاد" : وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى كأنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه أمروا به كي يحل بهم العقاب ، ولما قال المشركون خسرت يا محمد حيث خالفت دين آبائك.
قال تعالى : {قُلْ إِنَّ الْخَـاسِرِينَ} ؛ أي : الكاملين في الخسران الذي هو عبارة عن إضاعة ما يهمه وإتلاف ما لا بد منه.
وفي "المفردات" : الخسران انتقاص رأس المال يستعمل في المال والجاه والصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب ، وهو الذي جعل الله الخسران المبين ، وهو بالفارسية : (زيان : والخاسر زيانكار بكو بدرستى كه زيانكاران).
{الَّذِينَ} .
(آنانندكه) ، فالجملة من الموصول والصلة خبر إن.
{خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} بالضلال واختيار الكفر لها ؛ أي : أضاعوها وأتلفوها إتلاف البضاعة ، فقوله : أنفسهم مفعول خسروا.
وقال الكاشفي : (زيان كردند در نفسهاى خودكه كمراه كشتند).
{وَأَهْلِيهِمْ} بالضلال واختيار الكفر لهم أيضاً أصله أهلين جمع أهل وأهل الرجل عشيرته وذو قرابته كما في "القاموس" ويفسر بالأزواج والأولاد وبالعبيد والإماء وبالأقارب وبالأصحاب وبالمجموع كما في "شرح المشارق" لابن الملك.
{يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} حين يدخلون النار بدل الجنة حيث عرضوهما للعذاب السرمدي وأوقعوهما في هلكة لا هلكة وراءها.
{أَلا ذَالِكَ} الخسران.
{هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} حيث استبدلوا بالجنة ناراً وبالدرجات دركات كما في "كشف الأسرار".
وقال الكاشفي : (بدانيد وآكاه باشيدكه آنست آن زيان هويدا كه برهيجكس ازهل موقف بوشيده نماند).
وفي "التأويلات النجمية" : الخاسر في الحقيقة من خسر دنياه بمتابعة الهوى وخسر عقباه بارتكاب ما نهى عنه وخسر مولاه بتولي غيره ، ثم شرح خسرانهم بنوع بيان ، فقال :
{لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ} لهم خبر الظلل والضمير للخاسرين ومن فوقهم حال من ظلل ، والظلل جمع ظلة كغرف جمع غرفة وهي سحابة تظل وشيء كهيئة الصفة.
بالفارسية : (سايبان).
وفي "كشف الأسرار" : ما أظلك من فوقك.
والمعنى : للخاسرين ظل من النار كثيرة متراكبة بعضها فوق بعض حال كون تلك الظل من فوقهم.
والمراد : طباق وسرادقات من النار ودخانها وسمي النار ظلة لغلظها وكثافتها ،
87
ولأنها تمنع من النظر إلى ما فوقهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفيه إشعار بشدة حالهم في النار وتهكم بهم ؛ لأن الظلة إنما هي للاستظلال والتبرد خصوصاً في الأراضي الحارة كأرض الحجاز ، فإذا كانت من النار نفسها كانت أحرّ ومن تحتها أغمّ.
{وَمِن تَحْتِهِمْ} أيضاً.
{ظُلَلٌ} .
والمراد : إحاطة النار بهم من جميع جوانبهم كما قال تعالى : {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (الكهف : 29) ؛ أي : فسطاطها ، وهو الخيمة شبه به ما يحيط بهم من النار كما سبق في الكهف ، ونظير الآية قوله تعالى : {يَوْمَ يَغْشَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (العنكبوت : 55).
وقوله : {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} (الأعراف : 41).
وقال بعضهم : ومن تحتهم ظلل ؛ أي : طباق من النار ودركات كثيرة بعضها تحت بعض هي ظلل للآخرين ، بل لهم أيضاً عند تردّيهم في دركاتها كما قال السدي هي لمن تحتهم ظلل.
وهكذا حتى ينتهي إلى القعر والدرك الأسفل الذي هو للمنافقين فالظلل لمن تحتهم ، وهي فرش لهم ، وكما قال في "الأسئلة المقحمة" كيف سمى ما هو الأسفل ظللاً ، والظلال ما يكون فوقاً ، والجواب : لأنها تظلل من تحتها ، فأضاف السبب إلى حكمه.
{ذَالِكَ} العذاب الفظيع هو الذي {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِه عِبَادَهُ} في القرآن ليؤمنوا ويحذرهم إياه بآيات الوعيد ليجتنبوا ما يوقعهم فيه.
(8/65)
وفي "الوسيط" يخوف الله به عباده المؤمنين يعني أن ما ذكر من العذاب معد للكفار ، وهو تخويف للمؤمنين ليخافوه فيتقوه بالطاعة والتوحيد.
يا عِبَادِ} .
(اي بندكان من).
وأصله : يا عبادي بالياء.
{فَاتَّقُونِ} ، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي.
وهذه عظة من الله تعالى بالغة منطوية على غاية اللطف والرحمة.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى خلق جهنم سوطاً يسوق به عباده إلى الجنة إذ ليس تحت الوجود إلا ما هو مشتمل للحكمة والمصلحة ، فمن خاف بتخويف الله إياه من هذا الخسران ، فهو عبده عبداً حقيقياً ، ومستأهل لشرف الإضافة إليه.
وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره : أن الخلق يفرون من الحساب ، وأنا أقبل عليه ، فإن الله تعالى : لو قال لي أثناء الحساب عبدي لكفاني ، فعلى العاقل تحصيل العبودية وتكميلها كي يليق يخطاب الله تعالى ، ويكون من أهل الحرمة عند الله تعالى ألا ترى أن من خدم ملكاً من الملوك يستحق الكرامة ، ويصير محترماً عنده ، وهو مخلوق ، فكيف خدمة الخالق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
نقل في آخر "فتاوى الظهيرية" : أن الإمام الأعظم أبا حنيفة رحمه الله لما حج الحجة الأخيرة.
قال في نفسه لعلي لا أقدر أن أحجّ مرة أخرى فسأل حجاب البيت أن يفتحوا له باب الكعبة ، ويأذنوا له في الدخول ليلاً ، ليقوم ، فقالوا : إن هذا لم يكن لأحد قبلك ولكنا نفعل ذلك لسبقك وتقدمك في علمك واقتداء الناس كلهم بك ، ففتحوا له الباب ، فدخل فقام بين العمودين على رجل اليمنى حتى قرأ القرآن إلى النصف وركع وسجد ثم قام على رجل اليسرى وقد وضع قدمه اليمنى على ظهر رجله اليسرى حتى ختم القرآن ، فلما سلم بكى وناجى وقال : إلهي ما عبدك هذا العبد الضعيف حق عبادتك ، ولكن عرفك حق معرفتك ، فهب نقصان خدمته لكمال معرفته ، فهتف هاتف من جانب البيت يا أبا حنيفة ، قد عرفت وأخلصت المعرفة ، وخدمت فأحسنت الخدمة ، فقد غفرنا لك ، ولمن اتبعك وكان على مذهبك إلى قيام الساعة.
ثم إن مثل هذه العبودية ناشئة عن التقوى والخوف من الله تعالى ومطالعة هيبته وجلاله ، وكان عليه السلام يصلي وبصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
والأزيز : الغليان.
وقيل : صوته والمرجل
88
قدر من نحاس.
كذا نقل مثل ذلك عن إبراهيم عليه السلام ، فحرارة هذا الخوف إذا أحاطب بظاهر الجسم ، وباطنه سلم الإنسان من الاحتراق ، وإذا مضى الوقت تعذر تدارك الحال ، فليحافظ على زمان الفرصة :
وحشى فرصت جوتير از جشم بيرون جسته است
تاتوزه مى سازى اى غافل كمان خويش را
{لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌا ذَالِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِه عِبَادَه يا عِبَادِ فَاتَّقُونِ * وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّـاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ا أولئك الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّه وَأُولَئكَ هُمْ أُوْلُوا الالْبَـابِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ} .
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّـاغُوتَ} .
(الاجتناب : بايك سو شدن).
يقال : اجتنبه بعد عنه.
والطاغوت : البالغ أقصى غاية الظغيان ، وهو تجاوز الحدّ في العصيان ، فلعوت من الطغيان بتقديم اللام على العين ، لأن أصله طغيوت بني للمبالغة كالرحموت والعظموت.
ثم وصف به للمبالغة في النعت كأن عين الشيطان طغيان ؛ لأن المراد به هو الشيطان وتاؤه زائدة دون التأنيث كما قال في "كشف الأسرار" : التاء ليست بأصلية ، هي في الطاغوت كهي في الملكوت والجبروت واللاهوت والناسوت والرحموت والرهبوت.
ويذكر ؛ أي : الطاغوت ويؤنث كما في "الكواشي" ، ويستعمل في الواحد والجمع كما في "المفردات" و"القاموس" قال الراغب : وهو عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "القاموس" : الطاغوت اللات والعزى والكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله ومرده أهل الكتاب.
وقال في "كشف الأسرار" : كل من عبد شيئاً غير الله ، فهو طاغغٍ ومعبوده : طاغوت.
وفي "التأويلات النجمية" : طاغوت كل أحد نفسه وإنما يجتنب الطاغوت من خالف هواه وعانق رضا مولاه ورجع إليه بالخروج عما سواه رجوعاً بالكلية.
وقال سهل : الطاغوت : الدنيا وأصلها الجهل وفرعها المآكل والمشارب وزينتها التفاخر وثمرتها المعاصي وميراثها القسوة والعقوبة : والمعنى بالفارسية : (و آنانكه بيكسو رفتند ازشيطان يابتان يا كهنه يعني از هرجه بدون خداى تعالى برستند ايشان بر طرف شدند).
{أَن يَعْبُدُوهَا} بدل اشتمال منه ، فإن عبادة غير الله عبادة للشيطان إذ هو الآمر بها والمزين لها.
قال في "بحر العلوم" : وفيها إشارة إلى أن المراد بالطاغوت ها هنا الجمع.
{وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} وأقبلوا عليه معرضين عما سواه إقبالاً كلياً.(8/66)
قال في "البحر" : واعلم أن المراد باجتناب الطاغوت الكفر بها وبالإنابة إلى الله الإيمان بالله كما قال تعالى : {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّـاغُوتِ وَيُؤْمِنا بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (البقرة : 256).
وقدم اجتناب الطاغوت على الإنابة إلى الله كما قدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله على وفق كلمة التوحيد لا اله إلا الله حيث قدم نفي وجود الإلهية على إثبات الألوهيةتعالى.
{لَهُمُ الْبُشْرَى} بالثواب والرضوان الأكبر على ألسنة الرسل بالوحي في الدنيا ، أو الملائكة عند حضور الموت وحين يحشرون ، وبعد ذلك.
وقال بعض الكبار : لهم البشرى بأنهم من أهل الهداية والفضل من الله ، وهي الكرامة الكبرى.
{فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه} .
فيه تصريح بكون التبشير من لسان الرسول عليه السلام ، وهو تبشير في الدنيا.
وأما تبشيرالملك فتبشير في الآخرة ، كما قال تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاخِرَةِ} (يونس : 64).
وبالجملة تبشير الآخرة مرتب على تبشير الدنيا ، فمن استأهل الثاني استأهل الأول.
والأصل : عبادي بالباء فحذفت.
قيل : إن الآية نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير حين سألوا
89
أبا بكر رضي الله عنه ، فأخبرهم بإيمانه فآمنوا.
حكاه المهدوي في "التكملة" ، فيكون المعنى : يستمعون القول من أبي بكر ، فيتبعون أحسنه ، وهو قول لا إله إلا الله ، كما في "كشف الأسرار".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وقال في "الإرشاد" ونحوه ؛ أي : فبشر ، فوضع الظاهر موضع ضميرهم تشريفاً لهم بالإضافة ودلالة على أن مدار اتصافهم بالاجتناب والإنابة كونهم نقاداً في الدين يميزون الحق من الباطل ، ويؤثرون الأفضل فالأفضل.
انتهى.
وهذا مبني على إطلاق القول وتعميمه جرياً على الأصل.
يقول الفقير : ويحتمل أن يكون المعنى : يستمعون القول مطلقاً قرآناً كان ، أو غيره ، فيتبعون أحسنه بالإيمان والعمل الصالح ، وهو القرآن ؛ لأنه تعالى قال في حقه : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (الزمر : 23).
كما سيأتي في هذه السورة.
وقال الراغب في "المفردات" : فيتبعون أحسنه ؛ أي : الأبعد من الشبهة : (ودر بحر الحقائق فرموده كه قول اعم است ازسخن خدا وملك وانسان وشيطان ونفس.
اما انسان حق وباطل ونيك وبد كويد.
وشيطان بمعاصى خواند.
ونفس بآرزوها ترغيب كند.
وملك بطاعت نمايد.
وحضرت عزت بخود خواند كما قال : {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} (المزمل : 8) بس بندكان خالص آنانندكه احسن خطاب راكه خطاب رب الأرباب لست اززبان حضرت رسول استماع نموده اند بيروى كنند).
وأيضاً : إن الألف واللام في القول للعموم ، فيقتضي أن لهم حسن الاستماع في كل قول من القرآن وغيره ولهم أن يتبعوا أحسن معنى يحتمل كل قول اتباع درايته والعمل به ، وأحسن كل قول ما كان من الله ، أو يهدي إلى الله ، وعلى هذا يكون استماع قول القوّال من هذا القبيل كما في "التأويلات النجمية".
وقال الكلبي : يجلس الرجل مع القوم فيستمع الأحاديث محاسن ومساوىء فيتبع أحسنها ، فيأخذ المحاسن ويحدث بها ويدع مساوئها : (ودر لباب كفته كه مراد ازقول سخنانست كه در مجالس ومحافل كذرد وأهل متابعت احسن آن اقوال اختيار ميكنند در ايشان ودر امثال آمده).
خذ ما صفا دع ما كدر
قول كس جون بشنوى دورى تأمل كن تمام
صاف را بردار ودردى را رها كن والسلام
(وكفته اند استماع قول واتباع احسن آن عمومي دارد ومرد ازقول قرآنست واحسن ، أو محكم باشد دون منسوخ وعزيمت دون رخصت.
وكفته أند كه در قرآن مقابح اعدا وممادح أوليا ست ايشان متابعت أحسن مينما يند كه مثلا طريقه موسى است عليه السلام دون سيرت فرعون).
وعلى هذا.
وفي "كشف الأسرار" : مثال هذا الأحسن في الدين أن ولي القتيل إذا طالب بالدم ، فهو حسن وإذا عفا ورضي بالدية ، فهو أحسن.
ومن جزى بالسيئة السيئة مثلها ، فهو حسن وإن عفا وغفر ، فهو أحسن.
وإن وزن أو كال ، فهو حسن وإن أرجح ، فهو أحسن.
وإن اتزن وعدل ، فهو حسن وإن طفف على نفسه ، فهو أحسن.
وإن رد السلام فقال : وعليكم السلام ، فهو حسن ، وإن قال : وعليكم السلام ورحمة الله ، فهو أحسن.
وإن حج راكباً ، فهو حسن ، وإن فعله راجلاً ، فهو أحسن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وإن غسل أعضاءه في الوضوء مرة مرة ، فهو حسن ، وإن غسلها ثلاثاً ثلاثاً ، فهو أحسن.
وإن جزي من ظلمه بمثل مظلمته ، فهو حسن وإن جازاه بحسنة ، فهو أحسن.
وإن سجد ، أو رجع ساكتاً ، فهو جائز ، والجائز حسن ، وإن فعلهما مسبحاً ، فهو أحسن.
ونظير هذه
90
الآية قوله عز وجلّ لموسى عليه السلام : {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} (الأعراف : 145).
وقوله : {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} .
انتهى ما في "الكشف".
(8/67)
وهذا معنى ما قال بعضهم : يستمعون قول الله ، فيتبعون أحسنه ويعملون بأفضله ، وهو ما في القرآن من عفو وصفح واحتمال على أذى ، ونحو ذلك فالقرآن كله حسن ، وإنما الأحسن بالنسبة إلى الآخذ والعامل.
قال الإمام السيوطي رحمه الله في "الاتقان" : اختلف الناس هل في القرآن شيء أفضل من شيء ، فذهب الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله وبعض الأئمة الأعلام إلى المنع ؛ لأن الجميع كلام الله ، ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه.
وذهب آخرون من المحققين ، وهو الحق كلام الله في الله أفضل من كلامه في غيره ، فقل هو الله أحد أفضل من تبت يدا أبي لهب ؛ لأن فيه فضيلة الذكر ، وهو كلام الله وفضيلة المذكور ، وهو اسم ذاته وتوحيده وصفاته الإيجابية والسلبية.
وسورة {تُبْتُ} فيها فضيلة الذكر فقط ، وهو كلام الله تعالى.
والأخبار الواردة في فضائل القرآن وتخصيص بعض السور والآيات بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى.
قال الإمام الغزالي رحمه الله في "جوهر القرآن" : كيف يكون بعض الآيات والسور أشرف من بعض مع أن الكل كلام الله ، فاعلم نوّرك الله بنور البصيرة وقلد صاحب الرسالة عليه السلام ، فهو الذي أنزل عليه القرآن.
وقال : "يس قلب القرآن" ، وفاتحة الكتاب سور القرآن ، وآية الكرسي سيدة القرآن ، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن".
ومن توقف في تعديل الآيات أول قوله عليه السلام أفضل سورة وأعظم سورة أراد في الأجر والثواب ، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض ، فالكل في فضل الكلام واحد ، والتفاوت في الأجر لا في كلام الله من حيث هو كلام الله القديم القائم بذاته.
واعلم أن استماع القول عند العارفين يجري في كل الأشياء ، فالحق تعالى يتكلم بكل لسان من العرش إلى الثرى ، ولا يتحقق بحقيقة سماعه إلا أهل الحقيقة وعلامة سماعهم انقيادهم إلى كل عمل مقرب إلى الله من جهة التكليف المتوجه على الإذن من أمر أو نهي كسماعه للعلم ، والذكر والثناء على الحق تعالى ، والموعظة الحسنة والقول والتصامم عن سماع الغيبة والبهتان والسوء من القول والخوض في آيات الله والرفث والجدال ، وسماع القيان ، وكل محرم حجر الشارع عليه سماعه ، فإذا كان كذلك كان مفتوح الأذن إلى الله تعالى ، وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
بنيه آن كوش سر كوش سراست
تانكردد اين كران باطن كراست
وللفقير :
بنيه بيرون آر از كوش دلت
ميرسد تا صوت از هر بلبلت
{أولئك} المنعوتون بالمحاسن الجميلة ، وهو مبتدأ خبره قوله : {الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّهُ} للدين الحق والاتصاف بمحاسنه.
{وَأُولَئكَ هُمْ أُوْلُوا الالْبَـابِ} أصحاب العقول السليمة من معارضة الوهم ومنازعة الهوى المستحقون للهداية لا غيرهم.
وفي الكلام دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله تعالى وقبول النفس لها ، يعني أن لكسب العبد مدخلاً فيها بحسب جري العادة.
وفيه إشارة إلى أن أولئك القوم هم الذين عبروا عن قشور الأشياء ، ووصلوا إلى الباب حقائقها.
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ} .
بيان لأحوال عبدة الطاغوت
91
بعد بيان أحوال المجتنبين عنها.
والهمزة للاستفهام الإنكاري ، والفاء للعطف على محذوف دل عليه الكلام ، ومن شرطية والمفهوم من "كشف الأسرار" و"تفسير الكاشفي" كونها موصولة وحق بمعنى وجب وثبت ، وكلمة العذاب قوله تعالى لإبليس : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 85).
وكررت الهمزة في الجزاء لتأكيد الإنكار.
والفاء فيه فاء الجزاء.
ثم وضع موضع الضمير من في النار لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد والتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار ، وأن اجتهاده عليه السلام في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار ؛ أي : تخليصهم ، فإن الأنقاذ التخليص من ورطة كما في "المفردات".
والمعنى : أنت يا محمد مالك أمر الناس ، فمن حق ؛ أي : وجب وثبت عليه من الكفار عدلاً في علم الله تعالى كلمة العذاب ، فأنت تنقذه فالآية جملة واحدة من شرط وجزاء.
وبالفارسية : (آيا هركسى يا آنكسى كه واجب شد برو كلمة وعيد آيا توا اي محمد مى رهانى آنرا كه در دوزخ باشد يعنى ميتوانى كه أورا مؤمن سازى واز عذاب باز رهانى يعنى اين كار بدست تو نيست كه دوز خيانرا بازر هانى همجو ابو لهب وبسرش عقبه وغير آن).
وفيه إشارة إلى أن من حق عليه في القسمة الأولى أن يكون مظهراً لصفات قهره إلى الأبد لا ينفعه شفاعة الشافعين ، ولا يخرجه من جهنم سخط الله وطرده وبعده جميع الأنبياء والمرسلين ، وإنما الشفاعة للمؤمنين بدليل قوله تعالى : {وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} (الأعراف : 103).
وحيث كان المراد بمن في النار الذين قيل في حقهم : {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} استدرك بقوله تعالى :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68(8/68)
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ * لَـاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُا وَعْدَ اللَّه لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَه يَنَـابِيعَ} .
{لَـاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوا رَبَّهُمْ} .
(ليكن آنانكه بترسيدند از عذاب بروردكار خويش وبإيمان وطاعت متصف شدند).
وفي "التأويلات النجمية" : {لَـاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوا رَبَّهُمْ} اليوم عن الشرك والمعاصي والزلات والشهوات وعبادة الهوى والركون إلى غير المولى فقد أنقذهم الله تعالى في القسمة الأولى من أن يحق عليهم كلمة العذاب وحق عليهم أن يكونوا مظهر صفات لطفه إلى الأبد.
{لَهُمْ غُرَفٌ} .
(منزلهاى بلندتر دربهشت) ؛ أي : بحسب مقاماتهم في التقوى جمع غرفة ، وهي علية من البناء وسمى منازل الجنة غرفاً كما في "المفردات".
{مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} ؛ أي : لهم علالي بعضها فوق بعض بين أن لهم درجات عالية في جنات النعيم بمقابلة ما للكفرة من دركات سافلة في الجحيم.
{مَّبْنِيَّةٌ} .
تلك الغرف الموصوفة بناء المنازل على الأرض في الرصانة والإحكام.
قال سعدي المفتي : الظاهر أن فائدة هذا الوصف تحقيق الحقيقة وبيان كون الغرف كالظلل حيث أريد بها المعنى المجازي على الاستعارة التهكمية.
وفي "بحر العلوم" مبنية بنيت من زبرجد وياقوت ودرّ وغير ذلك من الجوهر.
وفي "كشف الأسرار" مبنية ، يعني : (يخشت زرين وسيمين بر آورده).
وفيه إشارة بأنها مبنية بأيدي أعمال العاملين وأحوال السالكين.
{تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} ؛ أي : من تحت تلك الغرف المنخفضة والمرتفعة.
{الانْهَـارُ} الأربعة من غير تفاوت بين العلو والسفل.
{وَعْدَ اللَّهِ} مصدر مؤكد ؛ لأن قوله لهم : غرف في معنى الوعد ؛ أي : وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعداً {لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} ؛ لأن الخلف نقص ، وهو على الله محال.
(والإخلاف : وعده خلاف دادن).
والميعاد بمعنى الوعد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "التأويلات النجمية" : وعد الله الذي وعد التائبين بالمغفرة والمطيعين بالجنة
92
والمشتاقين بالرؤية والعابثين الصادقين بالقربة ، والوصلة لا يخلف الله الميعاد.
يعني : إذا لم يقع لهم فترة فلا محالة يصدق وعده ، وإذا وقع لهم ذلك ، فلا يلومن إلا أنفسهم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال : "إن أهل الجنة ليتراأون أهل الغرف من فوقهم".
المراد : من أهلها أصحاب المنازل الرفيعة وتراءى القوم الهلال رأوه بأجمعهم ومنه الحديث : "كما يتراأون الكوكب الدرّي الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب".
الغابر الباقي يعني : يرى التباعد بين أهل الغرف وسائر أصحاب الجنة كالتباعد المرئي بين الكوكب ومن في الأرض ، وأنهم يضيئون لأهل الجنة إضاءة الكوكب الدري : "لتفاضل ما بينهم".
يعني يرى أهل الغرف كذلك لتزايد درجاتهم على من سواهم.
قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم.
قال : "بلى والذي نفسي بيده رجال" يعني : يبلغها رجال ، وإنما قرن القسم ببلوغ غيرهم لما في وصول المؤمنين لمنازل الأنبياء من استبعاد السامعين : "آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
وفيه بشارة وإشارة إلى أن الداخلين مداخل الأنبياء من مؤمني هذه الأمة ، لأنه قال : وصدقوا المرسلين وتصديق جميع الرسل إنما صدر منهم لا ممن قبلهم من الأمم.
وفي الحديث : "من يدخل الجنة ينعم ولا ييأس لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه" ، قوله : ينعم بفتح الياء والعين ؛ أي : يصيب نعمة وقولة : ولا ييأس بفتح الهمزة ؛ أي : لا يفتقر.
وفي بعض النسخ بضمها ؛ أي : لا يرى شدة قوله : لا تبلى بفتح حرف المضارعة واللام.
(8/69)
{أَلَمْ تَرَ} .
(آيا نمى بينى يا محمد) ، أو يا أيها الناظر.
{أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ} من تحت العرش {مَآءً} هو المطر.
روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال : "المياه العذبة والرياح اللواقح من تحت صخرة بيت المقدس" ، يعني : كل ماء في الأرض نهراً ، أو غيره ، فهو من السماء ينزل منها إلى الغيم ، ثم منه إلى الصخرة يقسمه الله بين البقاع ، {فَسَلَكَهُ} .
يقال : سلك المكان وسلك غيره فيه ، وأسلكه : أدخله فيه ؛ أي : فأدخل ذلك الماء ونظمه.
{يَنَـابِيعَ فِى الأرْضِ} ؛ أي : عيوناً ومجاري كالعروق في الأجساد فقوله : {يَنَـابِيعَ} نصب بنزع الخافض.
وقد ذكر الخافض في قوله : {اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} (القصص : 32).
وقوله : {فِى الأرْضِ} بيان لمكان الينابيع كقولك لصاحبك : أدخل الماء في جدول المبطخة في البستان ، وفيه أن ماء العين هو المطر يحبسه في الأرض ، ثم يخرجه شيئاً فشيئاً ، فالينابيع جمع ينبوع ، وهو يفعول من نبع الماء ينبع مثلثة ونبوعاً خرج من العين.
والينبوع : العين التي يخرج منها الماء.
والينابيع : الأمكنة التي ينبع ويخرج منها الماء.
{ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ} .
(بس بيرون مى آرد بدان آب) ، {زَرْعًا} هو في الأصل مصدر بمعنى الإنبات عبر به عن المزروع ؛ أي : مزروعاً.
{مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أصنافه إضافة من بر وشعير وغيرهما ، وكيفاته من الألوان والطعوم وغيرهما.
وكلمة ثم للتراخي في الرتبة أو الزمان ، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال في "المفردات" : اللون معروف وينطوي على الأبيض والأسود وما يركب منهما.
ويقال : تلوّن إذا اكتسى لوناً غير اللون الذي كان له ويعبر بالألوان عن الأجناس والأنواع.
يقال : فلان أتى بألوان من الأحاديث ، وتناول كذا لوناً من الطعام.
انتهى.
{ثُمَّ يَهِيجُ} ؛ أي : يتم جفافه حين حان له أن يثور عن منبته يقال : هاج يهيج هيجاً وهيجاناً وهياجاً بالكسر : ثار وهاج النبت
93
يبس ، كما في القاموس.
وبالفارسية : (بس خشك ميشود آن مزروع).
{فَتَرَاـاهُ مُصْفَرًّا} من يبسه بعد خضرته ونضرته.
وبالفارسية : (بس مى بينى آنرا زرد شده بعد ازتازه كى وسبزى).
قال الراغب : الصفرة لون من الألوان التي بين السواد والبياض ، وهي إلى البياض أقرب ، ولذلك قد يعبر بها عن السواد.
{ثُمَّ يَجْعَلُهُ} ؛ أي : الله تعالى {حُطَـامًا} ، فتاتاً متكسراً كأن لم يغن بالأمس.
وبالفارسية : (ريزه ريزه ودرهم شكسته) يقال : تحطم العود إذا تفتت من اليبس ولكون هذه الحالة من الآثار القوية علقت بجعل الله تعالى كالإخراج.
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} المذكور مفصلاً.
{لَذِكْرَى} لتذكيراً عظيماً.
(والتذكير : ياد دادن).
{لاوْلِى الالْبَـابِ} : أصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل وتنبيهاً لهم على حقيقة الحال يتذكرون بذلك أن حال الحياة الدنيا في سرعة التقضي والانصرام كما يشاهدونه من حال الحطام كل عام فلا يغترون ببهجتها ولا يفتنون بفتنها :
بود حال دنيا جو آن سبزه زار
كه بس تازه بينى بفصل بهار
جو بروى وزد تند باد خزان
يكى برك سبزى نيابى ازان
قال في "كشف الأسرار" : الإشارة في هذه الآية إلى أن الإنسان يكون طفلاً ، ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ، ثم يصير إلى أرذل العمر ، ثم آخره يخترم ، ويقال : إن الزرع ما لم يؤخذ منه الحب الذي هو المقصود منه لا يكون له قيمة كذلك الإنسان ما لم يخل من نفسه لا يكون له قدر ولا قيمة.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بقوله : {أَلَمْ تَرَ} إلخ ، إلى إنزال ماء الفيض الروحاني من سماء القلب.
{فَسَلَكَه يَنَـابِيعَ} الحكمة {فِى الأرْضِ} البشرية.
{ثُمَّ يُخْرِجُ بِه زَرْعًا} ، من الأعمال البدنية.
{مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} من الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد.
{ثُمَّ يَهِيجُ} إلخ.
يشير إلى أعمال المرائي تراها مخضرة على وفق الشرع ، ثم تجف من آفة العجب والرياء.
{فَتَرَاـاهُ مُصْفَرًّا} لا نور له.
{ثُمَّ يَجْعَلُهُ} من رياح القهر أذهبت عليه {حُطَـامًا} لا حاصل له إلا الحسرة.
وقوله : {إِنَّ فِى ذَالِكَ} إلخ.
إشارة إلى أن السالك إذا جرى على مقتضى عقله وعلمه يظهر منه آثار الاجتهاد ، ثم إذا ترقى إلى مقام المعرفة تضمحل منه حالته الأولى ، ثم إذا بدت أنوار التوحيد استهلكت الجملة كما قالوا : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
فلما استبان الصبح أدرج ضوءه
بأنواره أنوار تلك الكواكب
فالتوحيد كالشمس ونورها ، فكما أنه بنور الشمس تضمحل أنوار الكواكب ، فكذا بنور التوحيد تتلاشى أنوار العلوم والمعارف ويصير حالها إلى الأفول والفناء ، ويظهر حال أخرى من عالم البقاء.
(8/70)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَه يَنَـابِيعَ فِى الارْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِه زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُه ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاـاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُه حُطَـامًا إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ * أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّه فَوَيْلٌ لِّلْقَـاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّه أولئك فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَـابًا مُّتَشَـابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه ذَالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِه مَن يَشَآءُا وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا} .
{أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ} .
الهمزة : للاستفهام الإنكاري ، والفاء : للعطف على محذوف.
ومن شرطية أو موصولة وخبرها محذوف دل عليه ما بعده.
وأصل الشرح بسط اللحم.
ونحوه يقال : شرحت اللحم وشرحته.
ومنه شرح الصدر بنور إلهي وسكينة من جهته تعالى وروح منه ، كما في "المفردات".
قال في "الإرشاد" : شرح الصدر للإسلام عبارة عن تكميل الاستعداد له ، فإن الصدر بالفارسية : (سينه) محل القلب الذي هو منبع للروح التي تتعلق بها النفس القابلة للإسلام ، فانشراحه مستدع لاتساع القلب
94
واستضاءته بنوره ، فهذا شرح قبل الإسلام لا بعده.
والمعنى : أكل الناس سواء فمن بالفارسية : (بس هركسى ويا آنكس كه).
{شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ} ؛ أي : خلقه متسع الصدر مستعداً للإسلام ، فبقي على الفطرة الأصلية ، ولم يتغير بالعوارض المكتسبة القادمة فيها.
{فَهُوَ} بموجب ذلك مستقر {عَلَى نُورٍ} عظيم {مِّن رَّبِّهِ} ، وهو اللطف الإلهي الفائض عليه عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية ، والتوفيق للاهتداء بها إلى الحق كمن قسا قلبه وحرج صدره بسبب تبديل فطرة الله بسوء اختياره واستولت عليه ظلمات الغيّ والضلالة ، فأعرض عن تلك الآيات بالكلية حتى لا يتذكر بها ولا يغتنمها كقوله تعالى : {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّه يَجْعَلْ صَدْرَه ضَيِّقًا حَرَجًا} (الأنعام : 135) ، يعني : ليس من هو على نور كمن هو على ظلمة ، فلا يستويان كما لا يستوي النور والظلمة والعلم والجهل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
واعلم أنه لا نور ولا سعادة لمسلم إلا بالعلم والمعرفة ، ولكل واحد من المؤمنين معرفة تختص به ، وإنما تتفاوت درجاتهم بحسب تفاوت معارفهم.
والإيمان والمعارف أنوار ، فمنهم من يضيء نوره جميع الجهات ، ومنهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه.
فإيمان آحاد العوام نوره كنور الشمع وبعضهم نوره كنور السراج وإيمان الصديقين نوره كنور القمر والنجوم على تفاوتها وأما الأنبياء فنور إيمانهم كنور الشمس وأزيد فكما ينكشف في نورها كل الآفاق مع اتساعها ، ولا ينكشف في نور الشمع إلا زاوية ضيقة من البيت كذلك يتفاوت انشراح الصدور بالمعارف ، وانكشاف سعة الملكوت لقلوب المؤمنين.
ولهذا جاء في الحديث : "إنه يقال يوم القيامة أخرجوا من النار من في قلبه مثقال من الإيمان ونصف مثقال وربع مثقال وشعيرة وذرة".
ففيه تنبيه على تفاوت درجات الإيمان وبقدره تظهر الأنوار يوم القيامة في المواقف خصوصاً عند المرور على الصراط.
{فَوَيْلٌ} (بس شدت عذاب).
{لِّلْقَـاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} : القسوة غلظ القلب وأصله من حجر قاس والمقاساة معالجة ذلك ومن أجلية وسببية كما في قوله تعالى : {مِّمَّا خَطِياـاَـاتِهِمْ أُغْرِقُوا} (نوح : 25).
والمعنى : من أجل ذكره الذي حقه أن تنشرح له الصدور وتطمئن به القلوب ؛ أي : إذا ذكر الله تعالى عندهم وآياته اشمأزوا من أجله وازدادت قلوبهم قساوة كقوله تعالى : {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} (التوبة : 125).
وقرىء عن ذكر الله ؛ أي : فويل للذين غلظت قلوبهم عن قبول ذكر الله.
وعن مالك بن دينار رحمه الله ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلبه ، وما غضب الله على قوم إلا نزع منهم الرحمة.
وقال الله تعالى لموسى عليه السلام في مناجاته يا موسى : لا تطل في الدنيا أملك ، فيقسو قلبك ، والقلب القاسي مني بعيد ، وكن خلق الثياب جديد القلب تخف على أهل الأرض وتعرف في أهل السماء.
وفي الحديث : "تورث القسوة في القلب ثلاث خصال : حب الطعام وحب النوم وحب الراحة".
وفي "كشف الأسرار" : (بدانكه ابن قسوة دل از بسيارى معصيت خيزد عائشة صديقه رضي الله عنها كويد أول بدعتى كه بعد از رسول خدا درميان خلق بديد آمد سيرى بود.
ذون مصرى رحمه الله كويد هركز سير نخوردم كه نه معصيتى كردم.
شبلي رحمه الله كفت هيج وقت كرسنه نه نشستم كه دردل خود حكمتى وعبرتى تازه يافتم).
وفي الحديث : "أفضلكم عند الله أطولكم جوعاً وتفكراً وأبغضكم إلى الله كل أكول شروب نؤوم.
كلوا
95
(8/71)
واشربوا في أنصاف البطون فإنه جزء من النبوة".
قال الشيخ سعدي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
باندازه خورزاد اكر آدمى
جنين برشكم آدمى يا خمى
درون جاى قوتست وذكر نفس
تو بندارى از بهر ناتست وبس
ندارند تن بروران آكهى
كه برمعده باشد زحكمت تهى
{أولئك} : البعداء الموصوفون بما ذكر من قساوة القلب.
وبالفارسية : (آن كروه غافلان وسنكدلان).
{فِى ضَلَـالٍ} بعيد عن الحق {مُّبِينٍ} : ظاهر كونه ضلالاً للناظر بأدنى نظر ، يعني : (ضلالت ايشان برهركه اندك فهمى دارد ظاهر است).
واعلم أن الآية عامة فيمن شرح صدره للإسلام بخلق الإيمان فيه.
وقيل : نزلت في حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وأبي لهب وولده.
فحمزة وعلى ممن شرح الله صدره للإسلام.
وأبو لهب وولده من الذين قست قلوبهم ، فالرحمة للمشروح صدره والغضب للقاسي قلبه.
روي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية ، قالوا : كيف ذلك يا رسول الله ، يعني : ما معنى شرح الصدر ، قال : "إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح" ، فقيل : ما علامة ذلك ، قال : "الإنابة إلى دار الخلود" ، يعني التوجه للآخرة.
"والتجافي عن دار الغرور".
(يعني : برهيز كردن از دنيا).
"والتأهب للموت قبل نزوله".
(وعزيزى درين معنا فرموده است).
نشان آن دلى كز فيض إيمانست نوراني
توجه باشد اول سوى دار الملك روحاني
زدنيا روى كردانيدن وفكر اجل كردن
كه جون مرك اندر آيدخوش توان مردن بآساني
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الإيمان نور ينوّر الله به مصباح قلوب عباده المؤمنين والإسلام ضوء نور الإيمان تستضيء به مشكاة صدورهم ، ففي الحقيقة من شرح الله صدره بضوء نور الإسلام ، فهو على نور من نظر عناية ربه.
ومن أمارات ذلك النور محو آثار ظلمات الصفات الذميمة النفسانية من حب الدنيا وزينتها وشهواتها وإثبات حب الآخرة والأعمال الصالحة ، والتحلية بالأخلاق الكريمة الحميدة.
قال تعالى : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} (الرعد : 39) ، ومن أماراته أن تلين قلوبهم لذكر الله فتزداد أشواقهم إلى لقاء الله تعالى وجواره ، فيسأمون من محن الدنيا وحمل أثقال أوصاف البهيمية والسبعية والشيطانية ، فيفرون إلى الله ويتنورون بأنوار صفاته منها نور اللوائح بنور العلم ، ثم نور اللوامع ببيان الفهم ، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين ، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات ، ثم نور المشاهدة بظهور الذات ثم أنوار جلال الصمدية بحقائق التوحيد ، فعند ذلك لا وجد ولا وجود ولا قصد ولا مقصود ولا قرب ولا بعد ولا وصال ولا هجران أن كل شيء هالك إلا وجهه كلا بل هو الله الواحد القهار :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
جامى مكن انديشه زنز ديكى ودورى
لا قرب ولا بعد ولا وصل ولا بين
قال الواسطي : نور الشرح منحة عظيمة لا يحتمله أحد إلا المؤيدون بالعناية والرعاية ، فإن العناية تصون الجوارح والأشباح والرعاية تصون الحقائق والأرواح.
وفي "كشف الأسرار" : (بدان كه دل آدمى را جهارا برده است.
برده أول صدر است مستقر عهد إسلام كقوله تعالى : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ} .
برده دوم قلب است محل نور إيمان نور إيمان كقوله تعالى :
96
{أولئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَـانَ} (المجادلة : 22) ، برده سوم فؤادست سرابرده مشاهده حق كقوله تعالى : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم : 11).
برده جهارم شفافست محط رحل عشق كقوله تعالى : {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} (يوسف : 30) رب العالمين جون خواهد كه رميده را بكمند لطف درراه دين خويش كشد اول نظرى كند بصد روى تاسينه وى از هوى وبدعتها باك كردد وقدم وى برجاده سنت مستقيم شود بس نظر كند بقلب وى تا از آلايش دنيا وأخلاق نكوهيده جون عجب وحسد وكبر وريا وحرص وعداوت ورعونت باك كردد ودر راه ورع روان شود بش نظرى كند بفؤاد وى واورا از خلائق وعلائق بازبرده جشمه علم وحكمت در دل وى كشايد نور هدايت تحفه نطفه وى كرداند جنانكه كفت {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} بس نظرى كند بشغاف وى واورا از آب وكل بازبرد قدم در كوى فنا نهد ونور برسه قسم است يكى برزبان ويكى دردل ويكى درتن.
نور زبان توحيد است وشهادت.
ونورتن خدمت است وطاعت.
ونوردل شوق است ومحبت.
نور زبان بجنت رساند لقوله تعالى : {فَأَثَـابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّـاتٍ} (المائدة : 85).
نورتن بفردوس رساند.
لقوله : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} (الكهف : 107).
نوردل بلقاى دوست رساند) لقوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة : 22 ـ ـ 23).
وفي الحديث : "إن لأهل النعم أعداء فاحذروهم".
قال بعضهم : وأجل النعم على العبد نعمة الإسلام وعدوها إبليس ، فاحفظ هذه النعمة وسائر النعم واحذر من النسيان والقسوة والكفران.
(8/72)
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال الحسين النوري رحمه الله : قسوة القلب بالنعم أشد من قسوته بالشدة ، فإنه بالنعمة يسكن وبالشدة يذكر.
وقال : من همّ بشيء مما أباحه العلم تلذذاً عوقت بتضييع العمر وقسوة القلب ، فليبك على نفسه من صرف عمره وضيع وقته ، ولم يدرك مراتب المنشرحين صدورهم ، وبقي مع القاسين قلوبهم نسألك اللهم الحفظ والعصمة.
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} .
هو القرآن الكريم الذي لا نهاية لحسنه ولا غاية لجمال نظمه وملاحة معانيه ، وهو أحسن مما نزل على جميع الأنبياء والمرسلين وأكمله وأكثره إحكاماً.
وأيضاً : أحسن الحديث لفصاحته وإعجازه.
وأيضاً : لأنه كلام الله ، وهو قديم وكلام غيره مخلوق محدث.
وأيضاً : لكونه صدقاً كله إلى غير ذلك.
سمي حديثاً ؛ لأن النبي عليه السلام كان يحدّث به قومه ويخبرهم بما ينزل عليه منه ، فلا يدل على حدوث القرآن ، فإن الحديث في عرف العامة الخبر والكلام.
قال في "المفردات" كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه ، يقال له حديث.
روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ملوا ملة ، فقالوا له عليه السلام : حدثنا حديثاً أو لو حدثتنا : يعني : (جه شودكه براى ماسخنى فرمايند وكام طوطيان أرواح مستمعان را بحديث ازل شكر بار وشيرين كردانند سرمايه حيات ابد اهل ذوق را دريك حكايت ازلب شكر فشان يست).
فنزلت هذه الآية.
والمعنى : أن فيه مندوحة عن سائر الأحاديث.
{كِتَـابًا} بدل من أحسن الحديث.
{مُّتَشَـابِهًا} معانيه في الصحة والأحكام والابتناء على الحق والصدق واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش وتناسب ألفاظه في الفصاحة وتجاوب نظمه في الإعجاز.
{مَّثَانِيَ} صفة أخرى لكتاباً ووصف الواحد ، وهو
97
الكتاب بالجمع ، وهو المثاني باعتبار تفاصيله كما يقال القرآن سور وآيات والإنسان عروق وعظام وأعصاب ، وهو جمع مثنى بضم الميم وتشديد النون بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه ، أو لأنه ثنى في التلاوة ، فلا يمل كما جاء في نعته لا يخلق على كثرة الترداد ؛ أي : لا يزول رونقه ولذة قراءته واستماعه من كثرة ترداده على ألسنة التالين وتكراره على آذان المستمعين وأذهان المتفكرين على خلاف ما عليه كلام المخلوق ، وفي القصيدة البردية : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
فلا تعد ولا تحصى عجائبها
ولا تسام على الإكثار بالسأم
أي لا تقابل آيات القرآن مع الإكثار بالملال.
وفي "المفردات" وسمي سور القرآن مثاني ؛ لأنها تثنى على مرور الأيام وتكرر ، فلا تدرس ولا تنقطع دروس سائر الأشياء التي تضمحل وتبطل على مرور الأيام ، وإنما تدرس الأوراق.
كما روي أن عثمان رضي الله عنه حرق مصحفين لكثرة قراءته فيهما.
ويصح أن يقال للقرآن : مثاني لما يثنى ويتجدد حالاً فحالاً من فوائده ، كما جاء في نعته ، ولا تنقضي عجائبه.
ويجوز أن يكون ذلك من الثناء تنبيهاً على أنه أبداً يظهر منه ما يدعو إلى الثناء عليه ، وعلى من يتلوه ويعلمه ويعمل به ، وعلى هذا الوجه وصفه بالكرم في قوله : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ} ()وبالمجد في قوله : {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ} (البروج : 21) ، أو هو جمع مثنى بفتح الميم وإسكان الثاء مفعل من الثنية بمعنى التكرير والإعادة كما في قوله تعالى : {ثُمَّ اْرجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (الملك : 4) ؛ أي : كرة بعد كرة أو جمع مثنى بضم الميم وسكون الثاء ، وفتح النون ؛ أي : مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز حتى قال بعضهم لبعض : ألا سجدت لفصاحته ، ويجوز أن يكون بكسر النون ؛ أي : مثن عليّ بما هو أهله من صفاته العظمى.
قال ابن بحر : لما كان القرآن مخالفاً لنظم البشر ونثرهم حول أسمائه بخلاف ما سموا به كلامهم على الجملة والتفصيل ، فسمى جملته قرآناً كما سموا ديواناً ، وكما قالوا : قصيدة وخطبة ورسالة.
قال : سورة ، وكما قالوا : بيت.
قال : آية وكما سميت الأبيات لاتفاق أواخرها قوافي سمى الله القرآن لاتفاق خواتيم الآي فيه مثاني.
وفي "التأويلات النجمية" : القرآن كتاب متشابه في اللفظ مثاني في المعنى من وجهين :
أحدهما : أن لكل لفظ منه معاني مختلفة بعضها يتعلق بلغة العرب وبعضها يتعلق بإشارات الحق وبعضها يتعلق بأحكام الشرع كمثل الصلاة ، فإن معناها في اللغة الدعاء.
وفي أحكام الشرع عبارة عن هيئات وأركان وشرائط وحركات مخصوصة بها.
وفي إشارة الحق تعالى هي الرجوع إلى الله كما جاء روحه من الحضرة بالنفخة الخاصة إلى القالب ، فإنه عبر على القيام الذي يتعلق بالسماوات ، ثم على الركوع الذي يتعلق بالحيوانات ثم على السجود الذي يتعلق بالنباتات ، ثم على التشهد الذي يتعلق بالمعادن ، فبالصلاة يشير الله عز وجلّ إلى رجوع الروح إلى حضرة ربه على طريق جاء منها ، ولهذا قال النبي عليه السلام : "الصلاة معراج المؤمن".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
(8/73)
والوجه الثاني : أن لكل آية تشبهاً بآية أخرى من حيث صورة الألفاظ ، ولكن المعاني والإشارات والأسرار والحقائق مثاني فيها إلى ما لا ينتهي وإلى هذا يشير بقوله : {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا} (الكهف : 109) الآية.
{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} ، استئناف مسوق
98
لبيان آثاره الظاهرة في سامعيه بعد بيان أوصافه في نفسه وتقرير كونه أحسن الحديث ، يقال : اقشعر جلده أخذته قشعريرة ؛ أي : رعدة كما في "القاموس".
والجلد : قشر البدن كما في "المفردات".
وقال بعضهم : أصل الاقشعرار تغير كالرعدة يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف.
وفي "الإرشاد" : الاقشعرار التقبض يقال : اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضاً شديداً وتركيبه من القشع ، وهو الأديم اليابس قد ضم إليه الراء ليكون باعثاً ودالاً على معنى زائد يقال : اقشعر جلده ووقف شعره إذا عرض له خوف شديد من منكر حائل دهمه بغتة.
والمراد : إما بيان إفراط خشيتهم بطريق التمثيل والتصوير أو بيان حصول تلك الحالة وعروضها لهم بطريق التحقيق ، وهو الظاهر إذ هو موجود عند الخشية محسوس يدركه الإنسان من نفسه ، وهو يحصل من التأثر القلبي ، فلا ينكر.
والمعنى : أنهم إذا سمعوا بالقرآن وقوارع آيات وعيده أصابتهم هيبة وخشية تقشعر منها جلودهم ؛ أي : يعلوها قشعريرة ورعدة.
وبالفارسية : (لرزد ازو يعنى از خوف وعيد كه در قرآنست بوستها برتنهاى آنانكه مى ترسند از برود كار خود).
{ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} اللين ضد الخشونة ، ويستعمل ذلك في الأجسام ، ثم يستعار للخلق ولغيره من المعاني.
والجلود عبارة عن الأبدان والقلوب عن النفوس كما في "المفردات" ؛ أي : ثم إذا ذكروا رحمة الله وعموم مغفرته لانت أبدانهم ونفوسهم ، وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة ، بأن تبدلت خشيتهم رجاء ورهبتهم رغبة.
وبالفارسية : (بس نرم ميشود وآرام ميكيرد بوستها ودلهاى ايشان بسوى يادكردن رحمت ومغفرت).
وتعدية اللين بإلى لتضمنه معنى السكون والاطمئنان ؛ كأنه قيل : تسكن وتطمئن إلى ذكر الله لينة غير منقبضة راجية غير خاشعة أو تلين ساكنة مطمئنة إلى ذكر الله على أن المتضمن بالكسر يقع حالاً من المتضمن بالفتح.
وإنما أطلق ذكر الله ولم يصرح بالرحمة إيذاناً بأنها أول ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
فإن قلت : لم ذكرت الجلود وحدها أولاً ثم قرنت بها القلوب ثانياً.
قلت : لتقدم الخشية التي هي من عوارض القلوب ، فكأنه قيل : تقشعر جلودهم من آيات الوعيد وتخشى قلوبهم من أول وهلة ، فإذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والرحمة واستبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة ليناً في جلودهم.
فالجملتان إشارة إلى الخوف والرجاء أو القبض والبسط أو الهيبة والأنس ، أو التجلي والاستتار.
قال النهرجوري رحمه الله : وصف الله بهذه الآية سماع المريدين وسماع العارفين.
وقال : سماع المريدين بإظهار الحال عليهم وسماع العارفين بالاطمئنان والسكون فالاقشعرار صفة أهل البداية واللين صفة أهل النهاية.
وعن شهر بن حوشب قالت أم الدرداء : رضي الله عنها : إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة أما تجد الاقشعريرة قلت : بلى.
قالت : فادع الله ، فإن الدعاء عند ذلك مستجاب ، وذلك لانجذاب القلب إلى الملكوت وعالم القدس واتصاله بمقام الأنس.
{ذَالِكَ} الكتاب الذي شرح أحواله {هُدَى اللَّهِ} .
(راه نمودن خداست يعن ارشاديست مر خلق را از خداى).
{يَهْدِى بِهِ} (راه بنمايد بوى).
{مَن يَشَآءُ} أن يهديه من المؤمنين المتقين كما قال : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) لصرف مقدوره إلى الاهتداء بتأمله فيما في تضاعيفه من الشواهد الخفية ودلائل كونه من عند الله {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ}
99
أي : يخلق فيه الضلالة لصرف قدرته إلى مباديها وأعراضه عما يرشده إلى الحق بالكلية وعدم تأثره بوعده ووعيده أصلاً.
{فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} يخلصه من ورطة الضلال.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} بأن يكله إلى نفسه وعقله ويحرمه من الإيمان بالأنبياء ومتابعتهم.
{فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} من براهين الفلاسفة والدلائل العقلية.
قال المولى الجامي قدس سره :
خواهى بصوب كعبه تحقيق ره برى
بى برده مقلد كم كرده ره مرو
وفي "كشف الأسرار" : (يكى ازصحابه روزى بآن مهتر عالم عليه السلام كفت يا رسول الله جرا رخساره ما در استماع قرآن سرخ ميكردد وآن منافقان سياه كفت زيراكه قرآن نوريست مارا مى افروزد وايشانرا ميسوزد) يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً.
قال الخجندي قدس سره :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
دل ازشنيدن قرآن بكيردت همه وقت
جو باطلان زكلام حقت ملولي جيست
وفي الآية لطائف.
(8/74)
منها : أنه لما عقب أحسنية القرآن بكونه متشابهاً ومثاني رتب عليه اقشعرار جلود المؤمنين إيماء إلى أن ذلك إنما يحصل بكونه مردداً ومكرراً ؛ لأن النفوس أنفر شيء من حديث الوعظ والنصيحة وأكثر جموداً وإباء عنه فلا تلين شكيمتهاولا تنقاد طبيعتها إلا أن يلقى إليها النصائح عوداً بعد بدء ولهذا كان عليه السلام يكرر وعظه ثلاثاً أو سبعاً.
ومنها : أن الاقشعرار أمر مستجلب للرحمة قال عليه السلام : "إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه" ؛ أي : تساقطت : "كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها" وعنه عليه السلام : "إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله حرمه الله على النار" ، ولما اتخذ الله إبراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل حتى إن خفقان قلبه يسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء.
قال مسروق : إن المخافة قبل الرجاء ، فإن الله تعالى خلق جنة وناراً ، فلن تخلصوا إلى الجنة حتى تمروا بالنار.
ومنها : أن غاية ما يحصل للعابدين من الأحوال المذكورة في هذه الآية من الاقشعرار والخشية والاطمئنان.
قال قتادة : هذا نعت أولياء الله نعتهم بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم ولم ينعتهم بذهاب عقلهم ، والغشيان عليهم ، وإنما ذلك في أهل البدع ، وهو من الشيطان.
وعن عبد الله بن عبد الله بن الزبير.
قال : قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه : كيف كان أصحاب رسول الله يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن ، قالت : كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم.
قال : فقلت لها : إن ناساً اليوم إذا قرىء عليهم القرآن خر أحدهم مغشياً عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وروي : أن ابن عمر رضي الله عنهما مر برجل من أهل العراق ساقط ، فقال : ما بال هذا.
قالوا : أنه إذا قرىء عليه القرآن ، أو سمع ذكر الله سقط ، فقال ابن عمر رضي الله عنه إنا لنخشى الله ، وما نسقط.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم كذا في التفاسير نحو "كشف الأسرار" و"المعالم" و"الوسيط" و"الكواشي" وغيرها.
يقول الفقير : لا شك أن القدح والجرح ، إنما هو في حق أهل الرياء والدعوى ، وفي حق من يقدر على ضبط نفسه كما أشار عليه السلام بقوله : "من عشق وعف وكتم ثم مات مات شهيداً".
فإن من غلب على حاله كان الأدب له أن لا يتحرك بشيء لم يؤذن فيه ، وأما من غلب عليه الحال وكان في أمره محقاً لا مبطلاً ، فيكون كالمجنون ، حيث يسقط عنه القلم
100
فبأي حركة تحرك كان معذوراً فيها ، فليس حال أهل البداية والتوسط كحال أهل النهاية ، فإن ما يقدر عليه أهل النهاية لا يقدر عليه من دونهم ، وكأن الأصحاب رضي الله عنهم ، ومن في حكمهم ممن جاء بعدهم راعوا الأدب في كل حال ومقام بقوة تمكينهم ، بل لشدة تلوينهم في تمكينهم ، فلا يقاس عليهم من ليس له هذا التمكين ، فرب أهل تلوين يفعل ما لا يفعله أهل التمكين ، وهو معذور في ذلك لكونه مغلوب الحال ومسلوب الاختيار ، فليجتهد العاقل في طريق الحق بلا رياء ودعوى وليلازم الأدب في كل أمر متعلق بفتوى أو تقوى ، وليحافظ على ظاهره وباطنه من الشين ومما يورث الرين والغين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَـابًا مُّتَشَـابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه ذَالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِه مَن يَشَآءُا وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ * أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِه سُواءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِا وَقِيلَ لِلظَّـالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَكْبَرُا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
{أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ} الهمزة : للإنكار والفاء : للعطف على محذوف.
ومن شرطية ، والخبر محذوف.
والاتقاء بالفارسية : (حذر كردن وخودرا نكاه داشتن).
يقال : اتقى فلان بكذا إذا جعله وقاية لنفسه والتركيب يدل على دفع شيء عن شيء يضره ، وتقدير الكلام أكل الناس سواء فمن شأنه ، وهو الكافر أن يقي نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه.
{سُواءِ الْعَذَابِ} ؛ أي : العذاب السيِّىء الشديد : يعني (زبانه آتش) ، كما في "تفسير الفارسي" للكاشفي.
{يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} لكون يده التي بها كان يتقي المكاره والمخاوف مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن ، وهو المؤمن لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى الاتقاء بوجه من الوجوه.
(8/75)
وفي "التأويلات النجمية" : {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ} توجه {وَجْهَهُ} {سُواءِ الْعَذَابِ} ؛ أي : عذاب السيىء {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} ، ويدفعه به عن نفسه كمن لا يتقي ويظلم على نفسه.
{وَقِيلَ لِلظَّـالِمِينَ} الذين وضعوا الكفر موضع الإيمان والتكذيب موضع التصديق والعصيان موضع الطاعة ، وهو عطف على يتقي ؛ أي : ويقال لهم : من جهة خزنة النار.
وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق ووضع المظهر في مقام المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعلة الأمر في قوله : {ذُوقُوا} (بجشيد).
{مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ؛ أي : وبال ما كنتم تكسبونه في الدنيا على الدوام من الكفر والتكذيب والمعاصي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "التأويلات النجمية" ؛ أي : ذوقوا ما كسبتم بأفعالكم الرديئة وأخلاقكم الدنيئة يعني كنتم في عين العذاب ، ولكن ما كنتم تجدون ذوقه لغلبة نوم الغفلة فإذا متم انتبهتم.
{كَذَّبَ الَّذِينَ} من الأمم السابقة الذين جاؤوا.
{مِن قَبْلِهِمْ} ؛ أي : من قبل كفار مكة ، يعني كذبوا أنبياءهم كما كذبك قومك.
{فَأَتَـاـاهُمُ الْعَذَابُ} المقدر لكل أمة منهم.
وبالفارسية : (بس آمد بديشان عذاب إلهي).
{مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم إتيان العذاب والشر منها بينا هم آمنون رافهون إذ فوجئوا من مأمنهم ، فمعنى : من حيث لا يشعرون أتاهم العذاب ، وهم آمنون في أنفسهم غافلون عن العذاب.
وقيل : معناه لا يعرفون له مدفعاً ولا مرداً ، وفي "التأويلات النجمية" ؛ أي : أتاهم العذاب في صورة الصحة والنعمة والسرور وهم لا يشعرون أنه العذاب وأشد العذاب ما يكون غير متوقع.
{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ} ؛ أي : الذل والصغار : وبالفارسية : (بس بجشانيده ايشانرا خداي تعالى خوراى ورسوايى).
يعني : أحسوا به إحساس الذائق المطعوم.
{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ} بيان لمكان إذاقة الخزي.
وذلك الخزي كالمسخ والخسف والغرق والقتل والسبي والإجلاء ونحو ذلك من فنون النكال ، وهو العذاب الأدنى.
{وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ} المعد لهم {أَكْبَرُ} من العذاب الدنيا لشدته ودوامه.
{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ؛ أي : لو كان من شأنهم أن
101
يعلموا لعلموا ذلك واعتبروا به ، وما عصوا الله ورسوله ، وخلصوا أنفسهم من العذاب.
فعلى العاقل أن يرجع إلى ربه بالتوبة والإنابة كي يتخلص من عذاب الدنيا والآخرة.
وعن الشبلي قدس سره أنه قال : قرأت أربعة آلاف حديث ، ثم اخترت منها واحداً ، وعملت به وخليت ما سواه ، لأني تأملته ، فوجدت خلاصي ونجاتي فيه ، وكان علم الأولين والآخرين مندرجاً فيه.
وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لبعض أصحابه : "اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها ، واعملبقدر حاجتك إليه واعمل للنار بقدر صبرك عليها".
فإذا كان الصبر على النار غير ممكن للإنسان الضعيف فليسلك طريق النجاة المبعدة عن النار الموصلة إلى الجنات وأعلى الدرجات.
وفي الحديث : "إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بصلاة ولا قيام ، ولكن دخلوها بسخاء الأنفس وسلامة الصدر والنصح للمسلمين".
وأصل الكل هو التوحيد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : "مات رجل من قوم موسى ، فإذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى لملائكته انظروا هل تجدون لعبدي شيئاً من الأعمال ، فيقولون لا نجد سوى نقش خاتمه لا إله إلا الله ، فيقول الله تعالى لملائكته أدخلوا عبدي الجنة قد غفرت له" ، فإذا كان التوحيد منجياً بنقشه الظاهري ، فما ظنك بنقشه الباطني ، فلا بد من الاجتهاد لإصلاح النفس وتقوية اليقين ، والحمدعلى نعمة الإسلام والدين.
وحكي عن ابن النسفي أنه قال : فقد مسلم حماراً ، فخرج في طلبه فاستقبله مجوسي فانصرف المؤمن.
وقال : إلهي أنا فقدت الدابة ، وهذا فقد الدين فمصيبته أكبر من مصيبتي.
الحمدالذي لم يجعل مصيبتي كمصيبته.
وهذا بالنسبة إلى الوقت والحال ، وأما أمر المآل فعلى الإشكال ، كما قال المثنوي :
هيج كافررا بخوارى منكريد
كه مسلمان مردتش باشداميد
جه خبر دارى زختم عمر او
تابكر دانى ازو يكباره رو
ومن الله التوفيق.
{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَكْبَرُا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلا فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَـاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} .
(8/76)
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} .
يحتاج إليه الناظر في أمور دينه.
قال السمرقندي : ولقد بينا لهم فيه كل صفة هي في الغرابة ؛ أي : في غرابتها وحسنها ، كالمثل السائر ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن كقصة الأولين وقصة المبعوثين يوم القيامة وغير ذلك.
والمراد بالناس أهل مكة كما في "الوسيط" ويعضده ما قال بعضهم من أن الخطاب بقوله : يا اأَيُّهَا النَّاسُ} في كل ما وقع في القرآن لأهل مكة ، والظاهر التعميم لهم ولمن جاء بعدهم.
{لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتذكرون به ويتعظون به {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} ؛ أي : بلغة العرب ، وهو حال مؤكدة من هذا على أن مدار التأكيد هو الوصف ؛ أي : التأكيد في الحقيقة هو الصفة ومفهومها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وبعضهم جعل القرآن توطئة للحال التي هي عربياً.
والحال الموطئة اسم جامد موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة ، ويجوز أن ينتصب على المدح ؛ أي : أريد بهذا القرآن قرآناً عربياً.
{غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} .
لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه ، ولا تناقض ولا عيب ولا خلل.
والفرق بينه بالفتح ، وبينه بالكسر أن كل ما ينتصب كالحائط والجدار والعود ، فهو عوج بفتح العين ، وكل ما كان في المعاني والأعيان الغير المنتصبة وبفتحها في المنتصبة كالرمح والجدار ،
102
ولذا قال أهل التفسير : لم يقل مستقيماً أو غير معوج مع أنه أحضر لفائدتين :
إحداهما : نفي أن يكون فيه عوج ما بوجه من الوجوه كما قال : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا} (الكهف : 1).
والثانية : أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان ، وهو بالفارسية : (كجى).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : {غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} ؛ أي : غير مخلوق ، وذلك لأن كونه مقروءاً بالألسنة ومسموعاً بالآذان ومكتوباً في الأوراق ومحفوظاً في الصدور لا يقتضي مخلوقيته إذ المراد كلام الله القديم القائم بذاته.
وفي "حقائق البقلي" : قرآناً قديماً ظهر من الحق على لسان حبيبه لا يتغير بتغير الزمان ولا يرهقه غبار الحدثان لا تعوجه الحروف ، ولا تحيط به الظرف.
وفي "بحر الحقائق" : صراطاً مستقيماً إلى حضرتنا لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} علة أخرى مترتبة على الأولى ، فإن المصلحة في ضرب الأمثال هو التذكر والاتعاظ بها أولاً ، ثم تحصيل التقوى.
والمعنى : لعلهم يعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على حدود الله في القرآن والاعتبار بأمثاله.
وبالفارسية : (شايدكه ايشان بسبب تأمل در معاني آن بيرهيزند ازكفر وتكذيب).
ثم أورد مثلاً من تلك الأمثال ، فقال :
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلا فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَـاكِسُونَ} .
المراد بضرب المثل هنا تطبيق حالة عجيبة بأخرى مثلها كما مر في أوائل سورة يس ومثلاً مفعول ثان لضرب ورجلاً مفعوله الأول آخر عن الثاني للتشويق إليه ، وليتصل به ما هو من تتمته التي هي العمدة في التمثيل.
وفيه خبر مقدم لقوله شركاء ، والجملة في حيز النصب على الوصفية لرجلاً : (والتشاكس : بايكديكر بدخويى كردن).
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال في "المفردات" : الشكس السيِّىء الخلق ومتشاكسون ومتشاجرون بشكاسة خلقهم.
وفي "القاموس" : وكندس الصعب الخلق ككتف البخيل ومتشاكسون مختلفون عسرون وتشاكسوا تخالفوا.
والمعنى : جعل الله تعالى للمشرك مثلاً حسبما يقود إليه مذهبه من ادعاء كل من معبوديه عبوديته عبداً يتشارك فيه جماعة يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المتباينة في تحسره.
وتوزع قلبه.
{وَرَجُلا} ؛ أي : وجعل للموحد مثلاً {سَلَمًا} خالصاً الرجل فرد ليس لغيره عليه سبيل أصلاً فالتنكير في كل منهما للإفراد ؛ أي : فرداً من الأشخاص لفرد من الأشخاص.
والسلم : بفتحتين وكقتل وفسق مصدر من سلم له كذا ؛ أي : خلص نعت به مبالغة كقبولك رجل عدل ، أو حذف منه ذو بمعنى ذا سلامة لرجل ؛ أي : ذا خلوص له من الشرك.
والرجل ذكر من بني آدم جاوز حاد الصغر وتخصيص الرجل ، لأنه انطق لما يجري عليه من الضر والنفع ، لأن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك.
{هَلْ} استفهام إنكار {يَسْتَوِيَانِ} .
(آيا مساوى باشد اين دوبنده).
{مَثَلا} من جهة الصفة والحال نصب على التمييز والوحدة حيث لم يقل مثلين لبيان الجنس وإرادته ، فيعم ؛ أي : هل يستوي حالهما وصفاتهما يعني : لا يستويان.
والحاصل : أن الكافر كالعبد الأول في كونه حيران متفرق البال ؛ لأنه يعبد آلهة مختلفة ؛ أي : أصناماً لا يجيء منها خير بل تكون سبباً لوقوعه في أسفل سافلين كما أن العبد يخدم ملاكاً متعاسرين مختلفي الأهوية لا يصل إليه منهم منفعة أصلاً ، والمؤمن كالعبد الثاني في انضباط أحواله ، واجتماع باله حيث يعبد رباً واحداً ، يوصله إلى أعلى عليين كما أن العبد يخدم سيداً واحداً يرضى عنه ، ويصل إليه بالعطاء الجزيل :
103
يك يار بسنده كن
جويك دل دارى
(8/77)
{الْحَمْدُ} حيث خصمهم كما قال مقاتل ؛ أي : قطعهم بالخصومة وغلبهم ، وأظهر الحجة عليهم ببيان عدم الاستواء بطريق ضرب المثل.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون بذلك مع كمال ظهوره ، فيبقون في ورطة الشرك والضلال من فرط جهلهم.
وفي الآية إشارة إلى بيان عدم الاستواء بين الذي يتجاذبه شغل الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشياء المختلفة ، والخواطر المتفرقة ، وبين الذي هو خالصليس للخلق فيه نصيب ولا الدنيا نسيب ، وهو من الآخرة غريب وإلى الله قريب منيب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والحاصل : أن الراغب في الدنيا شغلته أمور مختلفة ، فلا يتفرغ لعبادة ربه ، وإذا كان في العبادة يكون قلبه مشغولاً بالدنيا.
والزاهد : قد تفرغ من جميع أشغال الدنيا ، فهو يعبد ربه خوفاً وطمعاً.
والعارف : قد تفرغ من الكونين ، فهو يعبد ربه شوقاً إلى لقائه ، فلا استواء بين البطالين والطالبين وبين المنقطعين والواصلين الحمد ، يعني الثناء له ، وهو مستحق لصفات الجلال ، بل أكثرهم لا يعلمون كمال جماله ، ولا يطلعون على حسن استعدادهم بمرآتية صفات جماله وجلاله ، وإلا لعطلوا الأمور الدنيوية بأسرها وخربت الدنيا التي هي مزرعة الآخرة.
وفي المثنوي :
استن اين عالم اي جان غفلتست
هو شيارى اين جهانرا آفتست
هو شيارى زان جهانست وجو آن
غالب آيد بست كردد اين جهان
هو شيارى آفتاب وحرص يخ
هو شيارى آب واين عالم وسخ
زان جهان اندك ترشح مى رسد
تانلغزد در جهان حرص وحسد
كر ترشح بيشتر كردد زغيب
نى هنر ماند درين عالم نه عيب
فعلى العاقل الرجوع إلى الله والعمل بما في القرآن والاعتبار بأمثاله حتى يكون من الذين يعلمون حقيقة الحال.
وفي المثنوي :
هست قرآن حالهاى أنبيا
ماهيان بحر باك كبريا
ور بخوانى ونه قرآن بذير
أنبيا وأوليا را ديده كير
وربذيرايى جوبر خوانى قصص
مرغ جانت تنك آيد در قفص
مرغ كواندر قفص زندانيست
مى نجويد رستن ازناد انيست
روحهايى كز قثصها رسته اند
انبياى رهبر شايسته اند
كان الحسن والحسين رضي الله عنهما يلعبان بين يدي النبي ، فأعجب بهما ، فأتاه جبرائيل عليه السلام بقارورة وكاغدة.
وفي القارورة الدم وفي الكاغدة السم ، فقال : أتحبهما يا محمد ، فاعلم أن أحدهما يقتل بالسيف فهذا دمه والآخر يسقى السم ، وهذا سمة ، فقطع القلب عن الأولاد ، وعلق قلبه بالله تعالى من قال الله ، ولم يفر من غير الله إلى الله لم يقل الله دع روحك وقلبك ، ثم قل الله كما قال الله تعالى لحبيبه عليه السلام : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام : 91) ؛ أي : ذرهم ، ثم قل الله ، فسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المنقطعين إليه ، والحاضرين لديه إنه هو المسؤول :
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}
104
تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة إذ كان كفار قريش يتربصون برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم موته.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
يعني : (كفار مكه ميكفتند جشم ميداريم كه محمد بميرد واز وبازر هيم).
والموت : صفة وجودية خلقت ضداً للحياة.
وفي "المفردات" : الموت زوال القوة الحساسية الحيوانية ، وإبانة الروح عن الجسد.
والتأكيد بالنون لتنزيل المخاطب منزلة المتردد فيه تنبيهاً له على ظهور أدلته وحثاً على النظر فيها.
والمعنى : أنكم جميعاً بصدد الموت ، فالموت يعمكم ولامعنى للتربص والشماتة ، بل هو عين الجهالة :
مكن شادمانى بمرك كسى
كه دهرت نماند بس ازوى بسى
فمعنى قوله : ميت وميتون.
بالفارسية : (مرده خواهى شد وزود بميرند) ؛ أي : ستموت ، وسيموتون.
والشيء إذا قرب من الشيء يسمى باسمه ، فلا بد لكل من الموت قريباً وبعيداً ، وكل آتتٍ فهو قريب.
روي أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض قيل له : لد للفناء ، وابن للخراب.
قرأ بعضهم إنك مائت وأنهم مائتون ؛ لأنه مما سيحدث وتوضيحه أن المائت صفة حادثة في الحال ، أو في المستقبل بدليل صحة قولك : زيد مائت الآن ، أو غداً بخلاف الميت ، فإنه صفة لازمة كالسيد للعريق في السؤدد والسائد لمن حدث له السؤدد.
وقيل : الموت ليس ما أسند إلى إبانة كالروح عن الجسد ، بل هو إشارة إلى ما يعتري الإنسان في كل حال من الخلل والنقص وأن البشر ما دام في الدنيا يموت جزءاً فجزءاً ، وقد عبر قوم عن هذا المعنى ، وفصلوا بين الميت والمائت ، فقالوا : المائت هو المتخلل.
قال القاضي علي ابن عبد العزيز ليس في لغتنا مائت على حسب ما قالوه ، وإنما يقال : موت مائت كقولنا : شعر شاعر وسيل سائل.
(8/78)
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لما دنا فراق رسول الله جمعنا في بيت أمنا عائشة رضي الله عنها ، ثم نظر إلينا ، فدمعت عيناه.
وقال : "مرحباً بكم حياكم الله رحمكم الله أوصيكم بتقوى الله وطاعته قد دنا الفراق ، وحان المنقلب إلى الله تعالى وإلى سدرة المنتهى ، وجنة المأوى يغسلني رجال أهل بيتي ويكفنونني في ثيابي هذه إن شاؤوا أو في حلة يمانية ، فإذا غسلتموني وكفنتموني ضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير لحدي ، ثم اخرجوا عني ساعة فأول من يصلي عليّ حبيبي جبرائيل ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل ، ثم ملك الموت مع جنودهم ، ثم ادخلوا عليّ فوجاً فصلوا عليّ".
فلما سمعوا فراقه صاحوا وبكوا وقالوا : يا رسول الله أنت رسول ربنا وشمع جمعنا ، وبرهان أمرنا إذا ذهبت عنا فإلى من نرجع في أمورنا ، قال : "تركتكم على المحجة البيضاء" ؛ أي : على الطريق الواضح الواسع ليلها كنهارها ؛ أي : في الوضوح ، ولا يزيغ بعدها إلا هالك وتركت لكم واعظين ناطقاً وصامتاً ، فالناطق القرآن والصامت الموت ، فإذا أشكل عليكم أمر ، فارجعوا إلى القرآن والسنة ، وإذا قست قلوبكم فلينوها بالاعتبار في أحوال الأموات" ، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم من يومه ذلك من صداع عرض له ، وكان مريضاً ثمانية عشر يوماً يعوده الناس ، ثم مات يوم الإثنين كما بعثه الله فيه ، فغسله علي رضي الله عنه وصب الماء ؛ أي : ماء بئر غرس الفضل بن العباس رضي الله عنهما ودفنوه ليلة الأربعاء وسط الليل ، وقيل : ليلة الثلاثاء ، في حجرة عائشة رضي الله عنها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي الحديث : "من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أفظع المصائب".
وأنشد بعضهم :
105
اصبر لكل مصيبة وتجلد
واعلم بأن المرء غير مخلد
وإذا اعترتك وساوس بمصيبة
فاذكر مصابك بالنبي محمد
وفي "التأويلات النجمية" يشير بقوله : {إِنَّكَ مَيِّتٌ} إلخ إلى نعيه عليه السلام ونعي المسلمين إليهم ليفرغوا بأجمعهم عن مأتمهم ولا تعزية في العادة بعد ثلاث ، ومن لم يتفرغ عن مأتم نفسه وأنواع همومه ، فليس له من هذا الحديث شمة ، فإذا فرغ قلبه عن حديث نفسه ، وعن الكونين بالكلية ، فحينئذٍ يجد الخير من ربه ، وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم ، ولهذا أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام ، فقال : "يا داود فرغ لي بيتاً أسكن فيه ، قال : يا رب أنت منزه عن البيت كله ، قال : فرغ لي قلبك".
وقال لنبينا عليه السلام : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الإنشراح : 1)يعني قلبك.
وقال : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدير : 4) ؛ أي : قلبك عن لوث تعلقات الكونين :
سالك باك رو نخوانندش
آنكه ازماسوى منزه نيست
وقال المولى الجامي قدس سره :
روز شب در نظرت موج زنان بحر قدم
حيف باشد كه بلوث حدث آلوده شوى
{ثُمَّ إِنَّكُمْ} ؛ أي : إنك وإياهم على تغليب ضمير المخاطب على ضمير الغائب وأكد بالنون ، وإن كان الاختصام مما لا ينكر لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الاختصام ؛ لانهماكهم في الغفلة عنه.
{يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ} ؛ أي : مالك أمركم.
{تَخْتَصِمُونَ} فتحتج أنت عليهم ، بأنك بلغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ ، واجتهدت في الدعوة إلى الحق حق الاجتهاد ، وهم قد لجوا في المكابرة والعناد ، ويعتذرون بما لا طائل تحته مثل أطعنا سادتنا وكبراءنا وجدنا آباءنا.
وفي "بحر العلوم" : الوجه الوجيه أن يراد الاختصام العام ، وأن يخاصم الناس بعضهم بعضاً مؤمناً ، أو كافراً ، فيما جرى بينهم في الدنيا بدلائل :
منها : قول النبي عليه السلام : "أول من يختصم يوم القيامة الرجل والمرأة ، والله ما يتكلم لسانها ، ولكن يداها تشهدان ورجلاها عليها بما كانت تعيب لزوجها وتشهد عليه يداه ورجلاه بما كان يؤذيها".
ومنها : قوله عليه السلام : "أنا خصم عثمان بن عفان بين يدي الرب تعالى".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وعن إبراهيم النخعي قالت الصحابة رضي الله عنهم : ما خصومتنا ونحن إخوان ، فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا : هذه خصومتنا.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه كنا نقول : ربنا واحد ونبينا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد ، فما هذه الخصومة ، فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف ، قلنا : نعم هو هذا.
ومنها : قوله عليه السلام : "من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شيء فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، وإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه ، فحمل عليه".
قال ابن الملك : يحتمل أن يكون المأخوذ نفس الأعمال بأن تتجسد ، فتصير كالجواهر ، وأن يكون ما أعد لها من النعم والنقم إطلاقاً للسبب على المسبب.
(8/79)
وعن الزبير بن العوّام رضي الله عنه قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم {ثُمَّ إِنَّكُمْ} إلخ.
قلت : أي رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؛ أي : الذنوب المخصوصة بنا سوى المخاصمات قال : "نعم ليكتررن عليكم حتى تؤدوا إلى كل ذي حق حقه".
قال الزبير :
106
إن الأمر إذاً الشديد.
وفي الحديث : "لا تزال الخصومة بين الناس حتى تخاصم الروح الجسد ، فيقول الجسد : إنما كنت بمنزلة جذع ملقى لا أستطيع شيئاً ، ويقول : الروح إنما كنت ريحاً لا أستطيع أن أعمل شيئاً ، فضرب لهما مثل الأعمى والمقعد يحمل الأعمى المقعد فيدله المقعد ببصره ويحمله الأعمى برجليه".
وفي الحديث : "أتدرون من المفلس" ، قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع.
قال : "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، وكان قد شتم هذا وقذف هذا ، وأكل مال هذا وسفك دم هذا ، فيقضي هذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم ، فطرحت عليه ثم طرح في النار".
فإن قيل : قال في آية أخرى : {لا تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ} (ق : 28).
قيل : إن في يوم القيامة ساعات كثيرة وأحوالها مختلفة مرة يختصمون ومرة لا يختصمون كما أنه قال : {فَهُمْ لا يَتَسَآءَلُونَ} (القصص : 66).
وقال في آية أخرى : {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} (الصافات : 27).
يعني في حال لا يتساءلون ، وفي حال يتساءلون ، وكما أنه قال : {فَيَوْمَـاـاِذٍ لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ} (الرحمن : 39).
وفي موضع آخر : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر : 92).
ونحو هذا كثير في القرآن.
قال بعض الكبار : يوم القيامة يوم عظيم شديد يتجلى الحق فيه أولاً بصفة القهر بحيث يسكت الأنبياء والأولياء ، ثم يتجلى باللطف ، فيحصل لهم انبساط ، فعند ذلك يشفعون.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال في "التأويلات النجمية" : {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} ؛ أي : تراجعون الحق تعالى بشفاعة أقربائكم وأهاليكم وأصدقائكم بعد فراغكم من خويصة أنفسكم نسأل الله سبحانه وتعالى العناية.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَه ا أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَـافِرِينَ * وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِه أولئك هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَالِكَ جَزَآءُ} .
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} .
في "الإرشاد" : المعنى الأول ليختصمون هو الأظهر الأنسب بهذا القول ، فإنه مسوق لبيان حال كل من طرفي الاختصام الجاري في شأن الكفر والإيمان لا غيره.
وفي "بحر العلوم" : فيه دلالة بينة على أن الاختصام يوم القيامة بين الظالمين والمظلومين.
والمعنى : أظلم من كل ظالم من افترى على الله بأن أضاف إليه الشرك والولد.
{وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} ؛ أي : بالأمر الذي هو عين الحق ونفس الصدق ، وهو ما جاء به النبي عليه السلام : {إِذْ جَآءَه} ؛ أي : في مجيئه على لسان الرسول عليه السلام ، يعني : فاجأه بالتكذيب ساعة أتاه وأول ما سمعه من غير تدبر فيه ولا تأمل.
وفيه إشارة إلى من يكذب على الله بادعاء أنه أعطاه رتبة وحالاً ومقاماً ، وإذا وجد صديقاً جاء بالصديق في المقال والأحوال كذبه ، وينكر على صدقه ، فيكون حاصل أمره يوم القيامة ، قوله : {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} (الزمر : 60) ، ولهذا قال تعالى : {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَـافِرِينَ} استفهام إنكاري وإنكار النفي نفي له ونفي النفي إثبات.
والثواء : هو الإقامة والاستقرار والمثوى المقام والمستقر.
والمعنى : أن جهنم منزل ومقام للكاذبين المكذبين المذكورين وغيرهم من الكفار جزاء لكفرهم وتكذيبهم.
107
{وَالَّذِى جَآءَ} : (وانكه آمد ويا آرد).
{بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} : الموصول عبارة عن رسول الله عليه السلام ، ومن تبعه من المؤمنين كما في قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} (المؤمنون : 49) ، فإن المراد : موسى عليه السلام وقومه.
{أولئك} : الموصوفون بالصدق والتصديق.
{هُمُ الْمُتَّقُونَ} المنعوتون بالتقوى التي هي أجلّ الرغائب.
وقال الإمام السهيلي رحمه الله.
{وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ} : هو رسول الله.
الذي {وَصَدَّقَ بِهِ} .
هو الصديق رضي الله عنه ، ودخل في الآية بالمعنى كل من صدق ، ولذلك قال : {وَأُولَئكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفيه على ما قال أهل التفسير : أنه يلزم إضمار الذي بأن يقال : والذي صدق به وذا غير جائز.(8/80)
ودلت الآية على أن النبي عليه السلام يصدق أيضاً بما جاء به من عند الله ويتلقاه بالقبول كما قال الله تعالى : {الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّه وَالْمُؤْمِنُونَ} (البقرة : 285).
ومن هنا قال بعضهم : إن النبي عليه السلام مرسل إلى نفسه أيضاً ، وهكذا وارث الرسول ، فإنه لا يتردد في صدق حاله وتصديق الخبر الذي يأتيه من الله تعالى ، فيفيض بركة حاله إلى وجوده كله ، وإلى من يعتقده ويصدقه ألا ترى أن النبي عليه السلام أتى بالصدق وأفاض من بركات صدقه على أبي بكر رضي الله عنه ، فسمي صديقاً ، وهكذا حال سائر الصديقين.
قال الحافظ :
بصدق كوش كه خورشيد زايد ازنفست
كه از دروغ سيه روى كشت صبح نخست
يعني : أن الصادق الصديق يتولد من نفسه نفس الشمس المعنوية فتنور الأنفس كما أن الصبح الصادق تطلع بعده الشمس الصورية فتنورالآفاق بخلاف حال الكاذب ، فإنه كالصبح الكاذب حيث تعقبه الظلمة.
{لَهُمُ} ؛ أي : للمتقين بمقابلة محاسن أعمالهم في الدنيا.
{مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} ؛ أي : كل ما يشاؤونه من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما أن بعض ما يشاؤونه من تكفير السيئات ، والأمن من الفزع وسائر أهوال القيامة ، إنما يقع قبل دخول الجنة.
يقال : أجمع العبارات لنعيم الجنة.
{وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} (النحل : 57)وأجمع العبارات لعذاب الآخرة.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} (سبأ : 54).
وفي "التأويلات النجمية" : {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} ، لأنهم تقربوا إلى الله تعالى بالاتقاء به عما سواه فأوجب الله في ذمة كرمه أن يتقرب إليهم بإعطاء ما يشاؤون من عنده بحسب حسن استعدادهم.
{ذَالِكَ} ؛ أي : حصول ما يشاؤونه.
{جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ} ثواب الذين أحسنوا أعمالهم بأن عملوها على مشاهدة الحق
{لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِه وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن مُّضِلٍّا أَلَيْسَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا} .
قال الراغب : الكفارة ما يغطي الإثم.
ومنه كفارة اليمين والقتل والظهار.
والتكفير : ستره وتغطيته حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل ، ويجوز أن يكون بمعنى إزالة الكفر والكفران كالتمريض ، بمعنى إزالة المرض ، واللام متصل بالمحسنين ، يعني الذين أحسنوا رجاء أن يكفر الله ، إلخ.
أو بالجزاء ، يعني : جزاهم كي يكفر عنهم كذا في "كشف الأسرار".
وقال المولى أبو السعود رحمه الله : اللام متعلق بقوله : لهم ما يشاؤون باعتبار فحواه الذي هو الوعد ؛ أي : وعدهم الله جميع ما يشاؤونه من زوال المضار ، وحصول المسار ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا دفعاً لمضارهم.
{وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم} ، ويعطيهم ثوابهم {بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} ؛ أي : إعطاؤنا لمنافعهم وإضافة الأسوأ والأحسن إلى ما بعدهما ليست
108
من قبيل إضافة المفضل إلى المفضل عليه ، بل من إضافة الشيء إلى بعضه للقصد إلى التحقيق والتوضيح من غير اعتبار تفضيله عليه ، وإنما المعتبر فيهما مطلق الفضل والزيادة لا على المضاف إليه المعين بخصوصه خلا أن الزيادة المعتبرة فيها ليست بطريق الحقيقة ، بل هي في الأول بالنظر إلى ما يليق بحالهم من استعظام سيئاتهم.
وإن قلت : واستصغار حسناتهم ، وإن جلت.
والثاني : بالنظر إلى لطف كرم أكرم الأكرمين من استكثار الحسنة اليسيرة ومقابلتها بالمثوبات الكثيرة وحمل الزيادة على الحقيقة ، وإن أمكن في الأول بناء على أن تخصيص الأسوأ بالذكر لسان تكفير ما دونه بطريق الأولوية ضرورة استلزام تكفير الأسوأ لتكفير السَّيِّىء لكن لما لم يكن ذلك في الأحسن ، كان الأحسن نظمها في سلك واحد من الاعتبار.
والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني دون الأول للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة بخلاف السيئة ، كذا في "الإرشاد".
واعلم أن سبب التكفير والأجر الأحسن هو الصدق ، وهو من المواهب لا من المكاسب في الحقيقة ، وإن كان حصول أثره منوطاً بفعل العبد ، ويجري في القول والفعل والوعد والعزم.
قال أبو يزيد البسطامي قدس سره : أوقفني الحق سبحانه بين يديه ألف موقف ، في كل موقف عرض عليّ مملكة الدارين ، فقلت : لا أريدها ، فقال لي : في آخر موقف : يا أبا يزيد ما تريد ، قلت : أريد أن لا أريد.
قال : أنت عبدي حقاً وصدقاً :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
من كه باشم كه مرا خواست بود
(8/81)
(داود طائى رحمه الله عالم وقت بود ودر فقه فريد عصر بود ودر مقام صدق جنان بود كه آن شب كه ازدنيا بيرون رفت از آسمان ندا آمدكه "يا أهل الأرض إن داود الطائي رحمه الله قدم على ربه ، وهو غير راضٍ" واين منزلت ومنقب در صدق عمل جنان بودكه أبو بكر عياش حكايت كندكه در حجره وى شدم أورا ديدم تشته وباره نان خشك دردست داشت ومى كريست كفتم).
ما لك يا داود ، فقال : هذه الكسرة آكلها ولا أدري أمن حلال هي أم من حرام.
(وشيخ أبو سعيد أبو الخير قدس سره را در مجلس سؤال كردندكه).
يا الشيخ ما الصدق؟ وكيف السبيل إلى الله شيخ كفت.
الصدق : وديعة الله في عباده ليس للنفس فيه نصيب ؛ لأن الصدق سبيل إلى الحق ، وأبى الله أن يكون لصاحب النفس إليه سبيل.
قال عليه السلام لمعاذ رضي الله عنه : "يا معاذ أخلص دينك يكفك القليل من العمل".
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} .
أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي ، فأفادت معنى إثبات الكفاية وتقريرها.
والكفاية ما فيه سد الخلة وبلوغ المراد في الأمر ؛ أي : هو تعالى كاف عبده محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم أمر من يعاديه وناصره عليه ، وفيه تسلية له عليه السلام ، ويحتمل الجنس ، ففيه تسلية لكل من تحقق بمقام العبودية.
وعن بعض الكبار أليس بكاف عبده أن يعبده ، ويؤمن به وأيضاً عبده المتحقق بحقيقة هويته التي هي مبدأ الألوهية ؛ أي : ألوهيته وإلهيته.
وفي "التأويلات النجمية" : أن الله كاففٍ عبده عن كل شيء ، ولا يكفي له كل شيء عن الله.
ولهذا المعنى إذ يغشى السدرة ما يغشى من نفائس الملك والملكوت لتكون للنبي عليه السلام تلك النفائس كافية عن رؤية ما زاغ البصر ، وما طغى بنظر القبول إليها حتى رأى من آيات ربه الكبرى.
وفي "عرائس البقلي" : فيه نبذة من
109
العتاب ، عاتب الحق عباده بلفظ الاستفهام ؛ أي : هل يجري على قلوبهم أني أتركهم من رعايتي وحفظي كلا ، ومن يجترىء أن يقوم بمخاصمة من هو في نظري من الأزل إلى الأبد.
وفي "كشف الأسرار" : من تبرأ من اختياره واحتياله وصدق رجوعه إلى الله من أحواله ولا يستعين بغير الله من أشكاله وأمثاله آواه الله إلى كنف إقباله وكفاه جميع أشغاله.
وفي الحديث : "من أصبح وهمومه هم واحد كفاه الله هموم الدنيا والآخرة".
(عبد الواحد زيدرا كفتند هيج كس را دانى كه در مراقبت خالق جنان مستغرق بودكه أورا برواى خلق نباشد كفت يكى را دانم كه همين ساعت درآيد عتبة الغلام در آمد عبد الواحد كفت اى عتبه درراه كراديدى كفت هيج كس را وراه وى بازار بود انجمن خلق).
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وقال السيد جعفر الصادق رضي الله عنه : ما رأيت أحسن من تواضع الأغنياء للفقراء ، وأحسن من ذلك إعراض الفقير عن الغني استغناء بالله تعالى ورعايته وكفايته.
قال أبو بكر بن طاهر رحمه الله : من لم يكف بربه بعد قوله : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} ، فهو من درجة الهالكين.
وقال ابن عطاء رحمه الله : رفع جلاجل العبودية من عنقه من نظر بعد هذه الآية إلى أحد من الخلق ، أو رجاهم ، أو خافهم ، أو طمع فيهم :
بس ترا از ما سوى امداد هو
كفت أليس الله بكاف عبده
{وَيُخَوِّفُونَكَ} ؛ أي : المشركون {بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} ؛ أي : بالأوثان التي اتخذوها آلهة من دون الله تعالى ، ويقولون : إنك تعيبها ، وإنها لتصيبك بسوء كالهلاك ، أو الجنون ، أو فساد الأعضاء.
وقال بعض أهل التفسير : إن هذه الآية ؛ أي : قوله : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} نزلت مرة في حق النبي عليه السلام ، ومرة في شأن خالد بن الوليد رضي الله عنه كسورة الفاتحة حيث نزلت مرة بمكة ، ومرة بالمدينة.
(ونزولش در حق خالد بن الوليد آنست كه قومى از مشركان عرب درختى را بمعبودى كرفته بودند ودر وى ديوى در زير بيخ آن درخت قرار كدره بود نام آن ديو عزى ورب العزة آنرا سبب ضلالت ايشان كرده بود مصطفى عليه السلام خالد وليدرا فرموده تا آن درخت را ازبيخ بر آورد وآن ديورا بكشد مشركان كرد آمدند وخالد را بترسانيد ند كه عزى ترا هلاك كند يا ديوانه كند خالد از مقالت ايشان مصطفى را خبر كرد ورب العزة در حق وى اين آيت فرستادكه {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} خالد باز كشت وآن درخت را از بيج بكند وزير آن درخت شخصى يافت عظيم سياه كريه المنظر واورا بكشت بس مصطفى عليه السلام كفت).
تلك عزى ولن تعبد أبداً.
كذا في "كشف الأسرار" : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} ؛ أي : ومن يجعله دالاً عن الطريق القويم والفهم المستقيم حتى غفل عن كفايته تعالى وعصمته له عليه السلام وخوفه بما لا ينفع ولا يضر أصلاً.
{فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} يهديه إلى خير ما.
{وَمَن يَهْدِ اللَّهُ} ؛ أي : ومن يرشده إلى الصراط المستقيم.
{فَمَا لَه مِن مُّضِلٍّ} يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه إذ لا راد لفعله ، ولا معارض لإرادته.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
(8/82)
وفي "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى أن رؤية الخير والشر من غير الله ضلالة والتخويف بمن دون الله غاية الضلالة ولهذا قال : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} ، ولأن الهادي في الحقيقة هو الله ، فمن يضلل الله كيف يهديه غيره ، وكذلك من يهد الله فما له من مضل ؛ لأن المضل على الحقيقة هو الله ، فمن يهده الله كيف يضله.
110
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ} غالب منيع يعز من يعبده.
{ذِى انتِقَامٍ} من أعدائه لأوليائه ؛ أي : هو عزيز ذو انتقام ؛ لأن الاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً وتقريراً كما مرّ.
والانتقام بالفارسية : (كينه كشيدن).
وفي "بحر العلوم" : من النقمة ، وهي الشدة والعقوبة.
{وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن مُّضِلٍّا أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ * وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَـاشِفَـاتُ ضُرِّه أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـاتُ رَحْمَتِه قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ * قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَـامِلٌا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} .
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم} ؛ أي : هؤلاء المشركين الذين يخوفونك بآلهتهم ، فقلت لهم : {مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} من اخترع هذين الجنسين المعبر عنهما بالعالم.
{لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ؛ أي : خلقهن الله لوضوح الدليل على اختصاصه بالخالقية واللام الأولى توطئة وتمهيد للقسم ، والثانية : جواب له ، وهو سادّ مسدّ جوابين.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الإيمان الفطري مركوز في جبلة الإنسان من يوم الميثاق إذا شهدهم الله على أنفسهم ، فقال : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (الأعراف : 172) ، كما قال تعالى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ} (الروم : 30).
وقال عليه السلام : "كل مولود يولد على الفطرة" ، فلا يزال يوجد في الإنسان ، وإن كان كافراً أثر ذلك الإقرار ، ولكنه غير نافع إلا مع الإيمان الكسبي بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاؤوا به.
{قُلْ} تبكيتاً لهم.
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ} .
أرأيتم بمعنى : أخبروني.
جعل الرؤية ، وهو العلم الذي هو سبب الإخبار مجازاً عن الإخبار ، وتدعون بمعنى : تعبدون ، وما عبارة عن الآلهة والضر سوء الحال أياً كان من مرض وضيق معيشة وشدة ، والاستفهام للإنكار وضميرهنّ راجع إلى ما باعتبار الآلهة.
والكشف : الإظهار والإزالة ، ورفع شيء عما يواريه ويعطيه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والمعنى : بعد ما تحققتم أن خالق العالم العلوي والسفلي هو الله تعالى ، فأخبروني أن آلهتكم إن أرادني الله بضر ، هل هن يكشفن عني ذلك الضرر والبلاء ويدفعنه؟ أي : لا تقدر على دفعه وإزالته.
{أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ} ؛ أي : أو إن أرادني بنفع من صحة أو غنى أو غير ذلك من المنافع.
{هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـاتُ رَحْمَتِهِ} .
فيمنعنها عني ؛ أي : لا تقدر على إمساك تلك الرحمة ، ومنعها وتعليق إرادة الضر والرحمة بنفسه عليه السلام للرد في نحورهم حيث كانوا خوفوه مضرة الأوثان ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصح ، وإنما قال : كاشفات وممسكات إبانة لكمال ضعفها وإشعاراً بأنوثتها كما قال : {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِه إِلا إِنَـاثًا} (النساء : 117) ، وهم كانوا يصفونها بالأنوثة مثل العزى واللات ومناة ، فكأنه قال : كيف أشركتم به تعالى هذه الأشياء الجمادية البعيدة من الحياة والعلم والقدرة والقوة والتمكن من الخلق ، هلا استحييتم من ذلك؟.
{قُلْ} يا محمد : {حَسْبِىَ اللَّهُ} حسب مستعمل في معنى الكفاية ؛ أي : الله كافيّ في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر.
وبالفارسية : (بسست مرا خداى تعالى در رسانيدن خيروباز داشتن شر).
روي : أنه عليه السلام لما سألهم سكتوا ، فنزل : {عَلَيْهِ} تعالى لا على غيره أصلاً.
{يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} لعلمهم بأن ما سواه تحت ملكوته تعالى :
توبا خداى اندازكار ودل خوش دار
كه رحم اكر نكند مدعى بكند
وفيه إشارة إلى من تحول عن الكافي إلى غير الكافي لم يتم أمره ، فلا بد من التوكل على رب العباد والتسليم له والانقياد.
(در كليله ودمنه كويد باسلطان قوى كسى طاقت ندارد وكس با او نستيزد مكر بكردن دادن ويرا مثل آن خشيش كه هركاه كه باد غلبه كيرد خودرا فراباد دهد تادر زمين همين كرداندش آخر نجات يابد وآن درخت رفته راكه كردن ننهد
111
(8/83)
از بيخ بركندن وجون شرار بينى وازو بترسى بيش أود زمين بغلظ تواضع كن تابرهى كه شيرا كرجه عظيم بود اما كريم بود).
فالعصمة من الله تعالى.
حكي : أن سفينة مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخطأ الجيش بأرض الروم وأسر ، فانطلق هارباً يلتمس الجيش ، فإذا بأسد ، فقال له : يا أبا الحارث ، أنا سفينة مولى رسول الله ، فكان مرادي كيت وكيت ، فأقبل الأسد يتبصبص حتى قام إلى جنبه ، فركب عليه ، فكان كلما سمع صوتاً أهوى إليه ، فلم يزل كذلك حتى بلغ الجيش ، ثم رجع الأسد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي إشارات منها أن الحيوان المفترس لا يقدر على الإضرار إذا كان المرء في عصمة الله ، فكيف الجماد.
ومنها : أن طاعة الله تعالى والتوكل عليه سبب النجاة من المهالك.
ومنها : أن الاستشفاع برسول الله والتقرب إليه بالإيمان والتوحيد والعمل بسنته يهدي إلى سواء الصراط ، كما هدى سفينة رضي الله عنه.
فعلى العاقل إخلاص التوحيد والإعراض عما سوى الله تعالى ، فإنه تعالى كاف لعبده في كل حال من الأحوال والأمور.
{قُلْ يا قَوْمِ} ؛ أي : قوم من.
{اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} على حالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنتم فيها ، فإن المكانة تستعار من العين للمعنى كما يستعار هنا ، وحيث للزمان مع كونهما للمكان.
{إِنِّى عَـامِلٌ} ؛ أي : على مكانتي ما استطعت ولا يزيد حالي إلا قوّة ونصرة.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} ، بسوء أعماله ، ومن مفعول تعلمون.
والإخزاء : (دون كردن وخوار كردن ورسوا كردن وهلاك كردن).
ومعاني هذه الكلمة يقرب بعضها من بعض.
ومنه الحديث : "لا تخزوا الحور" ؛ أي : لا تجعلوهن يستحيين من فعلكم كما في "تاج المصادر".
والمعنى بالفارسية : (بس زود باشدكه بدانيد آنكس راكه ازماوشما بيابد بدو عذابى كه اورا رسواكند).
وهو عذاب الدنيا وخزي أعدائه دليل على غلبته فقد نصره الله وعذب أعداءه وأخزاهم يوم بدر.
يعني : (حق سبحانه رسوا كرد دشمنان آن حضرت رادر روز بدركه جمعى از ايشان بدست مؤمنان كشته كشتند وكروهى بقيد مذلت وسلسلة نكبت كرفتار شدند) :
اين سربباد داده وآن دستها بنيد
آن كشته خوار وزار وكرفتار ومستمند
{وَيَحِلُّ} : ينزل من أفعاله من الحلول ، وهو النزول.
{عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} إلى الأبد لا يفارقه دائم لا ينقطع عنه ، وهو عذاب الآخرة يعني : أنتم الهالكون بسبب كونكم على البطلان.
ونحن الناجون بسبب كوننا على الحق ، فسوف ينكشف ربحنا وخسرانكم وسوف تظهر زيادتنا ونقصانكم وسوف يطالبكم الله ولا جواب لكم ويعذبكم ، ولا شفيع لكم ويدمر عليكم ولا صريخ لكم :
إيمان رسد بفرياد قرآن رسد بامداد
{مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّا فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِه وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَآءَا قُلْ أَوَلَوْ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} ؛ أي : القرآن.
{لِلنَّاسِ} ؛ أي : لأجلهم فإنه مناط لمصالحهم في المعاش والمعاد ، وقد سبق الفرق بين إليك وعليك في أول السورة.
{بِالْحَقِّ} حال من فاعل أنزلنا.
حال كوننا محقين في إنزاله أو من مفعوله كون ذلك الكتاب ملتبساً بالحق والصدق ؛ أي : كل ما فيه حق وصواب لا ريب فيه موجب للعمل به حتماً.
{فَمَنِ اهْتَدَى} ، بأن عمل بما فيه.
{فَلِنَفْسِهِ} ؛ أي : إنما نفع به نفسه.
{وَمَن ضَلَّ} ، بأن لم يعمل بموجبه ، {فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} ، لما أن وبال ضلالة مقصور عليها.
112
{وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} .
الوكيل : القائم على الأمر حتى يكمله ؛ أي : وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى ، وما وظيفتك إلا البلاغ.
وقد بلغت أي بلاغ.
وفي الآية إشارة إلى أن القرآن مذكر جوار الحق للناس الذين نسوا الله وجواره ، فمن تذكر بتذكيره واتعظ بوعظه ، واهتدى بهدايته كانت فوائد الهداية راجعة إلى نفسه ، بأن تنورت بنور الهداية ، فانمحى عنها آثار ظلمات صفاتها الحيوانية السبعية الشيطانية الموجبة لدخول النار.
{وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} ، فإنه يوكله إلى نفسه وطبيعته ، فتغلب عليه الصفات الذميمة ، فيكون حطب النار.
{وَمَآ أَنتَ} يا محمد {عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} ، تحفظهم من النار إذا كان في استعدادهم الوقوع فيها.
(8/84)
وفي الحديث : "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها وأنا آخذ بحجزكم تقحمون فيه"(1).
والحجز : جمع الحجزة ، كالكدرة ، وهي معقد الإزار خصه بالذكر ، لأن أخذ الوسط أقوى في المنع وأصل تقحمون بالتشديد تتقحمون وفيه ؛ أي : في النار على تأويل المذكور ، يعني : أنا آخذكم حتى أبعدكم عن النار وأنتم تدخلون فيها بشدة.
ومعنى التمثيل : أن النبي عليه السلام في منعهم عن المعاصي والشهوات المؤدية إلى النار وكونهم متقحمين متكلفين في وقوعها مشبه بشخص مشفق يمنع الدواب عنهم وهن يغلبنه.
وفي الحديث إخبار عن فرط شفقته على أمته وحفظهم من العذاب ، ولا شك فيه لأن الأمم في حجر الأنبياء كالصبيان الأغبياء في أكناف الآباء صلوات الله عليهم وسلامه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي الحديث : "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً ، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا منها وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به ، فعلم وعلم ومثل من لم يرفع لذلك رأساً" ؛ أي : لم يلتفت إليه بالعمل ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
انتهى ، فعلم العالم العامل المعلم كالمطر الواقع على التربة الطيبة ، وعلم العالم المعلم الغير العامل كالمطر الواقع على الأجادب ، وأما الذي لا يقبل الهدى أصلاً ، فكان كالأرض التي لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ، فكما أنها ليس فيها ماء ولا كلأ ، فكذا الكافر والجاهل ليس فيه علم ولا عمل ، فلا لنفسه نفع ولا لغيره.
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} .
يقال : توفاه الله ، قبض روحه.
كما في "القاموس".
والأنفس : جمع نفس بسكون الفاء ، وهي النفس الناطقة المسماة عند أهل الشرع بالروح الإضافي الإنساني السلطاني ، فسميت نفساً باعتبار تعلقها بالبدن وانصياعها بأحكامه ، والتلبس بغواشيه وروحاً باعتبار تجردها في نفسها ورجوعها إلى الله تعالى.
فالنفس ناسوتية سفلية والروح لاهوتية علوية.
قالوا : الروح الإنساني جوهر بسيط محرك للجسم ، وليس هو حالاً في البدن كالحلول السرياني ولا كالحلول الجواري ، ولكن له تعلق به تعلق التدبير والتصرف والروح الحيواني أثر من آثار هذا الروح على ما سبق مني تحقيقه في سورة الإسراء عند قوله تعالى : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85) ، فهو من الروح الإنساني كالقمر من الشمس في استفاضة النور والبهائم تشارك فيه الإنسان وهو الروح الذي يتصرف في تعديله وتقويته علم الطب ولا يحمل الأمانة والمعرفة والتراب يأكل محله ، وهو البدن العامي ، لأن الله تعالى حرم على الأرض
113
أن تأكل أجساد الأنبياء والصديقين والشهداء بخلاف الروح الإنساني ، فإنه حامل الأمانة والمعرفة والإيمان ويتصرف فيه علم الشريعة والطريقة والمعرفة والحقيقة بتوسط الحكماء الإلهيين ، ولا يأكله التراب ، وهو باعتبار كونه نفساً هو النبي والولي والمشار إليه بأنا ، والمدرج في الخرقة بعد مفارقته عن البدن ، والمسؤول في القبر والمثاب والعقاب ، وليس له علاقة مع البدن سوى أن يستعمله في كسب المعارف بواسطة شبكة الحواس ، فإن البدن آلته ومركبه وشبكته ، وبطلان الآلة والمركب والشبكة لا يوجب بطلان الصياد.
نعم بطلت الشبكة بعد الفراغ من الصيد ، فبطلانها غنيمة إذ يتخلص من حملها وثقلها.
ولذا قال عليه السلام : "الموت تحفة المؤمن".
أما لو بطلت الشبكة قبل الصيد ، فقد عظمت فيه الحسرة والندامة ، ولذا يقول المقصرون : {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى أَعْمَلُ صَـالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} (المؤمنون : 99 ـ ـ 100) الآية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والموت : زوال القوة الحساسة كما أن الحياة وجود هذه القوة ، ومنه سمي الحيوان حيواناً ومبدأ هذه القوة هو الروح الحيواني الذي محله الدماغ كما أن محل الروح الإنساني : القلب الصنوبري ولا يلزم من ذلك تحيزه فيه ، وإن كانت الأرواح البشرية متحيزة عند أهل السنة.
ثم إن الإنسان ما دام حياً ، فهو إنسان بالحقيقة ، فإذا مات فهو إنسان بالمجاز ؛ لأن إنسانيته في الحقيقة إنما كانت بتعلق الروح الإنساني ، وقد فارقه.
وفي المثنوي :
جان زريش وسبلت تن فارغست
ليك تن بى جان بود مرداريست
ومعنى الآية : يقبض الله الأرواح الإنسانية عن الأبدان بأن يقطع تعلقها عنها وتصرفها فيها ظاهراً وباطناً ، وذلك عند الموت ، فيزول الحس والحركة عن الأبدان ، وتبقى كالخشب اليابس ويذهب العقل والإيمان والمعرفة مع الأرواح.
وفي "الوسيط" : {حِينَ مَوْتِهَا} ؛ أي : حين موت أبدانها وأجسادها على حذف المضاف.
(8/85)
يقول الفقير : ظاهره يخالف قوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران : 185) ، فإن المفهوم منه أن الموت يطرأ على النفوس لا على البدن ، اللهم إلا أن يقال : المراد أن الله يتوفى الأرواح حين موت أبدانها بمفارقة أرواحها عنها وأسند القبض إليه تعالى ، لأنه الآمر للملائكة القابضين.
وفي "زهرة الرياض" : التوفي من الله الأمر بخروج الروح من البدن لو اجتمعت الملائكة لم يقدروا على إخراجه ، فالله يأمره بالخروج كما أمره بالدخول ، ومن الملائكة المعالجة ، وإذا بلغت الحنجرة يأخذها ملك الموت على الإيمان ، أو الكفر.
انتهى.
على أن من خواص العباد من يتولى الله قبض روحه ، كما روي أن فاطمة الزهراء رضي الله عنها لما نزل عليها ملك الموت لم ترض بقبضه ، فقبض الله روحها ، وأما النبي عليه السلام ، فإنما قبضه ملك الموت لكونه مقدم الأمة ، وكما قال ذو النون المصري قدس سره : إلهي لا تكلني إلى ملك الموت ، ولكن اقبض روحي أنت ولا تكلني إلى رضوان ، وأكرمني أنت ولا تكلني إلى مالك ، وعذبني أنت ، نسأل الله الفضل على كل حال.
{وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} قوله : {فِى مَنَامِهَا} متعلق بيتوفى المقدر.
المنام والنوم واحد ، وهو استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه.
وقيل : هو أن يتوفى الله النفس من غير موت كما في الآية.
وقيل : النوم موت خفيف والموت : نوم ثقيل.
وهذه التعريفات كلها صحيح بنظرات مختلفة.
والمعنى :
114
ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ؛ أي : يتوفاها حين نومها بأن يقطع تعلقها عن الأبدان ، وتصرفها فيها ظاهراً لا باطناً ، فالنائم يتنفس ويتحرك ببقاء الروح الحيواني ، ولا يعقل ولا يميز بزوال الروح الإنساني ومثل النوم حال الانسلاخ عند الصوفية إلا أن المنسلخ حال اليقظة أقوى حالاً وشهوداً من المنسلخ حال النوم ، وهو النائم وعبر عن الموت ، والنوم بالتوفي تشبيهاً للنائمين بالموتى لعدم تميزهم ، ولذا ورد : النوم أخو الموت".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وعن علي رضي الله عنه أن الروح يخرج عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد ، فلذلك يرى الرؤيا ، فإذا انتبه عاد روحه إلى جسده بأسرع من لحظة.
ويروى : أن أرواح المؤمنين تعرج عند النوم إلى السماء ، فمن كان منهم طاهراً ؛ أي : على وضوء أذن له في السجودتعالى تحت العرش ، ومن لم يكن منهم طاهراً ، لم يؤذن له فيه ، فلذلك يستحب أن ينام الرجل على الوضوء لتصدق رؤياه ، ويكون له مع الله معاملات ومخاطبات.
قال بعضهم : خلق الله الأرواح على اللطافة والأجساد على الكثافة ، فلما أمرت بالتعلق بالأجساد انقبضت من الاحتجاب بها ، فجعل الله النوم والانسلاخ سبباً لسيرها في عالم الملكوت ، حتى يتجدد لها المشاهدة ، وتزيد الرغبة في قرب المولى ؛ وإنما يستريح العبد ويجد اللذة في النوم ؛ لأنه في يد الله ، وهو أرحم الراحمين ، ويضطرب ويجد الألم في الموت ؛ لأنه في يد ملك الموت ، وهو أشد الخلائق أجمعين.
{فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} إمساك شيء تعلق به وحفظه ، والقضاء الحكم ؛ أي : يمسك أنفس الأموات عنده ولا يردها إلى البدن ، وذلك الإمساك إنما هو عالم البرزخ الذي تكون الأرواح فيه بعد المفارقة من النشأة الدنيوية ، وهو غير البرزخ بين الأرواح المجردة والأجسام ؛ أي : غير عالم المثال الذي كان النوم أو الانسلاخ سبباً للدخول فيه ؛ لأن مراتب تنزلات الوجود ومعارجه دورية والمرتبة التي قبل النشأة الدنيوية هي من مراتب التنزلات ولها الأولية والتي بعدها هي من مراتب المعارج ، ولها الآخرية ، وأيضاً : الصور التي تلحق الأرواح في البرزخ الأخير ؛ إنما هي صور الأعمال ونتائج الأفعال السابقة في النشأة الدنيوية بخلاف صور البرزخ الأول ، فلا يكون شيء منهما عين الآخرة ، لكنهما يشتركان في كونهما عالماً روحانياً وجوهراً نورانياً غير مادي مشتملاً على مثال صور العالم.
{وَيُرْسِلُ الاخْرَى} ؛ أي : ويرسل أنفس الأحياء ، وهي النائمة إلى أبدانها عند اليقظة والنزول في عالم المثال المقيد ، والعالم المثال شبه بالجوهر الجسماني في كونه محسوساً مقدارياً ، وبالجوهر العقلي المجرد في كونه نورانياً ، فجعل الله عالم المثال وسطاً شبيهاً بكل من الطرفين حتى يتجسد أولاً ، ثم يتكاثف.
ألا ترى أن حقيقة العلم الذي هو مجرد يتجسد بالصورة التي في عالم المثال.
{إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} : هو الوقت المضروب لموتها ، وهو غاية لجنس الإرسال ؛ أي : لا لشخصه حتى يرد لزوم أن لا يقع بعد اليقظة الأولى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وعن سعيد بن جبير أن أرواح الأحياء وأرواح الأموات تلتقي في المنام ، فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف ، فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجسادها إلى انقضاء مدة حياتها.
وفي "الأسئلة المقحمة" : يقبض الروح حال النوم ، ثم يمسك الروح التي قضى الموت على صاحبها ، ووافق نومه أجله.
انتهى.
(8/86)
فيكون قوله : فيمسك متفرعاً على قوله : والتي
115
لم تمت ، ويؤيده قوله عليه السلام : "إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره ، فإنه لا يدري ما خلف عليه ، ثم يقول : باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي ، فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين".
وفيه إشارة إلى أن المقصود من الحياة هو : الصلاح.
وما عداه ينبغي أن يكون وسيلة إليه.
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} ؛ أي : فيما ذكر من التوفي على الوجهين والإمساك في أحدهما ، والإرسال في الآخر.
{لايَـاتٍ} عجيبة دالة على كمال قدرته وحكمته وشمول رحمته.
{لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في كيفية تعلق الأرواح بالأبدان وتوفيها عنها تارة بالكلية كما عند الموت ، وإمساكها باقية بعد الموت ، لا تفنى بفناء الأبدان ، وما يقربها من السعادة والشقاوة.
وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النوم وإرسالها حيناً بعد حين إلى انقضاء آجالها وانقطاع أنفاسها.
وفي "الكواشي" : {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، فيستدلون على أن القادر على ذلك قادر على البعث كما قال الكاشفي : (براى كروهى كه تفكر كنند در امراماته كشابه نوم است ودر احياكه مما ثلتست به يقظه ودرتورات مذكور است كه اى فرزند آدم جنانجه در خواب ميروى بميرد وجنانجه بيدار ميكردى برانكيخته شوى) : ()
فالموت باب وكل الناس داخله
وفي الحديث القدسي : "ما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن".
لما كان التردد ، وهو التحير بين الشيئين لعدم العلم بأن الأصلح أيهما محالاً في حق الله تعالى حمل على منتهاه ، وهو التوقف.
يعني : ما توقفت فيما أفعله مثل توقفي في قبض نفس المؤمن ، فإني أتوقف فيه وأريه ما أعددت له من النعم والكرامات حتى يميل قلبه إلى الموت شوقاً إلى لقائي.
ويجوز أن يراد من تردده تعالى إرسال أسباب الهلاك إلى المؤمن من الجوع والمرض وغيرهما.
وعدم إهلاكه بها ثم إرسالها مرة أخرى حتى يستطيب الموت ويستحلي لقاءه ، كذا في "شرح السنة" : "يكره الموت" ، استئناف جواب عمن قال : ما سبب ترددك أراد به شدة الموت ؛ لأن الموت نفسه يوصل المؤمن إلى لقاء الله ، فكيف يكرهه المؤمن.
وفي الحديث : "إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت" :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
تانميرد بنده ازهستى تمام
أو نبيند حق تعالى والسلام
مرك بيش از مرك امنست اى فتى
اين جنين فرمود مارا مصطفى
قال بعضهم : (واز موت كراهت داشتن بنده را سبب آنست كه محجوبست از ادراك لذت وصال وكمال عزتى كه اورا بعد از موت حاصل خواهد شد).
"وأنا أكره مساءته" ؛ أي : إيذاءه بما يلحقه من صعوبة الموت وكربه.
"ولا بد له منه" ؛ أي : للعبد من الموت ؛ لأنه مقدر لكل نفس.
قال بعضهم : (واكرجه حق تعالى كراهت داردكه روح جنان بنده قبض كند اماجون وقت آيد ازغايت محبت كه بابنده دارد حجاب جسم كه نقاب رخساره روح است برا ندازد) :
حجاب جهره جان ميشود غبار تنم
خوشا دمى كه ازين جهره برده بر فكنم
فعلى العاقل أن يتهيأ للموت بتحصيل حضور القلب وصفاء البال ، فإن كثيراً من أرباب الحال والمقال وقعوا في الاضطراب عند الحال.
وفي المثنوي :
116
آن هنر هاى دقيق وقال وقيل
قوم فرعونند أجل جون آب نيل
سحر هاى ساحران دان جمله را
مرك جوبى دانكه آن شد ازدها
جاد ويهارا همه يك لقمه كرد
يك جهان برشت بد آن را اصبح خورد
آتش ابراهيم را دندان نزد
جون كزيده حق بود جونش كزد
همجنين باد اجل برعارفان
نرم وخوش همجو نسيم يوسفان
{أَمِ اتَّخَذُوا} : تزلت في أهل مكة حيث زعموا أن الأصنام شفعاؤهم عند الله ، فقال الله تعالى منكراً عليهم ، أم اتخذوا ؛ أي : بل اتخذ قريش.
فأم منقطعة بمعنى : بل والهمزة.
{مِن دُونِ اللَّهِ} : من دون إذنه تعالى.
{شُفَعَآءَ} : تشفع لهم عنده تعالى ، وهي الأصنام ، جمع : شفيع.
والشفع : ضم الشيء إلى مثله ، والشفاعة : الانضمام إلى آخر مسائلاً عنه ، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى رتبة إلى من هو أدنى ، ومنه الشفاعة يوم القيامة.
{قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْـاًا وَلا يَعْقِلُونَ} : الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه.
والواو : للحال عند الجمهور.
والمعنى : قل يا محمد للمشركين أفتتخذون الأصنام شفعاء ، ولو كانوا لا يملكون شيئاً من الأشياء ، ولا يعقلونه فضلاً عن أن يملكوا الشفاعة عند الله ، ويعقلوا أنكم تعبدونهم.
يعني : (توتع شفاعت مكنيد از جمادات وحال آنكه ايشان ازقدرت وعلم بى بهره اند).
(8/87)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن اتخاذ الأشياء للعبادة أو للشفاعة بالهوى ، والطبع لا بأمر الله ، ووفق الشرع يكون ضلالة على ضلالة ، وأن المقبول من العبادة والشفاعة ، ما يكون بأمر الله ومتابعة نبيه عليه السلام على وفق الشرع ، وذلك لأن حجاب العبد هو الهوى والطبع ، وإنما أرسل الأنبياء لنفي الهوى ، لتكون حركات العباد وسكناتهم بأمر الحق تعالى ومتابعة الأنبياء لا بأمر الهوى ، ومتابعة النفس ، لأن النفس وهواها ظلمانية ، والأمر ومتابعة الأنبياء نورانية ، والشهوات ظلمانية.
ولكن العبد إذا عبد الله بالهوى والطبع تصير عبادته ظلمانية ، فإذا جامع زوجته بالأمر على وفق الشرع تصير شهوته نورانية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{قُلْ} بعد تبكيتهم وتجهيلهم بما ذكر تحقيقاً للحق.
{الشَّفَـاعَةُ جَمِيعًا} نصب على الحال من الشفاعة ؛ أي : هو الله تعالى مالك الشفاعة لا يستطيع أحد شفاعة ما إلا أن يكون المشفوع له مرتضى.
والشفيع مأذوناً له ، وكلاهما مفقود ها هنا.
قال البقلي : بين أنه تعالى مرجح الكل ، الشافع والمشفع فيه حتى يرجع العبد العارف إليه بالكلية ، ولا يلتفت إلى أحد سواه ، فلا يصل إليه أحد إلا به.
قال الله تعالى : {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه إِلا بِإِذْنِهِ} (البقرة : 255).
ونعم ما قالت رابعة رحمها الله : محبة الله تعالى ما أبقت محبة غيره.
ففيه إشارة إلى أن محبة الرسول عليه السلام مندرجة في محبة الله تعالى ، فمن أحب الله حباً حقيقياً ، أحب الله أن يأذن لحبيبه في شفاعته ، ومن أحب رسول الله من غير محبة الله لم يؤذن له في الشفاعة ، ألا ترى أن قوماً أفرطوا في حب عليّ رضي الله عنه ، ونسوا محبة الله فنفاهم عليّ بل أحرق بعضهم.
{لَّهُ} تعالى وحده {مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وما فيهما من المخلوقات لا يملك أحد أن يتكلم في أمر من أموره بدون إذنه ورضاه.
وأشار إلى أن الله تعالى هو المالك حقيقة ، فإن ما سواه عبد ولا ملك للعبد ، ولو ملكه مولاه ، وإنما
117
هو عارية عنده ، والعارية مردودة إلى مالكها.
{ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يوم القيامة لا إلى أحد سواه لا ستقلالاً ولا اشتراكاً ، فيفعل يومئذٍ ما يريد.
وفي "الكواشي" : يحصي أعمالكم ثم إلى حسابه ترجعون ؛ أي : تردون ، فيجازيكم فاحذروا سخطه ، واتقوا عذابه ، فيا ربح الموحدين يومئذٍ ويا خسارة المشركين.
وفي الحديث : "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".
والمراد : أمة الإجابة ، فالكفر أكبر الكبائر وصاحبه مخلد في النار لا شفاعة له.
فإن قلت : الحكم في المكروه أن يستحق مرتكبه حرمان الشفاعة كما ذكر في "التلويح" ، فيكون حرمان أهل الكبائر أولى.
قلت : استحقاق حرمانها لا يوجب الحرمان بالفعل.
(شفيع علاء الدولة در عروه كويد جميع فرق إسلامية أهل نجاتند ومراد از ناحيه در حديث "ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة والناجية منها واحدة".
ناجية بي شفاعتيست).
واعلم أن افتخار الخلق في الدنيا بعشرة ، ولا ينفع ذلك يوم القيامة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
الأول : المال ، فلو نفع المال لأحد لنفع قارون.
قال الله تعالى : {فَخَسَفْنَا بِه وَبِدَارِهِ الارْضَ} (القصص : 81).
والثاني : الولد ، فلو نفع الولد لأحد لنفع إبراهيم عليه السلام أباه آزر.
قال تعالى : يا اإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَآ} (هود : 76).
والثالث : الجمال ، فلو نفع الجمال لنفع أهل الروم ؛ لأن لهم تسعة أعشار الجمال.
قال الله تعالى : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (آل عمران : 106).
والرابع : الشفاعة ، فلو نفعت الشفاعة لنفع الرسول من أحب إيمانه.
قال تعالى : {إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} (القصص : 56) ؛ كأنه قال : أنت شفيعي في الجنايات لا شريكي في الهدايات.
والخامس : الحيلة ، فلو نفعت الحيلة لنفع الكفار مكرهم.
قال تعالى : {وَمَكْرُ أولئك هُوَ يَبُورُ} (فاطر : 10).
والسادس : الفصاحة ، فلو نفعت الفصاحة لنفعت العرب.
قال تعالى : {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ} (النبأ : 38).
والسابع : العز ، فلو نفع العز لنفع أبا جهل.
قال تعالى : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49).
والثامن : الأصدقاء ، فلو نفع الأصدقاء لنفعوا الفساق.
قال الله تعالى : {الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف : 67).
والتاسع : الأتباع ، فلو نفع التبع لنفع الرؤساء.
قال تعالى : {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} (البقرة : 166).
(8/88)
والعاشر : الحسب ، فلو نفع الحسب لنفع يعقوب اليهود ؛ لأنهم أولاد يعقوب.
قال تعالى : {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} (القيامة : 3).
وقال الشيح سعدي : (خاكسترا كرجه نسب عالى داردكه آتش جوهر علويست وليكن جون بنفس خود هنرى ندارد باخاك برابراست قيمت شكر نه ازنى است كه آن خاصيت ويست) :
جو كنعانرا طبيعت بى هنر بود
بيمبر زادكى قدرس نيفزود
هنر بنماى اكر دارى نه كوهر
كل ازخارست وابراهيم از آزر
فإذا عرفت هذه الجملة ، فارجع إلى الله تعالى من الأسباب الغير النافعة ، وذلك بكمال الإيمان والتقوى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{قُل لِّلَّهِ الشَّفَـاعَةُ جَمِيعًا لَّه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِا وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِه إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ عَـالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ} .
{وَإِذَا} (وجون وآنكاه كه).
{ذِكْرِ اللَّهِ} حال كونه {وَحْدَهُ} ؛ أي : منفرداً دون آلهة المشركين.
والعامل في إذا قوله : {اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} انقبضت ونفرت قلوب الذين لا يصدقون بيوم القيامة.
والشمز : نفور النفس مما تكره وتشمز وجهه تقبض.
والاشمئزاز : هو أن يمتلىء القلب غيظاً وغماً ينقبض منه أديم الوجه ، وهو غاية ما يمكن من الانقباض ، ففيه مبالغة في بيان حالهم القبيحة.
{وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ}
118
أي : من دون الله ، يعني : الأوثان فرادى ، أو مع ذكر الله.
{إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون ويظهر في وجوههم البشر ، وهو أثر السرور لفرط افتتانهم بها ونسيانهم الحق.
والاستبشار : هو أن يمتلىء القلب سروراً حتى تنبسط له بشرة الوجه ، وهو نهاية ما يمكن من الانبساط ، ففيه مبالغة أيضاً في بيان حالهم القبيحة والعامل في إذا هو العامل في إذا المفاجأة ، تقديره : وقت ذكر الذين من دونه فاجاؤوا وقت الاستبشار.
والمعنى بالفارسية : (آنكاه ايشان تازه وفرحناك شوند بجهت فراموسى از جق ومشغولي بباطل اما كار مؤمن بر عكس اينست ازياد خدى تعالى شادان وبذكر ما سوى غمكين است) :
نامت شنوم دل از فرح زنده شود
قال من از اقبال تو فرخنده شود
از غير توهر جاسخن آيد بميان
خاطر بهزاران غم براكنده شود
حكي أن بعض الصلحاء ذكر عند رابعة العدوية الدنيا وذمها ، فقالت : من أحب شيئاً أكثر ذكره.
واعلم أن هؤلاء المشركين كأمثال الصبيان فكما أنهم يفرحون بالأفراس الطينية.
والأسود الخشبية ، وبمذاكرة ما هو لهب ولعب ، فكذا أهل الأوثان لكون نظرهم مقصوراً على الصور والأشباح ، فكل قلب لا يعرف الله ، فإنه لا يأنس بذكر الله ، ولا يسكن إليه ، ولا يفرح به ، فلا يكون مسكن الحق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : يا موسى أتحب أن نسكن معك بيتك فخرساجداً ، ثم قال : يا رب وكيف تسكن معي في بيتي ، فقال : يا موسى أما علمت أني جليس من ذكرني ، وحيث ما التمسني عبدي وجدني.
كما في "المقاصد الحسنة" ، فعلم أن من ذكر الله ، فالله تعالى جليسه ومن ذكر غير الله ، فالشيطان جليسه.
قال الشيخ :
اكر مرده مسكين زبان داشتى
بفرياد وزارى فغان داشتى
كه اى زنده جون هست امكان كفت
لب از ذكر جون مرده برهم مخفت
جو مارا بغفلت بشد روزكار
توبارى دمى جند فرصت شمار
وفي الحديث : "إذا كان يوم حار ، فقال الرجل : لا إله إلا الله ما أشد حر هذا اليوم.
اللهم أجرني من حر جهنم.
قال الله تعالى لجهنم : إن عبداً من عبيدي استجارني من حرك ، فإني أشهدك أني قد أجرته ، وإن كان يوم شديد البرد ، فقال العبد : لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم ، اللهم أجرني من زمهرير جهنم.
قال الله تعالى لجهنم : إن عبداً من عبادي استجارني من رمهريرك وإني أشهدك أني قد أجرته".
قالوا : وما زمهرير جهنم.
قال : "بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة برده بعضه من بعض".
وفي المثنوي :
در حديث آمدكه مؤمن دردعا
جون امان خواهد دوزح ازخدا
دوزخ ازوى هم امان خواهد بجان
كه خدايا دور دارم از فلان
فعلى العاقل أن لا ينقطع عن الذكر ويستبشر به ، فالله تعالى معه معينه.
{قُلِ اللَّهُمَّ} : الميم بدل من حرف النداء.
والمعنى : قل يا محمد ، يا الله {فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} نصب بالنداء ؛ أي : يا خالق السماوات والأرض على أسلوب بديع.
{عَـالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} يا عالم كل ما غاب عن العباد ، وكل ما شهدوه ؛ أي : التجىء يا محمد إليه تعالى بالدعاء لما تحيرت في أمر الدعوة ، وضجرت
119
(8/89)
من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد ، فإنه القادر على الأشياء بجملتها ، والعالم بأحوالها برمّتها.
{أَنتَ} وحدك {تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} ؛ أي : بيني وبين قومي ، وكذا بين سائر العباد.
{فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ؛ أي : يختلفون فيه من أمر الدين ؛ أي : تحكم حكماً يسلمه كل مكابر ، ويخضع له كل معاند ، وهو العذاب الدنيوي أو الأخروي.
والثاني أنسب بما بعد الآية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفيه إشارة إلى اختلاف بين الموحدين والمشركين ، فإن الموحدين باشروا الأمور بالشرع على ما اقتضاه الأمر والمشركين بالطبع على ما استدعاه الشهوة والهوى ، والله تعالى يحكم بينهم في الدنيا وفي الآخرة.
أما في الدينا ، فبالعفو والفضل والكرم ، وتوفيق التوبة والإنابة وإصلاح ذات البين.
وأما في الآخرة ، فبالعدل والنصفة وانتقام بعضهم من بعض.
كان الربيع بكسر الباء من المحدثين لا يتكلم إلا فيما يعنيه ، فلما قتل الحسين رضي الله عنه.
قيل : الآن يتكلم ، فقرأ : قل اللهم إلى قوله : يختلفون.
وروي : أنه قال : قتل من كان يجلسه النبي عليه السلام في حجره ويضع فاه على فيه.
وعن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا افتتح صلاته من الليل يقول : "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بأمرك إنك تهدي من شئت إلى صراط مستقيم".
وفي الآية إشارة إلى أن الحاكم الحقيقي هو الله تعالى ، وكل حكمه وقضائه عدل محض وحكمة بخلاف حكم غيره تعالى.
وفي الحديث : "ليس أحد يحكم بين الناس إلا جيء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه فكفه العدل واسلمه الجور".
وقال في "روضة الأخيار" : كان عمر بن هبيرة أمير العراق وخراسان في أيام مروان بن محمد ، فدعا أبا حنيفة إلى القضاء ثلاث مرات فأبى فحلف ليضربنه بالسياط وليسجننه وفعل حتى انتفخ وجه أبي حنيفة ورأسه من الضرب ، فقال : الضرب بالسياط في الدنيا أهون عليّ من مقامع الحديد في الآخرة ، ونعم ما قال من قال :
بو حنيفة قضانكرد وبمرد
توبميرى اكر قضانكنى
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ عَـالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الارْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَه مَعَه افْتَدَوْا بِه مِن سُواءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِا وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} .
{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الارْضِ جَمِيعًا} حال ما ؛ أي : لو أن لهم جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر.
{وَمِثْلَه مَعَهُ} .
(وما نندن آن همه مالها بآن).
{افْتَدَوْا بِه مِن سُواءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} .
يقال : افتدى إذا بذل المال عن نفسه ، فإن الفداء حفظ الإنسان من النائبة بما يبذله عنه ؛ أي : لجعلوا كل ذلك فدية لأنفسهم من العذاب الشديد لكن لا مال يوم القيامة ، ولو كان لا يقبل الافتداء به ، وهذا وعيد شديد وإقناط لهم من الخلاص.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن هذه الجملة لا يقبل يوم القيامة لدفع العذاب ، واليوم ها هنا تقبل ذرة من الخير ولقمة من الصدقة ، وكلمة من التوبة والاستغفار كما أنهم لو تابوا وبكوا في الآخرة بالدماء لا يرحم بكاؤهم ويدمعة واحدة اليوم يمحى كثير من ذنوبهم.
وفي المثنوي :
آخر هركريه آخر خنده ايست
مرد آخر بين مبارك بنده ايست
اشك كان ازبهر أو بارند خلق
كوهراست واشك بندار ند خلق
ألا ترى إلى دموع آدم وحواء عليهما السلام ، حيث صارت جواهر في الدنيا ، فكيف في العقبى.
120
{وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} .
يقال : بدا الشيء بدوّاً وبداء ؛ أي : ظهر ظهوراً بيناً.
والاحتساب : الاعتداد بالشيء من جهة دخوله فيما يحسبه ؛ أي : ظهر لهم يوم القيامة من فنون العقوبات ما لم يكن في حسابهم في الدنيا وفي ظنهم أنه نازل بهم يومئذٍ.
قال الكاشفي : (بنداشت ايشان آن بودكه بوسيله شفاعت بتان رتبة قرب يابند).
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا} سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض عليهم صحائفهم.
{وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} ؛ أي : نزل وأصاب وأحاط بهم وبال استهزائهم ، وجزاء مكرهم ، وكانوا يستهزؤون بالكتاب والمسلمين والبعث والعذاب ونحو ذلك.
وهذه الآية ؛ أي : قوله : {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ} إلخ.
غاية في الوعيد لا غاية وراءها ، ونظيره في الوعد قوله تعالى : {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة : 17).
(8/90)
وفي "التأويلات النجمية" : وفي سماع هذه الآية حسرة لأصحاب الانتباه.
وفي بعض الأخبار : أن قوماً من المسلمين من أصحاب الذنوب يؤمر بهم إلى النار ، فإذا وافوها يقول لهم مالك من أنتم؟ فإن الذين جاؤوا قبلكم من أهل النار وجوههم مسودة وعيونهم زرق وإنكم لستم بتلك الصفة ، فيقولون : نحن لم نتوقع أن نلقاك ، وإنما انتظرنا شيئاً آخر.
قال الله تعالى : وبدا لهم من الله إلى يستهزؤون.
وقال أبو الليث : يعملون أعمالاً يظنون أن لهم ثواباً فيها ، فلم تنفعهم مع شركهم ، فظهرت لهم العقوبة مكان الثواب.
وفي "كشف الأسرار" : (از حضرت رسالت عليه السلام تفسير آيت.
{وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ} إلخ برسيدند فر مود).
هي الأعمال حسبوها حسنات فوجدوها في كفة السيئات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وقال بعضهم : ظاهر الآية يتعلق بأهل الرياء والسمعة افتضحوا يوم القيامة عند المخلصين.
وعن سفيان الثوري رحمه الله أنه قرأها ، فقال : ويل لأهل الرياء ثلاثاً :
بنداشت مرايى كه عملهاى نكوست
مغزى كه بود خلاصه كاز زدوست
جون برده زروى كار برداشته كشت
بر خلق عيان شدكه نبود الابوست
(يكى ازمشايخ يعنى محمد بن المنكدر بوقت حلول أجل جزع ميكرد برسيدند كه سبب جيست فرمود كه مى ترسم جيزى ظاهر كردد كه من آنرا در حساب نمى داشتم).
قال سهل : أثبتوا لأنفسهم أعمالاً فاعتمدوا عليها ، فلما بلغوا إلى المشهد الأعلى رأوها هباء منثوراً ، فمن اعتمد على الفضل نجا ، ومن اعتمد على أفعاله بدا له منها الهلاك.
وفي "عرائس البقلي" رحمه الله : هذه الآية خير من الله للذين فرحوا بما وجدوا في البدايات مما يغترّ به المغترون ، وقاموا به وظنوا أن لا مقام فوق مقامهم ، فلما رأوا بخلاف ظنونهم ما لأهل معارفه وأحبابه وعشاقه من درجات المعرفة وحقائق التوحيد ولطائف المكاشفات وغرائب المشاهدات ماتوا حسرة.
فانظر إلى هذه المعاني الشريفة في هذا المقام ، فإن كلاً منها يحتمله الكلام ، بل وأزيد منها على ما لا يخفى عى ذوي الأفهام ، واجتهد في أن يبدو لك من الثواب ما لم يكن يخطر ببالك أن تكون مثاباً به ، وذلك بالإخلاص والفناء التام حتى يكون الله عندك عوضاً عن كل شيء.
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ * فَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَـاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُه عَلَى عِلْما بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَـاؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا} .
{فَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ ضُرٌّ دَعَانَا} إخبار عن الجنس بما يفعله غالب أفراده.
والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ؛ أي : أن المشركين ليشمئزون عن ذكر الله وحده ، ويستبشرون بذكر الآلهة ، فإذا مسهم ضر ؛ أي : أصابهم سوء حال من مرض وفقر ونحوهما دعوا لدفعه من اشمأزوا عن ذكره ، وهو الله تعالى لمناقضتهم وتعكيسهم
121
في التسبب حيث جعلوا الكفر سبباً في الالتجاء إلى الله بأن أقاموه مقام الإيمان مع أن الواجب أن يجعل الإيمان سبباً فيه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَـاهُ نِعْمَةً مِّنَّا} أعطيناه إياها تفضلاً ، فإن التخويل مختص بما كان بطريق التفضل لا يطلق على ما أعطي بطريق الجزاء.
{قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُه عَلَى عِلْم} ؛ أي : على علم مني بوجوه كسبه.
يعني : (وجوه كسب وتحصيل آنرا دانستم وبكياست وكفايت من حاصل شد).
أو بأني سأعطاه لما لي من الفضل والاستحقاق ، أو على علم من الله باستحقاقي.
يعني : (خدا دانست كه من مستحق اين نعمتم).
والهاء : لما أن جعلت موصولة بمعنى أن الذي أوتيته ، وللنعمة إن جاءت كافة ، والتذكير لما أن المراد شيء من النعمة وقسم منها ، ثم قال تعالى : رداً لما قاله : {بَلْ} (نه جنين است ميكويد).
{هِىَ} ؛ أي : النعمة ، ويجوز أن يكون تأنيث الضمير باعتبار الخبر ، وهو قوله : {فِتْنَةٌ} للإنسان ؛ أي : محنة وابتلاء له أيشكر أم يكفر تقول : فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته وتختبره.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} ؛ أي : أكثر الناس.
{لا يَعْلَمُونَ} أن التخويل استدراج وامتحان.
{قَدْ قَالَهَا} ؛ أي : تلك الكلمة ، أو الجملة ، وهي قوله : {إِنَّمَآ أُوتِيتُه عَلَى عِلْم} .
{الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} .
وهم قارون وقومه حيث قال : إنما أوتيته على علم عندي ، وهم راضون به يعني لما رضي قومه بمقالته جمعوا معه.
(8/91)
وقال بعضهم : يجوز أن يكون جميع من تقدمنا من الخيار والشرار ، فيجوز أن يوجد في الأمم المتقدمة من يقول تلك الكلمة غير قارون أيضاً ، ممن أبطرته واغتر بظاهرها.
{فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من متاع الدنيا ، ويجمعون منه يعني : أن النعمة لم تدفع عنهم النقمة والعذاب ، ولم ينفعهم ذلك ، يقال : أغنى عنه.
كذا إذا كفاه كما في "المفردات".
{فَأَصَابَهُمْ} (بس رسيد ايشانرا).
{سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا} جزاء سيئات أعمالهم وأجزية ما كسبوا وتسميتها سيئات ؛ لأنها في مقابلة سيئاتهم وجزاء سيئة سيئة مثلها.
ففيه رمز إلى أن جميع أعمالهم من قبيل السيئات.
والمعنى : أنهم ظنوا أن ما آتيناهم لكرامتهم علينا ، ولم يكن كذلك ؛ لأنهم وقعوا في العذاب ولم تنفعهم أموالهم ، وهذا كما قال اليهود : {نَحْنُ أَبْنَـاؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـاؤُهُ} (المائدة : 18).
فقال تعالى خطاباً لحبيبه عليه السلام : {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} (المائدة : 18).
يعني : أن المكرم المقرب عند الله لا يعذبه الله ، وإنما يعذب الخائن المهين المهان.
ثم أوعد كفار مكة ، فقال : {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَـاؤُلاءِ} المشركين المعاصرين لك يا محمد ، ومن للبيان وللتبعيض ؛ أي : أفرطوا في الظلم والعتوّ.
{سَيُصِيبُهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا} من الكفر والمعاصي كما أصاب أولئك والسين للتأكيد وقد أصابهم ؛ أي : أصابهم حيث قحطوا سبع سنين وقتل أكابرهم يوم بدر.
{وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} الله تعالى عن تخلي ذاتهم بحسب أعمالهم وأخلاقهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وقال الكاشفي : (عاجز كنند كان مارا از تعذيب يا بيشي كيرند كان برعذاب).
يعني : يدركهم العذاب ولا ينجون منه بالهرب.
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَـاؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} .
{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا} .
أقالوا ذلك ، ولم يعلموا أو أغفلوا ، ولم يعلموا.
{أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ} أن يبسط له ؛ أي : يوسعه ، فإن بسط الشيء نشره وتوسيعه.
يعني : (نه براى رفعت قدر او بلكه بمحض مشيت).
{وَيَقْدِرُ} لمن يشاء أن يقدره له ؛ أي : يقتر ويضيق له من غير أن يكون لأحد مدخل ما في ذلك ، حيث حبس عنهم الرزق سبعاً ثم بسط لهم سبعاً.
وقال الكاشفي : (وننك ميكند
122
برهركه ميخواهد نه براى خوارى وبى مقدارى أو بلكه از روى حكمت).
روي : أنهم أكلوا في سني القحط الجيف والجلود والعظام والعلهز ، وهو الوبر بأن يخلط الدم بأوبار الإبل ويشوى على النار ، وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء ، كالدخان من الجوع ، فلم ينفعهم ذلك ، حيث أصروا على الكفر والعناد.
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} الذي ذكر من القبض والبسط.
{لايَـاتٍ} دالة على أن الحوادث كافة من الله تعالى بوسط عادي أو غيره.
{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إذ هم المستدلون بتلك الآيات على مدلولاتها.
وفي الآيات فوائد :
منها : إن من خصوصية نفس الإنسان أن تضطرّ إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع في الشدة والضر والبلاء ، فلا عبرة بهذا الرجوع بالاضطرار إلى الله تعالى ؛ لأنه إذا أنعم الله عليه بالخلاص والعافية من تلك الشدة والبلاء أعرض عن الله ، ويكفر بالنعمة ، ويقول : إن ما أوتيته عن علم عندي ، وإنما العبرة بالرجوع إلى الله والتعرف إليه في الرخاء كما قال عليه السلام : "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
ومنها : أن المدعين يقولون : نحن أهل الله ، فإذا وصل إليهم بلاؤه فزعوا إليه ليرفع عنهم البلاء طلباً لراحة أنفسهم ، ولا يرون المبلى في البلاء ، وهم مشركون في طريق المعرفة ، فإذا وصل إليهم نعمة ظاهرة احتجوا بها ، فإذا هم أهل الحجاب من كلا الطرفين احتجبوا بالبلاء عن المبلى وبالنعمة عن المنعم.
قال الجنيد رضي الله عنه : من يرى البلاء ضراً ، فليس بعارف ، فإن العارف من يرى الضر على نفسه رحمة والضر على الحقيقة ما يصيب القلوب من القسوة والرين والنعمة إقبال القلوب على الله تعالى ، ومن رأى النعمة على نفسه من حيث الاستحقاق فقد جحد النعمة.
ومنها : إن أكثر أهل النعمة لا يعلمون فتنة النعمة وسوء عاقبتها وببطر النعمة والاغترار بها تقسو قلوبهم ، وتستولي عليهم الغفلة ، وتطمئن نفوسهم بها وتنسى الآخرة والمولى.
(8/92)
ومنها : إن نعمة الدنيا والآخرة وسعادتهما ، وكذا نقمتهما وشقاوتهما مبنية على مشيئة الله تعالى لا على مشيئة العباد ، فالأوجب للمؤمنين أن يخرجوا عن مشيئتهم ويستسلموا لمشيئة الله وحكمه وقضائه :
كليد قدر نيست دردست كس
تواناى مطلق خدايست وبس
قال بعضهم :
هرجه بايد بهر كه ميشايد
تودهى آنجنا نكه مى بايد
توشناسى صلاح كار همه
كه تويى آفريد كار همه
ومنها : أن ضيق حال اللبيب وسعة حال الأبله دليل على الرزاق وتقديره.
ويرد بهذه الآية على من يرى الغنى من الكيس والفقر من العجز أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : أتدري لم رزقت الأحمق قال : يا رب لا ، قال : ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتيال ، فالكل بيد الله ألا إلى الله تصير الأمور ، وبه ظهر فساد قول ابن الراوندي : ()
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة
وصير العالم النحرير زنديقا
أي : كافراً نافياً للصانع العدل الحكيم قائلاً : ) لو كان له الوجود لما كان الأمر كذلك ، ولقد أحسن من قال : ()
123
كم من أديب فهم عقله
مستكمل العقل مقل عديم
ومن جهول مكثر ماله
ذلك تقدير العزيز العليم
يعني : أن من نظر إلى التقدير علم أن الأمور الجارية على أهل العالم كلها على وفق الحكمة ، وعلى مقتضى المصلحة.
ففيه إرشاد إلى إثبات الصانع الحكيم لا إلى نفي وجوده.
{قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال الراغب : السرف تجاوز الحدّ في كل ما يفعله الإنسان ، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر ، وقوله تعالى : {قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} .
يتناول الإسراف في الأموال ، وفي غيرها.
انتهى.
وتعدية الإسراف بعلى لتضمين معنى الجناية ، والمعنى : أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي وارتكاب الكبائر والفواحش.
قال البيضاوي ومن تبعه : إضافة العباد تخصصه بالمؤمن على ما هو عرف القرآن.
يقول الفقير : قوله تعالى : {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَـاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} (الإسراء : 5).
ينادى على خلافه ؛ لأن العباد ، فسر ها هنا ببخت نصر وقومه ، وكانوا كفاراً بالإتفاق إلا أن يدعي الفرق بين الإضافة بالواسطة وبغيرها.
وقال في "الوسيط" : المفسرون كلهم.
قالوا : إن هذه الآية نزلت في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر بهم ما جنوا من الذنوب العظام كالشرك وقتل النفس والزنا ، ومعاداة النبي عليه السلام ، والقتال معه ، فأنزل الله هذه الآية ، وفرح النبي عليه السلام بهذه الآية ، ورآها أصحابه من أوسع الآيات في مغفرة الذنوب ، انتهى.
وقال في "التكملة" روي : أن وحشياً قاتل حمزة رضي الله عنه كتب إلى النبي عليه السلام يسأله : هل له من توبة؟ وكتب أنه كان قد سمع فيما أنزل الله بمكة من القرآن آيتين أيأستاه من كل خير ، وهما قوله تعالى : {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} إلى قوله : {مُهَانًا} (الفرقان : 68 ـ ـ 69) فنزلت {إِلا مَن تَابَ} (مريم : 60) إلخ ، فكتب بها رسول الله عليه السلام ، فخاف وحشي.
وقال العلي لا أبقى حتى أعمل صالحاً ، فأنزل الله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ} (النساء : 48) الخ.
فقال وحشي : إني أخاف أن لا أكون من مشيئة الله ، فأنزل الله تعالى : {قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} إلخ ، فأقبل وحشي وأسلم.
انتهى.
وعلى كل تقدير فخصوص السبب لا ينافي عموم اللفظ ، فدخل فيه كل مسرف.
{لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} .
القنوط : أعظم اليأس.
وفي "المفردات" : اليأس من الخير.
وبالفارسية : (نوميدشدن از خير).
والرحمة من الله تعالى الإنعام والإعطاء والتفضل.
وبالفارسية : (بخشايش) ، وهو لا يكون في الترتيب الوجودي إلا بعد المغفرة التي هي أن يصون الله عبده من أن يمسه العذاب دل عليه قوله : {إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
ولذا قالوا في المعنى : لا تيأسوا من مغفرته أولاً وتفضله ثانياً :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
نوميد مشوكه نا اميدى كفراست
(در معالم التنزيل آورده كه ابن مسعود رضي الله عنه در مسجد در آمد ديد كه واعظى ذكر آتش دوزخ وسلاسل وأغلال ميكند فرمود كه ا مذكر جرا نوميد مى كردانى مردمانرا مكر نخواندى آنرا كه ميفرمايد).
{قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ} الخ.
واعلم أن القنوط من رحمة الله علامة زوال الاستعداد ، والسقوط عن الفطرة بانقطاع الوصلة بين الحق والعبد إذ لو بقي شيء في العبد من نوره الأصلي لأدرك أثر رحمته الواسعة السابقة على غضبه ، فرجاء وصول
124
(8/93)
ذلك الأثر إليه لاتصاله بعالم النور بتلك البقية ، وإن أسرف وفرط في جنب الله.
وأما اليأس ، فدليل الاحتجاب الكلي واسوداد الوجه ، فالله تعالى يغفر الذنوب جميعاً بشرط بقاء نور التوحيد في القلب ، فإذا لم يبق دخل في قوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} ( : ).
فالقنوط : من أعظم المصائب.
وقد أمهل تعالى عباده تفضلاً منه إلى وقت الغرغرة ، فلو رجع العبد إلى الله قبل آخر نفس يتنفسه قبل.
{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} حال كونها {جَمِيعًا} ؛ كأنه قيل : ما سبب النهي عن القنوط من الرحمة فأجيب بأن سبب النهي هو {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} عفواً لمن يشاء ، ولو بعد حين بتعذيب في الجملة وبغيره حسبما يشاء ، فهو وعد بغفران الذنوب ، وإن كثرت ، وكانت صغائر ، أو كبائر بعدد الرمال والأوراق والنجوم ونحوها.
والعموم بمعنى الخصوص ؛ لأن الشرك ليس بداخل في الآية إجماعاً ، وهي أيضاً في العاصي مقيدة بالمشيئة ؛ لأن المطلق محمول على المقيد وسيجيء بقية الكلام على الآية.
قال عليه السلام : "إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم".
وقال عليه السلام : "إن تغفر اللهم ، فاغفر جماً ، وأي عبد لك لا ألما".
يعني : (جون آمر زى خداوندا همه بيامرز وآن كدام بنده است كه او كناه نكرده است).
والفرق بين العفو والمغفرة هو أن حقيقة العفو هو المحو كما إشير إليه بقوله تعالى : {إِنَّ الْحَسَنَـاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّـاَاتِ} (هود : 114).
والتبديل الذي أشير إليه بقوله : {فأولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ} (الفرقان : 70) هو من مقام المغفرة قاله الشيخ الكبير رضي الله عنه في "شرح الأربعين" حديثاً ثم قال في مقام التعليل.
{إِنَّهُ} تعالى {هُوَ} وحده {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
الأول : إشارة إلى محو ما يوجب العقاب.
والثاني : إلى التفضل بالثواب وصيغة المبالغة راجعة إلى كثرة الذنوب ، وكثرة المغفور والمرحوم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال الأستاذ القشيري قدس سره : التسمية بيا عبادي مدح.
والوصف بأنهم أسرفوا ذم ، فلما قال : يا عبادي طمع المطيعون أن يكونوا هم المقصودين بالآية ، فرفعوا رؤوسهم ونكس العاصي رأسه وقال : من أنا ، حتى يقول لي هذا ، فقال الله تعالى : {الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} ، فانقلب الحال ، فهؤلاء الذين نكسوا رؤوسهم انتعشوا وزالت زلتهم ، والذين رفعوا رؤوسهم أطرقوا وزالت صولتهم ، ثم قوي رجاؤهم بقوله على أنفسهم.
يعني : إن أسرفت لا تقنط من رحمة الله ، بعدما قطعت اختلافك إلى بابنا ، فلا ترفع قلبك عناء ، والألف واللام في الذنوب للاستغراق ، والعموم جميعاً تأكيد له ؛ فكأنه قال : أغفر ولا أترك وأعفو ولا أبقي ، فإن كانت لكم جناية كثيرة عميمة ، فلي بشأنكم عناية قديمة.
وفي "كشف الأسرار" : (بدانكه از آفريد كان حق تعالى كمال كرامت دوكروه راست يكى فرشتكان وديكر آدميان "ولهذا جعل الأنبياء والرسل منهم دون غيرهم" وغايت شرف إنساني دردو جيزاست در عبوديت ودرمحبت عبوديت محض صفت فرشتكانست وعبوديت ومحبت هر دوصفت آدميان است فرشتكانرا عبوديت محض دادكه صفت خلق است وآدميانرا بعد از عبوديت خلعت محبت داد كه صفت حق است تا از بهر اين امت ميكويد {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة : 54) ودر عبوديت نيز آدميانرا فضل داد برفر شتكانكه عبوديت فرشتكان بى اضافت كفت {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} (الأنبياء : 46) وعبوديت آدميان باضافت كفت يا عِبَادِىَ} آنكه بر مقتضاى محبت فضل خود برايشان تمام
125
كرد وعيبها ومعصيتهاى ايشان بأنوار محبت بيوشيد وبرده ايشان ندريد نه بينى كه زلت برايشان قضا كرد وبآن همه زلات نام عبوديت از ايشان نيفكند وباذ كرزلت ومعصيت تشريف اضافت از ايشان باز تستد كفت {قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} وآنكه برده ايشان نكاه داشت كه عين كناهان اظهار نكرد بلكه مجمل ياد كرد سربسته وعين آن بوشيده كفت {أَسْرَفُوا} إسراف كردند كزاف كردند از بهر آنكه دارارادت وى مغفرت ايشان بودنه برده دريد نه اسم عبوديت بيفكد "سبحانه ما أرافه بعباده" موسى عليه السلام كفت "إلهي تريد المعصية من العباد وتبغضها" كفت "يا موسى ذاك تأسيس لعفوي" يعني : معصيت بندكان بارادت تست آنكه آنرا دشمن ميدارى وبنده را بمعصيت دشمن ميكيرى حق جل جلاله كفت آن بنياد عفو وكرم خويش است كه مى نهم خزينه رحمت ما براست اكر عاصيان نباشند ضايع ماند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال الكاشفي : (بيمارستان جرم وعصيا نرا شربت راحت جز درين دار الشفا حاصل نشود وسر كردانان بيابان نفس وهوارا زاد طريق نجات جز بمدد آن آيت ميسر نكردد) :
ندارم هيج كونه توشه راه
بجز لا تقنطوا من رحمة الله
تو فر مودى كه نوميدى مياريد
زمن لطف وعنايت جشم داريد
يدين معنى بسى اميد واريم
(8/94)
ببخشا زانكه بس اميد داريم
اميد دردمندانرا دوا كن
دل اميد وارنرا روا كن
وقال المولى الجامي قدس سره :
بلى نبود درين ره نا اميدى
سياهى را بود رو در سفيدى
زصد دردى كراميدت نيابد
بنو ميدى جكر خوردن نشايد
درديكر ببايد زدكه نا كاه
ازان در سوى مقصود آورى راه
قال عليه السلام : "ما أحب أن تكون لي الدنيا وما فيها بها" ؛ أي : ما أحب أن أملك الدنيا وما فيها ، بدل هذه الآية ، فالباء في بها للبدلية والمقابلة.
وبالفارسية : (دوست نمى دارم كه دنيا وما فيها مرا باشد بعوض اين آيت جه اين آيت ازدنيا وهرجه دردنيا بهتر است).
وذلك لأن الله تعالى منّ على من أسرف من عباده ، ووعد لهم مغفرة دنوبهم جميعاً ونهاهم أن يقنطوا من رحمته الواسعة.
واعلم أن الآية لا تدل على غفران جميع الذنوب لجميع الناس ، بل على غفران جميع ذنوب من شاء الله غفران ذنوبه ، فلا تنافي الأمر بالتوبة وسبق تعذيب العصاة ، والأمر بالإخلاص في العمل والوعيد بالعذاب ، فالله تعالى لا يغفر الشرك إلا بالتوبة والرجوع عنه ، ويغفر ما دون ذلك من الصغائر والكبائر بالتوبة وبدونها لمن يشاء لا لكل أحد من أهل الذنوب.
روي : أن ابن مسعود رضي الله عنه.
قرأ هذه الآية إن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء ، فحمل المطلق على المقيد ، وذلك لأنه لا يجري في ملكه إلا ما يشاء.
يقول الفقير : إن أهل السنة لم يشترطوا التوبة في غفران الذنوب مطلقاً ؛ أي : سواء كانت صغائر أو كبائر سوى الشرك ودل عليه آثار كثيرة.
روي : أن الله تعالى يقول يوم القيامة لبعض عصاة المؤمنين : سترتها عليك في الدنيا ؛ أي : الذنوب وأنا أغفرها لك اليوم ، فهذا وأمثاله
126
يدل على المغفرة بلا توبة.
والفرق بين الشرك وسائر المعصية هو أن الكافر لا يطلب العفو والمغفرة لمعاصيه.
وقوله تعالى : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّواءَ بِجَهَـالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} (النساء : 17).
إنما هو بالنسبة إلى حال الغرغرة ، فالشرك وسائر المعاصي لا يغفر في تلك الحال ، وإن وجدت التوبة.
وهذا لا ينافي المغفرة بدون التوبة بالنسبة إلى المعاصي سوى الشرك ، فإن مغفرته مخالفة للحكمة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها ، وهو يمص أن تصيبه" ، فهذا مما يدل على كمال الرجاء والبشارة للمسلمين ؛ لأنه حصل في هذه الدار من رحمة واحدة ما حصل من النعم الظاهرة والباطنة ، فما ظنك بمائة رحمة في الدار الآخرة.
قال يحيى بن معاذ رحمه الله : في كتاب الله كنوز موجبة للعفو عن جميع المؤمنين.
منها : قوله تعالى : {قُلْ يا عِبَادِىَ} إلخ.
ولذا قال العلماء : أرجى آية في القرآن لأهل التوحيد هذه الآية.
وقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ} (النساء : 48).
وقوله : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى : 5) ، وذلك أن كل نبي مرسل مظهر لبعض أحكام الرحمة ، ولذا كانت رسالته مقيدة ومقصورة على طائفة مخصوصة ، ولما كان نبينا عليه السلام مظهر حقيقة الرحمة كانت بعثته عامة.
وقيل فيه : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107).
وتم ظهور حكم رحمانيته بالشفاعة التي تظهر سيادته على جميع الناس حتى أن من يكون له درجة الشفاعة من الملائكة والأنبياء والمؤمنين لايشفعون إلا بعده ، فلا تقنطوا أيتها الأمة المرحومة من رحمة الله المطلقة ، إن الله يغفر الذنوب جميعاً بشفاعة من هو مظهر تلك الرحمة.
قال الجامي :
رمهجورى بر آمد جان عالم
ترحم يا نبي الله ترحم
اكرجه غرق درياى كناهم
فتاده خشك لب برخاك راهيم
توابر رحمتى آن به كه كناهى
كنى درحال لب خشكان نكاهى
{قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنابِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّـاخِرِينَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
(8/95)
{وَأَنِيبُوا} يا عبادي {إِلَى رَبِّكُم} ؛ أي : ارجعوا إلى ربكم بالتوبة من المعاصي.
{وَأَسْلِمُوا لَهُ} ؛ أي : أخلصوا العمل لوجهه ، فإن السالم بمعنى الخالص.
{مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} في الدنيا والآخرة.
{ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} لا تمنعون من عذاب الله إن لم تتوبوا قبل نزوله.
يعني : (هيجكس دردفع عذاب شما نصرت ندهد).
والظاهر من آخر الآية أن الخطاب للكفار ، فالمعنى : فارجعوا أيها الناس من الشرك إلى الإيمان وأخلصوا له تعالى التوحيد.
قال سيد الطائفة الجنيد قدس سره : انقطعوا عن الكل بالكلية ، فما يرجع إلينا بالحقيقة أحد وللغير عليه أثر ، وللأكوان على سره خطر ، ومن كان لنا حراً مما سوانا.
وفي "الأسئلة المقحمة" : الفرق بين التوبة والإنابة أن التائب يرجع إلى الله خوفاً من العقوبة والمنيب يرجع حياء منه وشوقاً إليه.
قال إبراهيم بن أدهم قدس سره : إذا صدق العبد في توبته صار منيباً ؛ لأن الإنابة ثانى درجة التوبة.
وفي "التأويلات النجمية" : التوبة لأهل البداية ، وهي الرجوع من المعصية إلى الطاعة ، ومن الأوبة للمتوسط ، وهي الرجوع من الدنيا إلى الآخرة.
ومن الإنابة لأهل النهاية ، وهي الرجوع
127
مما سوى الله إلى الله بالفناء في الله.
قال في "كشف الأسرار".
(انابت برسه قسم است.
يكى انابت بيغمبران كه نشانش سه جيزاست بيم داشتن با بشارت آزادى وخدمت كردن باشرف بيغمبرى وباز بلاكشيدن باد لهاى برشادى وجز از بيغمبران كس را طاقت اين انابت نيست.
دون انابت عارفا نست كه نشانش سه جيزاست از معصيت بدر بودن واز طاعت خجل بودن ودرخلوت باحق انس داشتن رابعة عدوية درحالت انس بجايى رسيدكه ميكفت "حسبي من الدنيا ذكرك ومن الآخرة رؤيتك" عزيزى كفت از سرحالت آتش خويش وديكرا نرا بندمى داد) :
اكر در قصر مشتاقان ترا يك روز بارستى
ترابا اند هان عشق اين جاد وجه كارستى
وكر رنكى زكلزار حديث أوبديدى
بجشم توهمه كلها كه درباغست خارستى
(سوم انابت توحيداست دشمنانرا وبيكا نكانرا با آن خواند كفت {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} ونشان اين انابت آنست كه باقرار زبان وإخلاص دل خدايرا يكى داند ودر ذات بى شيبه ودر قدر بى نظير ودر صفات بيهمتا.
كفته اند توحيد دوبابست توحيد اقراركه عامة مؤمنا نراست بظاهر آيد تازبان ازو خبر دهد واهل اين توحيدرا دنيا منزل وبهشت مطلوب ودوم توحيد معرفت عارفان وصديقا تراست بجان آيد تاوقت وحال ازو خبر دهد واهل اين توحيدرا بهشت منزل ومولى مقصود) : ()
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وأسكر القوم دور كأس
وكان سكرى من المدير
(آن كس راكه كاربا كل افتد كل بويد وآنكس كه كارش باباغيان افتد بوسه برخار زند جنانكه جوانمرد كفت).
از براى آنكه كل شاكر درنك روى اوست
كر هزارت بوسه شد بر شريك خارزن
{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} ؛ أي : القرآن كقوله تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (الزمر : 23) ، أو العزائم دون الرخص.
قال البيضاوي ومن تبعه : ولعله ما هو أنجى وأسلم ، كالإنابة والمواظبة على الطاعة.
وقال الحسن : الزموا طاعته واجتنبوا معصيته ، فإن الذي أنزل عليكم من ثلاثة أوجه : ذكر القبيح لتجتنبوه ، وذكر الأحسن لتؤثروه ، وذكر الأوسط لئلا يكون عليكم جناح في الإقبال عليه ، أو الإعراض عنه ، وهو المباحات.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن ما أنزل الله منه ما يكون حسناً ، وهو ما يدعو به إلى الله.
قال الله تعالى : {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} (الأحزاب : 46).
{مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} ؛ أي : البلاء والعقوبة.
{بَغْتَةً} .
(ناكهان).
قال الراغب : البغتة مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب ، ويجوز أن يكون المراد بالعذاب الآتي بغتة هو الموت ؛ لأنه مفتاح العذاب الأخروي ، وطريقه ومتصل به.
{وَأَنتُمْ} لغفلتكم.
{لا تَشْعُرُونَ} لا تدركون بالحواس مجيئه لتتداركوا وتتأهبوا.
وبالفارسية : (وشما نمى دانيد آمدن اورا تادر مقام تدارك وتأهب آبيد).
{أَن تَقُولَ نَفْسٌ} .
مفعول له للأفعال السابقة التي هي الإنابة والإخلاص ، واتباع القرآن والتنكير ؛ لأن القائل بعض الأنفس ، أو للتكثير والتعميم ليشيع في كل النفوس.
والمعنى : افعلوا ما ذكر من المأمورات ، يعني : أمرتكم به كراهة أن تقول كل نفس.
وبالفارسية : (ومباداكه هركس كويا فردا ازشما).
يا حَسْرَتَى} بالألف بدلاً من ياء الإضافة إذ أصله :
128
يا حسرتي.
تقول العرب : يا حسرتي ، يا لهفي ، ويا حسرتا ، ويا لهفا ، ويا حسرتاي ، ويا لهفاي بالجمع بين العوضين.
تقول هذه الكلمة في نداء الاستغاثة كما في "كشف الأسرار".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والحسرة : الغم على ما فاته والندم عليه ؛ كأنه انحسر الجهل عنه الذي حمله على ما ارتكبه.
(8/96)
وقال بعضهم : الحسرة أن تأسف النفس أسفاً تبقى منه حسيراً ؛ أي : منقطعة.
والمعنى : يا حسرتي وندامتي احضري ، فهذا أوان حضورك.
وبالفارسية : (اى بشيمانى من).
{عَلَى مَا فَرَّطتُ} ؛ أي : على تفريطي وتقصيري ، فما مصدرية.
قال الراغب : الإفراط أن يسرف في التقدم.
والتفريط أن يقصر فإن الفرط المتقدم.
{فِى جَنابِ اللَّهِ} في جانبه ، وهو طاعته وإقامة حقه وسلوك طريقه.
قال في "كشف الأسرار" العرب تسمي الجانب جنباً.
(اين كلمه برزبان عرب بسيار بود وجنانست كه مردمان كويند در جنب فلان توانكر شدم از بهلوى فلان مال بدست آوردم).
وقال الراغب : أصل الجنب الجارحة جمعه جنوب ، ثم استعير في الناحية التي تليها كاستعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال.
وقيل : جنب الحائط وجانبه.
وقوله : في جنب الله ؛ أي : في أمره وحده الذي حده لنا.
انتهى.
{وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّـاخِرِينَ} : إن هي المخففة واللام هي الفارقة.
والسخر : الاستهزاء ، ومحل الجملة النصب على الحال.
والمعنى فرطت ، والحال : أني كنت في الدنيا من المستهزئين بدين الله وأهله.
قال قتادة : لم يكفهم ما ضيعوا من طاعة الله حتى سخروا بأهل طاعته.
در سلسلة الذهب فرمود :
روز آخر كه مرك مردم خوار
كند از خواب غفلتش بيدار
يادش آيدكه در جوار خداى
سالها زد بجرم وعصيان واى
هرجه درشصت سال يا هفتاد
كرده از خير وشربيش افتاد
يك بيك بيش جشم او آرند
آشكارا بروى اودارند
بكذراند زكنبد والا
بانك واحسرتا ووا ويلا
حسرت ازجان اوبر آرد دود
وان زمان حسرتش تدارد سود
قال الفارسي : يقول الله تعالى : من هرب مني أحرقته ؛ أي : من هرب مني إلى نفسه أحرقته بالتأسف على فوتي إذا شهد غداً مقامات أرباب معارفي يدل عليه قوله : يا حسرتا إلخ إذ لا يقوله إلا متحرق.
{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَاـانِى} بالإرشاد إلى الحق.
{لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} من الشرك والمعاصي.
وفي الخبر : "ما من أحد من أهل النار يدخل النار حتى يرى مقعده من الجنة ، فيقول : لو أن الله هداني لكنت من المتقين".
فيكون عليه حسرة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} .
عياناً ومشاهدة.
{لَوْ أَنَّ لِى} .
لو : للتمني (اى كاشكى مرابودى).
{كَرَّةً} رجعة إلى الدنيا يقال : كر عليه عطف ، وعنه رجع.
والكره المرة.
والجملة كما في "القاموس".
{فَأَكُونَ} بالنصب جواب التمني ، يعني : (تاباشم آنجا).
{مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
في العقيدة والعمل واو للدلالة على أنها لا تخلو عن هذه الأقوال تحيراً وتعللاً بما لا طائل تحته وندماً ، حيث لا ينفع.
وقيل : إن قوماً يقولون : هذا.
وقوماً يقولون : ذاك.
{بَلَى} يعني : (ترا ارشاد كردند).
إن قلت : كلمة بلى مختصة بإيجاب النفي ، ولا نفي في واحدة من تلك المقالات.
129
قلت : إنها رد للثانية ، وكلمة لو تتضمن النفي ، لأنها لامتناع الثاني لامتناع الأول ؛ أي : لو أن الله هداني لكنت من المتقين ، ولكن ما هداني ، فقال تعالى : بلى ، قد هديتك و{قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَـاتِى} : آيات القرآن ، وهي سبب الهداية ، وفصله عن قوله : {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَاـانِى} لما أن تقديمه على الثالث يفرق القرائن الثلاث التي دخلها ، أو تأخير لو أن الله هداني.
إلخ.
يخل بالترتيب الوجودي ؛ لأنه يتحسر بالتفريط عند تطاير الكتب ، ثم يتعلل بفقد الهداية عند مشاهدة أحوال المتقين واغتباطهم ، ثم يتمنى الرجعة عند الاطلاع على النار ، ورؤية العذاب ، وتذكير الخطاب باعتبار المعنى ، وهو الإنسان.
وروي : أن النبي عليه السلام قرأ قد جاءتك بالتأنيث ، وكذا ما بعدها خطاباً للنفس.
{فَكَذَّبْتَ بِهَا} .
قلت : إنها ليست من الله.
{وَاسْتَكْبَرْتَ} تعظمت عن الإيمان بها.
{وَكُنتَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} بها.
وفي "التأويلات النجمية" : {بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَـاتِى} من الأنبياء ومعجزاتهم والكتب وحكمها ومواعظها وأسرارها وحقائقها ودقائقها وإشاراتها.
{فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} عن اتباعها والقيام بشرائطها.
{وَكُنتَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} ؛ أي : كافري النعمة بما أنعم الله به عليك من نعمة وجود الأنبياء ، وإنزال الكتب وإظهار المعجزات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قالت المعتزلة : هذه الآيات الثلاث تدل على أن العبد مستقل بفعله من وجوه :
الأول : أن المرء لا يتحسر بما سبق منه إلا إذا كان يقدر على أن يفعل.
والثاني : أن من لا يكون الإيمان بفعله لا يكون مفرطا فيه.
والثالث : أنه لا يستحق الذم بما ليس من فعله.
والجواب : أن هذه الآيات لا تمنع تأثير قدرة الله تعالى في فعل العبد ولا ما فيه إسناد الفعل إلى العبد حيث قال : {بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ} إلخ.
ونحو قوله تعالى : {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ} (النحل : 93) يدل على بطلان مذهبهم.
(8/97)
{بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَـاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَـافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌا أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّواءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍا وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ * لَّه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآيات اللَّهِ أولئك هُمُ} .
{وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} ؛ بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه كاتخاذ الولد والصاحبة والشريك.
{وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} مبتدأ وخبر.
والجملة حال قد اكتفي فيها بالضمير عن الواو على أن الرؤية بصرية ، أو مفعول ثان لها على أنها عرفانية.
والمعنى : تراهم حال كونهم أو تراهم مسودة الوجوه بما ينالهم من الشدة ، أو بما يتخيل من ظلمة الجهل.
وبالفارسية : (رويهاى ايشان سياه كرده شد بيش از دخول دوزخ وآن علامت دوز خيانست كه).
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـاهُمْ} (الرحمن : 41).
سئل الحسن عن هذه الآية.
{وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ} إلخ.
فقال : هم الذين يقولون الأشياء إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن يوم القيامة تكون الوجوه بلون القلب ، فالقلوب الكاذبة لما كانت مسودة بسواد الكذب وظلمته تلونت وجوههم بلون القلوب.
قال يوسف بن الحسين رحمه الله : أشد الناس عذاباً يوم القيامة من ادعى في الله ما لم يكن له ذلك ، أو أظهر من أحواله ما هو خال عنها.
{أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ} .
(آيانيست در دوزخ يعنى هست).
{مَثْوَى} مقام.
{لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} عن الإيمان والطاعة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "التأويلات النجمية" ؛ أي : الذين تكبروا على أولياء الله ، وامتنعوا عن قبول النصح والموعظة.
{وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} الشرك والمعاصي ؛ أي : من جنهم.
{بِمَفَازَتِهِمْ} مصدر ميمي بمعنى الفوز : من فاز بالمطلوب ؛ أي : ظفر به.
قال الراغب : الفوز الظفر مع حصول السلامة.
والباء : متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول
130
مفيدة لمفازة تنجيتهم من العذاب لنيل الثواب ؛ أي : ينجيهم من مثوى المتكبرين حال كونهم ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم الذي هو الجنة.
{لا يَمَسُّهُمُ السُّواءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
حال أخرى من الموصول مفيدة لكون نجاتهم وفوزهم بالجنة غير مسبوقة بمساس العذاب والحزن.
قال في "كشف الأسرار" لا يمس أبدانهم أذى.
وقلوبهم حزن ، ويجوز أن تكون المفازة من فاز منه ؛ أي : نجا منه.
والباء للملابسة.
وقوله تعالى : {لا يَمَسُّهُمُ} إلخ.
تفسير وبيان لمفازتهم ؛ أي : ينجيهم بسبب مفازتهم التي هي تقواهم ، كما يشعر به إبراده في حيز الصلة ، وإما على إطلاق المفازة على سببها الذي هو التقوى ، فليس المراد نفي دوام المساس ، والحزن بل دوام نفيهما.
وفي الآية إشارة إلى أن الذين اتقوا بالله عما سوى الله لا يمسهم سوء القطيعة والهجران ولا هم يحزنون على ما فاتهم من نعيم الدنيا والآخرة ، إذ فازوا بقربة المولى ، وهو فوز فوق كل فوز ، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين اليوم عصمة وغداً رؤية واليوم عناية وغداً كفاية وولاية.
نسأل الله سبحانه أن يعصمنا مما يؤدي إلى الحجاب ، ويجعلنا في حمايته في كل باب.
وفي الآية ترغيب للتقوى ؛ فإنها سبب للنجاة وبها تقول جهنم : جز يا مؤمن ، فإن نورك أطفأ ناري ، وبها يخاف الخلائق من المتقى.
ألا ترى أن رسول الروم لما دخل على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أخذته الرعدة والخوف.
قال في المثنوي :
هيبت حقست اين از خلق نيست
هيبت اين مرد صاحب دلق نيست
هركه ترسيد ازحق وتقوى كزيد
ترسد ازوى جن وانس وهركه ديد
وفي "البستان" :
توهم كردن از حكم داور مبيج
كه كردن نبيجد زحكم توهيج
محالست جون دوست داردترا
كه دردست دشمن كذار دترا
وجاء إلى ذي النون المصري رحمه الله بعض الوزراء وطلب الهمة ، وأظهر الخشية من السلطان ، فقال له : لو خشيت أنا من الله كما تخشى أنت من السلطان ، لكنت من جملة الصديقين :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
كرنبودى اميد راحت ورنج
باى درويش بر فلك بودى
ور وزير از خدا بترسيدى
همجنان كز ملك ملك بودى
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا مخلصين له.
{اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} .
من خير وشر وإيمان وكفر ، لكن لا بالجبر ، بل بمباشرة الكاسب لأسبابها.
(8/98)
قال في "التأويلات النجمية" : دخل أفعال العباد وأكسابهم في هذه الجملة ، ولا يدخل هو ، وكلامه فيها ، لأن المخاطب لا يدخل تحت الخطاب ، ولأنه تعالى يخلق الأشياء بكلامه ، وهو كلمة كن.
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ} يتولى التصرف فيه كيفما يشاء.
والوكيل : القائم على الأمر الزعيم بإكماله ، والله تعالى هو المتكفل بمصالح عباده ، والكافي لهم في كل أمر ، ومن عرف أنه الوكيل اكتفى به في كل أمره ، فلم يدبر معه ، ولم يعتمد إلا عليه.
وخاصية هذا الاسم نفي الحوائج والمصائب ، فمن خاف ريحاً ، أو صاعقة ، أو نحوهما ، فليكثر منه ، فإنه يصرف عنه ، ويفتح له أبواب الخير والرزق.
{لَّه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} .
جمع مقليد أو مقلاد ، وهو المفتاح ، أو جمع إقليد على
131
الشذوذ كالمذاكير جمع : ذكر ، وإلا ينبغي أن يجمع على أقاليد.
والإقليد : بالكسر معرب كليد ، وهو في الفارسي بمعنى : المفتاح في العربي ، وإن كان شائعاً بين الناس ، بمعنى الفعل.
والمعنى : له تعالى وحده مفاتيح خزائن العالم العلوي والسفلي لا يتمكن من التصرف فيها غيره.
وبالفارسية : (مرور است كليدهاى خزائن آسمان وزمين يعني مالك أمور علوى وسلفى است وغير اورا تصر في در آمن ممكن نيست همجنانكه دخل در خزينها متصور نيست مكر كسى راكه مفاتيح آن بدست اوست).
وعن عثمان رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلّم عن المقاليد ، فقال : "تفسيرها : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير يحيي ويميت ، وهوعلى كل شيء قدير".
والمعنى : على هذا أنهذه الكلمات يوحد بها ويمجد بها ، وهي مفاتيح خير السماوات والأرض من تكلم بها أصابة.
يعني : (اين كلمات مفاتيح خيرات آسمان وزمينست هركه بدان تكلم كند بنقود فيوض آن خزائن برسد وكفته اند خزائن آسمان بارانست وخزائن زمين كياه وكليد اين خزينها بدست تصرف اوست هركاه خواهد باران فرستد وهرجه خواهد ازنباتات بروياند).
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي الخبر أن رسول الله عليه السلام ، قال : أتيت بمفاتيح خزائن الأرض ، فعرضت عليّ ، فقلت : لا بل أجوع يوماً وأشبع يوماً".
قال الصائب :
افتد هماى دولت اكر در كمندما
از همت بلند رها ميكنيم ما
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن له مفاتيح خزائن لطفه ، وهي مكنونة في سماوات القلوب ، وله مفاتيح خزائن قهره ، وهي مودعة في أرض النفوس ، يعني : لا يملك أحد مفاتيح خزائن لطفه وقهره ، إلا هو ، وهو الفتاح ، وبيده المفتاح يفتح على من يشاء خزائن لطفه في قلبه ، فيخرج ينابيع الحكمة منه ، وجواهر الأخلاق الحسنة ، ويفتح على من يشاء أبواب خزائن قهره في نفسه ، فيخرج عيون المكر والخدع والحيل منها ، وفنون الأوصاف الذميمة ، ولهذا السر قال صلى الله عليه وسلّم "مفتاح القلوب لا إله إلا الله".
ولما سأله عثمان رضي الله عنه عن تفسير مقاليد السماوات والأرض ، قال : "لا إله إلا الله ، والله أكبر" إلخ.
{لَّه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} التنزيلية والتكوينية المنصوبة في الآفاق والأنفس.
{أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} ، خسراناً لا خسار وراءه ؛ لأنهم اختاروا العقوبة على الثواب وفتحوا أبواب نفوسهم بمفتاح الكفر والنفاق ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن ربحت تجارته لا ممن خسرت صفقته.
{لَّه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآيات اللَّهِ أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ * قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُوانِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَـاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَـاـاِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ} .
{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُوانِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَـاهِلُونَ} ؛ أي : أبعد مشاهدة هذه الآيات ، فغير الله أعبد تأمرونني بذلك أيها الجاهلون ، وتأمروني اعتراض للدلالة على أنهم أمروه عقيب ذلك ، بأن يعبد غير الله وقالوا : استلم آلهتنا نؤمن بإلهك لفرط غباوتهم ، وأصله تأمرونني بإظهار النونين ، ثم أدغمت أولاهما ، وهي علم الرفع في الثانية ، وهي للوقاية.
وقد قرأ ابن عامر على الأصل ؛ أي : بإظهارها ، ونافع بحذف الثانية ؛ فإنها تحذف كثيراً.
{وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ} ؛ أي : من الرسل عليهم السلام.
{لَـاـاِنْ أَشْرَكْتَ} فرضاً.
وبالفارسية : (اكر شرك آرى) وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} ؛ أي : ليبطلن ثواب عملك وإن كنت كريماً عليَّ
132
(8/99)
{وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} في صفقتك بسبب حبوط عملك واللام الأولى موطئة للقسم ، والأخريان للجواب ، وهو كلام وارد على طريقة الفرض لتهييج الرسل وإقناط الكفرة والإيذان بغاية شناعة الإشراك وقبحه ، وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره ، فكيف بمن عداه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال التفتازاني : فالمخاطب هو النبي عليه السلام ، وعدم إشراكه مقطوع به لكن جيء بلفظ الماضي إبرازاً للإشراك في معرض الحاصل على سبيل الفرض ، والتقدير : تعريضاً لمن صدر عنهم الإشراك بأنه قد حبطت أعمالهم ، وكانوا من الخاسرين.
وقال في "كشف الأسرار" هذا خطاب مع الرسول عليه السلام ، والمراد به غيره.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا أدب من الله لنبيه عليه السلام وتهديد لغيره ؛ لأن الله تعالى قد عصمه من الشرك ومداهنة الكفار.
وقال الكاشفي : (واصح آنست كه مخاطب بحسب ظاهر بيغمبر انند وازروى حقيقت افراد مسلمانان امت ايشان هريك رامى فرمايد كه اكر شرك أرى هر آينه تباه كردد كردار توكه دروقت ايمان واقع شده وهر آينه باشى از زيانكاران كه بعد ازوقت دولت دين بنكبت شرك مبتلى كردد).
قال ابن عطاء : هذا شرك الملاحظة والالتفات إلى غيره ، وإطلاق الأحباط من غير تقييد بالموت عن الكفر يحتمل أن يكون من خصائصهم ؛ لأن الإشراك منهم أشد وأقبح ، وأن يكون مقيداً بالموت كما صرح به في قوله تعالى : {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِه فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوالَـائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ} (البقرة : 217) () ، فيكون حملاً للمطلق على المقيد ، فمذهب الشافعي أن نفس الكفر غير محبط عنده ، بل المحبط الموت على الكفر.
وأما عند غيره ، فنفس الكفر محبط سواء مات عليه أم لم يمت.
وفي "المفردات" : حبط العمل على أضرب :
أحدها : أن تكون الأعمال دنيوية ، فلا تغني عن الآخرة غناء كما أشار إليه تعالى بقوله : {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} (الفرقان : 23).
والثاني : أن تكون أعمالاً أخروية لكن لم يقصد صاحبها بها وجه الله تعالى كما روي : "يؤتى برجل يوم القيامة ، فيقال له : بم كان اشتغالك ، فيقول بقراءة القرآن ، فيقال له : كنت تقرأ ليقال : فلان قارىء.
وقد قيل ذلك ، فيؤمر به إلى النار".
والثالث : أن تكون أعمالاً صالحة ، لكن بإزائها سيئات تربى عليها.
وذلك هو المشار إليه بخفة الميزان.
انتهى.
وعطف الخسران على الحبوط من عطف المسبب على السبب.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الإنسان ، ولو كان نبياً لئن وكل إلى نفسه ليفتحن بمفتاح الشرك والرياء أبواب خزائن قهر الله على نفسه ، وليحبطن عمله بأن يلاحظ غير الله بنظر المحبة ، ويثبت معه في الإبداع سواه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} .
رد لما أمروه ، ولولا دلالة التقديم على القصر ، لم يكن كذلك ، والفاء : جواب الشرط المحذوف ، تقديره : لا تعبد ما أمرك الكفار بعبادته ، بل إن عبدت ، فاعبد الله ، فحذف الشرط وأقيم المفعول مقامه.
{وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ} إنعامه عليك.
ومن جملته التوحيد والعبادة ، وكذا النبوة والرسالة الحاصلتان بفضله وكرمه لا بسعيك وعملك.
واعلم أن الشكر على ثلاث درجات :
الأولى : الشكر على المحاب ، وقد شاركت المسلمين في هذا الشكر اليهود والنصارى والمجوس.
والثانية : الشكر على المكاره.
وهذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة ؛ لأن الجنة حفت بالمكاره.
والثالثة : أن لا يشهد غير المنعم ، فلا يشهد النعمة والشدة.
وهذا الشهود والتلذذ به أعلى اللذات ؛ لأنه في مقام السر.
فالعاقل يجتهد في الإقبال على الله ،
133
والتوجه إليه من غير التفات إلى يمين وشمال.
روي : أن ذا النون المصري قدس سره : أراد التوضؤ من نهر فرأى جارية حسناء ، فقالت لذي النون : ظننتك أولاً عاقلاً ، ثم عالماً ، ثم عارفاً ، ولم تكن كذلك ؛ أي : لا عاقلاً ولا عالماً ولا عارفاً.
قال ذو النون : ولم قالت : فإن العاقل لا يكون بغير وضوء لعلمه بفضائله ، والعالم لا ينظر إلى الحرام ، فإن العالم لا بد وأن يكون عاملاً ، والعارف لا يميل إلى غير الله ، فإن مقتضى العرفان أن لا يختار على المحبوب الحقيقي سواه لكون حسنه من ذاته ، وحسن ما سواه مستفاداً منه ، والغير وإن كان مظهراً لتجليه ، ولكن النظر إليه قيد والحضور في عالم الإطلاق هو التفريد الذي هو تقطيع الموحد عن الأنفس والآفاق :
خداست درد وجهان هست جاودان جامى
وما سواه خيال مزخرف باطل
نسأل الله سبحانه هذا التوحيد الحقيقي.
(8/100)
روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن حبراً من اليهود أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقال : يا محمد أشعرت أن الله يضع يوم القيامة السماوات على أصبع والأرضين على أصبع.
والجبال على أصبع.
والماء والثرى والشجر على أصبع وجميع الخلائق على أصبع ثم يهزهنّ.
ويقول : أنا الملك ابن الملوك ، فضحك رسول الله عليه السلام تعجباً منه وتصديقاً له ، فأنزل الله هذه الآية ، وهي قوله تعالى :
{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُا بِيَمِينِه سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} .
القدر بمعنى : التعظيم ، كما في "القاموس".
فالمعنى : ما عظموا الله حق تعظيمه حيث جعلوا له شريكاً بما لا يليق بشأنه العظيم.
ويقال : قدر الشيء قدره من التقدير كما في "المختار".
فالمعنى : ما قدروا عظمته تعالى في أنفسهم حق عظمته.
وقال الراغب في "المفردات" : ما عرفوا كنهه.
يقول الفقير : هذا ليس في محله ، فإن الله تعالى ، وإن كان لا يعرف حق المعرفة بحسب كنهه ، ولكن تتعلق به تلك المعرفة بحسبنا.
فالمعنى ها هنا : ما عرفوا الله حق معرفته بحسبهم لا بحسب الله إذ لو عرفوه بحسبهم ما أضافوا إليه الشريك ونحوه فافهم.
وفي "التأويلات النجمية" : ما عرفوا الله حق معرفته وما وصفوه حق وصفه ، وما عظموه حق تعظيمه ، فمن اتصف بتمثيل أو جنح إلى تعطيل حاد عن ألسنة المثلى ، وانحرف عن الطريقة الحسنى وصفوا الحق بالأعضاء ، وتوهموا في نعته الأجزاء ، فما قدروا الله حق قدره ، انتهى.
{وَالارْضُ جَمِيعًا} : حال لفظاً وتأكيد معنى ، ولذا قال أهل التفسير : تأكيد الأرض بالجميع ؛ لأن المراد بها : الأرضون السبع ، أو جميع أبعاضها البادية.
والغائرة ؛ أي : الظاهرة وغير الظاهرة من باطنها وظاهرها ووسطها.
قوله : والأرض مبتدأ خبره قوله : {قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} .
القبضة المرة من القبض ، أطلقت بمعنى القبضة ، وهي المقدار المقبوض بالكف تسمية بالمصدر أو بتقدير ذات قبضته.
وفي "المفردات" : القبض التناول بجمع الكف نحو قبض السيف ، وغيره ويستعار القبض لتحصيل الشيء ، وإن لم يكن فيه مراعاة الكف ، كقولك : قبضت الدار من فلان ؛ أي : حزتها.
قال الله تعالى : {وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} ؛ أي : في حوزه حيث لا تمليك للعبد.
انتهى.
تقول للرجل : هذا في يدك ، وفي قبضتك ؛ أي : في ملكك ، وإن لم يقبض عليه بيده.
والمعنى : والأرض جميعاً مقبوضة يوم القيامة ؛ أي : في ملكه وتصرفه من غير منازع يتصرف فيها تصرف الملاك في ملكهم ؛ وأنها ؛ أي : جميع الأرضين ، وإن عظمن ، فما هن بالنسبة إلى قدرته تعالى إلا قبضة واحدة.
ففيه تنبيه على غاية عظمته ، وكمال
134
قدرته وحقارة الأفعال بالنسبة إلى قدرته ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة حقيقة ، ولا مجازاً على ما في "الإرشاد" ونحوه.
وعلى هذه الطريقة قوله تعالى : {وَالسَّمَـاوَاتُ} مبتدأ {مَطْوِيَّـاتُ} خبره {بِيَمِينِهِ} متعلق بمطويات ؛ أي : مجموعات ومدرجات من طويت الشيء طياً ؛ أي : أدرجته إدراجاً ، أو مهلكات من الطي بمعنى مضى العمر ، يقال : طوى الله عمره.
وقوله : بيمينه ؛ أي : بقوته واقتداره ، فإنه يعبر بها عن المبالغة في الاقتدار ؛ لأنها أقوى من الشمال في عادة الناس كما في "الأسئلة المقحمة".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم.
قال بعضهم : الآية من المتشابهات ، فلا مساغ لتأويلها وتفسيرها غير الإيمان بها كما قال تعالى : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ هُنَّ أُمُّ} (آل عمران : 7).
وقال أهل الحقيقة : المراد بهذه القبضة ، هي : قبضة الشمال المضاف إليها القهر والغضب ولوازمهما وعالم العناصر ، وما يتركب ويتولد منها.
ومن جملة ذلك صورة آدم العنصرية ، وأما روحانيته ، فمضافة إلى القبضة المسماة باليمين.
ودل على ما ذكر ذكر اليمين في مقابل الأرض ، وصح عن النبي عليه السلام إطلاق الشمال على إحدى اليدين اللتين خلق الله بهما آدم عليه السلام ، كما في "شرح الأربعين" حديثاً للشيخ الكبير قدس سره الخطير.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : "يقبض الله السماوات بيمينه والأرضين بيده الأخرى ثم يهزهنّ ويقول أنا الملك أين ملوك الأرض".
كما في "كشف الأسرار".
وفيه إشعار بإطلاق الشمال على اليد الأخرى ، فالشمال في حديثه عليه السلام ، والقبضة في هذه الآية واحدة.
(8/101)
فإن قلت : كيف التوفيق بينه وبين قوله عليه السلام : "كلتا يدي ربي يمين مباركة".
وقول الشاعر :
له يمينان عدلاً لا شمال له
وفي يمينه آجال وأرزاق
قلت : كون كل من اليدين يميناً مباركة بالإضافة إليه تعالى ، ومن حيث الآثار فيمين وشمال إذ لا تخلو الدنيا والآخرة من اللطف والقهر والجمال والجلال والبسط والقبض والروح والجسم والطبيعة والعنصر ، ونحو ذلك.
وظهر مما ذكرنا كون السماوات خارجة عن حدّ الدنيا لإضافتها إلى اليمين ، وإن كانت من عالم الكون والفساد ، اللهم إلا أن يقال : العناصر مطلقاً مضافة إلى الأرض المقبوضة بالشمال ، وأما ملكونها ، وهو باطنها كباطن آدم ، وباطن السماوات كالأرواح العلوية ، فمضاف إلى السماوات المقبوضة باليمين ، فالسماوات من حيث عناصرها داخلة في حدّ الدنيا.
{سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ما أبعد وما أعلى من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم ما يشركونه من الشركاء ، فما على الأول مصدرية ، وعلى الثاني موصولة.
سئل الجنيد قدس سره عن قوله : {وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُ} ، فقال : متى كانت منشورة حتى صارت مطوية سبحانه نفى عن نفسه ما يقع في العقول من طيها ، ونشرها إذ كل الكون عنده كالخردلة ، أو كجناح بعوضة ، أو أقل منها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال الزروقي رحمه الله : إذا أردت استعمال حزب البحر للسلامة من عطبه فقدم عند ركوبه : {اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (هود : 41) {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إلى قوله : {عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر : 67).
إذ قد جاء في الحديث : "إنه أمان من الغرق" ، ومن الله الخلاص.
يقول الفقير :
135
التخصيص : هو أن من عرف الله حق معرفته ، قد لا يحتاج إلى ركوب السفينة بأن يمشي على الماء ، كما وقع لكثير من أهل التصرف ، ففيه تنبيه على العجز وتعريف للقصور.
وأيضاً : أن الأرض إذا كانت في قبضته ، فالبحر الذي فوقها متصلاً بها يكون أيضاً في قبضته فينبغي أن يخاف من سطوته في كل مكان ، ويشتغل بذكره في كل آن بخلوص الجنان وصدق الإيقان.
يقال : إن الشرك جلي وخفي ، فالجلي من العوام الكفر والخفي منهم التوحيد باللسان مع اشتغال القلب بغير الله تعالى ، وهو شرك جلي من الخواص ، والخفي منهم الالتفات إلى الدنيا وأسبابها ، وهو جلي من أخص الخواص والخفي منهم الالتفات إلى الآخرة.
يقال : إن السبب لانشقاق زكريا عليه السلام في الشجرة كان التفاته إلى الشجرة حيث قال : اكتميني أيتها الشجرة كما أن يوسف عليه السلام قال لساقي الملك : اذكرني عند ربك ، فلبث في السجن بضع سنين ، فاقطع نظرك عما سوى الله ، وانظر إلى حال الخليل عليه السلام ؛ فإنه لما ألقي في النار أتاه جبرائيل.
وقال : ألك حاجة يا إبراهيم؟ فقال : أما إليك ، فلا فجعل الله له النار برداً وسلاماً ، وكان قطباً وإماماً :
نكر تاقضا ازكجا سير كرد
كه كورى بود تكيه برغير كرد
قال عبد الواحد بن زيد لأبي عاصم البصري رحمه الله : كيف صنعت حين طلبك الحجاج.
قال : كنت في غرفتي ، فدقوا عليَّ الباب ودخلوا ، فدفعت بي دفعة ، فإذا أنا على أبي قبيس بمكة ، فقال عبد الواحد : من أين كنت تأكل.
قال : كانت تأتي إليّ عجوز وقت إفطاري بالرغيفين الذين كنت آكلهما بالبصرة.
قال عبد الواحد : تلك الدنيا أمرها الله أن تخدم أبا عاصم هكذا حال من توكل على الله وانقطع إليه عما سواه ، فالله لا يخيب عبداً لا يرجو إلا إياه.
{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} .
المراد : النفخة الأولى التي هي للإماتة بقرينة النفخة الآتية التي هي للبعث والنفخ نفخ الريح في الشيء.
وبالفارسية : (دميدن).
يقال : نفخ بفمه ، أخرج منه الريح.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والنفخ في القرآن على خمسة أوجه :
الأول : نفخ جبريل عليه السلام في جيب مريم عليها السلام كما قال تعالى : {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} (الأنبياء : 91) ؛ أي : نفخ جبرائيل في الجيب بأمرنا فسبحان من أحبل رحم امرأة وأوجد فيها ولداً بنفخ جبرائيل.
والثاني : نفخ عيسى عليه السلام في الطين كما قال تعالى : {فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران : 49).
وهو الخفاش ، فسبحان من حول الطين طيراً بنفخ عيسى.
والثالث : نفخ الله تعالى في طين آدم عليه السلام كما قال تعالى : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} ؛ أي : أمرت الروح بالدخول فيه ، والتعلق به فسبحان من أنطق لحماً وأبصر شحماً ، واسمع عظماً وأحيا جسداً بروح منه.
والرابع : نفخ ذي القرنين الحديد في النار كما قال تعالى حكاية عنه.
{قَالَ انفُخُوا} (الكهف : 96) الآية ، فسبحان من حول قطعة حديد ناراً بنفخ ذي القرنين.
(8/102)
والخامس : نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور ، كما قال تعالى : {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} ، فسبحان من أخرج الأرواح من الأبدان بنفخ واحد كما يطفأ السراج بنفخ واحد ، وتوقد النار بنفخ واحد وسبحان من رد الأرواح إلى الأبدان بنفخ واحد.
وهذا كله دليل على قدرته التامة العامة.
والصور : قرن من نور ألقمه الله إسرافيل ، وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى ، وله جناج بالمشرق وجناح بالمغرب ، والعرش على كاهله ، وإن قدميه قد خرجنا من الأرض السفلى حتى بعدتا عنها مسيرة مائة عام على ما رواه وهب وعظم دائرة القرن مثل ما بين السماء والأرض.
وفي "الدرة الفاخرة" للإمام الغزالي
136
رحمه الله : الصور قرن من نور له أربع عشرة دائرة.
الدائرة الواحدة كاستدارة السماء والأرض فيه ثقب بعدد أرواح البرية وباقي ما يتعلق بالنفخ.
والصور قد سبق في سورة الكهف والنمل فارجع.
{فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الأرْضِ} .
يقال : صعق الرجل إذا أصابه فزع ، فأغمي عليه وربما مات منه ، ثم استعمل في الموت كثيراً كما في "شرح المشارق" لابن الملك.
قال في "المختار" صعق الرجل بالكسر صعقة غشي عليه.
وقوله تعالى : {فَصَعِقَ مَن} إلخ.
أي : مات.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
فالمعنى : خروا أمواتاً من الفزع وشدة الصوت.
{إِلا مَن شَآءَ اللَّهُ} جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت عليهم السلام ، فإنهم يموتون من بعد.
قال السدي : وضم بعضهم إليهم ثمانية من حملة العرش ، فيكون المجموع اثني عشر ملكاً وآخرهم موتاً ملك الموت.
وروى النقاش : إنه جبرائيل كما جاء في الخبر أن الله تعالى يقول حينئذٍ : يا ملك الموت خذ نفس إسرافيل.
ثم يقول : من بقي؟ ، فيقول : بقي جبرائيل وميكائيل وملك الموت.
فيقول : خد نفس ميكائيل حتى يبقى ملك الموت وجبرائيل ، فيقول : تعالى مت يا ملك الموت ، فيموت.
ثم يقول : يا جبرائيل من بقي؟ فيقول : تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام وجهك الدائم الباقي ، وجبرائيل الميت الفاني ، فيقول : يا جبرائيل لابد من موتك ، فيقع ساجداً يخفق بجناحيه ، فيموت ، فلا يبقى في الملك حي من إنس وجن وملك غيرهم ، إلا الله الواحد القهار.
وقال بعض المفسرين : المستثنى الحور والولدان وخزنة الجنة والنار وما فيهما ؛ لأنهما وما فيهما خلقاً للبقاء والموت لقهر المكلفين ونقلهم من دار إلى دار ، ولا تكليف على أهل الجنة ، فتركوا على حالهم بلا موت.
وهذا الخطاب بالصعق متعلق بعالم الدنيا والجنة والنار عالمان بانفرادهما خلقاً للبقاء فهما بمعزل عما خلق للفناء ، فلم يدخل أهلهما في الآية ، فتكون آية الاستثناء مفسرة لقوله تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} (القصص : 88) : و{كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران : 185) ، وغيرهما من الآيات فلا تناقض.
يقول الفقير : يرد عليه أنه كيف يكون هذا الخطاب بالصعق متعلقاً بعالم الدنيا ، وقد قال الله تعالى : {مَن فِى السَّمَـاوَاتِ} ، وهي أي : السماوات خارجة عن حدّ الدنيا ، ولئم سلم بناء على أن السماوات السبع كالأرض من عالم الكون والفساد ، فيبقى الفلك الثامن الذي هو الكرسي والتاسع الذي هو العرش خارجين عن حدّ الآية ، فيلزم أن لا يفنى أهلهما عموماً وخصوصاً من الملائكة الذين لا يحصي عددهم إلا الله على أنهم من أهل التكليف أيضاً.
قال الإمام النسفي في "بحر الكلام" : قال أهل الحق ؛ أي : أهل السنة والجماعة سبعة لا تفنى العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار وأهلهما من ملائكة الرحمة والعذاب والأرواح ؛ أي : بدلالة هذه الآية.
وقال شيخ العلماء الحسن البصري قدس سره : المراد بالمستثنى هو الله تعالى وحده ، ويؤيده ما قاله الغزالي رحمه الله : حدثني من لا أشك في علمه أن الاستثناء واقع عليه سبحانه خاصة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
يقول الفقير : فيه بعد من حيث الظاهر ؛ لأنه يلزم أن يشاء الله نفسه ، فيكون شائياً ومشيئاً ، وقد أخرجوه في نحو قوله تعالى : {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة : 284) : و{اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} (الرعد : 16) ، وغيرهما.
والله ليس من أهل السماوات والأرض ، وإن كان إلهاً ، فهي كما قال : {وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ} (الزخرف : 84).
وقال بعض المحققين : الصعق أعم من الموت ، فلمن لم يمت الموت ، ولمن مات الغشية ، فإذا نفخ الثانية ، فمن مات حي ومن غشي عليه أفاق ، وهو القول المعوّل عليه عند ذوي التحقيق.
يقول الفقير :
137
فيدخل إدريس عليه السلام ، فإنه مات ثم أحيي وأدخل الجنة ، فتعمه الغشية دون الموت إلا أن يكون ممن شاء الله ، وأما موسى عليه السلام ، فقد جزي بصعقته وغشيته في الطور ، فالموت عام لكل أحد إذ لو بقي أحد لأجاب الله تعالى ، حيث يقول : لمن الملك اليوم ، فقال : الواحد القهار.
(8/103)
قال في "أسئلة الحكم" ، وأما قوله تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} (القصص : 88) ، فمعناه عند المحققين قابل للهلاك ، فكل محدث قابل لذلك ، بل هالك دائم وعدم محض بالنسبة إلى وجه نفسه إذ لكل شيء وجهان : وجه إلى نفسه ، ووجه إلى ربه.
)
فالوجه الأول هالك ، وعدم والثاني عين ثابت في علمه قائم بربه ، وإن كان له ظل ظاهر ، فكل محدث قابل للهلاك ، والعدم ، وإن لم يهلك وينعدم بخلاف القديم الأزلي.
ويؤيد ذلك المعنى أن العرش لم يرو فيه خبر بأنه يهلك ، فلتكن الجنة مثله.
يقول الفقير : أما ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه سأل جبرائيل عن هذه الآية من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم.
قال : هم الشهداء المتقلدون أسيافهم حول العرش" ، كما في "كشف الأسرار" ، وكذا ما قال جعفر الصادق رضي الله عنه أهل الاستثناء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأهل بيته وأهل المعرفة.
وما قال بعضهم : هم أهل التمكين والاستقامة.
كل ذلك وما شاكله ، فمبني على تفسير الصعق بالغشي إذ الشهداء ونحوهم من الصديقين ، وإن كانوا أحياء عند ربهم لكنهم لا يذوقون الموت مرة أخرى ، وإلا لتحققوا بالعدم الأصلي ، وهو مخالف لحكمة الله تعالى ، وإنما شأنهم الفزع والغشيان ، فيحفظهم الله تعالى عن ذلك ، فالأرواح والأحياء مشتركون في ذلك إلا من شاء الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
حكي أن واحداً رؤي في المنام ذا شيب ، وكان قد مات وهو شاب ، فقيل له في ذلك ، فقال : لما قبر المرسي القائل بخلق القرآن في قبره في هذه المقبرة هجمت عليه جهنم بغيظ وزفير ، فشاب شعري من ذلك الفزع والهول ، وله نظائر كثيرة ، ودخل في الأرواح من يقال لهم : الأرواح العالية المهيمة ، فإنهم لا يموتون لكونهم أرواحاً ، ولا يغشى عليهم ، إذ ليس لهم خبر عما سوى الله تعالى ، بل هم المستغرقون في بحر الشهود ، فعلى هذا يكون المراد بالنفخة في الآية نفخة غير نفخة الإماتة ، وسيأتي البيان في النفخات.
فإن قلت : فما الفرق بين الصعق الذي في هذه الآية ، وبين الفزع الذي في آية النمل ، وهي قوله تعالى : {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الأرْضِ} (النمل : 87).
قلت : لا شك أن الصعق بمعنى الموت غير الفزع ، وكذا بمعنى الغشي إذ ليس كل من له فزع مغشياً عليه ، هذا ما تيسر لي في هذا المقام ، وحقيقة العلم عند الله الملك العلام.
{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} نفخة أخرى هي النفخة الثانية على الوجه الأول وأخرى.
يحتمل النصب على أن يكون الظرف قائماً مقام الفاعل ، وأخرى صفة لمصدر منصوب على المفعول المطلق والرفع على أن يكون المصدر المقدر قائماً مقام الفاعل.
{فَإِذَا هُمْ} ؛ أي : جميع الخلائق.
{قِيَامٌ} جمع : قائم ؛ أي : قائمون من قبورهم على أرجلهم أو متوقفون ، فالقيام بمعنى الوقوف والجمود في مكانهم لتحيرهم.
{يَنظُرُونَ} يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين ، أو ينتظرون ماذا يفعل بهم ، ويقال : ينظرون إلى السماء كيف غيرت ، وإلى الأرض كيف بدلت ، وإلى الداعي كيف يدعوهم إلى الحساب ، وإلى الآباء والأمهات كيف ذهبت شفقتهم عنهم ، واشتغلوا بأنفسهم ، وإلى خصمائهم ماذا يفعلون بهم.
وفي الحديث : "أنا أول من ينشق عنه القبر" ، وأول من يحيا من
138
الملائكة إسرافيل لينفخ في الصور".
"وأول من يحيا من الدواب براق النبي عليه السلام".
"وأول من يستظل في ظلّ العرش رجل أنظر معسراً ومحا عنه".
"وأول من يرد الحوض فقراء الأمة والمتحابون في الله" ، "وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل عليه السلام ؛ لأنه ألقي في النار عرياناً".
"وأول من يكسى حلة من النار إبليس" ، "وأول من يحاسب جبرائيل ؛ لأنه كان أمين الله إلى رسله" ، "وأول ما يقضى بين النار في الدماء".
"وأول ما يحاسب به الرجل صلاته" ، "وأول ما تسأل المرأة عن صلاتها ، ثم بعلها" ، "وأول ما يسأل العبد يوم القيامة عن النعيم ؛ بأن يقال له : ألم أصحح جسمك وأروك من الماء البارد".
"وأول ما يوضع في الميزان الخلق الحسن" ، "وأول ما يوضع في الميزان العبد نفقته على أهله" ، "وأول ما يتكلم من الآدمي ، فخذه وكفه".
"وأول خصمين جاران" ، "وأول من يشفع يوم القيامة الأنبياء" ، ثم العلماء ، ثم الشهداء ، "وأول من يدخل الجنة من هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه" ، "وأول من يسلم عليه الحق ، ويصافحه عمر رضي الله عنه" ، "وأول من يدخل من الأغنياء عبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرة".
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
قال في "المدارك" : دلت الآية على أن النفخة اثنتان : الأولى للموت ، والثانية : للبعث.
والجمهور على ثلاث :
الأولى : للفزع كما قال : {يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ} (النمل : 87).
والثانية : للموت.
والثالثة : للإعادة.
انتهى.
فإن كانت النفخة اثنتين يكون معنى صعق خروا أمواتاً ، وإن كانت ثلاثاً ، يكون معناه مغشياً عليهم ، فتكون هذه النفخة ؛ أي : الثالثة بعد نفخة الإحياء يوم القيامة كما ذهب إليه البعض.
(8/104)
وقال سعد المفتي : دل ظاهر الأحاديث على أن النفخات أربع المذكورتان في سورة يس للإماتة ، ثم الإحياء.
ونفخة للإرعاب والإرهاب ، فيغشى عليهم ، ثم للإفاقة والإيقاظ ، والذي يفهم من خريدة العجائب : أن نفخة الفزع هي أولى النفخات ، فإنه إذا وقعت أشراط الساعة ، ومضت أمر الله صاحب الصور أن ينفخ نفخة الفزع ، ويديمها ويطولها ، فلا يبرح كذا عاماً يزداد الصوت كل يوم شدة ، فيفزع الخلائق وينحازون إلى أمهات الأمصار ، وتعطل الرعاة السوائم ، وتأتي الوحوش والسباع ، وهي مذعورة من هول الصيحة ، فتختلط بالناس ، ويؤول الأمر إلى تغير الأرض والسماء عما هما عليه ، وبين نفخة الفزع.
والنفخة الثانية : أربعون سنة ، ثم تقع نفخة الثانية ، والثالثة : وبينهما أربعون سنة ، أو شهراً ، أو يوماً ، أو ساعة.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : اختلف الناس في أمد المدة الكائنة بين النفختين ، فاستقر جمهورهم على أنها أربعون سنة.
وحدثني من لا أشك في علمه : أن أمد ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى ؛ لأنه من أسرار الربوبية ، فإذا أراد الله إحياء الخلق يفتح خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة ، فتمطر به الأرض ، فإذا هو كمنيّ الرجال بعد أن كانت عطشى فتحيا وتهتز ، ولا يزال المطر عليها حتى يعمها ، ويكون الماء فوقها أربعين ذراعاً ، فإذا الأجسام تنبت من عجب الذنب ، وهو أول ما يخلق من الإنسان بدىء منه.
ومنه يعود وهو عظم على قدر الحمصة ، وليس له مخ ، فإذا نبت كما نبت البقل تشتبك بعضها في بعض ، فإذا رأس هذا على منكب هذا ، ويد هذا على جنب هذا ، وفخذ هذا على حجر هذا لكثرة البشر ، والصبي صبي ، والكهل كهل ، والشيخ شيخ ، والشاب شاب ، ثم تهب ريح من تحت العرش فيها نار ، فتنسف ذلك عن الأرض ، وتبقى الأرض بارزة مستوية ؛ كأنها صحيفة واحدة ، ثم يحيي الله إسرافيل ، فينفخ
139
في الصور من صخرة بيت المقدس ، فتخرج الأرواح لها دويّ كدويّ النحل ، فتملأ الخافقين ، ثم تذهب كل نفس إلى جثتها بإعلام الله تعالى حتى الوحش والطير ، وكل ذي روح ، فإذا الكل قيام ينظرون ، ثم يفعل الله بهم ما يشاء.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
جودرخا كدان لحد خفت مرد
قيامت بيفشاند از موى كرد
سرازجيب غفلت برآور كنون
كه فردا نماند بحسرت نكون
بران ازدوسر جشمه ديده جوى
ور آلايشي دارى ازخود بشوى
{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ إِلا مَن شَآءَ اللَّه ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَـابُ وَجِا ىاءَ بِالنَّبِيِّـانَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} .
{وَأَشْرَقَتِ الارْضُ} : صارت عرصات القيامة مشرقة ومضيئة.
وذلك حين ينزل الله على كرسيه لفصل القضاء بين عباده.
{بِنُورِ رَبِّهَا} : النور : الضوء المنتشر المعين على الإبصار ؛ أي : بما أقام فيها من العدل.
استعير له النور ؛ لأنه يزين البقاع ، ويظهر الحقوق كما يسمى الظلم ظلمة.
وفي الحديث : "الظلم ظلمات يوم القيامة" يعني : شدائده يعني : الظلم سبب لشدائد صاحبه ، أو الظلم سبب لبقاء الظالم في الظلمة حقيقة ، فلا يهتدي إلى السبيل حين يسعى نور المؤمنين بين أيديهم ، ولكون المراد بالنور العدل أضيف الاسم الجليل إلى ضمير الأرض ، فإن تلك الإضافة إنما تحسن إذا أريد به تزين الأرض بما ينشر فيها من الحكم والعدل ، أو المعنى : أشرقت بنور خلقه الله في الأرض يوم القيامة بلا توسط أجسام مضيئة كما في الدنيا ، يعني : يشرق بذلك النور وجه الأرض المبدلة بلا شمس ولا قمر ، ولا غيرهما من الأجرام المنيرة ، ولذلك ؛ أي : ولكون المعنى ذلك.
أضيف ؛ أي : النور إلى الاسم الجليل.
وقال سهل : قلوب المؤمنين يوم القيامة تشرق بتوحيد سيدهم والاقتداء بسنة نبيهم.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَأَشْرَقَتِ الارْضُ} : أرض الوجود {بِنُورِ رَبِّهَا} إذا تجلى لها.
وقال بعضهم : هذا من المكتوم الذي لا يفسر ، كما في "تفسير أبي الليث".
{وَوُضِعَ الْكِتَـابُ} ؛ أي : الحساب والجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه ، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال في الإيمان والشمائل ، واكتفى باسم الجنس عن الجمع إذ لكل أحد كتاب على حدة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والكتاب في الأصل : اسم للصحيفة مع المكتوب فيه.
وقيل : وضع الكتاب في الأرض بعدما كان في السماء.
يقول الفقير : هذا على إطلاقه غير صحيح ؛ لأن كتاب الأبرار في عليين ، وكتاب الفجار في سجين ، فالذي في السماء يوضع في الأرض حتى اللوح المحفوظ ، وأما ما في الأرض فعلى حاله.
{وَجِا ىاءَ بِالنَّبِيِّـانَ} : الباء للتعدية.
{وَالشُّهَدَآءِ} للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين.
(8/105)
وفيه إشارة إلى أن النبيين والشهداء ، إذا دعوا للقضاء والحكومة والمحاسبة ، فكيف يكون حال الأمم وأهل المعاصي والذنوب.
دران روز كز فعل برسند وقول
أولوا العزم را تن بلرزد زهول
بجايى كه دهشت خورد انبيا
تو عذر كنه را جه دارى بيا
{وَقُضِىَ} .
(حكم كرده شود).
{بَيْنَهُم} ؛ أي : بين العباد.
{بِالْحَقِّ} : بالعدل.
{وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب ، وزيادة عقاب على ما جرى به الوعد ، وكما فتح الآية بإثبات العدل ختمها بنفي الظلم.
{وَوُفِّيَتْ} (وتمام داده شود).
{كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس المكلفة.
{مَّا عَمِلَتْ} ؛ أي : جزاء ما عملت من الخير والشر والطاعة والمعصية.
{وَهُوَ} تعالى {أَعْلَمُ}
140
منهم ومن الشهداء {بِمَا يَفْعَلُونَ} إذ هو خالق الأفعال ، فلا يفوته شيء من أفعالهم ، وإنما يدعو الشهداء لتأكيد الحجة عليهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا كان يوم القيامة بدل الله الأرض غير الأرض ، وزاد في عرضها وطولها كذا وكذا ، فإذا استقر عليها أقدام الخلائق برّهم وفاجرهم أسمعهم الله كلامه يقول : إن كتابي كانوا يكتبون ما أظهرتم ، ولم يكن لهم علم بما أسررتم ، فأنا عالم بما أظهرتم وبما أسررتم ، ومحاسبكم اليوم على ما أظهرتم ، وعلى ما أسررتم ، ثم أغفر لمن شاء منكم.
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : الملك لا سبيل له إلى معرفة باطن العبد في قول أكثرهم.
وقال في "ريحان القلوب" : الذكر الخفي ما خفي عن الحفظة لا ما يخفض به الصوت ، وهو خاص به صلى الله عليه وسلّم ومن له به أسوة حسنة.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
يقول الفقير : لا شك أن الحفظة تستملي من خزنة اللوح المحفوظ ، فيعرفون كل ما وقع من العبد من فعل ظاهر وعزم باطن ، ولكن يجوز أن يكون من الأسرار ما لا يطلع عليه غيره سبحانه وتعالى.
واعلم أنه إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى : أين اللوح المحفوظ؟ فيؤتى به وله صوت شديد ، فيقول الله : أين ما سطرت فيك من توراة وزبور وإنجيل وفرقان؟ فيقول : يا رب ، نقله مني الروح الأمين ، فيؤتى به ، وهو يرعد وتصطك ركبتاه ، فيقول الله تعالى : يا جبريل ، هذا اللوح يزعم أنك نقلت منه كلامي ووحيي أصدق؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول : فما فعلت فيه؟ فيقول : أنهيت التوراة إلى موسى والزبور إلى داود والإنجيل إلى عيسى والقرآن إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعليهم أجمعين.
وأنهيت إلى كل رسول رسالته ، وإلى أهل الصحف صحائفهم ، فإذا النداء : يا نوح ، فيؤتى به ترعد فرائصه وتصطك ركبتاه ، فيقول : يا نوح زعم جبرائيل أنك من المرسلين.
قال : صدق يا رب ، فقال : فما فعلت مع قومك؟ قال : دعوتهم ليلاً ونهاراً ، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً ، فإذا النداء : يا قوم نوح ، فيؤتى بهم زمرة واحدة ، فيقول لهم : هذا نوح زعم أنه بلغكم الرسالة ، فيقولون : يا رب كذب ما بلغنا شيئاً ، ثم ينكرون الرسالة ، ثم يقول الله تعالى : يا نوح ألك بينة عليهم؟ فيقول : نعم يا رب ، بيّنتي عليهم محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته ، فيقولون : كيف ذلك ونحن أول الأمم وهم آخر الأمم ، فيؤتى بالنبي عليه السلام ، فيقول الله تعالى : يا محمد هذا نوح يستشهد بك ، فيشهد له بتبليغ الرسالة ، ويتلو : {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} (نوح : 1) إلى آخر السورة ، فيقول الله تعالى : قد وجب عليكم الحق وحقت كلمة العذاب على الكافرين ، فيؤمر بهم زمرة واحدة إلى النار من غير وزن أعمال ووضع حساب ، وهكذا يفعل بسائر الأمم أجمعين ، فإن القرآن نطق بهم وبأحوالهم.
وقد جاء : أن رجلاً يقف بين يدي الله ، فيقول : يا عبد السوء كنت مجرماً عاصياً ، فيقول : لا ، والله ما فعلت فيقال له : عليك بينة ، فيؤمر بحفظته ، فيقول : كذبوا عليّ ، فتشهد جوارحه عليه ويؤمر به إلى النار ، فيجعل يلوم جوارحه ، فيقولون : ليس من اختيارنا ، أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.
وهكذا يشهد الزمان والمكان ونحوهما ، فطريق الخلاص أن لا تشهد اليوم غير الله وتشتغل بذكره وطاعته عما سواه.
قال الشيخ سعدي :
دريغست كه فر موده ديو زشت
كه دست ملك برتو خواهد نوشت
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
روا دارى از جهل ونا باكيت
كه باكان نويسند ناباكيت
141
طريقي بدست آر وصلحى بجوى
شفيعى برانكيز وعذرى بكوى
كه يك لحظه صورت نبندد امان
جو بيمانه برشد بدور زمان
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا قَالُوا بَلَى وَلَـاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَـافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .
(8/106)
{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ} مع إمامهم حال كونهم {زُمَرًا} : جماعة جماعة ، وبالفارسية : (كروه كروه) ، جمع زمرة ، وهي الجمع القليل.
ومنه قيل : شاة زمرة قليلة الشعر ، واشتقاقها من الزمر ، وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه.
والسوق بالفارسية : (راندن) ؛ أي : سيقوا إليها بعد إقامة الحساب بأمر يسير من قبلنا.
وذلك بالعنف والإهانة حال كونهم أفواجاً متفرقة بعضها في إثر بعض مترتبة حسب ترتب طبقاتهم في الضلالة والشرارة وتتلقاهم جهنم بالعبوسة ، كما تلقوا الأوامر والنواهي والآمرين والناهين بمثل ذلك.
{حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا} حتى هي التي تحكى بعد الجملة.
يعني : (تاجون بيايند بدوزخ بر صفت دلت وخوارى).
وجواب إذا قوله : {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} السبعة ليدخلوها كما قال تعالى : {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} () ، وفائدة إغلاقها إلى وقت مجيئهم تهويل شأنها ، وإيقاد حرها.
قال في "أسئلة الحكم" : أهل النار يجدونها مغلقة الأبواب كما هي حال السجون ، فيقفون هناك حتى يفتح لهم إهانة لهم وتوبيخاً.
يقول الفقير : هذا من قبيل العذاب الروحاني ، وهو أشد من العذاب الجسماني ، فليس وقوفهم عند الأبواب أولى لهم من تعجيل العذاب يؤيده أن الكافر حين يطول قيامه في شدة وزحمة وهول ، يقول : يا رب أرحني ولو كان بالنار.
وفيه إشارة إلى الأوصاف الذميمة النفسانية السبعة : وهي الكبر والبخل والحرص والشهوة والحسد والغضب والحقد ، فإنها أبواب جهنم وكل من يدخل فيها لا بد له من أن يدخل من باب من أبوابها ، فلا بد من تزكيتها وتخلية النفس عنها.
{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ} تقريعاً وتوبيخاً في الإيلام والتوجيع واحدها خازن ، وهو حافظ الخزانة وما فيها.
والمراد : حفظة جهنم وزبانيتها وهم : الملائكة الموكلون بتعذيب أهلها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} من جنسكم آدميون مثلكم ليسهل عليكم مراجعتهم وفهم كلامهم.
{يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِ رَبِّكُمْ} ، وهو ما أنزل الله على الأنبياء.
{وَيُنذِرُونَكُمْ} يخوفونكم.
{لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا} ؛ أي : وقتكم هذا ، وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة.
وذلك لأن الإضافة اللامية تفيد الاختصاص ، ولا اختصاص ليوم القيامة بالكفار.
وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضاً في أوقات الشدة ، فلذلك حمل على الوقت.
وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع من حيث أنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب.
{قَالُوا بَلَى} .
قد أتونا وتلوا علينا.
وأنذرونا فأقرّوا في وقت لا ينفعهم الإقرار والاعتراف.
{وَلَـاكِنْ حَقَّتْ} : وجبت {كَلِمَةُ الْعَذَابِ} ، وهي قوله تعالى لإبليس : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 85).
{عَلَى الْكَـافِرِينَ} : وقد كنا ممن تبع إبليس ، فكذبنا الرسل.
وقلنا : ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا تكذبون.
امروز قدر بد عزيزان شناختيم
{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا} ؛ أي : مقدراً خلودكم فيها وإبهام القائل لتهويل المقول.
وفيه إشارة إلى أن الحكمة الإلهية اقتضت إظهاراً لصفة القهر أن يخلق النار ، ويخلق
142
لها أهلاً ، كما أنه تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلاً إظهاراً لصفة اللطف ، فلهذه الحكمة.
قيل في الأزل قهراً وقسراً : ادخلوا أبواب جهنم.
وهي الصفات الذميمة السبع التي مرّ ذكرها خالدين فيها بحيث لا يمكن الخروج من هذه الصفات الذميمة بتبديلها كما يخرج المتقون منها.
{فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} ؛ أي : بئس منزل المتكبرين عن الإيمان والطاعة والحق جهنم.
وبالفارسية : (بد آرا مكاهست متكبرا نرا دوزخ).
واللام : للجنس ، ولا يقدح ما فيه من الإشعار بأن كونهم مثواهم جهنم لتكبرهم عن الحق في أن دخولهم النار بسبق كلمة العذاب عليهم ، فإنها إنما حقت عليهم بناء على تكبرهم وكفرهم فتكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عن ذلك السبق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفيه إشارة إلى أن العصاة صنفان : صنف منهم متكبرون ، وهم المصرون متابعوا إبليس فلهم الخلود في النار.
وصنف منهم متواضعون ، وهم التائبون متابعوا آدم ، فلهم النجاة.
وبهذا الدليل ثبت أن ليس ذنب أكبر بعد الشرك من الكبر ، بل الشرك أيضاً يتولد من الكبر كما قال تعالى : {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} (البقرة : 34).
وهذا تحقيق قوله تعالى : (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما ألقيته في النار).
ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلّم "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر" ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً.
قال : "إن الله جميل يحب الجمال".
الكبر : بطر الحق وغمط الناس ؛ أي : تضييع الحق في أوامر الله ونواهيه ، وعدم تقاته واستحقار الناس وتعييبهم.
ذكر الخطابي في تأويل الحديث وجهين :
(8/107)
أحدهما : أن المراد التكبر عن الإيمان.
والثاني : أن ينزع عنه الكبر بالتعذيب ، أو بالعفو ، فلا يدخل الجنة مع أن يكون في قلبه مثقال ذرة منه كما قال تعالى : {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} (الأعراف : 43) ، ويمكن أن يقال : معناه أن الكبر مما لو جازى الله بأدنى مقداره لكان جزاؤه عدم دخول الجنة ، ولكن تكرم بأن لا يجازي به ، بل يدخل كل موحد الجنة كذا في "شرح المشارق" لابن الملك.
يقول الفقير : إن الحديث واقع بطريق التغليظ والتشديد.
والوجه الثاني للخطابي بعيد لكون جميع الخطايا كذلك ، فلا معنى حينئذٍ للتخصيص.
قال المولى الجامي :
جمعست خيرها همه درخانه ونيست
آن خانه راكليد بغير از فروتنى
شرها بدين قياس بيك خانه است جمع
وانرا كليد نيست بجز مائى ومنى
{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه وَأَوْرَثَنَا الارْضَ نَتَبَوَّأُ} .
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ} حال كونهم.
{زُمَرًا} جماعات متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم في الفضل وعلو الطبقة ، وذلك قبل الحساب أو بعده يسيراً ، أو شديداً ، وهو الموافق لما قبل الآية من قوله : {وَوُضِعَ الْكِتَـابُ} والسائقون : هم الملائكة بأمر الله تعالى يسوقونهم مساق إعزاز وتشريف بلا تعب ولا نصب ، بل بروح وطرب للإسراع بهم إلى دار الكرامة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
والمراد : المتقون عن الشرك ، فهؤلاء عوام أهل الجنة وفوق هؤلاء من قال الله تعالى فيهم : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الشعراء : 90).
وفوقهم من قال فيهم : {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـانِ وَفْدًا} (مريم : 85).
وفرق بين من يساق إلى الجنة وبين من قرب إليه الجنة.
وفي الحقيقة أهل السوق هم الظالمون وأهل الزلفة المقتصدون ، وأهل الوفاء السابقون.
واعلم أنه إذا نفخ في الصور نفخة الإعادة واستوى كل واحد من الناس على قبره يأتي كل منهم عمله ، فيقول له : قم وانهض إلى المحشر ،
143
فمن كان له عمل جيد يشخص له عمله بغلاً.
ومنهم من يشخص له عمله حماراً.
ومنهم من يشخص له عمله كبشاً تارة يحمله وتارة يلقيه ، وبين يدي كل واحد منهم نور شعشعاني كالمصباح وكالنجم وكالقمر وكالشمس بقدر قوة إيمانهم وصلاح حالهم ، وعن يمينه مثل ذلك النور ، وليس عن شمائلهم نور ، بل ظلمة شديدة يقع فيها الكفار والمرتابون والمؤمن يحمد الله تعالى على ما أعطاه من النور ، ويهتدي به في تلك الظلمة.
ومن الناس من يسعى على قدميه وعلى طرف بنانه.
قيل لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم : كيف يحشر الناس يا رسول الله ، قال : "اثنان على بغير وخمسة على بغير وعشرة على بعير".
وذلك أنهم إذا اشتركوا في عمل يخلق الله لهم من أعمالهم بعيراً يركبون عليه كما يبتاع جماعة مطية يتعاقبون عليها في الطريق ، فاعمل هداك الله عملاً يكون لك بعيراً خالصاً من الشرك.
ومنه يعلم حال التشريك في ثواب العمل ، فالأولى أن يهدى من المولى لكل ثواب على حدة من غير تشريك الآخر فيه.
روي : أن رجلاً من بني إسرائيل ورث من أبيه مالاً كثيراً ، فابتاع بستاناً ، فحبسه على المساكين.
وقال : هذا بستاني عند الله وفرق دراهم عديدة في الضعفاء.
وقال : اشترى بها من الله جواري وعبيداً وأعتق رقاباً كثيرة ، وقال : هؤلاء خدمي عند الله والتفت يوماً إلى رجل أعمى يمشي تارة ويكب أخرى ، فابتاع له مطية يسير عليها.
وقال : هذه مطيتي عند الله أركبها.
قال عليه السلام في حقه : "والذي نفسي بيده لكأنني أنظر إليها ، وقد جيء بها إليه مسرجة ملجمة يركبها ويسير بها إلى الموقف" :
در خير بازست وطاعت وليك
نه هركس تواناست بر فعل نيك
{حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا} .
(تاجون بيايند به بهشت).
{وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ؛ أي : والحال أنه قد فتحت أبوابها الثمانية لئلا يصيبهم وصب الانتظار مع أن دار الفرح والسرور لا تغلق للأضياف والوافدين باب الكرم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
فإن قلت : يرد على كون أبواب الجنان مفتحة لهم عند مجيئهم إليها قوله عليه السلام : "أنا أول من يستفتح باب الجنة".
قلت : قد حصل الفتح المقدم على الوصول بدعوته عليه السلام بالاستقتاح ، ولو لم يكن دعاؤه قد سبق لما فتحت ، ثم تبقى الأبواب بدعائه مفتوحة إلى أن يفرغ من الحساب ، فإذا جاء أهل الجنة بعد الحساب والصراط يجدونها مفتوحة ببركة دعائه المقدم على ذلك.
وفي الحديث : "أنا أول من يقرع باب الجنة ، "والجنة محرمة على جميع الأمم حتى أدخلها أنا وأمتي الأول ، فالأول".
(8/108)
يقول الفقير : أولية الاستفتاح والقرع تمثيل لأولية الدخول ، فلا حاجة إلى توجيه آخر.
وعرف كون أبواب الجنة ثمانية بالأخبار كما قال عليه السلام : "إن للجنة لثمانية أبواب ما منها بابان إلا بينهما سير الراكب سبعين عاماً وما بين كل مصراعين من مصارع الجنة مسيرة سبع سنين".
وفي رواية : "مسيرة أربعين سنة".
وفي رواية : "كما بين مكة وبصرى".
وقيل : عرف بواو الثنانية ، وفيه أن واو الثمانية غير مطردة.
وقد سبق ما يتعلق بهذه الواو في آخر سورة التوبة.
قال بعضهم : كون أبواب النار سبعة وأبواب الجنة ثمانية ؛ لأن الجنة منه تعالى فضل ، والنار عد والفضل أكثر من العدل ، والجنة من الرحمة والنار من الغضب والرحمة سابقة وغالبة على الغضب.
وقيل : ليس في النار إلا الجزاء ،
144
والزيادة في العذاب جور ، وفي الثواب كرم.
وقيل : لأن الأذان سبع كلمات ، والإقامة ثمان.
كذلك أبواب جهنم سبعة وأبواب الجنة ثمانية ، فمن أذن وأقام غلقت عنه أبواب النيران السبعة ، وفتحت له أبواب الجنة الثمانية.
وجواب إذا محذوف ؛ أي : كان ما كان مما يقصر عنه البيان.
وقال بعضهم : وفتحت جواب إذا ، والواو زائدة للإيذان بأنها كانت مفتحة عند مجيئهم.
{وَقَالَ لَهُمْ} ؛ أي : للمتقين عند دخولهم الجنة.
{خَزَنَتُهَآ} حفظة الجنة رضوان وغيره من الملائكة.
{سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ} من جميع المكاره والآلام ، فهو خبر لا تحية.
وقال الكاشفي : (درود برشما باسلامتى وايمنى لازم حال شما).
وهذا لعوام أهل الجنة وأما لخواصهم ، فيقول الله : سلام قولاً من رب رحيم ، فإن السلام في الجنة من وجوه : فالسلام الأول ، وإن كان سلام الله ، ولكن بالواسطة.
والثاني : سلام خاص بلا واسطة بعد دخولهم في الحضرة.
{طِبْتُمْ} طهرتم من دنس المعاصي أو طبتم نفساً ، بما أتيح لكم من النعيم (واز حضرت مرتضى كرم الله وجه منقولست جون بهشتيان بدير بهشت رسند انجادر ختى بينندكه ارزيران دو جشمه بيرن مى أيدبس دريك جشمه غسل كنند ظاهر ايشان يا كيزه شود واز ديكرى بياشامند باطن ايشان منور ومطهر كردد ودرين حال ملائكة كويند باك شديد بظاهر وباطن) {فَادْخُلُوهَا} ؛ أي : الجنة {خَـالِدِينَ} .
والفاء : للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم سواء كان طيباً بعفو وبتعذيب إذ كل منهما مطهر ، وإنما طهر ظاهرهم لحسن إقرارهم وأعمالهم البدنية وباطنهم لحسن نياتهم وعقائدهم ، وفي "عرائس البقلي" : ذكر الله وصف غبطة الملائكة على منازل الأولياء والصديقين.
وذلك قوله سلام عليكم طبتم ؛ أي : أنتم في مشاهدة جماله أبداً طيبين بلذة وصاله سالمين عن الحجاب ، وذلك أن الله تعالى قد أحسن إلى النبيين والمرسلين وأفاضل المؤمنين بالمعارف والأحوال والطاعات والإذعان ونعيم الجنان ورضى الرحمن ، والنظر إلى الديان مع سماع تسليمه وكلامه وتبشيره بتأييد الرضوان ، ولم يثبت للملائكة مثل ذلك :
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
ملائك راجه سوداز حسن طاعت
جو فيض عشق بر آدم فروريخت
ومن آثار العشق كونه مأموراً بالجهاد والصبر على البلايا والمحن والرزايا ؛ أي : المصائب وتحمل مشاق العبادات لأجل الله تعالى ، وليس للملائكة العشق ولا الابتلاء الذي هو من أحكامه ، وإن كانوا يسبحون الليل والنهار لا يفترون فرب عمل يسير أفضل من تسبيح كثير ، وكم من نائم أفضل من قائم وكون أجسادهم من نور ، وأجساد البشر من لحم وشحم ودم لا يفضلهم عليهم في الحقيقة ، فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور فرب ماء حياة في ظلمات.
قال الصائب :
فروغ كوهر من از نزاد حورشيد ست
بتيركى نتوان كرد بايمال مراد
وقال :
بر بساط بوريا سير دو عالم ميكنيم
با وجودنى سوارى برق جولا نيم ما
{وَقَالُوا} : (وكويند مؤمنان جون به بهشت داريند).
{الْحَمْدُ} : جميع المحامد مخصوص به تعالى.
{الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ} (راست كرد باما وعده خود رابه بعث وثواب).
قال جعفر
145
الصادق رضي اللهعنه : هو حمد العارفين الذين استقروا في دار القرار مع الله.
وقوله : الحمدالذي أذهب عنا الحزن حمد الواصلين ، قال سهل رضي الله عنه : منهم من حمد الله على تصديق وعده.
ومنهم : من حمد الله لأنه يستوجب الحمد في كل الأحوال لما عرف من نعمه وما لا يعرفه وهو أبلغ لكونه حال الخواص.
{وَأَوْرَثَنَا الارْضَ} يريدون المكان الذي استقروا فيه من أرض الجنة على الاستعارة وإيراثها إعطاؤها وتمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم ، أو تمكينهم من التصرف فيما فيها تمكين الوارث فيما يرثه.
وفي "التأويلات النجمية" : صدق وعده للعوام بقوله : وأورثنا الأرض إلى آخره وصدق وعده للخواص بقوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس : 26) وصدق وعده لأخص الخواص بقوله : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَنَهَرٍ * فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر} () فنعم أجر العاملين العاشقين.
(8/109)
{نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ} .
قال في "تاج المصادر" : (التبوؤ كرفتن جاى).
أخذ من المباءة ، وهي المحلة ويتعدى إلى مفعول واحد ، وقال أبو علي : يتعدى إلى مفعولين أيضاً.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وبوأت له مكاناً سويته وهيأته.
والمعنى بالفارسية : (جاي ميكريم از بهشت هركجامى خواهيم ونزول وقرار ميكنيم) ؛ أي : يتبوأ كل واحد منا في أي مكان أراده من جنة الواسعة لا من جنة غيره على أن فيها مقامات معنوية لا يتمانع واردوها كما قال في "التفسير الكبير".
قال حكماء الإسلام : الجنة نوعان : الجنات الجسمانية والجنات الروحانية.
فالجنات الجسمانية لا تحتمل المشاركة.
وأما الروحانية ، فحصولها لواحد لا يمنع لها لآخرين.
وفي تفسير الفاتحة للفناري رحمه الله : اعلم أن الجنة جنتان : جنة محسوسة ، وجنة معنوية.
والعقل يعقلهما معاً ، كما أن العالم عالمان : لطيف وكثيف وغيب وشهادة ، والنفس الناطقة المخاطبة المكلفة لها نعيم بما تحمله من العلوم والمعارف من طريق نظرها ، ونعيم بما تحمله من اللذات والشهوات ، مما تناله بالنفس الحيوانية من طريق قواها الحسية من أكل وشرب ونكاح ولباس وروائح ونغمات طيبة وجمال حسي في نساء كاعبات ووجوه حسان ، وألوان متنوعة وأشجار وأنهار.
كل ذلك تنقله الحواس إلى النفس الناطقة ، فتلتذ به ، ولو لم يتلذ إلا الروح الحساس الحيواني لا النفس الناطقة ، لكان الحيوان يلتذ بالوجه الجميل من المرأة ، أو الغلام بالألوان.
واعلم أن الله خلق هذه الجنة المحسوسة بطالع الأسد الذي هو الإقليد وبرجه ، وهو الأسد.
وخلق الجنة المعنوية التي هي روح هذه الجنة المحسوسة من الفرح الإلهي من صفة الكمال والابتهاج والسرور ، فكانت الجنة المحسوسة كالجسم والمعقولة كالروح وقواه.
ولهذا سماها الحق الدار الحيوان لحياتها وأهلها يتنعمون فيها حساً.
ومعنى الجنة أيضاً ، أشد تنعماً بأهلها الداخلين فيها ، وكذا تطلب ملئها من الساكنين.
وقد ورد خبر عن النبي عليه السلام : "إن الجنة اشتاقت إلى بلال وعلي وعمار وسليمان".
انتهى ما في "التفسير" المذكور.
وفي الخبر : "إن الجنان تستقبل إلى أربعة نفر : صائمي رمضان ، وتالي القرآن وحافظي اللسان ومطعمي الجيران".
يقول الفقير : على هذا السر يدور قوله عليه السلام في حق جبل أحد بالمدينة : "أحد يحبنا ونحبه".
وذلك لأنه ملحق بالجنان كسائر المواضع الشريفة ، فله الحياة والإدراك ، وإن كان خارجاً عن دائرة العقل الجزئي.
وقال في "الأسئلة المقحمة" : كيف قال : حيث نشاء ، ومعلوم أن بعضهم لا ينزل مكان غيره
146
إلا بإذن صاحبه.
والجواب : أن هذا وأمثاله مبالغات يعبر بها عن أحوال السعة والرفاهية ، ثم قد قيل : لا يخلق الله في قلوب أهل الجنة خاطراً يخالف أحكامهم التي كانوا مكلفين بها في دار الدنيا.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
وفي "الكواشي" : هذه إشارة إلى السعة والزيادة على قدر الحاجة ؛ لا أن أحداً ينزل في غير منزله.
وفي "فتح الرحمن" روي : أن أمة محمد تدخل أولاً الجنة ، فتنزل حيث تشاء منها ، ثم يدخل سائر الأمم.
{فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ} : الجنة يعني : (بس نيكوست ثواب فرمان برندكان).
قال بعض الكبار : ما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ، ولا ترك محرم ، ولا مكروه إلا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص يناله من دخلها ، وما من عمل إلا وله جنة يقع التفاضل فيها بين أصحابها.
والتفاضل على مراتب ، فمنها بالسن ، ولكن في الطاعة والإسلام ، فيفضل كبير السن على صغير السن إذا كانا على مرتبة واحدة من العمل.
ومنها : بالزمان ، فإن العمل في رمضان.
وفي يوم الجمعة ، وفي ليلة القدر.
وفي عشر ذي الحجة وفي عاشوراء أعظم من سائر الزمان.
ومنها : بالمكان ، فالصلاة في المسجد الحرام أفضل منها في مسجد المدينة ، وهي من الصلاة في المسجد الأقصى ، وهي منها في سائر المساجد.
ومنها : بالأحوال ، فإن الصلاة بالجماعة أفضل من صلاة الشخص وحده.
ومنها : بنفس الأعمال ، فإن الصلاة أفضل من إماطة الأذى.
ومنها : في العمل الواحد ، فالمتصدق على رحمه صاحب صلة رحم وصدقة ، وكذا من أهدى هدية لشريف من أهل البيت أفضل من أن يهدي لغيره ، أو أحسن إليه.
ومن الناس من يجمع في الزمن الواحد أعمالاً كثيرة ، فيصرف سمعه وبصره ويده ، فيما ينبغي في زمان صومه وصدقته ، بل في زمان صلاته في زمان ذكره في زمان نيته من فعل وترك ، فيؤجر في الزمن الواحد من وجوه كثيرة ، فيفضل غيره ممن ليس له ذلك نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الجامعين بين صالحات الأعمال والمسارعين إلى حسنات الأفعال :
جواز جايكاه دويدن كرو
نبردى هم افتان وحيران برو
كران باد بابان بر فتندتيز
تولى دست وبا از نشتن بخيز
(8/110)
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه وَأَوْرَثَنَا الارْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُا فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ} .
{وَتَرَى الملائكة} يا محمد يوم القيامة بعد أن أحياهم الله.
وقال الكاشفي : يعني : (وقتى كه در مقعد صدق ورتبة قرب باشى بينى ملائكة را) {حَآفِّينَ} : محدقين {مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} ؛ أي : حوله.
ومن مزيدة أو لابتداء الحفوف.
يقال : حفوا حوله حفوفاً طافوا به واستداروا.
ومنه الآية ؛ أي : محيطين بأحفة العرش ؛ أي : جوانبه بالفارسية : (حلقه كرفته كرد عرش وطواف كنند كان بجوانب آن).
{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} .
الجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى ؛ أي : ينزهونه تعالى عما لا يليق به حال كونهم ملتبسين بحمده ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذاً به يعني : يقولون : سبحان الله وبحمده.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 68
به تسبيح نفي ناسرا ميكنند ازذات إلهي وبحمد إثبات صفات سزا ميكنند ويرا وفيه اشعار بان اعلى اللذائذ).
هو الاستغراق في شؤون الحق وصفاته.
يقول الفقير : كما أن العرش يطوفه الملائكة مسبحين حامدين.
كذلك الكعبة يطوفها المؤمنون ذاكرين شاكرين ، وسر الدوران : أن عالم الوحدة لا قيد فيه ولا جهات كقلب العارف.
147
ولما كانت الكعبة صورة الذات الأحدية أمر بطوافها ودورانها ، فالفرق بين الطواف وبين الصلاة ، أن الطواف : إطلاق ظاهراً والصلاة قيد ظاهراً وباطناً ، وإطلاق باطناً ، وإنما قلنا بكونها قيداً في الظاهر ، لأنه لا بد فيها من التقييد بجهة من جهات الكعبة.
{وَقُضِىَ بَيْنَهُم} ؛ أي : بين الخلق.
{بِالْحَقِّ} بالعدل بإدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة ، أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم.
وفي "آكام المرجان" : الملائكة ، وإن كانوا معصومين جميعاً ، فبينهم تفاضل في الثواب حسب تفاضل أعمالهم ، وكما أن رسل البشر يفضلون على أفراد الأمة في المراتب.
كذلك رسل الملائكة على سائرهم.
{حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا} ؛ أي : على ما قضي بيننا بالحق ، وأنزل كلامنا منزلته التي هي حقه.
والقائلون : هم المؤمنون ممن قضي بينهم ، أو الملائكة وطي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم.
وفي "التأويلات النجمية" : وقضي بينهم بالحق ، يعني : بين الملائكة وبين الأنبياء والأولياء بما أعطى كل فرقة منهم من المراتب والمنازل ما أعطى.
وقيل : يعني : وقال كل فريق منهم الحمدرب العالمين على ما أنعم علينا به.
وقال الكاشفي : (همجنانكه درابتدآى خلق آسمان زمين شتايش خود فرمودكه) الحمد الله الذي خلق السماوات والأرض بوقت استقرار أهل آسمان وزمين درمنازل خويش همان ستايش كرد تادانندكه در فاتحه وخاتمه مستحق حمدوثنا اوست) ، يعني : ينبغي أن يحمد في أول كل أمر وخاتمته :
درخور ستايش نبود غير توكس
جامه ثنا بيست ترازيبد وبس
فإذا كان كل شيء يسبح بحمده ، فالإنسان أولى بذلك ، لأنه أفضل.
قال بعض العارفين :
ثنا كونا ثنا يابى شكر كونا عطايابى
رضاده تارضايابى وراجونا ورايابى
وقال عليه السلام : إذا أنعم الله على عبده نعمة ، فيقول العبد الحمد ، فيقول : الله انظروا إلى عبدي أعطيته ما قدر له ، فأعطاني ما لا قيمة له معناه أن الإنعام أحد الأشياء المعتادة كإطعام الجائع وإرواء العطشان وكسوة العاري.
وقوله : الحمدمعناه : أن كل حمد أتى به أحد ، فهو ، فيدخل فيه محامد ملائكة العرش والكرسي وأطباق السماء والأنبياء والأولياء ، وما سيذكرونه إلى وقت قوله.
وآخر دعواهم أن الحمدرب العالمين ، وهي بأسرها متناهية ، وما لا نهاية له مما سيأتونها أبد الآباد.
ولذلك قال : أعطيته نعمة واحدة لا قدر لها ، فأعطاني من الشكر ما لا حد له.
قال كعب الأحبار : عوالم الله تعالى لا تحصى لقوله تعالى ، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} (المدثر : 31) ، فهو تعالى مربي الكل بما يناسب لحاله ظاهراً وباطناً نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لحمده على نعمه الظاهرة والباطنة أولاً وآخراً.
تمت سورة الزمر بعون الله الخالق القوي والقدر في يوم السبت السابع والعشرين من شعبان المنتظم في شهور سنة 1112.
جزء : 8 رقم الصفحة : 68(8/111)
سورة غافر
مكية وآيها خمس أو ثمان وثمانون
جزء : 8 رقم الصفحة : 147
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{حم} : اسم للسورة ومحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ؛ أي : هذه السورة مسماة
148
بـ{حم} : نزلت منزلة الحاضر المشار إليه لكونها على شرف الذكر ، والحضور.
وقال صلى الله عليه وسلّم "حم ، اسم من أسماء الله تعالى ، وكل اسم من أسماء الله تعالى مفتاح من مفاتيح خزائنه تعالى" ، فمن اشتغل باسم من الأسماء الإلهية يحصل بينه وبين هذا الاسم ؛ أي : بين سره وروحه مناسبة بقدر الاشتغال ، ومتى قويت تلك المناسبة بحسب قوة الاشتغال يحصل بينه وبين مدلوله الحقيقي مناسبة أخرى ، فحينئذٍ يتجلى له الحق سبحانه من مرتبة ذلك الاسم ، ويفيض عليه ما شاء بقدر استعداده ، وكل أسمائه تعالى أعظم عند الحقيقة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الر ، وحم ، ون ، حروف الرحمن مقطعة في سور.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى القسم بسر بينه وبين حبيبه محمد عليه السلام لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وذلك أن الحاء والميم هما : حرفان من وسط اسم الله ، وهو رحمن وحرفان من وسط اسم نبيه وحبيبه محمد عليه السلام ، فكما أن الحرفين سر اسميهما ، فهما يشيران أن القسم بسر كان بينهما أن تنزيل الكتاب إلخ.
وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله في {حم} : الحي الملك.
وزاد بعضهم : بأن قال : {حم} فواتح أسمائه : الحليم الحميد الحق الحي الحنان الحكيم الملك المنان المجيد.
وقال الكاشفي : (حا اشارت بحكم حق كه خط ومنع ورد بروكشيده نشودوميم اما نيست بملك او كه كرد زوال وفنا كرد سر اوقات آن راه نيابد).
وقال البقلي : الحاء حياة الأزل ، والميم : منهل المحبة ، فمن خصه الله تعالى بقربه سقاه من عين حياته ، حتى يكون حياً بحياته لا يعتريه الفناء بعد ذلك ، وينطق من حاء الحياة بعبارة الحكمة ، ومن ميم المحبة من إشارات العلوم المجهولة ما لا يعرفها إلا الواردون على مناهل القدم والبقاء.
وفي "شرح حزب البحر" : {حم} : إشارة إلى الحماية ، ولذلك قال عليه السلام يوم أحد : "ليكن شعاركم حم لا ينصرون" ؛ أي : بحماية الله لا ينصرون ؛ أي : الأعداء ؛ لأن الله تعالى مولى الذين آمنوا ولا مولى للكافرين ، فتحصل العناية بالحماية ، والحماية من حضرة الأفعال.
ويقال : {حم} الأمر بضم الحاء وتشديد الميم ؛ أي : قضي وقدر ، وتم ما هو كائن أو {حم} : أمر الله ؛ أي : قرب أو يوم القيامة.
قال : قد حم يومي فسر قوم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قوم بهم غفلة ونوم.
قال في "كشف الأسرار" : (حا اشارتست بمحبت وميم اشارتست بمنت ميكويد اى بحاى محبت من دوست كشته نه به هنر خود اى بميم منت من مرا يافته نه بطاعت خود اى من ترا دوست كرفته وتومرا نشاخته اى من ترا خواسته وتومرا نادانسته اى من ترابوده وتومرا بوده صد هزار كس بردر كاه ما ايستاده مارا خواستند ودعاها كردند بايشان التفات نكرديم وشمارا اى امت أحمد بى خواست شما كفت).
أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وأجبتكم قبل أن تدعوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني.
(آن رغبت وشوق أنبياء كذشته بتوتا خليل مى كفت).
واجعل لي لسان صدق في الآخرين.
(وكليم ميكفت).
اجعلني من أمة محمد.
(نه ازان بودكه افعال توبا ايشان شرح داديم كه اكر افعال شما با ايشان كفتيم همه دامن ازشما درجيدندى ليكن أزان بود كه افضال وانعام خود باشما ايشانرا شرح داديم بيش از شما وهركرا بر كزيديم يكان يكان بركزيديم جنانكه اصطفى آدم ونوحاً وإبراهيم وآل عمران جون نوبت شمارا رسيد على العموم والشمول كفتيم كنتم خير أمة همه بركزيد
149
كان ما آيد جاى ديكر كفت اصطفينا من عبادنا در تحت اين خطاب هم زاهد وهم عابداست هم ظالم وهم مظلوم).
روي : موسى عليه السلام قال : يا رب هل أكرمت أحداً أمثل ما أكرمتني ، أسمعتني كلامك ، فقال تعالى : إن لي عباداً أخرجهم في آخر الزمان وأكرمهم بشهر رمضان ، وأنا أكون أقرب إليهم منك ، فإني كلمتك بيني وبينك سبعون ألف حجاب ، فإذا صامت أمة محمد وابيضت شفاههم واصفرت ألوانهم أرفع تلك الحجب وقت إفطارهم :
روزى كه سراز برده برون خواهى كرد
دانم كه زمانه رازبون خواهى كرد
كرزيب وجمال ازين فزون خواهى كرد
يا رب جه جكر عاست كه خون خواهى كرد
يا موسى طوبى لمن عطش كبده وجاع بطنه في رمضان ، فإني لا أجازيهم دون لقائي ، وخلوف فمهم عندي أطيب من ريح المسك ، ومن صام يوماً استوجب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
قال موسى : أكرمني بشهر رمضان.
قال تعالى : هذه الأمة محمد عليه السلام ، فانظر لإكرامه تعالى وحمايته لهذه الأمة المرحومة ، فإنها بين الأمم بهذه الكرامة موسومة ، بل كلها منها محرومة.
{تَنزِيلُ الْكِتَابِ} : خبر بعد خبر على أنه مصدر أطلق على المفعول ؛ أي : المنزل مبالغة.
{مِنَ اللَّهِ} : صلة للتنزيل.
والأظهر أن تنزيل مبتدأ ، ومن الله خبره ، فيكون المصدر على معناه.
وقوله : من الله ؛ أي : لا كما يقوله الكفار من أنه اختلقه محمد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} : لعل تخصيص الوصفين لما في القرآن من الإعجاز وأنواع العلم الدالين على القدرة الكاملة والعلم البالغ.(8/112)
وفي "فتح الرحمن" : الذي لا مثل له العليم بكل المعلومات.
وقال الكاشفي : (العزيز خداى تعالى غالب كه قادر است به تنزيل آن العليم دانا بهر جه فرستاد بهركس در هر وقت).
{غَافِرِ الذَّنابِ} : صفة أخرى للجلالة والإضافة حقيقية ؛ لأنه لم يرد به زمان مخصوص ؛ لأن صفات الله أزلية منزهة عن التجدد والتقيد بزمان دون زمان ، وإن كان تعلقها حادثاً بحسب حدوث المتعلقات كالذنب في هذا المقام ، واسم الفاعل يجوز أن يراد به الاستمرار بخلاف الصفة المشبهة.
والغافر : الساتر والذنب : الإثم.
يستعمل في كل فعل يضر في عقباه اعتباراً بذنب الشيء ؛ أي : آخره.
ولم يقل غافر الذنوب بالجمع إرادة للجنس ، كما في الحمد .
والمعنى : سائر جمع الذنوب صغائرها وكبائرها بتوبة وبدونها ، ولا يفضح صاحبها يوم القيامة ، كما يقتضيه مقام المدح العظيم.
{وَقَابِلِ التَّوْبِ} : (القبول بذير فتن).
والقابل : الذي يستقبل الدلو من البئر ، فيأخذها.
والقابلة : التي تقبل الولد عند الولادة.
وقبلت عذره وتوبه وغير ذلك.
والتوب : مصدر كالتوبة ، وهو ترك الذنب على أحد الوجوه ، وهو أبلغ وجوه الاعتذار ، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه : أما أن يقول المعتذر : لم أفعل أو يقول : فعلت لأجل كذا ، أو فعلت وأسأت.
وقد أقلعت ولا رابع لذلك.
وهذا الثالث : هو التوبة.
والتوبة في الشرع : هو ترك الذنب لقبحه ، والندم على ما فرط منه ، والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة ، فمتى اجتمعت هذه الأربعة ، فقد كملت شرائط التوبة ، فالتوبة : هي الرجوع عما كان مذموماً في الشرع إلى ما هو محمود في الدين.
والاستغفار : عبارة عن طلب المغفرة بعد رؤية قبح المعصية ، والإعراض عنها ، فالتوبة : مقدمة على الاستغفار.
والاستغفار
150
لا يكون توبة بالإجماع ما لم يقل معه : تبت وأسأت ، ولا أعود إليه أبداً ، فاغفر لي يا رب ، وتوسيط الواو بين الغافر والقابل ، لإفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة في موصوف واحد بالنسبة إلى طائفة هي طائفة المذنبين التائبين ، فالمغفرة بمحو الذنوب بالتوبة والقبول بجعل تلك التوبة طاعة مقبولة يثاب عليها ، فقبول التوبة كناية عن أنه تعالى يكتب تلك التوبة للتائب طاعته من الطاعات ، وإلا لما قبلها ؛ لأنه لا يقبل إلا ما كان طاعة ، أو لتغاير الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد ، بأن يذكر الثاني لمجرد الإيضاح والتفسير ، والتغاير : موقع الفعلين ومتعلقهما ؛ لأن الغفر هو الستر مع بقاء الذنب ، وذلك لمن لم يتب من أصحاب الكبائر ، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والقبول بالنسبة للتائبين عنها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "الأسئلة المقحمة" : قدم المغفرة على التوبة رداً على المعتزلة ، ليعلم أنه تعالى ربما يغفر من غير توبة.
وفي "كشف الأسرار" : توبه مؤخر آمد وغفران مقدم بر مقتضاى فضل وكرم اكر من كفتى توبه بذيرم بس كناه آمر زم خلق بنداشتنديكه تا از بنده توبة نبود از الله مغفرت نيايد نخست بيا مرزم وآنكه توبه بذيرم تا عالميان دانند جنامكه بنوبه آمرزم اكر توبه مقدم غفرن بودى توبه علت غفران بودى وغفران مارا علت نيست وفعل ما بحيلة بيامرزم نخست بيامرزم وبزلال افضال بنده را باك كردانم تا جون قدم بربساط ما نهد برباكى نهد جون كر ما آيد بصفت باكى آيدهما نست كه جاى ديكر كفت "ثم تاب عليهم ليتوبوا" غافرم آن عاصى راكه توبه نكرد قابلم آنراكه توبه كرد مراد از غفران ذنب درين موضع غفران ذنب غير تأنست بدليل آنكه واو عطف درميان آورد ومعطوف ديكر باشد ومعطوف عليه ديكر ليكن هردورا حكم يكسان باشد جنانكه كويى جاءني زيد وعمرو زيد ديكرست وعمرو ديكرست لكن هر دورا حكم يكيست در آمدن اكر حكم مخالف بودى عطف خطا بودى واكر هر دويكى بودى هر دو غلط بودى {شَدِيدُ الْعِقَابِ} ).
اسم فاعل كما قبله مشدد العقاب كأن ذين بمعنى مؤذن ، فصحّ جعله نعتاً للمعرفة حيث يراد به الدوام والثبوت ، وليس بصفة مشبهة حتى تكون الإضافة لفظية بأن يكون من إضافة الصفة إلى فاعلها ، ولئن سلم ، فالمراد : الشديد عقابه باللام ، فحذفت للازدواج مع غافر الذنب وقابل التوب في الخلو عن الألف واللام.
قال في "كشف الأسرار" : (أول صفت خود كرد وكفت غافر الذنب وقابل التوب وصفت أو محل تصرف نيست بذيرنده تغيير وتبديل نيست بس جون حديث عقوبت كرد شديد العقاب كفت شديد صفت عقوبت نهاد وعقوبت محل تصرف هشت وبذيرنده تبديل وتغيير هست كفت سخت عقوبتهم لكن اكر خواهم سست كنم وآنرا بكر دانم كه دران تصرف كنجد تغيير وتبديل بزيرد).
(8/113)
{ذِى الطَّوْلِ} : الطول بالفتح : الفضل يقال : لفلان على فلان طول ؛ أي : زيادة وفضل.
وأصل هذه الكلمة من الطول الذي هو خلاف القصر ؛ لأنه إذا كان طويلاً ، ففيه كمال وزيادة ، كما أنه إذا كان قصيراً ، ففيه قصور ونقصان وسمي الغنى أيضاً طولاً ؛ لأنه ينال به من المرادات ما لا ينال عند الفقر ، كما أنه بالطول ينال ما لا ينال بالقصر كذا في تفسير الإمام في سورة النساء.
والمراد ها هنا الفضل بترك العقاب المستحق ، وإيراد صفة واحدة في جانب الغضب بين صفات
151
الرحمة دليل سبقها ورجحانها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "عرائس البقلي" : غافر الذنب يستر ذنوب المؤمنين بحيث ترفع عن أبصارهم حتى ينسوها ، ويقبل عذرهم حين افتقروا إليه بنعت الاعتذار بين يديه شديد العقاب لمن لا يرجع إلا المآب ؛ بأن عذبه بذل الحجاب ذي الطول ، لأهل الفناء بكشف الجمال.
وفي "الوسيط" : نقلاً عن ابن عباس رضي الله عنهما : الذنب لمن يقول : لا إله إلا الله ، وهم أولياؤه وأهل طاعته ، وقابل التوب من الشرك ، شديد العقاب لمن لا يوحده ذي الطول ذي الغنى عما لا يوحده ، ولا يقول : لا إله إلا الله.
وفي "كشف الأسرار" : (سنت خداوندست رابآيت وعيد ترساند تابنده دران شكسته وكوفته كردد سوزى وكذا رى بندكى بنمايد زارى وخوارى برخود نهد آنكه رب العزة بنعت رأفت ورحمت بآيت وعد تدارك دل وى كند وبفضل ورحمت خود اورا بشارت دهد بنده در سماع شديد العقاب بسوزد وبكدازد وبزبان انكسار كويد) :
برز آب دو يده وبر آتش جكرم
برباد دو دستم وبر از خاك سرم
(باز در سماع ذي الطول بنازد ودل بيفر وزد بزبان افتخار كويد) :
جه كند عرش كه اوغاشيه من نكشد
جون بدل غاشيه حكم قضاى تو كشم
(أبو بكر الشبلي قدس سره يكروز جون مبارزان دست أندازان همى رفت ومى كفت) ، لو كان بيني وبينك بحار من نار لخضتها (اكر درين راه صدر هزار درياى آتشست همه بديده كذاره كنم وباك ندارم ديكر روز أورا ديدند كه آمد سر فرو افكنده جون محرومى درمانده نرم ميكفت المستغاث منك بك فرياد از حكم توزنهار از قهر تونه باتو امر آرام نه بى توكارم بنظام نه روى آنكه باز آيم نه زهره آنكه بكريزم) :
وكرباز آيم همى نه بينم جاهى
وربكر يزم همى نه دانم راهى
(كفتند اى شبلى آن دى جه بود امر وزجيست كفت آرى جغدكه طاوس رانه بيندلاف جمال زند لكن جغد جغدست وطاوس طاوس {لا إله إِلا هُوَ} هيج خداى نيست كه مستحق برستش باشد مكروا).
فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه.
{إِلَيْهِ} تعالى فحسب لا إلى غيره لا استقلالاً ولا اشتراكاً.
{الْمَصِيرُ} ؛ أي : رجوع الخلق في الآخرة ، فيجازي كلاً من المطيع والعاصي.
وفي "التأويلات النجمية"غافر الذنب لأوليائه بأن يتوب عليهم وقابل التوب ؛ بأن يوفقهم للإخلاص في التوبة ؛ لأنهم مظاهر صفات لطفه شديد العقاب لمن لا يؤمن ولا يتوب ؛ لأنهم مظاهر صفات قهره ذي الطول لعموم خلقه بالإيجاد من العدم وإعطاء الحياة والرزق.
وأيضاً : غافر الذنب لظالمهم وقابل التوب لمقتصدهم شديد العقاب لمشركهم ذي الطول لسابقهم.
ولما كان من سنة كرمه أن سبقت رحمته غضبه غلبت ها هنا أسامي صفات لطفه على اسم صفة قهره ، بل من عواطف إحسانه ومراحم طوله وإنعامه جعل اسم صفة قهره بين ثلاثة أسماء من صفات لطفه ، فصار مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ، فإذا هبت رياح العناية من مهب الهداية وتموج البحران ، فيتلاشى البرزخ باصطكاك البحرين ، ويصير الكل بحراً واحداً ، وهو بحر : لا إله إلا هو ، إليه المصير ، فإذا كان إليه المصير ، فقد طاب المسير.
(
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
عمر بن الخطاب رضي الله عنه دوستى داشت باوى برادر كفته
152
دردين مردى عاقل بارسا ومتعبد رفتى آن دوست بشام بودوكسى از نزديك وى آمده بود عمر رضي الله عنه حال آن دوست ازوى برسيد كفت جه ميكندان برادرما وحال وى جيست اين مرد كفت أو برادر إبليس است نه برادر تو يعنى كه فترنى درراه وى آمده وسر نهاده در خمر وزمرو انواع فساد عمر كفت جون باز كردى مرا خبر كن تابوى نامة نويسم بس اين نامه نوشت).
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر إلى فلان ابن فلان سلام عليك إني أحمد إليك الله الذي لا إله ، إلا هو غافر الذنب وقابل التوب ، شديد العقاب ذا الطول لا إله إلا هو إليه المصير.
(جون آن نامه بوى رسيد صدق الله ونصح عمر كلام خدارا ستست ونصيحت عمر نيكو بسيار بكريست وتوبه كرد وحال وى نيكوشد بعد ازان عمر ميكفت هكذا افعلوا بأخيكم إذا زاغ سددوه).
ولا تكونوا عليه عوناً للشيطان.
وفيه إشارة إلى أنه لا يهجر الأخ بذنب واحد بل ينصح.
(8/114)
{غَافِرِ الذَّنابِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِا لا إله إِلا هُوَا إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَـادِلُ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلَـادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالاحْزَابُ مِنا بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةا بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوه وَجَـادَلُوا بِالْبَـاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ} .
{مَا يُجَـادِلُ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ} .
الجدال : المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة ، ومعنى المفاوضة بالفارسية (كارى راندن باكسى).
وأصله من جدلت الحبل أحكمت فتله فكأنه المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه.
قال أبو العالية : نزلت في الحارث بن قيس أحد المستهزئين.
(يعنى از جمله مستهزيان بود وسخت خصومت بباطل درانكار وتكذيب قرآن).
والمعنى : ما يخاصم في آيات الله بالطعن فيها بأن يقول في حقها سحراً وشعراً وأساطير الأولين ، أو نحو ذلك وباستعمال المقدمات الباطلة لادحاضه وإزالته وإبطاله لقوله تعالى : {وَجَـادَلُوا بِالْبَـاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} (الكهف : 56) ، فحمل المطلق على المقيد وأريد الجدال بالباطل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} بها ، وأما الذين آمنوا ، فلا يخطر ببالهم شائبة شبهة منها فضلاً عن الطعن فيها ، وأما الجدال فيها لحلّ مشكلاتها واستنباط حقائقها ، وإبطال شبه أهل الزيغ والضلال ، فمن أعظم الطاعات كجهاد في سبيل الله.
ولذلك قال عليه السلام : إن جدالاً في القرآن كفر بتنكير جدالاً.
الدال على التنويع للفرق بين جدال وجدال.
ومما حرره حضرة شيخي وسندي في مجموعة من مجموعات هذا الفقير في ذيل هذه الآية ، قوله : فكفار الشريعة يجادلون في آيات القرآن الرسمي ، فيكون جدالهم رسمياً لكونه في الآيات الرسمية ، فهم كفار الرسوم كما أنهم كفار الحقائق وكفار الحقيقة يجادلون في آيات القرآن الحقيقي.
فيكون جدالهم حقيقياً لكونه في الآيات الحقيقية ، فهم كفار الحقائق فقط لا كفار الرسوم ، فعليك يا ولدي الحقي سمي الذبيح بترك الكفر والجدال مطلقاً حتى تكون عند الله ، وعند الناس مؤمناً حقاً ومسلماً صدقاً هذا سبيل الصواب والرشاد ، وإليه الدعوة والإرشاد وعلينا وعليكم القبول والاسترشاد ، وهو الفرض الواجب على جميع العباد.
انتهى.
{فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلَـادِ} .
الفاء : جواب شرط محذوف والغرة غفلة في اليقظة والتقلب بالفارسية : (كرديدن).
قال في "المفردات" التقلب : التصرف والبلاد أشهرها.
قال الراغب : البلد المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه وجمعه بلاد وبلدان.
والمعنى : فإذا علمت أنهم محكوم عليهم بالكفر فلا يغررك إمهالهم وإقبالهم في دنياهم وتقلبهم في بلاد الشام واليمن للتجارات المربحة ، وهي رحلة الشتاء والصيف.
يعني : (بدل مبارك ايشانرا
153
فرصتى ومهلتى هست).
فإنهم مأخوذون عما قريب بسبب كفرهم أخذ من قبلهم من الأمم ، كما قال : كذبت.
إلخ.
قال في "عين المعاني" : فلا يغررك أيها المغرور.
والمراد : غيره صلى الله تعالى عليه وسلم خطاب للمقلدين من المسلمين.
انتهى.
وفي الآية إشارة إلى أن أهل الحرمان من كرامات أولياء الله وذوق مشاربهم ومقاماتهم يصرون على إنكارهم تخصيص الله عباده بالآيات ، ويعترضون عليهم بقلوبهم ، فيجادلون في جحد الكرامات ، وسيفتضحون كثيراً ، ولكنهم لا يميزون بين رجحانهم ونقصانهم ، فلا يغررك تقلبهم في البلاد لتحصيل العلوم ، فإن تحصيل العلوم ، إذا كان مبنياً على الهوى والميل إلى الدنيا ، فلا يكون له نور يهتدى به إلى ما خصص به عباده المخلصين.
قال المولى الجامي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
بيجاره مدعى كند اظهار علم وفضل
نشاخته قبول ودرجيـ ازردى
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} ؛ أي : قبل قريش.
{قَوْمُ نُوحٍ وَالاحْزَابُ مِنا بَعْدِهِمْ} ؛ أي : الذين تحزبوا على الرسل وعادوهم وحاربوهم بعد قوم نوح مثل عاد وأضرابهم.
وبدأ بقوم نوح إذ كان أول رسول في الأرض ؛ لأن آدم إنما أرسل إلى أولاده.
{وَهَمَّتْ} قصدت عند الدعاء والهم عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر.
{كُلُّ أُمَّة} من تلك الأمم المعاتبة.
{بِرَسُولِهِمْ} .
قال في "الأسئلة المقحمة" : لم يقل برسولها ؛ لأنه أراد بالأمة ها هنا الرجال دون النساء وبذلك فسروه.
وقال في "عين المعاني" : برسولهم تغليب للرجال {لِيَأْخُذُوهُ} من الأخذ بمعنى الأسر.
والأخيذ : الأسير ؛ أي : ليأسروه ويحبسوه ليعذبوه أو يقتلوه.
بالفارسية : (تانكيرند اورا وهر آزاركه خواهند بوى رسانند).
(8/115)
وفيه إشارة إلى أن كل عصر يكون فيه صاحب ولاية لا بد له من أرباب الجحود والإنكار وأهل الاعتراض كما كانوا في عهد كل نبي ورسول.
{وَجَـادَلُوا} : (وخصومت كردند با بيغمبران خود).
{بِالْبَـاطِلِ} : الذي لا أصل ولا حقيقة له أصلاً.
قال في "فتح الرحمن" : الباطل ما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة ، إما لانعدام الأهلية ، أو لانعدام المحلية كبيع الخمر وبيع الصبي.
{لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} ؛ أي : ليزيلوا بذلك الباطل الحق الذي لا محيد عنه كما فعل هؤلاء.
{فَأَخَذْتُهُمْ} بالإهلاك جزاء لهمهم بالأخذ.
{فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} ؛ أي : عقابي الذي عاقبتهم به فإن آثار دمارهم كما ترونها حين تمرون على ديارهم عبرة للناظرين ، ولآخذن هؤلاء أيضاً لاتحادهم في الطريقة واشتراكهم في الجريمة كما ينبىء عنه قوله :
{وَكَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} ؛ أي : كما وجب وثبت حكمه تعالى وقضاؤه بالتعذيب على أولئك الأمم المكذبة المتحزبة على رسلهم المجادلة بالباطل لإدحاض الحق به وجب أيضاً.
{عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي : كفروا ربك وتحزبوا عليك وهموا بما لم ينالوا ، فالمقصود عبارة عن كفار قومه عليه السلام ، وهم قريش لا عن الأمم المهلكة.
{أَنَّهُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ} في حيز النصب بحذف لام التعليل ، وإيصال الفعل ؛ أي : لأنهم مستحقو أشد العقوبات وأفظعها التي هي عذاب النار وملازموها أبداً لكونهم كفاراً معاندين متحزبين على الرسول عليه السلام كدأب من قبلهم من الأمم المهلكة ، فهم لسائر فنون العقوبات أشد استحقاقاً وأحق استيجاباً فعلة واحدة
154
تجمعهم ، وهي أنهم أصحاب النار.
وقيل : في محل الرفع على أنه بدل من كلمة ربك بدل الكل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
والمعنى : مثل ذلك الوجوب ، وجب على الكفرة المهلكة كونهم من أصحاب النار ؛ أي : كما وجب إهلاكهم في الدنيا بعذاب الاستئصال كذلك.
وجب تعذيبهم بعذاب النار في الآخرة.
فالتشبيه واقع حالتيهم ، والجامع للطرفين إيجاب العذاب ومحل الكاف على التقديرين النصب على أنه نعت لمصدر محذوف في الآية إشارة إلى أن الإصرار مؤدي إلى الأخذ والانتقام في الدنيا والآخرة ، فعلى العاقل أن يرجع إلى الله ويتوب ويتعظ بغيره قبل أن يتعظ الغير به :
جو بر كشته بختى درافتد به بند
ازونيك بختان بكير ند بند
تو بيتش از عقوبت در عفو كوب
كه سودى ندارد فغان زيرجوب
عصمنا الله وإياكم من أسباب سخطه.
{وَكَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ * الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَه يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِه وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآاـاِهِمْ} .
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} .
العرش : هو الجسم المحيط بجميع الأجسام سمي به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك في ممكنه عليه عند الحكم لنزول أحكام قضائه وقدره منه ، ولا صورة ولا جسم ثمة ، وهو الفلك التاسع خلقه الله من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام.
والمراد : أن حملة العرش أفضل كما أن خادم أشرف الكائنات مطلقاً ، وهو جبرائيل الخادم للنبي عليه السلام أشرف.
وفي الحديث : "إن الله أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائرهم.
وهم : أربعة من الملائكة يسترزق أحدهم لبني آدم ، وهو في صورة رجل.
والثاني : للطيور ، وهو في صورة نسر.
والثالث : للبهائم ، وهو في صورة ثور.
والرابع : للسباع ، وهو في صورة أسد وبينهم وبين العرش سبعون حجاباً من نور ، وإذا كان يوم القيامة يكون حملته ثمانية ، دل عليه قوله تعالى ، {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ} .
وفي بعض الروايات : كلهم في صورة الأوعال ، والعرش على قرونهم أو على ظهورهم ، لما أخرجه الترمذي وأبو داود في حديث طويل آخره ، ثم فوق السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء إلى السماء وفوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء وفي الحديث : "أذن لي ربي أن أحدث عن ملك من حملة أرجلهم عرشه ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام.
وروي : أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش ، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة.
وكل أهل سماء أشد خوفاً من أهل السماء التي دونها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/116)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما خلق الله تعالى حملة العرش قال لهم : احملوا عرشي ، فلم يطيقوا ، فخلق كل ملك من أعوانهم مثل جنود من في السماوات والأرض من الملائكة والخلق ، فلم يطيقوا ، فخلق مثل ما خلق عدد الحصى والثرى ، فلم يطيقوا ، فقال جلّ جلاله : قولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فلما قالوا : استقلوا العرش فنفذت أقدامهم في الأرض السابعة على متن الثرى ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا تتفكروا في عظمة ربكم ولكن تفكروا في خلقه ، فإن خلقاً من الملائكة يقال له : إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى ، فإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كالوضع ـ وهو بالصاد المهملة
155
الساكنة ـ وتحرك طائر أصغر من العصفور" ، كما في القاموس.
وإن الله خلق العرش من جوهرة خضراء له ألف ألف رأس وستمائة ألف رأس ، في كل رأس ألف ألف وستمائة ألف لسان يسبح بألف ألف لغة ، ويخلق الله بكل لغة من لغات العرش خلقاً في ملكوته يسبحه ويقدسه بتلك اللغة ، والعرش يكسى كل يوم سبعين ألف لون من نور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من حلق الله ، والأشياء كلها في العرش كحلقة ملقاة في فلاة ، واحتجب الله بين العرش وحامليه سبعين حجاباً من نار وسبعين حجاباً من ماء وسبعين حجاباً من ثلج وسبعين حجاباً من درّ أبيض وسبعين حجاباً من زبرجد أخضر ، وسبعين حجاباً من ياقوت أحمر ، وسبعين من نور ، وسبعين من ظلمة ، ولا ينظر أحدهم إلى العرش مخافة أن يصعق.
يقول الفقير : دل ما ذكر من الروايات على أن حملهم إياه ؛ أي : العرش محمول على حقيقته ، وليس بمجاز عن حفظهم وتدبيرهم كما ذهب إليه بعض المفسرين ، ولعمري كونه مع سعة دائرته ، وعظم محله على قرون الملائكة ، أو على ظهورهم أو على كواهلهم أدل على كمال عظمة الله وجلال شأنه ، فالملائكة الأربعة اليوم ، والثمانية يوم القيامة ، كالأسطوانات له ، فكما أن القصر محمول على الأسطوانات ، فكذا العرش محمول على الملائكة ، فلا ينافي ذلك ما صحّ من قوائمه ، وكونه بحيث يحيط الأجسام ؛ لأنه يجوز أن يكون معلقاً في الحقيقة وأن الملائكة تحمله بالكلية.
{وَمَنْ حَوْلَهُ} : في محل الرفع بالعطف على قوله : الذين.
وحول الشيء جانبه الذي يمكنه أن يحول إليه ومحل الموصول الرفع على الابتداء خبره.
قوله : {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} ؛ أي : ينزهونه عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل ملتبسين بحمده على نعمائه التي لا تتناهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "فتح الرحمن" : يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت ، سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الملك الحي الذي لا يموت ، سبوح قدوس ، رب الملائكة والروح.
وجعل التسبيح أصلاً والحمد حالاً ؛ لأن الحمد مقتضى حالهم دون التسبيح ؛ لأنه إنما يحتاج إليه لعارض الرد على من يصفه بما لا يليق به.
قيل : حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قياماً ، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ، ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا أيمانهم على شمائلهم ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر.
وما وراءهم من الملائكة لا يعلم حدهم إلا الله ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام.
(در معالم از شهر بن حوشب نقل ميكند كه حملة عرش هشت اند جهار ميكويند سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وجهار ديكر ميكويند سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك وكوييا ايشان بنسبت كرم الهى با ذنوب بني آدم ابن كلمات ميكويند).
وفي بعض التفاسير : كأنهم يرون ذنوب بني آدم وفي هذه الكلمات فوائد كثيرة : (بير طريقت أبو القاسم بشر ياسين از جملة مشاهير علما ومشايخ دهر بود شيخ أبو السعيد الخير راكفت اين كلمات از ما ياد كيرو بيوسته ميكوى أبو سعيد كفت اين كلمات يا دكر فتم وبيوسته ميكفتم وازان منتفع شدم).
{وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} ؛ أي : بربهم إيماناً حقيقياً بحالهم ، والتصريح به مع إغناء ما قبله عن ذكره لإظهار فضيلة الإيمان ، وإبراز شرف
156
أهله.
وقد قيل : أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف.
يقول الفقير : أشار بالإيمان إلى أنهم في مرتبة الإدراك بالبصائر محجوبون عن إدراكه تعالى بالأبصار ؛ كحال البشر ما داموا في موطن الدنيا.
وأما في الجنة ، فقيل : لا يراه الملائكة.
وقيل : يراه منهم جبريل خاصة مرة واحدة ، ويراه المؤمنون من البشر في الدنيا بالبصائر.
وفي الآخرة بالأبصار ؛ لأن قوله : لا تدركه الأبصار قد استثني منه المؤمنون فبقي على عمومه في الملائكة والجن ، وذلك لأن استعداد الرؤية إنما هو لمؤمني البشر لكمالهم الجامع.
(8/117)
{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} : استغفارهم ، شفاعتهم وحملهم على التوبة وإلهامهم ما يوجب المغفرة ، وفيه إشعار بأنهم يطلعون على ذنوب بني آدم وتنبيه على أن المشاركة في الإيمان توجب النصح والشفقة ، وإن تخالفت الأجناس ؛ لأنها أقوى المناسبات وأتمها كما قال تعالى : إنما {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات : 10) ولذلك قال الفقهاء : قتل الأعوان والسعاة والظلمة في الفترة مباح ، وقاتلهم مثاب وإن كانوا مسلمين ؛ لأن من شرط الإسلام الشفقة على خلق الله ، والفرح بفرحهم والحزن بحزنهم ، وهم على عكس ذلك ، وقلما يندفع شرهم بالحبس.
ونحوه قال الإمام : قد ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله.
ويجب أن يكون الأول مقدماً على الثاني ، فقوله : يسبحون بحمد ربهم ، ويؤمنون به مشعر بالتعظيم لأمر الله ويستغفرون للذين آمنوا بالشفقة على خلق الله.
انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال مجاهد : يسألون ربهم مغفرة ذنوب المؤمنين من حين علموا أمر هاروت وماروت ، أو لقولهم : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} (البقرة : 30).
قال الراغب : المغفرة من الله أن يصون العبد عن أن يمسه العذاب ، والاستغفار طلب ذلك بالمقال والفعال ، فإن الاستغفار بالمقال فقط فعل الكاذبين ، ثم لا يلزم من الآية أفضلية الملائكة على البشر حيث اشتغلوا بالاستغفار للمؤمنين من غير أن يتقدم الاستغفار لأنفسهم لاستغنائهم وذلك لأن هذا بالنسبة إلى عوام المؤمنين ، وأما خواصهم ، وهم الرسل فهم أفضل منهم على الإطلاق ، وإنما يصلون عليهم بدل الاستغفار لهم تعظيماً لشأنهم ، ونعم ما قال أبو الليث رحمه الله في الآية بيان فضل المؤمنين ؛ لأن الملائكة مشتغلون بالدعاء لهم.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الملائكة كما أمروا بالتسبيح والتحميد والتمجيدتعالى ، فكذلك أمروا بالاستغفار والدعاء لمذنبي المؤمنين ؛ لأن الاستغفار للمذنب ، ويجتهدون في الدعاء لهم ، فيدعون لهم بالنجاة ، ثم برفع الدرجات كما قال : {رَبَّنَآ} على إرادة القول ؛ أي : يقولون : ربنا على أنه بيان لاستغفارهم أو حال ؛ أي : قائلين : {وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} نصب على التمييز.
والأصل : وسعت رحمتك وعلمك لا ذاتك لامتناع المكان في حقه ، فأزيل عن أصله للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم ، كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء وتقديم الرحمة ، وإن كان العلم أشمل وأقدم تعلقاً من الرحمة ؛ لأنها المقصودة بالذات ها هنا.
وفي "عين المعاني" : ملأت كل شيء نعمة وعلماً به.
يقول الفقير : دخل في عموم الآية الشيطان ونحوه ؛ لأن كل موجود فله رحمة دنيوية البتة وأقلها الوجود وللشيطان إنظار إلى يوم الدين ، ويكون من الرحمة الدنيوية إلى غير ذلك.
{فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} : الفاء : لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرحمة والعلم ، فما بعد الفاء
157
مسبب عن كل واحد من الرحمة والعلم ، إذ المعنى ، فاغفر للذين علمت منهم التوبة من الكفر والمعاصي واتباع سبيل الإيمان والطاعة.
وفيه إشارة إلى أن الملائكة لا يستغفرون إلا لمن تاب ورجع عن اتباع الهوى ، واتبع بصدق الطلب وصفاء النية سبيل الحق تعالى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "الأسئلة المقحمة" قوله : فاغفر إلخ.
صيغة دالة على أن الشفاعة للتائبين.
والجواب : أن الشفاعة للجميع ، ولكن لما كانت حاجة التائب إليها أظهر قرنوه بالذكر ، ثم لا يجب على الله قبول توبة التائب ، عندنا انتهى والأظهر أن التخصيص للحث على التوبة والاتباع ، وهو اللائح بالبال ، ومن أعجب ما قيل في هذا المقام قول البقلي في "تأويلاته" : عجبت من رحمة الملائكة كيف تركوا المصرين على الذنوب عن استغفارهم هذه قطعة زهد وقعت في مسالكهم أين هم من قول سيد البشر عليه السلام حين آذاه قومه ، اللهم اهد قومي ؛ فإنهم لا يعلمون عمموا الأشياء بالرحمة ، ثم خصوا منها التائبين ، يا ليت لو بقوا على القول الأول ، وسألوا الغفران لمجموع التائبين والعاصين.
انتهى.
يقول الفقير : العاصي إما مؤمن أو كافر ، والثاني : لا تتعلق به المغفرة ؛ لأنها خاصة بالمؤمنين مطلقاً ، فلما علم الملائكة أن الله لا يغفر أن يشرك به خصوها بالتائبين ليخرج المشركون.
{وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} : أمر من وقى يقي وقاية ، وهي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره ؛ أي : واحفظهم من عذاب جهنم ، وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد ، وذلك لأن معنى الغفران إسقاط العذاب ، وفيه إشارة إلى أنه بمجرد التوبة لا تحصل النجاة ، فلا بد من الثبات عليها وتخليص العمل من شوب الرياء والسمعة وتصفية القلب عن الأهواء والبدع.
(8/118)
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ} : عطف على قهم وتوسيط النداء بينهما للمبالغة في الجؤار ، وهو رفع الصوت بالدعاء والتضرع والاستغاثة.
{جَنَّـاتِ عَدْنٍ} : (در بوستانهاى اقامت).
{الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ} ؛ أي : وعدتهم إياها وقد وعد الله بأن يدخل من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، جنات عدن ، إما ابتداء أو بعد أن يعذبهم بقدر عصيانهم.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار : ما جنات عدن.
قال : قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيون وأئمة العدل ، فعلى هذا يكون جنات عدن.
موضع أهل الخصوص لا أهل العموم ومثلها الفردوس ، إذ لكل مقام عمل يخص به ، فإذا كان العمل أخص وأرفع كان المقام أرقى وأعلى.
{وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآاـاِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِمْ} : في محل النصب عطف على الضمير في وأدخلهم.
والمعنى : وأدخل معهم من صلح من هؤلاء صلاحاً مصححاً لدخول الجنة في الجملة ، وإن كان دون صلاح أصولهم وذلك ليتم سرورهم ، ويتضاعف ابتهاجهم ، وفيه إشارة إلى أن بركة الرجل التائب تصل إلى آبائه وأزواجه وذرياته لينالوا بها الجنة ونعيمها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقال سعيد بن جبير : يدخل المؤمن الجنة ، فيقول : أين أبي ، أين ولدي ، أين زوجي ، فيقال : إنهم لم يعملوا مثل عملك ، فيقول : إني كنت أعمل لي ولهم ، فيقال : أدخلوهم الجنة :
اميد است از آنان كه طاعت كنند
كه بى طاعتا نرا شفاعت كنند
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إذا كان يوم القيامة نودي في أطفال المسلمين أن اخرجوا من قبوركم ، فيخرجون من قبورهم ، فينادى فيهم : أن
158
امضوا إلى الجنة زمراً ، فيقولون : يا ربنا ووالدينا معنا ، فينادى فيهم.
الثانية : أن امضوا إلى الجنة زمراً ، فيقولون : ووالدينا معنا ، فيبتسم الرب تعالى ، فيقول : ووالديكم معكم ، فيثب كل طفل إلى أبويه ، فيأخذون بأيديهم ، فيدخلونهم الجنة ، فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذٍ من أولادكم الذين في بيوتكم".
وفي "الواقعات المحمودية" : نقلاً عن حضرة الشيخ الشهير بافتاده قدس سره : من كان أهل الجنة وزوجته لم تكن كذلك يخلق الله تعالى مثل زوجته في الجنة ، فيتسلى بها ، فإن قلت : كيف يكون التسلي بمثلها.
قلت : لا يعلم أنها مثلها ، فلو ظن أنها مثلها لا عينها لا يتسلى ، بل يحزن ، والجنة دار السرور لا دار الحزن ، ولذلك أرسل آدم عليه السلام إلى الدنيا لئلا يحزن في الجنة.
{إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدوره.
يعني : (از هيج مقدور عاجز نشوى).
{الْحَكِيمُ} : الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة الباهرة من الأمور التي من جملتها إنجاز الوعد والوفاء به.
وفي "التأويلات النجمية" : أنت العزيز تعز التائبين وتحبهم ، وإن أذنبوا الحكيم فيما لم تعصم محبيك عن الذنوب ثم تتوب عليهم :
زمن سر زحكمت بدرمى برم
كه حكمت جنين ميرود بر سرم
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآاـاِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّـاَاتِا وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَـاـاِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَه وَذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الايمَـانِ فَتَكْفُرُونَ} .
{وَقِهِمُ السَّيِّـاَاتِ} ؛ أي : احفظهم عما يسوؤهم يوم القيامة وادفع عنهم العقوبات ؛ لأن جزاء السيئة سيئة ، فتسميتها سيئة إما لأن السيئة اسم للملزوم ، وهو الأعمال السيئة ، فأطلق على اللازم وهو جزاؤها أو المعنى فهم جزاء السيئات على حذف المضاف على أن السيئات ، بمعنى الأعمال السيئة ، وهو تعميم بعد تخصيص لقوله : وقهم عذاب الجحيم وعذاب القبر ، وموقف القيامة والحساب والسؤال والصراط ونحوها ، أو مخصوص بمن صلح من الأتباع.
والأول دعاء للأصول.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَـاـاِذٍ} ؛ أي : يوم القيامة.
{فَقَدْ رَحِمْتَهُ} ؛ لأن المعافى من العذاب مرحوم ، ويجوز أن يكون المراد بالسيئات الأول : المعاصي في الدنيا ، فمعنى قوله : ومن تق إلخ.
ومن تقه المعاصي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة ؛ كأنهم طلبوا لهم السبب بعدما سألوا المسبب.
وفي "التأويلات النجمية" : وقهم السيئات يعني بعد أن تابوا لئلا يرجوا إلى المعاصي والذنوب ، ومن تق السيئات يومئذٍ ، فقد رحمته يحيلون الأمر فيه على رحمته وبرحمته لم يسلط على المؤمن أراذل خلقه ، وهم الشياطين ، وقد قيض لشفاعته أفاضل من خلقه وهم الملائكة المقربون.
قال مطرف : أنصح عباد الله للمؤمنين الملائكة وأغش الخلق للمؤمنين الشياطين.
(8/119)
{وَذَالِكَ} : المذكور من الرحمة والوقاية.
{هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : الفوز : الظفر مع حصول السلامة ؛ أي : هو الظفر العظيم الذي لا مطمع وراءه لطامع.
وبالفارسية : (آن بيروزى برز كست جه هركه امروز دربناه عصمت الهيست فردا درساية رحمت نامتناهى خواهد بود ودرين باب كفته اند) :
امروز كسى را در آرى به بناه
فردا بمقام فريتش بخشى راه
وانراكه رهش ندادة بر دركاه
فردا جه كند كه نكند ناله وآه
يقول الفقير : ظهر من الآيات العظام ومن استغفار الملائكة الكرام أن بناء الإنسان محتاج إلى المعاونة لكونه تحت ثقل حمل الأمانة العظمى ، وهو المنور بنور لطفه وجماله تعالى ، وهو المحترق بنار قهره وجلاله سبحانه ، فطريقه طريق صعب ، وليس مثله أحد وما أشبه حاله مع الملائكة بحال الديك مع البازي ، قال للديك : ما أعرف أقل وفاء منك ، لأن أهلك يربونك
159
من البيضة ، ثم إذا كبرت لا يدنو منك أحد إلا طرأت ها هنا وها هنا ، وأنا أؤخذ من الجبال ، فيحبسون عيني ويجيعونني ويجعلونني في بيت مظلم ، وإذا أطلقوني على الصيد فآخذه ، وأعود إليهم ، فقال الديك : لأنك ما رأيت بازياً في سفود ، وهي الحديدة التي يشوى بها اللحم ، وكم قد رأيت ديوكاً في سفافيد ، ثم يجيب على من يطلب الفوز أن يناله من طريقه ، فكل سعادة في الآخرة ، فبذرها مزروع في الدنيا ، ولا بد للعاقل من التقديم لنفسه.
قال لقمان رحمه الله : يا بني لا تكن الذرة أيسر منك تجمع في صيفها لشتائها قبل اشتداد الشتاء ، وطلب ضفدع من الذرة ذخيرة ، فقالت : لم ترنمت في الصيف في أطراف الأنهار وتركت الادخار للشتاء.
قال الشيخ سعدي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
كنون باخرد بايد انباز كشت
كه فردا نما ندره باز كشت
أي : لا يبقى يوم القيامة طريق للرجوع إلى الدنيا.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ} : المناداة والنداء : الدعوة ورفع الصوت ، وذلك أن الكفار يمقتون في جهنم أنفسهم الإمارة بالسوء التي وقعوا فيما وقعوا من العذاب المخلد باتباع هواها ؛ أي : يغضبون عليها حتى يأكلون أناملهم ويبغضونها أشد البغض وينكرونها أشد الإنكار ، ويظهرون ذلك على رؤوس الأشهاد ، فعند ذلك تناديهم الملائكة ، وهم خزنة جهنم من مكان بعيد تنبيهاً على بعدهم عن الحق.
وبالفارسية : (بوقتى كه كفار بدوزخ درايند وبانفسها دشمن آغار كرده روبان عتاب وملامت بكشايند كه جرادر زمان اختيار ايمان نياوردند ملائكه آواز ميدهند ايشانرا وكويند).
{لَمَقْتُ اللَّهِ} : جواب قسم محذوف والمقت البغض الشديد لمن يراه متعاطياً والبغض : نفار النفس من الشيء ترغب عنه ، وهو ضد الحب ، وهو انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه ومقت الله غضبه وسخطه ، وهو مصدر مضاف إلى فاعله وحذف مفعوله لدلالة المقت الثاني عليه.
والمعنى : والله لمقت الله أنفسكم الأمارة بالسوء.
{أَكْبَرُ} (بزركترست).
{مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} : اذكروا.
{إِذْ تُدْعَوْنَ} في الدنيا من جهة الأنبياء {إِلَى الايمَـانِ} ، فتأبون قبوله {فَتَكْفُرُونَ} بالله تعالى وتوحيده اتباعاً لأنفسكم ومسارعة إلى هواها ، ويجوز أن يتعلق إذ بالمقت الأول ، ولا يقدح فيه وجود الخبر في البين ، لأن في الظروف اتساعاً ، فالمعنى : غضب الله تعالى حين أغضبتموه في الدنيا حين كفرتم أكبر مقتكم أنفسكم اليوم.
يقول الفقير : دل قوله : إذ تدعون إلخ على أن سبب المقت هو الكفر ؛ كأنه قال : اذكروا ذلك ، فهو سبب المقت في الدنيا والآخرة.
والدخول في النار المحرقة القاهرة ، كما قال فيما سيأتي ذلكم بأنه إذا دعي الله إلخ وحقيقته أن الله تعالى أحب المحبين في الحقيقة ، كما أن النفس أعدى الأعداء ، فمن صرف محبة أحب المحبين إلى أعدى الأعداء ، وجرى على حكمه صرف الله نظره عنه وأبغضه.
كما قال الشيح سعدي :
نظر دوست نادر كند سوى تو
جودر روى دشمن بود روى تو
كرت دوست بايد كزو برخورى
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
نبايدكه فرمان دشمن برى
ندانى كه كمتر نهد دوست باى
جوبيند كه دشمن بود در سراى
ومقت الله على الكفر أزلي حفي لم يظهر أثره إلا في وقت وجود الكفر من الكافر وأبدي ؛
160
لأنه لا ينقطع بانقطاع الدنيا ، فالكافر مغضوب في الدنيا والآخرة ، وإنما كان مقت الله أكبر من مقت العبد ، لأن مقت العبد مأخوذ من مقت الله إذ لو لم يأخذه الله بجريمته لما وقع في مقت نفسه ، ولأن أشد العقوبات آثار سخط الله وغضبه على العباد ، كما أن أجل النعم آثار رضاه عنهم ، فإذا عرف الكافر في الآخرة أن ربه عليه غضبان ، فلا شيء أصعب على قلبه منه على أنه لا بكاء ينفعه ولاغناء يزيل عنه ما هو فيه ، ويدفعه ، ولا يسمع منه تضرع ولا يرجى له حيلة.
نسأل الله عفوه وعظاه ، وهو حسبنا مما سواه.
(8/120)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الايمَـانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ * ذَالِكُم بِأَنَّه إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَه كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِه تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ} .
{قَالُوا} ؛ أي : الكفرة حين خوطبوا بهذا الخطاب.
{رَبَّنَآ} ؛ أي : (برور دكار مارا).
{أَمَتَّنَا} : إماتتين.
{اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا} إحياءتين.
{اثْنَتَيْنِ} : فهما صفتان لمصدر الفعلين المذكورين.
وفي الإماتتين والإحياءتين وجوه :
الأول : ما قال الكاشفي نقلاً من "التبيان" : (ذريت آدم راكه از ظهر از بيرون آورد وميثاق ازايشان فرا كرفت بميرانيد إماتة تخستين آنست ودر رحم كه نطفه بودند زنده كرد بس دردنيا بميرانيد ودر آخرت زنده كردانيد).
{فَاعْتَرَفْنَا} : أقررنا بسبب ذلك.
{بِذُنُوبِنَا} : لا سيما إنكار البعث يعني الأنبياء دعونا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وكنا نعتقد كالدهرية أن لا حياة بعد الموت ، فلم نلتفت إلى دعوتهم ودمنا على الاعتقاد الباطل حتى متنا وبعثنا ، فشاهدنا ما نحن ننكره في الدنيا ، وهو الحياة بعد الموت ، فالآن نعترف بذنوبنا.
{فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ} : نوع خروج من النار سريع أو بطيء أو نوع من الأعمال.
{مِّن سَبِيلٍ} : من طريق فنسلكه ، ونتخلص من العذاب أو هل إلى خروج إلى الدنيا من سبيل ، فنعمل غير الذي كنا نعمل كما قال : هل إلى مرد من سبيل ، فيقال : فحذف الجواب ، كما في "عين المعاني" ، أو الجواب ما بعده من قوله : ذلكم إلخ ، كما في غيره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
والثاني : أنهم أرادوا بالإماتة الأولى خلقهم أمواتاً ، وذلك في الرحم قبل نفخ الروح كما قال تعالى : {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ} (البقرة : 124) ، وبالثانية : إماتتهم عند انقضاء آجالهم على أن الإماتة : جعل الشيء عادم الحياة ، وأرادوا بالإحياء الأول : الإحياء قبل الخروج من البطن ، وبالثاني : إحياء البعث ، ولا يلزم منه أن لا عذاب في القبر ، ولا حياة ولا موت ؛ فإنهم إنما لم يذكروها ؛ لأن حياة القبر ليست كحياة الدنيا ، ولا كحياة الآخرة ، كما في "الأسئلة المقحمة".
وقد ثبت بالتواتر أن النبي عليه السلام استعاذ من عذاب القبر ، وأجمع السلف على ذلك قبل ظهور أهل البدع ، حتى قال بعضهم في قوله تعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَه مَعِيشَةً ضَنكًا} ، أنه أراد في القبر لأنا نشاهد كثيراً منهم عيشهم أرغد في الدنيا من عيش كثير من المؤمنين.
والثالث : أنهم أرادوا بالإماتة الأولى ما بعد حياة الدنيا.
وبالثانية : ما بعد حياة القبر.
وبالإحياءتين ما في القبر ، وما عند البعث ، قال في "الإرشاد" : وهو الأنسب بحالهم.
وأما حديث لزوم الزيادة على النص ضرورة تحقق حياة الدنيا ، فمدفوع لكن لا بما قيل من عدم اعتدادهم بها ، لزوالها وانقضائها وانقطاع آثارها وأحكامها ، بل بأن مقصودهم إحداث الاعتراف بما كانوا ينكرونه في الدنيا والتزام العمل بموجب ذلك الاعتراف ليتوسلوا بذلك إلى الرجوع إلى الدنيا ، وهو الذي أرادوه بقولهم ، فهل إلى خروج من سبيل مع نوع استبعاد له واستشعار يأس منه لا أنهم قالوه بطريق القنوط المحض ، ولا ريب في أن الذي كانوا ينكرونه ويفرعون عليه فنون الكفر والمعاصي ليس إلا
161
الإحياء بعد الموت ، وأما الإحياء الأول ، فلم يكونوا لينظموه في سلك ما اعترفوا به ، وزعموا أن الاعتراف يجديهم نفعاً ، وإنما ذكروا الموتة الأولى لترتبها عليهما ذكراً حسب ترتيبها عليهما وجوداً.
والرابع : على ما في "التأويلات النجمية" : أنهم أرادوا إماتة القلوب وإحياء النفوس ، ثم إماتة الأبدان وإحياءها بالبعث.
{ذَالِكُمُ} : قال في "الإرشاد" : جواب لهم باستحالة حصول ما يرجونه ببيان ما يوجبها من أعمالهم السيئة ؛ أي : ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب ، وهو مبتدأ خبره.
قوله : {بِأَنَّهُ} ؛ أي : بسبب أن الشأن {إِذَا دُعِىَ اللَّهُ} في الدنيا ؛ أي : عبد {وَحْدَهُ} ؛ أي : حال كونه منفرداً ، فهو في موضع الحال من الجلالة.
{كَفَرْتُمْ} ؛ أي : بتوحيده.
{وَإِن يُشْرَكْ بِهِ} ؛ أي : إن يجعل له شريك.
{تُؤْمِنُوا} ؛ أي : بالإشراك به وتصدقوه وتسارعوا فيه.
ولفظ الاستقبال تنبيه على أنهم لو ردوا لعادوا إلى الشرك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "الإرشاد" في إيراد إذا.
وصيغة الماضي في الشرطية الأولى ، وإن وصيغة المضارع في الثانية : ما لا يخفى من الدلالة على كمال سوء حالهم ، وحيث كان حالكم كذلك.
(8/121)
{فَالْحُكْمُ} : الذي لا يحكم إلا بالحق.
{الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ} عن أن يشرك به إذ ليس كمثله شيء في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله.
وقد حكم بأنه لا مغفرة للمشرك ، ولا نهاية لعقوبته ، فلا سبيل لكم إلى الخروج أبداً.
قيل : كأن الحرورية أخذوا قولهم : لا حكم إلامن هذا.
وقيل : للخوارج حرورية لتجليتهم بحروراء واجتماعهم فيها ، وهي كحلولاء.
وقد تقصر قرية بالكوفة.
والخوارج قوم من زهاد الكوفة خرجوا عن طاعة عليّ رضي الله عنه عند التحكيم بينه وبين معاوية ، وذلك أنه لما طالت محاربة عليّ ، ومعاوية اتفق الفريقان على التحكيم إلى أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما في أمر الخلافة ، وعلي ارتضى بما يريانه ، فقال القوم : المذكور إن الحكم إلا ، فقال عليّ رضي الله عنه : كلمة حق أريد بها باطل.
وكانوا اثني عشر ألف رجل أنكروا الخلافة ، واجتمعوا ونصبوا راية الخلاف ، وسفكوا الدماء وقطعوا السبيل ، فخرج إليهم علي رضي الله عنه وأمرهم بالرجوع ، فأبوا إلا القتال ، فقاتلهم بالنهروان ، هي كزعفران بليدة قديمة بالقرب من بغداد ، فقتلهم واستأصلهم ، ولم ينج منهم إلا قليل.
وهم الذين قال عليه السلام في حقهم : يخرج قوم من أمتي في آخر الزمان يحقر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم وصومه في جنب صومهم ، ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم".
وقال عليه السلام : الخوارج كلاب النار".
والحاصل : أن الخوارج من الفرق الضلالة لفسادهم في الاعتقاد وبإنكار الحق وفساد الاعتقاد ساء حال أكثر العباد في أكثر البلاد ، خصوصاً في هذه الأعصار ، فعلى العاقل أن يجيب دعوة الله ودعوة رسوله ، قولاً وعملاً وحالاً واعتقاداً ، حتى يفوز بالمرام ويدخل دار السلام ، ولا يكون كالذين أرادوا أن يتداركوا الحال بعد مضي الفرصة :
ملوث مكن دامن از كرد شوى
كه ناكه زبالا بيندند جوى
مكو مرغ دولت زقيدم بجست
هنوزش سر رشته دارى بدست
وكردير شد كرم روباش وجست
زدير آمدن غم ندارد درست
المراد : الترغيب في التوبة ، ولو في الشيب وقرب الموت.
{ذَالِكُم بِأَنَّه إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَه كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِه تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَن يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{هُوَ} : تعالى وحده {هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ} .
دلائل قدرته وشواهد وحدته في الأنفس والآفاق رعاية لمصالح أديانكم.
وفيه
162
إشارة إلى أنه ليس للإنسان أن يرى ببصيرته حقائق الأشياء إلا بإراءة الحق تعالى إياه.
{وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقًا} ؛ أي : سبب رزق ، وهو المطر مراعاة لمصالح أبدانكم ، فإن آيات الحق بالنسبة إلى حياة الأديان بمنزلة الأرزاق بالنسبة إلى حياة الأبدان.
{وَمَا يَتَذَكَّرُ} : التذكير : (بند كرفتن) ؛ أي : ما يتعظ وما يعتبر بتلك الآيات الباهرة ، ولا يعمل بمقتضاها {إِلا مَن يُنِيبُ} : يرجع إلى الله تعالى عن الإنكار ، ويتفكر فيما أودعه في تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة ونعمته الشاملة الظاهرة والباطنة الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى ، ومن ليس كذلك ، وهو المعاند ، فهو بمعزل عن التذكر والاتعاظ ، فإذا كان الأمر كذلك ؛ أي : كما ذكر من اختصاص التذكر بمن ينيب.
{فَادْعُوا اللَّهَ} : فاعبدوه أيها المؤمنون.
{مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ؛ أي : حال كونكم مخلصين له دينكم وطاعتكم من الشرك والالتفات إلى ما سواه بموجب إنابتكم إليه وإيمانكم به.
{وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ} : ذلك وغاظهم إخلاصكم.
قال الكاشفي : (واكرجه كار عند كافران واخلاص شمادر توحيد اوزيرا كه ايشان بنعمت ايمان كافر ند وشما بران نعمت شاكر بس ميان شما منافر تست واعمال واقوال شما مرغوب ومحبوب ايشان نيست جنانجه كردار وكفتار ايشان نيز در نزدشما مكروه ومبغوض است) :
زاهدى در سماع رندان بود
زان ميان كفت شاهد بلخى
كر ملولى زما ترش منشين
كه توهم درميان ما تلخى
وفي الآية إشارة إلى أن المدعو من الله تعالى ينبغي أن يكون لذاته تعالى مخلصاً غير مشوب بشيء من مقاصد الدنيا والآخرة ، ولو كان على كراهة النفس ، فإنها تميل إلى مشاربها :
خلاف طريقت بود كاوليا
تمنا كنند از خدا جز خدا
(8/122)
فلا بد من الإخلاص مطلقاً ، فاعمل لربك خالصاً طيباً ، فإنه طيب لا يقبل إلا الطيب وفي الحديث : "يؤجر ابن آدم في نفقته كلها إلا شيئاً وضعه في الماء والطين".
قال حضرت الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره في كشف سر هذا الحديث ، وإيضاح معناه : اعلم أن صور الأعمال أعراض جواهرها مقاصد العمال وعلومهم واعتقاداتهم ومتعلقات هممهم.
وهذا الحديث وإن كان من حيث الصيغة مطلقاً ، فالأحوال والقرائن تخصصه وذلك ، أن بناء المساجد والرباطات ومواضع العبادات يؤجر الباني لها عليها بلا خلاف :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
جون بود قصدش از ريا منفك
مزديابد بران عمل بيشك
فالمراد بالمذكور هنا إنما هو البناء الذي لم يقصد صاحبه التنزه.
والانفساح والاستراحة والرياء والسمعة ، وإذا كان كذلك ، فمطمح همة الباني ومقصده لا يتجاوز هذا العلم ، فلا يكون لبناءه ثمرة ونتيجة في الآخرة ؛ لأنه لم يقصد أمراً وراء هذه الدار ، فأفعاله أعراض زائلة لا موجب لتعديها من هنا إلى الآخرة ، فلا إثمار لها ، فلا أجر.
وبالفارسية :
هر كه ميخواهد از عمارت كل
فسحت دار ونزهت منزل
يا تفاخر ميانة أقران
كه بنا كرد مسجدى ويران
163
جون باخلاص همت عامل
متجاوز نشد ز عالم كل
نفقاتش درآب وكل موضوع
ماند واوزا جران بود مقطوع
بلكه در حج وعمره وصلوات
جون بود بهر عاجلت نفقات
همه ماند درآب وكل مرهون
ندهد اجر صانع بيجون
هر كرا از عمارت كل وآب
هست مقصود كسب قرب وثواب
جون زكل در كذشت همت وى
نفقاتش همه رود دربى
نفقاتش جو قطع كرد اين راه
عندكم بود كشت عند الله
كل ما كان عندكم ينفد
دام ما عنده إلى السرمد
قال تعالى : {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُا وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} (النحل : 96).
والمرجو من الله تعالى أن يجعلنا من أهل الاختصاص بفيض كمال الإخلاص.
{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُم بَـارِزُونَا لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ} .
{رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ} : خبر آخر لقوله : هو والرفيع صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها بعد النقل إلى فعل بالضم كما هو المشهور ، وتفسيره بالرفع ليكون من إضافة اسم الفاعل إلى المفعول بعيد في الاستعمال ، كما في "الإرشاد" والدرجة : مثل المنزلة ، لكن يقال للمنزلة درجة إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد على نحو درجة السطح والسلم ، قاله الراغب.
وفي "أنوار المشارق" : الدرجة إن كانت بمعنى المرقاة فجمعها درج وإن كانت بمعنى المرتبة ، والطبقة ، فجمعها درجات.
واختلف العلماء في تفسير هذه الآية ، ففي "الإرشاد" : هو تعالى رفيع الدرجات ملائكته ؛ أي : مرتفعة معارجهم ومقاعدهم إلى العرش.
وفي "تفسير أبي الليث" : خالق السماوات ورافعها مطلقاً بعضها فوق بعض من طبق إلى طبق خمسمائة عام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "كشف الأسرار" : (بر دارندة درجهاى بند كانست وبريكديكر جه دردنيا جه در در دنيا آنست كه كفت).
{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَـاـاكُمْ} (الأنعام : 165) يعني : (بر داشت شمارا زير يكديكر درجهاى افزونى يكى را بدانش يكى راينسب يكى را بمال يكى را بشرف يكى را بصورت يكى را بقوت جاى ديكر كفت).
{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} (الزخرف : 32) ، يعني : (برداشتيم ايشانرا بريكديكر در عز ومال در رزق ومعيشت يكى مالك يكى مملوك يكى خادم يكى مخدوم يكى فرمانده يكى فرمانبرا اما درجات آنست كفت).
وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً (هركه دردنيا بمعرفت وطاعت افزو نتردر عقبى بحق نزد يكتر وكرامت وى بيشتر).
فهو رافع الدرجات في الدنيا بتفاوت الطبقات.
وفي العقبى بتباين المراتب والمقامات.
روي أن أسفل أهل الجنة درجة ليعطى مثل ملك الدنيا كلها عشر مرات ؛ وأنه ليقول : أي رب لو أذنت لي أطعمت أهل الجنة وسقيتهم لم ينقص ذلك ، مما عندي شيئاً ، وإن له من الحور العين ثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا.
وقال بعضهم : رافع درجات (انبياست عليهم السلام درجة آدم را بصفوت بر داشت ونوح را بدعوت وإبراهيم رابخلت وموسى را بقربت وعيسى رابزهادت ومحمد را بشفاعت).
وقال بعضهم : رافع درجات العصاة بالنجاة والمطيعين بالمثوبات وذي الحاجات بالكفايات والأولياء بالكرامات ، والعارفين بالارتقاء عن الكونين ، والمحبين بالفناء عن المحبية ، والبقاء بالمحبوبية.
164
(عزيزى فرموده كه).
لا يوجد البقاء إلا بالفناء (تا شربت فنا ننوشى) :
بنوش درد فنا كر بقاهمى خواهى
كه زاد راه بقاى دردى خراباتست
زحال خويش فنا شود درين ره اى عطار
كه باقى ره عشاق فانى الذاتست
(8/123)
يقول الفقير : حقيقة الآية عند السادات الصوفية قدس الله أسرارهم أنه تعالى رفيع درجات أسمائه وصفاته ، وطبقات ظهوراته في تنزلاته واسترسالاته ، فإنه تعالى خلق العقل الأول ، وهو أول ما وجد من الكائنات ، وهو آدم الحقيقي الأول ، والروح الكلي المحمدي ، والعلم الأعلى ، وهو أول موجود تحقق بالنعم الإلهية وآخر الموجودات تحققاً بهذه النعم هو عيسى عليه السلام ؛ لأنه لا خليفةبعده إلى يوم القيامة ، بل لا يبقى بعد انتقاله ، وانتقال من معه مؤمن على وجه الأرض فضلاً عن ولي كامل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي الحديث : "لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول : الله ، الله" ؛ أي : الملازم الذكر لا الذاكر في الجملة ، فلا بدّ للمصلي من أن يستحضر عند قوله : صراط الذين أنعمت عليهم جميع من أنعم الله عليه من العلم الأعلى إلى عيسى ، ثم خلق الله النفس الكلية التي منها وجدت النفوس الناطقة كلها ، وهي حواء الحقيقية الأولى ، ثم أوجد الطبيعة الكلية التي في الأجسام الجزئية وبواسطتها ظهر الفعل ، والانفعال في الأشياء ، ثم الهباء ، ثم الشكل الكلي ، وهو الهيولى الجسمية ، ثم جسم الكلي ، ثم الفلك الأطلس الذي هو العرش الكريم ، ثم الكرسي على ما ذكره داود القيصري ، وأما حضرة الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره ، فلم يجعل الفلك الأطلس هو العرش بعينه ، فالترتيب عنده العرش ثم الكرسي ، ثم فلك الأطلس سمي به لخلوه عن الكواكب ، كخلو الأطلس عن النقش ، ثم المنازل ، ثم سماء كيوان ، ثم سماء المشتري ، ثم سماء المريخ ، ثم سماء الشمس ، ثم سماء الزهرة ، ثم سماء عطارد ، ثم سماء القمر ، ثم عنصر النار ، ثم عنصر الهواء ، ثم عنصر الماء ، ثم عنصر التراب ، ثم المعدن ، ثم النبات ، ثم الحيوان ، ثم الملك ، ثم الجن ، ثم الإنسان الذي هو مظهر الاسم الجامع ، ثم ظهر في مرتبته التي هي مظهر الاسم الرفيع ، فتم الملك والملكوت.
وهذه الحقائق كلها درجات إلهية ومراتب رحمانية دلعليها قوله تعالى : رفيع الدرجات.
{ذُو الْعَرْشِ} : خبر آخر لقوله : هو ؛ أي : هو تعالى مالك العرش العظيم المحيط بأكناف العالم العلوي والسفلي.
وله أربعمائة ركن من الركن إلى الركن أربعمائة ألف سنة خلقه فوق السماوات السبع وفوق الكرسي إظهاراً لعظمته وقدرته لا مكاناً لذاته ، فإنه الآن على ما كان عليه ، وإنما ذكره على حدّ العقول ؛ لأن المعقول لا تصل إلا إلى مثله ، وإلا فهو أقل من خردلة في جنب جلاله تعالى وعظمته أيضاً خلقه ليكون مضافاً لملائكته ، وليكون قبلة الدعاء ، ومحل نزول البركات ؛ لأنه مظهر لاستواء الرحمة الكلية ، ولذا ترفع الأيدي إلى السماء وقت الدعاء ؛ لأنه بمنزلة أن يشير سائل إلى الخزانة السلطانية ، ثم يطلب من السلطان أن يفيض عليه سجال العطاء من هذه الخزانة.
قال العلماء : يكره النظر إلى السماء وفي الصلاة ، وأما في غيرها فكرهه بعض ، ولم يكرهه الأكثرون ؛ لأن السماء قبلة الدعاء ، وأيضاً خلقه ليكون موضع كتاب الأبرار.
كما قال تعالى : {إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ} (المطففين : 18) ، وليكون مرآة للملائكة ، فإنهم يرون الآدميين من تلك المرآة ، ويطلعون على
165
أحوالهم ، كي يشهدوا عليهم يوم القيامة ، وليكون ظلة لأهل المحشر من الأبرار والمقربين يوم تبدل السماوات والأرض ، وليكون محلاً لإظهار شرف محمد صلىتعالى عليه وسلم ، كما قال تعالى : {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (الإسراء : 79) ، وهو مقام تحت العرش فيه يظهر أثر الشفاعة العظمى للمؤمنين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
ويقال : إن الله تعالى رفع من كل شيء شيئاً ، المسك من الطيب ، والعرش من الأماكن ، والياقوت من الجواهر ، والشمس من الأنوار ، والقرآن من الكتب ، والعسل من الحلوى ، والحرير من اللباس ، والزيتون من الأشجار ، والأسد من السباع ، وشهر رمضان من الشهور ، والجمعة من الأيام ، وليلة القدر من الليالي ، والتوحيد من المقال ، والصلاة من الفعال ، ومحمداً عليه السلام من الرسل ، وأمته من الأمم.
هذا إذا كان العرش بمعنى الجسم المحيط ، ويقال : العرش الملك ، والبسطة ، والعز.
يقال : فلان ثل عرشه ؛ أي : زالت قوته ومكنته.
(8/124)
وروي أن عمر رضي الله عنه : رؤي في المنام ، فقيل له : ما فعل الله بك قال : لولا أن تداركني الله لثل عرشي ، فيكون معنى ذو العرش على ما في "التأويلات النجمية" : ذو الملك العظيم ؛ لأنه تعالى خلقه أرفع الموجودات وأعظمها جثة إظهاراً للعظمة ، وأيضاً : ذو عرش القلوب ، فإنها العرش الحقيقي ؛ لأن الله تعالى استوى على العرش بصفة الرحمانية ، ولا شعور للعرش به ، واستوى على قلوب أوليائه بجميع الصفات ، وهم العلماء بالله مستغرقين في بحر معرفته ، فإذا كان العرش الصوري ، والمعنوي في قبضة قدرته ، وهو مستوللٍ عليه ، ومتصرف فيه لا مالك ولا متصرف له غيره ، لا يصح أن يشرك به مطلقاً ، بل يجب أن يعبد ظاهراً وباطناً حقاً وصدقاً.
{يُلْقِى الرُّوحَ} : بيان لإنزال الرزق المعنوي الروحاني من الجانب العلوي بعد إنزال بيان الرزق الجسماني منه ، ولذا وصف نفسه بكونه رفيع الدرجات وذا العرش ؛ لأن آثار الرحمة مطلقاً ، إنما تظهر من جانب السماء خصوصاً العرش مبدأ جميع الحركات.
والمعنى : ينزل الوحي الجاري من القلوب منزلة الروح من الأجساد ، فكما أن الروح سبب لحياة الأحسام ، كذلك الوحي سبب لحياة القلوب ، فإن حياة القلوب إنما هي بالعارف الإلهية الحاصلة بالوحي ، فاستعير الروح للوحي ؛ لأنه يحيا به القلب بخروجه من الجهل والحيرة إلى المعرفة والطمأنينة ، وسمي جبرائيل روحاً ؛ لأنه كان يأتي الأنبياء بما فيه حياة القلوب وسمي عيسى روح الله ؛ لأنه كان من نفخ جبرائيل وأضيف إلى الله تعظيماً.
واعلم أن ما سوى الله تعالى إما جسماني ، وإما روحاني.
والقسمان مسخران تحت تسخيره تعالى.
أما الجسماني ، فأعظمه العرش ، فقوله : ذو العرش يدل على استيلائه على جميع عالم الأجسام كله ، وقوله : يلقي الروح يدل على أن الروحانيات أيضاً مسخرات لأمره ، فإن جبرائيل إذا كان مسخراً له في تبليغ الوحي إلى الأنبياء ، وهو من أفاضل الملائكة ، فما طنك بغيره.
وأما الوحي نفسه ، فهو من الأمور المعنوية ، وإنما يتصور بصورة اللفظ عند الإلقاء {مِنْ أَمْرِهِ} : بيان للروح الذي أريد به الوحي ، فإنه أمر بالوحي وبعث للمكلف عليه ، فيما يأتيه ويذره ، فليس المراد بالأمر هنا ما هو بمعنى الشأن ، أو حال كونه ناشئاً ، ومبتدأ من أمره تعالى : {عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} .
وهو الذي اصطفاه لرسالته وتبليغ الأحكام إليهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقال الضحاك : الروح جبرائيل ؛ أي : يرسله إلى من يشاء من أجل أمره يخاطب بهذا
166
من كره نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
وفي "التأويلات النجمية" : روح الدراية للمؤمنين ، وروح الولاية للعارفين ، وروح النبوة للنبيين.
وفي الآية دليل على أن النبوة عطائية لا كسبية.
وكذا الولاية في الحقيقة إذ لا ينظر إلى الأسباب الخارجة بل إلى الاختصاص الإلهي.
{لِيُنذِرَ} غاية للإلقاء ؛ أي : لينذر الله تعالى أو الملقى عليه ، أو الروح.
والإنذار : دعوة إبلاغ مع تخويف {يَوْمَ التَّلاقِ} .
إما ظرف للمفعول الثاني ؛ أي : لينذر الناس العذاب يوم التلاق ، وهو يوم القيامة ، أو هو المفعول الثاني اتساعاً ، أو أصالة ، فإنه من شدة هوله وفظاعته حقيق بالإنذار أصالة.
وسمي يوم القيامة يوم التلاق ؛ لأنه تتلاقى فيه الأرواح والأجساد ، وأهل السماوات والأرض والعابدون والمعبودون والعاملون والأعمال والأولون والآخرون والظالمون والمظلومون ، وأهل النار مع الزبانية.
{يَوْمَ هُم بَـارِزُونَ} : بدل من يوم التلاق يقال : برز بروزاً : خرج إلى البراز ؛ أي : الفضاء كتبرز وظهر بعد الخفاء كبرز بالكسر ؛ أي : خارجون من قبورهم ، أو ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل ، أو أكمة ، أو بناء لكون الأرض يومئذٍ مستوية ، ولا عليهم ثياب ، إنما هم عراة مكشوفون ، كما في الحديث : "يحشرون حفاة عراة غرلاً جمع حاففٍ وهو من لا نعل له ، وجمع عارٍ ، وهو من لا لباس عليه ، وجمع أغرل ، وهو الأقلف الذي لم يختن ؛ أي : غير مختونين إلا قوماً ماتوا في الغربة مؤمنين لم يزنوا ؛ فإنهم يحشرون ، وقد كسوا ثياباً من الجنة ، وقوماً أيضاً من أمة محمد عليه السلام ، فإنه عليه السلام ، قال : يوماً بالغوا في أكفان موتاكم ؛ فإن أمتي يحشر بأكفانها وسائر الأمم حفاة عراة".
(8/125)
{لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ} ما من أعيانهم وأعمالهم الجلية والخفية السابقة واللاحقة مع كثرتهم كما قال تعالى : {يَوْمَـاـاِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} (الحاقة : 18) ، وكانوا في الدنيا يتوهمون إنهم إذا استتروا بالحيطان والحجب فإن الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم فهم يومئذٍ لا يتوهمون ذلك أصلاً.
{لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ؛ أي : يقال : حين بروزهم وظهور أحوالهم ؛ أي : ينادي منادٍ لمن الملك اليوم ، فيجيب ؛ أي : ذلك المنادي بعينه ، ويقول : {الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ، أو يجيبه أهل المحشر مؤمنهم وكافرهم لحصول العلم الضروري بالوحدانية للكافر أيضاً ، لكن الكافر يقوله : صغاراً ، وهو أنا وعلى سبيل التحسر والندامة والمؤمن ابتهاجاً وتلذذاً إذ كان يقوله في الدنيا أيضاً ، وهذا يسمى سؤال التقرير.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقيل : إن المجيب إدريس عليه السلام ، فإن قلت : كيف خص ذلك بيوم مخصوص ، والملكفي جميع الأوقات.
قلت : هو وإن كانفي جميع الأيام إلا أنه سبحانه ملك عباده في الدنيا ، ثم تكون دعاويهم منقطعة يوم القيامة ، لا يدعي مدع ملكاً ، ولا ملكاً ، يومئذٍ ، ولذا قال : لمن الملك اليوم.
قال في "كشف الأسرار" : (دران روز رازها آشكار شود بردهاى متواريان درند توانكران بى شكررا در مقام حساب بدارند ودرويشان بى صبر را جامة نفاق از سر بركشند آتش فضيحت در طيلسان عالمان بى عمل زنند خاك ندامت بر فرق قراء مرائى ريزند يكى از خاك وحشت بيرون مى آيد جنانكه خا كستر ازمياق آتش يكى جنانكه درازميان صدف يكى ميكويد اين الفرار من الله يكى ميكويد).
أين الطريق إلى الله؟.
(يكى ميكويد).
{مَالِ هَـاذَا الْكِتَـابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَـاهَا} (الكهف : 49) : (يكى ميكويد).
167
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} (فاطر : 34) : (آن روز بادشاهان روى زمين رامى آرند ودست سلطنت ايشان برشتة عزل بربسته ندا آيد كه بادشاهى كراسز دمكرس واحد قهار راكه برهمه شاهان بادشاهست وى نه بحشم وسباهست سلطان جهان بملك ومال وبنعمت وسوار وبياده ودركاه فخر كنند وملك إلهي بر خلاف اينست كه او جل جلاله رسوم كون را آتش بينيازى درزند وعالم را هباء منثور كرداند وتيغ قهر برهيا كل أفلاك زند نداد هد كه لمن الملك اليوم كراز هرة آن بود كه اين خطاب را جواب دهد جزاو اى مسكين قيامت كه سران وسر هنكان دين را دربناه كرم إلهي جاى دهد ندانم كه ترابان سينة آلوده وعمل شوريده كجانسانند ورخت كجا نهند اي مسكين اكر بى مارى آخر ناله كو وا كر درباطنت آتشيست دودى كو واكر مرد بازركانى سالها برا مد سودى كو طيلسان موسى ونعلين هارونت جه سود جون بزير رداء فرعون دارى صد هزار).
ويجوز أن يكون قوله : لمن الملك اليوم.
إلخ.
حكاية لما دل عليه ظاهر الحال في ذلك اليوم من زوال الأسباب ، وارتفاع الوسائط إذ لولا الأسباب لما ارتاب المرتاب ، وأما حقيقة الحال ، فناطقة بذلك دائماً ، وقيل : السائل ، والمجيب هو الله تعالى وحده ، وذلك بعد فناء الخلق ، فيكون ابتداء كلام من الله تعالى.
وها هنا لطيفة ، وهي أن سورة الفاتحة نصفها ثناءونصفها دعاء للعبد ، فإذا دعا واحد يجب على الآخر التأمين ، فإذا قلت : ولا الضالين ؛ كأنه يقول : ينبغي أن أقول : آمين.
فكن أنت يا عبدي نائباً عني ، وقل آمين ، وإذا كان يوم القيامة ، وأقول : أنا لمن الملك اليوم ، يجب عليك أن تقول : الواحد القهار ، وأنت في القبر ، فأكون أنا نائباً عنك ، وأقول : الواحد القهار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال ابن عطاء : لولا سوء طبائع الجهالة وقلة معرفتهم لما ذكر الله قوله : لمن الملك اليوم ، فإن الملك لم يزل ولا يزال له ، وهو الملك على الحقيقة ، وذلك لما جهلوا حقه وحجبوا عن معرفته وشاهدوا الملك وحقيقته في الآخرة ألجأهم الاضطرار إلى أن قالوا : الواحد القهار ، فالواحد الذي بطل به الأعداد.
والقهار : الذي قهر الكلّ على العجز بالإقرار له بالعبودية طوعاً وكرهاً.
قال شيخي وسندي روح الله روحه في قوله : الواحد القهار ، ترتيب أنيق ، فإن الذات الأحدية تدفع بوحدتها الكثرة وبقهرها الآثار ، فيضمحل الكل ، فلا يبقى سوى الله تعالى.
وفي "التأويلات النجمية" : يومهم بارزون ؛ أي : خارجون من وجودهم بالفناء لا يخفى على الله منهم شيء من وجودهم عند إفنائه حتى لا يبقى له غير الله ، فيقول الله تعالى : لمن الملك اليوم ، يعني : ملك الوجود.
وهذا المقام الذي أشار إليه الجنيد قدس سره بقوله : ما في الوجود سوى الله ، فإذا لم يكن لغير الله ملك الوجود يكون هو الداعي ، والمجيب ، فيقول : الواحد القهار ؛ لأنه تعالى تجلى بصفة القهارية ، فما بقي الداعي ولا المجيب غير الله :
جامى معاد ومبدأ ما وحدتست وبس
ما درميانه كثرت موهوم والسلام
(8/126)
{يَوْمَ هُم بَـارِزُونَا لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌا لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْا لا ظُلْمَ الْيَوْمَا إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَـاظِمِينَا مَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} .
{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ} : إما من تتمة الجواب ، أو حكاية لما سيقوله تعالى يومئذٍ عقيب السؤال.
والجواب : أي : تجزى كل نفس من النفوس البرة والفاجرة من خير أو شر.
{لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} ، بنقص ثواب أو زيادة عذاب ، يعني : (نه از ثواب كسى كم كنند ونه بر عقاب
168
كسى افزايند ونه كسى رابكناه كسى بكير ند ونه نيكى راباداش بدى دهند).
{إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ؛ أي : سريع حسابه تماماً إذ لا يشغله تعالى شأن عن شأن ، فيحاسب الخلائق مع كثرتهم في أقرب زمان ، ويصل إليهم ما يستحقونه سريعاً ، فيكون تعليلاً لقوله تعالى : اليوم تجزى.
إلخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
فإن كون ذلك اليوم بعينه يوم التلاق ، ويوم البروز ربما يودهم استبعاد وقوع الكل فيه.
وعن ابن عباس رضي الله عنه : إذا أخذ في حسابهم لم يقل : أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها ، قوله : لم يقل من قال يقيل قيلولة ، وهي النوم في نصف النهار.
قال في "كشف الأسرار" : (هركه اعتقاد كرد كه اورا روزى دربيش است كه دران روز باوى سؤالي وجوابي وحسابي وعتابي هست وروز بيقرار بود دمبدم مشغول ومستغرق كار بود ميزان تصرف ازدست فرونهد بعيب كس ننكرد همه عيب خودرا مطالعه كند همه حساب خود كند در خبر است).
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتهيؤوا للعرض الأكبر.
(يكى از بزركان دين روزى نامة نوشت ودرخانة عاريتى بود كفتا خواستم كه آن راخاك بر كنم تاخشك شود بر خاطرم كذشت نبايدكه فردا از عهدة اين مظلمه بيرون نتوانم آمدها نفى آو از داد) ، سيعلم المستخف بترتيب الكتاب ما يلقى عند الله غداً من طول الحساب.
(آرى فردا روز عرض وحساب بداندكه جه كرد آنكس كه نامة خويش بخاك خانة كسان خشمك كرد).
وفي الحديث : يقول الله : "أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولا لأحد من أهل النار أن يدخل النار ، وعنده مظلمة حتى أقتص منه" ، وتلا عليه السلام هذه الآية.
وفي بعض الروايات لأقتص من القرناء للجماء ؛ أي : قصاص مقابلة لا تكليف :
در وعده أهل ظلم حالى عجبست
ورزيدن ظلم را وبالى عجبست
از ظلم برهيز كه درروز جزا
لا ظلم اليوم كو شمالى عجبست
{وَأَنذِرْهُمْ} : خوفهم يا محمد ، يعني أهل مكة.
{يَوْمَ الازِفَةِ} : منصوب على أنه مفعول به لأنذرهم ؛ لأنه المنذر به والآزفة : فاعلة من أزف الأمر على حدّ علم إذا قرب.
والمراد : القيامة ولذا أنث ونظيره : أزفت الآزفة ؛ أي : قربت القيامة ، وسميت بالآزفة لأزوفها ، وهو القرب لأن كل آتتٍ قريب ، وإن استبعد اليائس أمده.
وفي الحديث : "بعثت أنا والساعة كهاتين إن كادت لتسبقني".
والإشارة بهاتين إلى السبابة والوسطى ، يعني : أن ما بيني وبين الساعة بالنسبة إلى ما مضى من الزمان مقدار فضل الوسطى على السبابة شبه القرب الزماني بالقرب المساحي ، لتصوير غاية قرب الساعة ، ثم في الأزوف إشعار بضيق الوقت ، ولذا عبّر عن القيامة بالساعة.
وقيل : أتى أمر الله ، فعبر عنها بلفظ الماضي تنبيهاً على قربها ، وضيق وقتها كما في "المفردات".
وقال بعضهم : أنذرهم يوم الخطة الآزفة ؛ أي : وقتها ، وهي مشارقة أهل النار دخولها والخطة بالضم الأمر ، والقصة وأكثر ما يستعمل في الأمور العصبة التي تستحق أن تخط وتكتب لغرابتها ، كما في حواشي سعدي المفتي : {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} : جمع حنجرة ، وهي الحلقوم ، وهي بالفارسية : (كلو).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
والجملة : بدل من يوم الآزفة ، فإن القلوب ترتفع عن أماكنها من شدة الفزع ،
169
فتلتصق بحلوقهم فلا تعود فيستروحوا ويتنفسوا ، ولا تخرج فيستريحوا بالموت.
وقيل : يلتفح السحر خوفاً ؛ أي : الرئة ، فيرتفع القلب إلى الحنجرة.
{كَـاظِمِينَ} : حال من أصحاب القلوب على المعنى إذ الأصل : إذ قلوبهم لدى حناجرهم بناء على أن التعريف اللامي بدل من التعريف الإضافي يقال : كظم غيظه ؛ أي : رد غضبه وحبسه في نفسه بالصبر وعدم إظهار الأثر.
والمعنى : كاظمين على الغم والكربة ساكتين حال امتلائهم بهما يعني : لا يمكنهم أن ينطقوا ويصرحوا بما عندهم من الحزن والخوف من شدة الكربة ، وغلبة الغم عليهم ، فقوله : إذ القلوب لدى الحناجر تقرير للخوف الشديد.
وقوله : كاظمين تقرير للعجز عن الكلام ، فإن الملهوف إذا قدر على الكلام وبث الشكوى حصل له نوع خفة وسكون ، وإذا لم يقدر عظم اضطرابه واشتد حاله.
(8/127)
{مَا لِلظَّـالِمِينَ} ؛ أي : الكافرين {مِنْ حَمِيمٍ} ؛ أي : قريب مشفق ، يعني : (هيج خويشى مشفق ويار مهربان عذاب ايشان را دفع كند).
{وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} : وشفيع مشفع على معنى نفي الشفاعة والطاعة معاً ، وعلى أن يطاع مجاز عن يجاب وتقبل شفاعته ؛ لأن المطيع في الحقيقة يكون أسفل حالاً من المطاع ، وليس في الوجود من هوأعلى حالاً من الله تعالى حتى يكون مطاعاً له تعالى.
وفي الآية بيان أن لا شفاعة في حق الكفار ؛ لأنها وردت في ذمهم ، وإنما قيل للظالمين موضع للكافرين ، وإن كان أعم منهم ومن غيرهم من العصاة ، بحسب لظاهر تسجيلاً لهم بالظلم ، ودلالة على اختصاص انتفاء كل واحد من الحميم والشفيع المشفع بهم فثبت أن لعصاة المسلمين حميماً وشفيعاً ومشفعاً ، وهو النبي عليه السلام ، وسائر الأنبياء والمرسلين والأولياء المقربين والملائكة أجمعين.
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَـاظِمِينَا مَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَآاـاِنَةَ الاعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّا وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِه لا يَقْضُونَ بِشَىْءٍا إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
{يَعْلَمُ} : (ميداند خداى تعالى).
{خَآاـاِنَةَ الاعْيُنِ} ؛ أي : النظرة الخائنة للأعين وإسناد الخيانة إلى النظرة مجاز لأن الخائن هو الناظر أو يعلم خائنة الأعين على أنها مصدر كالعافية كقوله تعالى : {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآاـاِنَةٍ مِّنْهُمْ} (المائدة : 13).
والخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر ونقيضها الأمانة.
والمراد هنا : استراق النظر إلى غير المحرم كفعل أهل الريب.
والنظرة الثانية إليه.
وفي الخبر "يا ابن آدم لك النظرة الأولى" معفوة لوقوعها مفاجأة دون الثانية لكونها مقارنة للقصد ، وهي من قبيل زنا النظر.
وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
كرزناى جشم حظى مى برى
نى كباب از بهلوى خود ميخورى
وذلك لأن النظر سهم مسموم من سهام إبليس.
والنظرة تزرع في القلب شهوة وكفى بها فتنة.
قال الكاشفي :
جشم نظر بانجة حرامست
يا غمز كرده بمعايب مردم
أي : الرمز بالعين على وجه العيب :
دو جشم از بى صنع باري نكوست
زعيب برادر فروكير ودوست
(يا كذب در رؤيت وعدم رؤيت).
يعني : يدعي الرؤية كذاباً ، أو ينكرها.
وفي "التأويلات النجمية" : خائنة أعين المحبين استحسانهم شيئاً غير المحبوب ، والنظر إلى غير المحبوب.
وفي معناها قيل : ()
فعيني إذا استحسنت غيركم
أمرت الدموع بتأديبها
حكي : أن بعضهم مرَّ بدكان.
وفيه نطاق معلق فتعلق به نظره ، فاستحسنه ، ثم لما تباعد عن الدكان.
170
فقد النطاق من محله ، فاتبعه صاحب الدكان ، ففتش عنه ، فوجده على وسطه.
وكان ذلك عقوبة من الله عليه لاستحسانه ذلك النطاق حتى اتهم بسرقته وعوقب عليه.
قال أبو عثمان : خيانة العين ، هو أن لا يغضها عن المحارم ويرسلها إلى الهوى والشهوات.
وقال أبو بكر الوارق : يعلم من يمد عينيه إلى الشيء معتبراً ، ومن يمد عينيه لإرادة الشهوة.
وقال أبو جعفر النيسابوري : زنا العارف نظره بالشهوة إمام قشيري : (فر مود كه خيانت جشمهاى محبان آنست كه در أوقات مناجات خواب را بيرا من آن كذا رند خيانكه در زبور آمده كه دروغ كويد هركه دعوى محبت من كند وجون شب در آيد جشم از بخواب رود (ع) ومن نام عينا نام عنه وصالنا) :
خواب رابا ديده عاشق جه كار
جشم او جون شمع باشد اشكبار
جشمهاى عاشقا نرا خواب نيست
بك نفس ان جشمهابى آب نيست
{وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ} : من الضمائر والأسرار مطلقاً خيراً كانت أو شراً ، ثبت بهذا أن أفعال القلوب معلومةتعالى.
وكذا أفعال الجوارح تكون ؛ لأن أخفاها ، وهي خائنة الأعين إذا كانت معلومةتعالى ، فعلمه تعالى سائر أفعال الجوارح يكون أولى ، والحاكم إذا بلغ في العلم إلى هذا الحد ، ويجب أن يكون خوف المجرم منه أشد وأقوى ، فقوله تعالى : يعلم.
إلخ.
في قوة التعليل للأمر بالإنذار.
وفي "التأويلات النجمية" : وما تخفي الصدور من متمنيات النفوس ومستحسنات القلوب ومرغوبات الأرواح ، فالحق به خبير ، ويكون السالك موقوفاً بها ، حتى يخرج من تعلقها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/128)
وقال بعضهم : خيانته في الصدور أن لا يصير في مقام القبض ليجري عليه أحكام الحقيقة ، ثم ينكشف له عالم البسط ، فقد وصف الله خيانة العيون وخفايا الصدور.
وقال : لا يخفى عليه شيء من ذلك ، وذلك أن العين باب من أبواب القلب ، فإذا رأت شيئاً يكون حظ القلب منه يعلم ذلك نفسه ، فيطلب الحظ منه ، ومن القلب إلى العين باب يجري عليها حركة هواجس النفس تحثها على النظر إلى شيء فيه لها نصيب ، فإذا تحققت ذلك علمت أن خيانة الأعين متعلقة بما تخفي الصدور ، وإذا كان العارف عارفاً بنفسه وراضها برياضات طويلة وطهرها بمجاهدات كثيرة وزمها بزمام الخوف وآداب الشريعة ، صارت صافية من حظوظها ، ولكن بقيت في سرها جبلتها على الشهوات ، ففي كل لحظة يجري في سرها طلب حظوظها ، ولكنها سترتها عن العقل وأخفتها عن الروح من خوفها ، فإذا وجدت الفرصة خرجت إلى رؤية العين ، فتنظر إلى مرادها ، فتسرق حظها من النظر إلى المحارم ، وذلك النظر خفي ، وتلك الشهوة خفية وصفهما الله سبحانه في هذه الآية ، واستعاذ منهما النبي عليه السلام ، حيث قال : أعوذ بك من شهوة خفية ، ثم إن الروح العاشق إذا احتجب عن مشاهدة جمال الأزل ينقبض ويطلب حظه ، ولا يقدر أن ينظر إلى الحق ، فيطلب ذلك من الصورة الإنسانية التي فيها آثار الروحانية ، فينظر من منظره إلى منظر العقل ، ومن منظر العقل إلى منظر القلب ، ومن منظر القلب إلى منظر النفس ، ومن منظر النفس إلى منظر الصورة ، وينظر من العين إلى جمال المستحسنات ، لينكشف له ما استتر
171
عنه من شواهد الحق ، فتذهب النفس معه وتسرق بحثه حظها ، من النظر بالشهوة ، فذلك النظر منها غير مرضي في الشرع ، والطريقة والحقيقة ، وكذا نظر الروح إلى الحق بالوسائط خيانة ، فيلزم عليه أن يصبر على الانقباض إلى أن يتجلى له جمال الحق بغير واسطة.
قال الشيخ سعدي :
جرا طفل يك روزه هو شش نبرد
كه در صنع ديدن جه بالغ جه بلغ جه خرد
محقق همي بيند اندر ابل
كه درخو برويان جبن وجكل
ومن الله التوفيق لنظر التحقيق.
{وَاللَّهُ يَقْضِى} يحكم.
{بِالْحَقِّ} ؛ أي : بالصدق والعدل في حق كل محسن ومسيء ؛ لأنه المالك الحاكم على الإطلاق ، فلا يقضي بشيء إلا وهو حق وعدل يستحقه المكلف ، ويليق به ففيه تشديد لخوف المكلف.
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} ؛ أي : يعبدونهم.
{مِن دُونِهِ} تعالى ، وهم : الأصنام.
وبالفارسية : (وآنانهم را كه مى برستند مشركان بدون خدا).
{لا يَقْضُونَ بِشَىْءٍ} : (حكمى نمى كنند ايشان بجيزى زيرا كه اكر جماداند ايشانرا قدرت بدان نيست واكر حيوانند مخلوق ومملوك اند ومخلوق راقوت حكم وفرمان نيست).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي "الإرشاد" : هذا تهكم بهم ؛ لأن جماداً ، لا يقال في حقه يقضي ولا يقضى.
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} : تقرير لعلمه تعالى بخائنة الأعين وقضائه بالحق ، فإن من يسمع ما يقولون ، ويبصر ما يفعلون إذا قضى قضى بالحق ووعيد لهم على ما يفعلون ، ويقولون وتعريض بحال ما يدعون من دونه ، فإنهم عريانون عن التلبس بهاتين الصفتين ، فكيف يكونون معبودين.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى يقضي للأجانب بالبعاد والوصال لأهل الوداد ، ويخرج السالكين من تعلقات أوصافهم على ما قضى به ، وقدر في الأزل ، وإن كان بواسطة إيمانهم وأعمالهم الصالحة ، أن الله قد سمع سؤال الحوائج في الأزل ، وهم بعد في العدم ، وكذا سمع أنين نفوس المذنبين وحنين قلوب المحبين وأبصر بحاجاتهم ، ثم إنه لما بالغ في تخويف الكفار بأحوال الآخرة أردفه بالتخويف بأحوال الدنيا ، فقال :
{وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّا وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِه لا يَقْضُونَ بِشَىْءٍا إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِى الارْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ * ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّه إِنَّه قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأرْضِ} : (آيا سفر نميكنند مشركان مكه درزمين ويمن براى تجارت).
{فَيَنظُرُوا} : يجوز أن يكون منصوباً بالعطف على أن يسيروا ، وأن يكون منصوباً على أنه جواب الاستفهام.
{كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ} ؛ أي : مآل حال من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم كعاد وثمود وأضرابهم ، وكانت ديارهم ممر تجار قريش.
{كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ، قدرة وتمكناً من التصرفات ، وإنما جيء بضمير الفصل مع أن حقه التوسط بين معرفتين كقوله : أولئك هم المفلحون لمضاهاة أفعل من للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه.
(8/129)
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى} : مثل القلاع الحصينة والمدن المتينة.
{فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} عاقبهم وأهلكهم بسبب كفرهم وتكذيبهم.
{وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ} من عذاب الله {مِن وَاقٍ} يقيهم ويحفظهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{ذَالِكَ} ؛ أي : ما ذكر من الأخذ.
{بِأَنَّهُمْ} ؛ أي : بسبب أنهم {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ} ؛ أي : بالمعجزات أو بالأحكام الظاهرة.
{فَكَفَرُوا} بها وكذبوا رسلهم ، {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} أخذاً عاجلاً.
{إِنَّه قَوِىٌّ} متمكن مما يريد غاية التمكن.
{شَدِيدُ الْعِقَابِ} لأهل الشرك لا يعتبر عقاب دون عقابه ، فهؤلاء قد شاهدوا مصارعهم وآثار هلاكهم ، فبأي وجه آمنوا أن يصيبهم مثل
172
ما أصابهم من العذاب.
واعلم أن أهل السعادة قد شكروا الله على نعمة الوجود ، فزادهم نعمة الإيمان ، فشكروا نعمة الإيمان ، فزادهم نعمة الولاية ، فشكروا نعمة الولاية ، فزادهم نعمة القرب والمعرفة في الدنيا ونعمة الجوار في الآخرة ، وأهل الشقاوة قد كفروا نعمة الوجود ، فعذبهم الله بالكفر والبعاد والطرد واللعن في الدنيا وعذبهم في الآخرة بالنار وأنواع التعذيبات.
وفي قوله : ذلك بأنهم.
إلخ.
إشارة إلى بعض السالكين والقاصدين إلى الله تعالى إن لم يصل إلى مقصوده يعلم أن موجب حجابه وحرمانه اعتراض خامر قلبه على شيخه ، أو على غيره من المشايخ في بعض أوقاته ، ولم يتداركه بالتوبة والإنابة ، فإن الشيوخ بمحل الأنبياء للمريدين.
وفي الخبر : الشيخ في قومه كالنبي في أمته".
.
وفي المثنوي :
كفت بيغمبر كه شيخي رفته بيش
جو نبي باشد ميان قوم خويش
إنه قوي على الانتقام من الأعداء للأولياء شديد العقاب في الانتقام من الأعداء.
وفي "شرح الأسماء" للزروقي القوي هو الذي لا يلحقه ضعف في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، فلا يمسه نصب ولا تعب ولا يدركه قصور ولا عجز في نقض ولا إبرام ، ومن عرف أن الله تعالى هو القوي ، رجع إليه عن حوله وقوته وخاصيته ظهور القوة في الوجود ، فما تلاه ذو همة ضعفة إلا وجد القوة ولا ذو جسم ضعيف إلا كان له ذلك ، ولو ذكره مظلوم يقصد إهلاك الظالم ألف مرة كان له ذلك وكفى أمره.
{ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّه إِنَّه قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بآياتنا وَسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَـامَـانَ وَقَـارُونَ فَقَالُوا سَـاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَآءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه وَاسْتَحْيُوا نِسَآءَهُمْ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى} ملتبساً {بآياتنا} ، وهي المعجزات التسع.
{وَسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} ؛ أي : وحجة قاهرة ظاهرة كالعصا أفردت بالذكر مع اندراجها تحت الآيات تفخيماً لشأنها ، فهو من قبيل عطف الخاص على العام.
{إِلَى فِرْعَوْنَ} : (بسوى فرعون كه أعظم عمالقة مصر بود ودعواى ربوبيت ميكرد).
{وَهَـامَـانَ} : (وزير او بود).
وخصهما بالذكر ؛ لأن الإرسال إليهما إرسال إلى القوم كلهم لكونهم تحت تصرف الملك ، والوزير تابعين لهما ، والناس على دين ملوكهم.
{وَقَـارُونَ} : خصّ بالذكر لكونه بمنزلة الملك من حيث كثرة أمواله وكنوزه ، ولا شك أن الإرسال إلى قارون متأخر عن الإرسال إلى فرعون وهامان ؛ لأنه كان إسرائيلياً ابن عم موسى مؤمناً في الأوائل أعلم بني إسرائيل حافظاً للتوراة ، ثم تغير حاله بسبب الغنى ، فنافق كالسامري ، فصار ملحقاً بفرعون وهامان في الكفر والهلاك ، فاحفظ هذا ودع ما قاله أكثر أهل التفسير في هذا المقام.
{فَقَالُوا} في حق ما أظهره من المعجزات خصوصاً في أمر العصا أنه {سَـاحِرٌ} : (او ساحرست كه خارق عادت مى نمايد ازروى سحر) ، وقالوا فيما ادعاه في رسالة رب العالمين أنه {كَذَّابٌ} : (دروغ كويست درانكه مى كويد خداى خست ومن رسول اويم) ، والكذاب الذي عادته الكذب بأن يكذب مرة بعد أخرى ، ولم يقولوا : سحار ؛ لأنهم كانوا يزعمون أنه ساحر ، وأن سحرتهم أسحر منه كما قالوا : يأتوك بكل سحار عليم.
وفيه تسلية لرسول الله عليه السلام ، وبيان عاقبة من هو أشد من قريش بطشاً وأقربهم زماناً.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بقوله : ولقد أرسلنا.
إلخ.
إلى أنه تعالى من عواطف إحسانهم يرسل أفضل خلقه في وقته إلى من هو أرذل خلقه ويبعث أخص عباده إلى أخس عباده ليدعوه إلى حضرة جلاله لإصلاح حاله بفضله ونواله ،
173
والعبد من خسة طبعه وركاكة عقله يقابله بالتكذيب وينسبه إلى السحر ، والله تعالى إظهاراً لحكمه وكرمه لا يعجل عقوبته ويمهله إلى أوان ظهور شقوته ، فيجعله مظهر صفة قهره ويبلغ موسى كمال سعادته ، فيجعله مظهر صفة لطفه :
نر دبان خلق اين ما ومنيست
عاقبت زين نردبان افتاد نيست
(8/130)
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
هر كه سر كش بود او مقهور شد
هركه خالى بود او منصور شد
{فَلَمَّا جَآءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا} ، وهو ما ظهر على يده من المعجزات القاهرة.
{قَالُوا} : لاستكمال شقاوتهم.
{اقْتُلُوا أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ} ؛ أي : تابعوه في الإيمان ، والقائل : فرعون وذوو الرأي من قومه أو فرعون وحده ؛ لأنه بمنزلة الكل ، كما قال : سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم.
{وَاسْتَحْيُوا نِسَآءَهُمْ} ؛ أي : أبقوا بناتهم أحياء ، فلا تقتلوهن وبالفارسية : (وزنده بكذارد دختران ايشابرا تا خدمت زنان قبط كنند).
والمعنى : أعيدوا عليهم القتل ، وذلك أنه قد أمر بالقتل قبيل ولادة موسى عليه السلام بإخبار المنجمين بقرب ولادته ، ففعله زماناً طويلاً ثم كف عنه مخافة أن تفني بنو إسرائيل ، وتقع الأعمال الشاقة على القبط ، فلما بعث موسى وأحس فرعون بنبوته أعاد القتل غيظاً وحنقاً (وتادلهاى بني إسرائيل بشكند وموسى را يارى ندهند).
ظناً منهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملك فرعون على يده.
{وَمَا كَيْدُ الْكَـافِرِينَ} فرعون وقومه ، أو غيرهم ؛ أي : وما مكرهم وسوء صنيعهم.
وبالفارسية : (بنسبت انبيا ومؤمنان) ، {إِلا فِى ضَلَـالٍ} : (مكر دركم راهى وبيهود كى) ؛ أي : في ضياع وبطلان لا يغني عنهم شيئاً وينفذ عليهم لا محالة القدر المقدور والقضاء المحتوم.
وفي "التأويلات النجمية" : عزم على إهلاك موسى وقومه واستعان على ذلك بجنده وخيله ورجله إتماماً لاستحقاقهم العذاب ، ولكن من حفظ الحق تعالى كان كما قال : وما كيد الكافرين إلا في ضلال ؛ أي : في ازدياد ضلالتهم بربهم.
يشير إلى أن من حفر بئر الولي من أوليائه ما يقع فيه إلا حافره ، ولذلك أجرى الحق سنته.
انتهى.
حكي أن مفتي الشام أفتى بقتل الشيخ محيي الدين بن العربي قدس سره ، فدخل الحوض للغسل ، فظهرت يد فخنقته ، فأخرج من الحوض ، وهو ميت ، وحكي : أن شاباً كان يأمر وينهى فحبسه الرشيد في بيت وسدّ المنافذ ليهلك فيه ، فبعد أيام رؤي في بستان يتفرج ، فأحضره الرشيد ، فقال : من أخرجك؟ قال : الذي أدخلني البستان ، فقال : من أدخلك البستان؟ قال : الذي أخرجني من البيت ، فتعجب الرشيد ، فبكى وأمر له بالإحسان وبأن يركب فرساً وينادى بين يديه : هذا رجل أعزه الله وأراد الرشيد إهانته ، فلم يقدر إلا على إكرامه واحترامه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} : لملئة {ذَرُونِى} : خلوا عني واتركوني يقال : ذره ؛ أي : دعه.
يذره تركاً ولا تقل وذرا وأصله وذره يذره كوسعه يسعه ، لكن ما نطقوا بماضيه ولا بمصدره ولا باسم الفاعل كما في "القاموس".
{أَقْتُلْ مُوسَى} ، فإني أعلم أن صلاح ملكي في قتله ، وكان إذا هم بقتل موسى عليه السلام كفه ملأه بقولهم : ليس هذا بالذي تخافه ، فإنه أقل من ذلك وأضعف ، وما هو إلا بعض السحرة وبقولهم : إذا قتلته أدخلت على الناس شبهة ، واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة ، وعدلت إلى المقارعة بالسيف ، وأوهم اللعين أنهم
174
هم الكافون له عن قتله ولولاهم لقتله ، وما كان الذي يكفه إلا ما في نفسه من الفزع الهائل.
وذلك أنه تيقن نبوة موسى ، ولكن كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك.
{وَلْيَدْعُ رَبَّه} : الذي يزعم أنه أرسله كي يمنعه مني ، يعني : (تا قتل من ازوبازدارد).
وهو يخاف منه ظاهراً ويخاف من دعاء ربه باطناً ، وإلا فما له يقيم له وزناً ويتكلم بذلك.
{إِنِّى أَخَافُ} : إن لم أقتله {أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} ؛ أي : بغير ما أنتم عليه من الدين الذي هو عبارة عن عبادته وعبادة الأصنام لتقربهم إليه.
{أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الارْضِ الْفَسَادَ} ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية ، فمعنى أو وقوع أحد الشيئين.
وفي الآية إشارة إلى أن فرعون من عمى قلبه ظن أن الله يذره أن يقتل موسى بحوله وقوته أو يذره قومه ، ولم يعلم أن الله يهلكه ويهلك قومه وينجي موسى وقومه.
وقد خاف من تبديل الدين ، أو الفساد في الأرض ، ولم يخاف هلاك نفسه وهلاك قومه وفساد حالهم في الدارين.
(8/131)
{وَقَالَ مُوسَى} ؛ أي : لقومه حين سمع بما يقوله اللعين من حديث قتله عليه السلام.
{إِنِّى عُذْتُ} : (من بناه كرفتم وفرياد وزنهار خواستم).
والعوذ : الالتجاء إلى الغير والتعلق به.
{بِرَبِّى وَرَبِّكُم} : خص اسم الرب ؛ لأن المطلوب هو الحفظ والتربية وإضافته إليه وإليهم للحث على موافقته في العياذ به تعالى ، والتوكل عليه ، فإن في تظاهر النفوس تأثيراً قوياً ، وفي استجلاب الإجابة ، وهو السبب الأصلي في اجتماع الناس لأداء الصلوات الخمس والجمعة والأعياد والاستسقاء ونحوها.
{مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} متعظم عن الإيمان.
وبالفارسية : (از هر كردن كشى).
ولم يسم فرعون ، بل ذكره بوصف يعمه وغيره من جبابرة أركانه وغيرهم لتعميم الاستعاذة والإشعار بعلة القساوة والجراءة على الله ، وهي التكبر وما يليه من عدم الإيمان بالبعث.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
يقول الفقير : وأما قول الرازي وتبعه القاضي لم يسم فرعون رعاية لحق التربية التي كانت من فرعون له عليه السلام في صغره ، فمدخول بأن موسى عليه السلام قد شافهه باسمه في غير هذا الموضع ، كما قال : وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً وهذا أشد من قوله : من فرعون على تقدير التسمية من حيث صدوره مشافهة وصدوره من فرعون مغايبة.
{لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} صفة لما قبله عقبه به ؛ لأن طبع المتكبر القاسي وشأنه إبطال الحق وتحقير الخلق لكنه ، قد ينزجر إذا كان مقراً بالجزاء وخائفاً من الحساب.
وأما إذا اجتمع التكبر ، والتكذيب بالبعث كان أظلم وأطغى ، فلا عظيمة إلا ارتكبها ، فيكون بالاستعاذة أولى وأحرى.
وسئل الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه ؛ أي ذنب أخوف على سلب الإيمان.
قال : ترك الشكر على الإيمان وترك خوف الخاتمة ، وظلم العباد فإن من كان فيه هذه الخصال الثلاث ، فالأغلب أن يخرج من الدنيا كافراً إلا من أدركته السعادة.
وفي الخبر : "إن الله تعالى سخر الريح لسليمان عليه السلام ، فحملته وقومه على السرير حتى سمعوا كلام أهل السماء ، فقال ملك لآخر إلى جنبه : لو علم الله في قلب سليمان مثقال ذرة من كبر لأسفله في الأرض مقدار ما رفعه من الأرض إلى السماء".
وفي الحديث : "ما من أحد إلا وفي رأسه سلسلتان : إحداهما : إلى السماء السابعة ، والأخرى إلى الأرض السابعة ، فإذا تواضع رفعه الله بالسلسلة التي في السماء السابعة" ، وإذا تكبر وضعه الله بالسلسلة التي في الأرض السابعة ،
175
فالمتكبر أياً كان مقهور لا محالة كما يقال : أول ما خلق الله درة بيضاء ، فنظر إليها بالهيبة ، فذابت وصارت ماء وارتفع زبدها ، فخلق منه الأرض ، فافتخرت الأرض.
وقالت : من مثلي ، فخلق الله الجبال ، فجعلها أوتاداً في الأرض ، فقهر الأرض بالجبال ، فتكبرت الجبال ، فخلق الحديد ، وقهر الجبال به ، فتكبر الحديد فقهره بالنار ، فتكبرت النار ، فخلق الماء ، فقهرها به ، فتكبر الماء فخلق السحاب ، ففرق الماء في الدنيا ، فتكبر السحاب ، فخلق الرياح ، ففرقت السحاب ، فتكبرت الرياح ، فخلق الآدمي حتى جعل لنفسه بيتاً وكناً من الحر والبرد والرياح ، فتكبر الآدمي ، فخلق النوم ، فقهره به ، فتكبر النوم ، فخلق المرض ، فقهره به فتكبر المرض ، فخلق الموت ، فتكبر فقهره بالذبح يوم القيامة ، حيث يذبح بين الجنة والنار ، كما قال تعالى : {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الامْرُ} (مريم : 39).
يعني : إذ ذبح الموت فالقاهر فوق الكل هو الله تعالى ، كما قال.
{وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـاهِرُونَ} (الأعراف : 127) ، ثم إن الكبر من أشد صفات النفس الأمارة ، فلا بد من إزالته.
قال المولى الجامي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
لاف بى كبرى مزن كان از نشان باى مور
درشت تاريك برسنك سيه بنهان ترسب
وزدرون كردن برون آسان مكيرانرا كزان
كوه را كندن بسوزن از زمين آسان ترست
{وَقَالَ مُوسَى إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ * وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـانَه أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّىَ} .
(8/132)
{وَقَالَ رَجُلٌ} : (جون خبر قتل موسى فاش شد ودستان اندو هكير ودشمنان شادمان كشتند).
ولكن لما استعاذ موسى عليه السلام بالله واعتمد على فضله ورحمته ، فلا جرم صانه الله من كل بلية وأوصله إلى كل أمنية وقيض له إنساناً أجنبياً حتى ذب عنه بأحسن الوجوه في تسكين تلك الفتنة كما حكى الله عنه بقوله : وقال رجل : {مُؤْمِنٌ} كائن {مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ} ، فهو صفة ثانية لرجل ، وقوله : {يَكْتُمُ إِيمَـانَهُ} صفة ثالثة قدم الأول أعني مؤمن لكونه أشرف الأوصاف ، ثم الثاني لئلا يتوهم خلاف المقصود ، وذلك لأنه لو أخر عن يكتم إيمانه لتوهم أن من صلته ، فلم يفهم أن ذلك الرجل كان من آل فرعون وآل الرجل خاصته الذين يؤول إليه أمرهم للقرابة ، أو الصحبة ، أو الموافقة في الدين.
وكان ذلك الرجل المؤمن من أقارب فرعون ؛ أي : ابن عمه ، وهو منذر موسى بقوله : {إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ} (القصص : 20) بك ليقتلوك كما سبق في سورة القصص واسمه شمعان بالشين المعجمة ، وهو أصح ما قيل فيه.
قاله الإمام السهيلي.
وفي "تاريخ الطبري" : اسمه جبر.
وفيل : حبيب النجار ، وهو الذي عمل تابوت موسى حين أرادت أمه أن تلقيه في اليم ، وهو غير حبيب النجار صاحب يس.
وقيل : خربيل بن نوحائيل أو حزقيل.
ويدل عليه قوله عليه السلام سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار صاحب يس وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وهو رضي الله عنه أفضلهم كما في إنسان العيون نقلاً عن "العرائس".
وقال ابن الشيخ في "حواشيه" روي عن النبي عليه السلام : أنه قال الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل يس ومؤمن آل فرعون الذي قال : أتقتلون رجلاً أن يقول : ربي الله.
والثالث : أبو بكر الصديق ، وهو أفضلهم".
انتهى.
يقول الفقير : يمكن أن يقال : لا مخالفة بين هاتين الروايتين لما أن المراد تفضيل أبي بكر في الصديقية ، وتفضيل علي في السبق وعدم صدور الكفر عنه ، ولو لحظة فأفضلية كل منهما من جهة أخرى ، ثم إن الروايتين دلتا على كون ذلك الرجل قبطياً ، وأيضاً أن فرعون
176
أصغى إلى كلامه ، واستمع منه ، ولو كان إسرائيلياً لكان عدواً له ، فلم يكن ليصغي إليه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال في "التكملة" : فإن قلت : الآل قد يكون في غير القرابة بدليل قوله تعالى : أ{أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر : 46) ، ولم يرد إلا كل من كان على دينه من ذوي قرابته وغيرهم.
فالجواب : أن هذا الرجل لم يكن من أهل دين فرعون ، وإنما كان مؤمناً ، فإذا لم يكن من أهل دينه ، فلم يبق لوصفه بأنه من آله إلا أن يكون من عشيرته.
انتهى.
وقيل : كان إسرائيلياً ، ابن عم قارون أو أبوه من آل فرعون وأمه من بني إسرائيل فيكون من آل فرعون صلة يكتم وفيه أنه لا مقتضى هنا لتقديم المتعلق وأيضاً أن فرعون كان يعلم أن فرعون كان يعلم إيمان بني إسرائيل ألا ترى إلى قوله : {أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ} (غافر : 25) ، فكيف يمكنهم أن يفعلوا كذلك مع فرعون؟ وقيل : كان عربياً موحداً ينافقهم لأجل المصلحة.
{يَكْتُمُ إِيمَـانَهُ} ؛ أي : يستره ويخفيه من فرعون وملئه لا خوفاً بل ليكون كلامه بمحل من القبول ، وكان قد آمن بعد مجيء موسى أو قبله بمائة سنة وكتمه ، فلما بلغه خبر قصد فرعون بموسى.
قال : {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا} أتقصدون قتله ظلماً بلا دليل.
والاستفهام إنكاري.
{أَن يَقُولَ} ؛ أي : لأن يقول أو كراهة أن يقول : {رَبِّىَ اللَّهُ} وحده لا شريك له ، والحصر مستفاد من تعريف طرفي الجملة مثل صديقي زيد لا غير.
{وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَـاتِ} ؛ أي : والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الظاهرة التي شاهدتموها.
{مِن رَّبِّكُمْ} لم يقل من ربه لأنهم إذا سمعوا أنه جاءهم بالبينات من ربهم دعاهم ذلك إلى التأمل في أمره ، والاعتراف به وترك المكابرة معه ، لأن ما كان من قبل رب الجميع يجب اتباعه وإنصاف مبلغه.
وعن عروة بن الزبير ، قال : قلت لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : حدثني : بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله عليه السلام.
قال : أقبل عقبة بن أبي معيط ورسول الله يصلي عند الكعبة ، أو لقيه في الطواف ، فأخذ بمجامع ردائه عليه السلام ، فلوى ثوبه على عنقه وخنقه خنقاً شديداً.
وقال له : أنت التي تنهانا عما يعبد آباؤنا ، فقال عليه السلام : أنا ذاك ، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه ، فأخذ بمنكبيه عليه السلام ، والتزمه من ورائه ودفعه عن رسول الله.
وقال : أتقتلون رجلاً أن يقول : ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم رافعاً صوته وعيناه تسفحان دمعاً ؛ أي : تجريان حتى أرسلوه.
وفيه بيان أن ما تولى أبو بكر من رسول الله كان أشد مما تولاه الرجل المؤمن من موسى ؛ لأنه كان يظهر إيمانه.
وكان بمجمع طغاة قريش.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/133)
وحكى ابن عطية في "تفسيره" عن أبيه : أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري على المنبر يقول : وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة رضي الله عنهم ، فأطرق قليلاً ثم رفع رأسه ، فقال : ()
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
ماذا ترون من قوم قرنهم الله تعالى بنبيه وخصهم بمشاهدته وتلقي الروح.
وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره فجعله في كتابه ، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر ، وأين هو من عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ جرد سيفه بمكة.
وقال : والله لا أعبد الله سراً بعد اليوم ، فكان ما كان من ظهور الدين بسيفه ثم أخذهم الرجل المؤمن بالاحتجاج من باب الاحتياط بإيراده في صورة الاحتمال من الظن
177
بعد القطع بكون قتله منكراً ، فقال : {وَإِن يَكُ كَـاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} لا يتخطاه وبال كذبه وضرره ، فيحتاح في دفعه إلى قتله ، يعني : أن الكاذب إنما يقتل إذا تعدى ضرر كذبه إلى غيره كالزنديق الذي يدعو الناس والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته.
وهذا لا يقدر على أن يحمل الناس على قبول ما أظهره من الدين لكون طباع الناس آبية عن قبوله ولقدرتكم على منعه من إظهار مقالته ودينه.
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} في قوله : فكذبتموه وقصدتم له بسوء ، {يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ} ؛ أي : إن لم يصبكم كله ، فلا أقل من إصابة بعضه.
وفي بعض ذلك كفاية لهلاكهم ، فذكر البعض ليوجب الكل ، لا أن البعض هو الكل ، وهذا كلام ، وهذا صادر عن غاية الإنصاف وعدم التعصب ، ولذلك قدم من شقي الترديد كونه كاذباً وصرح بإصابة البعض دون الجميع مع أن الرسول صادق في جميع ما يقوله : وإنما الذي يصيب بعض ما يعده دون بعض هم الكهان والمنجمون ، ويجوز أن يكون المعنى : يصيبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا ، وهو بعض ما يعدهم ؛ لأنه كان يتوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة ؛ كأنه خوفهم بما هو ظهر احتمالاً عندهم.
وفي "عين المعاني" : لأنه وعد النجاة بالإيمان والهلاك بالكفر ، وقد يكون البعض بمعنى الكل كما في قوله : ()
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقوله تعالى : {وَلابَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} (الزخرف : 63) ؛ أي : جميعه.
وفي قوله تعالى : {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} (المائدة : 49) ؛ أي : بكلها كما في "كشف الأسرار".
وقال أبو الليث : بعض هنا صلة يريد يصبكم الذي يعدكم.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} ، وهو الذي يتجاوز الحد في المعصية ، أو هو السفاك للدم بغير حق.
{كَذَّابٌ} ، وهو الذي يكذب مرة بعد أخرى.
وقيل : كذاب على الله ؛ لأن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره ، وهو احتجاج آخر ذو وجهين :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
أحدهما : أنه لو كان مسرفاً كذاباً ، لما هداه الله تعالى إلى البينات ، ولما أيده بتلك المعجزات.
وثانيهما : أنه إن كان كذلك خذله الله وأهلكه ، فلا حاجة لكم إلى قتله ، ولعله أراهم وهو عاكف على المعنى الأول لتلين شكيمتهم.
وقد عرض به لفرعون ؛ لأنه مسرف حيث قتل الأبناء بلا جرم كذاب حيث ادعى الألوهية لا يهديه الله سبيل الصواب ومنهاج النجاة ، بل يفضحه ويهدم أمره.
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـانَه أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَـاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَـاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُه وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَـاهِرِينَ فِى الارْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنا بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلا مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يا قَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الاحْزَابِ} .
{قَوْمُ} ؛ أي : كروه من {لَكُمُ الْمُلْكُ} والسلطنة {الْيَوْمَ} : حال كونكم {ظَـاهِرِينَ} غالبين عالين على بني إسرائيل ، والعامل في الحال.
وفي قوله : اليوم ما تعلق به لكم.
{فِى الأرْضِ} ؛ أي : أرض مصر لا يقاومكم أحد في هذا الوقت.
{فَمَن} : (بس كيست كه).
{يَنصُرُنَا مِنا بَأْسِ اللَّهِ} من أخذه وعذابه.
{إِن جَآءَنَا} ؛ أي : فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله ، فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصة ونظم نفسه في سلكهم فيما يسوءهم من مجيء بأس الله تطميناً لقلوبهم وإيذاناً بأنه مناصح لهم ساععٍ في تحصيل ما يجديهم ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه ليتأثروا بنصحه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/134)
{قَالَ فِرْعَوْنُ} : بعدما سمع نصحه إضراباً عن المجادلة.
وبالفارسية : (كفت فرعون مرآن مومن راكه از قتل موسى نهى كرد وجمعى ديكر را كه نزدوى حاضر بودند).
{مَآ أُرِيكُمْ} ؛ أي : ما أشير عليكم.
{إِلا مَآ أَرَى} واستصوبه من قتله قطعاً لمادة الفتنة.
{وَمَآ أَهْدِيكُمْ}
178
بهذا الرأي.
{إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} ؛ أي : الصواب ، فهو من الرأي يقال رأى فيه رأياً اعتقد فيه اعتقاداً وراءيته شاورته.
ولما نقل رأى من الرأي إلى باب أفعل عدي إلى الضمير المنصوب ، ثم استثني استثناء مفرغاً ، فقيل : إلا ما أرى ، ويجوز أن يكون من الرؤية بمعنى العلم.
يقال : رآه بعينه ؛ أي : أبصره ورآه بقلبه ؛ أي : علمه ، فيتعدى إلى مفعولين ثانيهما إلا ما أرى.
والمعنى : لا أعلمكم إلا ما أعلم ولا أسر عنكم خلاف ما أظهره.
ولقد كذب حيث كان مستشعراً للخوف الشديد ، ولكنه كان يظهر الجلادة وعدم المبالاة ولولاه لما استشار أحداً أبداً.
وفي المثنوي : إن استشارة كانت من عادته حتى أنه كان يلين قلبه في بعض الأوقات من تأثير كلام موسى عليه السلام ، فيميل إلى الإيمان ويستشير امرأته آسية ، فتشير عليه بالإيمان ، ومتابعة موسى ويستشير وزيره هامان ، فيصده عن ذلك.
وفي المثنوي :
بس بكفتى تا كنون بودى خديو
بند كردى زنده بوشى را بريو
همجو سنك منجنيقى آمدى
آن سخن برشيشه خانة أوزدى
هر جه صدور ز آن كليم خوش خصاب
ساختى دريكدم أو كردى خراب
عقل تود ستور مغلوب هواست
درو جودت زهزن راه خداست
واى آن شه كه وزير شن اين بود
جاى هردو دوزخ بركين بود
مرهوا را تو وزير خود مساز
كه برارد جان باكت ازنماز
شاد آن شاهى كه اوراد ستكير
باسداندر كارجون آصف وزير
شاه عادل جون قرين اوشود
نام او نور على نور بود
شاه جون فرعون وهامانش وزير
نى خرد يارونى دولت روز عرض
نسأل الله زكاء الروح وصفاء القلب.
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَـاهِرِينَ فِى الارْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنا بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلا مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يا قَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الاحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنا بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ * وَيَـاقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍا وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ} من آل فرعون مخاطباً لقومه واعظاً لهم.
وفي الحديث : "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائز".
وذلك من أجل علة الخوف والقهر ؛ ولأن الجهاد بالحجة والبرهان أكبر من الجهاد بالسيف والسنان.
{قَوْمُ} ؛ أي : كروه من {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم} ، في تكذيب موسى عليه السلام ، والتعرض له بسوء كالقتل والأذى.
{مِّثْلَ يَوْمِ الاحْزَابِ} : مثل أيام الأمم الماضية ، يعني : وقائعهم العظيمة وعقوباتهم الهائلة على طريق ذكر المحل وإرادة الحال فإن قلت : الظاهر أن يقال : مثل أيام الأحزاب إذ لكل حزب يوم على حدة قلت : جمع الأحزاب مع "تفسيره" بالطوائف المختلفة المتباينة الأزمان والأماكن أغنى عن جمع اليوم إذ بذلك ارتفع الالتباس ، وتبين أن المراد : الأيام.
{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} : الدأب : العادة المستمر عليها ، والشأن ومثل بدل من الأول.
والمراد : بالدأب ، واليوم واحد إذ المعنى مثل حال قوم نوح وشأنهم في العذاب.
وبالفارسية : (ما نند حال كروه نوح كه بطوفان هلاك شدند).
{وَعَادٍ} : (وكروه عاد كه بباد صرصر مستأصل كشتند).
{وَثَمُودَ} : (وقوم ثمود كه بيك صيحه مردند).
{وَالَّذِينَ مِنا بَعْدِهِمْ} : (وما نند حال آنانكه از بس ايشان بودند جون أهل مؤتفكه كه شهر ايشان زود بركشت وجون أصحاب أيكه كه بعذاب يوم
179
الظلة كرفتار شدند).
{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} ، فلا يهلكهم قبل ثبوت الحجة عليهم ، ولا يعاقبهم بغير ذنب ، ولا يخلى الظالم منهم بغير انتقام (بس شماهم ظلم مكنيد تا معذب نكرديد).
{إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} .
أصله : يوم التنادي بالياء على أنه مصدر تنادى القوم بعضهم بعضاً تنادياً بضم الدال ، ثم كسر لأجل الياء وحذف الياء حسن في الفواصل ، وهو بالفارسية : (يكديكررا آو ازدادن).
(8/135)
ويوم : نصب على الظرف ؛ أي : من ذلك اليوم لما فيه من العذاب على المصرين والمؤذين ، أو على المفعول به ؛ أي : عذاب يوم التناد حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، فاعرف فإعرابه.
والمراد بيوم التناد يوم القيامة ؛ لأنه ينادي فيه بعضهم بعضاً للاستغاثة كقولهم : فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا.
(وهيج كس بفرياد كس نمى رسد).
أو يتصايحون بالويل والثبور بنحو قولهم : يا ويلنا من بعثنا ، وما لهذا الكتاب ، أو يتنادى أصحاب الجنة وأصحاب النار ، يعني : أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا من الجنة والنعيم المقيم حقاً ، فهل وجدتم ما وعد ربكم من عذاب النار حقاً ، قالوا : نعم ، ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء ، أو مما رزقكم الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال الكاشفي : (يا بعداز ذبح موت ندا كنند كه يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت يا در آنروز منادى ندا كنند كه فلان ينك بخت شدكه هر كزبد بخت نشودو فلان بد بختى كشت كه تا ابد نيك بختى نيابد).
{يَوْمَ تُوَلُّونَ} : بدل من يوم التناد ، يعني : (روزى كه بركردانيده شويد از موقف حساب وبرويد).
{مُدْبِرِينَ} : حال كونكم منصرفين عنه إلى النار ، يعني : (باز كتشكان ازانجا بسوى دوزخ) ، وحال كونكم.
{مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} ؛ أي : ما لكم من عاصم يعصمكم من عذابه تعالى ، ويحفظكم.
{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} : (وهر كرا خدا فرود كذا رد ضلالت).
{فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} : يهديه إلى طريق النجاة.
قاله لما آيس من قبولهم.
وفي الآيات إشارة إلى أن الله تعالى إذا شاء بكمال قدرته إظهاراً لفضله ومنته ، يخرج الحي من الميت كما أخرج من آل فرعون مؤمناً حياً قلبه بالإيمان من بين كفار أموات قلوبهم بالكفر ليتحقق قوله تعالى : {وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاـاهَا} (السجدة : 13) ، وإذا شاء إظهاراً لعزته وجبروته يعمى ويصم الملوك والعقلاء مثل : فرعون وقومه ، لئلا يبصروا آيات الله الظاهرة ، ولا يسمعوا الحجج الباهرة مثل ما نصحهم بها مؤمن آلهم ليتحقق قوله تعالى : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} .
وقوله : {وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى} (السجدة : 13) الآية كما في "التأويلات النجمية".
وأسند الإضلال إلى الله تعالى ؛ لأنه خالق الضلالة ، وإنما الشيطان ونحوه من الوسائط ، فالجاهل يرى القلم مسخر للكاتب والعارف يعلم أنه مسخر في يدهتعالى ؛ لأنه خالق الكاتب والقلم ، وكذا فعل الكاتب.
وفي قوله تعالى : {فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} إشارة إلى أن التوفيق والاختيار للواحد القهار ، فلو كان لآدم لاختار قابيل ، ولو كان لنوح لاختار كنعان ، ولو كان لإبراهيم لاختار آزر ، ولو كان لموسى لاختار فرعون ، ولو كان لمحمد عليه وعليهم السلام لاختار عمه أبا طالب.
يقال : سبعة عام وسبعة في جنبها خاص الأمر عام ، والتوفيق خاص والنهي عام ، والعصمة خاص والدعوة عام ، والهداية خاص ، والموت عام والبشارة خاص ، والحشر يوم القياة عام ، والسعادة خاص ، وورود النار عام ، والنجاة منها خاص ، والتخليق
180
عام ، والاختيار خاص ، يعني ليس كل من خلقه الله اختاره ، بل خاص منه قوماً ، وكذا خلق أموراً وأشياء فخص منها البعض ببعض الخواص ، ثم العجب أن مثل موسى عليه السلام يكون وسط قومه لا يهتدون به ، وذلك لأن صاحب المرة لا يجد حلاوة العسل ، والضرير لا يرى الشمس ، وليس ذلك إلا من سوء المزاج ، وفساد الحال ، وفقدان الاستعداد :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
عنكبوت از طبع عنقا داشتى
از لعا بى خيمه كى افرا شتى
{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍا وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَـاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُم بِه حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنا بَعْدِه رَسُولا كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ أَتَـاـاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُوا كَذَالِكَ} .
ثم قال مؤمن آل فرعون بطريق التوبيخ.
(8/136)
{وَلَقَدْ جَآءَكُمْ} يا أهل مصر {يُوسُفُ} بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام.
{مِن قَبْلُ} ؛ أي : من قبل موسى {بِالْبَيِّنَـاتِ} بالمعجزات الواضحة التي من جملتها تعبير الرؤيا وشهادة الطفل على براءة ذمته ، وقد كان بعث إلى القبط قبل موسى بعد موت الملك.
وكان فرعون هو فرعون موسى عاش إلى زمانه.
وذلك لأن فرعون موسى عمر أكثر من أربعمائة سنة ، وكان بين إبراهيم وموسى تسعمائة سنة على ما رواه ابن قتيبة في كتاب "المعارف" ، فيجوز أن يكون بين يوسف وموسى مدة عمر فرعون تقريباً ، فيكون الخطاب لفرعون وجمع لأن المجيء إليه بمنزلة المجيء إلى قومه ، وإلا فأهل عصر موسى لم يروا يوسف بن يعقوب.
والأظهر على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد وتوبيخ المعاصرين بحال الماضين ؛ أي : ولقد جاء أيها القبط آباءكم الأقدمين.
وهذا كما قال الله تعالى : {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنابِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ} (البقرة : 91) ، وإنما أراد به آباءهم ؛ لأنهم هم القاتلون ، ثم لا يلزم من هذا أن يكون فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف على ما ذهب إليه البعض.
وقيل : المراد يوسف بن إفرائيم بن يوسف الصديق أقام نبياً عشرين سنة.
{فَمَا زِلْتُمْ} من زال ضد ثبت ؛ أي : دمتم.
{فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُم بِهِ} من الدين الحق.
{حَتَّى إِذَا هَلَكَ} بالموت ، يعني : (تا آنكاه كه بمرد).
{قُلْتُمْ} : ضماً إلى تكذيب رسالته ، تكذيب رسالة من بعده.
{لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنا بَعْدِه رَسُولا} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقال الكاشفي : (جون سخن اين رسول نشنيديم ديكرى نخو اهد آمد از ترس آنكه در قول او تردد كنيم).
وفي الآية إشارة إلى أن في الإنسان ظلومية وجهولية لو خلي وطبعه لا يؤمن بنبي من أنبيائه ولا بمعجزاتهم أنها آيات الحق تعالى ، وهذه طبيعة المتقدمين والمتأخرين منهم ، وإنما المهتدي من يهديه الله بفضله وكرمه ومن إنكارهم الطبيعي أنهم ما آمنوا بنبوة يوسف ، فلما هلك أنكروا أن يكون بعده رسول الله ، وذلك من زيادة شقاوة الكافرين ، كما أن من كمال سعادة المؤمنين أن يؤمنوا بالأنبياء قبل نبيهم.
{كَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الإضلال الفظيع.
{يُضِلُّ اللَّهُ} : (كمراه سازد خداى تعالى در بوادى طغيان).
{مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} في عصيانه.
{مُّرْتَابٌ} : في دينه ، شاكّ في معجزات أنبيائه لغلبة الوهم والتقليد.
{الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ} بدل من الموصول الأول ؛ لأنه بمعنى الجمع إذ لا يريد مسرفاً واحداً ، بل كل مسرف.
والمراد بالمجادلة رد الآيات.
والطعن فيها {بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ} متعلق بيجادلون ؛ أي : بغير حجة وبرهان صالحة للتمسك بها في الجملة.
{أَتَـاـاهُمْ} صفة سلطان {كِبْرٌ} عظم من هو مسرف مرتاب ، أو الجدال.
{مَقْتًا} ؛ أي : من جهة البغض الشديد والنفور القوي {عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} .
قال ابن عباس رضي الله عنه : بمقتهم الذين آمنوا بذلك الجدال.
{كَذَالِكَ} ؛ أي : مثل ذلك الطبع الفظيع.
{يَطْبَعُ اللَّهُ} : (مهر
181
مى نهد خداى تعالى واز هدى محجوب ميكند).
{عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} : (برهردل شخص متكبر كه سر كش انداز فرمان بردارى خو دكامه كه خودرا ازديكران بر ترداننده).
فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والمجادلة بالباطل.
قال الراغب : الجبار في صفة الإنسان.
يقال : لمن جبر نقيصته ؛ أي : أصلحها بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها.
وهذا لا يقال إلا على طريقة الدم ويسمى السلطان جبار لقهره الناس على ما يريده ، أو لإصلاح أمورهم ، فالجبر تارة ، يقال في الإصلاح المجرد وتارة في القهر المجرد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقال أبو الليث : على قلب كل متكبر جبار ومثله في "كشف الأسرار" حيث.
قال بالفارسية : (بردل هر كردن كشى).
فقوله : قلب بغير تنوين بإضافته إلى متكبر ؛ لأن المتكبر هو الإنسان.
وقرأ بعضهم بالتنوين بنسبة الكبر إلى القلب على أن المراد صاحبه ؛ لأنه متى تكبر القلب تكبر صاحبه ، وبالعكس والخبر زنا العينين النظر يعني زنا صاحبهما.
قال في "الكواشي" ، وكل على القراءتين لعموم الطبع جميع القلب لا لعموم جميع القلوب.
يقول الفقير : اعلم أن الطابع هو الله تعالى ، والمطبوع هو القلب وسبب الطبع هو التكبر والجبارية وحكمه أن لا يخرج من القلب ما فيه من الكفر والنفاق والزيغ والضلال ، فلا يدخل فيه ما في الخارج من الإيمان والإخلاص والسداد والهدي ، وهو أعظم عقوبة من الله عليه ، فعلى العاقل أن يتشبث بالأسباب المؤدية إلى شرح الصدر لا إلى طبع القلب.
قال إبراهيم الخواص قدس سره : دواء القلب خمسة : قراءة القرآن بالتدبر وخلاء البطن وقيام الليل ، والتضرع إلى الله عند السحر ، ومجالسة الصالحين.
(8/137)
وقال الحسن البصري : حادثوا هذه القلوب بذكر الله ، فإنها سريعة الدثور ، وهو بالفارسية : (زنك أفكندن كارد وشمشير والمحادثة بزدودن).
وهذا بالنسبة إلى القلب القابل للمحادثة إذ رب قلب لا يقبل ذلك :
آهنى راكه موريانه بخورد
نتوان برد ازو بصبقل زنك
باسيه دل جه سود كفتن وعظ
نرود ميخ آهنين درسنك
وفي الحديث : "إني ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة".
وقد تكلموا في تأويله عن الجنيد البغدادي قدس سره أن العبد ، قد ينتقل من حال إلى أرفع منها.
وقد يبقى من الأولى بقية يشرف عليها من الثانية ، فيصححها.
ويقال : بين العبد والحق ألف مقام أو مائة من نور وظلمة ، فعلى هذا كان عليه السلام ، كلما جاز عن مقام استغفر ، فهو يقطع جميع الحجب كل يوم ، وذلك يدل على نهاية بلوغه إلى حد الكمال وجلالة قدره عند الملك المتعال.
يقول الفقير : لعل الغين إشارة إلى لباس البشرية والماهية الإمكانية الساتر للقلب عن شهود حضرة الأحدية ، ولما كان عليه السلام بحيث يحصل له الانكشاف العظيم كل يوم من مائة مرتبة.
وهي مراتب الأسماء الحسنى بأحديتها لم يكن على قلبه اللطيف غين أصلاً.
وأشار بالاستغفار إلى مرتبة التبديل ؛ أي : تبديل الغين بالمعجمة عيناً بالمهملة والعلم شهوداً ، فصار المقام بحيث كان له غين فأزاله بالاستغفار إرشاداً للأمة ، وإلا فلا غين في هذا المقام.
والاستغفار : وإن وهمه العامي قليل الاستبصار.
وفي الآية ذم للمتكبر والجبار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقال عليه السلام : "يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صورة الذر يطأهم الناس لهوانهم على الله ، وذلك لأن الصورة المناسبة لحال المتكبر الجبار صورة الذر ، كما لا يخفى على أهل القلب".
182
{الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ أَتَـاـاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُوا كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا هَـامَـانُ ابْنِ لِى صَرْحًا لَّعَلِّى أَبْلُغُ الاسْبَـابَ * أَسْبَـابَ السَّمَـاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـاهِ مُوسَى وَإِنِّى لاظُنُّه كَـاذِبًا وَكَذَالِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُواءُ عَمَلِه وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِا وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِى تَبَابٍ} .
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} لوزيره قصداً إلى صعود السماوات لغاية تكبره وتجبره.
قال الكاشفي : (بس در اثناى مواعظ خربيل فرعون انديشه كردكه ناكاه سخن در مستمعان اثر نكند وزير خود را طلبيد وخودرا ومردم يجيز ديكر مشغول كردانيد).
يا هَـامَـانُ} : قال في "كشف الأسرار" : كان هامان وزير فرعون ، ولم يكن من القبط ، ولا من بني إسرائيل.
يقال : إنه لم يغرق مع فرعون وعاش بعده زماناً شقياً محزوناً يتكفف الناس.
{ابْنِ} أمر من بنى يبني ، يعني : بنا كن {لِى} : (براى من).
{صَرْحًا} ؛ أي : بناء مكشوفاً ظاهراً على الناظر عالياً مشيداً بالآجر ، كما قال في القصص : {فَأَوْقِدْ لِى يا هَـامَـانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّى صَرْحًا} (القصص : 38) ، ولهذا كره الآجر في القبور كما في "عين المعاني" ؛ أي لأن فرعون أول من اتخذه وهو من صرح الشيء بالتشديد إذا ظهر ، فإنه يكون لازماً أيضاً.
{لَّعَلِّى} : (شايدكه).
من {أَبْلُغُ} : (برسم وصعود مينكم).
{الاسْبَـابَ} ؛ أي : الطرق.
{أَسْبَـابَ السَّمَـاوَاتِ} بيان لها ، يعني : (راهها از آسمانى بآسمانى).
وفي إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامع إلى معرفتها.
{فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـاهِ مُوسَى} بقطع الهمزة ونصب العين على جواب الترجي ؛ أي : أنظر إليه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال في "تاج المصادر" : الاطلاع ديده ورشدن.
وفي "عين المعاني" : الاستعلاء على شيء لرؤيته.
{وَإِنِّى لاظُنُّهُ} ؛ أي : موسى.
{كَـاذِبًا} فيما يدعيه من الرسالة.
يقول الفقير : لم يقل كذاباً كما قال عند إرساله إليه ؛ لأن القائل هنا هو فرعون وحده ، وحيث قال : كذاب.
رجع المبالغة إلى فرعون وهارون وقارون ، فافهم.
(8/138)
اعلم أن أكثر المفسرين حملوا هذا الكلام على ظاهره ، وذكروا في كيفية بناء ذلك الصرح حكاية سبقت في القصص.
وقال بعضهم : إن هذا بعيد جداً من حيث أن فرعون إن كان مجنوناً لم يجز حكاية كلامه ولا إرسال رسول يدعوه ، وإن كان عاقلاً ، فكل عاقل يعلم بديهة أنه ليس في قوة البشر وضع بناء أرفع من الجبل ، وأنه لا يتفاوت في البصر حال السماء بين أن ينظر من أسفل الجبل ، ومن أعلاه ، فامتنع إسناده إلى فرعون ، فذكروا لهذا الكلام توجهين يقربان من العقل الأول ، وأنه أراد أن يبني له هامان رصداً في موضع عال ليرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية ، فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله إياه ، والثاني : أن يرى فساد قول موسى عليه السلام ؛ بأن إخباره من إله السماء ، ويتوقف على اطلاعه عليه ووصوله إليه ، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود إلى السماء ، وهو مما لا يقوى عليه الإنسان ، وإن كان أقدر أهل الأرض كالملوك ، فإذا لم يكن طريق إلى رؤيته وإحساسه وجب نفيه وتكذيب من ادعى أنه رسول من قبله ، وهو موسى فعلى هذا التوجيه الثاني يكون فرعون من الدهرية الزنادقة ، وشبهته فاسدة ؛ لأنه لا يلزم من امتناع كون الحس طريقاً إلى معرفة الله امتناع معرفته مطلقاً ، إذ يجوز أن يعرف بطريق النظر والاستدلال بالآثار ، كما قال ربكم : آبائكم الأولين.
وقال : رب المشرق والمغرب وما بينهما ، ولكمال جهل اللعين بالله ، وكيفية استنبائه أورد الوهم المزخرف في صورة الدليل.
وقال الكلبي : اشتغل فرعون بموسى ، ولم يتفرغ لبنائه.
وقال بعضهم : قال فرعون : ذلك تمويهاً.
وبعضهم قال : لغلبة جهله.
والظاهر أن الله تعالى إذا شاء يعمي ويصم من شاء فخلى فرعون ونفسه ليتفرغ لبناء الصرح ليرى منه آية
183
أخرى له ، وتتأكد العقوبة ، وذلك لأن الله تعالى هدمه بعد بنائه على ما سبق في القصص ، وأيضاً هذا من مقتضى التكبر والتجبر الذي نقل عنه ، كما مثله عن بخت نصر ؛ فإنه أيضاً لغاية عتوه واستكباره ، بنى صرحاً ببابل على ما سبقت قصته ، وأيضاً : كيف يكون من الدهرية والمنقول المتواتر عنه أنه كان يتضرع إلى الله تعالى في خلوته لحصول مهامه ، ومن الله الفهم والعناية ، ويدل على ما ذكرنا أيضاً ، قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ} ؛ أي : ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط.
{زُيِّنَ} : (آرايش داده شد).
{لِفِرْعَوْنَ سُواءُ عَمَلِهِ} ؛ أي : عمله السيِّىء ، فانهمك فيه انهماكاً لا يرعوي عنه بحال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{وَصُدَّ} : صرف ومنع.
{عَنِ السَّبِيلِ} ؛ أي : سبيل الرشاد ، والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى ، وبالتوسط هو الشيطان.
ولذا قال : زين لهم الشيطان أعمالهم ، وهذا عند أهل السنة.
وأما عند المعتزلة ، فالمزين والصاد هو الشيطان.
{وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ} : (ونبود مكر فرعون درساختن قصر ودر ابطال آيات).
{إِلا فِى تَبَابٍ} ؛ أي : خسار وهلاك.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن من ظن أن الله سبحانه وتعالى في السماء كما ظن فرعون ؛ فإنه فرعون وقته ولو لم يكن من المضاهاة بين من يعتقد أن الله سبحانه في السماء ، وبين الكافر إلاهذا لكفى به في زيغ مذهبه ، وغلط اعتقاده ؛ فإن فرعون غلط إذ توهم أن الله في السماء ، ولو كان في السماء لكان فرعون مصيباً في طلبه من السماء.
وقوله : وكذلك.
إلخ.
يدل على أن اعتقاده بأن الله في السماء خطأ ، وأنه بذلك مصدود عن سبيل الله ، وما كيد فرعون في طلب الله من السماء إلا في تباب ؛ أي : خسران وضلال.
انتهى.
وعن النبي عليه السلام : "أن الله تعالى احتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار ، وأن الملأ إلا على يطلبونه كما تطلبونه أنتم" ، يعني : لو كان في السماء لما طلبه أهل السماء ، ولو كان في الأرض لما طلبه أهل الأرض ، فإذا هوالآن على ما كان عليه قبل من التنزه عن المكان ، وفي "هدية المهديين" : إذا قال الله في السماء وأراد به المكان يكفر اتفاقاً ؛ لأنه ظاهر في التجسم ، وإن لم يكن له نية يكفر عند أكثرهم ، وإن أراد به الحكاية عن ظاهر الإخبار لا يكفر ، وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه : أنه قال : أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله إن جارية لي كانت ترعى غنماً لي فجئتها ، وفقدت شاة من الغنم فسألتها عنها ، فقالت : أكلها الذئب ، فأسفت عليها ، وكنت من بني آدم فلطمتها ؛ أي : على وجهها وعلى رقبتها ، أفأعتقها عنها ، فقال لها رسول الله : "أين الله؟" ، فقالت : في السماء ، فقال : "من أنا؟" ، فقالت : أنت رسول الله ، فقال عليه السلام : "أعتقها فإنها مؤمنة".
(8/139)
اعلم أنه قد دل الدليلي العقلي على استحالة حصر الحق في أينية ، والشارع لما علم أن الجارية المذكورة ليس في قوتها أن تتعقل موجدها إلا على تصوير في نفسها خاطبها بذلك ، ولو أنه خاطبها بغير ما تصورته في نفسها لارتفعت الفائدة المطلوبة ، ولم يحصل القبول فكان من حكمته عليه السلام ؛ أن سأل مثل هذه الجارية بمثل هذا السؤال ، وبمثل هذه العبارة ، ولذلك لما أشارت إلى السماء.
قال فيها : "إنها مؤمنة" يعني : مصدقة بوجود الله تعالى ، ولم يقل أنها عالمة ؛ لأنها صدقت قول الله ، وهو الله في السماوات ، ولو كانت عالمة لم تقيده بالسماء ، فعلم أن للعالم أن يصحب الجاهل في جهله تنزلاً لعقله ، والجاهل لا يقدر على صحبته العالم بغير تنزل.
كذا في "الفتوحات
184
المكية".
وفيه أيضاً : أنه لا يلزم من الإيمان بالفوقية الجهة ، فقد ثبتت ، فانظر ماذا ترى وكن أهل السنة من الورى.
انتهى.
وفي المثنوي :
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قرب نى بالانه يستى رفتن است
قرب حق از حبس هستى رستن است
نيست راجه جاى بالا است وزير
نيست را زود ونه دورست ونه دير
يقول الفقير : يعرف من هذا الكلام أن وجود الأشياء وماهياتها الممكنة اعتباري.
والاعتباري لا وجود له حقيقة ، وإنما يقوم بوجود الله تعالى لقيام الظل بذي الظل ، فإذا كان وجود الموجودات في حكم العدم ، فما معنى كون وجود الله تعالى متقيداً بالعدم ؛ بأن يظهر في أينية مخصوصة دون غيرها سبحانه ، فافهم.
{أَسْبَـابَ السَّمَـاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـاهِ مُوسَى وَإِنِّى لاظُنُّه كَـاذِبًا وَكَذَالِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُواءُ عَمَلِه وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِا وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِى تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يا قَوْمِ إِنَّمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا مَتَـاعٌ وَإِنَّ الاخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ} .
{وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ} ؛ أي : مؤمن آل فرعون.
يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ} فيما دللتكم عليه أصله يا قومي اتبعوني.
{أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ؛ أي : سبيلاً يصل سالكه إلى المقصود والرشد والرشاد الاهتداء لمصالح الدين والدنيا.
وفيه تعريض بأن ما يسلكه فرعون وقومه سبيل الغي والضلال.
وفيه إشارة إلى أن الهداية مودعة في اتباع الأنبياء والأولياء وللولي أن يهدي سبيل الرشاد بتبعية النبي عليه السلام كما يهدي النبي إليه ، ومن الهداية قوله : يا قَوْمِ إِنَّمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا مَتَـاعٌ} : اسم بمعنى المتعة ، وهي التمتع والانتفاع لا بمعنى السلعة ؛ لأن وقوعه خبراً عن الحياة الدنيا يمنع منه ؛ أي : تمتع يسير ، وانتفاع قليل لسرعة زوالها ؛ لأن الدنيا بأسرها ساعة ، فكيف عمر إنسان واحد.
وبالفارسية : (بساط عيش او باندك فرصتى در نور دند ونامة معاشرت أورا رقم ابطال درسر كشند) :
بباغ دهر كه بس تازه رنك وخوش بويست
مباش غره كه رنج خزان زبى دارد
زمان زمان بد مدريح نكبت وادبار
جه رنك وبوكه نشانى ازان نكذارد
قال محمد بن علي الترمذي قدس سره : لم تزل الدنيا مذمومة في الأمم السالفة عند العقلاء منهم ، وطالبوها مهانين عند الحكماء الماضية ، وما قام داع في أمة إلا حذر متابعة الدنيا وجمعها والحب لها ، ألا ترى إلى مؤمن آل فرعون كيف قال : اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ؛ كأنهم قالوا : وما سبيل الرشاد ، قال : إنما هذه.
إلخ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
يعني : لن تصل إلى سبيل الرشاد ، وفي قلبك محبة للدنيا وطلب لها.
{وَإِنَّ الاخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ} .
لخلودها ودوام ما فيها فالدائم خير من المنقضي.
قال بعض العارفين : لو كانت الدنيا ذهباً فانياً ، والآخرة خزفاً باقياً ، لكانب الآخرة خيراً من الدنيا ، فكيف والدنيا خزف فاننٍ ، والآخرة ذهب باققٍ.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نام على حصير ، فقام وقد أثر في جسده ، فقال ابن مسعود رضي الله عنه : يا رسول الله لو أمرتنا أن نبسط لك لنفعل ، فقال : ما لي وللدنيا وأنا لنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي عليه السلام.
قال : "يا بني أكثر ذكر الموت ، فإنك إذا أكثرت ذكر الموت زهدت في الدنيا ، ورغبت في الآخرة ، وإن الآخرة دار قرار والدنيا غرارة ، والمغرور من اغتر بها" :
تو غافل در انديشة سود مال
كه سرماية عمر شد بايمال
جه خوش كفت باكودك آموزكار
كه كارى نكرديم وشد روزكار
185
(8/140)
يا قَوْمِ إِنَّمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا مَتَـاعٌ وَإِنَّ الاخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَـالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَـاقَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَواةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ} .
{مِنْ} : (هر كه).
{عَمِلَ} في الدنيا {سَيِّئَةً} : (كردارى بد).
{فَلا يُجْزَى} في الآخرة {إِلا مِثْلَهَا} عدلاً من الله سبحانه ، فخلود الكافر في النار مثل لكفره ، ولو ساعة لأبدية اعتقاده.
وأما المؤمن الفاسق ، فعقابه منقطع إذ ليس على عزم أن يبقى مصراً على المعصية.
وفي الآية دليل على أن الجنايات سواء كانت في النفوس أو الأعضاء أو الأموال تغرم بأمثالها ، والزائد على الأمثال غير مشروع.
{وَمَنْ عَمِلَ صَـالِحًا} ، وهو ما طلب به رضا الله تعالى ؛ أي عمل كان من الأعمال المشروعة.
{مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} ذكرهما ترغيباً لهما في الصالحات.
{وَهُوَ} ؛ أي : والحال أنه {مُؤْمِنٌ} بالله واليوم الآخر جعل العمل عمدة ، والإيمان حالاً للإيذان ؛ بأنه لا عبرة بالعمل بدون الإيمان إذ الأحوال مشروطة على ما تقرر في علم الأصول.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
فأولئك الذين عملوا ذلك {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا} : (روزى داده شو نداز فواكه با كيزه ومطاعم لذيذه).
{بِغَيْرِ حِسَابٍ} ؛ أي : بغير تقدير وموازنة بالعمل بل أضعافاً مضاعفة فضلاً من الله ورحمة.
وفي "التأويلات النجمية" : بغير حساب ؛ أي : مما لم يكن في حساب العبد أن يرزق مثله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : أخبرني رسول الله عليه السلام : أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ؛ أي : بأعمالهم الفاضلة ، ثم يؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا ، فيبرزون ويبرز لهم عرشه ، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ، فتوضع لهم منابر من نور ، ومنابر من لؤلؤ ، ومنابر من ياقوت ، ومنابر من زبرجد ، ومنابر من ذهب ، ومنابر من فضة ، ويجلس أدناهم ، وما هو دني على كثبان المسك والكافور ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلساً.
قال أبو هريرة رضي الله عنه ، قلت : يا رسول الله ، وهل يرى ربنا؟ قال : "نعم ، هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر" ، قلت : لا ، قال : كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم تبارك وتعالى ، ولا يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاضره الله محاضرة حتى يقول للرجل منهم : يا فلان بن فلان : أتذكر يوم قلت كذا وكذا ، فيذكره بعض عثراته في الدنيا ، فيقول : أو لم تغفر لي ، فيقول : بلى.
فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه ، فبينما هم على ذلك إذ غشيهم سحابة ، فأمطرت عليهم طيباً ، لم يجدوا مثل ريحه قط.
ويقول : ربنا قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة ، فخذوا ما اشتهيتم فنأتي سوقاً قد حفت بالملائكة ، لم تنظر العيون إلى مثلها ، ولم تسمع الأذان ، ولم يخطر على القلوب ، فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيها ولايشترى.
وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضاً.
قال : فيقبل الرجل ذو المنة المرتفعة ، فيلقى من هو دونه ، وما فيهم دني فيروعه ما عليه من اللباس ، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل عليه ما هو أحسن منه.
وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ، ثم ينصرف إلى منازلنا ، فيتلقانا أزواجنا ، فيقلن مرحباً وأهلاً ، لقد جئت وإن ربك من الجمال ما هو أفضل مما فارقتنا عليه ، فيقول : إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار ، ويحق لنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا".
{وَيَـاقَوْمِ} : قال الكاشفي : (آل فرعون از سختان خربيل فهم كردند كه ايما آورده است زبان ملامت بكشادندكه شرم ندارى كه از برستش فرعون روى بعبادت ديكرى مى آرى خربيل تكرار ندا كرداز روى تنبيه تا شايد از خواب غفلت بيدار شوند بس
186
كفت اى كروه من).
{مَا لِى} : الاستفهام للتوبيخ.
{وَيَـاقَوْمِ مَا لِى} من النار بالتوحيد.
{وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ} بالإشراك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قوله : أدعوكم في موضع الحال من المنوي في الخبر وتدعونني عطف عليه ومدار التعجب دعوتهم إياه إلى النار لا دعوته إياهم إلى النجاة ؛ كأنه قيل : أخبروني كيف هذا الحال أدعوكم إلى الخير ، وتدعونني إلى الشر ، وقد جعله بعضهم من قبيل ما لي أراك حزيناً ؛ أي : ما لك تكون حزيناً ، فيكون المعنى : ما لكم أدعوكم.
إلخ.
{وَيَـاقَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَواةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِى لاكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِه مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّـارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَه دَعْوَةٌ فِى} .
(8/141)
{تَدْعُونَنِى لاكْفُرَ بِاللَّهِ} بدل والدعاء كالهداية بإلى ، واللام.
{وَأُشْرِكَ بِه مَا لَيْسَ لِى بِهِ} ؛ أي : بشركته له تعالى في المعبودية.
{عِلْمٌ} .
والمراد : نفي المعلوم ، وهو ربوبية ما يزعمون إياه شريكاً بطريق الكناية ، وهو من باب نفي الشيء بنفي لازمه ، وفيه إشعار ، بأن الألوهية لا بد لها من برهان موجب للعلم بها.
{وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ} الذي لم يكن له كفواً أحد ، وأما المخلوقات ، فبعضها أكفاء بعض.
وأيضاً : إلى القادر على تعذيب المشركين.
{الْغَفَّـارِ} لمن تاب ورجع إليه القادر على غفران المذنبين.
{لا جَرَمَ} : (هر آينه).
قاله الكاشفي ، وقال غيره كلمة لا رد لما دعوه إليه من الكفر والإشراك وجرم فعل ماض بمعنى حق وفاعله قوله تعالى : {أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} ؛ أي : إلى عبادته وإشراكه.
{لَيْسَ لَه دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلا فِى الاخِرَةِ} ؛ أي : حق ووجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادة نفسها أصلاً ، ومن حق المعبود أن يدعو الناس إلى عبادته بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب.
وهذا الشأن منتف عن الأصنام بالكلية ؛ لأنها في الدنيا جمادات لا تستطيع دعاء غيرها.
وفي الآخرة إذا أنشأها الله حيواناً ناطقاً تبرأ من عبدتها ، أو المعنى حق وثبت عدم استجابة دعوة لها ؛ أي : ليس لها استجابة دعوة لا في الدنيا بالبقاء ، والصحة والغنى ونحوها ، ولا في الآخرة بالنجاة ورفعة الدرجات وغيرهما ، كما قال تعالى : {إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} () ، فكيف تكون الأصنام رباً ، وليس لها قدرة على إجابة دعاء الداعين ، ومن شأن الرب استجابة الدعوات وقضاء الحاجات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وقيل : جرم بمعنى كسب وفاعله مستكن فيه ؛ أي : كسب ذلك الدعاء إلى الكفر والإشراك بطلان دعوته ؛ أي : بطلان دعوة المدعو إليه بمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته ؛ كأنه قيل : أنكم تزعمون أن دعاءكم إلى الإشراك يبعثني على الإقبال عليه ، وأنه سبب الإعراض وظهور بطلانه.
وقيل : جرم فعل من الجرم ، وهو القطع كما أن بد من لا بد فعل من التبديد.
والمعنى : لا قطع لبطلان ألوهية الأصنام ؛ أي : لا ينقطع في وقت ما فينقلب حقاً ، فيكون جرم اسم لا مبنياً على الفتح لا فعلاً ماضياً ، كما هو على الوجهين الأولين.
وفي "القاموس" : لا جرم ؛ أي : لا بد أو حقاً أو لا محالة ، أو هذا أصله ، ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم ، فذلك يجاب عنه باللام.
يقال : لا جرم لآتينك.
{وَأَنَّ مَرَدَّنَآ} مرجعنا {إِلَى اللَّهِ} ؛ أي : بالموت ومفارقة الأرواح.
(الأجساد ومارا جزا خواهد داد) ، وهو عطف على أن ما تدعونني داخل في حكمه ، وكذا قوله تعالى : {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ} ؛ أي : في الضلال والطغيان كالإشراك وسفك الدماء.
{هُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ} ؛ أي : ملازموها.
{لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَه دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلا فِى الاخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّه إِنَّ اللَّهَ بَصِيرُا بِالْعِبَادِ * فَوَقَـاـاهُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِـاَالِ فِرْعَوْنَ سُواءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} .
{فَسَتَذْكُرُونَ} ؛ أي : فسيذكر بعضكم بعضاً عند معاينة العذاب.
{مَآ أَقُولُ لَكُمْ} من النصائح ، ولكن لا ينفعكم الذكر حينئذ.
187
{وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ} : أرده إليه ليعصمني من كل سوء قاله لما أنهم كانوا توعدوه بالقتل.
قال في "القاموس" : فوض إليه الأمر رده إليه ، انتهى.
وحقيقة التفويض تعطيل الإرادة في تدبير الله تعالى كما في "عين المعاني" ، وكمال التفويض أن لا يرى لنفسه ولا للخلق جميعاً قدرة على النفع والضر ، كما في "عرائس البقلي".
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال بعضهم : التفويض قبل نزول القضاء والتسليم بعد نزوله.
{إِنَّ اللَّهَ بَصِيرُا بِالْعِبَادِ} يعلم المحق من المبطل ، فيحرس من يلوذ به من المكاره ، ويتوكل عليه.
وفي "كشف الأسرار" : معنى تفويض : (كار باخداوندكار كذا شتن اسن درسه جيز دردين ودر قسم ودر حساب خلق اما تفويض دردين آنست كه بتكلف خود در هرجه الله ساخته نياميزى وجنانكه ساخته وى ميكردد با آن ميسازى وتفويض در قسم آنست كه بهانة دعا باحكم او معارضه نكنى وباستقصاى طلب تعيين خودرا متهم نكنى وتفويض در حساب آنست كه اكر ايشانرا بدى بينى آنرا شقاوت نشمرى وبترسى واكر برنيكى بينى آنرا سعادت نشمرى واميد دارى وبر ظاهر هر كس فرو آيى وبصدق ايشانرا مطالبت نكنى).
(8/142)
ويقرب من هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : "إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في العبادة والآخر كان يقول : مذنب ، فجعل المجتهد يقول : أقصر أقصر ، عن ما أنت فيه.
قال : فيقول : خلني وربي ، فإنما على ذنب استعظمه ، فقال : أقصر ، فقال : خلني وربي أبعثت علي رقيباً ، فقال : والله لا يغفر الله لك أبداً ، ولا يدخلك الجنة أبداً.
قال : فبعث الله إليهما ملكاً ، فقبض أرواحهما ، فاجتمعا عنده ، فقال للمذنب : ادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي ، فقال : لا يا رب.
قال : اذهبوا به إلى النار".
قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت بدنياه وآخرته.
ودلت الآية على أن الله تعالى مطلع على العباد وأحوالهم ، فلا بد من تصحيح الحال ، ومراقبة الأحوال.
روي أن ابن مسعود رضي الله عنه : خرج مع بعض الأصحاب رضي الله عنهم إلى الصحراء ، فطبخوا الطعام ، فلما تهيؤوا للأكل رأوا هنالك راعياً يرعى أغناماً ، فدعوه إلى الطعام ، فقال الراعي : كلوا أنتم ، فإني صائم ، فقالوا له بطريق التجربة : كيف تصوم في مثل هذا اليوم الشديد الحرارة ، فقال لهم : إن نار جهنم أشد حراً منه ، فأعجبهم كلامه ، فقالوا له : بع لنا غنماً من هذه الأغنام نعطك ثمنه مع حصة من لحمه ، فقال لهم : هذه الأغنام ليست لي ، وإنما هي لسيدي ومالكي ، فكيف أبيع لكم مال الغير ، فقالوا له : قل لسيدك إنه أكله الذئب أو ضاع.
فقال الراعي : أين الله ، فأعجبهم كلامه زيادة الإعجاب ، ثم لما عادوا إلى المدينة اشتراه ابن مسعود مع مالكه مع الأغنام ، فأعتقه ووهب الأغنام له ، فكان ابن مسعود يقول له في بعض الأحيان بطريق الملاطفة : أين الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وروي : أن نبياً من الأنبياء كان يتعبد في جبل ، وكان في قربه عين جارية ، فجاز بها فارس وشرب منها ونسي عندها صرة فيها ألف دينار ، فجاء آخر فأخذ الصرة ، ثم جاء رجل فقير على ظهره حزمة حطب ، فشرب واستلقى ليستريح فرجع الفارس لطلب الصرة ، فلم يرها ، فأخذ الفقير ، فطلبها منه ، فلم يجدها عنده ، فعذبه حتى قتله ، فقال ذلك النبي : إلهي ما هذا أخذ الصرة ، بل أخذها ظالم آخر وسلطت هذا الظالم عليه حتى قتله ، فأوحى الله تعالى
188
إليه أن اشتغل بعبادتك ، فليس معرفة مثل هذا من شأنك ، إن هذا الفقير قد قتل أبا الفارس ، فمكنته من القصاص ، وإن أبا الفارس قد كان أخذ ألف دينار من مال آخذ الصرة ، فرددته إليه من تركته.
ذكره الغزالي رحمه الله.
قال الحافظ :
دركاه خانة كه ره عقل وفضل نيست
فهم ضعيف وراى فضولي جرا كنند
{فَوَقَـاـاهُ اللَّهُ} : (آورده اندكه فرعون فرمود تاخربيل رابكشندوى كريخته روى بكو هى نهاد وبنماز مشغول شد حق سبحانه تعالى لشكر سباع را برانكيخت تابكر دوى در آمده آغازبا سبانى كردند نتيجة تفويض بزودى دروى رسيد).
يعني : فوض أمره إلى الله فكفاه الله (در كشف الأسرار آمده كه فرعون از خواص خود جمعى را از عقب او فر ستاد جون بوى رسيدند ونمازوى ونكهبانى سباع مشاهده كرده بترسيدند ونزد فرعون آمده صورت حال باز كفتند همه راسياست كرد تا ان سخن فاش نكردد).
قال بعضهم : منهم من أكلته السباع ، ومنهم من رجع إلى فرعون ، فاتهمه وصلبه ، فأخبر الله عن الحال خربيل بقوله : فوقاه الله ؛ أي : حفظه من {سَيِّـاَاتِ مَا مَكَرُوا} : شدائد مكرهم وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم.
وبالفارسية : (بس نكاه داشت اوراخداى از بديهاى آنجه اند يشيد ند درراه او).
وقيل : نجا خربيل مع موسى عليه السلام.
{وَحَاقَ} نزل وأصاب {فَوَقَـاـاهُ اللَّهُ} ؛ أي : بفرعون وقومه ، وعدم التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره ضرورة أنه أولى منهم بذلك من حيث كونه متبوعاً لهم ورئيساً ضالاً مضلاً.
{سُواءُ الْعَذَابِ} ؛ أي : الغرق.
وهذا في الدنيا ثم بيّن عذابهم في البرزخ بقوله :
{النَّارُ يُعْرَضُونَ} ؛ أي : فرعون وآله.
{عَلَيْهَا} ؛ أي : على النار.
ومعنى عرضهم على النار إحراق أرواحهم وتعذيبهم بها من قولهم عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال في "القاموس" : عرض القوم على السيف قتلهم وعلى السوط ضربهم.
{غُدُوًّا وَعَشِيًّا} ؛ أي : في أول النهار وآخره.
وذكر الوقتين إما للتخصيص ، وإما فيما بينهما ، فالله تعالى أعلم بحالهم.
إما أن يعذبوا بجنس آخر ، أو ينفس عنهم ، وإما للتأبيد كما في قوله تعالى : {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (مريم : 62) ؛ أي : على الدوام.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النار مرتين ، فيقال : يا آل فرعون هذه داركم.
(8/143)
قال ابن الشيخ في "حواشيه" هذا يؤذن بأن العرض ليس بمعنى التعذيب والإحراق ، بل بمعنى الإظهار والإبراز ، وأن الكلام على القلب كما في قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، فإن أصله عرضت الحوض على الناقة بسوقها إليه وإيرادها عليه ، فكذا هنا أصل الكلام تعرض عليهم ؛ أي : على أرواحهم بأن يساق الطير التي أرواحهم فيها ؛ أي : في أجوافها إلى النار.
وفي الحديث : "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة ، فمن الجنة ، وإن كان من أهل النار ، فمن النار.
يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة".
يعني : (اينست جاى توتا كه برانكيز دترا خداى بسوى وى دررورز قيامت).
يقول الفقير : أما كون أرواحهم في أجواف طير سود ، فليس المراد ظرفية الأجواف للأرواح حتى لا يلزم التناسخ ، بل هو تصوير لصور أرواحهم البرزخية.
وأما العرض بمعنى الإظهار ، فلا يقتضي عدم التعذيب ، فكل روح.
إما معذب ، أو منعم وللتعذيب والتنعيم مراتب ، ولأمر ما
189
ذكرالله تعالى عرض أرواح آل فرعون على النار ، فإن عرضها ليس كعرض سائر الأرواح الخبيثة.
قال في "عين المعاني" : قال رجل للأوزاعي رأيت طيراً لا يعلم عددها إلا الله تخرج من البحر بيضاء ، ثم ترجع عشياً سوداء ، فما هي قال : أرواح آل فرعون تعرض وتعود والسواد من الإحراق هذا ما دامت الدنيا.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} : وتعود الأرواح إلى الأبدان يقال للملائكة : {أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ؛ أي : عذاب جهنم ، فإنه أشد مما كانوا فيه ؛ فإنه للروح والجسد جميعاً ، وهو أشد مما كان للروح فقط كما في البرزخ.
وذلك أن الأرواح بعد الموت ليس لها نعيم ، ولا عذاب حسي جسماني.
ولكن ذلك نعيم ، أو عذاب معنوي روحاني حتى تبعث أجسادها ، فترد إليها ، فتعذب عند ذلك حساً ، ومعنى ، أو تنعم ألا ترى إلى بشر الحافي قدس سره لما رؤي في المنام.
قيل له : ما فعل الله بك.
قال : غفر لي وأباح لي نصف الجنة ؛ أي : نعيم الروح.
وأما النصف الآخر الذي هو نعيم الجسد ، فيحصل بعد الحشر ببدنه والأكل الذي يراه الميت بعد موته في البرزخ هو كالأكل الذي يراه النائم في النوم ، فكما أنه تتفاوت درجات الرؤيا حتى أن منهم من يستيقظ ، ويجد أثر الشبع ، أو الري ، فكذا تختلف أحوال الموتى ، فالشهداء أحياء عند ربهم ، كحياة الدنيا ونعيمهم قريب من نعيم الحس ، فافهم جداً ، ويجوز أن يكون المعنى : أدخلوا آل فرعون أشد عذاب جهنم ، فإن عذابها ألوان بعضها أشد من بعض.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي الحديث : "أهون أهل النار عذاباً رجل في رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه.
وفي "التأويلات النجمية" : ويوم تقوم الساعة يشير إلى مفارقة الروح البدن بالموت ، فإن من مات فقد قامت قيامته أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ، وذلك فإن أشد عذاب فرعون النفس ساعة المفارقة ؛ لأنه يفطم عن جميع مألوفات الطبع دفعة واحدة.
والفطام عن المألوف شديد ، وقد يكون الألم بقدر شدة التعلق به.
انتهى.
قال الحافظ :
غلام همت آنم كه زير جرخ كبود
زهر جه رنك تعلق بدير آزا دست
وقال غيره :
الفت مكير همجوالف هيج باكسى
تابسته الم نشوى وقت انقطاع
ثم في الآية دليل على بقاء النفس وعذاب القبر ؛ لأن المراد بالعرض التعذيب في الجملة ، وليس المراد : أنهم يعرضون عليها يوم القيامة لقوله بعده ويوم تقوم الساعة.
إلخ.
وإذا ثبت في حق آل فرعون ثبت في حق غيرهم إذ لا قائل بالفصل.
وكان عليه السلام لا يصلي صلاة إلا وتعوذ بعدها من عذاب القبر.
قال عليه السلام : "من كف أذاه عن الناس كان حقاً على الله أن يكف عنه أذى القبر".
وروي عن سالم بن عبد الله : أنه قال : سمعت أبي يقول : أقبلت من مكة على ناقة لي وخلفي شيء من الماء حتى إذا مررت بهذه المقبرة مشيراً إلى مقبرة مخصوصة بين مكة والمدينة.
خرج رجل من المقبرة يشتعل من قرنه إلى قدمه ناراً ، وإذا في عنقه سلسلة تشتعل ناراً ، فوجهت الدابة نحوه.
أنظر إلى العجب ، فجعل يقول : يا عبد الله صب علي من الماء ، فخرج رجل من القبر أخذ بطرف السلسلة ، فقال : لا تصب عليه الماء ، ولا كرامة ، فمد يده حتى انتهى به إلى القبر ، فإذا معه سوط يشتعل ناراً ، فضربه حتى دخل القبر.
قال وهب بن منبه : من قرأ
190
باسم الله ، وبالله وعلى ملة رسول الله ، رفع الله العذاب عن صاحب القبر أربعين سنة.
كذا في "زهرة الرياض" : قال العلماء : عذاب القبر هو عذاب البرزخ أضيف إلى القبر ؛ لأنه الغالب ، وإلا فكل ميت أراد الله تعذيبه ناله ما أراد به قبر ، أو لم يقبر بأن صلب أو غرق في "البحر" ، أو أحرق حتى صار رماداً وذري في الجو.
قال إمام الحرمين : من تفرقت أجزاؤه يخلق الله الحياة في بعضها ، أو كلها ، ويوجه السؤال عليها ، ومحل العذاب والنعيم ؛ أي : في القبر هو الروح والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة.
قال اليافعي : وتختص الأرواح دون الأجساد بالنعيم والعذاب ما دامت في عليين أو سجين.
وفي القبر : يشترك الروح والجسد.
(8/144)
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال الفقيه أبو الليث : الصحيح ، عندي أن يقر الإنسان بعذاب القبر ، ولا يشتغل بكيفيته.
وفي "الأخبار الصحاح" : أن بعض الموتى لا ينالهم فتنة القبر كالأنبياء والأولياء والشهداء.
قال الحكيم الترمذي : إذا كان الشهيد لا يسأل ، فالصديق أولى بأن لا يفتن هو المنخلع عن صفات النفس ، والشهيد هوأهل الحضور.
والصحيح : هو أهل الاستقامة في الدين ، ورؤي بعضهم بعد موته على حال حسنة فسئل عن سببها ، فقال : كنت أكثر قول : لا إله إلا الله ، فأكثر منها ؛ أي : من هذه المقالة الحسنة ، والكلمة الطيبة اللهم اختم لنا بالخير والحسنى.
{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَـاؤُا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ * وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَـاتِا قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَـاؤُا الْكَـافِرِينَ} .
{وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِى النَّارِ} : التحاج بالتشديد التخاصم ، كالمحاجة ؛ أي : واذكر يا محمد لقومك وقت تخاصم أهل النار في النار سواء كانوا آل فرعون ، أو غيرهم ، ثم شرح خصومتهم بقوله : {فَيَقُولُ الضُّعَفَـاؤُا} : منهم في القدر والمنزلة والحال في الدنيا ، يعني : (بيجاركان وزبونان قوم).
{لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} ؛ أي : أظهروا الكبر باطلاً وهم رؤساؤهم ولذا لم يقل للكبراء ؛ لأنه ليس الكبرياء صفتهم في نفس الأمر.
{إِنَّا كُنَّا لَكُمْ} في الدنيا {تَبَعًا} : جمع تابع كخدم في جمع خادم.
قال في "القاموس" : التبع محركة التابع يكون واحد ، أو جمعاً ؛ أي : إتباعاً في كل حال خصوصاً فيما دعوتمونا إليه من الشرك والتكذيب ، يعني : (سبب دخول مادر دوزخ بيدى شما).
{فَهَلْ أَنتُم} : (بس آياهستيد شما).
{مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ} ، بالدفع أو بالحمل ، يقال : ما يغني عنك هذا ؛ أي : ما يجزيك وما ينفعك ونصيباً ، وهو الحظ المنصوب ؛ أي : المعين كما في "المفردات" : منصوب بمضمر يدل عليه مغنون ، فإن أغنى إذا عدي بكلمة عن لا يتعدى إلى مفعول آخر بنفسه ؛ أي : رافعون عنا نصيباً ؛ أي : بعضاً وجزءاً من النار باتباعنا إياكم ، فقد كنا ندفع المؤونة عنكم في الدنيا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} : (جه جاى اين سخن است).
{إِنَّا كُلٌّ} ؛ أي : كلنا نحن وأنتم.
وبهذا صحّ وقوعه مبتدأ.
{فِيهَآ} : خبر ؛ أي : في النار ، فكيف نغني عنكم ، ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا.
{إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} ، بماهية كل أحد فأدخل المؤمنين الجنة على تفاوتهم في الدرجات ، والكافرين النار على طبقاتهم في الدركات ، ولا معقب لحكمه.
{وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ} من الضعفاء والمستكبرين جميعاً ، لما ذاقوا شدة العذاب وضاقت حيلهم.
{لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} ؛ أي : القوام بتعذيب أهل النار.
جمع خازن.
والخزن : حفظ الشيء في الخزانة ، ثم يعبر به عن كل حفظ كحفظ السر ونحوه.
قاله الراغب : ووضع جهنم موضع الضمير للتهويل والتفظيع.
وهم اسم لنار الله الموقدة.
{ادْعُوا رَبَّكُمْ} شافعين لنا.
{يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا} ؛ أي : في مقدار يوم واحد من أيام الدنيا.
{مِّنَ الْعَذَابِ} ؛ أي : شيئاً منه ، فقوله : يوماً ، ظرف ليخفف ، ومفعوله محذوف.
ومن العذاب بيان لذلك المحذوف ،
191
واقتصارهم في الاستدعاء على تخفيف قدر يسير من العذاب في مقدار قصير من الزمان دون رفعه رأساً ، أو تخفيف قدر كثير منه في زمان مديد لعلمهم بعدم كونه في حيز الإمكان.
{قَالُوا} : أي الخزنة بعد مدة.
{أَوَلَمْ تَكُ} : الهمزة للاستفهام ، والواو للعطف على مقداري ألم تنبهوا على هذا ولم تك {تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم} في الدنيا على الاستمرار.
{بِالْبَيِّنَـاتِ} بالحجج الواضحة الدالة على سوء عاقبة ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي ، أرادوا بذلك إلزامهم وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء ، وتعطيل أسباب الإجابة.
{قَالُوا بَلَى} ؛ أي : أتونا بها ، فكذبناهم كما في سورة الملك.
{قَالُوا} : إذا كان الأمر كذلك ، يعني : (جون كاربرين منوالست).
{فَادْعُوا} : أنتم ، فإن الدعاء لمن يفعل ذلك مما يستخيل صدوره عنا ، ولم يريدوا بأمرهم بالدعاء أطماعهم في الإجابة ، بل إقناطهم منها ، وإظهار حقيقتهم حسبما صرحوا به في قولهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
(8/145)
{وَمَا دُعَـاؤُا الْكَـافِرِينَ} لأنفسهم ، فالمصدر مضاف إلى فاعله ، أو وما دعاء غيرهم لهم بتخفيف العذاب عنهم ، فالمصدر مضاف إلى مفعوله.
{إِلا فِى ضَلَـالٍ} ؛ أي : في ضياع وبطلان الإيجاب ؛ لأنهم دعوا في غير وقته.
اختلف العلماء في أنه هل يجوز أن يقال : يستجاب دعاء الكافرين ، فمنعه الجمهور لقوله تعالى : {وَمَا دُعَـاؤُا الْكَـافِرِينَ إِلا فِى ضَلَـالٍ} ؛ ولأن الكافر لا يدعو الله ؛ لأنه لا يعرفه ؛ لأنه وإن أقر به لما وصفه بما لا يليق به نقض إقراره.
وما روي في الحديث "أن دعوة المظلوم وإن كان كافراً تستجاب" ، فمحمول على كفران النعمة وجوزه بعضهم لقوله تعالى حكاية عن إبليس : رب أنظرني ؛ أي : أمهلني ولا تمتني سريعاً ، فقال الله تعالى : إنك من المنظرين ، فهذه إجابة وبالجواز يفتى.
قال الشيخ سعدي :
مغى در بروى از جهان بسته بود
بتى را بخدمت ميان بسه بود
بس از جند سال آن نكوهيده كيش
قضا حالتى صعبش آورد بيش
بباى بت آمد باميد خبر
بغلطيد بيجاره برخاك دير
كه درما نده ام دست كيراى صنم
بجان آمدم رحم كن برتنم
بزاريد در خدمتش بارها
كه هيجش بسامان نشد كارها
بتى جون برارد مهمات كس
كه نتواند از خود براند مكس
برآشفت كاى باى بند ضلال
بباطل برستيدمت جند سال
مهمى كه دربيش دارم برآر
وكرنه نخواهم زبرور دكار
هنوز ازبت آلوده رويش بخاك
كه كامش برآورد يزدان باك
حقائق شناسى درين خيره شد
سرو قت صافى بروتيره شد
كه سر كشته دون باطل برست
هنوزش سراز خمر تبخانه مست
دل از كفر ودست از خيانت نشست
خدايش برآورد كامى كه جشد
فرورفت خاطر درين مشكلش
كه بيغامى آمد درون دلش
كه بيش صنم بير ناقص عقول
بسى كفت وقولش نيامد قبول
كرازدركه ما شود نيرزد
بس آنكه جه فرن از صنم تا صمد
دل اندر صمد بايداى دوست بست
كه عاجز ترنداز صنم هر كه هست
192
محالست اكر سر برين درنهى
كه باز آيدت دست حاجت تهى
فإذا ثبت أن الله تعالى يجيب الدعوات لا ما سواه من الأصنام ونحوها ، فلا بد من توحيده ، وإخلاص الطاعة والعبادة له ، وعرض الافتقار إليه إذ لا ينفع الغير لا في الدنيا ، ولا في الآخرة جعلنا الله ، وإياكم من التابعين للهدى والمحفوظين من الهوى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَـاتِا قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَـاؤُا الْكَـافِرِينَ إِلا فِى ضَلَـالٍ * إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاشْهَـادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّـالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ} .
{إِنَّا} : نون العظمة ، أو باعتبار الصفات ، أو المظاهر.
{لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} النصر : العون.
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} ؛ أي : أتباعهم.
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبي.
وغير ذلك من العقوبات ، ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق لهم من صورة المغلوبية امتحاناً إذ العبرة إنما هي بالعواقب ، وغالب الأمر.
وأيضاً : ما يقع في بعض الأحيان من الانهزام ، إنما كان بعارض كمخالفة أمر الحاكم ، كما في غزوة أحد ، وكمطلب الدنيا والعجب والغرور ، كما في بعض وقائع المؤمنين.
وأيضاً : إن الله تعالى ينتقم من الأعداء ، ولو بعد حين كما بعد الموت ، ألا ترى أن الله تعالى انتقم ليحيى عليه السلام بعد استشهاده من بنى إسرائيل بتسليط بخت نصر حتى قتل به سبعون ألفاً.
قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه : ما قتلت أمة نبياً إلا قتل به منهم سبعون ألفاً ، ولا قتلوا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفاً.
وأما قصة الحسنين رضي الله عنهما ، فكثرة القتلى لهما باعتبار جدهما عليه السلام.
وحاصله : أن علماء هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل ، فإذا انضم إلى شرفهم شرف الانتساب إلى النبي عليه السلام بالسيادة الصورية قرباً ، أو بعداً تضاعف قدرهم ، فكان الإكرام إليهم بمنزلة الإكرام إلى النبي عليه السلام.
وكذا الإهانة.
والظاهر : في دفع التعارض بين قوله تعالى : إنا لننصر رسلنا وبين قوله : ويقتلون النبيين بغير الحق ما قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن رضي الله عنه : من أنه لم يقتل من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر ، كما في "تفسير القرطبي" في البقرة.
وكان زكريا ويحيى وشعيب ونحوهم عليهم السلام ممن لم يؤمر بالقتال.
يقول الفقير : حقيقة النصرة للخواص إنما هي بالإمداد الملكوتي.
وقد يجيء الإمداد من جهة البلاء الصوري ، فالقتل ونحوه كله من قبيل الإمداد بالترقي.
والحمدالذي بيده الخير.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
قال شيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره : كان النبي عليه السلام قادراً على تخليص الحسنين رضي الله عنهما بالشفاعة من الله تعالى ، لكنه رأى كمالهما بالشهادة راجحاً على الخلاص.
(8/146)
وفي "التأويلات النجمية" : كمال النصرة في الظفر على أعدى عدوك ، وهي نفسك التي بين جنبيك هو الجهاد الأكبر ، ولا يمكن الظفر على النفس إلا بنصرة الحق تعالى للقلب إذا تحقق عند العبد أن الخلق أشباح يجري عليهم أحكام القدر ، فالولي لا عدو له ، ولا صديق إلا الله.
ولهذا قال عليه السلام أعوذ بك منك.
{وَيَوْمَ يَقُومُ الاشْهَـادُ} : جمع شاهد كصاحب وأصحاب ؛ أي : لننصرنهم في الدنيا والآخرة ، وعبر عن يوم القيامة بذلك للإشعار بكيفية النصرة ، وأنها تكون عند جمع الأولين والآخرين بشهادة الأشهاد للرسل بالتبليغ ، وعلى الكفرة بالتكذيب ، وهم الملائكة والمؤمنون من أمة محمد عليه السلام.
قال تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة : 143).
{يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّـالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} .
بدل من اليوم الأول والمعذرة بمعنى العذر ، وقد سبق معناه في أول السورة ؛ أي : لا ينفعهم عذرهم عن كفرهم لو اعتذروا في بعض الأوقات ؛ لأن معذرتهم باطلة ، فيقال
193
لهم : اخسؤوا ولا تكلمون.
ويجوز أن يكون عدم نفع المعذرة ؛ لأنه لا يؤذن لهم ، فيعتذرون ، فيكون من نفي المقيد والقيد لا معذرة ولا نفع يومئذٍ.
وفي "عرائس البيان" : ظلمهم عدولهم عن الحق إلى الخلق واعتذارهم في الآخرة لا في الدنيا.
وفيه إشارة إلى المؤثر هو سوابق العنايات لا الأوقات.
{وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} ؛ أي : البعد عن الرحمة.
{وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ} ؛ أي : جهنم بخلاف المؤمنين العارفين ؛ فإنها تنفعهم لتنصلهم.
يعني : (از كناه بيرازى نمودن).
لكونه في وقته ولهم من الله الرحمة ، ولهم حسن الدار ، وإنما قال : سوء الدار ، فإن جهنم حرها شديد وقعرها بعيد وحليها حديد وشرابها صديد ، وكلامها هل من مزيد؟ وأسوأ الظالمين المشركون كما قال تعالى حكاية عن لقمان : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13) وأسوأ المشركين المنافقون كما قال تعالى : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النساء : 145) لاستهزائهم بالمؤمنين ، فليحذر العاقل عن الظلم سواء كان لنفسه بالإشراك والمعصية أو لغيره ، بكسر العرض وأخذ المال ، ونحوهما.
وليتذكر الإنسان يوماً يقول فيه الظالمون : ربنا أخرجنا منها نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل ، فيجيبهم الله تعالى : {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُا فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (فاطر : 37).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وروي أن أهل النار يبكون بكاء شديداً حتى الدم ، فيقول مالك : ما أحسن هذا البكاء لو كان في الدنيا.
قال الشيخ سعدي :
كنونت كه جشمست اشكى بيار
زبان دردهانست عذرى بيار
كنون بايدت عذر تقصير كفت
نه جون نفس ناطق زكفتن بخفت
كنون بايداى خفته بيدار بود
جو مرك اندر آيدز خوابت جه سود
كنون وقت تخمست اكر بدروى
كراميد دارى كه خر من برى
فعلم أنه لا تنفع المعذرة والبكاء في الآخرة ، فليتدارك العاقل تقصيره في الدنيا بالندامة والصلاح والتقوى ، ليستريح في الآخرة ، ويصل إلى الدرجات العلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصلحاء ، فمن أراد اللحوق بزمرتهم ، فليكن على حالهم وسيرتهم ، فإن الله ينصرهم في دنياهم وآخرتهم ، فإن طاعة الله وطاعة الرسول توصل العبد إلى المرام ، وإلى حيز القبول.
روي : أن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
قال النبي عليه السلام : "كيف نراك بالجنة وأنت في الدرجات العلى ، فأنزل الله تعالى ، ومن يطع الله والرسول ، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً ، فلا بد من الإطاعة ، وعلى تقدير المخالفة ، فباب التوبة مفتوح.
عن كعب الأحبار : أن رجلاً من بني إسرائيل أراد الاغتسال من فاحشة في نهر فناداه النهر : أما تستحي من الله تعالى ، فتاب الرجل ثم عبد الله تعالى مع اثني عشر رجلاً ، فبعد زمان أرادوا العبور عن النهر المذكور ، فتخلف صاحب الاغتسال استحياء.
فقال النهر : إن أحدكم إذا غضب على ولده ، فتاب هو قبل توبته ، فاعبدوا الله على شاطىء ، فأقاموا هناك زماناً ، فمات صاحب الاغتسال ، فناداهم النهر : أن ادفنوه على شاطىء ، فدفنوه ، وأصبحوا وقد أنبت الله على قبره اثني عشر سرواً على عدد العابدين.
وكان ذلك أول سرو أنبت الله في الأرض ، وكل من مات دفنوه هناك ، وكان بنو إسرائيل يزورون قبورهم.
{يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّـالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ * هُدًى وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} .
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا} بمحض فضلنا
194
(8/147)
{مُوسَى} ابن عمران {الْهُدَى} ما يهتدي به من المعجزات والصحف والشرائع.
{وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ} : (الا يراث ميراث دادن).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
والمراد بالكتاب : التوراة ، ولما كان الإيراث الحقيقي إنما يتعلق بالمال تعذر حمله على معناه هنا ، فأريد التبرك مجازاً إشعاراً بأن ميراث الأنبياء ليس إلا العلم والكتاب الهادي في باب الدين.
والمعنى : وتركنا عليهم من بعد موسى التوراة إذ سائر ما اهتدي به في أمر الدين قد ارتفع بموت موسى عليه السلام.
وبالفارسية : (ميراث داديم بني إسرائيل را يغني فرزندان يعقوب راتورات يعنى باقى كذاشتيم درميان ايشان تورات را).
فهم ورثوا التوراة بعضهم من بعض قرناً بعد قرن.
{هُدًى} : مفعوله ؛ أي : هداية وبياناً من الضلالة ، أو مصدر بمعنى اسم الفاعل على أنه حال ؛ أي : هادياً.
يعني : (راه نما ينده).
{وَذِكْرَى} تذكرة وعظة أو حال كونه مذكراً.
يعني : (بند دهنده).
{لاوْلِى الالْبَـابِ} لذوي العقول السليمة العاملين بما في تضاعيفه دون الذين لا يعقلون.
والفرق بين الهدى والذكرى : أن الهدى ما يكون دليلاً على شيء آخر ، وليس من شرطه أن يذكر شيئاً آخر كان معلوماً ، ثم صار منسياً ، وأما الذكرى ، فليس من ذلك.
وكتب الأنبياء مشتملة على هذين القسمين ، فإن بعضها دلائل في أنفسها ، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلهية المتقدمة.
{فَاصْبِرْ} مترتب على قوله : إنا لننصر رسلنا ، وقوله : ولقد آتينا.
إلخ.
فالجملة المعترضة للبيان والتأكيد لنصرة الرسل ؛ كأنه قيل : إذا سمعت ما وعدت به من نصرة الرسل ، وما فعلناه بموسى ، فاصبر على ما أصابك من أذية المشركين ، فهو غير منسوخ بآية السيف إذ الصبر محمود في كل المواطن.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالنصرة وظهور الإسلام على الأديان كلها ، وفتح مكة ونحوها.
{حَقٌّ} لا يحتمل الإخلاف أصلاً واستشهد بحال موسى وفرعون.
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ} تداركاً لما فرط منك من ترك الأولى في بعض الأحيان ؛ فإنه تعالى كافيك في نصرة دينك وإظهاره على الدين كله.
وفي "عين المعاني" : واستغفر من ذنب إن كان منك.
وقيل : هذا تعبد من الله لرسوله ليزيد به درجة وليصير ذلك سنة ، لمن بعده.
وفي "عرائس البقلي" : فإن كون الحادث في كون القديم ذنب.
وقيل : واستغفر لذنب أمتك.
وفيه أن هذا لا يجري في قوله تعالى : واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ، كما سيأتي في سورة محمد.
وقال ابن الشيخ في "حواشيه".
والظاهر أنه تعالى يقول : ما أراد أن يقوله ، وإن لم يجر لنا أن نضيف إليه عليه السلام ذنباً ، انتهى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
يقول الفقير : كلام ابن الشيخ شيخ الكلمات ، وذلك لأن مرتبة النبوة أرفع من مرتبة الولاية ، فإن أحداً من الأمة ، وإن كان أصلاً إلى أقصى الغايات بحسب مرتبته ، فهو لا يدري حال النبي فوقه إذ لا ذوق له من مرتبته ، فكيف يضيف إليه ذنباً لا يعرفه ، فلا يطيع على حقيقة الذنب المضاف إليه عليه السلام إلا الله كالتصلية في قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ} (الأحزاب : 56) ؛ فإنها سر غامض بينه تعالى وبين رسوله ، فليس لأحد سبيل إلى معرفته.
ومن هذا القبيل سهوه عليه السلام في بعض المواضع ، فإنه ليس من قبيل السهو الذي تعرفه الأمة :
تدانم كدامين سخن كويمت
كه وألا ترى زانجه من كويمت
195
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالابْكَـارِ} ؛ أي : ودم على التسبيح ملتبساً مقروناً وبحمده تعالى ، أو على قوله : سبحان الله وبحمده.
فالمقصود من ذكر العشي والإبكار الدلالة على المداومة عليهما في جميع الأوقات بناء على أن الإبكار عبارة عن أول النهار إلى نصفه ، والعشي عبارة عن نصف النهار إلى أول النهار من اليوم الثاني.
فيدخل فيهما كل الأوقات.(8/148)
وفي الآية إشارة إلى قلب الطالب الصادق بالتصبر على أذى النفس والهوى والشيطان ، إن وعد الله حق في نصرة القلب المجاهد مع كافر النفس وظفره عليها ، واستغفر لذنبك أيها القلب ؛ أي : مما سرى إليك من صفات النفس وتخلقت بأخلاقها ، فاستغفر لهذا الذنب ، فإنه صد أمرآة القلب ودم على الطاعات ، وملازمة الأذكار ؛ فإنه تصفو مرآة القلب عن صدأ الأخلاق الذميمة.
قالوا : ظاهر البدن من عالم الشهادة والقلب من عالم الملكوت وكما ينحدر من معارف القلب آثار الجوارح كذلك ، قد يرتفع من أحوال الجوارح التي هي من عالم الشهادة آثار إلى القلب ، فإذاً لا بد من الاشتغال بظواهر الأعمال إصلاحاً للحال ، وتنويراً وتصفية للبال ، فمن ليس له في الدنيا شغل ، وقد ترك الدنيا على أهلها ، فما له لا يتنعم بخدمة الله تعالى فيلزم أن يديم العملمن غير فتور إما ظاهراً أو باطناً قلباً وقالباً وإلا فباطناً ، وترتيب ذلك أنه يصلي ما دام منشرحاً ، والنفس مجيبة ؛ فإن سئم تنزل من الصلاة إلى التلاوة ، فإن مجرد التلاوة أخف على النفس من الصلاة ، فإن سئم التلاوة أيضاً ، يذكر الله بالقلب واللسان ، فهو أخف من القراءة ، فإن سئم الذكر أيضاً.
يدع ذكر اللسان ، ويلازم المراقبة ، والمراقبة علم القلب بنظر الله تعالى إليه ، فما دام هذا العلم ملازماً للقلب ، فهو مراقب والمراقبة عين الذكر ، وأفضله وإن عجز عن ذلك أيضاً ، وتملكته الوساوس وتزاحم في باطنه حديث النفس ، فلينم.
وفي النون السلام ، وإلا فكثرة حديث النفس تقسي القلب ككثرة الكلام ؛ لأنه كلام من غير لسان ، فيحترز من ذلك فيقيد الباطن بالمراقبة والرعاية ، كما يقيد الظاهر بالعمل ، وأنواع الذكر والتسبيح ، وبدوام الإقبال على الله ودوام الذكر بالقلب واللسان يرتقي القلب إلى ذكر الذات ، ويصير حينئذٍ بمثابة العرش ، فالعرش قلب الكائنات في عالم الخلق والحكمة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
والقلب : عرش في عالم الأمر والقدرة ، فإذا اكتحل القلب بنور ذكر الذات وصار بحراً مواجاً من نسيمات القرب جرى في جداول أخلاق النفس صفاء النعوت والصفات.
وتحقق التخلق بأخلاق الله تعالى :
غير ذكر خداجه سرجه جهر
نيست دلرا نصيب وجانرا نهر
نور حق جون زدل ظهور كند
ظلمت تن جه شر وشور كند
وفي الحديث : "رأيت رجلاً من أمتي يتقي وهج النار وشررها عن وجهه بيده ، فجاءته صدقته ، فصارت ستراً على وجه.
ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه بينه وبين الله حجاب ، فجاء حسن خلقه وأخذ بيده وأدخله على الله.
ورأيت رجلاً من أمتي غلقت أبواب الجنة له ، فجاءت شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة".
جعلنا الله وإياكم من أهل الأخلاق والأحوال وصالحات الأعمال.
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالابْكَـارِ * إِنَّ الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ أَتَـاـاهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَـالِغِيه فَاسْتَعِذْ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
{إِنَّ الَّذِينَ} : (أورده اندكه كفار مكه درباب قرآن وبعث مجادله مبكر دندكه قرآن سخن خدانيست نعوذ بالله وبعث محالست حق
196
سبحانه وتعالى آيت فرستادكه).
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ} ويجحدون بها.
{بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ} حجة قاهرة.
{أَتَـاـاهُمْ} في ذلك من جهته تعالى وتقييد المجادلة بذلك مع استحالة إتيانه للإيذان بأن التكلم في أمر الدين لا بدّ من استناده إلى سلطان مبين البتة.
{أَنْ} نافية.
{فِى صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ} خبر لأن عبر بالصدر عن القلب لكونه موضع القلب.
وفي الحصر إشعار بأن قلوبهم قد خلت عن كل شيء سوى الكبر ؛ أي : ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق وتعظم عن التفكر والتعلم أو إلا إرادة الرياسة والتقدم على النبي والمؤمنين ، أو إلا إرادة أن تكون النبوة لهم دونك يا محمد حسداً وبغياً.
ولذلك يجادلون فيها ؛ لأن فيها موقع جدال ما أو أن لهم شيئاً يتوهم أن يصلح مداراً لمجادلتهم في الجملة.
واعتبرت الإرادة في هذين الوجهين ؛ لأن نفس الرياسة والنبوة ليستا في قلوبهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{مَّا هُم بِبَـالِغِيهِ} : صفة كبر ، فالضمير راجع إلى الكبر بتقدير المضاف ؛ أي : ما هم ببالغي مقتضى كبرهم ، وهو دفع الآيات ، فإني أنشر أنوارها في الآفاق ، وأعلي قدرك أو ما هم بمدركي مقتضى ذلك الكبر ، وهو ما أرادوه من الرياسة والنبوة.
{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} ؛ أي : التجىء إليه في السلامة من كيد من يحسد ويبغي عليك.
{إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم {الْبَصِيرُ} لأفعالكم.
(8/149)
وقيل : المجادلون هم اليهود ، وكانوا يقولون لرسول الله عليه السلام لست صاحبنا المذكور في التوراة ، بل هو المسيح بن داود.
وفي "تفسير الكاشفي" : (بلكه او ابو يوسف بن مسيح بن داود است).
يريدون : أن الدجال يخرج في آخر الزمان ، ويبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الأنهار ، وهو آية من آيات الله ، فيرجع إلينا الملك ، فسمى الله تمنيهم ذلك كبراً ونفى أن يبلغوا متمناهم ، فإن الدجال ، وإن كان يخرج في آخر الزمان لكنه ، ومن تبعه من اليهود يقتلهم عيسى والمؤمنون بحيث لا ينجو منهم واحد ، فمعنى قوله : فاستعذ بالله ؛ أي : من فتنة الدجال ؛ فإنه ليس فتنة أعظم من فتنته.
قال عليه السلام تعوذوا بالله من عذاب النار ، فقالوا : نعوذ بالله من عذاب النار ، ثم قال : تعوذوا بالله من عذاب القبر ، فقالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر ، ثم قال : تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها ، وما بطن ، فقالوا : نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها ، وما بطن ، ثم قال : تعوذوا بالله من فتنة الدجال ، فقالوا : نعوذ بالله من فتنة الدجال".
وقال الكاشفي : (بيايد دانست كه دجال آدمى است زآدميان ديكر بقد بلندتر وبحثه بزر كتر ويك جشم است وظهور او يكى از علامات قيامتست وبيغمبرامارات ظهور او بيان كرد كه مردم بسه سال بيش از خروج وى بقحط وغلا مبتلا شوند سال اول آسمان از آنجه باريدى ثلثي باز كيرد يعنى امساك ميكند وزمين از آنجه ازو روييدى ثلثى نكاه دارد سال دوم دو ثلث باز كيرند ودرسال سوم نه از آسمان باران آيد ونه از زمين كياه رويد ويكون غذاء المؤمنين يومئذ التسبيح والتقديس كأهل السماء بس دجال بيرون آيد وباوى سحر وتمويه بسيار بود وبيشتر خلق متابعت وى كنند إلا من عصمة الله تعالى وديوان دارد كه متمثل شوند بصورت آدميان بسى يكى را كويد اكر بدر ومادر ترازنده كنم اقرار كنى بربو بيت من كويد آرى في الحال ديوان بصورت ابوين أو متشكل شوند واورا كويند اى فرزند متابعت وى كن كه آفريد كارتست
197
القصة همه شهر هارا بكيرد الا مكة ومدينة راكه ملائكه باسبانى كنند وجون كار بر مؤمنان به تنك آيد حق سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام را از آسمان فرو فرستد تاد جال را بكشد ولشكر او كه اغلب يهود باشند بتمامى مستأصل كرداند وشمة از نزول عيسى در سورة زخرف مذكور خواهد شد).
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
وفي الحديث : "لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين ، كلهم يزعم أنه لرسول الله".
وقال عليه السلام : "إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم" كما في "المصابيح" وهم الأئمة المضلون نعوذ بالله من فتنة الدجاجلة ، ومن كل فتنة مضلة".
قال المفسرون : قوله : إن الذين يجادلون الآية ، وإن نزل في مشركي مكة ، لكنه عام لكل مجادل مبطل ، فإن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، ففيه إشارة إلى مدعي أهل الطلب ومجادلتهم مع أرباب الحقائق فيما آتاهم الله من فضله بغير حجة وبرهان ، بل حسداً من عند أنفسهم ، وليس مانعهم في قبول الحق وتصديق الصديقين وتسليمهم فيما يشيرون إليه من الحقائق والمعاني الأكبر ، مما كان من وصف إبليس إذ أبى واستكبر.
وقال : أنا خير منه.
وهذه الصفة مركوزة في النفوس كلها.
ولهذا المعنى بعض الجهلة المغترين بالعلوم ينكرون على بعض مقالات المشايخ الراسخين في العلوم ، فهؤلاء المدعون المنكرون لا يصلون إلى مرادهم ، ولا يدركون رتبة أهل الحقائق.
ولهذا قال بعضهم : لا تنكر ، فإن الإنكار شؤم ، والمنكر من هذا الحديث محروم فيها أيها الطالب المحق استعذ بالله من شر نفسك ، والنفوس المتمردة وجميع آفات تعوقك عن الحق وتقطع عليك طريق الحق.
قال في "كشف الأسرار" : (كفته اند اين مجادلان داعيان بدعت اند ومنكر ان صفات حق واين مجادلت اقتحام مكلفاً نست وخوض معترضان وجدال مبتدعان وتأويل جمهيان وساخته اشعريان وتزوير فلسفيان وقانون طبايعيان در هر عصرى قوم فراديد آمدند جون غيلان قدرى وبشر مرسى وشيطان الطاق وابن أبي داود وجهم صفوان وعمر وعبيد وأمثال ايشان كه صفات حق را منكر شدند ودين قديم بكذا شتند وكتاب وسنت سست ديدند وراى وقياس محكم داشتد مقصود ايشان آنتس كه كتاب وسنت باز بس دارند ومعقول فرا بيش اين آرزوى بزر كست كه دردل دارند وهر عز نخوا هند رسيد بآن آرزوى خويش).
وفي المثنوي :
شمع حق رابف كنى تواى عجوز
هم تو سوزى هم سرت اى كنده بوز
كى شود در باز بوسك نجس
كى شود خورشيد از بف منطمس
هر كه بر شمع خدا آرد تفو
شمع كى ميرد بسوزد بوز او
جون تو خفا شن بسى بينند خواب
كين جهان ماند يتيم از آفتاب
اى بريده آن لب وحلق ودهان
كى كند تف سوى معايا آسمان
تف بر ويش باز كردد بى شكى
تف سوى كردون نيابد مسلكى
همجو تبت بر روان بو لهب
تاقيامت تف برو باردزرب.
.
{لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} : تحقيقاً للحق وتبيين لأشهر ما يجادلون فيه ، وهو أمر
198
(8/150)
البعث.
{أَكْبَرُ} أعظم من القدرة.
{مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} مرة ثانية ، وهي الإعادة ، فمن قدر على خلق الأعظم الأقوى بلا أصل ولا مادة وجب أن يقدر على خلق الأذل ، الأضعف من الأصل والمادة بطريق الأولى ، فكيف يقرون بأن الله خلق السماوات والأرض ، وينكرون الخلق الجديد يوم البعث.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} يعني : الكفار.
{لا يَعْلَمُونَ} أن الإعادة أهون من البداية لقصورهم في النظر والتأمل لفرط غفلتهم واتباعهم لأهوائهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
{لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَلا الْمُسِىاءُا قَلِيلا مَّا تَتَذَكَّرُونَ * إِنَّ السَّاعَةَ لاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} .
{وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ} ؛ أي : الغافل والمستبصر ، فالمراد بالأعمى من عمي قلبه عن رؤية الآيات والاستدلال بها والبصير من أبصرها.
قال الشاعر : ()
أيها المنكح الثريا سهيلاً
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
وسهيل إذا استقل يماني
أي : فكما لا تساوي بينهما ، فكذلك بين المؤمن والكافر ، والعالم والجاهل.
{وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ} : قدمه لمجاورة البصير ، وهو باب من أبواب البلاغة.
والمراد بهن المحسنون.
{وَلا الْمُسِىاءُ} اسم جنس يعم المسيئين.
والمعنى : وما يستوي المحسن والمسيء ؛ أي : الصالح والطالح ، فلا بد أن يكون لهم حالة أخرى يظهر ما بين الفريقين من التفاوت ، وهي فيما بعد البعث ، وهو احتجاج آخر على حقيقة البعث والجزاء وزيادة ولا في المسيء لتأكيد النفي لطول الكلام بالصلة ؛ لأن المقصود نفي مساواته للمحسن ؛ لأنه كما لا يساوي المحسن المسيء فيما يستحقه المسيء من الحقارة والهوان ، كذلك لا يساوي المسيء المحسن فيما يستحقه المحسن من الفضل والكرامة والعاطف في قوله : والذين : عطف الموصول بما عطف عليه على الأعمى والبصير مع أن المجموع ؛ أي : مجموع الغافل والمستبصر هو مجموع المسيء والمحسن لتغاير الوصفين.
يعني : أن المقصود في الأولين إلى العلم ، فإن العمى والبصيرة في القلب.
وفي الآخرين إلى العمل ؛ لأن الإيمان والأعمال في الجوارح ، وإلا في الحقيقة المراد : بالبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات واحد وبالأعمى والمسيء واحد ، ويجوز أن يراد الدلالة بالصراحة والتمثيل على أن يتحد الوصفان في المقصود ؛ بأن يكون المراد بالأولين أيضاً المحسن والمسيء ، فالصراحة بالنسبة إلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، والتمثيل بالنسبة إلى ما قبله ؛ فإن الأعمى والبصير من قبيل التمثيل.
{قَلِيلا مَّا تَتَذَكَّرُونَ} .
قوله : قليلاً صفة مصدر محذوف.
وما تأكيد معنى القلة ، وتذكرون على الخطاب بطريق الالتفات على أن يكون الضمير للكفار وفائدة الالتفات في مقام التوبيخ هو إظهار العنف الشديد ، والإنكار البليغ.
جزء : 8 رقم الصفحة : 148
والمعنى : تذكراً قليلاً تتذكرون أيها الكفار المجادلون ، يعني : وإن كنتم تعلمون أن التبصر خير من الغفلة ، ولا يستويان ، وكذا العمل الصالح خير من العمل الفاسد لكنكم لا تتذكرون إلا تذكراً قليلاً ، أو تتذكرون أصلاً ، فإنه قد يعبر بقلة الشيء عن عدمه مثل : أن يقال فلان قليل الحياء ؛ أي : لا حياء له.
قال في "تاج المصادر" : (التذكر ياد كردن ويا ياد آوردن وبند كرفتن).
{إِنَّ السَّاعَةَ} : إن القيامة ومر وجه التسمية بها مراراً.
{لاتِيَةٌ} أكد باللام ؛ لأن المخاطبين هم الكفار وجرد في طه حيث قال : إن الساعة آتية لكون المخبر ليس بشاك في الخبر.
كذا في "برهان القرآن".
{لا رَيْبَ فِيهَا} ؛ أي :
199
في مجيئها لوضوح شواهدها.
ومنها ما ذكر بقوله : لخلق السماوات.
إلخ.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} ، يعني : الكفار {لا يُؤْمِنُونَ} لا يصدقون بها لقصور أنظارهم على الظواهر وقوة الفهم بالمحسوسات.
وهذا الكفر والتكذيب طبيعة النفوس إلا من عصمه الله تعالى ، ونظر إلى قلبه بنظر العناية.
روي : أن الصراط سبع قناطر ، فيسأل العبد عند القنطرة الأولى عن الإيمان ، وهو أصعب القناطر وأهواها قراراً فإن أتى بالإيمان نجا ، وإن لم يأت به تردى إلى أسفل السافلين ، ويسأل في الثانية عن الصلاة ، وفي الثالثة عن الزكاة ، وفي الرابعة عن صيام شهر رمضان ، وفي الخامسة عن الحج ، وفي السادسة عن الأمر بالمعروف ، وفي السابعة عن النهي عن المنكر ، فإن أجاب في الكل نجا ، وإلا تردى في النار :
كرد بعث محمد عربي
تابود خلق رارسول ونبي
هر جه ثابت شود بقول ثقات
كه محمد عليه ألف صلات
دادمارا خبر بموجت آن
واجب آمد بان زما ايمان
(8/151)