{إِلا الَّذِينَ تَابُوا} استثناء من الفاسقين {مِنا بَعْدِ ذَالِكَ} أي من بعد ما اقترفوا ذلك الذنب العظيم {وَأَصْلَحُوا} أعمالهم بالتدارك ومنه الاستسلام للحد والاستحلال من المقذوف.
{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تعليل لما يفيده الاستثناء من العفو عن المؤاخذة بموجب الفسق كأنه قيل : فحينئذٍ لا يؤاخذهم الله بما فرط منهم ولا ينظمهم في سلك الفاسقين لأنه مبالغ في المغفرة والرحمة.
وفي الآية إشارة إلى غاية كرم الله ورحمته على عباده بأن يستر عليهم ما أراد بعضهم إظهاره على بعض ولم يظهر صدق أحدهما أو كذبه ولتأديبهم أوجب عليهم الحد ورد قبول شهادتهم أبداً وسماهم الفاسقين وليتصفوا بصفاته الستارية والكريمية والرحيمية فيما يسترون عيوب إخوانهم المؤمنين ولا يتبعوا عوراتهم وقد شدد النبي على من يتبع عورات المسلمين ويفشى أسرارهم : "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن من قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإنه من يتبع عوراتهم يفضحه الله يوم القيامة على رؤوس الأشهاد" وقال عليه السلام : "من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة" ، قال الشيخ سعدي :
جزء : 6 رقم الصفحة : 117
منه عيب خلق فرومايه يش
كه شمت فرودوزدازعيب خويش
كرت زشت خوبي بود درسرشت
نه يني زطاوس جزاي زشت
طريق طلب كزعقوبت رهى
نه حرفي كه انكشت بروي نهي
وفي الآية إشارة أيضاً إلى كمال عنايته تعالى في حق عباده بأنه يقبل توبتهم بعد ارتكاب الذنوب العظام ولكن بمجرد التوبة لا يكون العبد مقبولاً إلا بشرط إزالة فساد حاله وإصلاح أعماله.
قال بعضهم : علامة تصحيح التوبة وقبولها ما يعقبها من الصلاح والتوبة هي الرجوع عن كل ما يذمه العلم واستصلاح ما تعدى في سالف الأزمنة مداومتها باتباع العلم
119
ومن لم يعقب توبته الصلاح كانت توبة بعيدة عن القبول :
فراشو وبيني در صلح باز
كه ناكه درتوبه كردد فراز
مروزير بار كناه أي شر
كه حمال عاجز بود درسفر
بهشت اوستاندكه طاعت برد
كرا نقد بايد بضاعت برد
اكر مرغ دولت زقيدت بجست
هنززش سررشته داري بدست
أي فاسع إلى إصلاح عملك قبل حلول أجلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 117
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} بيان لحكم الرامين لزوجاتهم خاصة بعد بيان حكم الرامين لغيرهن أي والذين يقذفون نساءهم بالزنى بأن يقول لها يا زانية أو زنيت أو رأيتك تزني.
قال في "بحر العلوم" : إذا قال يا زانية وهما محصنان فردت بلا بل أنت حدت لأنها قذفت الزوج وقذفه إياها لا يوجب الحد بل اللعان وما لم ترفع القاذف إلى الإمام لم يجب اللعان.
قال ابن عباس رضي الله عنهما لما نزل قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَـاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} قال عاصم بن عدي الأنصاري : أن دخل رجل منا بيته فرأى رجلاً على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج وإن قتله قتل به وإن قال : وجدت فلاناً مع تلك المرأة ضرب وإن سكت سكت على غيظ اللهم افتح وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويم وكان له امرأة يقال لها خولة بنت قيس فأتى عويم عاصماً فقال : لقد رأيت شريكاً بن السحماء على بطن امرأتي خولة فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا السؤال في أهل بيتي فقال عليه السلام : "وما ذاك" قال أخبرني عويم ابن عمي أنه رأى شريكاً على بطن امرأته خولة فدعا رسول الله إياهم جميعاً فقال لعويم : "اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها" فقال : يا رسول الله تالله لقد رأيت شريكاً على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنها حبلى من غيري فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم "اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت" فقالت : يا رسول الله إن عويماً رجل غيور وإنه رأى شريكاً يطيل النظر إليّ ويحدثني فحملته الغيرة على ما قال : فأنزل الله تعالى قوله :
جزء : 6 رقم الصفحة : 120
(6/85)
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وبين به أن حكم قذف الزوجة اللعان فأمر رسول الله بأن يؤذن الصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويم : قم وقل : "أشهد بالله أن خولة لزانية وإني لمن الصادقين" فقال : ثم قال في الثانية : "أشهد أني رأيت شريكاً على بطنها وإني لمن الصادقين" ثم قال في الثالثة : "أشهد بالله أنها لحبلى من غيري وإني لمن الصادقين" ثم قال في الرابعة : "أشهد بالله أنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين" ثم قال في الخامسة : "لعنة الله على عويم" يعني نفسه : "إن كان من الكاذبين" ثم قال له : أقعد وقال لخولة : قومي فقامت وقالت : "أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي لمن الكاذبين" وقالت في الثانية : "أشهد بالله ما رأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين" وقالت في الثالثة : "أشهد بالله ما أنا حبلى إلا منه وإنه لمن الكاذبين" وقالت في الرابعة : "أشهد بالله ما رأني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين" وقالت في الخامسة : "غضب الله على خولة إن كان عويم من الصادقين في قوله" ففرق النبي عليه السلام بينهما وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب وذلك قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} {وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ} يشهدون بما
120
رموهن من الزنى {إِلا أَنفُسُهُمْ} بدل من شهداء جعلوا من جملة الشهداء إيذاناً من أول الأمر بعدم إلقاء قولهم بالمرة ونظمها في سلك الشهادة في الجملة {فَشَهَـادَةُ أَحَدِهِمْ} أي شهادة كل واحد منهم وهو مبتدأ خبره قوله : {أَرْبَعُ شَهَـادَات} أي : فشهادتهم المشروعة أربع شهادات {بِاللَّهِ} متعلق بشهادات {إِنَّه لَمِنَ الصَّـادِقِينَ} أي : فيما رماها به من الزنى وأصله على أنه إلخ فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنها للتأكيد.
{وَالْخَـامِسَةَ} أي الشهادة الخامسة للأربع المتقدمة أي الجاعلة لها خمساً بانضمامها إليهن وهي مبتدأ خبره قوله : {وَالْخَـامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ} اللعن طرد وإبعاد على سبيل السخط وذلك من الله في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع من قبول فيضه وتوفيقه ومن الإنسان دعاء على غيره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 120
قال بعضهم : لعنة الكفار دائمة متصلة إلى يوم القيامة ولعنة المسلمين معناها البعد من الخير والذي يعمل معصية فهو في ذلك الوقت بعيد من الحير فإذا خرج من المعصية إلى الطاعة يكون مشغولاً بالخير.
{إِن كَانَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ} فيما رماها به من الزنى فإذا لاعن الرجل حبست الزوجة حتى تعترف فترجم أو تلاعن.
{وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذَابَ} أي : يدفع عن المرأة المرمية العذاب الدنيوي وهو الحبس المغيا على أحد الوجهين بالرجم الذي هو أشد العذاب يقال : درأ دفع ، وفي الحديث : "ادرأوا الحدود بالشبهات" تنبيهاً على تطلب حيلة يدفع بها الحد {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَـادَاتا بِاللَّه إِنَّهُ} أي الزوج {لَمِنَ الْكَـاذِبِينَ} فيما رماني به من الزنى.
{وَالْخَـامِسَةَ} بالنصب عطفاً على أربع شهادات.
{أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ} الغضب ثوران دم القلب إرادة الانتقام ولذلك قال عليه السلام : "اتقوا الغضب فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه" فإذا وصف الله به فالمراد الانتقام دون غيره {إِن كَانَ} أي : الزوج {مِنَ الصَّـادِقِينَ} أي : فيما رماني به من الزنى وتخصيص الغضب بجانب المرأة للتغليظ عليها لما أنها مادة الفجور ولأن النساء كثيراً ما يستعمل اللعن فربما يجترىء على التفوه به لسقوط وقعه على قلوبهن بخلاف غضبه تعالى.
والفرقة الواقعة باللعان في حكم التطليقة البائنة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ولا يتأبد حكمها حتى إذا كذب الرجل نفسه بعد ذلك فحدّ جاز له أن يتزوّجها وعند أبي يوسف وزفر والحسن بن زياد والشافعي هي فرقة بغير طلاق توجب تحريماً مؤبداً اليس لهما اجتماع بعد ذلك أبداً وإذا لم يكن الزوج من أهل الشهادة بأن كان عبداً أو كافراً بأن أسلمت امرأته فقذفها قبل أن يعرض عليه الإسلام أو محدوداً في قذف وهي من أهلها حد الزوج ولا لعان لعدم أهلية اللعان وبيان اللعان مشبعاً موضعه الفقه فليطلب هناك وكذا القذف.
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُه وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} جواب لولا محذوف لتهويله والإشعار بضيق العبارة عن حصره كأنه قيل : ولا تفضله عليكم ورحمته أيها الرامون والمرميات وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة حكيم في جميع أفعاله وأحكامه التي من جملتها ما شرع لكم من حكم اللعان لكان ما كان مما لا يحيط به نطاق البيان ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حد القذف مع أن الظاهر صدقه لأنه أعرف بحال زوجته وأنه لا يفترى عليها لاشتراكهما في الفضاحة وبعد ما شرع لهم ذلك لو جعل شهاداته موجبة لحدّ القذف عليه
121
(6/86)
لفات النظر له ولا ريب في خروج الكل عن سنن الحكمة والفضل والرحمة فجعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما حتما دارئة لما توجه إليه من الغائلة الدنيوية وقد ابتلى الكاذب منها في تضاعيف شهاداته من العذاب بما هو أتم مما درأه عنه واطم وفي ذلك من أحكام الحكم البالغة وآثار التفضل والرحمة ما لا يخفى أما على الصادق فظاهر وأما على الكاذب فهو أمهال له والستر عليه في الدنيا ودرء الحد عنه وتعريضه للتوبة حسبما ينبىء عنه التعرض لعنوان توابيته سبحانه ما أعظم شأنه وأوسع رحمته وأدق حكمته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 120
قال الكاشفي : (واكرنه فضل خداي تعالى بودي برشما ويخشايش أو وآنكه خداي قبول كنندة توبة است حكم كننده در حدود أحكام هر آييته شمارا فضيحت كردى ودروغ كواهي را بعذاب عظيم مبتلاً ساختي وكويند اكرنه فضل خدا بودي بتأخير عقوبت شما هلاك شديد يا كرنه فضل فرمودي بأقامت زواجر ونهي ازفواحش هر آينه نسل منقطع شدي ومردم يك ديكررا هلاك كردندي يا اكرنه خداي تعالى يخشيدي برشما بقبول توبة درتيه نا اميدي سر كردان ميشديد س شما بمدد وتوفيق توبة بسر منزل رجا رسانيد :
كر توبه مددكار نبودي
اوراكه بسر حد كرم راه نمودي
ورتوبه نبودي كه درفيض كشودي
زنك غم از آينة عاصي كه زدودي
قال بعض الكبار : قال الله : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} ولم يقل ولولا فضل عبادتكم وصلاتكم وجهادكم وحسن قيامكم بأمر الله {مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} (النور : 21) لنعلم أن العبادات وإن كثرت فإنها من نتائج الفضل.
ورويي بخدمت نهي برزمين
خدارا ثنا كوي وخودرا مبين
اللهم اجعلنا من أهل الفضل والعطاء والمحبة والولاء.
جزء : 6 رقم الصفحة : 120
{إِنَّ الَّذِينَ جَآءُو بِالافْكِ} أي ما بلغ مما يكون من الكذب والافتراء : وبالفارسية (بدرستي آنانكه آورده اند دروغ بررك درشان عائشة) وأصله الإفك وهو القلب ، أي : الصرف لأنه مأفوك عن وجهه وسننه والمراد به ما أفك على عائشة رضي الله عنها وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الأمانة والعفة والشرف فمن رماها بالسوء قلب الأمر من وجهه.
روي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيهن خرجت قرعتها استصحبها" والقرعة بالضم طينة أو عجينة مدورة مثلاً يدرج فيها رقعة يكتب فيها السفر والحضر ثم تسلم إلى الصبي يعطي كل امرأة واحدة منهن كذا في القهستاني في القسم فلماكان غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة من الهجرة وهي غزوة المريسيع كما في "إنسان العيون" خرج سهمها وبنو المصطلق بطن من خزاعة وهم غزوة بنو خزيمة والمصطلق من الصلق وهو رفع الصوت والمريسيع اسم ماء من مياه خزاعة مأخوذ من قولهم وسعت عين الرجل إذا دمعت من فساد وذلك الماء في ناحية قديد.
قال في "القاموس" : المريسيع بئر أو ماء وإليه تضاف غزوة بني المصطلق انتهى فخرجت عائشة معه عليه السلام وكان بعد نزول آية الحجاب وهو قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ} (الأحزاب : 53) الآية لأنه كان ذلك سنة ثلاث من الهجرة قالت : فحملت في هودج
122
فسرنا فلما دنونا من المدينة قافلين أي راجعين نزلنا منزلاً ثم نزلت من الرحل فقمت ومشيت لقضاء الحاجة حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار كقطام وهي بلد باليمن قرب صنعاء إليه نسبة الجزع وهو بالفتح وسكون الزاي المعجمة الخرز اليماني فيه سواد وبياض يشبه به الأعين كما في "القاموس" كان يساوي اثني عشر درهماً قد انقطع فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي بتخفيف الحاء أي يجعلون هودجها على الرحل وهو أبو مويهة مولى رسول الله وكان رجلاً صالحاً مع جماعة معه فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه بخفتي وكان النساء إذ ذاك خفافاً لقلة أكلهن أي لأن السمن وكثرة اللحم غالباً تنشأ عن كثرة الأكل كما في "إنسان العيون" فلم يستنكروا خفة الهودج حين رفعوه وذهبوا بالبعير فوجدت عقدي فجئت منازلهم وليس فيها أحد وأقمت بمنزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون في طلبي ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي خلف الجيش.
جزء : 6 رقم الصفحة : 122
(6/87)
قال القرطبي : وكان صاحب ساقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم لشجاعته وكان من خيار الصحابة انتهى كان يسوق الجيش ويلتقط ما يسقط من المتاع كما في الإنسان فأصبح عند منزلي فرأى سواداً أي شخص إنسان فأتاني فعرفني فاستيقظت باسترجاعه أي بقوله إناوإنا إليه راجعون أي لأن تخلف أم المؤمنين عن الرفقة في مضيقة مصيبة أي مصيبة فخمرت وجهي في جلبابي وهو ثوب أقصر من الخمار ويقال له المقنعة تغطي به المرأة رأسها والله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه أي لأنه استعمل الصمت أدباً وهوى حتى أناخ راحلته فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش في بحر الظهيرة أي وسطها وهو بلوغ الشمس منتهاهامن الارتفاع وهم نازلون.
وبهذه الواقعة استدل بعض الفقهاء على أنه يجوز الخلوة بالمرأة الأجنبية إذا وجدها منقطعة ببرية أو نحوها بل يجب استصحابها إذا خاف عليها لو تركها.
وفي "معاني الآثار" للطحاوي : قال أبو حنيفة وكان الناس لعائشة محرماً فمع أيهم سافرت فقد سافرت مع محرم وليس غيرها من النساء كذلك انتهى.
يقول الفقير : لعل مراد الإمام رحمه الله تعالى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم وإن كان كلهن محارم للأمة لأنه تعالى قال : {وَأَزْوَاجُه أُمَّهَـاتُهُمْ} (الأحزاب : 6) وحرم عليهم نكاحهن كما قال : {وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَه مِنا بَعْدِه أَبَدًا} (الأحزاب : 53) إلا أن عائشة كانت أفضل نسائه بعد خديجة وأقربهن منه من حيث خلافتها عنه في باب الدين ولذا قال : "خذوا ثلثي دينكم عن عائشة" فتأكدت الحرمة من هذه الجهة إذ لا بد لأخذ الدين من الاستصحاب للسفر والحضر والله أعلم ، قالت : فلما نزلنا هلك في من هلك بقول البهتان والأفتراء وكان أول من أشاعه في المعسكر عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين فإنه كان ينزل مع جماعة المنافقين متبعدين من الناس فمرت عليهم فقال : من هذه؟ قالوا : عائشة وصفوان فقال : فجربها ورب الكعبة فأفشوه وخاض أهل المعسكر فيه فجعل يرويه بعضهم عن بعض ويحدث به بعضهم بعضاً قالت : فقدمنا المدينة فاشتكيت أي مرضت حين قدمت شهراً ووصل الخبر إلى رسول الله وإلى أبويّ ولا أشعر بشيء من ذلك غير أنه يريبني أن لا أعرف من رسول الله العطف
123
الذي كنت أرى منه حين اشتكيت فلما رأيت ذلك قلت : يا رسول الله لو أذنت لي فأنقلب إلى أبويّ يمرضاني والتمريض القيام على المريض في مرضه قال : لا بأس فانقلبت إلى بيت أبويّ وكنت فيه إلى أن برئت من مرضي بعد بضع وعشرين ليلة فخرجت في بعض الليالي ومعي أم مسطح كمنبر وهي بنت خالة أبي بكر رضي الله عنه قبل المناصع وهي مواضع يتخلى فيها لبول أو حاجة ولا يخرج إليها إلا ليلاً وكان عادة أهل المدينة حينئذٍ أنهم كانوا لا يتخذون الكنيف في بيوتهم كالأعاجم بل يذهبون إلى محل متسع قالت فلما فرغنا من شأننا وأقبلنا إلى البيت عثرت أم مسطح في مرطها وهو كساء من صوف أو خز كان يؤتزر به فقالت : تعس مسطح بفتح العين وكسرها أي هلك تعني ولدها والمسطح في الأصل عمود الخيمة واسمه عوف فقلت لها : أتسبين رجلاً قد شهد بدراً فقالت : أو لم تسمعي ما قال قلت : وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرض أي عاودني المرض وازددت عليه وبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 122
شمم ذكريه برسر آبست روز شب
جانم زناله درتب وتابست روز شب
فاستشار رسول الله في حقي فأشار بعضهم بالفرقة وبعضهم بالصبر وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء فقام وأقبل حتى دخل عليّ وعندي أبواي ثم جلس فتشهد ثم قال : "أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا فإن كنت بريئة فيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب الله تاب إلى الله عليه" فلما قضى رسول الله كلامه قلص دمعي أي ارتفع حتى ما أحس منه بقطرة فقلت لأبي : أجب عني رسول الله فيما قال ، قال : والله لا أدري ما أقول لرسول الله فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله فقلت : لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة منه لتصدقوني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا ما قال أبو يوسف أي يعقوب : {فَصَبْرٌ جَمِيلٌا وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف : 18).
صبري كنيم تاكرم أوه ميكند
(6/88)
قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وأنا والله حينئذٍ أعلم أني بريئة والله مبرئي ببراءة ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم في بأمر يتلى ولكني كنت أرجو أن يرى النبي عليه السلام رؤيا يبرئني الله بها قالت : فوالله ما قام رسول الله عن مجلسه ولا خرج من البيت حتى أخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي أي من شدة الكرب فسجي أي غطي بثوب ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه وكان ينحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الثاني من ثقل القول الذي أنزل عليه والجمان حبوب مدحرجة تجعل من الفضة أمثال اللؤلؤ فلما سرى عنه وهو يضحك ويمسح العرق من وجهه الكريم كان أول كلمة تكلم بها "أبشري يا عائشة أما إن الله قد برأك".
فقالت أمي : قومي إليه فقلت : والله لا أحمد إلا الله فأنزل الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ جَآءُو بِالافْكِ} الآيات.
قال السهيلي : كان نزول براءة عائشة بعد قدومهم المدينة من الغزوة المذكورة لسبع وثلاثين ليلة في قول المفسرين فمن نسبها إلى الزنى كغلاة الرافضة كان كافراً لأن في ذلك تكذيباً للنصوص
124
القرآنية ومكذبها كافر.
وفي "حياة الحيوان" : عن عائشة رضي الله عنها لما تكلم الناس بالإفك رأيت في منامي فتى فقال لي : مالك؟ قلت : حزينة مما ذكر الناس فقال : ادعى بكلمات يفرج الله عنك قلت : وما هي؟ قال : قولي : يا سابغ النعم ويا دافع النقم ويا فارج الغم ويا كاشف الظلم ويا اعدل من حكم ويا حسيب من ظلم ويا أول بلا بداية ويا آخر بلا نهاية اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً قالت : فانتبهت وقلت ذلك وقد أنزل الله فرجي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 122
قال بعضهم : برأ الله أربعة بأربعة يوسف بشاهد من أهل زليخا وموسى من قول اليهود فيه أن له أدرة بالحجر الذي فر بثوبه ومريم بإنطاق ولدها وعائشة بهذه الآيات وبعد نزولها خرج عليه السلام إلى الناس وخطبهم وتلاها عليهم وأمر بجلد أصحاب الإفك ثمانين جلدة.
وعن عائشة أن عبد الله بن أبي جلد مائة وستين أي حدين قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهكذا يفعل لكل من قذف زوجة نبيّ أي يجوز أن يفعل به ذلك.
وفي "الخصائص الصغرى" : من قذف أزواجه عليه السلام فلا توبة له البتة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره ويقتل كما نقله القاضي وغيره وقيل : يختص القتل بمن قذف عائشة ويحدّ في غيرها حدّين كذا في "إنسان العيون" : .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما لم تبغ امرأة نبي قط وأما قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط {فَخَانَتَاهُمَا} (التحريم : 10) فالمراد آذتاهما قالت امرأة نوح في حقه أنه لمجنون وامرأة لوط دلت على أضيافه وإنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون زانية لأن النبي مبعوث إلى الكفار ليدعوهم إلى الدين وإلى قبول ما قاله من الأحكام والثواب والعقاب وهذا المقصود لا يحصل إذا كان في الأنبياء ما ينفر الكفرة عنهم والكفر ليس مما ينفر عندهم بخلاف الفجور فإنه من أعظم المنفرات.
وعن "كتاب الإشارات" : للفخر الرازي رحمه الله أنه عليه السلام في تلك الأيام التي تكلم فيها بالإفك كان أكثر أوقاته في البيت فدخل عليه عمر فاستشاره في تلك الواقعة فقال : يا رسول الله أنا أقطع بكذب المنافقين وأخذت براءة عائشة من أن الذباب لا يقرب بدنك فإذا كان الله صان بدنك أن يخالطه الذباب لمخالطته القاذورات فكيف بأهلك ودخل عليه عثمان فاستشاره فقال : يا رسول الله أخذت براءة عائشة من ظلك لأني رأيت الله صان ظلك أن يقع على الأرض أي لأن ظل شخصه الشريف كان لا يظهر في شمس ولا قمر لئلا يوطأ بالأقدام فإذا صان الله ظلك فكيف بأهلك ودخل عليّ فاستشاره فقال : يا رسول الله أخذت براءة عائشة من شيء هو أنّا صلينا خلفك وأنت تصلي بنعليك ثم أنك خلعت إحدى نعليك فقلنا : ليكون ذلك سنة لنا فقلت : "لا إن جبريل قال : إن في تلك النعل نجاسة" فإذا كان لا تكون النجاسة بنعليك فكيف بأهلك فسرّ عليه السلام بذلك فصدقهم الله فيما قالوا وفضح أصحاب الإفك بقوله : {إِنَّ الَّذِينَ جَآءُو بِالافْكِ} {عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} خبر إن والعصبة والعصابة جماعة من العشرة إلى الأربعين والمراد هنا عبد الله بن أبي وزيد بن رفاعة ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم واختلفوا في حسان بن ثابت والذي يدل على براءته ما نسب إليه في أبيات مدح بها عائشة رضي الله عنها منها :
جزء : 6 رقم الصفحة : 122
مهذبة قد طيب اللَّه خيمها
وطهرها من كل سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتمو
فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
125
وكيف وودّي ما حييت ونصرتي
لآل رسول الله زين المحافل
كما في "إنسان العيون".
قال الإمام السهيلي في "كتاب التعريف والإعلام" : قد قيل أن حسان لم يكن فيهم أي في الذين جاؤوا بالإفك فمن قال أنه كان فيهم أنشد البيت المروي حين جلدوا الحدّ.
لقد ذاق حسان الذي كان أهله
وحمنة إذ قالا لهجر ومسطح
(6/89)
ومن برأه الإفك قال إنما الرواية في البيت.
لقد ذاق عبد اللَّه ما كان أهله
انتهى : ومعنى الآية أن الذين آتوا الكتاب في أمر عائشة جماعة كائنة منكم في كونهم موصوفين بالإيمان وعبد الله أيضاً كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهراً وإن كان رئيس المنافقين خفية {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ} الخطاب لرسول الله وأبي بكر وعائشة وصفوان ولمن ساءه ذلك من المؤمنين تسلية لهم من أول الأمر والضمير للإفك {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لاكتسابكم الثواب العظيم لأنه بلاء مبين ومحنة ظاهرة وظهور كرامتكم على الله بإنزال ثماني عشرة آية في نزاهة ساحتكم وتعظيم شأنكم وتشديد الوعيد فيمن تكلم فيكم والثناء على من ظنّ بكم خيراً {لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُم} أي : من أولئك العصبة والامرؤ الإنسان والرجل كالمرء والألف للوصل.
{مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الاثْمِ} بقدر ما خاض فيه لأن بعضهم تكلم بالإفك وبعضهم ضحك وبعضهم سكت ولم ينههم.
قال في "التأويلات" : على حسب سعايتهم وفساد ظنهم وهتك حرمة حرم نبيهم انتهى والإثم الذنب.
{وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ} أي : تحمل معظم الإفك.
قال في "المفردات" : فيه تنبيه على أن كل من سنّ سنة قبيحة يصير مقتدى به فذنبه أكبر {مِّنْهُم} من العصبة وهو ابن أبي فإنه بدأ به وأذاعه بين الناس عداوة لرسول الله كما سبق.
{لَه عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي لعبد الله نوع من العذاب العظيم المه لأن معظم الشر كان منه فلما كان مبتدئاً بذلك القول لا جرم حصل له من العقاب مثل ما حصل لكل من قال ذلك لقوله عليه السلام "من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
جزء : 6 رقم الصفحة : 122
وفي "التأويلات النجمية" : {لَه عَذَابٌ عَظِيمٌ} يؤاخذ بجرمه وهو خسارة الدنيا والآخرة ثم أورد الحديث المذكرو.
هركه بنهد سنتي بداي فتى
تادر افتد بعد أو خلق ازعمى
جمع كردد بروى آن جمله بزه
كو سرى بودست وايشان دم غزه
{لَّوْلا} تحضيضية بمعنى هلا.
وبالفارسية (را) ومعناها إذا دخلت على الماضي التوبيخ واللوم على ترك الفعل إذ لا يتصور الطلب في الماضي وإذا دخلت على المضارع فمعناها الحض على الفعل والطلب له فهي في المضارع بمعنى الأمر.
{إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أيها الخائضون ، أي : الشارعون في القول الباطل {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} عدول إلى الغيبة لتأكيد التوبيخ فإن مقتضى الإيمان الظن بالمؤمن خيراً وذب الطاعنين فيه فمن ترك هذا الظن والذب فقد ترك العمل بمقتضى الإيمان والمراد بأنفسهم أبناء جنسهم النازلون منزلة أنفسهم كقوله تعالى : {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} (الحجرات : 11) فإن المراد لا يعيب بعضكم بعضاً فإن المؤمنين كنفس واحدة إذ كان الواجب أن يظن المؤمنون والمؤمنات أول ما سمعوه ممن اخترع بالذات أو بالواسطة من
126
غير تلعثم وتردد بمثلهم من آحاد المؤمنين خيراً.
في ذلك الآن {هَـاذَآ} (اين سخن) {إِفْكٌ مُّبِينٌ} أي : ظاهر مكشوف كونه إفكاً فكيف بالصديقة بنت الصديق أم المؤمنين حرم رسول الله.
يعني : حق سبحانه (أزواج يغمبر نكاه ميدارد از مثل اين حالها بتعظيم وتكريم ايشان).
{لَّوْلا جَآءُو} (را نياوردند).
{عَلَيْهِ} (برين سخن را) {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} أي : هلا جاء الخائضون بأربعة شهداء يشهدون على ما قالوا وهو إما من تمام القول أو ابتداء كلام من الله.
{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَآءِ} الأربعة فأولئك المفسدون {عِندَ اللَّهِ} في حكمه وشرعه المؤسس على الدلائل الظاهرة المتقنة.
{هُمُ الْكَـاذِبُونَ} الكاملون في الكذب المشهود عليه بذلك المستحقون لإطلاق الاسم عليه دون غيرهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 122
قال الكاشفي : (ايشانند دروغ كويان در ظاهر وباطن ه اكر كواه آوردندى در ظاهر حكم كاذب نبودندي اما در باطن كاذب بودندى زيراكه اين صورت برازدواج انبيا ممتنع است وون كواه نياوردند در ظاهر اين كار نيز كاذبند).
قال القرطبي وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب لا في علم الله وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه وأجمع العلماء على أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن السرائر إلى الله.
{وَلَوْلا} امتناعية ، أي لامتناع الشيء لوجود غيره.
{فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} خطاب للسامعين والمسلمين جميعاً {فِى الدُّنْيَا} من فنون النعم التي من جملتها الإمهال بالتوبة {وَالاخِرَةِ} من ضروب الآلاء التي من جملتها العفو والمغفرة المقدران لكم {لَمَسَّكُمْ} عاجلاً.
يعني (هر آينه بر سيدي شمارا) {فِى مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ} أي : بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك.
{عَذَابٌ عَظِيمٌ} يستحقر دونه التوبيخ والجلد.
(6/90)
جزء : 6 رقم الصفحة : 122
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} بحذف إحدى التاءين للمس أي لمسكم ذلك العذاب العظيم وقت تلقيكم إياه من المخترعين.
{بِأَلْسِنَتِكُمْ} يأخذه بعضكم من بعض وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول له : ما وراءك فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع وانتشر فلم يبق بيت ولا دار الإطار فيه يقال تلقى الكلام من فلان وتلقنه وتلقفه ولقفه إذا أخذه من لفظه وفهمه.
وفي "الإرشاد" : التلقي والتلقف والتلقن معان متقاربة خلا أن في الأول معنى الاستقبال وفي الثاني معنى الخطف والأخذ بسرعة وفي الثالث معنى الحذق والمهارة.
{وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِه عِلْمٌ} معنى بأفواهكم مع أن القول لا يكون إلا بالفم هو أن الإخبار بالشيء يجب أن تستقر صورته في القلب أولاً ثم يجري على اللسان وهذا الإفك ليس إلا قول لا يجري على الألسنة من غير علم به في القلب وهو حرام لقوله تعالى : {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ} (الإسراء : 36) والمعنى وتقولون قولاً مختصاً بالأفواه من غير أن يكون له مصداق ومنشأ في القلوب لأنه ليس بتعبير عن علم به في قلوبكم.
{وَتَحْسَبُونَه هَيِّنًا} سهلاً لا تبعة له ، وهي بالفارسية (عاقبة به).
أو ليس له كثير عقوبة.
{وَهُوَ عِندَ اللَّهِ} والحال أنه عنده تعالى {عَظِيمٌ} في الوزر واستجرار العذاب وعن بعضهم أنه جزع عند الموت فقيل له فقال : أخاف ذنباً لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم وفي كلام بعضهم لا تقولن لشيء من سيئاتك نقير فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير ،
127
وقال عبد الله بن المبارك : ما أرى هذه الآية نزلت إلا فيمن اعتاد الدعاوى العظيمة ويجترىء على ربه في الإخبار عن أحوال الأنبياء والأكابر ولا يمنعه عن ذلك هيبة ربه ولا حياؤه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 127
وقال الترمذي : من تهاون بما يجري عليه من الدعاوى فقد صغر ما عظمه الله إن الله تعالى يقول : {وَتَحْسَبُونَهُ} إلخ.
اكر مردى از مردىء خود مكوى
نه هر شهوارى بدر برد كوى
{وَلَوْلا} (را) {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} من المخترعين والتابعين لهم {قُلْتُم} تكذيباً لهم وتهويلاً لما ارتكبوه.
{مَّا يَكُونُ لَنَآ} ما يمكننا.
{أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـاذَا} القول وما يصدر عنا ذلك بوجه من الوجوه وحاصله نفي وجود التكلم به لا نفي وجوده على وجه الصحة والاستقامة.
{سُبْحَـانَكَ} تعجب ممن تفوه به وأصله أن يذكر عند معاينة العجب من صنائعه تنزيهاً له سبحانه من أن يعصب عليه أمثاله ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه أو تنزيه له تعالى من أن يكون حرم نبيه فاجرة فإن فجورها تنفير للناس عنه ومخل بمقصود الزواج بخلاف كفرها كما سبق.
وبالفارسية : (اكست خداى تعالى ازآنكه در حرم محترم يغمبر قدح تواند كرد) {هَـاذَآ} الإفك الذي لا يصح لاحد أن يتكلم به.
{بُهْتَـانٌ عَظِيمٌ} مصدر بهته ، أي قال عليه ما لم يفعل أي كذب عظيم عند الله التقاول به كما في "التأويلات النجمية" أو يبهت ويتحير من عظمته لعظمة المبهوت عليه أي الشخص الذي يبهت عليه أي يقال عليه ما لم يفعل فإن حقارة الذنوب وعظمها كما تكون باعتبار مصادرها كما قال أبو سعيد الخراز قدس سره "حسنات الأبرار سيئات المقربين" كذا تكون باعتبار متعلقاتها.
{يَعِظُكُمُ اللَّهُ} الوعظ النصح والتذكير بالعواقب أي ينصحكم أيها الخائضون في أمر عائشة.
{أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} كراهة أن تعودوا لمثل هذا الخوض والقول.
{أَبَدًا} أي مدة حياتكم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بالله وبرسوله وباليوم الآخر فإن الإيمان يمنع عنه.
وفيه إشارة إلى أن العود إلى مثل هذا يخرجهم من الإيمان.
قال في "الكبير" : يدخل في هذا من قال ومن سمع ولم ينكر لاستوائهما في فعل ما لا يجوز وإن كان المقدم أعظم ذنباً.
{وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ} الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب دلالة واضحة لتتعظوا وتتأدبوا بها أي ينزلها مبينة ظاهرة الدلالة على معانيها لا أنه يبينها بعد أن لم تكن كذلك.
{وَاللَّهُ عَلِيمُ} بأحوال جميع مخلوقاته جلائلها ودقائقها.
{حَكِيمٌ} في جميع تدابيره وأفعاله فأنى يمكن صدق ما قيل في حق حرمة من اصطفاه لرسالته وبعثه إلى كافة الخلق ليرشدهم إلى الحق ويزكيهم ويطهرهم تطهيراً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 127
وقال الكاشفي : (وخداى تعالى داناست بطهارت ذيل عائشة حكم كننده ببرائت ذمت أو ازعيب وعار).
تاكريبان دامنش اكست ازلوت خطا
وزمذمت عيب جو آلوده ازسر تابا
وه زيبا كفته است.
كرا رسد كه كند عيب دامن اكت
كه همو قطره كه بر برك كل كداكي
وفي "التأويلات النجمية" : أن الله تعالى لا يجري على خواص عباده إلا ما يكون سبباً لحقيقة اللطف وإن كان في صورة القهر تأديباً وتهذيباً وموجباً لرفعة درجاتهم وزيادة في قرابتهم
128
(6/91)
وأن قصة الإفك وإن كانت في صورة القهر كانت في حق النبي عليه السلام وفي حق عائشة وأبويها وجميع الصحابة ابتلاء وامتحاناً لهم وتربية فإن البلاء للولاء كاللهب للذهب كما قال عليه السلام "إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل" ، وقال عليه السلام : "يبتلى الرجل على قدر دينه" فإن الله غيور على قلوب خواص عباده المحبوبين فإذا حصلت مساكنة بعضهم إلى بعض يجري الله تعالى ما يرد كل واحد منهم عن صاحبه ويرده إلى حضرته وأن النبي عليه السلام لما قيل له : أي الناس أحب إليك؟ قال : "عائشة فساكنها" وقال : "يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة" وفي بعض الأخبار أن عائشة قالت : يا رسول الله إني أحبك واحب قربك فأجرى الله تعالى حديث الإفك حتى رد رسول الله قلبه عنها إلى الله بانحلال عقدة حبها عن قلبه وردت عائشة قلبها عنه إلى الله حيث قالت لما ظهرت براءة ساحتها : نحمد الله لا نحمدك فكشف الله غيابة تلك المحبة وأزال الشك وأظهر براءة ساحتها حين أدبهم وهذبهم وقربهم وزاد في رفعة درجاتهم وقرباتهم.
قال في "الحكم العطائية وشرحها" : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعائشة عنها لما نزلت براءتها من الإفك على لسان رسول الله عليه السلام : يا عائشة اشكري رسول الله نصراً منه لوجه الكمال لها فقالت : "لا والله لا أشكر" إلا الله رجوعاً منها إلى أصل التوحيد إذ لم يسع غيره في تلك الحال قلبها دلها أبو بكر في ذلك على المقال الأكمل عند الصحو وهو مقام البقاء بالله المقتضى لإثبات الآثار وعمارة الدارين التزاماً لحق الحكم والحكمة وقد قال تعالى : {أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ} (لقمان : 14) فقرن شكرهما بشكره إذ هما أصل وجودك المجازي كما أن أصل وجودك الحقيقي فضله وكرمه فله حقيقة الشكر كما له حقيقة النعمة ولغيره مجازه كما لغيره مجازها وقال عليه السلام : "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" فجعل شكر الناس شرطاً في صحة شكره تعالى أو جعل ثواب الله على الشكر لا يتوجه إلا لمن شكر عباده وكانت هي يعني عائشة في ذلك الوقت لا في عموم أوقاتها مصطلمة أي مأخوذة عن شاهدها فلم يكن لها شعور بغير ربها غائبة عن الآثار لما استولى عليها من سلطان الفرح لمنة المولى عليها فلم تشهد إلا الواحد القهار من غير اعتبار لغيره وهذا هو اكمل المقامات في حالها وهو مقام أبينا إبراهيم عليه السلام إذ قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي والله المسؤول في إتمام النعمة وحفظ الحرمة والثبات لمرادات الحق بالآداب اللائقة بها وهو حسبنا ونعم الوكيل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 127
ثم قال في "التأويلات النجمية" : الطريق إلى الله طريقان طريق أهل السلامة وطريق أهل الملامة فطريق أهل السلامة ينتهي إلى الجنة ودرجاتها لأنهم محبوسون في حبس وجودهم وطريق أهل الملامة ينتهي إلى الله تعالى لأن الملامة مفتاح باب حبس الوجود وبها يذوب الوجود ذوبان الثلج بالشمس فعلى قدر ذوبان الوجود يكون الوصول إلى الله تعالى فأكرم الله تعالى عائشة بكرامة الملامة ليخرجها بها من حبس الوجود بالسلامة وهذا يدل على ولايتها لأن الله تعالى إذا تولى عبداً يخرجه من ظلمات وجوده المخلوقة إلى نور القدم كما قال تعالى : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} (البقرة : 257) انتهى.
قال الحافظ قدس سره :
وفاكنتم وملامت كشيم وخوش باشيم
كه در طريقت ما كافر يست رنجيدن
129
وقال الجامي قدس سره :
عشق درهر دل كه سازد بهر وردت خانة أول أز سنك ملامت افكند بنياد أو.
جزء : 6 رقم الصفحة : 127
{إِنَّ الَّذِينَ} هم ابن أبيّ ومن تبعه في حديث الإفك {يُحِبُّونَ} يريدون {أَن تَشِيعَ الْفَـاحِشَةُ} تنشر وتظهر والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال والمراد هنا الزنى أي خبره {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ} أخلصوا الإيمان {لَّهُمُ} بسبب ذلك {عَذَابٌ أَلِيمٌ} نوع من العذاب متفاقم ألمه {فِى الدُّنْيَا} كالحد ونحوه {وَالاخِرَةِ} كالنار وما يلحق بها.
قال ابن الشيخ ليس معناه مجرد وصفهم بأنهم يحبون شيوعها في حق الذين آمنوا من غير أن يشيعوا ويظهروا فإن ذلك القدر لا يوجب الحد في الدنيا بل المعنى أن الذين يشيعون الفاحشة والزنى في الذين آمنوا كصفوان وعائشة عن قصد ومحبة لإشاعتها.
وفي "الإرشاد" : يحبون شيوعها ويتصدون مع ذلك لإشاعتها وإنما لم يصرح به اكتفاء بذكر المحبة فإنها مستتبعة له لا محالة وفي الذين آمنوا متعلق بتشيع أي تشيع فيما بين الناس وذكر المؤمنين لأنهم العمدة فيهم أو بمضمر هو حال من الفاحشة فالموصول عبارة عن المؤمنين خاصة أي يحبون أن تشيع الفاحشة كائنة في حق المؤمنين وفي شأنهم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} جميع الأمور وخصوصاً ما في ضمائر من حب الإشاعة.
{وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فابنوا الأمر في الحد ونحوه على الظواهر والله يتولى السرائر.
(6/92)
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُه وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} جواب لولا محذوف أي لولا فضله وإنعامه عليكم وأنه بليغ الرأفة والرحمة بكم بالعقاب على ما صدر منكم.
وفي الآيتين إشارات :
منها : أن أهل الإفك كما يعاقبون على الإظهار يعاقبون بإسرار محبة الإشاعة فدل على وجوب سلامة القلب للمؤمنين كوجوب كف الجوارح والقول عما يضرهم وفي الحديث : "إني لأعرف قوماً يضربون صدورهم ضرباً يسمعه أهل النار وهم الهمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون ستورهم ويشيعون لهم الفواحش" ، وفي الحديث : "أيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله أن يرميه بها في النار" كما في "الكبير" فالصنيع الذي ذكر من أهل الإفك ليس من صنيع أهل الإيمان فإن من صنيع أهل الإيمان ما قال عليه السلام : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وقال : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كنفس واحدة إذا اشتكى منها عضو تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر".
جزء : 6 رقم الصفحة : 130
بني آدم اعضاى يكد يكرند
كه در آفرينش زيك كوهرند
و عضوى بدر دآوردر وزكار
دكر عضوها را نماند قرار
توكز محنت ديكران بي غمى
نشايد كه نامت نهند آدمى
فمن أركان الدين مظاهرة المسلمين وإعانة أهل الدين وإرادة الخير بكافة المؤمنين والذي يود الفتنة وافتضاح الناس فهو شر الخلق كالخناس.
ومنها أن ترك المعاجلة بالعذاب تعريض للتوبة فدل على أن عذاب الآخرة إنما هو على تقدير الإصرار وعليه يحمل قوله عليه السلام : "إذا كان يوم القيامة حد الله الذين شتموا عائشة ثمانين على رؤوس الخلائق فيستوهب لي المهاجرين منهم وأستأمرك
130
يا عائشة".
قال الراوي فلما سمعت عائشة وكانت في البيت بكت وقالت : "والذي بعثك بالحق نبياً لسرورك أحب إليّ من سروري" فتبسم رسول الله ضاحكاً وقال : "ابنة صديق".
ومنها غاية كرم الله ورحمته وفضله على عباده حيث يتفضل عليهم ويرحمهم ويزكيهم عن أوصافهم الذميمة مع استحقاقهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة فإنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ولو كان العذاب لكان من جهتهم بسوء اختيارهم عصمنا الله وإياكم من الأوصاف الذميمة الموجبة للعذاب الأليم وشرفنا بالأخلاق الحميدة الباعثة على الدرجات والتنعمات في دار النعيم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 130
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ} جمع خطوة بضم الخاء وهي ما بين القدمين أي ما بين رجلي الخاطي وبالفتح المرة الواحدة من الخطو ثم استعمل اتباع الخطوات في الاقتداء وإن لم يكن ثمة خطو يقال : اتبع خطوات فلان ومشى على عقبه إذا استنّ بسنته والمراد ههنا سيرة الشيطان وطريقته.
والمعنى لا تسلكوا الطرق التي يدعوكم إليها الشيطان ويوسوس بها في قلوبكم ويزينها لأعينكم ومن جملتها إشاعة الفاحشة وحبها {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ} فقد ارتكب الفحشاء والمنكر فقوله : {فَإِنَّهُ} أي : الشيطان {يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ} علة للجزاء وضعت موضعه والفحشاء والفاحشة ما عظم قبحه عرفاً وعقلاً سواء كان فعلاً أو قولاً والمنكر ما ينكره الشرع.
وقال أبو الليث : المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة.
وفي "المفردات" : المنكر كل شيء تحكم العقول الصحيحة بقبحه أو تتوقف في استقباحه العقول وتحكم بقبحه الشريعة واستعير الأمر لتزيينه وبعثه لهم على الشر تحقيراً لشأنهم {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بهذه البيانات والتوفيق للتوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها {مَا زَكَى} ما طهر من دنس الذنوب.
{مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ} من الأولى بيانية والثانية زائدة واحد في حيز الرفع على الفاعلية.
{أَبَدًا} آخر الدهر لا إلى نهاية.
{وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّى} يطهر {مَن يَشَآءُ} من عباده بإفاضة آثار فضله ورحمته عليه وحمله على التوبة ثم قبولها منه كما فعل بكم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 131
وفيه حجة على القدرية فإنهم زعموا أن طهارة النفوس بالطاعات والعبادات من غير توفيق من الله.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ} مبالغ في سمع الأقوال التي من جملتها ما قالوه من حديث الإفك وما أظهروه من التوبة منه {عَلِيمٌ} بجميع المعلومات التي من جملتها نياتهم وفيه حث لهم على الإخلاص في التوبة.
كر نباشد نيت خالص ه حاصل از عمل
وفي الآية أمور :
(6/93)
منها : أن خطوات الشيطان كثيرة وهي جملة ما يطلق عليه الفحشاء والمنكر ومن جملته القذف والشتم والكذب وتفتيش عيوب الناس وفي الحديث : "كلام ابن آدم كله عليه لاله إلا أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو ذكر الله تعالى" وفي الحديث : "كثرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك به مصدق وأنت له كاذب" وفي الحديث : "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس" وأنفق من مال اكتسبه من غير معصية وخالط أهل الفقه والحكمة وجانب أهل الجهل والمعصية.
وعن بعضهم خطوات الشيطان النذور في معصية الله كما في "تفسير أبي الليث" فيخرج منها النذور في طاعة الله كالصلاة والصوم ونحوهما مما ينهى عن الفحشاء
131
والمنكر فضلاً عن كونه فحشاء أو منكراً.
ومنها : أن أمر التزكية إنما هو إلى الله فإنه بفضله ورحمته وفق العبد للطاعات والأسباب ولكن لا بد للعبد من أستاذ يتعلم منه كيفية التزكية على مراد الله تعالى وأعظم الوسائل هو النبي عليه السلام ثم من أرشده إلى الله تعالى.
قال شيخ الإسلام عبد الله الأنصاري قدس سره : مشايخي في علم الحديث وعلم الشريعة كثيرة وأما شيخي في الطريقة فالشيخ أبو الحسن الخرقاني فلولا رأيته ما عرفت الحقيقة فأهل الإرشاد هداة طريق الدين ومفاتيح أبواب اليقين فوجود الإنسان الكامل غنيمة ومجالسته نعمة عظيمة.
زمن أي دوست أين يك ند بذير
بروفتراك صاحب دولتي كيير
كه قطره تا صدف را درنيابد
نكردد كوهر روشن نتابند
ثم أن التزكية الحقيقية تطهر القلب عن تعلقات الأغيار بعد تطهيره عن الميل إلى المعاصي والأوزار وقوله : {مَن يَشَآءُ} إنما هو لأن كل أحد ليس بأهل للتزكية كالمنافقين وأهل الرين والرعونة.
ومنها : الإشارة إلى مغفرة من خاض في حديث الإفك من أهل بدر كمسطح ويدل عليها الاعتناء بشأنه في الآية الآتية وقد ثبت أن الله اطلع على أهل بدر يعني نظر إليهم بنظر الرحمة والمغفرة فقال : (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) والمراد به اظهار العناية بهم واعلاء رتبتهم لا الترخيص لهم في كل فعل كما يقال للمحبوب اصنع ما شئت.
جزء : 6 رقم الصفحة : 131
وفي "المقاصد الحسنة" : كأنك من أهل بدر هو كلام يقال لمن يتسامح أو يتساهل والله المسؤول في قبول التوبة عن كل حوبة
{وَلا يَأْتَلِ} من الائتلاء وهو القسم.
وبالفارسية : (سوكند خوردن) كما في "تاج المصادر" من الألية بمعنى اليمين أي لا يخلف نزل في شأن الصديق رضي الله عنه حين حلف أن يقطع نفقته عن مسطح ابن خالته لخوضه في عائشة رضي الله عنها وكان فقيراً بدرياً مهاجراً ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه.
{أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ} ذوو الفضل في الدين والفضل الزيادة.
{وَالسَّعَةِ} في المال {أَن يُؤْتُوا} أي على أن لا يؤتوا شيئاً ولا يحسنوا بإسقاط الخافض وهو كثير شائع.
{أُوْلِى الْقُرْبَى} ذوي القرابة {وَالْمَسَـاكِينَ وَالْمُهَـاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} صفات لموصوف واحد أي ناساً جامعين لها لأن الكلام فيمن كان كذلك لأن مسطحاً قريب ومسكين ومهاجر جيء بها بطريق العطف تنبيهاً على أن كلاً منها علة مستقلة لاستحقاق الإيتاء {وَلْيَعْفُوا} عن ذنبهم {وَلْيَصْفَحُوا} أي ليعرضوا عن لومهم.
قال الراغب الصفح ترك التثريب وهو أبلغ من العفو وقد يعفو الإنسان ولا يصفح {أَلا تُحِبُّونَ} (آيا دوست نمى داريد) {أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} أي : بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته على المؤاخذة وكثرة ذنوب العباد الداعية إليها.
وفيه ترغيب عظيم في العفو ووعد كريم بمقابلته كأنه قيل : ألا تحبون أن يغفر الله لكم فهذا من موجباته.
روي : أنه عليه السلام قرأ هذه الآية على أبي بكر رضي الله عنه فقال : بلى أحب أن يغفر الله لي فرد إلى مسطح نفقته وكفر عن يمينه وقال : والله لا أنزعها أبداً.
وفي "معجم الطبراني الكبير" أنه أضعف له النفقة التي كان يعطيه إياها قبل القذف أي أعطاه ضعف ما كان يعطيه قبل ذلك.
132
وفي الآية دليل على أن من حلف على أمر فرأى الحنث أفضل منه فله أن يحنث ويكفر عن يمينه ويكون له ثلاثة أجور أحدها ائتماره بأمر الله تعالى والثاني أجر بره وذلك في صلة قرابته والثالث أجر التكفير.
جزء : 6 رقم الصفحة : 131
ثم في الآية فوائد :
منها : أن العلماء استدلوا بها على فضل الصديق رضي الله عنه وشرفه من حيث نهاه مغايبة ونص على فضله وذكره بلفظ الجمع للتعظيم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم لا يفعلوا كيت وكيت والمنكرون يحملون الفضل على فضل المال لكن لا يخفى أن يستفاد من قوله : {وَالسَّعَةِ} فيلزم التكرير فثبت كونه أفضل الخلق بعد رسول الله عليه السلام.
(6/94)
قال في "إنسان العيون" : وصف الله تعالى الصديق بأولي الفضل موافق لوصفه عليه السلام بذلك فقد جاء أن علياً كرم الله وجهه دخل على النبي صلى الله عليه وسلّم وأبو بكر رضي الله عنه جالس عن يمين رسول الله فتنحى أبو بكر عن مكانه وأجلس علياً بينه وبين النبي عليه السلام فتهلل وجه النبي فرحاً وسروراً وقال : "لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أولو الفضل" : قال الحكيم سنابي :
بود ندان كرامت وفضلش
كه أولوا الفضل خواند ذو الفضلش
صورت وسيرتش همه جان بود
زان زشم عوان نهان بود
روزوشب سال وماه درهمه كار
ثاني اثنين اذهما في الغار
ومنها : أنها كفت داعيه إلى المجاملة والإعراض عن مكافاة المسيء وترك الاشتغال بها وعن أنس رضي الله عنه : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالس إذ ضحك حتى بدت نواجذه فقال عمر رضي الله عنه : بأبي أنت وأمي ما الذي أضحكك؟ قال : "رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما : خذ لي مظلمتي من هذا فقال الله تعالى : رد على أخيك مظلمته فقال : يا رب لم يبق من حسناتي شيء فقال : يا رب فليحمل عني من أوزاري" ثم فاضت عينا رسول الله بالبكاء فقال : "إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى أن يحمل عنهم أوزارهم" فقال : "فيقول الله تعالى للمتكلم : ارفع بصرك فانظر في الجنان فقال يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق أو لأي شهيد قال الله تعالى : لمن أعطى الثمن قال يا رب ومن يملك ذلك قال الله تعالى : أنت تملكه قال : بماذا يا رب؟ قال الله تعالى : بعفوك عن أخيك قال : يا رب قد عفوت عنه قال الله تعالى : خذ بيد أخيك فأدخله الجنة".
من كان يرجو عفو من فوقه
فليعف عن ذنب الذي دونه
در عفو لذتيست ه در انتقام نيست
ومنها : بيان تأديب الله للشيوخ والأكابر أن لا يهجروا صاحب الزلات وأهل العثرات من المريدين ويتخلقوا بخلق الله حيث يغفر الذنوب ولا يبالي وأعلمهم أن لا يكفوا إعطاءهم عنهم ويخبروهم ما وقع لهم من أحكام الغيب فإن من له استعداد لا يحتجب بالعوارض البشرية عن أحكام الطريقة أبداً والله المعين على كل حال وبيده العفو عن سيئات الأعمال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 131
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ} قد سبق معنى الرمي في أوائل السورة.
{الْمُحْصَنَـاتِ} العفائف مما رمين من الفاحشة والزنى {الْغَـافِلَـاتِ} (بيخبران) عنها على الإطلاق بحيث لم يخطر ببالهن شيء منها ولا من
133
مقدماتها أصلاً ففيها من الدلالة على كمال النزاهة ما ليس في المحصنات.
قال في "التعريفات" : الغفلة عن الشيء هي أن لا يخطر ذلك بباله {الْمُؤْمِنَـاتِ} أي : المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من الواجبات والمحظورات وغيرها إيماناً حقيقياً تفصيلياً كما ينبىء عنه تأخير المؤمنات عما قبلها مع أصالة وصف الإيمان والمراد بها عائشة الصديقة رضي الله عنها والجمع باعتبار أن رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين لاشتراك الكل في العصمة والنزاهة والانتساب إلى رسول الله عليه السلام كما في قوله تعالى : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} (الشعراء : 105) ونظائره {لُعِنُوا} بما قالوا في حقهن وهتكوا حرمتهن {فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ} حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبداً.
وبالفارسية (دور كرده شدند در دنيا از نام نيكو در آخرت از رحمت يعني درين عالم مردود وملعونند ودران سراى مبغوض ومطرود) وأصل اللعنة الطرد والإبعاد على سبيل السخط وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع عن قبول فيضه وتوفيقه ومن الإنسان دعاء على غيره.
{وَلَهُمْ} مع ما ذكر من اللعن الأبدي {عَذَابٌ عَظِيمٌ} لعظم ذنوبهم.
قال مقاتل : هذا خاص في عبد الله بن أبيّ المنافق وإليه الإشارة بقول حضرة الشيخ نجم الدين في "تأويلاته" {إِنَّ الَّذِينَ} إلخ أي إن الذين لم يكونوا من أهل بدر من أصحاب الإفك اهـ.
ليخرج مسطح ونحوه كما سبقت الإشارة إلى مغفرته.
وقال بعضهم : الصحيح أنه حكم كل قاذف ما لم يتب لقوله عليه السلام : "اجتنبوا الموبقات السبع الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المؤمنات الغافلات" وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من قذف أزواج النبي عليه السلام فلا توبة له ومن قذف مؤمنة سواهن قد جعل الله له توبة ثم قرأ : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَـاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} إلى قوله : {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} الآية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 131
(6/95)
{يَوْمَ} ظرف لما في الجار والمجرور والمتقدم من معنى الاستقرار {تَشْهَدَ} الشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة.
{عَلَيْهِمْ} تقديمه على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون الشهادة ضارة لهم.
{أَلْسِنَتُهُمْ} بغير اختيار منهم وهذا قبل أن يختم على أفواههم فلا تعارض بينه وبين قوله تعالى : {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} (يس : 65) {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فتخبر كل جارحة بما صدر من أفاعيل صاحبها لا أن كلا منها تخبر بجنايتها المعهودة فقط فالموصول عبارة عن جميع أعمالهم السيئة.
{يَوْمَـاـاِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} التوفية بذل الشيء وافياً والوافي الذي بلغ التمام والدين الجزاء والحق منصوب على أن يكون صفة للدين أي يوم إذ تشهد جوارحهم بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله جزاءهم الثابت الواجب الذي هم أهله وافياً كاملاً {وَيَعْلَمُونَ} عند معاينتهم الأهوال والخطوب {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أي الظاهر حقيته لما أنه أبان لهم حقية ما كان يعدهم به في الدنيا من الجزاء.
ويقال : إن ما قال الله هو الحق.
وفي الآية أمور :
منها بيان جواز اللعنة على من كان من أهلها.
قال الإمام الغزالي رحمه الله الصفات المقتضية للعن ثلاث الكفر والبدعة والفسق وله في كل واحدة ثلاث مراتب الأولى اللعن بالوصف الأعم كقولك لعنة الله على الكافرين أو المبتدعة أو الفسقة والثانية اللعن بأوصاف أخص منه كقولك لعنة الله على اليهود والنصارى أو على القدرية والخوارج والروافض
134
أو على الزناة والظلمة وأكلي الربا وكل ذلك جائز ولكن في لعن بعض أصناف المبتدعة خطر لأن معرفة البدعة غامضة فما لم يرد فيه لفظ مأثور ينبغي أن يمنع منه العوام لأن ذلك يستدعي المعارضة بمثله ويثير نزاعاً وفساداً بين الناس والثالثة اللعن على الشخص فينظر فيه أن كان ممن ثبت كفره شرعاً فيجوز لعنه إن لم يكن فيه أذى على مسلم كقولك لعنة الله على النمرود وفرعون وأبي جهل لأنه ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر وعرف ذلك شرعاً وأن كان ممن لم يثبت حال خاتمته بعد كقولك زيد لعنه الله وهو يهودي أو فاسق فهذا فيه خطر لأنه ربما يسلم أو يتوب فيموت مقرباً عند الله تعالى فكيف يحكم بكونه ملعوناً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 134
ومنها شهارة الأعضاء وذلك بانطاق الله تعالى فكما تشهد على المذنبين تشهد للمطيعين بطاعتهم فاللسان يشهد على الإقرار وقراءة القرآن واليد تشهد بأخذ المصحف والرجل تشهد بالمشي إلى المسجد والعين تشهد بالبكاء والأذن تشهد باستماع كلام الله.
ويقال شهادة الأعضاء في القيامة مؤجلة وشهادتها في المحبة اليوم معجلة من صفرة الوجه وتغير اللون ونحافة الجسم وانسكاب الدموع وخفقان القلب وغير ذلك : قال الحافظ :
باضعف وناتواني همون نسيم خوش باش
يمارى اندرين ره بهتر زتن درستي
ومنها أن المجازاة بقدر الاستحقاق فللفاسقين بالقطيعة والنيران وللصالحين بالدرجات وللعارفين بالوصلة والقربة ورؤية الرحمن {الْخَبِيثَـاتُ} من النساء أي الزواني : وبالفارسية (زنان نا ك) {لِلْخَبِيثِينَ} من الرجال أي الزناة كابن أبيّ المنافق تكون له امرأة زانية أي مختصات بهم لا يكدن يتجاوزنهم إلى غيرهم لأنملكاً يسوق الأهل إلى الأهل ويجمع الأشكال بعضاً إلى بعض على أن اللام للاختصاص {وَالْخَبِيثُونَ} أيضاً : وبالفارسية (مردان نا ك) {لِلْخَبِيثَـاتِ} لأن المجانسة من دواعي الانضمام {وَالطَّيِّبَـاتُ} منهن أي العفائف {لِلطَّيِّبِينَ} منهم أي العفيفين {وَالطَّيِّبُونَ} أيضاً {لِلطَّيِّبَـاتِ} منهن بحيث لا يكادون يجاوزونهن إلى من عداهن وحيث كان رسول الله عليه السلام اطيب الاطيبين وخيرة الأولين والآخرين تبين كون الصديقة من أطيب الطيبات بالضرورة واتضح بطلان ما قيل في حقها من الخرافات حسبما نطق به قوله تعالى : {أولئك} الموصوفون بعلو الشان يعني أهل البيت.
وقال في "الأسئلة المقحمة" : آية الإفك نزلت في عائشة وصفوان فكيف ذكرها بلفظ الجمع والجواب : لأن الشين وعار الزنى والمعرة بسببه تتعدى إلى الرسول لأنه زوجها وإلى أبي بكر الصديق لأنه أبوها وإلى عامة المسلمين لأنها أمهم فذكر الكل بلفظ الجمع (بيزار كرده شد كان يعني منزه ومعرا اند).
{مِمَّا يَقُولُونَ} أي مما يقوله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة في جميع الأعصار والأطوار إلى يوم القيامة {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} عظيمة لما يخلو عنه البشر من الذنب {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في الجنة أي كثير ويقال حسن.
جزء : 6 رقم الصفحة : 134
قال الكاشفي : (يعني ريح وبسيار وايدار مراد نعيم بهشت است).
قال الراغب : كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم وقال بعضهم : الرزق الكريم هو الكفاف الذي لا منة فيه لأحد في الدنيا ولا تبعة له في الآخرة.
(6/96)
يقول الفقير : الظاهر من سوق الآيات ولا سيما من قوله : {مِمَّا يَقُولُونَ} أن المعنى أن الخبيثات من القول : يعني (سخنان ناشا يسته ونا اك) للخبيثين من الرجال والنساء أي مختصة ولائقة بهم لا ينبغي
135
أن تقاتل في حق غيرهم وكذا الخبيثون من الفريقين أحقاء بأن يقال في حقهم خبائث القول والطيبات من الكلم للطيبين من الفريقين أي مختصة وحقيقة بهم وكذا الطيبون من الفريقين احقاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم أولئك الطيبون مبرؤون مما يقول الخبيثون في حقهم فمآله تنزيه الصديقة أيضاً.
وقال بعضهم : خبيثات القول مختصة بالخبيثين من فريقي الرجال والنساء لا تصدر عن غيرهم والخبيثون من الفريقين مختصون بخبائث القول متعرضون لها كابن أبي المنافق ومن تابعه في حديث الإفك من المنافقين إذ كل إناء يترشح بما فيه والطيبات من الكلام للطيبين من الفريقين أي مختصة بهم لا تصدر عن غيرهم والطيبون من الفريقين مختصون بطيبات الكلام لا يصدر عنهم غيرها أولئك الطيبون مبرؤون مما يقول الخبيثون من الخبائث أي لا يصدر عنهم مثل ذلك فمآله تنزيه القائلين سبحانك هذا بهتان عظيم.
وقد وقع أن الحسن بن زياد بن يزيد الساعي من أهل طبرستان وكان من العظماء وكان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وكان يرسل في كل سنة إلى بغداد عشرين ألف دينار تفرق على أولاد الصحابة فحصل عنده رجل من أشياع العلويين فذكر عائشة رضي الله عنها بالقبيح فقال الحسن لغلامه : يا غلام اضرب عنق هذا فنهض إليه العلويون وقالوا هذا رجل من شيعتنا فقال : معاذ الله هذا طعن على رسول الله فإن كانت عائشة خبيثة كان زوجها أيضاً كذلك وحاشاه صلى الله عليه وسلّم من ذلك بل هو الطيب الطاهر وهي الطيبة الطاهرة المبرأة من السماء يا غلام اضرب عنق هذا الكافر فضرب عنقه.
وفي "المثنوي" :
ذره كاندر همه أرض وسماست
جنس خودرا همو كاه وكهر باست
ناريان مر ناريانرا جازبند
نوريان مر نوريانرا طالند
أهل باطل باطلا نرا مى كشند
أهل حق ازاهل حق هم سر خوشتند
طيبات آمد زبهر طيبين
الخبيثات للخبيثين است بين
وقال الراغب : الخبيث ما يكره رداءة وخساسة محسوساً كان أو معقولاً وذلك يتناول الباطل في الاعتقاد والكذب في المقال والقبيح في الفعل وقوله : {الْخَبِيثَـاتُ لِلْخَبِيثِينَ} أي الأعمال الرديئة والاختيارات النبهرجة لأمثالها وأصل الطيب ما يستلذه الحواس وقوله : {وَالطَّيِّبَـاتُ لِلطَّيِّبِينَ} تنبيه على أن الأعمال الطيبة تكون من الطيبين كما روي : "المؤمن اطيب من عمله والكافر اخبث من عمله".
جزء : 6 رقم الصفحة : 134
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى خباثة الدنيا وشهواتها أنها للخبيثين من أرباب النفوس المتمردة والخبيثون من أهل الدنيا المطمئنين بها للخبيثات من مستلذات النفس ومشتهيات هواها معناه أنها لا تصلح إلا لهم وأنهم لا يصلحون إلا لها.
وأيضاً الخبيثات من الأخلاق الذميمة والأوصاف الرديئة للخبيثين من الموصوفين بها والطيبات من الأعمال الصالحة والأخلاق الكريمة للطيبين من الصالحين وأرباب القلوب يعني خلقت الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات كقوله : {وَلِذَالِكَ خَلَقَهُمْ} (هود : 119) وقال عليه السلام : "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وقال عليه الصلاة والسلام : "خلقت الجنة وخلق لها أهل وخلقت النار وخلق لها أهل" وفي "حقائق البقلي" خبيثات هواجس النفس ووساوس الشيطان للباطلين من المرائين والمغالطين وهم لها وطيبات الهام الله بوساطة الملائكة لأصحاب القلوب والأرواح والعقول من العارفين.
وأيضاً الترهات والطامات للمرتابين والحقائق والدقائق من المعارف وشرح
136
الكواشف للعارفين والمحبين انتهى.
وكان مسروق إذا روى عن عائشة رضي الله عنها يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله المبرأة من السماء ، وجاء أن ابن عباس رضي الله عنهما دخل على عائشة في موتها فوجدها وجلة من القدوم على الله فقال لها : لا تخافي فإنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم فغشي عليها من الفرح بذلك لأنها كانت تقول متحدثة بنعمة الله عليها لقد أعطيت خصالاً ما أعطيتهن امرأة لقد نزل جبريل بصورتي في راحته حتى أمر رسول الله أن يتزوجني ولقد تزوجني بكراً وما تزوج بكراً غيري ولقد توفي وأن رأسه لفي حجري ولقد قبر في بيتي وأن الوحي ينزل عليه في أهله فيتفرقون منه وأنه كان لينزل عليه وأنا معه في لحاف واحد وأبي رضي الله عنه خليفته وصديقه ولقد نزلت براءتي من السماء ولقد خلقت طيبة عند طيب لقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 134
(6/97)
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} روي : عن عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار قال : جاءت امرأة إلى رسول الله عليه السلام فقالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد فيأتي الآتي فيدخل فكيف أصنع؟ قال : "ارجعي" فنزلت هذه الآية {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} (يعني بهي خانة بيكانه درماييد) وصف البيوت بمغايرة بيوتهم خارج مخرج العادة التي هي سكنى كل أحد في ملكه وإلا فالآجر والمعير أيضاً منهيان عن الدخول بغير إذن يقال آجره أكراه والأجرة الكراء وأعاره دفعه عارية.
{حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} أي تستأذنوا ممن يملك الإذن من أصحابها.
وبالفارسية (تا وقتي كه خبر كيريد ودستوري طلبيد).
من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا ابصره مكشوفاً فعلم به فإن المستأذن مستعلم للحال مستكشف أنه هل يؤذن له أو لا ومن الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش لما أن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا أذن له استأنس ولهذا يقال في جواب القادم المستأذن مرحباً أهلاً وسهلاً أي وجدت مكاناً واسعاً وأتيت أهلاً لا أجانب ونزلت مكاناً سهلاً لا حزناً ليزول به استيحاشه وتطيب نفسه فيؤول المعنى إلى أن يؤذن لكم وهو من باب الكناية حيث ذكر الاستئناس اللازم وأريد الإذن الملزوم.
وعن النبي عليه السلام في معنى الاستئناس حين سئل عنه فقال : "هو أن يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة ويتنحنح يؤذن أهل البيت".
قال في "نصاب الاحتساب" : امرأة دخلت في بيت غير بغير إذن صاحبه هل يحتسب عليها؟ فالجواب : إذا كانت المرأة ذات محرم منه حل لامرأته الدخول في منازل محارم زوجها بغير إذنهم وهذا غريب يجتهد في حفظه ذكره في سرقة "المحيط" ولهذا لو سرقت من بيت محارم زوجها لا قطع عليها عند أبي حنيفة رحمه الله وما في غير ذلك يحتسب عليها كما يحتسب على الرجل لقوله تعالى : {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} أي تستأذنوا انتهى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 137
فالدخول بالإذن من الآداب الجميلة والأفعال المرضية المستتبعة لسعادة الدارين {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} عند الاستئذان بأن يقول : السلام عليكم أدخل ثلاث مرات فإن أذن له دخل وسلم ثانياً وإلا رجع.
{ذَالِكُمْ} الاستئذان مع التسليم {خَيْرٌ لَّكُمْ} من أن تدخلوا بغتة ولو على الأم فإنها تحتمل أن تكون عريانة.
وفيه إرشاد إلى ترك تحية أهل الجاهلية حين الدخول فإن الرجل منهم كان إذا دخل بيتاً غريباً صباحاً.
قال : "حييتم صباحاً"
137
وإذا دخل مساء.
قال : "حييتم مساء" قال الكاشفي : (وكفته اند كسي كه برعيال خود درمي آيد بايدكه بكلمة يا بآ وازيا بتنحنحى اعلام كند تا أهل آن خانه بستر عورات ودفع مكروهات اقدام نمايند) {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} متعلق بمضمر أي أمرتم به كي تذكروا وتتعظوا وتعلموا بموجبه.
اعلم أن السلام من سنة المسلمين وهو تحية أهل الجنة ومجلبة للمودة وناف للحقد والضغينة روي : عنه عليه السلام قال : "لما خلق الله تعالى آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمدفقال الله تعالى يرحمك ربك يا آدم اذهب إلى هؤلاء الملائكة وملأ منهم جلوس فقل : السلام عليكم فلما فعل ذلك رجع إلى ربّه قال : هذه تحيتك وتحية ذريتك" وروي عنه عليه السلام قال : "حق المسلم على المسلم ست يسلم عليه إذا لقيه ويجيبه إذا دعاه وينصح له بالغيب ويشمته إذا عطس ويعوده إذا مرض ويشهد جنازته إذا مات" ثم إنه إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق أو قتل نفس بغير حق أو ظهور منكر يجب إزالته فحينئذ لا يجب الاستئذان والتسليم فإن كل ذلك مستثنى بالدليل وهو ما قاله الفقهاء من أن مواقع الضرورات مستثناة من قواعد الشرع لأن الضرورات تبيح المحظورات.
قال صاحب "الكشاف" : وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل بها وباب الاستئذان من ذلك انتهى.
وفي الآية الكريمة إشارة إلى ترك الدخول والسكون في البيوت المجازية الفانية من الأجساد وترك الاطمئنان بها بل لا بد من سلام الوداع للخلاص فإذا ترك العبد الركون إلى الدنيا الفانية وشهواتها وأعرض عن البيوت التي ليست بدار قرار فقد رجع إلى الوطن الحقيقي الذي حبه من الإيمان.
اكر خواهي وطن بيرون قدوم نه
{فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَآ} أي في تلك البيوت {أَحَدًا} أي ممن يملك الإذن على أن من لا يملكه من النساء والولدان وجدانه كفقدانه أو لم تجدوا أحداً أصلاً {فَلا تَدْخُلُوهَا} فاصبروا {حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} أي من جهة من يملك الإذن عند إتيانه فإن في دخول بيت فيه النساء والولدان اطلاعاً على العورات وفي دخول البيوت الخالية اطلاعاً على ما يعتاد الناس إخفاءه مع أن التصرف في ملك الغير محظور مطلقاً.
يعني (دخول درخانة خالي بي إذن كسى محل تهمت سرقه است).
جزء : 6 رقم الصفحة : 137
(6/98)
يقول الفقير : قد ابتليت بهذا مرة غفلة عن حكم الآية الكريمة فأطال عليّ وعلى رفقائي بعض من خارج البيت لكوننا مجهولين عندهم فوجدت الأمر حقاً {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا} انصرفوا.
{فَارْجِعُوا} ولا تقفوا على أبواب الناس ، أي أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أم لا فارجعوا ولا تلحوا بتكرير الاستئذان كما في الوجه الأول أو لا تلحوا بالإصرار على الانتظار على الأبواب إلى أن يأتي الإذن كما في الثاني فإن ذلك مما يجلب الكراهة في قلوب الناس ويقدح في المروءة أي قدح.
{هُوَ} أي : الرجوع {أَزْكَى لَكُمْ} أي : أطهر مما لا يخلو عنه اللج والعناد والوقوف على الأبواب من دنس الدناءة والرزالة.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه فيجازيكم عليه.
وفي "التأويلات النجمية" :
138
{فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَآ أَحَدًا} يشير إلى فناء صاحب البيت وهو وجود الإنسانية {فَلا تَدْخُلُوهَا} بتصرف الطبيعة الموجبة للوجود {حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} بأمر من الله بالتصرف فيها للاستقامة كما أمر.
{وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا} أي إلى ربكم {فَارْجِعُوا} ولا تتصرفوا فيها تصرف المطمئنين بها.
{هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} لئلا تقعوا في فتنة من الفتن الإنسانية وتكونوا مع الله بالله بلا أنتم.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الرجوع إلى الله وترك تعلقات البيوت الجسدانية {عَلِيمٌ} خير لكم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 137
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} .
قال في "المفردات" جنحت السفينة أي مالت إلى أحد جانبيها سمى الإثم المائل بالإنسان عن الحق جناحاً ثم سمى كل إثم جناحاً.
{أَن تَدْخُلُوا} أي : بغير استئذان {بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} أي غير موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة فقط بل لينتفع بها من يضطر إليها كائناً من كان من غير أن يتخذها سكناً كالربط والخانات والحوانيت والحمامات ونحوها فإنها معدة لمصالح الناس كافة كما ينبىء عنه قوله تعالى : {فِيهَا مَتَـاعٌ لَّكُمْ} فإنه صفة للبيوت أي حق تمتع لكم وانتفاع كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والرحال والشراء والبيع والاغتسال وغير ذلك مما يليق بحال البيوت وداخلها فلا بأس بدخولها بغير استئذان من قوام الرباطات والخانات وأصحاب الحوانيت ومتصرفي الحمامات ونحوهم.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} تظهرون {وَمَا تَكْتُمُونَ} تستترون وعيد لمن يدخل مدخلاً من هذه المداخل لفساد أو اطلاع على عورات.
قال في "نصاب الاحتساب" : رجل له شجرة فرصاد قد باع أغصانها فإذا ارتقاها المشتري يطلع على عورات الجار قال : يرفع الجار إلى القاضي حتى يمنعه من ذلك.
قال الصدر الشهيد في "واقعات المختار" أن المشتري يخبرهم وقت الارتقاء مرة أو مرتين حتى يستروا أنفسهم لأن هذا جمع بين الحقين وإن لم يفعل إلى أن يرفع الجار إلى القاضي فإن رأى القاضي المنع كان له ذلك.
ولو فتح كوّة في جداره حتى وقع نظره فيها إلى نساء جاره يمنع من ذلك.
وفي "البستان" : لا يجوز لأحد أن ينظر في بيت غيره بغير إذنه فإن فعل فقد أساء وأثم في فعله فإن نظر ففقأ صاحب البيت عينه اختلفوا فيه قيل : لا شيء عليه وقيل : عليه الضمان وبه نأخذ.
وكان عمر رضي الله عنه يعس ليلة مع ابن مسعود رضي الله عنه فاطلع من خلل باب فإذا شيخ بين يديه شراب وقينة تغنيه فتسورا فقال عمر رضي الله عنه : ما صح لشيخ مثلك أن يكون على مثل هذه الحالة فقام إليه الرجل فقال : يا أمير المؤمنين أنشدك بالله إلا ما أنصفتني حتى أتكلم قال : قل قال : إن كنت عصيت الله في واحدة فقد عصيت أنت في ثلاث قال : ما هن؟ قال : تجسست وقد نهاك الله فقال : {وَلا تَجَسَّسُوا} (الحجرات : 12) وتسورت وقد قال الله : {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} (البقرة : 189) إلى {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (البقرة : 189) ودخلت بغير إذن وقد قال الله : {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} فقال عمر : صدقت فهل أنت غافر لي فقال : غفر الله لك فخرج عمر يبكي ويقول : ويل لعمر إن لم يغفر الله له.
جزء : 6 رقم الصفحة : 139
فإن قلت : دل هذا على أن المحتسب لا يدخل بيتاً بلا إذن وقد صح أنه يجوز له الدخول في بيت من يظهر البدع بلا إذن.
قلت : هذا فيما أظهر وذلك فيما أخفى.
وفي "التأويلات النجمية" : في الآية إشارة إلى جواز تصرف السالك الواصل في بيت الجسد الذي هو غير مسكون لصاحبه وهو الإنسانية لفنائها عن وجودها بإفناء الحق تعالى فيها متاع لكم أي الآلات والأدوات التي تحتاجون إليها عند السير في عالم الله ولتحصيلها بعثت الأرواح
139
(6/99)
إلى أسفل سافلين الأجساد والله يعلم ما تبدون من تصرفاتكم بالآلات الإنسانية وما تكتمون من نياتكم أنها لطلب رضى الله تعالى أو لهوى نفوسكم انتهى.
قال الجامي قدس سره :
جيت خاص أست كه كنج كهر اخلاص است
نيست اين درثمين دربغل هردغلي
{قُلْ} يا محمد {لِّلْمُؤْمِنِينَ} حذف مفعول الأمر تعويلاً على دلالة جوابه عليه أي قل لهم : غضوا {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَـارِهِمْ} عما يحرم.
وبالفارسية (بوشند ديدهاى خودرا ازديدن نا محرم كه نظر سبب فتنه است).
والغض إطباق الجفن بحيث يمنع الرؤية ولما كان ما حرم النظر إليه بعضاً من جملة المبصرات تبعض البصر باعتبار تبعض متعلقه فجعل ما تعلق بالمحرم بعضاً من البصر وأمر بغضه {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} عمن لا يحل أو يستروها حتى لا تظهر والفرج الشق بين الشيئين كفرجة الحائط والفرج ما بين الرجلين وكني به عن السوءة وكثر حتى صار كالصريح فيه أتى بمن التبعيضية في جانب الأبصار دون الفروج مع أن المأمور به حفظ كل واحد منهما عن بعض ما تعلقا به فإن المستثنى من البصر كثير فإن الرجل يحل له النظر إلى جميع أعضاء أزواجه وأعضاء ما ملكت يمينه وكذا لا بأس عليه في النظر إلى شعور محارمه وصدورهن وثديهن وأعضائهن وسوقهن وأرجلهن وكذا من أمة الغير حال عرضها للبيع ومن الحرة الأجنبية إلى وجهها وكفيها وقدميها في رواية في القدم بخلاف المستثنى من الفرج فإنه شيء نادر قليل وهو فرج زوجته وأمته فلذلك أطلق لفظ الفرج ولم يقيد بما استثنى منه لقلته وقيد غض البصر بحرف التبعض {ذَالِكَ} أي ما ذكر من الغض والحفظ.
{أَزْكَى لَهُمْ} أي أطهر لهم من دنس الريبة {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُا بِمَا يَصْنَعُونَ} لا يخفى عليه شيء فليكونوا على حذر منه في كل حركة وسكون روي : عن عيسى ابن مريم عليهما السلام أنه قال : إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب شهوة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 139
قال الكاشفي (در ذخيرة الملوك آورده كه تيزرو ترين يكى شيطائرا درو جود إنسان شم است زيرا حواس ديكر درمسما كن خود اند وتا يري بديشان نميررسد باستدراج آن مشغول نميتوانند شد اماديده حاسه ايست كه ازدور ونزديك ابتلا وانام راصيد ميكند) :
اين همه آفت كه بتن ميرسد
از نظر توبه شكن ميرسد
ديده فرووش ودر در صدق
تانشوى تير بلارا هدف
وفي "النصاب" : النظرة الأولى عفو والذي يليها عمد وفي الأثر : "يا ابن آدم لك النظرة الأولى فما بال الثانية" وفي الحديث : "اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة : اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا ما اؤتمنتم واحفظوا فروجكم وغضّوا أبصاركم وكفوا أيديكم" ، وفي الحديث : "بينما رجل يصلي إذ مرت به امرأة فنظر إليها واتبعها بصره فذهبت عيناه".
قال الشيخ نجم الدين في "تأويلاته" : يشير إلى غض أبصار الظواهر من المحرمات وأبصار النفوس عن شهوات الدنيا ومألوفات الطبع ومستحسنات الهوى وأبصار القلوب عن رؤية الأعمال ونعيم الآخرة وأبصار الأسرار عن الدرجات والقربات وأبصار الأرواح عن الالتفات لما سوى الله وأبصار الهمم عن العلل بأن لا يروا أنفسهم أهلاً للشهود من الحق سبحانه غيرة عليه
140
تعظيماً واجلالاً ويشير أيضاً إلى حفظ فروج الظواهر عن المحرمات وفروج البواطن عن التصرفات في الكونين لعله دنيوية أو أخروية.
{ذَالِكَ أَزْكَى لَهُمْ} صيانة عن تلوث الحدوث ورعاية للحقوق عن شوب الحظوظ.
{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُا بِمَا يَصْنَعُونَ} يعملون للحقوق والحظوظ اللهم اجعلنا من الذين يراعون الحقوق في كل عمل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 139
{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَـاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـارِهِنَّ} فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجل وهي العورة عند أبي حنيفة وأحمد.
وعند مالك ما عدا الوجه والأطراف والأصح من مذهب الشافعي أنها لا تنظر إليه كما لا ينظر هو إليها {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} بالتصون عن الزنى أو بالتستر ولا خلاف بين الأئمة في وجوب ستر العورة عن اعين الناس.
واختلفوا في العورة ما هي فقال أبو حنيفة عورة الرجل ما تحت سرته إلى تحت ركبته والركبة عورة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
(6/100)
وفي "نصاب الاحتساب" : من لم يستر الركبة ينكر عليه برفق لأن في كونها عورة اختلافاً مشهوراً ومن لم يستر الفخذ يعنف عليه ولا يضرب لأن في كونها عورة خلاف بعض أهل الحديث.
ومن لم يستر السوءة يؤدب إذ لا خلاف في كونها عورة عن كراهية الهداية انتهى.
ومثل الرجل الأمة وبالأولى بطنها وظهرها لأنه موضع مشتهى والمكاتبة وأم الولد والمدبرة كالأمة وجميع الحرة عورة إلا وجهها وكفيها والصحيح عنده أن قدميها عورة خارج الصلاة لا في الصلاة وقال مالك عورة الرجل فرجاه وفخذاه والأمة مثله وكذا المدبرة والمعتقة إلى أجل والحرة كلها عورة إلا وجهها ويديها ويستحب عنده لأم الولد أن تستر من جسدها ما يجب على الحرة ستره والمكاتبة مثلها وقال الشافعي وأحمد : عورة الرجل ما بين السرة والركبة وليست الركبة من العورة وكذا الأمة والمكاتبة وأم الولد والمدبرة والمعتق بعضها والحرة كلها عورة سوى الوجه والكفين عند الشافعي وعند أحمد سوى الوجه فقط على الصحيح وأما سرة الرجل فليست من العورة بالاتفاق كذا في "فتح الرحمن" وتقديم الغض لأن النظر يريد الزنى ورائد الفساد يعني أن الله تعالى قرن النهي عن النظر إلى المحارم بذكر حفظ الفرج تنبيهاً على عظم خطر النظر فإنه يدعو إلى الإقدام على الفعل وفي الحديث : "النظر سهم من سهام إبليس" قيل : من أرسل طرفه اقتنص حتفه : وفي "المثنوي" :
كرزناى شم حظى مي برى
نى كباب ازهلوى خود مي خورى
اين نظر ازدور ون تيرست وسم
عشقت افزون مي شود صبرتوكم
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} فضلاً عن إبداء مواقعها يقال بدا الشيء بدواً وبدوّاً أي ظهر ظهوراً بيناً وأبدى أظهر.
{إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (مكر آنه ظاهر شود ازان زينت بوقت ساختن كارها ون خاتم واطراف ثياب وكحل درعين وخضاب دركف) فإن في سترها حرجاً بيناً.
قال ابن الشيخ : الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو ثوب أو صبغ فما كان منها ظاهراً كالخاتم والفتخة وهي ما لا فص فيه من الخاتم والكحل والصبغ فلا بأس بابدائه للأجانب بشرط الأمن من الشهوة وما خفي منها كالسوار والدملج وهي خلقة تحملها المرأة على عضدها والوشاح والقرط فلا يحل لها إبداؤها إلا للمذكورات فيما بعد بقوله : {إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} .
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى كتمان ما زين الله به سرائرهم من
141
صفاء الأحوال وزكاء الأعمال فإنه بالإظهار ينقلب الزين شيناً إلا ما ظهر منها وارد حق أو يظهر على أحد منهم نوع كرامة بلا تعمله وتكلفه فذلك مستثنى لأنه غير مؤاخذ بما لم يكن بتصرفه وتكلفه انتهى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
قال في "حقائق البقلي" : فيه استشهاد على أنه لا يجوز للعارفين أن يبدوا زينة حقائق معرفتهم وما يكشف الله لهم من عالم الملكوت وأنوار الذات والصفات ولا المواجيد إلا ما ظهر منها بالغلبات من الشهقات والزعقات والاصفرار والاحمرار وما يجري على ألسنتهم بغير اختيارهم من كلمات السطح والإشارات المشاكلة وهذه الأحوال أشرف زينة للعارفين.
قال بعضهم : أزين ما تزين به العبد الطاعة فإذا أظهرها فقد ذهبت زينتها.
وقال بعضهم : الحكمة في هذه الآية لأهل المعرفة أنه من أظهر شيئاً من أفعاله إلا ما ظهر عليه من غير قصد له فيه سقط به عن رؤية الحق لأن من وقع عليه رؤية الخلق ساقط عن رؤية الحق.
قال الشيخ سعدى قدس سره :
همان به كر آبستن كوهرى
كه همون صدف سر بخود دربرى
وفي "المثنوي" :
داند وبوشد بامر ذي الجلال
كه نباشد كشف را ازحق حلال
سر غيب آنرا سنرد آموختن
كه زكفتن لب تواند دوختن
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ضمن الضرب معنى الإلقاء ولذا عدي بعلي.
والخمر جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها وتسترها وما ليس بهذه الصفة فليس بخمار.
قال في "المفردات" : أصل الخمر ستر الشيء ويقال لما يستر به خمار لكن الخمار صار في التعارف اسماً لما تغطي به المرأة رأسها.
والجيوب جمع جيب وهو ما جيب من القميص أي قطع لإدخال الرأس.
والمعنى وليلقين مقانعهن على جيوبهن ليسترن بذلك شعورهن وقروطهن وأعناقهن عن الأجانب.
وبالفارسية : (وبايدكه فرو كذا رند مقنعهاى خودرا بر كريبا نهاي خويش يعني كردن خودرا بمقنعه بوشند تاشوى وبنا كوش وكردن وسينة ايشان وشيده ماند).
وفيه دليل على أن صدر المرأة ونحرها عورة لا يجوز للأجنبي النظر إليها {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} أي : الزينة الخفية كالسوار والدملج والوشاح والقرط ونحوها فضلاً عن ابداء مواقعها كرره لبيان من يحل له الإبداء ومن لا يحل له.
وقال أبو الليث : لا يظهر مواضع زينتهن وهو الصدر والساق والساعد والرأس لأن الصدر موضع الوشاح والساق موضع الخلخال والساعد موضع السوار والرأس موضع الإكليل فقد ذكر الزينة وأراد بها موضع الزينة انتهى.
{إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} .
(6/101)
قال في "المفردات" : البعل هو الذكر من الزوجين وجمعه بعولة كفحل وفحولة انتهى أي إلا لأزواجهن فإنهم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الموضع المعهود خصوصاً إذا كان النظر لتقوية الشهوة إلا أنه يكره له النظر إلى الفرج بالاتفاق حتى إلى فرج نفسه لأنه يروى أنه يورث الطمس والعمى وفي كلام عائشة رضي الله عنها ما رأى منى ولا رأيت منه أي عورة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
قال في "النصاب" : أي الزينة الباطنة يجوز إبداؤها لزوجها وذلك لاستدعائه إليها ورغبة فيها ولذلك لعن رسول الله عليه السلام السلقاء والمرهاء فالسلقاء التي لا تختضب والمرهاء التي لا تكتحل.
{أَوْ ءَابَآاـاِهِنَّ} والجد في حكم الأب.
{أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ} (يادران شوهران خويش كه ايشان حكم آباء دارند) {أَوْ أَبْنَآاـاِهِنَّ} (ياسران
142
خويش وسرسر هرندباشد درين داخلست) {أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ} (يا سران شوهران خوده ايشان در حكم سر انند مر زنرا) {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} (ياسران برادران خودكه حكم برادران دارند).
{أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ} (يا سران برادران خود) {أَوْ بَنِى أَخَوَاتِهِنَّ} (ياسران خواهران خود واينها جماعتى اندكه نكاح زن با ايشان روا نيست كه) والعلة كثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن وقلة توقع الفتنة من قبلهم لما في طباع الفريقين من النفرة عن مماسة القرائب ولهم أن ينظروا منهن إلى ما يبدو عند الخدمة.
قال في "فتح الرحمن" : فيجوز لجميع المذكورين عند الشافعي النظر إلى الزينة الباطنة سوى ما بين السرة والركبة إلا الزوج فيباح له ما بينهما.
وعند مالك ينظرون إلى الوجه والأطراف.
وعند أبي حنيفة : ينظرون إلى الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين ولا ينظرون إلى ظهرها وبطنها وفخذها.
وعند أحمد : ينظرون إلى ما يظهر غالباً كوجه ورقبة ويد وقدم ورأس وساق.
قال أبو الليث : النظر إلى النساء على أربع مراتب في وجه يجوز النظر إلى جميع أعضائهن وهو النظر إلى زوجته وأمته ، وفي وجه يجوز النظر إلى الوجه والكفين وهو النظر إلى المرأة التي لا تكون محرماً له ويأمن كل واحد منهما على نفسه فلا بأس بالنظر عند الحاجة ، وفي وجه يجوز النظر إلى الصدر والرأس والساق والساعد وهو النظر إلى امرأة ذي رحم أو ذات رحم محرم مثل الأم والأخت والعمة والخالة وامرأة الأب وامرأة الابن وأم المرأة سواء كان من قبل الرضاع أو من قبل النسب وفي وجه لا يجوز النظر إلى شيء وهو أن يخاف أن يقع في الإثم إذا نظر انتهى وعدم ذكر الأعمام والأخوال لما أن الأحوط أن يتسترن عنهم حذراً من أن يصفوهن لأبنائهم فإن تصور الأبناء لها بالوصف كنظرهم إليها.
{أَوْ نِسَآاـاِهِنَّ} المختصات بهن بالصحبة والخدمة من حرائر المؤمنات فإن الكوافر لا يتأثمن عن وصفهن للرجال فيكون تصور الأجانب إياها بمنزلة نظرهم إليها فإن وصف مواقع زين المؤمنات للرجال الأجانب معدود من جملة الآثام عند المؤمنات فالمراد بنسائهن نساء أهل دينهن وهذا قول أكثر السلف.
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
قال الإمام : قول السلف محمول على الاستحباب والمذهب أن المراد بقوله : {أَوْ نِسَآاـاِهِنَّ} جميع النساء.
يقول الفقير : أكثر التفاسير المعتبرة مشحون بقول السلف فإنهم جعلوا المرأة اليهودية والنصرانية والمجوسية والوثنية في حكم الرجل الأجنبي فمنعوا المسلمة من كشف بدنها عندهن إلا أن تكون أمة لها كما منعوها من التجرد عند الأجانب والظاهر أن العلة في المنع شيئان عدم المجانسة ديناً فإن الإيمان والكفر فرق بينهما وعدم الأمن من الوصف المذكور فلزم اجتناب العفائف عن الفواسق وصحبتها والتجرد عندها.
ولذا منع المناكحة بين أهل السنة وبين أهل الاعتزال كما في "مجمع الفتاوى" : وذلك لأن اختلاف العقائد والأوصاف كالتباين في الدين والذات وأصلح الله نساء الزمان فإن غالب أخلاقهن كأخلاق الكوافر فكيف تجتمع بهن وبالكوافر في الحمام ونحوه من كانت بصدد العفة والتقوى.
وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة أن يمنع الكتابيات من دخول الحمامات مع المسلمات : {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُنَّ} أي : من الإماء فإن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصياً كان أو فحلاً وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وعليه عامة العلماء فلا يجوز لها الحج ولا السفر معه وإن جاز رؤيته إياها إذا وجد الأمن من الشهوة.
وقال
143
(6/102)
ابن الشيخ : فإن قيل : ما الفائدة في تخصيص الإماء بالذكر بعد قوله {أَوْ نِسَآاـاِهِنَّ} فالجواب والله أعلم أنه تعالى لما قال : أو نسائهن دل ذلك على أن المرأة لا يحل لها أن تبدي زينتها للكافرات سواء كن حرائر أو إماء لغيرها أو لنفسها فلما قال : {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُنَّ} مطلقاً أي مؤمنات كنّ أو مشركات علم أنه يحل للأمة أن تنظر إلى زينة سيدتها مسلمة كانت الأمة أو كافرة لما في كشف مواضع الزينة الباطنة لأمتها الكافرة في أحوال استخدامها إياها من الضرورة التي لا تخفى ففارقت الحرة الكافرة بذلك.
{أَوِ التَّـابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الارْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} الإربة الحاجة ، أي الرجال الذين هم أتباع أهل البيت لا حاجة لهم في النساء وهم الشيوخ الاهمام والممسوخون بالخاء المعجمة وهم الذين حولت قوتهم وأعضاؤهم عن سلامتها الأصلية إلى الحالة المنافية لها المانعة من أن تكون لهم حاجة في النساء وأن يكون لهن حاجة فيهم ويقال للممسوخ المخنث وهو الذي في أعضائه لين وفي لسانه تكسر بأصل الخلقة فلا يشتهي النساء وفي المجبوب والخصي خلاف والمجبوب من قطع ذكره وخصيتاه معاً من الجب وهو القطع والخصى من قطع خصيتاه والمختار أن الخصى والمجبوب والعنين في حرمة النظر كغيرهم من الفحولة لأنهم يشتهون ويشتهون وإن لم تساعد لهم الآلة.
يعني (ايشانرا آرزوى مباشرت هست غايتش آنكه أنابي بران نيست).
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
قال بعضهم : قوله تعالى : {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَـارِهِمْ} محكم وقوله {التَّـابِعِينَ} مجمل والعمل بالمحكم أولى فلا رخصة للمذكورين من الخصي ونحوه في النظر إلى محاسن النساء وإن لم يكن هناك احتمال الفتنة.
وفي "الكشاف" : لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم انتهى.
وفي "النصاب" : قرأت في بعض الكتب أن معاوية دخل على النساء ومعه خصي مجبوب فنفرت منه امرأة فقال معاوية : إنما هو بمنزلة امرأة فقالت : أترى أن المثلة به قد احلت ما حرم الله من النظر فتعجب من فطنتها وفقهها انتهى.
وفي "البستان" : أنه لا يجوز خصاء بني آدم لأنه لا منفعة فيه لأنه لا يجوز للخصي أن ينظر إلى النساء كما لا يجوز للفحل بخلاف خصاء سائر الحيوانات ألا ترى أن خصي الغنم أطيب لحماً وأكثر شحماً وقس عليه غيره.
{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ} لعدم تمييزهم من الظهور بمعنى الاطلاع أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة والقدرة.
وبالفارسية (تمييز ندارند وازحال مباشرت بي خبرند با آنكه قادر نيستند براتيان زنان يعني بالغ نشده وبحد شهوت نرسيده) والطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف كالعدو في قوله تعالى : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى} .
قال في "المفردات" : الطفل الولد ما دام ناعماً والطفيلي رجل معروف بحضور الدعوات.
وفي "تفسير الفاتحة" : للمولى الفناري حد الطفل من أول ما يولد إلى أن يستهل صارخاً إلى انقضاء ستة أعوام انتهى.
والعورة سوءة الإنسان وذلك كناية وأصلها من العار وذلك لما يلحق في ظهورها من العار أي المذمة ولذلك سمى النساء عورة ومن ذلك العوراء أي الكلمة القبيحة كما في "المفردات".
قال في "فتح القريب" : العورة كل ما يستحيى منه إذا ظهر وفي الحديث : "المرأة عورة جعلها نفسها عورة لأنها إذا ظهرت يستحيى منها كما يستحيى من العورة إذا ظهرت".
قال أهل اللغة : سميت العورة
144
عورة لقبح ظهورها ولغض الأبصار عنها مأخوذة من العور وهو النقص والعيب والقبح ومنه عور العين.
يقول الفقير : يفهم من عبارة الطفل أن التقوى منع الصبيان حضرة النساء بعد سبع سنين فإن ابن السبع وإن لم يكن في حد الشهوة لكنه في حد التمييز مع أن بعض من لم يبلغ حد الحلم مشتهى فلا خير في مخالطة النساء.
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
وفي "ملتقط الناصري" : الغلام إذا بلغ مبلغ الرجال ولم يكن صبيحاً فحكمه حكم الرجال وإن كان صبيحاً فحكمه حكم النساء وهو عورة من قرنه إلى قدمه يعني لا يحل النظر إليه عن شهوة.
فأما السلام والنظر لا عن شهوة فلا بأس به ولهذا لم يؤمر بالنقاب حكي : أن واحداً من العلماء مات فرؤي في المنام وقد اسود وجهه فسئل عن ذلك فقال رأيت غلاماً في موضع كذا فنظرت إليه فاحترق وجهي في النار.
قال القاضي : سمعت الإمام يقول : إن مع كل امرأة شيطانين ومع كل غلام ثمانية عشر شيطاناً.
ويكره مجالسة الأحداث والصبيان والسفهاء لأنه يذهب بالمهابة كما في "البستان".
(6/103)
قال في "أنوار المشارق" : يحرم على الرجل النظر إلى وجه الأمرد إذا كان حسن الصورة سواء نظر بشهوة أم لا وسواء أمن من الفتنة أم خافها ويجب على من في الحمام أن يصون نظره ويده وغيرهما عن عورة غيره وأن يصون عورته عن نظر غيره ويجب الإنكار على كاشف العورة {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ} أي : يخفينه من الرؤية {مِن زِينَتِهِنَّ} أي لا يضربن بأرجلهن الأرض ليتقعقع خلخالهن فيعلم أنهن ذوات خلخال فإن ذلك مما يورث الرجال ميلاً إليهن ويوهم أن لهن ميلاً إليهم وإذا كان إسماع صوت خلخالها للأجانب حراماً كان رفع صوتها بحيث يسمع الأجانب كلامها حراماً بطريق الأولى لأن صوت نفسها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها ولذلك كرهوا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت.
يقول الفقير : وبهذا القياس الخفي ينجلي أمر النساء في باب الذكر الجهري في بعض البلاد فإن الجمعية والجهر في حقهن مما يمنع عنه جداً وهن مرتكبات للإثم العظيم بذلك إذ لو استحب الجمعية والجهر في حقهن لاستحب في حق الصلاة والأذان والتلبية.
قال في "نصاب الاحتساب" : ومما يحتسب على النساء اتخاذ الجلاجل في أرجلهن لأن اتخاذ الجلاجل في رجل الصغير مكروه ففي المرأة البالغة أشد كراهة لأنه مبنى حالهن على التستر {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} إذ لا يكاد يخلو أحدكم من تفريط في أمره ونهيه سيما في الكف عن الشهوات.
وجميعاً حال من فاعل توبوا أي حال كونكم مجتمعين.
وبالفارسية (همه شما) وأيها المؤمنون تأكيد للإيجاب وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال حتماً.
وفي هذه الآية دليل على أن الذنب لا يخرج العبد من الإيمان لأنه قال : {أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} بعدما أمر بالتوبة التي تتعلق بالذنب {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تفوزون بسعادة الدارين وصى الله تعالى جميع المؤمنين بالتوبة والاستغفار لأن العبد الضعيف لا ينفك عن تقصير يقع منه وإن اجتهد في رعاية تكاليف الله تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
إمام قشيري رحمه الله تعالى : (فرموده كه محتاجتر بتوبه آنكس است كه خودرا محتاج توبه نداند.
در كشف الأسرار آورده كه همه را از مطيع وعاصي بتوبه أمر فرمود تا عاصي خجل زده نشود ه اكر فرمودى كه أي كنهكاران شما توبه كنيد موجب رسوايى ايشان شدى ون دردنيا ايشانرا
145
رسوا نمى خواهند اميدهست درعقبى هم رسوا نكند).
و رسوا نكردى بندين خطا
درين عالم يش شاه وكدا
دران عالم هم برخاص وعام
بيامرز ورسوا مكن والسلام
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن التوبة كما هي واجبة على المبتدىء من ذنوب مثله كذلك لازمة للمتوسط والمنتهي فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "توبوا إلى الله جميعاً فإني أتوب إليه في كل يوم مائة مرة" فتوبة المبتدىء من المحرمات وتوبة المتوسط من زوائد المحللات وتوبة المنتهي بالإعراض عما سوى الله بكليته والإقبال على الله بكليته {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ففلاح المبتدىء من النار إلى الجنة والمتوسط من أرض الجنة إلى أعلى عليين مقامات القرب ودرجاتها والمنتهي من حبس الوجود المجازي إلى الوجود الحقيقي ومن ظلمة الخلقية إلى نور الربوبية : وفي "المثنوي" :
ون تجلى كرد أوصاف قديم
س بسوزد وصف حادث را كليم
قرب نى بالأستي رفتن است
قرب حق ازحبس هستي رستن است
قال بعض الكبار : أن الله تعالى طالب المؤمنين جميعاً بالتوبة ومن آمن بالله وترك الشرك فقد تاب وصحت توبته ورجوعه إلى الله وإن خطر عليه خاطر أو جرى عليه معصية في حين التوبة فإن المؤمن إذا جرى عليه معصية ضاق صدره واهتم قلبه وندم روحه ورجع سره هذا للعموم والإشارة في الخصوص أن الجميع محجوبون بأصل النكرة وما وجدوا منه من القربة وسكنوا بمقاماتهم ومشاهداتهم ومعرفتهم وتوحيدهم أي أنتم في حجب هذا المقام توبوا منها إليّ فإن رؤيتها أعظم الشرك في المعرفة لأن من ظن أنه واصل فليس له حاصل من معرفة وجوده وكنه جلال عزته فمن هذا أوجب التوبة عليهم في جميع الأنفاس لذلك هجم حبيب الله في بحر الفناء وقال : "أنه ليغان على قلبي وأني لاستغفر الله في كل يوم مائة مرة" ففهم أن عقيب كل توبة توبة حتى تتوب من التوبة وتقع في بحر الفناء من غلبة رؤية القدم والبقاء اللهم اجعلنا فانين باقين {وَأَنكِحُوا الايَـامَى مِنكُمْ} مقلوب أيايم جمع أيم كيتامى مقلوب يتايم جميع يتيم فقلب قلب مكان ثم أبدلت الكسرة فتحة والياء ألفاً فصار أيامى ويتامى والأيم من لا زوج له من الرجال والنساء بكراً كان أو ثيباً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
(6/104)
قال في "المفردات" : الأيم المرأة التي لا بعل لها وقد قيل للرجل الذي لا زوج له وذلك على طريق التشبيه بالمرأة لا على التحقيق.
والمعنى زوجوا أيها الأولياء والسادات من لا زوج له من أحرار قومكم وحرائر عشيرتكم فإن النكاح سبب لبقاء النوع وحافظ من السفاح.
{وَالصَّـالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآاـاِكُمْ} .
قال في "الكواشي" : أي الخيرين أو المؤمنين.
وقال في "الوسيط" : معنى الصلاح ههنا الإيمان.
وفي "المفردات" : الصلاح ضد الفساد وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال وتخصيص الصالحين فإن من لا صلاح له من الأرقاء بمعزل من أن يكون خليقاً بأن يعتني مولاه بشأنه ويشفق عليه ويتكلف في نظم مصالحه بما لا بد منه شرعاً وعادة من بذل المال والمنافع بل حقه أن لا يستبقيه عنده وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر
146
فلأن الغالب فيهم الصلاح.
يقول الفقير : قد أطلق في هذه الآية الكريمة العبد والأمة على الغلام والجارية وقد قال عليه السلام : "لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي" والجواب أن ذلك إنما يكره إذا قاله على طريق التطاول على الرقيق والتحقير لشأنه والتعظيم لنفسه فسقط التعارض والحمدتعالى : {إِن يَكُونُوا} (اكرباشند ايامي وصلحاً ازعباد وأما) {فُقَرَآءَ} (درويشان وتنكدستان) {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} أي لا يمنعن فقر الخاطب والمخطوبة من المناكحة فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غاد ورائح (كه كاه آيدوكه رود مال وجاه) والله يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب.
قال بعضهم : من صح افتقاره إلى الله صح استغناؤه بالله {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} غني ذو سعة لا تنفد نعمته إذ لا تنتهي قدرته {عَلِيمٌ} يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر على ما تقتضيه حكمته.
اتفق الأئمة على أن النكاح سنة لقوله عليه السلام : "من أحب فطرتي فليستنّ بسنتي ومن سنتي النكاح" وقوله عليه السلام : "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" فإن كان تائقاً ، أي : شديد الاشتياق إلى الوطء يخاف العنت وهو الزنى وجب عليه عند أبي حنيفة وأحمد وقال مالك والشافعي هو مستحب لمحتاج إليه يجد أهبة ومن لم يجد التوقان فقال أبو حنيفة : النكاح له أفضل من نفل العبادة وقال مالك والشافعي بعكسه وعند الشافعي إن لم يتعبد فالنكاح أفضل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
واختلفوا في تزويج المرأة نفسها فأجازه أبو حنيفة لقوله تعالى : {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (البقرة : 232) نهى الرجال عن منع النساء عن النكاح فدل على أنهن يملكن النكاح ومنعه الثلاثة وقالوا : إنما يزوجها وليها بدليل هذه الآية لأن الله تعالى خاطب الأولياء به كما أن تزويج العبيد والإماء إلى السادات واختلفوا هل يجبر السيد على تزويج رقيقه إذا طلب ذلك فقال أحمد : يلزمه ذلك إلا أمة يستمتع بها فإن امتنع من الواجب عليه فطلب العبد البيع لزمه بيعه وخالفه الثلاثة.
قال في "الكواشي" : وهذا أمر ندب أي ما وقع في الآية.
قال في "ترجمة الفتوحات" : (واكرم عزم نكاح كنى جهد كن كه ازقريشيات بدست كنى واكر ازاهل بيت باشد بهتر ونيكوتر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فرموده كه بهترين زنانى كه برشتر سوار شدند زنان قريش اند) قال الزجاج : حث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر ولكن الغنى على وجهين : غنى بالمال وهو أضعف الحالين وغنى بالقناعة وهو أقوى الحالين وإنما كان النكاح سبب الغنى لأن العقد الديني يجلب العقد الدنيوي إما من حيث لا يحتسبه الفقر أو من حيث أن النكاح سبب للجد في الكسب والكسف ينفي الفقر.
رزق اكر ند بيكمان برسد
شرط عقلست جستن ازدرها
واختلف الأئمة في الزوج إذا أعسر بالصداق والنفقة والكسوة والمسكن هل تملك المرأة فسخ نكاحها فقال أبو حنيفة رحمه الله : لا تملك الفسخ بشيء من ذلك وتؤمر بالاستدانة للنفقة لتحيل عليه فإذا فرضها القاضي وأمرها بالاستدانة صارت ديناً عليه فتتمكن من الإحالة عليه والرجوع في تركته لو مات.
روي : عن جعفر بن محمد أن رجلاً شكا إليه الفقر فأمره أن يتزوج فتزوج الرجل ثم جاء فشكا إليه الفقر فأمره أن يطلقها فسئل عن ذلك فقال : قلت لعله من أهل
147
هذه الآية {إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ} إلخ فلما لم يكن من أهلها قلت لعله من أهل آية أخرى {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِّن سَعَتِهِ} (النساء : 130).
قال بعضهم : ربما كان النكاح واجب الترك إذا أدى إلى معصية أو مفسدة وفي الحديث : "يأتي على الناس زمان لا ينال فيه المعيشة إلا بالمعصية فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة" وفي الحديث : "إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزوبة والترهب على رؤوس الجبال" كما في "تفسير الكواشي".
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
(6/105)
قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه : إذا نفد عدد حروف بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يكون أوان خروج المهدي من بطن أمه ، وقد نظم حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر هذا المعنى في بيتين بقوله :
إذا نفد الزمان على حروف
ببسم اللَّه فالمهدي قاما
ودورات الخروج عقيب صوم
ألا بلغه من عندي سلاماً
ولولا الحسد لظهر سر العدد انتهى.
يقول الفقير : إن اعتبر كل راء مكرراً لأن من صفتها التكرار يبلغ حساب الحروف إلى ألف ومائة وستة وثمانين فالظاهر من حديث الكواشي أن المراد مائة وثمانون بعد الألف وعليه قوله عليه السلام : "خيركم بعد المائتين خفيف الحاذ" قالوا : ما خفيف الحاذ يا رسول الله قال : "الذي لا أهل له ولا ولد".
وفي "التأويلات النجمية" {وَأَنكِحُوا الايَـامَى مِنكُمْ وَالصَّـالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآاـاِكُمْ} يشير إلى المريدين الطالبين وهم محرومون من خدمة شيخ يتصرف فيهم ليودع في أرحام قلوبهم النطفة من صلب الولاية فندبهم إلى طلب شيخ من الرجال البالغين الواصلين الذين بهم تحصل الولادة الثانية في عالم الغيب بالمعنى وهو طفل الولاية كما أن ولادتهم أولى حصلت في عالم الشهادة بالصورة ليكون ولوجهم في الملكوت كما أن عيسى عليه السلام قال لم يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين والنشأة الأخرى عبارة عن الولادة الثانية والعبد في هذا المقام أمن من رجوعه إلى الكفر والموت أما أمنه من الكفر فبقوله تعالى : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا} (البقرة : 28) يعني : إذ كنتم نطفة.
{فَأَحْيَـاكُمْ} بالولادة الأولى {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} بموت الإرادة {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (البقرة : 28) بالولادة الثانية {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة : 28) بجذبة {ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً} (الفجر : 28) وأما أمنة من الموت فبقوله تعالى : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا} (الأنعام : 122) يعني : بالإرادة من الصفات النفسانية الحيوانية {فَأَحْيَيْنَـاهُ} (الأنعام : 122) بنور الربوبية.
{وَجَعَلْنَا لَه نُورًا يَمْشِي بِه فِى النَّاسِ} (الأنعام : 122) أي بنور الله فهو حي بحياة الله لا يموت أبداً بل ينقل من دار إلى دار
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
{إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ} معدومي استعداد قبول الفيض الإلهي {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} بأن يجعلهم مستعدي قبول الفيض فإن الطريق من العبد إلى الله مسدود وإنما الطريق من الله إلى العبد مفتوح بأنه تعالى هو الفتاح وبيده المفتاح {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} الأرحام القلوب لتستعد لقبول فيضه {عَلِيمٌ} بإيصاله الفيض إليها انتهى.
{وَلْيَسْتَعْفِفِ} إرشاد للعاجزين عن مبادي النكاح وأسبابه إلى ما هو أولى لهم وأحرى بهم بعد بيان جواز مناكحة الفقراء والعفة حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة والمتعفف المتعاطي لذلك بضرب من الممارسة والقهر والاستعفاف طلب العفة.
والمعنى ليجتهد في العفة وقمع الشهوة.
{الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي : أسباب نكاح من مهر ونفقة فإنه لا معنى لوجدان نفس العقد والتزوج وذلك بالصوم كما قال عليه السلام : "ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" معناه أن الصوم يضعف شهوته ويقهرها عن طلب الجماع
148
فيحصل بذلك صيانة الفرج وعفته فالأمر في محمول على الوجوب في صورة التوقان {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} فيجدوا ما يتزوجون به.
قال في "ترجمة الفتوحات" : (بعض از صالحاً نرا يزى نبود وزن خواست فرزند آمد وما يحتاج آن نداشت س فرزندرا كرفت وبيرون آمدن وندا كردكه اين جزاى آنكس است كه فرمان حق نبرد كفتند زنا كردة كفت في ولكن حق تعالى فرمود {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} من فرمان نبردم وتزوج كردم وفضيحت شد مردمان بروى شفقت كردند وباخير تمام بمنزل خود بازكشت) أي فكان التزوج سبباً للغنى كما في الآية الأولى.
(6/106)
قال في "التأويلات النجمية" : {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي : ليحفظ الذين لا يجدون شيخاً في الحال أرحام قلوبهم عن تصرفات الدنيا والهوى والشيطان.
{حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} بأن يدلهم على شيخ كامل كما دل موسى على الخضر عليهما السلام ، أو يقيض لهم شيخاً كما كان يبعث إلى كل قوم نبياً أو يختص بجذبة عناية من يشاء من عباده كما قال تعالى : {يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (الشورى : 13) فلا يخلو حال المستعفف عن هذه الوجوه.
{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَـابَ} (النور : 33) الابتغاء الاجتهاد في الطلب والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة.
أي الذين يطلبون المكاتبة {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ} عبداً كان أو أمة وهي أن يقول المولى لمملوكه : كاتبتك على كذا كذا درهماً تؤديه إليّ وتعتق ويقول المملوك قبلته أو نحو ذلك فإن أداه إليه عتق يقال كاتب عبده كتاباً إذا عاقده على مال منجم يؤديه على نجوم معلومة ، فيعتق إذا أدى الجميع فإن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ومعنى المفاعلة في هذا العقد أن المولى يكتب أي يفرض ويوجب على نفسه أن يعتق المكاتب إذا أدى البدل ويكتب العبد على نفسه أن يؤدي البدل من غير إخلال وأيضاً بدل هذا العقد مؤجل منجم على المكاتب والمال المؤجل يكتب فيه كتاب على من عليه المال غالباً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
وفي "المفردات" : كتابة العبد ابتياع نفسه من سيده بما يؤديه من كسبه واشتقاقها يصح أن يكون من الكتابة التي هي الإيجاب وأن يكون من الكتب الذي هو النظم باللفظ والإنسان يفعل ذلك روي : أن صبيحاً مولى حويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فنزلت الآية كما في التكملة {فَكَاتِبُوهُمْ} خبر الموصول والفاء لتضمنه معنى الشرط أي فاعطوهم ما يطلبون من الكتابة والأمر فيه للندب لأن الكتابة عقد يتضمن الإرفاق فلا تجب كغيرها ويجوز حالاً ومنجماً وغير منجم عند أبي حنيفة رضي الله عنه.
{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أي : أمانة ورشداً وقدرة على أداء البدل لتحصيله من وجه الحلال وصلاحاً بحيث لا يؤذي الناس بعد العتق وإطلاق العنان.
قال الجنيد : إن علمتم فيهم علماً بالحق وعملاً به وهو شرط الأمر أي الاستحباب للعقد المستفاد من قوله فكاتبوهم فاللازم من انتفائه انتفاء الاستحباب لا انتفاء الجواز {وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِى ءَاتَـاـاكُمْ} أمر للموالي أمر ندب بأن يدفعوا إلى المكاتبين شيئاً مما أخذوا منهم وفي معناه حط شيء من مال الكتابة وقد قال عليه السلام : "كفى بالمرء من الشح أن يقول آخذ حقي لا اترك منه شيئاً" وفي حديث الأصمعي : "أتى أعرابي قوماً فقال لهم هذا في الحق أو فيما هو خير منه قالوا وما خير من الحق قال التفضل والتفضل أفضل من أخذ الحق كله" كذا في "المقاصد الحسنة" للسخاوي.
قال الكاشفي : (حويطب صبيح را بصد دينار مكاتب ساخنه بود بعد از
149
استماع اين آيت بيست دينار بدو بخشيد) يعني : وهب له منها عشرين ديناراً فأداها وقتل يوم حنين في الحرب وإضافة المال إليه تعالى ووصفه بإتيانه إياهم للحث على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به فإن ملاحظة وصول المال إليهم من جهته تعالى مع كونه هو المالك الحقيقي له من أقوى الدواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها.
قال بعضهم هو أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم.
يعني (خطاب {وَءَاتُوهُم} راجع بعامه مسلماً نانست كه اعانت كنند أورا زكات بدهند تامال كتابت ادا كند وكردن خودرا از طوق بندكى مخلوق برون آرد وبدين سبب أين خير رافك رقبه مي كويند واز عقبة عقوبت بدان ميتوان كذشت).
بشنو از من نكتة أي زنده دل
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
وز س مركم به نيكى يا دكن
كه بلطف آزاده را بنده ساز
كه بإحسان بندة آزاد كن
(6/107)
وفي الحديث : "ثلاثة حق على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله" واختلفوا فيما إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم فقال أبو حنيفة رحمه الله ومالك : إن ترك وفاء بما بقي عليه من الكتابة كان حراً وإن كان فيه فضل فالزيادة لأولاده الأحرار وقال الشافعي وأحمد : يموت رقيقاً وترتفع الكتابة سواء ترك مالاً أو لم يترك كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع.
{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَـاتِكُمْ} أي : إماءكم فإن كلاً من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة وباعتبار المفهوم الأصلي وهو أن الفتى الطري من الشباب ظهر مزيد مناسبة الفتيات لقوله تعالى : {عَلَى الْبِغَآءِ} وهو الزنى من حيث صدوره عن الشواب لأنهن اللاتي يتوقع منهن ذلك غالباً دون من عداهن من العجائز والصغائر يقال : بغت المرأة بغاء إذا فجرت وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها ثم الإكراه إنما يحصل متى حصل التخويف بما يقتضي تلف النفس أو تلف العضو وأما باليسير من التخويف فلا تصير مكرهة.
{إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} تعففاً أي جعلن أنفسهن في عفة كالحصن وهذا ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنى وإخراج ما عداها من حكمه بل للمحافظة على عادتهم المستمرة حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه وكان لعبد الله بن أُبَي ست جوار جميلة يكرههن على الزنى وضرب عليهن ضرائب جمع ضريبة وهي الغلة المضروبة على العبد والجزية فشكت اثنتان إلى رسول الله وهما معاذة ومسيكة فنزلت وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا يفعلونه من القبائح ما لا يخفى فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه من إمائه فضلاً عن أمرهن أو إكراههن عليه لا سيما عند ارادتهن التعفف وإيثار كلمة إن على إذا مع تحقق الإرادة في مورد النص حتماً للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع.
{لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} قيد للإكراه والعرض ما لا يكون له ثبوت ومنه استعار المتكلمون العرض لما لا ثبات له قائماً بالجوهر كاللون والطعم وقيل الدنيا عرض حاضر تنبيهاً على أن لا ثبات لها والمعنى لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال من كسبهن وبيع أولادهن.
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
قال الكاشفي : (در تبيان آورده كه زانى بودى كه صد شتر ازبراى فرزندى كه ازمزنى بها داشت بدادي).
150
{وَمِن} (هركه) {يُكْرِههُّنَّ} على ما ذكر من البغاء {فَإِنَّ اللَّهَ مِنا بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} أي كونهن مكرهات على أن الإكراه مصدر من المبني للمفعول.
{غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي : لهن وتوسيط الإكراه بين اسم أن وخبرها للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة.
وفيه دلالة على أن المكرهين محرومون منهما بالكلية وحاجتهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم باعتبار أنهن وإن كن مكرهات لا يخلون في تضاعيف الزنى عن شائبة مطاوعة بحكم الجبلة البشرية.
وفي "الكواشي" : المغفرة ههنا عدم الإثم لأنها لا إثم عليها إذا أكرهت على الزنى بقتل أو ضرب مفض إلى التلف أو تلف العضو ، وأما الرجل فلا يحل له الزنى وإن أكره عليه لأن الفعل من جهته ولا يتأتى إلا بعزيمة منه فيه فكان كالقتل بغير حق لا يبيحه الإكراه بحال انتهى.
وفي الآيتين الكريمتين إشارتان :
الأولى : أن بعض الصلحاء الذين لم يبلغوا مراتب ذوي الهمم العالية في طلب الله ولكن ملكت إيمانهم نفوسهم الأمارة بالسوء فيريدون كتابتها من عذاب الله وعتقها من النار بالتوبة والأعمال الصالحة فكاتبوهم أي توّبوهم إن تفرستم فيهم آثار الصدق وصحة الوفاء على ما عاهدوا الله عليه فإنه لا يلزم التلقين لكل من يطلبه وإنما يلزم لأهل الوفاء وهم إنما يعرفون بالفراسة القوية التي أعطاها الله لأهل اليقين وآتوهم من قوة الولاية والنصح في الدين الذي أعطاكم الله فإن لكل شيء زكاة وزكاة الولاية العلم والمعرفة والنصيحة للمستنصحين والإرشاد للطالبين والتعاون على البر والتقوى والرفق بالمتقين وكما أن المال ينتقض بل يزول ويفنى بمنع الزكاة فكذا الحال يغيب عن صاحبه بمنع الفقراء المسترشدين عن الباب ألا ترى أن السلطنة الظاهرة إنما هي لإقامة المصالح وإعانة المسلمين فكذا السلطنة الباطنة :
وللأرض من كأس الكرام نصيب
والثانية : أن النفوس المتمردة إذا أردن المتحصن بالتوبة بتوفيق الله وكرمه فلا ينبغي إكراهها على الفساد طلباً للشهوات النفسانية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
(6/108)
واعلم أن من لم يتصل نسبه المعنوي بواحد من أهل النفس الرحماني وادعى لنفسه الكمال والتكميل فهو زان في الحقيقة ومن هو تحت تربيته هالك لأنه ولد الزنى وربما رأيت من يكره بعض أهل الطلب على التردد لباب أهل الدعوى ويصرفه عن باب أهل الحق عناداً وغرضاً ومرضاً واتباعاً لهواه فهو إنما يكرهه على الزنى لأنه بملازمة باب أهل الباطل يصير المرء هالكاً كولد الزنى إذ يفسد استعداده فساد البيضة نسأل الله تعالى أن يحفظنا من كيد الكافرين ومكر الماكرين.
{وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَـاتٍ مُّبَيِّنَـاتٍ} أي : وبالله لقد أنزلنا إليكم في هذه السورة الكريمة آيات مبينات لكل ما بكم حاجة إلى بيانه من الحدود وسائر الأحكام والآداب والتبيين في الحقيقةتعالى وإسناده إلى الآيات مجازي.
{وَمَثَلا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ} أي : وأنزلنا مثلاً كائناً من قبيل أمثال الذين مضوا من قبلكم من القصص العجيبة والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء فتنتظم قصة عائشة الحاكية لقصة يوسف وقصة مريم في الغرابة وسائر الأمثال الواردة انتظاماً واضحاً فإن في قصتهما ذكر تهمة من هو بريء مما اتهم به فيوسف اتهمته زليخا ومريم اتهمها اليهود مع براءتهما
151
{وَمَوْعِظَةً} تتعظون بها وتنزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخل بمحاسن الآداب ومدار العطف هو التغاير العنواني المنزل منزلة التغاير الذاتي {لِّلْمُتَّقِينَ} وتخصيصهم مع شمول الموعظة للكل حسب شمول الإنزال لأنهم المنتفعون بها.
وفي "التأويلات النجمية" : أي ليتعظ من يريد الاتقاء عما أصاب المتقدمين فإن السعيد من وعظ بغيره.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
نرود مرغ سوى دانه فراز
ون دكر مرغ بيند اندر بند
ندكير از مصائب دكران
تا نكيرند ديكران ز تو ند
روي : عن الشعبي أنه قال : خرج أسد وذئب وثعلب يتصيدون فاصطادوا حمار وحش وغزالاً وأرنباً فقال الأسد للذئب : اقسم فقال : الحمار الوحشي للملك والغزال لي والأرنب للثعلب قال : فرفع الأسد يده وضرب رأس الذئب ضربة فإذا هو متجندل بين يدي الأسد ثم قال للثعلب : اقسم هذه بيننا فقال الحمار يتغدى به الملك والغزال يتعشى به والأرنب بين ذلك فقال الأسد : ويحك ما أقضاك من علمك هذا القضاء فقال القضاء الذي نزل برأس الذئب ويقال الموعظة هي التي تلين القلوب وتسيل العيون اليابسة وهي من صفات القرآن عند من يلقي السمع وهو شهيد وفي الحديث : "أن هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد" قيل : وما جلاؤها قال : "تلاوة القرآن وذكر الله تعالى" فعلى العاقل أن يستمع إلى القرآن ويتعظ بمواعظه ويقبل إلى قبول ما فيه من الأوامر وإلى العمل بما يحويه من البواطن والظواهر.
مهتري در قبول فرمانست
ترك فرمان دليل حرمانست
جزء : 6 رقم الصفحة : 141
{اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} .
قال الإمام الغزالي قدس سره في شرح الاسم : النور هو الظاهر الذي به كل ظهور فإن الظاهر في نفسه المظهر لغيره يسمى نوراً ومهما قوبل الوجود بالعدم كان الظهور لا محالة للوجود ولا ظلام أظلم من العدم فالبريء من ظلمة العدم إلى ظهور الوجود جدير بأن يسمى نوراً والوجود نور فائض على الأشياء كلها من نور ذاته فهو نور السموات والأرض فكما أنه لا ذرة من نور الشمس إلا وهي دالة على وجود الشمس النيرة فلا ذرة من وجود السموات والأرض وما بينهما إلا وهي بجواز وجودها دالة على وجوب وجود موجدها انتهى ويوافقه النجم في "التأويلات" حيث قال : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي : مظهرهما من العدم إلى الوجود فإن معنى النور في اللغة الضياء وهو الذي يبين الأشياء ويظهرها للأبصار انتهى ، فقوله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} من باب التشبيه البليغ أي كالنور بالنسبة إليهما من حيث كونه مظهراً لهما أي موجداً فإن أصل الظهور هي الظهور من العدم إلى الوجود فإن الأعيان الثابتة في علم الله تعالى خفية في ظلم العدم وإنما تظهر بتأثير قدرة الله تعالى كما في "حواشي ابن الشيخ".
يقول الفقير : لا حاجة إلى اعتبار التشبيه البليغ فإن النور من الأسماء الحسنى وإطلاقه على الله حقيقي لا مجازي فهو بمعنى المنور ههنا فإنه تعالى نور الماهيات المعدومة بأنوار الوجود وأظهرها من كتم العدم بفيض الجود كما قال عليه السلام : "إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره" فخلق ههنا بمعنى التقدير فإن التقدير
152
سابق على الإيجاد ورش النور كناية عن إفاضة الوجود على الممكنات والممكن يوصف بالظلمة فإنه يتنور بالوجود فتنويره إظهاره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 152
(6/109)
واعلم أن النور على أربعة أوجه : أولها : نور يظهر الأشياء للأبصار وهو لا يراها كنور الشمس وأمثالها فهو يظهر الأشياء المخفية في الظلمة ولا يراها.
وثانيها : نور البصر وهو يظهر الأشياء للأبصار ولكنه يراها وهذا النور أشرف من الأول.
وثالثها : نور العقل وهو يظهر الأشياء المعقولة المخفية في ظلمة الجهر للبصائر وهو يدركها ويراها.
ورابعها : نور الحق تعالى وهو يظهر الأشياء المعدومة المخفية في العدم للأبصار والبصائر من الملك والملكوت وهو يراها في الوجود كما كان يراها في العدم لأنها كانت موجودة في علم الله وإن كانت معدومة في ذواتها فما تغير علم الله ورؤيته بإظهارها في الوجود بل كان التغير راجعاً إلى ذوات الأشياء وصفاتها عند الإيجاد والتكوين فتحقيق قوله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} مظهرهما ومبديهما وموجدهما من العدم بكمال القدرة الأزلية.
در ظلمت عدمهمه بوديم بي خبر
نور وجود سر شهود از تو يافتيم
قال بعض الكبار (در زمان ظلمت هيكس ساكن ازمتحرك نشناسد وعلو از سفل تمييز نكنند وقبيح را ازصبيح باز نداند وون رايت نور ظهور نمود خيل ظلام روى بانهزام آرند ووجودات وكيفيات ظاهر كردد وصفو از كدر وعرض از جوهر متميز شود مدركة انسانية داندكه استفادة اين دانش وتميز بنور كرده أما در أدراك نور متحير باشده داندكه عالم ازنور مملواست واو مخفي ظاهر بدلالات وباطن بالذات س حق سبحانه وتعالى ما بدو دولت ادراك يافته ايم وبمرتبة تميز أشيا رسيده سزاوار آن باشد كه آنرا نور كويند
همه عالم بنور أوست يدا
كجا أو كرد از عالم هويدا
زهى نادانكه أو خورشيد تابان
بنور شمع جويد در بيابان
در تبيان آورده كه مدلول السموات والأرض ه هر دليلى از دلائل قدرت وبدائع حكمت كه دردوا نر سهر برين ومراكز زمين واقعست دلالتي واضح دارد بروجود قدرت وبدائع حكمت او).
ففي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وجود جملة اشياء دليل قدرت او
وقال سلطان المفسرين ابن عباس رضي الله عنهما : أي هادي أهل السموات والأرض فهم بنوره تعالى يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة ينجون.
يعني (بهدايت أو بهستيء خود راهبردند وبارشاد أو مصالح دين ودنيا بشناسند) ولما وصلوا إلى نور الهداية بتوفيقه تعالى سمى نفسه باسم النور جرياً على مذهب العرب فإن العرب قد تسمي الشيء الذي من الشيء باسمه كما يسمى المطر سحاباً لأنه يخرج منه ويحصل به فلما حصل نور الإيمان والهداية بتوفيقه سماه بذلك الاسم ويجوز أن يعبر عن النور بالهداية وعن الهداية بالنور لما يحصل أحدهما من الآخر قال الله تعالى : {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل : 16) لما اهتدوا بنور النجم جعل النجم كالهادي لهم وجعلهم من المهتدين بنوره وعلى هذا سمي القرآن نوراً والتوراة نوراً بمعنى
153
الاهتداء بهما كما في "الأسئلة المقحمة" فعلى هذا شبهت الهداية بالنور في كونها سبباً للوصول إلى المطلوب فأطلق اسم النور عليها على سبيل الاستعارة ثم أطلق النور بمعنى الهداية عليه تعالى على طريق رجل عدل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 152
وقال حضرة الشيخ الشهير بأفتاده قدس سره : خطر ببالي على وجه الكشف أن النور في قوله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} بمعنى العلم وهو بمعنى العالم من باب رجل عدل ووجه المناسبة بينهما أنه تنكشف بالنور المحسوسات وبالعلم تنكشف المعقولات بل جميع الأمور كذا في "الواقعات المحمودية" ويقال : إنه منور السموات بالشمس والقمر والكواكب والأرض بالأنبياء والعلماء والعباد.
(6/110)
وقال في "عرائس البيان" : اراد بالسموات والأرض صورة المؤمن رأسه السموات وبدنه الأرض وهو تعالى بجلالة قدره نور هذه السموات والأرض إذ زين الرأس بنور السمع والبصر والشم والذوق والبيان في اللسان فنور العين كنور الشمس والقمر ، ونور الأذن كنور الزهرة والمشتري ، ونور الأنف كنور المريخ وزخل ونور اللسان كنور عطارد وهذه السيارات النيرات تسرى في بروج الرأس ، ونور أرض البدن الجوارح والأعضاء والعضلات واللحم والدم والشعرات وعظامها الجبال.
(إمام زاهد فرموده كه خدايرا نورتوان كفت ولي روشنى نتوان كفت ه روشنى ضد تاريكست وخداي تعالى آفريد كار هر دو ضداست) فالنور الذي بمقابلة الظلمة حادث لأن ما كان بمقابلة الحادث حادث فمعنى كونه تعالى نوراً هو أنه مبدأ هذا النور المقابل بالظلمة ثم إن إضافة النور إلى السموات والأرض مع أن كونه تعالى نوراً ليس بالإضافة إليها فقط للدلالة على سعة إشراقه فإنهما مثلان في السعة قال تعالى : {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ} (آل عمران : 133) ويجوز أن يقال : قد يراد بالسموات والأرض العالم بأسره كما يراد بالمهاجرين والأنصار جميع الصحابة كما في "حواشي سعدي" المفتي ونظيره قوله تعالى في الحديث القدسي خطابا للنبي عليه السلام : "لولاك لما خلقت الأفلاك" أي : العوالم بأسرها لكنه خصص الأفلاك بالذكر لعظمها وكونها بحيث يراها كل من هو من أهل النظر وهو اللائح بالبال والله الهادي إلى حقيقة الحال.
{مَثَلُ نُورِهِ} أي : نوره الفائض منه تعالى على الأشياء المستنيرة وهو القرآن المبين كما في "الإرشاد" فهو تمثيل له في جلاء مدلوله وظهور ما تضمنه من الهدى بالمشكاة المنعوتة والمراد بالمثل الصفة العجيبة أي صفة نوره العجيب وإضافته إلى ضميره تعالى دليل على أن إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره كما في "أنوار التنزيل" {كَمِشْكَـاوةٍ}
جزء : 6 رقم الصفحة : 152
أي صفة كوة غير نافذة في الجدار في الانارة وهي بلغة الحبشة.
وبالفارسية (ما نندرونه ايست درديوارى كه أو بخارج راه ندارد ون طاقى) {فِيهَا مِصْبَاحٌ} سراج ضخم ثابت.
وبالفارسية (راع فروخته ونيك روشن) {الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ} أي : قنديل من الزجاج الصافي الأزهر وفائدة جعل المصباح في زجاجة والزجاجة في كوة غير نافذة شدة الإضاءة لأن المكان كلما تضائق كان أجمع للضوء بخلاف الواسع فالضوء ينتشر فيه وخص الزجاج لأنه أحكى الجواهر لما فيه.
{الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ} متلألىء وقاد شبيه بالدر في صفائه وزهرته كالمشتري والزهرة والمريخ ودراري الكواكب عظامها
154
المشهورة ومحل الجملة الأولى الرفع على أنها صفة لزجاجة أو للام مغنية عن الرابض كأنه قيل : فيها مصباح هو في زجاجة هي كأنها كوكب دريّ وفي إعادة المصباح والزجاجة معرفين أثر سبقهما منكرين والإخبار عنهما بما بعدهما مع انتظام الكلام بأن يقال كمشكاة فيها مصباح في زجاجة كأنها كوكب دريّ من تفخيم شأنها بالتفسير بعد الإبهام ما لا يخفى.
{يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ} أي يبتدأ إيقاد المصباح من زيت شجرة.
{مُّبَـارَكَةٍ} أي كثيرة المنافع لأن الزيت يسرج به وهو إدام ودهان ودباغ ويوقد بحطب الزيتون وبثقله ورماده يغسل به الإبريسم ولا يحتاج في استخراج دهنه إلى عصار وفيه زيادة الإشراق وقلة الدخان وهو مصحة من الباسور.
{زَيْتُونَةٍ} بدل من شجرة : وبالفارسية (كه آن زيتونست كه هفتاد يغمبر بدو دعا كرده ببركت وازجملة إبراهيم خليل عليه السلام) وخصها من بين سائر الأشجار لأن دهنها أضوء وأصفى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 152
(6/111)
قال في "إنسان العيون" : شجرة الزيتون تعمر ثلاثة آلاف سنة.
{لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي : لا شرقية تطلع عليها الشمس في وقت شروقها فقط ولا غربية تقع عليها حين غروبها فقط بل بحيث تقع عليها طول النهار فلا يسترها عن الشمس في وقت من النهار شيء كالتي على قلة أو صحراء فتكون ثمرتها أنضج وزيتها أصفى أو لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائماً فتحرقها ولا في مفيأة تغيب عنها دائماً فتتركها نيئاً أو لا نابتة في شرق المعمورة نحو كنكدز وديار الصين وخطا ولا في غربها نحو طنجة وطرابلس وديار قيروان بل في وسطها وهو الشام فإن زيتونه أجود الزيتون أو في خط الاستواء بين المشرق والمغرب وهي قبة الأرض فلا توصف بأحد منهما فلا يصل إليها حر وبرد مضرين وقبة الأرض وسط الأرض عامرها وخرابها وهو مكان تعتدل فيه الأزمان في الحر والبرد ويستوي الليل والنهار فيه أبداً لا يزيد أحدهما على الآخر أي يكون كل منهما اثنتي عشرة ساعة (حسن بصري رحمة الله فرموده كه أصل أين شجره ازبهشت بدنيا آورده اند س از أشجار اين عالم نيست كه وصف شرقي وغربي برو تواند كرد) {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىاءُ} (روشنى دهد) {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} (واكره نرسيده باشد بوى آتشى يعني درخشندكي بمثابة ايست بي آتش روشنايي بخشد) أي هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيىء المكان بنفسه من غير مساس نار أصلاً وتقدير الآية يكاد زيتها يضيىء لو مسته نار ولو لم تمسسه نار أي يضيىء كائناً على كل حال من وجود الشرط وعدمه فالجملة حالية جيء بها لاستقصاء الأحوال حتى في هذه الحال.
{نُورٍ} خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك النور الذي عبر به عن القرآن ومثلت صفته العجيبة الشأن بما فصل من صفة المشكاة نور كائن.
{عَلَى نُورٍ} كذلك ، أي : نور متضاعف فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت وزهرة القنديل وضبط المشكاة لاشعته فليس عبارة عن مجموع نورين اثنين فقط بل المراد به التكثير كما يقال : فلان يضع درهماً على درهم لا يراد به درهمان.
{يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ} أي : يهدي هداية خاصة موصلة إلى المطلوب حتماً لذلك النور المتضاعف العظيم الشأن.
{مَن يَشَآءُ} هدايته من عباده بأن يوفقهم لفهم ما فيه من دلائل حقيته وكونه من عند الله من الإعجاز والإخبار عن الغيب وغير ذلك من موجبات الإيمان وهذا من قبيل
155
الهداية الخاصة ولذا قال : من يشاء ففيه إيذان بأن مناط هذه الهداية وملاكها ليس إلا مشيئته وأن تظاهر الأسباب بدونها بمعزل من الإفضاء إلى المطالب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 152
قرب تو باسباب وعلل نتوان يافت
بي سابقة فضل ازل نتوان يافت
{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَـالَ لِلنَّاسِ} أي : يبينها تقريباً إلى الإفهام وتسهيلاً لسبل الإدراك.
يعني (معقولات را در صورت محسوسات بيان ميكند براى مردم تازود در يابند ومقصود سخن برايشان كردد) وهذا من قبيل الهداية العامة ولذا قال للناس : {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} من ضرب الأمثال وغيره من دقائق المعقولات والمحسوسات وحقائق الجليات والخفيات.
قالوا : إذا كان مثلاً للقرآن فالمصباح القرآن والزجاجة قلب المؤمن والمشكاة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة الوحي وهي لا مخلوقة ولا مختلقة (نزد يكست كه هنوز قرآن نا خوانده دلائل وحجج برهمكنان واضح شود س ودبر آن قراءت كند {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} باشد).
فإن قيل لم شبهه بذلك وقد علمنا أن ضوء الشمس أبلغ من ذلك بكثير؟.
أجيب بأنه سبحانه أراد أن يصف الضوء الكامل الذي يلوح في وسط الظلمة لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هي الشبهات التي هي كالظلمات وهداية الله تعالى فيما بينهما كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات وهذا المقصود لا يحصل من تشبيهه بضوء الشمس لأن ضوءها إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص وإذا غاب امتلأ العالم من الظلمة الخالصة فلا جرم كان ذلك المثل ههنا أليق.
(6/112)
وقال بعضهم : (مراد نور إيمانست حق سبحانه وتعالى تشبيه كرد سينة مؤمن را بمشكاة ودل را درسينه بقنديل زجاجه در مشكاة وايمانرا براغى افروخته در قنديل وقنديل بكوكبي درخشنده وكلمة اخلاص بشجرة مباركة ازتاب آفتاب خوف وخلال نوال رجا بهرة دارد ونزديكست كه فيض كلمه بي آنكه بزبان مؤمن كذرد عالم را منود كند ون اقرار بآن برزبان جارى شده وتصديق جنان بآن ياركشته ، {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} بظهور رسيد) وشبه بالزجاج دون سائر الجواهر لاختصاص الزجاج بالصفاء يتعدى النور من ظاهره إلى باطنه وبالعكس وكذلك نور الإيمان يتعدى من قلب المؤمن إلى سائر الجوارح والأعضاء وأيضاً إن الزجاج سريع الانكسار بأدنى آفة تصيبه فكذا القلب سريع الفساد بأدنى آفة تدخل فيه (وكفته اند آن نور معرقت اسرار الهيست يعني راغ معرفت دو زجاجة دل عارف ومشكاة سيئة أو افروخته است از بركت زيت تلقين شجرة مبارك حضرت محمدي عليه السلام نه شرقيست ونه غربي بلكه مكيست ومكة سرة عالم وازفرا كرفتن عارف آن اسرار را از تعليم آن سيد ابرار {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} معلوم توان كرد) وإنما شبه المعرفة بالمصباح وهو سريع الانطفاء وقلب المؤمن بالزجاج وهو سريع الانكسار ولم يشبهها بالشمس التي لا تطفأ ولا قلب المؤمن بالأشياء الصلبة التي لا تنكسر تنبيهاً على أنه على خطر وجدير بحذر كما في "التيسير" (در روح الأرواح آورده كه آن نور حضرت محمد يست عليه السلام مكشاة آدم باشد وزوجاجه نوح وزيتون إبراهيم كه نه يهوديه مائل است ون يهود غرب را قبله ساختند ونه نصرانيه ون نصارى روى بشرق آورده اند ومصباح حضرت رسالتست
156
عليه السلام يا مشكاة إبراهيم است وزجاجه دل صافي مطهر او ومصباح علم كامل أو شجرة خلق شامل او كه نه در جانب خلود افراط است ونه در طرف تقصير وتفريط بلكه طريق اعتدال كه "خير الأمور أوسطها" واقع شده وصراط سوى عبارت از آنست.
ودر عين المعاني فرموده كه نور محبت حبيب بانور خلت خليل نور على نوراست).
جزء : 6 رقم الصفحة : 152
در نور سر نوريست مشهور
ازينجافهم كن نور على نور
قال القشيري : {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} نور اكتسبوه بجهدهم ونظرهم واستدلالهم ونور وجدوه بفضل الله بأفعالهم وأقوالهم قال تعالى : {وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العكبوت : 69).
وفي "التأويلات النجمية" : هذا مثل ضربه الله تعالى للخلق تعريفاً لذاته وصفاته فلكل طائفة من عوام الخلق وخواصهم اختصاص بالمعرفة من فهم الخطاب على حسب مقاماتهم وحسن استعدادهم فأما العوام فاختصاصهم بالمعرفة في رؤية شواهد الحق وآياته بإراءته إياهم في الآفاق وأما الخواص فاختصاصهم بالمعرفة في مشاهدة أنوار صفات الله تعالى وذاته تبارك وتعالى باراءته في أنفسهم عند التجلي لهم بذاته وصفاته كما قال تعالى في الطائفتين {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ} (فصلت : 53) أي لعوامهم {وَفِى أَنفُسِهِمْ} أي لخواصهم {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت : 53) فكل طائفة بحسب مقامهم تحظى من المعرفة فأما حظ العوام من رؤية شواهد الحق وآياته في الآفاق بإراءة الحق فبأن يرزقهم فهماً ونظراً في معنى الخطاب ليتفكروا في خلق السموات والأرض أن صورتها وهي عالم الأجسام هي المشكاة والزجاجة فيها هي العرش والمصباح الذي هو عمود القنديل الذي يجعل فيه الفتيلة فهي بمثابة الكرسي من العرش وزجاجة العرش.
{كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} وهي شجرة الملكوت وهو باطن السموات والأرض ومعناهما.
{لا شَرْقِيَّةٍ} أي ليست من شرق الأزل والقدم كذات الله وصفاته.
{وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي : ليست من غرب الفناء والعدم كعالم الأجسام وصورة العالم بل هي مخلوقة أبدية لا يعتريها الفناء.
{يَكَادُ زَيْتُهَا} وهو عالم الأرواح أي يظهر من العدم في عالم الصور المتولدات بازدواج الغيب والشهادة طبعاً وخاصية كما توهمه الدهرية والطبائعية عليهم لعنات الله تترى.
{وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} نار القدرة الإلهية {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} أي نور الصفة الرحمانية على نور أي باستوائه على نور العرش فينقسم نور الصفة الرحمانية من العرش إلى السموات والأرض فيتولد منه متولدات ما في السموات والأرض بالقدرة الإلهية على وفق الحكمة والإرادة القديمة فلهذا قال تعالى : {إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ إِلا ءَاتِى الرَّحْمَـانِ عَبْدًا} (مريم : 93) فافهم جداً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 152
(6/113)
وأما حظ الخواص في مشاهدة أنوار صفات الله تعالى وذاته بإراءة الحق في أنفسهم فإنما يتعلق بالسير فيها لأن الله تعالى خلق نفس الإنسان مرآة قابلة لشهود ذاته وجميع صفاته إذا كانت صافية عن صدأ الصفات الذميمة والأخلاق الرديئة مصقولة بمصقلة كلمة لا إله إلا الله لينتفي بنفي لا إله تعلقها عما سوى الله ويثبت بإثبات إلا الله فيها نور جمال الله وجلاله فيرى بنور الله الجسد كالمشكاة والقلب كالزجاجة والسر كالمصباح.
{الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} وهي شجرة الروحانية.
{لا شَرْقِيَّةٍ} أي : لا قديمة أزلية {وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي : لا فانية
157
تغرب في سماء الوجود في عين العدم {يَكَادُ زَيْتُهَا} وهو الروح الإنسانية بنور العقل الذي هو ضوء الروح وصفاؤه أي يكاد زيت الروح أن يعرف الله تعالى بنور العقل {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي : نار نور الإلهية فأبت عظمة جلال الله وعزة كبريائه أن تدرك بالعقول الموسومة بوصمة الحدوث إلا أن يتجلى نور القدم لنور العقل الخارج من العدم كما قال تعالى : {نُّورٌ عَلَى نُورٍا يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِه مَن يَشَآءُ} أي : ينور مصباح سر من يشاء بنور القدم فتتنور زجاجة القلب ومشكاة الجسد ويخرج أشعتها من روزنة الحواس فاستضاءت أرض البشرية {وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (الزمر : 69) وتحقق حينئذ مقام "كنت له سمعاً وبصراً" الحديث.
وفيه إشارة أن إلى نور العقل مخصوص بالإنسان مطلقاً ولا سبيل له بالوصول إلى نور الله فهو مخصوص بهداية الله إليه فضلاً وكرماً لا يتطرق إليه كسب العباد وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَـالَ لِلنَّاسِ} أي : للناسين عهود أيام الوصال بلاهم في أزل الآزال.
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} في حالات وجود الأشياء وعدمها بغير التغير في ذاته وصفاته انتهى كلام "التأويلات".
قال حضرة الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره :
اعلم أن النور الحقيقي يدرك به وهو لا يدرك لأنه عين ذات الحق من حيث تجردها عن النسب والإضافات ولهذا سئل النبي عليه السلام هل رأيت ربك قال : "نور أنى أراه" أي النور المجرد لا يمكن رؤيته وكذا أشار الحق في كتابه لما ذكر ظهور نوره في مراتب المظاهر قال : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} فلما فرغ من ذكر مراتب التمثيل قال : {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} فأحد النورين هو الضياء والآخر هو النور المطلق الأصلي ولهذا تمم فقال : {يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِه مَن يَشَآءُ} أي : يهدي الله بنوره المتعين في المظاهر والساري فيها إلى نوره المطلق الأحدي انتهى كلامه في "الفكوك".
جزء : 6 رقم الصفحة : 152
قال في "تفسير الفاتحة" : فالعالم بمجموع صوره المحسوسة وحقائقه الغيبية المعقولة أشعة نور الحق وقد أخبر الحق أنه نور السموات والأرض ثم ذكر الأمثلة والتفاصيل المتعينة بالمظاهر على نحو ما تقتضيه مرآتها ثم قال في آخر الآية : {نُّورٌ عَلَى نُورٍا يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِه مَن يَشَآءُ} فأضاف النور إلى نفسه مع أنه عين النور وجعل نوره المضاف إلى العالم الأعلى والأسفل هادياً إلى معرفة نوره المطلق ودالاً عليه كما جعل المصباح والمشكاة والشجرة وغيرها من الأمثال هادياً إلى نوره المقيد وتجلياته المتعينة في مراتب مظاهره وعرّف أيضاً على لسان نبيه عليه السلام أنه النور وأن حجابه النور انتهى بإجمال.
قال حضرة شيخي وسندي روح الله روحه قوله : {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} النور الأول هو النور الإضافي المنبسط على سموات الأسماء وأرض الأشياء والنور الثاني هو النور الحقيقي المستغني عن سموات الأسماء وأرض الأشياء والنور الإضافي دليل دال على النور الحقيقي والدليل ظاهر.
النور المطلق والمدلول باطنه وفي التحقيق الأتم هو دليل على نفسه لا يعرف الله إلا الله سبحانه {فِى بُيُوتٍ} متعلق بالفعل المذكور بعده وهو يسبح.
قال في "المفردات" : أصل البيت مأوى الإنسان بالليل ثم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه وجمعه أبيات وبيوت لكن البيوت بالمسكن أخص والأبيات بالشعر ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومدر ومن صوف ووبر وبه شبه بيت الشعر وعبر عن مكان
158
الشيء بأنه بيته والمراد بالبيوت المساجد كلها لقول ابن عباس رضي الله عنهما المساجد بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم في الأرض {أَذِنَ اللَّهُ} الإذن في الشيء إعلام بإجازته والرخصة فيه {أَن تُرْفَعَ} بالبناء أو التعظيم ورفع القدر.
يعني (آنرا رفيع قدر وبزرك مرتبه دانند).
جزء : 6 رقم الصفحة : 152
(6/114)
قال الإمام الراغب : الرفع يقال تارة في الأجسام الموضوعة إذا أعليتها عن مقرها نحو قوله تعالى : {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} (البقرة : 63) وتارة في البناء إذا طولته نحو قوله تعالى : {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِامُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} (البقرة : 127) وتارة في الذكر إذا نوهته نحو قوله تعالى : {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح : 4) وتارة في المنزلة إذا شرفتها نحو قوله تعالى : {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ} (الأنعام : 165) {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} اسم الله تعالى ما يصح أن يطلق عليه بالنظر إلى ذاته أو باعتبار صفة من صفاته السلبية كالقدوس أو الثبوتية كالعليم أو باعتبار فعل من أفعاله كالخالق لكنها توقيفية عند بعض العلماء وهو عام في كل ذكر توحيداً كان أو تلاوة قرآن أو مذاكرة علوم شرعية أو أذاناً أو إقامة أو نحوها.
يعني (در آنجا بذكر ونماز اشتغال بايد نمود وازسخن دنيا وكلام ما لا يعنى براحتراز بايد بود) وفي الأثر : "الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش" {يُسَبِّحُ لَه فِيهَا} فيها تكرير لقوله في بيوت للتأكيد والتذكير لما بينهما من الفاصلة وللإيذان بأن التقديم للاهتمام لا لقصر التسبيح على الوقوع في البيوت فقط والتسبيح تنزيه الله وأصله المرّ السريع في عبادة الله فإن السبح المرّ السريع في الماء أو في الهواء يستعمل باللام وبدونها أيضاً وجعل عاماً في العبادات قولاً كان أو فعلاً أو نية أريد به ههنا الصلوات المفروضة كما ينبىء عنه تعيين الأوقات بقوله تعالى : {بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ} أي : بالغدوات والعشيات فالمراد بالغدو وقت صلاة الفجر المؤداة بالغداة وبالآصال ما عداه من أوقات صلوات الظهر والعصر والعشاءين لأن الأصيل يجمعها ويشملها كما في "الكواشي" وغيره.
والغدو مصدر يقال : غدا يغدو غدواً أي دخل في وقت الغدوة وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس والمصدر لا يقع فيه الفعل فأطلق على الوقت حسبما يشعر اقترانه بالآصال جمع أصيل وهو العشي أي من زوال الشمس إلى طلوع الفجر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 152
{رِجَالٌ} فاعل يسبح {لا تُلْهِيهِمْ} لا تشغلهم من غاية الاستغراق في مقام الشهود يقال : ألهاه عن كذا إذا شغله عما هو أهم.
{تِجَـارَةٌ} التجارة صفة التاجر من بيع وشراء والتاجر الذي يبيع ويشتري.
جزء : 6 رقم الصفحة : 159
قال في "المفردات" : التجارة التصرف في رأس المال طالباً للربح وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذه اللفظة وتخصيص التجارة لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها أي لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة.
{وَلا بَيْعٌ} البيع إعطاء المثمن وأخذ الثمن والشراء إعطاء الثمن وأخذ المثمن أي ولا فرد من أفراد البياعات وإن كان في غاية الربح وإفراده بالذكر مع اندراجه تحت التجارة لكونه أهم من قسمي التجارة فإن الربح يتحقق بالبيع ويتوقع بالشراء أي ربح الشراء ، متوقع في ثاني الحال عند البيع فلم يكن ناجزاً كربح البيع فإذا لم يلههم المقطوع فالمظنون أولى {عَن ذِكْرِ اللَّهِ} بالتسبيح والتمجيد.
{رِجَالٌ لا} أي إقامتها بمواقيتها من غير تأخير وقد سقطت التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال وعوض عنها الإضافة.
159
قال ابن الشيخ : إقامة الصلاة اتمامها برعاية جميع ما اعتبره الشرع من الأركان والشرائط والسنن والآداب فمن تساهل في شيء منها لا يكون مقيماً لها.
{وَإِيتَآءِ الزَّكَـاوةِ} أي : المال الذي فرض إخراجه للمستحقين وإيراده ههنا وإن لم يكن مما يفعل في البيوت لكونه قرين إقامة الصلاة لا يفارقها في عامة المواضع.
{يَخَافُونَ} صفة ثانية للرجال والخوف توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن إمارة مظنونة أو معلومة ويضاد الخوف الأمن.
والمعنى بالفارسية (مي ترسند اين مردمان باوجود نين توجه واستغراق) {يَوْمًا} مفعول ليخافون لا ظرف والمراد يوم القيامة ، أي من اليوم الذي {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالابْصَـارُ} صفة ليوماً والتقلب التصرف والتغير من حال إلى حال وقلب الإنسان سمي به لكثرة تقلبه من وجه إلى وجه والبصر يقال للجارحة الناظرة وللقوة التي فيها.
والمعنى : تضطرب وتتغير في أنفسها وتنتقل عن إماكنها من الهول والفزع فتنقلب القلوب في الجوف وترتفع إلى الحنجرة ولا تنزل ولا تخرج كما قال تعالى : {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (الأحزاب : 10) وتقلب الأبصار شخوصها كما قال تعالى : {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَـارُ} (إبراهيم : 42) وإذ زاغت الأبصار أو تتقلب القلوب بين توقع النجاة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ومن أي جهة يأتي كتابهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 159
(6/115)
{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} متعلق بمحذوف يدل عليه ما حكي من أعمالهم المرضية أي يفعلون ما يفعلون من المداومة على التسبيح والذكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والخوف من غير صارف لهم عن ذلك ليجزيهم الله تعالى والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيراً فخير وإن شراً فشر والأجر خاص بالمثوبة الحسنى كما في "المفردات".
{أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} أي : أحسن جزاء أعمالهم حسبما وعد لهم بمقابلة حسنة واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
{وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} أشياء لم يعدهم بها على أعمالهم ولم تخطر ببالهم وهو العطاء الخاص لا لعمل.
{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشيئة وسعة الإحسان.
والرزق العطاء الجاري والحساب استعمال العدد ، أي يفيض ويعطي من يشاء ثواباً لا يدخل تحت حساب الخلق.
قال كثير من الصحابة رضي الله عنهم : نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها أي لا في أصحاب الصفة وأمثالهم الذين تركوا التجارة ولزموا المسجد فإنه تعالى قال : {رِجَالٌ لا} وأصحاب الصفة وأمثالهم لم يكن عليهم الزكاة قال الإمام الراغب : قوله تعالى : {لا تُلْهِيهِمْ} الآية ليس ذلك نهياً عن التجارة وكراهية لها بل نهي عن التهافت والاشتغال عن الصلوات والعبادة بها انتهى.
(آورده اندكه ملك حسين كه وإلى هرات بود از حضرت قطب الأقطاب خواجه بهاء الحق والدين محمد نقشبند قدس سره رسيدكه در طريقة شما ذكر جهر وخلوت وسماع مي باشد فرمودندكه باشد س كفت ببناى طريقت شما بريست فرمودندكه "خلوت دارانجمي بظاهر باخلق وبباطن باحق").
ازدرون شوآشنا واز برون بيكانه وش
اينين زيبا روش كم مي بود اندر جهان
آنه حق سبحانه وتعالى فرما يدكه.
{رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَـارَةٌ} الآية اشارت بدين مقامست.
160
سر رشتة دولت أي برادر بكف آرا
وين عمر كرامي بخسارت مكذار
دائم همه جا باهمه كس درهمه كار
ميدار نهفت شم دل جانب يار
قال في "الأسئلة المقحمة" : كيف خص الرجال بالمدح والثناء دون النساء؟ فالجواب لأنه لا جمعة على النساء ولا جماعة في المساجد.
جزء : 6 رقم الصفحة : 159
قال بعضهم : من أسقط عن سره ذكر ما لم يكن فكان يسمى رجلاً حقيقة ومن شغله عن ربه من ذلك شيء فليس من الرجال المتحققين.
وفي "التأويلات النجمية" : وإنما سماهم رجالاً لأنه لا تتصرف فيهم تجارة وهي كناية عن النجاة من دركات النيران كما قال تعالى : {هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَـارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الصف : 10) ولا بيع كناية عن الفوز بدرجات الجنان كما قال تعالى : {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ} (التوبة : 111) وهو قوله : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة : 111) ولو تصرف فيهم شيء من الدارين بالتفاتهم إليه وتعلقهم به حتى شغلهم عن ذكر الله أي عن طلبه والشوق إلى لقائه لكانوا بمثابة النساء فإنهن محال التصرف فيهن وما استحقوا اسم الرجال وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام فقال : "يا داود فرغ لي بيتاً أسكن فيه قال يا رب أنت منزه عن البيوت قال : فرغ لي قلبك" وتفريغها أي القلوب التي أشارت إليها البيوت تصفيتها عن نقوش المكونات وتصقيلها عن صدأ تعلقات الكونين وإنما هو بذكر الله والمداومة عليه كما قال عليه السلام : "إن لكل شيء صقالة وإن صقالة القلوب بذكر الله" فإذا صقلت تحلى الله فيها بنور الجمال وهو الزيادة في قوله تعالى : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} والرزق بغير حساب في أرزاق الأرواح والمواهب الإلهية فأما أرزاق الأشباح فمحصورة معدودة.
فعلى العاقل الاجتهاد باعمال الشريعة وآداب الطريقة فإنه سبب الوصول إلى أنوار الحقيقة ومن تنور باطنه في الدنيا تنور ظاهره وباطنه في العقبى وكل جزاء فإنما هو من جنس العمل.
روي : أنه إذا كان يوم القيامة يحشر قوم وجوههم كالكوكب الدري فتقول لهم الملائكة : ما أعمالكم فيقولون : كنا إذا سمعنا الأذان قمنا إلى الطهارة لا يشغلنا غيرها ثم يحشر طائفة وجوههم كالأقمار فيقولون بعد السؤال : كنا نتوضأ قبل الوقت ، ثم يحشر طائفة وجوههم كالشموس فيقولون : كنا نسمع الأذان في المسجد" وفي الحديث : "إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول" أي : ثواب من يأتي في الوقت الأول والثاني ، "فإذا جلس الإمام" يعني صعد المنير "طووا الصحف وجاؤا يسمعون الذكر" أي : الخطبة فلا يكتبون ثواب من يأتي في ذلك الوقت والمراد منه أجر مجرد مجيئه قيل لا يكتبون أصلاً وقيل يكتبونه بعد الاستماع والمراد بالملائكة كتبة ثواب من يحضر الجمعة وهم غير الحفظة اللهم اجعلنا من المسارعين المسابقين واحشرنا في زمرة أهل الصدق والحق واليقين.
(6/116)
جزء : 6 رقم الصفحة : 159
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَـالُهُمْ} أي : أعمالهم التي هي من أبواب البرّ كصلة الأرحام وعتق الرقاب وعمارة البيت وسقاية الحاج وإغاثة الملهوفين وقرى الأضياف وإراقة الدماء ونحو ذلك مما لو قارنه الإيمان لاستتبع الثواب.
{كَسَرَاب} هو ما يرى في المفازة من لمعان الشمس عليها نصف النهار فيظن أنه ماء يسرب أي يذهب ويجري وكان السراب فيما لا حقيقة له كالشراب فيما له حقيقة.
{بِقِيعَةٍ} متعلق بمحذوف هو صفة السراب ،
161
أي كائن في قاع وهي الأرض المنبسطة المستوية قد انفرجت عنها الجبال.
قال في "المختار" : القيعة مثل القاع ، وبعضهم يقول هو جمع.
{يَحْسَبُهُ الظَّمْـاَانُ مَآءً} صفة أخرى لسراب ، أي يظنه الشديد العطش ماء حقيقة من ظمىء بالكسر يظمأ والظمىء بالكسر ما بين الشربتين والورودين والظمأ العطش الذي يحدث من ذلك وتخصيص الحسبان بالظمآن مع شموله لكل من يراه كائناً من كان من العطشان والريان لتكميل التشبيه بتحقيق شركة طرفيه في وجه الشبه وهو الابتداء المطمع والانتهاء الموئس.
{حَتَّى إِذَا} (تاون) {جَآءَهُ} أي : جاء ما توهمه ماء وعلق به رجاءه ليشرب منه.
{لَمْ يَجِدْهُ} أي ما حسبه ماء {شَيْـاًا} أصلاً لا متحققاً ولا متوهماً كما كان يراه من قبل فضلاً عن وجدان ماء فيزداد عطشاً.
{وَوَجَدَ اللَّهَ} أي : حكمه وقضاءه {عِندَهُ} عند المجيء كما قال : {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر : 14) يعني : مصير الخلق إليه {فَوَفَّـاـاهُ حِسَابَهُ} أي أعطاه وافياً كاملاً حساب عمله يعني ظهر له بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر عنده للخيبة والقنوط أصلاً كمن يجيء إلى باب السلطان للصلة فيضرب ضرباً وجيعاً.
{وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} لا يشغله حساب عن حساب.
قال الكاشفي : (زود حسابست حساب يكى اورا از حساب ديكرى بازندارد تمثيل كرد اعمال كافر را بسراب واورا بتشنة سوخته س همنانكه تشنة ازسراب نا اميد شده باشد شدتش زياده مي شود كافر انرا ازاميد به اداش اعمال خود ود نيايند حسرت افزون ميكردد).
جزء : 6 رقم الصفحة : 159
وفي الآية إشارة إلى أهل كفران النعمة وهم الذين يصرفون نعمة الله في معاصيه ومخالفته ثم يعاملون على الغفلة بالرسم والعادة التي وجدوا عليها آباءهم صورة بلا معنى بل رياء وسمعة وهم يحسبون بجهلهم أنهم يحسنون صنعاً زين لهم الشيطان أعمالهم فمثل أعمالهم كسراب لا طائل تحته وصاحب الأعمال يحسب من غفلته وجهالته أن أعماله المشوبة هي ما يطفىء به نار غضب الله حتى إذا جاءه عند الموت لم يجده شيئاً مما توهمه ووجد الله عند أعماله للوزن والجزاء والحساب وهو غضبان عليه لسوء معاملته معه فجازاه حق جزائه والله سريع الحساب يشير إلى أن من سرعة حسابه أن يظهر على ذاته وصفاته آثار معاملته السيئة بالأخلاق الذميمة والأحوال الرديئة في حال حياته.
{أَوْ كَظُلُمَـاتٍ} عطف على كسراب وأو للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب وإن كانت قبيحة فكالظلمات {فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ} أي : عميق كثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر.
قال الكاشفي : (دردرياي عميق كه دم بدم).
{يَغْشَـاـاهُ مَوْجٌ} صفة أخرى للبحر أي يستره ويغطيه بالكلية.
{مِّن فَوْقِه مَوْجٌ} مبتدأ وخبر والجملة صفة لموج ، أي يغشاه أمواج متراكمة بعضها على بعض.
{مِّن فَوْقِه سَحَابٌ} صفة لموج الثاني وأصل السحب الجر وسمي السحاب إما لجر الريح أو لجره الماء أي من فوق الموج الثاني الأعلى سحاب غطى النجوم وحجب أنوارها.
وفيه إيماء إلى غاية تراكم الأمواج وتضاعفها حتى كأنها بلغت السحاب.
{ظُلُمَـاتُ} أي : هذه ظلمات.
{بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أي متكاثفة متراكمة حتى {إِذَآ أَخْرَجَ} أي من ابتلي بهذه الظلمات وإضماره من غير ذكره لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة.
{يَدَهُ} وهي أقرب اعضائه المرئية إليه وجعلها بمرأى منه قريبة من عينه لينظر إليها
162
{لَمْ يَكَدْ يَرَاـاهَا} لم يقرب أن يراها لشدة الظلمة فضلاً عن أن يراها {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَه نُورًا} أي : ومن لم يشأ الله أن يهديه لنور القرآن ولم يوفقه للإيمان به.
{فَمَا لَه مِن نُورٍ} أي : فما له هداية ما من أحد أصلاً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 159
قال الكاشفي : (اين تمثيل ديكراست مر عملهاي كفاررا ظلمات اعمال تيرة اوست وبحر لجي دل أو وموج آنه دل اورا مي وشد از جهل وشرك وسحاب مهر خذلان برآن س كردار وكفتارش ظلمت ومدخل ومخرجش ظلمت ورجوع اودر روز قيامت هم بظلمت عكس مؤمن كه اورانوراست واين را {ظُلُمَـاتُا بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ).
مؤمنان ازتير كي دور آمدند
لا جرم نور على نور آمدند
كافر تاريك دل را فكرتست
حال كارش ظلمت اندر ظلمتست
(6/117)
والإشارة بالظلمات إلى صورة الأعمال التي وقعت على الغفلة بلا حضور القلب وخلوص النية فهي.
{كَظُلُمَـاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ} وهو حب الدنيا {يَغْشَـاـاهُ مَوْجٌ} من الرياء {مِّن فَوْقِه مَوْجٌ} من حب الجاه وطلب الرياسة.
{مِّن فَوْقِه سَحَابٌ} من الشرك الخفي {ظُلُمَـاتُا بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} يعني ظلمة غفلة الطبيعة وظلمة حب الدنيا وظلمة حب الجاه وظلمة الشرك {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ} يعني العبد يد قصده واجتهاده وسعيه ليرى صلاح حاله ومآله في تخلصه من هذه الظلمات لم ير بنظر عقله طريق خلاصه من هذه الظلمات لأن من لم يصبه رشاس النور الإلهي عند قسمة الأنوار فما له من نور يخرجه من هذه الظلمات فإن نور العقل ليس له هذه القوة لأنها من خصوصية نور الله كقوله تعالى : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} والنكتة في قوله تعالى : {يُخْرِجُهُم} إلخ كأنه يقول أخرجت الماء من العين والمطر من السحاب والنار من الحجر والحديد من الجبال والدخان من النار والنبات من الأرض والثمار من الأشجار كما لا يقدر أحد أن يرد هذه الأشياء إلى مكانها كذلك لا يقدر إبليس وسائر الطواغيت أن يردك إلى ظلمة الكفر والشك والنفاق بعدما أخرجتك إلى نور الإيمان واليقين والإخلاص والله الهادي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 159
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَه مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} الهمزة للتقرير والمراد من الرؤية رؤية القلب فإن التسبيح الآتي لا يتعلق به نظر البصر ، أي قد علمت يا محمد علماً يشبه المشاهدة في القوة واليقين بالوحي أو الاستدلال أن الله تعالى ينزهه على الدوام في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل ما لا يليق بشأنه من نقص وآفة أهل السموات والأرض من العقلاء وغيرهم ومن لتغليب العقلاء.
{وَالطَّيْرُ} بالرفع عطف على من جمع طائر كركب وراكب والطائر كل ذي جناح يسبح في الهواء وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في جملة ما في الأرض لعدم استقرارها قرار ما فيها لأنها تكون بين السماء والأرض غالباً {صَـافَّـاتٍ} أصل الصف البسط ولهذا سمي اللحم القديد صفيفاً لأنه يبسط أي تسبحه تعالى حال كونها صافات أي باسطات أجنحتها في الهواء تصففن {كُلَّ} من أهل السموات و الأرض.
{قَدْ عَلِمَ} بإلهام الله تعالى ويوضحه ما قرىء علم مشدداً أي : عرف {صَلاتَهُ} أي دعاء نفسه {وَتَسْبِيحَهُ} تنزيهه {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِمَا يَفْعَلُونَ} أي يفعلونه من الطاعة والصلاة والتسبيح فيجازيهم على ذلك وفيه وعيد لكفرة الثقلين
163
حيث لا تسبيح لهم طوعاً واختياراً.
{وَلِلَّهِ} لا لغيره {مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} لأنه الخالق لما فيها من الذوات والصفات وهو المتصرف في جميعها إيجاداً وإعداماً إبداء وإعادة.
{وَإِلَى اللَّهِ} خاصة {الْمَصِيرُ} أي رجوع الكل بالفناء والبعث فعلى العاقل أن يعبد هذا المالك القوي ويسبحه باللسان الصوري والمعنوي وهذا التسبيح محمول عند البعض على ما كان بلسان المقال فإنه يجوز أن يكون لغير العقلاء أيضاً تسبيح حقيقة لا يعلمه إلا الله ومن شاء من عباده كما في "الكواشي" وقد سبق تفصيل بديع عند قوله تعالى في سورة الإسراء {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء : 44) فارجع تغنم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 163
وعن أبي ثابت قال : كنت جالساً عند أبي جعفر الباقر فقال لي أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها؟ قلت : لا قال فإنهن يقدسن ربهن ويسألن قوت يومهن (آورده اندكه أبو الجناب نجم الكبرى قدس سره در رسالة فواتح الجمال ميفر ما يندكه ذكرى كه جارى بر نفوس حيوانات انفاس ضرورية ايشانست زيرا كه در برآمدن وفرو رفتن نفس حرف هاكه اشارت بغيب هويت حكق است كفته ميشودا كر خواهند واكر نخواهند ورن حرف هاست كه دراسم مبارك الله است وألف ولام از براى تعريفست وتشديد لام از براى مبالغه درآن تعريف س مى بايدكه طالب هو شمندر در وقت تلفظ باين حرف شريف هويت حق سبحانه وتعالى ملحوظ وى باشد ودر خروج ودخول نفس واقف بودكه در نسبت حضور مع الله فتورى واقع نشود) ويقال لهذا عند النقشبندية (هوش دردم).
هاغيب هويت آمد أي حرف شناس
انفاس ترابود بآن حرف اساس
باش آكه ازان حرف دراميد وهراس
حرفي كفتم شكرف اكردارى اس
يقول الفقير أيقظه القدير : رأيت في بعض المبشرات حضرة شيخي وسندي قدس سره وهو يخاطبني ويقول : هل تعرف سر قولهم : الله بالرفع دون الله بالنصب والجر فقلت : لا فقال : إنه في الأصل الله هو فبضم الشفتين في تحصل الإشارة إلى نور الذات الأحدية في الممكنات وسر الكمال الساري في المظاهر ولا تحصل هذه الإشارة في النصب والجر الحمدتعالى.
(6/118)
وقال بعض العلماء : تسبيح الحيوان والجماد محمول على ما كان بلسان الحال فإن كل شيء يدل بوجوده وأحواله على وجود صانع واجب الوجود متصف بصفات الكمال مقدس عن كل ما لا يليق بشأنه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 163
وقال في "التأويلات" : اعلم أن التسبيح على ثلاثة أوجه تسبيح العقلاء وتسبيح الحيوانات وتسبيح الجمادات.
فتسبيح العقلاء بالنطق والمعاملات.
وتسبيح الحيوانات بلسان الحاجات وصورة الدلالات على صانعها.
وتسبيح الجمادات بالخلق وهو عام في جميعها فإنها مظهر الآيات فأما تسبيح العقلاء فمخصوص بالملك والإنسان فتسبيح الملك غذاؤه يعيش به ولو قطع عنه لهلك وليس موجباً لترقيه لأنه مسبح بالطبع وتسبيح الإنسان تنزيه الحق بالأمر لا بالطبع فموجب لترقيه بأن يفنى فيه أوصاف إنسانيته ويبقيه بوصف سبوحيته فإنه به ينطق عند فناء وجوده.
{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَه وَتَسْبِيحَهُ} يشير إلى أن لكل شيء علماً وشعوراً مناسباً له على صلاته وهي القيام بالعبودية وعلى تسبيحه وهو ثناء الربوبية وذلك ؛ لأن لكل
164
شيء ملكوتاً هو قائم به وقيام الملكوت بيده تعالى كما قال : {فَسُبْحَـانَ الَّذِى بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ} (يس : 83) وعالم الملكوت هو الحياة المحض والعلم كما قال : {وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ} والملكوت هو عالم الأرواح فلكل شيء روح منه بحسب استعداده لقابلية الروح فخلق الإنسان في أحسن تقويم لقابلية الروح الأعظم فلهذا صار كاملهم أفضل المخلوقات وأكرمها فهو يعلم خصوصية صلاته وتسبيحه على قدر حظه من عالم الملكوت بل على قدر حظه من عالم الربوبية وهو متفرد به عما دونه والملك يعلم صلاته وتسبيحه على قدر حظه من عالم الملكوت والحيوانات والجمادات تعلم صلاتها وتسبيحها بملكوتها بلا شعور منها بالصورة.
{وَاللَّهُ عَلِيمُا بِمَا يَفْعَلُونَ} أي : بحقيقته بالكمال وهم يعلمون بحسب استعدادهم انتهى ما في "التأويلات" وهذا لا ينفي نطق الجمادات عند إنطاق الله تعالى وكذا نطق الحيوانات العجم بطريق خرق العادة أو بطريق لا يسمعه ولا يفهمه إلا أهل الكشف والعيان كما سبق أمثلته في سورة الإسراء نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن لا يمضي نفسه إلا بذكر شريف ولا يمر وقته إلا بحال لطيف أنه الفياض الوهاب الجواد.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَابًا} الإزجاء سوق الشيء برفق وسهولة لينساق غلب في سوق شيء يسير أو غير معتد به ومنه البضاعة المزجاة فإنها يزجيها كل أحد ويدفعها لقلة الاعتداد بها.
ففيه إيماء إلى أن السحاب بالنسبة إلى قدرته تعالى مما لايعتد به ويسمى السحاب سحاباً لانسحابه في الهواء أي انجراره وهو اسم جنس يصح إطلاقه على سحابة واحدة وما فوقها والمراد ههنا قطع السحاب بقرينة إضافة بين إلى ضميره فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد.
والمعنى قد رأيت رؤية بصرية أن الله يسوق غيماً إلى حيث يريد.
{ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي : بين أجزائه بضم بعضها إلى بعض فيجعله شيئاً واحداً بعد أن كان قطعاً.
{ثُمَّ يَجْعَلُه رُكَامًا} أي : متراكماً بعضه فوق بعض فإنه إذا اجتمع شيء فوق شيء فهو ركوم مجتمع.
جزء : 6 رقم الصفحة : 163
قال في "المفردات" يقال : سحاب مركوم أي متراكم والركام ما يلقى بعضه على بعض {فَتَرَى الْوَدْقَ} أي المطر أثر تكاثفه وتراكمه.
قال أبو الليث : الودق المطر كله شديده وهينه.
وفي "المفردات" : الودق قيل ما يكون خلال المطر كأنه غبار وقد يعبر به عن المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلَـالِهِ} حال من الودق لأن الرؤية بصرية والخلال جمع خلل كجبال وجبل وهو فرجة بين الشيئين والمراد ههنا مخارج القطر.
والمعنى حال كون ذلك الودق يخرج من أثناء ذلك السحاب وفتوقه التي حدثت بالتراكم وانعصار بعضه من بعض.
قال كعب : السحاب غربال المطر ولولاه لأفسد المطر ما يقع عليه {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ} أي من الغمام فإن كل ما علاك سماء وسماء كل شيء أعلاه.
{مِن جِبَالٍ} أي : من قطع عظام تشبه الجبال في العظم كائنة.
{فِيهَآ} أي : في السماء فإن السماء من المؤنثات السماعية.
{مِنا بَرَدٍ} مفعول ينزل على أن من تبعيضية والأوليان لابتداء الغاية على أن الثانية بدل اشتمال من الأولى بإعادة الجار والبرد محركة الماء المنعقد ، أي ما يبرد من المطر في الهواء فيصلب كما في "المفردات".
والمعنى ينزل الله مبتدئاً من السماء من جبال فيها بعض برد.
قال بعضهم : إن الله تعالى خلق جبالاً كثيرة في السماء من البرد والثلج ووكل بها ملكاً
165
من الملائكة فإذا أراد أن يرسل البرد والثلج على قطر من أقطار الأرض يأمره بذلك فثلج هناك ما شاء الله بوزن ومقدار في صحبة كل حبة منها ملك يضعها حيث أمر بوضعها.
(6/119)
قال ابن عباس رضي الله عنهما لا عين تجري على الأرض إلا وأصلها من البرد والثلج ويقال : إن الله تعالى خلق ملائكة نصف أبدانهم من الثلج ونصفها من النار فلا الثلج يطفىء النار ولا النار تذيب الثلج فإذا أراد الله إرسال الثلج في ناحية أمرهم حتى يترفرفوا بأجنحتهم من الثلج فما تساقط عن الترفرف فهو الثلج الذي يقع هناك يقال : رفرف الطائر إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه وقيل : المراد من الماء أي في الآية المظلة أي الفلك وفيها جبال من برد كما أن في الأرض جبالاً من حجر وليس في العقل ما ينفيه والمشهور أن الابخرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة فبلغت الطبقة الباردة من الهواء وقوى البرد اجتمعت هناك وصارت سحاباً فإن لم يشتد البرد تقاطرت مطراً وإن اشتد فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل برداً وقد يبرد الهواء برداً مفرطاً فينقبض وينعقد سحاباً وينزل منه المطر أو الثلج وكل ذلك مستند إلى إرادة الله تعالى ومشيئته المبنية على الحكم والمصالح.
جزء : 6 رقم الصفحة : 163
وفي "إخوان الصفاء" : الأجزاء المائية والترابية إذا كثرت في الهواء وتراكمت فالغيم منها هو الرقيق والسحاب هو المتراكم والمطر هو تلك الأجزاء المائية إذا التأم بعضها مع بعض وبردت وثقلت رجعت نحو الأرض والبرد قطر تجمد في الهواء بعد خروجه من سمك السحاب والثلوج قطر صغار تجمد في خلال الغيم ثم تنزل برفق من السحاب انتهى والأجزاء اللطيفة الأرضية تسمى دخاناً والمائية بخاراً.
قال ابن التمجيد : إذا أشرقت الشمس على أرض يابسة تحللت منها أجزاء نارية ويخالطها أجزاء أرضية يسمى المركب منهما دخاناً.
وفي "شرح القانون" : الفرق بين الدخان والبخار هو أن تركيب الدخان من الأجزاء الأرضية والنارية وتركيب البخار من المائية والهوائية فيكون البخار ألطف من الدخان.
{فَيُصِيبُ بِهِ} أي : بما ينزل من البرد والباء للتعدية.
وبالفارسية (س ميرساند آن تكرك را).
{مَن يَشَآءُ} فيناله ما يناله من ضرر في نفسه وماله نحو الزرع والضرع والثمرة.
{وَيَصْرِفُه عَن مَّن يَشَآءُ} فيأمن غائلته {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي : يقرب ضوء برق السحاب فإن السنا مقصوراً بمعنى الضوء الساطع وممدوداً بمعنى الرفعة والعلو والبرق لمعان السحاب.
وفي "القاموس" : البرق واحد بروق السحاب أو ضرب ملك السحاب وتحريكه إياه لينساق فترى النيران.
وفي "إخوان الصفاء" : البرق نار تنقدح من احتكاك تلك الأجزاء الدخانية في جوف السحاب {يَذْهَبُ بِالابْصَـارِ} أي : يخطفها من فرط الإضاءة وسرعة ورودها.
قال الكاشفي : (واين دليل است بر كمال قدرت كه شعلة آتش ازميان ابر آبدار بيرون مي آرد) فسبحان من يظهر الضد من الضد.
جزء : 6 رقم الصفحة : 163
{يُقَلِّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ} بالمعاقبة بينهما أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور وغيرها مما يقع فيهما من الأمور التي من جملتها ما ذكر من إزجاء السحاب وما ترتب عليه وفي الحديث قال الله تعالى : "يؤذيني ابن آدم يَسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر اقلب الليل والنهار" كذا في "المعالم" "والوسيط".
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} الذي فصل من
166
الازجاء إلى التقليب.
{لَعِبْرَةً} لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ووحدته وكمال قدرته وإحاطة علمه بجميع الأشياء ونفاذ مشيئته وتنزهه عما لا يليق بشأنه العلي وأصل العبر تجاوز من حال إلى حال والعبرة الحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد.
{لاوْلِى الابْصَـارِ} لكل من يبصر ويقال لقوة القلب المدركة : بصيرة وبصر ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة كما في "المفردات".
يعني أن من له بصيرة يعبر من المذكور إلى معرفة المدبر ذلك من القدرة التامة والعلم الشامل الدال قطعاً على الوحدانية.
وسئل سعيد بن المسيب أي : العبادة أفضل؟ قال : التفكر في خلقه والتفقه في دينه.
ويقال : العبر بأوقار والمعتبر بمثقال فعلى العاقل الاعتبار آناء الليل وأطراف النهار.
قالت رابعة القيسية رحمها الله : ما سمعت الأذان إلا ذكرت منادي يوم القيامة وما رأيت الثلوج إلا ذكرت تطاير الكتب وما رأيت الجراد إلا ذكرت الحشر.
والإشارة في الآية الكريمة أن الله تعالى يسوق السحب المتفرقة التي تنشأ من المعاصي والأخلاق الذميمة ثم يؤلف بينها ثم يجعلها متراكماً بعضها على بعض فترى مطر التوبة يخرج من خلاله كما خرج من سحاب وعصى آدم ربه فغوى مطر ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى فالإنسان من النسيان والشر جزء من البشر فإذا أذنب الإنسان فلتكن همته طلب العفو والرحمة من الله تعالى ولا يمتنع منه مستعظماً لذنبه ظاناً أن الله تعالى وصف ذاته الأزلية بالغفارية والتوابية حين لم يكن بشر ولا ذئب ولا حادث من الحوادث فاقتضى ذلك وجود الذنب من الإنسان البتة لأن المغفرة إنما هي بالنسبة إلى الذنب.
ولذا قال الحافظ :
(6/120)
جزء : 6 رقم الصفحة : 166
سهو وخطاى بنده كرش نيست اعتبار
معنى عفو ورحمت آمر زكار يست
وينزل الله من سماء القلب من قساوة فيها جموده من قهر الحق وخذلانه فيصيب من برد القهر من يشاء من أهل الشقاوة ويصرفه عمن يشاء من أهل السعادة يكاد سنا برق القهر يذهب البصائر يقلب الله ليل معصية من يشاء نهار الطاعة كما قلب في حق آدم عليه السلام ويقلب نهار طاعة من يشاء ليل المعصية كما قلب في حق إبليس إن في ذلك التقليب لعبرة لأرباب البصائر بأن يشاهدوا آثار لطفه وقهره في مرآة التقليب كذا في "التأويلات النجمية".
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} الدب والدبيب مشي خفيف ويستعمل ذلك في الحيوان وفي الحشرات أكثر كما في "المفردات" والدابة هنا ليست عبارة عن مطلق ما يمشي ويتحرك بل هي اسم للحيوان الذي يدب على الأرض ومسكنه هنالك فيخرج منها الملائكة والجن فإن الملائكة خلقوا من نور والجن من نار.
وقال في "فتح الرحمن" : خلق كل حيوان يشاهد في الدنيا ولا يدخل فيه الملائكة والجن لأنا لا نشاهدهم انتهى.
والمعنى خلق كل حيوان يدب على الأرض.
{مِّن مَّآءٍ} هو جزء مادته أي أحد العناصر الأربعة على أن يكون التنوين للوحدة الجنسية فدخل فيه آدم المخلوق من تراب وعيسى المخلوق من روح أو من ماء مخصوص هو النطفة ، أي ماء الذكر والأنثى على أن يكون التنوين للوحدة النوعية فيكون تنزيلاً للغالب منزلة الكل إذ من الحيوان ما يتولد لا عن نطفة (در تبيان از ابن عباس رضي الله عنهما نقل ميكند كه حق سبحانه جوهري آفريد ونظر هيبت برو افكند بكداخت وآب شد بعضى آنرا تغليب نمود باتش وازان
167
جن بيافريد س بعض را تغليب كرد بباد وازان ملائكة فريد س تغليب نمود مقداري را بخاك وازان آدمى وسائر حيوانات خلق كرد واصل آن همه آبست).
قال في "الكواشي" : تنكير ماء مؤذن أن كل دابة مخلوقة من ماء مختص بها وهو النطفة فجميع الحيوان سوى الملائكة والجن مخلوق من نطفة وتعريف الماء في قوله : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ} (الأنبياء : 30) نظر إلى الجنس الذي خلق منه جميع الحيوان لأن أصل جميع الخلق من الماء.
قالوا : خلق الله ماء فجعل بعضه ريحاً فخلق منها الملائكة وجعل بعضه ناراً فخلق منها الجن وبعضه طيناً فخلق منه آدم انتهى.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن كل ذي روح خلق من نور محمد عليه السلام لأن روحه أول شيء تعلقت به القدرة كما قال : "أول ما خلق الله روحي" ولما كان هو درة صدف الموجودات عبر عن روحه بدرة وجوهرة فقال : "لما أراد الله أن يخلق العالم خلق درة" وفي رواية جوهرة "ثم نظر إليها بنظر الهيبة فصارت ماء" الحديث فخلقت الأرواح من ذلك الماء اهـ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 166
فإن قيل : ما الحكمة في خلق كل شيء من الماء قيل لأن الخلق من الماء أعجب لأنه ليس شيء من الأشياء أشد طوعاً من الماء لأن الإنسان لو أراد أن يمسكه بيده أو أراد أن يبنى عليه أو يتخذ منه شيئاً لا يمكنه والناس يتخذون من سائر الأشياء أنواع الأشياء.
قيل : فالله تعالى أخبر أنه يخلق من الماء ألواناً من الخلق وهو قادر على كل شيء كذا في "تفسير أبي الليث" عليه الرحمة.
{فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ} كالحية والحوت ونحوهما وإنما قال : يمشي على وجه المجاز وإن كان حقيقة المشي بالرجل لأنه جمعه مع الذي يمشي على وجه التبع.
يعني أن تسمية حركة الحية مثلاً ومرورها مشياً مع كونها زحفاً للمشاكلة فإن المشي حقيقة هو قطع المسافة والمرور عليها مع قيد كون ذلك المرور على الأرجل.
{وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ} كالإنس والجن والطير كما في "الجلالين" {وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ} كالنعم والوحش وعدم التعرض لما يمشي على أكثر من أربع كالعناكب ونحوها من الحشرات لعدم الاعتداد بها كما في "الإرشاد".
وقال في "فتح الرحمن" : لأنها في الصورة كالتي تمشي على أربع وإنما تمشي على أربع منها كما في "الكواشي" وتذكير الضمير في منهم لتغليب العقلاء والتعبير عن الأصناف بمن ليوافق التفصيل الإجمال وهو هم في فمنهم والترتيب حيث قدم الزاحف على الماشي على رجلين وهو على الماشي على أربع لأن المشي بلا آلة أدخل في القدرة من المشي على الرجلين وهو أثبت لها بالنسبة إلى من مشى على أربع.
{يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} مما ذكر ومما لم يذكر بسيطاً كان أو مركباً على ما يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفاعل مع اتحاد العنصر (صاحب حديقه فرموده
أوست قادر بهره خواهد وخواست
كارها جمله نزد أو يداست
وقال بعضهم :
نقشبند برون كلها أوست
نقش دان درون دلها اوست
(6/121)
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} فيفعل الله ما يشاء كما يشاء.
{لَّقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَـاتٍ مُّبَيِّنَـاتٍ} أي لكل ما يليق بيانه من الأحكام الدينية والأسرار التكوينية.
{وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ} بالتوفيق للنظر الصحيح فيها والإرشاد إلى التأمل في معانيها.
{إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يعني الإسلام الذي
168
هو دين الله وطريقه إلى رضاه وجنته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 166
وفي "التأويلات النجمية" : أخبر عن سيرة هذه الدواب التي خلقت من الماء فقال : {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ} يعني سيرته في مشيه أن يضيع عمره في تحصيل شهوات بطنه.
{وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ} أي : يضيع عمره في تحصيل شهوات فرجه فإن كل حيوان إذا قصد قضاء شهوته يمشي على رجلين عند المباشرة وإن كان له أربع قوائم.
{وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ} أي : يضيع عمره في طلب الجاه لأن أكثر طالبي الجاه يمشي راكباً على مركوب له أربع قوائم كالخيل والبغال والحمير كما قال تعالى : {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةًا وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (النحل : 8) من أنواع المخلوقات على مقتضى حكمته ومشيئته الأزلية لما يشاء كما يشاء إظهاراً للقدرة ليعلم أن الله على خلق كل نوع من أنواع المخلوقات والمقدورات قادر ـ ومن أخبار الرشيد ـ أنه خرج يوماً للصيد فأرسل بازياً أشهب فلم يزل يعلو حتى غاب في الهواء ثم رجع بعد اليأس منه ومعه سمكة فأحضر الرشيد العلماء وسألهم عن ذلك فقال مقاتل : يا أمير المؤمنين روينا عن جدك ابن عباس رضي الله عنهما أن الهواء معمور بأمم مختلفة الخلق سكان فيه وفيه دواب تبيض وتفرخ فيه شيئاً على هيئة السمك لها أجنحة ليست بذات ريش فأجاز مقاتلاً على ذلك وأكرمه.
{لَّقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَـاتٍ مُّبَيِّنَـاتٍ} أي : أنزلنا القرآن مبينات آياته ما خلقنا من كل نوع من أنواع الإنسان المذكورة أوصافهم ولكنهم لو وكلوا إلى ما جبلوا عليه لما كانوا يهتدون إلا إلى هذه الأوصاف التي جبلوا عليها ولا يهتدون إلى صراط مستقيم هو صراط الله بإرادتهم ومشيئتهم.
{وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يصل به إلى الحضرة بمشيئة الله وإرادته الأزلية نسأل الله الهداية إلى سواء الطريق والتوفيق لجادة التحقيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 166
{وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} نزلت في بشر المنافق خاصم يهودياً في أرض فدعاه إلى كعب بن الأشرف من أحبار اليهود ودعاه اليهود إلى النبي عليه الصلاة والسلام فصبغة الجمع للإيذان بأن للقائل طائفة يساعدونه ويتابعونه في تلك المقالة كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً والقاتل منهم واحد.
{وَأَطَعْنَا} أي : أطعناهما في الأمر والنهي والإطاعة فعل يعمل بالأمر لا غير لأنها الانقياد وهو لا يتصور إلا بعد الأمر بخلاف العباد وغيرها.
{ثُمَّ يَتَوَلَّى} يعرض عن قبول حكمه.
قال الإمام الراغب تولى إذا عدي بنفسه اقتضى معنى الولاية وحصوله في أقرب المواضع وإذا عدى بعن لفظاً أو تقديراً اقتضى معنى الإعراض وترك القرب فإن الولي القرب والتولي قد يكون بالجسم وقد يكون بترك الإصغاء والائتمار وثم يجوز أن يكون للتراخي الزماني وأن يكون لاستبعاد أمر التولي عن قولهم آمنا وأطعنا.
{فَرِيقٌ مِّنْهُم} أي من القائلين.
قال في "المفردات" : الفرق القطعة المنفصلة ومنه الفرقة للجماعة المنفردة من الناس والفريق الجماعة المنفردة عن آخرين.
{مِنا بَعْدِ ذَالِكَ} القول المذكور.
{وَمَآ أُوالَائكَ} إشارة إلى القائلين فإن نفي الإيمان عنهم مقتض لنفيه عن الفريق المتولي بخلاف العكس أي وما أولئك الذين يدعون الإيمان والإطاعة ثم يتولى بعضهم الذين يشاركونهم في الاعتقاد والعمل.
{بِالْمُؤْمِنِينَ} حقيقة كما يعرب عنه اللام أي ليسوا بالمؤمنين المعهودين بالإخلاص في الإيمان والثبات عليه {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِه لِيَحْكُمَ} أي : الرسول
169
{بَيْنَهُمْ} لأنه المباشر للحكم حقيقة وإن كان الحكم حكم الله حقيقة وذكر الله لتفخيمه عليه السلام والإيذان بجلالة محله عنده تعالى والحكم بالشيء أن تقضى بأنه كذا وليس بكذا سواء ألزمت بذلك غيرك أو لم تلزمه.
{إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} أي : فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه عليه السلام لكون الحق عليهم وعلمهم بأنه عليه السلام يحكم بالحق عليهم ولا يقبل الرشوة وهو شرح للتولي ومبالغة فيه وأعرض أظهر عرضه ، أي : ناحيته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 169
{وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ} أي : الحكم لا عليهم {يَأْتُوا إِلَيْهِ} إلى صلة يأتوا فإن الإتيان والمجيء يعديان بإلى.
{مُذْعِنِينَ} منقادين لجزمهم بأنه عليه السلام يحكم لهم.(6/122)
{أَفِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} إنكار واستقباح لإعراضهم المذكور وبيان لمنشأه أي أذلك الإعراض لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم.
{أَمِ} لأنهم {ارْتَابُوا} أي : شكوا في أمر نبوته عليه السلام مع ظهور حقيقتها.
{أَمِ} لأنهم {يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} في الحكومة.
والحيف الجور والظلم الميل في الحكم إلى أحد الجانبين يقال حاف في قضيته أي جار فيما حكم ثم اضرب عن الكل وأبطل منشئيته وحكم بأن المنشأ شيء آخر من شنائعهم حيث قيل : {بَلْ أولئك هُمُ الظَّـالِمُونَ} أي : ليس ذلك لشيء مما ذكر أما الأولان فلأنه لو كان لشيء منهما لاعرضوا عنه عليه السلام عند كون الحق لهم ولما اتوا إليه مذعنين لحكمه لتحقق نفاقهم وارتيابهم حينئذ أيضاً وأما الثالث فلانتفائه رأساً حيث كانوا لا يخافون الحيف أصلاً لمعرفتهم أمانته عليه السلام وثباته على الحق بل لأنهم هم الظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم ويتم لهم جحوده فيأبون المحاكمة إليه عليه السلام لعلهم بأنه يقضى عليهم بالحق فمناط النفي المستفاد من الإضراب في الأولين هو وصف منشئيتهما في الإعراض فقط مع تحققهما في نفسهما وفي الثالث هو الوصف مع عدم تحققه في نفسه وفي الرابع هو الأصل والوصف جميعاً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 169
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} بالنصب على أنه خبر كان وإن مع ما في حيزها اسمها.
{إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِه لِيَحْكُمَ} أي : الرسول {بَيْنَهُمْ} وبين خصومهم سواء كانوا منهم أو من غيرهم.
{أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا} الدعاء {وَأَطَعْنَا} بالإجابة والقبول والطاعة موافقة الأمر طوعاً وهي تجوزولغيره كما في "فتح الرحمن" (بهره كنى درميان حكمى).
{وَأُوالَائكَ} المنعوتون بما ذكر من النعت الجميل {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بكل مطلب والناجون من كل محذور.
قال في "المفردات" : الفلاح الظفر وإدراك البغية.
{وَمِن} (وهركه) {يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي : من يطعمها كائناً من كان فيما أمرا به من الأحكام الشرعية اللازمة والمتعدية.
{وَيَخْشَ اللَّهَ} على ما مضى من ذنوبه أن يكون مأخوذاً بها.
{وَيَتَّقْهِ} فيما بقي من عمره وأصله يتقيه فحذف الياء للجزم فصار يتقه بكسر القاف والهاء ثم سكن القاف تخفيفاً على خلاف القياس لأن ما هو على صيغة فعل إنما يسكن عينه إذا كانت كلمة واحدة نحو كتف في كتف ثم أجري ما أشبه ذلك من المنفصل مجرى المتصل فإن تقه في قولنا : يتقه بمنزلة كتف فسكن وسطه كما سكن وسط كتف فأولئك الموصوفون بالطاعة والخشية والاتقاء.
{هُمُ الْفَآاـاِزُونَ} بالنعيم المقيم لا من عداهم.
والفوز الظفر مع حصول السلامة كما في "المفردات"
170
(در كشاف آورده كه ملكى از علما التماس آيتى كردكه بدان عمل كافى باشد ومحتاج بآيات ديكر نباشد علماى عصراو برين آيت اتفاق كردند ه حصول فوز وفلاح جز بفرمان بردارى وخشيت وتقوى ميسر نيست).
جزء : 6 رقم الصفحة : 170
اينك ره اكر مقصد اقصى طلبي
وينك عمل ار رضاى مولى طلبي
فلا بد من الإطاعةولرسوله في أداء الفرائض واجتناب المحارم فقد دعا الله تعال فلا بد من الإجابة.
قال ابن عطاء رحمه الله : الدعوة إلى الله بالحقيقة والدعوة إلى الرسول بالنصيحة فمن لم يجب داعي الله كفر ومن لم يجب داعي الرسول ضلّ وسبب عدم الإجابة المرض.(6/123)
قال الإمام الراغب : المرض الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان وذلك ضربان : جسمي وهو المذكور في قوله تعالى : {وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} (النور : 61) والثاني : عبارة عن الرذائل كالجهل والجبن والبخل والنفاق ونحوها من الرذائل الخلقية نحو قوله تعالى : {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} ويشبه النفاق والكفر وغيرهما من الرذائل بالمرض إما لكونها مانعة عن إدراك الفضائل كالمرض المانع للبدن عن التصرف الكامل وإما لكونها مانعة عن تحصيل الحياة الأخروية المذكورة في قوله تعالى : {وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ} (العنكبوت : 64) وأما لميل النفس بها إلى الاعتقادات الرديئة ميل البدن المريض إلى الأشياء المضرة انتهى ، وفي الحديث : "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" معناه لا يبلغ العبد كمال الإيمان ولا يستكمل درجاته حتى يكون ميل نفسه منقاداً لما جاء به النبي عليه السلام من الهدى والأحكام ثم إن حقيقة الإطاعة والإجابة إنما هي بترك ما سوى الله والإعراض عما دونه فمن أقبل على غيره فهو لآفات عرضت له وهي انحراف مزاج قلبه عن فطرة الله التي فطر الناس عليها من حب الله وحب الآخرة والشك في الدين بمقالات أهل الأهواء والبدع من المتفلسفين والطبائعيين والدهريين وغيرهم من الضلال وخوف الحيف بأن يأمره الله ورسوله بترك الدنيا ونهى النفس عن الهوى وأنواع المجاهدات والرياضات المؤدية إلى تزكية النفس وتصفية القلب لتحلية الروح بحلية أخلاق الحق والوصول إلى الحضرة ثم لا يوفيان بما وعدا بقوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس : 26) ويظلمان عليه بعدم أداء حقوقه أما علم أن الله لا يظلم مثقال ذرة.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} أي حلف المنافقون بالله وأصله من القسامة وهي إيمان تقسم على المتهمين في الدم ثم صار اسماً لكل حلف.
{جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ} الجهد بالفتح الطاقة واليمين في اللغة القوة وفي الشرع تقوي أحد طرفي الخبر بذكر الله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 170
قال الإمام الراغب : اليمين في الحلف مستعار من اليد اعتباراً بما يفعله المجاهد والمعاهد عنده.
قال في "الإرشاد" : جهد نصب على أنه مصدر مؤكد لفعله الذي هو في حيز النصب على أنه حال من فاعل اقسموا أي أقسموا به تعالى يجهدون أيمانهم جهداً ومعنى جهد اليمين بلوغ غايتها بطريق الاستعارة من قولهم جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها أي جاهدين بالغين أقصى مراتب اليمين في الشدة والوكادة فمن قال : أقسم بالله فقد جهد يمينه ومعنى الاستعارة أنه لما لم يكن لليمين وسع وطاقة حتى يبلغ المنافقون أقصى وسع اليمين وطاقتها كان أصله يجهدون إيمانهم جهداً ثم حذف الفعل وقدم المصدر فوضع موضعه مضافاً إلى المفعول نحو فضرب
171
الرقاب وبالفارسية : (وسوكند كردند منافقان بخداى تعالى سخترين سوكندان خود) {لَـاـاِنْ أَمَرْتَهُمْ} أي : بالخروج إلى الغزو فإنهم كانوا يقولون لرسول الله أينما كنت نكن معك ولئن خرجت خرجنا معك وإن أقمت أقمنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا.
{لَيَخْرُجُنَّ} جواب لأقسموا لأن اللام الموطئة للقسم في قوله لئن أمرتهم جعلت ما يأتي بعد الشرط المذكور جواباً للقسم لاجزاء للشرط وكان جزاء الشرط مضمراً مدلولاً عليه بجواب القسم وجواب القسم وجزاء الشرط لما كانا متماثلين اقتصر على جواب القسم وحيث كانت مقالتهم هذه كاذبة ويمينهم فاجرة أمر عليه السلام بردها حيث قيل {قُل لا تُقْسِمُوا} لا تحلفوا بالله على ما تدعون من الطاعة {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} خبر مبتدأ محذوف والجملة تعليل للنهي أي لأن طاعتكم طاعة نفاقية واقعة باللسان فقط من غير مواطأة من القلب وإنما عبر عنها بمعروفة للإيذان بأن كونها كذلك مشهور معروف لكل أحد كذا في "الإرشاد".
وقال بعضهم : طاعة معروفة بالإخلاص وصدق النية خير لكم وأمثل من قسمكم باللسان فالمطلوب منكم هي لا اليمين الكاذبة المنكرة.
وفي "التأويلات النجمية" : {قُل لا تُقْسِمُوا} بالكذب قولاً بل أطيعوا فعلاً فإنه {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} بالأفعال غير دعوى القيل والقال.
{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} بالحال صدقاً وبالقال كذباً أو بطاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل فيجازيكم على ذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 170
(6/124)
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} في الفرائض والسنن على رجاء الرحمة والقبول.
{فَإِن تَوَلَّوْا} بحذف إحدى التاءين ، أي تتولوا وتعرضوا عن هذه الطاعة أثر ما أمرتم بها.
{فَإِنَّمَا عَلَيْهِ} أي فاعلموا إنما عليه صلى الله عليه وسلّم {مَا حُمِّلَ} أي ما كلف وأمر به من تبليغ الرسالة.
{وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ} ما أمرتم به من الإجابة والطاعة ولعل التعبير عنه بالتحمل للإشعار بثقله وكونه مؤونة باقية في عهدتهم بعد كأنه قيل وحيث توليتم عن ذلك فقد بقيتم تحت ذلك الحمل الثقيل.
{وَإِن تُطِيعُوهُ} أي فيما أمركم به من الطاعة {تَهْتَدُوا} إلى الحق الذي هو المقصد الأقصى الموصل إلى كل خير والمنحى من كل شر وتأخيره عن بيان حكم التولي لما في تقديم الترهيب من تأكيد الترغيب.
{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ} محمد ويبعد أن يحمل على الجنس لأنه أعيد معرفاً.
{إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ} التبليغ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح وقد فعل وإنما بقي ما حملتم فإن اديتم فلكم وإن توليتم فعليكم.
قال أبو عثمان رحمه الله : من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة لأن الله تعالى قال : {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} .
يقال : ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل واحدة منها بغير قرينتها : أولاها قوله تعالى : {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَواةَ} (البقرة : 43) فمن صلى ولم يؤد الزكاة لم تقبل منه الصلاة.
والثانية قوله تعالى : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء : 59) فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه.
والثالثة قوله تعالى : {أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ} (لقمان : 14) فمن شكر الله في نعمائه ولم يشكر الوالدين لا يقبل منه ذلك فاطاعة الرسول مفتاح باب القبول ويرشدك على شرف الإطاعة أن كلب أصحاب الكهف لما تبعهم في طاعة الله وعدله دخول الجنة فإذا كان من تبع المطيعين كذلك فما ظنك بالمطيعين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 172
قال حاتم الأصم رحمه الله : من ادعى ثلاثاً بغير ثلاث
172
فهو كذاب : من ادعى حبّ الجنة من غير إنفاق ماله فهو كذاب ، ومن ادعى محبة الله من غير ترك محارم الله فهو كذاب ، ومن ادعى محبة النبي عليه السلام من غير محبة الفقراء فهو كذاب.
محب درويشان كليد جنت است
واعلم أن أحمد بن حنبل رحمه الله لما راعى الشريعة بين جماعة كشفوا العورة في الحمام قيل له في المنام : إن الله تعالى جعلك إماماً للناس برعايتك الشريعة.
وفي "المثنوي" :
رهرو راه طريقت اين بود
كاو باحكام شريعت ميرود
نسأل الله التوفيق.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} الخطاب لعامة الكفرة ومن تبعيضية أوله عليه السلام ولمن معه من المؤمنين ومن بيانية وتوسيط الظرف بين المعطوفين لإظهار أصالة الإيمان.
{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ} جواب للقسم إما بإضمار على معنى وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم أو بتنزيل وعده تعالى منزلة القسم لتحقق إنجازه لا محالة أي ليجعلنهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في ممالكهم.
قال الكاشفي : (في الأرض : درزمين كفار ازعرب وعجم) لقوله عليه السلام : "ليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل".
قال الراغب الخلافة النيابة عن الغير إما لغيبة المنوب عنه وإما لموته وإما لعجزه وإما لتشريف المستخلف وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض.
{كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي : استخلافاً كائناً كاستخلاف الذين من قبلهم وهم بنو إسرائيل استخلفهم الله في مصر والشام بعد إهلاك فرعون والجبابرة.
{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ} التمكين جعل الشيء مكاناً لآخر يقال : مكن له في الأرض أي جعلها مقراً له.
قال في "تاج المصادر" : التمكين (دست دادن وجاى دادن) يقال مكنتك ومكنت لك مثل نصحتك ونصحت لك.
وقال أبو علي : يجوز أن يكون على حد ردف لكم انتهى.
والمعنى ليجعلن دينهم مقرراً ثابتاً بحيث يستمرون على العمل بأحكامه من غير منازع {الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ} الارتضاء (سنديدن) كما في "التاج".
(6/125)
قال في "التأويلات النجمية" : يعني يمكن كل صنف من الخلفاء حمل أمانته التي ارتضى لهم من أنواع مراتب دينهم فإنهم أئمة أركان الإسلام ودعائم الملة الناصحون لعباده الهادون من يسترشد في الله حفاظ الدين وهم أصناف.
قوم هم حفاظ أخبار الرسول عليه السلام وحفاظ القرآن وهم بمنزلة الخزنة.
وقوم هم علماء الأصول من الرادين على أهل العناد وأصحاب البدع بواضح الأدلة غير مخلطين الأصول بعلوم الفلاسفة وشبههم ، فإنها مهلكة عظيمة لا يسلم منها إلا العلماء الراسخون والأولياء القائمون بالحق وهم بطارقة الإسلام وشجعانه ، وقوم هم الفقهاء الذين إليهم الرجوع في علوم الشريعة من العبادات وكيفية المعاملات وهم في الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين في الملك ، وآخرون هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق وأرباب السلوك الكاملون المكملون وهم خلفاء الله على التحقيق وأقطاب العالم وعمد السماء وأوتاد الأرض بهم تقوم السموات والأرض وهم في الدين كخواص الملك وأعيان مجلس السلطان فالدين معمور بهؤلاء على اختلاف طبقاتهم إلى يوم القيامة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 172
{وَلَيُبَدِّلَنَّهُم} التبديل جعل الشيء مكان آخر وهو أعم من العوض فإن العوض هو أن يصير لك الثاني بإعطاء الأول
173
والتبديل يقال للتغيير وإن لم تأت ببدله.
والمعنى بالفارسية (وبدل دهد ايشانرا).
{مِّنا بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الأعداء {مِّن} منهم وأصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف وكان أصحاب النبي عليه السلام قبل الهجرة أكثر من عشر سنين خائفين ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى نجز الله وعده فأظهرهم على العرب كلهم وفتح لهم بلاد الشرق والغرب.
دمبدم صيت كمال دولت خدام أو
عرصة روى زمين راسر بسر خواهد كرفت
شاهباز همتش ون بر كشايد بال قدر
از ثريا تا ثرى در زير راخواهد كرفت
{يَعْبُدُونَنِى} حال من الذين آمنوا لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد.
{لا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـاًا} حال من الواو أي يعبدونني غير مشركين بي في العباد شيئاً.
{وَمَن كَفَرَ} ومن ارتد {بَعْدَ ذَالِكَ} الوعد أو اتصف بالكفر بأن ثبت واستمر عليه ولم يتأثر بما مرّ من الترغيب والترهيب فإن الإصرار عليه بعد مشاهدة دلائل التوحيد كفر مستأنف زائد على الأصل أو كفر هذه النعمة العظيمة.
{فأولئك هُمُ الْفَـاسِقُونَ} الكاملون في الفسق والخروج عن حدود الكفر والطغيان.
قال المفسرون : أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه فلما قتلوه غير الله ما بهم من الأمن وأدخل عليهم الخوف الذي رفع عنهم حتى صاروا يقتلون بعد أن كانوا إخواناً متحابين والله تعالى لا يغير نعمة انعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وفي الحديث : "إذا وضع السيف في أمتي لا يرفع عنها إلى يوم القيامة" : وفي "المثنوي" :
هره باتوا آيد از ظلمات غم
آن زبى شرمى وكستاخيست هم
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : مشيت في زرع إنسان فناداني صاحبه : يا بقر فقلت : غير اسمي بزلة فلو كثرت لغير الله معرفتي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 172
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَواةَ} عطف على مقدر يستدعيه المقام أي فآمنوا واعملوا صالحاً وأقيموا إلخ.
{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} في سائر ما أمركم به فهو من باب التكميل.
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي افعلوا ما ذكر من الإقامة والإيتاء والإطاعة راجين أن ترحموا فهو متعلق بالأوامر الثلاثة.
{لا تَحْسَبَنَّ} يا محمد أو يا من يصلح للخطاب كائناً من كان {الَّذِينَ كَفَرُوا} مفعول أول للحسبان.
{مُعْجِزِينَ فِى الأرْضِ} العجز ضد القدرة وأعجزت فلاناً جعلته عاجزاً أي معجزينعن إدراكهم وإهلاكهم في قطر من الأقطار بما رحبت وإن هربوا منها كل مهرب.
{وَمَأْوَاـاهُمُ النَّارُ} عطف على جملة النهي بتأويلها بجملة خبرية ، أي لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض فإنهم مدركون ومأواهم النار.
{وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} جواب لقسم مقدر والمخصوص بالمدح محذوف أي وبالله لبئس المصير والمرجع هي أي النار يقال صار إلى كذا أي انتهى إليه ومنه صير الباب لمصيره الذي ينتهي إليه في تنقله وتحركه.
وفي الآية إشارة إلى كفران النعمة فإن الذين أنفقوا النعمة في المعاصي وغيروا ما بهم من الطاعات مأواهم نار القطيعة.
قال علي رضي الله عنه : أقل ما يلزمكمأن تستعينوا بنعمه على معاصيه.
قال الحسن رحمه الله : إذا استوى يوماك فأنت ناقص قيل : كيف ذاك قال إن الله زادك في يومك هذا نعماً فعليك أن تزداد فيه شكراً وكل ما أوجد
174
لفعل ما فشرفه لتمام وجود ذلك الفعل منه كالفرس للعدو في الكرّ والفرّ والسيف للعمل والأعضاء خصوصاً اللسان للشكر ومتى لم يوجد فيه المعنى الذي لأجله أوجد كان ناقصاً فالإنسان القاصر في عباداته كالإنسان الناقص في أعضائه وآلاته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 174
(6/126)
وأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد دعا جميع الناس إلى الله تعالى وإلى توحيده وطاعته فأجاب من أجاب وهم أهل السعادة وأولهم الصحابة رضي الله عنهم وأعرض من أعرض وهم أهل الشقاوة وأقدمهم الكفرة والمنافقون المعاصرون له عليه السلام ولما هربوا من باب الله تعالى بترك إطاعة رسوله وأصروا عليه عاقبهم الله تعالى عاجلاً أيضاً حيث قتلوا في الوقائع واصيبوا بما لا يخطر ببالهم فانظر كيف أدركهم الله تعالى فلم يعجزوه كما أدرك الأمم السالفة العاصية نسأل الله تعالى أن يجعلنا في حصين عصمته ويتغمدنا برحمته ويحرسنا بعين عنايته.
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} روي : أن غلاماً لاسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كراهته فنزلت والخطاب للرجال المؤمنين والنساء المؤمنات جميعاً بطريق التغليب.
{لِيَسْتَـاْذِنكُمُ} هذه اللام لام الأمر والاستئذان طلب الإذن في الشيء إعلام بإجازته والرخصة فيه.
والمعنى بالفارسية (بايدكه دستورى طلبند از شما).
{الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ} من العبيد والجواري.
{وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} أي : الصبيان القاصرون عن درجة البلوغ المعهود والتعبير عن البلوغ بالاحتلام لكونه أظهر دلائله وبلوغ الغلام صيرورته بحال لو جامع أنزل.
قال في "القاموس" : الحلم بالضم والاحتلام الجماع في النوم والاسم الحلم كعنق انتهى.
وفي "المفردات" : ليس الحلم في الحقيقة هو العقل لكن فسروه بذلك لكونه من مسببات العقل وتسمى البلوغ بالحلم لكونه جديراً صاحبه بالحلم.
{مِنكُمُ} أي : من الأحرار {ثَلَـاثَ مَراَّتٍ} ظرف زمان ليستأذن أي ليستأذنوا في ثلاثة أوقات في اليوم والليلة لأنها ساعات غرة وغفلة ثم فسر تلك الأوقات بقوله : {مِّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ} لظهور أنه وقت القيام عن المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة ومحله النصب على أنه بدل من ثلاث مرات.
{وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم} أي ثيابكم التي تلبسونها في النهار وتخلعونها لأجل القيلولة وهي النوم نصف النهار {مِّنَ الظَّهِيرَةِ} بيان للحين وهي شدة الحر عند انتصاف النهار.
جزء : 6 رقم الصفحة : 174
قال في "القاموس" : الظهيرة حد انتصاف النهار وإنما ذلك في القيظ والتصريح بمدار الأمر اعنى وضع الثياب في هذا الحين دون الأول والآخر لما أن التجرد عن الثياب فيه لأجل القيلولة لقلة زمانها ووقوعها في النهار الذي هو مظنة لكثرة الورود والصدور ليس من التحقق والاطراد بمنزلة ما في الوقتين فإن تحقق التجرد واطراده فيهما أمر معروف لا يحتاج إلى التصريح به.
{وَمِنا بَعْدِ صَلَواةِ الْعِشَآءِ} الآخرة ضرورة أنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف وهو كل ثوب تغطيت به {ثَلَـاثُ عَوْرَاتٍ} خبر مبتدأ محذوف أي هن ثلاثة أوقات كائنة {لَكُمْ} يختل فيها التستر عادة والعورة الخلل الذي يرى منه ما يراد ستره وسميت الأوقات المذكورة عورات مع أنها ليست نفس العورات بل هذه أوقات العورات على طريق تسمية الشيء باسم ما يقع فيه مبالغة في كونه محلاً له.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ} أي : على المماليك والصبيان {جُنَاحٌ}
175
إثم في الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر والإطلاع على العورات {بَعْدَهُنَّ} أي : بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وهي الأوقات المتخللة بين كل وقتين منهن فالاستئذان لهؤلاء مشروع فيها لا بعدها ولغيرهم في جميع الأوقات.
{طَواَّفُونَ} أي : هم يعني المماليك والأطفال طوافون.
{عَلَيْكُمْ} للخدمة طوافاً كثيراً والطواف الدوران حول الشيء ومنه الطائف لمن يدور حول البيت حافاً ومنه استعير الطائف من الجن والخيال والحادثة وغيرها.
{بَعْضِكُم} طائف {عَلَى بَعْضٍ} أي : هم يطوفون عليكم للخدمة وأنتم تطوفون للاستخدام ولو كلفهم الاستئذان في كل طوفة أي في هذه الأوقات الثلاثة وغيرها لضاق الأمر عليهم فلذا رخص لكم في ترك الاستئذان فيما وراء هذه الأوقات.
{كَذَالِكَ} إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده والكاف مقحمة أي مثل ذلك التبيين.
{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ} الدالة على الأحكام أي ينزلها مبينة واضحة الدلالات عليها لا أنه تعالى بينها بعد أن لم تكن كذلك {وَاللَّهُ عَلِيمُ} مبالغ في العلم بجميع المعلومات فيعلم أحوالكم.
{حَكِيمٌ} في جميع أفاعيله فيشرع لكم ما فيه صلاح أمركم معاشاً ومعاداً روي : عن عكرمة أن رجلين من أهل العراق سألا ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية فقال : إن الله ستير يحب الستر وكان الناس لم يكن لهم ستور على أبوابهم ولا حجال في بيوتهم فربما فاجأ الرجل ولده أو خادمه أو يتيم في حجره ويرى منه ما لا يحبه فأمرهم الله تعالى أن يستأذنوا الثلاث ساعات التي سماها ثم جاء باليسر وبسط الرزق عليهم فاتخذوا الستور والحجال فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم عن الاستئذان الذي أمروا به.
(6/127)
جزء : 6 رقم الصفحة : 174
ففيه دليل على أن الحكم إذا ثبت لمعنى فإذا زال الحكم فالتبسط في اللباس والمعاش والسكنى ونحوها مرخص فيه إذا لم يؤد إلى كبر واغترار.
قال عمر رضي الله عنه : إذا وسع الله عليكم فوسعوا على أنفسكم.
ويقال : اليسار مفسدة للنساء لاستيلاء شهوتهن على عقولهن ، وفي الحديث : "أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" يعني إذا آتى الله عبده نعمة من نعم الدنيا فليظهرها من نفسه وليلبس لباساً نظيفاً يليق بحاله ولتكن نيته في لبسه إظهار نعمة الله عليه ليقصده المحتاجون لطلب الزكاة والصدقات وليس لبس الخلق مع اليسار من التواضع.
وفي الآية رخصة اتخاذ العبيد والإماء للخدمة لمن قام بحقهم وبيان أن حق الموالي عليهم الخدمة ، وفي الحديث : "حسنة الحر بعشر وحسنة المملوك بعشرين" يضاعف له الحسنة وهذا لمن أحسن عبادة الله ونصح لسيده أي أراد له خيراً وأقام بمصالحه على وجه الخلوص كذا في "شرح المشارق".
قال في "نصاب الاحتساب" : وينبغي أن يتخذ الرجل جارية لخدمة داخل البيت دون العبد البالغ لأن خوف الفتنة في العبد أكثر من الأحرار الأجانب لأن الملك يقلل الحشمة والمحرمية منتفية والشهوة داعية فلا يأمن الفتنة.
وقيل : من اتخذ عبداً لخدمة داخل البيت فهو كسحان بالسين المهملة أي أعرج أو مقعد.
وابتاع بعض المشايخ غلاماً فقيل : بورك لك فيه فقال : البركة مع من قدر على خدمة نفسه واستغنى عن استخدام غيره فخفت مؤونته وهانت تكاليفه وكفى سياسة العبد والمرء في بيته بمنزلة القلب وقلما تنتفع خدمة الجوارح
176
إلا بخدمة القلب.
ودلت الآية على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح فإنه تعالى أمرهم بالاستئذان في الأوقات المذكورة ، وفي الحديث : "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واصربوهم على تركها وهم أبناء عشر" وإنما يؤمر بذلك ليعتاده ويسهل عليه بعد البلوع ولذا كره إلباسه ذهباً أو حريراً لئلا يعتاده والإثم على الملبس كما في "القهستاني" : قال الشيخ سعدى قدس سره :
بخردى درش زجر وتعليم كن
به نيك وبدش وعده وبيم كن
قال ابن مسعود رضي الله عنه إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له حسناته ولم تكتب سيئاته حتى يحتلم.
قال في "الأشباه" : وتصح عبادة الصبي وإن لم تجب عليه واختلفوا في ثوابها والمعتمد أنه له وللمعلم ثواب التعليم وكذا جميع حسناته وليس كالبالغ في النظر إلى الأجنبية والخلوة بها فيجوز له الدخول على النساء إلى خمس عشرة سنة كما في "الملتقط".
وفي الشيخ سعدى :
جزء : 6 رقم الصفحة : 174
سر ون زده بر كذشته سنين
زنا محرمان كوفراتر نشين
بر نبه آتش نشايد فروخت
كه تا شم برهن زنى خانه سوخت
جزء : 6 رقم الصفحة : 174
{وَإِذَا بَلَغَ الاطْفَـالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ} أي : الأطفال الأحرار الأجانب فيخرج العبد البالغ فإنه لا يستأذن في الدخول على سيدته في غير الأوقات الثلاثة المذكورة كما قال في "التتمة" يدخل العبد على سيدته بلا إذنها بالإجماع.
{فَلْيَسْتَـاْذِنُوا} أي : إن أرادوا الدخول عليكم.
{كَمَا اسْتَـاْذَنَ الَّذِينَ} بلغوا الحلم.
{مِن قَبْلِهِمْ} أو ذكروا من قبلهم كما قال تعالى فيما تقدم : {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الآية فالمعنى فليستأذنوا استئذاناً كائناً مثل استئذان المذكورين قبلهم بأن يستأذنوا في جميع الأوقات ويرجعوا إن قيل لهم : ارجعوا.
{كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَـاتِهِ ا وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كرره للتأكيد والمبالغة في الأمر بالاستئذان.
اعلم أن بلوغ الصغير بالإحبال والإنزال والاحتلام وبلوغ الصغيرة بهما وبالحبل والحيض فإن لم يوجد فيهما شيء من الأصل وهو الإنزال والعلامة وهو الباقي فيبلغان حين يتم لهما خمس عشرة سنة كما هو المشهور وبه يفتى لقصر أعمار أهل زماننا.
قال بعض الصحابة : كان الرجل فيمن قبلكم لا يحتلم حتى يأتي عليه ثمانون سنة.
قال وهب : إن أصغر من مات من ولد ابن آدم ولد مائتي سنة وأدنى مدة البلوغ للغلام اثنتا عشرة سنة ولذا تطرح هذه المدة من سن الميت الذكر ثم يحسب ما بقي من عمره فتعطى فدية صلاته على ذلك وأدنى مدته للجارية تسع سنين على المختار ولذا تطرح هذه المدة من الميت الانثى فلا تحتاج إلى إسقاط صلاتها بالفدية ثم هذا بلوغ الظاهر وأما بلوغ الباطن فبالوصول إلى سر الحقيقة وكماليته في أربعين من أول كشف الحجاب وربما يحصل للبعض علامة ذلك في صباه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 177
قال أيوب عليه السلام : إن الله يزرع الحكمة في قلب الصغير والكبير فإذا جعل الله العبد حكيماً في الصبي لم تضع منزلته عند الحكماء حداثة سنه وهم يرون عليه من الله نور كرامته.
(6/128)
ودخل الحسين بن فضل على بعض الخلفاء وعنده كثير من أهل العلم فأحب أن يتكلم فمنعه فقال أصبي يتكلم في هذا المقام؟ فقال : إن كنت صبياً فلست بأصغر من هدهد سليمان ولا أنت أكبر من سليمان حين قال {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} (النمل : 22) (حكما كفته اند توانكرى بهنرست نه بمال
177
وبزركى بعقلست نه بسال) فالاعتبار لفضل النفس لا للصغر والكبر وغيرهما.
قال هشام بن عبد الملك لزيد بن علي : بلغني أنك تطلب الخلافة ولست لها بأهل قال : لم؟ قال : لأنك ابن أمة فقال : فقد كان إسماعيل ابن أمة وإسحاق ابن حرة وقد اخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.
قال المولى الجامي قدس سره :
ه غم زمنقصت صورت أهل معنى را
وجان زروم بود كوتن از حبش مى باش
قال السعدي قدس سره.
و كنعانرا طبيعت بي هنر بود
يمبر زاد كى قدرش نيغزود
هنر بنماى أكر دارى نه كوهر
كل ازخارست وإبراهيم از آزر
{وَالْقَوَاعِدُ} مبتدأ جمع قاعد بلا هاء لاختصاصها بالمرأة وإذا أردت القعود بمعنى الجلوس قلت : قاعدة كحامل من حمل البطن وحاملة من حمل الظهر.
قال في "القاموس" : القاعد التي قعدت عن الولد وعن الحيض وعن الزوج.
{مِنَ النِّسَآءِ} حال من المستكن في القواعد أي العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل.
وبالفارسية (ونشستكان درخانها وباز ما ندكان).
{الَّـاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} صفة للقواعد لا للنساء ، أي لا يطمعن في النكاح لكبرهن فاعتبر فيهن القعود عن الحيض والحمل والكبر أيضاً لأنه ربما ينقطع الحيض والرغبة فيهن باقية.
وبالفارسية : (آنانكه اميد ندارند نكاح خودرا يعني طمع نمى كنندكه كسى ايشانرا نكاح كند بجهت يرى وعجز) {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ} الجملة خبر مبتدأ أي إثم ووبال في.
{أَن يَضَعْنَ} عند الرجال {ثِيَابَهُنَّ} أي الثياب الظاهرة كالجلباب والإزار فوق الثياب والقناع فوق الخمار {غَيْرَ مُتَبَرِّجَـاتا بِزِينَةٍ} حال من فاعل يضعن.
وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى خص بكشف عورة زينتها ومحاسنها للرجال.
والمعنى حال كونهن غير مظهرات لزينة خفية كالسوار والخلخال والقلادة لكن لطلب التخفيف جاز الوضع لهن {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ} بترك الوضع أي يطلبن العفة وهي حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة وهو مبتدأ خبره قوله : {خَيْرٌ لَّهُنَّ} من الوضع لبعده من التهمة.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ} مبالغ في جميع ما يسمع فيسمع ما يجرى بينهن وبين الرجال من المقاولة.
{عَلِيمٌ} فيعلم مقاصدهن وفيه من الترهيب ما لا يخفى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 177
اعلم أن العجوز إذا كانت بحيث لا تشتهى جاز النظر إليها لأمن الشهوة.
وفيه إشارة إلى أن الأمور إذا خرجت عن معرض الفتنة وسكنت نائرة الآفات سهل الأمر وارتفعت الصعوبة وأبيحت الرخص ولكن التقوى فوق أمر الفتوى كما أشار إليه قوله تعالى : {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} وفي الحديث : "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس".
قال ابن سيرين ما غشيت امرأة قط لا في يقظة ولا في نوم غير أم عبد الله وأني لأرى المرأة في المنام فأعلم أنها لا تحل لي فأصرف بصري.
قال بعضهم : ليت عقلي في اليقظة كعقل ابن سيرين في المنام.
وفي "الفتوحات المكية" : يجب على الورع أن يجتنب في خياله كما يجتنب في ظاهره لأن الخيال تابع للحس ولهذا كان المريد إذا وقع له احتلام فلشيخه معاقبته على ذلك لأن الاحتلام برؤيا في النوم أو بالتصور في اليقظة لا يكون إلا من بقية الشهوة في خياله فإذا احتلم صاحب كمال فإنما
178
ذلك لضعف أعضائه الباطنة لمرض طرأ في مزاجه لا عن احتلام لا في حلال ولا في حرام انتهى.
ثم إن العجوز في حكم الرجل في ترك الحجاب لا في مرتبته كما قال حكيم : إن خير نصفي الرجل آخره يذهب جهله ويتقرب حلمه ويجتمع رأيه وشر نصفي المرأة آخرها يسوء خلقها ويحد لسانها ويعقم رحمها.
(6/129)
وعدم رجاء النكاح إنما هو من طرف الرجل لا من طرف العجوز غالباً فإنه حكى أن عجوزاً مرضت فأتى ابنها بطبيب فرآها متزينة بأثواب مصبوغة فعرف حالها فقال ما أحوجها إلى الزوج فقال الابن : ما للعجائز والأزواج فقالت : ويحك أنت أعلم من الطبيب وحكي : لما مات زوج رابعة العدوية استأذن عليها الحسن البصري وأصحابه فأذنت لهم بالدخول عليها وأرخت ستراً وجلست وراء الستر فقال لها الحسن وأصحابه : إنه قد مات بعلك ولا بد لك منه قالت نعم وكرامة لكن من أعلمكم حتى أزوجه نفسي؟ فقالوا : الحسن البصري فقالت : إن أجبتني في أربع مسائل فأنا لك فقال : سلي إن وفقني الله أجبتك قالت : ما تقول لو مت أنا وخرجت من الدنيا مت على الإيمان أم لا؟ قال : هذا غيب لا يعلمه إلا الله ثم قالت : ما تقول لو وضعت في القبر وسألني منكر ونكير أأقدر على جوابهما أم لا؟ قال : هذا غيب أيضاً قالت : إذا حشر الناس يوم القيامة وتطايرت الكتب أأعطى كتابي بيميني أم بشمالي؟ قال : هذا غيب أيضاً ثم قالت : إذا نودي في الخلق فريق في الجنة وفريق في السعير كنت أنا من أي الفريقين؟ قال : هذا غيب أيضاً قالت : من كان له علم هذه الأربعة كيف يشتغل بالتزوج ثم قالت : يا حسن أخبرني كم خلق الله العقل؟ قال : عشرة أجزاء تسعة للرجال وواحد للنساء ثم قالت : يا حسن كم خلق الله الشهوة؟ قال : عشرة أجزاء تسعة للنساء وواحد للرجال قالت يا حسن أنا أقدر على حفظ تسعة أجزاء من الشهوة بجزء من العقل وأنت لا تقدر على حفظ جزء من الشهوة بتسعة أجزاء من العقل فبكى الحسن وخرج من عندها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 177
وعن سليمان عليه السلام : الغالب على شهواته أشد من الذي يفتح المدينة وحده : قال الشيخ سعدي قدس سره :
مبر طاعت نفس شهوت رست
كه هر ساعتش قبلة ديكرست
جزء : 6 رقم الصفحة : 177
{لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى} مفتقد البصر.
وبالفارسية (نا بينا) {حَرَجٌ} إثم ووبال {وَلا عَلَى الاعْرَجِ حَرَجٌ} العروج ذهاب في صعود وعرج مشى مشي العارج أي الذاهب في صعود فعرج كدخل إذا أصابه شيء في رجله فمشى مشية العرجان وعرج كطرب إذا صار ذلك خلقة له والأعرج بالفارسية (لنك) {وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} المريض بالفارسية (بيمار) والمرض الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان كانت هذه الطوائف يتحرجون من مواكلة الأصحاء حذراً من استقذارهم إياهم وخوفاً من تأذيهم بأفعالهم وأوضاعهم فإن الأعمى ربما سبقت إليه عين مواكله ولا يشعر به والأعرج يتفسح في مجلسه فيأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه والمريض لا يخلو عن حالة تؤذي قرينه أي برائحة كريهة أو جرح يبدو أو أنف يسيل أو نحو ذلك فقال تعالى لا بأس لهم بأن يأكلوا مع الناس ولا مأثم عليهم.
{وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ} أي : عليكم وعلى من يماثلكم في الأحوال من المؤمنين حرج.
{أَن تَأْكُلُوا} الأكل تناول المطعم ، أي أن تأكلوا أنتم ومن معكم {مِنا بُيُوتِكُمْ} أصل البيت مأوى الإنسان بالليل ثم
179
قد يقال من غير اعتبار الليل فيه لكن البيوت بالمسكن أخص والأبيات بالشعر وليس المعنى أن تأكلوا من البيوت التي تسكنون فيها بأنفسهم وفيها طعامكم وسائر أموالكم لأن الناس لا يتحرجون من أكل طعامهم في بيوت أنفسهم ، فينبغي أن يكون المعنى من بيوت الذين كانوا في حكم أنفسكم لشدة الاتصال بينهم وبينكم كالأزواج والأولاد والمماليك ونحوهم فإن بيت المرأة كبيت الزوج وكذا بيت الأولاد فلذلك يضيف الزوج بيت زوجته إلى نفسه وكذا الأب يضيف بيت ولده إلى نفسه ، وفي الحديث : "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" وفي حديث آخر : "أنت ومالك لأبيك" فإذا كان هذا حال الأب مع الولد فقس عليه حال المملوك مع المولى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 179
(6/130)
{أَوْ بُيُوتِ ءَابَآاـاِكُمْ} الأب الوالد أي حيوان يتولد من نطفته حيوان آخر.
{أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَـاتِكُمْ} جمع أم زيدت الهاء فيه كما زيدت في إهراق من أراق والأم بإزاء الأب أي الوالدة.
{أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} الأخ المشارك لآخر في الولادة من الطرفين أو من أحدهما ، أو من الرضاع ويستعار في كل مشارك لغيره في القبيلة أو في الدين أو في صنعة ، أو في معاملة أو في مودة أو في غير ذلك من المناسبات.
{أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ} الأخت تأنيث الأخ وجعل التاء فيها كالعوض عن المحذوف منه.
{أَوْ بُيُوتِ أَعْمَـامِكُمْ} العم أخ الأب والعمة أخته وأصل ذلك من العموم وهو الشمول ومنه العامة لكثرتهم وعمومهم في البلد والعمامة لشمولها.
{أَوْ بُيُوتِ عَمَّـاتِكُمْ} (خواهران دران خود) {أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ} الحال أخ الأم والخالة أختها : وبالفارسية (برادران ما دران خود).
{أَوْ بُيُوتِ خَـالَـاتِكُمْ} (خوهران مادران خود) {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ} جمع مفتح والمفاتيح جمع مفتاح كلاهما آلة الفتح والفتح إزالة الإغلاق والأشكال.
والمعنى : {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ} أي : أو من البيوت التي تملكون التصرف فيها بإذن أربابها كما إذا خرج الصحيح إلى الغزو وخلف الضعيف في بيته ودفع إليه مفتاحه وأذن له أن يأكل مما فيه من غير مخافة أن يكون أذنهن لا عن طيب نفس منه.
وقال بعضهم : هو ما يكون تحت أيديهم وتصرفهم من ضيعة أو ماشية وكالة أو حفظاً فملك المفاتح حينئذ كناية عن كون المال في يد الرجل وحفظه.
فالمعنى ليس عليكم جناح أن تأكلوا من أموال لكم يد عليها لكن لا من أعيانها بل من أتباعها وغلاتها كثمر البستان ولبن الماشية.
{أَوْ صَدِيقِكُمْ} الصداقة صدق الاعتقاد في المودة وذلك مختص بالإنسان دون غيره فالصديق هو من صدقك في مودته.
وبالفارسية (دوست حقيقي).
قال أبو عثمان رحمه الله الصديق من لا يخالف باطنه باطنك كما لا يخالف ظاهره ظاهرك إذ ذاك يكون الانبساط إليه مباحاً في كل شيء من أمور الدين والدنيا.
ونعم ما قيل : صديقك من صدقك لا من صدّقك.
والمعنى أو بيوت صديقك وإن لم يكن بينكم وبينهم قرابة نسبية فإنهم أرضى بالتبسط وأسر به من كثير من الأقرباء روي : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الصديق أكبر من الوالدين وروي : أن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات وإنما قالوا : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 179
وعن الحسن أنه دخل يوماً بيته فرأى جماعة من أصدقائه قد أخذوا طعاماً من تحت سريره وهم يأكلون فتهلل وجهه سروراً وقال هكذا وجدناهم يعني من لقي من
180
البدريين.
قال الكاشفي : (فتح موصلي رحمه الله در خانة دوستي آمد واو حاضر نبودكيسة أورا زجاريه طلبيد زو درم برداشت وباقي بكنيزك بازداد وون خواجه بخانه رسيد وصورت واقعة زجاريه بشنيد شكرانة آن انبساط كنيزك را آزاد كرد وبنوا خت : درنكارستان آورده)
شبى كفتم نهان فر سودة را
كه بود آسوده در كنج رباطى
زلذ تهاه خوشتر در جهان كفت
ميان دوستداران انبساطى
(ودر عوارف المعارف فرموده كه ون كسى يا رخودرا كويد "اعطني من مالك" ودر جواب كويد كمترست دوستي را نمى شايد يعني بايدكه هره درميان دارد ميدهد واز استفسار ند وون بكذردكه دوست جاني بهترست از مال فأني ودرين باب كفته اند أي دوست برو بهره دارى يارى بخر بهي مفروش) : ولله در من قال :
يا ران بجان مضايقه باهم نميكنند
آخر كسى بحال جدايى راكند
بسيار جد وجهد ببايدكه تاكسى
خودرا بآدمى صفتي آشنا كند
قال المفسرون هذا كله إذا علم رضى صاحب البيت بصريح الإذن أو بقرينة دالة كالقرابة والصداقة ونحو ذلك ولذلك خص هؤلاء بالذكر لاعتيادهم التبسط فيما بينهم يعني ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا ويعلموا من غير أن تتزودوا وتحملوا.
قال الإمام الواحدي في "الوسيط" : وهذه الرخصة في أكل مال القرابات وهم لا يعلمون ذلك كرخصته لمن دخل حائطاً وهو جائع أن يصيب من ثمره أو مرّ في سفر بغنم وهو عطشان أن يشرب من رسلها توسعة منه تعالى ولطفاً بعباده ورغبة بهم عن دناءة الأخلاق وضيق النظر.
(6/131)
واحتج أبو حنيفة بهذه الآية على من سرق من ذي محرم لا تقطع يده أي إذا كان ماله غير محرز كما في "فتح الرحمن" : لأنه تعالى أباح لهم الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم فلا يكون ماله محرزا منهم أي إذا لم يكن مقفلاً ومخزوناً ومحفوظاً بوجه من الوجوه المعتادة ولا يلزم منه أن لا تقطع يده إذا سرق من صديقه لأن من أراد سرقة المال من صديقه لا يكون صديقاً له بل خائناً عدواً له في ماله بل في نفسه فإن من تجاسر على السرقة تجاسر على الإهلاك فرب سرقة مؤدية إلى ما فوقها من الذنوب فعلى العاقل أن لا يغفل عن الله وينظر إلى أحوال الأصحاب رضي الله عنهم كيف كانوا إخواناً في الله فوصلوا بسبب ذلك إلى ما وصلوا من الدرجات والقربات وامتازوا بالصدق الأتم والإخلاص الأكمل والنصح الأشمل عمن عداهم فرحمهم الله تعالى ورضي عنهم وألحقنا بهم في نياتهم وأعمالهم.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} في {أَن تَأْكُلُوا} حال كونكم {جَمِيعًا} أي : مجتمعين {أَوْ أَشْتَاتًا} جمع شت بمعنى متفرق على أنه صفة كالحق أو بمعنى تفرق على أنه مصدر وصف به مبالغة.
وأما شتى فجمع شتيت كمرضى ومريض.
جزء : 6 رقم الصفحة : 179
نزلت في بني ليث بن عمرو وهم حي من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكلوا طعامهم منفردين وكان الرجل منهم لا يأكل ويمكث يومه حتى يجد ضيفاً يأكل معه فإن لم يجد من يواكله لم يأكل شيئاً وربما قعد الرجل والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح وربما كان معه الإبل الحفل
181
أي المملوءة الضرع لبناً فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فإذا أمسى ولم يجد أحداً أكل فرخص في هذه الآية الأكل وحده لأن الإنسان لا يمكنه أن يطلب في كل مرة أحداً يأكل معه وأما إذا وجد أحداً فلم يشاركه فيما أكله فقد جاء الوعيد في حقه كما قال عليه السلام : "من أكل وذو عينين ينظر إليه ولم يواسه ابتلى بداء لا دواء له".
قال الإمام النسفي رحمه الله : دل قوله تعالى : {جَمِيعًا} على جواز التناهد في الأسفار وهو إخراج كل واحد من الرفقة نفقة على قدر نفقة صاحبه أي على السوية.
وقال بعضهم في خلط المال ثم أكل الكل منه الأولى أن يستحل كل منهم غذاء كل أو يتبرعون لأمين ثم يتبرع لهم الأمين.
{فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا} أي : من البيوت المذكورة بقرينة المقام ، أي للأكل وغيره وهذا شروع في بيان أدب الدخول بعد الترخيص فيه.
{فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} أي : فابدؤوا بالتسليم على أهلها الذين بمنزلة أنفسكم لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية والنسبية الموجبة لذلك {تَحِيَّةً} ثابتة {مِّنْ عِندِ اللَّهِ} أي : بأمره مشروعة من لدنه ويجوز أن يكون صلة للتحية فإنها طلب الحياة التي من عنده تعالى.
والتسليم طلب السلامة من الله للمسلم عليه وانتصابها على المصدرية لأنها بمعنى التسليم أي فسلموا تسليماً.
{مُّبَـارَكَةٍ} مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامها {طَيِّبَةً} تطيب بها نفس المستمع {كَذَالِكَ} إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده أي : مثل ذلك التبيين.
{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ} الدالة على الأحكام أي ينزلها مبينة واضحة الدلالات عليها.
{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تفقهوا ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام والآداب وتعلمون بموجبها وتفوزون بذلك بسعادة الدارين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 179
وعن أنس رضي الله عنه قال : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشر سنين فما قال لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء كسرته لم كسرته وكنت قائماً أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال : "ألا اعلمك ثلاث خصال تنتفع بها؟ فقلت : بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال : متى لقيت أحداً من أمتي فسلم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خيرك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين".
يقول الفقير : لاحظ عليه السلام في التسليم الخارجي المعنى اللغوي للتحية فرتب عليه طول العمر لأنه ربما يستجيب الله تعالى دعاء المسلم عليه فيطول عمر المسلم بمعنى وجدان البركة فيه ولاحظ في التسليم الداخلي معنى البركة فرتب عليه كثرة الخير لأنها المطلوبة غالباً بالنسبة إلى البيت ولما كان الوقت وقت الوضوء لصلاة الضحى والله أعلم ألحقها بالتسليم وأوردها بعد الداخلي منه إشارة إلى أن الأفضل إخفاء النوافل بأدائها في البيت ونحوه.
(6/132)
قالوا : إن لم يكن في البيت أحد يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقد روي أن الملائكة ترد عليه وكذا حال المسجد ، وفي الحديث : "إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلها وإذا طعم أحدكم طعاماً فليذكر اسم الله عليه فإن الشيطان إذا سلم أحدكم لم يدخل بيته معه ، وإذا ذكر الله على طعامه قال لا مبيت لكم ولا عشاء وإن لم يسلم حين يدخل بيته ولم يذكر اسم الله على طعامه قال أدركتم العشاء والمبيت" والتسليم على الصبيان العقلاء أفضل من تركه كما في "البستان".
ولا يسلم على جماعة النساء الشواب كيلا يحصل بينهما معرفة وانبساط فيحدث من تلك المعرفة فتنة.
ولا يبتدىء اليهود والنصارى بالسلام فإنه حرام لأنه
182
إعزاز الكافر وذا لا يجوز.
وكذا السلام على أهل البدعة ولو سلم على من لا يعرفه فظهر ذمياً أو مبتدعاً يقول استرجعت سلامي تحقيراً له ولو احتاج إلى سلام أهل الكتاب يقول السلام على من اتبع الهدى ولو رد يقول وعليكم فقط وقد مر ما يتعلق بالسلام مشبعاً في الجلد الأول عند قوله تعالى في سورة النساء : {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ} الآية فارجع.
قال في "حقائق البقلي" قدس سره : إذا دخلتم بيوت أؤلياء الله بالحرمة والاعتقاد الصحيح فأنتم من أهل كرامة الله فسلموا على أنفسكم بتحية الله فإنها محل كرامة الله في تلك الساعة.
يقول الفقير : وكذا الحال في دخول المزارات والمشاهد المتبركة وإن كان العامة لا يعرفون ذلك ولا يعتقدون.
قال الكمال الخجندي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 179
صوفيم ومعتقد صوفيان
كيست و من صوفىء نيك اعتقاد
قال الحافظ :
برسر تربت ما ون كذرى همت خواه
كه زيارتكه رندان جهان خواهند بود
وقال الجامي :
نسيم الصبح زرعني ربي نجد وقبلها
كه بوى دوست مى آيدازان ا كيزه منزلها
اللهم اجعلنا من الذين يجدون النفس الرحماني من قبل اليمن في كل حين وزمن.
جزء : 6 رقم الصفحة : 179
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} نزلت حين جمع النبي عليه السلام المسلمين يوم الجمعة ليستشيرهم في أمر الغزو وكان يثقل المقام عنده على البعض فيخرج بغير إذنه أو في حفر الخندق ، وكان المنافقون ينصرفون بغير أمر رسول الله وكان الحفر من أهم الأمور حتى حفر رسول الله بنفسه وشغل عن أربع صلوات حتى دخلت في حد القضاء فقال تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} أي : الكاملون في الإيمان وهو مبتدأ خبره قوله : {الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} عن صميم قلوبهم وأطاعوهما في جميع الأحكام في السر والعلانية.
{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ} مع النبي عليه السلام {عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} إلى آخره معطوف على آمنوا داخل معه في حيز الصلة أي على أمر مهم يجب اجتماعهم في شأنه كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورة في الأمور وصلاة الاستسقاء وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع ووصف الأمر بالجمع للمبالغة في كونه سبباً لاجتماع الناس فإن الأمر لكونه مهماً عظيم الشأن صار كأنه قد جمع الناس فهو من قبيل إسناد الفعل إلى السبب.
{لَّمْ يَذْهَبُوا} من المجمع ولم يفترقوا عنه عليه السلام {حَتَّى يَسْتَـاْذِنُوهُ} عليه السلام في الذهاب فيأذن لهم واعتبر في كمال الإيمان عدم الذهاب قبل الاستئذان لأنه المميز للمخلص من المنافق ثم قال لمزيد التأكيد.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ} يطلبون الإذن منك {أولئك الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} لا غير المستأذنين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 183
قال الكاشفي : (تعريض جمع منافقا نست كه در غزوة تبوك بتخلف از جهاد دستورى جستند ودر بارة ايشان نازل شدكه).
{إِنَّمَا يَسْتَـاْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية (التوبة : 45) أي فبعض المستأذنين وكل غير المستأذنين دخلوا في الترهيب وذلك بحسب الأغراض الفاسدة ولأنه فرق بين الاستئذان في التخلف وبين الاستئذان في الانصراف ألا ترى إلى عمر رضي الله عنه استأذنه عليه السلام في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله فأذن له فقال : "انطلق فوالله ما أنت بمنافق" هكذا لاح بالبال.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} أي : وبعد ما تحقق أن الكاملين في الإيمان هم
183
المستأذنون فإذا استاذنوك في الانصراف {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} الشأن الحال والأمر ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور كما في "المفردات" لبعض أمرهم المهم أو خطبهم الملم لم يقل لشؤونهم بل قيد بالبعض تغليظاً عليهم في أمر الذهاب عن مجلس رسول الله مع العذر المبسوط ومساس الحاجة {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} لما علمت في ذلك من حكمة ومصلحة فلا اعتراض عليك في ذلك {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} بعد الإذن فإن الاستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تفضيل أمر الدنيا على الآخرة.
(6/133)
ففيه إشارة إلى أن الأفضل أن لا يحدث المرء نفسه بالذهاب فضلاً عن الذهاب.
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} مبالغ في مغفرة فرطات العباد {رَّحِيمٌ} مبالغ في إفاضة أثر الرحمة عليهم.
وفي الآية بيان حفظ الأدب بأن الإمام إذا جمع الناس لتدبير أمر من أمور المسلمين ينبغي أن لا يرجعوا إلا بإذنه ولا يخالفوا أمير السرية ويرجعوا بالإذن إذا خرجوا للغزو ونحوه وللإمام أن يأذن وله أن لا يأذن إلا على ما يرى فمن تفرق بغير إذن صار من أهل الهوى والبدع وكان عليه السلام إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد رجل الخروج وقف حيث يراه فيأذن له إن شاء ولذا قال عظماء الطريقة قدس الله أسرارهم : إن المريد إذا أراد أن يخرج لحاجة ضرورية ولم يجد الشيخ مكانه فإنه يحضر الباب ويتوجه بقلبه فيستأذن من روحانية الشيخ حتى لا يستقل في خروجه بل يقع ذلك من طريق المتابعة فإن للمتابعة تأثيراً عظيماً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 183
قال في "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى أن المريد الصادق من يكون مستسلماً لتصرفات شيخه وأن لا يتنفس إلا بإذن شيخه ومن خالف شيخه في نفسه سراً أو جهراً لا يشم رائحة الصدق وسيره غير سريع وإن بدر منه شيء من ذلك فعليه بسرعة الاعتذار والإفصاح عما حصل منه من المخالفة والخيانة ليهديه شيخه إلى ما فيه كفارة جرمه ويلتزم في الغرامة بما يحكم به عليه وإذا رجع المريد إلى الله وإلى شيخه بالصدق وجب على شيخه جبران تقصيره بهمته فإن المريدين عيال على الشيوخ فرض عليهم أن ينفقوا عليهم من قوت أموالهم بما يكون جبراناً لتقصيرهم انتهى.
فعلى المريدين أن يوافقوا مشايخهم في جميع الأحوال وأن لا يستبدوا بآرائهم في أمور الشريعة والطريقة وأن لا يخالفوهم بالاستبعاد بالخروج من عندهم إلى السفر والحضر والمجاهدة والرياضة.
قال عبد الله الرازي : قال قوم من أصحاب أبي عثمان لأبي عثمان قدس سره : أوصنا قال : عليكم بالاجتماع على الدين وإياكم ومخالفة الأكابر والدخول في شيء من الطاعات إلا بإذنهم ومشورتهم وواسوا المحتاجين بما أمكنكم فأرجو أن لا يضيع الله لكم سعياً انتهى فمن وقع منه تقصير فلا يقنط فإن الله تعالى قبولاً ثم قبولاً.
قال المولى الجامي :
بلى نبود درين ره نا اميدى
سياهى را بود رو در سفيدى
ز صد در كر اميدت بر نيايد
بنو ميدى جكر خوردن نشايد
در ديكر ببايد زد كه ناكاه
ازان در سوى مقصود آورى راه
والله تعالى يقبل التوبة والاستغفار.
واعلم أن هذه الأبيات تشير إلى أبواب الشفاعة وكثرتها وإلا فمن رده باب من الأبواب الحقة فلا تقبله سائر الأبواب ألا ترى أن من رده الله تعالى
184
لا يقبله النبي عليه السلام ، ومن رده النبي عليه السلام لا يقبله الخلفاء الأربعة ولا غيرهم من أمته ، فمن ترك الاستئذان من رسول الله لا يأذن له أحد ولو أذن لا يفيد وكذا حال من ترك الاستئذان من وارث رسول الله يعني أنه لا يفيد إذن غير الوارث وأما إذن وارث آخر فلا يتصور ؛ لأن الوارثين كالحلقة المفرغة فإذا لم ينطبع في مرآة واحد منهم صورة صلاح أحد لم ينطبع في مرآة الآخر نسأل الله القبول بحرمة الرسول.
{لا تَجْعَلُوا دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} المصدر مضاف إلى الفاعل أي لا تجعلوا دعوته وأمره إياكم في الاعتقاد والعمل بها.
{كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} أي : لا تقيسوا دعوته إياكم إلى شيء من الأمور على دعوة بعضكم بعضاً في جواز الأعراض والمساهلة في الإجابة والرجوع بغير إذن فإن المبادرة إلى إجابته واجبة والمراجعة بغير إذنه محرمة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 183
وقال بعضهم : المصدر مضاف إلى المفعول والمعنى لا تجعلوا نداءكم إياه وتسميتكم له كنداء بعضكم بعضاً باسمه مثل يا محمد ويا ابن عبد الله ورفع الصوت به والنداء وراء الحجرة ولكن بلقبه المعظم مثل يا نبي الله ويا رسول الله كما قال تعالى : يا اأَيُّهَا النَّبِىُّ} (الأنفال : 64) يا اأَيُّهَا الرَّسُولُ} (المائدة : 41) قال الكاشفي : (حضرت عزت همه انبيارا بنداى علامت خطاب كرده وحبيب خودرا بنداى كرامت).
يا آدمست با درانبيا خطاب
يا أيها النبي خطاب محمد است
قال أبو الليث في "تفسيره" : وفي الآية بيان توقير معلم الخير لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان معلم الخير فأمر الله بتوقيره وتعظيمه وفيه معرفة حق الأستاذ وفيه معرفة أهل الفضل.
قال في "حقائق البقلي" : احترام الرسول من احترام الله ومعرفته من معرفة الله والأدب في متابعته من الأدب مع الله.
(6/134)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى تعظيم المشايخ فإن الشيخ في قومه كالنبي في أمته أي عظموا حرمة الشيوخ في الخطاب واحفظوا في خدمتهم الأدب وعلقوا طاعتهم على مراعاة الهيبة والتوقير {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ} قد للتحقيق بطريق الاستعارة لاقتضاء الوعيد إياه كما أن رب يجيء للتكثير.
وفي "الكواشي" : قد هنا مؤذنة بقلة المتسللين لأنهم كانوا أقل من غيرهم.
والتسلل الخروج من البين على التدريج والخفية يقال : تسلل الرجل أي انسرق من الناس وفارقهم بحيث لا يعلمون والمعنى يعلم الله الذين يخرجون من الجماعة قليلاً قليلاً على خفية {لِوَاذًا} هو أن يستتر بشيء مخافة من يراه كما في "الوسيط".
قال في "القاموس" : اللوذ بالشيء الاستتار والاحتصان به كاللواذ مثلثة انتهى.
والمعنى ملاوذة بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج أو بأن يلوذ بمن يخرج بالإذن ، إراءة أنه من أتباعه وانتصابه على الحالية من ضمير يتسللون أي ملاوذين أو على أنه مصدر مؤكد بفعل مضمر هو الحالة في الحقيقة أي يلاوذون لواذاً وهو عام للتسلل من صف القتال ومن المسجد يوم الجمعة وغيرهما من المجامع الحقة.
وقال بعضهم : كان يثقل على المنافقين خطبة النبي يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحابه أو بعضهم ببعض فيخرجون من المسجد في استتار من غير استئذان فأوعدهم الله تعالى بهذه الآية {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} يخالفون أمره بترك مقتضاه ويذهبون سمتاً بخلاف سمته وعن لتضمينه معنى الإعراض والميل والضميرلأنه الآمر حقيقة
185
أو للرسول لأنه المقصود بالذكر.
{إِنْ} أي : من أن {تُصِيبَهُمْ} (برسدريشان) {فِتْنَةٌ} محنة في الدنيا في البدن أو في المال أو في الولد كالمرض والقتل والهلاك وتسلط السلطان.
جزء : 6 رقم الصفحة : 183
قال الكاشفي : (يا مهر غفلت بردل يا روى توبه.
جنيد قدس سره فرموده كه فتنه سختىء دلست ومتأثر ناشدن أو ازمعرفت إلهي) {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي : في الآخرة.
وفي "الجلالين" {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} بلية تظهر نفاقهم {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عاجل في الدنيا انتهى وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع وإعادة الفعل صريحاً للاعتناء بالتحذير وفي ترتيب العذابين على المخالفة دلالة على أن الأمر للوجوب.
وفي "التأويلات النجمية" : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي : عن أمر شيخهم {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} من موجبات الفترة بكثرة المال أو قبول الخلق أو التزويج بلا وقته أو السفر بلا أمر الشيخ أو مخالفة الأحداث والنسوان والافتتان بهم أو صحبة الأغنياء أو التردد على أبواب الملوك أو طلب المناصب أو كثرة العيال فإن الاشتغال بما سوى الله فتنة.
{أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بالانقطاع عن الله انتهى.
وفي "حقائق البقلي" : الفتنة ههنا والله أعلم فتنة صحبة الأضداد والمخالفين والمنكرين وذلك أن من صاحبهم يسوء ظنه بأولياء الله لأنهم أعداء الله وأعداء أوليائه يقعون كل وقت في الحق ويقبحون أحوالهم عند العامة لصرف وجوه الناس إليهم وهذه الفتنة أعظم الفتن.
قال أبو سعيد الحراز رحمه الله الفتنة هي إسباغ النعم مع الاستدراج من حيث لا يعلم العبد.
وقال رويم : الفتنة للعوام والبلاء للخواص.
وقال أبو بكر بن طاهر : الفتنة مأخوذ بها والبلاء معفو عنه ومثاب عليه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 183
{إِلا} (بدانيدو آكاه باشيد) {إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} من الموجودات بأسرها خلقاً وملكاً وتصريفاً إيجاداً وإعداماً بدأ وإعادة {قَدْ} كما قبله.
{يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} أيها المكلفون من الأحوال والأوضاع التي من جملتها الموافقة والمخالفة والإخلاص والنفاق.
{وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} عطف على ما أنتم عليه ويوم مفعول به لا ظرف أي يعلم تحقيقاً يوم يرد المنافقون المخالفون للأمر إليه تعالى للجزاء والعقاب فيرجعون من الرجع المتعدي لا من الرجوع اللازم والعلم بوقت وقوع الشيء مستلزم للعلم بوقوعه على أبلغ وجه {فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا} من الأعمال السيئة أي يظهر لهم على رؤوس الاشهاد ويعلمهم أي شيء شنيع عملوا في الدنيا ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء وعبر عن اظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم تنبيهاً على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه غافلين عن سوء عاقبته لغلبة أحكام الكثرة الخلقية الإمكانية وآثار الأمزجة الطبيعية الحيوانية في نشأتهم.
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وإن كان المنافقون يجتهدون في ستر أعمالهم عن العيون وأخفائها.
آنكس كه بيا فريد يدا ونهان
ون نشناسد نهان ويدابجهان
وفي "التأويلات النجمية" : {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} من نعيم الدنيا والآخرة فمن تعلق بشيء منه يبعده الله عن الحضرة ويؤاخذه بقدر تعلقه بغيره.
{وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} بسلاسل المتعلقات {فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا} عند مطالبتهم بمكافأة الخير خيراً ومجازاة الشر شراً
186
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} أي بكل شيء من مكافأة الخير ومجازاة الشر عليم بالنقير والقطمير مما عملوا من الصغير والكبير انتهى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 186
واعلم أن التعلق بكل من نعيم الدنيا ونعيم الآخرة حرام على أهل الله تعالى نعم إن أهل الله يحبون الآخرة بمعنى أن الآخرة في الحقيقة هو الآخر بالكسر وهو الله تعالى.
قال بعض أهل الحقيقة : ما ألهاك عن مولاك فهو دنياك.
فعلى العاقل أن يقطع حبل العلاقات ويتصل بسر تجرد الذات والصفات ويتفكر في أمره ويحاسب نفسه قبل أن يجيء يوم الجزاء والمكافآت فإن عقب هذه الحياة ممات وهذا البقاء ليس على الدوام والثبات وفي الحديث : "ما قال الناس لقوم طوبى لكم إلا وقد خبأ لهم الدهر يوم سوء" قال الشاعر :
إن الليالي لم تحسن إلى أحد
ألا اساءت إليه بعد إحسان
وقال آخر :
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
ولم تخف شر ما يأتي به القدر
وقال آخر :
لا صحة المرء في الدنيا تؤخره
ولا يقدم يوماً موته الوجع
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} من يوم الموت والرجوع اختياراً واضطراراً وغير ذلك من الأمور سراً وجهراً فطوبى لمن شاهد ولاحظ هذا الأمر وختم بالخوف والمراقبة الوقت والعمر.
تمت سورة النور يوم السبت الثالث من شهر الله رجب من سنة ثمان ومائة وألف.
جزء : 6 رقم الصفحة : 186(6/135)
سورة الفرقان
مكية آيها سبع وسبعون في قول الجمهور
جزء : 6 رقم الصفحة : 186
{تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} أي تكاثر خير الذي إلخ فالمضاف محذوف من البركة وهي كثرة الخير وترتيبه على تنزيل الفرقان لما فيه من كثرة الخير دينياً ودنيوياً أو معناه تزايد على كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله فإن البركة تتضمن معنى الزيادة فترتيبه عليه لدلالته على تعاليه.
قال المولى الفناري في "تفسير الفاتحة" : يروى أن الصاحب ابن عباد كان يتردد في معنى الرقيم وتبارك والمتاع ويدور على قبائل العرب فسمع امرأة تسأل أين المتاع؟ ويجيب ابنها الصغير بقوله جاء الرقيم وأخذ المتاع وتبارك الجبل فاستفسر عنهم وعرف أن الرقيم الكلب وأن المتاع هو ما يبل بالماء فيمسح به القصاع وأن تبارك بمعنى صعد.
وقال بعضهم : البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء وسمي محبس الماء بركة لدوام الماء فيها وثبوته.
فمعنى تبارك دام دواماً ثابتاً لا انتقال له ولهذا لا يقال له يتبارك مضارعاً لأنه للانتقال.
قال في "برهان القرآن" : هذه لفظة لا تستعمل إلاولا تستعمل إلا بلفظ الماضي وخص هذا الموضع بالذكر لأن ما بعده أمر عظيم وهو القرآن المشتمل على معاني جميع كتب الله.
والفرقان مصدر فرق بين الشيئين أي فصل وسمي به القرآن لغاية فرقه بين الحق والباطل والمؤمن والكافر {عَلَى عَبْدِهِ} الأخلص ونبيه الأخص وحبيبه الأعلى وصفيه الأولى محمد المصطفى
187
صلى الله عليه وسلّم وفيه تشريف له بالعبدية المطلقة وتفضيل بها على جميع الأنبياء فإنه تعالى لم يسم أحداً منهم بالعبد مطلقاً كقوله تعالى : {عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} (مريم : 2) وتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبداً للمرسل رداً على النصارى ولذا قدم في التشهد عبده على رسوله.
{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} غاية للتنزيل أي ليكون العبد منذراً بالقرآن للإنس والجنّ فمن عاصره أو جاء بعده ومخوفاً من عذاب الله وموجبات سخطه.
فالنذير بمعنى المنذر والإنذار إخبار فيه تخويف كما أن التبشير إخبار فيه سرور.
جزء : 6 رقم الصفحة : 187
قال الإمام الراغب : العالم اسم للفلك وما يحويه من الجواهر والأعراض وهو في الأصل اسم لما يعلم به كالطابع والخاتم لما يطبع ويختم به وجعل بناؤه على هذه الصيغة لكونه كالآلة فالعالم آلة في الدلالة على صانعه وأما جمعه فلأن كل نوع قد يسمى عالماً فيقال : عالم الإنسان وعالم الماء وعالم النار وأما جمعه السلامة السلامة فلكون الناس في جملتهم والإنسان إذا شارك غيره في اللفظ غلب حكمه انتهى.(6/136)
قال ابن الشيخ : جمع بالواو والنون لأن المقصود استغراق أفراد العقلاء من جنس الجن والإنس فإن جنس الملائكة وإن كان من جملة أجناس العالم إلا أن النبي عليه السلام لم يكن رسولاً إلى الملائكة فلم يبق من العالمين المكلفين إلا الجن والإنس فهو رسول إليهما جميعاً انتهى أي فتكون الآية ، وقوله عليه السلام : "أرسلت للخلق كافة" من العام المخصوص ولم يبعث نبي غيره عليه السلام إلا إلى قوم معين وأما نوح عليه السلام فإنه وإن كان له عموم بعثة لكن رسالته ليست بعامة لمن بعده وأما سليمان عليه السلام فإنه كان مبعوثاً إلى الجن فإنه من التسخير العام لا يلزم عموم الدعوة.
والآية حجة لأبي حنيفة رضي الله عنه في قوله : ليس للجن ثواب إذا أطاعوه سوى النجاة من العذاب ولهم عقاب إذا عصوا حيث اكتفى بقوله : {لِيَكُونَ لِلْعَـالَمِينَ نَذِيرًا} ولم يذكر البشارة.
قال في "الإرشاد" : عدم التعرض للتبشير لانسياق الكلام على أحوال الكفرة.
{الَّذِى} أي هو الذي {لَهُ} خاصة دون غيره استقلالاً أو اشتراكاً {مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} الملك هو التصرف بالأمر والنهي في الجمهور.
قال الكاشفي : (ادشاهىء آسما نهارا وزمينها ه وى منفر داست بآ فريد آنها س اورا رسد تصرف دران) ثم قال رداً على اليهود والنصارى : {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} ليرث ملكه لأنه حي لا يموت وهو عطف على ما قبله من الجملة الظرفية.
قال في "المفردات" : تخذ بمعنى أخذ واتخذ افتعل منه والولد المولود ويقال للواحد والجمع والصغير والكبير والذكر والأنثى ثم قال رداً على قريش : {وَلَمْ يَكُن لَّه شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ} أي : في ملك السموات والأرض لينازعه أو ليعاونه في الإيجاد.
وفي "المثنوي" :
واحد اندر ملك اورا يارنى
بندكانش را جز اوسالارنى
جزء : 6 رقم الصفحة : 187
نيست خلقش رادكركس مالكي
شركتش دعوت كند جزهالكي
{وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ} أحدث كل موجود من الموجودات من مواد مخصوصة على صور معينة ورتب فيه قوى وخواص مختلفة الأحكام والآثار.
{فَقَدَّرَه تَقْدِيرًا} أي : فهيأه لما أراده منه من الخصائص والأفعال اللائقة به كهيئة الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبر في أمور المعاش والمعاد واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة وهكذا أحوال سائر الأنواع.
188
جزء : 6 رقم الصفحة : 187
{وَاتَّخَذُوا} أي : المشركون لأنفسهم {مِن دُونِهِ} أي حال كونهم متجاوزين عبادة الذي خلق هذه الأشياء.
{ءَالِهَةً} من الأصنام {لا يَخْلُقُونَ شَيْـاًا} أي : لا تقدر تلك الآلهة على خلق شيء من الأشياء أصلاً لا على ذهاب ولا على غيره وإنما ذكر الأصنام بلفظ العقلاء لأن الكفار يجعلونهم بمنزلة العقلاء فخاطبهم بلغتهم كما في "تفسير أبي الليث".
{وَهُمْ يُخْلَقُونَ} كسائر المخلوقات {وَلا يَمْلِكُونَ لانفُسِهِمْ} أي : لا يستطيعون {ضَرًّا} أي دفع ضر قدم لكونه أهم من النفع {وَلا نَفْعًا} ولا جلب نفع فكيف يملكون شيئاً منهما لغيرهم فهم أعجز من الحيوان فإنه ربما يملك دفع الضر وجلب النفع لنفسه في الجملة.
{وَلا يَمْلِكُونَ لانفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا} أي : لا يقدرون على إماتة الأحياء وإحيائهم أولاً وبعثهم ثانياً ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهية لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها.
وفيه تنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادراً على البعث والجزاء يعني أن الضار والنافع والمميت والمحيي والباعث هو الله تعالى فهو المعبود الحقيقي وما سواه فليس بمعبود بل عابدتعالى كما قال تعالى : {إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ إِلا ءَاتِى الرَّحْمَـانِ عَبْدًا} (مريم : 93).
وفي الآية إشارة إلى الأصنام المعنوية وهم المشايخ المدّعون والدجاجلة المضلون فإنهم ليسوا بقادرين على إحياء القلوب وإماتة النفوس فالتابعون لهم في حكم عابدي الأصنام فليحذر العاقل من اتخاذ أهل الهوى متبوعاً فإن الموت الأكبر الذي هو الجهل إنما يزول بالحياة الأشرف الذي هو العلم فإن كان للعبد مدخل في إفادة الخلق العلم النافع ودعائهم إلى الله على بصيرة فهو الذي رقى غيره من الجهل إلى المعرفة وأنشأه نشأة أخرى وأحياه حياة طيبة بإذن الله تعالى وهي رتبة الأنبياء ومن يرثهم من العلماء العاملين وأما من سقط عن هذه الرتبة فليس الاستماع إلى كلامه إلا كاستماع بني إسرائيل إلى صوت العجل.
قال المولى الجامي قدس سره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 189
بلاف نا خلفان زمانه غره مشو
مروو سامرى ازره ببانك كوساله
وقد قال تعالى : {وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} أي : كونوا في جملة الصادقين ومصاحبين لهم وبعضهم ولذا قالوا يلزم للمرء أن يختار من البقاء أحسنها ديناً حتى يتعاون بالإخوان الصادقين.
(6/137)
قيل لعيسى عليه السلام يا روح الله من نجالس؟ فقال : من يزيدكم في علمه منطقه ويذكركم الله رؤيته ويرغبكم في الآخرة عمله.
قال الصائب قدس سره.
نورى ازيشانىء صاحب دلان دريوزه كن
شمع خودرا مى برى دل مرده زين محفل را
أي كه روى عالمي را جانب خود كردة
رونمى آرى بروى صائب بيدل را
اللهم بحق الفرقان اجعلنا مع الصادقين من الإخوان.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} كنضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد ومن تابعهم.
{إِنْ هَـاذَآ} أي : ما هذا القرآن {إِلا إِفْكٌ} كذب مصروف عن وجهه لأن الإفك كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب المؤتفكات ورجل مأفوك مصروف عن الحق إلى الباطل.
اختلقه محمد من عند نفسه.
والفرق بين الافتراء والكذب أن الافتراء هو افتعال الكذب من قول نفسه والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه كما في "الأسئلة
189
المقحمة" {وَأَعَانَه عَلَيْهِ} أي : على اختلاقه {قَوْمٌ ءَاخَرُونَ} أي اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم وهو يعبر عنها بعبارته {فَقَدْ جَآءُو} فعلوا بما قالوا فإن جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيعديان تعديته.
{ظُلْمًا} عظيماً بجعل الكلام المعجز إفكاً مختلقاً مفتعلاً من اليهود يعني وضعوا الإفك في غير موضعه {وَزُورًا} أي كذبا كبيراً حيث نسبوا إليه عليه السلام ما هو بريء منه.
قال الإمام الراغب : قيل للكذب زور لكونه مائلاً عن جهته لأن الزور ميل في الزور أي وسط الصدر والأزور المائل الزور.
{وَقَالُوا} في حق القرآن هذا {أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} ما سطره المتقدمون من الخرافات والأباطيل مثل حديث رستم واسفنديار.
وبالفارسية (افسانهاى أو ليانست كه در كتابها نوشته اند) وهو جمع اسطار جمع سطر أو أسطورة كاحدوثة وأحاديث.
جزء : 6 رقم الصفحة : 189
قال في "القاموس" السطر الصف من الشيء الكتاب والشجر وغيره والخط والكتابة والقطع بالسيف ومنه الساطر للقصاب وأسطره كتبه والأساطير الأحاديث التي لا نظام لها.
{اكْتَتَبَهَا} أمر أن تكتب له لأنه عليه السلام لا يكتب وهو كاحتجم وافتصد إذا أمر بذلك.
قال في "المفردات" الاكتتاب متعارف في الاختلاق.
{فَهِىَ} أي : الأساطير {تُمْلَى عَلَيْهِ} تلقى على محمد وتقرأ عليه بعد اكتتابها وانتساخها ليحفظها من أفواه من يمليها عليه لكونه أمياً لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة والإملاء في الأصل عبارة عن إلقاء الكلام على الغير ليكتبه {بُكْرَةً وَأَصِيلا} أول النهار وآخره أي دائماً أو خفية قبل انتشار الناس وحين يأوون إلى مساكنهم.
وفي "ضرام السقط" : أول اليوم الفجر ثم الصباح ثم الغداة ثم البكرة ثم الضحى ثم الهجيرة ثم الظهر ثم الرواح ثم المساء ثم العصر ثم الأصيل ثم العشاء الأولى ثم العشاء الأخيرة عند مغيب الشفق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 189
{قُلْ} يا محمد رداً عليهم وتحقيقاً للحق {أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ} الغيب {فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} لأنه أعجزكم لفصاحته عن آخركم وتضمن إخباراً عن مغيبات مستقبلة أو أشياء مكنونة لا يعلمها إلا عالم الأسرار فكيف تجعلونه أساطير الأولين.
{إِنَّه كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} أي إنه تعالى أزلاً وأبداً مستمر على المغفرة والرحمة فلذلك لا يعجل على عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته عليها واستحقاقكم أن يصب عليكم العذاب صباً.
وفيه إشارة إلى أن أهل الضلالة من الذين نسبوا القرآن إلى الإفك لو رجعوا عن قولهم وتابوا إلى الله يكون غفوراً لهم رحيماً بهم كما قال تعالى : {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} (طه : 82).
در توبه بازست وحق دستكير
اعلم أن الله أنزل القرآن على وفق الحكمة الأزلية في رعاية مصالح الخلق ليهتدي به أهل السعادة إلى الحضرة وليضل به أهل الشقاوة عن الحضرة وينسبوه إلى الإفك كما قال تعالى : {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِه فَسَيَقُولُونَ هَـاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ} (الأحقاف : 11) والقرآن لا يدرك إلا بنور الإيمان والكفر ظلمة وبالظلمة لا يرى إلا الظلمة فبظلمة الكفر رأى الكفار القرآن النوراني القديم كلاماً مخلوقاً ظلمانياً من جنس كلام الإنس فكذلك أهل البدعة لما رأوا القرآن بظلمة البدعة رأوا كلاماً مخلوقاً ظلمانياً بظلمة الحدوث وظلموا أنفسهم بوضع القرآن في غير موضعه من كلام الإنس وفي
190
الحديث : "القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق فمن قال بكونه مخلوقاً فقد كفر بالذي أنزله" نسأل الله العصمة والحفظ من الإلحاد وسوء الاعتقاد.(6/138)
ثم اعلم أن من الأمور اللازمة تعليم الجهلاء ورد الملاحدة والمبتدعة فإنه كوضع الدواء على جراحة المجروح أو كقتل الباغي المضر وردهم بالأجوبة القاطعة مما لا يخالف الشريعة والطريقة ألا ترى أن الله تعالى أمر حبيبه عليه السلام بالجواب للطاعنين في القرآن وقد أجاب السلف عمن أطال على القرآن وذهب على حدوثه ومخلوقيته وكتبوا رسائل وكذا علماء كل عصر جاهدوا المخالفين بما أمكن من المعارضة حتى ألقموهم الحجر وافخموهم وخصلوا الناس من شبهاتهم وشكوكهم وفي الحديث : "من انتهر" أي : منع "بكلام غليظ صاحب بدعة سيئة مما هو عليه من سوء الاعتقاد والفحش من القول والعمل ملأ الله تعالى قلبه أمناً وإيماناً ومن أهان صاحب بدعة آمنه الله تعالى يوم القيامة من الفزع الأكبر" أي : النفخة الأخيرة التي تفزع الخلائق عندها أو الانصراف إلى النار أوحين يطبق على النار أو يذبح الموت وأطلق الأمن في صورة الانتهار والمراد الأمن في الدنيا مما يخاف خصوصاً من مكر من انتهره ويدل عليه ما بعده وهو الإيمان فإنه من مكاسب الدنيا نسأل الله الأمن والأمان وكمال الإيمان والقيام بأوامره والاتعاظ بمواعظه وزواجره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 190
{وَقَالُوا} أي المشركون من أشراف قريش كأبي جهل وعتبة وأمية وعاص وأمثالهم وذلك حين اجتماعهم عند ظهر الكعبة {مَآ} استفهامية بمعنى إنكار الوقوع ونفيه مرفوعة على الابتداء خبرها قوله {هَـاذَا الرَّسُولِ} وجدت اللام مفصولة عن الهاء في المصحف واتباعه سنة وفي هذا تصغير لشأنه عليه السلام وتسميته رسولاً بطريق الاستهزاء أي أي سبب حصل لهذا الذي يدعي الرسالة حال كونه.
{يَأْكُلُ الطَّعَامَ} كما نأكل والطعام ما يتناول من الغذاء.
{وَيَمْشِى فِى الاسْوَاقِ} لطلب المعاش كما نمشي جمع سوق وهو الموضع الذي يجلب إليه المتاع للبيع ويساق أنكروا أن يكون الرسول بصفة البشر يعني إن صح دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا.
قال بعضهم : ليس بملك ولا ملك وذلك لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون والملوك لا يتسوقون ولا يبتذلون فعجبوا أن يكون مثلهم في الحال ولا يمتاز من بينهم بعلو المحل والجلال لعدم بصيرتهم وقصور نظرهم على المحسوسات فإن تمييز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأحوال نفسانية فالبشرية مركب الصورة والصورة مركب القلب والقلب مركب العقل والعقل مركب الروح والروح مركب المعرفة والمعرفة قوة قدسية صدرت عن كشف عين الحق.
قال الكاشفي : (ند انستندكه نبوت منا في بشريت نيست بلكه مقتضى آنست تاتناسب وتجانس كه سبب افاده واستفاده است بحصول يوندد).
جنس بايد تادر آميزد بهم
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الكفار صم بكم عمي فهم لا يعقلون لأنهم نظروا إلى الرسول بنظر الحواس الحيوانية وهم بمعزل من الحواس الروحانية والربانية فما رأوا منه إلا ما يرى من الحيوان وما رأوه بنظر يرى به النبوة والرسالة ليعرفوه أنه ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين فلهذا قال تعالى :
191
{وَتَرَاـاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (الأعراف : 198) وذلك لأنه لهم قلوب لا يفقهون بها النبوة والرسالة ولهم أعين لا يبصرون بها الرسول والنبي ولهم آذان لا يسمعون بها القرآن ليعلموا أنه معجزة الرسول فيؤمنوا به.
{لَوْلا} حرف تحضيض بمعنى : هلا وبالفارسية (را).
{أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} أي على هيئته وصورته المباينة لصورة البشر والجن {فَيَكُونَ} نصب لأنه جواب لولا {مَعَهُ} مع الرسول {نَذِيرًا} معيناً له في الإنذار معلوماً صدقه بتصديقه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 190
{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ} من السماء يستظهر به ويستغنى عن تحصيل المعاش.
والكنز المال المكنوز أي المجموع المحفوظ.
وبالفارسية (كنج) {أَوْ تَكُونُ لَه جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} أي إن لم يلق إليه كنز فلا أقل من أن يكون له بستان يتعيش بفائدة كما لأهل الغنى والقرى {وَقَالَ الظَّـالِمُونَ} وهم القائلون الأولون لكن وضع المظهر موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيما قالوا لكونه اضلالاً خارجاً عن حد الضلال أي قالوا للمؤمنين : {وَلا تَتَّبِعُوا} أي ما تتبعون {إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا} قد سحر فغلب على عقله.
قال بعض أهل الحقائق : كانوا يرون قبح حالهم في مرآة النبوة وهم يحسبون أنه حال النبي عليه السلام.
والسحر مشتق من السحر الذي هو اختلاط الضوء والظلمة من غير تخلص لأحد الجانبين والسحر له وجه إلى الحق ووجه إلى الباطل فإنه يخيل إلى المسحور أنه فعل ولم يفعل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 190(6/139)
{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الامْثَـالَ} أي : كيف قالوا في حقك تلك الأقاويل العجيبة الخارجة عن العقول الجارية لغرابتها مجرى الأمثال واخترعوا لك تلك الأحوال الشاذة البعيدة من الوقوع وذلك من جهلهم بحالك وغفلتهم عن جمالك.
قال بعضهم : مثلوك بالمسحور والفقير الذي لا يصلح أن يكون رسولاً والناقص عن القيام بالأمور إذ طلبوا أن يكون معك مثلك.
{فَضَلُّوا} عن الحق ضلالاً مبيناً {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} إلى الهدى ومخرجاً من ضلالتهم.
قال بعض الأكابر : وقد أبطلوا الاستعداد بالاعتراض والإنكار على النبوة فحرموا من الوصول إلى الله تعالى.
{تَبَارَكَ الَّذِى} أي : تكاثر وتزايد خير الذي {إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ} في الدنيا لأنه قد شاء أن يعطيه ذلك في الآخرة {خَيْرًا مِّن ذَالِكَ} مما قالوا من إلقاء الكنز وجعل الجنة ولكن آخره إلى الآخرة لأنه خير وأبقى وخص هذا الموضع بذكر تبارك لأن ما بعده من العظائم حيث ذكر النبي عليه السلام والله تعالى خاطبه بقوله : "لولاك يا محمد ما خلقت الكائنات" كذا في "برهان القرآن".
{جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} بدل من خيراً ومحقق لخيريته مما قالوا لأن ذلك كان مطلقاً عن قيد التعدد وجريان الأنهار {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورَا} بيوتاً مشيدة في الدنيا كقصور الجنة.
وبالفارسية (كوشكهاى عالي ومسكنهاى رفيع).
جزء : 6 رقم الصفحة : 192
قال الراغب : يقال قصرت كذا ضممت بعضه إلى بعض ومنه سمي القصر انتهى والجملة عطف على محل الجزاء الذي هو جعل ، وفي الحديث : "أن ربي عرض على أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً قلت : لا يا ربّ ولكن أجوع يوماً وأشبع يوماً فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليه وأدعوك وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك".
قال الكاشفي : (دراسباب نزول مذكور راست كه ون ما لداران قريش حضرت رسالت را بفقر وفاقه سرزنش كردند رضوان كه آرايندة روضات جنانست با أين
192
آيت نازل شد ودرجى از نور بيش حضرت نهاد وفر مودكه روردكار تو ميفر ما يدكه مفاتح خزائن دنيا دراينجاست آنرا بدست تصرف توميد هيم بي آنكه از كرامت ونعمتي كه نامزد توكرده أيم در آخت مقدار برشه كم نكردد حضرت فرمود كه أي رضوان مرا بدينها حاجت نيست فقررا دوستر ميدارم وميخواهم كه بندة شكور وصبور باشم رضوان كفت "أصبت أصاب الله" يك نشانة علو همت آن حضرت همينست كه باوجود تنكدستي واحتياج كوشة شم التفات بر خزائن روى زمين نيفكند آنرا ملاحظه بايد نمودكه درشب معراج مطلقاً نظر بما سوى الله نكشوده وبهي يز از بدائع ملكوت وغرائب عرصة جبروت التفاوت نفرمود تا عبارات ازان اين آمدكه {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (النجم : 17)).
زرنك آميزىء ريحان آن باغ
نهاده شم خودرا مهر ما زاغ
نظر ون بركوفت ازنقش كونين
قدم زد در حريم قاب قوسين
وعن عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله ألا تستطعم الله فيطعمك قالت وبكيت لما رأيت به من الجوع وشد الحجر على بطنه من السغب فقال : "يا عائشة والذي نفسي بيده لو سألت ربي أن يجري معي جبال الدنيا ذهباً لأجراها حيث شئت من الأرض ولكن اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقرها على غناها وحزن الدنيا على فرحها.
يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد".
يقول الفقير عصمه الله القدير : كان عليه السلام من أهل الإكسير الأعظم والحجر المكرم فإن شأنه على من شأن سائر الأنبياء من كل وجه وقد أوتوا ذلك العلم الشريف وعمل به بعضهم كإدريس وموسى ونحوهما على ما في كتب الصناعة الحجرية لكنه عليه السلام لم يلتفت إليه ولم يعمل به ولو عمل به لجعل مثل الجبال ذهباً ولملك مثل ملك كسرى وقيصر لأنه ليس بمناف للحكمة بالكلية فإن بعض الأنبياء قد أوتوا في الدنيا مع النبوة ملكاً عظيماً.
وإنما اختار الفقر لنفسه لوجوه.
أحدها أنه لو كان غنياً لقصده قوم طمعاً في الدنيا فاختار الله له الفقر حتى أن كل من قصده علم الخلائق أنه قصده طلباً للعقبى.
والثاني ما قيل أن الله اختار الفقر له نظراً لقلوب الفقراء حتى يتسلى الفقير بفقره كما يتسلى الغني بماله.
والثالث ما قيل أن فقره دليل على هوان الدنيا على الله تعالى كما قال عليه السلام : "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء" فالله تعالى قادر على أن يعطيه ذلك الذي عيروه بفقده وما هو خير من ذلك بكثير ولكنه يعطي عباده على حسب المصالح وعلى وفق المشيئة ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله فيفتح على واحد أبواب المعارف والعلوم ويستدّ عليه أبواب الدنيا وفي حق الآخر بالعكس من ذلك في القصيدة البردية :
جزء : 6 رقم الصفحة : 192
وراودته الجبال الشم من ذهب
عن نفسه فأراها أيّما شمم
الشم جمع الأشم والشمم الارتفاع أي أراها ترفعاً أي ترفع لا يكتنه كنهه.
وأكدت زهده فيها ضرورته
أن الضرورة لا تعدو على العصم
(6/140)
جمع عصمة يعني أن شدة حاجته لم تعد ولم تغلب على العصمة الأزلية بل أكدت ضرورته زهده في الدنيا الدنية فما زاغ بصر همته في الدنيا وما طغى عين نهمته في العقبى.
193
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من
لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
يقال دعاه إليه أي طلبه إليه وحمله عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : "أوحى الله تعالى إلى عيسى أن صدق محمداً وائمر أمتك من أدركه منهم أن يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت آدم ولولاه ما خلقت الجنة والنار ولقد خلقت العرش فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن" فمن كانت الدنيا رشحة من فيض نعمه فكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة فاقته كذا في "شرح القصيدة" لابن الشيخ : وفي "المثنوي" :
راهزن هركز كدايي را نزد
كرك كرك مرده را هركز كزد
خضر كشتى را براى آن شكست
تا تواند كشتى از فجار رست
ون شكسته مى رهدا شكسته شو
امن در فقرست اندر فقر رو
آنكهى كوداشت از كان نقد ند
كشت اره اره از زخم كلند
تيغ بهراوست كورا كردنيست
سايه فاكندست بروى رحم نيست
يعني فليلازم العبد التواضع والفقر.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} أي القيامة والحشر والنشر.
والساعة جزء من أجزاء الزمان ويعبر بها عن القيامة تشبيهاً بذلك لسرعة حسابه كما قال : {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَـاسِبِينَ} (الأنعام : 62) أو لما نبه عليه قوله تعالى : {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـاـاهَا} (الأحقاف : 35) كما في "المفردات" وهو إضراب عن توبيخهم بحكاية جنايتهم السابقة وانتقال منه إلى توبيخهم بحكاية جنايتهم الأخرى للتخلص إلى بيان مالهم في الأخرة بسببها من فنون العذاب {وَأَعْتَدْنَا} هيأنا وأصله أعددنا {لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ} وضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التشنيع {سَعِيرًا} ناراً عظيمة شديدة الاشتعال.
قال بعض أهل الحقائق سعير الآخرة إنما سعرت من سعير الدنيا وهي حرص العبد على الدنيا وملاذها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 192
{إِذَا رَأَتْهُم} صفة للسعير أي إذا كانت تلك السعير بمرأى منهم وقابلتهم بحيث صاروا بإزائها كقولهم : داري تنظر دارك أي تقابلها فأطلق الملزوم وهو الرؤية وأريد اللازم وهو كون الشيء بحيث يرى والانتقال من الملزوم إلى اللازم مجاز.
{مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} هو أقصى ما يمكن أن يرى منه قيل : من المشرق إلى المغرب وهي خمسائة عام.
وفيه إشارة بأن بعد ما بينها وبينهم من المسافة حين رأتهم خارج عن حدود البعد المعتاد في المسافات المعهودة.
{سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} أي : صوت تغيظ على تشبيه صوت غليانها بصوت المغتاظ أي الغضبان إذا غلى صدره من الغيظ فعند ذلك يهمهم والهمهمة ترديد الصوت في الصدر.
قال ابن الشيخ : يقال : أما رأيت غضب الملك إذا رأى ما يدل عليه فكذا ههنا ليس المسموع التغيظ الذي هو أشد الغضب بل ما يدل عليه من الصوت.
وفي "المفردات" : التغيظ إظهار الغيظ وهو أشد الغضب وقد يكون ذلك مع صوت مسموع والغضب هو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه.
{وَزَفِيرًا} وهو صوت يسمع من جوفه وأصله ترديد النفس حتى ينتفخ الضلوع منه.
وقال عبيد بن عمير : إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا خرّ لوجهه ترعد فرائصهم حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول : يا رب لا أسألك إلا نفسي.
قال أهل السنة : البنية ليست شرطاً
194
في الحياة فالنار على ما هي عليه يجوز أن يخلق الله فيها الحياة والعقل والرؤية والنطق.
يقول الفقير : وهو الحق كما يدل عليه قوله تعالى : {وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ} (العنكبوت : 64) فلا احتياج إلى تأويل أمثال هذا المقام.
{وَإِذَآ أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا} أي في مكان ومنها بيان تقدم فصار حالاً منه والضمير عائد إلى السعير.
{ضَيِّقًا} صفة لمكاناً مفيدة لزيادة شدة حال الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض.
(6/141)
واعلم أنه تضيق حهنم عليهم كما تضيق حديدة الرمح على الرمح أو تكون لهم كحال الوتد في الحائط فيضم العذاب وهو الضيق الشديد إلى العذاب وذلك لتضيق قلوبهم في الدنيا حتى لم تسع فيها الإيمان.
{مُّقَرَّنِينَ} أي حال كونهم قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم مشدودة إليها بسلسلة أو يقرنون مع شياطينهم سلسلة في سلسلة : يعني (هريك را بقرين أو ازجن بسبسبة آتشين بهم بازبسته) يقال : قرنت البعير جمعت بينهما وقرنته بالتشديد على التكثير.
{دَعَوْا} (بخوانند برخود) {هُنَالِكَ} أي في ذلك المكان الهائل والحالة الفظيعة.
{ثُبُورًا} هو الويل والهلاك (واين كلمه كسي كويدكه آرزومند هلاك باشد) أي يتمنون هلاكاً وينادون فيقولون : يا ثبوراء يا ويلاه يا هلاكاه تعال فهذا أوانك وفي الحديث : "أول من يكسى يوم القيامة إبليس حلة من النار بعضها على حاجبيه فيسحبها من خلفه وذريته خلفه وهو يقول واثبوراه وهم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فينادي ياثبوراه وينادون يا ثبورهم" فيقول الله تعالى أو فيقال لهم على ألسنة الملائكة تنبيهاً على خلود عذابهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 192
{لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا} أي لا تقتصروا على دعاء ثبور واحد {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} أي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به لا يحسب كثرته في نفسه فإن ما يدعون ثبوراً واحداً في حد ذاته وتحقيقه لا تدعوه دعاء واحداً وادعوا أدعية كثيرة فإن ما أنتم فيه من العذاب لغاية شدته وطول مدته مستوجب لتكرير الدعاء في كل آنٍ.
{قُلْ أَذَالِكَ} العذاب {خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي : وعدها المتقون أي المتصفون بمطلق التقوى لا بالمرتبة الثانية أو الثالثة منها فقط فالمؤمن متق وإن كان عاصياً وجنة الخلد هي الدار التي لا ينقطع نعيمها ولا ينقل عنها أهلها فإن الخلود هو تبري الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها وإضافة الجنة إلى الخلد للمدح وإلا فالجنة اسم للدار المخلدة ويجوز أن تكون الجنة اسماً لا يدل على البستان الجامع لوجوه البهجة ولا يدخل الخلود في مفهومها فاضيفت إليه للدلالة على خلودها.
فإن قيل : كيق يتصور الشك في أنه أيهما خير حتى يحسن الاستفهام والترديد وهل يجوز للعاقل أن يقول : السكر أحلى أم الصبر وهو دواء مرّ يقال ذلك في معرض التقريع والتهكم والتحسير على ما فات.
وفي "الوسيط" هذا التنبيه على تفاوت ما بين المنزلتين لا على أن في السعير خيراً.
وقال بعضهم : هذا على المجاز وإن لم يكن في النار خير والعرب تقول العافية خير من البلاء وإنما خاطبهم بما يتعارفون في كلامهم.
{كَانَتْ} تلك الجنة {لَهُمُ} في علم الله تعالى {جَزَآءً} على أعمالهم بمقتضى الكرم لا بالاستحقاق والجزاء الغنى والكفاية فالجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيراً
195
فخير وإن شراً فشر.
والجزية ما يؤخذ من أهل الذمة وتسميتها بذلك للاجتزاء بها في حقن دمهم.
{وَمَصِيرًا} مرجعاً يرجعون إليه وينقلبون.
والفرق بين المصير والمرجع أن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ولا كذلك المرجع.
{لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ} أي ما يشاؤونه من أنواع النعيم واللذات مما يليق بمرتبتهم فإنهم بحسب نشأتهم لا يريدون درجات من فوقهم فلا يلزم تساوي مراتب أهل الجنان في كل شيء.
ومن هذا يعلم فساد ما قيل في "شرح الأشباه" بجواز اللواطة في الجنة لجواز أن يريدها أهل الجنة ويشتهيها وذلك لأن اللواطة من الخبائث التي ما تعلقت الحكمة بتحليلها في عصر من الأعصار كالزنى فكيف يكون ما يخالف الحكمة مراداً ومشتهى في الجنة فالقول بجوازها ليس إلا من الخباثة.
والحاصل أن عموم الآية إنما هو بالنسبة إلى المتعارف ولذا قال بعضهم : في الآية دليل على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة ولما لم تكن اللواطة مرادة في الدنيا للطيبين فكذا في الآخرة {خَـالِدِينَ} فيها حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ {كَانَ} المذكور من الدخول والخلود وما يشاؤون.
{عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْـاُولا} أي موعوداً حقيقاً بأن يسأل ويطلب وما في على من معنى الوجوب لامتناع الخلف في وعده.
جزء : 6 رقم الصفحة : 192
(6/142)
واعلم أن أهم الأمور الفوز بالجنة والنجاة من النار كما قال النبي عليه السلام للأعرابي الذي قال له : إني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار : "إني لا أعرف دندنتك ولا دندنة معاذ" قوله : "دندن" معناه إني لا أعرف ما تقول أنت ومعاذ يعني من الأذكار والدعوات المطولة ولكني اختصر على هذا المقدار فأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار فقال له النبي عليه السلام حولها ندندن أي حول الجنة والنار أو حول مسألتهما والمسألة الأولى سؤال طلب والثانية سؤال استعاذة كما في "أبكار الأفكار" ومعنى الحديث أن المقصود بهذا الذكر الطويل الفوز بهذا الوافر الجزيل كما في "عقد الدرر واللآلى".
قال في "رياض الصالحين" : العبد في حق دينه إما سالم وهو المقتصر على أداء الفرائض وترك المعاصي أو رابح وهو المتبرع بالقربات والنوافل أو خاسر وهو المقصر في اللوازم فإن لم تقدر أن تكون رابحاً فاجتهد أن تكون سالماً وإياك أن تكون خاسراً وفي الحديث : "من قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان في يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك" رواه البخاري وغيره.
قال بعض المشايخ : في هذا الحديث دليل على تفضيل الصوفية ويؤخذ ذلك من جعل هذا الأجر العظيم لمن هذا القول مائة مرة فكيف من يومه كله هكذا فإن طريقتهم مبنية على دوام الذكر والحضور وكان عليه السلام طويل الصمت كثير الذكر.
هرآن كو غافل ازحق يكز مانست
دران دم كافرست أما نهانست
جزء : 6 رقم الصفحة : 192
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} أي : واذكر يا محمد لقومك يوم يحشر الله الذين اتخذا من دونه آلهة ويجمعهم.
{وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} ما عام يعم العقلاء وغيرهم لكن المراد هنا بقرينة الجواب الآتي العقلاء من الملائكة وعيسى وعزير.
{فَيَقُولُ} أي الله تعالى للمعبودين
196
{أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى} (كمراه كرديد).
{عِبَادِى هَـاؤُلاءِ} بأن دعوتموهم إلى عبادتكم وأمرتموهم بها {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} عن السبيل بأنفسهم لإخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد النصيح فحذف الجار وأوصل الفعل إلى المفعول كقوله تعالى : {وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ} (الأحزاب : 4) والأصل إلى السبيل أو للسبيل.
يقول الفقير : والظاهر أنه محمول على نظيره الذي هو أخطؤوا الطريق وهو شائع.
فإن قلت : إنه تعالى كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال.
قلت : فائدته تقريع العبدة وإلزامهم كما قيل لعيسى عليه السلام : {قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّه قَالَ} لأنهم إذا سئلوا بذلك وأجابوا بما هو الحق الواقع تزداد حسرة العبيد وحيرتهم ويبكتون بتكذيب المعبودين إياهم وتبريهم منهم ومن أمرهم بالشرك وعبادة غير الله.
{قَالُوا} استئناف كأنه قيل : فماذا قالوا في الجواب؟ فقيل : قالوا : {سُبْحَـانَكَ} هو تعجب مما قيل لهم أو تنزيهتعالى عن الأنداد ويجوز أن يحمل ما يعبدون على الأصنام وهي وإن كانت جمادات لا تقدر على شيء لكن الله تعالى يخلق فيها الحياة ويجعلها صالحة للخطاب والسؤال والجواب {مَا كَانَ يَنابَغِى لَنَآ} أي ما صح وما استقام لنا.
{أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ} أي متجاوزين إياك {مِنْ أَوْلِيَآءَ} من مزيدة لتأكيد النفي وأولياء مفعول نتخذ وهو من الذي يتعدى إلى مفعول واحد كقوله تعالى : {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} (الأنعام : 14) والمعنى معبودين نعبدهم لما بنا من الحالة المنافية له وهي العصمة أو عدم القدرة فأنى يتصور أن تحمل غيرنا على أن يتخذ ولياً غيرك فضلاً عن أن يتخذنا ولياً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 196
قال ابن الشيخ : جعل قولهم : ما كان ينبغي إلخ كناية عن استبعاد أن يدعوا أحداً إلى اتخاذ ولي دونه لأن نفس قولهم بصريحه لا يفيد المقصود وهو نفي ما نسب إليهم من إضلال العباد وحملهم على اتخاذ الأولياء من دون الله.
(6/143)
وفي "التأويلات النجمية" : نزهوا الله عن أن يكون له شريك ونزهوا أنفسهم عن أن يتخذوا ولياً غير الله ويرضوا بأن يعبدوا من دون الله من الإنسان فلهذا قال تعالى فيهم : {أَوالَائكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (البينة : 6) {وَلَـاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَآءَهُمْ} التمتع (برخورداري دادن) أي ما أضللناهم ولكن جعلتهم وآباءهم بالعمر الطويل واأنواع النعم ليعرفوا حقها ويشكروها فاستغرقوا في الشهوات وانهمكوا فيها {حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} أي : غفلوا عن ذكركك وتركوا ما وعظوا به أو عن التذكر لآلائك والتدبر في آياتك فجعلوا أسباب الهداية بسوء اختيارهم ذريعة إلى الغواية وهو نسبة الضلال إليهم من حيث أنه يكسبهم وإسناد له إلى ما فعل الله بهم فحملهم عليه كأنه قيل : إنا لا نضلهم ولم نحملهم على الضلال ولكن أضللت أنت بأن فعلت لهم ما يؤثرون به الضلال فخلقت فيهم ذلك وهو مذهب أهل السنة وفيه نظر التوحيد وإظهار أن الله هو السبب للأسباب.
درين من مكنم سرزنش بخود رويي
نانكه رورشم ميدهند ميرويم
{وَكَانُوا} في قضائك الأزلي {قَوْمَا بُورًا} هالكين جمع بائر كما في "المفردات" أو مصدر وصف به الفاعل مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع يقال : رجل بائر وقوم بور وهو الفاسد الذي لا خير فيه.
قال الراغب : البوار فرط الكساد ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى
197
الفساد كما قيل : كسد حتى فسد عبر بالبوار عن الهلاك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 196
{فَقَدْ كَذَّبُوكُم} أي : فيقول الله تعالى للعبد فقد كذبكم المعبودون أيها الكفرة.
{بِمَا تَقُولُونَ} أي : في قولكم أنهم آلهة والباء بمعنى في {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} أي ما تملكون أيها المتخذون الشركاء.
{صَرْفًا} دفعاً للعذاب عنكم بوجه من الوجوه لا بالذات ولا بالواسطة.
{وَلا نَصْرًا} أي : أفراداً من أفراد النصر لا من جهة أنفسكم ولا من جهة غيركم مما عبدتم وقد كنتم زعمتم أنهم يدفعون عنكم العذاب وينصرونكم.
{وَمَن} (وهركه) {يَظْلِم مِّنكُمْ} أيها المكلفون أي يشرك كما دل عليه قوله : {نُذِقْهُ} (بشانيم أورا در آخرت) {عَذَابًا كَبِيرًا} هي النار والخلود فيها فإن ما ترتب عليه العذاب الكبير ليس إلا الظلم العظيم الذي هو الشرك وفيه وعيد أيضاً لفساق المؤمنين ثم أجاب عن قولهم : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق بقوله.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} أحداً {مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا} رسلاً {إِنَّهُمْ} كسرت الهمزة لوقوعها في صدر جملة وقعت صفة لموصوف محذوف أو إلا قيل : إنهم وإن تكسر بعد القول كما في "الأسئلة المقحمة".
{لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاسْوَاقِ} فلم يكن ذلك منافياً لرسالتهم فأنت لا تكون بدعاً منهم.
{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ} أيها الناس {لِبَعْضٍ فِتْنَةً} ابتلاء ومحنة الفقراء بالأغنياء والمرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وأذاهم لهم والسقماء بالأصحاء والأسافل بالأعالي والرعايا بالسلاطين والموالي بذوي الأنساب والعميان بالبصراء والضعفاء بالأقوياء.
جزء : 6 رقم الصفحة : 198
قال الواسطي رحمه الله ما وجد موجود إلا لفتنة وما فقد مفقود إلا لفتنة {أَتَصْبِرُونَ} غاية للجعل أي لنعلم أنكم تصبرون وحث على الصبر على ما افتتنوا به.
قال أبو الليث اللفظ لفظ الاستفهام والمراد الأمر يعني اصبروا كقوله : {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} (المائدة : 74) أي : توبوا.
وفي "التأويلات النجمية" : وجعلنا بعضكم يا معشر الأنبياء لبعض فتنة من الأمم بأن يقول بعضهم لبعض الأنبياء : ائتنا بمعجزة النبي الفلاني أتصبرون يا معشر الأنبياء على ما يقولون ويا معشر الأمم عما تقولون انتهى وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم على ما قالوه كأنه قيل : لا تتأذ بقولهم فإنا جعلنا بعض الناس سبباً لامتحان البعض والذهب إنما يظهر خلوصه بالنار ومن النار الابتلاء.
{وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} بمن يصبر وبمن يجزع.
قال الإمام الغزالي : البصير هو الذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى وأبصاره أيضاً منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان ومقدس أن يرجع إلى انطباع الصور والألوان في ذاته كما تنطبع في حدقة الإنسان فإن ذلك من التغير والتأثر المقتضي للحدوث وإذا نزه عن ذلك كان البصير في حقه عبارة عن الوصف الذي به ينكشف كمال نعوت المبصرات وذلك أوضح وأجلى مما يفهم من إدراك البصر من ظواهر المرئيات وحظ العبد من حيث الحس من وصف البصر ظاهر ولكنه ضعيف قاصر إذ لا يمتد إلى ما بعد ولا يتغلغل إلى باطن ما قرب بل يتناول الظواهر ويقصر عن البواطن والسرائر.
وإنما حظه الديني منه أمران أحدهما أن يعلم أنه خلق البصر لينظر إلى الآيات وعجائب الملكوت والسموات فلا يكون نظره إلا عبرة.
قيل لعيسى عليه السلام : هل أحد من الخلق مثلك؟ فقال : من كان نظره عبرة وصمته فكرة وكلامه ذكراً فهو مثلي.
والثاني
198(6/144)
أن يعلم أنه بمرأى من الله تعالى ومسمع فلا يستهين بنظره إليه واطلاعه عليه ومن أخفى عن غير الله ما لا يخفيه عن الله فقد استهان بنظر الله والمراقبة إحدى ثمرات الإيمان بهذه الصفة فمن قارب معصية فهو يعلم أن الله يراه فما أجسره فأخسره ومن ظن أنه لا يراه فما أكفره انتهى كلام الغزالي رحمه الله في "شرح الأسماء الحسنى".
ثم إن العبد لا بد له من السكون إلى قضاء الله تعالى في حال فقره وغناه ومن الصبر على كل أمر يرد عليه من مولاه فإنه تعالى بصير بحاله مطلع عليه في كل فعاله وربما يشدد المحنة عليه بحكمته ويمنع مراده عنه مع كمال قدرته.
قال حضرة الشيخ العطار قدس سره :
جزء : 6 رقم الصفحة : 198
مكر ديوانة شوريده ميخاست
برهنه بد زحق كرباس ميخواست
كه إلهي يرهن در تن ندارم
وكر تو صبر داري من ندارم
خطابي آمد آن بي خويشتن را
كه كرباست دهم أما كفن را
زبان بكشاد آن مجنون مضطر
كه من دانم ترا أي بنده رور
كه تا أول نميرد مرد عاجز
توندهي هي كرباسيش هركز
ببايد مرد أول مفلس وعور
كه تا كر باس ايد ازتو دركور
وفي الحكاية إشارة إلى الفناء عن المرادات وأن النفس مادامت مغضوبة باقية بعض أوصافها الذميمة وأخلاقها القبيحة فإن فيض رحمة الله وإن كان يجري عليها لكن لا كما يجري عليها إذا كانت مرحومة مطهرة عن الرذائل هذا حال أهل السلوك وأما من كان من أهل النفس الأمارة وقد جرى عليه مراده بالكلية فهو في يد الاستدراج ولله تعالى حكمة عظيمة في إغنائه وتنعيمه وإغراقه في بحر نعيمه فمثل هذا هو الفتنة الكبيرة لطلاب الحق الباعثة لهم على الصبر المطلق والله المعين وعليه التكلان.
جزء : 6 رقم الصفحة : 198
{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أصل الرجاء ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة واللقاء يقال في الإدراك بالحس بالبصر وبالبصيرة وملاقاة الله عبارة عن القيامة وعن المصير إليه أي الرجوع إلى حيث لا حاكم ولا مالك سواه.
والمعنى وقال الذين لا يتوقعون الرجوع إلينا أي ينكرون البعث والحشر والحساب والجزاء وهم كفار أهل مكة.
وفي "تاج المصادر" : الرجاء (اميد داشتن وترسيدن) انتهى فالمعنى على الثاني بالفارسية (نمى ترسند ازديدن عذاب ما).
{لَوْلا} حرف تحضيض بمعنى هلا ومعناها بالفارسية (را) {أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة} (فروفر ستاده نمى شو دبر ما فرشتكان) أي بطريق الرسالة لكون البشرية منافية للرسالة بزعمهم.
{أَوْ نَرَى رَبَّنَا} جهرة وعياناً فيأمرنا بتصديق محمد واتباعه لأن هذا الطريق
199
أحسن وأقوى في الإفضاء إلى الإيمان وتصديقه ولما لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أراد تصديقه.
ومن لطائف الشيخ نجم الدين في تأويله أنه قال : يشير إلى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة والحشر من الكفرة يتمنون رؤية ربهم بقولهم : {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} فالمؤمنون الذين يدعون أنهم يؤمنون بالآخرة والحشر كيف ينكرون رؤية ربهم وقد ورد بها النصوص فلمنكري الحشر عليهم فضيلة بأنهم طلبوا رؤية ربهم وجوزوها كما جوزوا إنزال الملائكة ولمنكري الرؤية ممن يدعي الإيمان شركة مع منكري الحشر في جحد ما ورد به الخبر والنقل لأن النقل كما ورد بكون الحشر ورد بكون الرؤية لأهل الإيمان.
{لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا} اللام جواب قسم محذوف أي والله استكبروا.
والاستكبار أن يشبع فيظهر من نفسه ما ليس له أي أظهروا الكبر باطلاً.
{فِى أَنفُسِهِمْ} أي في شأنها يعني وضعوا لأنفسهم قدراً ومنزلة حيث أرادوا لأنفسهم الرسل من الملائكة ورؤية الرب تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 199
وقال الكاشفي : (بخداي كه بزركي كردند در نفسهاي خود يعني تعاظم ورزيدن وجراءت نمودن درين تحكم) {وَعَتَوْ} أي تجاوزا الحد في الظلم والطغيان والعتو الغلو والنبو عن الطاعة.
{عُتُوًّا كَبِيرًا} بالغاً إلى أقصى غاياته من حيث عاينوا المعجزات القاهرة واعرضوا عنها واقترحوا لأنفسهم الخبيثة معاينة الملائكة الطيبة ورؤية الله تعالى التي لم ينلها أحد في الدنيا من أفراد الأمم وآحاد الأنبياء غير نبينا عليه السلام وهو إنما رآه تعالى بعد العبور عن حد الدنيا وهو الأفلاك السبعة التي هي من عالم الكون والفساد.
وفي "الوسيط" : إنما وصفوا بالعتو عند طلب الرؤية لأنهم لبوها في الدنيا عناداً للحق وإباء على الله ورسوله في طاعتهما فغلوا في القول والكفر غلواً شديداً.
وفي "الأسئلة المقحمة" : فإذا كان رؤية الله جائزة فكيف وبخهم على سؤالهم لها؟ قلنا : التوبيخ بسبب أنهم طلبوا ما لم يكن لهم طلبه لأنهم بعد أن عاينوا الدليل قد طلبوا دليلاً آخر ومن طلب الدليل بعد الدليل فقد عتا عتواً ظاهراً ولأنهم كلفوا الإيمان بالغيب فطلبوا رؤية الله وذلك خروج عن موجب الأمر وعن مقتضاه فإن الإيمان عند المعاينة لا يكون إيماناً بالغيب فلهذا وصفهم بالعتو.
(6/145)
{يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة} أي ملائكة العذاب فيكون المراد يوم القيامة ولم يقل يوم تنزل الملائكة إيذاناً من أول الأمر بأن رؤيتهم ليست على طريق الإجابة إلى ما اقترحوه بل على وجه آخر غير معهود ويوم منصوب على الظرفية بما يدل عليه قوله تعالى : {لا بُشْرَى يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} لأنه في معنى لا يبشر يومئذٍ المجرمون لا بنفس بشرى لأنه مصدر والمصدر لا يعمل فيما قبله وكذا لا يجوز أن يعمل ما بعد لا فيما قبلها وأصل الجرم قطع الثمرة من الشجر واستعير ذلك لكل اكتساب مكروه ووضع المجرمون موضع الضمير تسجيلاً عليهم بالإجرام مع ما هم عليه من الكفر ويومئذٍ تكرير للتأكيد بين الله تعالى أن الذي طلبوه سيوجد ولكن يلقون منه ما يكرهون حيث لا بشرى لهم بل إنذار وتخويف وتعذيب بخلاف المؤمنين فإن الملائكة تنزيل عليهم ويبشرونهم ويقولون لا تخافوا ولا تحزنوا.
ومعنى الآية بالفارسية (هي مرده نيست آنروز مر كافران أهل مكة را).
{وَيَقُولُونَ} أي : الكفرة المجرمون عند مشاهدة الملائكة وهو معطوف على ما ذكر من الفعل المنفي.
{حِجْرًا مَّحْجُورًا}
200
الحجر مصدر حجره إذا منعه والمحجور الممنوع وهو صفة حجراً إرادة للتأكيد كيوم أيوم وليل أليل كانوا يقولون هذه الكلمة عند لقاء عدو وهجوم مكروه.
والمعنى أنهم يطلبون نزول الملائكة عليهم ويقترحونه وهم إذا رأوهم يوم الحشر يكرهون لقاءهم أشد كراهة ويقولون هذه الكلمة وهي ما كانوا يقولون عند نزول بأس استعاذة وطلباً من الله أن يمنع لقاءهم منعاً ويحجر المكروه عنهم حجراً فلا يلحقهم (درزاد آوردهكه ون كفار درشهر حرام كسي را ديدندي كه ازونر سيدندي ميكفندكه) حجراً محجوراً يريدون أن يذكروه أنه في الشهر الحرام (تا از شراو ءَمن ميشدند اينجانيز خيال بستندكه مكر بدين كلمه ازشدت هول قيامت خلاص خواهنديافت) ويقال : إن قريشاً كانوا إذا استقبلهم أحد يقولون : حاجوراً حاجوراً حتى يعرف أنهم من الحرم فيكف عنهم فأخبر تعالى أنهم يقولون ذلك يوم القيامة فلا ينفعهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 199
{وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} القدوم عبارة عن مجيء المسافر بعد مدة والهباء الغبار الذي يرى في شعاع الشمس يطلع من الكوة من الهبوة وهو الغبار ومنثوراً صفته بمعنى مفرقاً مثل تعالى حالهم وحال أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف وفك أسير وإكرام يتيم ونحو ذلك من المحاسن التي لو عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقصد إلى ما تحت أيديهم من الدار والعقار ونحوهما فمزقها وأبطلها بالكلية ولم يبق لها أثراً أي قصدنا إليها وأظهرنا بطلانها بالكلية لعدم شرط قبولها وهو الإيمان فليس هناك قدوم على شيء ولا نحوه وهذا هو تشبيه الهيئة وفي مثله تكون المفردات مستعملة في معانيها الأصلية وشبه أعمالهم المحبطة بالغبار في الحقارة وعدم الجدوى ثم بالمنثور منه في الانتثار بحيث لا يمكن نطمه وفيه إشارة إلى أن أعمال أهل البدعة التي عملوها بالهوى ممزوجة بالرياء فلا يوجد لها أثر ولا يسمع منها خبر : قال الشيخ سعدي قدس سره :
شنيدم كه نابلغي روزه داشت
بصد محنت آورد روزي باشت
بكفتا س آن روز سائق نبرد
بزرك آمدش طاعت ازطفل خرد
در ديده وسيد ومادر سرش
فشاندند بادام وزر بر سرش
وبروى كذر كرد يك نيمه روز
فتاداند رو آتش معده سوز
بدل كفت اكر لقمه ندي خورم
ه داند در عيب يا مادرم
وروى سر در در بود وقوم
نهان خورد ويدا بسر برد صوم
كه داند ودر بند حق نيستي
اكر بي وضو در نماز ايستي
س اين يرازان طفل نادان ترست
كه از بهر مردم بطاعت درست
كليد در دوز خست آن نماز
كه درشم مردم كزاري دراز
اكر جز بحق ميرود جاده ات
در آتش نشانند سجاده ات
جزء : 6 رقم الصفحة : 199
{أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ} أي : المؤمنون {يَوْمَـاـاِذٍ} أي : يوم إذ يكون ما ذكر من عدم التبشير وقولهم : حجراً محجوراً وجعل أعمالهم هباء منثوراً.
{خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا} المستقر المكان الذي
201
يستقر فيه في أكثر الأوقات للتجالس والتحادث.
والمعنى خير مستقراً من هؤلاء المشركين المتنعمين في الدنيا.
وبالفارسية : (بهترند ازروى قراركاه يعني مساكن إيشان در آخرت به ازمنازل كافر انست كه دردنيا داشتند) ويجوز أن يكون التفضيل بالنسبة إلى ما للكفرة في الآخرة.
فإن قلت : كيف يكون أصحاب الجنة خير مستقراً من أهل النار ولا خير في النار ولا يقال العسل أحلى من الخل.
(6/146)
قلت : إنه من قبيل التقريع والتهكم كما في قوله تعالى : {قُلْ أَذَالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} (الفرقان : 15) كما سبق ويجوز أن يكون التفضيل لإرادة الزيادة المطلقة أي هم في أقصى ما يكون من خير وعلى هذا القياس قوله تعالى : {وَأَحْسَنُ مَقِيلا} أي من الكفرة في دار الدنيا.
وبالفارسية : (ونيكوترست اجهت مكان قيلولة) أو في الآخرة بطريق التهكم أو هم في أقصى ما يكون من حسن المقيل وهو موضع القيلولة والقيلولة الاستراحة نصف النهار في الحر يقال : قلت قيلولة نمت نصف النهار والمراد بالمقيل ههنا المكان الذي ينزل فيه للاستراحة بالأزواج والتمتع بمغازلتهن أي محادثتهن ومراودتهن وإلا فليس في الجنة حر ولا نوم بل استراحة مطلقة من غير غفلة ولا ذهاب حس من الحواس وكذا ليس في النار مكان استراحة ونوم للكفار بل عذاب دائم وألم باق.
وإنما سمي بالمقيل لما روى أن أهل الجنة لا يمر بهم يوم القيامة إلا قدر النهار من أوله إلى وقت القائلة حتى يسكنون مساكنهم في الجنة وأهل النار في النار وأما المحبوسون من العصاة فتطول عليهم المدة مقدار خمسين ألف سنة من سني الدنيا والعياذ بالله تعالى.
ثم في أحسن رمز إلى أن مقيل أهل الجنة مزين بفنون الزين والزخارف كبيت العروس في الدنيا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 201
وفي "التأويلات النجمية" : {أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ} يعني المؤمنين بالحشر والموقنين بالرؤية {يَوْمَـاـاِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا} لأن مستقر عوامهم الجنة ودرجاتها ومستقر خواصهم حضرة الربوبية وقرباتها لقوله تعالى إلى ربك يومئذٍ المستقر {وَأَحْسَنُ مَقِيلا} لأن النار مقيل منكري الحشر والجنة مقيل المؤمنين والحضرة مقيل الراجعين المجذوبين انتهى.
فعلى العاقل تحصيل المستقر الأخروي والمقيل العلوي.
وصار الشيخ الحجازي ليلة يردد قوله تعالى {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ} ويبكي فقيل له : لقد أبكتك آية ما يبكى عند مثلها أي لأنها بيان لسعة عرض الجنة فقال : وما ينفعني عرضها إذا لم يكن لي فيها موضع قدم وفي الحديث "من سعادة المرء المسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء".
وسئل بعضهم عن الغني فقال : سعة البيوت ودوام القوت ثم إن سعادات الدنيا كلها مذكرة لسعادات الآخرة فالعاقل من لا تغرّه الدنيا الدنية.
وفي "المثنوي" :
افتخار ازرنك وبوو ازمكان
هست شادي وفريب كودكان
هر كجا باشدشه مارا بساط
هست صحرا كربود سم الخياط
هركجا يوسف رحى باشد وماه
جنت است آن ه كه باشد قعرجاه
فجنة العارف هي القلب المطهر ومعرفة الله فيه كما قال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى في الدنيا جنة من دخلها لم يشتق إلى الجنة قيل : وما هي قال : معرفة الله.
ودادت صورت خوب وصفت هم
بيا تابدهدت اين معرفت هم
202
و خوني مشك كردد ازدم اك
بود ممكن كه تن جاني شود اك
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ} أي : واذكر يوم تنفتح.
وبالفارسية : (بشكافد) كما قال في "تاج المصادر" : التشقق : (شكافته شدن) وأصله تتشقق فحذف إحدى التاءين كما في تلظى.
{بِالْغَمَـامِ} هو السحاب يسمى به لكونه ساتراً لضوء الشمس والغم ستر الشيء أي يسبب طلوع الغمام منها وهو الغمام الذي ذكر في قوله تعالى : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ والملائكة} (البقرة : 210) قيل : هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن إلا لبني إسرائيل.
يعني (ظلة بني إسرائيل بود درتيه).
جزء : 6 رقم الصفحة : 201
وقال أبو الليث : الغمام شيء مثل السحاب الأبيض فوق سبع سموات كما روي في الخبر : "دعوة المظلوم ترفع فوق الغمام".
(6/147)
قال الإمام النسفي رحمه الله : الغمام فوق السموات السبع وهو سحاب أبيض غليظ كغلظ السموات السبع ويمسكه الله اليوم بقدرته وثقله أثقل من ثقل السموات فإذا أراد الله أن يشقق السموات ألقى ثقله عليها فانشقت فذلك قوله تعالى : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَـامِ} أي : بثقل الغمام فيظهر الغمام ويخرج منها وفيه الملائكة كما قال تعالى : {وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلا} أي تنزيلاً عجيباً غير معهود قيل : تشقق سماء سماء وتنزل الملائكة خلال ذلك الغمام بصحائف أعمال العباد ـ ـ وروي ـ ـ في الخبر أنه تنشق السماء الدنيا فتنزل الملائكة الدنيا بمثل من في الأرض من الجن والأنس فيقول لهم الخلق : أفيكم ربنا يعنون هل جاء أمر ربنا بالحساب فيقولون لا وسوف يأتي ثم ينزل ملائكة السماء الثانية بمثلي من في الأرض من الملائكة والإنس والجن ثم ينزل ملائكة كل سماء على هذا التضعيف حتى ينزل ملائكة سبع سموات فيظهر الغمام وهو كالسحاب الأبيض فوق سبع سموات ثم ينزل الأمر بالحساب فذلك قوله تعالى : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ} الآية إلا أنه قد ثبت أن الأرض بالقياس إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة فكيف بالقياس إلى سماء الدنيا فملائكة هذه المواضع بأسرها كيف تسعها الأرض كذا في "حواشي ابن الشيخ".
يقول الفقير : يمد الله الأرض يوم القيامة مد الأديم فتسع مع أن السموات مقبية فكلما زالت واحدة منها ونزلت تتسع الأرض بقدرها فيكفي لملائكتها أطرافها وقد ثبت أن الملائكة أجسام لطيفة رقيقة فلا تتصور بينهم المزاحمة كمزاحمة الناس.
{الْمُلْكُ يَوْمَـاـاِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَـانِ} الملك مبتدأ والحق صفته وللرحمن خبره ويومئذٍ ظرف لثبوت الخبر للمبتدأ.
والمعنى أن السلطنة القاهرة والاستيلاء الكلي العام صورة ومعنى بحيث لا زوال له أصلاً ثابت للرحمن يومئذٍ وفائدة التقييد أن ثبوت الملك المذكور له تعالى خاصة يوم القيامة.
و مدعيان زبان دعوى
از ما لكيت در بسته باشند
وأما ما عداه من أيام الدنيا فيكون غيره أيضاً له تصرف صوري في الجملة {وَكَانَ} ذلك اليوم.
{يَوْمًا عَلَى الْكَـافِرِينَ عَسِيرًا} أي عسيراً عليهم شديداً لهم.
وبالفارسية : (دشوار ازشدت أهوال) وهو نقيض اليسير وأما على المؤمنين فيكون يسيراً بفضل الله تعالى وقد جاء في الحديث : "إنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا" والحاصل أن الكافرين يرون ذلك اليوم عسيراً عظيماً من دخول النار وحسرة فوات الجنان
203
بعدما كانوا في اليسير من نعيم الدنيا وأهل الإيمان والطلب والجد والاجتهاد يرون فيه اليسر من نعيم الجنان ولقاء الرحمن بعد أن كانوا في الدنيا راضين بالعسر تاركين لليسر موقنين أن مع العسر يسراً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 201
وخرج على سهل الصعلوكي من سجن حمام يهودي في طمر أسود من دخانه فقال : ألستم ترون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فقال سهل على البداهة : إذا صرت إلى عذاب الله كانت هذه جنتك وإذا صرت إلى نعيم الله كانت هذه سجني فتعجبوا من كلامه.
وقيل للشبلي رحمه الله : في الدنيا أشغال وفي الآخرة أهوال فمتى النجاة؟ قال : دع أشغالها تأمن من أهوالها فللَّه در قوم فرغوا عن طلب الدنيا وشهواتها ولم يغتروا بها ولم يلتفتوا إليها لأنه قيل :
اين جهان جيفه است ومردار ورخيص
برنين مردار وان باشم حريص
وقيل : (نوشبته اند بر ايوان جنة المأوى كه هركه عشوة دنيا خريد واي بوي).
بل وقلعوا من قلوبهم أصل حب ما سوى الله تعالى ونصبوا نفوسهم لمقاساة شدائد الجهاد إلى أن يصلوا إلى اليسر الذي هو المراد.
وفي الآية إشارة إلى أن أهل الإنكار يلقون يوم القيامة عسراً لأنهم وقعوا في أعراض الأولياء في الدنيا تنفيراً للناس عنهم وصرفاً لوجوه العامة إليهم إرادة اليسر من المال والمعاش والإعانة ونحو ذلك فيجدون في ذلك اليوم كل ملكفلا يملكون لأنفسهم صرفاً ولا نصراً فلا بد من الإقرار وتجديد الإيمان كما ورد "جددوا أيمانكم بقول لا إله إلا الله".
فإن قلت : يفهم منه أن الإيمان يخلق.
قلت : معنى خلاقة الإيمان أن لا يبقى للمؤمن شوق وانجذاب إلى المؤمن به فتكرار الكلمة الطيبة يورث تجديد الميل والانجذاب والمحبة الإلهية فعلى الطالب الصادق أن يكررها في جميع الأحوال حتى لا ينقطع عن الله الملك المتعال.
جدايي مبادا مرا از خدا
دكر هره يش آيدم شايدم
نسأل الله الوقوف عند الأمر إلى حلول الأجل وانتهاء العمر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 201
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} يوم منصوب باذكر المقدر.
والعض بالأسنان.
وبالفارسية : (كزيدن بدندان) وعض اليدين عبارة عن الندم لما جرى به عادة الناس أن يفعلوه عند ذلك وكذا عض الأنامل وأكل البنان وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفها.
(6/148)
قال في "الكواشي" : ويجوز أن تكون على زائدة فيكون المراد بالعض حقيقة العض والأكل كما روي أنه يأكل يديه حتى يبلغ مرفقيه ثم تنبتان ثم يأكلهما هكذا كلما نبتتا أكلهما تحسراً وندامة على التفريط والتقصير.
والمعنى على الأول بالفارسية : (وياد كن روزي راكه ازفرط حسرت مي خايد ظالم بردستهاي خود يعني بدندان مي كزد دسترا نانه متحيران ميكنند) والمراد بالظالم الجنس فيدخل فيه عقبة بن أبي معيط وذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاماً وكان يدعو إلى الطعام من أهل مكة من أراد وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلّم ويعجبه حديثه فقدم ذات يوم من سفره وصنع طعاماً ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى طعامه.
قال الكاشفي : (وبسبب جوار سيد الأبرار را طلبيده بود) فأتاه رسول الله فلما قدم الطعام إليه أبى أن يأكل
204
فقال : "ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني سول الله" وكان عندهم من العار أن يخرج من عندهم أحد قبل أن يأكل شيئاً فألح عليه بأن يأكل فلم يأكل فشهد بذلك عقبة فأكل رسول الله من طعامه وكان أبي بن خلف الجمحي غائباً وكان خليل عقبة وصديقه فلما قدم أخبر بما جرى بين عقبة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأتاه فقال : صبوت يا عقبة أي ملت عن دين آبائك إلى دين حادث فقال : لا والله ما صبوت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت فقال : ما أنا بالذي أرضى منك أبداً حتى تأتيه فتبزق في وجهه وتشتمه وتكذبه نعوذ بالله تعالى فأتاه فوجده ساجداً في دار الندوة ففعل ذلك : يعني (آب دهن حواله روى دلاراي رسول الله كرد) والعياذ بالله تعالى : (در ترجمة أسباب نزول آورده كه آب دهن أو شعلة آتش جانسوز كشت وبران حضرت نرسيد وبروى باز كشت وهردو كرانة روى وي بسوخت تازنده يود آن داغها مي نمود) : وفي "المثنوي" :
جزء : 6 رقم الصفحة : 204
هركه برشمع خدا آرد فو
شمع كي ميرد بسوزد وز او
كي شود دريا زز سنك نجس
كي شود خور شيدازف منطمس
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعقبة : "لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف" فأسر يوم بدر فأمر عليه السلام علياً رضي الله عنه أو عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه فقتله وطعن عليه السلام بيده الطاهرة الكاسرة أبياً اللعين يوم أحد في المبارزة فرجع إلى مكة فمات في الطريق بسرف بفتح السين المهملة وكسر الراء وهو مناسب لوصفه لأنه مسرف وفي الحديث : "شر الناس رجل قتل نبياً أو قتله نبي" أما الأول فلأن الأنبياء لهم العلو التام فلا يقابلهم إلا من هو في إنزال الدرجات ولذا يعادي السافل العالي وإذا كملت المضادة وقع القتل لأن الضد يطلب إزالة ضده.
وأما الثاني : فلأن الأنبياء مجبولون على الشفقة على الخلق فلا يقدمون على قتل أحد إلا بعد اليأس من فلاحه والتيقن بأن خيانته سبب لمزيد شقائه وتعدي ضرره فقتلهم من قتلوا من أحكام الرحمة.
وفي "المثنوي".
ونكه دندان تو كرمش درفتاد
نيست دندان بركنش أي أوستاد
تاكه باقي تن نكردد زار ازو
كره بود آن تو شو بيزار ازو
قال في "إنسان العيون" : ولم يقتل عليه السلام بيده الشريفة قط أحداً إلا أبي بن خلف لا قبل ولا بعد {يَقُولُ} إلخ حال من فاعل يعض.
هؤلاء {لَيْتَنِى} (كاشكي من) فالمنادى محذوف ويجوز أن يكون يا لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه.
{اتَّخَذْتُ} في الدنيا {مَعَ الرَّسُولِ} محمد صلى الله عليه وسلّم {سَبِيلا} طريقاً إلى النجاة من هذه الورطات يعني اتبعته وكنت معه على الإسلام.
أي (واي برمن) والويل والويلة الهلكة ويا ويلتا كلمة جزع وتحسر وأصله يا ويلتي بكسر التاء فأبدلت الكسرة فتحة وياء المتكلم ألفاً فراراً من اجتماع الكسر مع الياء أي يا هلكتي تعالي واحضري فهذا أوان حضورك والنداء وإن كان أصله لمن يتأتى منه الإقبال وهم العقلاء إلا أن العرب تتجوز وتنادي ما لا يعقل إظهاراً
205
للتحسر.
{لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا} الخليل الصديق من الخلة وهي المودة لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها والمراد من أضله في الدنيا كائناً من كان من شياطين الجن والإنس فيدخل فيه أبيّ المذكور.
جزء : 6 رقم الصفحة : 204
(6/149)
قال في "القاموس" : فلان وفلانة مضمومتين كناية عن أسمائهما أي فلان كناية عن علم ذكور من يعقل وفلانة عن علم إناثهم و بال أي باللام يعني الفلان والفلانة كناية عن غيرنا أي عن غير العاقل واختلف في أن لام فلان واو أو ياء.
{لَقَدِ} والله لقد {أَضَلَّنِى} (كمراه كردم أو بازداشت).
{عَنِ الذِّكْرِ} أي : عن القرآن المذكر لكل مرغوب ومرهوب {بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى} وتمكنت من العمل به وعمرت ما يتذكر فيه من تذكر.
{وَكَانَ الشَّيْطَـانُ} أي : إبليس الحامل على مخالة المضلين ومخالفة الرسول وهجر القرآن.
{لِلانسَـانِ} المطيع له {خَذُولا} كثير الخذلان ومبالغاً في حبه يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ثم يتركه ولا ينفعه وكذا حال من حمله على صداقته.
والخذلان ترك النصرة ممن يظن به أن ينصر وفي وصفه بالخذلان إشعار بأنه كان يعده في الدنيا ويمنيه بأنه ينفعه في الآخرة وهذا اعتراض مقرر لمضمون ما قبله إما من جهته تعالى وإما من تمام كلام الظالم.
وهذه الآية عامة في كل متحابين اجتمعا على معصية الله تعالى والخلة الحقيقية هي أن لا تكون لطمع ولا لخوف بل في الدين ولذا ورد : "كونوا في الله إخواناً" أي : في طريق الرحمن لا في طريق الشيطان وفي الحديث : "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" وفي الحديث : "لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي".
قال مالك بن دينار : إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص مع الفجار.
قال بعضهم : المراد بالشيطان قرين السوء سماه شيطاناً لأنه الضال المضل فمن لم يكن فيه طلب الله فهو الشيطان كالأنعام بل هو أضل لأن الأنعام ليست بمضلة والشيطان ضال مضل وأنشد أبو بكر محمد بن عبد الله الحامدي رحمه الله.
اصحب خيار الناس حين لقيتهم
خير الصحابة من يكون عفيفا
والناس مثل دراهم ميزتها
فوجدت فيهم فضة وزيوفا
وفي الحديث : "مثل الجليس الصالح مثل العطار إن لم ينلك من عطره يعبق بك من ريحه ومثل الجليس السوء مثل الكير إن لم يحرقك بناره يعبق بك ريحه" قدم ناس إلى مكة وقالوا : قدمنا إلى بلدكم فعرفنا خياركم من شراركم في يومين قيل : كيف؟ قالوا : ألحق خيارنا بخياركم وشرارنا بشراركم فألف كل شكله.
وأخذ جماعة من اللصوص فقال أحدهم : أنا كنت مغنياً لهم وما كنت منهم فقيل له : غنّ فغنى بقول عدي :
جزء : 6 رقم الصفحة : 204
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
فقيل : صدقت وأمر بقتله.
وفي "المثنوي" :
حق ذات اك الله الصمد
كه بود به مار بد از يار بد
مار بد جاني ستاند از سليم
يار بد آرد سوى نار جحيم
ازقرين بي قول وكفت وكوى أو
خو بدزدد دل نهان ازخزى أو
أي خنك آن مرده كز خود درسته شد
در وجود زندة يوسته شد
206
واي آن زنده كه بامرده نشست
مرده كشت وزندكي ازوي بجست
ون تو درقر آن حق بكريختي
باروان انبيا آو يختي
هست قرآن حالهاي انبيا
ماهيان بحر اك كبريا
وربخواني ونة قرآن ذير
انبيا وأوليارا ديده كير
ورذيرايي و برخواني قصص
مرغ جانت تنك آيد درقفص
مرغ كو اندر قفص زندانيست
مي نجويد رستن از زندانيست
روحهايي كز قفصها رسته اند
انبياو رهبر شايسته اند
از برون آواز شان آيد زدين
كه ره رستن ترا اين است اين
ما بدين رستيم زين تنكين قفص
جزكه اين ره نيست اره اين قفص
نسأل الله الخلاص والالتحاق بأرباب الاختصاص والعمل بالقرآن في كل زمان وعلى كل حال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 204
{وَقَالَ الرَّسُولُ} عطف على قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} وما بينهما اعتراض أي قالوا : كيت وكيت وقال الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم أثر ما شاهد منهم غاية العتو ونهاية الطغيان بطريق البث إلى ربه : يا رَبِّ} (أي رورد كارمن) {إِنَّ قَوْمِى} قريشاً {اتَّخَذُوا هَـاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا} أي متروكاً بالكلية ولم يؤمنوا به وصدوا عنه.
وفيه تلويح بأن حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن أي التحفظ والقراءة كل يوم وليلة كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم وفي الحديث : "من تعلم القرآن وعلق مصحفاً لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول : يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه" ومن أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل آية من القرآن أو سورة ثم ينساها والنسيان لا يمكنه القراءة من المصحف كما في "القنية" وفي الحديث : "أن هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد" قيل : وما جلاؤها قال "تلاوة القرآن وذكر الله".
دل ر دردرا دوا قرآن
جان مجروح را شفا قرآن
هره جويي زنص قرآن جوي
كه بود كنج علمها قرآن
وفي "المثنوي" :
شاهنامه يا كليله يش تو
همنان باشدكه قرآن از عتو
فرق آنكه باشد از حق ومجاز
كه كند كحل عنايت شم باز
ورنه شك ومشك يش اخشمي
هرد ويكسانست ون نبود شمي
خويشتن مشغول كردن ازملال
باشدش قصد كلام ذو الجلال
كاتش وسواس را وغصه را
زان سخن بنشاند وسازد دوا
(6/150)
{وَكَذَالِكَ} أي كما جعلنا لك أعداء من مجرمي قومك كأبي جهل ونحوه {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ} من الأنبياء المتقدمين {عَدُوًّا} أي أعداء فإنه يحتمل الواحد والجمع {مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} أي مجرمي قومهم كنمرود لإبراهيم وفرعون لموسى واليهود لعيسى فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 207
وفيه تسلية لرسول الله وحمل له على الاقتداء بمن قبله من الأنبياء الذين هم أصحاب
207
الشريعة والدعوة إليها {وَكَفَى بِرَبِّكَ} أي ربك والباء صلة للتأكيد {هَادِيًا} تمييز أي من جهة هدايته لك إلى كافة مطالبك ومنها انتشار شريعتك وكثرة الآخذين بها {وَنَصِيرًا} ومن جهة نصرته لك على جميع أعدائك فلا تبال بمن يعاديك وسيبلغ حكمك إلى أقطار الأرض وأكناف الدنيا.
دلت الآية بالعبارة والإشارة على أن لكل نبي وولي عدواً يمتحنه الله به ويظهر شرف اصطفائه.
قال أبو بكر بن طاهر رحمه الله : رفعت درجات الأنبياء والأولياء بامتحانهم بالمخالفين والأعداء.
از براي حكمتي روح القدس از طشت زر
دست موسى را بسوى طشت آزر مي برد
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنه تعالى يقيض لكل صديق صادق في الطلب عدواً معانداً من مطرودي الحضرة ليؤذيه وهو يصبر على أذاه في الله ويختبر به حلمه ويرضى بقضاء الله ويستسلم بالصبر على بلائه ويشكره على نعمة التوفيق للتسليم وتفويض الأمر إلى الله والتوكل عليه ليسير بهذه الأقدام إلى الله بل يطير بهذه الأجنحة في الله بالله كما هو سنة الله في تربية أنبيائه وأوليائه ولن تجد لسنة الله تبديلاً ، وفي الخبر : "لو أن مؤمناً ارتقى على ذروة جبل لقيض الله إليه منافقاً يؤذيه فيؤجر عليه" ثم لم يغادر الله المجرم المعاند العدو لوليه حتى أذاقه وبال ما استوجبه على معاداته كما قال في حديث رباني : "من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب" وقال : "وأنا أنتقم لأوليائي كما ينتقم الليث الجريء لجروه" (دانشمندي بود درفن منطق منفرد ودرسائر علوم رياضي متبحر مولانا ميرجمال كه دركسوت قلندري مي زيست وكنك مي وشيد ونماز نمى كذاريد ودر ارتكاب محرمات بغايت دلير وبي حيابود ومنكر طريق مشايخ وطائفة أولياء ودائم الأوقات غيبت ومذمت حضرات ايشان ميكرد وسخنان بي إدبانه ميكفت روزي باسه طالب علم كه ايشان نيز درمقام هزل وظرافت وتعرض وسفاهت بودند بمجلس ملانا ناصر الدين اتراري در آمدند ويش ازانكه بسخن آغاز كند مقداري بنك ازآستين كنك بيرون آورد ودردهان نهاد وخواست كه فرو برد در كلوي وي محكم شد وراه نفس بروي بسته كشت آخر حضرت شيخ فرمودند تامشتي محكم بركلوي وي زدندو آن بنك أزكلوي وي درميان مجلس افتاد وهمه حاضران بروخنديدندواو باخجالت تام از مجلس بيرون آمد ورسوا شد فرار نمود وديكر كسي ازو نشان نداد) : وفي "المثنوي" :
جزء : 6 رقم الصفحة : 207
ون خدا اخواهدكه ردة كس درد
ميلش اندر طعنة اكان رد
آنكه مي دريد جامه خلق ست
شد دريده آن أو ايشان درست
آن دهان ك كزو تسخير بخواند
مر محمدرا دهانش ك بماند
باز آمد كاي محمد عفو كن
أي ترا الطاف وعلم من لدن
من ترا افسوس ميكردم ز جهل
من بدم افسوس را منسوب أهل
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ} (وكفتند مشركان عرب را فرو فرستاده نشده بر محمد قرآن) فلولا تحضيضية بمعنى هلا والتنزيل ههنا مجرد عن معنى التدريج بمعنى أنزل كخبر بمعنى أخبر لئلا يناقض قوله : {جُمْلَةً وَاحِدَةً} دفعة واحدة كالكتب الثلاثة
208
(6/151)
أي التوراة والإنجيل والزبور حال من القرآن إذ هي في معنى مجتمعاً وهذا اعتراض حيرة وبهت لا طائل تحته لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقاً وقد تحدّوا بسورة واحدة فعجزوا عن ذلك حتى أخلدوا إلى بذل المهج والأموال دون الإتيان بها مع أن للتفريق فوائد منها ما أشار إليه بقوله : {كَذَالِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} محل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر مؤكد معلل بما بعده وذلك إشارة إلى ما يفهم من كلامهم أي مثل ذلك التنزيل المفرق الذي قدحوا فيه نزلناه لا تنزيلاً مغايراً له لنقوي بذلك التنزيل المفرق فؤادك أي قلبك فإن فيه تيسيراً لحفظ النظم وفهم المعنى وضبط الأحكام والعمل بها ألا ترى أن التوراة أنزلت دفعة فشق العمل على بني إسرائيل ولأنه كلما نزل عليه وحي جديد في كل أمر وحادثة ازداد هو قوة قلب وبصيرة وبالجملة إنزال القرآن منجماً فضيلة خص بها نبينا عليه السلام من بين سائر النبيين فإن المقصود من إنزاله أن يتخلق قلبه المنير بخلق القرآن ويتقوى بنوره ويتغذى بحقائقه وعلومه وهذه الفوائد إنما تكمل بإنزاله مفرقاً ألا يرى أن الماء لو نزل من السماء جملة واحدة لما كانت تربية الزروع به مثلها إذا نزل مفرقاً إلى أن يستوي الزرع.
{وَرَتَّلْنَـاهُ تَرْتِيلا} عطف على ذلك المضمر.
والترتيل التفريق ومجيء الكلمة بعد الأخرى بسكوت يسير دون قطع النفس وأصله في الأسنان وهو تفريجها.
والمعنى كذلك نزلناه وقرأناه عليك شيئاً بعد شيء على تؤدة وتمهل في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 207
{وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} أي بسؤال عجيب وكلام غريب كأنه مثل في البطلان يريدون به القدح في حقك وحق القرآن.
والمعنى بالفارسية : (ونمى آرند مشركان عرب براي تو يا محمد مثلي يعني دربيان قدح نبوت وطعن كتاب توسخن نمى كويند) {إِلا جِئْنَـاكَ} في مقابلته : وبالفارسية (مكر آنكه ما مي آريم براي تو) فالباء في قوله : {بِالْحَقِّ} للتعدية أيضاً أي بالجواب الحق الثابت المبطل لما جاؤوا به القاطع لمادة القيل والقال.
{وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} عطف على الحق.
والتفسير تفعيل من الفسر وهو كشف ما غطي.
والمعنى : وبما هو أحسن بياناً وتفصيلاً لما هو الحق والصواب ومقتضى الحكمة بمعنى أنه في غاية ما يكون من الحسن في حد ذاته لا أن ما يأتون به له حسن في الجملة وهذا أحسن منه لأن سؤالهم مثل في البطلان فكيف يصح له حسن اللهم إلا أن يكون بزعمهم يعني لما كان السؤال حسناً بزعمهم قيل : الجواب أحسن من السؤال والاستثناء مفرغ محله النصب على الحالية أي لا يأتونك بمثل في حال من الأحوال إلا حال إتياننا إياك الحق الذي لا محيد عنه.
وهذا بعبارته ناطق ببطلان جميع الأسئلة وبصحة جميع الأجوبة وبإشارته منبىء عن بطلان السؤال الأخير وصحة جوابه إذ لولا أن التنزيل على التدريج لما أمكن إبطال تلك الاقتراحات الشنيعة أو يقال : كل نبي إذا قال له قومه قولاً كان النبي هو الذي يرد عليهم وأما النبي عليه السلام إذا قالوا له شيئاً فالله يرد عليهم.
{الَّذِينَ} أي : هم الذين {يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} أي يحشرون كائنين على وجوههم يسحبون عليه ويجرون إلى جهنم.
يعني : (روى برزمين نهاده ميروند بسوي دوزخ) وفي الحديث : "يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف صنف على الدواب ، وصنف على
209
الأقدام ، وصنف على الوجوه" فقيل : يا نبي الله كيف يحشرون على وجوههم؟ فقال : "إن الذي أمشاهم على أقدامهم فهو قادر على أن يمشيهم على وجوههم" {أولئك} (آن كروه) {شَرٌّ مَّكَانًا} (برتر ازوري مان يعني مكان ايشان برترست از منازل مؤمنان كه دردنيا داشتند وايشان طعنه مي زد ندكه) {أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} (مريم : 73) وقال تعالى : {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا} (مريم : 75) أي : من الفريقين بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يقدرونه فيعلمون أنهم شر مكاناً لا خير مقاماً {وَأَضَلُّ سَبِيلا} وأخطأ طريقاً من كل أحد.
وبالفارسية (وكج تر وناصوا بترند از جهت راه ه ايشان مفضى بآتش دوزخست) والأظهر أن التفضيل للزيادة المطلقة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 209
والمعنى أكثر ضلالاً عن الطريق المستقيم وجعل مكانهم شراً ليكون أبلغ من شرارتهم وكذا وصف السبيل بالإضلال من باب الإسناد المجازي للمبالغة.
واعلم أنهم كانوا يضللون المؤمنين ولذا قال تعالى حكاية : {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} (سبأ : 24) فإذا أفضى طريق المؤمنين إلى الجنة وطريقهم إلى النار يتبين للكل حال الفريقين.
قال الصائب :
واقف نميشوند كه كم كرده اند راه
تارهروان براهنمايي نمي رسند
(6/152)
والمميز يوم القيامة هو الله تعالى فإنه يقول : {وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (يس : 59) ولما استكبر الكفار واستعلوا حتى لم يخروا لسجدة الله تعالى حشرهم الله تعالى على وجوههم ولما تواضع المؤمنون رفعهم الله على النجائب فمن هرب عن المخالفة وأقبل إلى الموافقة نجا ومن عكس هلك وأين يهرب العاصي والله تعالى مدركه.
قال أحمد بن أبي الجواري : كنت يوماً جالساً على غرفة فإذا جارية صغيرة تقرع الباب فقلت : من بالباب؟ فقالت : جارية تسترشد الطريق فقلت : طريق النجاة أم طريق الهرب فقالت : يا بطال اسكت فهل للهرب طريق وأينما يهرب العبد فهو في قبضة مولاه فعلى العاقل أن يهرب في الدنيا إلى خير مكان حتى يتخلص في الآخرة من شر مكان وخير مكان في الدنيا هو المساجد ومجالس العلوم النافعة فإن فيها النفحات الإلهية.
قال المولى الجامي قدس سره :
مانداريم مشامس كه توانيم شنيد
ورنه هردم رسداز كلشن وصلت نفحات
نسأل الله نفحات روضات التوحيد وروائح حدائق التفريد.
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ} اللام جواب لقسم محذوف أي وبالله لقد آتينا موسى التوراة أي أنزلناه عليه بعد إغراق فرعون وقومه.
وفي "الإرشاد" : والتعرض في مطلع القصة لإيتاء الكتاب مع أنه كان بعد مهلك القوم ولم يكن له مدخل في هلاكهم كسائر الآيات للإيذان من أول الأمر ببلوغه عليه السلام غاية الكمال ونيله نهاية الآمال التي هي إنجاء بني إسرائيل من ملك فرعون وإرشادهم إلى طريق الحق بما في التوراة من الأحكام {وَجَعَلْنَا مَعَهُ} الظرف متعلق بجعلنا.
{أَخَاهُ} مفعول أول له {هَـارُونَ} بدل من أخاه اسم أعجمي ولم يرد في شيء من كلام العرب.
{وَزِيرًا} مفعول ثان أي معيناً يوازره ويعاونه في الدعوة وإعلاء الكلمة فإن الموازرة المعاونة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 209
وفي "القاموس" : الوزر بالكسر الثقل والحمل الثقيل والوزير حبأ الملك الذي يحمل ثقله ويعينه برأيه وحاله الوزارة بالكسر ويفتح والجمع وزراء والحبأ محركة جليس الملك
210
وخاصته.
وقال بعضهم : الوزير الذي يرجع إليه ويتحصن برأيه من الوزر بالتحريك وهو ما يلتجأ إليه ويعتصم به من الجبل ومنه قوله تعالى : {كَلا لا وَزَرَ} (القيامة : 11) أي : لا ملجأ يوم القيامة والوزر بالكسر الثقل تشبيهاً بوزر الجبل ويعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل لقوله : {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ} (النحل : 25) وقوله : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} (العنكبوت : 13) والوزير بالفارسية (يار ومدد كار وكار ساز).
فإن قلت : كون هارون وزيراً كالمنافي لكونه شريكاً في النبوة لأنه إذا صار شريكاً له خرج عن كونه وزيراً.
قلت : لا ينافي ذلك مشاركته في النبوة لأن المتشاركين في الأمر متوازران عليه.
{فَقُلْنَا} لهما حينئذٍ {اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتنا} هم فرعون وقومه أي القبط والآيات هي المعجزات التسع المفصلات الظاهرة على يد موسى عليه السلام ولم يوصف القوم عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بياناً لعلة استحقاقهم لما يحكى بعده من التدمير ويقال : بآياتنا التكوينية أي بالعلامات التي خلق الله في الدنيا ويقال بالرسل وبكتب الأنبياء الذين قبل موسى كما في قوله : {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} فالباء على كل تقدير متعلقة بكذبوا لا باذهبا وأن كان الذهاب إليهم بالآيات كما في قوله في الشعراء : {قَالَ كَلا} (الشعراء : 15) وأما التكذيب فتارة يتعلق بالآيات كما في قوله في الأعراف : {فَظَلَمُوا بِهَا} أي بالآيات وقوله في طه {وَلَقَدْ أَرَيْنَـاهُ ءَايَـاتِنَا} (طه : 56) وتارة بموسى وهارون كما في قوله في المؤمنين {فَكَذَّبُوهُمَا} (المؤمنون : 48) {فَدَمَّرْنَـاهُمْ تَدْمِيرًا} التدمير إدخال الهلاك على الشيء والدمار الاستئصال بالهلاك والدمور الدخول بالمكروه وتقدير الكلام فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها فكذبوهما تكذيباً مستمراً فأهلكناهم أثر ذلك التكذيب المستمر إهلاكاً عجيباً هائلاً لا يدرك كنهه : وبالفارسية : (س هلاك كرديم ايشانرا هلاك كردنى باغراق درياي قلزم) فاقتصر على حاشيتي القصة أي أولها وآخرها اكتفاء بما هو المقصود منها وهو إلزام الحجة ببعثة الرسل والتدمير بالتكذيب والفاء للتعقيب باعتبار نهاية التكذيب أي باعتبار استمراره وإلا فالتدمير متأخر عن التكذيب بأزمنة متطاولة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 209
(6/153)
{وَقَوْمَ نُوحٍ} منصوب بمضمر يدل عليه فدمرناهم ، أي ودمرنا قوم نوح.
{لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} أي نوحاً ومن قبله من الرسل كشيث وإدريس أو نوحاً وحده لأن تكذيبه تكذيب للكل لاتفاقهم على التوحيد والإسلام ويقال : إن نوحاً كان يدعو قومه إلى الإيمان به وبالرسل الذين بعده فلما كذبوه فقد كذبوا جميع الرسل كما ثبت أن كل نبي أخذ العهد من قومه أن يؤمنوا بخاتم النبيين إن أدركوا زمانه.
{أَغْرَقْنَـاهُمْ} بالطوفان.
والإغراق (غرقه كردن) والغرق الرسوب في الماء أي السفول وهو استئناف مبين لكيفية تدميرهم {وَجَعَلْنَـاهُمْ} أي : إغراقهم وقصتهم.
{لِلنَّاسِ ءَايَةً} عظيمة يعتبر بها كل من شاهدها أو سمعها.
وبالفارسية (نشاني وداستاني) وهو مفعول ثان لجعلنا وللناس ظرف لغوله.
{وَأَعْتَدْنَا} (وآماده كرديم) أي في الآخرة {لِلظَّـالِمِينَ} أي : لهم أي للمغرقين والإظهار في موقع الإضمار للتسجيل بظلمهم والإيذان بتجاوزهم الحد في الكفر والتكذيب {عَذَابًا أَلِيمًا} سوى ما حلّ
211
بهم من عذاب الدنيا ومعنى أليماً وجيعاً.
وبالفارسية : (دردناك).
{وَعَادًا} عطف على قوم نوح.
يعني : (هلاك كرديم قوم عادرا بتكذيب هود) {وَثَمُودُ} (وكروه ثمودرا بتكذيب صالح) {وَأَصْحَـابَ الرَّسِّ} الرس البئر وكل ركية لم تطو بالحجارة والآجر فهو رس كما قال في "الكشاف" : الرس البئر الغير المطوية أي المبنية انتهى.
وفي "القاموس" : كالصحاح المطوية بإسقاط غير.
وأصحاب الرس قوم يعبدون الأصنام بعث الله إليهم شعيباً عليه السلام فكذبوه فبينما هم حول الرس أي بئرهم الغير المبنية التي يشربون منها ويسقون مواشيهم إذ انهارت فخسف بهم وبديارهم ومواشيهم وأموالهم فهلكوا جميعاً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 211
وفي "القاموس" : الرس بئر كانت لبقية من ثمود كذبوا نبيهم ورسوه في بئر انتهى أي دسوه وأخفوه فيها فنسبوا إلى فعلهم بنبيهم فالرس مصدر ونبيهم هو حنظلة بن صفوان كان قبل موسى على ما ذكر ابن كثير وحين دسوه فيها غار ماؤها وعطشوا بعد ريهم ويبست أشجارهم وانقطعت ثمارهم بعد أن كان ماؤها يرويهم ويكفي أرضهم جميعاً وتبدلوا بعد الأنس الوحشة وبعد الاجتماع الفرقة لأنهم كانوا ممن يعبد الأصنام وقد كان ابتلاهم الله تعالى بطير عظيم ذي عنق طويل كان فيه من كل لون فكان ينقض على صبيانهم يخطفهم إذا أعوزه الصيد وكان إذا خطف أحداً منهم أغرب به إلى جهة الغرب فقيل له لطول عنقه ولذهابه إلى جهة المغرب : عنقاء مغرب (فروبرنده ونابديد كننده) فيوماً خطف ابنة مراهقة فشكوا ذلك إلى حنظلة النبي عليه السلام وشرطوا إن كفوا شره أن يؤمنوا به فدعا على تلك العنقاء فأرسل الله عليها صاعقة فأحرقتها ولم تعقب أو ذهب الله بها إلى بعض جزائر البحر المحيط تحت خط الاستواء وهي جريرة لا يصل إليها الناس وفيها حيوان كثير كالفيل والكركدن والسباع وجوارح الطير.
قال الكاشفي : (يغمبر دعا فرمودكه خدايا اين مرغ را بكير ونسل بريده كردان دعاي يغمبر بفراجابت رسيده وآن مرغ غائب شد وديكر ازوخبري واثري يدا نشد وجزنام ازو نشان نماند ودريزهاينا يافت بدو مثل زنند كما قيل :
منسوخ شدمروت ومعدوم شد وفا
وزهر دو نام ماند و عنقا وكيميا
(وصاحب لمعات از بي نشاني عشق برين وجه نشان ميدهد).
عشقم كه دردو كون مكانم بديدنيست
عنقاي مغربم كه نشانم بديدنيست
فالعنقاء المغرب بالضم وعنقاء مغرب ومغربة ومغرب بالإضافة طائر معروف الاسم لا الجسم أو طائر عظيم يبعد في طيرانه أو من الألفاظ الدالة على غير معنى كما في "القاموس".
ثم كان جزاؤه منهم أن قتلوه وفعلوا به ما تقدم من الرس.
يقال : وجد حنظلة في بئر بعد دهر طويل يده على شجته فرفعت يده فسال دمه فتركت يده فعادت على الشجة.
وقيل : أصحاب الرس قوم نساؤهم مساحقات ذكر أن الدلهاث ابنة إبليس أتتهن فشهت إلى النساء ذلك وعلمتهن فسلط الله عليهم صاعقة من أول الليل وخسفاً في آخره وصيحة مع الشمس فلم يبق منهم أحد وفي الخبر : "أن من أشراط الساعة أن تستكفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق" وفي الحديث المرفوع : "سحاق النساء زنى بينهن" وقيل : قوم كذبوا نبياً آتاهم فحبسوه في بئر ضيقة القعر ووضعوا
212
على رأس البئر صخرة عظيمة لا يقدر على حملها إلا جماعة من الناس وقد كان آمن به من الجميع عبد أسود وكان العبد يأتي الجبل فيحتطب ويحمل على ظهره ويبيع الحزمة ويشتري بثمنها طعاماً ثم يأتي البئر فيلقي إليه الطعام من خروق الصخرة وكان على ذلك سنين ثم أن الله تعالى أهلك القوم وأرسل ملكاً فرفع الحجر وأخرج النبي من البئر وقيل : بل الأسود عالج الصخرة فقواه الله لرفعها وألقى حبلاً إليه واستخرجه من البئر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 211
(6/154)
فأوحى الله إلى ذلك النبي أنه رفيقه في الجنة وفي الحديث : "إن أول الناس دخولاً الجنة لعبد أسود" يريد هذا العبد علي بن الحسين بن علي زين العابدين رضي الله عنهم.
(روايت كند از در خويش كفتا مردى آمد از بني تميم يش أمير المؤمنين علي رضي الله عنه كفت يا أمير المؤمنين خبر ده ماراً از أصحاب رس ازكدام قوم بودند ودركدام عصر وديار ومسكن ازايشان كجا بود ادشاه ايشان كه بود رب العزة يغمبر بايشان فرستاد يا نفرستاد وايشانرا ه هلاك كرد ما در قرآن ذكر ايشان ميخوانيم كه أصحاب الرس نه قصة بيان كرده نه أحوال ايشان كفته أمير المؤمنين على كفت يا أخا تميم سؤالي كردي كه يش ازتو هي كس اين سؤال ازمن نكرد وبعد ازمن قصة ايشان ازهي كس نشود ايشان قومي بودند در عصر بني إسرائيل يش از سليمان بن داود بدرخت صنوبر مي رستيدند آن درخت كه يافث بن نوح كشته بود برشفير شمة معروف وبيرون ازان شمه نهري بود روان وايشانرا دوازده اره شهر بود برشط آن نهر ونام آن نهررس بود ودر بلاد مشرق ودرروزكار هي نهر عظيم تر وبزركتر ازان نهر نبود ونه هي شهر آبادان تر ازان شهرهاي ايشان ومهينه از شهرهاي مدينة بود نام آن اسفند آباد وادشاه ايشان از ناد تمرود بن كعنان بود ودر آن مدينة مسكن داشت وآن درخت صنوبر درآن مدينة بود وايشان تخم آن درخت بردند بآن دوازده اره شهرتادرشهري درختي صنوبر برآمد وبباليد وأهل آن شهر آثراً معبود خود ساختند وآن شمه كه در زير صنوبر اصل بود هي كس را دستوري نبودكه ازآن آب بخورد يا بركرفتي كه ميكفتندكه "هي حياة آلهتنا فلا ينبغي لأحد أن ينقص من حياتها" س مردمان كه آب ميخوردند ازنهر رس ميخوردند ورسم وآيين ايشان بود درهر ما هي أهل آن شهرها كردآن درخت صنوبر خويش برآ مدن وآنرا بزيور وجامهاي الوان بياراستن وقربانها كردن وآتشي عظيم افروختن وآن قربانها برآن آتش نهادن تادخان وقتاران بالا كرفتي ندانكه در آن تاركي دود ديدهاي ايشان ازآسمان محجوب كشتي ايشان آن ساعت بسجود درافتادندي وتضرع وزاري فرادرخت مردندي تا ازميان آن درخت شيطان آواز دادي كه "إني قد رضيت عنكم فطيبوا نفساً وقروا عيناً" ون آواز شيطان بكوش ايشان رسيدي سر برداشتندي شادان وتازان ويك شبانروز درنشاط وطرب وخمر خوردن بسرآوردندي يعني كه معبودماً ازما راضي است بدين صفت روز كار درآن بسرآوردند تاكفر وشرك ايشان بغايت رسيد وتمرد وطغيان ايشان بالا كرفت رب العالمين بايشان يغمبري فرستاد از نبي إسرائيل از ناد
213
جزء : 6 رقم الصفحة : 211
يهواد بن يعقوب روزكاري درازايشانرا دعوت كرد ايشان نكرديدند وشرك وكفرراًبيفرزودندتا يغمبر در الله زاريد ودرايشان دعاي بدكرد كفت "يا رب إن عبادك أبوا إلا تكذيبي والكفر بك يعبدون شجرة لا تضر ولا تنفع فأرهم قدرتك وسلطانك" ون يغمبر اين دعا كرد درختهاي ايشان همه خشك كشت كفتند ابن همه ازشومي ابن مرداست كه دعوي يغبري ميكند وعيب خدايان ما ميجويد واورا بكرفتند ودراهي عظيم كردند آورده اند درقصه كه انبوبها ساختند فراخ وآنرا بعقر آب فرو بردند وآب ازان أنبوبها برميكشيدند تابخشك رسيدآنكه ازآنجا دراهي دور فرو بردند واورا درآن اه كردند وسنكي عظيم برسر آن اه استوار نهادند وأنبوبها ازقعر آب برداشتند كفتنداكنون دانيم كه خدايان ما ازما خشنود شوند كه عيب جوى ايشانرا هلاك كرديم يغمبر درآن وحشتكاه بالله ناليد وكفت "سيدي ومولاي قد ترى ضيق وشدة كربي فارحم ضعف ركني وقلة حيلتي وعجل قبض روحي ولا تؤخر إجابة دعوتي حتى مات عليه السلام فقال الله لجبريل : إن عبادي هؤلاء غرهم حلمي وأمنوا مكري وعبدوا غيري وقتلوا رسولي فأنا المنتقم ممن عصاني ولم يخش عقابي وإني حلفت لأجعلنهم عبرة ونكالاً للعالمين" س رب العالمين باد عاصف كرم بايشان فرو كشاد تاهمه بيكديكر شدند وفراهم يوستندآنكه زمين درزير ايشان ون سنك كبريت كشت واز بالا ابري سياه برآمد وآتش فرو باريد وايشان نانكه از زير در آتش فرو كد ازد فرو كدا ختند) ونعوذ بالله من غضبه ودرك نقمته.
كذا في "كشف الأسرار" للعالم الرباني الرشيد اليزدي {وَقُرُونَا} أي : ودمرنا أيضاً أهل أعصار جمع قرن وهم القوم المقترنون في زمن واحد.
وفي "القاموس" : الأصح أنه مائة سنة لقوله عليه السلام لغلام : "عش قرناً فعاش مائة سنة" {بَيْنَ ذَالِكَ} المذكور من الطوائف والأمم.
وبالفارسية : (ميان قوم نوح وعاد وميان عاد وثمود تا بأصحاب الرس) {كَثِيرًا} لا يعلم مقدارها إلا الله كقول : {لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ} (إبراهيم : 9) ولذلك قالوا كذب النسابون أي الذين ادعوا العلم بالأنساب وهو صفة لقوله قروناً والإفراد باعتبار معنى الجمع أو العدد كما في قوله تعالى : {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا} (النساء : 1).
(6/155)
{وَكُلا} منصوب بمضمر يدل عليه ما بعده أي ذكرنا وأنذرنا كل واحد من الأمم المذكورين المهلكين {ضَرَبْنَا لَهُ الامْثَـالَ} بينا له القصص العجيبة الزاجرة عما هم عليه من الكفر والمعاصي بواسطة الرسل {وَكُلا} أي كل واحد منهم بعد التكذيب والإصرار.
{تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} أهلكنا إهلاكاً عجيباً هائلاً فإن التبر بالفتح والكسر الإهلاك والتتبير التكسير والتقطيع.
جزء : 6 رقم الصفحة : 211
قال الزجاح : كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته ومنه التبر لمكسر الزجاج وفتات الذهب والفضة قبل أن يصاغا فإذا صيغا فهما ذهب وفضة.
{وَلَقَدْ أَتَوْا} أي وبالله لقد أتى قريش في متاجرهم إلى الشام ، ومروا {عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} يعني : سدوم بالدال المهملة وقيل : بالذال المعجمة أعظم قرى لوط أمطرت عليها الحجارة وأهلكت فإن أهلها كانوا يعملون العمل الخبيث وكان كل حجر منها قدر إنسان.
واعلم أن قرى قوم لوط خمس ما نجا منها إلا واحدة لأن أهلها كانوا لا يعملون العمل
214
الخبيث وسدوم من التي أهلكت وتخصيصها هِنا لكونها في ممر تجار قريش وكانوا حين مرورهم بها يرونها مؤتفكة ولا يعتبرون.
وانتصاب مطر على أنه مصدر مؤكد بحذف الزوائد كما قيل في أنبته الله نباتاً حسناً أي أمطار السوء ومطر مجهولاً في الخير وأمطر في الشر وقيل : هما لغتان والسوء بفتح السين وضمها كل ما يسوء الإنسان ويغمه من البلاء والآفة.
والمعنى بالفارسية : (وبركذشتند برآن شهركه باران بد باريد يعني بروسنك بارانيده شد) وفي الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم "رأى ليلة المعراج في السماء حجارة موضوعة فسأل عن ذلك جبريل فقال : هذه الحجارة فضلت من حجارة قوم لوط خبئت للظالمين من أمتك" أي : خفيت وأعدت وذلك أن من أشراط الساعة أن يمطر السماء بعض الحبوب كالقمح والذرة ونحوهما وقد شاهدناه في عصرنا وسيأتي زمان تمطر الحجارة ونحوها على الظالمين نعوذ بالله تعالى : {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} (آيا نمى ديدند آنرا سرنكون) أي في مرار مرورهم فيخافوا ويعتبروا ويؤمنوا {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} حقيقة الرجاء انتظار الخير وظن حصول ما فيه مسرة وليس النشور أي إحياء الميت خيراً مؤدياً إلى المسرة في حق الكافر فهو مجاز عن التوقع والتوقع يستعمل في الخير والشر فأمكن أن يتصور النسبة بين الكافر وتوقع النشور.
والمعنى بل كانوا كفرة لا يتوقعون نشوراً ، أي ينكرون النشور المستتبع للجزاء الأخروي ولا يرون لنفس من النفوس نشوراً أصلاً مع تحققه حتماً وشموله للناس عموماً واطراده وقوعاً فكيف يعترفون بالجزاء الدنيوي في حق طائفة خاصة مع عدم الاطراد والملازمة بينه وبين المعاصي حتى يتذكروا ويتعظوا بما شاهدوه من آثار الهلاك وإنما يحملونه على الاتفاقات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 211
واعلم أن النشور لا ينكره إلا الكفور وقد جعل الله الربيع في الدنيا شاهداً له ومشيراً لوقوعه وفي الخبر : "إذا رأيتم الربيع فاذكروا النشور" والربيع مثل يوم النشور لأن الربيع وقت إلقاء البذر ويكون الزارع قلبه معلقاً إلى ذلك الوقت أيخرج أم لا فكذلك المؤمن يجتهد في طاعته وقلبه يكون معلقاً بين الخوف والرجاء إلى يوم القيامة أيقبل الله تعالى منه أم لا ثم إذا خرج الزرع وأدرك يحصد ويداس ويذرى ثم يطحن ويعجن ويخبز وإذا خرج من التنور بلا احتراق يصلح للخوان ولو احترق ضاع عمله وبطل سعيه وكذلك العبد يصلي ويصوم ويزكي ويحج فإذا جاء ملك الموت وحصد روحه بمنجل الموت وجعلوه في القبر يكون فيه إلى يوم القيامة وإذا جاء يوم القيامة وخرج من قبره ووقع الحشر والنشور وأمر به إلى الصراط فإذا جاوز الصراط سالماً فقد صلح للرؤية وإلا فقد هلك فعلى العاقل أن يتفكر في المنشور ويتذكر عاقبة الأمور : وفي "المثنوي" :
فضل مردان برزن أي حالي رست
زان بودكه مرد ايان بين ترست
مردكاندر عاقبت بيني خمست
أو زاهل عاقبت اززن كمست
ازجهان دو بانك مي آيد بضد
تاكدامين را تو باشي مستعد
آن يكي بانكش نشور اتقيا
وين دكر بانكش فريب اشقيا
آن يكي بانك اين كه اينك حاضرم
بانك ديكر بنكر اندر آخرم
215
من شكوفه خارم أي فخر كبار
كل بريزم من نمايم شاخ خار
بانك اشكوفه اش كه اينك كل فروش
بانك خارش أوكه سوى ما مكوش
أي خنك آن كو زاول آن شنيد
كش عقول ومستمع مردان شنيد
جزء : 6 رقم الصفحة : 211
(6/156)
{وَإِذَا رَأَوْكَ} أي : أبصروك يا محمد يعني قريشاً.
{إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} إن نافية أي ما يتخذونك إلا موضع هزو أي يستهزئون بك قائلين بطريق الاستحقار وألتهكم.
{أَهَـاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا} أي : بعث الله إلينا رسولاً ليثبت الحجة علينا.
وبالفارسية (ايا اين كس آنست كه اورا برانكيخت خدا وفرستاد يغمبر) يعني لم يقتصروا على ترك الإيمان وإيراد الشبهات الباطلة بل زادوا عليه الاستخفاف والاستهزاء إذا رأوه وهو قول أبي جهل لأبي سفيان وهذا نبي بني عبد مناف.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن أهل الحس لا يرون النبوة والرسالة بالحس الظاهر لأنها تدرك بنظر البصيرة بنور الله وهم عميان بهذا البصر فلما سمعوا منه ما لم يهتدوا به من كلام النبوة والرسالة ما اتخذوه إلا هزؤاً وقالوا مستهزئين : أهذا الذي بعث الله رسولاً وهو بشر مثلنا محتاج إلى الطعام والشراب وفي "المثنوي" :
كارا كان را قياس ازخود مكير
كره ماند درنبشتن شير شير
جمله عالم زين سبب كمراه شد
كم كسى زابدال حق آماه شد
همسري يا انبيا بر داشتند
أوليا را همو خود نداشتند
كفته اينك ما بشر ايشان بشر
ما وايشان بستة خوابيم وخور
اين ندانستند ايشان ازعمي
هست فرق درميان بي منتهي
هردوكون زنبور خوردند ازمحل
ليك شدزين نيش وزان ديكر عسل
هردوكون آهوكيا خوردندو آب
زين يكي سركين شدوزان مشك ناب
هردوني خوردند ازيك آبخور
اين يكي خالي وأن راز شكر
{إِن كَادَ} إن مخففة من الثقيلة واللام.
{لَيُضِلُّنَا} هي الفارقة بينهما وضمير الشأن محذوف أي إنه كاد أي قارب محمد ليضلنا.
{عَنْ ءَالِهَتِنَا} أي ليصرفنا عن عبادتها صرفاً كلياً بحيث يبعدنا عنها.
وبالفارسية : (بدرستي نزديك بودكه أو بسخن دلفريب وبسياري جهد در دعوت واظهار دلائل برمد عاي خود كمراه كند وبازدارد مارا از رستش خدايان ما {لَوْلا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا} ثبتنا عليها واستمسكنا بعبادتها قال الله تعالى في جوابهم : {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} البتة وإن تراخى {حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} الذي يستوجبه كفرهم أي يرون في الآخرة عياناً ومن العذاب عذاب بدر أيضاً {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا} نسبوه عليه السلام إلى الضلال في ضمن الإضلال فإن أحداً لا يضل غيره إلا إذا كان ضالاً في نفسه فردهم الله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 216
واعلم أنه لا يهملهم وإن أمهلهم وصف السبيل بالضلال مجازاً والمراد سالكوها ومن أضل سبيلاً جملة استفهامية معلقة ليعلمون فهي سادة مسد مفعوليه.
{أَرَءَيْتَ} (آياديدي) {مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} كلمة أرأيت تستعمل تارة للإعلام وتارة للسؤال وههنا للتعجيب
216
من جهل من هذا وصفه وإلهه مفعولة ثان قدم على الأول للاعتناء به لأنه الذي يدور عليه أمر التعجب والهوى مصدر هويه إذا أحبه واشتهاه ثم سمي به المهوى المشتهى محموداً كان أو مذموماً ثم غلب على غير المحمود فقيل : فلان اتبع هواه إذا أريد ذمه فالهوى ما يميل إليه الطبع وتهواه النفس بمجرد الاشتهاء من غير سند منقول ودليل معقول.
والمعنى أرأيت يا محمد من جعل هواه إلهاً لنفسه بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه معرضاً عن استماع الحجة والبرهان بالكلية كأنه قيل : ألا تعجب ممن جعل هواه بمنزلة الإله في الالتزام طاعته وعدم مخالفته فانظر إليه وتعجب منه وهذا الاستفهام للتقرير والتعجيب (وكفته أند قومي بودند ازعرب كه سنك مي رستيدند هركاهكه ايشانرا سنكي نيكو بجشم آمدي ودل ايشان آن خواستي آثراً سجود بردندي وآنه داشتندي بيفكندندي حارث بن قيس ازايشان بود دركارواتي ميرفتند وآن داشتند ازشتر بيفتاد إواز در قافلة افتادكه سنك معبود ازشتر بيفتاد توقف كنيد تابجوييم ساعتي جستند ونيافتند كوينده ازايشان آواز دادكه) وجدت حجراً أحسن منه فسيروا وفي الحديث : "ما عبد إله أبغض على الله من الهوى" فكل من يعيش على ما يكون له فيه شرب نفساني ولو كان استعمال الشريعة بهذه الطبيعة ومطلبه فيه الحظوظ النفسانية لا الحقوق الربانية فهو عابد هواه كما في "التأويلات النجمية".
قال الكاشفي صاحب تأويلات فرمودهكه هركه بغير خداي يزي دوست دارد وبروبازماند واورا رسته درحقيقت هواي خودرا مي رستد زيرا كه هواي اورا برمجت غير خدا ميدارد سيد حسني رحمه الله در طرب المجالس أورده كه ون آدم صفي عليه السلام باحوا عقد بستند إبليس ودنيا بيكديكر يوستند وهمنانكه ازامتزاج آنان بايكديكر آدمي وجود كرفت ازوصلت اينان باهمه هوا مدد مي يابند رسوم وعادات مردوده ومذاهب واديان مختلفة همه ازتأثيرا وظهور مي يابد :
غباري كه خيزد ميان ره اوست
ه كويم كه هريوسفي راه اوست
(6/157)
قوت غلبة أوتاحديست كه "الهوى أول إله عبد في الأرض" درشان أو واردشده وزبان قرآن درحق اونين فرموده كه {أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} كويي كه أصل هواست وآلهة باطلة همه فرع اويند وازينجا كه مخالفت هوى سبب وصول بحقيقت ايمانست).
جزء : 6 رقم الصفحة : 216
سر زهوى نافتن ازسروريست
ترك هوى قوت يغمبريست
قال أبو سليمان رحمه الله : من أتبع نفسه هواها فقد سعى في قتلها لأن حياتها بالذكر وموتها وقتلها بالغفلة فإذا غفل اتبع الشهوات وإذا اتبع الشهوات صار في حكم الأموات.
وفي "المثنوي" :
اين جهان شهوتي يتخانة ايست
انبيا وكافرانرا لأنه ايست
ليك شهوت بندة ا كان بود
زرنسورد زانكه نقد كان بود
كافران قلبند واكان هموزر
اندرين يوته درند اين دونفر
قلب ون آمد سيه شد درزمان
زردر آمد شد زري أوعيان
217
(يكي را ازا كاير سمرقند كفتندكه اكرسي درخواب بيندكه حق سبحانه وتعالى مرده است تعبير آن يست وي كفت كه أكابر كفته اندكه اكركسي درخواب بيندكه يغمبر صلى الله عليه وسلّم مرده است تعبيرش آنست كه درشريعت اين صاحب واقعة قصوري وفتوري واقع شده است وآن مردن صورت شريعت است ابن نيز مثل آن زنكي دارده وبعضي كبار مي فرمودندكه ميتوان بودكه كسي حضور مع الله بوده باشد ناكاه آن حضور نماند تعبير آن مردن آن باشد.
ومولانا نور الدين عبد الرحمن جامي رحمه الله اين سخن را تأويل ديكر كرده بودند فرموده كه ميتواند بودكه بحكم آيت كريمة {أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} يكي ازهواها كه صاحب واقعة آنرا خداي خودكرفته بوده است.
ازدل وي رخت بندند ونابود شود آن مردن خداي عبارت ازنابودن اين هوابود س اين خواب دليل باشد برآنكه حضور اوزياده شود كذا في رشحات على الصفي بن الحسين الكاشفي) {أَفَأَنتَ تَكُونُ} (آيامي باشي تو) {عَلَيْهِ} (برآنكس كه هواي خودرا خدا ساخته) {وَكِيلا} حفيظاً تمنعه عن الشرك والمعاصي وحاله هذا أي الاتخاذ أي لست موكلاً على حفظه بل أنت منذر فهذا الاستفهام للإنكار وليس هذا نهياً عن دعائه إياهم بل الإعلام بأنه قد قضى ما عليه من الإنذار والأعذار.
وقال بعض المفسرين : هذه منسوخة بآية السيف.
جزء : 6 رقم الصفحة : 216
{أَمْ تَحْسَبُ} بل أتظن.
وبالفارسية : (بلكه كمان ميبري) {أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} ما يتلى عليهم من الآيات حق سماع.
{أَوْ يَعْقِلُونَ} ما في تضاعيفها من المواعظ الزاجرة عن القبائح الداعية إلى المحاسن فتهتم بشأنهم وتطمع في إيمانهم وتخصيص الأكثر لأنه كان منهم من آمن ومنهم من عقل الحق وكابر استدباراً وخوفاً على الرياسة.
قال ابن عطاء رحمه الله : لا تظن أنك تسمع نداءك إنما تسمعهم إن سمعوا نداء الأزل وإلا فإن نداءك لهم ودعوتك لا تغني عنهم شيئاً وإجابتهم دعوتك هو بركة جواب نداء الأزل ودعوته فمن غفل وأعرض فإنما هو لبعده عن محل الجواب في الأزل.
{إِنْ هُمْ} ما هم في عدم انتفاعهم بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات وانتفاء التدبر فيما يشاهدونه من الدلائل والمعجزات {إِلا كَالانْعَـامِ} إلا كالبهائم التي هي مثل في الغفلة وعلم في الضلالة.
وفي "التأويلات النجمية" : ليس لهم نهمة إلا في الأكل والشرب واستجلاب حظوظ النفس كالبهائم التي نهمتها الأكل والشرب.
{بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} من الأنعام لأنها تنقاد لمن يقودها وتميز من يحسن إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ولأنها لم تعتقد حقاً ولم تكتسب خيراً ولا شراً بخلاف هؤلاء ولأن جهالتها لا تضر بأحد وجهالة هؤلاء تؤدي إلى هيج الفتن وصد الناس عن الحق ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال فلا تقصير منها ولاذم وهؤلاء مقصرون مستحقون أعظم العقاب على تقصيرهم.
واعلم أن الله تعالى خلق الملائكة وعلى العقل جبلهم وخلق البهائم وركب فيها الشهوة وخلق الإنسان وركب فيه الأمرين أي العقل والشهوة فمن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم ولذا قال تعالى : {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا}
218
لأن الإنسان بقدمي العقل المغلوب والهوى الغالب ينقل إلى أسفل دركة لا تبلغ البهائم إليها بقدم الشهوة فقط ومن غلب عقله هواه أي شهوته فهو بمنزلة الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ومن كان غالباً على أمره فهو خير من الملائكة كما قال تعالى : {أولئك هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (البين : 7) كما قال في "المثنوي".
جزء : 6 رقم الصفحة : 218
در حديث آمد كه يزدان مجيد
خلق عالم را سه كونه آفريد
يك كروه را جمله عقل وعلم وجود
آن فرشته است أو نداند جزسجود
نيست اندر عنصرش حرص وهوا
نور مطلق زنده از عشق خدا
يك كروه ديكر از دانش تهي
همو حيوان ازعلف در فربهي
(6/158)
أو نبيند جزكه اصطبل وعلف
از شقاوت غافلست واز شرف
اين سوم هست آدمي زاد وبشر
از فرشته نميي ونميي ز خر
نيم خر مائل سفلي بود
نيم ديكر مائل علوي شود
آن دو وقسم آسوده ازجنك وخراب
وين بشر باد ومخالف در عذاب
واين بشرهم زامتحان قسمت شدند
آدمي شكلند وسه امت شدند
يك كروه مستغرق مطلق شدست
همجو عيسى باملك ملحق شدست
نقش آدم ليك معنى جبرئيل
رسته ازخشتم وهوا وقال وقيل
قسم ديكر باخران ملحق شدند
خشم محض وشهوت مطلق شدند
وصف جبريلي درايشان بود رفت
تنك بود آن خانه وآن وصف رفت
نام "كالأنعام" كردآن قوم را
زانكه نسبت كو بيقظه نوم را
روح حيواني ندارد غير نوم
حسهاي منعكس دارند قوم
ماند يك قسمي دكر اندر جهاد
نيم حيوان نيم حي بارشاد
روزوشب درجنك واندر كشمكش
كرده جاليش آخرش با أولش
فعلى العاقل الاحتراز عن الأفعال الحيوانية فإنها سبب لزوال الجاه الصوري والمعنوي.
سئل بعض البرامكة عن سبب زوال دولتهم قال : نوم الغدوات وشرب العشيات.
وقيل لي وأنا مراقب بعد صلاة الفجر : من لم يترك النوم أي من لم يترك الراحة الظاهرة مطلقاً ومال كالحيوان إلى الدعة والحضور لم يتخلص من الغفلة فمدار الخلاص هو ترك الراحة والعمل بسبيل مخالفة النفس والطبيعة.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم والهمزة للتقرير والرؤية رؤية العين.
والمعنى : ألم تنظر إلى بديع صنعة تعالى فإن المنظور يجب أن يكون مما يصح أن يتعلق به رؤية العين {كَيْفَ} منصوبة بقوله : {مَدَّ الظِّلَّ} أصل المد الجزء من المدة للوقت الممتد والظل ما يحصل بالذات كالشمس أو بالغير كالقمر.
قال في "المفردات" : الظل ضد الضح وهو بالكسر الشمس وضوءها كما في "القاموس" وهو أعم من الفيء فإنه يقال : ظل الليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لا تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس يعني أن الشمس تنسخ وتزيله شيئاً فشيئاً إلى الزوال ثم ينسخ الظل ضوء
219
الشمس ويزيله من وقت الزوال إلى الغروب فالظل الآخذ في التزايد الناسخ لضوء الشمس يسمى فيئاً لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب فهو من الزوال إلى الغروب والظل إلى الزوال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 218
والمعنى كيف أنشأ الظل أي ظل كان من جبل أو بناء أو شجر عند ابتداء طلوع الشمس ممتداً وهو بيان لكمال قدرته وحكمته بنسبة جميع الأمور الحادثة إليه بالذات وإسقاط الأسباب العادية عن رتبة السببية والتأثير بالكلية وقصرها على مجردة الدلالة على وجود المسببات.
{وَلَوْ شَآءَ} ربك سكون ذلك الظل.
{لَجَعَلَه سَاكِنًا} أي ثابتاً على حاله من الطول والامتداد ومقيماً : وبالفارسية (ثابت وآرام يا فته بريك منوال) يقال : فلان يسكن بلد كذا إذا أقام به واستوطن والجملة اعتراضية بين المعطوفين للتنبيه من أول الأمر على أنه لا مدخل فيما ذكر من المد للأسباب العادية وإنما المؤثر فيه المشيئة والقدرة.
{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا} عطف على مدّ داخل في حكمه ولم يقل دالة المراد ضوء الشمس والمعنى جعلناها علامة يستدل بأحوالها المتغيرة على أحواله من غير أن يكون بينهما سببية وتأثير قطعاً حسبما نطقت به الشرطية المعترضة والالتفات إلى نون العظمة لما في جعل المذكور العاري عن التأثير مع ما يشاهد بين الشمس والظل من الدوران المطرد المنبىء عن السببية من مزيدة دلالة على عظم القدرة ودقة الحكمة وهو السر في إيراد كلمة التراخي.
{ثُمَّ قَبَضْنَـاهُ} عطف على مدّ داخل في حكمه وثم للتراخي الزماني أي أزلناه بعدما أنشأناه ممتدّاً ومحوناه بمحض قدرتنا ومشيئتنا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه من غير أن يكون له تأثير في ذلك أصلاً وإنما عبر عنه بالقبض المنبىء عن جميع المنبسط وطيه لما أنه قد عبر عن إحداثه بالمد الذي هو البسط طولاً {إِلَيْنَا} تنصيص على كون مرجعه إلى الله تعالى كما أن حدوثه عنه عز وجل.
{قَبْضًا يَسِيرًا} أي على مهل قليلاً حسب ارتفاع دليله أي الشمس.
يعني أنه كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل في جانب المغرب فلو قبضه الله تعالى دفعة لتعطلت منافع الظل والشمس قبضه يسيراً يسيراً لتبقى منافعهما والمصالح المتعلقة بهما هذا ما ارتضاه المولى أبو السعود في "تفسيره".
جزء : 6 رقم الصفحة : 218
(6/159)
وقال غيره : {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (الفرقان : 45) أي : بسطه فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لأنه لا شمس معه وهو أطيب الأزمنة لأن الظلمة الخالصة سبب لنفرة الطبع وانقباض نور البصر وشعاع الشمس مسخن للجو ومفرق لنور الباصرة وليس فيما بين طلوعيهما شيء من هذين ولذلك قال تعالى في وصف الجنة : {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} (الواقعة : 30) ويقال تلك الساعة تشبه ساعات الجنة إلا أن الجنة أنور فالظل هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَه سَاكِنًا} دائماً لا شمس معه أبداً من السكنى وهو الاستقرار ولا تنسخه الشمس بأن لا يتحرك حركة انقباض ولا انبساط بأن جعل الشمس مقيمة على موضع واحد فهو من السكون الذي هو عدم الحركة.
{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا} لأنه لولا الشمس لما عرف الظل كما أنه لولا النور لما عرف الظلمة والأشياء بأضدادها وهذا المعنى يؤيده تعميم الظل كما سبق من "المفردات" لكن لم يرض به أبو السعود رحمه الله لأن ما ذكر من معنى الظل في هذا الوجه وإن كان في الحقيقة ظلاً للأفق الشرقي لكنه غير معهود والمتعارف أنه حالة مخصوصة يشاهدونها
220
في موضع يحول بينه وبين الشمس جسم كثيف (درعين المعاني آورده كه مد ظل أشارت بزمان فترتست كه مردم درحيرت بودند وشمس بنور اسلام كه طلوع سيدانام عليه الصلاة والسلام ازافق اكرام طالع كشت واكر آن سايه دائم بودي خلق درتاريكي غفلت مانده بروشني آكاهي نرسيدي.
كرنه خورشيد جمال ياركشتي رهمنون
ازشب تاريك غفلت كس نبردي ره برون
(صاحب كشف الأسرار كويد اين آيت ازروي ظاهر معجزة مصطفى عليه السلام وبفهم أهل حقيقيت اشارتست بقرب وكرامت وي أما بيان معجزة آنست كه حضرت رسالت عليه السلام درسفرى بوقت قيلوله درزير درختي فرودآمد ياران بسيار بودند وساية درخت اندك حق سبحانه وتعالى بقدرت كامله ساية آن درخت ممدود كردانيد نانه همه لشكر اسلام درآن ساية بياسودند واين آيت نازل شد ونشان خصوصيت قربت آنكه فرمود {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} موسى عليه السلام را بوقت طلب {أَرِنِى} (الأعراف : 143) داغ {لَن تَرَانِى} (الأعراف : 143) بردل نهاد واين حضرت رابي طلب فرمودكه نه مرا بيني ودر من مي نكري دي كره خواهي) :
جزء : 6 رقم الصفحة : 218
فرقست ميان آنكه يارش در بر
با آنكه دوشم انتظارش بر در
وفي "المثنوي" :
مرغ بربالا ران وسايه اش
مي دود برخاك وران مرغ وش
ابلهي صياد آن سايه شود
مي دود ند آنكه بي مايه شود
بي خبر كان عكس آن مرغ هواست
بي خبر كه أصل آن سايه كجاست
تير اندازد بسوى سايه أو
تركشش خالي شود ازجست وجو
تركش عمرش تهي شد عمررفت
از دويدن درشكار ساية تفت
ساية يزدان و باشد دايه اش
وارهاند از خيال وساية اش
ساية بيزدان بود بنده خدا
نرده اين عالم وزنده خدا
دامن أو كير زو تر بي كمان
تا رهى در رامن آخر زمان
"كيف مد الظل" نقش أولياست
كاز دليل نور خورشيد خداست
اندراين وادي مرو بي اين دليل
"لا أحب الآفلين" كوون خليل
رو زساية آفتابي را بياب
دامن شه شمس تبريزي بتاب
قال في "المصطلحات" : الظل هو الوجود الإضافي الظاهر بتعينات الأعيان الممكنة وأحكامها التي هي معدومات ظهرت باسمه النور الذي هو الوجود الخارجي المنسوب إليها فيستر ظلمة عدميتها النور الظاهر بصورها صار ظلاً لظهور الظل بالنور وعدميته في نفسه قال الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أي : بسط الوجود الإضافي على الممكنات فالظمة بإزاء هذا النور هو العدم وكل ظلمة فهي عبارة عن عدم النور عما من شأنه أن يتنور به قال الله تعالى : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} الآية (البقرة : 257) والكامل المتحقق بالحضرة الواحدية والسلطان ظل الله أي ظل الحقيقة الإلهية الجامعة وهي سر الإنسان الكامل الذي صورته السلطان أعظم الظاهر
221
أي في الجامعية والإحاطة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 218
{وَهُوَ} أي الله تعالى وحده {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ} كاللباس يستركم بظلامه كما يستر اللباس فشبه ظلامه باللباس في الستر وأصل اللبس ستر الشيء وجعل اللباس وهو ما يلبس اسماً لكل ما يغطي الإنسان من قبيح وجعل الزوج لزوجها لباساً في قوله : {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} (البقرة : 187) من حيث أنه يمنعها عن تعاطي قبيح وجعل التقوى لباساً في قوله : {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} (الأعراف : 26) على طريق التمثيل والتشبيه.
فإن قلت : إذا كان ظلمة الليل لباساً فلا حاجة إلى ستر العورة في صلاة الليل.
(6/160)
قلت : لا اعتبار لستر الظلمة فإن ستر العورة باللباس ونحوه لحق الصلاة وهو باق في الظلمة والضوء.
{وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} النوم استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد والسبت قطع العمل ويوم سبتهم يوم قطعهم للعمل وسمي يوم السبت لذلك ، أو لانقطاع الأيام عنده لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السموات والأرض يوم الأحد ، فخلقها في ستة أيام فقطع عمله يوم السبت كما في "المفردات".
والمعنى وجعل النوم الذي يقع في الليل غالباً راحة للأبدان بقطع المشاغل والأعمال المختصة بحال اليقظة أو جعله موتاً فعبر عن القطع بالسبات الذي هو الموت لما بينهما من المشابهة التامة في انقطاع الحياة وعليه قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُم بِالَّيْلِ} (الأنعام : 60) فالموت والنوم من جنس واحد خلا أن الموت هو الانقطاع الكلي أي انقطاع ضوء الروح عن ظاهر البدن وباطنه والنوم هو الانقطاع الناقص أي انقطاع ضوء الروح عن ظاهره دون باطنه والمسبوت الميت لانقطاع الحياة عنه والمريض المغشى عليه لزوال عقله وتمييزه وعليه قولهم : مثل المبطون والمفلوج والمسبوت ينبغي أن لا يبادر إلى دفنهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم.
{وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} النهار الوقت الذي ينتشر فيه الضوء وهو في الشرع ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس وفي الأصل ما بين طلوع الشمس إلى غروبها والنشور إما من الانتشار أي وجعل النهار ذا نشور أي انتشار ينتشر فيه الناس لطلب المعاش وابتغاء الرزق كما قال : {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِهِ} (القصص : 73) أو من نشر الميت إذا عاد حياً أي وجعل النهار زمام بعث من ذلك السبات والنوم كبعث الموتى على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي نفس البعث على الطريق المبالغة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 222
وفيه إشارة إلى أن النوم واليقظة انموذج للموت والنشور.
وعن لقمان عليه السلام : يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر وفي "المثنوي".
نوم ما ون شد اخ الموت أي فلان
زين برادر آن برادرا بدان
وفي الآية رخصة للمنام بقدر دفع الضرورة وهو فتور البدن.
قال بعض الكبار : النوم راحة للبدن والمجاهدات إتعاب البدن فيتضادان وحقيقة النوم سد حواس الظاهر لفتح حواس القلب والحكمة في النوم أن الروح القدسي أو اللطيفة الربانية أو النفس الناطقة غريبة جداً في هذا الجسم السفلي مشغولة بإصلاحه وجلب منافعه ودفع مضاره محبوسة فيه ما دام المرء يقظان فإذا نام ذهب إلى مكانه الأصلي ومعدنه الذاتي فيستريح بواسطة لقاء الأوراح ومعرفة المعاني والغيوب مما يتلقى في حين دهابه إلى عالم الملكوت من المعاني التي يراها بالأمثلة في عالم الشهادة وهو السر في تعبير الرؤيا فإذا هجر المجاهد النوم والاستراحة ذابت
222
عليه أجزاء الأركان الأربعة من الترابية والمائية والنارية والهوائية فيعرى القلب حينئذٍ عن الحجب فينظر إلى عالم الملكوت بعين قلبه فيشتاق إلى ربه وربما يرى المقصود في نومه كما حكي عن شاه شجاع أنه لم ينم ثلاثين سنة فاتفق أنه نام ليلة فرأى الحق سبحانه في منامه ثم بعد ذلك كان يأخذ الوسادة معه ويضطجع حيث كان فسئل عن ذلك فأنشأ يقول :
رأيت سرور قلبي في منامي
فأحببت التنعس والمناما
فهذا حال أهل النهاية فإنهم حيث كانت بصيرتهم يقظانة كان منامهم في حكم اليقظة ولذا قال بعضهم :
مشو بمرك زامداد أهل دل نوميد
كه خواب مردم آكاه عين بيداريست
وأما حال غيرهم فكما قيل :
سر آنكه ببالين نهد هو شمند
كه خوابش بقهر آورد در كمند
وعن ذي النون المصري رحمه الله : ثلاثة من أعلام العبادة حب الليل للسهر في الطاعة والخلوة بالصلاة وكراهة النهار لرؤية الناس والغفلة لرؤية الناس والغفلة عن الصلاة والمبادرة بالأعمال مخافة الفتنة.
قال بعضهم : جعل الليل وقتاً لسكون قوم ووقتاً لانزعاج آخرين فأرباب الغفلة يسكنون في ليلهم والمحبون يسهرون فإن كانوا في روح الوصال فلا يأخذهم النوم لكمال أنسهم وإن كانوا في ألم الفراق فلا يأخذهم النوم لكمال قلقهم فالسهر للأحباب صفة إما لكمال السرور أو لهجوم الغموم ثم الأدب عند الانتباه أن يذهب بباطنه إلى الله تعالى ويصرف فكره إلى أمر الله قبل أن يجول الفكر في شيء سوى الله ويشغل اللسان بالذكر فالصادق كالطفل الكلف بالشيء إذا نام ينام على محبة الشيء وإذا انتبه يطلب ذلك الذي كان كلفاً به وعلى هذا الكلف والشغل يكون الموت والقيام إلى الحشر فلينظر وليعتبر عند انتباهه من النوم ما همه فإنه يكون هكذا عند القيام من القبر إن كان همه الله وإلا فهمه غير الله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 222
(6/161)
وفي الخبر : "إذا نام العبد عقد الشيطان على رأسه ثلاث عقد فإن قعد وذكر الله تعالى انحلت عقدة فإن توضأ انحلت أخرى وإن صلى ركعتين انحلت كلها فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح كسلان خبيث النفس" وفي خبر آخر : "إن نام حتى يصبح بال الشيطان في أذنه" والعياذ بالله من شر النفس والشيطان.
{وَهُوَ} تعالى وحده {الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ} (كشاد بادها درهوا قال في "كشف الأسرار" إرسال اينجا بمعنى كشادن است ناجه كويي) أرسلت الطائر وأرسلت الكلب المعلم انتهى.
وفي "المفردات" : قد يكون الإرسال للتسخير كإرسال الريح والريح معروفة وهي فيما قيل الهواء المتحرك وقيل في الرحمة : رياح بلفظ الجمع لأنها تجمع الجنوب والشمال والصبا وقيل في العذاب : ريح لأنها واحدة وهي الدبور وهو عقيم لا يلقح ولذا ورد في الحديث : "اللهم اجعلها لنا رياحاً ولا تجعلها ريحاً" {بَشَرًا} حال من الرياح تخفيف بشر بضمتين جمع بشورا وبشير بمعنى مبشر لأن الرياح تبشر بالمطر كما قال تعالى : {وَمِنْ ءَايَـاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} (الروم : 46) بالفارسية (بشارت دهندكان) {بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} أي : قدام المطر على سبيل الاستعارة وذلك لأنه ريح ثم سحاب ثم مطر.
وبالفارسية (يش ازنزول رحمت كه اوبارانست يعني وزيدن ايشان غالباً دلالت ميكند بروقوع مطر داراوان آن باران آسمانرا رحمن نام كرد ازانكه برحمت ميفرستد) {وَأَنزَلْنَا} بعظمتنا والالتفات إلى
223
نون العظمة لإبراز كمال العناية بالإنزال لأنه نتيجة إرسال الرياح {مِنَ السَّمَآءِ} من جهة الفوق وقد سبق تحقيقه مراراً {مَآءً طَهُورًا} بليغاً في الطهارة وهو الذي يكون طاهراً في نفسه ومطهراً لغيره من الحدث والنجاسة.
وبالفارسية (آبي اك واك كننده).
والطهور يجيء صفة كما في ماء طهوراً واسماً كما في قوله عليه السلام : "التراب طهور المؤمن" وبمعنى الطهارة كما في تطهرت طهوراً حسناً أي وضوءاً حسناً ومنه قوله عليه السلام : "لا صلاة إلا بالطهور".
قال في "فتح الرحمن" : الطهور هو الباقي على أصل خلقته من ماء المطر والبحر والعيون والآبار على أي صفة كان من عذوبة وملوحة وحرارة وبرودة وغيرها وما تغير بمكثه أو بطاهر لا يمكن صونه عنه كالتراب والطحلب وورق الشجر ونحوها فهو طاهر في نفسه مطهر لغيره يرفع الأحداث ويزيل الأنجاس بالاتفاق قال : تغير عن أصل خلقته بطاهر يغلب على أجزائه ما يستغني عنه الماء غالباً لم يجز التطهير به عند الثلاثة وجوز أبو حنيفة رحمه الله الوضوء بالماء المتغير بالزعفران ونحوه من الطاهرات ما لم تزل رقته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 222
وقال أيضاً : يجوز إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة كالخل وماء الورد ونحوهما وخالفه الثلاثة ومحمد بن الحسن وزفر كما فصل في الفقه ثم في توصيف الماء بالطهور مع أن وصف الطهارة لا دخل له في ترتيب الأحياء والسقي على إنزال الماء إشعار بالنعمة فيه لأن وصف الطهارة نعمة زائدة على إنزال ذات الماء وتتميم للمنة المستفادة من قوله لنحيي به ونسقيه فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها كانت بواطنهم بذلك أولى لأن باطن الشيء أولى بالحفظ عن التلوث من ظاهره وذلك لأن منظر الحق هو باطن الإنسان لا ظاهره والتطهير مطلقاً سبب لتوسع الرزق كما قال عليه السلام : "دم الطهارة يوسع عليك الرزق" والماء الذي هو سبب الرزق الصوري طاهر مطهر فينبغي لطالبه أن يكون دائماً على الطهارة الظاهرة فإنها الجالبة له وأما الطهارة الباطنة فجالبة للرزق المعنوي وهو ما يكون غذاء للروح من العلو والفيوض.
{لِّنُحْـاِىَ بِهِ} أي : بما أنزلنا من السماء من الماء الطهور وهو تعليل للإنزال {بَلْدَةً مَّيْتًا} لا أشجار فيها ولا أثمار ولا مرعى وإحياؤها بإنبات النبات والمراد القطعة من الأرض عامرة كانت أو غيرها.
وبالفارسية (شهرى مرده يعني موضعي كه درخشك سال بوده يا مكاني راكه در زمستان خشك وافسرده كشت).
والتذكير حيث لم يقل بلدة ميتة لأنه بمعنى البلد أو الموضع والمكان ولأنه غير جار على الفعل بأن يكون على صيغة اسم الفاعل أو المفعول فأجري مجرى الجامد.
{وَنُسْقِيَهُ} أي ذلك الماء الطهور عند جريانه في الأودية أي اجتماعه في الحياض أو المنابع والآبار.
وبالفارسية : (وبياشامانيم أن اب) وسقى وأسقى لغتان بمعنى يقال : سقاه الله الغيث وأسقى والاسم السقيا.
قال الإمام الراغب : السقي والسقيا أن تعطيه ماء ليشربه والإسقاء أن تجعل له ذلك حتى يتناوله كيف يشاء والإسقاء أبلغ من السقي لأن الإسقاء هو أن تجعل له ماء يستقي منه ويشرب كقوله : أسقيته نهراً.
(6/162)
فالمعنى مكناهم من أن يشربوه ويسقوا منه أنعامهم {مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَـامًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا} متعلق بقوله : نسقيه أي نسقي ذلك الماء بعض خلقنا من الأنعام والأناسي وانتصابها على البدل من محل الجار والمجرور في قوله مما خلقنا.
224
ويجوز أن يكون أنعاماً وأناسي مفعول نسقيه.
ومما خلقنا متعلق بمحذوف على أنه حال من أنعاماً والأنعام جمع نعم وهي المال الراعية وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 222
وقال في "المغرب" : الأنعام الأزواج الثمانية في قوله : {وَمِنَ الابِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} (الأنعام : 144) {مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} (الأنعام : 143) وأناسي جمع إنسان عند سيبويه على أن أصله أناسين فأبدلت النون ياء وأدغم فيها الياء التي قبلها.
وقال الفراء والمبرد والزجاج : إنه جمع أنسي وفيه نظر لأن فعالى إنما يكون جمعاً لما فيه ياء مشددة لا تدل على نسب نحو كراسي في جمع كرسي فلو أريد بكرسي النسب لم يجز جمعه على كراسيّ ويبعد أن يقال أن الياء في أنسي ليست للنسب وكان حقه أن يجمع على أناسية نحو مهالية في جمع المهلى كذا في "حواشي ابن الشيخ".
وقال الراغب : الأنسي منسوب إلى الأنس يقال ذلك لمن كثر أنسه ولكل ما يؤنس به وجمع الأنسيّ أناسي وقال في الكرسي أنه في الأصل منسوب إلى الكرس أي التلبد ومنه الكراسة للمتلبد من الأوراق انتهى.
قوله كثيراً صفة أناسي لأنه بمعنى بشر والمراد بهم أهل البوادي الذين يعيشون بالمطر ولذا نكر الأنعام والأناسي.
يعني أن التنكير للأفراد النوعي وتخصيصهم بالذكر لأن أهل المدن والقرى يقيمون بقرب الأنهار والمنابع فلا يحتاجون إلى سقيا السماء وسائر الحيوانات من الوحوش والطيور تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب غالباً يقال : أعوزه الشيء إذا احتاج إليه فلم يقدر عليه وخص الأنعام بالذكر لأنها قنية للإنسان أي يقتنيها ويتخذها لنفسه لا للتجارة وعامة منافعهم ومعايشهم منوطة بها فلذا قدم سقيها على سقيهم كما قدم على الأنعام إحياء الأرض فإنه سبب لحياتها وتعيشها فانظر كيف رتب ذكر ما هو رزق الإنسان ورزق رزقه فإن الأنعام رزق الإنسان والنبات رزق الأنعام والمطر رزق النبات فقدم ذكر المطر ورتب عليه ذكر حياة الأرض بالنبات ورتب عليه ذكر الأنعام.
جزء : 6 رقم الصفحة : 222
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَـاهُ} أي : وبالله لقد كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر لما مر من الغايات الجليلة في القرآن وغيره من الكتب السماوية {بَيْنَهُمْ} أي : بين الناس من المتقدمين والمتأخرين.
{لِيَذَّكَّرُوا} أي : ليتفكروا ويعرفوا كمال القدرة وحق النعمة في ذلك ويقوموا بشكره حق القيام وأصله يتذكروا والتذكر التفكر {فَأَبَى} الإباء شدة الامتناع ورجل أبي ممتنع من تحمل الضيم وهو متأول بالنفي ولذا صح الاستثناء ، أي لم يفعل أو لم يرد أو لم يرض.
{أَكْثَرُ النَّاسِ} ممن سلف وخلف {إِلا كُفُورًا} إلا كفران النعمة وقلة المبالاة بشأنها فإن حقها أن يتفكر فيها ويستدل بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها وأعظم الكفر جحود الوحدانية أو النبوة أو الشريعة والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالاً والكفر في الدين أكثر والكفور فيهما جميعاً كما في "المفردات" وأكثر أهل التفسير على أن ضمير صرفناه راجع إلى نفس الماء الطهور الذي هو المطر.
فالمعنى {وَلَقَدْ صَرَّفْنَـاهُ} أي فرقنا المطر بينهم بإنزاله في بعض البلاد والأمكنة دون غيرها أو في بعض الأوقات دون بعض أو على صفة دون أخرى بجعله تارة وابلاً وهو المطر الشديد وأخرى طلاً وهو المطر الضعيف ومرة ديمة وهو المطر الذي يدوم أياماً فأبى أكثر الناس إلا جحوداً للنعمة وكفراً
225
(6/163)
بالله تعالى بأن يقولوا : مطرنا بنوء كذا أي بسقوط كوكب كذا كما يقول المنجمون فجعلهم الله بذلك كافرين حيث لم يذكروا صنع الله تعالى ورحمته بل أسندوا مثل هذه النعمة إلى الأفلاك والكواكب فمن لا يرى الأمطار إلا من الأنواء فهو كافر بالله بخلاف من يرى أن الكل بخلق الله تعالى والأنواء أمارات بجعل الله تعالى والأنواء النجوم التي يسقط واحد منها في جانب المغرب وقت طلوع الفجر ويطلع رقيبه في جانب المشرق من ساعته والعرب كانت تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها وقيل إلى الطالع منها لأنه في سلطانه يقال : ناء به الحمل أثقله وأماله فالنوء نجم مال للغروب ويقال لمن طلب حاجة فلم ينجح أخطأ نوءك وفي الحديث : "ثلاث من أمر الجاهلية الطعن في الأنساب والنياحة والأنواء" وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلّم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال : "هل تدرون ماذا قال ربكم"؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : "قال أصبح عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال : مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب" كذا في "كشف الأسرار".
فعلى المؤمن أن يحترز من سوء الاعتقاد ويرى التأثير في كل شيء من رب العباد فالمطر بأمره نازل وفي إنزاله إلى بلد دون بلد وفي وقت دون وقت وعلى صفة دون صفة حكمة ومصلحة وغاية جليلة.
روي : أن الملائكة يعرفون عدد القطر ومقداره في كل عام لأنه لا يختلف ولكن تختلف فيه البلاد.
روي : مرفوعاً : "ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا السماء المطر فيها يصرفه الله حيث يشاء" وفي الحديث : "ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوّل الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار" وفي "المثنوي".
جزء : 6 رقم الصفحة : 222
تو بزن يا ربنا آب طهور
تا شود اين نار عالم جمله نور
آب دريا جمله در فرمان تست
آب وآتش أي خداوندان تست
كرتوخواهى آتش آب خوش شود
ورنخواهى آب آتش هم شود
اين طلب ازما هم ازايجادتست
رستن از بيداد يا رب دادتست
بي طلب تو اين طلب مان دادة
كنج احسان برهمه بكشادة
{وَلَوْ شِئْنَا} أردنا {لَبَعَثْنَا} (برانكيختيم وفرستاديم).
قال الراغب : البعث إثارة الشيء وتوجيهه {فِى كُلِّ قَرْيَةٍ} مصر ومدينة وبالفارسية : (درهر ديهى ومجتمعي) فإن القرية اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس {نَذِيرًا} بمعنى المنذر والإنذار إخبار فيه تخويف أي نبياً ينذر أهلها فيخفف عليك أعباء النبوة ولكن بعثناك إلى القرى كلها رسولاً وقصرنا الأمر عليك إجلالاً لشأنك وإعظاماً لأجرك وتفضيلاً لك على سائر الرسل.
وبالفارسية : (أما بجهت تعظيم وعلو مكان تو نبوت را برتو ختم كرديم وترا بر كافة مردمان تا بروز قيامت مبعوث ياختيم).
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى كمال القدرة والحكمة وعزة النبي عليه السلام وتأديب الخواص.
أما القدرة فأظهر أنه قادر على ما يشاء وليس الأمر كما زعم الفلاسفة
226
والطبايعية أن ظهور أرباب النبوة يتعلق بالقرانات والاتصالات فحسب بل يتعلق بالقدرة كيف يشاء وما يشاء.
والذي يدل على بطلان أقاويلهم وصحة ما قلنا ما روي أن موسى عليه السلام تبرّم وقتاً بكثرة ما كان يسأل فأوحى الله في ليلة واحدة إلى ألف نبي من بني إسرائيل فأصبحوا رسلاً وتفرق الناس عن موسى عليه السلام فضاق قلب موسى وقال : يا رب إني لم أطق ذلك فقبض الله أرواحهم في ذلك اليوم.
وأما الحكمة فقد اقتضت قلة الأنبياء في زمان واحد إظهاراً لعزتهم فإن في الكثرة نوعاً من الإزراء وأيضاً فيها احتمال غيرة البعض على البعض كما غار موسى على تلك الأنبياء فأماتهم الله تعالى عزة لموسى عليه السلام.
وأما عزة النبي عليه السلام فبانفراده في النبوة في زمانه واختصاصه بالفضيلة على الكافة وإرساله إلى الجملة ونسخ الشرائع بشريعته وختم النبوة به وحفظ كتابه عن النسخ والتغيير والتحريف وإقامة ملته إلى قيام الساعة.
وأما تأديب الخواص فبقوله : {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا} إذ نوع تأديب للنبي عليه السلام بأدق إشارة كما قال : {وَلَـاـاِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} (الإسراء : 86) فالقصد أن يتأدب به خواص عباده وأن يكونوا معصومين من رؤية الأعمال والعجب بها انتهى.
يعني (مقصود آنست كه رب العزة ميخواهد تادوستان وخواص بندكان خود يوسته معصوم دارد از آنكه ايشانرا باخود التفاتي بود يا باروش خويش نظري كنند).
جزء : 6 رقم الصفحة : 222
(6/164)
{فَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ} فيما ندبوك إليه من عبادة الآلهة واتباع دين الآباء وأغلظ عليهم ولا تداهنهم وأثبت على الدعوة وإظهار الحق {وَجَـاهِدْهُم} (وجهاد كن با ايشان وباز كوش) والجهاد والمجاهدة استغراق الوسع في مدافعة العدو {بِهِ} أي بالقرآن بتلاوة ما في تضاعيفه من المواعظ وتذكير أحوال الأمم المكذبة {جِهَادًا كَبِيرًا} عظيماً تاماً شديداً لا يخالطه فتور فإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف وإنما لم يحمل المجاهدة على القتال بالسيف لأنه إنما ورد الإذن بعد الهجرة بزمان والسورة مكية.
قال الإمام الراغب : المجاهدة تكون باللسان واليد وفي الحديث : "جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم" وفي حديث آخر : "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" قوله : وألسنتكم أي أسمعوهم ما يكرهونه ويشق عليهم سماعه من هجو وكلام غليظ ونحو ذلك كما في "مشارع الأشواق".
يقول الفقير : ويجوز أن يكون الجهاد بالألسنة بترك المداهنة في حقهم وإغراء الناس على دفع فسادهم كما أن الجهاد بالأموال بالدفع إلى من يحاربهم ويستأصلهم.
ثم الإشارة بلفظ المشركين إلى أهل الرياء والبدع فإشارة الخطاب في جاهدوا أيضاً إلى أصحاب الإخلاص والسنة فإنه لا بد لأهل الحق من جهاد أهل البطلان في كل زمان خصوصاً عند غلبة الخوف فإنه أفضل الجهاد كما قال عليه السلام : "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" وإنما كان أفضل الجهاد لأن من جاهد العدو كان متردداً بين رجاء وخوف ولا يدري هل يغلب أو يغلب وصاحب السلطان مقهور في يده فهو إذا قال الحق وأمره بالمعروف فقد تعرض للتلف فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف كذا في "أبكار الأفكار" للسمرقندي.
ثم الإشارة في الآية إلى النفس وصفاتها فلا تطعهم وجاهدهم بسيف الصدق على قانون القرآن في مخالفة الهوى وترك الشهوات
227
وقطع التعلقات جهاداً كبيراً لا تواسيهم بالرخص وتعاندهم بالعزائم قائماً بحق الله من غير جنوح إلى غيره أو مبالاة بما سواه.
وفي "المثنوي" :
أي شهان كشتيم ما خصم برون
ماند خصمي زان بتر دراندرون
كشتن اين كار عقل وهو ش نيست
شير باطن سخرة خركوش نيست
دوزخست اين نفس ودوزخ ازدهاست
كوبدرياها نكردد كم وكاست
جزء : 6 رقم الصفحة : 222
هفت دريارا درآشامد هنوز
كم نكردد سوزش آن خلق سوز
قوت ازحق خواهم وتوفيق ولاف
تابسوزن بركنم اين كوه قاف
سهل شيري دانكه صفها بشكند
شير آنست آنكه خودرا بشكند
اللهم سلمنا من آفات العدو مطلقاً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 222
{وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} من مرج الدابة خلاها وأرسلها ترعى ومرج أمرهم اختلط والبحر الماء الكثير عذباً كان أو ملحاً عند الأكثر وأصله المكان الواسع الجامع للماء الكثير كما في "المفردات".
والمعنى خلاهما وأرسلهما في مجاريهما كما يرسل الخيل في المرج متلاصقين بحيث لا يتمازجان ولا يلتبس أحدهما بالآخر ويدل على بعد كل منهما عن الآخر مع شدة التقارب بينهما الإشارة إلى كل منهما بأداة القرب كما يجيء ويجوز أن يكون محمولاً على المقيد وهو قوله تعالى : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (الرحمن : 19) {هَـاذَا عَذْبٌ} حال بتقدير القول أي مقولاً في حقهما هذا عذب أي طيب.
وبالفارسية (اين يك اب شيرين) {فُرَاتٌ} قاطع للعطش لغاية عذوبته صفة عذب والتاء أصلية.
قال الطيبي : سمي بالفرات لأنه يرفت العطش أي يكسره على القلب يعني يكفي في اعتبار معنى الكسر اشتقاق الفرات منه بالاشتقاق الكبير كجبذ من الجذب ومنه سمي الفرات نهر الكوفة وهو نهر عظيم عذب طيب مخرجه من أرمينية وفي الملكوت أصله في قرية من قرى جابلقا ينحدر إلى الكوفة وآخر مصبه بعضاً في دجلة وبعضاً في بحر فارس {وَهَـاذَا مِلْحٌ} (وان ديكرشور).
(6/165)
قال الراغب : الملح الماء الذي تغير طعمه التغير المعروف وتجمد ويقال له ملح إذا تغير طعمه وإن لم يتجمد فيقال ماء ملح وقلما تقول العرب ماء مالح {أُجَاجٌ} بليغ الملوحة صفة الملح قالوا : إن الله تعالى خلق ماء البحر مرّاً زعاقاً أي مرجاً غليظاً بحيث لا يطاق شربه أنزل من السماء ماء عذباً فكل ماء عذب من بئر أو نهر أو عين فمن ذلك المنزل من السماء وإذا اقتربت الساعة بعث الله ملكاً معه طست لا يعلم عظمه إلا الله فجمع تلك المياه فردها إلى الجنة.
واختلفوا في ملوحة ماء البحر فزعم قوم أنه لما طال مكثه وأحرفته الشمس صار مراً ملحاً واجتذب الهواء ما لطف من أجزائه فهو بقية صفته الأرض من الرطوبة فغلظ لذلك.
وزعم آخرون أن في البحر عروقاً تغير ماء البحر ولذلك صار مراً زعاقاً.
{وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا} أي بين البحرين.
وبالفارسية (وبساخت ميان اين دودريا).
{بَرْزَخًا} حداً وحاجزاً من قدرته غير مرئي {وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} الحجر بمعنى المنع والمحجور الممنوع وهو صفة الحجر على التأكيد كليل أليل ويوم أيوم وهذه كلمة استعاذة كما سبق في هذه السورة.
والمعنى ههنا على التشبيه أي تنافراً بليغاً كأن كلاً منهما يتعوذ من الآخر بتلك المقالة ويقول حراماً محرماً عليك أن تغلب
228
علي وتزيل صفتي وكيفيتي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 228
اعلم أن أكثر أهل التفسير حمل البحرين على بحري فارس والروم فإنهما يلتقيان في البحر المحيط وموضع التقائهما هو مجمع البحرين المذكور في الكهف ولكن يلزم على هذا أن يكون البحر الأول عذباً والثاني ملحاً مع أنهم قالوا : لا وجود للبحر العذب وذلك لأنهما في الأصل خليجان من المحيط وهو مرّ وإن كان أصله عذباً كما قال في "فتح القريب" عند قوله تعالى : {وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ} (هود : 7) أي العذب فحين خلق الله الأرض من زبده جزر المحيط عن الأرض فأحاط بالعالم إحاطة العين لسوادها فالوجه أن يحمل العذب على واحد من الأنهار فإن كل نهر عظيم بحر كما في "مختار الصحاح" كدجلة نهر بغداد تنصب إلى بحر فارس وتدخل فيه وتشقه وتجري في خلاله فراسخ لا يتغير طعمها كما أن الماء الذي يجرى في نهر طبرية نصفه بارد ونصفه حار فلا يختلط أحدهما بالآخر و الأوجه أن يمثل بالنيل المبارك والبحر الأخضر وهو بحر فارس الذي هو شعبة من البحر الهندي الذي يتصل بالبحر المحيط وبحر فارس مرّ فإنه صرح في "خريدة العجائب" أنه يتكون فيه اللؤلؤ وإنما يتكون في الملح وذلك أن بحر النيل يدخل في البحر الأخضر قبل أن يصل إلى بحيرة الزنج ويختلط به وهو معنى المرج ولولا اختلاطه بملوحته لما قدر أحد على شربه لشدة حلاوته كما في "إنسان العيون".
وذكر بعضهم أن سيحون وجيحون والنيل والفرات تخرج من قبة من زبرجدة خضراء من جبل عال وتسلك على البحر المظلم وهي أحلى من العسل وأذكى رائحة من المسك ولكنها تتغير المجارى فالبحر الملح على هذا هو بحر الظلمة وهو البحر المحيط الغربي ويسمى المظلم لكثرة أهواله وارتفاع أمواجه وصعوبته ولا يعلم ما خلفه إلا الله تعالى وما قيل أن الماء العذب والماء الملح يجتمعان في البحر فيكون العذب أسفل والملح أعلى لا يغلب أحدهما على الآخر وهو معنى قوله وحجراً محجوراً يخالف ما قال بعضهم أن كل الأنهار تبتدىء من الجبال وتنصب في البحار وفي ضمن ممرها بطائح وبحيرات فإذا صبت في البحر المالح وأشرقت الشمس على البحر تصعد إلى الجو بخاراً وتنعقد غيوماً أي ولذا لا يزيد ماء البحار بانصباب الأنهار فيها فهو يقتضي أن يكون الماء العذب أعلى لا أسفل إذ العذب خفيف والملح ثقيل وميل الخفيف إلى الأعلى.
وقال وهب : إن الحوت والثور يبتلعان ما ينصب من مياه الأرض في البحار فلذا لا يزيد ماء البحار فإذا امتلأت أجوافهما من المياه قامت القيامة ولا نهاية لقدرة الله تعالى فقد ذكروا أن بحيرة تنيس تصير عذبة ستة أشهر وتصير ملحاً أجاجاً ستة أشهر كذا دأبها أبداً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 228
قال الكاشفي : (محققان بر آنندكه بحرين خوف ورجاست كه دردل مؤمن هي يك برديكرى غلبه نكندكه "لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا" وبرزخ حمايت الهي وعنايت نا متناهي) وفي "كشف الأسرار" : البحر الملح لا عذوبة فيه والعذب لا ملوحة فيه وهما في الجوهرية واحدة ولكنه سبحانه بقدرته غاير بينهما في الصفة كذلك خلق القلوب بعضها معدن اليقين والعرفان وبعضها محل الشك والكفران.
وقال بعضهم : البحران بحر المعرفة وبحر النكرة فالأول بحر الصفات يفيض لطائفة على الأرواح والقلوب والعقول ويستعد به والعارفون والثاني بحر الذات فإنه ملح أجاج لا تتناوله العقول والقلوب والأرواح إذ لا تسير السيارات في بحار
229
(6/166)
القدم فهي نكرة وبينهما برزخ المشيئة لا يدخل أهل بحر الصفات بحر الذات ولا يرجع أهل بحر الذات إلى بحر الصفات.
وأيضاً قلوب أهل المعرفة منورة بأنوار الموافقات وقلوب أهل النكرة مظلمة بظلمة المخالفات وبينهما قلوب العامة ليس لها علم ما يرد عليها وما يصدر منها فليس معها خطاب ولا لها جواب.
وفي "المثنوي" :
ما هيانرا بحر نكذارد برون
خا كيانرا بحر نكذارد درون (1)
أصل ما هي زاب وحيوان ازكلست
حيله وتدبير اينجا باطلست
قفل زفتست وكشاينده خدا
دست درتسليم زن اندر رضا
قطره باقلزم ه استيزه كند
ابلهست اوريش خود برمى كند (2)
نسأل الله الفياض الوهاب أن يدخلنا في بحر فيضه الكثير وعطائه الوفير وهو على ذلك قدير.
{وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ} أوجد {مِنَ الْمَآءِ} هو الماء الذي خمر به طينة آدم عليه السلام أو هو النطفة {بَشَرًا} آدمياً والبشرة ظاهر الجلد كما أن الأدمة محركة باطنه الذي يلي اللحم وعبر عن الإنسان بالبشر اعتباراً بظهور جلدة من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الشعر أو الوبر كالضأن والمعز والإبل وخص في القرآن كل موضع اعتبر من الإنسان جثته وظاهره بلفظ البشر واستوى فيه الواحد والجمع {فَجَعَلَهُ} أي البشر أو الماء {نَسَبًا وَصِهْرًا} أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم فيقال فلان ابن فلان وفلانة بنت فلان.
فإنما أمهات الناس أوعية
مستودعات وللآباء ابنا
وذوات صهر أي إناثاً يصاهر بهن ويخالط كقوله تعالى : {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالانثَى} .
جزء : 6 رقم الصفحة : 228
قال الإمام الراغب : النسب اشتراك من جهة الأبوين وذلك ضربان نسب بالطول كالاشتراك بين الآباء والأبناء ونسب بالعرض كالنسبة بين الإخوة وبني العم وقيل : فلان نسيب فلان أي قريبه انتهى.
والصهر زوج بنت الرجل وزوج أخته كالختن على ما في "القاموس" : وقيل غير ذلك.
وفي "تاج المصادر" : (المصاهرة : با كسى بنكاح وصلت كردن) {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} مبالغاً في القدرة حيث قدر أن يخلق من مادة واحدة بشراً ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة وجعله قسمين متقابلين وربما يخلق من مادة واحدة توءمين ذكراً وأنثى.
قال في "كشف الأسرار" : (ابن سيرين كفت اين آيت در مصطفى عليه السلام وعلي كرم الله وجهه فرو آمدكه مصطفى دختر خويش را بزنى بعلي داد على سر عمش بود وشوهر دخترش هم نسب بودهم صهر وقصة تزويج فاطمة رضي الله عنها آنست كه مصطفى عليه السلام روزي در مسجد آمد شاخي ريحان بدست كرفته سلمان را رضي الله عنه كفت يا سلمان رو على را خوان سلمان رفت وكفت يا علي أجب رسول الله على كفت يا سلمان رسول خدايرا اين زمان ون ديدى وكونه اوراكذ ستى كفت يا علي سخت شادان وخندان ون ماه تابان وشمع رخشان على آمد بنزديك مصطفى عليه السلام ومصطفى آن شاخ ريحان فرادست على داد عظيم خوش بوى بود كفت يا رسول الله اين ه بوبست بدين خوشى كفت يا علي ازان نثارهاست كه حور بهشت كرده اندبر تزويج دختر فاطمه كفت باكه يا رسول الله كفت
230
(6/167)
باتوا يا علي من در مسجد نشسته بودم كه فرشته در آمد برصفتي كه هرمز نان نديده بودم كفت نام منم محمود ست ومقام من در آسمان دنيا در مقام معلوم خود بودم ثلثي زشب ندايى شنيدم از طبقات آسمان كه أي فرشتكان مقربان ووروحانيان وكروبيان همه جمه شويد درآسمان هارم همه جمع شدند وهمنين مكان مقعد صدق وأهل فراديس أعلى ودرجات عدن حاضر كشتند فرمان آمدكه أي مقربان دركاه وأي خاصكيان ادشاه سورة هل أتى على الإنسان برخوانيد ايشان همه بآواز دلربايى بالحان طرب افزايى سورة هلأتى خواندن كرفتند آنكه درخت طوبى را فرمان آمدتو نثاركن بربهشتها بر تزويج فاطمة زهرا باعلي مرتضى ودرخت طوبى دربهشت هي قصر وغرفه ودريه نيست كه از درخت طوبى در آنجا شاخى نيست س طوبى برخود بلر زيد ودر بهشت كوهر ومرو اريد وحلها باريدن كرفت س فرمان آمدتا منبري ازيك دانه مرو اريد سيد در زير درخت طوبى بنهادند فرشتة كه نام أورا حيل است ودر هفت طبقة آسمان فرشتة ازو فصيحت وكويا ترنيست بآن منبر بر آمد وخدايرا جل جلاله ثنا كفت وبر يغمبران درود داد آنكه جبار كائنات خداوند ذو الجلال قادر بركمال بي واسطه ندا كرد كه أي جبرائيل وأي ميكائيل شما هر دوكواه معرفت فاطمة باشيد ومن كه خداوندم ولي فاطمة أم وأي كروبيان وأي روحانيان آسمان شما كواه باشيدكه من فاطمة زاهرا بزنى بعلي مرتضى دادم آن ساعت كه رب العزة اين ندا كرد برى بر آمد زير جنات عدن ابرى روشن وخوش كه دررن تيركى وكرفتكى نه وبوى خوش وجواهر نثار كرد ورضوان وولدان وحور بهشت برين عقد نثار كردند س رب العزة مرابدين بشارت بتوفير ستاد يا محمد كفت حبيب مرا بشارت ده وباوى بكوكه ما اين عقد در آسمان بستيم تونيز در زمين ببنديد س مصطفى عليه السلام مهاجر وانصار را حاضر كرد آنكه روى باعلي كرد كفت يا علي حنين حكمي در آسمان رفت اكنون من فاطمة دخترم را بهار صد درم كابين بزنى بتودادم على كفت يا رسول الله من ذيرفتم نكاه وى رسول كفت بارك الله فيكما).
جزء : 6 رقم الصفحة : 228
قال في "إنسان العيون" : كان في السنة الثانية من الهجرة تزويج فاطمة لعلي رضي الله عنهما عقد عليها في رمضان وكان عمرها خمس عشرة سنة وكان سن علي يومئذ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وأولم عليها بكبش من عند سعد وآصع من ذرة من عند جماعة من الأنصار رضي الله عنهم ولما خطبها علي قال عليه السلام : "أن علياً يخطبك فسكتت" وفي رواية قال لها : "أي بنية إن ابن عمك قد خطبك فماذا تقولين" فبكت ثم قالت : كأنك يا أبت إنما ادّخرتني لفقير قريش فقال عليه السلام : "والذي بعثني بالحق ما تكلمت في هذا حتى أذن الله فيه من السماء" فقالت فاطمة : رضيت بما رضي الله ورسوله وقد كان خطبها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقال عليه السلام : "لكل أنتظر بها القضاء" فجاء أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى علي رضي الله عنه يأمرانه أن يخطبها قال علي : فنبهاني أي لأمر كنت عنه غافلاً فجئته عليه السلام فقلت : تزوجني فاطمة قال : "وعندك شيء" قال : فرسى وبدني أي درعي قال : "أما فرسك فلا بد لك منها وأما بدنك فبعها" فبعتها بأربعمائة وثمانين درهماً فجئته
231
(6/168)
عليه السلام فوضعتها في حجره فقبض منها قبضة فقال : "أي بلال ابتع بها طيباً" ولما أراد أن يعقد خطب خطبة منها : "الحمدالمحمود بنعمته المعبود بوحدته الذي خلق الخلق بقدرته وميزهم بحكمته ثم إن الله تعالى جعل المصاهرة نسباً وصهراً وكان ربك قديراً ثم إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي على أربعمائة مثقال فضة أرضيت يا علي" قال : رضيت بعد أن خطب علي أيضاً خطبة منها : "الحمدشكراً لأنعمه وأياديه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبلغه وترضيه" ولما تم العقد دعا عليه السلام بطبق بسر فوضعه بين يديه ثم قال للحاضرين انتهبوا وليلة بنى بها قال عليه السلام لعلي : "لا تحدث شيئاً حتى تلقاني" فجاءت بها أم أيمن حتى قعدت في جانب البيت وعلي في جانب آخر وجاء رسول الله فقال لفاطمة : "ائتني بماء" فقامت تعثر في ثوبها من الحياء فأتته بقعب فيه ماء فاخذه رسول الله ومج فيه ثم قال لها : "تقدمي" وتقدمت فنضح بين ثدييها وعلى رأسها وقال : اللهم إني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم" ثم قال : "ائتوني بماء" فقال علي رضي الله عنه : فعلمت الذي يريد فقمت وملأت القعب فأتيت به فأخذه فمج فيه وصنع بي كما صنع بفاطمة ودعا لي بما دعا لها به ثم قال : "اللهم بارك فيهما وبارك عليهما وبارك لهما في شملهما" أي الجماع وتلا قوله تعالى : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص : 1) والمعوذتين ثم قال : "ادخل بأهلك باسم الله والبركة" وكان فراشها إهاب كبش أي جلده وكان لهما قطيفة إذا جعلاها بالطول انكشفت ظهورهما وإذا جعلاها بالعرض انكشفت رؤوسهما وقالت له في بعض الأيام : يا رسول الله ما لنا فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار فقال لها عليه السلام : "يا بنية اصبري فإن موسى بن عمران عليه السلام أقام مع امرأته عشر سنين ليس لهما فراش إلا عباءة قطوانية" وهي نسبة إلى قطوان موضع بالكوفة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 228
وفاطمة ولدتها خديجة رضي الله عنها قبل النبوة بخمس سنين ماتت بالمدينة بعد موت النبي عليه السلام بستة أشهر ولها ثمان وعشرون سنة ومناقبها كثيرة معروفة رضي الله عنها وعن أولادها واستشهد علي رضي الله عنه بالكوفة وهو ابن ثلاث وستين سنة وصلى عليه الحسن ودفن ليلاً وغيب قبره بوصية منه وكان مخفياً في زمن بني أمية وصدراً من خلافة بني العباس حتى دل عليه الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه قال عليه السلام لعلي رضي الله عنه : "يهلك فيك رجلان محب مطر وكذاب مفتر" كما في "إنسان العيون".
وفي "التأويلات النجمية" : الإشارة في الآية إلى أن الإنسان خلق مركباً من جنسين مختلفين صورته من عالم الخلق وروحه من عالم الأمر فجعل له نسباً وصهراً فنسبه إلى روحه وانتساب الروح إلى الله وإلى رسوله وانتسابه إلى الله بقوله : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (ص : 72) وإلى رسوله بقوله عليه السلام : "أنا من الله والمؤمنون مني" فجعل الله خواص عباده من أهل هذا النسب وصهره بشريته التي خلقت من الماء كما قال تعالى : {إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (ص : 71 ، 72) جمع بين الأمرين فجعل الله عوام خلقه من أهل هذا الصهر فالغالب عليهم خواص البشر وهي الحرص والشهوة والهوى والغضب فيها يرد إلى الوركات السفلية والغالب على أهل النسب خواص الروحانية وهي الشوق
232
والمحبة والطلب والحلم والكرم وبها يجذب إلى الدرجات العلية وكان ربك قديراً على جعل الفريقين من أهل الطريقين انتهى.
قال المولى الجامي قدس سره :
قرب تو باسباب وعلل نتوان يافت
به سابقة فضل أزل نتوان يافت
والله المرجو في كل مسؤول.
{وَيَعْبُدُونَ} أي المشركون حال كونهم {مِن دُونِ اللَّهِ} متجاوزين عبادة الله تعالى {مَا لا يَنفَعُهُمْ} إن عبدوه مفعول يعبدون.
والنفع ما يستعان به في الوصول إلى الخيرات وما يتوصل به إلى الخير فهو خير والنفع الخير وضده الضر {وَلا يَضُرُّهُمْ} إن لم يعبدوه وما ليس من شأنه النفع والضر أصلاً وهو الأصنام وما في حكمها من المخلوقات إذ ما من مخلوق يستقل بالنفع والضر فلا فائدة في عبادته والاعتماد عليه واتباعه {وَكَانَ الْكَافِرُ} بشركه وعداوته للحق {عَلَى رَبِّهِ} الذي رباه بنعمته متعلق بقوله {ظَهِيرًا} عوناً للشيطان فالظهير بمعنى المظاهر أي المعين و المراد بالكافر الجنس أو أبو جهل فإنه أعان الشيطان على الرحمن في إظهار المعاصي والإصرار على عداوة الرسول وتشجيع الناس على محاربته ونحوها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 228
{وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ} في حال من الأحوال {إِلا} حال كونك {مُبَشِّرًا} للمؤمنين بالجنة والرحمة.
والتبشير إخبار فيه سرور {وَنَذِيرًا} منذراً للكافرين بالنار والغضب.
والإنذار إخبار فيه تخويف.
(6/169)
{قُلْ} لهم {قُلْ مَآ أَسْـاَلكُمْ} أي على تبليغ الرسالة التي ينبىء عنها الإرسال {مِنْ أَجْرٍ} من جهتكم فتقولوا أنه يطلب أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتبعه.
والأجر ما يعود من ثواب العمل دنيوياً كان أو أخروياً {إِلا مَن شَآءَ} إلا من فعل من يريد.
{أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّه سَبِيلا} أن يتقرب إليه ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة حسبما أدعوكم إليه يعني إن أعطيتم إياي أجراً فأعطوني ذلك الفعل فإني لا أسأل غيره.
وبالفارسية : (مزد من إيمان وطاعت مؤمناً نست زيراً كه مرا من عند الله أجرى مقر راست وثابت شده كه هريغمبرى را برا بر عباد وصلحاى امت أو ثواب خواهد بود) والظاهر أن الاستثناء منقطع.
والمعنى لا أطلب من أموالكم جعلاً لنفسي لكن من شاء إنفاقه لوجه الله فليفعل فإني لا امنعه عنه.
وفي "التأويلات النجمية" : {إِلا مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ} بما يتوسل به إلى من خدمة أو إنفاق أو تعظيم {إِلَى رَبِّهِ} قربة منزلة ولهذا قال المشايخ يصل المريد بالطاعة إلى الجنة وبالتعظيم وإجلال الشيوخ إلى الله تعالى.
وفي "الفتوحات المكية" : مذهبنا أن للواعظ أخذ الأجرة على وعظ الناس وهو من أحل ما يأكل وإن كان ترك ذلك أفضل وإيضاح ذلك أن مقام الدعوة إلى الله يقتضي الإجارة فإن ما من نبي دعا إلى الله إلا قال : إن أجري إلا على الله فأثبت الأجر على الدعاء ولكن اختار أن يأخذه من الله لا من المخلوق انتهى.
وأفتى المتأخرون بصحة الأجرة للأذان والإقامة والتذكير والتدريس والحج والغزو وتعليم القرآن والفقه وقراءتهما لفتور الرغبات اليوم ولو كانت الأجرة على أمر واجب كما إذا كان المعلم والإمام والمفتي واحداً فإنها لم تصح إجماعاً كما في "الكرماني" وغيره وكذا إذا كان الغسال في القرية واحداً فإنه يتعين له غسل الميت ولا يجوز له طلب الأجرة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 233
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ} في الاستكفاء عن شروروهم والإغناء عن أجورهم فإنه
233
الحقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين شأنهم الموت فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليهم وأصل التوكل أن يعلم العبد بأن الحادثات كلها صادرة من الله ولا يقدر أحد على الإيجاد غيره فيفوض أمره إلى الله فيما يحتاج إليه وهذا القدر فرض وهو من شرط الإيمان قال تعالى : {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة : 23) وما زاد على هذا القدر من سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطراب فهي أحوال تلحق بالتوكل على وجه الكمال كذا في "التأويلات النجمية".
قال الواسطي : من توكل على الله لعلة غير الله فلم يتوكل على الله بل توكل على غير الله.
وسئل ابن سالم : أنحن مستنون بالكسب أو التوكل؟ فقال ابن سالم : التوكل حال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإنما استن الكسب لضعف حالهم حين أسقطوا عن درجة التوكل الذي هو حاله فلما سقطوا عنه لم يسقطهم عن درجة طلب المعاش بالمكاسب التي هي سنة ولولا ذلك لهلكوا.
يقال : عوام المتوكلين إذا أعطوا شكروا وإذا منعوا صبروا.
وخواصهم إذا أعطوا آثروا وإذا منعوا شكروا.
ويقال : الحق يجود على الأولياء إذا توكلوا بتيسير السبب من حيث يحتسبون ولا يحتسبون.
ويجود على الأصفياء بسقوط الأرب وإذا لم يكن أرب فمتى يكون طلب.
ويقال : التوكل أن يكون مثل الطفل لا يعرف شيئاً يأوي إليه إلا ثدي أمه كذلك المتوكل يجب أن لا يرى لنفسه مأوى إلا الله تعالى.
وفي "المثنوي" :
نيست كسبي از توكل خوبتر
يست از تسليم خود محبوبتي
طفل تاكيرا وتاوديانبود
مر كبش جز كردن بابا نبود
ون فضولي كشت ودست وانمود
درعنا افتاد ودز كور وكبود
ما عيال حضريتم وشير خواه
كفت "الخلق عيال للآله"
آنكه أو از آسمان باران دهد
هم تواند كو زرحمت نان دهد
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي نزه تعالى عن صفات النقصان وعن كل ما يرد على الوهم والخيال حال كونك مثنياً عليه بنعوت الكمال طالباً لمزيد الإنعام بالشكر على سوابقه وفي الحديث : "من قال كل يوم : سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر" كما "فتح الرحمن" {وَكَفَى بِهِ} الباء زائدة للتأكيد أي حسبك الحي الذي لا يموت وقوله {بِذُنُوبِ عِبَادِهِ} ما ظهر منها وما بطن متعلق بقوله : {خَبِيرًا} مطلقاً فيجزيهم جزاء وافياً فلا يحتاج معه إلى غيره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 233
(6/170)
{الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} محل الموصول الجر على أنه صفة أخرى للحي {وَمَا بَيْنَهُمَا} من الأركان والمواليد {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} في مدتها من أيام الدنيا لأنه لم يكن ثمة شمس ولا قمر وذلك مع قدرته على خلقها في أسرع لمحة ليعلم العباد أن التأني مستحب في الأمور {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أصل الاستواء الاستقرار والتساوي واعتدال الشيء في ذاته ومتى عدي بعلى اقتضى معنى الاستيلاء والغلبة كما في "المفردات" وهو المراد هنا ومعنى الاستيلاء عليه كناية عن الملك والسلطان.
والمراد بيان نفاذ تصرفه فيه وفيما دونه لكنه خص العرش بالذكر لكونه أعظم الأجسام.
{الرَّحْمَـانِ} خبر مبتدأ محذوف أي الذي خلق الأجرام العلوية والسفلية وما بينهما هو الرحمن وهو تمهيد لما يأتي من قوله :
234
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَـانِ} (الفرقان : 60) وبيان أن المراد من الاستواء المذكور في الحقيقة تعيين مرتبة الرحمانية {الَّذِى خَلَقَ} متعلق بما بعده وهو {خَبِيرًا} كما في قوله : {إِنَّه بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة : 117) ونظائره أي فاسأل خبيراً بما ذكر من الخلق والاستواء يعني الذي خلق واستوى لأنه هو الخبير بأفعاله وصفاته كما قال : {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر : 14) وقال : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَه إِلا اللَّهُ} (آل عمران : 7) ومن جعل قوله : {وَالراَّسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آل عمران : 7) عطفاً على إلا الله يكون الخبير المسؤول منه هو الراسخون في العلم وقد مر تحقيق الآية في سورة الأعراف وسورة يونس وسورة طه فارجع.
جزء : 6 رقم الصفحة : 234
وفي "الفتوحات المكية" : لما كان الحق تعالى هو السلطان الأعظم ولا بد للسلطان من مكان يكون فيه حتى يقصد بالحاجات مع أنه تعالى لا يقبل المكان اقتضت المرتبة أن يخلق عرشاً ثم ذكر أنه استوى عليه حتى يقصد بالدعاء وطلب الحوائج منه كل ذلك رحمة للعباد وتنزلاً لعقولهم ولولا ذلك لبقي العبد حائراً لا يدري أين يتوجه بقلبه وقد خلق الله تعالى القلب ذا جهة فلا يقبل إلا ما كان له جهة وقد نسب الحق تعالى لنفسه الفوقية من سماء وعرش وإحاطة بالجهات كلها بقوله : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة : 115) وبقوله : ينزل ربنا إلى سماء الدنيا وبقوله عليه السلام : "إن الله في قبلة أحدكم" وحاصله أن الله تعالى خلق الأمور كلها للمراتب لا للأعيان انتهى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} أي لهؤلاء المشركين {اسْجُدُوا} صلوا وعبر عن الصلاة بالسجدة لأنها من أعظم أركانها {لِلرَّحْمَـانِ} الذي برحمته أوجد الموجودات {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَـانُ} أي أي شيء هو أو من هو لأن وضع ما أعم وهو سؤال عن المسمى بهذا الاسم لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله ولا يعرفون كونه تعالى مسمى بهذا الاسم وإن كان مذكوراً في الكتب الأولى أنه من أسماء الله تعالى أو لأنهم كانوا يعرفون كونه تعالى مسمى بهذا الاسم إلا أنهم يزعمون أنه قد يراد به غيره وهو مسيلمة الكذاب باليمامة فإنه يقال رحمن اليمامة وكان المشركون يكذبونه ولذلك غالطوا بذلك وقالوا : إن محمداً يأمرنا بعبادة رحمن اليمامة ونظيره أن المنافقين صدرت منهم كلمات وحركات في حق النبي عليه السلام بالاستهزاء والاستسخار فقال تعالى {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} (التوبة : 65) فغالطوا في الجواب عن ذلك بهاتين اللفظتين الموهمتين صدق ما كانوا فيه حتى كذبهم الله تعالى بقوله : {قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَـاتِه وَرَسُولِه كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} (التوبة : 65) والمغالطة هو أن المنشىء أو المتكلم يدل على معنى له مثل أو نقيض في شيء ويكون المثل أو النقيض أحسن موقعاً لإرادته الإبهام به كذا في "العقد الفريد" للعلامة ابن طلحة {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} بسجوده من غير أن نعرف أن المسجود له ماذا وهو استفهام إنكار أي لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بسجودنا له {وَزَادَهُمْ} أي الأمر بالسجود للرحمن.
جزء : 6 رقم الصفحة : 234
{نُفُورًا} عن الإيمان.
والنفور الانزعاج عن الشيء والتباعد وهو نظير قوله : {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلا فِرَارًا} (نوح : 6) فمن جهل وجود الرحمن أو علم وجوده وفعل فعلاً أو قال قولاً لا يصدر إلا من كافر فكافر بالاتفاق كما في "فتح الرحمن" وذلك كما إذا سجد للصنم أو ألقى المصحف في المزابل أو تكلم بالكفر يكفر بلا خلاف لكونه علامة التكذيب.
وكان سفيان الثوري رحمه الله إذا قرأ هذه الآية رفع رأسه إلى السماء وقال : إلهي زادني خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً وقال رجل لرسول الله
235
صلى الله عليه وسلّم ادع الله أن يرزقني مرافقتك في الجنة قال : "أعني بكثرة السجود".
قال في "فتح الرحمن" : وهذا محل سجود بالاتفاق.
(6/171)
قال الكاشفي : (اين سجدة هفتم است بقول إمام اعظم وبقول إمام شافعي سجدة هشتم واين را در فتوحات سجدة نفور وانكار ميكو يدو ميفر ما يدكه ون مؤمن در تلاوت اين سجده كند ممتاز كردد ازاهل انكار س اين سجده را امتيازنيز توان كفت) وتكبير سجود تلاوة سنة كما في "النهاية" أو ندب كما في "الكافي" أو الثاني ركن كما في "الزاهدي" ولم يوجد أن كليهما ركن وإذا أخر عن وقت القراءة يكون قضاء كما قال أبو يوسف فهو على الفور عنده لكنه ليس على الفور عندنا فجميع العمر وقته سوى المكروه كما في كتب الأصول والفروع والتأخير ليس بمكروه.
وذكر الطحاوي أنه مكروه وهو الأصح كما في "التجنيس" ذكره القهستاني في "شرحه" ثم إن قوله تعالى : {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَـانِ} يدل على أن لا سجدة لغير الرحمن ولو كانت لأمرت المرأة بسجدة زوجها.
قال شمس الأئمة السرخسي : السجود لغير الله تعالى على وجه التعظيم كفر وما يفعلونه من تقبيل الأرض بين يدي العلماء فحرام.
وذكر الصدر الشهيد : لا يكفر بهذا السجود لأنه يريد به التحية انتهى لكنه يلزم عليه أن لا يفعل لأنه شريعة منسوخة وهي شريعة يعقوب عليه السلام فإن السجود في ذلك الزمان كان يجري مجرى التحية كالتكرمة بالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها من عادات الناس الناشئة في التعظيم والتوقير ويدل عليه قوله تعالى في حق إخوة يوسف وأبيه {وَخَرُّوا لَه سُجَّدًا} (يوسف : 100).
وأما الانحناء للسلطان أو لغيره فمكروه لأنه يشبه فعل اليهود كما أن تقبيل يد نفسه بعد المصافحة فعل المجوس.
واختلفوا في سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم فقال أبو حنيفة ومالك يكره فيقتصر على الحمد والشكر باللسان وخالف أبو يوسف ومحمد أبا حنيفة فقالا هي قربة يثاب عليها وقال الشافعي وأحمد يسن وحكمه عندهما كسجود التلاوة لكنه لا يفعل في الصلاة كذا في "فتح الرحمن".
جزء : 6 رقم الصفحة : 234
وذكر الزاهدي في "شرح القدوري" أن السجدات خمس صلواتية وهي فرض وسجدة سهو وسجدة تلاوة وهما واجبتان وسجدة نذر وهي واجبة بأن قال : عليّ سجدة تلاوة وإن لم يقيدها بالتلاوة لا تجب عند أبي حنيفة خلافاً لأبي يوسف وسجدة شكر ذكر الطحاوي عن أبي حنيفة أنه قال : لا أراه شيئاً.
قال أبو بكر الرازي : معناه ليس بواجب ولا مسنون بل مباح لا بدعة وعن محمد أنه كرهها قال : ولكنا نستحبها إذا أتاه ما يسره من حصول نعمة أو دفع نقمة.
قال الشافعي : فيكبر مستقبل القبلة ويسجد فيحمد الله تعالى ويشكره ويسبح ثم يكبر فيرفع رأسه أما بغير سبب فليس بقربة ولا مكروه وأما ما يفعل عقيب الصلاة فمكروه لأن الجهال يعتقدونها سنة أو واجبة وكل مباح يؤدي إليه فمكروه انتهى والفتوى على أن سجدة الشكر جائزة بل مستحبة لا واجبة ولا مكروهة كما في "شرح المنية" :
بشكر عشق بنه جبهه دائماً برخاك
كه نعمتست نخوردست كن افلاك
اللهم اجعلنا من المتواضعين لك في اللمع والحلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 234
{تَبَارَكَ الَّذِى} أي تكاثر خير الفياض الذي وقد ذكر في أول هذه السورة فارجع.
قال في "برهان القرآن" خص هذا الموضع بذكر تبارك لأن ما بعده من عظائم الأمور حيث ذكر البروج والسيارات والشمس والقمر والليل
236
والنهار ولولاها ما وجد في الأرض حيوان ولا نبات ولا مثلهما {جَعَلَ} بقدرته الكاملة {فِى السَّمَآءِ} (درآسمان) {بُرُوجًا} هي البروج الاثنا عشر كل برج منزلان وثلث منزل للقمر وهي منازل الكواكب السبعة السيارة وهي ثلاثون درجة للشمس وأسماء البروج الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت فالحمل والعقرب بيتا المريخ والثور والميزان بيتا الزهرة والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد والسرطان بيت القمر والأسد بيت الشمس والقوس والحوت بيتا المشتري والجدي والدلو بيتا زحل وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع فيكون لكل واحدة منها ثلاثة بروج مثلثات الحمل والأسد والقوس مثلثة نارية والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية وسميت المنازل بالبروج وهي القصور العالية لأنها للكواكب السيارة كالمنازل الرفيعة لسكانها واشتقاقها من التبرج لظهورها.
وقال الحسن ومجاهد وقتادة : البروج هي النجوم الكبار مثال الزهرة وسهيل والمشتري والسماك والعيوق وأشباهها سميت بروجاً لاستنارتها وحسنها وضوئها والأبرج الواسع ما بين الحاجبين ثم إن منازل القمر بأساميها ذكرت في أوائل سورة يونس فارجع.
{وَجَعَلَ فِيهَا} أي في البروج لا في السماء لأن البروج أقرب فعود الضمير إليها أولى وإن جاز عوده إلى السماء أيضاً {سِرَاجًا} (راغى راكه آفتابست).
(6/172)
قال الراغب : السراج الزاهر بفتيلة ويعبر به عن كل شيء مضيء والمراد به ههنا الشمس لقوله تعالى : {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} (نوح : 16) شبهت الشمس والكواكب الكبار بالسراج والمصابيح كما في قوله تعالى : {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ} (الملك : 5) في الإنارة والإشراق {وَقَمَرًا} بالفارسية (ماه) والهلال بعد ثلاث قمر سمي قمراً لبياضه كما في "المختار" أو لابيضاض الأرض به والأقمر الأبيض كما في "كشف الأسرار" {مُّنِيرًا} مضيئاً بالليل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 236
قال في "كشف الأسرار" : (كفته اند مراد ازين آسمان آسمان قر آنست كه جملة أهل إيمان در ظل بيان وي اند هر سورتي ازان ون برجى آنجا در عالم صور سبع مباني است وانيجا در عالم سور سبع مثاني نانكه درشب هركه شم برستاره داردراه زمين وى كم نشود هركه اندرشب فتنه ازبيم شك وشبهه شم دل برستارة آيت قرآن داردراه دينش كم نشود).
قال في "نفائس المجالس" : في الآية دلالة على كمال قدرته فإن هذه الأجرام العظام والنيرات من آثار قدرته.
واعلم أن الله تعالى جعل في سماء نفسك بروج حواسك وجعل فيها سراج روحك وقمر قلبك منيراً بأنوار الروحانية فعليك بالاجتهاد في تنوير وجودك وتخليص قلبك من الظلمات النفسانية لتستعد لأنوار التجليات وتتخلص من ظلمة السوى فتصل إلى المطلب الأعلى فيحصل لك البقاء بعد الفناء فتجد بعد الفقر كمال الغنى فتشاهد كمال قدرة الملك القادر هنا.
وفي "عرائس القرآن" بروج السماء مجرى الشمس والقمر وهي الحمل والنور إلخ.
وفي القلب بروج وهي برج الإيمان وبرج المعرفة وبرج العقل وبرج اليقين وبرج الإسلام وبرج الإحسان وبرج التوكل وبرج الخوف وبرج الرجاء وبرج المحبة وبرج الشوق وبرج الوله فهذه اثنا عشر برجاً بها دوام صلاح القلب كما أن الاثني عشر برجاً من الحمل إلخ
237
بها صلاح الدار الفانية وأهلها وفي السماء سراج الشمس ونور القمر وفي القلب سراج الإيمان والإقرار وقمر المعرفة يتلألأ نور إيمانه ومعرفته على لسانه بالذكر وعلى عينيه بالعبرة وعلى جوارحه بالطاعة والخدمة.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى سماء القلوب وبروج المنازل والمقامات وهي اثنا عشر منزلاً التوبة والزهد والخوف والرجاء والتوكل والصبر والشكر واليقين والإخلاص والتسليم والتفويض والرضى وهي منازل سيارات الأحوال فيها شمس التجلي وقمر المشاهدة وزهرة الشوق ومشتري المحبة وعطارد الكشوف ومريخ الفناء وزحل البقاء انتهى.
هركه خواهد بجان سير بروج
آسمانرا كند و عيسى عروج
آسما نرا طريق معراجست
دل بمعراج فلك محتاجست
ون كذر ميكند زبرج فنا
يا بد آخر تجليات بقا
اين تجلى زسوى عرشي نه
اين تسلي زسمت فرشي نه
اين تجلىء خالق الأبراج
بسراجش نديده شم سراج
جزء : 6 رقم الصفحة : 236
{وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ} بحكمته التامة {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ} الخلفة مصدر للنوع فلا يصلح أن يكون مفعولاً ثانياً لجعل ولا حالاً من مفعوله فلا بد من تقدير المضاف ويستعمل بمعنى كان خليفته أو بمعنى جاه بعده فالمعنى على الأول جعلهما ذوي خلفة يخلف كل واحد منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه فمن فرط في عمل أحدهما قضاه في الآخر فيكون توسعة على العباد في نوافل العبادات والطاعات ويؤيده ما قال عليه السلام لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد فاتته قراءة القرآن بالليل : "يا ابن الخطاب لقد انزل الله تعالى فيك آية وهو الذي إلخ ما فاتك من النوافل بالليل فاقضه في نهارك وما فاتك في النهار فاقضه في الليل" وعلى الثاني جعلهما ذوي اعتقاب يجيء الليل ويذهب النهار ويجيء النهار ويذهب الليل ولم يجعل نهاراً لا ليل له وليلاً لا نهار له ليعلم الناس عدد السنين والحساب وليكون للانتشار في المعاش وقت معلوم وللاستقرار والاستراحة وقت معلوم.
ففي الآية تذكير لنعمته وتنبيه على كمال حكمته وقدرته.
{لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} أن يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه فيعلم أن لا بد له من صانع حكيم واجب بالذات رحيم على العباد فالمراد بمن هو الكافر ثم أشار إلى المؤمن بقوله : {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} بضم الشين مصدر بمعنى الشكر أي أن يشكر الله بطاعته على ما فيها من النعم فتكون أو على حالها ويجوز أن تكون بمعنى الواو فالمعنى جعلناهما خلفة ليكونا وقتين للذاكرين والشاكرين من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخر ووجه التعبير بأو التنبيه على استقلال كل واحد منهما بكونه مطلوباً من الجعل المذكور ولو عطف بالواو لتوهم أن المطلوب مجموع الأمرين.
(6/173)
قال الإمام الراغب : الشكر تصور النعمة وإظهارها قيل : هو مقلوب عن الكشر أي الكشف ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها وقيل : أصله من عين شكرى أي ممتلئة والشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه والشكر على ثلاثة أضرب شكر بالقلب وهو تصور النعمة وشكر باللسان وهو الثناء على النعمة وشكر بسائر الجوارح وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها.
238
عطايست هرموى ازوبرتنم
ه كونه بهر موى شكرى كنم
اعلم أن الآية الكريمة إشارة إلى أن ورد النفل لا يقضى إذا فات لكن على طريق الاستحباب لا على طريق الوجوب وذلك أن دوام الورد سبب لدوام الوارد ودوام الوارد سبب للوصلة ألا ترى أن النهر إنما يصل إلى البحر بسبب إمداد الأمطار والثلوج التي في الجبال فلو انقطع المدد فقد المرام كما قال الصائب :
جزء : 6 رقم الصفحة : 236
از زاهدان خشك رسايي طمع مدار
سيل ضعيف واصل دريا نميشود
ولذا أكب العباد والسلاك على الأوراد في الليل والنهار وجعلوها على أنفسهم بمنزلة الواجبات ولذا لو فات عنهم ورد الليل قضوه في النهار ولو فات عنهم ورد النهار قضوه في الليل يعني أتوا ببدله مما كان مثلاً له حتى لا ينقطعوا دون السبيل فمن عرف الطريق إلى الله لا يرجع أبداً ولو رجع عذب في الدارين بما لم يعذب به أحد من العالمين فعليك بالورد صباحاً ومساء فإنه من ديدن السلف الصالحين وإياك والغفلة عنه فإنها من دأب من بال على أذنه الشيطان من الفاسقين.
وعن الشيخ أبي بكر الضرير رضي الله عنه قال : كان في جواري شاب حسن الوجه يصوم بالنهار ولا يفطر ويقوم الليل ولا ينام فجاءني يوماً وقال : يا أستاذ إني نمت عن وردى الليل فرأيت كأن محرابي قد انشق وكأني بجوار قد خرجن من المحراب لم أر أحسن وجهاً منهن وإذا واحدة فيهن شوهاء أي قبيحة لم أر أقبح منها منظراً فقلت : لمن أنتن ولمن هذه؟ فقلن : نحن لياليك التي مضين وهذه ليلة نومك فلو مت في ليلتك هذه لكانت هذه حظك ثم أنشأت الشوهاء تقول :
اسأل لمولاك وارددني إلى حالي
فأنت قبحتني من بين أشكالي
لا ترقدّن الليالي ما حييت فإن
نمت الليالي فهن الدهر أمثالي
فأجابتها جارية من الحسان :
نحن الليالي اللواتي كنت تسهرها
تتلو القرآن بترجيع ورنات
نحن الحسان اللواتي كنت تخطبنا
جوف الظلام بأنات وزفرات
قال : ثم شهق شهقة خر ميتاً ذكره الإمام اليافعي في "روض الرياحين".
وروي : أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام فرأى عليه معاليق من كل شيء فقال يحيى : يا إبليس ما هذه المعاليق التي أرى عليك قال هذه الشهوات التي أصيب بهن ابن آدم قال : فهل لي فيها من شيء قال : ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة والذكر قال يحيى : هل غير ذلك قال : لا والله قال : الله عليّ أن لا املأ بطني من طعام أبداً قال إبليس : ولله على أن لا أنصح مسلماً أبداً كذا في "آكام المرجان".
واحتضر عابد فقال : ما تأسفي علي دار أحزان والخطايا والذنوب وإنما تأسفي على ليلة نمتها ويوم أفطرته وساعة غفلت فيها عن ذكر الله فمن وجد الفرصة فليسارع وبقية العمر ليس لها ثمن.
أي كه ناه رفت ودر خوابى
مكر اين نج روز دريابى
خواب نوشين بامداد رحيل
باز دارد ياده را زسبيل
(كفته اند ايزد تعالى فلك را آفريد ومدت دوروى دو قسم كردانيد يك قسم ازان شب ديجور نهادكه اندران وقت روى زمين بسان قيرشود وقسم ديكر روز بانور نهادكه روى زمين بسان كافور شود ازروى اشارب ميكويد أي كساني اندر روشنايى روز دولت
239
آرام داريد ايمن مباشيد كه شب محنت بر اثرست واى كساني كه اندر تاريكي شب محنت بي آرام بوده آيد نوميد مباشيدكه روشنايى روز دولت براثرست).
جزء : 6 رقم الصفحة : 236
أي دل صبور باش ومخور غم كه عاقبت
اين شام صبح كرددواين شب سحر شود
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أهل اليقظة والشهود الواصلين إلى مطالعة الجمال في كل مشهود ونعوذ به من البقاء في ظلمة الوجود والحرمان من فيض الجود إنه رحيم ودود.
(6/174)
{وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ} دون عباد الدنيا والشيطان والنفس والهوى فإنهم وإن كانوا عباداً بالإيجاد لكنهم ليسوا بأهل لإضافة التشريف والتفضيل من حيث عدم اتصافهم بالصفات الآتية التي هي آثار رحمته تعالى الخاصة المفاضة على خواص العباد.
والمعنى عباده المقبولون وهو مبتدأ خبره قوله : {الَّذِينَ يَمْشُونَ} المشي الانتقال من مكان إلى مكان بإرادة {عَلَى الأرْضِ} التي هي غاية في الطمأنينة والسكون والتحمل حال كونهم {هَوْنًا} هو السكينة والوقار كما في "القاموس" وتذلل الإنسان في نفسه بما لا يلحق به غضاضة كما في "المفردات" وهين لين وقد يخففان ساكن متئد ملائم رقيق أي هينين لينى الجانب من غير فظاظة أو يمشون مشياً هيناً مصدر وصف به.
والمعنى أنهم يمشون بسكينة وتواضع لا بفخر وفرح ورياء وتجبر وذلك لما طالعوا من عظمة الحق وهيبته وشاهدوا من كبريائه وجلاله فخشعت لذلك ارواحهم وخضعت نفوسهم وأبدانهم وفي الحديث : "المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف إن قيد انقاد وإن أنيخ على صخرة استناخ" وفي "الصحاح" أنف البعير اشتكى أنفه من البرة فهو أنف ككتف ، وفي الحديث : "المؤمن كالجمل إن قيد انقاد وإن استنيخ على صخرة استناخ" وذلك للوجع الذي به فهو ذلول منقاد.
قوله قيد مجهول قاد والقود نقيض السوق فهو من إمام وذلك من خلف.
والانقياد (كشيده شدن وكردن نهادن) يقال : أنخت الجمل فاستناخ أي أبركته فبرك.
قال الشيخ سعدي :
فروتن بود هو شمند كزين
نهد شاخ رميوه سر بر زمين
وسيل اندر آمد بهول ونهيب
فتاد ازبلندى بسر درنشيب
وشبنم بيفتاد مسكين وخرد
بمهر آسمانش بعيوق برد
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ} الجهل خلو النفس من العلم واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أو فاسداً كما يترك الصلاة عمداً وعلى ذلك قوله : {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ} (البقرة : 67) فجعل فعل الهزؤ جهلاً.
والمعنى وإذا كلمهم السفهاء مواجهة بالكلام القبيح.
{قَالُوا سَلَـامًا} أي نطلب منكم السلامة فيكون منصوباً باضمار فعل كما في "المفردات" أو إنا سلمنا من إثمكم وأنتم سلمتم من شرنا كما في "إحياء العلوم".
جزء : 6 رقم الصفحة : 236
وقال بعضهم : سلاماً مصدر فعل محذوف أقيم مقام التسلم أي قالوا : نتسلم منكم تسلماً أي لا نجاهلكم.
والمجاهلة (باكسى سفاهت كردن) ولا تخالط بشيء من أموركم وهو الجهل وما يبتنى على خفة العقل فلا خير بيننا وبينكم ولا شر بل متاركة.
بالفارسية (جفاى يكديكر بكذاشتن) وأكثر المفسرين على أن السلام ليس عين عبارتهم بل صفة المصدر
240
محذوف.
والمعنى قالوا قولاً سلاماً أي سداداً يسلمون فيه من الأذى والإثم (مراد ترك تعرض سفهاست واعراض ازمكالمه ومجادلة ايشان) كما قال المحقق الرومي :
اكر كويند زراقى وسالوس
بكوهستم دوصد ندان وميرو
وكر ازخشم دشنامى دهندت
دعا كن خوش دل وخندان وميرو
قال الشيخ سعدي قدس سره :
يكى بربطى دربغل داشت مست
بشب درسر ارسايى شكست
و روز آمد آن نيك مرد سليم
بر سنك دل بر يك مشت سيم
كه دوشينه معذور بودى ومست
ترا ومرا بربط وسر شكست
مرا به شد آن زخم وبرخاست بم
ترا به نخواهد شد الإبسيم
اذان دوستان خدا بر سرند
كه از خلق بسيار بر خرخورند
ثم إن قوله : (وإذا) بيان لحالهم في المعاملة مع غيرهم أثر بيان حالهم في أنفسهم.
وهذه الآية محكمة عند أكثرهم لأن الحلم عن السفيه مندوب إليه والإغضاء عن الجاهل أمر مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة وأسلم للعرض وأوفق للورع وفي الحديث : "إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى منادٍ أين أهل الفضل؟ فيقوم ناس وهم يسير فينطلقون سراعاً إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون : إنا نراكم سراعاً إلى الجنة فيقولون : نحن أهل الفضل فيقولون : ما كان فضلكم؟ فيقولون : كنا إذا ظلمنا صبرنا وإذا أسيء إلينا غفرنا وإذا جهل علينا حملنا فيقال لهم : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين" وفي الحديث : "رأيت قوماً من أمتي ما خلقوا بعد وسيكونون فيما بعد اليوم أحبهم ويحبونني يتناصحون ويتباذلون ويمشون بنور الله في الناس رويداً في خفية وتقية يسلمون من الناس ويسلم الناس منهم بصبرهم وحلمهم قلوبهم بذكر الله تطمئن ومساجدهم بصلاتهم يعمرون يرحمون صغيرهم ويجلون كبيرهم ويتواسون بينهم يعود غنيهم على فقيرهم يعودون مرضاهم ويتبعون جنائزهم" فقال رجل من القوم : في ذلك يرفقون فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : "كلا إنه لا رفيق لهم هم خدام أنفسهم هم أكرم على الله من أن يوسع عليهم لهوان الدنيا عند ربهم ثم تلا عليه السلام وعباد الرحمن" الآية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 236
(6/175)
وقال بعضهم في صفة عباد الرحمن : العبادة حليتهم والفقر كرامتهم وطاعة الله حلاوتهم وحب الله لذتهم وإلى الله حاجتهم والتقوى زادهم والهدى مركبهم والقرآن حديثهم والذكر زينتهم والقناعة مالهم والعبادة كسبهم والشيطان عدوهم والحق حارسهم والنهار عبرتهم والليل فكرتهم والحياة مرحلتهم والموت منزلهم والقبر حصنهم والفرودس مسكنهم والنظر إلى رب العالمين منيتهم.
اعلم أن عباد الله كثير فمنهم عبد الرحمن ومنهم عبد الرزاق ومنهم عبد الوهاب إلى غير ذلك ولكن لا يكون المرء بمجرد الاسم عبداً حقيقة لا عبد الله ولا نحوه وذلك لأن عبد الله هو الذي تجلى بجميع أسمائه تعالى فلا يكون في عباده أرفع مقاماً وأعلى شأناً منه لتحققه بالاسم الأعظم واتصافه بجميع صفاته ولذا خص نبينا عليه السلام بهذه الاسم في قوله : {وَأَنَّه لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (الجن : 19) فلم يكن هذا الاسم بالحقيقة إلا له وللأقطاب من ورثته بتبعيته.
وعبد الرحمن
241
هو مظهر الاسم الرحمن فهو رحمة العالمين جميعها بحيث لا يخرج أحد من رحمته بحسب قابليته واستعداده.
وعبد الرحيم هو مظهر الاسم الرحيم وهو يختص رحمته بمن اتقى وأصلح ورضي الله عنه وينتقم ممن غضب الله عليه.
وعبد الرزاق هو الذي وسع الله له رزقه فيؤثر به على العباد.
وعبد الوهاب هو الذي تجلى له الحق باسم الجود فيهب ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي بلا عوض ولا غرض ويمد أهل عنايته تعالى بالإمداد جعلنا الله وإياكم من المتحققين بأسمائه الحسنى إنه المطلب الأعلى والمقصد الأسنى.
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ} عطف على الموصوف الأول والبيتوتة خلاف الظلول وهي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم ولذلك يقال : بات فلان قلقاً أي مضطرباً.
والمعنى (بالفارسية عباد الرحمن آنا نندكه شب بروزمى آرند).
{لِرَبِّهِمْ} لالحظ أنفسهم وهو متعلق بما بعده والتقديم للتخصيص مع مراعاة الفاصلة.
{سُجَّدًا} جمع ساجد أي حال كونهم ساجدين على وجوههم.
{وَقِيَـامًا} جمع قائم مثل نيام ونائم أو مصدر أجري مجراه أي قائمين على أقدامهم وتقديم السجود على القيام لرعاية الفواصل وليعلم أن القيام في الصلاة مقدم مع أن السجدة أحق بالتقديم لما ورد : "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" والكفرة عنها يستكبرون حتى قال بعضهم منهم لا أفعلها لأني لا أحب أن تعلو رأسي استي.
والمعنى يكونون ساجدين لربهم وقائمين أي يحبون الليل كلاً أو بعضاً بالصلاة كما قال تعالى في حق المتقين {كَانُوا قَلِيلا مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (الذاريات : 17) وتخصيص البيتوتة لأن العبادة بالليل أشق وأبعد من الرياء وهو بيان لحالهم في معاملتهم مع ربهم ووصف ليلهم بعد وصف نهارهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 236
وقد اشتهر بقيام الليل كله وصلاة الغداة بوضوء العشاء الأخيرة سعيد بن المسيب وفضيل ابن عياض وأبو سليمان الداراني وحبيب العجمي ومالك بن دينار ورابعة العدوية وغيرهم.
قال في "التأويلات النجمية" : يبيتون لربهم ساجدين ويصبحون واجدين فوجود صباحهم ثمرات سجود رواحهم كما في الخبر : "من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" أي : عظم ماء وجهه عند الله وأحسن الأشياء ظاهر بالسجود محسن وباطن بالوجود مزين.
وكانت حفصة بنت سيرين أخت محمد بن سيرين تقرأ كل ليلة نصف القرآن تقوم به في الصلاة وكانت تقوم في مصلاها بالليل فربما طفىء المصباح فيضيء لها البيت حتى تصبح وكانت من عابدات أهل البصرة وكان أخوها ابن سيرين إذا أشكل عليه شيء من القرآن قال : اذهبوا فسلوا حفصة كيف تقرأ وكانت تقول يا معشر الشباب خذوا من أنفسكم وأنتم شباب فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب.
وكانت رابعة العدوية تصلي الليل كله فإذا قرب الفجر نامت نومة خفيفة ثم تقوم وتقول : يا نفس كم تنامين وكم تقومين يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا صبيحة يوم النشور فكان هذا دأبها حتى ماتت ، وفي الخبر : "قم من الليل ولو قدر حلب شاة" ومن حرم قيام الليل كسلاً وفتوراً في العزيمة أو تهاوناً بقلة الاعتداد بذلك أو اغتراراً بحاله فليبك عليه فقد قطع عليه طريق كثير من الخير.
والذي يخل بقيام الليل كثرة الاهتمام بأمور الدنيا وكثرة أشغال الدنيا وإتعاب الجوارح والامتلاء من الطعام وكثرة الحديث واللهو واللغط وإهمال القيلولة والموفق من يغتنم وقته ويعرف داءه ودواءه ولا يهمل فيهمل.
يقول الفقير قواه الله القدير على فعل
242
الخير الكثير.
إن قلت : ما تقول في قوله عليه السلام : "من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة" إلخ فإنه يرفع مؤونة قيام الليل.
قلت : هذا ترغيب في الجماعة وبيان للرخصة وتأثير النية فإن من نوى وقت العشاء أن يقيم الفجر بجماعة كان كمن انتظرها في المسجد فرب همة عالية تسبق الأقدام ولكن العمل مع النية أفضل من النية المجردة والعزيمة فوق الرخصة.
(6/176)
قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله : يحتاج العبد إلى السنن الرواتب لتكميل الفرائض ويحتاج إلى النوافل لتكميل السنن ويحتاج إلى الآداب لتكميل النوافل ومن الأدب ترك الدنيا.
وقد اختلفوا في أن طول القيام أفضل أو كثرة السجود والركوع.
جزء : 6 رقم الصفحة : 236
قال في "الدرر" : طول القيام أولى من كثرة السجود لقوله عليه السلام : "أفضل الصلوات طول القنوت" أي القيام ولأن القراءة تكثر بطول القيام وبكثرة الركوع والسجود يكثر التسبيح والقراءة أفضل منه انتهى.
وقال بعضهم بأفضلية الثاني (ابن عمر يكى را ديدكه در نماز قيام دراز داشت كفت اكر من اورا شنا ختمى بكثرة روع وسجود فرمودمى كه از رسول خدا شنيدم عليه السلام كه كفت) "أن العبد إذا قام يصلي أتى بذنوبه فجعلت على رأسه وعاتقيه كلما ركع أو سجد تساقطت عنه".
وقال معدان بن طلحة : لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت : أخبرني بعمل يدخلني الله به الجنة فقال : سألت عن ذلك رسول الله فقال : "عليك بكثرة السجودفإنك لا تسجدسجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها حطيئة".
واعلم أن الأصل في كل عمل هو تحقيق النية وتصحيح الإخلاص.
مشايخ همه شب دعا خوانداه اند
سحركه مصلى برافشانده اند
كسى كوبتابد زمحراب روى
بكفرش كواهى دهند أهل كوى
توهم شت بر قبلة در نماز
كرت در خدانيست روى نياز
وجهنا الله وإياكم إلى وجهه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 236
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ} أي في أعقاب صلواتهم أو في عامة أوقاتهم {رَبَّنَا} (أي روردكار ما) {اصْرِفْ عَنَّا} صرفه رده {عَذَابَ جَهَنَّمَ} العذاب الإيجاع الشديد.
{إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أي : شراً دائماً وهلاكاً لازماً غير مفارق لمن عذب به من الكفار.
قال الراغب : مأخوذ من قولهم : هو مغرم بالنساء أي يلازمهن ملازمة الغريم أي ملازمة من له الدين لغريمه أي من عليه الدين فكلاهما غريم.
قال محمد بن كعب : إن الله تعالى سأل الكفار ثمن نعمته فلم يؤدوها إليه فأغرقهم فأدخلهم النار.
{إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} تعليل لاستدعائهم المذكور بسوء حالها في أنفسها أثر تعليله بسوء حال عذابها فهو من تمام كلامهم والضمير في ساءت لا يعود إلى اسم إن وهو جهنم ولا إلى شيء آخر بعينه بل هو ضمير مبهم يفسره ما بعده من التمييز وهو مستقراً ومقاماً وذلك لأن فاعل أفعال الذم يجب أن يكون معرفاً باللام أو مضافاً إلى المعرف به أو مضمراً مميزاً بنكرة منصوبة.
والمعنى بئست موضع قرار وإقامة هي أي جهنم.
وبالفارسية (بتحقيق دوزخ بد آرامكاهست وبد جاى بودنى).
وفي الآية إيذان بأنهم مع حسن مخالقتهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق خائفون
243
من العذاب متضرعون إلى الله في صرفه عنهم.
يعني يجتهدون غاية الجهد ويستفرغون نهاية الوسع ثم عند السؤال ينزلون منزلة العصاة ويقفون موقف أهل الاعتذار ويخاطبون بلسان التذلل كما قيل :
وما رمت الدخول عليه حتى
حللت محلة العبد الذليل
وذلك لعدم اعتدادهم بأعمالهم ووثوقهم على استمرار أحوالهم كقوله : {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (المؤمنون : 60) : قال الشيخ سعدى قدس سره.
طريقت همينست كاهل يقين
نكوكار بودند وتقصير بين
وقال :
جزء : 6 رقم الصفحة : 243
بنده همان به كه ز تقصير خويش
عذر بدركاه خداى آورد
ورنه سراوار خدا ونديش
كس نتواند كه بجاى آورد
قال ابن نجيد : لا يصف لأحد قدم في العبودية حتى يكون أفعاله عنده كلها رياء وأحواله كلها دعاوى.
وقال النهرجوري : من علامة من تولاه الله في أعماله أن يشهد التقصير في إخلاصه والغفلة في أذكاره والنقصان في صدقه والفتور في مجاهدته وقلة المراعاة في فقره فيكون جميع أحواله عنده غير مرضية ويزداد فقراً إلى الله تعالى في فقره وسيره حتى يفنى عن كل ما دونه.
ودلت الآية على الدعاء مطلقاً خصوصاً في أعقاب الصلوات وهو مخ العبادة فليدع المصلي مفرداً وفي الجماعة إماماً كان أو مأموماً وليقل : "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي وأقل عثراتي اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد ونعيماً لا ينفد وقرة عين الأبد ومرافقة نبيك محمد اللهم ألبس وجوهنا منك الحياء واملأ قلوبنا بك فرحاً وأسكن في نفوسنا عظمتك وذلك جوارض لخدمتك واجعلك أحبّ إلينا مما سواك ، اللهم افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله اللهم اغفر لي ولوالدي وارحمهما كما ربياني صغيراً واغفر لأعمامنا وعماتنا وأخوالنا وخالاتنا وأزواجنا وذرياتنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات يا أرحم الراحمين ويا خير الغافرين" وغير ذلك مما هو مذكور في "عوارف المعارف" نقلاً عن "قوت القلوب" للإمام المكي.
(6/177)
{وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا} نفق الشيء إذا مضى ونفد إما بالبيع نحو نفق المبيع نفاقاً وإما بالموت نحو نفقت الدابة نفوقاً وإما بالفناء نحو نفقت الدراهم وأنفقتها.
{لَمْ يُسْرِفُوا} لم يجاوزوا حد الكرم {وَلَمْ يَقْتُرُوا} ولم يضيّقوا تضييق الشحيح فإن القتر والإقتار والتقتير هو التضييق الذي هو ضد الإسراف والإسراف مجاوزة الحد في النفقة.
{وَكَانَ} الإنفاق المدلول عليه بقوله أنفقوا {بَيْنَ ذَالِكَ} أي بين ما ذكر من الإسراف والتقتير وهو خبر كان ، وقوله : {قَوَامًا} خبر بعد خبر أو هو الخبر وبين ذلك ظرف لغو لكان على رأي من يرى أعمالها في الظرف.
والمعنى وسطاً عدلاً سمي به لاستقامة الطرفين واعتدالهما بحيث لا ترجح لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه لكونه وسطاً بينهما كمركز الدائرة فإنه يكون نسبة جميع الدائرة إليه على السواء ونظير القوام
244
السواء فإنه سمي به لاستواء الطرفين فالآية نظير قوله تعالى في سورة الإسراء {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} .
جزء : 6 رقم الصفحة : 243
وسط را مكن هركز از كف رها
كه خير الأمور ست أوساطها
وتحقيق المقام الإنفاق ضربان محمود ومذموم.
فالمحمود منه ما يكسب صاحبه العدالة وهو بذل ما أوجبت الشريعة بذله كالصدقة المفروضة والإنفاق على العيال ولذا قال الحسن : ما أنفق الرجل على أهله في غير إسراف ولا فساد ولا إقتار فهو في سبيل الله ومنه ما يكسب صاحبه أجراً وهو الإنفاق على من ألزمت الشريعة إنفاقه عليه ومنه ما يكسب له الحرية وهو بذل ما ندبت الشريعة إلى بذله فهذا يكتسب من الناس شكراً ومن ولي النعمة أجراً.
والمذموم ضربان إفراط وهو التبذير والإسراف وتفريط وهو الإمساك والتقتير وكلاهما يراعى فيه الكمية والكيفية فالتبذير من جهة الكمية أن يعطي أكثر ما يحتمله حاله ومن حيث الكيفية أن يضعه في غير موضعه والاعتبار فيه بالكيفية أكثر من الكمية فرب منفق درهماً من ألوف وهو في إنفاقه مسرف وببذله ظالم مفسد كمن أعطى فاجرة درهماً أو اشترى خمراً ورب منفق ألوفاً لا يملك غيرها هو فيه مقتصد وبذله محمود كما روي في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث أنفق جميع ماله في غزوة تبوك ولما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر" قال : الله ورسوله.
وقد قيل لحكيم : متى يكون بذلك القليل إسرافاً والكثير اقتصاداً؟ قال : إذا كان بذل القليل في باطل وبذل الكثير في حق ومن هذا الباب ما قال مجاهد في الآية : لو كان لرجل مثل أبي قبيس ذهباً فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفاً ولو أنفق درهماً في معصية الله كان مسرفاً والتقتير من جهة الكمية أن ينفق دون ما يحتمله حاله ومن جهة الكيفية أن يمنع من حيث يجب وينفق حيث لا يجب والتبذير عند الناس أحمد لأنه جود لكنه أكثر مما يجب والتقتير بخل والجود على كل حال أحمد من البخل لأن رجوع المبذر إلى السخاء سهل وارتقاء البخيل إليه صعب وأن المبذر قد ينفع غيره وإن أضر بنفسه والمقتر لا ينفع نفسه ولا غيره على أن التبذير في الحقيقة هو من وجه اقبح إذ لا إسراف إلا وفي جنبه حق يضيع ولأن التبذير يؤدي صاحبه إلى أن يظلم غيره ولذا قيل : الشحيح أعذر من الظالم ولأنه جهل بقدر المال الذي هو سبب استبقاء النفس والجهل رأس كل شر والمتلاف ظالم من وجهين لأخذه من غير موضعه ووضعه في غير موضعه.
قال يزيد بن حبيب في هذه الآية أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثياباً للجمال ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدّ عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم ومن الثياب ما يستر عوراتهم ويكنهم عن الحر والقرّ وفي الحديث : "ليس لابن آدم حق فيما سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء" يعني : كسر الخبز واحدتها جرفة بالكسر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 243
وقال عمر رضي الله عنه : كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله.
اكره باشد مرادف خورى
زدوران بسى نامرادى برى
دريغ آدمي زادة ر محل
كه باشد و انعام بل هم أضل
245
قال الحافظ :
خواب وخورت زمرتبة خويش دور كرد
آنكه رسى بخويش كه بي خواب وخورشوى
ثم إن الإسراف ليس متعلقاً بالمال بل بكل شيء وضع في غير موضعه اللائق به ألا ترى أن الله تعالى وصف قوم لوط بالإسراف لوضعهم البذر في غير المحرث فقال : {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِا بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} (الأعراف : 81) ووصف فرعون بقوله : {إِنَّه كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ} (الدخان : 31) فالتكبر لغير المتكبر اسراف مذموم وللمتكبر اقتصاد محمود وعلى هذا فقس.
(6/178)
وفي الآية إشارة إلى أهل الله الباذلين عليه الوجود.
{إِذَآ أَنفَقُوا} وجودهم في ذات الله وصفاته {لَمْ يُسْرِفُوا} أي لم يبالغوا في المجاهدة والرياضة حتى يهلكوا أنفسهم بالكلية كما قال : {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة : 195) {وَلَمْ يَقْتُرُوا} في بذل الوجود بأن لا يجاهدوا أنفسهم في ترك هواها وشهواتها كما أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام فقال : "أنذر قومك من أكل الشهوات فإن القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عني" {وَكَانَ بَيْنَ ذَالِكَ قَوَامًا} بحيث لا يهلك نفسه بفرط المجاهدة ولا يفسد قلبه بتركها وتتبع الشهوات كما في "التأويلات النجمية".
جزء : 6 رقم الصفحة : 243
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ} لا يعبدون {مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} كالصنم أي لا يجعلونه شريكاً له تعالى.
يقال : الشرك ثلاثة : أولها أن يعبد غيره تعالى ، والثاني : أن يطيع مخلوقاً بما يأمره من المعصية ، والثالث : أن يعمل لغير وجه الله فالأول كفر والآخران معصية.
وفي "التأويلات النجمية" : يعني لا يرفعون حوائجهم إلى الأغيار ولا يتوهمون منهم المسار والمضار وأيضاً لا يشربون أعمالهم بالرياء والسمعة ولا يطلبون مع الله مطلوباً ولا يحبون معه محبوباً بل يطلبون الله من الله و يحبونه به.
قال الصائب.
غير حق را مى دهى ره در حريم دل را
ميكشى بر صفحة هستى خط باطل را
{وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ} أي حرمها بمعنى حرم قتلها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه مبالغة في التحريم والمراد نفس المؤمن والمعاهد {إِلا بِالْحَقِّ} المبيح لقتلها أي لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها كما إذا قتل أحداً فيقتص به أو زنى وهو محصن فيرجم أو ارتد أو سعى في الأرض بالفساد فيقتل {وَلا يَزْنُونَ} الزنى وطء المرأة من غير عقد شرعي.
واعلم أن الله تعالى نفى عن خواص العباد أمهات المعاصي من عبادة الغير وقتل النفس المحرمة والزنى بعدما أثبت لهم أصول الطاعات من التواضع ومقابلة القبيح بالجميل وإحياء الليل والدعاء والإنفاق العدل وذلك إظهار لكمال إيمانهم فإنه إنما يكمل بالتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل وإشعاراً بأن الأجر المذكور فيما بعد موعود للجامع بين ذلك وتعريضاً للكفرة بأضداده أي وعباد الرحمن الذين لا يفعلون شيئاً من هذه الكبائر التي جمعتهن الكفرة حيث كانوا مع إشراكهم به سبحانه مداومين على قتل النفوس المحرمة التي من جملتها الموؤدة مكبين على الزنى إذ كان عندهم مباحاً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 246
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي الذنب أعظم؟ قال : "أن تجعلنداً وهو خلقك" قال : قلت : ثم أي قال : "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قال : ثم أي "قال أن تزني بحليلة جارك".
وفي "التأويلات النجمية" : {وَلا يَزْنُونَ} أي لا يتصرفون
246
في عجوز الدنيا بشهوة نفسانية حيوانية بل يكون تصرفهم فيهاوفي الله وبالله أي بخلاف حال العامة {وَمَن} (هركه) {يَفْعَلْ ذَالِكَ} شيئاً مما ذكر من الأفعال كما هو دأب الكفرة {يَلْقَ أَثَامًا} هو جزاء الإثم والعقوبة كالوبال والنكال وزناً ومعنى.
وبالفارسية (به بيند جزاى بزه كارىء خود) تقول أثم الرجل بالكسر أذنب وأثمه جازاه.
قال في "القاموس" : هو كسحاب واد في جهنم والعقوبة وفي الحديث : "الغي والأثام بئران يسيل فيهما صديد أهل النار".
{يُضَـاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} (المضاعفة : افزون كردن يعني يك دو كردن) كما قال الراغب : الضعف تركب قدرين متساويين يقال : أضعفت الشيء وضعفته وضاعفته ضممت إليه مثله فصاعداً والجملة بدل من يلق لاتحادهما في المعنى أي يتزايد عذابه وقتاً بعد وقت وذلك لانضمام المعاصي إلى الكفر.
وفي "التأويلات النجمية" : أي يكون معذباً بعذابين عذاب دركات النيران وعذاب فرجات درجات الجنان وقربات الرحمن {وَيَخْلُدْ} (وجاويد ماند) {فِيهِ} أي : في ذلك العذاب حال كونه {مُهَانًا} ذليلاً محتقراً جامعاً للعذاب الجسماني والروحاني لا يغاث.
وبالفارسية (خوار وبى اعتبار) قرأ ابن كثير وحفص فيهي مهاناً بإشباع كسرة الهاء وجعلها بالياء في الوصل وذلك للتنبيه على العذاب المضاعف ليحصل التيقظ والامتتاع عن سببه.
(6/179)
{إِلا مَن تَابَ} من الشرك والقتل والزنى {وَءَامَنَ} وصدق بوحدانية الله تعالى.
{وَعَمِلَ عَمَلا صَـالِحًا} (وبكند كردارشايسته براى تكميل إيمان) ذكر الموصوف مع جريان الصالح والصالحات مجرى الاسم للاعتناء به والتنصيص على مغايرته للأعمال السابقة والاستثناء لأنه من الجنس لأن المقصود الإخبار بأن من فعل ذلك فإنه يحل به ما ذكر إلا أن يتوب.
وأما إصابة أصل العذاب وعدمها فلا تعرض لها في الآية.
فأولئك الموصوفون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح.
وبالفارسية (س آن كروه) {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ} التي عملوها في الدنيا في الإسلام {حَسَنَـاتٍ} يوم القيامة وذلك بأن يثبت له بدل كل سيئة حسنة وبدل كل عقاب ثواباً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 246
قال الراغب : التبديل جعل الشيء مكان آخر وهو أعم من العوض فإن العوض هو أن يصير لك الثاني بإعطاء الأول والتبديل يقال للتغيير وإن لم تأت ببدله.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال عليه السلام : "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ويخبأ عنه كبارها فيقال : عملت يوم كذا كذا وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال : أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة فيقول : إن لي ذنوباً ما أراها ههنا ، قال : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يضحك حتى بدت نواجذه" ثم تلا فأولئك إلخ.
قال الزجاج : ليس أن السيئة بعينها تصير حسنة ولكن التأويل أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة انتهى.
قال المولى الجامي {فأولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ} يعني في الحكم فإن الأعيان نفسها لا تتبدل ولكن تنقلب أحكامها انتهى كلامه في "شرح الفصوص".
وقال حضرة الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره في "شرح الأربعين حديثاً" "الطاعات كلها مطهرات" فتارة بطريق المحو المشار إليه بقوله تعالى : {إِنَّ الْحَسَنَـاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّـاَاتِ} وبقوله عليه السلام : "أتبع الحسنة تمحها" وتارة بطريق التبديل المشار إليه بقوله : {إِلا مَن تَابَ وَءَامَنَ} إلخ فالمحو المذكور
247
عبارة عن حقيقة العفو والتبديل من مقام المغفرة وإن تنبهت لما أشرت إليه عرفت الفرق بين العفو والمغفرة انتهى كلامه.
[
وفي "التأويلات النجمية" {إِلا مَن تَابَ} عن عبادة الدنيا وهوى النفس {وَءَامَنَ} بكرامات وكمالات اعدها الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {وَعَمِلَ عَمَلا صَـالِحًا} لتبليغه إلى تلك الكمالات وهو الإعراض عما سوى الله بجملته والإقبال على الله بكليته رجاء عواطف إحسانه كما قيل لبعضهم : كلي بكلك مشغول فقال : كلي لكلك مبذول ولعمري هذا هو الإكسير الأعظم الذي إن طرح ذرة منه على قدر الأرض من نحاس السيئات تبدلها إبريز الحسنات الخالصة كما قال تعالى إخباراً عن أهل هذا الإكسير.
{فأولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ} كما يبدل الإكسير النحاس ذهباً انتهى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 246
يقول الفقير : لا شك عند أهل الله تعالى في انقلاب الأعيان واستحالتها ألا ترى إلى انحلال مزاج المادة الأصلية إلى غيرها في العالم الصناعي فإذا انحل المزاج واستحالت المادة إلى الصورة الهيولانية صلحت لأن يولد الحكيم منها إنسان الفلاسفة.
قال الإمام الجلدكي : الأرض تستحيل ماء والماء يستحيل هواء والهواء يستحيل ناراً وبالعكس النار تستحيل هواء والهواء ماء والماء يستحيل أرضاً والعناصر يستحيل بعضها إلى بعض مع أن كل عنصر من العناصر ممتزج من طبيعتين فاعلة ومنفعلة فهذا برهان واضح على انحلال المزاج إلى غيره في الأصول.
وأما في "الفصول" فإن الأرض تستحيل نباتاً والنبات يستحيل حيواناً فوقف الفاضل ابن سينا وقال : إن الحيوان لا يستحيل اللهم إلا أن يفسد إلى عناصره ويرجع إلى طبائعه فنقول : إن الأرض والماء إذا لم يفسدا في الصورة عن كيانهما لما استحالا نباتاً والنبات إذا لم يفسد عن كيانه لما استحال حيواناً فكيف خفي عليه أن النبات والحيوان يفسدان بالطبخ ويصيران للإنسان غذاء وينحل مزاجهما إلى الكيموس الغذائي ويصيران في جوف الإنسان دماً ويستحيل الدم بالحركة الشوقية بين الذكر والأنثى فيصير منياً ثم جنيناً ثم إنساناً وكذلك جسد الإنسان بعد فساده يمكن أن يصير نباتاً ويستحيل إلى حيوانات شتى مثل الديدان وغيرها ويستحيل الجميع حتى العظام الرفات إلى أن تقبل التكوين إذا شربت ماء الحياة وإنما الأجزاء الجسدانية للإنسان محفوظة معلومة عند الله وإن استحالت من صفة إلى صفة وتبدلت من حالة إلى حالة وانحل مزاج كل منها إلى غيره إلا أن روحه وعقله ونفسه وذاته الباطنة باقية في برزخها.
قال الحافظ :
دست ازسمس وجود رمردان ره بشوى
تا كيمياى عشق بيابى وزر شوى
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} ولذلك بدل السيئات حسنات {رَّحِيمًا} ولذلك أثاب على الحسنات.
(6/180)
جزء : 6 رقم الصفحة : 246
{وَمَن تَابَ} أي رجع عن المعاصي مطلقاً بتركها بالكلية والندم عليها {وَعَمِلَ صَـالِحًا} يتدارك به ما فرط منه أو خرج عن المعاصي ودخل في الطاعات {فَإِنَّهُ} بما فعل {يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ} يرجع إليه تعالى بعد الموت.
قال الراغب : ذكر إلى يقتضى الإنابة.
{مَتَابًا} أي : متاباً عظيم الشأن مرضياً عنده ماحياً للعقاب محصلاً للثواب فلا يتحد الشرط والجزاء لأن في الجزاء معنى زائداً على ما في الشرط فإن الشرط هو التوبة بمعنى الرجوع عن المعاصي والجزاء هو الرجوع إلى الله
248
رجوعاً مرضياً.
قال الراغب : متاباً أي التوبة التامة وهو الجمع بين ترك القبيح وتحري الجميل اهـ وهذا تعميم بعد التخصيص لأن متعلق التوبة في الآية الأولى الشرك والقتل والزنى فقط وههنا مطلق المعاصي.
والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرط منه والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الإعادة فمتى اجتمع هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة.
قال المولى الجامي :
باخلق لاف توبه ودل بركنه مصر
كس ى نمى بردكه بدين كونه كمرهم
قال ابن عطاء : التوبة الرجوع من كل خلق مذموم والدخول في كل خلق محمود أي وهي توبة الخواص.
وقال بعضهم : التوبة أن يتوب من كل شيء سوى الله تعالى أي وهي توبة الأخص فعليك بالتوبة والاستغفار فإنها صابون الأوزار وفي الحديث القدسي : "أنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين" أي : من أصواتهم بالتسبيح والإصرار يؤدي إلى الشرك والموت على غير الملة الإسلامية.
قال أبو إسحاق : رأيت رجلاً نصف وجهه مغطى فسألته فقال : كنت نباشاً فنبشت ليلة قبر امرأة فلطمتني وعلى وجهه أثر الأصابع فكتبت ذلك إلى الأوزاعي فكتب إليّ أن أسأله كيف وجد أهل القبور فسألته فقال : وجدت أكثرهم متحولاً عن القبلة فقال الأوزاعي : هو الذي مات على غير الملة الإسلامية أي بسب الإصرار المؤدي إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.
وذكر في أصول الفقه أن ارتكاب المنهي أشد ذنباً من ترك المأمور ومع ذلك صار إبليس مردوداً.
وفي "المثنوي" :
جزء : 6 رقم الصفحة : 248
توبه زا از جانب مغرب درى
بازباشد تاقيامت بردرى
تا ز مغرب برزند سر آفتاب
باز باشد آن درازوى رومتاب
هشت جنت را زرحمت هشت در
كه در توبه است زان هشت أي سر
آن همه كه باز باشد كه فراز
وإن درتوبه نباشد جزكه باز
هين غنيمت دار دربازست زود
رخت آنجا كش بكورىء حسود
نسأل الله تعالى توبة نصوحاً ومن آثار رحمته فيضاً ونوالاً وفتوحاً.
{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} من الشهادة وهي الإخبار بصحة الشيء عن مشاهدة وعيان.
والزور الكذب وأصله تمويه الباطل بما يوهم أنه حق.
وقال الراغب : الأزور المائل الزور أي الصدر وقيل للكذب زور لكونه مائلاً عن جهته وانتصابه على المصدرية والأصل لا يشهدون شهادة الزور بإضافة العام إلى الخاص فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
والمعنى لا يقيمون الشهادة الكاذبة.
وبالفارسية (كواهى دروغ ندهند).
واختلف الأئمة في عقوبة شاهد الزور.
فقال أبو حنيفة رحمه الله : لا يعزر بل يوقف في قومه ويقال لهم : إنه شاهد زور.
وقال الثلاثة : يعزر ويوقف في قومه ويعرفون أنه شاهد زور.
وقال مالك : يشهر في الجوامع والأسواق والمجامع.
وقال أحمد : يطاف به في المواضع التي يشتهر فيها فيقال : إنا وجدنا هذا شاهد زور فاجتنبوه.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ويسخم وجهه ويطوف في الأسواق كما في "كشف الأسرار".
قال ابن عطاء رحمه الله : هي شهادة اللسان من غير مشاهدة القلب ويجوز أن يكون يشهدون من الشهود وهو الحضور وانتصاب
249
الزور على المفعول به والأصل لا يشهدون مجالس الزور فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
والمعنى لا يحضرون محاضر الكذب ومجالس الفحش فإن مشاهدة الباطل مشاركة فيه من حيث أنها دليل الرضى به كما إذا جالس شارب الخمر يغير ضرورة فإنه شريك في الإثم.
وأما الملامية وهم الذين لا يظهرون خيراً ولا يضمرون شراً لانفراد قلوبهم مع الله يمشون في الأسواق ويتكلمون مع الناس بكلام العامة ويحضرون بعض مواضع الشرور لمشاهدة القضاء والقدر حتى يوافقوا الناس في الشر فهم في الحقيقة عباد الرحمن وهم المرادون بقوله عليه السلام : "أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري" : قال الحافظ :
مكن بنامه سياهى ملامت من مست
كه آكهست تقدير برسرش ه نوشت
جزء : 6 رقم الصفحة : 248
وقال الخجندي :
برخيز كمال از سرنا موس كه رندان
كردند اقامت بسر كوى ملامت
وقال بعضهم : المراد بالور أعياد المشركين واليهود والنصارى (يا بازيكاه ايشان) كما في "تفسير الكاشفي".
(6/181)
قال في "ترجمة الفتوحات" : (نبايد كه أهل ذمت ترابشرك خود فريب دهندكه نزد حق تعالى هلاك تو در آنست شسخ أكبر قدس سره الاطهر ميفر ما يدكه در دمشق اينمعنى مشاهده كردم كه زنان ومردان بانصارى مسامحت ميكنند وصغار واطفال خودرا بكنايس مى برند وازآب معموديه برسبيل تبرك برايشان مى افشا نند واينها قرين كفراست يا خود نفس كفراست وآنرا هي مسلماني نسندد) وفي "قاضي خان" : رجل اشترى يوم النيروز شيئاً لم يشتره في غير ذلك اليوم إن أراد به تعظيم ذلك اليوم كما عظمه الكفرة يكون كفراً وإن فعل ذلك لأجل الشرب والتنعم يوم النيروز لا يكون كفراً انتهى والمراد نيروز النصارى لا نيروز العجم كما هو الظاهر من كلامه.
وقال بعضهم : يدخل في مجلس الزور اللعب واللهو والكذب والنوح والغناء بالباطل.
روي : عن محمد بن المنكدر قال : بلغني أن الله تعالى يقول يوم القيامة : أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أدخلوهم رياض المسك ثم يقول للملائكة : أسمعوا عبادي تحميدي وثنائي وتمجيدي وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كذا في "كشف الأسرار".
ومن سنن الصوم أن يصوم الصائم لسانه عن الكذب والغيبة وفضول الكلام والسب والنميمة والمزاح والمدح والغناء والشعر والمراد بالغناء التغني بالباطل وهو الذي يحرك من القلب ما هو مراد الشيطان من الشهوة ومحبة المخلوقين وأما ما يحرك الشوق إلى الله فمن التغني بالحق كما في "الإحياء".
واختلف في القراءة بالألحان فكرهها مالك والجمهور لخروجها عما جاء القرآن له من الخشوع والتفهم ولذا قال في "قاضي خان" : لا ينبغي أن يقدم في التروايح "الخوشخوان" بل يقدم "الدرستخوان" فإن الإمام إذا كان حسن الصوت يشغل عن الخشوع والتدبير والتفكر انتهى.
وأباحها أبو حنيفة وجماعة من السلف للأحاديث لأن ذلك سبب للرقة وإثارة الخشية كما في "فتح القريب".
قال في "أصول الحديث" : إذا جلس الشيخ من أهل الحديث مجلس التحديث يفتتح بعد قراءة قارىء حسن الصوت شيئاً من القرآن انتهى وإنما استحب تحسين الصوت بالقراءة وتزيينها
250
ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط فإن أفرط زاد حرفاً أو أخفى حرفاً فهو حرام كما في "أبكار الأفكار".
قال الشيخ سعدي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 248
به ازروى زيباست أواز خوش
كه اين حظ نفسست وآن قوت روح
ورأى عليه السلام ليلة المعراج ملكاً لم ير قبله مثله وكان إذا سبح اهتز العرش لحسن صوته وكان بين يديه صندوقان عظيمان من نور فيهما براءة الصائمين من عذاب النار وتفصيله في "مجالس النفائس" لحضرة الهدائي قدس سره.
وقال سهل قدس سره : المراد بالزور مجالس المبتدعين.
قال أبو عثمان قدس سره : مجالس المدعين وكذا كل مشهد ليس لك فيه زيادة في دينك بل تنزل وفساد {وَإِذَا مَرُّوا} على طريق الاتفاق {بِاللَّغْوِ} أي ما يجب أن يلغى ويطرح مما لا خير فيه.
وبالفارسية (بيزى ناسنديده) وقال في "فتح الرحمن" : يشمل المعاصي كلها وكل سقط من فعل أو قول.
وقال الراغب : اللغو من الكلام ما لا يعتد به هو يعد ذلاقة روية وفكر فيجرى مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور.
{مَرُّوا} حال كونهم {كِرَامًا} جمع كريم يقال : تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه.
قال الراغب : الكرم إذا وصف الله به فهو اسم لإحسانه وإنعامه المتظاهر وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه ولا يقال : هو كريم حتى يظهر ذلك منه.
والمعنى معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب والكناية عما يستهجن الصريح به.
قال في "كشف الأسرار" : قيل : إذا أرادوا ذكر النكاح وذكر الفروج كنوا عنه فالكرم ههنا هو الكناية والتعريض وقوله عز وجل : {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} (المائدة : 75) كناية عن البول والخلاء وقد كنى الله عز وجل في القرآن عن الجماع بلفظ الغشيان والنكاح والسر والإتيان والإفضاء واللمس والمس والدخول والمباشرة والمقاربة في قوله : {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} (البقرة : 222) والطمث في قوله : {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} (الرحمن : 56) وهذا باب واسع في العربية.
قال الإمام الغزالي : أما حد الفحش وحقيقته فهو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة وأكثر ذلك يجري في ألفاظ الوقاع وما يتعلق به وأهل الصلاح يتحاشون من التعرض لها بل يكنون عنها ويدلون عليها بالرموز وبذكر ما يقاربها ويتعلق بها مثلاً يكنون عن الجماع بالمس والدخول والصحبة وعن التبول بقضاء الحاجة وأيضاً لا يقولون : قالت زوجتك كذا بل يقال : قيل في الحجرة أو قيل من وراء السترة أو قالت أم الأولاد كذا وأيضاً يقال لمن به عيب يستحيي منة كالبرحة والقرع والبواسير العارض الذي يشكوه وما يجري مجراه وبالجملة كل ما يخفى ويستحى منه فلا ينبغي أن يذكر ألفاظه الصريحة فإنه فحش والفاحش يحشر يوم القيامة في صورة الكلب.
(6/182)
جزء : 6 رقم الصفحة : 248
قال الشيخ سعدي : (ريشي اندرون جامة داشتم حضرت شيح قدس سره هرروز رسيدي كه ريشت ونست ونرسيدي كه كجاست دانستم كه أزان احتراز ميكند كه ذكر هر عضوى روانباشد وخرد مندان كفته اند هركه سخن نسنجد ازجوابش برنجد).
تانيك نداني كه سخن عين صوابست
بايدكه بكفتن دهن ازهم نكشاي
كرارست سخن كوبي ودربدنب بماني
به زانكه دروغت دهد ازبند رهابي
251
والمراد أن الصدق أولى وإن لزم الضرر على نفس القائل وأما جواز الكذب فإنما هو لتخليص الغير ودفع الفتنة بين الناس وهو المراد من قوله : (دروغ مصملحت آميزبه ازراست فتنه انكيز) نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصادقين المخلصين بل من الصديقين المخلصين ويحشرنا مع الكرماء الحلماء والعلماء الأدباء إنه الموفق للأقوال الحسنة والأفعال المستحسنة.
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا} وعصوا.
وبالفارسية (ندداده شوند) {وَالَّذِينَ إِذَا} المشتملة على المواعظ والأحكام {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا} خرّ سقط سقوطاً يسمع منه خرير والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو {صُمًّا} جمع أصم وهو فاقد حاسة السمع وبه يشبه من لا يصغي إلى الحق ولا يقبله.
{وَعُمْيَانًا} جمع أعمى وهو فاقد حاسة البصر.
والمعنى لم يقفوا على الآيات حال كونهم صماً لم يسمعوا لها وعمياً لم يبصروها بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية وانتفعوا بها.
قال الكاشفي : (بكوش هوش شنيدند وبديده بصريت جلوات جمال رنرا ديدند حاصلي آنكه از آيات إلهي تغافل نورزيدند) انتهى وإنما عبر عن المعنى المذكور بنفي الضد تعريضاً لما يفعله الكفرة والمنافقون فالمراد من النفي نفي الصمم والعمى دون الخرور وإن دخلت الأداة عليه {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا} (أي رورود كارما) {هَبْ لَنَا} (ببخش مارا) وهو أمر من وهب يهب وهباً وهبة.
والهبة أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض ويوصف الله بالواهب والوهاب بمعنى أنه يعطي كلاً على قدر استحقاقه.
{مِنْ أَزْوَاجِنَا} (از زنان ما) وهو جمع زوج يقال لكل ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضاداً زوج وأما زوجة فلغة رديئة كما في "المفردات".
{وَذُرِّيَّـاتِنَا} (وفرزندان ما) وهو جمع ذرية أصلها صغار الأولاد ثم صار عرفاً في الكبار أيضاً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 248
قال في "القاموس" : ذرأ الشيء كثره ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين.
{قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (كسى كه روشنىء ديدها بود) أي بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل فإن المؤمن إذا ساعده أهله في طاعة الله يسر بهم قلبه وتقربهم عينه لما يرى من مساعدتهم له في الدين وتوقع لحوقهم به في الجنة حسبما وعد بقوله : {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (الطور : 21) فالمراد بالقرور المسؤول تفضيلهم بالفضائل الدينية لا بالمال والجاه والجمال ونحوها.
وقرة منصوب على أنه مفعول هب وهي إما من القرار ومعناه أن يصادف قلبه من يرضاه فتقر عينه عن النظر إلى غيره ولا تطمح إلى ما فوقه وإما من القر بالضم وهو البرد والعرب تتأذى من الحر وتستريح إلى البرد فقرور العين على هذا يكون كناية عن الفرح والسرور فإن دمع العين عند السرور بارد وعند الحزن حار.
ومن إما ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقرّ به عيوننا من طاعة وصلاح ، أو بيانية على أنها حال كأنه قيل : هب لنا قرة أعين ثم فسرت القرة وبينت بقوله : {مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّـاتِنَا} ومعناه أن يجعلهم الله لهم قرة أعين وهو من قولهم رأيت منك أسداً أي أنت أسد قال بعضهم :
نعم الإله على العباد كثيرة
وأجلهن نجابة الأولاد
قال الشيخ سعدى قدس سره :
زن خوب فرمان بر ارسا
كند مرد درويش را ادشا
252
جومستور باشد زن خوب روى
بديدا روى دربهشت است شوى
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} الإمام المؤتم به إنساناً كان يقتدى بقوله وفعله أو كتاباً أو غير ذلك محقاً كان أو مبطلاً كما في "المفردات" أي : اجعلنا بحيث يقتدي بنا أهل التقوى في إقامة مراسم الدين بإفاضة العلم والتوفيق للعمل.
وفي "الإرشاد" : والظاهر صدوره عنهم بطريق الانفراد وإن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء واجعلني للمتقين إماماً ما خلا أنه حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير للقصد إلى الإيجاز على طريقة قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَـاتِ} (المؤمنون : 51) وأبقى إماماً على حاله ولم يقل أئمة وإعادة الموصول في المواضع السبعة مع كفاية ذكر الصلاة بطريق العطف على صلة الموصول الأول للإيذان بأن كل واحد مما ذكر في حيز صلة الموصولات المذكورة وصف جليل على حدته له شأن خطير حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء من ذلك تتمة لذلك وتوسط العاطف بين الصفة والموصوف لتنزيل الاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 248
(6/183)
قال القفال وجماعة من المفسرين : هذه الآية دليل على أن طلب الرياسة في الدين واجب.
وعن عروة : أنه كان يدعو بأن يجعله الله ممن يحمل عنه العلم فاستجيب دعاؤه.
وأما الرياسة في الدنيا : فالسنة أن لا يتقلد الرجل شيئاً من القضاء والإمارة والفتوى والعرافة بانقياد قلب وارتضائه إلا أن يكره عليه بالوعيد الشديد وقد كان لم يقبلها الأوائل فكيف الأواخر.
بو حنيفة قضا نكرد وبمرد
تو بميري اكر قضا نكنى
يقول الفقير : إن قلت : قول الشيخ أبي مدين قدس سره آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الجاه قد يفسر فيه الخروج بالظهور فما معناه؟ قلت : إن الصديقين لما استكملوا مرتبة الاسم الباطن أحبوا أن يظهروا بمرتبة الاسم الظاهر ليكون لهم حصة من كمالات الأسماء الإلهية كلها وهذا المعنى لا يقتضي التقلد المعروف كأبناء الدنيا بل يكفي أن تنتظم بهم مصالح الدنيا بأي وجه كان ، ولقد شاهدت من هذا أن شيخي الأجل الأكمل قدس سره رأى في بعض مكاشفاته أنه سيصير سلطاناً فلم يمض إلا قليل حتى استولى البغاة على القسطنطينية وحاصروا السلطان ومن يليه فلم تندفع الفتنة العامة إلا بتدبير حضرة الشيخ حيث دبر تدبيراً بليغاً كوشف عنه فاستأصل الله البغاة وأعتق السلطان والمؤمنين جميعاً فمثل هذا هو الظهور بالاسم الظاهر وتمامه في كتابنا المسمى بتام الفيض هذا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 248
قال في "كشف الأسرار" : (جابر بن عبد الله كفت يش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حاضر بودم كه مردى بنزودوى آمد ورسيدكه يا أمير المؤمنين.
{وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ} الخ نزول اين آيت درشان كيست وإيشان ه قوم اندكه رب العالمين إشانرا نامزد كردجابر كفت علي رضي الله عنه آن ساعت روى بابمن كرد وكفت يا جابر تدري من هؤلاء هي داني كه إيشان كه اند واين آإيت كجافر وآمد كفتم يا أمير المؤمنين نزلت بالمدينة بمدينة فرو آمد اين آإيت كفت نه يا جابركه أين آيت بمكه فرو آمد يا جابر.
{الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا} أبو بكر بن أبي قحافة أست اورا حليم قريش مكيفتند بدوكاركه رب العزة أورا بعز إسلام كرامي كرد
253
أورا ديدم در مسجد مكه ازهوش برفته ازس كه كفار بني مخزوم وبني أمية أورا زده بودند وبنو تيم أزبهر أو خضومت كردند بابني مخزوم أورا بخانه بردند همانه ازهوش برفته ون باهوش آمد مادر خودرا ديد بربالين وي نشسته كفت يا أمه أين محمد محمد كجاست وكاروي به رسيد درش بوقحافة كفت) وما سؤالك عنه ولقد أصابكمن أجله ما لا يصيب أحداً لأجل أحد (أي سره جاي آنست كه توزحال محمد رسي ودل بوي نين مشغول داري نمى بيني كه برتوه ميرود ازبهروي أي سر نمى بيني بنو تيم كه بتعصب توبر خاستند وميكوينداكر توازدين محمد باز كردي وبدين دران خهويش بازآيي ماثارتواز بني مخزوم طلب داريم وإشانرا بيانيم ودمار آريم تاتشفىء توبديد كنيم أبو بكر سخت حليم بودروبر دبار ومتواضع سربر داشت وكفت "اللهم اهد بني مخزوم فإنهم لا يعلمون يأمرونني بالرجوع عن الحق إلى الباطل" رب العزة أورا بستود در آن حلم ووقار وسخنان آزاد وارودر حق وي كفت {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلَـامًا} يا جابر {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَـامًا} سالم أست مولى أبو حذيفة كه همه شب درقيام بودي متعبد ومتهجد {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} أبو ذر غفاريست كه يوسته بابكاو حزن بودي أزبيم دوزخ واز آتش قطيعت تا رسول خدا أورا كفت "يا أبا ذر هذا جبريل يخبرني أن الله تعالى أجارك من النار" {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} إلخ أبو عبيدة است أنفق ماله على نفسه وعلى أقربائه فرضى الله فعله {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} إلخ علي بن أبي طالب است كه هر كزبت نرستيد وهركز زنانكرد وقتل بي حق نكرد {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} سعيد بن زد بن عمرو بن نفيل درعى بفروخت س شيمان شد سعيدرا كفت تو دعوى كن كه آن درع جد مرابود عمرو بن نفيل وخطاب را دران حقي نه تاترا رشوتي دهم سعيد كفت مرا برشوت تو حاجتي نيست ودروغ كفتن كار من نيست فرضى الله فعله {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا} إلخ سعيد بن أبي وقاص است.
جزء : 6 رقم الصفحة : 248
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا} إلخ عمر بن الخطاب است إيشانرا جملة بدين صفات ستوده وأخلاق سنديده كه نتايج أخلاق مصطفا ست يا دكرد آنكه فت).
جزء : 6 رقم الصفحة : 248
(6/184)
{أولئك} المتصفون بما فصل في حيز صلة الموصولات الثمانية من حيث اتصافهم به والمستجمون لهذه الخصال وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} الجزاء الغناء والكفاية والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
والغرف رفع الشيء أو تناوله يقال غرفت الماء والمرق والغرفة الدرجة العالية من المنازل لكل بناء مرتفع عال أي يثابون أعلى منازل الجنة وهي اسم جنس أريد به الجمع كقوله تعالى : {وَهُمْ فِى الْغُرُفَـاتِ ءَامِنُونَ} (سبأ : 37) ودر فصول عبد الوهاب (كوشكهاست برجهار قائمة نهاده از سيم وزر ولؤلؤ ومرجان) {بِمَا صَبَرُوا} ما مصدرية ولم يقيد الصبر بالمتعلق بل أطلق ليشيع في كل مصبور عليه.
والمعنى بصبرهم على المشاق من مضض الطاعات ورفض الشهوات وتحمل المجاهدات ومن ذلك الوصم قال عليه السلام : "الصوم نصف الصبر والصبر نصف الإيمان" أي : فيكون الصوم ربع الإيمان وهو أي الصوم قهر لعدو الله فإن وسيلة الشيطان الشهوات وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب
254
ولذلك قال عليه السلام : "إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع".
جوع باشد غداي أهل صفا
محنت وابتلاي أهل هوا
جوع تنوير خانه دل تست
أكل تعمير خانه كل تست
خانه دل كذا شتى بي نور
خانه كل ه ميكنى معمور
وفي الحديث : "إن في الجنة لغرفاً مبنية في الهواء لا علاقة من فوقها ولا عماد لها من تحتها لا يأتيها أهلها إلا شبه الطير لا ينالها إلا أهل البلاء" أي : الصابرون منهم.
وفي "التأويلات النجمية" : {أولئك يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} من مقام العندية في مقعد صدق عند مليك مقتدر {بِمَا صَبَرُوا} .
في البداية على أداء الأوامر وترك النواهي وفي الوسط على تبديل الأخلاق الذميمة بالأخلاق الحميدة وفي النهاية على إفناء الوجود الإنساني في الوجود الرباني انتهى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 254
والصبر ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله.
قال بعض الكبار : من أدب العارف بالله تعالى إذا أصابه ألم أن يرجع إلى الله تعالى بالشكوى رجوع أيوب عليه السلام أدباً مع الله وإظهاراً للعجز حتى لا يقاوم القهر الإلهي كما يفعله أهل الجهل بالله ويظنون أنهم أهل تسليم وتفويض وعدم اعتراف فجمعوا بين جهالتين {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} أي في الغرفة من جهة الملائكة {تَحِيَّةً} (التلقية : يزى يش كسى را آوردن) يعدى إلى المفعول الثاني بالباء وبنفسه كما في "تاج المصادر" يقال : لقيته كذا وبكذا إذا استقبلته به كما في "المفردات".
والمعنى يستقبلون فيها بالتحية {وَسَلَـامًا} أي : وبالسلام تحييهم الملائكة ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة من الآفات فإن التحية هي الدعاء بالتعمير والسلام هو الدعاء بالسلامة.
قال في "المفردات" : التحية أن يقال : حياك الله أي جعل لك حياة وذلك إخبار ثم يجعل دعاء ويقال حيّا فلان فلاناً تحية إذا قال له ذلك وأصل التحية من الحياة ثم جعل كل دعاء تحية لكون جميعه غير خارج عن حصول حياة أو سبب حياة إما لدنيا وإما لآخرة ومنه التحيات والسلام والسلامة التعري عن الآفات الظاهرة والباطنة وليست السلامة الحقيقية إلا في الجنة لأن فيها بقاء بلا فناء وغنى بلا فقر وعزا بلا ذل وصحة بلا سقم.
قال بعضهم : الفرق أن السلام سلامة العارفين في الوصال عن الفرقة والتحية روح تجلي حياة الحق الأزلي على أرواحهم وأشباحهم فيحيون حياة أبدية.
وقال بعضهم : ويلقون فيها تحية يحيون بها بحياة الله وسلاماً يسلمون به من الاستهلاك الكلي كما استحفظ إبراهيم عليه السلام من آفة البرد بالسلام بقوله تعالى : {كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء : 69).
سلامت من دلخسته درسلام توباشد
زهى سعادت أكردولست سلام تويابم
{خَـالِدِينَ فِيهَا} حال من فاعل يجزون أي حال كونهم لا يموتون ولا يخرجون من الغرفة.
{حَسُنَتْ} الغرفة {مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} من جهة كونها موضع قرار وإقامة وهو مقابل ساءت مستقراً معنى ومثله إعراباً.
فعلى العاقل أن يتهيأ لمثل هذه الغرفة العالية الحسنة بما سبق من الأعمال الفاضلة المستحسنة ولا يقع في مجرد الأماني والآمال فإن الأمنية كالموت بلا أشكال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 254
وبقدر الكدّ والتعب تكتسب المعالي
ومن طلب العلى جد في الأيام والليالي
255
(6/185)
قال بعض الكبار : من أراد أن يعرف بعض محبة الحق أو محبته له فلينظر إلى حاله الذي هو عليه من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه والأئمة المجتهدين بعده فإن وجد نفسه على هداهم وأخلاقهم من الزهد والورع وقيام الليل على الدوام وفعل جميع المأمورات الشرعية وترك جميع المنهيات حتى صار يفرح بالبلايا والمحن وضيق العيش وينشرح لتحويل الدنيا ومناصبها وشهواتها عنه فليعلم أن الله يحبه وإلا فليحكم بأن الله يبغضه والإنسان على نفسه بصيرة.
وفي الإكثار من النوافل توطئة لمحبة الله تعالى قال عليه السلام حاكياً عن الله تعالى : "ما تقرب المتقربون إليّ بمثل أداء ما فرضت عليهم ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه" ومن آثار محبته تعالى لعبده المطيع له إعطاء الغرفة العالية له في الجنة لعلو قدره ومنزلته عنده وإذا وقع التجلي الإلهي يكونون جلوساً على مراتبهم فالأنبياء على المنابر والأولياء على الأسرة والعلماء بالله على الكراسي والمؤمنون المقلدون في توحيدهم على مراتب وذلك الجلوس كله يكون في جنة عدن عند الكثيب الأبيض وأما من كان موحداً من طريق النظر في الأدلة فيكون جالساً على الأرض وإنما نزل هذا عن الرتبة التي للمقلد في التوحيد لأنه تطرقه الشبه من تعارض الأدلة والمقالات في الله وصفاته فمن كان تقليده للشارع جزماً فهو أوثق إيماناً ممن يأخذ توحيده من النظر في الأدلة ويؤولها.
واعلم أن الله تعالى إنما ذكر الغرفة في الحقيقة لأجل الطامعين الراغبين فيها وأما خواص عباده فليس لهم طمع في شيء سوى الله تعالى فلهم فوق الغرفة ونعيمها نعيم آخر تشير إليه التحية والسلام على تقدير أن يكونا من الله تعالى إذ لا يلتذ العاشق بشيء فوق ما يلتذ بمطالعة جمال معشوقه وسماع كلامه وخطابه ـ ـ حكي أنه كان لبعضهم جار نصراني فقال له : أسلم على أن أضمن لك الجنة فقال النصراني : الجنة مخلوقة لا خطر لها ثم ذكر له الحور والقصور فقال : أريد أفضل من هذا.
صحبت حور نخواهم كه بود عين قصور
فقال : أسلم على أن أضمن لك رؤية الله تعالى فقال : الآن وجدت ليس شيء أفضل من رؤية الله فأسلم ثم مات فرآه في المنام على مركب في الجنة فقال له : أنت فلان قال : نعم قال : ما فعل الله بك قال : لما خرج روحي ذهب به إلى العرش فقال الله تعالى : آمنت بي شوقاً إلى لقائي فلك الرضى والبقاء.
جزء : 6 رقم الصفحة : 254
{قُلْ} يا محمد للناس كافة {مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلا دُعَآؤُكُمْ} هذا بيان لحال المؤمنين منهم وما استفهامية محلها النصب على المصدر أو نافية وما يعبأ ما يبالي ولا يعتد كما في "القاموس" ما أعبأ بفلان ما أبالي وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه ودعاؤكم مبتدأ خبره موجود أو واقع وهو مصدر مضاف إلى الفاعل بمعنى العبادة كما في قوله تعالى : {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءَاخَرَ} (الفرقان : 68) ونظائره والمعنى على الاستهفهامية أي عبء واعتبار يعتبركم ربي ويبالي ويعتني بشأنكم لولا عبادتكم وطاعتكم له تعالى فإن شرف الإنسان وكرامته بالمعرفة والطاعة وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء.
وقال الزجاج : أي وزن ومقدار يكون لكم عند الله تعالى لولا عبادتكم له تعالى وذلك أن أصل العبء بالكسر والفتح بمعنى الثقل والحمل من أي شيء كان فمعنى ما أعبأ به في الحقيقة ما أرى له وزناً وقدراً وإليه جنح الإمام الراغب في الآية هذا
256
وفي الآية معانٍ أخر والأظهر عند المحققين ما ذكرناه.
{فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} بيان لحال الكفرة من الناس أي فقد كذبتم أيها الكفرة بما أخبرتكم به حيث خالفتموه وخرجتم عن أن يكون لكم عن الله اعتناء بشأنكم واعتبار أو وزن ومقدار {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَا} مصدر كالقتال أقيم مقام الفاعل كما يقام العدل في مقام العادل أي يكون جزاء التكذيب أو أثره وهو الأفعال المتفرعة عليه لازماً يحيق بكم لا محالة حتى يكبكم في النار أي يصرعكم على وجوهكم كما يعرب عنه الفاء الدالة على لزوم ما بعدها لما قبلها وإنما أضمر من غير ذكر للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره للتنبيه على أنه مما لا يكتنهه الوصف والبيان.
وعن بعضهم أن المراد بالجزاء جزاء الدنيا وهو ما وقع يوم بدر قتل منهم وأسر سبعون ثم اتصل به عذاب الآخرة لازماً لهم.
قال الشيخ سعدى قدس سره.
رذب ناورد وب خر زهره بار
ه تخم اكفنى برهمان شم دار
واعلم أن الكفار أبطلوا الاستعداد الفطري وأفسدوا القوى بالإهمال فكان حالهم كحال النوى فإنه محال أن ينبت منه الإنسان تفاحاً فأصل الخلق والقوة لا يتغير ألبتة ولكن كما أن في النوى إمكان أن يخرج ما في قوته إلى الوجود وهو النخل بالتفقد والتربية وأن يفسد بالإهمال والترك ، فكذا في الإنسان إمكان إصلاح القوة وإفسادها ولولا ذلك لبطل فائدة المواعظ والوصايا والوعد والوعيد والأمر والنهي ولا يجوز العقل أن يقال للعبد لم فعلت ولم تركت وكيف يكون هذا في الإنسان ممتنعاً وقد وجدناه في بعض البهائم ممكناً فالوحشي قد ينتقل بالعادة إلى التأنس والجامح إلى السلاسة فالتوحيد والتصديق والطاعة أمر ممكن من الإنسان بإزالة الشرك والتكذيب والعصيان وقد خلق لأجلها كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية : قل ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه.
يعني أنه خلقكم لعبادته كما قال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) فالحكمة الإلهية والمصلحة الربانية من الخلق هي الطاعة وأفعال الله تعالى وإن لم تكن معللة بالأغراض عند الأشاعرة لكنها مستتبعة لغايات جليلة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 254
قال الإمام الراغب : الإنسان في هذه الدار الدنيا كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : الناس سفر والدار دار ممرّ لا دار مقر وبطن أمه مبدأ سفره والآخرة مقصده وزمان حياته مقدار مسافته وسنوه منازله وشهوره فراسخه وأيامه أمياله وأنفاسه خطاه ويسار به سير السفينة براكبها كما قال الشاعر.
رأيت أخا الدنيا وإن كان ثاوياً
أخا سفر يسري به وهو لا يدري
وقد دعى إلى دار السلام لكن لما كان الطريق إليها مشكلة مظلمة جعل الله لنا من العقل الذي ركبه فينا وكتبه التي أنزلها علينا نوراً هادياً ومن عبادته التي كتبها علينا وأمرنا بها حصناً واقياً فمن قال هذه الطاعات جعلها الله عذاباً علينا من غير تأويل كفر فإن أوّل مراده بالتعب لا يكفر ولو قال : لو لم يفرض الله تعالى كان خيراً لنا بلا تأويل كفر لأن الخير فيما اختاره الله إلا أن يؤول ويريد بالخير الأهون والأسهل نسأل الله أن يسهلها علينا في الباطن والظاهر والأول والآخر.
257
تمت سورة الفرقان في سادس شهر رمضان المبارك يوم السبت من سنة ثمان ومائة وألف.
جزء : 6 رقم الصفحة : 254(6/186)
سورة الشعراء
مكية وهي اثنتان أو سبع وعشرون آية
جزء : 6 رقم الصفحة : 257
{طسم} الحروف المقطعة في أوائل السور يجمعها قولك : (سرّ حصين قعع كلامه) وأولى ما قال أهل التفسير في حق هذه الحروف الله أعلم بمراده لأنها من الأسرار الغامضة كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : "إن لكل كتاب سراً وسر القرآن في المقطعات" كما في "رياض الأذكار" والمعاني المتعلقة بالأسرار والحقائق لا يعلمها إلا الله ومن أطلعه الله عليها من الراسخين في العلم وهم العلماء بالله فلا معنى للبحث عن مرتبة ليس للسان حظ منها ولا للقلم نصيب وأما اللوازم التي تشير إلى الحقائق فلبيانها مساغ فإنها دون الحقائق وفي مرتبة الفهم وإلى الأول يشير قول ابن عباس رضي الله عنهما في {طسام} عجزت العلماء عن تفسيرها كما في "فتح الرحمن" وإلى الثاني يشير ما في "كشف الأسرار" حيث قال بالفارسية : (روايت كنند از علي رضي الله عنه كه كفته آنكه كه.
{طسم} از آسمان فرود آمد بسول خدا عليه السلام كفت "طاء" طور سيناست و"سين" سكندريه "وميم" مكة معنى آنست والله أعلم كه رب العزة سوكند يا دكرد باين بقاع شريف نانكه) لا أقسم بهذا البلد.
أما جبل طور سينا الذي بين الشام ومدين فهو محل مناجاة موسى عليه السلام وكلامه مع الله تعالى ومقام التجلي كما قال : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ} (الأعراف : 143) وهذا الجبل إذا كسرت حجارته يخرج من وسطها صورة شجر العوسج على الدوام وتعظيم اليهود لشجرة العوسج لهذا المعنى ويقال لشجرة العوسج شجرة اليهود.
وأما الإسكندرية فهي آخر مدن المغرب ليس في معمور الأرض مثلها ولا في أقاصي الدنيا كشكلها وعدت مساجدها فكانت عشرين ألف مسجد نقل أن المدينة كانت سبع قصبات متوالية وإنما أكلها البحر ولم يبق منها إلا قصبة واحدة وهي المدينة الآن وصار منار المرآة الإسكندرية في البحر لغلبة الماء على قصبة المنار.(6/187)
وقصة المرآة أنه كان في أعلى المنار الذي ارتفاعه ثلاثمائة ذراع إلى القبة مرآة غريبة قد عملها الحكماء للإسكندر يرى فيها المراكب من مسيرة شهر وكان بالمرآة أعمال وحركات تحرق المراكب في البحر إذا كان فيها عدو بقوة شعاعها فأرسل صاحب الروم يخدع صاحب مصر ويقول : إن الإسكندر قد كنز على المنار كنزاً عظيماً من الجواهر النفيسة فإن صدقت فبادر إلى إخراجها ولك أيضاً من الكنز ما تشاء فانخدع لذلك وظنه حقاً فهدم القبة فلم يجد شيئاً وفسد طلسم المرآة.
وأما مكة المشرفة المكرمة فهي مدينة قديمة غنية عن البيان وفيها كعبة الإسلام وقبلة المؤمنين والحج إليها أحد أركان الدين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 258
ويقال : الطاء طوله أي قدرته.
والسين سناؤه أي رفعته.
والميم ملكه ومجده فأقسم الله بهذه.
ويقال : يشير إلى طاء طيران الطائرين بالله وإلى سين السائرين إلى الله.
وإلى ميم مشي الماشين فالأول مرتبة أهل النهاية والثاني مرتبة أهل التوسط والثالث مرتبة أهل البداية ولكل
258
سالك خطوة ولكل طائر جناح.
ويقال : الطاء إشارة إلى طهارة أسرار أهل التوحيد.
والسين إشارة إلى سلامة قلوبهم عن مساكنة كل مخلوق.
والميم إشارة إلى منة الخالق عليهم بذلك.
وقال سيد الطائفة الجنيد قدس سره : الطاء طرق التائبين في ميدان الرحمن.
والسين سرور العارفين في ميدان الوصلة.
والميم مقام المحبين في ميدان القربة.
وقال نجم الدين قدس سره : يشير إلى طاء طهارة قلب نبيه عن تعلقات الكونين.
وإلى سين سيادته على الأنبياء والمرسلين.
وإلى ميم مشاهدة جمال رب العالمين.
وقال الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه : أقسم الله بشجرة طوبى وسدرة المنتهى ومحمد المصطفى بالقرآن بقوله : {طسام} فالطاء شجرة طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمد المصطفى عليه الصلاة والسلام.
أما سر اصطفاء طوبى فإن الله تعالى خلق جنة عدن بيده من غير واسطة وجعلها له كالقلعة للملك وجعل فيها الكثيب مقام تجلي الحق سبحانه وفيه مقام الوسيلة لخير البرية وغرس شجرة طوبى بيده فبي جنة عدن وأطالها حتى علت فروعها سور جنة عدن ونزلت مظلة على سائر الجنان كلها وليس في أكمامها ثمر إلا الحلي والحلل لباس أهل الجنة وزينتهم ولها اختصاص فضل لكونها خلقها الله بيده ولذلك كانت أجمع الحقائق الجنانية نعمة وأعمها بركة فإنها لجميع أشجار الجنة كآدم عليه السلام لما ظهر من البنين وما في الجنة نهر إلا وهو يجري من أصل تلك الشجرة وهي محمدية المقام.
وأما سر اجتباء سدرة المنتهى فهي شجرة بين الكرسي والسماء السابعة لأفنانها حنين بأنواع التسبيحات والتحميدات والترجيعات عجيبة الألحان تطرب بها الأرواح والقلوب وتزيد في الأحوال وهي الحد البرزخي بين الدارين سماها المنتهى لأن الأرواح إليها تنتهي وتصعد أعمال أهل الأرض من السعداء وإليها تنزل الأحكام الشرعية وأم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ملائكة السموات في الوتر فكان إمام الأنبياء في بيت المقدس وإمام الملائكة عند سدرة المنتهى فظهر بذلك فضله على أهل الأرض والسماء كما في تفسير "التيسير" وهي مقام جبريل يسكن في ذروتها كما أن مقر العقل وسط الدماغ وذلك لأن جبريل سدرة العقل ومقامه إشارة إلى مقام العقل وهو الدماغ ولذلك من رأى جبريل فإنما رأى صورة عقله لأن جبريل لا يرى من مقام تعينه لغير الأنبياء عليهم السلام.
وآخر الميم المشاربه إلى محمد المصطفى صلى الله عليه وسلّم لسر الختمية وكما أن ختم الأنبياء بسيد المرسلين كذلك ختم حروف الهجاء بالياء المشتمل عليها لفظ الميم فقد جمع الله في القسم بقوله :
جزء : 6 رقم الصفحة : 258
{طسم} ثلاث حقائق وهي أصول الحقائق كلها.
الأولى حقيقة جنانية نعمية جامعة وهي شجرة طوبى ولذا أودعها الله في المقام المحمدي لكونها جامعة للنعم الجنانية ومقسماً لها كما أن النبي عليه السلام مقسم العلوم والمعارف وأنواع الكمالات.
والثانية حقيقة برزخية جامعة لحقائق الدارين وهي شجرة سدرة المنتهى فأغصانها نعيم لأهل الجنة وأصولها زقوم لأهل النار لأنها في مقعر فلك البروج وهو الفلك الأعظم ويسمى فلك الأفلاك لأنه يجمع الأفلاك وأيضاً الفلك الأطلس لأنه غير مكوكب كالثوب الأطلس الخالي عن النقش ومقعر سطحيه أي الفلك الأعظم يماس محدب الفلك الواثب ومحدبه لا يماس شيئاً إذ ليس وراءه شيء لاخلاء ولاملاء بل عنده
259
ينقطع امتدادات العالم كلها.
وقيل : في ورائه أفلاك من أنوار غير متناهية ولا قائل بالخلاء فيما تحت الفلك الأعظم بل هو الملأ كذا في كتب الهيئة وعند الصوفية المقام الذي يقال له لاخلاء ولاملاء فوق عالم الأرواح لا فوق العرش.(6/188)
قال في "شرح التقويم" ولما كان المذكور في الكتب الإلهية السموات السبع زعم قوم من حكماء الملة أن الثامن هو الكرسي والتاسع هو العرش وهذا يناسب قوله تعالى : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (البقرة : 255) والثالثة حقيقة الحقائق الكلية وهي الحقيقة المحمدية لقد أقسم الله في {طسام} بأجمع الحقائق كلها لفضلها على جميع الحقائق لأن الحقيقة المحمدية حقيقة الحقائق وروحها دنياً وبرزخاً وآخرة ولهذا ختم به الحقائق.
هر دو عالم بسته فتراك أو
عرش وكرسي كرده قبله خاك أو
بيشواي اين جهان وآن جهان
مقتداي آشكارا ونهان
وقال بعض كبار المكاشفين : لا يعرف حقائق الحروف المقطعة في أوائل السور إلا أهل الكشف والوجود فإنها ملائكة وأسماؤهم أسماء الحروف وهم أربعة عشر ملكاً لأن مجموع المقطعات من غير تكرار أربعة عشر آخرهم.
{ا وَالْقَلَمِ} (القلم : 1) وقد ظهروا في منازل القرآن على وجوه مختلفة فمنازل ظهر فيها ملك واحد مثل "ن وص" ومنازل ظهر فيها اثنان مثل [النمل : 1]{طس} و{يَئِسَ} و{حم} ومنازل ظهر فيها ثلاثة مثل {الام} و{طسام} ومنازل ظهر فيها أربعة مثل [الأعراف : 1]{الاماص} و{الامار} منازل ظهر فيها خمسة مثل [مريم : 1]{كاهيعاص} و{حما * عاساق} وصورها مع التكرار تسعة وسبعون ملكاً بيد كل ملك شعبة من الإيمان فإن الإيمان بضع وسبعون شعبة والبضع من واحد إلى تسعة فقد استعمل في غاية البضع.
جزء : 6 رقم الصفحة : 258
فإذا نطق القارىء بهذه الحروف كان منادياً لهم فيجيبونه يقول القارىء : {أَلَمْ} فيقول هؤلاء الثلاثة من الملائكة ما تقول؟ فيقول القارىء : ما بعد هذه الحروف فيقال بهذا الباب الذي فتحت ترى عجائب وتكون هذه الأرواح الملكية التي هي الحروف أجسامها تحت تسخيره وبما بيدها من شعب الإيمان تمده وتحفظ عليه إيمانه.
قال في ترجمة وصايا "الفتوحات" (ازجمله شعب إيمان شهادتست بتوحيدونماز كزاريدن وزكاة دادن ووززه داشتن وحج كزاريدن ووضوء ساختن واز جنابت غسل كردن وغسل روز جمعه وصبر وشكر وورع وحيا وأمان ونصيحت وطاعت أولو الأمر وذكر حق كرفتن ورنج خود از خلق برداشتن وأمانت إدا كردن ومظلوم را ياري دادن وترك ظلمة كردن وكسى را خوار ناداشتن وترك غيبت وترك نميمت وترك بخس كردن وون درخانه كسى خواخي در آمن دستوري خواستن وخشم را خوابانيدن واعتبار كرفتن وقول نيكورا سماع كردن وبر آنه نيكوترست دفع كردن وقول بدرا بجهر ناكفتن وبكلمه طيب اتيان كردن وحفظ فرج وحفظ زبان وتوبه وتوكل وخشوع وترك لغو يعني سخن بيهوده وترك ما لا يعني وحفظ عهد وميثاق ووفا نمودن وبرتقوى ياري دادن وبراثم وعدوان ياري نادادن وتقوى را ملازم بودن ونيكويي كردن وصدق ورزيدن وأمر معروف كردن ونهى منكر وميان دومسلمان إصلاح كردن وازبهر خلق دعا كردن ورحمت خواستن وبزرك را مكرم داشتن وبحدو الله قيام نمودن وترك دعوىء جاهليت كردن واز س يكديكر بدنا كفتن وباهم ديكر دشمني ناكردن وكواهي دروغ وقول
260
دروغ ناكفتن وترك همز ولمز وغمز يعني دريش وس بدنا كفتن وبشم نازدن وغمازي ناكردن وبجماعات حاضر شدن وسلام راخاص كردن وبيكديكر هديه فرستان وحسن خلق وحسن خلق وحسن عهدي وسر نكاه داشتن ونكاح دادن وبنكاح كرفتن وحب أهل بيت وحب زنان وبوي خوش دوست داشتن وحب أنصار وتعظيم شعائر وترك عيش وبر مؤمن سلاح نداشتن وتجهيز مرده كردن وبرجنازه نماز كزاردن وبيمار رسيدن وآنه درراه مسلمانان زحمت باشد دور كردن وهره براي نفس خود دوست ميداري براي هريك از مؤمنان دوست داشتن وحق تعالى ورسول أورا ازهمه دوستر داشتن وبكفر بازنا كشتن وبملائكة وكتب ورسل وهره إيشان ازحف آورده اند إيما داشتن) وغير ذلك مما اشتمل عليه الكتاب والسنة وهي كثيرة جداً وفي الحديث : "الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول : لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" انتهى وهي خصال أهل الإيمان ولم يرد تعديدها بأعيانها في حديث واحد وأهل العلم عدوا ذلك على وجوه وأقصى ما يتناوله لفظ هذا الحديث تسعة وسبعون.
جزء : 6 رقم الصفحة : 258
(6/189)
قال الإمام النسفي في تفسير "التيسير" وأنا أعدها على ترتيب أختاره وعلى الاجتهاد فأقول : بدأ فيه بالتهليل والذي يليه التكبير والتسبيح والتحميد والتمجيد والتجريد والتفريد والتوبة والإنابة والنظافة والطهارة والصلاة والزكاة والصيام والقيام والاعتكاف والحج والعمرة والقربان والصدقة والغزو والعتق وقراءة القرآن وملازمة الإحسان ومجانبة العصيان وترك الطغيان وهجر العدوان وتقوى الجنان وحفظ اللسان والثناء والدعاء والخوف والرجاء والحياء والصدق والصفاء والنصح والوفاء والندم والبكاء والإخلاص والذكاء والحلم والسخاء والشكر في العطية والصبر في البلية والرضى بالقضية والاستعداد للمنية واتباع السنة وموافقة الصحابة وتعظيم أهل الشيبة والعطف على صغار البرية والاقتداء بعلماء الأمة والشفقة على العامة واحترام الخاصة وتعظيم أهل السنة وأداء الأمانة وإظهار الصيانة والإطعام والإنعام وبر الأيتام وصلة الأرحام وإفشاء السلام وصدق الاستسلام وتحقيق الاستعصام والزهد في الدنيا والرغبة في العقبى والموافقة للمولى ومخالفة الهوى والحذر من لظى وطلب جنة المأوى وبث الكرم وحفظ الحرم والإحسان إلى الخدم وطلب التوفيق وحفظ التحقيق ومراعاة الجار والرفيق وحسن الملكة في الرقيق وأدناها إماطة الأذى عن الطريق فمن استكمل الوفاء بشعب الإيمان نال بوعد الله كمال الأمان وهو الذي قال الله تعالى فيه : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَـانَهُم بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الامْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام : 82) {تِلْكَ ءَايَـاتُ الْكِتَـابِ الْمُبِينِ} تلك مبتدأ خبره ما بعده أي هذه السورة آيات القرآن الظاهر إعجازه وصحة أنه كلام الله ولو لم يكن كذلك لقدروا على الإتيان بمثله ولما عجزوا عن المعارضة فهو من أبان بمعنى بان أو ظهر أو المبين للأحكام الشرعية وما يتعلق بها.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن هذه الحروف المقطعة ههنا وفي أوائل السور ليست من قبيل الحروف المخلوقة بل من قبيل آيات الكتاب المبين القديمة إذ كل حرف منها دال على معان كثيرة كالآيات {لَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ} لعل للإشفاق أي الخوف والله تعالى
261
منزه عنه فهو بالنسبة إلى النبي عليه السلام يقال : بخع نفسه قتلها غماً وفي الحديث : "أتاهم أهل اليمن هم أرق قلوباً وأبخع طاعة" فكأنهم في قهرهم نفوسهم بالطاعة كالباخعين إياها وأصل البخع أن يبلغ بالذبح البخاع وذلك أقصى حد الذبح وهو بالكسر عرق في الصلب غير النخاع بالنون مثلثة فإنه الخيط الذي في جوف الفقار ينحدر من الدماغ ويتشعب منه شعب في الجسم والمعنى أشفق على نفسك وخف أن تقتلها بالحزن بلا فائدة وهو حث على ترك التأسف وتصبير وتسل له عليه السلام.
جزء : 6 رقم الصفحة : 258
قال الكاشفي : (و قريش قرآنرا إيمان نياوردند وحضرت رسالت عليه السلام برايمان ايشان بغايت حريص بود اين صورت بر خاطر مبارك أو شاق آمد حق سبحانه وتعالى بجهت تسلى دل مقدس وي فرمودكه مكرتو يا محمد هلاك كننده وكشنده نفس خودرتا) {أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} مفعول له بحذف المضاف أي خيفة أن لا يؤمن قريش بذلك الكتاب المبين فإن الخوف والحزن لا ينفع في إيمان من سبق حكم الله بعدم إيمانه كما أن الكتاب المبين لم ينفع في إيمانه فلا تهتم فقد بلغت.
قال في "كشف الأسرار" : (أي سيد اين مشتي بيكانكان كه مقهور سطوت وسياست ما اند ومطرودد ركاه عزت ما تودل خويش بايشان را مشغول داري وازنكار ايشان برخود را رنج نهى ايشانرا بحكم ما تسليم كن وباشغل من آرام كير).
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى تأديب النبي عليه السلام لئلا يكون مفرطاً في الرحمة والشفقة على الأمة فإنه يؤدي إلى الركون إليهم وأن التفريط في ذلك يؤدي إلى الفظاعة وغلظ القلب بل يكون مع الله مع المقبل والمدبر.
ترا مهر حق بس زجمله جهان
برو ازنقوش سوى ساده باش
بهار وخزانرار همه در كذر
وسرو سهى ذدائم آزاده باش
ثم بين أن إيمانهم ليس مما تعلقت به مشيئة الله تعالى فقال :
{إِن نَّشَأْ} (اكرما خواهيم) {نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ ءَايَةً} دالة ملجئة إلى الإيمان كإنزال الملائكة أو بلية قاسرة عليه كآية من آيات القيامة {فَظَلَّتْ} فصارت ومالت أي فتظن {أَعْنَـاقُهُمْ} أي : رقابهم.
وبالفارسية (س كردد كردنهاي ايشان).
{لَهَا} أي : لتلك الآية {خَـاضِعِينَ} منقادين فلا يكون أحد منهم يميل عنقه إلى معصية الله ولكن لم نفعل لأنه لا عبرة بالإيمان المبني على القسر والإلجاء كالإيمان يوم القيامة وأصله فظلوا لها خاضعين فإن الخضوع صفة أصحاب الأعناق حقيقة فأقحمت الأعناق لزيادة التقرير ببيان موضع الخضوع وترك الخبر على حاله.
وفيه بيان أن الإيمان والمعرفة موهبة خاصة خارجة عن اكتساب الخلق في الحقيقة فإذا حصلت الموهبة نفع الإنذار والتبشير وإلا فلا فليبك على نفسه من جبل على الشقاوة.
قال الحافظ :
(6/190)
ون حسن عاقبت نه برندي وزاهديست
آن به كه كار خود بعنايت رها كنند
جزء : 6 رقم الصفحة : 258
{وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ} من موعظة من المواعظ القرآنية أو من طائفة نازلة من القرآن تذكرهم كل تذكير وتنبههم أتم تنبيه كأنها نفس الذكر.
{مِّنَ الرَّحْمَـانِ} بوحيه إلى نبيه دل هذا الاسم الجليل على أن إتيان الذكر من آثار رحمة الله تعالى على عباده.
{مُحْدَثٍ} مجدد إنزاله لتكرير التذكير وتنويع التقرير فلا يلزم حدوث القرآن.
{إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}
262
إلا جددوا إعراضاً عن ذلك الذكر وعن الإيمان به وإصراراً على ما كانوا عليه والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على الحالية من مفعول يأتيهم بإضمار قد وبدونه على الخلاف المشهور أي ما يأتيهم من ذكر في حال من الأحوال إلا حال كونهم معرضين عنه.
{فَقَدْ كَذَّبُوا} بالذكر عقيب الإعراض فالفاء للتعقيب أي جعلوه تارة سحراً وأخرى شعراً ومرة أساطير.
{فَسَيَأْتِيهِمْ} البتة من غير تخلف أصلاً والفاء للسببية ، أي لسبب إعراضهم المؤدي إلى التكذيب المؤدي إلى الاستهزاء.
{أَنابَـاؤُا مَا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} أي : أخبار الذكر الذي كانوا يستهزؤون به من العقوبات العاجلة والآجلة التي بمشاهدتها يقفون على حقيقة حال القرآن بأنه كان حقاً أو باطلاً وكان حقيقاً بأن يصدق ويعظم قدره أو يكذب فيستخف أمره كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم باستماع الأنباء وفيه تهويل له لأن النبأ لا يطلق إلا على خبر خطير له وقع عظيم.
قال الكاشفي : (وبعد از ظهور نتايج تكذيب شيماني نفع ندهد امروز بدان مصلحت خويش كه فردا داني وشيمان شوى وسودندارد).
جزء : 6 رقم الصفحة : 258
{أَوَلَمْ يَرَوْا} الهمزة للإنكار التوبيخي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أفعل المكذبون من قريش ما فعلوا من الإعراض عن الآيات والتكذيب والاستهزاء بها ولم ينظروا.
{إِلَى الأرْضِ} أي إلى عجائبها الزاجرة عما فعلوا الداعية إلى الإقبال إلى ما أعرضوا.
{كَمْ أَنابَتْنَا فِيهَا} (ند برويانيديم در زمين بعد ازمردكى وافسردكى) {مِن كُلِّ زَوْجٍ} كريك (ازهر صنفي كاه نيكو وبسنديده ون رياحين وكل نسرين وبنفشه وياسمين وشكوفهاى رنكارنك وبركهاي كوناكون) وسائر نباتات نافعة مما يأكل الناس والأنعام.
قال أهل التفسير : كم خبرية منصوبة بما بعدها على المفعولية والجمع بينها وبين كل لأن كل للإحاطة بجميع أزواج النبات وكم لكثرة المحاط به من الأزواج ومن كل زوج أي صنف تمييز والكريم من كل شيء مرضيه ومحموده يقال وجه كريم أي مرضي في حسنه وجماله وكتاب كريم مرضي في معانيه وفوائده وفارس كريم مرضي في شجاعته وبأسه.
والمعنى كثير من كل صنف مرضي كثير المنافع أنبتنا فيها وتخصيص النبات النافع بالذكر دون ما عداه من أصناف الضار وإن كان كل نبت متضمناً لفائدة وحكمة لاختصاصه بالدلالة على القدرة والنعمة معاً.
واعلم أنه سبحانه كما أنبت من أرض الظاهر كل صنف ونوع من النبات الحسن الكريم كذلك أنبت في أرض قلوب العارفين كل نبت من الإيمان والتوكل واليقين والإخلاص والأخلاق الكريمة كما قال عليه السلام : "لا إله إلا الله ينبت الإيمان كما ينبت البقل".
قال أبو بكر بن طاهر : أكرم زوج من نبات الأرض آدم وحواء فإنهما كانا سبباً في إظهار الرسل والأنبياء والأولياء والعارفين.
قال الشعبي : الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار فهو لئيم {إِنَّ فِي ذَالِكَ} أي : في الإنبات المذكور أو في كل واحد من تلك الأصناف.
{لايَةً} عظيمة دالة على كمال قدرة منبتها وغاية وفور علمه ونهاية سعة رحمته موجبة للإيمان زاجرة عن الكفر.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم} أي أكثر قومه عليه السلام.
{مُؤْمِنِينَ} مع ذلك لغاية تماديهم في الكفر والضلالة وانهماكهم في الغي والجهالة وكان صلة عند سيبويه لأنه لو حمل
263
على معنى ما كان أكثرهم في علم الله وقضائه لتوهم كونهم معذورين في الكفر بحسب الظاهر وبيان موجبات الإيمان من جهته تعالى يخالف ذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 263
يقول الفقير : قوله تعالى : {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ} الآية ونظائره يدل على المعنى الثاني ولا يلزم من ذلك المعذورية لأنهم صرفوا اختياراً إلى جانب الكفر والمعصية وكانوا في العلم الأزلي غير مؤمنين بحسب اختيارهم ونسبة عدم الإيمان إلى أكثرهم لأن منهم من سيؤمن.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب القادر على الانتقام من الكفرة.
{الرَّحِيمُ} المبالغ في الرحمة ولذلك يمهلهم ولا يأخذهم بغتة.
وقال في "كشف الأسرار" : يرحم المؤمن الذين هم الأقل بعد الأكثر.
(6/191)
وفي "التأويلات النجمية" : بعزته قهر الأعداء العتاة وبرحمته ولطفه أدرك أولياء بجذبات العناية.
وعن السري السقطي قدس سره قال : كنت يوماً أتكلم بجامع المدينة فوقف عليّ شاب حسن الشباب فاخر الثياب ومعه أصحابه فسمعني أقول في وعظي : عجباً لضعيف يعصي قوياً فتغير لونه فانصرف فلما كان الغد جلست في مجلسي وإذا به قد أقبل فسلم وصلى ركعتين وقال : يا سري سمعتك بالأمس تقول : عجباً لضعيف كيف يعصي قوياً فما معناه؟ فقلت : لا أقوى من الله ولا أضعف من العبد وهو يعصيه فنهض فخرج ثم أقبل من الغد وعليه ثوبان أبيضان وليس معه أحد فقال : يا سري كيف الطريق إلى الله تعالى؟ فقلت : إن أردت العبادة فعليك بصيام النهار وقيام الليل وإن أردت الله فاترك كل شيء سواه تصل إليه وليس إلا المساجد والمحراب والمقابر فقام وهو يقول : والله لا سلكت إلا أصعب الطرق وولى خارجاً فلما كان بعد أيام أقبل إليّ غلمان كثير فقالوا : ما فعل أحمد بن يزيد الكاتب فقلت : لا أعرف إلا رجلاً جاءني من صفته كذا وكذا وجرى لي معه كذا وكذا ولا أعلم حاله فقالوا : بالله عليك متى عرفت حاله فعرفنا ودلنا على داره فبقيت سنة لا أعرف له خبراً فبينا أنا دات ليلة بعد العشاء الآخرة جالس في بيتي إذ بطارق يطرق الباب فأذنت له في الدخول فإذا بالفتى عليه قطعة من كساء في وسطه وأخرى على عاتقه ومعه زنبيل فيه نوى فقبل بين عيني وقال : يا سري أعتقك الله من النار كما أعتقتني من رق الدنيا فأومأت إلى صاحبي أن امض إلى أهله فأخبرهم فمضى فإذا زوجته قد جاءت ومعها ولده وغلمانه فدخلت وألقت الولد في حجره وعليه حلي وحلل وقالت : يا سيدي أرملتني وأنت حيّ وأيتمت ولدك وأنت حيّ قال السري : فنظر إليّ وقال : يا سري ما هذا وفاء ثم أقبل عليها وقال : والله إنك لثمرة فؤادي وحبيبة قلبي وإن هذا ولدي لأعز الخلق عليّ غير أن هذا السري أخبرني أن من أراد الله قطع كل ما سواه ثم نزع ما على الصبي وقال : ضعي هذا في الأكباد الجائعة والأجساد العارية وقطع قطعة من كسائه فلف فيها الصبي فقالت المرأة : لا أرى ولدي في هذه الحالة وانتزعته منه فحين رآها قد اشتغلت به نهض وقال : ضيعتم عليّ ليلتي بيني وبينكم الله وولى خارجاً وضجت المرأة بالبكاء فقالت : إن عدت يا سري سمعت له خبراً فأعملني فقلت : إن شاء الله فلما كان بعد أيام أتتني عجوز فقال : يا سري بالشونيزية غلام يسألك الحضور فمضيت فإذا به مطروح تحت رأسه لبنة فسلمت عليه ففتح عينيه وقال : ترى يغفر تلك الجنايات؟ فقلت : نعم قال : يغفر لمثلي قلت : نعم قال : أنا غريق قلت : هو منجي الغرقى فقال : علي مظالم فقلت : في الخبر
264
جزء : 6 رقم الصفحة : 263
أن يؤتى بالتائب يوم القيامة ومعه خصومه فيقال لهم : خلوا عنه فإن الله تعالى يعوضكم فقال : يا سري معي دراهم من لقط النوى إذا أنا مت فاشتر ما أحتاج إليه وكفني ولا تعلم أهلي لئلا يغيروا كفني بحرام فجلست عنده قليلاً ففتح عليه وقال لمثل هذا فليعمل العاملون ثم مات فأخذت الدراهم فاشتريت ما يحتاج إليه ثم سرت نحوه فإذا الناس يهرعون إليه فقلت ما الخبر فقيل : مات وليّ من أولياء الله نريد أن نصلي عليه فجئت فغسلته ودفناه فلما كان بعد مدة وفد أهله يستعلمون خبره فأخبرتهم بموته فأقبلت امرأته باكية فأخبرتها بحاله فسألتني أن أريها قبره فقلت : أخاف أن تغيروا أكفانه قالت : لا والله فأريتها القبر فبكت وأمرت بإحضار شاهدين فأحضرأ فاعتقت جواريها ووقفت عقارها وتصدقت بمالها ولزمت قبره حتى ماتت رحمة الله تعالى عليهما.
ون كند كحل عنايت ديده باز
انيين باشد بدنيا أهل راز
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} إذ منصوب باذكر المقدر والمناداة والنداء رفع الصوت وأصله من الندى وهو الرطوبة واستعارته للصوت من حيث أن من تكثر رطوبة فمه حسن كلامه ولهذا يوصف الفصيح بكثرة الريق.
والمعنى اذكر يا محمد لقومك وقت نداءه تعالى وكلامه موسى أي ليلة رأى الشجرة والنار حين رجع من مدين وذكرهم بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم إياه وحذرهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
{أَنِ ائْتِ} تفسير نادى فإن مفسرة بمعنى أي والإتيان مجيء بسهولة.
والمعنى قال له : يا موسى ائت.
{الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} أنفسهم بالكفر والمعاصي واستعباد بني إسرائيل وذبح أبنائهم.
{قَوْمَ فِرْعَوْنَ} بدل من القوم والاقتصار على القوم للإيذان بشهرة أن فرعون أول داخل في الحكم.
{أَلا يَتَّقُونَ} استئناف لا محل له من الإعراب وألا تحضيض على الفعل أتبعه إرساله إليهم لإنذار وتعجيباً من غلوهم في الظلم وإفراطهم في العدوان أي ألا يخافون الله يصرون عن أنفسهم عقابه بالإيمان والطاعة.
وبالفارسية (آيا نمي ترسند يعني بايدكه بترسند از عذاب حضرت إلهي ودست از كفر بدارند وبني إسرائيل را بكذا رند).
(6/192)
{قَالَ} استئناف كأنه قيل : فماذا قال موسى؟ فقيل : قال متضرعاً إلى الله تعالى : {رَبُّ} (أي روردكار من).
{إِنِّى أَخَافُ} الخوف توقع مكروه عن إمارة مظنونة أو معلومة كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة.
{أَن يُكَذِّبُونِ} ينكروا نبوتي وما أقول من أول الأمر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 263
قال بعض الكبار : خوفه كان شفقة عليهم وأصله يكذبوني فحذفت الياء استغناء بالكسر.
{وَيَضِيقُ صَدْرِى} (وتنك شود دل من ازا انفعال تكذيب) وكان في موسى حدة وهو معطوف على أخاف وكذا قوله : {وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِى} (ونكشايد زبان من وعقده كه دارد زيادة كردد) فإن الانطلاق بالفارسية (كشاده شدن وبشدن) والمراد هنا هو الأول واللسان الجارحة وقوتها قال الله تعالى : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى} (طه : 27) يعني من قوة لساني فإن العقدة لم تكن في الجارحة وإنما كانت في قوتها التي هي النطق بها كما في "المفردات" {فَأَرْسِلْ} جبريل عليه السلام {إِلَى هَـارُونَ} ليكون معيناً لي في التبليغ فإنه أفصح لساناً وهو أخوه الكبير.
وبالفارسية (أورا شريك من كردان برسالت تا با عانت
265
أو نزد فرعونيان روم).
واعلم أن التكذيب سبب لضيق القلب وضيق القلب سبب لتعسر الكلام على من يكون في لسانه حبسة لأنه عند ضيق القلب ينقبض الروح والحرارة الغريزية إلى باطن القلب وإذا انقبضا إلى الداخل ازدادت الحبسة في اللسان فلهذا بدأ عليه السلام بخوف التكذيب ثم ثنى يضيق الصدر ثم ثلث بعدم انطلاق اللسان وسأل تشريك أخيه هارون فإنه لو لم يشرك به في الأمر لاختلفت المصلحة المطلوبة من بعثة موسى وسبب عقدة لسانه عليه السلام احتراقه من الجمرة عند امتحان فرعون كما قال العطار :
همو موسى اين زمان درطشت آتش ما نداه ايم
طل فرعونيم ما كان ودهان راخكرست
ولم تحترق أصابعه حين قبض على الجمرة لتكون فصاحته بعد رجوعه إلى فرعون بالدعوة معجزة ولذا قال بعضهم : من قال كان أثر ذلك الاحتراق على لسانه بعد الدعوة فقد أخطأ.
قال بعض الكبار : ينبغي للواعظ أن يراقب الله في وعظه ويجتنب عن تكلم ما يشين بجمال الأنبياء ويهتك حرماتهم ويطلق ألسنة العامة في حقهم ويسيء الظن بهم وإلا مقته الله وملائكته {وَلَهُمْ} أي لقوم فرعون {عَلَىَّ} أي بذمتي {ذَنابٌ} أي جزاء ذنب وموجبه فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والمراد به قتل القبطي دفعاً عن السبطي وإنما سماه ذنباً على زعمهم.
وقال الكاشفي : (وايشانرا برمن دعوى كناهست مراد قتل قبطيست وبزعم ايشان كناه ميكويد).
{فَأَخَافُ} إن أتيتهم وحدي.
{أَن يَقْتُلُونِ} بمقابلته قبل أداء الرسالة كما ينبعي.
وأما هارون فليس له هذا الذنب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 263
قال بعض الكبار : ليس بعجب طريان خوف الطبيعة وصفات البشرية على الأنبياء فالقلب ثابت على المعرفة.
واعلم أن هذا وما قبله ليس تعللاً وتوقفاً من جانب موسى وتركاً للمسارعة إلى الامتثال بل هو استدفاع للبلية المتوقعة قبل وقوعها واستظهار في أمر الدعوة وحقيقته أن موسى عليه السلام أظهر التلوين من نفسه ليجد التمكين من ربه وقد آمنه الله وأزال عنه كل كلفة حيث.
جزء : 6 رقم الصفحة : 263
{قَالَ} تعالى {كَلا} أي : ارتدع عما تظن فإنهم لا يقدرون على قتلك به لأني لا أسلطهم عليك بل أسلطك عليهم {اذْهَبَآ} أي أنت والذي طلبت وهو هارون فالخطاب إليهما على تغليب الحاضر {بآياتنا} أي حال كونكما ملتبسين بآياتنا التسع التي هي دلائل القدرة وحجة النبوة وهو رمز إلى دفع ما يخافه.
{إِنَّا مَعَكُم} تعليل للردع عن الخوف ومزيد تسلية لهما بضمان كمال الحفظ والنصرة والمراد موسى وهارون وفرعون فمع موسى وهارون بالعون والنصر ومع فرعون بالقهر والكسر وهو مبتدأ وخبر وقوله : {مُّسْتَمِعُونَ} خبر ثان أو الخبر وحده ومعكم ظرف لغو وحقيقة الاستماع طلب السمع بالإصغاء وهو بالفارسية (كوش فراداشتن) والله تعالى منزه عن ذلك فاستعير للسمع الذي هو مطلق إدراك الحروف والأصوات من غير إصغاء.
والمعنى سامعون لما يجري بينكما وبينه فأظهر كما عليه مثل حاله تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يسمع ما يجري بينهم ليمد الأولياء منهم ويظهرهم على الأعداء مبالغة في الوعد بالإعانة وجعل الكلام استعارة تمثيلية لكون وجه الشبه هيئة منتزعة من عدة أمور.
{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ} (س بياييد فرعون) وهو الوليد بن مصعب وكنيته أبو العباس وقيل : اسمه مغيب وكنيته أبو مرة وعاش أربعمائة
266
(6/193)
وستين سنة {فَقُولا إِنَّا} أي : كل معنا {رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (فرستاده رورد كار عالميا نيم) وقال بعضهم : لم يقل رسولاً لأن موسى كان الرسول المستقل بنفسه وهارون كان ردأ يصدقه تبعاً له في الرسالة {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} أن مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول والإرسال ههنا التخلية والإطلاق كما تقول : أرسلت الكلب إلى الصيد أي خلهم وشأنهم ليذهبوا إلى أرض الشأم وكانت مسكن آبائهم : وبالفارسية (وسخن اينست كله إيشان بوده).
جزء : 6 رقم الصفحة : 266
وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفاً فانطلق موسى إلى مصر وهارون كان بها فلما تلاقيا ذهبا إلى باب فرعون ليلاً ودق موسى الباب بعصاه ففزع البوابون وقالوا : من بالباب؟ فقال موسى : أنا رسول رب العالمين فذهب البواب إلى فرعون فقال : إن مجنوناً بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين فأذن له في الدخول من ساعته كما قاله السدي أو ترك حتى أصبح ثم دعاهما فدخلا عليه وأديا رسالة الله فعرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته فشتمه.
{قَالَ} فرعون لموسى.
وقال قتادة : إنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب : ههنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين فقال : ائذن له حتى نضحك منه فأديا إليه الرسالة فعرف موسى فقال عند ذلك على سبيل الامتنان : {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} في حجرنا ومنازلنا.
وقال الكاشفي : (نه ترا رورديم درميان خويش {وَلِيدًا} در حالتي كه طفل بودي نزديك بولادت) عبر عن الطفل بذلك لقرب عهده من الولادة.
{وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} (ودرنك كردي در منزلهاي ما سالها از عمر خود) قوله : من عمرك حال من سنين.
والعمر بضمتين مصدر عمر أي عاش وحيي.
قال الراغب : العمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة قليلة أو كثيرة.
قيل : لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين وأقام بها عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثين سنة ثم بقي بعد الغرق خمسين فيكون عمر موسى مائة وعشرين سنة {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ} الفعلة بالفتح المرة الواحدة يعني قتل القبطي الذي كان خباز فرعون واسمه فاتون وبعد ما عدد نعمته من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال نبهه بما جرى عليه من قتل خبازه وعظمه.
قال ابن الشيخ : تعظيم تلك الفعلة يستفاد من عدم التصريح باسمها الخاص فإن تنكير الشيء وإبهامه قد يقصد به التعظيم {وَأَنتَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} حال من إحدى التاءين أي من المنكرين لنعمتي والجاحدين لحق تربيتي حيث عمدت إلى رجل من خواصي.
{قَالَ} موسى {فَعَلْتُهَآ} أي تلك الفعلة.
{إِذًا} أي حين فعلت أي قتلت النفس وهو حرف جواب فقط لأن ملاحظة المجازاة ههنا بعيدة.
{وَأَنَا مِنَ الضَّآلِّينَ} يقال : ضل فلان الطريق أخطأه أي ضللت طريق الصواب وأخطأته من غير تعمد كمن رمى سهماً إلى طائر وأصاب آدمياً وذلك لأن مراد موسى كان تأديبه لا قتله.
وبالفارسية (آكاه نبودم كه بمشت زدن من آنكس كشته شود).
جزء : 6 رقم الصفحة : 266
{فَفَرَرْتُ مِنكُمْ} ذهبت من بينكم إلى مدين حذراً على نفسي.
{لَمَّا خِفْتُكُمْ} أن تصيبوني بمضرة وتؤاخذوني بما لا أستحقه بجنايتي
267
من العقاب.
{فَوَهَبَ لِى رَبِّى} حين رجعت من مدين.
{حُكْمًا} أي علماً وحكمة {وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ} إليكم.
وفي "فتح الرحمن" : حكماً أي نبوة وجعلني من المرسلين درجة ثانية للنبوة فرب نبي ليس برسول.
قال بعض الكبار : إن الله تعالى إذا أراد أن يبلغ أحداً من خلقه إلى مقام من المقامات العالية يلقي عليه رعباً حتى يفر إليه من خلقه فيكشف له خصائص أسراره كما فعل بموسى عليه السلام ومعاصي الخواص ليست كمعاصي غيرهم فإنهم لا يقعون فيها بحكم الشهوة الطبيعية بل بحسب الخطا وذلك مرفوع.
{وَتِلْكَ} أي التربية المدلول عليها بقوله : {أَلَمْ نُرَبِّكَ} {نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ} أي تمن بها عليّ ظاهراً وهي في الحقيقة.
{أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} أي تعبيدك بني إسرائيل وقصدك إياهم بذبح أبنائهم فإن السبب في وقوعي عندك وحصولي في تربيتك يعني لو لم يفعل فرعون ذلك أي قهر بني إسرائيل وذبح أبنائهم لتكفلت أم موسى بتربيته ولما قذفته في اليم حتى يصل إلى فرعون ويربي بتربيته فكيف يمتن عليه بما كان بلاؤه سبباً له.
قوله تلك مبتدأ ونعمة خبرها وتمنها عليّ صفة وإن عبدت خبر مبتدأ محذوف أي وهي في الحقيقة تعبيد قومي.
والتعبيد : بالفارسية (دام كردن وببند كي كرفتن) يقال عبدته إذا أخذته عبداً وقهرته وذللته.
رد موسى عليه السلام أولاً ما وبخه فرعون قدحاً في نبوته ثم رجع إلى ما عده عليه من النعمة ولم يصرح برده حيث كان صدقاً غير قادح في دعواه بل نبه على أن ذلك كان في الحقيقة نعمة لكونه مسبباً عنها.
(6/194)
قال بعضهم : بدأ فرعون بكلام السفلة ومنّ على نبي الله بما أطعمه والمنة النعمة الثقيلة.
ويقال ذلك على وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك بالفعل فيقال : منّ فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة وعلى ذلك قوله تعالى : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران : 164) وذلك في الحقيقة لا يكون إلا تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 266
والثاني : أن يكون ذلك بالقول وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة ولقبح ذلك قيل : المنة تهدم الصنيعة ولحسن ذكرها عند الكفران قيل : إذا كفرت النعمة حسنت المنة أي عد النعمة.
قال محمد بن علي الترمذي قدس سره : ليس من الفتوة تذكار الصنائع وتعدادها على من اصطنعت إليه ألا ترى إلى فرعون لما لم يكن له فتوة كيف ذكر صنيعه وامتن به على موسى :
از نا كسان دهر ثبوت طمع مدار
از طبع دير خاصيت آدمي مجوى
اعلم أن الله تعالى جعل موسى عليه السلام مظهر صفة لطفه بأن جعله نبياً مرسلاً وله في هذا المعنى كمالية لا يبلغها إلا بالتربية ومقاساة شدائد الرسالة مع فرعون وجعل فرعون مظهر صفة قهره بأن جعله مكذباً لموسى ومعانداً له وكان لفرعون كمالية في التمرد والإباء والاستكبار لم يبلغها إبليس ، ليعلم أن للإنسان استعداداً في إظهار صفة اللطف لم يكن للملك ولذلك صار الإنسان مسجوداً للملك والملك ساجده ، ولو لم يكن موسى عليه السلام داعياً لفرعون إلى الله تعالى وهو مكذبه لم يبلغ فرعون إلى كماليته في التمرد ليكون مظهر الصفة القهر بالتربية في التمرد كذا في "التأويلات النجمية" وقس عليهما كل موسى وكل فرعون في كل عصر إلى قيام الساعة فإن الأشياء تتبين بالأضداد وتبلغ إلى كمالها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 266
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَـالَمِينَ} ما استفهامية معناها أي شيء والرب المربي والمتكفل لمصلحة الموجودات والعالم اسم لما سوى الله تعالى
268
من الجواهر والأعراض ، والمعنى أي شيء رب العالمين الذي ادعيت أنك رسوله وما حقيقته الخاصة ومن أي جنس هو منكراً لأن يكون للعالمين رب سواه.
قال الكاشفي : (ون فرعون شنيده بودكه موسى كفت أنا رسول رب العالمين أسلوب سخن كبر دانيد وازروي امتحان كفت يست روردكار عالميان وه يزاست سؤال از ماهيت كرد) ولما لم يمكن تعريفه تعالى إلا بلوازمه الخارجية لاستحالة التركيب في ذاته من جنس وفصل {قَالَ} موسى مجيباً له بما يصح في وصفه تعالى.
{رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ} عين ما أراده بالعالمين لئلا يحمله اللعين على ما تحت مملكته {إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} بالأشياء المحققين لها بالنظر الصحيح الذي يؤدي إلى الإتيان وهو بالفارسية : (بي كمان شدن) علمتم أن العالم عبارة عن كل ما يعلم به الصانع من السموات والأرض وما بينهما وأن ربها هو الذي خلقها ورزق من فيها ودبر أمورها فهذا تعريفه وجواب سؤالكم لا غير والخطاب في كنتم لفرعون وأشراف قومه الحاضرين.
قال الكاشفي : (هي كس را از حقيقة حق آكاهي ممكن نيست هره در عقل وفهم ووهم وحواس وقياس كنجد ذات خدا وند تعالى ازان منزه ومقدس است ه آن همه محدثاً تند ومحدث جزا إدراك محدث نتوان كد).
آنكه او از حدث بر آرد دم
ه شاسد كه يست سرقدم
علم راسوي حضر تش ره نيست
عقل نبزاز كمالش آكه نيست
فمعنى العلم بالله العلم به من حيث الارتباط بينه وبين الخلق وانتشار العالم منه بقدر الطاقة البشرية إذ منه ما لا توفيه الطاقة البشرية وهو ما وقع فيه الكمل في ورط الحيرة وأقروا بالعجز عن حق المعرفة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 268
{قَالَ} فرعون عند سماع جوابه خوفاً من تأثيره في قلوب قومه وانقيادهم له.
{لِمَنْ حَوْلَهُ} من أشراف قومه وهم القبط (وايشان اسند تن بود زيورها بسته وبركر سيهاي زرين نشسته) وحول الشيء جانبه الذي يمكنه أن يحول إليه وينقلب.
{أَلا تَسْتَمِعُونَ} ما يقول فاستمعوه وتعجبوا منه في مقاله وفيه يريد ربوبية نفسه.
{قَالَ} موسى زيادة في البيان وحطاً له عن مرتبة الربوبية إلى مرتبة المربوبية.
قال الكاشفي : (عدول كرد از ظهر آيات باقرب آيات بناظر وواضح آن بر متأمل) {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ} وقيل : إن فرعون كان يدعي الربوبية على أهل عصره وزمانه فلم يدع ذلك على من كان قبله فبين بهذه الآية أن المستحق للربوبية هو رب كل عصر وزمان.
{قَالَ} فرعون من سفاهته وصرفاً لقومه عن قبول الحق.
{إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} لا يصدر ما قاله عن العقلاء وسماه رسولاً على السخرية وإضافة إلى مخاطبيه ترفعاً من أن يكون مرسلاً إلى نفسه.
والجنون حائل بين النفس والعقل كما في "المفردات".
(6/195)
{قَالَ} موسى زيادة في تعريف الحق ولم يشتغل بمجاوبته في السفاهة.
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ} بيان ربوبيته للسموات والأرض وما بينهما وإن كان متضمناً لبيان الخافقين وما بينهما لكن أراد التصريح بذكر الشروق والغروب للتغيرات الحادثة في العالم من النور مرة والظلمة أخرى المفتقرة إلى محدث عليم حكيم.
قال ابن عطاء :
269
منور قلوب أوليائه بالإيمان ومشرق ظواهرهم ومظلم قلوب أعدائه بالكفر ومظهر آثار الظلمة على هياكلهم.
{إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} شيئاً من الأشياء أو من جملة من له عقل وتمييز علمتم أن الأمر كما قلته واستدللتم بالأثر على المؤثر.
وفيه تلويح بأنهم بمعزل من دائرة العقل متصفون بما رموه عليه السلام به من الجنون فمن كمال ضدية موسى وفرعون وكذا القلب والنفس يعد كل منهما ما يصدر من الآخر من الجنون وقس عليهما العاشق والزاهد فإن جنون العشق من واد وجنون الزهد من واد آخر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 268
زدشيخ نارسيده بعشق توطعنه أم
ديوانه را زسرزنش كودكان ه باك
{قَالَ} فرعون من غاية تمرده وميلاً إلى العقوبة كما يفعله الجبابرة وعدولاً إلى التهديد من المحاجة بعدالانقطاع وهكذا ديدن المعاند المحجوب وغيظاً على نسبة الربوبية إلى غيره ولعله كان دهرياً اعتقد أن من ملك قطراً وتولى أمره بقوة طالعة استحق العبادة من أهله.
وقال بعضهم : كان الملعون مشبهاً ولذلك قال وما رب العالمين أي أي شيء هو فنوقعه في الخيال.
{لَـاـاِنِ اتَّخَذْتَ إِلَـاهًَا غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} اللام للعهد أي لأجعلنك من الذين عرفت أحوالهم في سجوني فإنه كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك لم يقل لأسجنك.
قال الكشافي : (هر آينه كردانيدم ترا از زندانيان آورده اندكه سجن فرعون از قتل بدتربود زايراكه زندانيانرا در حفره عميق مي اندا ختندكه در آنجاهي نمي ديدند ونمى شنيدند وبيرون نمي آوردند إلا مردهٌ).
وفيه إشارة إلى سجن حب الدنيا فإن القلب إذا كان متوجهاً إلى الله وطلبه معرضاً عن النفس وشهواتها فلا استيلاء للنفس عليه إلا بشبكة حب الجاه والرياسة فإنه آخر ما يخرج عن رؤوس الصديقين.
باشد أهل آخرت را حب جاه
همو يوسف را دران شهراه جاه
جزء : 6 رقم الصفحة : 268
{قَالَ} موسى : {أَوَلَوْ جِئْتُكَ} (اكربيايم تر) {بِشَىْءٍ مُّبِينٍ} يعني أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء موضح لصدق دعواي يعني المعجزة فإنها الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته والدلالة على صدق مدعي نبوته فالواو للحال دخلت عليها همزة الاستفهام للإنكار بعد حذف الفعل أي جائياً بشيء مبين وجعلها بعضهم للعطف أي أتفعل بي ذلك لو لم أجيء بشيء مبين ولو جئتك به أي على كل حال من عدم المجيء والمجيء.
{قَالَ} فرعون {أَوَلَوْ جِئْتُكَ} (س بيار آن يزرا).
{إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ} في أن لك بينة موضحة لصدق دعواك وكان في يد موسى عصا من شجر الآس من الجنة وكان آدم جاء بها من الجنة فلما مات قبضها جبريل ودفعها إلى موسى وقت رسالته فقال موسى لفرعون : ما هذه التي بيدي قال فرعون : هذه عصا.
{فَأُلْقِىَ} من يده {عَصَاهُ} والإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه وتراه ثم صار في التعارف اسماً لكل طرح.
{فَإِذَا هِىَ} (س آنجا عصا س ازافكندن {ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} أي ظاهر الثعبانية وإنها شيء يشبه الثعبان صورة بالسحرة أو بغيره والثعبان أعظم الحيات بالفارسية (ادها) واشتقاقه من ثعبت الماء فانثعب أي فجرته فانفجر.
قال الكاشفي : (وفرعون از مشاهده او بترسيد ومردمان كه حاضر بودند هزيمت كردند نانه
270
دروقت فراربيست وننج هزاركس كشته شد).
قال فرعون من شدة الرعب : يا موسى أسألك بالذي أرسلك أن تأخذها فأخذها فعادت عصا ولا تناقض بينه وبين قوله {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} (القصص : 31) وهو الصغير من الحيات لأن خلقها خلق الثعبان العظيم وحركتها وخفتها كالجان كما في "كشف الأسرار".
جزء : 6 رقم الصفحة : 270
وفيه إشارة إلى إلقاء القلب عصا الذكر وهو كلمة لا إله إلا الله فإذا هي ثعبان مبين يلتقم بفم النفي ما سوى الله.
{وَنَزَعَ يَدَهُ} من جيبه.
وبالفارسية (ورست راست خويش ازز ير بازوي ب خويش بيرون كشيد) {فَإِذَا هِىَ} (س آنجا دست أو {بَيْضَآءُ} ذات نور وبياض من غير برص.
وبالفارسية (سيد در خشنده بود بعد ازانكه كندم كونه بود) {لِلنَّـاظِرِينَ} (مر نظر كنند كانرا كفته اند شعاع دست مبارك موسى بمثابهٌ نور آفتاب ديده را خيره ساختي) ـ ـ روي ـ ـ أن فرعون لما رأى الآية الأولى قال : فهل غيرها؟ فاخرج يده فقال : ما هذه؟ قال فرعون : يدك فما فيها؟ فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع كاد يغشي الأبصار ويسد الأفق.
(6/196)
وفي "التأويلات النجمية" : {وَنَزَعَ يَدَهُ} أي يد قدرته {فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ} مؤيدة بالتأييد الإلهي منورة بنور ربي يبطش {لِلنَّـاظِرِينَ} أي : لأهل النظر الذين ينظرون بنور الله فإن النور يرى.
{قَالَ} فرعون {لِلْمَلا} أي لأشراف قومه حال كونهم مستقرين {حَوْلَهُ} فهو ظرف وضع موضع الحال وقد سبق معناه.
والملأ جماعة يجتمعون على رأي فيملؤون العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء {إِنْ هَـاذَآ} (بدرستي كه اين مرد) يعني موسى.
{لَسَـاحِرٌ عَلِيمٌ} فائق في علم السحر.
وبالفارسية (جاوييست دانا واستاد فرعون ترسيدكه كسان وي بموسى إيمان آرند حيله انكيخت وكفت اين جاد وييست كه درفن سحر مهارتي تمام دارد) "يريد" إلخ والسحر تخيلات لا حقيقة لها فالساحر المحتال المخيل بما لا حقيقة له وجه الجمع بين هذا وبين قوله في الأعراف : قال الملأ من قوم فرعون حيث أسند القول بالساحرية إليهم أن فرعون قاله لحاضرين والحاضرون قالوه للغائبين كما في "كشف الأسرار".
{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم} من أرض مصر ويتغلب عليكم {بِسِحْرِهِ} (بجادويىء خود) {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (س ه فرماييد مراشما دركار أو واشارت كنيد).
جزء : 6 رقم الصفحة : 270
قال في "كشف الأسرار" : هي من المؤامرة لا من الأمر وهي المشاورة وقيل للتشاور ائتمار لقبول بعضهم أمر بعض فيما أشار به أي ماذا تشيرون به عليّ في دفعه ومنعه قهره سلطان المعجزة وحيره حتى حطه عن دعوى الربوبية إلى مقام مشاورة عبيده بعد ما كان مستقلاً بالرأي والتدبير وأظهر استشعار الخوف من استيلائه على ملكه ونسبة الإخراج والأرض إليهم لأجل تنفيرهم عن موسى.
{قَالُوا} أي الملأ {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} يقال : أرجه أخر الأمر عن وقته كما في "القاموس" أي أخر أمر موسى وأخيه هارون حتى تنظر ولا تعجل بقتلهما قبل أن يظهر كذبهما حتى لا يسيء عبيدك الظن بك وتصير معذوراً في القتل.
{وَابْعَثْ} (وبرانكيز وبفرست) {فِى الْمَدَآاـاِنِ} في الأمصار والبلدان وأقطار مملكتك.
وبالفارسية (درشهرها مملكت خود).
وفي "فتح الرحمن" : هي مدائن الصعيد من نواحي مصر.
{حَـاشِرِينَ} أي : شرطاً يحشرون الناس ويجمعونهم فحاشرين صفة لموصوف محذوف هو مفعول ابعث والشرط
271
جمع شرطة بالضم وسكون الراء وفتحها وهي طائفة من أعوان الولاة معروفة كما في "القاموس" والشرط بالفتح العلامة ومنه سمي الشرط لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها.
{يَأْتُوكَ} (تابيارتندترا) أي : الحاشرون.
{بِكُلِّ سَحَّارٍ} (هرجانيك جادوييست) {عَلِيمٌ} (دانا وبرسر آمد درفن سحر) أي فيعارضوا موسى بمثل سحره بل يفضلوا عليه ويتضح للعامة كذبه فتقتله حينئذ.
وهذا تدبير النفس وإلقاء الشيطان في دفع الحق الصريح وكل تدبير هكذا في كل عصر فصاحبه مدبر البتة وإنما يجيء خبث القول والفعل من خبث النفس إذ كل إناء يترشح بما فيه ولو ترك فرعون وقومه التدبير في أمر موسى وقابلوه بالقبول لسلموا من كل آفة لكن منعهم حب الجاه عن الانتباه وحبك الشيء يعمي ويصم وإنما أخلدوا إلى الأرض غفلة الباقية الحاصلة بالإيمان والإطاعة والاتباع : وفي "المثنوي" :
تخت بندست آنكه تختش خوانده
صدر نداري وبردر مانده
ادشاهان جهان از بدركي
بونبردند از شراب بندكي
ورنه ادهم وار سركردان ودنك
ملك را برهم زدندي بي درنك
ليك حق بهر ثبات اين جهان
مهرشان بنهاد برشم ودهان
جزء : 6 رقم الصفحة : 270
تاشود شيرين بريشان تخت وتاج
كه ستانيم ازجهانداران خراج
از خراج ارجمع آرى زروريك
آخر آن ازتو بماند مرده ريك
همره جانب نكردد ملك وزر
زربده سرمه ستان بهر نظر
تابينني كين جهان اهيست تنك
يوسفانه آن رسن آرى بنك
هست دراهن انعكاسات نظر
كمترين آنكه نمايد سنك زر
وقت بازي كودكانرا زاختلال
مي نمايد اين خزفها زرّ ومال
{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ} أي : بعث فرعون الشرط في المدائن لجمع السحرة فجمعوا وهم اثنان وسبعون أو سبعون ألفاً كما يدل عليه كثرة الحبال والعصي التي خيلوها وكان اجتماعهم بالإسكندرية على ما رواه الطبري.
{لِمِيقَـاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} الميقات الوقت المضروب للشيء أي لما وقت به وعين من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة وهو يوم عيد لهم كانوا يتزينون ويجتمعون فيه كل سنة ـ روي ـ ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه وافق يوم السبت في أول يوم من السنة وهو يوم النيروز وهو أول يوم من فرودين ماه ومعنى نيروز بلغة القبط طلع الماء أي علا ماء النيل وبلغة العجم نوروز أي اليوم الجديد وهو أول السنة المستأنفة عندهم وإنما وقت لهم موسى وقت الضحى من يوم الزينة في قوله : {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} (طه : 59) ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد ويشيع ذلك في الأقطار واختاره فرعون أيضاً ليظهر كذب موسى بمحضر الجمع العظيم فكان ما كان.(6/197)
{وَقِيلَ} من طرف فرعون {لِلنَّاسِ} لأهل مصر وغيرهم ممن يمكن حضوره.
{هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ} (أيا هستيد شما فراهم آنيدكان يعني فراهم آييد وجمنع شويد).
ففيه استبطاء لهم في الاجتماع حثا على مبادرتهم إليه فليس المراد بهل حقيقة الاستفهام بقرينة عدم
272
الجواب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 270
{لَعَلَّنَا} (شايد ما همه باتفاق).
{نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَـالِبِينَ} لا موسى وليس مرادهم أن يتبعوا دينهم حقيقة وإنما هو أن لا يتبعوا موسى لكنهم ساقوا كلامهم مساق الكناية حملاً لهم على الاهتمام والجد في المغالبة فالترجي باعتبار الغلبة المقتضية للاتباع لا باعتبار الاتباع.
{فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ} (س آن هنكام كه رمدند جادوان بنزديك فرعون آيشانرا بارداد ودلنوازي بسيار كرد إيشان كستاخ شده).
{قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَاـاِنَّ لَنَا} (آيا مارا باشد) {لاجْرًا} جعلاً عظيماً.
{إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَـالِبِينَ} لا موسى.
{قَالَ نَعَمْ} لكم ذلك.
يعني (آرى مزد باشد شمارا) {وَإِنَّكُمْ} مع ذلك {إِذًا} إن وقت يعني إذا غلبتم {لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} عندي تكونون أول من يدخل عليّ وآخر من يخرج من عندي وكان ذلك من أعظم المراتب عندهم وهكذا حال أرباب الدنيا في حب قربة السلطان ونحوه وهو من أعظم المصائب عند العقلاء (ون برين وعده مستظهر كشته جادو ييهاي خودرا بميدان معين آوردند وبوقت ملعوم دربرابر حضرت موسى صف بركشيده كفتنداي موسى تواول افكني جادويىء خودرا يا ما بيفكنيم).
{قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا} اطرحوا {مَآ أَنتُم مُّلْقُونَ} لم يرد به أمرهم بالسحر والتمويه لأن ذلك غير جائز بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة توسلاً به إلى إظهار الحق وإبطال الباطل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 273
قال في "كشف الأسرار" : ظاهر الكلام أمر ومعناه النهاون في الأمر وترك المبالاة بهم وبأفعالهم.
{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ} جمع حبل {وَعِصِيَّهُمْ} جمع عصا.
يعني (س بيفكندند رسنها وعصاهاي مجوف رسيماب ساخته خودرا كه هفتاد هزار رسن وهفتاد هزار عصا بود) {وَقَالُوا} (وكفتند بعدا زآنكه عصا ورسنها بحرارت آفتاب در حركت آمد وازمردمان غريو برخاست) أي قالوا عند الإلقاء حالفين {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ} (بحق بزركي وقوت وغالبتي فرعون){إِنَّا لَنَحْنُ الْغَـالِبُونَ} على موسى وهارون أقسموا بعزته على أن الغلبة لهم لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى من السحر.
والقسم بغير الله من أقسام الجاهلية وفي الحديث : "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالطواغيت ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون".
قال بعض الكبار : رأوا كثرة تمويهاتهم وقلة العصا فنظروا إليها بنظر الحقارة وظنوا غلبة الكثير على القليل وما علموا أن القليل من الحق يبطل كثيراً من الباطل كما أن قليلاً من النور يمحو كثيراً من الظلمة.
قال الحافظ :
تيغي كه آسمانش ازفيض خود دهدآب
تنها جهان بكيرد بي منت ساهي
{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ} بالأمر الإلهي {فَإِذَا هِىَ} (س آن عصا ادها شده) {تَلْقَفُ} تبتلع بسرعة من لقفه كسمعه تناوله بسرعة كما في "القاموس".
{مَا يَأْفِكُونَ} (انه تزوير مي ساختند وبصورت مار بخلق مي نمودند) أي ما يقبلونه والمأخوذ عند بعض أكابر المكاشفين صور الحيات من حبال السحرة وعصيهم حتى بدت للناس حبالاً وعصياً كما هي في نفس الأمر كما يبطل الخصم بالحق حجة خصمه فيظهر بطلانها لا نفس الحبال والعصي كما عند الجمهور وإلا لدخل على السحرة الشبهة في عصا موسى والتبس عليهم الأمر فكانوا لم يؤمنوا وكان الذي
273
جاء به موسى حينئذ من قبيل ما جاءت به السحرة إلا أنه أقوى منهم سحراً وأنه يدل على ما قلنا قوله تعالى : {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} وتلقف ما صنعوا وما أفكوا الحبال وما صنعوا العصي بسحرهم وإنما أفكوا وصنعوا في أعين الناظرين صور الحيات وهي التي تلقفته عصا موسى ذكره الإمام الشعراني في "الكبريت الأحمر".
جزء : 6 رقم الصفحة : 273
{فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ} على وجوههم {سَـاجِدِينَ} تعالى (نه دانستندكه انقلاب عصا بثعبان وفروبردن أو آنه تزوير مي ساختند نه ازقبيل سحرا ست) أي ألقوا أثر ما شاهدوا ذلك من غير تلعثم وتردد غير متمالكين كأن ملقياً ألقاهم لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر وأنه أمر إلهي قد ظهر على يده لتصديقه.
(6/198)
وفيه دليل على أن التبحر في كل فن نافع فإن السحرة ما تيقنوا بأن ما فعل موسى معجزهم إلا بمهارتهم في فن السحر ، وعلى أن منتهى السحر تمويه وتزوير وتخييل شيء لا حقيقة له ، وجه الدلالة أن حقيقة الشيء لو انقلبت إلى حقيقة شيء آخر بالسحر لما عدوا انقلاب العصا حية من قبيل المعجزة الخارجة عن حد السحر ولما خروا ساجدين عند مشاهدته وقد سبق تفصيل السحر في سورة طه.
قال بعض الكبار : السحر مأخوذ من السحر وهو مابين الفجر الأول والفجر الثاني وحقيقته اختلاط الضوء والظلمة فما هو بليل لما خالطه من ضوء الصبح ولا هو بنهار لعدم طلوع الشمس للأبصار كذلك ما فعله السحرة ما هو باطل محقق فيكون عدماً فإن العين أدركت أمراً لاتشك فيه وما هو حق محض فيكون له وجود في عينه فإنه ليس هو في نفسه كما تشهد العين ويظنه الرائي.
قال الشعراني بعد ما نقله : هوكلام نفيس ما سمعنا مثله قط.
{قَالُوا} (ازروى بدلصدق).
{ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} بدل اشتمال من ألقى فلذلك لم يتخلل بينهما عاطف انظر كيف أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء مسلمين مؤمنين فالمغرور من اعتمد على شيء من أعماله وأقواله وأحواله.
قال الحافظ.
بر عمل تكيه مكن زانكه دران روزازل
توه داني قلم صنع بنامت ه نوشت
وقال :
مكن بنامه سياهي ملامت من مست
كه آكهست كه تقدير بر سرش ه نوشت
جزء : 6 رقم الصفحة : 273
{رَبِّ مُوسَى وَهَـارُونَ} بدل من رب العالمين لدفع توهم إرادة فرعون حيث كان قومه الجهلة يسمونه بذلك ولو وقفوا على رب العالمين لقال فرعون : أنا رب العالمين إياي عنوا فزادوا رب موسى وهارون فارتفع الإشكال.
{قَالَ} فرعون للسحرة {ءَامَنتُمْ} على صيغة الخبر ويجوز تقدير همزة استفهام في الأعراف.
{لَهُ} أي لموسى {قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ} (يش ازانكه اجازت ودستوري دهم شمارا درايمان بوي) أي بغير إذن لكم من جانبي كما في قوله تعالى : {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـاتُ رَبِّى} (الكهف : 109) لا أن أذن الإيمان منه ممكن أو متوقع.
{إِنَّهُ} موسى {لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} فواضعكم على ما فعلتم وتواطأتم عليه يعني (بايكديكر اتفاق كرديد دلاهلاك من وفساد ملك من) كما قال في الأعراف : {إِنَّ هَـاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ} أي قبل أن تخرجوا إلى هذا الموضع أو علمكم شيئاً دون شيء فلذلك غلبكم أراد بذلك التلبيس على قومه كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق.
274
{فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي : وبال ما فعلتم واللام للتأكيد لا للحال فلذا اجتمعت بحرف الاستقبال ثم بين ما أودعهم به فقال : {لاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم} لفظ التفعيل وهو التقطيع لكثرة الأيدي والأرجل كما تقول : فتحت الباب وفتحت الأبواب.
{مِّنْ خِلَـافٍ} من كل شق طرفاً وهو أن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وذلك زمانه من جانب البدن كما في "كشف الأسرار" وهو أول من قطع من خلاف وصلب كما في "فتح الرحمن".
جزء : 6 رقم الصفحة : 274
وقال بعضهم : من للتعليل.
يعني (برأي خلا في كه بامن كرديد) وذلك لأن القطع المذكور لكونه تخفيفاً للعقوبة واحترازاً عن تفويت منفعة البطش على الجاني لا يناسب حال فرعون ولما هو بصدده إلا أن يحمل على حمقه حيث أوعد لهم في موضع التغليظ بما وضع للتخفيف انتهى وذلك وهم محض لأنه يدفعه قوله : {وَلاصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} (وهر آينه بردار كنم همهٌ شمارا أي على شاطىء البحر تا بميريد وهمه مخالفان عبرت كيرند).
قال في "الكشف" : أي أجمع عليكم التقطيع والصلب ـ ـ روى ـ أنه علقهم على جذوع النخل حتى ماتوا وفي الأعراف : {ثُمَّ لاصَلِّبَنَّكُمْ} (الأعراف : 124) فأوقع المهلة ليكون هذا التصليب لعذابهم أشد {قَالُوا} أي : السحرة المؤمنون {لا ضَيْرَ} مصدر ضاره يضيره ضيراً إذا ضره أي لا ضرر فيه علينا.
وبالفارسية (هي ضرر ينيست برما ازتهديد تو وما ازمرك نمي ترسيم) {إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} راجعون فيثيبنا بالصبر على ما فعلت ويجازينا على الثبات على التوحيد.
وفي الآية دلالة على أن للإنسان أن يظهر الحق وإن خاف القتل.
قال ابن عطاء : من اتصلت مشاهدته بالحقيقة احتمل معها كل وارد يرد عليه من محبوب ومكروه ألا نرى أن السحرة لما صحت مشاهدتهم كيف قالوا : لا ضير؟ قال السعدي في حق أهل الله :
دما دم شراب ألم در كشند
وكر تلخ بينند دم دركشند
نه تلخست صبري كه بريادواست
كه تلخي شكر باشدازدست دوست
قال الحافظ :
عاشقا نراكردر آتش مي سندد لطف يار
تنك شمم كرنظر شمهٌ كوثر كنم
وقال :
اكر بلطف بخواني مزيد الطافست
وكر بقهر براني درون ما صافست
{إِنَّا نَطْمَعُ} نرجو.(6/199)
قال في "المفردات" : الطمع نزوع النفس إلى شيء شهوة له {أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَـايَـانَآ} السالفة من الشرك وغيره {أَن كُنَّآ} أي لأن كنا {أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} أي من أتباع فرعون أو من أهل المشهد.
قال الكاشفي : (آورده اندكه فرعون بفرمود تادست راست واي ب آن مؤمنان ببريدند وايشانرا ازدارهاي بلند آويختند وموسى عليه السلام برايشان مي كريست حضرت عزت حجابها برداشته منازل قرب ومقامات أنس إيشانرا نطروى در آوره تاتسلي يافت).
جزء : 6 رقم الصفحة : 274
جادوان كان دست وا باختند
در فضاي قرب مولى تاختند
كر برفت آن دست وا برجاي آن
رست از حق بالهاي جاودان
275
تا بدانرها بر واز آمدند
درهواي عشق شهباز آمدند
وذلك لأن ما نقص عن الوجود زاد في الروح والشهود والله تعالى يأخذ الفاني من العبد ويأخذ بدله الباقي.
وكان جعفر ابن عم النبي صلى الله عليه وسلّم أخذ اللواء في بعض الغزوات بيمينه فقطعت فأخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فأنابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء ولذلك قيل له جعفر الطيار وهكذا شأن من هو صادق في دعواه فليخفف ألم البلاء عنك علمك بأن الله تعالى هو المبتلي لكن هذا العلم إذا لم يكن من مرتبة المشاهدات لا يحصل التخفيف التام فحال السحرة كانت حال الشهود والجذبة ومثلها يقع نادراً إذ الانجذاب تدريجي لأكثر السالكين لا دفعي.
وكان حال عمر رضي الله عنه حين الإيمان كحال السحرة وبالجملة إن الإيمان وسيلة الإحسان فمن سعى في إصلاح حاله في باب الأعمال أوصله الله إلى ما أوصل إليه أرباب الأحوال كما قال عليه السلام : "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم".
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر كما تعبد تعالى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بشريعة إبراهيم عليه السلام قبل نبوته عناية من الله له حتى فجأته الرواية وجاءته الرسالة فكذلك الوليّ الكامل يجب عليه معانقة العمل بالشريعة المطهرة حتى يفتح الله له في قلبه عين الفهم عنه فيلهم معاني القرآن ويكون من المحدثين بفتح الدال ثم يرده الله تعالى إلى إرشاد الخلق كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين أرسل انتهى.
فإذا عرفت الطريق فعليك بالسلوك فإن أهل السلوك هم الملوك ولن يتم السلوك إلا بالانقلاب التام عن الأهل والأولاد والأموال إلى الله تعالى كما قالوا : إنا إلى ربنا منقلبون ألا ترى أن السالك الصوري يترك كل ماله في داره فإن العبد ضعيف والضعيف لا يتحمل الحمل الثقيل نسأل الله التيسير والتسهيل.
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى} الإيحاء إعلام في خفاء وسرى يسري بالكسر سرى بالضم وسرى بالفتح وأسرى أيضاً أي سار ليلاً.
والمعنى : وقلنا لموسى بطريق الوحي : يا موسى اذهب ببني إسرائيل بالليل وسيرهم حتى تنتهي إلى بحر القلزم فيأتيك هناك أمري فتعمل به وذلك بعد سنين أقام بين أظهرهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتواً وفساداً.
وبالفارسية (ويغام كرديم بسوي موسى آنكه ببر بسبب بندكان من يعني بني إسرائيل بجانب درياي قلزم كه نجات شما وهلاك كفره در آنست) وعلم الانتهاء إلى البحر من الوحي ؛ إذ من البعيد أن يؤمر بالمسير ليلاً وهو لا يعرف جهة الطريق ومن قول جبريل حين خرجوا من مصر موعد ما بيني وبينك يا موسى البحر ، أي شط بحر القلزم.
{إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} يتبعكم فرعون وجنوده وهو تعليل للأمر بالإسراء أي أسر بهم حتى إذا اتبعوكم مصبحين كان لكم تقدم عليهم بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر بل يكونون على أثركم حين تدخلون البحر فيدخلون مداخلكم فاطبقه عليهم فأغرقهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 274
{فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ} حين أخبر بمسيرهم في الليل.
{فِى الْمَدَآاـاِنِ} (درشهرها كهباي تحت نزديك بود) {حَـاشِرِينَ} أي قوماً جامعين للعساكر ليتبعوهم.
قال الكاشفي : (آخر روز خبر خروج إيشان بقبطيان رسيد ه مي نداشتندكه بني إسرائيل تهنيهٌ أسباب
276
عبد در خانهاي خود أقامت نموده اند روز دوم خواستندكه از عقب ايشان دوند درخانه هر قبطي يكي ازا اعزه قوم بمرد بتعزيه شديد ودرين روز فرعون بجمع كردن لشكر أمر كرد.
قال في كشف الأسرار بأمداد روز يكشنبه قبطيان بدفن آن كافر مشغول وفرعون آن روز فرمود تاخيل وحشم وي همه جمع آمدند وديكر روز روز دوشنبه فراي بني إسرائيل نشتند).
{إِنَّ هَـاؤُلاءِ} أي : قال حين جمع عساكر المدائن : إن هؤلاء يريد بني إسرائيل.
{لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} (كروه اندك اند) استقلهم وهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً بالنسبة إلى جنوده إذ كان عدد آل فرعون لا يحصى.
قال في "التكملة" : اتبعهم في ألف ألف حصان سوى الإناث وكانت مقدمته سبعمائة ألف والشرذمة الطائفة القليلة وقليلون دون قليلة باعتبار أنهم أسباط كل سبط منهم سبط قليل.
(6/200)
{وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآاـاِظُونَ} (بخثم لاندكان) والغيظ أشد الغضب وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه.
والمعنى لفاعلون ما يغيظنا ويغضبنا بمخالفتهم ديننا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها بسبب أن لهم عيداً في هذه الليلة وخروجهم من أرضنا بغير إذن منا وهم منخرطون في سلك عبادنا.
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـاذِرُونَ} يقال للمجموع جمع وجميع وجماعة ، والحذر : احتراز عن مخيف يريد أن بني إسرائيل لقلتهم وحقارتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع علوهم وغلبتهم ولكنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا ونحن جمع وقوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور فإذا خرج علينا خارج سار عنا إلى إطفاء نائرة فساده قاله فرعون لأهل المدائن لئلا يظن به أنه خاف من بني إسرائيل.
وقال بعضهم : {حَـاذِرُونَ} يعني : (سلاح وارانيم ودانندكان مراسم حرب تعريض است با رنكه قوم موسى نه سلاح ت مام دارند ونهبعلم حرب دانا ند) فإن الحاذر يجيء بمعنى المتهيىء والمستعد كما في "الصحاح".
جزء : 6 رقم الصفحة : 274
{فَأَخْرَجْنَـاهُم} أي فرعون وقومه بأن خلقنا فيهم داعية الخروج بهذا السبب فحملتهم عليه يعني أنهم وإن خرجوا باختيارهم إلا أنه أسند الإخراج إليه تعالى إسناداً مجازياً من حيث الخلق المذكور.
{مِّن جَنَّـاتٍ} بساتين كانت ممتدة على حافتي النيل.
{وَعُيُونٍ} من الماء.
قال الراغب : يقال لمنبع الماء عين تشبيهاً بالعين الجارحة لما فيها من الماء.
قال في "كشف الأسرار" : وعيون أي أنهار جارية.
وقال الكاشفي : (وازشمه سارها).
{وَكُنُوزٍ} (وازكنجها) يعني : الأموال الظاهرة من الذهب والفضة ونحوهما سماها كنزاً لأن ما لايؤدي منه حق الله فهو كنز وإن كان ظاهراً على وجه الأرض وما أدى منه فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين والكنز المال المجموع المحفوظ.
والفرق بينه وبين الركاز والمعدن أن الركاز المال المركوز في الأرض مخلوقاً كان أو موضوعاً والمعدن ما كان مخلوقاً والكنز ما كان موضوعاً.
قال في "خريدة العجائب" : وفي أرض مصر كنوز كثيرة ويقال : إن غالب أرضها ذهب مدفون حتى قيل : إنه ما فيها موضع إلا وهو مشغول من الدفائن.
{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} يعني المنازل الحسنة والمجالس البهية.
وقال السهيلي في كتاب "التعريف والأعلام" : في الفيوم من أرض مصر في قول طائفة من المفسرين ومعنى الفيوم ألف يوم كما في "التكملة" وهي مدينة عظيمة بناها يوسف الصديق عليه السلام ولها نهر يشقها ونهرها من عجائب الدنيا وذلك أنه متصل بالنيل وينقطع
277
أيام الشتاء وهو يجري في سائر الزمان على العادة ولهذه المدينة ثلاثمائة وستون قرية عامرة كلها مزارع وغلال.
ويقال : إن الماء في هذا الوقت قد أخذ أكثرها وكان يوسف جعلها على عدد أيام السنة فإذا أجدبت الديار المصرية كانت كل قرية منها تقوم بأهل مصر يوماً وبأرض الفيوم بساتين وأشجار وفواكه كثيرة رخيصة وأسماك زائدة الوصف وبها من قصب السكر كثير.
{كَذَالِكَ} أي مثل ذلك الإخراج العجيب أخرجناهم فهو مصدر تشبيهي لأخرجنا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 274
وقال أبو الليث : كذلك أي هكذا أفعل بمن عصاني.
{وَأَوْرَثْنَـاهَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} أي : مكنا تلك الجنات والعيون والكنوز والمقام إياهم على طريقة مال المورث للوارث كأنهم ملكوها من حين خروج أربابها منها قبل أن يقبضوها ويتسلموها.
وبالفارسية (وميراث داديم باغ وبستان وكنج وجاريهاي إيشان فرزندان يعقوب راه فول آنست كه بني إسرائيل بعد از هلاك فرعونيان بمصر آمده همه أموال قبطية را بحيطه تصرف آوردند وأصح آنست كه درزمان دولت داود عليه السلام بر ملك استيلا يافته متصرف جهان مصريان شدند) كما قال الطبري : إنما ملكوا ديار آل فرعون ولم يدخلوها لكنهم سكنوا الشام ـ ـ القصة ـ (فرعون ششصد هزار سواربر مقدمه لشكر روان كرد وششصد هزاربر ميمنه تعيين كردوششصد هزار بر ميسره نامزد فرمود وششصد هزار درساقه لشكر مقرر كرد وخود باخلق بيشمار در قلب قرار كرفت يكي لشكر سرا غرق جوشن شده درموج ون درياي آهن وشم دلبرا ن ركين وخونريز بقصد خون دم تيفها تيز).
{فَأَتْبَعُوهُم} بقطع الهمزة يقال : أتبعه إتباعاً إذا طلب الثاني اللحوق بالأول وتبعه تبعاً إذا مر به ومضى معه.
والمعنى فأردنا إخراجهم وإيراث بني إسرائيل ديارهم فخرجوا فلحقوا موسى وأصحابه.
{مُّشْرِقِينَ} يقال : أشرق وأصبح وأمسى وأظهر إذا دخل في الشروق والصباح والمساء والظهيرة.
والمعنى حال كونهم داخلين في وقت شروق الشمس أي طلوعها على أنه حال إما من الفاعل أو من المفعول أو منهما جميعاً لأن الدخول المذكور قائم بهم جميعاً.
قال الكاشفي : (يعني بهنكام طلوع آفتاب ببني إسرائيل رسيدند ودران زمان لشكر موسى بكناره درياي قلزم رسيدند تدبير عبور ميكردندكه ناكاه أثر فعونيان بديد آمد).
جزء : 6 رقم الصفحة : 274
(6/201)
{فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ} تقاربا بحيث رأى كل واحد منهما الآخر والمراد جمع موسى وجمع فرعون.
وتراءى من التفاعل والترائي (يكديكررا ديدن ودر برابر يكديكر افتادن) كما في "التاج" {قَالَ أَصْحَـابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} لملحقون من ورائنا ولا طاقة لنا بقوم فرعون وهذا البحر أمامنا لا منفذ لنا فيه.
{قَالَ} موسى {كَلا} (نه نين است) أي : ارتدعوا وانزجروا عن ذلك المقال فإنهم لا يدركونكم فإن الله تعالى وعدكم الخلاص منهم.
{إِنَّ مَعِىَ رَبِّى} بالحفظ والنصر والرعاية والعناية.
قال الجنيد حين سئل العناية أولاً أم الرعاية قال : العناية قبل الماء والطين.
{سَيَهْدِينِ} البتة إلى طريق النجاة منهم بالكلية (ممحققان كفته اند موسى عليه السلام در كلام خود معيت را مقدم داشت كه {إِنَّ مَعِىَ رَبِّى} وحضرت يغمبر ما عليه السلام در قول خودكه {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة : 40) معيت را تأخير فرمود تابر ضمائر عرفا روشن كردد كه كليم از خود
278
بحق نكريست واين مقام مريدست وحبيب از حق بخود نظر كرد واين مقام مرادست مريدرا هره كويند آن كند ومراد هره كويد نان كنند).
اين يكي را روى أو در روى دوست
وآن دكررا روى او خود روى اوس
وفي "كشف الأسرار" : (موسى خودرا درين حكم فرموده كه كفت {مَعِىَ رَبِّى} ونكفت "معنا ربنا" زيرا كه در سابقه حكم رفته بودكه قومي از بني إسرائيل بعد از هلاك فرعون وقبطيان كوساله رست خواهند شدباز مصطفى عليه السلام ون درغابودبا صديق أكبر ازا حوال صديق آن حقائق معاني ساخته كه اورا بانفس خود قرين كرد ودر حكم معيت آورد كفت {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وكفته اند موسى خودرا كفت {إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} ورب العزة امت محمد راكفت {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا} موسى آنخه خودرا كفت الله اورا بكرد واورا راه نجات نمود وكيد دشمن ازيش برداشت كوبي آنكه تعالى بخودى خود امت احمد راكفت ووعده كه داد اولى كه وفاكند ازغم كناه برهاند وبرحمت ومغفرت خود رساند).
روي : أن مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى فقال : أين أمرت فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون؟ قال : أمرت بالبحر ولعلي أؤمر بما أصنع.
روي عن عبد الله بن سلام أن موسى لما انتهى إلى البحر قال عند ذلك : يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء اجعل لنا مخرجاً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 278
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "قل اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وبك المستغاث وأنت المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله" قال ابن مسعود : فما تركتهن منذ سمعتهن من النبي عليه السلام.
{فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ} يا موسى {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} هو بحر القلزم وسمي البحر بحراً لاستبحاره أي اتساعه وانبساطه.
وبحر القلزم طرف من بحر فارس والقلزم بضم القاف وسكون اللام وضم الزاي بليدة كانت على ساحل البحر من جهة مصر وبينها وبين مصر نحو ثلاثة أيام وقد خربت ويعرف اليوم موضعها بالسويس تجاه عجرود منزل ينزله الحاج المتوجه من مصر إلى مكة وبالقرب منها غرق فرعون وبحر القلزم بحر مظلم وحش لا خير فيه ظاهراً وباطناً وعلى ساحل هذا البحر مدينة مدين وهي خراب وبها البئر التي سقى موسى عليه السلام منها غنم شعيب وهي معطلة الآن.
قال الكاشفي : (موسى عليه السلام برلب دريا آمد وعصا بروى زد وكفت يا أبا خاله مارا راه ذده) {فَانفَلَقَ} الفاء فصيحة أي فضرب فانفلق ماء البحر أي انشق فرقاً بعدد الأسباط بينهن مسالك {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} أي كل جزء تفرق منه وتقطع.
قال في "المفردات" : الفرق يقارب الفلق لكن القلق يقال : اعتباراً بالانشقاق والفرق يقال : اعتباراً بالانفصال والفرق القطعة المنفصلة وكل فرق بالتفخيم والترقيق لكل القراء والتفخيم أولى {كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} كالجبل المرتفع في السماء الثابت في مقره.
قال الراغب : الطود الجبل العظيم ووصفه بالعظم لكونه فيما بين الأطواد عظيماً لا لكونه عظيماً فيما بين سائر الجبال فدخلوا في شعابها كل سبط في شعب منها.
قال الكاشفي : (وفي الحال بادي درتك دريا وزيد وكل خشك شده وهر سبطى ازراهي بدريا در رمدند) كما قال تعالى : {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا} (طه : 77).
{وَأَزْلَفْنَا} أي قربنا من بني إسرائيل.
قال في "تاج المصادر" : الإزلاف (نزديك
279
كردانيدن وجمع كردن) وفسر بهما قوله تعالى : {وَأَزْلَفْنَا} إلا أن الحمل على المعنى الأول أحسن انتهى.
{ثُمَّ} حيث انفلق البحر وهو إشارة إلى المستبعد من المكان.
{الاخَرِينَ} أي : فرعون وقومه حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 278
(6/202)
{وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَه أَجْمَعِينَ} من الغرق بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا إلى البر.
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخَرِينَ} بإطباقه عليهم يعني : (ون بني إسرائيل همه ازدريا بيرون آمدند موسى ميخواست كه دريا بحال خود بازشود ازبيم آنكه فرعون وقطبطيان بآن راهها در آنيد وبايشان درر سندفر مان آمدكه) يا موسى اترك البحر رهواً أي صفوفاً ساكنة فإن فرعون وقومه جند مغرقون فتركه على حاله حتى أغرقهم الله تعالى كما مر في غير موضع آورده اندكه آن روزكه موسى نجات يافت ودشمن وي غرق كشت روز دوشنبه بود دهم ماه محرم وموسى آن روز روزه داشت شكر آن نعمت را).
{إِنَّ فِي ذَالِكَ} أي في جميع ما فصل خصوصاً في الإنجاء والغرق {لايَةً} لعبرة عظيمة للمعتبرين.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم} أي : أكثر المصريين وهم آل فرعون.
{مُؤْمِنِينَ} قالوا : لم يكن فيه مؤمن إلا آسية امرأة فرعون وخربيل المؤمن ومريم بنت ناموشا التي دلت على عظام يوسف عليه السلام حين الخروج من مصر.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب المنتقم من أعدائه كفرعون وقومه.
{الرَّحِيمُ} بأوليائه كموسى وبني إسرائيل.
يقول الفقير : هذا هو الذي يقتضيه ظاهر السوق فإن قوله تعالى : {إِنَّ فِي ذَالِكَ} إلخ ذكر في هذه السورة في ثمانية مواضع.
أولها في ذكر النبي عليه السلام وقومه كما سبق وذكر النبي عليه السلام وإن لم يتقدم صريحاً فقد تقدم كناية.
والثاني في قصة موسى ثم إبراهيم ثم نوح ثم هود ثم صالح ثم لوط ثم شعيب عليهم السلام فتعقيب القول المذكور بكل قصة من هذه القصص يدل على أن المراد بالأكثر هو من لم يؤمن من قوم كل نبي من الأنبياء المذكورين وقد ثبت في غير هذه المواضع أيضاً أن أكثر الناس من كل أمة هم الكافرون فكون كل قصة آية وعبرة إنما يعتبر بالنسبة إلى من شاهد الوقعة ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة فيدخل فيهم قريش لأنهم سمعوا قصة موسى وفرعون مثلاً من لسان النبي عليه السلام فكانت آية لهم مع أن بيانها من غير أن يسمعها من أحد آية أخرى موجبة للإيمان حيث دل على أن ما كان إلا بطريق الوحي الصادق نعم إن قوله تعالى : {إِنَّ فِي ذَالِكَ} إذا كان إشارة إلى جميع ما جرى بين موسى وفرعون مثلاً كان غير الإنجاء والغرق آية للمغرقين أيضاً وبذلك يحصل التلاؤم الأتم بما بعده فافهم جداً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 280
وقد رجح بعضهم رجوع ضمير أكثرهم إلى قوم نبينا عليه السلام فيكون المعنى إن في ذلك المذكور لآية لأهل الاعتبار كما كان في المذكور في أول السورة آية أيضاً وما كان أكثر هؤلاء الذين يسمعون قصة موسى وفرعون وهم أهل مكة مؤمنين لعدم تدبرهم واعتبارهم فليحذروا عن أن يصيبهم مثل ما أصاب آل فرعون وإن ربك لهو العزيز الغالب على ما أراد من انتقام المكذبين الرحيم البالغ في الرحمة ولذلك يمهلهم ولا يعجل عقوبتهم بعدم إيمانهم بعد مشاهدة هذه الآيات العظيمة بطريق الوحي مع كمال استحقاقهم لذلك.
وفي الآية تسلية للنبي عليه السلام لأنه كان قد يغتم قلبه المنير بتكذيب قومه مع ظهور
280
المعجزات على يديه فذكر له أمثال هذه القصص ليقتدي بمن قبله من الأنبياء في الصبر على عناد قومه والانتظار مجيء الفرج كما قيل : اصبروا تظفروا كما ظفروا.
قال الحافظ :
سروش عالم غيبم بشارتي خوش داد
كه كس هميشه بكيتي دم نخواهم مائد
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} من التلاوة وهي القراءة على سبيل التتابع والقراءة أعم أي اقرأ على مشركي العرب وأخبر أهل مكة.
{نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} خبره العظيم الشان.
قال الكاشفي : (خبر إبراهيم كه إيشان بدو نسبت درست ميكنند وبفرزندي أو مفخترند ومستظهر).
{إِذْ قَالَ} ظرف لنبأ {لابِيهِ} آزر وهو تاريخ كما سبق {وَقَوْمِهِ} أهل بابل وهو كصاحب موضع بالعراق وإليه ينسب السحر.
والقوم جماعة الرجال في الأصل دون النساء كما نبه عليه قوله تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ} (النساء : 34) وفي عامة القرآن أريدوا به والنساء جميعاً كما في "المفردات" {مَا تَعْبُدُونَ} أي شيء تعبدونه ، وبالفارسية.
(يست آنه رستيد) سألهم وقد علم أنهم عبدة الأوثان لينبههم على ضلالهم ويريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة.
{قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا} وهي اثنان وسبعون صنماً من ذهب وفضة وحديد ونحاس وخشب كما في "كشف الأسرار".
والصنم ما كان على صورة ابن آدم من حجر أو غيره كما في "فتح الرحمن".
قال في "المفردات" : الصنم جثة متخذة من فضة أو نحاس والوثن حجارة كانت تعبد.
(6/203)
قال الكاشفي : (مراد تمثالها ست كه ساخته بودند از انواع فلزات بر صور مختلفة وبرعبات آن مداومت ميكردند) كما قال : {فَنَظَلُّ لَهَا عَـاكِفِينَ} لم يقتصروا على قوله أصناماً بل أطنبوا في الجواب بإظهار الفعل وعطف دوام عكوفهم على أصنامهم ابتهاجاً وافتخاراً بذلك يقال : ظللت أعمل كذا بالكسر ظلولاً إذا عملت بالنهار دون الليل والظاهر أن عبادتهم الأصنام لا تختص بالنهار فالمراد بالظلول ههنا الدوام ، والمعنى بالفارسية : (س هميشه مي باشيم مرانرا مجاور وملازم ومداوم بر عبادت).
جزء : 6 رقم الصفحة : 280
والعكوف اللزوم ومنه المعتكف لملازمته المسجد على سبيل القربة وصلة العكوف كلمة على وايراد اللام لإفادة معنى زائد كأنهم قالوا : فنظل لأجلها مقبلين على عبادتها ومستديرين حولها.
وقال أبو الليث : إن إبراهيم عليه السلام ولدته أمه في الغار فلما خرج وكبر دخل المصر وأراد أن يعلم على أي مذهب هم وهكذا ينبغي للعاقل إذا دخل بلدة أن يسألهم عن مذهبهم فإن وجدهم على الاستقامة دخل معهم وإن وجدهم على غير الاستقامة أنكر عليهم فلما قال إبراهيم ما تعبدون وقالوا : نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين وأراد أن يبين عيب فعلهم.
{قَالَ} استئناف بياني.
{هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} أي : يسمعون دعاءكم على حذف المضاف فإن كم ليس من قبيل المسموعات والواو بحسب زعمهم فإنهم كانوا يجرون الأصنام مجرى العقلاء.
{إِذْ تَدْعُونَ} وقت دعائكم لحوائجكم فيستجيبون لكم.
{أَوْ يَنفَعُونَكُمْ} على عبادتكم لها.
وبالفارسية (يا سود ميرسانند شمارا) {أَوْ يَضُرُّونَ} أو يضرونكم بترك العبادة إذ لا بد للعبادة من جلب نفع أو دفع ضر.
وبالفارسية : (يا زيان ميرسانند بشما قوم إبراهيم نتوا نستندكه أو راجواب دهند بهانه تقليد يش آورده).
{قَالُوا} ما رأينا منهم ذلك السمع أو النفع أو الضر {بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَالِكَ} منصوب بقوله : {يَفْعَلُونَ} وهو مفعول ثانٍ لوجدنا ، أي
281
وجدناهم يعبدون مثل عبادتنا فاقتدينا بهم اعترفوا بأنها بمعزل من السمع والمنفعة والمضرة بالكلية واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد.
خواهي بسوى كعبه تحقيق ره برى
ي بري مقلدكم كرده ره مرو
{قَالَ} إبراهيم متبرئاً من الأصنام {أَفَرَءَيْتُم} أي : أنظرتم فأبصرتم أو تأملتم فعلمتم {مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ الاقْدَمُونَ} الأولون حق الإبصار أو بحق العلم فإن الباطل لا ينقلب حقاً بكثرة فاعلية وكونه دأباً قديماً وما موصولة عبارة عن الأصنام.
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى} بيان لحال ما يعبدونه بعد التنبيه على عدم علمهم بذلك أي لم تنظروا ولم تقفوا على حاله فاعلموا أن الأصنام أعداء لعابديهم لما أنهم يتضررون من جهتهم فوق ما يتضرر الرجل من عدوه.
فسمى الأصنام أعداء وهي جمادات على سبيل الاستعارة وصور الأمر في نفسه حيث قال : عدو لي.
لا لكم تعريضاً لهم فإنه أنفع في النصح من التصريح وإشعاراً بأنها نصيحة بدأ بها نفسه ليكون أدعى إلى القبول.
جزء : 6 رقم الصفحة : 280
وقال الفراء : هو من المقلوب ومعناه فإني عدو لهم فإن من عاديته عاداك وإفراد العدو لأنه في الأصل مصدر أو بمعنى النسب أي ذو عداوة كتامر لذي تمر.
{إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} استثناء منقطع أي لكن رب العالمين ليس كذلك بل هو وليي في الدنيا والآخرة لا يزال يتفضل عليّ بمنافعهما.
قال بعض الكبار : رأى الخليل عليه السلام نفسه بمثابة في الخلة لم يكن له في زمانه نظير يسمع كلامه من حيث حاله فوقعت العداوة بينه وبين الخلق جميعاً.
وأيضاً هذا إخبار عن كمال محبته إذ لا يليق بصحبته ومحبته أحد غيرالحق.
قال سمنون : لا تصح المحبة لمن لم ينظر إلى الأكوان وما فيها بعين العداوة حتى يصح له بذلك محبة محبو به والرجوع إليه بالانقطاع عما سواه ألا ترى الله كيف قال حاكياً عن الخليل : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} .
هجرت الكل فيك حتى صـ
ـح لي الاتصال
بهجر ما سوي بايد
طلب كردن وصال او
كن من اخلق جانباً
وارض بالله صاحبا
قلب الخلق كيف شئـ
ـت تجدهم عقاربا
يقول الفقير : اعلم أن العدو لا ينظر إلى العدو إلا بطرف العين بل لا ينظر أصلاً لفقدان الميل القلبي قطعاً فإذا كان ما سوى الله تعالى عدواً للسائق فاللائق له أن لا ينظر إليه إلا بنظر الاعتبار.
وقد ركب الله في الإنسان عينين إشارة باليمنى إلى الملكوت وباليسرى إلى الملك فما دامت اليسرى مفتوحة إلى الملك فاليمنى محجوبة عن الملكوت وما دامت اليمنى ناظرة إلى الملكوت فالعبد محجوب عن الجبروت واللاهوت فلا بد من قطع النظر عن الملك والملكوت وإيصاله إلى عام الجبروت واللاهوت وهو العمى المقبول والنظر المرضي.
وفي الدعاء : اللهم اشغلنا بك عمن سواك.
فإن قلت : ما يطلق عليه ما سوى الله كله من آثار تجلياته تعالى فكيف يكون عدواً وغيراً؟.(6/204)
قلت : هو في نفسه كذلك لكنه إشارة إلى المراتب ولا بد من العبور عن جميع المراتب مع أن كونه عدواً إنما هو من حيث كونه صنماً ومبدأ علاقة فمن شاهد الله في كل شيء فقد انقطع عن الأغيار فكل عدو له صديق والحمد تعالى :
جهان مر آت حسن شاهد ماست
فشاهد وجهه في كل ذرات
282
جزء : 6 رقم الصفحة : 280
{الَّذِى خَلَقَنِى} (از عدم بوجود آورد) صفة رب العالمين {فَهُوَ} وحده {يَهْدِينِ} يرشدني إلى صلاح الدارين بهدايته المتصلة من الخلق ونفخ الروح متجدد على الاستمرار كما ينبىء عنه فاء العطف التعقيبي وصيغة المضارع وذلك أن مبدأ الهداية بالنسبة إلى الإنسان هداية الجنين إلى امتصاص دم الحيض من الرحم ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بلذائذها ، وأشار قوله : {فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى قطع الأسباب والاكتساب في النبوة والولاية والخلة بل أشار إلى الاصطفاء الأزلي وذلك أن جميع المقامات اختصاصية عطائية غير نسبية حاصلة للعين الثابتة من الفيض الأقدس وظهوره بالتدريج بحصول شرائطه وأسبابه يوهم المحجوب فيظن أنه كسبي بالتعمل وليس كذلك في الحقيقة.
قال الحافظ :
قومي بجهد وجد نهادند وصل دوست
قومي دكر حواله بتقدير مكينند
{وَالَّذِينَ} إلخ معطوف على الصفة الأولى وتكرير الموصول في المواقع الثلاثة للدلالة على أن كل واحدة من الصلات مستقلة باقتضاء الحكم {هُوَ} وحده {يُطْعِمُنِى} أيُّ طعام شاء.
وبالفارسية : (ميخواراند مرا غدايي كه قوام أجزاء بدن منست {وَيَسْقِينِ} أيُّ شراب شاء.
وبالفارسية : (ومي آشاماندا مرا شرابي كه موجب تسكين عطش وسبب تربيت أضعءا) أي هو رازقي فمن عنده طعامي وشرابي وليس الإطعام والسقي عبارتين عن مجرد خلق الطعام والشراب له وتمليكهما إياه بل يدخل فيهما إعطاء جميع ما يتوقف الانتفاع بالطعام والشراب عليه كالشهوة وقت المضغ والابتلاع والهضم والدفع ونحو ذلك.
ومن دعاء أبي هريرة رضي الله عنه : "اللهم اجعل لي ضرساً طحوناً ومعدة هضوماً ودبراً بثوراً".
جزء : 6 رقم الصفحة : 283
وأشارت الآية إلى مقام التوكل والرضى والتسليم والتفويض وقطع الأسباب والإقبال إليه بالكلية والإعراض عما سواه.
صاحب "بحر الحقائق" : (فرمودكه مراد طعام عبوديستت كه دلها بآن زنده شود وشراب طهور تجلى صفت ربوبيت كه أرواح بآن تازه باشد.
وذو النون مصري قدس سره فرمودكه اين طعام طعام معرفتست واين شراب شراب محبت واين بيت خوانده).
شراب المحبة خير الشراب
وكل شراب سواه سراب
واز فحواي كلام شمه از أسرار كلام حقائق نظام (أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) بي تواندبرد.
ترا نوال دمادم زخانه يطعمني
ترا ياله مدام از شراب يسقيني
مراتو قبله ديني ازان سب كفتم
بمردمان كه "لكم دينكم ولي ديني"
وقد اختلف الناس في الطعام والشراب المذكورين في الحديث على قولين : أحدهما : أنه طعام وشراب حسي للفم قالوا : وهذه حقيقة اللفظ ولا يوجب العدول عنه ما قال بعضهم : كان يؤتى بطعام من الجنة.
والثاني : أن المراد به ما يغذيه الله به من معارفه وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه ونعيم محبته وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة الأعين وبهجة النفوس.
قال الشيخ الشهير بأفتاده افندي قدس سره : إنما أكل نبينا عليه السلام في الظاهر لأجل أمته الضعيفة وإلا فلا احتياج له إلى الأكل والشرب وما روي من أنه كان يشد الحجر على بطنه فهو ليس من الجوع بل من كمال لطافته لئلا يصعد إلى الملكوت بل يبقى في عالم الملك ويحصل له الاستقرار في عالم الإرشاد وقد حكى له
283
بعض أمته أنه لم يأكل ولم يشرب سنين وهو أولى وأقوى في هذا الباب من أمته لقوة انجذابه إلى عالم القدس وتجرده عن غواشي البشرية وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم سقاء تبع النبي صلى الله عليه وسلّم ثلاثة أيام يقرأ : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود : 6) فرمى بقربته فآتاه آت في منامه بقدح من شراب الجنة فسقاه قال أنس رضي الله عنه : فعاش بعد ذلك نيفاً وعشرين سنة لم يأكل ولم يشرب على شهوة كما في "كشف الأسرار".
(6/205)
{وَإِذَا مَرِضْتُ} (وون بيمار شوم) {فَهُوَ} وحده {يَشْفِينِ} يبرئني من المرض ويعطي الشفاء لا الأطباء وذلك أنهم كانوا يقولون : المرض من الزمان ومن الأغذية والشفاء من الأطباء والأدوية فأعلم إبراهيم أن الذي أمرض هو الذي يشفي وهو الله تعالى لكن نسب المرض إلى نفسه حيث لم يقل : وإذا أمرضني والشفاء إلى الله تعالى مع أنهما من الله تعالى لرعاية حسن الأدب في العبارة كما قال الخضر عليه السلام في العيب : {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} (الكهف : 79) وفي الخير {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} وكذا الجن راقبوا هذا الأدب بعينه حيث قالوا : {وَأَنَّا لا نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الارْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} قوله : {وَإِذَا مَرِضْتُ} إلخ عطف على يطعمني ويسقيني نظمهما في سلك صلة واحدة لما أن الصحة والمرض من متفرعات الأكل والشرب غالباً فإن البطنة تورث الأسقام والأوجاع والحمية أصل الراحة والسلامة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 283
قالت الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى.
ما سبب آجالكم؟ لقالوا : التخم.
وفي الحكمة ليس للبطن خير من خمصة تتبعها.
قال الكاشفي : (از امام جعفر صادق رضي الله عنه منقولست كه ون بيمار شوم بكناه مرا شفادهد بتوبه.
سلمى رحمه الله فرمودكه مرض برؤيت اغياراست وشفا بمشاهده أنوار واحد قهار ودربحر آورده كه بيماري بتعلقات كونين است وشفا بقطع تعلق وآن وابسته بجذبه عنا يتست كه ون دررسد سالك را از همه منقطع ساخته بيكي بيوند دهد يعني بشربت تجري از مرض تعلقش باز رهاند.
كويمت كه ه خوش آمدي مسيح صفت
بيكنفس همه درد مرا دوا كردد
وقال بعضهم : وإذا مرضت بداء محبته وسقمت بسقم الشوق إلى لقائه ووصلته فهو يشفين بحسن وصاله وكشف جماله :
بمقدمك المبارك زال دائي
وفي لقياك عجل لي شفائي
وفي الآية إشارة إلى رفع الرجوع إلى غيره والسكون إلى التداوي والمعالجة بشيء فهو كمال التسليم.
قال في "كشف الأسرار" : (وأين نه مرضى معلوم بود در آن وقت بلكه نوعي بود از تمارض) كما يتمارض الأحبار طمعاً في العيادة :
يود بان يمسي سقيما لعلها
إذا سمعت عنه سليمى تراسله
إن كان يمنعك الوشاة زيارتي
فادخل إليّ بعلة العوّاد
(آن شفاي ذدل خليل كه بوي أشارت ميكند آنست كه جبريل كاه كاه آمدي بفرمان حق وكفتي "يقول مولاك : كيف أنت البارحة؟" وزبان حال خليل بجواب ميكويد.
خوسند شدم بدانكه كوبيي يكبار
كاي خسته روز كار دوشت ون بود
284
وحكي عن بعضهم أنه مرض وضعف اصفر لونه فقيل له ألا ندعو لك طبيباً يداويك من هذا المرض؟ فقال : الطبيب أمرضني ثم أنشد :
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي
والذي بي أصابني من طبيبي
{وَالَّذِى يُمِيتُنِى} في الدنيا عند انقضاء الأجل {ثُمَّ يُحْيِينِ} في الآخرة لمجازاة العمل أدخل ثم ههنا لأن بين الإماتة الواقعة في الدنيا وبين الإحياء الحاصل في الآخرة تراخياً ونسبة الإماتة إلى الله تعالى لأنها من النعم الإلهية في الحقيقة حيث أن الموت وصلة لأهل الكمال إلى الحياة الأبدية والخلاص من أنواع المحن والبلية.
س رجال ازنقل عالم شادمان
وزبقا اش شادمان اين كودكان
ونكه آب خوش نديد آن مرغ كور
يش او كوثر تمايد آب شور
أمام ثعلبي (كفته بميراند بعدل وزنده كند بفضل وكفته اندكه أماتت بمعصيت است واحيا بطاعت يا أماتت بجهل است واحيا بعقل يا أماتت يطمع است واحياً بورع يا أماتت بفارقست واحيا بتلاق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 283
در حقايق سلمى آورده كه بميراند از سمات روحانيت وزنده كرداند بصفا تربانيت وحققت رنست كه بميراند مرا ز انانيت من وزنده سازد بهدايت خودكه حيات حقيقي عبارت ازانست.
نجويم عمر فإني را تويي عمر عزيز من
نخواهم جان رغم راتويي جانم بجان تو
وقال بعضهم :
غم كي خورد رنكه شادمانيش تويي
باكي برد آنكه زندكانيش تويي
درنسيه آن جهان كجا دل بندد
آنكس كه بنقد اين جهانيش تويي
(6/206)
{وَالَّذِى أَطْمَعُ} (طمع ورجا ميدارم) {أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيائَتِى يَوْمَ الدِّينِ} أي : يوم الجزاء والحساب دعا بلفظ الطمع ولم يعزم في سؤاله كما عزم فيما قبل من الأمور المذكورة تأدباً أو ليعلم أن العبد ليس له أن يحكم لنفسه بالإيمان وعليه أن يكون بين الخوف والرجاء وليدل على كرم الله فإن الكريم إذا أطمع أنجز وأسند الخطيئة إلى نفسه وهي في الغالب ما يقصد بالعرض لأنه من الخطأ هضماً لنفسه وتعليماً للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر وطلب لأن يغفر لهم ما فرط منهم وتلافياً لما عسى يقع منه من الصغائر مع أن حسنات الأبرار سيئات المقربين كما أن درجاتهم دركات المقربين.
(در تلخيص آورده كه مراد خطاياي است محمد است عليه السلام كه حضرت خليل از ملك جليل دعاي غفران نموده) وتعليق المغفرة بيوم الدين مع أن الخطيئة إنما تغفر في الدنيا لأن أثرها يتبين وفائدته ثمة تظهر وفي ذلك تهويل له وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه إن لم تغفر ومثله رب اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم فهل ذلك نافعه قال : "لا إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" يعني أنه كان كافراً ولم يكن مقراً بيوم القيامة لأن المقر به طالب لمغفرة خطيئته فيه فلا ينفعه عمله وعبد الله بن جدعان هو ابن عم عائشة رضي الله عنها وكان في ابتداء أمره فقيراً ثم ظفر بكنز اسنغى به فكان ينفق من ذلك الكنز ويفعل المعروف ثم هدا كله احتجاج
285
من إبراهيم على قومه وإخبار أنه لا يصلح للإلهية من لا يفعل هذه الأفعال وبعد ما ذكر فنون الألطاف الفائضة عليه من الله تعالى من مبدأ خلقه إلى يوم بعثه حمله ذلك على مناجاته تعالى ودعائه لربط العتيد وجلب المزيد فقال : {رَبُّ} (أي رورد كار من).
{هَبْ لِى حُكْمًا} أي : كمالاً في العلم والعمل استعد به لخلافة الحق ورياسة الخلق فإن من يعلم شيئاً ولا يأتي من العمل بما يناسب علمه لا يقال له حكيم ولا لعلمه حكم وحكمة.
{وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} ووفقني من العلوم والأعمال والأخلاق لما ينظمني في زمرة الكاملين الراسخين في الصلات المتنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها أو اجمع بيني وبينهم في الجنة فقد أجابه تعالى حيث قال : {وَإِنَّه فِى الاخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ} (البقرة : 130) وباقي الكلام هنا سبق في أواخر سورة الكهف.
جزء : 6 رقم الصفحة : 283
{وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ} جاهاً وحسن صيت في الدنيا يبقى أثره إلى يوم الدين ولذلك ما من أمة إلا وهم محبون له مثنون عليه فحصل بالأول الجاه وبالثاني حسن الذكر.
وبالفارسية (وكردان براي من زبان راست يعني ثناي نيكو درميان س آيند كان يعني جاري كن ثناونيكنامي وآوازه من برزبان كساني كه س از من آنيد) فقوله : {فِى الاخِرِينَ} أي : في الأمم بعدي وعبر عن الثناء الحسن والقبول العام باللسان لكون اللسان سبباً في ظهوره وانتشاره وبقاء الذكر الجميل على ألسنة العباد إلى آخر الدهر دولة عظيمة من حيث كونه دليلاً على رضى الله عنه ومحبته والله تعالى إذا أحب عبداً يلقي محبته إلى أهل السموات والأرض فيحبه الخلائق كافة حتى الحيتان في البحر والطيور في الهواء.
قال ابن عطاء : أي أطلق لسان أمة محمد بالثناء والشهادة لي فإنك قد جعلتهم شداء مقبولين.
قال سهل : اللهم ارزقني الثناء في جميع الأمم والملل وإنما يحصل في الحقيقة بالفعل الجميل والخلق الحسن واللسان اللين فهي أسباب اللسان الصدق وبها اقتداء الآخرين به فيكون له أجره ومثل أجر من اقتدى به.
{وَاجْعَلْنِى} في الآخرة وارثاً {مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} شبه الجنة التي استحقها العامل بعد فناء عمله بالميراث الذي استحقه الوارث بعد فناء مورثه فأطلق عليها اسم الميراث وعلى استحقاقها اسم الوراثة وعلى العامل اسم الوارث.
فالمعنى واجعلني من المستحقين لجنة النعيم والمتمتعين بها كما يستحق الوارث مال مورثه ويتمتع به.
ومعنى جنة النعيم (بستان رنعمت).
وفيه إشارة إلى أن طلب الجنة لا ينافي طلب الحق وترك الطلب مكابرة للربوبية.
قال بعض الكبار : إن الله تعالى هو المحبوب لذاته لا لعطائه وعطاؤه محبوب لكونه محبوباً لا لنفسه ونحبه ونحب عطاءه لحبه ولنا حبان حبه وحب عطائه وهما لذاته فقط لا لغيره فيكون الحب في أصله واحداً وفي فرعه متعدداً عى ما هو مقتضى الجمع والوحدة وموجب الفرق والكثرة فحبنا له إنما هو في مقام جمع الجمع لأنه مقام الاعتدال لا في مرتبة الجمع أو الفرق فقط.
(6/207)
{وَاغْفِرْ لابِى} المعفرة مشروطة بالإيمان وطلب المشروط يتضمن طلب شرطه فيكون الاستغفار لأحياء المشركين عبارة عن طلب توفيقهم وهدايتهم للإيمان.
{إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ} طريق الحق.
وبالفارسية (ازكمراهان) وهذا الدعاء قبل أن يتبين له أنه عدو كما تقدم في سورة التوبة
286
روي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ما من رجل توضأ فأسبغ الوضوء ثم خرج من بيته يريد المسجد فقال حين خرج : بسم الله الذي خلقني فهو يهدين إلا هداه الله لصواب الأعمال ، والذي هو يطعمني ويسقين إلا أطعمه الله من طعام الجنة وسقاه من شرابها ، وإذا مرضت فهو يشفين إلا شفاه الله تعالى والذي يميتني ثم يحيين إلا أحياه الله حياة الشهداء وأماته ميتة الشهداء والذي أطمع أن يغفر لي خطيئيتي يوم الدين إلا غفر الله خطاياه ولو كانت أكثر من زبد البحر رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين إلاوهب له حكماً وألحقه بصالح من مضى وصالح من بقي واجعل لي لسان صدق في الآخرين إلا كتب عند الله صديقاً واجعلني من ورثة جنة النعيم إلا جعل الله له القصور والمنازل في الجنة" وكان الحسن يزيد فيه واغفر لوالدي كما ربياني صغيراً كذا في "كشف الأسرار".
جزء : 6 رقم الصفحة : 283
{وَلا تُخْزِنِى} من الخزي بمعنى الهوان والذل أي ولا تفضحني ولا تهتك ستري.
وبالفارسية (رسوا مساز) بمعاتبتي على ما فرطت من ترك الأولى وإنما قال ذلك مع علمه بأنه لا يخزيه إظهاراً للعبودية وحثاً لغيره على الاقتداء به كما قال الكاشفي : (اين دعا نيز براي تعليم امتانست وإلا انبيارا خزي ورسوايي نباشد) وذلك لأنهم آمنون من خوف الخاتمة ونحوها ولما كانت مغفرة الخطيئة في قوله : {وَالَّذِى أَطْمَعُ} إلخ لا تستلزم ترك المعاتبة أفرد الدعاء بتركها بعد ذكر مغفرة الخطيئة.
{يَوْمَ يُبْعَثُونَ} من القبور أي الناس كافة وإضماره لأن البعث عام فيدل عليه وقيد عدم الإخزاء بيوم البعث لأن الدنيا مظهر اسم الستار.
قال أبو الليث : إلى هنا كلام إبراهيم وقد انقطع كلامه ثم إن الله تعالى وصف ذلك اليوم فقال :
{يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} بدل من يوم يبعثون ومفعول الفعل محذوف والتقدير لا ينفع مال أحداً وإن كان مصروفاً في الدنيا إلى وجوه البر والخيرات ولا ينفع بنون فرداً وإن كانوا صلحاء مستأهلين للشفاعة جداً.
{إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} بدل من مفعوله المحذوف أي إلا مخلصاً سليم القلب من مرض الكفر والنفاق ضرورة اشتراط نفع كل منهما بالإيمان.
قال في "كشف الأسرار" : بنفس سليمة من الكفر والمعاصي وإنما أضافه إلى القلب لأن الجوارح تابعة للقلب فتسلم بسلامته وتفسد بفساده وفي الخبر : "إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب" قال الليث : كان الكفار يقولون : نحن أكثر أموالاً وأولاداً فأخبر الله أنه لا ينفعهم ذلك اليوم المال والبنون لعدم سلامة قلوبهم في الدنيا وأما المسلمون فينفعهم خيراتهم وينفعهم البنون أيضاً لأن المسلم إذا مات ابنه قبله يكون له ذخراً وأجراً وإن تخلف بعده فإنه يذكره بصالح دعائه ويتوقع منه الشفاعة من حيث صلاحه.
وسئل أبو القاسم الحكيم عن القلب السليم فقال : له ثلاث علامات أولاها : أن لا يؤذي أحداً.
والثانية : أن لا يتأذى من أحد.
والثالثة : إذا اصطنع مع أحد معروفاً لم يتوقع منه المكافأة فإذا هو لم يؤذ أحداً فقد جاء بالورع وإذا لم يتأذ من أحد فقد جاء بالوفاء وإذا لم يتوقع المكافأة بالاصطناع فقد جاء بالإخلاص.
جزء : 6 رقم الصفحة : 287
قال الكاشفي : (كفته اند سلامت قلب إخلاص است درشهادت أن لا إله إلا الله محمد رسول الله قولي آنست كه دل سليم از حب
287
دنيا وكويند از حسد وخيانت.
ودرتيسير كويد از بغض أهل بيت وازواج وأصحاب حضرت يغمبر عليه السلام.
إمام قشيري رحمه الله فرمودكه قلب سليم آنست كه خالي باشد ازغير خداي ازطمع دنيا ورجاء عقبى يا خالي باشد از بدعت ومطمن بسنت.
واز سيد ذطائفة جنيد قدس سره منقولست كه سليم ماركزيده بود وماركزيده يوسته درقلق واضطرابست س بيان ميكند كه دل سليم مدام درمقام جزع وتضرع وازري از خهوف قطيعت يا از شوق وصلت).
زشوق وصل مي نا لم وكرستم دهدروزي
زبيم هجر ميكريم كه ناكه دركمين باشد
همام از كريه خونين وسوزدل مكن ندين
ندانستي كه حال عشقبازان ايننين باشد
قال المولى الجامي :
محنت قرب ز بعد افزونست
جكر از محنت مرهم خونست
هست درقرب همه بيم زوال
نيست دربدع جز اميد وصال
(6/208)
وفي "البحر" : {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} للوصول إلى الحضرة لقبول الفيض الإلهي.
{إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ} عند المراقبة.
{بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وهو قلب قد سلم من انحراف المزاج الأصلي الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها فإنه خلق مرآة قابلة لتجلي صفات جمال الله وجلاله كما كان لآدم عليه السلام أول فطرته فتجلى فيه قبل أن يصدأ بتعلقات الكونين أشار بقوله : {إِلا مَنْ} إلى التخلق بخلق الله والاتصاف بصفته إذ لم يكن القلب سليماً بلا عيب إلا إذا كان متصفاً بطهارة قدس الحق عن النظر إلى الخلق.
قال ابن عطاء : السليم الذي لا يشوشه شيء من آفات الكون.
وسئل بعضهم : بم تنال سلامة الصدر؟ قال : بالوقوف على حد اليقين وترك الإرادة في التلوين والتمكين.
قال أبو يزيد رحمه الله : فقطعت المفاوز حتى بلغت البوادي وقطعت البوادي حتى وصلت إلى الملكوت وقطعت الملكوت حتى بلغت إلى الملك ـ بفتح الميم وكسر اللام ـ فقلت : الجائزة قال : قد وهبت لك جميع ما رأيت قلت : إنك تعلم أني لم أر شيئاً من ذك قال : فما تريد؟ قلت : أريد أن لا أريد قال : قد أعطيناك.
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} عطف على لا ينفع وصيغة الماضي لتحقق وقوعه كما أن صيغة المضارع في المعطوف عليه للدلالة على استمرارانتفاع النفع ودوامه أي قربت الجنة للمتقين عن الكفر والمعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن فيفرحون بأنهم المحشورون إليها.
وفي "البحر" : أي قربت لأنهم تبعدوا عنها لتقربهم إلى الله تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 287
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} الضالين عن طريق الحق الذي هو الإيمان والتقوى أي جعلت بارزة لهم بحيث يرونها مع ما فيها من أنواع الأهوال ويوقنون بأنهم مواقعوها ولا يجدون عنها مصرفاً فيزدادون غماً يقال : يؤتى بها في سبعين ألف زمام وفي اختلاف الفعلين ترجيح لجانب الوعد فإن التبريز لا يستلزم التقريب ثم في تقديم إزلاف الجنة إيماء إلى سبق رحمته عى غضبه.
وفي "البحر" : {وَبُرِّزَتِ} إلخ إذ توجههم كان إليها لطلب الشهوات وقد حفت بالشهوات.
وفي "المثنوي" :
حفت الجنة بمكروهاتنا
حفت النيران من شهواتنا
288
يعني جعلت الجنة محفوفة بالأشياء التي كانت مكروهة لنا وجعلت النارمحاطة بالأمور التي كانت محبوبة لنا.
{وَقِيلَ لَهُمْ} أي : للغاوين يوم القيامة على سبيل التوبيخ والقائلون الملائكة من جهة الحق تعالى ، وحكمه : {أَيْنَ مَا كُنتُمْ} في الدنيا {تَعْبُدُونَ} .
{مِن دُونِ اللَّهِ} أي : أين آلهتكم الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شفعاؤكم في هذا الموقف وتقربكم إلى الله زلفى {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ} بدفع العذاب عنكم {أَوْ يَنتَصِرُونَ} بدفعه عن أنفسهم.
وبالفارسية (يا نكاه ميدارند خودرا از حلول عقوبت بديشان) وباب افتعل ههنا مطاوع فعل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 288
قال في "كشف الأسرار" : النصر المعونة على دفع الشر والسوء عن غيره والانتصار أن يدفع عن نفسه وإنما قال : أو ينتصرون بعد قوله : هل ينصرونكم لأن رتبة النصر بعد رتبة الانتصار لأن من نصر غيره فلا شك في الانتصار وقد ينتصر من لا يقدر على نصر غيره ثم هذا سؤال تقريع وتبكيت لا يتوقع له جواب ولذلك قيل.
{فَكُبْكِبُوا فِيهَا} الكبكبة (نكو نسار كردن) أي تدهور الشيء في هوة وهو تكرير الكب وهو الطرح والإلقاء منكوساً وجعل تكرير اللفظ دليلاً على تكرير المعنى كرر عين الكب بنقله إلى باب التفعيل فأصل كبكبوا كببوا فاستثقل اجتماع الباءات فأبدلت الثانية كافاً كما في زحزح فإن أصله زحح من زحه يزحه أي نحاه عن موضعه ثم نقل إلى باب التفعيل فقيل : زححه فأبدلت الحاء الثانية زاياً فقيل : زحزحه أي باعده فمعنى الآية ألقوا في الجحيم مرة بعد أخرى منكوسين على رؤوسهم إلى أن يتسقروا في قعرها.
{هُمُ} أي : آلهتهم{وَالْغَاوُانَ} الذين كانوا يعبدونهم.
{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} شياطينه ، أي ذريته الذين كانوا يغوونهم ويوسوسون إليهم ويسوّلون لهم ما هم عليه من عبادة الأصنام وسائر فنون الكفر والمعاصي ليجتمعوا في العذاب حسبما كانوا مجتمعين فيما يوجبه.
{أَجْمَعُونَ} تأكيد لضميرهم وما عطف عليه.
{قَالُوا} استئناف بياني أي قال العبدة حين فعل بهم ما فعل معترفين بخطاياهم.
{وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} أي : والحال أنهم في الجحيم بصدد الاختصام مع من معهم من المذكورين مخاطبين لمعبوداتهم على أن الله تعالى يجعل الأصنام صالحة للاختصام بأن يعطيها القدرة على النطق والفهم.
قال أبو الليث : ومعناه قالوا وهم يختصمون فيها على معنى التقديم.
{تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} إن مخففة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية أي إن الشأن كنا في ضلال واضح لا خفاء فيه.(6/209)
{إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} ظرف لكونهم في ضلال مبين وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية أي تالله لقد كنا في غاية الضلال الفاحش وقت تسويتها إياكم أيها الأصنام في استحقاق العبادة برب العالمين الذي أنتم أدنى مخلوقاته وأذلهم وأعجزهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 288
{وَمَآ أَضَلَّنَآ} وما دعانا إلى الضلال عن الهدي.
{إِلا الْمُجْرِمُونَ} أي الرؤساء والكبراء كما في قوله تعالى : {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا} (الأحزاب : 67) : وبالفارسية : (مكر بدان وبدكاران از مهتران) وأصل الجرم قطع الثمرة عنالشجرة والجرامة رديي التمر وأجرم صار ذا جرم نحو أتمر وألبن واستعبر ذلك لكل اكتساب مكروه ولا يكاد يقال في عامة كلامهم للكسب المحمود.
{فَمَا لَنَا} (س نيست مارا اكنون) {مِن شَـافِعِينَ} (هي كس از شفاعت كنندكان) كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء عليهم السلام.
289
{وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (ونه دوستي مهربان وباشفقت) كما يرى لهم أصدقاء والصديق من صدقك في مودته وحميم قريب خاص وحامة الرجل خاصته كما في "فتح الرحمن".
قال الراغب هو القريب المشفق فكأنه الذي يحتد حماية لذويه وقيل : لخاصة الرجل : حامته قيل الحامة العامة وذلك لما قلنا واحتم فلان لفلان أي احتد وذلك أبلغ من اهتم لما فيه من معنى الاهتمام.
وقال الكاشفي : (در قوت القلوب آورده كه حميم دراصل هميم بوه كه هارا بحا بدل كرده اند جهت قرب مخرج وهميم مأخوذاست از اهتمام لما فيه من معنى اهتمام اهتمام كند درمهم كافران وشرط دوستي بجاي آرد) وجمع الشافع لكثرة الشفعاء عادة ألا ترى أن السلطان إذا غضب على أحد ربما شفع فيه جماعة كما أن أفراد الصديق لقلته ولو قيل بعدمه لم يبعد قال الصائب :
درين قحط هو إداري عجب دارم كه خاكستر
كه در هنكام مردن شم مي وشاند آتش را
روي في بعض الأخبار أنه يجيء يوم القيامة عبد يحاسب فتستوي حسناته وسيئاته ويحتاج إلى حسنة واحدة ترضي عنه خصومه فيقول الله : عبدي بقيت لك حسنة إن كانت أدخلتك الجنة انظر واطلب من الناس لعل واحداً يهب منك حسنة واحدة فيأتي ويدخل في الصفين ويطلب من أبيه وأمه ثم من أصحابه فيقول لكل واحد في باب فلا يجيبه أحد وكل يقول : أنا اليوم فقير إلى حسنة من حسناته فيقول الله : عبدي ألم يكن لك صديق وفيّ فيذكر العبد صديقاً له فيأتيه ويسأله فيعطيه ويجيء إلى موضعه ويخبر بذلك ربه فيقول الله : قد قبلتها منه ولم أنقص من حقه شيئاً فقد غفرت لك وله.
ففي هذا المعنى إشارة إلى أن للصداقة في الله اعتباراً عظيماً وفوائد كثيرة وفي الحديث : "أن الرجل ليقول في الجنة ما فعل بصديقي فلان وصديقه في الجحيم فيقول الله : أخرجوا له صديقه إلى الجنة" يعني : وهبته له.
جزء : 6 رقم الصفحة : 288
قال الحسن : استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة.
وقال الحسن : ما اجتمع ملأ على ذكر الله فيهم عبد من أهل الجنة إلا شفعه فيهم وإن أهل الإيمان شفعاء بعضهم لبعض وهم عند الله شافعون مشفعون وفي الحديث : "إن الناس يمرون يوم القيامة على الصراط والصراط وخص مزلة يتكفأ بأهله والنار تأخذ منهم وإن جهنم لتنطف عليهم" أي تمطر عليهم مثل الثلج إذا وقع لها زفير وشهيق "فبينا هم كذلك إذ جاءهم نداء من الرحمن : عبادي من كنتم تعبدون؟ فيقولون : ربنا أنت تعلم أنا إياك كنا نعبد فيجيبهم بصوت لم يسمع الخلائق مثله قط : عبادي حق علي أن لا أكلكم اليوم إلى أحد غيري فقد غفرت لكم ورضيت عنكم فيقوم الملائكة عند ذلك بالشفاعة فينجون من ذلك المكان فيقول الذين تحتهم في النار : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم".
{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} لو للتمني وأقيم فيه لو مقام ليت لتلاقيها في معنى التقدير أي تقدير المعدوم وفرضه كأنه قيل : فليت لنا كرة أي رجعة إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بالنصب جواب التمني وهذا كلام التأسف والتحسر ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه فإن من يضلل الله فما له من هاد ولو رجع إلى الدنيا مراراً ألا ترى إلى الأمم في الدنيا فإن الله تعالى
290
أخذهم بالبأساء والضراء كراراً ثم كشفه عنهم فلم يزيدوا إلا إصراراً جعلنا الله وإياكم من المستمعين المعتبرين لا من المعرضين الغافلين.
(6/210)
{إِنَّ فِي ذَالِكَ} أي فيما ذكر من قصة إبراهيم مع قومه.
{لايَةً} لعبرة لمن يعبد غير الله تعالى ليعلم أنه يتبرأ منه في الآخرة ولا ينفعه أحد ولا سيما لأهل مكة الذين يدعون أنهم على ملة إبراهيم.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم} أكثر قوم إبراهيم {مُؤْمِنِينَ} كحال أكثر قريش.
وقد روي أنه ما آمن لإبراهيم من أهل بابل إلا لوط وابنه نمرود.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} (أوست غلبه كننده برمشركان كه سطوت أو مردود نكردد).
{الرَّحِيمُ} (وبخشاينده كه توبه بند كان ردنكند وبي احتجاج بديشان عذاب نفرستد) ويمهل كما أمهل قريشاً بحكم رحمة الواسعة لكل يؤمنوا هم أو واحد من ذريتهم ولكنه لا يهمل فإنه لا بد لكل عامل من المكافأة على عمله إن خيراً فيخير وإن شراً فشر هذا وقد جوز أن يعود ضمير أكثرهم إلى قوم نبينا عليه السلام فإنهم الذين تتلى عليهم الآية ليعتبروا ويؤمنوا وقد بين في المجلس السابق فارجع.
جزء : 6 رقم الصفحة : 288
وفي "البحر" : النفس جبلت على الأمارية بالسوء وهو الكفر ولئن آمنت وصارت مأمورة فهو خرق عادتها يدل على هذا قوله تعالى : {إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةُا بِالسُّواءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى} (يوسف : 53) يعني برحمة الحق تعالى تصير مأمورة مؤمنة على خلاف طبعها ولهذا قال : {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} يعني أصحاب النفوس.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} ما هدى أكثر الخلق إلى الإيمان فضلاً عن الحضرة {الرَّحِيمُ} فلرحمته هدى الذين جاهدوا فيه إلى سبيل الرشاد بل هدى الطالبين الصادقين إلى حضرة جلاله انتهى.
فالهداية وإن كانت من العناية لكن لا بد من التمسك بالأسباب إلى أن تفتح الأبواب وملامة النفس عند مخالفتها الأوامر والآداب مما ينفع في هذا اليوم دون يوم القيامة ألا ترى أن الكفار لاموا أنفسهم على ترك الإيمان وتمنوا أن لو كان لهم رجوع إلى الدنيا لقبلوا الإيمان والتكليف فما نفعهم ذلك.
امروز قدر ند عزيزان شناختيم
يا رب روان ناصح ما ازتوشاد باد
عصمنا الله وإياكم من سطوته وغشينا برحمته وجعلنا من أهل القبور في الدنيا والآخرة إنه الموفق لخير الأمور الباطنة والظاهرة.
{كَذَّبَتْ} تكذيباً مستمراً من حين الدعوة إلى انتهائها.
{قَوْمُ نُوحٍ} القوم الجماعة من الرجال والنساء معاً أو الرجال خاصة وتدخل النساء على التبعية ويؤنث بدليل مجيء تصغيره على قويمة.
{الْمُرْسَلِينَ} أي : نوحاً وحده والجمع باعتبار أن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب الجميع لاجتماع الكل على التوحيد وأصول الشرائع أو لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل.
{إِذْ قَالَ لَهُمْ} ظرف للتكذيب على أنه عبارة عن زمان مديد وقع فيه ما وقع من الجانبين إلى تمام الأمر.
{أَخُوهُمْ} في النسب لئلا يجهل أمره في الصدق والديانة ولتعرف لغته فيؤدي ذلك إلى القبول.
{نُوحٌ} عطف بيان لأخوهم.
{أَلا تَتَّقُونَ} الله حيث تعبدون غيره.
وبالفارسية (أيا منمي ترسيد از خداي تعالى كه ترك عبادت أو ميكنيد).
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} من جهته تعالى.
{أَمِينٌ} مشهور بالأمانة فيما بينكم ومن كان أميناً على أمور الدنيا كان أميناً على الوحي والرسالة.
291
{فَاتَّقُوا اللَّهَ} خافوا الله {وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به من التوحيد والطاعة فإني لا أخونكم ولا أريدكم بسوء والفاء لترتيب ما بعدها على الأمانة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 288
{وَمَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ} على أداء الرسالة {مِنْ أَجْرٍ} جعل أصلاً وذلك لأن الرسل إذا لم يسألوا أجراً كان أقرب إلى التصديق وأبعد عن التهمة.
{إِنْ أَجْرِىَ} ما ثوابي فيما أتولاه.
{إِلا عَلَى رَبِّ الْعَـالَمِينَ} لأن من عمل فلا يطلب الأجر من غير الله وبه يشير إلى أن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء يتأدبون بآداب أنبيائهم فلا يطلبون من الناس شيئاً في بث علومهم ولا يرتفقون منهم بتعليمهم ولا بالتذكير لهم فإن من ارتفق من المسلمين المستمعين في بث ما يذكره من الدين ويعظ به لهم فلا يبارك الله للناس فيما يسمعون ولا للعلماء أيضاً بركة فيما يأخذون منهم يبيعون دينهم بعرض يسير ثم لا بركة لهم فيه :
زيان ميكند مرد تفسير دان
كه علم وأدبمفيروشد بنان
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} الفاء لترتيب ما بعدها على تنزهه عن الطمع والتكرير للتأكيد والتنبيه على أن كلاً من الأمانة وقطع الطمع مستقل في إيجاب التقوى والطاعة فكيف إذا اجتمعا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 288
(6/211)
{قَالُوا} أي : قوم نوح {أَنُؤْمِنُ لَكَ} الاستفهام للإنكار ، أي لا نؤمن لك.
{وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ} أي والحال قد أتبعك الأقلون جاهاً ومالاً أي وهذه حالك كما تقول لا نصحبك وصحبك السفلة.
والأرذلون جمع الأرذل والرذالة الخسة والدناءة والرذال المرغوب عنه لرداءته يعنون أن لا عبرة لاتباعهم لك إذ ليس لهم رزانة عقل وإصابة رأي قد كان ذلك منهم في بادىء الرأي وهذا من كمال سخافة عقولهم وقصرهم أنظارهم على الدنيا وكون الأشرف عندهم من هو أكثر منها حظاً والأرذل من حرمها وجهلهم أنها لاتزن عند الله جناح بعوضة ، وأن النعيم هو نعيم الآخرة والأشرف من فاز به والأرذل من حرمه وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله ، وما زالت الأتباع الأنبياء ضعفاء الناس وقس أتباع الأولياء على أتباعهم من حيث وراثتهم لدعوتهم وعلومهم وأذواقهم ومحنهم وابتلائهم وذلك لأن الحقيقة من أرباب الجاه والثروة لم تأت إلا نادراً :
ذران سرست بزركي ه نيست فكربزكي
{قَالَ} نوح جواباً عما يشير إليه من قولهم أنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة.
{وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} إنهم علموه إخلاصاً أو نفاقاً وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر وبناء الأحكام عليها دون التفتيش عن بواطنهم والشق عن قلوبهم ، والظاهر أن ما فيه استفهامية بمعنى أي شيء في محل الرفع على الابتداء وعلمي خبرها ويجوز أن تكون نافية والباء متعلقة بعلمي على التقدير الأول وعلى الثاني لا بد من إضمار الخبر ليتم الكلام ، كما قال الكاشفي : (ونست دانش من رسنده بآنه هستندكه ميكنند).
جزء : 6 رقم الصفحة : 292
{إِنْ حِسَابُهُمْ} ما محاسبتهم على بواطنهم {إِلا عَلَى رَبِّى} فإنه المطلع على الضمائر.
وفي الخبر المعروف : "فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله".
قال سفيان الثوري رحمه الله : لا نحاسب الأحياء ولا نحكم عى الأموات {لَوْ تَشْعُرُونَ} لو كنتم من أهل الشعور والإدراك
292
لعملتم ذلك ولكنكم تجهلون فتقولون ما لا تعلمون وهو من الباب الأول وأما الشعر بمعنى النظم فمن الخامس.
{وَمَآ أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} الطرد الإزعاج والإبعاد على سبيل الاستخلاف.
والمعنى بالفارسية : (ونيستم من راننده مؤمنان) وهو جواب عما أوهمه كلامهم أنؤمن لك من استدعاء طردهم وتعليق إيمانهم بذلك حيث جعلوا أتباعهم مانعاً عنه.
قال ابن عطاء رحمه الله : وما أنا بمعرض عمن أقبل على ربه.
{إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي ما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين وزجرهم عن الكفر والمعاصي سواء كانوا من الأعزاء أو الأذلاء فكيف يليق بي طرد الفقراء لاستتباع الأغيناء.
{قَالُوا لئن لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ} عما تقول يعني عن الدعوة والإنذار.
والانتهاء (بازاستيدن).
{لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} .
قال الراغب في "المفردات" : الرجام الحجارة والرجم الرمي بالرجام يقال : رجم فهو مرجوم قال تعالى : {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أي : المقتولين أقبح قتلة انتهى قالوه قاتلهم الله في أواخر الأمر.
{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ} أصروا على التكذيب بعدما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة ولم يزدهم دعائي إلا فراراً.
{فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} أي : احكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا.
قال في "التأويلات" : افتح باباً من أبواب فضلك على مستحقيه وباباً من أبواب عدلك على مستحقيه انتهى من الفتاحة وهي الحكومة والفتاح الحاكم سمي لفتح المغلق من الأمر كما سمي فيصلاً لفصله بين الخصومات.
قال ابن الشيخ أراد به الحكم بإنزال العقوبة عليهم لقوله عقبه : {وَنَجِّنِى} خلصني {وَمَن مَّعِىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي : من العذاب ومن أذى الكفار.
جزء : 6 رقم الصفحة : 292
{فَأَنجَيْنَـاهُ وَمَن مَّعَهُ} حسب دعائه {فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي المملوء بهم وبكل صنف من الحيوان وبما لا بد لهم منه من الأمتعة والمأكولات ومنه الشحناء وهي عداوة امتلأت منها النفوس.
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ} أي : بعد إنجائهم {الْبَاقِينَ} من قومه ممن لم يركب السفينة.
وفيه تنبيه على أن نوحاً كان مبعوثاً إلى من على وجه الأرض ولذا قال في قصته الباقين وفي قصة موسى ثم أغرقنا الآخرين.
{إِنَّ فِي ذَالِكَ} الذي فعل بقوم نوح لاستكبارهم عن قبول الحق واستخفافهم بفقراء المسلمين.
{لايَةً} لعبرة لمن بعدهم.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} أي : أكثر قوم نوح فلم يؤمن من قومه إلا ثمانون من الرجال والنساء.
وقال الكاشفي : (هفتادونه تن) وأكثر قومك يا محمد وهم قريش فاصبر على أذاهم كما صبر نوح على أذى قومه تظفر كما ظفر.
كارتو از صبر نكوتر شود
هركه شكيباست مظفر شود(6/212)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب على ما أراد من عقوبة الكفار {الرَّحِيمُ} لمن تاب أو بتأخير العذاب.
وفي "التأويلات النجمية" : كرر في كل قصة قوله : {إِنَّ فِي ذَالِكَ لايَةًا وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم} مؤمنين دلالة على أن عز الله وعظمته اقتضت أن يكون أكرم الخلق مؤمناً به مقبولاً له كما قال تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ} (الحجرات : 13) ولا ريب أن أكثر الخلق لئام وكرام قليلون كما قال الشاعر :
تعيرنا أنا قليل عدادنا
فقلت لها إن الكرام قليل
293
ولذلك ذكر في عقبه.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} أي : لا يهتدي إليه الأذلاء من أرباب النفوس لخستهم ولعزته.
{الرَّحِيمُ} أي : يجتبي إليه برحمته من يشاء من أعزة أرباب القلوب لعلو مهمته وفرط رحمته.
آفين برجان درويشي
كه صاحب همت است
والإشارة بنوح إلى نوح القلب وبقومه إلى النفس وصفاتها وبالمؤمنين إلى الجسد وأعضائه فإنهما آمنا بالعمل بالأركان على وفق الشرع وإلى بعض صفات النفس وذلك بتبدلها.
وبالفلك إلى فلك الشريعة المملوء بالأوامر والنواهي والحكم والمواعظ والأسرار والحقائق والمعاني فمن ركب هذه السفينة نجا ومن لم يركب غرق بطوفان استيلاء الأخلاق الذميمة وابتلاء آفات الدنيا الدنيئة من المال والجاه والزينة والشهوات ولا بد للسفينة من الملاح وهومعلم الخير فإنه بصحبته تحصل النجاة كما قال الحافظ :
جزء : 6 رقم الصفحة : 292
يا رمردان خدا باش كه دركشتي نوح
هست خاكيكه بآبي نخرد طوفا نرا
يشير إلى أن الأمر سهل بإشارة المرشد وأن العسير عند الغافل يسير عند الواصل
جزء : 6 رقم الصفحة : 292
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} أنث عاد باعتبار القبيلة وهو اسم أبيهم الأقصى (مقاتل : كفت عادوثمود ابن عم يكديكير بودند عاد قوم هود بودند وثمود قومصالح وميان مهلكعادومهلك ثمود انصد سالبود قومي كفتند از أهل تاريخ كه عاد وثموددو برادر بودند از فرزندان أرم بن سام ابن نوح وسام بنو نوح را نج بسر بود ارم وارفحشه وعالم واليفر واوسود وارم مهينه فرزندان بود واوراهفت سر بود عاد وثمود وصحار وطنم وجديس وجاسم ووبار مسكن عاد وفرزندان وي يمن بود ومسكن ثمود وفرزندان وي ميان حجاز وشام بود ومسكن طنم عمان وبحران ومسكن جديس زمين تهامه ومسكن صحار ما بين الطائف إلى جبال طي ومسكن جاسم ما بين الحرم إلى سفوان ومسكن بار زميني است كه آنرا وبار كويند بنام وي باز خوانند اينان همه زبان ولغت عربي داشتند) وقد انقرضوا عن آخرهم فلم يبق لهم نسل.
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} في النسب ظرف للتكذيب.
{هُودٌ} بن شالخ بن أرفحشد بن سام بن نوح.
قال بعضهم : كان اسم هود عابراً وسمي هوداً لوقاره وسكونه عاش مائة وخمسين سنة أرسل إلى أورد عاد حين بلغ الأربعين {أَلا تَتَّقُونَ} الله تعالى فتفعلون ما تفعلون : وبالفارسية (آيا رهيز نميكنيد از شرك واز عقاب إلهي خائف نمي شويد).
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} من جهته تعالى {أَمِينٌ} مشهور بالأمانة فيما بينكم.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ} خافوا من عقابه {وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به من الحق.
{وَمَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي : على أداء الرسالة {مِنْ أَجْرٍ} كما يسأل بعض نقلة القصص {إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَـالَمِينَ} لأنه هو الذي أرسلني فكان أجري عليه وهو بيان لتنزهه عن المطامع الدنية والأعراض الدنيوية.
قال الحافظ :
جزء : 6 رقم الصفحة : 294
تو بنكدي وكد إيان بشرط مزد مكن
كه دوست خودروش بنده روري داند
{أَتَبْنُونَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري.
والمعنى بالفارسية (آيا بنا ميكنيد).
{بِكُلِّ رِيعٍ} (بهر موضعي بكند) والريع بكسر الراء وفتحها جمع ريعة وهو المكان المرتفع ومنه استعير
294
ريع الأرض للزيادة والارتفاع الحاصل منها.
{ءَايَةً} بناء عالياً متميزاً عن سائر الأبنية حال كونكم {تَعْبَثُونَ} ببنائه فإن بناء ما لا ضرورة فيه وما كان فوق الحاجة عبث.
رو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج فرأى قبة مشرفة فقال : "ما هذه"؟ قال له أصحابه : هذه لرجل من الأنصار فمكث وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله فسلم في الناس أعرض عنه وصنع به ذلك مراراً حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه فشكا ذلك إلى أصحابه فقال : والله إني لأنكر نظر رسول الله ما أدري ما حدث فيّ وما صنعت قالوا : خرج رسول الله فرأى قبتك فقال لمن هذه فأخبرناه فرجع إلى قبته فسواها بالأرض فخرج النبي عليه السلام ذات يوم فلم ير القبة فقال : "ما فعلت القبة التي كانت ههنا؟" قالوا : شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها فقال : "إن كل بناء يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما لا بد منه" هذا ما عليه الإمام الراغب وصاحب "كشف الأسرار" وغيرهما.
(6/213)
وقال في "الجلالين" ونحوه {ءَايَةً} يعني أبنية الحمام وبروجها.
وبالفارسية (كبوتر خانها) أنكر هود عليهم اتخاذهم بروج الحمام عبثاً ولعبهم بها كالصبيان.
قال في "نصاب الاحتساب" : من اللعب الذي يحتسب بسببه اللعب بالحمام.
قال محمد : السفلة من يلعب بالحمام ويقامر.
وفي "شرح القهستاني" : ولا بأس بحبس الطيور والدجاج في بيته ولكن يعلفها وهو خير من إرسالها في السكك.
وأما إمساك الحمامات في برجها فمكروه إذا أضر بالناس.
وقال ابن مقاتل يجب على صاحبها أن يحفظها ويعلفها انتهى.
وفي "التتارخانية" : ولا يجوز حبس البلبل والطوطي والقمري ونحوها في القفص أي إذا كان الحبس لأجل اللهو واللعب.
وأما إذا كان لأجل الانتفاع كحبس الدجاج والبط والأوز ونحوها لتسمن أو لئلا تضر بالجيران فهو جائز وكذا حبس سباع الطيور لأجل الاصطياد.
وفي فتاوى قارىء "الهداية" : هل يجوز حبس الطيور المغردة وهل يجوز إعتقاها وهل في ذلك ثواب وهل يجوز قتل الوطاويط لتلويثها حصير المسجد بخرئها الفاحش؟ أجاب يجوز حبسها للاستئناس بها.
وأما إعتقاها فليس فيه ثواب وقتل المؤذي من الدواب يجوز انتهى وفي الحديث : "لا تحضر الملائكة شيئاً من الملاهي سوى النضال والرهان" أي : المسابقة بالرمي والفرس والإبل والأرجل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 294
وقال بعضهم : في الآية تعبثون بمن مرّ بكم لأنهم كانوا يبنون الغرف في الأماكن العالية ليشرفوا على المارة فيسخرون منهم ويعبثون بهم.
وذهب بعض من عدّ من أجلاء المفسرين إلى أن المعنى (آية) أي علامة للمارة تعبثون ببنائها فإنهم كانوا يبنون أعلاماً طوالاً لاهتداء المارة فعد ذلك عبثاً لاستغنائهم عنها بالنجوم.
قال سعدي المفتي : فيه بحث إذ لا نجوم بالنهار وقد يحدث في الليل ما يستر النجوم من الغيوم انتهى.
يقول الفقير : وأيضاً إن تلك الأعلام إذا كانت لزيادة الانتفاع بها كالأميال بين بغداد ومكة مثلاً كيف تكون عبثاً فالاهتداء بالنهار إما بالأعلام وإما بشم التراب كما سبق في الجلد الأول.
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} أمكنة شريفة كما في "المفردات" أو مآخذ الماء تحت الأرض كما في "الصحاح" و"القاموس".
المصنعة بفتح الميم وضم النون وفتحها كالحوض يجمع فيها ماء المطر وجمعها المصانع أي : الحياض العظيمة.
{لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} راجين أن تخلدوا في الدنيا أي عاملين عمل من يرجو ذلك فلذلك تحكمون بناءها فلعل للتشبيه
295
أي كأنكم تخلدون.
وبالفارسية (كوييا جاويد خواهد بود دران) ذمهم أولاً بإضاعتهم المال عبثاً بلا فائدة.
وثانياً بإحكامهم البناء على وجه يدل على طول الأمل والغفلة.
قال الصائب :
در سراين غافلان طول أملداني كه يست
آشيان كردست ماري در كبوتر خانه
{وَإِذَا بَطَشْتُم} بسوط أو سيف والبطش تناول الشيء بصولة أو قهر وغلبة.
{بَطَشْتُم} حال كونكم {جَبَّارِينَ} متسلطين ظالمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ولا نظر في العاقبة فأما بالحق والعدل فالبطش جائز والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ} واتركوا هذه الأفعال من بناء الأبنية العالية واتخاذ الأمكنة الشريفة وإسراف المال في الحياض والرياض والبطش بغير حق.
{وَأَطِيعُونِ} فيما أدعوكم إليه من التوحيد والعدل والإنصاف وترك الأمل ونحوها فإنه أنفع لكم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 294
وقال بعضهم : في الآية تعبثون بمن مرّ بكم لأنهم كانوا يبنون الغرف في الأماكن العالية ليشرفوا على المارة فيسخرون منهم ويعبثون بهم.
وذهب بعض من عدّ من أجلاء المفسرين إلى أن المعنى (آية) أي علامة للمارة تعبثون ببنائها فإنهم كانوا يبنون أعلاماً طوالاً لاهتداء المارة فعد ذلك عبثاً لاستغنائهم عنها بالنجوم.
قال سعدي المفتي : فيه بحث إذ لا نجوم بالنهار وقد يحدث في الليل ما يستر النجوم من الغيوم انتهى.
يقول الفقير : وأيضاً إن تلك الأعلام إذا كانت لزيادة الانتفاع بها كالأميال بين بغداد ومكة مثلاً كيف تكون عبثاً فالاهتداء بالنهار إما بالأعلام وإما بشم التراب كما سبق في الجلد الأول.
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} أمكنة شريفة كما في "المفردات" أو مآخذ الماء تحت الأرض كما في "الصحاح" و"القاموس".
المصنعة بفتح الميم وضم النون وفتحها كالحوض يجمع فيها ماء المطر وجمعها المصانع أي : الحياض العظيمة.
{لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} راجين أن تخلدوا في الدنيا أي عاملين عمل من يرجو ذلك فلذلك تحكمون بناءها فلعل للتشبيه
295
أي كأنكم تخلدون.
وبالفارسية (كوييا جاويد خواهد بود دران) ذمهم أولاً بإضاعتهم المال عبثاً بلا فائدة.
وثانياً بإحكامهم البناء على وجه يدل على طول الأمل والغفلة.
قال الصائب :
در سراين غافلان طول أملداني كه يست
آشيان كردست ماري در كبوتر خانه
(6/214)
{وَإِذَا بَطَشْتُم} بسوط أو سيف والبطش تناول الشيء بصولة أو قهر وغلبة.
{بَطَشْتُم} حال كونكم {جَبَّارِينَ} متسلطين ظالمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ولا نظر في العاقبة فأما بالحق والعدل فالبطش جائز والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ} واتركوا هذه الأفعال من بناء الأبنية العالية واتخاذ الأمكنة الشريفة وإسراف المال في الحياض والرياض والبطش بغير حق.
{وَأَطِيعُونِ} فيما أدعوكم إليه من التوحيد والعدل والإنصاف وترك الأمل ونحوها فإنه أنفع لكم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 294
{وَاتَّقُوا الَّذِى أَمَدَّكُم} (مدد كاري كرد شمارا) والإمداد إتباع الثاني بما قبله شيئاً بعد شيء على انتظام وأكثر ما جاء الإمداد في المحبوب والمد في المكروه.
وأما قوله تعالى : {وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنا بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} (لقمان : 27) فهو من مددت الدواة أمدها لا من القبيل المذكور.
{بِمَا تَعْلَمُونَ} به من أنواع النعماء وأصناف الآلاء وأجملها أولاً ثم فصلها بقوله :
{أَمَدَّكُم بِأَنْعَـامٍ} (مدد كرد شمارا بهار ايان ون شتر وكاو وكوسفندان تا ازايشان أخذ فوائد ميكنيد) {وَبَنِينَ} (سران درهمه حال يارومدد كار شما ند).
{وَجَنَّـاتٍ} (وبستانها كه ازميوه آن منتفع ميشويد) {وَعُيُونٍ} (وبشمهاي روان كه مهم سقيا ونشو وونماي زرع بدان باتمام رسد).
{إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن لم تقوموا بشكر هذه النعم.
{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في الدنيا والآخرة فإن كفران النعمة مستتبع للعذاب كما أن شكرها مستلزم لزيادتها وصف اليوم بالعظم لعظم ما يحل فيه وهو هبوب الريح الصرصر ههنا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 296
{قَالُوا} (كفتند عاديان در جواب هود).
{سَوَآءٌ عَلَيْنَآ} (يكسانست برما) {أَوَعَظْتَ} (يا ندد هي مارا).
{أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ} فإنا لن نرجع عما نحن عليه.
والوعظ زجر يقترن بتخويف وكلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد.
وقال الخليل : هو التذكير بالخبر فيما يرق له القلب والعظة والموعظة الاسم.
{إِنْ هَـاذَآ} أي ما هذا الذي جئتنا به وبالفارسية : (نيست اين كه تو آوردي).
{إِلا خُلُقُ الاوَّلِينَ} (مكرخوي وعادت أولين كه ميكفتند ك ما يغمبرانيم ودروغ ميكفتند) كانوا يلفقون مثل هذا الكذب ويسطرونه والتلفيق (واهم آوردن) أو ما هذا الذي نحن فيه إلا عادة الأولين من قبلنا من تشييد البناء والبطش على وجه التكبر فلا نترك هذه العادة بقولك أو عادتهم وأمرهم أنهم يعيشون ما عاشوا ثم يموتون ولا بعث ولا حساب.
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} على ما نحن عليه من الأعمال والعادات.
{فَكَذَّبُوهُ} أي هوداً وأصروا على ذلك {فَأَهْلَكْنَـاهُمْ} أي : عاداً بسبب التكذيب بريح صرصر.
تلخيصه أن هوداً أنذر قومه ووعظهم فلم يتعظوا فأهلكوا.
{إِنَّ فِي ذَالِكَ} (بدرستي كه در هلاك قوم عاد).
{لايَةً} (نشانه ايست دلالت كند بر آنكه عاقبت أهل تكذيب بعقوبت كشد) {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم} أي : أكثر قوم عاد.
{مُؤْمِنِينَ} (ه انذدك ازان قبيله باهود بودند).
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب المنتقم ممن يعمل عمل الجبارين
296
ولا يقبل الموعظة.
{الرَّحِيمُ} (مهربانست كه مؤمناً نرا ازان مهلكه عقوبت بيرون آرد ونجات دهد) وهو تخويف لهذه الأمة كيلا يسلكوا مسالكهم.
قيل : خير ما أعطي الإنسان عقل يردعه فإن لم يكن فحياء يمنعه فإن لم يكن فخوف يقمعه فإن لم يكن فمال يستره فإن لم يكن فصاعقة تحرقه وتريح منه العباد والبلاد كالأرض إذا استولى عليها الشوك فلا بد من نسفها وإحراقها بتسليط النار عليها حتى تعود بيضاء.
فعلى العاقل أن يعتبر ويخاف من عقوبة الله تعالى ويترك العادات والشهوات ولا يصر على المخالفات والمنهيات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 296
مكر كه عادت شوم از جنود إبليس است
كه سد راه عبادت شده است عادت ما
وكل ما وقع في العالم من آثار اللطف والقهر فهو علة لأولي الألباب مدة الدهر.
عاقلا نراكوش بر آواز طبل رحلتست
هرطبيدن قاصدي باشد دل آكاه را
وقد أهلك الله تعالى قوم عاد مع شدة قوتهم وشوكتهم بأضعف الأشياء وهو الريح فإنه إذا أراد يجعل الأضعف أقوى كالبعوضة ففي الريح ضعف للأولياء وقوة على الأعداء ولأن للكمل معرفة تامة بشؤون الله تعالى لم يزالوا مراقبين خائفين كما أن الجهلاء ما زالوا غافلين آمنين ولذا قامت عليهم الطامة في كل زمان قوّانا الله وإياكم بحقائق اليقين وجعلنا من أهل المراقبة في كل حين.(6/215)
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ} أنث باعتبار القبيلة وهو اسم جدهم الأعلى وهو ثمود بن عبيد بن عوص بن عاد بن أرم بن سام بن نوح وقد ذكر غير هذا في أول المجلس السابق فارجع.
{الْمُرْسَلِينَ} يعني : صالحاً ومن قبله من المرسلين أو إياه وحده والجمع باعتبار أن تكذيب واحد من الرسل في حكم تكذيب الجميع لاتفاقهم على التوحيد وأصول الشرائع ثم بين الوقت الممتد للتكذيب المستمر فقال :
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} النسبي لا الديني فإن الأنبياء محفوظون قبل النبوة معصومون بعدها وفائدة كونه منهم أن تعرف أمانته ولغته فيؤدي ذلك إلى فهم ما جاء به وتصديقه.
{صَـالِحٌ} ابن عبيد بن آسف بن كاشح بن حاذر بن ثمود.
{أَلا تَتَّقُونَ} (أيا نمي ترسيد از عذاب خداي كه بدو شرك مي آريد).
{إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فإن شهرتي فيما بينكم بالأمانة موجبة لتقوى الله وإطاعتي فيما أدعوكم إليه.
{وَمَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي : على النصح والدعاء.
{مِنْ أَجْرٍ} فإن ذلك تهمة لأهل العفة.
{إِنْ أَجْرِىَ} (نيست مكافات من).
{إِلا عَلَى رَبِّ الْعَـالَمِينَ} فإنه الذي أرسلني فالأجر عليه بل هو الآجر لعباده الخلص لقوله في الحديث القدسي : "من قتله فأنا ديته" : وفي "المثنوي" :
عاشقانرا شادماني وغم أوست
دست مزد وأجرت خدمت هم أوست
جزء : 6 رقم الصفحة : 296
{أَتُتْرَكُونَ} الاستفهام للإنكار والتوبيخ أي أتظنون أنكم تتركون.
{فِى مَا هَـاهُنَآ} أي : في النعيم الذي هو ثابت في هذا المكان أي الدنيا وأن لا دار للمجازاة.
{ءَامِنِينَ} حال من فاعل تتركون : يعني (در حالتي كه أيمن زآفات وسالم ازفوات) وفسر النعيم بقوله :
{فِى جَنَّـاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} أنهار.
وقال بعضهم : لم يكن لقوم صالح أنهار جارية فالمراد بالعيون الآبار ويقال : كانت لهم في الشتاء آبار وفي الصيف أنهار لأنهم كانوا يخرجون
297
في الصيف إلى القصور والكروم والأنهار {وَزُرُوعٍ} (كشتزارها) {وَنَخْلٍ} (خرمابنان) وأفرد النخل مع دخولها في أشجار الجنات لفضلها على سائر الأشجار وقد خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام.
{طَلْعُهَا} طلع النخل ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو تشبيهاً بالطلوع قبل طلع النخل كما في "المفردات".
والشماريخ جمع شمراخ بالكسر وهو العثكال أي العذق وكل غصن من أغصانه شمراخ وهو الذي عليه البسر والقنو والعذق والكباسة بالكسر في الكل من التمر بمنزلة العنقود من الكرم {هَضِيمٌ} لطيف لين في جسمه.
وبالفارسية (خوشه آن خرما بنان وشكوفه أو نازل ونرم آي) للطف الثمر فيكون الطلع مجازاً عن الثمر.
والهضم بفتحتين الرفة والهزال ومنه هضيم الكشح والحشى أي ضامر لطيف ومنه هضم الطعام إذا لطف واستحال إلى مشاكلة البدن كما في "كشف الأسرار" أو لطيف لأن النخل أنثى ويؤيده تأنيث الضمير وطلع إناث النخل لطيف وذكوره غليظ صلب.
قال ابن الشيخ : طلع البرني ألطف من طلع اللون والبرني أجود التمر وهو معرف أصله برنيك أي الحمل الجيد واللون الدقل وهو أردىء التمر وأهل المدينة يسمون ما عدا البرني والعجوة ألواناً ويوصف بهضيم ما دام في كفراه لدخول بعضه في بعض ولصوقه فإذا خرج منها فليس بهضيم والكفري بضم الكاف والفاء وتشديد الراء كم النخل لأنه يستر في جوفه.
وقال الإمام الراغب : الهضم شدخ ما فيه رخاوة ونخل طلعها هضيم أي داخل بعضه في بعض كأنما شدخ انتهى أو هضيم متدل متكسر من كثرة الحمل فالهضم بمعنى الكسر والتدلي التسفل والنزول من موضعه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 296
قال في "المختار" : الهاضوم الذي يقال له : الجوارش لأنه يهضم الطعام أي يكسره وطعام سريع الانهضام وبطيء الانهضام.
{وَتَنْحِتُونَ} (ومي تراشيد براي مساكن خود) {مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} (كفته اندكه دروادي حجر دوهزاربازهزار وهفصد سراي تراشيدند از سنك سخت درميان كوهها رب العالمين إيشانرا دران كارباستادي وتيزكاري وصف كرد وكفت) {فَـارِهِينَ} (در حالتي كه ما هريد در تراشيدن سنسكها) كما قال الراغب : أي حاذقين من الفراهة وهي النشاط فإن الحاذق يعمل بنشاط وطيب قلب ومن قرأ فرهين جعله بمعنى مرحين أشرين بطرين فهو على الأول من فره بالضم وعلى الثاني من فره بالكسر.
واعلم أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن الغالب على قوم هود هو اللذات الخيالية وهو طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر.
والغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة وكل هذه اللذات من لذات أهل الدنيا الغافلين وفوقها لذات أهل العقبى المتيقظين وهي اللذات القلبية من المعارف والعلوم وما يوصل إليها من التواضع والوقار والتجرد والاصطبار.
(6/216)
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} كان مقتضى الظاهر ولا تطيعوا المسرفين بلا إقحام أمر فإن الطاعة إنما تكون للأمر على صيغة الفاعل كما أن الامتثال إنما يكون للأمر على صيغة المصدر فشبه الامتثال بالطاعة من حيث أن كل واحد منهما يفضي إلى الوجود والمأمور به فأطلق اسم المشبه به وهو الطاعة وأريد الامتثال أي لا تمتثلوا أمرهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 296
{الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ} أي :
298
في أرض الحجر بالكفر والظلم وهو وصف موضح لإسرافهم {وَلا يُصْلِحُونَ} بالإيمان والعدل عطف على يفسدون لبيان خلو إفسادهم عن مخالطة الإصلاح (مرادتني ندندكه قصد هلاك صالح كردند وقصه إيشان درسوره نمل مذكور خواهد شد).
{قَالُوا} (كفتند ثمود در جواب صالح) {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} أي : من المسحورين مرة بعد أخرى حتى اختل عقله واضطرب رأيه فبناء التفعيل لتكثير الفعل.
{مَآ أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا} تأكل وتشرب ولست بملك.
قال الكاشفي : (بصورت بشريت صالح عليه السلام از حقيقت حال وي محجوب شديد وندانستندكه إنسان وراي صورت يزي ديكرست).
ند صورت بيي أي صورت رست
جان بي معنيست كز صورت ترست
در كذر از صورت ومعنى نكر
زانكه مقصود از صدف باشد كهر
(وون قوم ثمود وابسته صورت بودند وصالح را بصورت خود ديدند بهانه جويان كفتند تومثل ما بشري دعوى رسالت راميكني وونكه ترك نميكيري ودرين دعوى مصري) {فَأْتِ بِـاَايَةٍ} (س بيار نشانه از خوارق عادات).
{إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ} في دعواك (صالح ؛ فرمودكه شماه مي طلبيد يشان اقتراح كردندكه ازين سنك معين ناقه بدين هيأت بيرون آر وون بدعاي صالح مدعاي إيشان حاصل شد) كما سبق تفصيله في سورة الأعراف وسورة هود.
{قَالَ هَـاذِه نَاقَةٌ} (اين ناقه إيست كه شما طلبيد بيه).
{لَّهَا شِرْبٌ} أي : نصيب من الماء كالسقي للحط من السقي {وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} .
يعني (يكروز رب ازان أوست ودوروز أزان شماست) فاقتصروا على شربكم ولا تزاحموها على شربها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 298
وفيه دليل على جواز قسمة المنافع بالمهايأة لأن قوله : لها شرب ولكم شرب يوم معلوم من المهايأة وهي لغة مفاعلة من الهيئة وهي الحالة الظاهرة للمتهيىء للشيء.
والتهايؤ تفاعل منها وهي أن يتواضعوا على أمر فيتراضوا به وحقيقته أن كلاً منهم رضي بهيئة واحدة واختارها وشرعاً قسمة المنافع على التعاقب والتناوب فلو قسم الشريكان منفعة دار مشتركة ووقعت المواضعة بينهما على أن يسكن أحدهما في بعضها والآخر في بعضها هذا في علوها وهذا في سفلها أو على أن يسكن فيها هذا يوماً أو شهراً ويسكن هذا يوماً أو شهراً وتهايأا توافقا في دارين على أن يسكن هذا في هذه وهذا في هذه أو في خدمة عبد واحد على أن يخدم هذا يوماً ويخدم هذا يوماً أو خدمة عبدين على أن يخدم هذا هذا وهذا هذا صح التهايؤ في الصور المذكورة بالإجماع استحساناً للحاجة إليه إذ يتعذر الاجتماع على الانتفاع فأشبه القسمة والقياس أن لا يصح لأنها مبادلة المنفعة بجنسها ولكن ترك بالكتاب وهو الآية المذكورة والسنة وهو ما روي أنه عليه السلام قسم بغزوة بدر كل بعير بين ثلاثة نفر وكانوا يتناوبون وعلى جوازها إجماع الأمة.
قال في "فتح الرحمن" : واختلفوا في حكم المهايأة فقال أبو حنيفة رحمه الله : يجبر عليها الممتنع إذا لم يكن الطالب متعنتاً وقال الثلاثة هي جائزة بالتراضي ولا إجبار فيها.
{وَلا تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ} (ومس يكند ويرا بيدي يعني قصد زدن وكشتن وي ميكنيدكه اكرنان كنيد) {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} عظم اليوم بالنسبة إلى عظم ما حل فيه وهو ههنا صيحة
299
جبريل.
{فَعَقَرُوهَا} عقرت البعير نحرته وأصل العقر ضرب الساق بالسيف كما في "كشف الأسرار" (س ي كردند ناقه راوبكشتند) أي يوم الأربعاء فماتت وأسند العقر إلى كلهم لأن عاقرها إنما عقر برضاهم ولذلك أخذوا جميعاً.
روي أن مسطعاً ألجأها إلى مضيق في شعب فرماها بسهم فسقطت ثم ضربها قدار في عرقوبها.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : رأيت مبركها فإذا هو ستون ذراعاً في ستين ذراعاً فقتلوا مثل هذه الآية العظيمة.
{فَأَصْبَحُوا} صاروا {نَـادِمِينَ} على عقرها خوفاً من حلول العذاب لا توبة أو عند معاينتهم العذاب ولذلك لم ينفعهم الندم وإن كان بطريق التوبة كفرعون حين ألجمه الغرق والندم والندامة التحسر من تغير رأي في أمر فائت.
جزء : 6 رقم الصفحة : 298
(6/217)
{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} الموعود وهو صيحة جبريل وذلك يوم السبت فهلكوا جميعاً.
{إِنَّ فِي ذَالِكَ} أي : في العذاب النازل بثمود.
{لايَةً} دالة على أن الكفر بعد ظهور الآيات المفتوحة موجب لنزول العذاب فليعتبر العقلاء لا سيما قريش.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم} أكثر قوم ثمود أو قريش.
{مُؤْمِنِينَ} (آورده اندكه از قبائل ثمود هار هزار كس إيمان آإوردند وبس) وكان صالح عليه السلام نزل عليه الوحي بعد بلوغه وأرسل بعد هود بمائة سنة وعاش مائتين وعشرين سنة.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب على ما أراد من الانتقام من قوم ثمود بسبب تكذبهم فاستأصلهم فليحذر المخالفون لأمره حتى لا يقعوا فيما وقع فيه الأمم السالفة المكذبة.
{الرَّحِيمُ} (مهربان كه بي استحقاق عذاب نكند) وكانت الناقة علامة لنبوة صالح عليه السلام فلما أهلكوها ولم يعظموها صاروا نادمين حين لم ينفعهم الندم ، والقرآن علامة لنبوة نبينا عليه السلام فمن رفضه ولم يعمل بما فيه ولم يعظمه يصير نادماً غداً ويصيبه العذاب ومن جملة ما فيه الأمر بالاعتبار فعليك بالامتثال ما ساعدت العقول والأبصار وإياك ومجرد القال فالفعل شاهد على حقيقة الحال.
وفي "المثنوي".
حفظ لفظ اندر كواه قولي است
حفظ عهد اندر كواه فعلى استكركواه قول ك كويد ردست
وركواه فعل ك ويد بدست
قول وفعل بي تناقص بايدت
تا قبول اندر زمان يش آيدت
ون ترازوي تو كبود ودغا
راست ون جويي ترازوي جزاونكه اي بدي درغدر وكاست
نامه ون آيدترا دردست راست
ون جزا سايه است أي قد توخم
سايه تو كفتد دريش هم
كافرانرا بيم كرد ايزد زنار
كافران كفتند نار أولى زعارلا جرم افتند در نار ابد
الأمان يا رب از كردار بد فلا تكن من أهل العار حتى لا تكون من أهل النار ومن له آذان سامعة وقلوب واعية يصيخ إلى آيات الله الداعية فيخاف من الله القهار ويصير مراقباً آناء الليل وأطراف النهار ويكثر ذكر الله في السر والجهار.
حكي : أن الشبلي قدس سره رأى في سياحته فتى يكثر ذكر الله ويقول : الله فقال الشبلي : لا ينفعك قولك الله بدون العلم لأن اليهود والنصارى
300
معك سواء لقوله تعالى : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف : 87) فقال الفتى : الله عشر مرات حتى خر مغشياً عليه فمات على تلك الحالة فجاء الشبلي فرأى صدره قد انشق فإذا على كبده مكتوب الله فنادى منادٍ وقال : يا شبلي هذا من المحبين وهم قليل والله تعالى خلق قلوب العارفين وزينها بالمعرفة واليقين وأدخلهم من طريق الذكر الحقاني في نعيم روحاني كما أوقع للغافلين من طريق النسيان والإصرار في عذاب روحاني وجسماني فالأول من آثار رحمته والثاني من علامات عزته فلا يهتدي إليه إلا المستأهلون لقربته ووصلته ولا يتأخر في الطريق إلا المستعدون لقهره ونقمته فنسأله وهو الكريم الرحيم أن يحفظنا من عذاب يوم عظيم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 298
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} يعني أهل سدوم وما يتبعها.
{الْمُرْسَلِينَ} يعني لوطاً وإبراهيم ومن تقدمهما {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} .
قال الكاشفي : (إينجا مراد أخوت شفقت است) انتهى وذلك لأن لوطاً ليس من نسبهم وكان أجنبياً منهم إذ روي أنه هاجر مع عمه إبراهيم عليهما السلام إلى أرض الشام فأنزله إبراهيم الأردن فأرسله الله إلى أهل سدوم وهو لوط بن هاران وهاران أخو تارخ أبي إبراهيم {أَلا تَتَّقُونَ} ألا تخافون من عقاب الله تعالى على الشرك والمعاصي.
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} مرسل من جانب الحق {أَمِينٌ} مشهور بالأمانة ثقة عند كل أحد.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فإن قول المؤتمن معتمد.
{وَمَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي : على التبليغ والتعليم {مِنْ أَجْرٍ} جعل ومكافأة دنيوية فإن ذلك تهمة لمن يبلغ عن الله.
{إِنْ أَجْرِىَ} ما ثوابي {إِلا عَلَى رَبِّ الْعَـالَمِينَ} بل ليس متعلق الطلب إلا إياه تعالى :
خلاف طريقت بود كاوليا
تمنا كنند از خدا جز خدا
{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَـالَمِينَ} الاستفهام للإنكار وعبر عن الفاحشة بالإتيان كما عبر عن الحلال في قوله : {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} (البقرة : 223) والذكران والذكور جمع الذكر ضد الأثنى وجعل الذكر كناية عن العضو المخصوص كما في "المفردات".
ومن العالمين حال من فاعل تأتون والمراد به النكاحون من الحيوان فالمعنى أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران وتجامعونهم وتعملون ما لا يشارككم فيه غيركم.
وبالفارسية : (آيا مي رءييد بمردان) يعني أنه منكر منكم ولا عذر لكم فيه ويجوز أن يكون من العالمين حالاً من الذكران والمراد به الناس.
فالمعنى أتأتون الذكران من أولاد آدم مع كثرة الإناث فيهم كأنهن قد أعوزنكم أي أفقرنكم وأعدمنكم.
روي : أن هذا العمل الخبيث علمهم إياه إبليس.
(6/218)
جزء : 6 رقم الصفحة : 301
{وَتَذَرُونَ} تتركون يقال : فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة إعداده به ولم يستعمل ماضيه.
{مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم} لأجل استمتاعكم {مِّنْ أَزْوَاجِكُم} (اززنان شما) ومن لبيان أن ما أريد به جنس الإناث وللتبعيض إن أريد به العضو المباح منهن وهو القبل تعريضاً بأنهم كانوا يفعلون بنسائهم أيضاً فتكون الآية دليلاً على حرمة أدبار الزوجات والمملوكات وفي الحديث : "من أتى امرأة في دبرها فهو بريء مما أنزل على محمد ولا ينظر الله إليه".
وقال بعض الصحابة : قد كفر {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} متجاوزون الحد في جميع المعاصي وهذا من جملتها.
واختلفوا
301
في اللوطي فقال أبو حنيفة : يعزر ولا حد عليه خلافاً لصاحبيه وقد سبق شرحه في سورة هود وقال مالك : يجب على الفاعل والمفعول به الرجم أحصنا أو لم يحصنا وعند الشافعي وأحمد حكمه حكم الزنى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 301
{قَالُوا} مهددين {لَـاـاِن لَّمْ تَنتَهِ يا لُوطُ} أي : عن تقبيح أمرنا وإنكارك علينا {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} من المعهودين بالنفي والإخراج من القرية على عنف وسوء حال.
{قَالَ إِنِّى لِعَمَلِكُم} يعني إتيان الرجال.
{مِّنَ الْقَالِينَ} من المبغضين أشد البغض كأنه يقلي الفؤاد والكبد لشدته أي ينضج لا أقف عن الإنكار عليه بالإيعاد وهو اسم فاعل من القلي وهو البغض الشديد متعلق بمحذوف ، أي لقال من القالين ومبغض من المبغضين وذلك المحذوف وهو قالٍ خبر إن ومن القالين صفته وقوله لعملكم متعلق بالخبر المحذوف ولو جعل من القالين خبر إن لعمل القالين في لعملكم فيفضي إلى تقديم الصلة على الموصول ولعله عليه السلام أراد إظهارالكراهة في مساكنتهم والرغبة في الخلاص من سوء جوارهم ولذلك أعرض عن محاورتهم وتوجه إلى الله قائلاً.
{رَبُّ} (أي رورد كار من) {نَجِّنِى} خلصني {وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ} أي : من شؤم عملهم الخبيث وعذابه.
{فَنَجِّيْنَـاهُ وَأَهْلَه أَجْمَعِينَ} أي أهل بيته ومن اتبعهم في الدنيا بإخراجهم من بينهم وقت مشارقة حلول العذاب بهم.
{إِلا عَجُوزًا} هي امرأة لوط اسمها والهة استثنيت من أهله فلا يضره كونها كافرة لأن لها شركة في الأهلية بحق الزوج.
جزء : 6 رقم الصفحة : 302
قال الراغب : العجوز سميت لعجزها عن كثير من الأمور {فِى الْغَـابِرِينَ} أي : مقدراً كونها من الباقين في العذاب لأنها كانت مائلة إلى القوم راضية بفعلهم وقد أصابها الحجر في الطريق فأهلكها ـ وذكر ـ ـ أن امرأة لوط حين سمعت الرجفة التفتت وحدها فمسخت حجراً وذلك الحجر في رأس كل شهر يحيض كذا في كتاب "التعريف" للإمام السهيلي.
قال في "المفردات" : الغابر الماكث بعد مضي من معه قال تعالى : {إِلا عَجُوزًا فِى الْغَـابِرِينَ} يعني : فيمن طال أعمارهم وقيل فيمن بقي ولم يسر مع لوط وقيل فيمن بقي في العذاب.
{ثُمَّ دَمَّرْنَا الاخَرِينَ} أهلكناهم أشد الإهلاك وأفظعه بقلب بلدتهم والتدمير إدخال الهلاك على الشيء والدمار الهلاك على وجه عجيب هائل.
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم} أي على الخارجين من بلادهم والكائنين مسافرين وقت الاتفاك والقلب.
{مَّطَرًا} أي : مطراً غير معهود وهو الحجارة.
{فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} بئس مطر من أنذر فلم يؤمن لم يرد بالمنذرين قوماً بأعيانهم فإن شرط أفعال المدح والذم أن يكون فاعلهما معرفاً بلام الجنس أو يكون مضافاً إلى المعرف به أو مضمراً مميزاً بنكرة والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم.
{إِنَّ فِي ذَالِكَ} الذي فعل بقوم لوط.
{لايَةً} لعبرة لمن بعدهم فليجتنبوا عن قبيح فعلهم كي لا ينزل بهم ما نزل بقوم لوط من العذاب.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} (كه جزدو دختر لوط ودو دامايد وي نكرديده بودند).
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} بقهر الأعداء.
{الرَّحِيمُ} بنصرة الأولياء أو لا يعذب قبل التنبيه والإرشاد وتعذيبه أهل العذاب من كمال رحمته على أهل الثواب ألا ترى أن قطع اليد المتآكلة سبب لسلامة البدن كله فالعالم بمنزلة الجسد وأهل الفساد بمنزلة اليد المتآكلة وراحة أهل الصلاح في إزالة أهل الفساد.
وفي "المثنوي" :
302
ونكه دندان توكرمش درفتاد
نيست دندان بركنش أي اوستاد
باقىء تن تانكردد زار ازو
كره بود آن توشو بيزار ازو
ولو لم يكن في العزة والقهر فائدة لما وضعت الحدود.
وقد قيل : إقامة الحدود خير من خصب الزمان.
جزء : 6 رقم الصفحة : 302
قال إدريس عليه السلام من سكن موضعاً ليس فيه سلطان قاهر وقاض عادل وطبيب عالم وسوق قائمة ونهر جار فقد ضيع نفسه وأهله وماله وولده فعلى العاقل أن يحترز عن الشهوات ويهاجر العادات ويجاهد نفسه من طريق اللطف والقهر في جميع الحالات.
(6/219)
{كَذَّبَ أَصْحَـابُ لْـاَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} أي : شعيباً ومن قبله عليهم السلام.
والأيكة الغيضة التي تنبت ناعم الشجر كالسدر والإدراك وهي غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة فبعث الله إليهم شعيباً بعد بعثه إلى مدين ولكن لما كان أخا مدين في النسب قال تعالى : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} (هود : 84) ولما كان أجنبياً من أصحاب الأيكة قال :
{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} ولم يقل أخوهم شعيب وهو شعيب بن تويب بن مدين بن إبراهيم أو ابن ميكيك بن يشجر بن مدين ابن إبراهيم وأم ميكيك بنت لوط {أَلا تَتَّقُونَ} (آيا نمي ترسيد از عذاب حرت روردكار خودكه بدو شرك مي آريد).
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} بينكم وعلى الرسالة أيضاف لا أطلب إلا صلاح حالكم.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به فإن أمري أمر عن الله وإطاعتي إطاعة الله في الحقيقة.
{وَمَآ أَسْـاَلُكُمْ} (ونمي خواهيم ازشما) {عَلَيْهِ} أي على أداء الرسالة والتبليغ والتعليم المدلول عليه بقوله رسوله : {مِنْ أَجْرٍ} ومكافأة {أَنْ} ما {أَجْرِىَ} ثواب عملي وأجرة خدمتي.
{إِلا عَلَى رَبِّ الْعَـالَمِينَ} فإن الفيض وحسن التربية منه تعالى على الكل خصوصاً على من كان مأموراً بأمر من جانبه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 302
{أَوْفُوا الْكَيْلَ} أتموه.
وبالفارسية (تمام يماييد يمانه را).
{وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} حقوق الناس بالتطفيف.
وبالفارسية (ومباشيد از كاهندكان وزيان رسانندكان بحقوق مردمان) يقال : خسرته وأخسرته نقصته.
{وَزِنُوا} الموزونات.
وبالفارسية (وي سنجيد) وهو أي زنوا أمر من وزن يزن وزناً وزنة والوزن معرفة قدر الشيء.
{بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي : بالميزان السوي العدل.
قال في "القاموس" : القسطاس بالضم والكسر الميزان أو أقوم الموازين أو هو ميزان العدل أي ميزان كان كالقسطاس أو رومي معرب.
{وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ} يقال : بخس حقه إذا نقصه إياه وهو تعميم بعد تخصيص.
قال في "كشف الأسرار" : ذكر بأعم الألفاظ يخاطب به القافلة والوزان والنحاس والمحصي والصيرفي انتهى أي ولا تنقصوا شيئاً من حقوقهم ، أي حق كان كنقص العد والزرع ودفع الزيف مكان الجيد والغضب والسرقة والتصرف بغير إذن صاحبه ونحو ذلك.
{وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ} بالقتل والغارة وقطع الطريق.
والعثي أشد الفساد فيما لا يدرك حساً وقوله : مفسدين حال مقيدة أي لا تعتدوا حال إفسادكم وإنما قيده وإن غلب العثي في الفساد لأنه قد يكون منه ما ليس بفساد كمقابلة الظالم المعتدي بفعله ومنه ما يتضمن صلاحاً راجحاً كقتل الخضر الغلام وخرقه السفينة.
{وَاتَّقُوا} الله {الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الاوَّلِينَ} الجبلة الخلقة يقال : جبل أي خلق
303
ولا يتعلق بها الخلق فلا بد من تقدير المضاف أي وخلق ذوي الجبلة الأولية يعني من تقدمهم من الخلائق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 303
{قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} من المسحورين مرة بعد أخرى (تاحدي كه أثر عقل ازايشان محوشد).
{وَمَآ أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا} (ونيست تومكر آدمي ما نند مادر صفات بشريت س به يز برما تفضل ميكنني ودعوى رسالت از كجا آورده) إدخال الواو بين الجملتين للدلالة على أن كلاً من التسخير والبشرية مناف للرسالة مبالغة في التكذيب بخلاف قصة ثمود فإنه ترك الواو هناك لأنه لم يقصد إلا معنى واحد هو التسحير.
{وَإِنَّ} أي : وإن الشأن {نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَـاذِبِينَ} في دعوى النبوة.
{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا} (س فرود آر برما وبيفكن يعني خداي خودرا بكو تابيفكند).
{كِسَفًا مِّنَ السَّمَآءِ} (اره از آسمان كه درو عذابي باشد) جمع كسفة بالكسر بمعنى القطعة.
والسماء بمعنى السحاب أو المظلة ولعله جواب لما أشعر به الأمر بالتقوى من التهديد.
{إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ} (از راست كويان كه برما عذاب فروخواهد آمد اين سخن برسبيل استهزا كفتند وتكذيب).
{قَالَ} شعيب : {رَبِّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي وبما تستحقون بسببه من العذاب فينزله في وقته المقدر له لا محالة :
مهلت ده روزه ظالم ببين
فتنه ببين دم بدمش دركمين
أول حالش همه عيش است وناز
آخر كارش همه سوز وكداز
(6/220)
(آورده اندكه ون قوم شعيب درانكار واستكبار ازحد تجاوز كردند حق سبحانه وتعالى هفت شبانروز حرارتي سخت برايشان كماشت بمثابتي كه آب اه وحشمه إيشان همه بجوش آدم ونفسهاي إيشان فروكرفت بدرون خانه در آمدند حرارت زيادت شد روى به بيشه نهادند وهريك دراي درختي افتاده از كرما كريخته مي شدنده ناكه إبرسياه درهوا بديد رمد ونسيم خنك ازو وزيدن كرفت أصحاب أيكه خوض دل شده يكديكررا آوازدادند بياييدكه درزير سايبان ابر آسايش كنيم همين كه مجموع إيشان درزير إبر مجتمع شدند آتشي ازوي بيرون رمد وهمه را بسوخت نانه حق سبحانه وتعالى مي فرمايد).
{فَكَذَّبُوهُ} أي : أصروا على تكذيبه بعد وضوح الحجة وانتفاء الشبهة.
{فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} حسبما اقترحوا أما إن أرادوا بالسماء السحاب فظاهر وأما إن أرادوا الظلة فلأن نزول العذاب من جهتها والظلة سحابة تظل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 303
قال الكاشفي : (ظل درلغت سايبانست وآن إبرسياه بشكل سايبان برزبرسرايشان بوده) وفي إضافة العذاب إلى يوم الظلة دون نفسها إيذان بأن لهم يوماً آخر غير هذا اليوم كالأيام السبعة مع لياليها التي سلط الله فيها عليهم الحرارة الشديدة وكان ذلك من علامة أنهم يؤخذون بجنس النار {إِنَّهُ} أي : عذاب يوم الظلة.
{كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وعظمه لعظم العذاب الواقع فيه.
روي : أن شعيباً أرسل إلى أمتين أصحاب مدين ثم أصحاب الأيكة فأهلكت مدين بالصيحة والرجفة وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما من حدث ما عذاب يوم الظلة فكذبه لعله أراد أنه لم ينج منهم أحد يخبر به كذا في "كشف الأسرار".
جزء : 6 رقم الصفحة : 303
{إِنَّ فِي ذَالِكَ} المذكور من قصة قوم شعيب {لايَةً}
304
لعبرة للعقلاء.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} أي : أكثر أصحاب الأيكة بل كلهم إذ لم ينقل إيمان أحد منهم بخلاف أصحاب مدين فإن جميعاً منهم آمنوا.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب القادر على كل شيء ومن عزته نصر أنبيائه على أعدائه {الرَّحِيمُ} بالإمهال.
وهذا آخر القصص السبع المذكورة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وتهديداً للمكذبين به من قريش (تا معلوم كنندكه هرامتي كه تكذيب يغمبر كردند معذب شدند وإشانرا نيز برتكذيب حضرت يغمبر عذابي خواهد رسيد).
فإن قلت : لم لا يجوز أن يقال : إن العذاب النازل بعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم لم يكن لكفرهم وعنادهم بل كان كذلك بسبب اقترانات الكواكب واتصالاتها على ما اتفق عليه أهل النجوم ومع قيام هذا الاحتمال لم يحصل الاعتبار بهذه القصص.
وأيضاً إن الله تعالى قد ينزل العذاب محنة للمكلفين وابتلاءً لهم وقد ابتلي المؤمنون بأنواع البليات فلا يكون نزول العذاب على هؤلاء الأقوام دليلاً على كونهم مبطلين مؤاخذين بذلك.
قلت : اطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به واقتراحهم له استهزاء وعدم مبالاة به يدفع أن يقال أنه كان بسبب اتصالات فلكية أو كان ابتلاءً لهم لا مؤاخذة على تكذيبهم لأن الابتلاء لا يطرد.
واعلم أن هذا المذكور هو العذاب الماضي ومن إشارته العذاب المستقبل ، وأما العذاب الحاضر فتعلق الخاطر بغير الله الناظر فكما لا بد من تخلية القلب عن الإنكار والعزم على العصيان وتحليته بالتصديق والإيمان فكذا لا بد من قطع العلائق وشهود شؤون رب الخلائق فإن ذلك سبب للخلاص من عذاب الفراق ومدار للنجاة من قهر الخلاق وإنما يحصل ذلك من طريقه وهو العمل بالشريعة وأحكامها وقبول نصحها والتأدب بالطريقة وآدابها ، فمن وجد نفسه على هدى رسول الله وأصحابه والأئمة المجتهدين بعده وأخلاقهم من الزهد والورع وقيام الليل على الدوام وفعل جميع المأمورات الشرعية ، وترك جميع المنهيات كذلك حتى صار يفرح بالبلايا والمحن وضيق العيش وينشرح لتحويل الدنيا ومناصبها وشهواتها عنه ، فليعلم أن الله تعالى يحبه ومن محبته ورحمته صب على قلبه تعظيم أمره وربط جوارحه بالعمل مدة عمره وإلا فليحكم بأن الله تعالى يبغضه والمبغض في يد الاسم العزيز جعلنا الله تعالى وإياكم من أهل رحمته وعصمنا وإياكم من نقمته بدفع العلة ورفع الذلة ونعم ما قيل :
جزء : 6 رقم الصفحة : 304
محيط ازهره سيلاب كرد راه ميشويد
ه يشد كي باعفو حق ازكرد ذلتهاه
والله العفو الغفور ومنه فيض الأجر الموفور.
(6/221)
{وَإِنَّهُ} راجع إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به.
{لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} صيغة التكثير تدل على أن نزوله كان بالدفعات في مدة ثلاث وعشرين سنة وهو مصدر بمعنى المفعول سمي به مبالغة وفي وصفه تعالى بربوبية العالمين إيذان بأن تنزيله من أحكام تربيته تعالى ورأفته للكل.
والمعنى أن القرآن الذي من جملته ما ذكر من القصص السبع لمنزل من جهته تعالى وإلا لما قدرت على الإخبار وثبت به صدقك في دعوى الرسالة لأن الإخبار من مثله لا يكون إلا بطريق الوحي.
{نَزَلَ بِهِ} الباء للتعدية ، أي أنزله أو للملابسة.
يعني (فرو آمده باقرآن).
{الرُّوحُ الامِينُ} أي جبريل فإنه أمين على وحيه
305
وموصله إلى أنبيائه وسمي روحاً لكونه سبباً لحياة قلوب المكلفين بنور المعرفة والطاعة حيث أن الوحي الذي فيه الحياة من موت الجهالة يجري على يده ويدل عليه قوله تعالى : {يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} .
وفي "كشف الأسرار" : سمي جبريل روحاً لأن جسمه روح لطيف روحاني وكذا الملائكة روحانيون خلقوا من الروح وهو الهواء.
يقول الفقير : لا شك أن للملائكة أجساماً لطيفة وللطافة نشأتهم غلب عليهم حكم الروح فسموا أرواحاً ولجبريل مزيد اختصاص بهذا المعنى إذ هو من سائر الملائكة كالرسول عليه السلام من أفراد أمته.
واعلم أن القرآن كلام الله وصفته القائمة به فكساه الألفاظ بالحروف العربية ونزله على جبريل وجعله أميناً عليه لئلا يتصرف في حقائقه ثم نزل به جبريل كما هو على قلب محمد عليه السلام كما قال :
{عَلَى قَلْبِكَ} أي : تلاه عليك يا محمد حتى وعيته بقلبك فخص القلب بالذكر لأنه محل الوعي والتثبيت ومعدن الوحي والإلهام وليس شيء في وجود الإنسان يليق بالخطاب والفيض غيره وهو عليه السلام مختص بهذه الرتبة العلية والكرامة السنية من بين سائر الأنبياء فإن كتبهم منزلة في الألواح والصحائف جملة واحدة على صورتهم لا على قلوبهم كما في "التأويلات النجمية".
قال في "كشف الأسرار" : الوحي إذا نزل بالمصطفى عليه السلام نزل بقلبه أولاً لشدة تعطشه إلى الوحي ولاستغراقه به ثم انصرف من قلبه إلى فهمه وسمعه وهذا تنزل من العلو إلى السفل وهو رتبة الخواص فأما العوام فإنهم يسمعون أولاً فيتنزل الوحي على سمعهم أولاً ثم على فهمهم ثم على قلبهم وهذا ترق من السفل إلى العلو وهو شأن المريدين وأهل السلوك فشتان ما بينهما (جبرائيل و يغامن كزاردي كاه كاه بصورت ملك بودي وكاه كاه بصورت بشرا كروحي وبيغام بيان أحكام شرع بودي وذكر حلال وحرام بودي بصورت بشر آمدي كه.
{هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} (آل عمران : 7) وذكر قلب درميان نبودي باز ون وحي اك حديث عشق ومحبت بودي وأسرار ورموز عارفان جبريل بصورت ملك آمدي روحاني ولطيف تابدل رسول يوستي واطلاع أغيار آن نبودي حق تعالى نين فرمود).
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} ثم إذا انقطع ذاك كان يقول فينفصم عني وقد وعيته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 304
وفي "الفتاوى الزينية" : سئل عن السيد جبريل كم نزل على النبي عليه السلام أجاب نزل عليه أربعة وعشرين ألف مرة على المشهور انتهى.
وفي "مشكاة الأنوار" : نزل عليه سبعة وعشرين ألف مرة وعلى سائر الأنبياء لم ينزل أكثر من ثلاثة آلاف مرة.
{لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} المخوفين مما يؤدي إلى عذاب من فعل أو ترك وهو متعلق بنزل به مبين لحكمة الإنزال والمصلحة منه وهذا من جنس ما يذكر فيه أحد طرفي الشيء ويحذف الطرف الآخر لدلالة المذكور على المحذوف وذلك أنه أنزله ليكون من المبشرين والمنذرين.
يقول الفقير : الإنذار أصل وقدم لأنه من باب التخلية بالخاء المعجمة فاكتفى بذكره في بعض المواضع من القرآن.
{بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ} متعلق أيضاً بنزل وتأخيره للاغتناء بأمر الإندار واللسان بمعنى اللغة لأنه آلة التلفظ بها أي نزل به بلسان عربي ظاهر المعنى واضح المدلول لئلا يبقى لهم عذر ما أي لا يقولوا ما نصنع بما لا نفهمه فالآية صريحة في أن القرآن إنما أنزل عليه عربياً لا كما زعمت الباطنية من أنه تعالى أنزله على قلبه غير
306
موصوف بلغة ولسان ثم أنه عليه السلام أداه بلسانه العربي المبين من غير أن أنزل كذلك وهذا فاسد مخالف للنص والإجماع ولو كان الأمر كما قالوا لم يبق الفرق بين القرآن وبين الحديث القدسي.
وفي الآية تشريف للغة العرب على غيرها ، حيث أنزل القرآن بها لا بغيرها وقد سماها مبيناً ولذلك اختار هذه اللغة لأهل الجنة واختار لغة العجم لأهل النار.
قال سفيان : بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة قبل أن يدخلوا الجنة بالسريانية فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية.
(6/222)
فإن قلت : كيف يكون القرآن عربياً مبيناً مع ما فيه من سائر اللغات أيضاً على ما قالوا كالفارسية.
وهو السجيل بمعنى سنك وكل.
والرومية وهو قوله تعالى : {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} (البقرة : 260) أي : اقطعهن.
والأرمنية وهو {فِى جِيدِهَا} (المسد : 5) والسريانية وهو {وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (ص : 3) بمعنى ليس حين فرار.
والحبشية وهو {كِفْلَيْنِ} بمعنى ضعفين.
قلت : لما كانت العرب يستعملون هذه اللغات ويعرفونها فيما بينهم صارت بمنزلة العربية.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله : اعلم بأن العربية لها فضل على سائر الألسنة فمن تعلمها أو علم غيره فهو مأجور لأن الله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 304
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من تعلم الفارسية خب ، ومن خب ذهبت عنه مروءته يعني لو اقتصر على لسان الفارسية ولم يتعلم العربية فإنه يكون أعجمياً عند من يتكلم بالعربية فذهبت مروءته ولو تكلم بغير العربية فإنه يجوز ولا إثم عليه في ذلك.
وقد روي "عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه تكلم بالفارسية" انتهى بإجمال.
يقول الفقير : الفارسية شعبة من لسان العجم المقابل للسان العرب ولها فضل على سائر لغات العجم وكذا ورد في الحديث الصحيح : "لسان أهل الجنة العربية والفارسية الدرية" بتشديد الراء كما في "الكرماني" وغيره ذكره صاحب "الكافي" والقهستاني وابن الكمال وغيرهم وصححوه وأما قوله عليه السلام : "أحب العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة في الجنة عربي" فالتخصيص فيه لا ينافي ما عداه وكذا لا ينافي كون لسان العجم مطلقاً لسان أهل النار كون الفارسية منه لسان أهل الجنة وقد تكلم بها في الدنيا كثير من العارفين.
وفي "المثنوي" :
فارسي كوكره تازي خوشترست
عشق را خود صد زبان ديكرست
وهو ترغيب في تحصيل الفارسية بعد تحصيل العربية ولهذا المقام مزيد تفصيل ذكرناه في كتابنا الموسوم "بتمام الفيض".
{وَإِنَّهُ} أي : وإن ذكر القرآن لا عينه.
{لَفِى زُبُرِ الاوَّلِينَ} واحدها زبور بمعنى الكتاب مثل رسل ورسول ، أي لفي الكتب المتقدمة.
يعني أن الله تعالى أخبر في كتبهم عن القرآن وإنزاله على النبي المبعوث في آخر الزمان.
{أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَه عُلَمَاؤُا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} الهمزة لإنكار النفي والواو للعطف على مقدر ولهم حال من آية والضمير راجع إلى مشركي قريش وآية خبر للكون قدم على اسمه الذي هو قوله أن يعلمه إلخ للاعتناء بالمقدم والتنويه بالمؤخر أي أغفلوا عن ذلك ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل رب العالمين وأنه في زبر الأولين أن يعلمه علماء بني إسرائيل كعبد الله ن سلام ونحوه بنعوته المذكورة في كتبهم ويعلموا من أنزل عليه أي قد كان علمهم بذلك آية على صحة القرآن وحقية الرسول (وشهادت مردم دانا بريزي موجب تحقيق آنست).
روي : أن أهل
307
مكة بعثوا إلى يهود المدينة يسألونهم عن محمد وبعثته فقالوا : إن هذا لزمانه وإنا نجد في التوراة نعته وصفته.
{وَلَوْ نَزَّلْنَـاهُ} أي : القرآن كما هو بنظمه المعجب المعجز.
{عَلَى بَعْضِ الاعْجَمِينَ} الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية جمع أعجم عجماء وأفعل فعلاء لا يجمع جمع السلامة.
{فَقَرَأَه عَلَيْهِم} قراءة صحيحة خارقة للعادات {مَّا كَانُوا بِه مُؤْمِنِينَ} مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء لفرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 304
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى كمال قدرته وحكمته بأنه لو أنزل هذا الكتاب بهذه اللغة على أعجمي لم يعرف هذه اللغة لكان قادراً على أن يعلمه لغة العرب ويفهمه معاني القرآن وحكمه في لفظه كما علم آدم الأسماء كلها وكما علم العربية لمن قال : "أمسيت كردياً وأصبحت عربياً" ومع هذا لما كان أهل الإنكار مؤمنين به بعد ظهور هذه المعجزة إظهاراً لكمال الحكمة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 304
{كَذَالِكَ} أي : مثل ذلك السلك البديع وهو إشارة إلى مصدر قوله : {سَلَكْنَـاهُ} أي : أدخلنا القرآن {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أي : في قلوب مشركي قريش فعرفوا معانيه وإعجازه فقوله :
{لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} استئناف لبيان عنادهم.
{حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الالِيمَ} الملجىء إلى الإيمان حين لا ينفعهم الإيمان.
{فَيَأْتِيَهُم} العذاب {بَغْتَةً} أي فجأة في الدنيا والآخرة معطوف على قوله : (يروا).
{فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وبالفارسية (وإيشان ندانند وقت آمدن آنرا).(6/223)
{فَيَقُولُوا} تحسراً على ما فات من الإيمان وتمنياً للإمهال لتلافي ما فرطوه وهو عطف على يأتيهم {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} الإنظار التأخير والإمهال أي مؤخرون لنؤمن ونصدق.
وبالفارسية : (آياهستيم ما درنك داده شد كان يعني آيا مهلت دهند تابكرديم وتصديق كنيم) ولما أوعدهم النبي عليه السلام بالعذاب قالوا : إلى متى توعدنا بالعذاب ومتى هذا العذاب نزل قوله تعالى :
جزء : 6 رقم الصفحة : 308
{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} (آيا بعذاب ما شتاب ميكنند) فيقولون تارة : أمطر علينا حجارة من السماء وأخرى فائتنا بما تعدنا وحالهم عند نزول العذاب النظرة والمهلة والفاء للعطف عى مقدر أي يكون حالهم كما ذكر من الاستنظار عند نزول العذاب الأليم فيستعجلون بعذابنا وبينهما من التنافي ما لايخفى على أحد.
وفي "التأويلات النجمية" : أي استعجالهم في طلب العذاب من نتائج عذابنا ولو لم يكونوا معذبين لما استعجلوا في طلب العذاب.
{أَفَرَءَيْتَ} مرتب على قولهم : هل نحن منظرون وما بينهما اعتراض للتوبيخ والخطاب لكل من يصلح له كائناً من كان ولما كانت الرؤية من أقوى أسباب الإخبار بالشيء وأشهرها شاع استعمال أرأيت في معنى أخبرني فالمعنى أخبرني يا من يصلح للخطاب.
{إِن مَّتَّعْنَـاهُمْ} جعلنا مشركي قريش متمتعين منتفعين.
{سِنِينَ} كثيرة في الدنيا مع طيب المعاش ولم نهلكهم.
وقال الكلبي : يعني مدة إعمارهم.
وقال عطاء : يريد مذ خلق الله الدنيا إلى أن تنقضي.
{ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ} من العذاب والإيعاد.
والتخويف بالفارسية (بيم كدن).
{مَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} أي : لم يغن عنهم شيئاً تمتعهم المتطاول في رفع العذاب وتخفيفه فما في ما أغنى نافية ومفعول أغنى محذوف وفاعله ما كانوا يمتعون ، أو أي شيء أغنى عنهم كونهم ممتعين ذلك التمتيع
308
المؤبد على أن ما في ما كانوا مصدرية أو ما كانوا يمتعون به من متاع الحياة الدنيا على أنها موصولة حذف عائدها فما في ما أغنى مفعول مقدم لأغنى والاستفهام للنفي وما كانوا هو الفاعل وهذا المعنى أولى من الأول لكونه أوفق بصورة الاستخبار وأدل على انتفاء الإغناء على أبلغ وجه وآكده كأن كل من شأنه الخطاب قد كلف بأن يخبر بأن تمتيعهم ما أفادهم وأي شيء أغنى عنهم فلم يقدر أحد أن يخبر بشيء من ذلك أصلاً.
روي : أن ميمون بن مهران لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له : أعظني فلم يزده على تلاوة هذه الآية فقال ميمون : لقد وعظت فأبلغت.
وروي أن عمر بن عبد العزيز كان يقرأ هذه الآية كل صباح إذا جلس على سريره تذكراً بها واتعاظاً.
جهان بي وفاييست مردم فريب
جزء : 6 رقم الصفحة : 308
كه از دل ربايد قد او شكيب
نكرتا بجاهش نكردي أسير
نكردي ي ما لش اندر زحير
كه آندم كه مردك اندر آيد زراه
نه مالت كند دستكيري نهجاه
قال يحيى بن معاذ رحمه الله : أشد الناس غفلة من اغتر بحياته الفانية والتذ بموداته الواهية وسكن إلى مألوفاته.
كان الرشيد حبس رجلاً فقال الرجل للموكل عليه : قل لأمير المؤمنين : كل يوم مضى من نعمك ينقص من محنتي والأمر قريب والموعد الصراط والحاكم الله فخر الرشيد مغشياً عليه ثم أفاق وأمر بإطلاقه.
{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} من القرى المهلكة {إِلا لَهَا مُنذِرُونَ} قد أنذروا أهلها.
قال في "كشف الأسرار" : جمع منذرين لأن المراد بهم النبي وأتباعه المظاهرون له {ذِكْرَى} أي لأجل التذكير والموعظة وإلزام الحجة فمحلها النصب على العلة {وَمَا كُنَّا ظَـالِمِينَ} فنهلك غير الظالمين والتعبير عن ذلك بنفي الظالمية مع أن إهلاكهم قبل الإنذار ليس بظلم أصلاً على ما تقرر من قاعدة أهل السنة لبيان كمال نزاهته عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه من الظلم.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} أي من أهل قرية فالقرية الجسد الإنساني وأهلها النفس والقلب والروح وإهلاكهم بإفساد استعدادهم الفطري بترك المأمورات وإتيان المنهيات.
{إِلا لَهَا مُنذِرُونَ} بالإلهامات الربانية.
{ذِكْرَى} أي تذكرة من ربهم كما قال تعالى : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاـاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاـاهَا} (الشمس : 7 ، 8) {وَمَا كُنَّا ظَـالِمِينَ} (الشعراء : 209) بأن نضع العذاب في غير موضعه أو نضع الرحمة في غير موضعها انتهى.
(6/224)
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} يقال : تنزل نزل في مهلة والباء للتعدية.
والمعنى بالفارسية : (وهركز ديوان اين قرآن فرونيا وردند) أو للملابسة.
والمعنى (وفرونيايند بقرآن ديوان.
مقاتل كفت م شركان قريش كفتند محمد كاهن است وباوي كسي است از جن كه اين قررن كه دعوى ميكندكه كلام خداست آن كسى برزبان وي مي افكند همنانكه بزربان كاهن افكند واين از آنجا كفتندكه در جاهلية يش از معبث رسول الله صلى الله عليه وسلّم باهر كاهني رئي بوزاز جنه استراق سمع كردند بدر آمسان وخبر هاي دوزخ وراست برزبان كاهن افكندند مشركان نداشتندكه وحي قرآن هم ازان جنس است تارب المعالمين ايشانرا دروغ زن كرد كفت) {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ} بل نزل به الروح الأمين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 308
{وَمَا يَنابَغِى لَهُمْ} أي : وما يصح وما يستقيم لهم أن ينزلوا بالقرآن من السماء.
309
{وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} وما يقدرون على ذلك أصلاً.
{إِنَّهُمْ} بعد مبعث الرسول {عَنِ السَّمْعِ} لكلام الملائكة {لَمَعْزُولُونَ} ممنوعون بعد أن كانوا يمكنون لأنهم يرجمون بالشهب.
قال بعض أهل التفسير : إنهم عن السمع لكلام الملائكة لمعزولون لانتفاء المشاركة بينهم وبين الملائكة في صفات الذات والاستعداد لقبول فيضان أنوار الحق والانتقاش بصور العلوم الربانية والمعارف النورانية كيف لا ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات غير مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه أصلاً من فنون الشر والقرآن مشتمل على حقائق ومغيبات لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن ليس للشياطين استعدادات تنزيل القرآن ولا قوة حمله ولا وسع فهمه لأنهم خلقوا من النار والقرآن نور قديم فلا يكون للنار المخلوقة حمل النور القديم ألا ترى أن نار الجحيم كيف تستغيث عند ورود المؤمن عليها وتقول : "جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي" فإذا لم يكن لهم استطاعة لحمل القرآن وقوة سمعه كيف يمكن لهم تنزيله وإن وجدوا السمع الذي هو الإدراك ولكن حرموا الفهم المؤدي للاستجابة لما دعوا إليه فلهذا استوجبوا العذاب انتهى.
قال بعض الكبار : وصف الله تعالى أهل الحرمان أن أسماعهم وأبصارهم وعقولهم وقلوبهم في غشاوة الغفلة عن سماع القرآن والسامع بالحقيقة هو الذي له سمع قلبي عقلي غيبي روحي يسمع كل لمحة من جميع الأصوات والحركات في الأكون خطاب الحق سبحانه بحيث يهيج سره بنعت الشوق إليه فطوبى لمن فهم عن الله واستعد لحمل أمانة الله شريعة وحقيقة فهو الموفق ومن سواه المعزول فيا أيها السامعون افهموا ويا أيها المدركون تحققوا فالعلم في الصدر لا عند باب الحواس ولا بالتخمين والقياس.
{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} إذا عرفت يا محمد حال الكفار فلا تعبد معه تعالى إلهاً آخر.
{فَتَكُونَ} (س باشي اكر رستش ميكني) {مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} خوطب به النبي عليه السلام مع ظهور استحالة وقوع المنهي عنه لأنه معصوم تهيجاً لعزيمته وحثاً على ازدياد الإخلاص ولطفاً بسائر المكلفين ببيان أن الإشراك من القبح والسوء بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه فكيف بمن عداه وأن من كان أكرم الخلق عليه إذا عذب على تقدير اتخاذ إله آخر فغيره أولى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 308
وفي الخبر : أن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له : أرميا بأن يخبر قومه بأن يرجعوا عن المعصية ، فإنهم إن لم يرجعوا أهلكتهم فقال أرميا : يا رب إنهم أولاد أنبيائك أولاد إبراهيم وإسحاق ويعقوب أفتهلكهم بذنوبهم؟ قال الله تعالى : إني إنما أكرمت أنبيائي لأنهم أطاعوني ولو أنهم عصوني لعذبتهم وإن كان إبراهيم خليلي.
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن عبادة غير الله من الدنيا والآخرة وطلبه بتوجه القلب إليه عمارة عذاب الله وهو البعد من الله ومن يطلب يكن عذابه أشد فكل طالب شيء يكون قريباً إليه بعيداً عما سواه فطالب الدنيا قريب من الدنيا بعيد عن الآخرة وطالب الآخرة قريب من الآخرة بعيد عن الله ولذا قال أبو سعيد الخراز قدس سره : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فالأبرار أهل الجنة وحسناتهم طلب الجنة والمقربون أهل الله وحسناتهم طلب الله وحده لا شريك له.
{وَأَنذِرْ} العذاب الذي يستتبعه الشرك والمعاصي.
310(6/225)
{عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ} العشيرة أهل الرجال الذي يتكثر بهم أي يصيرون له بمنزلة العدد الكامل وذلك أن العشرة هو العدد الكامل فصارت العشيرة اسماً لكل جماعة من أقارب الرجل يتكثر بهم والعشير المعاشر قريباً كان أو مقارناً كذا في "المفردات".
والمراد بهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب وإنما أمر بإنذار الأقربين لأن الاهتمام بشأنهم أهم فالبداية بهم في الإنذار أولى كما أن البداية بهم في البر والصلة وغيرهما أولى وهو نظير قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَـاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم} (التوبة : 123) وكانوا مأمورين بقتال جميع الكفار ولكنهم لما كانوا أقرب إليهم أمروا بالبداية بهم في القتال كذلك ههنا وأيضاً إذا أنذر الأقارب فالأجانب أولى بذلك.
روي : أنه لما نزلت صعد الصفا وناداهم فخذاً فخذاً حتى اجتمعوا إليه فقال : لو أخبرتكم أن يسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي قالوا : نعم قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
روي : أنه قال : "يا بني عبد المطلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف افتدوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم شيئاً.
ثم قال : يا عائشة بنت أبي بكر ويا حفصة بنت عمر.
ويا فاطمة بنت محمد.
ويا صفية عمة محمد اشترين أنفسكن من النار فإني لا أغني عنكن شيئاً" (در خبرست كه عائشه صديقه رضي الله عنها بكريست وكفت يا رسول الله رووز قيامت روزيست كه تومارا بكار نيابي كفت بلى) عائشة في ثلاثة مواطن يقول الله تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فعند ذلك لا أملك لكم من الله شيئاً وعند النور من شاء الله أتم له نوره ومن شاء الله كبه في الظلمات فلا أملك لكم من الله شيئاً وعند الصراط من شاء الله سلمه وأجاره ومن شاء كبه في النار فينبغي للمؤمن أن لا يغتر بشرف الأنساب فإن النسب لا ينفع بدون الإيمان برب الأرباب فانظر إلى حال كنعان بن نوح وإلى حال آزر والد إبراهيم عليهما السلام فإن فيها كفاية.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 6 رقم الصفحة : 308
و كنعانرا طبيعت بي هنربود
يمراد كي قدرش نيفزود
هنر بنماي اكر داري نه كوهن
كل از خارست وإبراهيم از آزر
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى حقيقة قوله : {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ} (المؤمنون : 101) وقال عليه السلام : "كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي" فحسبه الإيمان والتقوى كما قال عليه السلام : "آلي كل مؤمن تقي" ويشير إلى أن من كان مصباح قلبه منوراً بنور الإيمان لا ينور مصباح عشيرته ولو كان والداً له حتى يكون مقتبساً هو لمصباحه من نور مصباحه المنور وهذا سر متابعة النبي عليه السلام والاقتداء بالولي وقوله عليه السلام لفاطمة رضي الله عنها : "يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أغني عنك من الله شيئاً" كان لهذا المعنى كما أن أكل المرء يشبعه ولا يشبع ولده حتى يأكل الطعام كما أكل والده وليعلم أنه لا ينفعهم قرابته ولا تقبل فيهم شفاعته إذا لم يكن لهم أصل الإيمان فإن الإيمان هو الأصل وما سواه تبع له ولهذا السر قال تعالى عقيب قوله : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ} قوله :
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي ألن جانبك لهم وقاربهم في الصحبة واسحب ذيل التجاوز على ما يبدو منهم من التقصير واحتمل منهم سوء الأحوال وعاشرهم بجميل الأخلاق وتحمل عنهم
311
كلهم فإن حرموك فأعطهم وإن ظلموك فتجاوز عنهم وإن قصروا في حقي فاعف عنهم واستغفر لهم.
وبالفارسية : (وبر خويش فرورد آر بفروتني ومهرباني يعني مهرباني وروز إكرام كن) والخفض ضد الرفع والدعة والسير اللين.
يعني : (نرم رفتن شتر) وهو حث على تليين الجانب والانقياد كما في "المفردات" وجناح العسكر جانباه وهو مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحط فشبه التواضع ولين الأطراف والجوانب عند مصاحبة الأقارب والأجانب بخفض الطائر جناحه ، أي كسره عند إرادة الانحطاط وأما الفاسق والمنافق فلا يخفض له الجناح إلا في بعض الأحوال إذ لكل من اللين والغلظة وقت دل عليه القرآن ، فلا بد من رعاية كل منهما في وقته ومن للتبيين لأن من اتبع أعم ممن اتبع لدين أو لغيره أو للتبعيض على أن المراد بالمؤمنين المشارفون للإيمان والمصدقون باللسان.
وفي "التأويلات النجمية" : والنكتة فيه أنه قال : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لأن كل متابع مؤمن ولم يكن كل مؤمن متابعاً لئلا يغتر المؤمن بدعوى الإيمان وهو بمعزل عن حقيقته التي لا تحصل إلا بالمتابعة انتهى فعلى العاقل أن يختار صحبة الأخيار ويتابعهم في أعمالهم ويسعى في تحصيل أخلاقهم وأحوالهم وبشرف القرين يدخل عشرة من الحيوانات الجنة منها كلب أصحاب أهل الكهف ولله در من قال :
جزء : 6 رقم الصفحة : 308
سك أصحاب كهف روزي ند
ي نيكان كرفت مردم شد
حيث دخل الجنة معهم في صورة الكبش.
(6/226)
{فَإِنْ عَصَوْكَ} قال في "كشف الأسرار".
(خويشان وقرابت رسول الله عليه السلام ون بعداوت رسول دربستند وزبان طعن دراز كردند آيت فرود آمدكه).
{فَإِنْ عَصَوْكَ} أي : فإن خرجت عشيرتك عن الطاعة وخالفوك ولم يتبعوك {فَقُلْ إِنِّى بَرِىاءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} أي : من عبادتكم لغير الله تعالى ولا تبرأ منهم وقل لهم قولاً معروفاً بالنصح والعظة لعلهم يرجعون إلى طاعتك وقبول الدعوة منك.
يقول الفقير : سمعت من حضرة شيخي وسندي روّح الله روحه يقول : قطعت الوصلة بيني وبين خلفائي إلا من الوصية فإن الله تعالى يقول : {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر : 3) فالوصية بالحق والصبر لا بد لي منها في حق الكل خصوصاً في حقهم.
{وَتَوكَّلْ} في جميع حالاتك {عَلَى الْعَزِيزِ} الذي لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه فهو يقدر على قهر أعدائه.
{الرَّحِيمُ} الذي يرحم من توكل عليه وفوض أمره إليه بالظفر والنصرة فهو ينصر أولياءه ولا تتوكل على الغير فإن الله تعالى هو الكافي لشر الأعداء لا الغير والتوكل على الله تعالى في جميع الأمور والإعراض عما سواه ليس إلا من خواص الكمل جعلنا الله وإياكم من الملحقين بهم ثم أتبع به قوله :
{الَّذِى يُرِيكُمُ} إلخ لأنه كالسبب لتلك الرحمة أي توكل على من يراك.
{حِينَ تَقُومُ} أي إلى التهجد في جوف الليل فإن المعروف من القيام في العرف الشرعي إحياء الليل بالصلاة فيه.
وفي الحديث : "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل".
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام "كان لا يدع قيام الليل وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً".
ومنها "إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة" رواه "مسلم".
يقول الفقير : هذا أي
312
ما صلى عليه السلام في النهار بدل ما فات منه في الليل من ورد التهجد يدل على أن التهجد ليس كسائر النوافل بل له فضيلة على غيره ولذا يوصي بإتيان بدله إذا فات مع أن النوافل لا تقضي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 308
{وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـاجِدِينَ} التقلب (بركشتن) أي ويرى ترددك في تصفح أحوال المتهجدين لتطلع على حقيقة أمرهم كما روى أنه لما نسخ فرض قيام الليل عليه وعلى أصحابه بناء على أنه كان واجباً عليه وعلى أمته وهو الأصح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان واجباً على الأنبياء قبله طاف عليه السلام تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون أي هل تركوا قيام الليل لكونه نسخ وجوبه بالصلوات الخمس ليلة المعراج حرصاً على كثرة طاعاتهم فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله وتلاوة القرآن {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ} لما تقوله ولدعوات عباده ومناجاة الأسرار {الْعَلِيمُ} بما تنويه وبوجود مصالحهم وارادات الضمائر.
وقال بعضهم : {وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـاجِدِينَ} أي تصرفك فيما بين المصلين بالقيام والركوع والسجود والقعود إذا اممتهم فقوله في الساجدين معناه مع المصلين في الجماعة فكأن أصل المعنى يراك حين تقوم وحدك للصلاة ويراك إذا صليت مع المصلين جماعة.
وفي "التأويلات النجمية" : {الَّذِى يَرَاـاكَ حِينَ تَقُومُ} أي يرى قصدك ونيتك وعزيمتك عند قيامك للأمور كلها وقد اقتطعه بهذه الآية عن شهود الخلق فإن من علم أنه بمشهد الحق راعى دقائق حالاته وخفايا أحواله مع الحق وبقوله : {وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـاجِدِينَ} هون عليه معاناة مشاق العبادات لاخباره برؤيته له ولا مشقة لمن يعلم أنه بمرأى من مولاه ومحبوبه وأن حمل الجبال الرواسي يهون لمن حملها على شعرة من جفن عينه على مشاهدة ربه.
ويقال كنت بمرأى منا حين تقلبك في عالم الأرواح في الساجدين بأن خلقنا روح كل ساجد من روحك أنه هو السميع في الأزل مقالتك أنا سيد ولد آدم ولا فخر لأن أرواحهم خلقت من روحك العليم باستحقاقك لهذه الكرامة انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : {وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـاجِدِينَ} من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبياً ، أي فمعنى في الساجدين في أصلاب الأنبياء والمرسلين من آدم إلى نوح وإلى إبراهيم وإلى من بعده إلى أن ولدته أمه وهذا لا ينافي وقوع من ليس نبياً في آبائه فالمراد وقوع الأنبياء في نسبه.
واستدل الرافضة على أن آباء النبي عليه السلام كانوا مؤمنين أي لأن الساجد لا يكون إلا مؤمناً فقد عبر عن الإيمان بالسجود وهو استدلال ظاهري وقوله عليه السلام : "لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات" لا يدل على الإيمان بل على صحة أنكحة الجاهلية كما قال عليه السلام في حديث آخر : "حتى أخرجني من بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط" وقد سبق نبذ من الكلام مما يتعلق بالمرام في أواخر سورة إبراهيم وحق المسلم أن يمسك لسانه عما يخل بشرف نسب نبينا عليه السلام ويصونه عما يتبادر منه النقصان خصوصاً إلى وهم العامة.
فإن قلت : كيف نعتقد في حق آباء النبي عليه السلام؟.
(6/227)
جزء : 6 رقم الصفحة : 308
قلت : هذه المسألة ليست من الاعتقاديات فلا حظ للقلب منها وأما حظ اللسان فقد ذكرنا وذكر الحافظ السيوطي رحمه الله أن الذي للخلص أن أجداده عليه السلام من آدم إلى مرة بن كعب مصرح بإيمانهم أي في الأحاديث وأقوال السلف وبقي بين مرة وعبد المطلب أربعة
313
أجداد ولم أظفر فيهم بنقل وعبد المطلب الأشبه أنه لم تبلغه الدعوة لأنه مات وسنه عليه السلام ثمان سنين والأشهر أنه كان على ملة إبراهيم عليه السلام أي لم يعبد الأصنام كما سبق في سورة براءة.
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} خطاب لكفار مكة وكانوا يقولون : إن الشياطين تتنزل على محمد فرد الله عليهم ببيان استحالة تنزلهم عليه بعد بيان امتناع تنزلهم بالقرآن.
والمعنى هل أخبركم أيها المشركون.
وبالفارسية : (آيا خبردهم شمارا).
{عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} أي : تتنزل بحذف إحدى التاءين وكلمة من تضمنت الاستفهام ودخل عليها حرف الجر وحق الاستفهام أن يصدر في الكلام فيقال : أعلى زيد مررت ولا يقال : على أزيد مررت ولكن تضمنه ليس بمعنى أنه اسم فيه معنى الحرف بل معناه أن الأصل أمن فحذف حرف الاستفهام واستعمل على بعد حذفه كما يقال في هل أصله أهل ومعناه أقد فإذا أدخلت حرف الجر على من فقدر الهمزة قبل حرف الجر في ضميرك كأنك تقول أعلى من تنزل.
{تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ} كثير الإفك والكذب.
قال الراغب : الإفك كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه.
{أَثِيمٍ} كثير الإثم وهو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب ، أي تتنزل على المتصفين بالإفك والإثم الكثير من الكهنة والمتنبئة كمسيلمة وطليحة لأنهم من جنسهم وبينهم مناسبة بالكذب والافتراء والإضلال وحيث كانت ساحة رسول الله منزهة عن هذه الأوصاف استحال تنزلهم عليه.
{يُلْقُونَ السَّمْعَ} الجملة في محل الجر على أنها صفة كل أفاك أثيم لكونه في معنى الجمع ، أي يلقي الأفاكون الأذن إلى الشياطين فيتلقون منهم أوهاماً وأمارات لنقصان علمهم فيضمون إليها بحسب تخيلاتهم الباطلة خرافات لا يطابق أكثرها الواقع.
وبالفارسية : (فروميدارند كوش را بسخن شياطين وفرا ميكيرند ازايشان أخبار دروغ وديكر دروغها بآن أضافت ميكنند).
{وَأَكْثَرُهُمْ} أي : الأفاكين {كَـاذِبُونَ} فيما قالوه من الأقاويل وليس محمد كذلك فإنه صادق في جميع ما أخبر من المغيبات والأكثر بمعنى الكل.
يعني (همه إيشان بصفت كذب موصوفند) كلفظ البعض في قوله : {وَلاحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} (آل عمران : 50) أي كله وذلك كما استعملت القلة في معنى العدم في كثير من المواضع.
جزء : 6 رقم الصفحة : 308
وقال بعضهم : إن الأكثرية باعتبار الأقوال لا باعتبار الذوات حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون أقلهم صادقين وليس معنى الأفاك من لا ينطق إلا بالإفك حتى يمتنع منه الصدق بل من يكثر الإفك فلا ينافيه أن يصدق نادراً في بعض الأحيان.
وقال في "كشف الأسرار" : استثنى منهم بذكر الأكثر سطحياً وشقاً وسواد بن قارب الذين كانوا يلهجون بذكر رسول الله وتصديقه ويشهدون له بالنبوة ويدعون الناس إليه انتهى.
قال في "حياة الحيوان" : وأما شق وسطيح الكاهنان فكان شق شق إنسان له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة وكان سطيح ليس له عظم ولا بنان إنما كان يطوى كالحصير لم يدرك أيام بعثة رسول الله عليه السلام وكان في زمن الملك كسرى وهو ساسان.
جزء : 6 رقم الصفحة : 308
{وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُانَ} يعني : ليس القرآن بشعر ولا محمد بشاعر لأن الشعراء يتبعهم الضالون والسفهاء وأتباع محمد ليسوا كذلك بل هم الراشدون المراجيح الرزان وكان شعراء الكفار يهجون رسول الله وأصحابه ويعيبون الإسلام فيتبعهم سفهاء
314
العرب حيث كانوا يحفظون هجاءهم وينشدون في المجالس ويضحكون.
ومن لواحق هذا المعنى ما قال ابن الخطيب في "روضته" : ذهب جماعة من الشعراء إلى خليفة وتبعهم طفيلي فلما دخلوا على الخليفة قرأوا قصائدهم واحداً بعد واحد وأخذوا العطاء فبقي الطفيلي متحيراً فقيل له : اقرأ شعرك قال : لست أنا بشاعر وإنما أنا رجل ضال كما قال الله تعالى : {وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُانَ} فضحك الخليفة كثيراً فأمر له بأنعام.
وقال بعضهم : معنى الآية أن الشعراء تسلك مسلكهم وتكون من جملتهم الضالون عن سنن الحق لا غيرهم من أهل الرشد.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الشعراء بحسب مقاماتهم ومطرح نظرهم ومنشأ قصدهم ونياتهم إذا سلكوا على أقدام التفكر مفاوز التذكر في طلب المعاني ونظمها وترتيب عروضها وقوافيها وتدبير تجنيسها وأساليبها تتبعهم الشياطين بالإغواء والإضلال ويوقعونهم في الأباطيل والأكاذيب.
(6/228)
قال في "المفردات" : شعرت أصبت الشعر ومنه استعير شعرت كذا أي علمته في الدقة كإصابة الشعر.
قيل : وسمي الشاعر شاعراً لفطنته ودقة معرفته فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم : ليت شعري وصار في التعارف اسماً للموزون المقفى من الكلام والشاعر المختص بصناعته وقوله تعالى : {بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} (الأنبياء : 5) حمله كثير من المفسرين على أنهم رموه بكونه آتياً بشعر منظوم مقفى حتى تأولوا ما جاء في القرآن من كل لفظ يشبه الموزون من نحو وجفان كالجوابي وقدور راسيات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 314
وقال بعض المحصلين : لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به وذلك أنه ظاهر من هذا الكلام أنه ليس على أساليب الشعر ولا يخفى ذلك على الأغتام من العجم فضلاً عن بلغاء العرب وإنما رموه بالكذب فإن الشعر يعبر به عن الكذب والشاعر الكاذب حتى سمى قوم الأدلة الكاذبة شعراً ولهذا قال تعالى في وصف عامة الشعراء : {وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُانَ} إلى آخر السورة انتهى.
قال الإمام المرزوقي "شرح الحماسة" : تأخر الشعراء عن البلغاء لتأخر المنظوم عند العرب لأن ملوكهم قبل الإسلام وبعده يتبجحون بالخطابة ويعدونها أكمل أسباب الرياسة ويعدون الشعر دناءة لأن الشعر كان مكسبة وتجارة وفيه وصف اللئيم عند الطمع بصفة الكريم والكريم عند تأخر صلته بوصف اللئيم ومما يدل على شرف النثر أن الإعجاز وقع في النثر دون النظم لأن زمن النبي عليه السلام زمن الفصاحة.
{أَلَمْ تَرَ} يا من شأنه الرؤية أي قد رأيت وعلمت {إِنَّهُمْ} أي الشعراء {فِى كُلِّ وَادٍ} من المدح والذم والهجاء والكذب والفحش والشتم واللعن والافتراء والدعاوى والتكبر والمفاخر والتحاسد والعجب والإراءة وإظهار الفضل والدناءة والخسة والطمع والتكدي والذلة والمهانة وأصناف الأخلاق الرذيلة والطعن في الأنساب والأعراض وغير ذلك من الآفات التي هي من توابع الشعر {يَهِيمُونَ} يقال هام على وجهه من باب باع هيماناً بفتحتين ذهب من العشق أو غيره كما في "المختار" أي يذهبون على وجوههم لا يهتدون إلى سبيل معين بل يتحيرون في أودية القيل والقال والوهم والخيال والغي والضلال.
قال الراغب : أصل الوادي الموضع الذي يسيل فيه الماء ومنه سمي المنفرج بين الجبلين وادياً ويستعار للطريقة
315
كالمذهب والأسلوب فيقال : فلان في واد غير واديك وقوله : {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} فإنه يعني أساليب الكلام من المدح والهجاء والجدل والغزل وغير ذلك من الأنواع أي في كل نوع من الكلام يغلون.
قال في "الوسيط" : فالوادي مثل لفنون الكلام وهيمانهم فيه قولهم على الجهل بما يقولون من لغو وباطل وغلو في مدح أو ذم.
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ} في أشعارهم عند التصلف والدعاوى {مَا لا يَفْعَلُونَ} من الأفاعيل : يعني (بفسق ناكرده برخود كواهي ميدهند ويغا مهاي ناداده بكسى درسلك نظم ميكشند) ويرغبون في الجود ويرغبون عنه وينفرون عن البخل ويصرون عليه ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عنهم ، ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش وذلك تمام الغواية والنبي عليه السلام منزه عن ذلك متصف بمحاسن الأوصاف ومكارم الأخلاق مستقر على المنهاج القويم مستمر على الصراط المستقيم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 314
{إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين.
{وَذَكَرُوا اللَّهَ} ذكراً {كَثِيرًا} بأن كان أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله والحث على طاعته والحكمة والموعظة والزهد في الدنيا والترغيب في الآخرة أو بأن لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ولم يجعلوه همهم وعادتهم.
قال أبو يزيد قدس سره : الذكر الكثير ليس بالعدد لكنه بالحضور.
{وَانتَصَرُوا} (انتقام كشيدند از مشركان).
قال في "تاج المصادر" والانتصار (داد بستدن).
{مِنا بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} بالهجو لأن الكفار بدؤوهم بالهجاء يعني لو وقع منهم في بعض الأوقات هجو وقع بطريق الانتصار ممن هجاهم من المشركين كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وغيرهم فإنهم كانوا يذبون عن عرض النبي عليه السلام ، وكان عليه السلام يضع لحسان منبراً في المسجد فيقوم عليه يهجو من كان يهجو رسول الله.
قال الكمال الأصفهاني :
هجا كفتن اره سنديده نيست
مباداكسي كالت آن ندارد
و رن شاعري كوهجا كونباشد
وشيري كه نكال ودندان ندارد
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه عليه السلام قال : "اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل" وفي الحديث : "جاهدوا المشركون بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" أي أسمعوهم ما يكرهونه ويشق عليهم سماعه من هجو وكلام غليظ ونحو ذلك.
(6/229)
قال الإمام السهيلي رحمه الله : فهم سبب الاستثناء فلو سماهم بأسمائهم الأعلام كان الاستثناء مقصوراً عليهم والمدح مخصوصاً بهم ولكن ذكرهم بهذه الصفة ليدخل معهم في هذا الاستثناء كل من اقتدى بهم شاعراً كان أو خطيباً أو غير ذلك انتهى.
وفي "التأويلات النجمية" : لأرباب القلوب في الشعر سلوك على إقدام التفكر بنور الإيمان وقوة العمل الصالح وتأييد الذكر الكثير ليصلوا إلى أعلى درجات القرب وتؤيدهم الملائكة بدقائق المعاني بل يوفقهم الله لاستجلاب الحقائق ويلهمهم بألفاظ الدقائق فبالإلهام يهيمون
316
في كل وادٍ من المواعظ الحسنة والحكم البالغة وذم الدنيا وتركها وتزيين الآخرة وطلبها وتشويق العباد وتحبيبهم إلى الله وتحبيب الله إليهم وشرح المعارف وبيان الموصل والحث على السير والتحذير عن الألفاظ القاطعة للسير وذكر الله وثنائه ومدح النبي عليه السلام والصحابة وهجاء الكفار انتصاراً كما قال عليه السلام لحسان : "اهج المشركين فإن جبريل معك" انتهى.
والجمهور على إباحة الشعر ثم المذموم منه ما فيه كذب وقبح وما لم يكن كذلك فإن غلب على صاحبه بحيث يشغله عن الذكر وتلاوة القرآن فمذموم ولذا قال من قال :
جزء : 6 رقم الصفحة : 314
درقيامت نرسد شعر بفرياد كسى
كه سراسر سخنش حكمت يونان كردد
وإن لم يغلب كذلك فلا ذم فيه وفي الحديث : "إن من الشعر لحكمة" أي : كلاماً نافعاً يمنع عهن الجهل والسفه وكان علي رضى الله عنه أشعر الخلفاء وكانت عائشة رضي الله عنها أبلغ من الكل.
قال الكاشفي : (حضرت حقائق بناهي در ديباجه ديوان أول آورلاده اندكه هرند قادر حكيم جل ذكره درآيت كريمهٌ.
{وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُانَ} شعرا راكه سياحان بحر شعرند جميع ساخته وكمند دام استغراق دركردن انداخته كاه درغرقابه بي حد وغايت غوايت مي اندازد وكاه تشنه لب دروادىء حيرت وضلالت سر كردان ميسازد وأما بسيارى ازايشان بواسطه إصلاح عمل وصدق إيمان درزورق أمان.
{إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} تشنه اندبوسيله بادبان {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} بساحل خلاص وناحيت نجات يوسته ويكي ازافاضل كفته است) :
شاعرانراكره غاوى كفت درقرآن خداى
هست ازيشان هم بقرآن ظاهر استثناي ما
ولما كان الشعر مما لا ينبغي للأنبياء عليهم السلام لم يصدر من النبي عليه السلام بطريق الإنشاء دون الإنشاد إلا ما كان بغير قصد منه وكان كل كمال بشرى تحت علمه الجامع فكان يجيب كل فصيح وبليغ وشاعر وأشعر وكل قبيلة بلغاتهم وعباراتهم وكان يعلم الكتاب علم الخط وأهل الحرف حرفتهم ولذا كان رحمة للعالمين.
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} على أنفسهم بالشعر المنهي عنه وغيره فهو عام لكل ظالم والسين للتأكيد {أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} أي : منصوب ينقلبون على المصدر لا بقوله سيعلم لأن أياً وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها وقدم على عامله لتضمنه معنى الاستفهام وهو متعلق بسيعلم ساداً مسد مفعوليه.
والمنقلب بمعنى الانقلاب أي الرجوع.
والمعنى ينقلبون أي الانقلاب ويرجعون إليه بعد مماتهم أي الرجوع أي ينقلبون انقلاباً سوءاً ويرجعون رجوعاً شراً لأن مصيرهم إلى النار.
وقال الكاشفي : (بكدام مكان خواهند كشت واو آنست كه منقلب إيشان آت خواهدبود).
روي : أنه لما أيس أبو بكر رضي الله عنه من حياته استكتب عثمان رضي الله عنه كتاب العهد وهو هذا ما عهد ابن أبي قحافة إلى المؤمنين في الحال التي يؤمن فيها الكافر ثم قال بعد ما غشى عليه وأفاق : إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه عدل فذلك ظني فيه وإن لم يعدل سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
والظلم هو الانحراف عن العدالة والعدول عن الحق الجاري مجرى النقطة من الدائرة.
والظلمة ثلاثة.
الظالم الأعظم وهو الذي لا يدخل تحت شريعة الله وإياه قصد تعالى بقوله : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13) والأوسط هو الذي لا يلزم حكم
317
السلطان.
والأصغر هو الذي يتعطل عن المكاسب والأعمال فيأخذ منافع الناس ولا يعطيهم منفعته ومن فضيلة العدالة أن الجور الذي هو ضدها لا يستتب إلا بها فلو أن لصوصاً تشارطوا فيما بينهم شرطاً فلم يراعوا العدالة فيه لم ينتظم أمرهم.
فعلى العاقل أن يصيخ إلى الوعيد والتهديد الأكيد فيرجع عن الظلم والجور وإن كان عادلاً فنعوذ بالله من الجور بعد الكور والله المعين لكل سالك والمنجي في المسالك من المهالك.
تمت سورة الشعراء يوم الخميس وهو التاسع من ذي القعدة من سنة ثمان ومائة وألف.
جزء : 6 رقم الصفحة : 314(6/230)
سورة النمل
وهي مكية ثلاث أو أربع وتسعون آية
جزء : 6 رقم الصفحة : 317
{طس} هذه طس أي هذه السورة مسماة به.
قال في "التأويلات النجمية" : يشير بطائه إلى طاء طيب قلوب محبيه وبالسين إلى سر بينه وبين قلوب محبيه لا يسعهم فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وأيضاً يقسم بطاء طلب طالبيه وسين سلامة قلوبهم عن طلب ما سواه.
وفي "كشف الأسرار" : الطاء إشارة إلى طهارة قدسه والسين إشارة إلى سناء عزه يقول تعالى : بطهارة قدسي وسناء عزي لا أخيب أمل من أملّ لطفي انتهى.
وقال بعضهم : الطاء طوله أي فضله والسين سناؤه أي علوه وقد سبق في طسم ما يتعلق بهذا المقام فارجع إليه.
وقال عين القضاء الهمذاني قدس سره في مقالاته : لولا ما كان في القرآن من الحروف المقطعات لما آمنت به.
يقول الفقير : قد كفره في قوله هذا كثير من علماء زمانه والأمر سهل على أهل الفهم ومراده بيان اطلاعه على بطون معاني الحروف التي هي دليل لأرباب الحقائق وسبب لمزيد إيمانهم العياني.
{تِلْكَ} أي هذه السورة العظيمة الشأن أو آياتها ، {طس تِلْكَ} المعروف بعلو الشأن أي بعض منه لمترجم مستقل باسم خاص فهو عبارة عن جميع القرآن أو عن جميع المنزل عند نزول السورة إذ هو المتسارع إلى الفهم حينئذ عند الإطلاق.
{وَكِتَابٍ} عظيم الشأن{مُّبِينٍ} مظهر لما في تضاعيفه من الحكم والأحكام وأحوال الآخرة التي من جملتها الثواب والعقاب أو ظاهر إعجازه وصحته على أنه من أبان ، يعني بان أي ظهر وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى مثل غافر الذنب وقابل التوب أي آيات الكلام الجامع بين القرآنية والكتابية وكونه قرآناً بجهة أنه يقرأ وكتاباً بسبب أنه يكتب وقدم الوصف الأول لتقدم القرآنية على حال الكتابية وآخره في سورة الحج لما أن الإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره من الكتب أدخل في المدح فإن وصفه بالكتابية مفصح عن اشتماله على صفة كمال الكتب الإلهية فكأنه كلها.
وفي "كشف الأسرار" : القرآن والكتاب اسمان علمان للمنزل على محمد ووصفان لأنه يقرأ ويكتب فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم وحيث جاء بلفظ النكرة فهو الوصف.
جزء : 6 رقم الصفحة : 318
{هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي : حال كون تلك الآيات هادية لهم ومبشرة فأقيم المصدر مقام الفاعل للمبالغة كأنها نفس الهدى.
والبشارة ومعنى هدايتها لهم وهم
318
مهتدون أنها تزيدهم هدى قال تعالى : {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم} (التوبة : 124) الآية وأما معنى تبشيرها إياهم فظاهر لأنها تبشرهم برحمة من الله ورضوان وخصهم بالذكر لانتفاعهم به.
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} صفة مادحة للمؤمنين وتخصيصهما بالذكر لأنهما قرينتا الإيمان وقطرا العبادات البدنية والمالية مستتبعان لسائر الأعمال الصالحة.
والمعنى يؤدون الصلاة بأركانها وشرائطها في مواقيتها ويؤتون الصدقة المفروضة للمستحقين.
{وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} من تتمة الصلة والواو للحال أي والحال أنهم يصدقون بأنها كائنة ويعلمونها علماً يقيناً.
وبالفارسية : (وحال رنكه إيشان بسراي ديكر بي كمان ميشوند تكرير ضمير إشارت باختصاص إيشانست در تصديق آخرت) أو جملة اعتراضية كأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة حق الإيمان لا من عداهم فإن تحمل مشاق العبادات إنما يكون لخوف العاقبة والوقوف على المحاسبة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 318
{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} لا يصدقون بالبعث بعد الموت.
{زَيَّنَّا لَهُمْ} (آراسته كرديم براي إيشان) {أَعْمَالَهُمْ} القبيحة حيث جعلناها مشتهاة للطبع محبوبة للنفس كما ينبىء عنه قوله عليه السلام : "حفت النار بالشهوات" أي : جعلت محفوفة ومحاطة بالأمور المحبوبة المشتهاة.
واعلم أن كل مشيئة وتزيين وإضلال ونحو ذلك منسوبة إلى الله تعالى بالأصالة وإلى غيره بالتبعية.
ففي الآية حجة قاطعة على المعتزلة والقدرية.
{فَهُمْ يَعْمَهُونَ} يتحيرون ويترددون على التجدد والاستمرار في الاشتغال بها والانهماك فيها من غير ملاحظة لما يتبعها من الضرر والعقوبة والفاء لترتيب المسبب على السبب.
وبالفارسية (س إيشان سركردان ميشوند در ضلالت خود) والعمه التردد في الأمر من التحير.
{أولئك} الموصوفون بالكفر والعمه {الَّذِينَ لَهُمْ سُواءُ الْعَذَابِ} أي في الدنيا كالقتل والأسر يوم بدر.
والسوء كل ما يسوء الإنسان ويغمه {وَهُمْ فِى الاخِرَةِ هُمُ الاخْسَرُونَ} أشد الناس خسراناً لاشترائهم الضلالة بالهدى فخسروا الجنة ونعيمها وحرموا النجاة من النار.(6/231)
واعلم أن أهل الدنيا في خسارة الآخرة وأهل الآخرة في خسارة المولى فمن لم يلتفت إلى الكونين ريح المولى ولما وجد أبو يزيد البسطامي قدس سره في البادية قحف رأس مكتوب عليه خسر الدنيا والآخرة بكى وقبله وقال هذا رأس صوفي فمن وجد المولى وجد الكل ومن وجد الكل بدون وجدان المولى لم يجد شيئاً مفيداً وضاع وقته.
وقال الحافظ :
أوقات خوش آن بودكه بادوست بسر رفت
باقي همه بي حاصل وبيخبري بود
جزء : 6 رقم الصفحة : 319
قال بعض العارفين : كوشفت بأربعين حوراء رأيتهن يتساعين في الهواء عليهن ثياب من فضة وذهب وجوهر فنظرت إليهن نظرة فعوقبت أربعين يوماً ثم كوشفت بعد ذلك بثمانين حوراء فوقهن في الحسن والجمال وقيل لي : انظر إليهن فسجدت وغضضت عيني في السجود وقلت : أعوذ بك مما سواك لا حاجة لي بهذا ولم أزل أتضرع حتى صرفهن عني فهذا حال العارفين حيث لا يلتفتون إلى ما سوى الله تعالى ويكونون عمياً عن عالم الملك والملكوت.
وأما الغافلون الجاهلون فبحبهم ما سواه تعالى عميت عيون قلوبهم وصمت آذانها فإنه لا يكون
319
في عالم المعنى إلا ويكون أصم وأبكم وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : "حبك الشيء يعمي ويصم" بخلاف أعمى الصورة فإن سمعه بحاله في سماع الدعوة وقبولها.
فعى العاقل أن يجتنب عن الأعمال القبيحة المؤدية للرين والردى والأخلاق الرذيلة الموجبة للعمه والعمى بل يتسارع إلى العمل بالقرآن الهادي إلى وصول المولى والناهي عن الخسران مطلقاً وعن الأعمال الصالحة والصلاة.
وإنما شرعت لمناجاة الحق بكلامه حال القيام دون غيره من أحوال الصلاة للاشتراك في القيومية ولهذا كان من أدب الملوك إذا كلمهم أحد من رعيتهم أن يقوم بين أيديهم ويكلمهم ولا يكلمهم جالساً فتبع الشرع في ذلك العرف.
ومن آداب العارف إذا قرأ في صلاته المطلقة أن لا يقصد قراةء سورة معينة أو آية معينة وذلك لأنه لا يدري أين يسلك به ربه من طريق مناجاته فالعارف بحسب ما يناجيه به من كلامه وبحسب ما يلقي الله الحق في خاطره وكل صلاة لا يحصل منها حضور قلب فهي ميتة لا روح فيها وإذا لم يكن فيها روح فلا تأخذ بيد صاحبها يوم القيامة.
ومن الأعمال الصالحة المذكورة الزكاة والصدقة وأفضلها ما يعطى حال الصحة دون مرض الموت وينبغي لمن قرب أجله وأراد أن يعطي شيئاً أن يحضر في نفسه أنه مؤد أمانة لصاحبها فيحشر مع الأمناء المؤدين أمانتهم لا مع المتصدقين لفوات محل الأفضل فهذه حيلة في ربح التجارة في باب الصدقة وفي الإنفاق زيادة للمال وتكثير له وإطالة لفروعه كالحبوب إذا زرعت.
{وَإِنَّكَ} يا محمد {لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ} لتعطاه بطريق التلقية والتلقين يقال : تلقى الكلام من فلان ولقنه إذا أخذه من لفظه وفهمه.
قال في "تاج المصادر" : التلقية (يزي يش كسى وآوردن) وقد سبق الفرق بين التلقي والتلقف والتلقن في سورة النور.
{مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} بواسطة جبريل لا من لدن نفسك ولا من تلقاء غيرك كما يزعم الكفار.
ولدن بمعنى عند إلا أنه أبلغ منه وأخص وتنوين الاسمين للتعظيم أي حكيم أي حكيم وعليم أي عليم وفي تفخيمهما تفخيم لشأن القرآن وتنصيص على طبقته عليه السلام في معرفته والإحاطة بما فيه من الجلائل والدقائق فإن تلقي الحكم والعلوم من مثل ذلك الحكيم العليم يكون علماً في رصانة العلم والحكمة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 319
قال بعض العارفين : كوشفت بأربعين حوراء رأيتهن يتساعين في الهواء عليهن ثياب من فضة وذهب وجوهر فنظرت إليهن نظرة فعوقبت أربعين يوماً ثم كوشفت بعد ذلك بثمانين حوراء فوقهن في الحسن والجمال وقيل لي : انظر إليهن فسجدت وغضضت عيني في السجود وقلت : أعوذ بك مما سواك لا حاجة لي بهذا ولم أزل أتضرع حتى صرفهن عني فهذا حال العارفين حيث لا يلتفتون إلى ما سوى الله تعالى ويكونون عمياً عن عالم الملك والملكوت.
وأما الغافلون الجاهلون فبحبهم ما سواه تعالى عميت عيون قلوبهم وصمت آذانها فإنه لا يكون
319
(6/232)
في عالم المعنى إلا ويكون أصم وأبكم وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : "حبك الشيء يعمي ويصم" بخلاف أعمى الصورة فإن سمعه بحاله في سماع الدعوة وقبولها.
فعى العاقل أن يجتنب عن الأعمال القبيحة المؤدية للرين والردى والأخلاق الرذيلة الموجبة للعمه والعمى بل يتسارع إلى العمل بالقرآن الهادي إلى وصول المولى والناهي عن الخسران مطلقاً وعن الأعمال الصالحة والصلاة.
وإنما شرعت لمناجاة الحق بكلامه حال القيام دون غيره من أحوال الصلاة للاشتراك في القيومية ولهذا كان من أدب الملوك إذا كلمهم أحد من رعيتهم أن يقوم بين أيديهم ويكلمهم ولا يكلمهم جالساً فتبع الشرع في ذلك العرف.
ومن آداب العارف إذا قرأ في صلاته المطلقة أن لا يقصد قراةء سورة معينة أو آية معينة وذلك لأنه لا يدري أين يسلك به ربه من طريق مناجاته فالعارف بحسب ما يناجيه به من كلامه وبحسب ما يلقي الله الحق في خاطره وكل صلاة لا يحصل منها حضور قلب فهي ميتة لا روح فيها وإذا لم يكن فيها روح فلا تأخذ بيد صاحبها يوم القيامة.
ومن الأعمال الصالحة المذكورة الزكاة والصدقة وأفضلها ما يعطى حال الصحة دون مرض الموت وينبغي لمن قرب أجله وأراد أن يعطي شيئاً أن يحضر في نفسه أنه مؤد أمانة لصاحبها فيحشر مع الأمناء المؤدين أمانتهم لا مع المتصدقين لفوات محل الأفضل فهذه حيلة في ربح التجارة في باب الصدقة وفي الإنفاق زيادة للمال وتكثير له وإطالة لفروعه كالحبوب إذا زرعت.
{وَإِنَّكَ} يا محمد {لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ} لتعطاه بطريق التلقية والتلقين يقال : تلقى الكلام من فلان ولقنه إذا أخذه من لفظه وفهمه.
قال في "تاج المصادر" : التلقية (يزي يش كسى وآوردن) وقد سبق الفرق بين التلقي والتلقف والتلقن في سورة النور.
{مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} بواسطة جبريل لا من لدن نفسك ولا من تلقاء غيرك كما يزعم الكفار.
ولدن بمعنى عند إلا أنه أبلغ منه وأخص وتنوين الاسمين للتعظيم أي حكيم أي حكيم وعليم أي عليم وفي تفخيمهما تفخيم لشأن القرآن وتنصيص على طبقته عليه السلام في معرفته والإحاطة بما فيه من الجلائل والدقائق فإن تلقي الحكم والعلوم من مثل ذلك الحكيم العليم يكون علماً في رصانة العلم والحكمة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 319
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنك جاوزت حد كمال كل رسول فإنهم كانوا يلقون الكتب بأيديهم من يد جبريل والرسالات من لفظه وحياً وإنك وإن كنت تلقى القرآن بتنزيل جبريل على قلبك ولكنك تلقى حقائق القرآن من لدن حكيم تجلى لقلبك بحكمة القرآن وهي صفة القائمة بذاته فعلمك حقائق القرآن وجعلك بحكمته مستعداً لقبول فيض القرآن بلا واسطة وهو العلم اللدني وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
وفي الجمع بين الحكيم والعليم إشعار بأن علوم القرآن منها ما هو حكمة كالعقائد والشرائع ومنها ما ليس كذلك كالقصص والأخبار الغيبية.
ثم شرع في بيان بعض تلك العلوم فقال :
جزء : 6 رقم الصفحة : 319
{إِذْ قَالَ مُوسَى لاهْلِهِ} أهل الإنسان من يختص به أي أي اذكر لقومك يا محمد وقت قول موسى لزوجته ومن معها في وادي الطور وذلك أنه مكث بمدين عند شعيب عشر سنين ثم سار بأهله بنت شعيب إلى مصر.
يعني (بقصد آنكه تا مادر خويش ودو خواهر خويش يكي زن قارون ويكي زن يوشع بود ازا نجابيارد) فضل الطريق في
320
ليلة مظلمة شديدة البرد وقد أخذ امرأته الطلق فقدح فأصلد زنده فبدا له من جانب الطور نار فقال لأهله : اثبتوا مكانكم ، {إِذْ قَالَ مُوسَى} أبصرت.
قال في "التاج" : (الإيناس : ديدن) والباب يدل على ظهور الشيء وكل شيء خالف طريقة التوحش.
قال مقاتل : النار هو النور وهو نور رب العزة رآه ليلة الجمعة عن يمين الجبل بالأرض المقدسة وقد سبق سر تجلي النور في صورة النار في سورة طه.
{إِذْ قَالَ مُوسَى} أي : عن حال الطريق أين هو والسين للدلالة على بعد المسافة أو لتحقيق الوعد بالإتيان وإن أبطأ فيكون للتأكيد.
وبالفارسية (زور باشدكه بيارم از نزديك آن آتش خبري يعني از كسى كه برسر آن آتش باشد خبر راه رسم.
{أَوْ ءَاتِيكُم} (يا بيارم) {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} أي بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من معظم النار ومن أصلها إن لم أجد عندها من يدلني على الطريق فإن عادة الله أن لا يجمع حرمانين على عبده يقال : اقتبست منه ناراً وعلماً استفدته منه.
وفي "المفردات" : الشهاب الشعلة الساطعة من النار المتوقدة والقبس المتناول من الشعلة والاقتباس طلب ذلك ثم استعير لطلب العلم والهداية انتهى.
فإن قلت : قال في طه : {فَلَمَّا قَضَى} (طه : 10) ترجياً وهنا {سَـاَاتِيكُم} إخباراً وتيقناً وبينهما تدافع.
قلت : لا تدافع لأن الراجي إذا قوي رجاؤه يقول : سأفعل كذا مع تجويزه خلاف ذلك {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} رجاء أن تدفعوا البرد بحرها.
والصلاء النار العظيمة والاصطلاء (كرم شدن بآتش).
جزء : 6 رقم الصفحة : 320
(6/233)
قال بعضهم : الاصطلاء بالنار يقسي القلب ولم يرو أنه عليه السلام اصطلى بالنار.
{فَلَمَّا جَآءَهَا} (س آن هنكام كه آمد موسى نزديك آن آتش نوراني ديد بي إحراق از درختي بسزد كويند آتشي بود محرق ون سائر آتشها) وكانت الشجرة سمرة {نُودِىَ} جاءه النداء وهو الكلام المسموع من جانب الطور.
قال في "عرائس البيان" : كان موسى عليه السلام في بداية حاله في مقام العشق والمحبة وكان أكثر أحوال مكاشفته في مقام الالتباس فلما كان بدو كشفه جعل تعالى الشجرة والنار مرآة فعلية فتجلى بجلاله وجماله من ذاته لموسى وأوقعه في رسوم الإنسانية حتى لا يفزع ويدنو من النار والشجرة ثم ناداه فيها بعد أن كاشف له مشاهدة جلاله ولولا ذلك لفني موسى في أول سطوات عظمته وعزته {أَنْ} مفسرة لما في النداء من معنى القول ، أي : {بُورِكَ} أو بأن بورك على أنها مصدرية حذف منها الجار جرياً على القاعدة المستمرة وبورك مجهول بارك وهوخبر لادعاء أي جعل مباركاً وهو ما فيه الخير والبركة والقائم مقام الفاعل قوله : {مَن فِى النَّارِ} أي من في مكان النار وهو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : {نُودِىَ مِن شَـاطِىاِ الْوَادِ الايْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَـارَكَةِ} (القصص : 30) {وَمَنْ حَوْلَهَا} أي ومن حول مكانها والظاهر أن المبارك فيه عام في كل من في تلك البقعة وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتاً وخصوصاً تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى وفي ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه بشارة بأنه قد قضى له أمر عظيم ديني تنتشر بركاته في أقطار الأرض المقدسة وهو تكليمه تعالى إياه واستنباؤه له وإظهار المعجزات على يده وكل موضع يظهر فيه مشاهدة الحق ومكالمته يكون ذا بركه ألا ترى إلى قوله القائل :
321
إذا نزلت سلمى بواد فماؤه
زلال وسلسال وجثجاثه ورد
ولم يزل يخضر مواطىء أقدام رجال الله في الصحاري والجبال من بركات حالاتهم مع الله الملك المتعال.
ثم إن بعض المفسرين حمل بورك على التحية كما قال الكاشفي : )بركت داده باد (وبعضهم حمل من في النار على الملائكة وذلك أن النور الذي بان قد بارك فيه وفي الملائكة الذين كانوا في ذلك النور.
جزء : 6 رقم الصفحة : 320
وقال بعض العارفين : إن الله أراد بمن في النار ذاته المقدسة وهو الذي أفاض بركة مشاهدته على موسى وله تعالى أن يتجلى بوصف النار والنور والشجرة والطور وغيرها مما يليق بحال العاشق مع تنزه ذاته وصفاته عن الجهة في الحقيقة وفي الحديث : "إن الله يرى هيئة ذاته كيف يشاء" {وَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيهاً وللتعجيب من عظمة ذلك الأمر.
وبالفارسية (اكست خداي تعالى رورد كار عالميان زتشبيه آورده اندكه ون موسى اين نداشنيد كفت ندا كننده كيست بازندا آمدكه).
يا مُوسَى إِنَّهُ} أي : الشأن {أَنَا اللَّهُ} جملة مفسرة للشأن {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي : القوي القادر على ما يبعد من الأوهام الفاعل كل ما يفعله بحكمة وتدبير تام.
قال في "الأسئلة المقحمة" : قوله : "إنه أنا الله" سمعه من الشجرة فدل ذلك على حدوثه لأن المسموع من الجهات علامة الحدوث والجواب نحن ننزه كلام الله تعالى عن الجهة والمكان كما نحن ننزه ذاته عن الجهة والمكان فكذلك ننزه كلامه عن الأصوات والحروف وإنما كان سماع كلام الله لموسى حصل من جا نب الشجرة فالشجرة ترجع إلى سماع موسى لا إلى الله تعالى.
فإن قلت : كيف سمع موسى كلام الله من غير صوت وحرف وجهة؟.
قلت : إن كان هذا سؤالاً عن كيفية الكلام فهذا لا يجوز فإن سؤال الكيفية محال في ذات الله وصفاته إذ لا يقال : كيف ذاته من غير جسم وجوهر وعرض وكيف علمه من غير كسب وضرورة وكيف قدرته من غير صلابة وكيف إرادته من غير شهوة وأمنية وكيف تكلمه من غير صوت وحرف وإن كان سؤال الكيفية عن سماع موسى قلنا : خلق الله لموسى علماً ضرورياً علم به أن الذي سمعه هو كلام الله القديم الأزلي من غير حرف ولا صوت ولا جهة وقد سمعه من الجوانب الستة فصار جميع جوارحه كسمعه أي صار الوجود كله سمعاً ثم يصير في الآخرة كذلك والكامل الواصل له حكم الآخرة في الدنيا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 320
{وَأَلْقِ عَصَاكَ} عطف على بورك أي نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن من سمع نداء الحق وشاهد أنوار جماله يلقى من يد همته كل ما كان متوكأه غير الله فلا يتوكأ إلا على فضل الله وكرمه.
تكيه برغير خدا كفريست از كفر طريق
جز بفضل حق مكن تكيه درين ره اي رفيق(6/234)
{فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ} الفاء فصيحة تفصح عن جملة محذوفة كأنه قيل : فألقاها فانقلبت حية تسعى فلما أبصرها تتحرك بحركة شديدة وتذهب إلى كل جانب حال كونها.
{كَأَنَّهَا جَآنٌّ} حية خفيفة سريعة فشبه الحية العظيمة المسماة بالفارسية (ادها) بالجان في سرعة الحركة والالتواء والجان ضرب من الحيات أي حية كحلاء العين لا تؤذي كثيرة في الدور كما في "القاموس".
وقال أبو الليث : الصحيح أن الثعبان كان عند فرعون والجان عند الطور وفيه إشارة إلى أن كل متوكأ غير الله في الصورة ثعبان له في المعنى ولهذا جاء في "المثنوي" :
322
هر خيالي كوكند دردل وطن
رز محشر صورتي خواهد شدن
{وَلَّى} رجع وأعرض موسى.
وبالفارسية (روى بكردانيد).
{مُدْبِرًا} (در حالتي كه كريزان بود از خوف).
قال في "كشف الأسرار" : أدبر عنها وجعلها تلي ظهره.
{وَلَمْ يُعَقِّبْ} ولم يرجع على عقبه من عقب المقاتل إذا كرّ بعد الفرّ وإنما اعتراه الرعب لظنه أن ذلك الأمر أريد به هلاك نفسه ويدل عليه قوله : يا مُوسَى} أي قيل له : يا موسى {لا تَخَفْ} أي : من غيري ثقة بي أو مطلقاً لقوله : {إِنِّى لا يَخَافُ لَدَىَّ} عندي {الْمُرْسَلُونَ} فإنه يدل على نفي الخوف عنهم مطلقاً لكن لا في جميع الأوقات بل حين يوحى إليهم بوقت الخطاب فإنهم حينئذ مستغرقون في مطالعة شؤون الله لا يخطر ببالهم خوف من أحد أصلاً وأما سائر الأحيان فهم أخوف الناس منه سبحانه أو لا يكون لهم عند سوء عاقبة فيخافون منه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 322
وفي "التأويلات النجمية" : يعني من فر إلى الله عما سواه يؤمنه الله مما سواه ويقول له : لا تخف فإنك لدي ولا يخاف لدي من غيري القلوب المنورة الملهمة المرسلة إليها الهدايا والتحف من الطافي.
وفي "عرائس البيان" : لا تخف من الثعبان فإن ما ترى ظهور تجلي عظمتي ولا يخاف من مشاهدة عظمتي وجلالي في مقام الالتباس المرسلون فإنهم يعلمون أسرار ربوبيتي ولما علم أن موسى كان مستشعراً حقيقة من قتله القبطي قال تعريضاً به :
{إِلا مَن ظَلَمَ} استثناء منقطع أي لكن من ظلم نفسه من المرسلين بذنب صدر منه كآدم ويونس وداود وموسى وتعبير الظلم لقول آدم ربنا ظلمنا أنفسنا وموسى رب إني ظلمت نفسي.
{ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنَا بَعْدَ سُواءٍ} (س بدل كند وبجاي آرد نيكويي بعد ازبدي يعني توبه كند بعد ازكناه).
{فَإِنِّى غَفُورٌ} للتائبين {رَّحِيمٌ} مشفق عليهم.
اختلفوا في جواز الذنب على الأنبياء وعدمه قال الإمام والمختار : عندنا أنه لم يصدر عنهم ذنب حال النبوة لا الصغير ولا الكبير وترك الأولى منهم كالصغيرة منا لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وفي "الفتوحات" اعلم أن معاصي الخواص ليست كمعاصي غيرهم بحكم الشهوة الطبيعية وإنما تكون معاصيهم بالخطأ في التأويل وإيضاح ذلك أن الحق تعالى إذا أراد إيقاع المخالفة من العارف بالله زين له الوقوع في ذلك العمل بتأويل ؛ لأن معرفة العارف تمنعه من الوقوع في المخالفة دون تأويل يشهد فيه وجه الحق فإن العارف لا يقع في انتهاك الحرمة أبداً ثم إذا وقع في ذلك المقدور بالتزيين ، أو التأويل يظهر له تعالى فساد ذلك التأويل الذي أداه إلى ذلك الفعل كما وقع لآدم عليه السلام فإنه عصى بالتأويل فعند ذلك يحكم العارف على نفسه بالعصيان كما حكم عليه بذلك لسان الشريعة وكان قبل الوقوع غير عاص لأجل شبهة التأويل كما أن المجتهد في زمان فتواه بأمر ما اعتقاداً منه أن ذلك عين الحكم المشروع في المسألة لا يوصف بخطأ ثم في ثاني الحال إذا ظهر له بالدليل أنه أخطأ حكم عليه لسان الظاهر أنه أخطأ في زمان ظهور الدليل لا قبل ذلك فعلم أنه يمكن لعبد أن يعصي ربه على الكشف من غير تأويل أو تزيين أو غفلة أونسيان أبداً وأما قول أبي يزيد قدس سره لما قيل له أيعصي العارف الذي هو من أهل الكشف؟ فقال : نعم وكان أمر الله قدراً مقدوراً فلا ينافي ذلك أي لأن من أدب العارفين أن لا يحكموا عليه بتقييد كأنه يقول : إن كان الحق تعالى قدر عليهم في سابق علمه بشيء فلا بد
323
من وقوعه وإذا وقع فلا بد له من حجاب أدناه التأويل أو التزيين فاعلم ذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 322(6/235)
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} (در آردست خودرا دركريبان يرهن خود) ولم يقل في كمك لأنه كان عليه مدرعة من صوف لا كم لها ولا أزرار فكانت يده الكريمة مكشوفة فأمر بإدخال يده في مدرعته وهي جبة صغيرة يتدرع بها أي تلبس بدل الدرع وهو القميص {تَخْرُجْ} حال كونها {بَيْضَآءَ} براقة لها شعاع كشعاع الشمس أي إن أدخلتها تخرج على هذه الصفة {مِنْ غَيْرِ سُواءٍ} أي آفة كبرص ونحوه.
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى} خبر مبتدأ محذوف أي هما داخلتان في جملتها فتكون الآيات تسعاً بالعصا واليد وهنّ العصا واليد البيضاء والجدب في البوادي ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
{إِلَى فِرْعَوْنَ} أي : حال كونك مبعوثاً إليه {وَقَوْمِهِ} القبط {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَـاسِقِينَ} تعليل للبعث ، أي خارجين عن الحدود في الكفران والعدوان.
{فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَاتُنَا} التسع بأن جاءهم موسى بها وظهرت على يده حال كونها.
{مُبْصِرَةً} مستنيرة واضحة اسم فاعل أطلق على المفعول إشعاراً بأنها لفرط إنارتها ووضوحها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر.
{قَالُوا هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} واضح سحريته.
يعني (همه كس داندكه اين سحر است).
{وَجَحَدُوا بِهَا} كذبوا بألسنتهم كونها آيات إلهية.
والجحود إنكار الشيء بعد المعرفة والإيقان تعنتاً وأريد هنا التكذيب لئلا يلزم استدراك قوله : {وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ} الواو للحال.
والاستيقان : (بي كما ن شدن) أي وقد علمتها أنفسهم أي قلوبهم وضمائرهم علماً يقيناً أنها من عند الله وليست بسحر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 324
قال أبو الليث : وإنما استيقنتها قلوبهم لأن كل آية رأوها استغاثوا بموسى وسألوا منه بأن يكشف عنهم فكشف عنهم فظهر لهم بذلك أنها من الله تعالى.
{ظُلْمًا} نفسانياً علة لجحدوا {وَعُلُوًّا} إباء واستكباراً شيطانياً.
{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ} (س بنكر يا محمد كه كونه بود) {عَـاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} وهو الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة.
وبالفارسية : (عاقبت كار تباه كاران كه در دنيا بآب غرقه شدند ودر عقبى بآتش خواهند سوخت).
هم حالت مفسدان خوش است
سر انجام أهل فساد آتش است
وفي هذا تمثيل لكفار قريش إذ كانوا مفسدين مستعلين فمن قدر على إهلاك فرعون كان قادراً على إهلاك من هو على صفته وذلك إلى يوم القيامة فإن جلال الله تعالى دائم للأعداء كما أن جماله باق للأولياء مستمر في كل عصر وزمان.
فعلى العاقل أن يتعظ بحال غيره ويترك الأسباب المؤدية إلى الهلاك مثل الظلم والعلو الذي هو من صفات النفس الأمارة ويصلح حاله بالعدل والتواضع وغير ذلك مما هو من ملكات القلب.
والإشارة في الآية إلى أن الذين أفسدوا استعداد الإنسانية لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة كان عاقبتهم أنهم نزلوا منازل الحيوانات من الأنعام والسباع وقرنوا مع الشياطين في الدرك الأسفل من النار ، فانظر إلى أن الارتقاء إلى السؤدد صعب والانحطاط إلى الدناءة سهل إذ النفس والطبيعة كالحجر المرمي إلى الهواء تهوي إلى الهاوية فإذا اجتهد المرء في تلطيفها بالمجاهدات والرياضات تشرف
324
بالارتقاء في الدرجات وتخلص من الانحطاط إلى الدركات.
قال الحافظ :
بال بكشا وصفير از شجر طوبى زن
حيف باشد و تومرغي كه أسير قفسي
فما أقبح المرء أن يكون حسن جسمه باعتبار قبح نفسه كجنة يعمرها يوم وصرمة يحرسها ذئب وأن يكون اعتباره بكثرة ماله وحسن أثاثه كثور عليه حلي ففضل الإنسان بالهمم العالية والاتباع بالحق والأدب والعقل الذي يعقله عن الوقوع في الورطات بارتكاب المنهيات نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من القابلين لإرشاده والعاملين بكتابه المحفوظين عن عذابه المغبوطين بثوابه.
{وَلَقَدْ} أي وبالله قد {ءَاتَيْنَا} أعطينا {دَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ} أي : كل واحد منهما.
جزء : 6 رقم الصفحة : 324(6/236)
قال في "مشكاة الأنوار" : قالت نملة لسليمان عليه السلام : يا نبي الله أتدري لم صار اسم أبيك داود واسمك سليمان؟ قال : لا قالت : لأن أباك داوى قلبه عن جراحة الالتفات إلى غير الله فوّد وأنت سليم تصغير سليم آن لك أي حان لك أن تلحق بأبيك.
{عِلْمًا} أي : طائفة من العلم لائقة به من علم الشرائع والأحكام وغير ذلك مما يختص بكل منهما كصنعة لبوس وتسبيح الجبال ومنطق الطير والدواب فإن الله تعالى علم سبعة نفر سبعة أشياء : علم آدم أسماء الأشياء فكان سبباً في حصول السجود والتحية ، وعلم الخضر علم الفراسة فكان سبباً لأن وجد تلميذاً مثل موسى ويوشع.
وعلم يوسف التعبير فكان سبباً لوجدان الأهل والمملكة ، وعلم داود صنعة الدروع فكان سبباً لوجدان الرياسة والدرجة ، وعلم سليمان منطق الطير فكان سبباً لوجدان بلقيس.
وعلم عيسى الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل فكان سبباً لزوال التهمة عن الشر ، وعلم محمداً صلى الله عليه وسلّم الشرع والتوحيد فكان سبباً لوجود الشفاعة.
وقال الماوردي : المراد بقوله : {عِلْمًا} علم الكيمياء وذلك لأنه من علوم الأنبياء والمرسلين والأولياء العارفين كما قال حضرة مولانا قدس سره الأعلى :
از كرامات بلند أوليا
أولا شعرست وآخر كيميا
والكيمياء في الحقيقة القناعة بالموجود وترك التشوف إلى المفقود :
كيميايى ترا كنم تعليم
كه دراكسير ودر صناعت نيست
رو قناعت كزين كه در عالم
كيميايي به از قناعت نيست
قال في "كشف الأسرار" : (داود أز أنبياء بني إسرائيل بيود از فرزندان يهودا بن يعقوب وروز كاروي بعد از روز كار موسى بود بصد هفتاد ونه سال وملك وي بعد از ملك طالوت بود وبني إسرائيل همه يتبع وي شدند وملك بروي مستقيم كشت إينست رب العالمين كفت.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} (ص : 20) هرشب سي وهزار مرد از بزركان بني إسرائيل اورا حارس بودند وباوي ملك علم بود ونبوت نانكه كفت جل جلاله {ءَاتَيْنَا دَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ عِلْمًا} وحكم كه راندند وعمل كه كردند از احكام توراة كردنكه كتاب وي زبور همه موعظت بود دران أحكام أمر ونهى نبود).
قال ابن عطاء قدس سره : {عِلْمًا} أي علماً بربه وعلماً بنفسه وأثبت لهما علمهما بالله علم أنفسهما وأثبت لهما علمهما بأنفسهما حقيقة العلم بالله لذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 324
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : "من عرف نفسه فقد عرف ربه".
325
بروجود خداي عز وجل
هست نفس توحجت قاطع
ون بداني تونفس را داني
كوست مصنوع وايزدش صانع
واعلم أن العلم علمان علم البيان وهو ما يكون بالوسائط الشرعية وعلم العيان وهو ما يستفاد من الكشوفات الغيبية فالمراد بقوله عليه السلام : "سائل العلماء وخالط الحكماء وجالس الكبراء" أي : سائل العلماء بعلم البيان فقط عند الاحتياج إلى الاستفتاء منهم وخالط العلماء بعلم العيان فقط وجالس الكبراء بعلم البيان والأحكام وعلم المكاشفة والأسرار فأمر بمجالستهم لأن في تلك المجالسة منافع الدنيا والآخرة.
توخود بهتري جوي وفرصت شمار
كه باون خودي كم كنى روزكار
{وَقَالا} أي : كل واحد منهما شكراً لما أوتيه من العلم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا} بما آتانا من العلم.
{عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} على أن عبارة كل منهما فضلني إلا أنه عبر عنهما عند الحكاية بصيغة المتكلم مع الغير إيجازاً وبهذا ظهر حسن موقع العطف بالواو إذ المتبادر من العطف بالفاء ترتب حمد كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما لا على إيتاء ما أوتي نفسه فقط.
وقال البيضاوي : عطفه بالواو إشعاراً بأن ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة كأنه قال : ففعلا شكراً له ما فعلا وقالا الحمد إلخ انتهى والكثير المفضل عليه من لم يؤت مثل علمهما لا من لم يؤت علماً أصلاً فإنه قد بين الكثير بالمؤمنين وخلوهم من العلم بالكلية مما لا يمكن وفي تخصيصهما الكثير بالذكر رمز إلى أن البعض متفضلون عليهما.
وفيه أوضح دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه ما أوتيا من الملك الذي لم يؤته غيرهما وتحريض للعلماء على أن يحمدوا الله تعالى على ما آتاهم من فضله ويتواضعوا ويعتقدوا أنهم وإن فضلوا على كثير فقد فضل عليهم كثير وفوق كل ذي علم عليم ونعم ما قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كل الناس أفقه من عمر.
(6/237)
وفي الآية إشارة إلى داود الروح وسليمان القلب وعلمهما الإلهام الرباني وعلم الأسماء الذي علم الله آدم عليه السلام وحمدهما على ما فضلهما على الأعضاء والجوارح المستعملة في العبودية فإن شأن الأعضاء العبودية والعمل وشأن الروح والقلب العلم والمعرفة وهو أصل.
وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن أفضل الأعمال فقال : "العلم بالله والفقه في دينه" وكررهما عليه فقال : يا رسول الله أسألك عن العمل فتخبرني عن العلم فقال : "إن العلم ينفعك معه قليل العمل وإن الجهل لا ينفعك معه كثير العمل" والمتعبد بغير علم كحمار الطاحونة يدور ولا يقطع المسافة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 324
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : "من عرف نفسه فقد عرف ربه".
325
بروجود خداي عز وجل
هست نفس توحجت قاطع
ون بداني تونفس را داني
كوست مصنوع وايزدش صانع
واعلم أن العلم علمان علم البيان وهو ما يكون بالوسائط الشرعية وعلم العيان وهو ما يستفاد من الكشوفات الغيبية فالمراد بقوله عليه السلام : "سائل العلماء وخالط الحكماء وجالس الكبراء" أي : سائل العلماء بعلم البيان فقط عند الاحتياج إلى الاستفتاء منهم وخالط العلماء بعلم العيان فقط وجالس الكبراء بعلم البيان والأحكام وعلم المكاشفة والأسرار فأمر بمجالستهم لأن في تلك المجالسة منافع الدنيا والآخرة.
توخود بهتري جوي وفرصت شمار
كه باون خودي كم كنى روزكار
{وَقَالا} أي : كل واحد منهما شكراً لما أوتيه من العلم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا} بما آتانا من العلم.
{عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} على أن عبارة كل منهما فضلني إلا أنه عبر عنهما عند الحكاية بصيغة المتكلم مع الغير إيجازاً وبهذا ظهر حسن موقع العطف بالواو إذ المتبادر من العطف بالفاء ترتب حمد كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما لا على إيتاء ما أوتي نفسه فقط.
وقال البيضاوي : عطفه بالواو إشعاراً بأن ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة كأنه قال : ففعلا شكراً له ما فعلا وقالا الحمد إلخ انتهى والكثير المفضل عليه من لم يؤت مثل علمهما لا من لم يؤت علماً أصلاً فإنه قد بين الكثير بالمؤمنين وخلوهم من العلم بالكلية مما لا يمكن وفي تخصيصهما الكثير بالذكر رمز إلى أن البعض متفضلون عليهما.
وفيه أوضح دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه ما أوتيا من الملك الذي لم يؤته غيرهما وتحريض للعلماء على أن يحمدوا الله تعالى على ما آتاهم من فضله ويتواضعوا ويعتقدوا أنهم وإن فضلوا على كثير فقد فضل عليهم كثير وفوق كل ذي علم عليم ونعم ما قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كل الناس أفقه من عمر.
وفي الآية إشارة إلى داود الروح وسليمان القلب وعلمهما الإلهام الرباني وعلم الأسماء الذي علم الله آدم عليه السلام وحمدهما على ما فضلهما على الأعضاء والجوارح المستعملة في العبودية فإن شأن الأعضاء العبودية والعمل وشأن الروح والقلب العلم والمعرفة وهو أصل.
وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن أفضل الأعمال فقال : "العلم بالله والفقه في دينه" وكررهما عليه فقال : يا رسول الله أسألك عن العمل فتخبرني عن العلم فقال : "إن العلم ينفعك معه قليل العمل وإن الجهل لا ينفعك معه كثير العمل" والمتعبد بغير علم كحمار الطاحونة يدور ولا يقطع المسافة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 324
قال فتح الموصلي قدس سره : أليس المريض إذا منع عنه الطعام والشراب والدواء يموت فكذا القلب إذا منع عنه العلم والفكر والحكمة يموت ثم إن الامتلاء من الأغذية الظاهرة يمنع التغذي بالأغذية الباطنة كما قال الشيخ سعدي رحمه الله : (عابدي حكايت كنندكه هرشب ده من طعام بخوردي وتابسحر ختمي درنماز بكردي صاحب دلي بشنيد وكفت اكر نيم نان بخوردي وبختفي بسياء ازين فاضلتر بودي).
326
اندرون از طعام خالي دار
تادرو نور ومعرفت بيني
نهى از حكمتي بعلت آن
كه رى از طعام تابيني
وكذا العجب والكبر يمنع النور والصفاء كما قال في "البستان" :
تراكي بود ون راغ التهاب
كه از خود رى همو قنديل از آب
فإذا أصلح المرء ظاهره بالشريعة وباطنه بالطريقة كان مستعداً لفيض العلم الذي أوتوه الأنبياء والأولياء وفضلوا بذلك على مؤمني زمانهم وهذا التفضيل سبب لمزيد الحمد والشكر تعالى فإن الثناء بقدر الموهبة والعطية ، نحمد الله تعالى على آلائه ونعمائه ونستزيد العلم وقطراته من دأمائه ونسأله التوفيق في طريق التحقيق والثبات على العمل الصالح بالعلم النافع الذي هو للهوى قامع وللشهوات دافع إنه المفضل المنعم الكبير والوهاب الفياض الرحيم.
(6/238)
{وَوَرِثَ سُلَيْمَـانُ دَاوُادَ} أي : صار إليه العلم والنبوة والملك بعد موت أبيه دون سائر أولاده فسمي ميراثاً تجوزاً لأن حقيقة الميراث في المال والأنبياء إنما يرثون الكمالات النفسانية ولا قدر للمال عندهم قال عليه السلام لعلي رضي الله عنه : "أنت أخي ووارثي" قال : وما أرثك؟ قال : "ما ورث الأنبياء قبلي كتاب الله وسنتي".
وسأل بعض الأقطاب ربه أن يعطي مقامه لولده فقال له الحق في سره : مقام الخلافة لا يكون بالوراثة إنما ذلك في العلوم أو الأموال والمريد الصادق يرث من شيخه علوم الحقائق بعد كونه مستعداً لها فتصير تلك الحقائق مقاماته لذلك قال عليه السلام : "العلماء ورثة الأنبياء".
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن سليمان القلب يرث داود الروح فإن كل وارد وإلهام وإشارة ووحي وفيض رباني يصدر من الحضرة الإلهية يكون عبوره على الروح ومن كمال لطافته يعبر عنه فيصل إلى القلب لأن القلب بصفاته يقبله وبكثافته وصلابته يحفظه فلهذا شرف القلب على الروح ولذلك قال سلميان : أقضي من داود وقال عليه السلام : "يا وابصة استفت قلبك" ولم يقل : استفت روحك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 324
قال الكاشفي : (كويند داودرا نوزده سر بودند هريك داعيه ملك داشتند حق سبحانه وتعالى نامه مهر كرده از آسمان فرستاد ودرو ند مسئله يا دكرد وفر مودكه هركه ازاولادتو اين مسائل را جواب دهد بعد از تووارث ملك باشد داود فرزندانرا جمع كرد وأحباروأشراف را حاضر كردانيده ومسئلها برفرزندان عرض كردكه بكوييدكه.
نزديكترين يزها كدامست.
ودورترين اشيايست.
ورنكه انس بدو بيشترست كدامست.
وآنكه وحشت افزايد يست.
وكدامند دوقائم.
ودو مختلف.
ودو دشمن.
وكدام كارست كه آخر آن ستوده است.
وكدام أمر ست كه عاقبت آن نكوهيده است أولاد حضرت داود از جواب آن ستوده است.
وكدام أمرست كه عاقبت آن نكوهيده است أولاد حضرت داود از جواب رن عاجز رمدند سليمان فرمودكه كراجازت باشد من جواب دهم داود ويراد ستوري داد سليمان كفت.
اقرب اشيا بآدمي موتست.
وابعد اشيا آنجه ميكدردازدنيا.
وآنكه اسن بدو بيشرست جسد انسانست باروح.
واوحش اشيا بدن خالي ازروح.
أما قائمان ارض وسما اند.
ومختلفان ليل ونهار.
ومتباغضان موت وحيات.
وكاريكه آخرش محمود است حلم در وقت خشم.
وكاري كه عاقبتش مذموم است حدت دروقت غضب وون جواب مسائل موافف كتاب منزل بود أكابر
327
بني إسرائيل بفضل وكمال سليمان معترف شدند وداو ملك را بدو تسليم كرد وديكر روزوفات كرد وسليمان برتخت نشست) {وَقَالَ} تشهيراً لنعمة الله تعالى ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزات الباهرة التي أوتيها أي لا فخراً وتكبراً.
قال البقلي : إن سلميان عليه السلام أخبر الخلق بما وهبه الله لأن المتمكن إذا بلغ درجة التمكين يجوز له أن يخبر الخلق بما عنده من موهبة الله لزيادة إيمان المؤمنين وللحجة على المنكرين قال تعالى : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى : 11) يا اأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} النون نون الواحد المطاع على عادة الملوك فإنهم متكلمون مثل ذلك رعاية لقاعدة السياسة لا تكبراً وتجبراً وكذا في أوتينا.
وقال بعضهم : علمنا أي أنا وأبي وهذا ينافي اختصاص سليمان بفهم منطق الطير على ماهو المشهور والمنطق والنطق في التعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفرداً أو مركباً وقد يطلق على كل ما يصوّت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد يقال : نطقت الحمامة إذا صوتت.
قال الإمام الراغب : النطق في التعارف الأصوات المقطعة التي يظهرها اللسان وتعيها الآذان ولا يكاد يقال إلا للإنسان ولا يقال لغيره إلا على سبيل التبع نحو الناطق والصامت فيراد بالناطق ماله صوت وبالصامت ما لا صوت له ولا يقال للحيوانات ناطق إلا مقيداً أو على طريق التشبيه وسميت أصوات الطير منطقاً اعتباراً بسليمان الذي كان يفهمه فمن فهم من شيء معنى فذلك الشيء بالإضافة إليه ناطق وإن كان صامتاً وبالإضافة إلى من لا يفهم عنه صامت وإن كان ناطقاً والطير جمع طائر كركب وراكب وهو كل ذي جناح يسبح في الهواء ويجري وكان سليمان يعرف نطق الحيوان غير الطير أيضاً كما يجيء من قصة النمل لكنه أدرج هذا في قوله : {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ} وخص منطق الطير لشرف الطير على سائر الحيوان.
جزء : 6 رقم الصفحة : 324
ومعنى الآية علمنا فهم ما يقوله كل طائر إذا صوت.
وبالفارسية : (أي مردمان آموخته شديم ما كفتار مرغانراكه ايشان ه ميكوينيد) وكل صنف من أصناف الطير يتفاهم أصواته.
يعني (هرجماعتي را از طيور آو ازيست كه جزنوع إنسان ازان فهم معاني وأغراض نكند) والذي علمه سليمان من منطق الطير هو ما يفهمه بعضه من بعض من أغراضه.
قال في "إنسان العيون" : وهذا في طائر لم يفصح العبارة وإلا فقد سمع من بعض الطيور الإفصاح بالعبارة فنوع من الغربان يفصح بقوله الله حق.
(6/239)
وعن بعضهم قال : شاهدت غراباً يقرأ سورة السجدة وإذا وصل محل السجود سجد وقال : سجد لك سوادي وآمن بك فؤادي.
والدرة تنطق بالعبارة الفصيحة وقد وقع لي أني دخلت منزلاً لبعض أصحابنا وفيه درة لم أرها فإذا هي تقول : مرحباً بالشيخ البكري وتكرر ذلك وعجبت من فصاحة عبارتها انتهى.
حكي : أن رجلاً خرج من بغداد ومعه أربعمائة درهم لا يملك غيرها فوجد في طريقه أفراخ زريات وهو أبو زريق فاشتراها بالمبلغ الذي كان معه ثم رجع إلى بغداد فلما أصبح فتح دكانه وعلق الأفراخ عليها فهبت ريح باردة فماتت كلها إلا فرخاً واحداً كان أضعفها وأصغرها فأيقن الرجل بالفقر فلم يزل يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء ليله كله يا غياث المستغيثين أغثني فلما أصبح زال البرد وجعل ذلك الفرخ ينفش ريشه ويصيح بصوت فصيح يا غياث المستغيثين أغثني فاجتمع الناس عليه يسمعون صوته
328
فاجتازت أمة لأمير المؤمنين فشرته منه بألف درهم كذا في "حياة الحيوان".
قال الإمام الدميري : أبو زريق هو القنق وهو طائر على قدر اليمامة وأهل الشام يسمونه زريق وهو ألوف للناس فيه قبول للتعليم وسرعة إدراك لما تعلم ـ ـ ويحكى ـ أن سليمان عليه السلام مر على بلبل في شجرة يتصوت ويترقص أي يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول؟ فقالوا : الله أعلم ونبيه قال : يقول : إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء أي التراب والدروس ، وبالفارسية : (خاك برسر دنيا) ولعله كان صوت البلبل عن شبع وفراغ بال.
وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ولعله كان صياحها عن مقاساة شدة وتألم قلب.
وصاح طاوس فقال : يقول : كما تدين تدان.
وصاح هدهد فقال : يقول : استغفروا الله يا مذنبون.
وهكذا صاح الصرد فمن ثمة نهى رسول الله عن قتله وهو طائر فوق العصفور يصيد العصافير وغيرها لأن له صفيراً مختلفاً يصفر لكل طائر يريد صيده بلغته فيدعوه إلى القرب منه فإذا قرب منه قصمه من ساعته وأكله.
وفي بعض الروايات يقول الهدهد : من لا يرحم لا يرحم وقد يجمع بينه وبين ما تقدم بأنه يجوز أن يقول تارة هذا وأخرى ما تقدم.
وصاح طيطوى فقال : يقول : كل حي ميت وكل جديد بال ونسبه في "كشف الأسرار" إلى الطوطي.
وصاح خطاف فقال : يقول : قدموا خيراً تجدوه وفي "الكشف" : إذا صاح الخطاف قرأ الحمد رب العالمين ويمد الضالين كما يمدها القارىء وهو بضم الخاء المعجمة كرمان جمعه خطاطيف وسمى زوار الهند وهو من الطيور القواطع إلى الناس يقطع البلاد البعيدة إليهم رغبة في القرب منهم وهذا الطائر يعرف عند الناس بعصفور الجنة لأنه زهد عما في أيديهم من الأقوات فأحبوه لأنه إنما يتقوّت من البعوض والذباب.
وصاح القمريّ فقال : يقول : سبحان ربي الأعلى.
وصاح رخمة أو حمامة فأخبر أنها تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه والرخمة طائر أصم أبكم لا يسمع ولا يتكلم ولذلك قالوا : إن أطول الطير أعماراً الرخم فالسلامة والبركة في العمر في حفظ اللسان.
وقال : الحدأة تقول : كل شيء هالك إلا الله وهو بالفارسية (زغن وغليواج) قال : خسرو دهلوي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 324
بهراين مردار ندت كاه زاري كاه زو
ون غليواجي كه شش مه ماده وشش مه نرست
والقطاة تقول : من سكت سلم وهي طائر معروف قدر اليمام ويشبهه سميت بحكاية صوتها لأنها تقول : قطاقطا قال ابن ظفر : القطا طائر يترك فراخه ثم يطلب الماء من مسيرة عشرة أيام وأكثر فيرده فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ثم يرجع فلا يخطىء لا صادراً ولا وارداً أي ذهاباً وإياباً ولذا يضرب به المثل فيقال : "أهدى من قطاة".
والببغا يقول : ويل لمن كانت الدنيا همه والمراد به الطوطي وهو طائر أخضر.
قال الكاشفي : (وباز ميكويد سبحان ربي العظيم وبحمده).
قال في "حياة الحيوان" : البازي لا تكون إلا أنثى وذكرها من نوع آخر الحدأة والشاهين ولهذا اختلف أشكالها وهو من أشد الحيوان تكبراً وأضيقها خلقها (وهزار دستان ميكويد) سبحان الخالق الدائم والديك يقول : اذكروا الله يا غافلون.
دلا برخيز وطاعت كن كه طاعت به زهر كارست
سعادت آن كسي داردكه وقت صبح بيدارست
خروسان در سحر كويند قم يا أيها الغافل
توازمتسي نمي داني كسي داندكه هشيارست
329
(6/240)
وكان له عليه السلام ديك أبيض وفي الحديث : "الديك الأبيض صديقي وصديق صديقي وعدو عدوي" كما "الوسيط" وهو يصيح عند رؤية الملك كما أن الحمار ينهق عند رؤية الشيطان.
والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت وفي هذا مناسبة لما خص النسر به من طول العمر يقال أنه يعمر ألف سنة وهو أشد الطير طيراناً وأقواها جناحاً حتى أنه يطير ما بين المشرق والمغرب في يوم واحد وليس في سباع الطير أكبر جثة منه وهو عريف الطير كما في "حياة الحيوان".
والعقاب يقول : في البعد عن الناس أنس.
والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس أو سبحان المعبود في لجج البحار.
وحكي : أن نبي الله داود عليه السلام ظن في نفسه أن أحداً لم يمدح خالقه بأفضل مما مدحه فأنزل الله عليه ملكاً وهو قاعد في محرابه والبركة إلى جنبه فقال : يا داود افهم ما تصوت به الضفادع فأنصت إليها فإذا هي تقول : سبحانك وبحمدك منتهى علمك فقال له الملك : كيف ترى؟ قال : والذي جعلني نبياً إني لم أمدحه بهذا.
وعن أنس رضي الله عنه : لا تقتلوا الضفادع فإنها مرت بنار إبراهيم عليه السلام فحملت في أفواهها الماء وكانت ترشه على النار.
ونهى النبي عليه السلام عن قتل خمسة "النملة والنحلة والضفدع والصرد والهدهد".
ويقول الورشان : لدوا للموت وابنوا للخراب وهذه لام العاقبة قيل : الورشان طائر يتولد بين الفاختة والحمامة ويوصف بالحنو على أولاده حتى أنه ربما قتل نفسه إذا وجدها في يد القابض.
ويقول الدراج : الرحمن على العرش استوى.
ويقول القنبر : اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد.
ويقول الحمار : اللهم العن العشار وأسند هذا إلى الغراب في بعض الروايات.
ويقول الفرس إذا التقى الصفان : سبوح قدوس رب الملائكة والروح.
ويقول الزرزور : اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق وهو بضم الزاي طائر صغير من نوع العصفور سمي بذلك لزرزرته أي لصوته.
وقال مولانا قدس سره في بعض كلماته :
جزء : 6 رقم الصفحة : 324
شيخه مرغانست لك لك لك لكش داني كه يست
الحمد لك والأمر لك والملك لك يا مستعان
قال سليمان عليه السلام : ليس من الطيور أنصح لبني آدم وأشفق عليهم من البومة تقول إذا وقعت عند حربة : أين الذين كانوا يتنعمون في الدنيا ويسعون فيها ويل لبني آدم كيف ينامون وأمامهم الشدائد تزودوا يا غافلون وتأهبوا لسفركم.
قال الحافظ :
دع التكاسل تغنم فقد جرى مثل
كه زاد راهروان ستيست والاكي
قال مقاتل : كان سليمان عليه السلام جالساً إذ مر به طير يصوت فقال لجلسائه : هل تدرون ما يقول هذا الطائر الذي مر بنا؟ قالوا : أنت أعلم قال سليمان : إنه قال لي السلام عليك أيها الملك المسلط على بني إسرائيل أعطاك الله الكرامة وأظهرك على عدوك إني منطلق إلى فروخي ثم أمرّ بك الثانية وإنه سيرجع إلينا الثانية فانظروا إلى رجوعه قال : فنظر القوم إذ مرّ بهم فقال : السلام عليك أيها الملك إن شئت ايذن لي كما اكتسب على فروخي حتى أشبعها ثم آتيك فتفعل بي ما شئت فأخبرهم سليمان بما قال فأذن له.
وفي "عرائس البيان" : اعلم أن أصوات الطيور والوحوش وحركات الأكوان جميعاً هي خطاب من الله للأنبياء والمرسلين والأولياء
330
العارفين يفهمونها من حيث أحوالهم ومقاماتهم فالأنبياء والمرسلون يعرفون لغاتها ومعانيها بعينها وأما الأولياء فإنما يعرفونها بغير لغاتها يعني يفهمون من أصواتها ما يتعلق بحالهم بما يقع في قلوبهم من إلهام الله تعالى لا بأنهم يعرفون لغاتها بعينها.
والإشارة أن طيور الأرواح الناطقة في الأشباح تنطق بالحق من الحق ونطقها تلفظ الرموز والأسرار بلغة الأنوار ولا يسمعها إلا ذو فراسة صادقة قلبه وعقله شاهدان وألطف الإشارة علمنا منطق أطيار الصفات التي تعبر عن علوم الذات ومنطق أطيار أفعاله التي تخبر عن بطون حكم الأزليات.
قال أبو عثمان المغربي قدس سره : من صدق مع الله في جميع أحواله فهم عنه كل شيء أو فهم هو عن كل شيء وكما أن صوت الطبل مثلاً دليل يعرفون بسماعه وقت الرحيل والنزول فالحق سبحانه يخص أهل الحضور بفنون التعريفات من سماع الأصوات وشهود أحوال المرئيات مع اختلافها كما قيل :
إذا المرء كان له فكرة
ففي كل شيء له عبرة
{وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ} أراد كثرة ما أوتي به كما يقال : فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء ويراد به كثرة قصاده وغزارة علمه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 324
وقال الكاشفي : (وداده شديم يعني مارا عطا كردند هر يزي كه بدان محتاج بوديم).
وفي "كشف الأسرار" : يعني الملك والنبوة والكتاب والرياح وتسخير الجن والشياطين ومنطق الطير والدواب ومحاريب وتماثيل وجفان كالجواب وعين القطر وعين الصفر وأنواع الخير {إِنْ هَـاذَآ} المذكور من التعليم والإيتاء {لَهُوَ الْفَضْلُ} والإحسان من الله تعالى {الْمُبِينُ} الواضح الذي لا يخفى على أحد.
(6/241)
وفي "الوسيط" : لهو الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا قاله على سبيل الشكر والحمد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" أي أقول هذا القول شكراً لا فخراً.
قيل : أعطي سليمان ما أعطي داود وزيد له تسخير الجن والريح وفهم نطق الطير وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة التي يتمنع بها الناس وملك سبعمائة سنة وستة أشهر.
ولما تولى الملك جاءه جميع الحيوانات يهنئونه إلا نملة واحدة فجاءت تعزيه فعاتبها النمل في ذلك فقالت : كيف أهنيه وقد علمت أن الله إذا أحب عبداً زوى عنه الدنيا وحبب إليه الآخرة وقد شغل سليمان بأمر لا يدري ما عاقبته فهو بالتعزية أولى من التهنئة ذكره السيوطي في "فتاواه".
قال عمر رضي الله عنه للنبي عليه السلام : أخبرني عن هذا السلطان الذي ذلت له الرقاب وخضعت له الأجساد ما هو؟ فقال : "ظل الله في الأرض فإذا أحسن فله الأجر وعليكم الشكر وإذا أساء فعليه الإصر وعليكم الصبر".
وسأل يزدرد حكيماً : ما صلاح الملك؟ قال : الرفق بالرعية وأخذ الحق منها بغير عنف والتودد إليها بالعدل وأمن السبل وإنصاف المظلوم.
قال الشيخ سعدي :
رعيت نشايد ببيداد كشت
كه مر سلطنت را ناهند وبشت
مراعاة دهقان كن از بهر خويش
كه مزدور خوشدل كند كاربش
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَـانَ جُنُودُهُ} الحشر إخراج الجماعة من مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب وغيرها فلا يقال : الحشر إلا في الجماعة كما في "المفردات".
والحشر (كردكردن) كما في "التاج" والجنود
331
جمع الجند يقال للعسكر الجند اعتباراً بالغلظ من الجند للأرض الغليظة التي فيها حجارة ثم يقال لكل مجتمع جند نحو الأرواح جنود مجندة.
قال في "كشف الأسرار" : الجند لا يجمع وإنما قال : جنوده لاختلاف أجناس عساكره.
{مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ وَالطَّيْرِ} فكل جنس من الخلق جند على حدة قال تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} (المدثر : 31) فالبعوض لنمرود جند والأبابيل لأصحاب الفيل جند والهدهد لعسكر عوج جند؟ والعنكبوت والحمامة لرسول الله عليه السلام جند وعلى هذا والمعنى أخرج لسليمان وجمع له عساكره في مسير وسفر كان له من الشام إلى طرف اليمن.
جزء : 6 رقم الصفحة : 324
وفي "فتح الرحمن" : من اصطخر إلى اليمن واصطخر بكسر الهمزة وفتح الطاء بلدة من بلاد فارس كانت دار السلطنة لسليمان عليه السلام من الجن والإنس والطير بمباشرة الرؤساء من كل جنس لأنه كان إذا أراد سفراً أمر فجمع له طوائف من هؤلاء الجنود وتقديم الجن للمسارعة إلى الإيذان بكمال قوة ملكه من أول أمر لما أن الجن طائفة طاغية بعيدة من الحشر والتسخير.
{فَهُمْ يُوزَعُونَ} الوزع بمعنى الكف والمنع عن التفرق والانتشار والوازع الذي يكف الجيش عن التفرق والانتشار ويكف الرعية عن التظالم والفساد وجمعه وزعة.
والمعنى يحبس أوائلهم على أواخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا ولا ينتشروا كماهو حال الجيش الكثير وكان لكل صنف من جنوده وزعة ومنعة ترد أولاهم على أخراهم صيانة من التفرق.
(ودرين أشارت هست كه إيشان باوجود كثرت عدد مهمل وبريشان نبودند بلكه ضبط وربط إيشان بمرتبه بودكه هيكس ازلشكريان از مقر مقرر خود يش وس نتوانستي رفت) ويجوز أن يكون ذلك لترتيب الصفوف كما هو المعتاد كما قال في "المختار" : الوازع الذي يتقدم الصف فيصلحه ويقدم ويؤخر وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر دون سوق أواخرهم مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضاً لما أن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع وهو إذا لم يسيرهم بتسيير الريح في الجو.
وفي "كشف الأسرار" : {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يكفون عن الخروج والطاعة ويحبسون عليها وهو قوله تعالى : {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} (سبأ : 12) انتهى.
روي : أن معسكره عليه السلام كان مائة فرسخ في مائة خمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون للوحش وكان له ألف بيت من القوارير مصنوعة على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة سبعمائة سرية وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم فرسخاً في فرسخ وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فتقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر ـ ويروى ـ أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ويأمر الرخاء تسيره فأوحى الله تعالى إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد زدت في ملكك أن لا يتكلم بشيء إلا ألقته الريح في سمعك فيحكى أنه مرّ بحراث فقال : لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال : إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر
332
(6/242)
عليه ثم قال : لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود ومرج سليمان بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال : هذه دار هجرة نبي في آخر الزمان طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه وطوبى لمن اقتدى به.
جزء : 6 رقم الصفحة : 324
{حَتَّى} ابتدائية وغاية للسير المنبىء عنه قوله : {فَهُمْ يُوزَعُونَ} كأنه قيل فساروا حتى {إِذَآ أَتَوْا} أشرفوا {عَلَى وَادِ النَّمْلِ} وأتوه من فوق.
وقال بعضهم : تعدية الفعل بكلمة على لما أن المراد بالإتيان عليه قطعه من قولهم أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره ولعلهم أرادوا أن ينزلوا عند منتهى الوادي إذ حينئذ يخافهم ما في الأرض لا عند مسيرهم في الهواء كما في "الإرشاد" وسيجيء غير هذا.
والوادي الموضع الذي يسيل في الماء.
والنمل معروف الواحدة نملة.
بالفارسية (مور) سميت نملة لتنملها وهي كثرة حركتها وقلة قوائمها ومعنى وادي النمل وادٍ يكثر فيه النمل كما يقال : بلاد الثلج يكثر فيه الثلج والمراد هنا واد بالشام أو بالطائف كثير النمل والمشهور أنه النمل الصغير وقيل : كان نمل ذلك المكان كالذئاب والبخاتي ولذا قال بعضهم : في وادي النمل هو واد يسكنه الجن والنمل مراكبهم.
{قَالَتْ نَمْلَةٌ يا اأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ} جواب إذا كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت منهم فصاحت صيحة نبهت بها سائر النمال الحاضرة فتبعتها في الفرار فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم حيث جعلت هي قائلة وما عداها من النمل مقولاً لهم مع أنه لا يمتنع أن يخلق الله فيها النطق وفيما عداها العقل والفهم.
وكانت نملة عرجاء لها جناحان في عظم الديك أو النعجة أو الذئب وكانت ملكة النمل.
يعني : (مهتر مور كان آن وادي بود) واسمها منذرة أو طاخية أو جرمى سميت بهذا الاسم في التوراة أو في الإنجيل أو في بعض الصحف الإلهية سماها الله تعالى بهذا الاسم وعرفها به الأنبياء قبل سليمان وخصت بالتسمية لنطقها وإلا فكيف يتصور أن يكون للنملة اسم علم والنمل لا يسمي بعضهم بعضاً ولا يتميز للآدميين صورة بعضهم من بعض حتى يسمونهم ولا هم واقعون تحت ملك بني آدم كالخيل والكلاب ونحوهما كما في كتاب "التعريف والأعلام" للسهيلي رحمه الله.
ونملة مؤنث حقيقي بدليل لحوق علامة التأنيث فعلها لأن نملة تطلق على الذكر والأنثى فإذا أريد تمييزها احتيج إلى مميز خارجي نحو نملة ذكر ونملة أنثى وكذلك لفظة حمامة ويمامة من المؤنثات اللفظية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 333
ذكر الإمام أن قتادة دخل الكوفة فالتفت عليه الناس فقال : سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة حاضراً وهو غلام حدث فقال : سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى فسألوه فأفحم فقال أبو حنيفة : كانت أنثى فقيل له : من أين عرفت؟ فقال : من كتاب الله وهو قوله : {قَالَتْ نَمْلَةٌ} ولو كان ذكراً لقال : قال نملة وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي ولا يجوز أن يقال : قامت طلحة ولا حمزة.
{لا يَحْطِمَنَّكُمْ} لا يكسرنكم فإن الحطم هو الكسر وسمي حجر الكعبة الحطيم لأنه كسر منها {سُلَيْمَـانُ وَجُنُودُهُ} الجملة استئناف أو بدل من الأمر لا جواب له فإن النون لا تدخله في السعة وهو نهي لهم عن الحطم والمراد نهيها عن التوقف والتأخر في دخول مساكنهم بحيث يحطمونها : يعني : (بحيثيتي كه عرضه تلف شوند).
فإن قلت :
333
بم عرفت النملة سليمان؟.
قلنا : كانت مأمورة بطاعته فلا بد أن تعرف من أمرت بطاعته ولها من الفهم فوق هذا فإن النمل تعرف كثيراً من منافعها من ذلك أنها تكسر الحبة قطعتين لئلا تنبت إلا الكزبرة فإنها تكسرها أربع قطع لأنها تنبت إذا كسرت قطعتين وإذا وصلت النداوة إلى الحبة تخرجها إلى الشمس من حجرها حتى تجف.
قال في "حياة الحيوان" : النمل لا يتلاحق ولا يتزاوج إنما يسقط مه شيء حقير في الأرض فينمو حتى يصير بيظاً ثم يتكون منه والبيض كله بالضاد إلا بيظ النمل فإنه بالظاء.
{وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} حال من فاعل يحطمنكم أي والحال أنهم لا يشعرون أنهم يحطمونكم إذ لو شعروا لم يفعلوا أي أن من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده أنهم لا يحطمون نملة فما فوقها إلا أن لا يشعروا كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والأذى الأعلى سبيل السهو نظير قول النملة في جند سليمان وهم لا يشعرون قول الله تعالى في جند محمد عليه السلام.
{فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةُا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الفتح : 25) التفاتاً إلى أنهم لا يقصدون ضرر مؤمن إلا أن المثنى على جند سليمان هو النملة بإذن الله والمثنى على جند محمد هو الله بنفسه لما لجند محمد من الفضل على جند غيره من الأنبياء كما كان لمحمد الفضل على جميع النبيين عليهم السلام (آورده اندكه باد اين سخن را ازسه ميل راه بسمع سليمان رسانيد).
(6/243)
جزء : 6 رقم الصفحة : 333
{فَتَبَسَّمَ} التبسم أول الضحك ، وهو ما لا صوت له أي تبسم حال كونه {ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا} شارعاً في الضحك من قولها وآخذاً فيه أراد أنه بالغ في تبسمه حتى بلغ نهايته التي هي أول مراتب الضحك فهو حال مقدرة أو مؤكدة على معنى تبسم متعجباً من حذرها وتحيرها واهتدائها إلى مصالحها ومصالح بني نوعها ، فإن ضحك الأنبياء التبسم والإنسان إذا رأى أو سمع ما لا عهد له به يتعجب ويبتسم.
قال بعضهم : ضحك سليمان كان ظاهره تعجباً من قول النملة وباطنه فرحاً بما أعطاه الله من فهم كلام النملة وسروراً بشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة فيما بين أصناف المخلوقات فإنه لا يسر نبي بأمر دنيا وإنما كان يسر بما كان من أمر الدين.
روي : أنها أحست بصوت الجنود ولم تعلم أنهم في الهواء أو على الأرض ولذا خافت من الحطم فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن.
وقال في "الوسيط" : هذا أي قوله : وهم لا يشعرون يدل على أن سليمان وجنوده كانوا ركباناً ومشاة على الأرض ولم تحملهم الريح لأن الريح لو حملتهم بين السماء والأرض ما خافت النمل أن يطأوها بأرجلهم ولعل هذه القصة كانت قبل تسخير الله الريح لسليمان انتهى وروى أن سليمان لما سمع قول النملة قال : ائتوني بها فأتوا بها (كفت أي موره ندانسيتي كه لشكر من ستم نكنند كفت دانستم أما مهتراين قومم مرا ازنصيحت ايشان اره نيست كفت لشكر من برهوا بودنه كونه قوم ترا ايمال كردندني جواب دادكه غرض من آن نبودكه برزمين شكسته شوندمراد من آن بودكه ناكاه نظر بركبكبه ودبدبه توكنند وبنظاره لكشر تومشغلو شده از دكر خداي تعالى بازمانند ودرميدان غفلت ايمال خذلان كردندن مملكت توبينند وآرزوي دردينيا دردل ايشان بديد آيد ودنيا مبغوضه حق است) فقال لها سليمان : عظيني فقالت : أعلمت لم سمي أبوك داود قال : لا قالت : لأنه داوى جراحة قلبه وهل تدري لم سميت سليمان؟ قال : لا قالت : لأنك سليم الصدر والقلب (در كشفت الأسرار آورده كه سليمان ازوى رسيدكه
334
لشكر توند است كفت من هار هزار سرهنك دارم زير دست هريكي هل هزار نقيب است وزيردست هرنقيبي هل هزارمور كفت را لشكر خودرا بيرون نياري جواب دادكه يا نبي الله مارا روى زمين ميدادندا اختيار نكرديم ودر زير زمين جاي كرفتيم تابجز خداي تعالى حال مارا ندادند آنكه كفت أي يغمبر خدا ازعاطاها كه خداي تعالى تراداده يكي بكو كفت بادرا مركب من ساخته اند.
{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} (سبأ : 12) كفت داني كه اين ه معنى دارد يعني هره ترادادم از مملكت دنيا همه ون بادست در آيد ونيايد "فمن اعتمد على الدنيا فكإنما اعتمد على الريح" ودرين معنى شيخ سعدى كفته :
جزء : 6 رقم الصفحة : 333
ثه برباد رفتى سحر كاه وشام
سرير سلميان عليه السلام
بآخر نديدي كه برباد رفت
خنك آنكه بادانش ودادرفت
سليمان عليه السلام بعد از استماع اينكلام روى بمناجات ملك علام كرد وكفت) {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} همزة أوزع للتعدية.
والوزع بمعنى الكف والمنع من التفرق والانتشار كما سبق.
والمعنى اجعلني ازع شكر نعمتك عندي واكفه واربطه لا ينفلت عني بحيث لا أنفك عن شكرك أصلاً.
سأل عليه السلام أن يجعله الله وازعاً لجيش شكره فتشبيه الشكر بالجماعة النافرة استعارة مكنية وإثبات الوزع والربط تخييل وقرينة لذلك التشبيه وفي الحديث : "النعمة وحشية قيدوها بالشكر" فإنها إذا شكرت قرت وإذا كفرت فرت.
ومن كلمات أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه : إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر ، أي من لم يشكر النعم الحاصلة لديه حرم النعم البعيدة عنه.
ون بيابي تونعمتي ورند
خردباشد و نقطه موهوم
شكر آن يافته فرو مكدار
كه زنايافته شوى محروم
{الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ} من العلم والنبوة والملك والعدل وفهم كلام الطير ونحوها.
{وَعَلَى وَالِدَىَّ} أي على والدي داود بن إيشا بالنبوة وتسبيح الجبال والطير معه وصنعة اللبوس وإلانة الحديد وغيرها وعلى والدتي بتشايع بنت اليائن كانت امرأة أوريا التي امتحن بها داود وهي امرأة مسلمة زاكية طاهرة وهي التي قالت له : يا بني لا تكثرن النوم بالليل فإنه يدع الرجل فقيراً يوم القيامة كذا في "كشف الأسرار" وأدرج ذكر والديه فإن الإنعام عليهما إنعام عليه مستوجب للشكر ضرورة أن انتساب الابن إلى أب شريف نعمة من الله تعالى
335
على ابن فيشكر بتلك النعمة.
والإشارة قال سليمان القلب : أنعمت علي وعلى والدي الروح بإفاضة الفيض الرباني وعلى والدتي الجسد باستعماله في أركان الشريعة وبهذين الأمرين تكمل النعمة اللهم اجعلنا منعمين شاكرين.
{وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاـاهُ} تماماً للشكر واستدامة للنعمة.
ومعنى ترضاه بالفارسية : (سندي آنرا).
(6/244)
قال أبو الليث : يعني تقبله مني {وَأَدْخِلْنِى} الجنة {بِرَحْمَتِكَ} فإنه لا يدخل الجنة أحد إلا بالرحمة والفضل لا بالعمل {فِى عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ} في جملتهم وهم الأنبياء ومن تبعهم في الصلاح مطلقاً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 333
قال ابن الشيخ : الصلاح الكامل هو أن لا يعصي الله تعالى ولا يهم بمعصية وهو درجة عالية يطلبها كل نبي وولي وإصلاح الله تعالى الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحاً وتارة بإزالة ما فيه من الفساد والأول أعز وأندر ولذلك جاءت أوائل الأحوال لأكثر الرجال متكدرة مشوبة وبالحجب الكثيرة مصحوبة.
(دربحر الحقائق آورده كه تشبيه كند وادي نمل را بهواي نفس حريص بردنيا ونمله منذره رابنفس لوامه وسليمان را بقلب ومساكن را بحواس خمسه) فعلى العاقل أن يكون عالي الهمة على مشرب سليمان كما يدل عليه سيره في جو الهواء فإنه بعد عن الأرض وما تحويه قرب من السماء ومعاليه وإنما التفت إلى النملة تواضعاً كما قال الحافظ :
نظر كردن بدرويشان منافىء بزركى نيست
سليمان بانين حشمت نظرها بودبامورش
ومن يكن من أطيار هواء العشق فإنه يفهم ألسنة الطير ومن لم ير سليمان الوقت كيف أدرك معنى الصوت :
ون نديدي دمي سليمانرا
توه داني زبان مرغانرا
والمراد بسليمان هو المرشد الكامل الذي بيده خاتم الحقيقة وبه يحفظ أقاليم القلوب ويطلع على أسرار الغيوب فالكل ينقاد له إما طوعاً أو كرهاً والذي ينقاد كرهاً هو كالشياطين فلا بد من معرفة إمام الوقت والانقياد له طوعاً كما قال عليه السلام : "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية".
ثم إن سليمان عليه السلام دعا بالثبات على الشكر والصلاح وختمه بسؤال الجنة كما فعل آباؤه الأنبياء الكرام وهو لا ينافي عصمته وكونه مأمون الغائلة بالنسبة إلى الخاتمة.
وفيه إرشاد للأمة أن يكونوا على حالة حسنة من الشريعة ومرتبة مرضية من الطريقة ومنصب شريف من المعرفة ومقام عال من الحقيقة فإن من لم ينضم إلى معرفته الشريعة ومعاملة العبودية فهو مع الهالكين الفاسقين في الدنيا والآخرة لا مع الأحياء الصالحين في الأمور الباطنة والظاهرة نسأل الله سبحانه أن يوفقنا للأعمال المرضية والأحوال الحسنة ويحلينا بخلع الزهد والتقوى وغيرها من الأمور المستحسنة إنه بالإجابة جدير وهو على كل شيء قدير.
جزء : 6 رقم الصفحة : 333
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} .
قال في "القاموس" : تفقده طلبه عن غيبة.
وفي "كشف الأسرار" : التفقد طلب المفقود وإنما قيل له التفقد لأن طالب الشيء يدرك بعضه ويفقد بعضه.
وفي "المفردات" : التفقد التعهد لكن حقيقة التفقد تعرف فقدان الشيء والتعهد تعرف العهد المقدم.
والطير اسم جامع للجنس كما في "الوسيط" والمعنى وتعرف سليمان أحوال الطير ولم ير الهدهد فيما بينها وكان رئيس الهداهد واسمه يعفور {فَقَالَ مَالِيَ} أي أي شيء حصل لي حال كوني {لا أَرَى الْهُدْهُدَ} لساتر ستره أو لشيء آخر ثم بدا له أن كان غائباً فأضرب عنه فأخذ يقول : {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآاـاِبِينَ} بل أهو غائب فأم منقطعة مقدرة ببل والهمزة.
وبالفارسية (يست مراكه درخيل طير نمى بينم هدهد را يا شم من يروي نمى افتد ياهست ازغائب شد كان زين جمع).
وفي "الوسيط" ما لي لا أرى الهدهد أي ما للهدهد لا أراه تقول العرب : ما لي أراك كئيباً معناه مالك ولكنه من القلب الذي يوضحه المعنى.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الواجب على الملوك التيقظ في مملكتهم وحسن قيامهم وتكفلهم بأمور رعاياهم وتفقد أصغر رعيتهم كما يتفقدون أكبرها بحيث لم يخف عليهم غيبة الأصاغر والأكابر منهم كما أن سليمان عليه السلام تفقد حال أصغر
336
طير من الطيور ولم يخف عليه غيبته ساعة ثم غاية شفقته على الرعية أحال النقص والتقصير إلى نفسه فقال : {مَالِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} وما قال : ما للهدهد لم أره لرعاية مصالح الرعية وتأديبهم قال : {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآاـاِبِينَ} يعني من الذين غابوا عني بلا إذني.
وفي "حياة الحيوان" : الهدهد منتن الريح طبعاً لأنه يبني أفحوصه في الزبل وهذا عام في جنسه وإن بخر المجنون بعرف الهدهد أبرأه ولحمه إذا بخر به معقود عن المرأة أو مسحور أبرأه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 336
وفي "الفتاوى الزينية" : سئل عن أكل الهدهد أيجوز أم لا أجاب نعم يجوز انتهى.
ثم هدده إن لم يكن عذر لغيبته فقال :
{لاعَذِّبَنَّه عَذَابًا شَدِيدًا} العذاب الإيجاع الشديد وعذبه تعذيباً أكثر حبسه في العذاب أي لأعذبنه تعذيباً شديداً كنتف ريشه وإلقائه في الشمس أو حيث النمل تأكله أو جعله مع ضده في قفص وقد قيل : أضيق الشجون معاشرة الأضداد أو بالتفريق بينه وبين إلفه بالفارسية (جفت).
(6/245)
وقيل : لأزوجنه بعجوز كما في "إنسان العيون" أو لألزمنه خدمة أقران (يا ازخدمت خودش برآنم) كما قال في "التأويلات" : لأعذبنه بالطرد عن الحضرة والإسقاط عن عيني الرضى والقبول.
وفي "الأسئلة المقحمة" : ما معنى هذا الوعيد لمن لم يكن مكلفاً بشيء؟ والجواب هذا الوعيد بعذاب تأديب وغير المكلف يؤدب كالدابة والصبي وكان يلزمه طاعته فاستحق التأديب على تركها.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الطير في زمانه كانت في جملة التكليف ولها وللمسخرين لسليمان من الحيوان والجن والشياطين تكاليف تناسب أحوالهم ولهم فهم وإدراك وأحوال كأحوال الإنسان في قبول الأوامر والنواهي معجزة لسليمان عليه السلام.
{أَوْ لا اذْبَحَنَّهُ} لتعتبر به أبناء جنسه أو حتى لا يكون له نسل.
وفي "التأويلات" : أو لأذبحنه في شدة العذاب وأصل الذبح شق حلق الإنسان.
{أَوْ لَيَأْتِيَنِّى} أصله ليأتينني بثلاث نونان حذفت النون التي قبل ياء المتكلم {بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} بحجة تبين عذره : وبالفارسية.
(يايايد بمن بحجتي روشن كه سبب غيبت أو كردد) يشير إلى أن حفظ المملكة يكون بمال السياسة وكمال العدل فلا يتجاوز عن جرم المجرمين ويقبل منهم العذر الواضح بعد البحث عنه والحلف في الحقيقة على أحد الأولين على عدم الثالث فكلمة أو بين الأولين للتخيير وفي الثالث للترديد بينه وبينهما.
حكي : أنه لما أتم بناء بيت المقدس خرج للحج وأقام بالحرم ما شاء وكان يتقرب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة ثم عزم على المسير إلى اليمن فخرج من مكة صباحاً يؤم سهيلاً فوافى صنعاء اليمن وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضاً حسناء أعجبته خضرتها فنزل يصل فلم يجد الماء وكان الهدهد دليل الماء حيث يراه تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة ويعرف قربه وبعده فيدل على موضعه بأن ينقره بمنقاره فيجيء الشياطين فيسلخون الأرض كما يسلخ الإهاب عن المذبوح ويستخرجون الماء فتفقده لذلك وأما أنه يوضع الفخ ويغطى بالتراب فلا يراه حتى يقع فيه فلأن القدر إذا جاء يحول دون البصر وقد كان حين نزل سليمان ارتفع الهدهد إلى الهواء لينظر إلى عرصة الدنيا فرأى هدهداً آخر اسمه عنفير واقفاً فانحط إليه أي في الهواء فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء ووصف له صاحبه ملك بلقيس وأن تحت يدها اثني عشر
337
ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف فذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر وذلك قوله تعالى :
جزء : 6 رقم الصفحة : 336
{فَمَكَثَ} المكث ثبات مع انتظار.
{غَيْرَ بَعِيدٍ} أي : زماناً غير مديد يشير إلى أن الغيبة وإن كانت موجبة للعذاب الشديد وهو الحرمان من سعادة الحضور ومنافعه ولكنه من أمارات السعادة سرعة الرجوع وتدارك الفائت وذكر أنه أصابه من موضع الهدهد شمس فنظر فإذا موضعه خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد علمه عنده ثم قال لسيد الطير وهو العقاب عليّ به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله تعالى وقال : بحق الذي قواك وأقدرك إلا رحمتني فتركته وقالت : ثكلتك أمك إن نبي الله حلف ليعذبنك قال : أو ما استثنى قالت : بلى قال : أو ليأتيني بعذر مبين فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً له فلما دنا منه أخذ عليه السلام برأسه فمده إليه فقال : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فارتعد سلميان (وكفته اندكه باهدهد كفت ه كويي كه روبالت بكنم وترابآ فتاب كرم افكنم هدهد كفت دانم كه نكنى كه اين كار صياد انست نه كار يغمبر آن سلميان كفت كلوت ببرم كفت دانم كه نكنى كه اين كار قصا بانست نه كار يغمبران كفت ترا باناجنس در قفص كنم كفت اين هم نكنى كه اين كار ناج جوانمردانست ويغمبران ناجوا نمرد نباشند سليمان كفت أكنون توبكوي كه باتوه كنم كفت عفو كنى ودر كذاركه عفو كار يغمبران وكريما نست) فعفا عنه ثم سأله {فَقَالَ أَحَطتُ} الإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته {بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي علماً ومعرفة وحفظته من جميع جهاته وذلك لأنه كان مما لم يشاهده سليمان ولم يسمع خبره من الجن والإنس يشير إلى سعة كرم الله ورحمته بأن يختص طائراً بعلم لم يعلمه نبي مرسل وهذا لا يقدح في حال النبي والرسول بأن لا يعلم علماً غير نافع في النبوة فإن النبي عليه السلام كان يستعيذ بالله منه فيقول : "أعوذ بك من علم لا ينفع" والحاصل أن الذي أحاط به الهدهد كان من الأمور المحسوسة التي لا تعد الإحاطة بها فضيلة ولا الغفلة عنها نقيصة لعدم توقف إدراكها إلا على مجرد إحساس يستوي فيه العقلاء وغيرهم.
(6/246)
وفي "الأسئلة المقحمة" : هذا سوء أدب في المخاطبة فكيف واجهه بمثله وقد احتمله والجواب لأنه عقبه بفائدة والخشونة المصاحبة لفائدة قد يحتملها الأكابر انتهى.
ثم أشار إلى أنه بصدد إقامة خدمة مهمة له كما قال : {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإ} (وآمد بتو از شهر سباكه مآرب كوينيد) {بِنَبَإٍ يَقِينٍ} بخبر خطير محقق لا شك فيه يشير إلى أن من شرط المخبر أن لا يخبر عن شيء إلا أن يكون متيقناً فيه سيما عند الملوك.
وسبأ منصرف على أنه اسم لحي باليمن سموا باسم أبيهم الأكبر وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان قالوا : اسمه عبد الشمس لقب به لكونه أول من سبى ثم سمى مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام وقيل : إن سبأ أول من تتوج من ملوك اليمن وكان له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة.
يعني (هار ازايشان درشام مسكن داشتند لخم وجذام وعامله وغسان وشش دريمن كنده واشعر وازد ومذحج وإنمار) قالوا : يا رسول الله وما أنمار؟ قال : "والد خثعم وبجيلة" وقال في "المفردات" : سبأ اسم مكان تفرق أهله ولهذا يقال : ذهبوا أيادي سبأ أي تفرقوا
338
تفرق أهل ذلك المكان من كل جانب انتهى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 336
قال بعضهم : إنما خفي نبأ بلقيس على سليمان مع قربه منها لأنه كان نازلاً بصنعاء وهي بمأرب وبينهما مسيرة ثلاثة أيام كما سبق آنفاً أو ثلاثة فراسخ أو ثلاثة أميال لمصلحة رآها الله تعالى كما خفي على يعقوب مكان يوسف.
كهى بر طارم أعلى نشينم
كهى برشت اي خود نبينم
جزء : 6 رقم الصفحة : 336
{إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} استئناف لبيان ما جاء به من النبأ وإيثار وجدت على رأيت لأنه أراه عليه السلام كونه عند غيبته بصدد خدمته بإبراز نفسه في معرف من يتفقد أحوال تلك المرأة كأنها ضالة ليعرضها على سليمان والضمير في تملكهم لسبأ على أنه اسم للحي أو لأهل المدلول عليهم بذكر مدينتهم على أنه اسم لها.
يعني أنها تملك الولاية والتصرف عليهم ولم يرد به ملك الرقبة والمراد بها بلقيس بنت شرحبيل بن مالك بن ريان من نسل يعرب بن قحطان وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها ورث الملك من أربعين أباً ولم يكن له ولد غيرها فغلبت بعده على الملك ودانت لها الأمة وكانت هي وقومها يعبدون النار وكان يقول أبوها لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤاً وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه امرأة من الجن يقال لها : قارعة أو ريحانة بنت السكن فولدت له بلقيس وتسمى بلقة وبلقيس بالكسر كما في "القاموس" : وهذا يدل على إمكان العلوق بين الإنسي والجني وذلك فإن الجن وإن كانوا من النار لكنهم ليسوا بباقين على عنصرهم الناري كالإنس ليسوا بباقين على عنصرهم الترابي فيمكن أن يحصل الازدواج بينهما على ما حقق في "آكام المرجان" روي : أن مروان الحمار أمر بتخريب تدمر كتنصر بلد بالشام فوجدوا فيها بيتاً فيه امرأة قائمة ميتة أمسكوها بالصبر أحسن من الشمس قامتها سبعة أذرع وعنقها ذراع عندها لوح فيه أنا بلقيس صاحبة سليمان بن داود خرب الله ملك من يخرب بيتي.
{وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} أي من الأشياء التي يحتاج إليها الملوك من الخيل والحشم والعدد والسياسة والهيبة والحشمة والمال والنعيم.
قال بعض العارفين : ما ذكر وصف جمالها وحسنها بالتصريح لأنه علم أن ذلك من سوء الأدب وفي الحديث : "إن أحسن الحسن الوجه الحسن والصوت الحسن والخلق الحسن".
قال ذو النون : من استأنس بالله استأنس بكل شيء مليح وذلك لأن حسن كل مستحسن صدر من معدن حسن الأزل وأما من لم يستأنس بالله فاستئناسه بالمليح على وجه مجازي.
{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي : بالنسبة إلى حالها أو إلى عروش أمثالها من الملوك والعرش في الأصل شيء مسقف ويراد به سرير كبير وكان عرش بلقيس ثمانين ذراعاً في ثمانين ذراعاً وطوله في الهواء ثمانين ذراعاً مقدمة من ذهب مفصص بالياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ومؤخره من فضة مكلل بأنواع الجواهر له أربع قوائم قائمة من ياقوت أحمر وقائمة من ياقوت أخضر وقائمة من زبرجد وقائمة من در وصفائح السرير من ذهب وعليه سبعة أبيات لكل بيت باب مغلق وكان عليه من الفرش ما يليق به.
جزء : 6 رقم الصفحة : 339
{وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ} أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله تعالى : {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ} أي : حسن لهم أعمالهم القبيحة التي هي عبادة الشمس ونظائرها من أصناف الكفر
339
والمعاصي.
{فَصَدَّهُمْ} منعهم بسبب ذلك.
{عَنِ السَّبِيلِ} أي سبيل الحق والصواب والسبيل من الطريق ما هو معتاد السلوك.
{فَهُمْ} بسبب ذلك {لا يَهْتَدُونَ} إليه.
(6/247)
{أَلا يَسْجُدُوا} مفعول له للصد على حذف اللام منه أي فسدهم لئلا يسجدوا وهو ذم لهم على ترك السجود فلذا وجب السجود عند تمام هذه الآيات.
{الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} الخبأ يقال للمدخر المستور أي يظهر ما هو مخبوء ومخفي فيها كائناً ماكان كالثلج والمطر والنبات والماء ونحوها.
{وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ} في القلوب {وَمَا تُعْلِنُونَ} بالألسنة والجوارح وذكر ما تعلنون لتوسيع دائرة العلم للتنبيه على تساويهما بالنسبة إلى العالم الإلهي.
برو علم يك ذره وشيده نيست
كه نهان ويدا بنزدش يكيست
جزء : 6 رقم الصفحة : 339
{اللَّهِ} مبتدأ {لا إله إِلا هُوَ} الجملة خبره {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} خبر بعد خبر وسمي العرش عظيماً لأنه أعظم ما خلق الله من الإجرام فعظم عرش بلقيس بالنسبة إلى عروش أمثالها من الملوك وعظم عرش الله بالنسبة إلى السماء والأرض فبين العظمين تفاوت عظيم (ه نسبت است سهارا بآفتاب درخشان).
قال في "المفردات" : عرش الله تعالى مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم على الحقيقة.
واعلم أن ما حكى الله عن الهدهد من قوله : {الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ} إلى ههنا ليس داخلاً تحت قوله : {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} وإنما هو من العلوم والمعارف التي اقتبسها من سليمان أورده بياناً لما هو عليه وإظهاراً لتصلبه في الدين وكل ذلك لتوجيه قلبه عليه السلام نحو قبول كلامه وصرف عنان عزيمته إلى غزوها وسخير ولايتها ، وفي الحديث : "أنهاكم عن قتل الهدهد فإنه كان دليل سليمان على قرب الماء وبعده وأحب أن يعبد الله في الأرض حيث يقول : وجئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت امرأة تملكهم" الآيات قيل : إن أبا قلابة الحافظ الإمام العالم عبد الملك بن محمد الرقاش رأت أمه وهي حامل به كأنها ولدت هدهداً فقيل لها : إن صدقت رؤياك تلدين ولداً كثير الصلاة فولدت فلما كبر كان يصلي كل يوم أربعمائة ركعة وحدث من حفظه بستين ألف حديث مات سنة ست وسبعين ومائتين وهذا أي قوله : {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} محل سجود بالاتفاق كما في "فتح الرحمن".
وقال الكاشفي : (اين سجده هشتم است بقول أمام أعظم رحمه الله ونهم بقول إمام شافعي رحمه الله ودر فتوحات اين سجده را سجده خفى يميكويد وموضع سجود مختلف فيه است بعضي از قرائت وما تعلنون سجده ميكنند وبعضي س از تلاوت رب العرش العظيم.
سرت بسجده در آرا رهو اي حق داري
كه سجده شد سبب قرب حضرت باري
{قَالَ} استئناف بياني كأنه قيل : فما فعل سليمان بعد فراغ الهدهد من كلامه؟ فقيل : قال : {سَنَنظُرُ} فيما أخبرتنا من النظر بمعنى التأمل والسين للتأكيد أي لنعرف بالتجربة البتة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 340
وقال الكاشفي : (زود باشدكه درنكريم وتأمل كنيم درين كه) {أَصَدَقْتَ} فيما قلت {أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ} وفي هذا دلالة على أن خبر الواحد وهو الحديث الذي يرويه الواحد والاثنان فصاعداً ما لم يبلغ حد الشهرة والتواتر لا يوجب العلم فيجب التوقف فيه
340
على حد التجويز.
وفيه دليل على أن لا يطرح بل يجب أن يتعرف هل هو صدق أو كذب فإن ظهرت أمارات صدقه قبل وإلا لم يقبل.
قال بعضهم : سليمان عليه السلام (ملك ومال وجمال بلقيس بشنيد ودروي اثرنكرد وطمع در آن نيست بازون حديث دين كردكه {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ} (النمل : 24) متغير كشت وازمهر دين إسلام درخشم شد كفت كاغد ودوات بياريد تانامه نويسم واورا بدين إسلام دعوت كنم).
فكتب أي في المجلس أو بعده كتاباً إلى بلقيس فقال فيه : "من عبد الله سليمان بن داود إلى ملكة سبأ بلقيس بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا عليّ وائتوني مسلمين" ثم طبعه بالمسك وختمه بخاتمه المنقوش على فصه اسم الله الأعظم ودفعه إلى الهدهد فأخذه بمنقاره أو علقه بخيط وجعل الخيط في عنقه وقال :
{اذْهَب بِّكِتَـابِى هَـاذَا} (ببراين نوشته مرا) فتكون الباء للتعدية وتخصيصه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أبناء الجن الأقوياء على التصرف والتعرف لما عاين فيه من علامات العلم والحكمة وصحة الفراسة ولئلا يبقى لها عذر.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنه لما صدق فيما أخبر وبذل النصح لملكه وراعى جانب الحق عوض عليه حتى أهل لرسالة رسول الحق على ضعف صورته ومعناه.
{فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} أي : اطرحه على بلقيس وقومها لأنه ذكرهم معها في قوله : وجدتها وقومها.
(6/248)
وفي "الإرشاد" : وجمع الضمير لما أن مضمون الكتاب الكريم دعوة الكل إلى الإسلام.
قوله : ألقه بسكون الهاء تخفيفاً لغة صحيحة أو على نية الوقف ، يعني أن أصله ألقه بكسر القاف والهاء على أنه ضمير مفعول راجع إلى الكتاب فجزم لما ذكر.
{ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي أعرض عنهم بترك وليهم وقربهم وتبعد إلى مكان تتوارى فيه وتسمع ما يجيبونه {فَانظُرْ} تأمل وتعرف {مَاذَا يَرْجِعُونَ} أي ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول : (وسخن را بره قرار ميدهند).
جزء : 6 رقم الصفحة : 340
قال ابن الشيخ : ماذا اسم واحد استفهام منصوب بيرجعون أو مبتدأ وذا بمعنى الذي ويرجعون صلتها والعائد محذوف أي أي شيء الذي يرجعونه.
روي : أن الهدهد أخذ الكتاب وأتى بلقيس فوجدها راقدة في قصرها بمأرب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وألقى الكتاب على نحرها وهي مستلقية وتأخر يسيراً فانتبهت فزعة وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل تبع الحميري فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكاً منها لطاعة الطير إياه وهيئة الخاتم فعند ذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 340
{قَالَتْ} لأشراف قومها وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر أو اثنا عشر ألفاً يا اأَيُّهَا الْمَلَؤُا} (أي كروه اشراف).
والملأ عظماء القوم الذين يملؤون العيون مهابة والقلوب جلالة جمعه أملاء كنبأ وأنباء {إِنِّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَـابٌ كَرِيمٌ} مكرم على معظم لدي لكونه مختوماً بخاتم عجيب وأصلاً على نهج غير معتاد كما قال في "الأسئلة المقحمة" : معجزة سليمان كانت في خاتمه فختم الكتاب بالخاتم الذي فيه ملكه فأوقع الرعب في قلبها حتى شهدت بكرم كتابه إظهاراً لمعجزته انتهى.
ويدل على أن الكريم هنا بمعنى المختوم قوله عليه السلام : "كرم الكتاب ختمه" وعن ابن عباس بزيادة وهو قوله تعالى :
341
{إِنِّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَـابٌ كَرِيمٌ} كما في "المقاصد الحسنة" للسخاوي.
وكان عليه السلام "يكتب إلى العجم فقيل : إنهم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم فاتخذ لنفسه خاتماً من فضة ونقش فيه محمد رسول الله وجعله في خنصر يده اليسرى" على ما رواه أنس رضي الله عنه.
ويقال : كل كتاب لا يكون مختوماً فهو مغلوب.
وفي "تفسير الجلالين" : كريم أي حسن ما فيه انتهى كما قال ابن الشيخ في أوائل سورة الشعراء : كتاب كريم أي مرضي في لفظه ومعانيه أو كريم شريف لأنه صدر بالبسملة كما قال بعضهم : (ون مضمون نامه نام خداوند بوده س آن نامه بزر كترين وشريفترين همه نامها باشد).
أي نام وبهترين سر آغاز
بي نام تونامه ون كنم باز
آرايش نامها ست نامت
آسايش سينها كلام
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الكتاب لما كان سبباً لهدايتها وحصول إيمانها سمته كريماً لأنها بكرامته اهتدت إلى حضرة الكريم.
قال بعضهم : لاحترامها الكتاب رزقت الهداية حتى آمنت كالسحرة لما قدموا في قولهم : يا موسى إما أن تلقي وراعوا الأدب رزقوا الإيمان ولما مزق كسرى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم مزق الله ملكه وجازاه على كفره وعناده.
{إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ} كأنه قيل : ممن هو وماذا مضمونه؟ فقالت : إنه من سليمان {وَإِنَّهُ} أي مضمونه أو المكتوب فيه{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ} الباء بقاؤه والسين سناؤه والميم ملكه والألف أحديته واللامان جماله وجلاله والهاء هويته والرحمان إشارة إلى رحمته لأهل العموم في الدنيا والآخرة والرحيم إشارة إلى رحمته لأهل الخصوص في الآخرة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 341
قال بعض الكبار : إنها بسملة براءة في الحقيقة ولكن لما وقع التبري من أهلها أعطيت للبهائم التي آمنت بسليمان واكتفى في أول السورة بالباء إذ كل شيء في الوجود الكوني لا يخلو من رحمة الله عامة أو خاصة وهذه البسملة ليست بآية تامة مثل : {بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآ} (هود : 41) بخلاف ما وقع في أوائل السور فإنها آية منفردة نزلت مائة وأربع عشرة مرة عدد السور (هرحر في ازين آيت ظرفى است شراب رحيق را وهر كملتي صدفي است دره تحقيق را هر نقطه زوكوكبي است آسمان هدايترا ونجم رجمي است مر أصحاب غوايت را) : قال المولى الجامي في حق البسملة :
نوزده حرفست كه هده هزار
عالم ازو يافته فيض عميم
{أَنْ} مفسرة أي : {لا تَعْلُوا عَلَى} لا تتكبروا كما يفعل جبابرة الملوك.
وبالفارسية : (بر من بزركى مكنيد) {وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} حال كونكم مؤمنين فإن الإيمان لا يستلزم الإسلام والانقياد دون العكس.
(6/249)
قال قتادة : وكذلك كانت الأنبياء عليهم السلام تكتب جملاً لا تطيل يعني أن هذا القدر الذي ذكره الله تعالى كان كتاب سليمان وليس الأمر فيه بالإسلام قبل إقامة الحجة على رسالته حتى يتوهم كونه استدعاء للتقليد فإن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة معجزة باهرة دالة على رسالة مرسلها دلالة بينة.
يقول الفقير : يكفي في هذا الباب حصول العلم الضروري بصدق الرسول وإلا فهي لا تستبعد كون الإلقاء المذكور بتصرف من الجن وقد كان الجن يظهرون لها بعض الخوارق ومنها صنعة العرش العظيم لها لأن أمها كانت
342
جنية فاعرف.
جزء : 6 رقم الصفحة : 341
{قَالَتْ} كررت حكاية قولها للإيذان بغاية اعتنائها بما في حيزه من قولها : يا اأَيُّهَا الْمَلَؤُا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى} أجيبوني في الذي ذكرت لكم واذكروا ما تستصوبون فيه.
وبالفارسي : (فتوى دهيد مرا دركار من وآنه صلاح وصواب باشد با من بكوييده) وعبرت عن الجواب بالفتوى الذي هو الجواب في الحوادث المشكلة غالباً إشعاراً بأنهم قادرون على حل المشكلات النازلة.
قال بعضهم : الفتوى من الفتى وهو الشاب القوي وسميت الفتوى لأن المفتي أي المجيب الحاكم بما هو صواب يقوي السائل في جواب الحادثة.
{مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا} فاصلة ومنفذة أمراً من الأمور.
{حَتَّى تَشْهَدُونِ} تحضروني ، أي لا أقطع أمراً إلا بمحضركم وبموجب آرائكم.
وبالفارسية : (تا شما ن زد من حاضر كرديد يعني بي حضور ومشورت شما كاري نميكنيم) وهو استمالة لقلوبهم لئلا يخالفوها في الرأي والتدبير.
وفيه إشارة إلى أن المرء لا ينبغي أن يكون مستبداً برأيه ويكون مشاوراً في جميع ما سنح له من الأمور لا سيما الملوك يجب أن يكون لهم قوم من أهل الرأي والبصيرة فلا يقطعون أمراً إلا بمشاورتهم :
مشورت رهبر صواب آمد
درهمه كار مشورت بايد
كار آنكس كه مشورت نكند
غايتش غالباً خطا آيد
{قَالُوا} كأنه قيل : فماذا قالوا في جوابها؟ فقيل : قالوا : {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ} ذوو قوة في الآلات والأجساد والعدد.
{وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي نجدة وشجاعة في الحرب وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك.
{وَالامْرُ} مفوض {إِلَيْكِ فَانظُرِى} (س درنكر وببين) {مَاذَا تَأْمُرِينَ} تشيرين علينا.
قال الكاشفي : (تاه ميفرمايي از مقاتله ومصالحه).
اكر جنك خواهي بنزد آوريم
دل دشمنانرا بدرد آوريم
وكر صلح جويي ترا بنده ايم
جزء : 6 رقم الصفحة : 342
بتسليم حكمت سرافكنده ايم
وفيه إشارة إلى أن شرط أهلي المشاورة أن لا يحكموا على الرئيس المستشير بشيء بل يخبرونه فيما أراد من الرأي الصائب فلعله أعلم بصلاح حاله منهم :
خلال رأي سلطان رأي جستن
بخون خويش باشد دست شستن
فلما أحست بلقيس منهم الميل إلى الحرب والعدول عن سنن الصواب بادعائهم القوي الذاتية والعرضية شرعت في تزييف مقالتهم المنبئة عن الغفلة عن شأن سليمان.
قال الكاشفي : (بلقيس كفت مارا مصلحت جنك نيست ه كارحرب در روى دارد اكر إيشان غالب آيند ديار وأموال ما عرضه تلف شود) كما قال تعالى :
جزء : 6 رقم الصفحة : 342
{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} من القرى ومدينة من المدن على منهاج المقاتلة والحرب.
{أَفْسَدُوهَا} بتخريب عمارتها وإتلاف ما فيها من الأموال {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ} جمع عزيز بمعنى القاهر الغالب والشريف العظيم من العزة وهي حالة مانعة للإنسان من أن يغلب.
{أَذِلَّةً} جمع ذليل.
وبالفارسية (خوار وبيمقدار) أي بالقتل والأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الإهانة والإذلال.
{وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ} (وهمنين ميكنند) وهو تأكيد لما قبله وتقرير بأن ذلك من عادتهم المستمرة
343
فيكون من تمام كلام بلقيس ويجوز أن يكون تصديقاً لها من جهة الله تعالى أي وكما قالت هي تفعل الملوك.
وفيه إشارة إلى أن العاقل مهما تيسر له دفع الخصوم بطريق صالح لا يوقع نفسه في خطر الهلاك بالمحاربة والمقاتلة بالاختيار إلا أن يكون مضطراً.
قال بعضهم : من السؤدد الصلح وترك الإفراط في الغيرة.
وفيه إشارة أخرى وهي أن ملوك الصفات الربانية إذا دخلوا قرية الشخص الإنساني بالتجلي أفسدوها بإفساد الطبيعة الإنسانية الحيوانية.
{وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ} وهم النفس الأمارة وصفاتها.
{أَذِلَّةً} لذلوليتهم بسطوات التجلي.
{وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ} مع الأنبياء والأولياء لأنهم خلقوا لمرآتية هذه الصفات إظهاراً للكنز المخفي فيكون قوله : إن الملوك إلخ نعت العارف كما قال أبو يزيد البسطامي قدس سره.
وقال جعفر الصادق رضي الله عنه : أشار إلى قلوب المؤمنين فإن المعرفة إذا دخلت القلوب زال عنها الأماني والمرادات أجمع فلا يكون القلب محل غير الله.
(6/250)
وقال ابن عطاء رحمه الله : إذا ظهر سلطان الحق وتعظيمه في القلب تلاشى الغفلات واستولت عليه الهيبة والإجلال ولا يبقى فيه تعظيم شيء سوى الحق فلا تشتغل جوارحه إلا بطاعته ولسانه إلا بذكره وقلبه إلا بالإقبال عليه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 343
قال بعضهم : من قوبل باسمه الملك رأى نفسه في قبضته فسلم له في مملكته وقام بحق حرمته على بساط خدمته.
وفي "الفتوحات المكية" : للملك أن يعفو عن كل شيء إلا عن ثلاثة أشياء وهي التعرض للحرم وإفشاء سره والقدح في الملك نسأل الله حسن الأدب في طريق الطلب.
{وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم} إلى سليمان وقومه رسلاً {بِهَدِيَّةٍ} عظيمة وهي اسم للشيء المهدي بملاطفة ورفق.
قال في "المفردات" : الهدية مختصة باللطف الذي يهدى بعضنا إلى بعض {فَنَاظِرَةُ} .
قال في "كشف الأسرار" : الناظر ههنا بمعنى المنتظر.
وقال الكاشفي : (س نكرنده أم كه از آنجا) {بِمَ} أصله بما على أنه استفهام أي بأي شيء {يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} بالجواب من عنده حتى أعمل بما يقتضيه الحال.
روي : أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن كالأساور والأطواق والقرطة مخضبي الأيدي راكبي خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر وخمسمائة جارية على رماك في زيّ الغلمان وألف لبنة من ذهب وفضة وفي "المثنوي" :
هديه بلقيس هل اشتر بدست
بار آنها جمله خشت زر بدست
وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت المرتفع قيمة والمسك والعنبر وحقة فيها درة ثمينة عذراء أي غير مثقوبة وخرزة جزعية معوجة الثقب وكتبت كتاباً فيه نسخة الهدايا وبعثت بالهدية رجلاً بالأشراف قومها يقال له : المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالاً من قومها ذوي رأي وعقل وقالت : إن كان نبياً ميز بين الغلمان والجواري وأخبر بما في الحقة قبل فتحها وثقب الدرة ثقباً مستوياً وسلك في الخرزة خيطاً ثم قالت للمنذر : إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك منظره وإن رأيته هشاً لطيفاً فهو نبي فأقبل الهدهد نحو سليمان مسرعاً فأخبره الخبر فأمر سليمان الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوها في ميدان بين يديه طوله ستة فراسخ وجعلوا حول الميدان حائطاً شرفاته من الذهب والفضة (عني كرد ميدان ديوار برآوردند
344
وبر سر ديوار شرف زرين وسيمين بستند) وأمر بأحسن الدواب التي في البر والبحر.
قال في "كشف الأسرار" : (هار ايان بحري بنقش بلنك از رنكهاي مختلف آوردند) فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا على اليمين واليسار ثم قعد على سريره والكراسي من جانبيه.
يعني (هار هزار كرسي زر ازراست وي وهارهزار ازب وي نهاده) واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ والإنس صفوفاً والوحش والسباع والهوام كذلك (ومرغان در روى هوا رده بافتند باصد هزار ديده فلك درهزار قرن مجلس بدان تكلف وخوبى نديده بود) فلما دنا رسل بلقيس نظروا وبهتوا ورأوا الدواب تروث على اللبن.
وفي "المثنوي" :
جزء : 6 رقم الصفحة : 343
ون بصحراي سليمان رسيد
فرش آنرا جمله زر بته ديد
بارها كفتند زررا وابريم
سوى مخزن ما به كار اندريم
عرصه كش خاك زر ده دهيست
زر بهديه بردن رنجا ابلهيست
فكان حالهم كحال أعرابي أهدى إلى خليفة بغداد جرة ماء فلما رأى دجلة خجل وصبه :
باز كفتند اركساد وارروا
يست برما بنده فرمانيم ما
كر زر وكرخاك مارا بردنيست
أمر فرمانده بجا آوردنيست
كر بفرمايدكه كين واس بريد
هم بفرمان تحفه را باز آوريد
وجعلوا يمرون بكراديس الجن والشياطين فيفزعون وكانت الشياطين يقولون : جوزوا ولا تخافوا فلما وقفوا بين يدي سليمان نظر إليهم بوجه حسن طلق وقال : ما وراءكم : يعني (ه داريد وبه آمديد) فأخبر المنذر الخبر وأعطى كتاب بلقيس فنظر فيه فقال أين الحقة؟ فجيء بها فقال : إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة جزعية معوجة الثقب وذلك بإخبار جبريل عليه السلام ويحتمل أن يكون بإخبار الهدهد على ما يدل عليه سوق القصة (سليمان جن وأنس را حاضر كرد وعلم ثقب وسلك نزديك إيشان نبود شياطين را حاضر كرد واز إيشان رسيدكفتند) ترسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت في الدرة وثقبتها حتى خرجت من الجانب الآخر فقال سليمان : ما حاجتك؟ فقالت : تصير رزقي في الشجر قال : لك ذلك ثم قال : من لهذه الخرزة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة بيضاء : أنا لها يا أمين الله فأخذت الخيط في فيها ونفذت في الخرزة حتى خرجت من الجانب الآخر فقال سليمان : ما حاجتك؟ قالت : تجعل رزقي في الفواكه قال : لك ذلك أي جعل رزقها فيها فجمع سليمان بين طرفي الخيط وختمه ودفعها إليهم.
(6/251)
قال الكاشفي : (سليمان آب طلبيد غلمان وجواري را فرمودكه از غبارراه روى بشوييد) يعني ميز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم بغسل وجوههم وأيديهم فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها والغلام كان يأخذه من الآنية ويضرب به وجهه ثم رد الهدية وقد كانت بلقيس قالت : إن كان ملكاً أخذ الهدية وانصرف وإن كان نبياً لم يأخذها ولم نأمنه على بلادنا وذلك قوله تعالى.
{فَلَمَّا جَآءَ} أي : الرسول المبعوث من قبل بلقيس {سُلَيْمَـانُ} بالهدية {قَالَ} أي مخاطباً
345
للرسول والمرسل تغليباً للحاضر على الغائب أي قال بعد ما جرى بينه وبينهم من قصة الحقة وغيرها لا أنه خاطبهم به أول ما جاؤوه كما يفهم من ظاهر العبارة {أَتُمِدُّونَنِ} أصله أتمودنني فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة الدالة عليها والهمزة الاستفهامية للإنكار.
والإمداد (مدد كردن) ويعدى إلى المفعول الثاني بالباء.
والمعنى بالفارسية (آيا مدد ميدهيد مرا وزيادتي) {بِمَالٍ} حقير وسمي مالاً لكونه مائلاً أبداً ونائلاً ولذلك يسمى عرضاً وعلى هذا دل من قال : المال قحبة يكون يوماً في بيت عطار ويوماً يكون في بيت بيطار كما في "المفردات" : ثم علل هذا الإنكار بقوله : {فَمَآ} موصولة {اللَّهُ خَيْرٌ} مما رأيتم آثاره من النبوة والملك الذي لا غاية وراءه {خَيْرٌ مِّمَّآ ءَاتَـاـاكُم} من المال ومتاع الدنيا فلاحاجة إلى هديتكم ولا وقع لها عندي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 343
آنكه رواز كندجانب علوي وهماي
دنيي اندر نطر همت أو مردارست
وفي "المثنوي" :
من سليمان من نخواهم ملكتان
بلكه من برهان ازهر هلكتاناز شماكي كديه زره ميكنيم
كه برون از آب وكل بس ملكهاست
تخته بنداست آنكه تختش خوانده
صدرنداري وبر درمانده
قال جعفر الصادق : الدنيا أصغر قدراً عند الله وعند أنبيائه وأوليائه من أن يفرحوا بشيء منها أو يحزنوا عليه فلا ينبغي لعالم ولا لعاقل أن يفرح بعرض الدنيا.
مال دنيا دام مرغان ضعيف
ملك عقبى دام مرغان شريف {بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} المضاف إليه المهدى إليه.
والمعنى بل أنتم بما يهدى إليكم تفرحون حباً لزيادة المال لما إنكم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا هذا هو المعنى المناسب لما سرد من القصة.
وفي "الإرشاد" : إضراب عما ذكر من إنكار الإمداد بالمال إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم التي أهدوها إليه افتخاراً وامتناناً واعتداداً بها كما ينبىء عنه ما ذكر من حديث الحقة والجزعة وتغيير زي الغلمان والجواري وغير ذلك انتهى.
يقول الفقير : فيه إنهم لما رأوا ما أنعم الله به على سليمان من الملك الكبير استقلوا بما عندهم حتى هموا بطرح اللبنات إلا أنه منعتهم الأمانة من ذلك فكيف امتنوا على سليمان بهديتهم وافتخروا على أن حديث الحقة ونحوه إنما كان على وجه الامتحان لا بطريق الهدية كما عرف.
وفي "التأويلات" : يشير إلى أن الهدية موجبة لاستمالة القلوب ولكن أهل الدين لما عارضهم أمر ديني في مقابلة منافع كثيرة دنيوية رجحوا طرف الدين على طرف المنافع الكثيرة الدنيوية واستقلوا كثرتها لأنها فانية واستكثروا قليلاً من أمور الدين لأنها باقية كما فعل سليمان لما جاءه الرسول بالهدية استقل كثرتها وقال : فما آتاني الله من كمالات الدين والقربات والدرجات الأخروية خير مما آتاكم من الدنيا وزخارفها بل أنتم أي أمثالكم من أهل الدنيا بمثل هديتكم الدنيوية الفانية تفرحون لخسة نفوسكم وجهلكم عن السعادات الأخروية الباقية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 343
{ارْجِعْ} أيها الرسول أفرد الضمير ههنا بعد جمع الضمائر الخمسة فيما سبق لأن الرجوع مختص بالرسول والأمداد ونحوه عام.
346
{إِلَيْهِم} إلى بلقيس وقومها بهديتهم ليعلموا أن أهل الدين لا ينخدعون بحطام الدنيا وإنما يريدون الإسلام فليأتوا مسلمين مؤمنين وإلا {فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ} من الجن والإنس والتأييد الإلهي.
{لا قِبَلَ لَهُم بِهَا} لا طاقة لهم بمقاومتها ولا قدرة لهم على مقابلتها.
(6/252)
قال في "المختار" : رآه قبلاً بفتحتين وقبلاً بضمتين وقبلاً بكسر بعده فتح أي مقابلة وعياناً قال تعالى : {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا} ولي قبل فلان حق أي عنده ومالي به قبل أي طاقة انتهى والذي يفهم من "المفردات" أنه في الأصل بمعنى عند ثم يستعار للقوة والقدرة على المقابلة أي المجازاة فيقال : لا قبل لي بكذا ، أي لا يمكنني أن أقابله ولا قبل لهم بها لا طاقة لهم على دفاعها.
{وَلَنُخْرِجَنَّهُم} عطف على جواب القسم.
{مِّنْهَآ} من سبأ ومن أرضها حال كونهم {أَذِلَّةً} (درحالتي كه بي حرمت وبي عزت باشند) بعد ما كانوا من أهل العز والتمكين وفي جمع القلة تأكيد لذلتهم والذل ذهاب العز والملك.
{وَهُمْ صَـاغِرُونَ} أي : أسارى مهانون حال أخرى مفيدة لكون إخراجهم بطريق الإجلاء يقال : صغر صغراً بالكسر في ضد الكبر وصغاراً بالفتح في الذلة والصاغر الراضي بالمنزلة الدنيئة وكل من هذه الذلة والصغار مبني على الإنكار والإصرار كما أن كلاً من العز والشرف مبني على التصديق والإقرار ولما كان الإعلام مقدماً على الجزاء أمر سليمان برجوع الرسول لأجل الأداء.
وفي "المثنوي".
باز كرديد أي رسولان خجل
زر شمارا دل بمن آريد دلكه نظركاه خداوندست آن
كز نظر انداز خورشيدست كان
كو نظركاه شعاع آفتاب
جزء : 6 رقم الصفحة : 346
كون ظركاه خداوند لباب
أي رسولان ميفرستمتان رسول
رد من بهتر شمارا از قبوليش بلقيس آنه ديديد از عجب
باز كوييد از بيابان ذهب
تابداندكه بزر طامع نه ايم
مازر از زر آفرين آورده ايم
هين بيا بلقيس ورنه بد شود
لشكرت خصمت شود مرتد شودرده دارت رده ات را بركند
جان توباتو بجان خصمي كند
ملك برهم زن توادهم وارزود
تابيابي همو أو ملك خلودهين بياه من سولم دعوتي
ون أجل شهوت كشم من شهوتيوربود شهوت أمير شهوتهم
ني أسير شهوت وروى بتم
بت شكن بودست أصل أصل ما
ون خليل حق وجمله انبيا
خيز بلقيسا بيا وملك بين
برلب درياي يزدان در بينخواهر انت ساكن رخ سني
توبمرداري ه سلطاني كني
خواهرانت راز بخششهاي داد
هي ميداني كه آإن سلطان ه داد
توز شادي ون كرنتي طبل زن
كه منم شاه ورئيس كولخن
آن سك دركوكدايي كورد ديد
حمله مي آورد ودلقش مدريدكور كفتش آخرآن ياران تو
بركه اند ايندم شكاري صيدجو
347
قوم تو در كوه ميكيريند كور
ديميان كويميكيري توكور
ترك اين تزوير كو شيخ نفور
آب شوري جمع كرده ند كور
كاين ميردان من ومن آب شور
مي خورنداز من همي كردند كور
آب خود شيرين كن از بحر لدن
آب بدرا دام اين كوران مكن
خيز شيران خدا بين كور كير
تووسك وني بزرقى كوركير
فعلى العاقل أن لا يقنع بيسير من القال والحال بل يتضرع إلى الله الملك المتعال في أن يوصله إلى المقامات العالية والدرجات العلى إنه الكريم المولى يروى لما رجع رسلها إليها بخبر سليمان قالت : والله قد علمت أنه ليس بملك ولا لنا به من طاقة وبعثت إلى سليمان : إني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك (وتخت خودرا درخانه موضبوط ساخت ونكهبانان بروكماشت درخانه قفل كرد ومفتاح را برداشت والشكر متوجه بايه سرير سليمان شد) وكان لها اثنا عشر ألف ملك كبير يقال له : القيل ـ بفتح القاف ـ تحت كل ملك ألوف كثيرة وكان سليمان رجلاً مهيباً لا يبدأ بشيء حتى يسأل عنه فجلس يوماً على سريره فرأى جمعاً جماً على فرسخ عنه فقال : ما هذا؟ فقالوا : بلقيس بملوكها وجنودها فأقبل سليمان حينئذ على أشراف قومه وقال أو لما علم بمسيرها إليه.
{قَالَ يا اأَيُّهَا الْمَلَؤُا} (أي إشراف قوم من) {أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا} (كدام شما مي آرد تخت بلقيس را) {قَبْلَ أَن يَأْتُونِى} حال كونهم {مُسْلِمِينَ} لأنه قد أوحي إلى سليمان أنها تسلم لكن أراد أن يريها بعض ما خصه الله تعالى به من العجائب الدالة على عظم القدرة وصدقه في دعوى النبوة فاستدعى إتيان سريرها الموصى بالحفظ قبل قدومها.
وفي "المثنوي" :
جزء : 6 رقم الصفحة : 346
ونكه بلقيس ازدل وجان عزم كرم
بر زمان رفته هم افسوس خوردترك مال وملك كرد أو آنجنان
كه بترك نام وننك آن عاشقان
هي سليمان ازدلش آكاه شد
كز دل أو تادل أو راه شد
س سليمان ازدلش اكاه شد
كز دل او تادل او راه شد
ديد از دورش كه آن تسليم كيش
تلخش آمد فرقت آن تخت خويش
از بزركي تخت كز حد مي فزود
نقل كردن تخت را إمكان نبود
خرده كاري بود وتفريقش خطر
همو أوصال بدن بايكديكر
س سليمان كفت كره في الأخير
سرد خواهد شد برو تاج وسير
ليك خود يا اين همه بر نقد حال
ست بايد تخت أورا انتقال
تانكردد خسته هنكام لقا
كودكانه حاجتش كردد روا(6/253)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى سليمان عليه السلام كان واقفاً على أن في أمته من هو أهل الكرامة فأراد أن يظهر كرامته ليعلم أن في أمم الأنبياء من يكون أهل الكرامات فلا ينكر مؤمن كرامات الأولياء كما أنكرت المعتزلة فإن أدنى مفسدة الإنكار حرمان المنكر من درجة الكرامة كحرمان أهل البدع والأهواء منها ولا يظنن جاهل
348
أن سليمان لم يكن قادراً على الإتيان بعرشها ولم يكن له ولاية هذه الكرامات فإنه أمرهم بذلك لإظهار أهل الكرامات من أمته ولأن كرامات الأولياء من جملة معجزات الأنبياء فإنها دالة على صدق نبوتهم وحقيقة دينهم أيضاً انتهى.
قال الشيخ داود القيصري رحمه الله : خوارق العادات قلما تصدر من الأقطاب والخلفاء بل من وزرائهم وخلفائهم لقيامهم بالعبودية التامة واتصافهم بالفقر الكلي فلا يتصرفون لأنفسهم في شيء ومن جملة كمالات الأقطاب ومنن الله عليهم أن لا يبتليهم بصحبة الجلاء بل يرزقهم صحبة العلماء والأمناء يحملون عنهم أثقالهم وينفذون أحكامهم وأقوالهم كآصف وسليمان.
وقال بعض العارفين لا يلزم لمن كان كامل زمانه أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة كما أشار إليه عليه السلام بقوله في قصة تأبير النخل "أنتم أعلم بأمور دنياكم" فذلك لا يقدح في مقام الكامل لأن التفرد بكل كمال لحضرة الألوهية والربوبية وما سواه وسيم بالعجز والنقص ولكل أحد اختصاص من وجه في الكمال الخاص كموسى والخضر عليهما السلام وإن كان الكليم أفضل زمانه كسليمان عليه السلام فانظر سر الاختصاص في قوله : {فَفَهَّمْنَـاهَا سُلَيْمَـانَ} (الأنبياء : 79) مع الخليفة أبيه داود حين اختلف رجل وامرأة في ولد لهما أسود فقالت المرأة : هو ابن هذا الرجل وأنكر الرجل فقال سليمان : هل جامعتها في حال الحيض؟ فقال : نعم قال : هو لك وإنما سود الله وجهه عقوبة لكما فهذا من باب الاختصاص.
جزء : 6 رقم الصفحة : 346
{قَالَ عِفْرِيتٌ} مارد خبيث {مِّن الْجِنِّ} بيان له إذ يقال للرجل الخبيث المنكر المعفر وأقرانه : عفريت.
وفي "المفردات" : العفريت من الجن هو الفاره الخبيث ويستعار ذلك للإنسان استعارة الشيطان له انتهى مأخوذ من العفر محركة ويسكن وهو ظاهر التراب فكأنه يصرع قرنه عليه ويمرغه فيه وأصله عفر زيدت فيه التاء مبالغة كما في "الكواشي" وكان اسم ذلك العفريت ذكوان.
وفي "فتح الرحمن" : كوذي أو اصطخر سيد الجن وكان قبل ذلك متمرداً على سليمان واصطخر فارس تنسب إليه وكان الجني كالجبل العظيم يضع قدمه عند منتهى طرفه {أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ} أي بعرشها {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} أي من مجلسك للحكومة وكان يجلس إلى نصف النهار وآتيك إما صيغة مضارع.
فالمعنى بالفارسية (من بيارم آنرا بتو) أو فاعل.
والمعنى (من آرنده أم آنرا بتو) وهو الأنسب لمقام إدعاء الإتيان لا محالة وأوفق بما عطف عليه من الجملة الاسمية أي أنا آت به في تلك المدة ألبتة.
{وَإِنِّى عَلَيْهِ} أي : على الإتيان.
{لَقَوِىٌّ} لا يثقل عليّ حمله {أَمِينٌ} على ما فيه من الجواهر والنفائس ولا أبدله بغيره.
{قَالَ} حين قال سليمان : أريد أسرع من هذا يعني (زودترا زين خواهم) {الَّذِى عِندَه عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَـابِ} وهو آصف بن برخيا بن خالة سلميان وزيره وكاتبه ومؤدبه في حال صغيره وكان رجلاً صديقاً يقرأ الكتب الإلهية ويعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعا الله به أجاب وقد خلقه الله لنصرة سليمان ونفاذ أمره فالمراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة على موسى وإبراهيم وغيرهما أو اللوح وأسراره المكتومة.
وقال المعتزلة : المراد به جبرائيل وذلك لأنهم لا يرون كرامة الأولياء.
{أَنَا ءَاتِيكَ بِه قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} الارتداد الرجوع والطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر
349
إلى شيء والارتاد انضمامها ولكونه أمراً طبيعياً غير منوط بالتحريك أوثر الارتداد على الرد ويعبر بالطرف عن النظر إذا كان تحريك الجفن يلازمه النظر وهذا غاية في الإسراع ومثل فيه لأنه ليس بين تحريك الأجفان مدة ما.
جزء : 6 رقم الصفحة : 346
قال الكاشفي : (سليمان دستوري داوداو بسجده درافتاد وكفت يا حي يا قيوم كه بعيري آهيا شراهيا باشد وبقول بعضي يا دا الجلال والإكرام وبرهر تقدير ون دعاكرد تخت بلقيس در موضع خود بزمين فرورفته وطرفة العيني را يش تخت سلميان از زمين برآمد).
وقال أهل المعاني : لا ينكر من قدرة الله أن يعدمه من حيث كان ثم يوجده حيث كان سليمان بلا نقل بدعاء الذي عنده علم من الكتاب ويكون ذلك كرامة للولي ومعجزة للنبي انتهى.
يقول الفقير : هذه مسألة الإيجاز والإعدام وإليها الإشارة بقوله عليه السلام : "الدنيا ساعة وقل من يفهمها" لأنها خارجة عن طور العقل وفي "المثنوي" :
س ترا هر لحظة موت ورجعتيست
مصطفى فرمود دنيا ساعتيست
فرنفس نومي شود دنيا وما
بي خبر از نوشدن اندر بقا
عمر همون جوي نونو مي رسد
(6/254)
مستمري مي نمايد درجسد
آن زتيزي مستمر شكل آمدست
ون شرركش تيزجنباني بدست
شاخ آتش را بخبباني بساز
در نظر آتش نمايد بس دراز
اين درازي مدت از تيزى صنع
مي نمايد سرعت انكيزي صنع
{فَلَمَّا رَءَاهُ} أي : فأتاه بالعرش فرأه فلما رأه.
{مُسْتَقِرًّا عِندَهُ} حاضراً لديه ثابتاً بين يديه في قدر ارتداد الطرف من غير خلل فيه ناشىء من النقل.
{قَالَ} سليمان تلقياً للنعمة بالشكر.
{هَـاذَا} أي حصول مرادي وهو حضور العرش في هذه المدة القصيرة.
{مِن فَضْلِ رَبِّى} عليّ وإحسانه من غير استحقاق مني.
{لِيَبْلُوَنِى} ليختبرني.
وبالفارسية (بيازمايد مراباين).
وفي "المفردات" : يقال : بلي الثوب بلى خلق وبلوته اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له وإذا قيل : ابتلي فلان بكذا وبلاه يتضمن أمرين أحدهما تعرف حاله والوقوف على ما يجهل من أمره والثاني ظهور جودته ورداءته وربما قصد به الأمران وربما يقصد به أحدهما فإذا قيل : بلا الله كذا وابتلاه فليس المراد إلا ظهور جودته ورداءته دون التعرف لحاله والوقوف على ما يجهل منه إذا كان تعالى علام الغيوب.
{شَكَرَ} بأن أراه محض فضله تعالى من غير حول من جهتي ولا قوة وأقوم بحقه.
{أَمْ أَكْفُرُ} بأن أجد لنفسي مدخلاً في البيت وأقصر في إقامة مواجبه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 346
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الجن وإن كان له مع لطافة جسمه قوى ملكوتية يقدر على ذلك بمقدار زمان مجلس سليمان فإن للإنس ممن عنده علم من الكتاب مع كثافة جسمه وثقله وضعف إنسانيته قوة ربانية قد حصلها من علم الكتاب بالعمل به وهو أقدر بها على ما يقدر عليه الجن من الجن ولما كان كرامة هذا الولي في الإتيان بالعرش من معجزة سليمان.
{قَالَ الَّذِى عِندَه عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَـابِ أَنَا} هذه النعمة التي تفضل بها عليّ برؤية العجز عن الشكر.
{أَمْ أَكْفُرُ} انتهى.
قال قتادة : فلما رفع رأسه قال : الحمد الذي
350
جعل في أهلي من يدعوه فيستجب له.
كفت حمد الله برين صدنين
كه بدي ودستم زرب العالمين
{وَمَن} (وهركه) {شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة {وَمَن كَفَرَ} أي : لم يشكر بأن لم يعرف قدر النعمة ولم يؤد حقها فإن مضرة كفره عليه.
{فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ} عن شكره {كَرِيمٌ} بإظهار الكرم عليه مع عدم الشكر أيضاً وبترك تعجيل العقوبة.
قال في "المفردات" : المنحة والمحنة جميعاً بلاء فالمحنة مقتضية للصبر والمنحة مقتضية للشكر والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر فصارت المنحة أعظم البلاءين وبهذا النظر قال عمر رضي الله عنه : بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نصبر ، ولهذا قال أمير المؤمنين رضي الله عنه : من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله.
قال الواسطي رحمه الله : في الشكر إبطال رؤية الفضل كيف يوازي شكر الشاكرين فضله وفضله قديم وشكرهم محدث {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنه غني عنه وعن شكره.
وقال الشبلي رحمه الله : الشكر هو الخمود تحت رؤية المنة.
قال في "الأسئلة المقحمة" : في الآية دليل إثبات الكرامات من وجهين : أحدهما : أن العفريت من الجن لما ادعى إحضاره قبل أن يقوم سليمان من مقامه وسليمان لم ينكر عليه بل قال : أريد أعجل من هذا فلما جاز أن يكون مقدوراً لعفريت من الجن كيف لا يكون مقدوراً لبعض أولياء الله تعالى ، والثاني : أن الذي عنده علم من الكتاب وهو آصف وزير سليمان لم يكن نبياً وقد أحضره قبل أن يرتد طرفه إليه كما نطق به القرآن دل على جواز إثبات الكرامات الخارقة للعادات للأولياء خلافاً للقدرية حيث أنكروا ذلك انتهى.
والكرامة ظهور أمر خارق للعادة من قبل شخص غير مقارن لدعوى النبوة فما لا يكون مقروناً بالإيمان والعمل الصالح يكون استدراجاً وما يكون مقروناً بدعوى النبوة يكون معجزة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 346
قال بعضهم : لا ريب عند أول التحقيق أن كل كرامة نتيجة فضيلة من علم أو عمل أو خلق حسن فلا يعول على خرق العادة بغير علم صحيح أو عمل صالح فطي الأرض إنما هو نتيجة عن طي العبد أرض جسمه بالمجاهدات وأصناف العبادات وإقامته على طول الليالي بالمناجاة والمشي على الماء إنما هو لمن أطعم الطعام وكسا العراة إما من ماله أو بالسعي عليهم أو علم جاهلاً أو أرشد ضالاً لأن هاتين الصفتين سر الحياتين الحسية والعلمية وبينهما وبين الماء مناسبة بينة فمن أحكمها فقد حصل الماء تحت حكمه إن شاء مشى عليه وإن شاء زهد فيه على حسب الوقت وترك الظهور بالكرامات الحسية والعلمية أليق للعارف لأنه محل الآفات وللعارف استخدام الجن أو الملك في غذائه من طعامه وشرابه وفي لباسه.
(6/255)
قال في "كشف الأسرار" : فقد تحصل الكرامة باختيار الولي ودعائه وقد تكون بغير اختياره وفي الحديث : "كم من أشعث أغبر ذي طمرين لايؤبه له لو أقسم على الله لأبره" (در آثار بيارندكه مصطفى عليه السلام از دنيا بيرون شد زمين بالله ناليدكه "بقيت لا يمشي على نبي إلى يوم القيامة" الله كفت جل جلاله من ازين امت محمد مر داني بديد آرم كه دلهاي إيشان بدلهاي يغمبران يكي باشد وإيشان نيستند مكر أصحاب كرامات)
351
وكرامات الأولياء ملحقة بمعجزات الأنبياء إذ لو لم يكن النبي صادقاً في معجزته ونبوته لم تكن الكرامة تظهر على من يصدقه ويكون من جملة أمته ولم ينكر كرامات الأولياء إلا أهل الحرمان سواء أنكروها مطلقاً أو أنكروا كرامات أولياء زمانهم وصدقوا بكرامات الأولياء الذين ليسوا في زمانهم كمعروف وسهل وجنيد وأشباههم كمن صدق بموسى وكذب بمحمد عليهما السلام وما هي إلا خصلة إسرائيلية نسأل الله التوفيق وحسن الخاتمة في عافية لنا وللمسلمين أجمعين ونبتهل إليه في أنه يحشرنا مع أهل الكرامات آمين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 346
{قَالَ} سليمان كرر الحكاية تنبيهاً على ما بين السابق واللاحق من المخالفة لما أن الأول من باب الشكر والثاني أمر لخدمه.
{نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} تنكير الشيء جعله بحيث لا يعرف كما أن تعريفه جعله بحيث يعرف كما قال في "تاج المصادر" : التنكير ناشأً ساكردن والمعنى غيروا هيئته وشكله بوجه من الوجوه بحيث ينكر فجعل الشياطين أسفله أعلاه وبنوا فوقه قباباً أخرى هي أعجب من تلك القباب وجعلوا موضع الجوهر الأحمر الأخضر وبالعكس {نَنظُرْ} بالجزم على أنه جواب الأمر (تابنكريم) ما له بعد از سؤال ازو {أَتَهْتَدِى} إلى معرفته فتظهر رجاحة عقلها.
{أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} فتظهر سخافة عقلها وذلك أن الشياطين خافوا أن تفشي بلقيس أسرارهم إلى سليمان لأن أمها كانت جنية وإن يتزوجها سليمان ويكون بينهما ولد جامع للجن والإنس فيرث الملك ويخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد وأفظع ولا ينفكون من التسخير ويبقون في التعب والعمل أبداً فأرادوا أن يبغضوها إلى سليمان فقالوا : إن في عقلها خللاً وقصوراً ، وإنها شعراء الساقين وإن رجليها كحافر الحمار فأراد سليمان أن يختبرها في عقلها فأمر بتنكير العرش واتخذ الصرح كما يأتي ليتعرف ساقيها ورجليها.
{فَلَمَّا جَآءَتْ} بلقيس سليمان والعرش بين يديه.
{قِيلَ} من جهة سليمان بالذات وبالواسطة امتحاناً لعقلها.
{أَهَـاكَذَا عَرْشُكِ} (أيا ايننين است تخت تو) لم يقل هذا عرشك لئلا يكون تلقيناً لها فيفوت ما هو المقصود من الأمر بالتنكير وهو اختبار عقلها.
{قَالَتْ} يعني : لم تقل : لا ولا قالت : نعم بل شبهوا عليها فشبهت عليهم مع علمها بحقيقة الحال.
{كَأَنَّه هُوَ} (كوياكه اين آنست) فلوّحت لما اعتراه بالتنكير من نوع مغايرة في الصفات مع اتحاد الذات فاستدل بذلك على كمال عقلها وكأنها ظنت أن سليمان أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها فقالت : {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا} من قبل الآيات الدالة على ذلك.
{وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} من ذلك الوقت.
جزء : 6 رقم الصفحة : 352
{وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ} بيان من جهته تعالى لما كان يمنعها من إظهار ما ادعته من الإسلام إلى الآن أي صدها ومنعها عن ذلك عبادتها القديمة للشمس متجاوزة عبادة الله تعالى.
{إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَـافِرِينَ} تعليل لسببية عبادتها المذكور للصد أي أنها كانت من قوم راسخين في الكفر ولذلك لم تكن قادرة على إسلامها وهي بين ظهرانيهم إلى أن دخلت تحت ملك سليمان أي فصارت من قوم مؤمنين.
وفي "المثنوي" :
ون سلميان سوى مرغان سبا
يك صفيري كردبست آن جمله را
جز مكر مرغى كه بد بيجان وير
يا ون ما هي كنك بد از اصل وكر
352
وفي الآية دلالة على أن اشتغال المرء بالشيء يصده عن فعل ضده وكانت بلقيس تعبد الشمس فكانت عبادتها إياها تصرفها عن عبادة الله فلا ينبغي الإغراق في شيء إلا أن يكون عبادة الله تعالى ومحبته فإن الرجل إذا غلب حب ما سوى الله على قلبه ولم يكن له رادع من عقل أو دين أصمه حبه وأعماه كما قال عليه السلام : "حبك الشيء يعمي ويصم".
روي : أن سليمان أمر قبل قدومها فبني له على طريقها قصر صحنه من زجاج أبيض وأجري من تحته الماء وألقى فيه السمك ونحوه من دواب البحر (نانكه صحن أن خانه همه آب مينمود) ووضع سريره في وسطه فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس (ون بلقيس بدر كوشك رسيد).
جزء : 6 رقم الصفحة : 352
(6/256)
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ} الصرح القصر وكل بناء عال سمي بذلك اعتباراً بكونه صرحاً من الشوب أي خالصاً فإن الصرح بالتحريك الخالص من كل شيء.
{فَلَمَّا رَأَتْهُ} (س ون بديد قصر را در حالتي كه آفتاب برآن تافته بود وآب صافي مينمود وماهيانرا ديد).
{حَسِبَتْهُ لُجَّةً} اللجة معظم الماء.
وفي "المفردات" : لجة البحر تردد أمواجه.
وفي "كشف الأسرار" : اللجة الضحضاح من الماء وهو الماء اليسير أو إلى الكعبين وأنصاف السوق أو ما لا غرق فيه كما في "القاموس".
والمعنى : ظنت أنه ماء كثير بين يدي سرير سلميان.
وبالفارسية : (نداشت كه آب رف است ندانست كه آب درزير ابكينه است) فأرادت أن تدخل في الماء.
{وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} تثنية ساق وهي ما بين الكعبين كعب الركبة وكعب القدم أي تشمرت لئلا تبتل أذيالها فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً خلا أنها شعراء.
{قَالَ} لها سليمان : لا تكشفي عن ساقيك.
{إِنَّهُ} أي : ما توهمته ماء {صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ} مملس مسوى.
بالفارسية (همواره ون روى آبكينه وشمشير) ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر وكونه أملس الخدين وشجرة مرداء إذا لم يكن عليها ورق.
{مِّن قَوَارِيَرَ} أي مصنوع من الزجاج الصافي وليس بماء جمع قارورة.
وبالفارسية (آكينه).
وفي "القاموس" : القارورة ما قر فيه الشراب ونحوه أو يخص بالزجاج.
{قَالَتْ} حين عاينت تلك المعجزة أيضاً {رَبِّ} (أي روردكار من).
{إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} بعبادة الشمس.
{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} فيه التفات إلى الاسم الجليل والوصف بالربوبية لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى وتفرده باستحقاق العبودية وربوبيته لجميع الموجودات التي من جملتها ما كانت تعبده قبل ذلك من الشمس.
والمعنى : أخلصت له التوحيد تابعة لسليمان مقتدية به.
جزء : 6 رقم الصفحة : 353
وقال القيصري : أسلمت إسلام سليمان أي كما أسلم سليمان ومع في هذا الموضع كمع في قوله : {يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ} إذ لا شك أن زمان إيمان المؤمنين ما كان مقارناً لزمان إيمان الرسل وكذا إسلام بلقيس ما كان عند إسلام سليمان فالمراد كما أنه آمن بالله آمنت بالله وكما أنه أسلم أسلمت انتهى.
ويجوز أن يكون مع ههنا واقعاً موقع بعد كما في قوله : {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} .
واختلف في نكاح بلقيس فقيل : أنكحها سليمان فتى من أبناء ملوك اليمن وهو ذو تبع ملك همدان وتبع بلغة اليمن الملك المتبوع وذلك أن سلميان لما عرض عليها النكاح أبته وقالت : مثلي لا ينكح الرجال فأعلمها سليمان أن النكاح من شريعة الإسلام فقالت : إن كان ذلك فزوجني من ذي
353
تبع فزوجه إياها ثم ردها إلى اليمن وسلط زوجها إذا تبع على اليمن ردعا زوبعة أمير جن اليمن فأمره أن يكون في خدمة ذي تبع ويعمل له ما استعمله فيه فصنع له صنائع باليمن وبنى له حصوناً مثل صرواح ومرواج وهندة وهنيدة وفلتوم (اين نام قلعها ست درزمين يمن كه شياطين آنرا بناكرده اندازبهر ذي تبع وامروز ازان هي براي نيست همه خراب كشته ونيست شده) وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان ولما مات سليمان نادى زوبعة يا معشر الجن قد مات سليمان فارفعوا رؤوسكم فرفعوها وتفرقوا.
والجمهور على أن سليمان نكحها لنفسه.
قال في "التأويلات النجمية" : في الآية دليل على أن سليمان أراد أن ينكحها وإنما صنع الصرح لتكشف عن ساقيها فرآها ليعلم ما قالت الشياطين في حقها أصدق أم كذب ولو لم يستنكحها لما جوز من نفسه النظر إلى ساقيها انتهى.
قال في "فتح الرحمن" : أراد سليمان تزوجها فكره شعر ساقيها فسأل الإنس ما يذهب هذه قالوا : الموسى فقال : الموسى يخدش ساقها فسأل الجن فقالوا : لا ندري ثم سأل الشياطين فقالوا : نحتال لك حتى تصير كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة والحمام فكانت النورة والحمام من يومئذ.
ويقال : إن الحمام الذي ببيت المقدس بباب الأسباط إنما بني لها وأنه أول حمام بني على وجه الأرض.
(6/257)
وفي "روضة الأخبار" : قال جني لسليمان : أبني لك داراً تكون في بيوته الأربعة الفصول الأربعة من السنة فبنى الحمام فلما تزوجها سليمان أحبها حباً شديداً وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعاً وحسناً وهي ملحين وغمدان وبينون (امروز ازان بناها وقصرها جز اسم وطلل آن برجاي نيست بلكه همه خرابند) كما قال تعالى في سورة هود وحصيد ثم كان يزروها في كل شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له داود بن سليمان بن داود (وآن سر درحيات در ازدنيا برفت).
روي : أن سليمان ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة فمدة ملكه أربعون سنة ووفاته في أواخر سنة خمس وسبعين وخمسمائة لوفاة موسى عليه السلام وبين وفاته والهجرة الشريفة الإسلامية ألف وسبعمائة وثلاث وسبعون سنة ونقل أن قبره ببيت المقدس عند الجيسمانية وهو وأبوه داود في قبر واحد.
وبلقيس بعد (از سليمان بيك ماه ازدنيا برفت) ولما كسروا جدار تدمر وجدوها قائمة عليها اثنتان وسبعون حلة قد أمسكها الصبر والمصطكى ذلك وأن جمالها شيء عظيم إذا حركت تحركت مكتوب عندها : أنا بلقيس صاحبة سليمان بن داود خرب الله من يخرب بيتي وكان ذلك في ملك مروان الحمار.
جزء : 6 رقم الصفحة : 353
همه تخت وملكي ذيرد زوال
بجز ملك فرمانده لا يزال
جهان اي سر ملك جاويد نيست
زدنيا وفاداري اميد نيست
مكن تكيه برملك وجاه وحشم
كه يش ازتو بودست وبعدازتوهم
نه لايق بود عشق بادلبري
كه هر بامدادش بود شوهري
دريغا كه بي ما بسي روز كار
برويد كل وبشكفد نوبهار
مكن عمر ضايع بافسوس وحيف
كه فرصت عزيز ست والوقت سيف
عروسي بود نوبت ما تمت
كرت نيك روزي بودخاتمت
354
جزء : 6 رقم الصفحة : 353
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ} وهي قبيلة من العرب كانوا يعبدون الأصنام.
{أَخَاهُمْ} النسبي المعروف عندهم بالصدق والأمانة.
{صَـالِحًا} قد سبق ترجمته.
{أَنْ} مصدرية ، أي بأن {اعْبُدُوا اللَّهَ} الذي لا شريك له {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} الاختصام (بايكديكر خصومت وجدل كردن) وأصله أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر بالضم أي جانبه.
والمعنى فاجؤوا التفرق والاختصام فآمن فريق وكفر فريق.
وبالفارسية : ( آنكاه ايشان دوفريق شدند مؤمن وكافر وبجنك وخصومت در امدند بايكديكر).
قال الكاشفي : (ومخاصمه إيشان درسوره إعراف رقم ذكر يافته) وهو قوله تعالى : {قَالَ الْمَلا الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِه لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} (الأعراف : 75) الآية.
{قَالَ} صالح للفريق الكافر منهم يا قَوْمِ} (أي كروه من) {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ} بالعقوبة فتقولون : ائتنا بما تعدنا.
والاستعجال طلب الشيء قبل وقته وأصل لم لما على أنه استفهام.
{قَبْلَ الْحَسَنَةِ} قبل التوبة فتؤخرونها إلى حين نزول العقاب فإنهم كانوا من جهلهم وغوايتهم يقولون : إن وقع إيعاده تبنا حينئذ وإلا فنحن على ما كنا عليه.
قال في "كشف الأسرار" : (معنى قبل انيجا نه تقدم زمانست بلكه تقدم رتبت واتخبارست همنانكه كسى كويد) صحة البدن قبل كثرة المال.
{لَوْلا} حرف تحضيض بمعنى هلا {تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} (را استغفار نمي كنيد يش از نزول عذاب وبايمان وتوبه از خدا آمرزش نميطلبيد) {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بقبولها فلا تعذبون إذ لا إمكان للقبول عند النزول.
جزء : 6 رقم الصفحة : 355
تويش از عقوبت درعفو كوب
كه سودي ندارد فغان زيروب
{قَالُوا اطَّيَّرْنَا} (فال بد كرفتيم) وأصله تطيرنا والتطير التشاؤم ، وهو بالفارسية : (شوم داشتن) عبر عنه بذلك لأنهم كانوا إذا خرجوا مسافرين فمروا بطائر يزجرونه فإن مر سانحاً تيمنوا وإن مر بارحاً تشاءموا فلما نسبوا الخير والشر إلى الطير استعير لما كان سبباً لهما من قدر الله تعالى وقسمته أو من عمل العبد.
قال في "فتح الرحمن" و"الكواشي" : السانح هو الذي ولاه ميامنه فيتمكن من رميه فيتيمن به والبارح هو الذي ولاه مياسره فلا يتمكن من رميه فيتشاءم به ثم استعمل في كل ما يتشاءم به.
وفي "القاموس" : البارح من الصيد ما مر من ميامنك إلى مياسرك وبرح الظبي بروحاً ولاك مياسره ومرج وسنح سنوحاً ضد برح ومن لي بالسانح بعد البارح أي بالمبارك بعد المشؤوم.
قال في "كشف الأسرار" : هذا كان اعتقاد العرب في بعض الوحوش والطيور أنها إذا صاحت في جانب دون جانب دل على حدوث آفات وبلايا ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنها وقال : "أقروا الطير على مكناتها" لأنها أوهام لا حقيقة معها والمكنات بيض الضبة واحدتها مكنة.
قال عكرمة رضي الله عنه : كنا عند ابن عباس رضي الله عنهما فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم : خير فقال ابن عباس رضي الله عنهما لا خير ولا شر.
لا تنطقن بما كرهت فربما
نطق اللسان بحادث فيكون
(6/258)
وفي الحديث : "إن الله يحب الفأل ويكره الطيرة" قال ابن الملك كان أهل الجاهلية إذا قصد واحد إلى حاجة وأتى من جانبه إلا يسر طير أو غيره يتشاءم به فيرجع هذا هو الطيرة ومعنى الآية تشاءمنا.
355
{أَنتَ وَمَن مَّعَكَ} في دينك حيث تتابعت علينا الشدائد (اين دعوت توشوم آمد برما) وكانوا قحطوا فقالوا : أصابنا هذا الشر من شؤمك وشؤم أصحابك وكذا قال قوم موسى لموسى وأهل أنطاكية لرسلهم {قَالَ طَائرُكُمْ} سببكم الذي جاء منه شركم {عِندَ اللَّهِ} وهو قدره أو عملكم المكتوب عنده.
وسمي القدر طائراً لسرعة نزوله ولا شيء أسرع من قضاء محتوم كما في "فتح الرحمن" : وبالفارسية : (قال شما أزخير وشر نزديك خداست يعني سبب محنت شما مكتوبست نزديك خدا بحكم أزلي وبجهت من متبدل نكردد).
قلم به نيك وبد خلق درازل رفتست
بكوفت وكوي خلائق كر نخواهدشد
جزء : 6 رقم الصفحة : 355
{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} تختبرون بتعاقب السراء والضراء أي الخير والشر والدولة والنكبة والسهولة والصعوبة أو تعذبون والإضراب من بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه يقال : فتنت الذهب بالنار أي اختبرته لأنظر إلى جودته واختبار الله تعالى إنما هو لإظهار الجودة والرداءة ففي الأنبياء والأولياء والصلحاء تظهر الجودة ألا ترى أن أيوب عليه السلام امتحن فصبر ، فظهر للخلق درجته وقربه من الله تعالى وفي الكفار والمنافقين والفاسقين تظهر الرداءة.
حكي : أن امرأة مرضت مرضاً شديداً طويلاً فأطالت على الله تعالى في ذلك وكفرت ولذا قيل : عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان.
خوش بود كرمحك تجربه آيد بميان
تاسيه روى شود هركه دروغش باشد
والابتلاء مطلقاً أي سواء كان في صورة المحبوب أو في صورة المكروه رحمة من الله تعالى في الحقيقة لأن مراده جذب عبده إليه فإن لم ينجذب حكم عليه الغضب في الدنيا والآخرة كما ترى في الأمم السالفة ومن يليهم في كل عصر إلى آخر الزمان.
ثم إن أهل الله تعالى يستوي عندهم المنحة والمحنة إذ يرون كلاً منهما من الله تعالى فيصفون وقتهم فيتوكلون ولايتطيرون ويحمدون ولا يجزعون ثم إن مصيبة المعصية أعظم من مصيبة غيرها وبلاء الباطن أشد من بلاء الظاهر.
قال ابن الفارسي رحمه الله :
وكل بلا أيوب بعض بليتي
مراده أن مرضي في الروح ومرض أيوب عليه السلام في الجسد مع أنه مؤيد بقوة النبوة فبلائي أشد من بلائه نسأل الله التوفيق والعافية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 355
{وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ} أي الحجر بكسر الحاء المهملة وهي ديار ثمود وبلادهم فيما بين الحجاز والشام.
{تِسْعَةُ رَهْطٍ} أشخاص وبهذا الاعتبار وقع تمييزاً للتسعة لا باعتبار لفظه فإن مميز الثلاثة إلى العشرة مخفوض مجموع.
والفرق بينه وبين النفر أنه من الثلاثة أو من التسعة إلى العشرة ليس فيهم امرأة والنفر من الثلاثة إلى السعة وأسماؤهم حسبما نقل عن وهب هذيل بن عبد الرب وغنم بن غنم وياب بن مهرج ومصدع بن مهرج وعمير بن كردية وعاصم بن مخزمة وسبيط بن صدقة وسمعان بن صفي وقدار بن سالف.
وفي "كشف الأسرار" : أسماؤهم قدار بن سالف ومصدع بن دهر وأسلم ورهمي ورهيم ودعمي ودعيم وقبال وصداف وهم الذين سعوا في عقر الناقة وكانوا عتاة قوم صالح وكانوا من أبناء أشرافهم ثم وصف التسعة بقوله : {يُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ} في أرض الحجر بالمعاصي.
وفي "الإرشاد" : في الأرض لا في المدينة فقط وهو بعيد لأن العرض في نظائر هذه القصة إنما حملت على أرض
356(6/259)
معهودة هي أرض كل قبيلة وقوم لا على الأرض مطلقاً.
{وَلا يُصْلِحُونَ} أي : لا يفعلون شيئاً من الإصلاح ، ففائدة العطف بيان أن إفسادهم لا يخالطه شيء ما من الإصلاح {قَالُوا} استئناف لبيان بعض ما فعلوا من الفساد ، أي قال بعضهم لبعض في أثناء المشاورة في أمر صالح وكان ذلك فيما أنذرهم بالعذاب على قتلهم الناقة وبين لهم العلامة بتغيير ألوانهم كما قال : {تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلَـاثَةَ أَيَّامٍ} (هود : 65) {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} تحالفوا يقال : أقسم أي حلف وأصله من القسامة وهي أيمان تقسم على المتهمين في الدم ثم صار اسماً لكل حلف وهو أمر مقول لقالوا أو ماض وقع حالاً من الواو بإضمار قد أي والحال أنهم تقاسموا بالله.
{لَنُبَيِّتَنَّه وَأَهْلَهُ} لنأتين صالحاً ليلاً بغتة فلنقتلنه وأهله.
وبالفارسية (هر ريينه شبيخون ميكنيم بر صالح وبركسان) أو قال في "التاج" : (التبييت : شبيخون كردن) يعني مباغتة العدو وقصده ليلاً.
{ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} أي : لولي دم صالح ـ يعني (أكرم رسندكه صالح راكه كشته است كوييم).
{مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي : ما حضرنا هلاكهم فضلاً عن أن نتولى إهلاكهم فيكون مصدراً أو وقت هلاكهم فيكون زماناً أو مكان هلاكهم فيكون اسم مكان.
وبالفارسية : (حاضر نبوديم كشتن صالح وكسان أورا).
{وَإِنَّا لَصَـادِقُونَ} فيما نقول فهو من تمام القول.
وبالفارسية : (وبدرستي كه ما راست كويانينم) وهذا كقولهم ليعقوب في حق يوسف : {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَـادِقِينَ} (يوسف : 17).
جزء : 6 رقم الصفحة : 356
{وَمَكَرُوا مَكْرًا} بهذه المواضعة.
والمكر صرف الغير عما يقصده بحيلة.
{وَمَكَرْنَا مَكْرًا} أي : جعلنا هذه المواضعة سبباً لإهلاكهم.
{وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بذلك :
هر آنكه تخم بدي كشت وشم نيكي داشت
دما غ بيهده خت وخي الباطل بست
جزء : 6 رقم الصفحة : 356
{فَانظُرْ} تفكر يا محمد في أنه {كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} أي : على أي حال وقع وحدث عاقبة مكرهم وهي : {أَنَّا دَمَّرْنَـاهُمْ} التدمير استئصال الشيء بالهلاك {وَقَوْمَهُمْ} الذين لم يكونوا معهم في مباشرة التبييت.
{أَجْمَعِينَ} بحيث لم يشذ منهم شاذ.
روي : أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه ولما قال لهم بعد عقرهم الناقة : إنكم تهلكون إلى ثلاثة أيام قالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب وقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فبعث الله صخرة خيالهم فبادروا فطبقت عليهم في الشعب فهلكوا ثمة.
وبالفارسية : (ناكاه سنكي برايشان فرود آمد وهمه رادرزير كرفت ودرغار وشيده وءيشان در آنجا هلاك شدند) فلم يدر قومهم أين هم وهلك الباقون في أماكنهم بالصيحة.
يقول الفقير : الوجه في هلاكهم بالتطبيق أنهم أرادوا أن يباغتوا صالحاً فباغتهم الله وفي هلاك قومهم بالصيحة إنهم كانوا يصيحون إليهم فيما يتعلق بالإفساد فجاء الجزاء لكل منهم من جنس العمل.
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ} حال كونها {خَاوِيَةَ} خالية عن الأهل والسكان من خوى البطن إذا خلا أو ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط.
وبالفارسية : (س آنست خانهاي إيشان در زمين حجر بنكريد آنرادر حالتي كه خالي وخرابست).
{بِمَا ظَلَمُوا} أي : بسبب ظلمهم المذكور وغيره كالشرك.
قال سهل رحمه الله : الإشارة في البيوت إلى القلوب فمنها عامرة بالذكر ومنها خراب بالغفلة ومن ألهمه
357
الله الذكر فقد خلص من الظلم.
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} المذكور من التدمير العجيب بظلمهم.
{لايَةً} لعبرة عظيمة {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يتصفون فيتعظون.
يعني : إعلم يا محمد أني فاعل ذلك العذاب بكفار قومك في الوقت الموقت لهم فليسوا خيراً منهم كما في "كشف الأسرار".
{وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} صالحاً ومن معه من المؤمنين {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أي الكفر والمعاصي اتقاء مستمراً فلذلك خصوا بالنجاة وكانوا أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت وهي مدينة من مدن اليمن وسميت حضرموت لأن صالحاً لما دخلها مات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 357
(6/260)
وفيه إشارة إلى أن الهجرة من أرض الظلم إلى أرض العدل لازمة خصوصاً من أرض الظالمين المؤاخذين بأنواع العقوبات إذ مكان الظلم ظلمة فلا نور للعبادة فيه وإن الإنسان إذا ظلم في أرض ثم تاب فالأفضل له أن يهاجر منها إلى مكان لم يعص الله تعالى فيه ، ثم إن الظالم المفسد في مدينة القالب الإنساني هي العناصر الأربعة والحواس الخمس وهي تسعة رهط يجتهدون في غلبة صالح القلب لمخالفته لهم فإن القلب يدعوهم إلى العبودية وترك الشهوات وهم يدعونه إلى النظر إلى الدنيا والأعراض عن العقبى والتعطل عن خدمة المولى فإذا كان القلب مؤيداً بالإلهام الرباني لا يميل إلى الحظوظ الظاهرة والباطنة ويغلب على القوى جميعاً فيحصل له النجاة وتهلك الخواص التسع وآفاتها فيبقى القالب والأعضاء التي هي مساكن الخواص خالية عن الخواص والآفات الغالبة ثم لا يحيا ما مات أبداً ونعم ما قيل : "الفاني لا يرد إلى أوصافه" (س أوليارا خوف ظهور طبيعت نيست زيراكه طبيعت ونفس عدواست وعدو خالي نميشودازغدر ومكر س ون عداوت بمحبت منقلب ميشود مكر زائل كردد وخوف نماند) نسأل الله سبحانه أن ينجينا من مكر النفس والشيطان ويخلصنا من مكاره الأعداء مطلقاً في كل زمان.
{وَلُوطًا} أي : وأرسلنا لوطاً بن هاران {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ظرف للإرسال على أن المراد به أمر ممتد وقع فيه الإرسال وما جرى بينه وبين قومه من الأفعال والأقوال.
وقال بعضهم : انتصاب لوطاً بإضمار اذكر وإذ بدل منه أي واذكر إذ قال لوط لقومه على وجه الإنكار عليهم.
{أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ} الفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال والمراد به ههنا اللواطة والإتيان في الأدبار.
والمعنى أتفعلون الفعلة المتناهية في القبح وبالفارسية : (آيامي آإييد بعمل زشت).
{وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} من بصر القلب وهو العلم فإنه يقال لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة ، ويقال للضرير بصير على سبيل العكس أو لما له قوة بصيرة القلب أي والحال أنكم تعلمون فحشها علماً يقينياً وتعاطي القبيح من العالم بقبحه أقبح من غيره ولذا قيل : فساد كبير جاهل متنسك وعالم متهتك ، أو من نظر العين أي وأنتم تبصرونها بعضكم من بعض لما أنهم كانوا يعلنون بها ولا يستترون فيكون أفحش.
أئنَّكُمْ} (آيا شما) {لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} بيان لإتيانهم الفاحشة وعلل الإتيان بقوله : {شَهْوَةً} للدلالة على قبحه والتنبيه على أن الحكمة في المواقعة طلب النسل لا قضاء الوطر وأصل الشهوة نزوع النفس إلى ما تريده {مِّن دُونِ النِّسَآءِ} أي حال كونكم مجاوزين النساء اللاتي هن محال الشهوة.
{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} حيث لا تعملون بموجب علمكم فإن من لا يجري على مقتضى بصارته وعلمه ويفعل فعل الجاهل
358
فهو والجاهل سواء وتجهلون صفة لقوم والتاء فيه لكون الموصوف في معنى المخاطب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 357
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} نصب الجواب لأنه خبر كان واسمه قوله : {إِلا أَن قَالُوا} أي : قول بعضهم لبعض {أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ} ومن تبعه {مِّن قَرْيَتِكُمْ} وهي سدوم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ} جمع إنس والناس مخفف منه ، والمعنى بالفارسية : (بدرستي كه إيشان مردمانندكه) {يَتَطَهَّرُونَ} يتنزهون عن أفعالنا أو عن الأقذار ويعدون أفعالنا قذراً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه على طريق الاستهزاء وهذا لجواب هو الذي صدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات المواعظ بالأمر والنهي لا أنه لم يصدر عنهم كلام آخر غيره.
{فَأَنجَيْنَـاهُ} أي : لوطاً {وَأَهْلَهُ} أي : بنيته ريشاء ورعواء بأن أمرناهم بالخروج من القرية.
{إِلا امْرَأَتَهُ} الكافرة المسماة بواهلة لم ننجها.
{قَدَّرْنَـاهَا مِنَ الْغَـابِرِينَ} أي : قدرنا وقضينا كونها من الباقين في العذاب فلذا لم يخرج من القرية مع لوط أو خرجت ومسخت حجراً كما سبق يقال : غبر غبوراً إذا بقي وتمامه في أواخر سورة الشعراء.
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم} .
بعد قلب قريتهم وجعل عاليها سافلها أو على شذاذهم ومن كان منهم في الأسفار.
{مَّطَرًا} غير معهود وهو حجارة السجيل {فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} أي : بئس مطر من أنذر فلم يخف والمخصوص بالذم هو الحجارة.
قال ابن عطية : وهذه الآية أصل لمن جعل من الفقهاء الرجم في اللواط لأن الله تعالى عذبهم على معصيتهم به ومذهب مالك رجم الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا ومذهب الشافعي وأحمد حكمه كالزنى فيه الرجم مع الإحصان والجلد مع عدمه ومذهب أبي حنيفة أنه يعزر ولا حد عليه خلافاً لصاحبيه فإنهما ألحقاه بالزنى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 359(6/261)
وفي "شرح الأكمل" : أن ما ذهب إليه أبو حنيفة إنما هو استعظام لذلك الفعل فإنه ليس في القبح بحيث أنه يجازى بما يجازى به القتل والزنى وإنما التعزير لتسكين الفتنة الناجزة كما أنه يقول في اليمين الغموس أنه لا يجب فيه الكفارة لأنه لعظمه لا يستتر بالكفارة.
يقول الفقير : عذبوا بالرجم لأنه أفظع العذاب كما أن اللواطة أفحش المنهيات وبقلب المدينة لأنهم قلبوا الأبدان عند الإتيان فافهم فجوزوا بما يناسب أعمالهم الخبيثة.
نه هركز شنيديم در عمر خويش
كه بد مردار نيك آمد به يش
والإشارة في الفاحشة إلى كل ما زلت به الأقدام عن الصراط المستقيم وأمارتها في الظاهر إتيان منهيات الشرع على وفق الطبع وهو النفس وعلاماتها في الباطن حب الدنيا وشهواتها والاحتظاظ بها وفي الحديث : "أنتم على بينة من ربكم ما لم تظهر منكم سكرتان سكرة الجهل
359
وسكر حب الدنيا".
قال بعض الكبار : ثلاثة من علامات الصدق والوصول إلى محل الأنبياء : الأول إسقاط قدر الدنيا والمال من قلبك حتى يصير الذهب والفضة عندك كالتراب ، والثاني : إسقاط رؤية الخلق عن قلبك بحيث لا تلتفت إلى مدحهم وذمهم فكأنهم أموات وأنت وحيد على الأرض ، والثالث : إحكام سياسة النفس حتى يكون فرحك من الجوع وترك الشهوات كفرح أبناء الدنيا بالشبع ونيل الشهوات.
ثم إن المرأة الصالحة الجميلة ليست من قبيل الشهوات بل من أسباب التصفية وموافقتها من سعادات الدنيا كما قال علي رضي الله عنه : من سعادة الرجل خمسة أن تكون زوجته موافقة وأولاده أبراراً وإخوانه أتقياء وجيرانه صالحين ورزقه في بلده.
وأما الغلام الأمرد فمن أعظم فتن الدنيا إذ لا إمكان لنكاحه كالمرأة.
فعلى العاقل أن يجتنب عن زنى النظر ولواطته فضلاً عن الوقوقع فيهما فإن الله تعالى إذا رأى عبده حيث ما نهى غار وقهر فالعياذ به من سطوته والالتجاء إليه من سخطه ونقمته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 359
{قُلِ الْحَمْدُ} قل يا محمد : الحمد على جميع نعمه التي من جملتها إهلاك أعداء الأنبياء والمرسلين وأتباعهم الصديقين فإنهم لما كانوا إخوانه عليه السلام كان النعمة عليهم نعمة عليه.
{وَسَلَـامٌ} وسلامة ونجاة {عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىا} أي : اصطفاهم الله وجعلهم صفوة خليقته في الأزل وهداهم واجتباهم للنبوة والرسالة والولاية في الأبد فهم الأنبياء والمرسلون وخواصهم المقربون الذين سلموا من الآفات ونجوا من العقوبات مطلقاً.
وفيه رمز إلى هلاك أعدائه عليه السلام ولو بعد حين وإشعار له ولأصحابه بحصول السلامة والنجاة من أيديهم وهكذا عادة الله تعالى مع الورثة الكمل وأعدائهم في كل زمان هذا هو اللائح للبال في هذا المقام وهو المناسب لسوابق الآيات العظام (وكفته اند أهل ءسلام آنا نندكه دل آيشان سالم است از لوث علائق وسر إيشان خاليست از فكر خلائق امروز سلام بواسطه شنوند فردا سلام بي واسطه خواهند شنيد) {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} .
هر بنده كه أوكشت مشرف بسلامت
البته شود خاص بتشريف سلامت
لطفي كن وبنواز دلم را بسلامت
زيراكه سلامت همه لطفست وكرامت
{اللَّهِ} بالمد الأولى تخفيفاً.
والمعنى الله الذي ذكرت شؤونه العظيمة.
وبالفارسية (آيا خداي بحق).
{خَيْرٌ} أنفع لعابديه.
وفي "كشف الأسرار" : (بهست خدايي را) {أَمَّا} أم الذين فأم متصلة وما موصولة {يُشْرِكُونَ} به من الأصنام أي أم الأصنام أنفع لعابديها يعني الله خير وكان عليه السلام إذا قرأ هذه الآية قال : "بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم".
فإن قيل : لفظ الخير يستعمل في شيئين فيهما خير ولأحدهما مزية ولا خير في الأصنام أصلاً.
قلنا : المراد إلزام المشركين وتشديد لهم وتهكم بهم أو هو على زعم أن في الأصنام خيراً ثم هذا الاستفهام والاستفهامات الآتية تقرير وتوبيخ لا استرشاد ثم أضرب وانتقل من التثبيت تعريضاً إلى التصريح به خطاباً لمزيد التشديد فقال :
جزء : 6 رقم الصفحة : 360
{أَمْ} منقطعة مقدرة ببل والهمزة {مِّنَ} موصولة مبتدأ خبره محذوف وكذا في نظائرها الآتية.
والمعنى بل أم من
360
{خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} التي هي أصول الكائنات ومبادىء المنافع خير أم ما يشركون.
يعني أن الخالق للأجرام العلوية والسفلية خير لعابديه أو للمعبودية كما هو الظاهر.
{وَأَنزَلَ لَكُم} أي لأجل منفعتكم.
{مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً} نوعاً منه هو المطر ثم عدل عن الغيبة إلى التكلم لتأكيد الاختصاص بذاته فقال : {فَأَنابَتْنَا بِهِ} أي : بسبب ذلك الماء.
{حَدَآاـاِقَ} بساتين محدقة ومحاطة بالحوائط.
وبالفارسية : (بوستانها ديوار بست) من الأحداق وهو الإحاطة.
(6/262)
وقال في "المفردات" : الحدائق جمع حديقة وهي قطعة من الأرض ذات ماء سميت بها تشبيهاً بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها وحدقوا به وأحدقوا أحاطوا به تشبيهاً بإدارة الحدقة انتهى.
{ذَاتَ بَهْجَةٍ} البهجة حسن اللون وظهور السرور فيه أي صاحبة حسن ورونق يبتهج به النظار وكل موضع ذي أشجار مثمرة محاط عليه فهو حديقة وكل ما يسر منظره فهو بهجة.
{مَّا كَانَ لَكُمْ} أي : ما صح لكم وما أمكن {أَن تُنابِتُوا شَجَرَهَآ} شجر الحدائق فضلاً عن ثمرها {لَهَا} آخر كائن {مَّعَ اللَّهِ} الذي ذكر بعض أفعاله التي لا يكاد يقدر عليها غيره حتى يتوهم جعله شريكاً له في العبادة.
وبالفارسية : (آيا هست خداي يعني نيست معبودي باخداي بحق).
{بَلْ هُمْ} بلكه مشركان {قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} قوم عادتهم العدول والميل عن الحق الذي هو التوحيد والعكوف على الباطل الذي هو الإشراك أو يعدلون يجعلون له عديلاً ويثبتون له نظيراً.
قال في "المفردات" : قوله : بل هم قوم يعدلون يصح أن يكون من قولهم عدل عن الحق إذا جار عدولاً انتهى فهم جاروا وظلموا بوضع الكفر موضع الإيمان والشرك محل التوحيد وهو إضرا وانتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى بيان سوء حالهم وحكاية لغيرهم ثم أضرب وانتقل إلى التبكيت بوجه آخر أدخل في الإلزام فقال :
جزء : 6 رقم الصفحة : 360
{أَمْ} منقطعة {مِّنَ} موصولة كما سبق {جَعَلَ الارْضَ قَرَارًا} يقال : قر في مكانه يقر قراراً إذا ثبت ثبوتاً جامداً وأصله القر وهو البرد لأجل أن البرد يقتضي السكون والحر يقتضي الحركة والمراد بالقرار هنا المستقر.
والمعنى بل أم من جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب بإظهار بعضها من الماء بالارتفاع وتسويتها حسبما يدور عليه منافعهم خير من الذي يشركون به من الأصنام وذكر بعض الآيات بلفظ الماضي لأن بعض أفعاله تقدم وحصل مفروغاً منه وبعضها يفعلها حالاً بعد حال.
{وَجَعَلَ خِلَـالَهَآ} جمع خلل وهي الفرجة بين الشيئين نحو خلل الدار وخلل السحاب ونحوهما أوساطها.
وبالفارسية (وبيدا كرد درميا نهاي زمين).
{أَنْهَـارًا} جارية ينتفعون بها هو المفعول الأول للجعل قدم عليه الثاني لكونه ظرفاً وعلى هذا المفاعيل للفعلين الآتيين {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ} يقال : رسا الشيء يرسو ثبت.
قال في "كشف الأسرار" : الرواسي جمع الجمع يقال : جبل راس وجبال راسية ثم تجمع الراسية على الرواسي أي جبالاً ثوابت تمنعها أن تميل بأهلها وتضطرب ويتكون فيها المعادن وينبع في حضيضها الينابيع ويتعلق بها من المصالح ما لا يخفى.
قال بعضهم : جعل نفوس العابدين قرار طاعتهم وقلوب العارفين قرار معرفتهم وأرواح الواجدين قرار محبتهم وأسرار الموحدين قرار مشاهدتهم وفي أسرارهم أنهار الوصلة وعيون القربة بها يسن ظمأ اشتياقهم وهيجان
361
احتراقهم وجعل لها رواسي من الخوف والرجاء والرغبة والرهبة وأيضاً جعل للأرض رواسي من الأبدال والأولياء والأوتاد بهم يديم إمساك الأرض وببركاتهم يدفع البلاء عن الخلق وكما لا تختص الرواسي الظاهرة بديار الإسلام كذلك الرواسي الباطنة لا تختص بها بل تعمها وديار الكفرة فإن الوجود مطلقاً لا بد له من سبب البقاء فسبحان المفيض على الأولياء والأعداء.
{وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ} أي : العذب والمالح أو خليجي فارس والروم.
{حَاجِزًا} برزخاً مانعاً من الممازجة والمخالطة كما مر في سورة الفرقان.
جزء : 6 رقم الصفحة : 361
قال في "المفردات" : الحجز المنع بين الشيئين بفاصل بينهما وسمي الحجاز بذلك لكونه حاجزاً بين الشام والبادية.
{لَهَا} آخر كائن {مَّعَ اللَّهِ} في الوجود أو في إبداع هذه البدائع : يعني ليس معه غيره.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي : شيئاً من الأشياء ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشكر مع كمال ظهوره.
{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} الضمير المنصوب راجع إلى المبتدأ وهو من الموصولة التي أريد بها الله تعالى والمعنى أم من يستجيب الملجأ إلى ضيق من الأمر إذا تضرع بالدعاء إليه.
{وَيَكْشِفُ السُّواءَ} ويدفع عن الإنسان ما يسوءه ويحزنه خير أم الذي يشركون به من الأصنام والاضطرار افتعال من الضرورة وهي الحالة المحوجة إلى اللجأ والمضطر الذي أحوجته شدة من الشدائد إلى اللجأ والضراعة إلى الله تعالى كالمرض والفقر والدين والغرق والحبس والجور والظلم وغيرها من نوازل الدهر فكشفها بالشفاء والإغناء والإنجاء والإطلاق والتلخيص (شيخ داود اليماني قدس سره بعيادت بيماري رفته بود بيمار كفت اي شيخ دعاكن براي شفاي من شيخ كفت تودعاكن كه مضطري وأجابت بدعاء مضطر بازبسته زيراكه نياز أو بيشتر باشد وحق سبحانه نياز بيار كان دوست يمدارد).
اين نياز مريمي بودست ودرد
كان نان طفلي سخن غاز كردهر كجار دردي داوا آنجابود
هر كجا فقري نوا آنجارودهر كجا مشكل جواب آنجارود
هر كجا ستيست آب آنجارود
(6/263)
يش حق يك ناله ازروي نياز
به كه عمري درسجود ودر نماززوررا بكذدار زاريرا بكير
رحم سوى زاري آيد أي فقير قال بعضهم : فصل بين الإجابة وكشف السوء فالإجابة بالقول والكشف بالطول والإجابة بالكلام والكشف بالإنعام ودعاء المضطر لا حجاب به ودعاء المظلوم لا مرد له ولكل أجل كتاب.
قال أهل التفسير : اللام في المضطر للجنس لا للاستغراق حتى يلزم إجابة كل مضطر فإن الله تعالى يجيب إجابة المضطرين لكن يجيب لبعضهم بالقول ولبعضهم بالفعل على حسب الحكمة والمصلحة.
قال في "نفائس المجالس" : جاء في الحديث : "حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة" فلما سمعه أبو بكر رضي الله عنه قال : يا رسول الله حبب إليّ من دنياكم ثلاث النظر إليك وإنفاق مالي عليك والجلوس بين يديك" وقال عمر رضي الله عنه : "حبب إليّ من دنياكم ثلاث النظر إلى أولياء الله والقهر لأعداء الله والحفظ لحدود الله" وقال عثمان رضي الله عنه : "يا سيدي حبب إليّ من دنياكم ثلاث إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام" وقال علي رضي الله عنه : "يا سيدي حبب إليّ من دنياكم ثلاث الضرب
362
بالسيف والصوم بالصيف وإكرام الضيف" فجاء جبريل عليه السلام وقال : "يا سيدي حبب إليّ من دنياكم ثلاث إرشاد الضالين وإعانة المساكين ومؤانسة كلام رب العالمين" ثم غاب وجاء بعد ساعة فقال : إن الله يقرئك السلام ويقول : "أحب من دنياكم ثلاثاً دمع العاصين وعذاب المذنبين الغير التائبين وإجابة دعوة المضطرين".
جزء : 6 رقم الصفحة : 361
قال بعضهم : العارف لا يزال مضطراً معناه أن العامة اضطرارهم بمنيرات الأسباب فإذا زالت زال اضطرارهم وذلك لغلبة الحس على شهودهم فلو شهدوا قبضة الله الشاملة المحيطة لعلموا أن اضطرارهم إلى الله دائم ولدوام شرط الاضطرار ووصفه لا يزال دعاء العارفين مستجاباً والأهم في الدعاء تخليص النيات وتطهير الاعتقاد عن شوائب الشكوك والتوسل إلى الله تعالى وبالتوبة النصوح ثم تطهير الجوارح والأعضاء ليكون محلاً للإمداد من السماء ومنه الاستياك والتطيب ثم الوضوء واستقبال القبلة وتقديم الذكر والثناء والصلاة قبل الشروع في عرض الحاجات والدعوات وكذا بسط يديه بالضراعة والابتهال ورفعها حذو منكبيه.
قال أبو يزيد البسطامي قدس سره : دعوت الله ليلة فأخرجت إحدى يدي من كمي دون الأخرى لشدة البرد فنعست فرأيت في منامي أن يدي الظاهرة مملوءة نوراً والأخرى فارغة فقلت : ولم ذاك يا رب فنوديت اليد التي خرجت للطلب امتلأت والتي توارت حرمت.
قال بعضهم : إن كان وقت برد أو عذر فأشار بالمسبحة قام مقام كفيه كما في "القنية" {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرْضِ} خلفاء فيها بأن ورثكم سكناهم والتصرف فيها ممن كان قبلكم من الأمم يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله.
{لَهَا} آخر كائن {مَّعَ اللَّهِ} الذي يفيض على كافة الأنام هذه النعم الجسام.
{قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ} أي تتذكرون آلاءه تذكراً قليلاً وزماناً قليلاً وما مزيدة لتأكيد معنى القلة التي أريد بها العدم أو ما جرى مجراه في الحقارة وقلة الجدوى.
وفيه إشارة إلى أن مضمون الكلام مركوز في ذهن كل ذكي وغبي وأنه من الوضوح بحيث لا يتوقف إلا على التوجه إليه وتذكره.
{أَمْ} بل {مِّنَ} الذي {يَهْدِيكُمْ} يرشدكم إلى مقاصدكم {فِى ظُلُمَـاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي في ظلمات الليالي فيها بالنجوم وعلامات الأرض على أن الإضافة للملابسة أو في مشتبهات الطريق يقال طريقة ظلماء أو عمياء للتي لا منار بها أي هو خير أم الأصنام {وَمَن} موصولة كما سبق {يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} حال كونها {بُشْرَا} مبشرة {بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} يعني المطر.
وبالفارسية (وكسى كه مي فرستد بادهارا مده دهند كان يش ازرحمت كه بارانست) {مَّعَ اللَّه بَلْ} يقدر على مثل ذلك {تَعَـالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} تعالى الخالق القادر عن مشاركة العاجز المخلوق {أَمَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ} أي يوجده أول مرة {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد الموت بالبعث أي يوجده بعد إماتته وأم ومن إعرابه كما تقدم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 361
وفي "الكواشي" : وسألوا عن بدء خلقهم وإعادتهم مع إنكارهم البعث لتقدم البراهين الدالة على ذلك من إنزال الماء وإنبات النبات وجفافه ثم عوده مرة ثانية والعقل يحكم بإمكان الإعادة بعد الإبلاء وهم يعلمون أنهم وجدوا بعد أن لم يكونوا فإيجادهم بعد أن كانوا أيسر {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ} أي بأسباب سماوية وأرضية {مَّعَ اللَّه بَلْ} يفعل ذلك {قُلْ هَاتُوا} .
قال الحريري : تقول العرب للواحد المذكر : هات بكسر التاء وللجمع هاتوا وللمؤنث هاتي ولجماعة الإناث هاتين
363(6/264)
وللاثنين من المذكر والمؤنث هاتيا دون هاتا من غير أن فرقوا في الأمر لهما كما لم يفرقوا بينهما في ضمير المثنى في مثل قولك : غلامهما وضربهما ولا في علامة التثنية التي في قولك الزيدان والهندان وكان الأصل في هات آت المأخوذ من آتى أي أعطى فقلبت الهمزة هاء كما قلبت في أرقت الماء وفي إياك فقيل هرقت وهياك.
وفي "ملح العرب" أن رجلاً قال لإعرابي هات فقال : والله ما أهاتيك أي ما أعطيك ، ومعنى هاتوا بالفارسية (بياريد) {بُرْهَـانَكُمْ} عقلياً أو نقلياً يدل على أن معه تعالى إلهاً آخر والبرهان أوكد الأدلة وهو الذي يقتضي الصدق أبداً {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} أي في تلك الدعوى ثم بين تعالى تفرده بعلم الغيب تكميلاً لما قبله من اختصاصه بالقدرة التامة وتمهيداً لما بعده من أمر البعث فقال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 361
{قُل لا يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ} من الملائكة {وَالارْضِ} من الإنس والجن {الْغَيْبَ} وهو ما غاب عن العباد كالساعة ونحوها وسيجيء بيانه {إِلا اللَّهُ} أي لكن الله وحده يعلمه فالاستثناء منقطع والمستثنى مرفوع على أنه بدل من كلمة من على اللغة التميمية وأما الحجازيون فينصبونه {وَمَا يَشْعُرُونَ} يعني البشر أي لا يعلمون {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} متى ينشرون من القبور فأيان مركبة من أي وآن فأي للاستفهام وآن بمعنى الزمان فلما ركبا وجعلا اسماً واحداً بنيا على الفتح كبعلبك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 364
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن للغيب مراتب غيب هو غيب أهل الأرض في الأرض وفي السماء وللإنسان إمكان تحصيل علمه وهو على نوعين.
أحدهما ما غاب عنك في أرض الصورة وسمائها مثل غيبة شخص عنك أو غيبة أمر من الأمور ولك إمكان إحضار الشخص والاطلاع على الأمر الغائب وفي السماء مثل علم النجوم والهيئة ولك إمكان تحصيله بالتعلم وإن كان غائباً عنك.
وثانيهما ما غاب عنك في أرض المعنى وهو أرض النفس فإن فيها مخبئات من الأوصاف والأخلاق مما هو غائب عنك كيفية وكمية ولك إمكان الوقوف عليها بطريق المجاهدة والرياضة والذكر والفكر وسماء المعنى وهو سماء القلب فإن فيها مخبئات من العلوم والحكم والمعاني مما هو غائب عنك ولك إمكان الوصول إليه بالسير عن مقامات النفس والسلوك في مقامات القلب وغيب هو غيب أهل الأرض في الأرض والسماء أيضاً وليس للإنسان إمكان الوصول إليه إلا بإرادة الحق تعالى كما قال : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت : 53) وغيب وهو غيب أهل السماء في السماء والأرض ليس لهم إمكان الوصول إليه إلا بتعليم الحق تعالى مثل الأسماء كما : {أَنابِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَـانَكَ لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ} (البقرة : 31 ، 32) ومن هنا تبين لك أن الله تعالى قد كرم آدم بكرامة لم يكرم بها الملائكة وهو اطلاعه على مغيبات لم يطلع عليها الملائكة وذلك بتعلمه علم الأسماء كلها وغيب هو مخصوص بالحضرة ولا سبيل لأهل السموات والأرض إلى علمه إلا لمن ارتضى له كما قال : {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِه أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن : 26 ، 27) وبهذا استدل على فضيلة الرسل على الملائكة لأن الله استخصهم بإظهارهم على غيبه دون الملائكة ولهذا أسجدهم لآدم لأنه كان مخصوصاً بإظهار الله إياه على غيبه ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن الله خلق آدم فتجلى فيه" وغيب استأثر الله بعلمه وهو
364
علم قيام الساعة فلا يعلمه إلا الله كما قال : {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} انتهى قالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمداً يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 364
يقول الفقير : وأما ما قيل من أن من قال أن نبي الله لا يعلم الغيب فقد أخطأ فيما أصاب فهو بالنسبة إلى الاستثناء الوارد في قوله تعالى : {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِه أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن : 26 ، 27) فإن بعض الغيب قد أظهره الله على رسوله كما سبق من "التأويلات".(6/265)
قال في "كشف الأسرار" : (منجمي دريش حجاج رفت حجاج سنك ريزه دردست كرد وخود برشمرد آنكه منجم راكفت بكوتا دردست من سنك ريزه ندست منجم حسابي كه دانست بركوفت وبكفت وصواب آمد حجاج آن بكذاشت ولختي ديكر سنك ريزه ناشمرده دردست كرفت كفت اين ندست منجم هرند حساب ميكرد جواب همه خطا مي آدم منجم كفت "أيها الأمير أظنك لا تعرف ما في يدك" نان ظني مي برم كه توعد آن نميداني حجاج كفت نين است نميدانم عدد آن وه فرقست ميان اين وآن منجم كفت أول بارتو برشمر دي واز حد غيب بدر آمد واكنون تونميداني وغيب است "ولا يعلم الغيب إلا الله" وفي كتاب كلستان منجمي بخانه خود در آمد مرد بيكانه را ديد بازن أو بهم نشسته دشنام داد وسقط كفت وفتنه وآشوب برخاست صاحب دلي برين حال واقف شد وكفت).
تو براوج فلك ه داني يست
ونداني كه در سراي توكيست
{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاخِرَةِ} أصله تدارك فأبدلت التاء دالاً وأسكنت للادغام واجتلبت همزة الوصل للابتداء ومعناه تلاحق وتدارك.
قال في "القاموس" : جهلوا علمها ولا علم عندهم من أمرها انتهى وهو قول الحسن وحقيقته انتهى علمهم في لحوق الآخرة فجهلوها كما في "المفردات".
وقال بعضهم : تدارك وتتابع حتى انقطع من قولهم تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك فهو بيان لجهلهم بوقت البعث مع تعاضد أسباب المعرفة.
والمعنى تتابع علمهم في شأن الآخرة حتى انقطع ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعاً لكن لا على أنه كان لهم علم بذلك على الحقيقة ثم انتفى شيئاً فشيئاً بل على طريقة المجاز بتنزيل أسباب العلم ومباديه من الدلائل العقلية والسمعية منزلة نفسه وإجراء ساقطها عن اعتبارهم كلما لاحظوها مجرى تتابعها إلى الانقطاع وتنزيل أسباب العلم بمنزلة العلم سنن مسلوك ثم أضرب وانتقل من بيان علمهم بها إلى بيان ماهو أسوأ منه وهو حيرتهم في ذلك حيث قيل : {بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا} من نفس الآخرة وتحققها كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلاً فضلاً عن الأمور التي ستقع فيها ثم أضرب عن ذلك إلى بيان أن ما هم فيه أشد وأفظع من الشك حيث قيل : {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} جاهلون بحيث لا يكادون يدركون دلائلها لاختلال بصائرهم بالكلية جمع عم وهو أعمى القلب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 364
قال في "المفردات" : العمى يقال في افتقاد البصر وافتقاد البصيرة ويقال في الأول أعمى والثاني عمي وعم وعمي القلب أشد ولا اعتبار لافتقاد البصر في جنب افتقاد البصيرة إذ رب أعمى في الظاهر بصير في الباطن ورب بصير في الصورة أعمى في الحقيقة كحال الكفار والمنافقين والغافلين وعلاج هذا العمى إنما يكون بضده وهو العلم الذي به يدرك الآخرة
365
وما تحويه من الأمور.
قال سهل بن عبد الله التستري قدس سره : ما عصى الله أحد بمعصية أشد من الجهل قيل : يا أبا محمد هل تعرف شيئاً أشد من الجهل؟ قال : نعم الجهل بالجهل فالجهل جهلان جهل بسيط هو سلب العلم وجهل مركب هو خلافه والأول ضعيف والثاني قوي لا يزول إلا أن يتداركه الله تعالى.
قيل :
سقام الحرص ليس له شفاء
وداء الجهل ليس له طبيب
وقيل :
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله
وأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ لم يحيي بالعلم ميت
وليس له حين النشور نشور
أي كه داري هنر نداري مال
مكن از كردكار خود كله
نعمت جهل را مخواه كه هست
روضه درميان مزبله
اللهم اجعلنا من العلماء ورثة الأنبياء.
جزء : 6 رقم الصفحة : 364
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي : مشركو مكة {أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا} (آيا ون كرديم ما خاك) {وَءَابَآؤُنَآ} (ودران ما نيزخاك شوند) وهو عطف على ضمير كنا بلا تأكيد لفصل تراباً بينهما.
{أَاـانَّا لَمُخْرَجُونَ} (آيا ما بيرون رورندكانيم از كورها زنده شده) والضمير في أئنا لهم ولآبائهم لأن كونهم تراباً يتناولهم وآباءهم والعامل في إذا ما دل عليه أئنا لمخرجون وهو نخرج لا مخرجون لأن كلاً من الهمزة وإن واللام مانعة من عمله فيما قبلها.
والمعنى أنخرج من القبور إذا كنا تراباً أي هذا لا يكون وتكرير الهمزة للمبالغة في الإنكار وتقييد الإنكار بوقت كونهم تراباً لتقويته بتوجيهه إلى الإخراج في حالة منافية له وإلا فهم منكرون للإحياء بعد الموت مطلقاً أي سواء كانوا تراباً أو لا.
(6/266)
{لَقَدْ وُعِدْنَا هَـاذَا} أي الإخراج.
وبالفارسية (بدرستي وعده داده شده ايم اين حشر ونشررا).
{وَنَحْنُ} وتقديم الموعود على نحن لأنه المقصود بالذكر وحيث أخر كما في سورة المؤمنين قصد به المبعوث.
{وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ} أي من قبل وعد محمد يعني أن آباءنا وعدوا به في الأزمنة المتقدمة ثم لم يبعثوا ولن يبعثوا {إِنْ هَـاذَآ} أي ما هذا الوعد.
{إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} أحاديثهم التي سطروها وكتبوها كذاباً مثل حديث رستم واسفنديار.
وبالفارسية (مكر افسانها يشينيان يعني ما نند افسانها كه مجرد سخنيست بي حقيقت) والأساطير الأحاديث التي ليس لها حقيقة ولا نظام جمع أسطار وإسطير بالكسر وأسطور بالضم وبالهاى في الكل جمع سطر.
{قُلِ} يا محمد {سِيرُوا} أيها المنكرون المكذبون من السير وهو المضي {فِى الأرْضِ} في أرض أهل التكذيب مثل الحجر والأحقاف والمؤتفكات ونحوها {فَانظُرُوا} تفكروا واعتبروا.
{كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} آخر أمر المكذبين بسبب التكذيب حيث أهلكوا بأنواع العذاب وفيه تهديد لهم على التكذيب وتخويف بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم وأصل الجرم قطع الثمر عن الشجر والجرامة رديء الثمر المجروم واستعير لكل اكتساب مكروه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 366
{وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} على تكذيبهم وإصرارهم لأنهم خلقوا لهذا وهو ليس بنهي عن تحصيل الحزن لأن الحزن ليس يدخل تحت اختيار الإنسان ولكن النهي
366
في الحقيقة إنما هو عن تعاطي ما يورث الحزن واكتسابه.
والحزن والحزن خشونة في الأرض وخشونة في النفس لما يحصل فيها من النعم ويضاده الفرح.
{وَلا تَكُن فِى ضَيْقٍ} (در تنكدلي) وهو ضد السعة ويستعمل في الفقر والغم ونحوهما.
{مِّمَّا يَمْكُرُونَ} من مكرهم وكيدهم تدبيرهم الحيل في إهلاكك ومنع الناس عن دينك فإنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله والله يعصمك من الناس ويظهر دينك.
غم مخورزان روكه غمخوارت منم
وزهمه بدها نكهدارت منم
ازتوكر اغيار برتابندرو
اين جهان وآن جهان يارت منم
جزء : 6 رقم الصفحة : 366
{وَيَقُولُونَ} (وميكويندكافران) {مَتَى} (كجاست وكي خواهد بود) {هَـاذَا الْوَعْدُ} أي : العذاب العاجل الموعود {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في إخباركم بإتيانه والجمع باعتبار شركة المؤمنين في الإخبار بذلك.
{قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} أي : تبعكم ولحقكم وقرب منكم قرب الرديف من مردفه واللام زائدة للتأكيد.
وبالفارسية (بكوشايد رنكه باشدكه بحكم الهي يوندد بشما وازيي درريد شمارا) {بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ} من العذاب فحل بهم عذاب يوم بدر وسائر العذاب لهم مدخر ليوم البعث.
وقيل : الموت بعض من القيامة وجزء منها وفي الخبر : "من مات فقد قامت قيامته" وذلك لأن زمان الموت آخر زمان من أزمنة الدنيا وأول زمان من أزمنة الآخرة فمن مات قبل القيامة فقد قامت قيامته من حيث اتصال زمان الموت بزمان القيامة كما أن أزمنة الدنيا يتصل بعضها ببعض.
وعسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك بمنزلة الجزم بها وإنما يطلقونها إظهاراً للوقار وإشعاراً بأن الرمز من أمثالهم كالتصريح ممن عداهم وعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ} إفضال وإنعام.
{عَلَى النَّاسِ} على كافة الناس ومن جملة إنعاماته تأخير عقوبة هؤلاء على ما يرتكبونه من المعاصي التي من جملتها استعجال العذاب.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} لا يعرفون حق النعمة فلا يشكرون بل يستعجلون بجهلهم وقوع العذاب كدأب هؤلاء.
وفيه إشارة إلى أن استعجال منكري البعث في طلب العذاب الموعود لهم من غاية جهلهم بحقائق الأمور وإلا فقد ردفهم أنموذج من العذاب الأكبر وهو العذاب الأدنى من البليات والمحن.
جزء : 6 رقم الصفحة : 367
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} فيما يذيقهم العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون إلى الحضرة بالخوف والخشية تاركين الدنيا وزينتها راغبين في الآخرة ودرجاتها.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} لأنهم لا يميزون بين محنهم ومنحهم وعزيز من يعرف الفرق بين ما هو نعمة من الله وفضله أو محنة ونقمة وإذا تقاصر علم العبد عما فيه صلاحه فعسى أن يحب شيئاً ويظنه خيراً وبلاؤه فيه وعسى أن يكون شيء آخر بالضد ورب شيء يظنه العبد نعمة يشكره بها ويستديمه وهي محنة له يجب صبره عنها ويجب شكره تعالى على صرفه عنه وبعكس هذا كم من شيء يظنه الإنسان بخلاف ما هو كذا في "التأويلات النجمية".
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي : ما تخفيه من أكن إذا أخفى والإكنان جعل الشيء في الكن وهو ما يحفظ فيه الشيء.
قال في "تاج المصادر" : (لا كنان : در دل نهان داشتن والكن نهان داشتن) في الكن
367
(6/267)
والنفس كننت الشيء وأكننته في الكن وفي النفس بمعنى وفرق قوم بينهما فقالوا : كننت في الكن وإن لم يكن مستوراً وأكننت في النفس والباب يدل على ستر أو جنون انتهى {وَمَا يُعْلِنُونَ} من الأقوال والأفعال التي من جملتها ما حكي عنهم من استعجال العذاب وفيه إيذان بأن لهم قبائح غير ما يظهرونه وأنه تعالى يجازيهم على الكل (والاعلان : آشكارا كردن).
قال الجنيد قدس سره : ما تكن صدورهم من محبته وما يعلنون من خدمته.
{وَمَا مِنْ غَآاـاِبَةٍ فِى السَّمَآءِ وَالارْضِ إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ} (وهي نيست وشيده در آسمان وزمين مكر نوشته در كتابي بروشن يعني لوح مفوظ وباوعلم حق محيط) والغائبة من الصفات التي تدل على الشدة والغلبة والتاء للمبالغة كأنه قال : وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله تعالى وأحاط به فالغيب والشهادة بالنسبة إلى علمه تعالى وشهوده على السواء كما قال في بحر الحقائق هذا يدل على أنه ما غاب عن علمه شيء من المغيبات الموجود منها والمعدوم واستوى في علمه وجودها وعدمها على ما هي به بعد إيجادها فلا تغير في علمه تعالى عند تغيرها بالإيجاد فيتغير المعلوم ولا يتغير العلم بجميع حالاته على ما هو به انتهى فعلى الإنسان ترك النسيان والعصيان فإن الله تعالى مطلع عليه وعلى أفعاله وإن اجتهد في الإخفاء.
قال الشيخ سعدي في "البستان".
جزء : 6 رقم الصفحة : 367
يكى متفق بود برمنكري
كذر كرد بروينكو محضري
نشست از خجالت عرق كرده روى
كه إيا خجيل كشتم از شيخ كوى
شنيد اينسخن شيخ روشن روان
بروبر بشوريد وكفت أي جوان
نيايد همي شرمت از خويشتن
كه حق حاضر وشرم داري زمن
نان شرم دار از خداون خويش
كه شرمت زبيكانكانست وخويش
نياسايى از جانب هي كس
بروجانب حق نك دار وبس
بترس ازناهان خويش اين نفس
كه روز قيامت نه ترسي ز كس
تر يزد خدا آب روى كسى
كه ريزد كناه آب شمش بسى
ثم إنه ينبغي للمؤمن أن يكون سليم الصدر ولا يكن في نفسه حقداً وحسداً وعداوة لأحد وفي الحديث : "إن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة" فدخل عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله فأخبروه بذلك وقالوا : لو أخبرتنا بأوثق عملك نرجو به فقال : إني ضعيف وإن أوثق ما أرجو به سلامة الصدر وترك ما لا يعنيني ففي هذا الخبر شيئان أحدهما إخباره عليه السلام عن الغيب ولكن بواسطة الوحي وتعليم الله تعالى فإن علم الغيب بالذات مختص بالله تعالى والثاني إن سلامة الصدر من أسباب الجنة وفي الحديث : "لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" وذلك أن المرء ما دام لم يسمع عن أخيه إلا مناقبه يكون سليم الصدر في حقه فإذا سمع شيئاً من مساويه واقعاً أو غير واقع يتغير له خاطره.
بدى در قفا عيب من كرد وخفت
بترزو قريني كه آورد وكفت
368
يكي تيرى افكند دورره فتاد
وجودم نيازرد ورنجم نداد
تو برداشتى وآمدى سوى من
همى درسوزى به هلوى من
والنصيحة في هذا للعقلاء أن لا يصيخوا إلى الواشي والنمام والغياب والعياب فإن عرض المؤمن كدمه ولا ينبغي إساءة الظن في حق المؤمن بأدنى سبب وقد ورد "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها".
ازان همنشين تاتواني كريز
كه مرفتنه خفته را كفت خيز
كسى را كه نام آإمد اندر ميان
به نيكو ترين نام ونعتش بخوان
و همواره كويي كه مردم خرند
مبر ظن كه نامد و مردم برند
كسى يش من درجهان عاقلست
كه مشغول خوددرجهان غافلست
كساني كه يغام دشمن برند
زد شمن هماناكه دشمن ترند
كسى قول دشمن نيارد بدوست
مكر آنكهى دشمن يار أوست
مريز آب روى برادر بكوى
كه درهت نريزد بشهر آب روى
ببد كفتن خلق ون دم زدي
أكر راست كويي سخن هم بدي
نسأل الله العصمة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 367
{إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ} المنزل على محمد {يَقُصُّ} يبين {عَلَى بَنِى إسرائيل أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ} لجهالتهم {يَخْتَلِفُونَ} مثل اختلافهم في شأن المسيح وعزير وأحوال المعاد الجسماني والروحاني وصفات الجنة والنار واختلافهم في التشبيه والتنزيه وتناكرهم في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضاً فلو أنصفوا وأخذوا بالقرآن وأسلموا لسلموا.
{وَإِنَّهُ} أي : القرآن {لَهُدًى} (ره نمونيست) {وَرَحْمَةٌ} (وبخشايشي) {لِلْمُؤْمِنِينَ} مطلقاً من بني إسرائيل أو من غيرهم وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون به.
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم} يفصل بين بني إسرائيل المختلفين وذلك يوم القيامة {بِحُكْمِهِ} بما يحكم به وهو الحق والعدل سمي المحكوم به حكماً على سبيل التجوز {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب القاهر فلا يرد حكمه وقضاؤه {الْعَلِيمُ} بجميع الأشياء التي من جملتها ما يقضى فيه فإذا كان موصوفاً بهذه الشؤون الجليلة.
(6/268)
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ولا تبال بمعاداتهم والتوكل التبتل إلى الله وتفويض الأمر إليه والإعراض عن التشبث بما سواه وأيضاً هو سكون القلب إلى الله وطمأنينة الجوارح عند ظهور الهائل وعلل التوكل أولاً بقوله : {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} (يعني راه توراست وكار تودرست) وصاحب الحق حقيق بالوثوب بحفظ الله ونصره وثانياً بقوله :
جزء : 6 رقم الصفحة : 369
{إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} فإن كونهم كالموتى موجب لقطع الطمع في مشايعتهم ومعاضدتهم رأساً وداءً إلى تخصيص الاعتقاد به تعالى وهو المعني بالتوكل عليه وإطلاق الأسماع على المعقول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات وإنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم بما يتلى عليه من الآيات والمراد المطبوعون على قلوبهم فلا يخرج ما فيها من الكفر ولا يدخل ما لم يكن فيها من الإيمان.
فإن قلت بعد تشبيه أنفسهم بالموتى لا يظهر لتشبيههم بالعمي والصم كما يأتي مزيد فائدة.
قلت : المراد كما أشير إليه بقوله على قلوبهم تشبيه القلوب
369
لا تشبيه النفوس فإن الإنسان إنما يكون في حكم الموتى بممات قلبه بالكفر والنفاق وحب الدنيا ونحوها.
فحاصل المعنى بالفارسية : (مرده دلان كفر فهم سخن تو نمي توانند كرد).
قال يحيى بن معاذ رحمه الله : العارفون بالله أحياء وما سواهم موتى وذلك لأن حياة الروح إنما هي بالمعرفة الحقيقية.
قال في "كشف الأسرار" : (زندكاني بحقيقت سه يزست وهردل كه ازان سه يز خالي بود درشمارموتى است.
زندكاني بيم باعمل.
وزندكاني ايمد باعلم.
وزندكاني دوستي باعلم.
زندكاني بيم دامن مرد اك دار دوشم وي بيدار وراه وي راست.
زندكاني اميد مركب وي تيزدارد وزاد تمام وراه نزديك.
زندكاني دوستي قدر مردم بزرك دارد وسروى آزاد ودل شاد.
بيم بي علم بيم خارجيا نست.
اميد بي علم اميد مرجيانست.
دوستي بيعلم أبا حيانست هركرا أين سه خصلت باعلم درهم يوست بزندكي اك رسيد وازمردكي بارزرست) {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ} أي : الدعوة إلى أمر من الأمور جمع أصم والصمم فقدان حاسة السمع وبه شبه من لا يصغي إلى الحق ولا يقبله كما شبه ههنا.
وفي "التأويلات النجمية" : ولا تسمع الصم الذين أصمهم الله بحب الشهوات فإن حبك الشيء يعمي ويصم أي يعمي عن طريق الرشد ويصم عن استماع الحق.
{إِذَا وَلَّوْا} ولى أعرض وترك قربه {مُدْبِرِينَ} أي إذا انصرفوا حال كونهم معرضين عن الحق تاركين ذلك وراء ظهرهم يقال : أدبر أعرض وولى دبره وتقييد النفي بإذا لتكميل التشبيه وتأكيد النفي فإن أسماعهم في هذه الحالة أبعد أي أن الأصم لا يسمع الدعاء مع كون الداعي بمقابلة صماخه قريباً منه فكيف إذا كان خلفه بعيداً منه ثم شبههم بالعمي بقوله :
جزء : 6 رقم الصفحة : 369
{وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَـالَتِهِمْ} هداية موصلة إلى المطلوب فإن الاهتداء لا يحصل إلا بالبصر فشبه من افتقد البصيرة بمن افتقد البصر في عدم الهداية.
قال في "المفردات" : لم يعد تعالى افتقاد البصر في جانب افتقاد البصيرة عمي حتى قال : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور {إِن تُسْمِعُ} أي ما تسمع سماعاً نافعاً للسامع {وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ} من هو في علم الله كذلك ، أي من شأنه الإيمان بها ولما كان طريق الهداية هو إسماع الآيات التنزيلية قال : إن تسمع دون أن تهدي مع قرب ذكر الهداية {فَهُم مُّسْلِمُونَ} تعليل لإيمانهم بها كأنه قيل منقادون للحق.
وبالفارسية (س إياشن كردن نهند كانند فرمانرا ومخلصان ومتخصصان عالم إيقانند).
كوش باطن نهاده بر قرآن
ديده دل كشاده برعرفان
زنده ازنفحهاي كلشن قدس
معتكف در قضاي عالم انس
برده اند از مضائق لاشيء
به "قل الله ثم ذرهم" ي
فالأصل هو العناية الأزلية وما سبق في علم الله من السعادة الأبدية.
روي : أن النبي عليه السلام قام على منبره فقبض كفه اليمنى فقال : "كتاب كتب الله فيه أهل الجنة بأسمائهم وأنسابهم مجمل عليهم لا يزاد فيه ولا ينقص منه وليعملن أهل السعادة بعمل أهل الشقاء
370
حتى يقال كأنهم منهم بل هم هم ثم يستنقذهم الله قبل الموت ولو بفواق ناقة" وهو بضم الفاء وتخفيف الواو آخره قاف.
(6/269)
قال الجوهري وغيره هو ما بين الحلبتين من الوقت لأن الناقة تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب انتهى "وليعملن أهل الشقاء بعمل أهل السعادة حتى يقال كأنهم منهم بل هم هم ثم ليخرجنهم الله قبل الموت ولو بفواق ناقة السعيد من سعد بقضاء الله والشقي من شقي بقضاء الله والأعمال بالخواتيم" (آورده اندكه رسول خدا صلى الله عليه وسلّم حكايت كردكه دربني إسرائيل زاهدي بود دويست سال عبادت كرده در آرزوي آن بودكه وقتي إبليس را به بيند تاباوي كويد الحم كه درين دويست سال ترا برمن راه نبود ونتوا نستي مرا ازراه حق بكردانيدن آخر روزي إبليساز محراب خويشتن را باونمود واورا بشناخت وكفت اكنون به آمدي يا إبليس كفت دويست سالست تاميكوشمم كه ترا ازراه ببرم وبكام خويش در آرم وازدستم برنخاست ومرادبر نيامد واكنون تودر خواستي كه مرا بيني ديدار من ترابه كار آيد از عمر تودويست سال ديكر مانده است اين سخن بكفت ونابديد كشت زاهد دروسواس افتاد وكفت از عمر من دويست سال مانده ومن نين خويشتن را درزندان كرده أم از لذات وشهوات بازمانده ودويست سال ديكرهم برين صفتدشخوار بود تدبير من آنست كه صد سال دردينيا خوش زندكاني كنم لذات وشهوات بكار دارم آنكه توبه كنم وصد سال ديكر بعبادات بسر آرم كه الله غفور رحيم است آن روز او صومعه بيرون آمد سوى خرابات شد وبشراب ولذات باطل مشغول كشت وبصحبت مؤنسات تن دراد ون در آمد عمر باخر رسيده بود ملك الموت در آمد وبرسر آن فسق وفجور جان وي برداشت آن طاعات وعبادات دويست ساله بباد برداده حكم أزلي دروي رسيده وشقاوت دامن أو كرفته) نعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء.
قال الحافظ :
جزء : 6 رقم الصفحة : 369
در عمل تكيه مكن زانكه دران روز ازل
توه داني قلم صنع بنامت ه نوشت
وقال :
زاهد ايمن مشو ازبارىء غيرت زنهار
كه ره از صومعه تادير مغان اين همه نيست
وقال :
حكم مستورى ومستى همه برخاتمتست
كس ندانست كه آخربه حالت برود
وقال الشيخ سعدي :
كرت صورت حال بد يانكوست
كاريده دست تقدير أوست
بكوشش نرويد كل ازشاخ بيد
نه زنكي بكرما به كردد سفيد
اللهم اجعلنا من السعداء.
جزء : 6 رقم الصفحة : 369
{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} المراد بالوقوع الدنو والاقتراب كما في قوله تعالى : {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} (النحل : 1) وبالقول ما ينطق عن الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كان المشركون يستعجلونها.
والمعنى إذا دنا واقترب وقوع القول وحصول ما تضمنه وأكثر ما جاء في القرآن من لفظ وقع جاء في العذاب والشدائد أي إذا ظهر أمارات القيامة التي
371
تقدم القول فيها انتهى.
{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأرْضِ} واسمها الجساسة لتحسسها الأخبار للدجار لأن الدجال كان موثقاً في دير في جزيرة بحر الشام وكانت الجساسة في تلك الجزيرة كما في حديث المشارق في الباب الثامن.
{تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِـاَايَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} أي : تكلم تلك الدابة الكفرة باللسان العربي الفصيح أو للعرب بالعربي وللعجم بالعجمي بأنهم كانوا لا يؤمنون بآيات الله الناطقة بمجيء الساعة (يعني : ون زوال دنيا نزديك باشد حق تعلاى دابة الأرض بيرون آرد نانه ناقه صالح ازسنك بيرون آورد) قيل : إنها جمعت خلق كل حيوان ولها وجه كوجه الآدميين مضيئة يبلغ رأسها السحاب فيراها أهل المشرق والمغرب وفي الحديث : "طول الدابة ستون ذراعاً لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب" وفي الخبر : "بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون اذ تضطرب الأرض تحتهم وتتحرك تحرك القنديل وينشق جبل الصفا مما يلي المسعى فتخرج الدابة منه ولا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام فقوم يقفون نظاراً وقوم يفزعون إلى الصلاة فتقول للمصلي : طول ما طولت فوالله لأحطمنك فتخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليه السلام فتضرب المؤمن في مسجده بالعصا فيظهر أثره كالنقطة ينبسط نوره على وجهه ويكتب على جبهته هو مؤمن وتختم الكافر في أنفه بالخاتم فتظهر نكتة فتفشو حتى يسودّ لها وجهه ويكتب بين عينيه هو كافر ثم تقول لهم : أنت يا فلان من أهل الجنة وأنت يا فلان من أهل النار" (وكسى نماند دردنيا مكر سفيد روى ومردم يكدكررا بنام ولقب نخوانند بلكه سفيد روى رامي كويند اي بهشتي وسياه روى كه دوزخي وبر روى زمين همي رود وهكجا نفس وي رسد همه نبات ودرختان خشك يشود تادر زمين هي نبات ودرخت سبز نماند مكر درخت سيدكه آن خشك نكردد از بهر آنكه بركت هفتاد يغمبر باويست ودر حديث آمده كه خروج دابه وطلوع افتاب از مغرب متقارب باشد هركدام يش بودآن ديكر برعقبش ظاهر كردد واز كتب بعض أئمة نان معلوم ميشود از أشراط ساعت أول آيات سماوي كه طلوع شود شمس از مغرب وأول وآيات أرضي دابة الأرض).
جزء : 6 رقم الصفحة : 371(6/270)
قال في "حياة الحيوان" : ظاهر الأحاديث أن طلوع الشمس آخر الأشراط انتهى كما ورد أن الدجال يخرج على رأس مائة وينزل على عيسى عليه السلام فيقتله ثم مكث في الأرض أربعين سنة وأن الناس يمكثون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة.
والحاصل أن بني الأصفر وهم الإفرنج على ما ذهب إليه المحدثون إذا خرجوا وظهروا إلى الأعماق في ست سنين يظهر المهدي في السنة السابعة ثم يظهر الدجال ثم ينزل عيسى ثم تخرج الدابة ثم تطلع الشمس من المغرب ويدل عليه أنهم قالوا : إذا أخرجت الدابة حبست الحفظة ورفعت الأقلام وشهدت الأجساد على الأعمال وذلك لكمال تقارب الخروج والطلوع فإنه لا يغلق باب التوبة إلا بعد الطلوع والعلم عند الله تعالى.
قال بعض العارفين : السر في صورة الدابة وظهور جمعية الكون فيها أنها صورت الاستعداد الكوني الشهادي الحيواني ومثال الطبع الكلي الحيواني وحامل جمعية الحقائق الدنيوية وهي أيضاً سر البرزخ الكلي العنصري يظهر منها أسرار الحقائق المتضادة كالكفر والإيمان والطاعة والعصيان
372
والإنسانية والحيوانية وهي آية جامعة فيها معان وأسرار لذوي الأبصار كذا في "كشف الكنوز" فعلى العاقل أن يصيخ إلى آيات الله ويتعظ بوعدها ووعيدها ويؤمن بقدر الله تعالى ويتهيأ للبعث والموت قبل أن ينتهي العمر وينقطع الخير ويختل نظام الدنيا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد تقارب الزمان.
يا رب ازا بر هدايت برسان باراني
يشتر زانكه وكردي زميان برخيزم
نسأل الله أن يوفقنا للخير وصالحات الأعمال قبل نفاد العمر ومجيء الآجال.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} يوم منصوب بالذكر.
والحشر الجمع والمراد به هنا هو الحشر للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق والأمة جماعة أرسل إليهم رسول كما في "القاموس" والفوج الجماعة من الناس كالزمرة كما في "الوسيط" والجماعة المارة المسرعة كما في "المفردات".
والمعنى واذكر يا محمد لقومك وقت حشرنا أي جمعنا من كل أمة من أمم الأنبياء أو من أهل كل قرن من القرون جماعة كثيرة فمن تبعيضية لأن كل أمة منقسمة إلى مصدق ومكذب {مِّمَّن يُكَذِّبُ بآياتنا} بيان للفوج أي فوجاً مكذبين بها لأن كل أمة وكل عصر لم يخل من كفرة بالله من لدن تفريق بني آدم والمراد بالآيات بالنسبة إلى هذه الأمة الآيات القرآنية ، {فَهُمْ يُوزَعُونَ} فسر في هذه السورة في قصة سليمان أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقع التوبيخ والمناقشة وهو عبارة عن كثرة عددهم وتباعد أطرافهم أو المراد بالفوج رؤساء الأمم المتبوعون في الكفر والتكذيب فهم يحبسون حتى يلتحق بهم أسافلهم التابعون كما قال ابن عباس رضي الله عنهما أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة وهكذا يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار وفي الحديث : "امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار".
جزء : 6 رقم الصفحة : 371
{حَتَّى إِذَا جَآءُو} إلى موقف السؤال والجواب والمناقشة والحساب : وبالفارسية : (تاون بيايند بحشر كاه).
{قَالَ} الله تعالى موبخاً على التكذيب والالتفات لتربية المهابة.
{حَتَّى إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بِـاَايَـاتِى} الواو للحال ونصب علماً على التمييز أي أكذبتم بآياتي الناطقة بلقاء يومكم هذا بادىء الرأي غير ناظرين فيها نظراً يؤدي إلى العلم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق حتماً.
{أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي شيء تعملونه بعد ذلك.
وبالفارسية (ه كار كرديد بعد از إنكه بخدا ورسول إيمان نياورديد) يعني لم يكن لهم عمل غير الجهل والتكذيب والكفر والمعاصي كأنهم لم يخلقوا إلا لها مع أنهم ما خلقوا إلا للعلم والتصديق والإيمان والطاعة يخاطبون بذلك تبكيتاً فلا يقدرون أن يقولوا فعلنا غير ذلك ثم يكبون في النار وذلك قوله تعالى :
جزء : 6 رقم الصفحة : 371
{وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم} أي : حل بهم العذاب الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله ونزوله {بِمَا ظَلَمُوا} بسبب ظلمهم الذي هو التكذيب بآيات الله {فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} باعتذار لشغلهم العذاب أو لختم أفواههم ثم وعظ كفار مكة واحتج عليهم فقال :
{أَلَمْ يَرَوْا} من رؤية القلب هو العلم.
والمعنى بالفارسية : (آيانديدند وندانستند منكران حشر) {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا} بما فيه من الإظلام {لِيَسْكُنُوا فِيهِ} ليستريحوا فيه بالنوم والقرار {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أي ليبصروا بما فيه من الإضاءة
373(6/271)
طرق التقلب في أمور المعاش فبولغ فيه حيث جعل الإبصار الذي هو حال الناس حالاً له ووصفاً من أوصافه التي جعل عليها بحيث لا ينفك عنها ولم يسلك في الليل هذا المسلك لما أن تأثير ظلام الليل في السكون ليس بمثابة تأثير ضوء النهار في الأبصار.
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي في جعلهما كما وصفا.
{لايَاتٍ} عظيمة كثيرة {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} دالة على صحة البعث وصدق الآيات الناطقة به دلالة واضحة كيف لا وإن من تأمل في تعاقب الليل والنهار وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل الحاكية الموت بضياء النهار المضاهي الحياة وعاين في نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالانتباه الذي هو مثل الحياة قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور قضاء متقناً وجزم بأنه قد جعل هذا أنموذجاً له ودليلاً يستدل به على تحققه وإن الآيات الناطقة بكون حال الليل والنهار برهاناً عليه وسائر الآيات كلها حق نازل من عند الله تعالى.
قال حكيم : الدهر مقسوم بين حياة ووفاة فالحياة اليقظة والوفاة النوم ، وقد أفلح من أدخل في حياته من وفاته.
وفيه إشارة إلى أن النهار وامتداده أفضل من الليل وامتداده إلا لمن جعل الليل للمناجاة.
حكي : أن محمد بن النضر الحارثي ترك النوم قبل موته بسنين إلا القيلولة ثم ترك القيلولة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 373
قال الشيخ سعدي : (طريق درويشان ذكر است وشكر وخدمت وطاعت وإيثار وقناعت وتوحيد وتوكل وتسليم وتحمل هركه بدين صفتها موصوفست بحقيقت درويش است أكره درقباست نه در خرقه أما هرزه كوى وبي نماز وهوا رست وهوس بازكه روزها بشب آرد دربند شهوت وشبها بروز كند درخواب غفلت بخورد هره درميان آمد وبكويد هرنه بزبان آيد رندست أكره درعباست) :
أي درونت برهنه ازتقوى
وزبرون جامه ريا داري
رده هفت رنك در بكذار
توكه درخانه بوريا داري
قال الإمام القشيري : كان رجل له تلميذان اختلفا فيما بينهما فقال أحدهما : النوم خير لأن الإنسان لا يعصي في تلك الحالة وقال الآخر : اليقظة خير لأنه يعرف الله في تلك الحالة فتحاكما إلى ذلك الشيخ فقال : أما أنت الذي قلت بتفضيل النوم فالموت خير لك من الحياة وأما أنت الذي قلت يتفضيل اليقظة فالحياة خير لك.
وفيه إشارة إلى أن طول الحياة واليقظة محبوبان لتحصيل معرفة الله تعالى وحسن القيام لطاعته فإنه لا ثواب بعد الموت ولا ترقي إلا لأهل الخير ولمن كان في الطير.
فعلى العاقل أن يجد في طريق الوصول ليكون من أهل الوصال والحصول ويتخلص من العذاب مطلقاً فإن غاية العمر الموت ونهاية الموت الحشر ونتيجة الحشر إما السوق إلى الجنة وإما السوق إلى النار والمسوق إلى النار إما مؤمن عاص فعذابه التأديب والتطهير وإما كافر مكذب فعذابه عذاب القطيعة والتحقير والمؤمنون يتفاوتون في الدنيا في عقوباتهم على مقادير جرائمهم فمنهم من يعذب ويطلق ومنهم من يعذب ويحبس مدة على قدر ذنبه ومنهم من يحد والحدود مختلفة فمنهم من يقتل وليس بعجب أن لا يسوى بين أهل النار إلا من لا خير فيه وهم الكفار الذين ليسوا بموضع الرحمة لأن الله تعالى رحمهم في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب فاختاروا الغضب بسلوك طريق التكذيب والعناد فهم على السوية في عذاب الفرقة
374
إذ ليس لهم وصلة أصلاً لا في الدنيا ولا في العقبى لأن من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى نسأل الله أن يفتح عيون بصائرنا عن منام الغفلات ويجعلنا من المكاشفين المشاهدين المعاينين في جميع الحالات إنه قاضي الحاجات ومعطي المرادات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 373(6/272)
{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ} النفخ نفخ الريح في الشيء ونفخ بفمه أخرج منه الريح.
والصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام للموت وللحشر فكأن أصحاب الجيوش من ذلك أخذوا البوقات لحشر الجند وفي الحديث : "لما فرغ الله من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص بصره إلى العرش متى يؤمر" قال الراوي أبو هريرة رضي الله عنه قلت : يا رسول الله ما الصور؟ قال : "القرن" قلت : كيف هو؟ قال : "عظيم والذي نفسي بيده إن أعظم دارة فيه كعرض السماء والأرض فيؤمر بالنفخ فيه فينفخ نفخة لا يبقى عندها في الحياة أحد إلا من شاء الله وذلك قوله تعالى : {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ} (الزمر : 68) إلى قوله : {إِلا مَن شَآءَ اللَّهُ} (الزمر : 68) ثم يؤخر بأخرى فينفخ نفخة لا يبقى معها ميت إلا بعث وقام وذلك قوله تعالى ونفخ فيه أخرى" الآية وقد سبق بعض ما يتعلق بالمقام في سورة الكهف والمراد بالنفخ ههنا هي النفخة الثانية.
والمعنى واذكر يا محمد لقومك يوم ينفخ في الصور نفخة ثانية يعني ينفخها إسرافيل يوم القيامة لرد الأرواح إلى أجسادها.
{فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الأرْضِ} أي : فيفزع ويخاف والتعبير بالماضي للدلالة على وقوعه لأن المستقبل من فعل الله تعالى متيقن الوقوع كتيقن الماضي من غيره لأن إخباره تعالى حق.
والفزع انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخوف ولا يقال : فزعت من الله كما يقال : خفت منه والمراد بالفزع هنا ما يعتري الكل مؤمناً وكافراً عند البعث والنشور بمشاهدة الأمور الهائلة الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق من الرعب والتهيب الضروريين الجبليين {إِلا مَن شَآءَ اللَّهُ} أي : أن لا يفزع بأن يثبت قلبه وهم الأنبياء والأولياء والشهداء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون والملائكة الأربعة وحملة العرش والخزنة والحور ونحوهم وإن أريد صعقة الفزع يسقط الكل إلا من استثنى نحو إدريس عليه السلام كما في "التيسير" وموسى عليه السلام لأنه صعق في الطور فلا يصعق مرة أخرى.
{وَكُلٌّ} أي : جميع الخلائق {أَتَوْهُ} تعالى أي حضروا الموقف بين يدي رب العزة للسؤال والجواب والمناقشة والحساب.
{دَاخِرِينَ} أذلاء.
وبالفارسية : (خوارد شدكان) يقال : ادخرته فدخر أي أزللته فذل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 373
{وَتَرَى الْجِبَالَ} عطف على ينفخ داخل معه في حكم التذكير أي تراها يومئذ حال كونك {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} تظنها ثابتة في أماكنها من جمد الماء وكل سائل قام وثبت ضد ذاب.
{وَهِىَ} والحال أن تلك الجبال.
{تَمُرُّ} وتمضي {مَرَّ السَّحَابِ} أي تراها رأي العين ساكنة والحال أنها تمر مثل مر السحاب التي تسيرها الرياح سيراً سريعاً وذلك لأن كل شيء عظيم وكل جمع كثير يقصر عنه البصر ولا يحيط به لكثرته وعظمته فهو في حسبان الناظر واقف وهو يسير وهذا أيضاً مما يقع بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق فإن الله تعالى يبدل الأرض غير الأرض ويغير هيئتها ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة ليشاهدها أهل المحشر وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى فتسييرها وتسوية الأرض
375
إنما يكونان بعد النفخة الثانية كما نطق به قوله تعالى : {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الارْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَـاهُمْ} فإن صيغة الماضي في المعطوف مع كون المعطوف عليه مستقبلاً للدلالة على تقدم الحشر على التسيير والرؤية كأنه قيل وحشرنا قبل ذلك.
قال جعفر الخلدي : حضر الجنيد مجلس سماع مع أصحابه وإخوانه فانبسطوا وتحركوا وبقي الجنيد على حاله لم يؤثر فيه فقال له أصحابه : ألا تنبسط كما انبسط إخوانك فقال الجنيد : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب قال بعضهم : وكثير من الناس اليوم من أصحاب التمكين ساكنون بنفوسهم سائحون في الملكوت بأسرارهم (محققي فرموده كه أوليا نيز درميان خلق برحد رسوم واقفند وخلق آن حركات بواطن إيشان كه بيكدم هزار عالم طي ميكنند خبر ندارند).
تومبين اين ايهارا بر زمين
زآنكه بردل ميرود عاشق يقين
ازره ومنزل زكوتاه ودراز
جزء : 6 رقم الصفحة : 375
دل ه داند كوست مست دلنواز
آإن دراز وكوته أوصاف تنست
رفتن أرواح ديكر رفتن است
دست ني واي ني سرتا قدم
إننانكه تاخت جانها از قدم
قال ابن عطاء : الإيمان ثابت في قلب العبد كالجبال الرواسي وأنواره تخرق الحجاب الأعلى.
وقال جعفر الصادق : ترى الأنفس جامدة عند خروج الروح والروح تسري في القدس لتأوي إلى مكانها من تحت العرش.
{صُنْعَ اللَّهِ} الصنع إجادة العقل فكل صنع فعل وليس كل فعل صنعاً ولا ينسب إلى الحيوانات كما ينسب إليها الفعل كما في "المفردات" وهو مصدر مؤكد لمضمون ما قبله أي صنع الله ذلك صنعاً وفعله على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور وما ترتب عليه جميعاً {الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ} .
(6/273)
قال في "المختار" في تقن صنع الله الذي أتقن إتقان الشيء إحكامه.
والمعنى أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي.
وبالفارسية (استوار كرد همه يزهارا وبيارست بروجهي كه شايد).
قال في الإرشاد : قصد به التنبيه على عظم شأن تلك الأفاعل وتهويل أمرها والإيذان بأنها ليست بطريق إخلال نظام العالم وإفساد أحوال الكائنات بالكلية من غير أن تدعو إليها داعية ويكون لها عاقبة بل هي من قبيل بدائع صنع الله المبنية على أساس الحكمة المستتبعة للغايات الجميلة التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادىء الإبداع على الوجه المتين والمنهج الرصين.
{إِنَّه خَبِيرُا بِمَا تَفْعَلُونَ} عالم بظواهر أفعالكم وبواطنها أيها المكلفون ولذا فعل ما فعل من النفخ والبعث ليجازيكم على أعمالكم كما قال :
{مِّنَ} (هركه ازشما) {جَآءَ} (بيايد) {بِالْحَسَنَةِ} بكلمة الشهادة والإخلاص فإنها الحسنة المطلقة وأحسن الحسنات {فَلَه خَيْرٌ مِّنْهَا} نفع وثواب حاصل من جهتها ولأجلها وهو الجنة فخير اسم من غير تفضيل إذ ليس شيء خيراً من قول : لا إله إلا الله ويجوز أن يكون صيغة تفضيل إن أريد بالحسنة غير هذه الكلمة من الطاعات فالمعنى إذا فعله من الجزاء ما هو خير منها إذا ثبت له الشريف بالخسيس والباقي بالفاني وعشرة بل سبعمائة بواحد.
{وَهُم} أي : الذين جاؤوا بالحسنات {مِّن فَزَعٍ} أي عظيم هائل لا يقادر قدره وهو الفزع الحاصل من مشاهدة العذاب بعد تمام المحاسبة وظهور الحسنات والسيئات وهو الذي في قوله تعالى :
376
{لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ} (الأنبياء : 103).
جزء : 6 رقم الصفحة : 375
وعن الحسن حين يؤمر بالعبد إلى النار.
وقال ابن جريج : حين يذبح الموت وينادي : يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت.
{يَوْمَـاـاِذٍ} أي : يوم ينفخ في الصور.
{ءَامِنُونَ} لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل ولا يلحقهم ضرره أصلاً وأما الفزع الذي يعتري كل من في السموات ومن في الأرض غير من استثناه الله فإنما هو التهيب والرعب الحاصل في ابتداء النفخة من معاينة فنون الدواهي والأهوال ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة وإن كان آمناً من لحوق الضرر.
{وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ} أي : الشرك الذي وهو أسوأ المساوىء {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ} الكب إسقاط الشيء على وجهه أي ألقوا وطرحوا فيها على وجوههم منكوسين ويجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم كما أريدت بالأيدي في قوله : و{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة : 195) فإن الوجه والرأس والرقبة واليد يعبر بها عن جميع البدن {هَلْ تُجْزَوْنَ} على الالتفات أو على إضمار القول أي مقولاً لهم ما تجزون.
{إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من الشرك وفي الحديث : "إذا كان يوم القيامة جاء الإيمان والشرك يجثوان بين يدي الرب تعالى فيقول الله تعالى للإيمان : انطلق أنت وأهلك إلى الجنة ويقول للشرك : انطلق أنت وأهلك إلى النار" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ} إلى قوله : {فِى النَّارِ} .
ويقال : لا إله إلا الله مفتاح الجنة ولا بد للمفتاح من أسنان حتى يفتح الباب ومن أسنانه لسان ذاكر طاهر من الكذب والغيبة ، وقلب خاشع طاهر من الحسد والخيانة ، وبطن طائر من الحرام والشهية ، وجوارح مشغولة بالخدمة طاهرة من المعاصي.
وعن أبي عبد الله الجدلي قال : دخلت على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : يا أبا عبد الله ألا أنبئك بالحسنة التي من جاء بها أدخله الله الجنة والسيئة التي من جاء بها كبه الله في النار ولم يقبل معها عملاً؟ قلت : بلى قال : الحسنة حبنا والسيئة بعضنا اعلم أن الله تعالى هدى الخلق إلى طلب الحسنات بقوله : {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا} وهي استعمالهم في أحكام الشريعة على وفق آداب الطريقة بتربية أرباب الحقيقة وفي الآخرة حسنة وهي انتفاع من عالم الحقيقة انتفاعاً أبدياً سرمدياً وهم لا يحزنهم الفزع الأكبر أصيبوا بفزع المحبة في الدنيا فحوسبوا في فزع العقبى به ومن جاء بحب الدنيا فكبت وجوههم في نار القطيعة وقيل لهم : {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني بطلب الدنيا فإنها مبنية على وجه جهنم ودركاتها فمن ركب في طلبها وقع في النار :
اكر خواهي خلاص ازنار فرقت
مده دلرا بجز عشق ومحبت
جزء : 6 رقم الصفحة : 375
{إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَـاذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا} العبادة غاية التذلل والبلد المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه وإقامته فيه ولاعتبار الأثر قيل بجلده بلدة أي أثر والمراد بالبلدة هنا مكة المعظمة وتخصيصها بالإضافة تشريف لها وتعظيم لشأنها مثل ناقة الله وبيت الله ورجب شهر الله.
(6/274)
قال في "التكملة" : خص البلدة بالذكر وهي مكة وإن كان رب البلاد كلها ليعرف المشركون نعمته عليهم أن الذي ينبغي لهم أن يعبدوه هو الذي حرم بلدتهم انتهى قوله : الذي نعت لرب والتحريم جعل الشيء حراماً أي ممنوعاً منه والتعرض لتحريمه تعالى إياها إجلال لها بعد إجلال ومعناه يحرمها من انتهاك حرمتها بقطع شوكها وشجرها
377
ونباتها وتنفير صيدها وإرادة الإلحاد فيها بوجه من الوجوه وفي الحديث : "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس" أي كان تحريمها من الله بأمر سماوي لا من الناس باجتهاد شرعي وأما قوله عليه السلام : "إن إبراهيم حرم مكة" فمعناه أظهر الحرمة الثابتة أو دعا فحرمها الله حرمة دائمة.
ومعنى الآية : قل لقومك يا محمد : أمرت من قبل الله أن أخصه وحده بالعبادة ولا أتخذ له شريكاً فاعبدوه أنتم ففيه عزكم وشرفكم ولا تتخذوا له شريكاً وقد ثبتت عليكم نعمته بتحريم بلدتكم.
قال بعضهم : العبودية لباس الأنبياء والأولياء.
{وَلَهُ} أي : ولرب هذه البلدة خاصة.
{كُلِّ شَىْءٍ} خلقاً وملكاً وتصرفاً لا يشاركه في شيء من ذلك أحد.
وفيه تنبيه على أن إفراد مكة بالإضافة للتفخيم مع عموم الربوبية لجميع الموجودات.
صنعش كه همه جهعان باراست
{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} من الثابتين على ملة الإسلام والتوحيد أو من الذين أسلموا وجوههم خاصة.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن المسلم الحقيقي من يكون إسلامه في استعمال الشريعة مثل استعمال النبي عليه السلام الشريعة في الظاهر وهذا كمال العناية في حق المسلمين لأنه لو قال : وأمرت أن أكون من المؤمنين لما كان أحد يقدر على أن يكون إيمانه كإيمان النبي عليه السلام نظيره قوله تعالى : {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام : 163) ولهذا قال عليه السلام : "صلوا كما رأيتموني أصلي" يعني : في الظاهر ولو قال : صلوا كما أنا أصلي لما كان أحد يقدر على ذلك لأنه كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء وكان في صلاته يرى من خلفه كما يرى من أمامه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 377
{وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْءَانَ} التلاوة قراءة القرآن متتابعة كالدراسة والأوراد الموظفة والقراءة أعم يقال : تلاه تبعه متابعة ليس بينهما ما ليس منهما أي وأمرت بأن أواظب على تلاوته لتكشف لي حقائقه في تلاوته شيئاً فشيئاً فإنه كلما تفكر التالي العالم تجلت له معان جديدة كانت في حجب مخفية ، ولذا لا يشبع العلماء الحكماء من تلاوة القرآن وهو السر في أنه كان آخر وردهم لأن المنكشف أولاً للعارفين حقائق الآفاق ، ثم حقائق الأنفس ثم حقائق القرآن فعليك بتلاوة القرآن كل يوم ولا تهجره كما يفعل ذلك طلبة العلم وبعض المتصوفة زاعمين بأنهم قد اشتغلوا بما هو أهم من ذلك وهو كذب فإن القرآن مادة كل علم في الدنيا ويستحب لقارىء القرآن في المصحف أن يجهر بقراءته ويضع يده على الآية يتبعها فيأخذ اللسان حظه من الرفع ويأخذ البصر حظه من النظر واليد حظها من المس وسماع القرآن أشرف أرزاق الملائكة السياحين وأعلاها ومن لم تتيسر له تلاوة القرآن فليجلس لبث العلم لأجل الأرواح الذين غذاؤهم العلم لكن لا يتعدى علوم القرآن والطهارة الباطنة للأذنين تكون باستماع القول الحسن فإنه ثم حسن وأحسن فأعلاه حسناً ذكر الله بالقرآن فيجمع بين الحسنين فليس أعلى من سماع ذكر الله بالقرآن مثل كل آية لا يكون مدلولها إلا ذكر الله فإنه ما كل آية تتضمن ذكر الله فإن فيه حكاية الأحكام المشروعة وفيه قصص الفراعنة وحكايات أقوالهم وكفرهم وإن كان في ذلك الأجر العظيم من حيث هو قرآن بالإصغاء إلى القارىء إذا قرأ من نفسه أو غيره فعلم أن ذكر الله إذا سمع في القرآن أتم من
378
سماع قول الكافرين في الله ما لا ينبغي كذا في "الفتوحات".
واعلم أن خلق النبي عليه السلام كان القرآن فانظر في تلاوتك إلى كل صفة مدح الله بها عباده فافعلها أو اعزم على فعلها وكل صفة ذم الله بها عباده على فعلها فاتركها أو اعزم على تركها فإن الله تعالى ما ذكر لك ذلك وأنزله في كتابه إلا لتعمل به فإذا حفظت القرآن عن تضييع العمل به كما حفظته تلاوة فأنت الرجل الكامل.
{فَمَنِ اهْتَدَى} باتباعه إياي فيما ذكر من العبادة والإسلام وتلاوة القرآن.
{فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} فإن منافع اهتدائه عائدة إليه لا إلى غيره.
{وَمَن ضَلَّ} بمخالفتي فيما ذكر{فَقُلْ} في حقه {إِنَّمَآ أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} فقد خرجت من عهدة الإنذار والتخويف من عذاب الله وسخطه فليس عليّ من وباله شيء وإنما هو عليه فقط ويجوز أن يكون معنى وأن أتلو القرآن وأن أواظب على تلاوته للناس بطريق تكرير الدعوة فمعنى قوله : فمن اهتدى حينئذ فمن اهتدى بالإيمان والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام ومن ضل بالكفر به والإعراض عن العمل بما فيه.
وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
جزء : 6 رقم الصفحة : 377
وفي "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى أن نور القرآن يربي جوهر الهداية والضلالة في معدن قلب الإنسان السعيد والشقي كما يربي ضوء الشمس الذهب والحديد في المعادن يدل عليه قوله تعالى : {يُضِلُّ بِه كَثِيرًا وَيَهْدِي بِه كَثِيرًا} (البقرة : 26) وقال عليه السلام : "الناس كمعادن الذهب والفضة" {وَقُلِ الْحَمْدُ} أي على ما أفاض عليّ من نعمائه التي أجلها نعمة النبوة والقرآن {سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِه فَتَعْرِفُونَهَا} أي فتعرفون أنها آيات الله حين لا تنفعكم المعرفة.
وقال مقاتل : سيريكم آياته عن قريب الأيام فطوبى لمن رجع قبل وفاته والويل على من رجع بعد ذهاب الوقت.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
كنون بايد أي خفته بيدار بود
ومرك اندر آرد زخوابت ه سود
توغافل در انديشه سود ومال
كه سرمايه عمر شد ايمال
كرت شم عقلست وتدبير كور
كنون كن كه شمت نخوردست مور
كنون كوش كاب ازكمردر كذشت
نه وقتي كه سيلاب از سر كذشت
سكندر كه برعالمي حكم داشت
دران دم بكذشت عالم كذاشت
ميسر نبودش كزو عالمي
ستانند ومهلت دهندش دمي
{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} كلام مسوق من جهته تعالى مقرر لما قبله من الوعد والوعيد كما ينبىء عنه إضافة الرب إلى ضمير النبي عليه السلام وتخصيص الخطاب أولاً به وتعميمه ثانياً للكفرة تغليباً أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات لأن الغفلة التي هي سهو يعتري من قلة التحفظ والتيقظ لا يجوز عليه تعالى فيجازي كلاً منكم بعمله وكيف يغفل عن أعمالكم وقد خلقكم وما تعملون كما خلق الشجرة وخلق فيها ثمرتها فلا يخفى عليه حال أهل السعادة والشقاوة وإنما يمهل لحكمة لا لغفلة وإنما الغفلة لمن لا يتنبه لهذا فيعصي الله بالشرك وسيئات الأعمال وأعظم الأمراض القلبية نسيان الله ولا ريب أن علاج أمر إنما هو بضده وهو ذكر الله.
حكي : أن إبراهيم بن أدهم
379
سر يوماً بمملكته ونعمته ثم نام فرأى رجلاً أعطاه كتاباً فإذا فيه مكتوب لا تؤثر الفاني على الباقي ولا تغتر بملكك فإن الذي أنت فيه جسيم لولا أنه عديم فسارع إلى أمر الله فإنه يقول : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} (آل عمران : 133) فانتبه فزعاً وقال : هذا تنبيه من الله وموعظة فتاب إلى الله ورسوله بالقبول والعمل والمجانبة عن التأخر في طريق الحق والأخذ بالبطالة والكسل.
براحتي نرسيد آنكه زحمتي نكشيد
جزء : 6 رقم الصفحة : 377(6/275)
سورة القصص
وهي مكية وآياتها ثمان وثمانون على ما في التفاسير المعولة من المختصرة والمطولة
جزء : 6 رقم الصفحة : 379
{طسم} يشير إلى القسم بطاء طوله تعالى وطاء طهارة قلب حبيبه عليه السلام عن محبة غيره وطاء طهارة أسرار موحديه عن شهود سواه وبسين سره مع محبيه وبميم مننه على كافة مخلوقاته بالقيام بكفاياتهم على قدر حاجاتهم كذا في "التأويلات النجمية" (إمام قشيري آورده كه طا أشارت است بطهارت نفوس عابدان از عبادت اغيار وطهارت قلوب عارفان از تعظيم غير جبار وطهارت أرواح محبان از محبت ما سوى وطهارت أسرار موحدان از شهود غير خداي.
سلمى رحمه الله كويد سين رمز بست از أسرار الهي باعاصيان بنجات ويا ميعان بدرجات ومحبان بدوام مناجات ومرامات.
إمام يافعي رحمه الله فرموده كه حق سبحانه وتعالى اين حروف را سبب محافظت قرآن كردانيده از تطرق سمات زياده ونقصان وسر مشار إليه در آيت وإنا لحافظون اين حروفست) كما في "تفسير الكاشفي" وقد سبق غير هذا من الإشارات الخفية والمعاني اللطيفة في أول سورة الشعراء فارجع إليه تغنم بما لا مزيد عليه.
{تِلْكَ} أي هذا السورة {الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن} آيات مخصوصة من القرآن الظاهر إعجازه.
{نَتْلُوا عَلَيْكَ} التلاوة الإتيان بالثاني بعد الأول في القراءة أي نقرأ قراءة متتابعة بواسطة جبريل يعني يقرأ عليك جبريل بأمرنا.
{مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} مفعول نتلو أي بعض خبرهما الذي له شأن.
{بِالْحَقِّ} حال من فاعل نتلو أي محققين وملتبسين بالحق والصدق الذي لا يجوز فيه الكذب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 379
{لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} متعلق بنتلو وتخصيصهم بذلك مع عموم الدعوة والبيان للكل لأنهم المنتفعون به كأن قائلاً قال : وكيف نبأهما؟ فقال :
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الأرْضِ} فهو استئناف مبين لذلك البعض وتصديره بحرف التأكيد للاعتناء بتحقيق مضمون ما بعده والعلو الارتفاع.
وبالفارسية (بلند شدن وكردن كشي كردن) أي تجبر وطغى في أرض مصر وجاوز الحدود المعهودة في الظلم والعدوان.
قال في "كشف الأسرار" : (از
380
اندازه خويش شد).(6/276)
وقال الجنيد قدس سره : ادعى ما ليس له {وَجَعَلَ أَهْلَهَا} (وكردانيد أهل مصر را ازقبطيان وسبطيان) {شِيَعًا} جمع شيعة بالكسر وهو من يتقوى بهم الإنسان وينتشرون عنه لأن الشياع الانتشار والتقوية يقال : شاع الحديث أي كثر وقوي شاع القوم انتشروا وكثروا.
والمعنى فرقاً يشيعونه ويتبعونه في كل ما يريد من الشر والفساد أو أصنافاً في استخدامه يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من الأعمال الشاقة ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية.
قالب في "كشف الأسرار" : كان القبط إحدى الشيع وهم شيعة الكرامة {يَسْتَضْعِفُ} الاستضعاف (ضعيف وزبون يافتن وشمردن يعني زبون كرفت ومقهور ساخت) {طَآاـاِفَةً مِّنْهُمْ} (كروهي ازايشان).
والجملة حال من فاعل جعل أو استئناف كأنه قيل : كيف جعلهم شيعاً؟ فقال : يستضعف طائفة منهم أي من أهل مصر وتلك الطائفة بنو إسرائيل ومعنى الاستضعاف أنهم عجزوا وضعفوا عن دفع ما ابتلوا به عن أنفسهم.
{يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْى نِسَآءَهُمْ} بدل من الجملة المذكورة وأصل الذبح شق حلق الحيوان والتشديد للتكثير والاستحياء الاستبقاء.
والمعنى يقتل بعضهم أثر بعض حتى قتل تسعين ألفاً من أبناء بني إسرائيل صغاراً ويترك البنات أحياء لأجل الخدمة وذلك لأن كاهناً قال له : يولد في بني إسرائيل مولود يذهب ملكك على يده وذلك كان من غاية حمقه إذ لو صدق فما فائدة القتل وإن كذب فما وجهه كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فمررنا بصبيان فيهم ابن صياد وقد قارب البلوغ فقال له رسول الله : "أتشهد أني رسول الله" فقال : لا بل أتشهد أني رسول الله؟ فقلت : ذرني يا رسول الله أقتله عن ظن أنه الدجال فقال عليه السلام : "إن يكنه فلن تسلط عليه" يعني إن يكن ابن الصياد هو الدجال فلن تسلط على قتله لأنه لا يقتله إلا عيسى ابن مريم "وإن لا يكنه فلا خير لك في قتله" {إِنَّه كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أي : الراسخين في الإفساد ولذلك اجترأ على قتل خلق كثير من المعصومين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 380
{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأرْضِ} أن نتفضل عليهم بإنجائهم من بأسه ونريد حكاية حال ماضية معطوفة على أن فرعون علا لتناسبهما في الوقوع تفسيراً للنبأ يقال : منّ عليه مناً إذا أعطاه شيئاً والمنان في وصفه تعالى المعطي ابتداء من غير أن يطلب عوضاً.
{وَنَجْعَلَهُمْ أَاـاِمَّةً} جمع إمام وهو المؤتم به أي قدوة يقتدى بهم في أمور الدين بعد أن كانوا أتباعاً مسخرين لآخرين.
وفي "كشف الأسرار" : أنبياء وكان بين موسى وعيسى عليهما السلام ألف نبي من بني إسرائيل.
{وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} كل ما كان في ملك فرعون وقومه آخر الوراثة عن الإمامة مع تقدمها عليها زماناً لانحطاط رتبتها عنها.
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأرْضِ} أصل التمكين أن تجعل لشيء مكاناً يتمكن فيه ثم استعير للتسليط أي نسلطهم على أرض مصر والشام يتصرفون فيها كيفما يشاؤون.
{وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـامَـانَ} وهو وزير فرعون {وَجُنُودَهُمَا} وعساكرهما {مِنْهُم} أي : من أولئك المستضعفين {مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ويجتهدون في دفعه من ذهاب ملكهم وهلكهم على يد مولود منهم والحذر احتراز عن مخيف كما في "المفردات".
قال الكاشفي : (وديدن اين صورت را دروقتي كه در دريا علامت غرقه شدن مشاهده كردند
381
وبني إسرائيل تفرج كنان برساحل دريا بنظر در آوردند ودانستندكه بسبب ظلم وتعدي مغلوب ومقهور شده مظلومان وبياركان بمراد رسيد غالب وسر إفراز شدند.
وسر "يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم" آشكار أشد).
أي ستمكار برانديش ازان روزسياه
كه ترا شومى ظلم أفكند ازاه باه
آنكه كنون بحقارت نكري جانب وي
بشماتت كند آنروز بسوى تونكا
قال الشيخ سعدي قدس سره :
خبر يافت كردن كشي در عراق
كه ميكفت مسكيني از زير طاق
توهم بردري هستي اميد وار
س اميد بردونشنان برآر
نخواهى كه باشد دلت دردمند
دل دردمندان برآور زبند
ريشانىء خاطر داد خواه
براندازد از مملكت ادشاه
تحمل كن أي ناتوآن از قوكه
روزي توانا ترازوي شوى
جزء : 6 رقم الصفحة : 380
لب خشك مظلورا كو بخند
كه دندان ظالم بخواهند كند
يقال : الظلم يجلب النقم ويسلب النعم.
قال بعض السلف : دعوتان أرجو إحداهما كما أخشى الأخرى دعوة مظلوم أعنته ودعوة ضعيف ظلمته.
ختفته است مظلوم از إهش بترس
زدود دل صبحكاهش بترس
نترسي كه اك اندروني شبى
برآرد زسوز جكر ياربي
وفي الحديث : "أسرع الخير ثواباً صلة الرحم وأعجل الشر عقوبة البغي" ومن البغي استيلاء صفات النفس على صفات الروح فمن أعان النفس صار مقهوراً ولو بعد حين ومن أعان الروح صار منه أهل التمكين ومن الأئمة في الدين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 380
(6/277)
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى} اسمها يارخا وقيل : أيارخت كما في "التعريف" للسهيلي ونوحايذ بالنون ويوحانذ بالياء المثناة تحت في الأولى كما في "عين المعاني" وكانت من أولاد لاوي بن يعقوب عليه السلام.
وأصل الوحي الإشارة السريعة ويقع على كل تنبيه خفي والإيحاء إعلام في خفاء.
قال الإمام الراغب : يقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه : وحي وذلك إما برسول مشاهد يرى ذاته ويسمع كلامه كتبليغ جبريل للنبي عليه السلام في صورة معينة.
وإما بسماع كلام من غير معاينة كسماع موسى عليه السلام كلام الله تعالى.
وإما بإلقاء في الروع كما ذكر عليه السلام : "إن روح القدس نفث في روعي" وإما بإلهام نحو قوله : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى} .
وإما بتسخير نحو قوله : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} (النحل : 68) أو بمنام كقوله عليه السلام : "انقطع الوحي وبقيت المبشرات رؤيا المؤمن" انتهى بإجمال فالمراد وحي الإلهام كما ذكره الراغب.
فالمعنى قذفنا في قلبها وعلمناها.
وقال بعضهم : كان وحي الرؤيا.
وعلم الهدى (فرموده كه شايدرسول فرستاده باشد از ملائكه) يعني أتاها ملك كما أتى مريم من غير وحي نبوة حيث قال تعالى : {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يا مَرْيَمُ} (آل عمران : 42) وذلك أن أم موسى حبلت بموسى فلم يظهر بها أثر الحبل من نتوء البطن وتغير اللون وظهور اللبن وذلك شيء ستره الله بما أراد أن يمنّ به على بني إسرائيل حتى ولدت موسى ليلة لا رقيب
382
عليها ولا قابلة ولم يطلع عليها أحد من القوابل الموكلة من طرف فرعون بحبالى بني إسرائيل ولا من غيرهن إلا أخته مريم فأوحى الله إليها {إِنَّ} مفسرة بمعنى أي {أَرْضِعِيهِ} (شيرده موسى را ورور داورا) ما أمكنك إخفاؤه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 382
وفي "كشف الأسرار" : ما لم تخافي عليه الطلب {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} بأن يحس به الجيران عند بكائه.
وبالفارسية : (س ون ترسي برووفهم كنى كه مردم دانسته وقصد أو خواهند كرد) {فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ} في البحر وهو النيل.
قال بعض الكبار : فإذا خفت حفظه وعجزت عن تدبيره فسلميه إلينا ليكون في حفظنا وتدبيرنا.
{وَلا تَخَافِى} عليه ضيقة ولا شدة {وَلا تَحْزَنِى} بفراقه {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} عن قريب بوجه لطيف بحيث تأمنين عليه.
{وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (يعتي : أورا شرف نبوت ارزاني واهيم داشت) فأرضعته ثلاثة أشهر أو أكثر ثم ألح فرعون في طلب المواليد واجتهد العيون في تفحصها فجعلته في تابوت مطلي بالقار فقذفته في النيل ليلاً.
قال الكاشفي : (نجارى راكه آشناي عمران بود فرمودكه صندوقي نج شبر بتراشد وآن نجار خربيل ابن صبور بود اين عم فرعون ون صندوق تمام كرد وبمادر موسى داد ودرخاطرش كذشت كه كودكي دارد مي خواهد درصندوق كرده از مؤكلان بكريزاند نزد كماشته فرعون آمد وخواست كه صورت حال باز نمايد زبانش بسته شد بخانه خود آمد خواست كه نزد فرعون رود ونمامي كند شمش نابينا شد دانست كه آن مولود كه كاهنان نشان داده انيست في الحال ناديده بدوايمان آورد ومؤمن آل فرعون أوست وما در موسى صندوق را بقير اندوده موسى را دروى خوابانيد وسر صندوق هم بقير محكم بست ودر رودنيل افكند) وكان الله تعالى قادراً على حفظه بدون إلقائه في البحر لكن أراد أن يربيه بيد عدوه ليعلم أن قضاء الله غالب وفرعون في دعواه كاذب.
جهد فرعون وبى توفيق بود
هره أوميدوخت آن تفتيق بود
وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها وكان من أكرم الناس عليه وكان بها علة البصر وعجزت الأطباء عن علاجها.
(اهل كهانت كفته بودندكه فلانروز در رودنيل إنساني خرد سال يافته شود واين علت بآب دهن أو زائل كردد دران روز معين فرعون وزن ودختر ومحرمان وي همه دركنار رودنيل انتظار إنسان موعود مي بودندكه نا كاه صندوق بروروي آب نمودارشد فرعون بملازمان أمر كرد كه آنرا بكيريد وبياريد).
{فَالْتَقَطَه ءَالُ فِرْعَوْنَ} الفاء فصيحة مفصحة عن عطفه على جملة محذوفة والالتقاط إصابة الشيء من غير طلب ومنه اللقطة وهو مال بلا حافظ ثم يعرف مالكه واللقيط هو طفل لم يعرف نسبه يطرح في الطريق أو غيره خوفاً من الفقر أو الزنى ويجب رفعه إن خيف هلاكه بأن وجده في الماء أو بين يدي سبع وتفصيله في الفقه وآل الرجل خاصته الذين يؤول إليه أمرهم للقراءة أو الصحبة أو الموافقة في الدين.
والمعنى فألقته في اليم بعد ما جعلته في التابوت حسبما أمرت به فالتقطه آل فرعون أي أخذوه أخذ اعتناء به وصيانة له عن الضياع.
{لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} اللام لام العاقبة والصيرورة لا لام العلة والإرادة لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدواً وحزناً
383
(6/278)
ولكن صار عاقبة أمرهم إلى ذلك أبرز مدخولها في معرض العلة لالتقاطهم تشبيهاً له في الترتب عليه بالغرض الحامل عليه وهو المحبة والتبني وتمامه في فن البيان وجعل موسى نفس الحزن إيذاناً لقوة سببيته لحزنهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 382
قال الكاشفي : {عَدُوًّا} (دشمني مر مردانرا كه بسبب فرعون غرق شوند {وَحَزَنًا} واندوهي بزرك مرزنانراكه برده كيرند) {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـامَـانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَـاطِاِينَ} في كل ما يأتون وما يذرون فليس ببدع منهم أن قتلوا ألوفاً لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون.
والخطأ مقصوراً العدول عن الجهة والخاطىء من يأتي بالخطأ وهو يعلم أنه خطأ وهو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان يقال : خطىء الرجل إذا ضل في دينه وفعله والمخطىء من يأتي به وهو لا يعلم أي يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه بخلاف ما يريد يقال : أخطأ الرجل في لامه وأمره إذا زل وهفا.
حكي : أنهم فتحوا التابوت ورأوا موسى ألقى الله محبته في قلوب القوم وعمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت من ساعتها.
آمد طبيب درد بكلى علاج يافت
{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} هي آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق عليه السلام وقيل : كانت من بني إسرائيل من سبط موسى وقيل : كانت عمته حكاه الشبلي وكانت من خيار النساء أي قالت لفرعون حين أخرج من التابوت : {قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ} أي هو قرة عين لنا لأنهما لما رأياه أحباه.
وقال الكاشفي : (اين كودك روشني شم است مراوتراكه بسبب أو دختر ماشفا يافت) وقد سبق معنى القرة مراراً وفي الحديث : "أنه قال لك لا لي ولو قال لي كما هو لك لهداه الله كما هداها" {لا تَقْتُلُوهُ} خاطبته بلفظ الجمع تعظيماً ليساعدها فيما تريده.
{عَسَى أَن يَنفَعَنَآ} (شايدكه سود برساند ماراكه أمارت يمن وعلامت بركت درجبين أو لايح أست) وذلك لما رأت من برء البرصاء بريقه وارتضاعه إبهامه لبناً ونور بين عينيه ولم يره غيرها.
قال بعض الكبار : وجوه الأنبياء والأولياء مرائي أنوار الذات والصفات ينتفع بتلك الأنوار المؤمن والكافر لأن معها لذة حالية نقدية وإن لم يعرفوا حقائقها فينبغي للعاشق أن يرى بعين اليقين والإيمان أنوار الحق في وجوه أصفيائه كما رأت آسية وقد قيل في حقهم : "من رآهم ذكر الله" {أَوْ نَتَّخِذَه وَلَدًا} أي نتبناه فإنه أهل له ولم يكن له ولد ذكر {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} حال من آل فرعون والتقدير فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً وقالت امرأته كيت وكيت وهم لا يشعرون بأنهم على خطأ عظيم فيما صنعوا من الالتقاط ورجاء النفع منه والتبني له وقوله : إن فرعون الآية اعتراض وقع بين المعطوفين لتأكيد خطئهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 382
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية : عسى أن ينفعنا لنفعه الله ولكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه.
روي : أنه قالت الغواة من قوم فرعون : إن نظن إلا أن هذا هو الذي يحذر منه رمي في البحر خوفاً منك فاقتله فهمّ فرعون بقتله فقالت آسية : إنه ليس من أولاد بني إسرائيل فقيل لها : وما يدريك؟ فقالت : إن نساء بني إسرائيل يشفقن على أولادهن ويكتمنهم مخافة أن تقتلهم فكيف
384
يظن بالوالدة أنها تلقي الولد بيدها في البحر أو قالت : إن هذا كبير ومولود قبل هذه المدة التي أخبرت لك فاستوهبته لما رأت عليه من دلائل النجاة فتركه وسمته آسية موسى لأن تابوته وجد بينا لماء والشجر والماء في لغتهم "مو" والشجر "شا".
قال في "بحر الحقائق" لما كان القرآن هادياً يهدي إلى الرشد والرشد في تصفية القلب وتوجهه إلى الله تعالى وتزكية النفس ونهيها عن هواها وكانت قصة موسى عليه السلام وفرعون تلائم أحوال القلب والنفس فإن موسى القلب بعصا الذكر غلب على فرعون النفس وجنوده مع كثرتهم وانفراده كرر الحق تعالى في القرآن قصتهما تفخيماً للشأن وزيادة في البيان لبلاغة القرآن ثم إفادة لزوائد من المذكور قبله في موضع يكرره منه انتهى.
(6/279)
قال في "كشف الأسرار" : (تكرار قصه موسى وذكر فراوان درقرآن دليل است بر تعظيم كار أو وبزرك داشتن قدراو وموسى يا اين مرتبت ومنقبت جز بقدم تبيعت محمد عربي صلى الله عليه وسلّم نرسيد) كما قال عليه السلام : "لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي" (مصطفاي عربي از صدر دولت ومنزل كرامت اين كرامت كه عبات إزان "كنت نبياً وآدم بين الماء والطين" است قصد صف نعال كرد تا ميكفت {إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (الكهف : 110) وموسى كليم از مقام خود تجاوز نمود وقصد صدر دولت كردكه ميكفت {أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} (الأعراف : 143) لا جرم موسارا جواب اين آمد "لن تراني" مصطذارا اين كفتندكه ألم تر إلى ربك لولاك لما خلقت الأفلاك عادت ميان مرام نان رفت كه ون بزركي درجايي رود ومتواضع وار درصف النعال بنشيند أوراكويند اين نه جاي تست خيز ببالا ترنشين) فعلى العاقل أن يكون على تواضع تام ليستعد بذلك لرؤية جمال رب الأنام :
فروتن بود هوشمند كزين
نهد شاخ رميوه سربرزمين
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى} أصبح بمعنى صار والفؤاد القلب لكن يقال له : فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي التحرق والتوقد كما في "المفردات" و"القاموس" فالفؤاد من القلب كالقلب من الصدر يعني الفؤاد وسط القلب وباطنه الذي يحترق بسبب المحبة ونحوها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 382
قال بعضهم : الصدر معدن نور الإسلام والقلب معدن نور الإيقان والفؤاد معدن نور البرهان والنفس معدن القهر والامتحان والروح معدن الكشف والعيان والسر معدن لطائف البيان {فَارِغًا} الفراغ خلاف الشغل أي صفراً من العقل وخالياً من الفهم لما غشيها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوع موسى في يد فرعون دل عليه الربط الآتي فإنه تعالى قال في وقعة بدر {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} (الأنفال : 11) إشارة إلى نحو قوله : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} (الفتح : 4) فإنه لم تكن أفئدتهم هواء أي خالية فارغة عن العقل والفهم لفرط الحيرة {إِنَّ} أي إنها {كَادَتْ} قاربت من ضعف البشرية وفرط الاضطراب {لَتُبْدِى بِهِ} لتظهر بموسى وأنه ابنها وتفشي سرها وأنها ألقته في النيل يقال : بدا الشيء بدواً وبدوّاً ظهر ظهوراً بيناً وأبداه أظهره إظهاراً بيناً.
قال في "كشف الأسرار" : الباء زائدة أي تبديه أو المفعول مقدر أي تبدي القول به أي بسبب موسى.
قال في "عرائس البيان" : وقع على أم موسى ما وقع على آسية من أنها رأت أنوار الحق من وجه موسى فشفقت عليه ولم يبق في فؤادها صبر
385
من الشوق إلى وجه موسى وذلك الشوق من شوق لقاء الله تعالى فغلب عليها شوقه وكادت تبدي سرها {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} شددنا عليه بالصبر والثبات بتذكير ما سبق من الوعد وهو رده إليها وجعله من المرسلين والربط الشد وهو العقد القوي {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (واين لطف كريم تاباشد آن زن ازباورءداردن كان مروعده مارا) أي من المصدقين بما وعدها الله بقوله : {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} ولم يقل من المؤمنات تغليباً للذكور.
وفيه إشارة إلى أن الإيمان من مواهب الحق إذ المبني على الموهبة وهو الوحي أولاً ثم الربط بالتذكير ثانياً موهبة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 382
{وَقَالَتِ} أم موسى {لاخْتِهِ} أي : لأخت موسى لم يقل لبنتها للتصريح بمدار المحبة وهو الأخوة إذ به يحصل امتثال الأمر واسم أخته مريم بنت عمران وافق اسم مريم أم عيسى واسم زوجها غالب بن يوشا.
(6/280)
قال بعضهم : والأصح أن اسمها كلثوم لا مريم لما روى الزبير بن بكار أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل على خديجة رضي الله عنها وهي مريضة فقال لها يا خديجة : "أشعرت أن الله زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وهي التي علمت ابن عمها قارون الكيمياء وآسية امرأة فرعون" فقالت : آ أخبرك بهذا يا رسول الله فقال : "نعم" فقالت : بالرفاء والبنين وأطعم رسول الله خديجة من عنب الجنة وقولها بالرفاء والبنين أي أعرست أي اتخذت العروس حال كونك ملتبساً بالالتئام والاتفاق وهو دعاء يدعى به في الجاهلية عند التزويج والمراد منه الموافقة والملاءمة مأخود من قولهم : رفأت الثوب ضممت بعضه إلى بعض ولعل هذا إنما كان قبل ورود النهي عن ذلك كذا في "إنسان العيون".
وفيه أيضاً قد حمى الله هؤلاء النسوة عن أن يطأهن أحد فقد ذكر أن آسية لما ذكرت لفرعون أحب أن يتزوجها فتزوجها على كره منها ومن أبيها مع بذله لها الأموال الجليلة فلما زفت له وهم بها أخذه الله عنها وكان ذلك حاله معها وكان قد رضي منها بالنظر إليها وأما مريم فقيل : إنها تزوجت بابن عمها يوسف النجار ولم يقربها وإنما تزوجها لمرافقتها إلى مصر لما أرادت الذهاب إلى مصر بولدها عيسى عليهما السلام وأقاموا بها اثنتي عشرة سنة ثم عادت مريم وولدها إلى الشأم ونزلا الناصرة وأخت موسى لم يذكر أنها تزوجت انتهى.
{قُصِّيهِ} أمر من قص أثره قصاً وقصصاً تتبعه أي اتبعي أثره وتتبعي خبره.
وبالفارسية (بر ي برادر خود برووازوخبر كبر) أي فاتبعته يعني كلثوم (بدركاه فرعون آمد) {فَبَصُرَتْ بِهِ} أي أبصرته.
يعني (س برادر خودرا بديد).
{عَن جُنُبٍ} عن بعد تبصره ولا توهم أنها تراه يقال : جنبته وأجنبته ذهبت عن ناحيته وجنبه ومنه الجنب لبعده من الصلاة ومس المصحف ونحوهما والجار الجنب أي البعيد ويقال : الجار الجنب أيضاً للقريب اللازق بك إلى جنبك.
{وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أنها تقصه وتتعرف حاله أو أنها أخته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ} التحريم بمعنى المنع كما في قوله تعالى : {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} (المائدة : 72) لأنه لا معنى للتحريم على صبي غير مكلف أي منعنا موسى أن يرضع من المرضعات ويشرب لبن غير أمه بأن أحدثنا فيه كراهة ثدي النساء والنفار عنها من قبل قص أخته أثره أو من قبل أن نرده على أمه كما قال في "الجلالين" ، أو من قبل مجيء أمه كما قاله
386
أبو الليث أو في القضاء السابق لأنا أجرينا القضاء بأن نرده إلى أمه كما في "كشف الأسرار" والمراضع جمع مرضع وهي المرأة التي ترضع أي من شأنها الإرضاع وإن لم تكن تباشر الإرضاع في حال وصفها به فهي بدون التاء لأنها من الصفات الثابتة والمرضعة هي التي في حالة إرضاع الولد بنفسها ففي الحديث : "ليس للصبي خير من لبن أمه" أو ترضعه امرأة صالحة كريمة الأصل فإن لبن المرأة الحمقاء يسري وأثر حمقها يظهر يوماً وفي الحديث : "الرضاع يغير الطباع" ومن ثمة لما دخل الشيخ أبو محمد الجويني بيته ووجد ابنه الإمام أبا المعالي يرتضع ثدي غير أمه اختطفه منها ثم نكس رأسه ومسح بطنه وأدخل أصبعه في فيه ولم يزل يفعل ذلك حتى خرج ذلك اللبن فقال : يسهل علي موته ولا يفسد طبعه بشرب لبن غير أمه ثم لما كبر الإمام كان إذا حصلت له كبوة في المناظرة يقول : هذه من بقايا تلك الرضعة قالوا : العادة جارية أن من ارتضع امرأة فالغالب عليه أخلاقها من خير وشر كما في "المقاصد الحسنة" للإمام السخاوي.
{فَقَالَتْ} أي أخته عند رؤيتها لعدم قبوله الثدي واعتناء فرعون بأمره وطلبهم من يقبل ثديها.
{هَلْ أَدُلُّكُمْ} (آيا دلالت كنم شمارا) {عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ} (بر أهل خانه) {يَكْفُلُونَه لَكُمْ} الكفالة الضمان والعيالة يقال كفل به كفالة وهو كفيل إذا تقبل به وضمنه وكفله فهو كافل إذا عاله أي يربونه ويقومون بإرضاعه لأجلكم.
{وَهُمْ لَه نَـاصِحُونَ} يبذلون النصح في أمره ولا يقصرون في إرضاعه وتربيته.
والنصح ضد الغش وهو تصفية العمل من شوائب الفساد.
وفي "المفردات" : النصح تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه انتهى.
روي : أنهم قالوا لها : من يكفل؟ قالت : أمي قالوا : ألامك لبن؟ قالت : نعم لبن هارون وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها صبي فقالوا : صدقت.
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
وفي "فتح الرحمن" : قالت : هي امرأة قد قتل ولدها فأحب شيء إليها أن تجد صغيراً ترضعه انتهى.
(6/281)
يقول الفقير : إن الأول أقرب إلى الصواب إلا أن يتأول القتل بما في حكمه من إلقائه في النيل وغيبوبته عنها.
وروي : أن هامان لما سمعها قال : إنها لتعرفه وأهله خذوها حتى تخبر من له فقالت : إنما أردت وهم للملك ناصحون يعني أرجعت الضمير إلى الملك لا إلى موسى تخلصاً من يده فقال هامان : دعوها لقد صدقت فأمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله فأتت بأمه وموسى على يد فرعون يبكي وهو يعلله أو في يد آسية فدفعه إليها فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها.
يوي خوش توهركه زباد صبا شنيد
از يار آشنا سخن آشنا شنيد
فقال : من أنت فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها وأجرى عليها أجرتها (وكفت در هفته يكروز يش ما آور) فرجعت به إلى بيتها من يومها مسرورة فكانوا يعطون الأجرة كل يوم ديناراً وأخذتها لأنها مال حربي لا أنها أجرة حقيقة على إرضاعها ولدها كما في "فتح الرحمن".
يقول الفقير : الإرضاع غير مستحق عليها من حيث أن موسى ابن فرعون ويجوز لها أخذ الأجرة نعم إن أم موسى تعينت للإرضاع بأن لم يأخذ موسى من لبنها غيرها فكيف يجوز أخذ الأجرة اللهم إلا أن تحمل على الصلة لا على الأجرة إذ لم تمتنع إلا أن تعطى الأجرة ويحتمل أن يكون
387
ذلك مما يختلف باختلاف الشرائع كما لا يخفى.
قال في "كشف الأسرار" : لم يكن بين إلقائها إياه في البحر وبين رده إليها إلا مقدار ما يصبر الولد فيه عن الوالدة انتهى وأبعد من قال مكث ثماني ليال لا يقبل ثدياً.
{فَرَدَدْنَـاهُ إِلَى أُمِّهِ} أي : صرفنا موسى إلى والدته.
{كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} بوصول ولدها إليها.
وبالفارسية (تاروشن شود شم أو).
{وَلا تَحْزَنَ} بفراقه {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} أي جميع ما وعده من رده وجعله من المرسلين {حَقَّ} لا خلف فيه بمشاهدة بعضه وقياس بعضه عليه {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} آل فرعون {لا يَعْلَمُونَ} أن وعد الله حق فمكث موسى عند أمه إلى أن فطمته وردته إلى فرعون وآسية فنشأ موسى في حجر فرعون وامرأته يربيانه بأيديهما واتخذاه ولداً فبينا هو يلعب يوماً بين يدي فرعون وبيده قضيب له يلعب به إذ رفع القضيب فضرب به رأس فرعون فغضب فرعون وتطير من ضربه حتى همّ بقتله فقالت آسية : أيها الملك لا تغضب ولا يشقنّ عليك فإنه صبي صغير لا يعقل ضربه إن شئت اجعل في هذا الطست جمراً وذهباً فانظر على أيهما يقبض فأمر فرعون بذلك فلما مد موسى يده ليقبض على الذهب قبض الملك الموكل به على يده فردها إلى الجمرة فقبض عليها موسى فألقاها في فيه ثم قذفها حين وجد حرارتها فقالت آسية لفرعون : ألم أقل لك أنه لا يعقل شيئاً فكفّ عنه وصدقها وكان أمر بقتله ويقال أن العقدة التي كانت في لسان موسى أي قبل النبوة أثر تلك الجمرة التي التقمها ثم زالت بعدها لأنه عليه السلام دعا بقوله : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى * يَفْقَهُوا قَوْلِي} وقد سبق في طه.
قال الشيخ العطار قدس سره :
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
همو موسى اين زمان در طشت آتش مانداه أيم
طفل فرعونيم ما كام ودهان راحكرست
وهو شكاية من زمانه وأهاليه فإن لكل زمان فرعون يمتحن به من هو بمشرب موسى واستعداده ولكن كل محنة فهي مقدمة لراحة كما قال الصائب :
هر محنتي مقدمه راحتي بود
شد همزبان حق وزبان كليم سوخت
فلا بد من الصبر فإنه يصير الحامض حلواً.
اعلم أن موسى كان ضالة أمه فرده الله إليها بحسن اعتمادها على الله تعالى وكذا القلب ضالة السالك فلا بد من طلبه وقص أثره فإنه الموعود الشريف الباقي وهو الطفل الذي هو خليفة الله في الأرض ومن عرفه وأحسن بفراقه وألمه هان عليه بذل النقد الخسيس الفاني نسأل الله الاستعداد لقبول الفيض.
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
{وَلَمَّا بَلَغَ} موسى {أَشُدَّهُ} أي : قوته وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين واحد على بناء الجميع كما سبق في سورة يوسف.
{وَاسْتَوَى} والاستواء اعتدال الشيء في ذاته أي اعتدل عقله وكمل بأن بلغ أربيعين سنة كقوله : {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} (الأحقاف : 15) بعد قوله : {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} (الأحقاف : 15) وفي يوسف {بَلَغَ أَشُدَّهُ} (يوسف : 22) فحسب لأنه أوحى إليه في صباه حين كونه في البئر وموسى عليه السلام أوحى إليه بعد أربعين سنة كما قال : {حُكْمًا وَعِلْمًا} أي : نبوة {وَعِلْمًا} بالدين.
قال الكاشفي : (ذكر انباي نبوت دراثناي اين قضيه) أي معه أنه تعالى استنبأه بعد الهجرة في المراجعة من مدين إلى مصر (بيان صدق هرد ووعده است كه نانه أورا بمادر رسانيديم ونبوت هم داديم)
388
والجمهور على أن نبينا عليه السلام بعث على رأس الأربعين وكذا كل نبي عند البعض.
(6/282)
وقال بعضهم : اشتراط الأربعين في حق الأنبياء ليس بشيء لأن عيسى عليه السلام نبىء ورفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين ونبىء يوسف عليه السلام وهو ابن ثماني عشرة ويحيى عليه السلام نبىء وهو غير بالغ قيل كان ابن سنتين أو ثلاث وكان ذبحه قبل عيسى بسنة ونصف وهكذا أحوال بعض الأولياء فإن سهل بن عبد الله التستري سلك وكوشف له وهو غير بالغ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 388
وفي الآية تنبيه على أن العطية الإلهية تصل إلى العبد وإن طال العهد إذا جاء أوانها فلطالب الحق أن ينتظر إحسان الله تعالى ولا ييأس منه فإن المحسن لا بد وأن يجازى بالإحسان كما قال تعالى : {وَكَذَالِكَ} أي : كما جزينا موسى وأمه {نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} على إحسانهم وفيه تنبيه على أنهما كانا محسنين في عملهما متقيين في عنفوان عمرهما فمن أدخل نفسه في زمرة أهل الإحسان جازاه الله بأحسن الجزاء.
حكي : أن امرأة كانت تتعشى فسألها سائل فقامت ووضعت في فمه لقمة ثم وضعت ولدها في موضع فاختلسه الذئب فقالت : يا رب ولدي فأخذ آخذ عنق الذئب واستخرج الولد من فيه بغير أذى وقال لها : هذه اللقمة بتلك اللقمة التي وضعتها في فم السائل.
والإحسان على مراتب فهو في مرتبة الطبيعة بالشريعة وفي مرتبة النفس بالطريقة وإصلاح النفس وذلك بترك حظ النفس فإنه حجاب عظيم وفي مرتبة الروح بالمعرفة وفي مرتبة السر بالحقيقة.
فغاية الإحسان من العبد الفناء في الله ومن المولى إعطاء الوجود الحقاني إياه ولا يتيسر ذلك الفناء إلا لمن أيده الله بهدايته ونور قلبه بأنوار التوحيد إذ التوحيد مفتاح السعادات فينبغي لطالب الحق أن يكون بين الخوف والرجاء في مقام النفس ليزكيها بالوعد والوعيد ويصفي وينور الباطن في مقام القلب بنور التوحيد ليتهيأ لتجليات الصفات ويطلب الهداية في مقام الروح ليشاهد تجلي الذات ولا يكون في اليأس والقنوط ألا ترى أن أم موسى كانت راجية واثقة بوعد الله حتى نالت ولدها موسى وتشرفت أيضاً بنبوته فإن من كانت صدف درة النبوة تشرفت بشرفها.
واعلم أنه لا بد من الشكر على الإحسان فشكر الإله بطول الثناء وشكر الولاة بصدق الولاء وشكر النظير بحسن الجزاء وشكر من دونك ببذل العطاء.
يكي كوش كودك بماليد سخت
كه اي بوالعجب رأي بركشته بخت
تراتيشه دادم كه هيزم شكن
نكفتم كه ديوار مسجد بكن
زبان آمد ازبهر شكر وساس
بغيبيت نكر داندش حق شناس
كذركاه قرآن وندست كوش
به بهتان وباطل شنيدن مكوش
دوشم ازى صتننع باري نكوست
زعيب برادر فروكير ودوست
بروشكر كن ون بنعمت درى
كه محرومي آيد زمستكبرى
كرا زحق نه توفيق خيري رسد
كي ازبنده خيري بغير ي رسد
ببخش أي بسر كادمي زاده صيد
بإحسان توان كرد ووحشى بقيد
مكن بدكه بدبيني ازيارنيك
جزء : 6 رقم الصفحة : 388
نيايد زتخم بدي بارنيك
389
أي : لا تجيء ثمرة الخير إلا من شجرة الخير كما لا يحصل الحنظل إلا من العلقمة فمن أراد الرطب فليبذر النخل.
حكي : أن امرأة كانت لها شاة تتعيش بها وأولادها فجاءها يوماً ضيف فلم تجد شيئاً للأكل فذبحت الشاة ثم إن الله تعالى أعطاها بدلها شاة أخرى وكانت تحلب من ضرعها لبناً وعسلاً حتى اشتهر ذلك بين الناس فجاء يوماً زائرون لها فسألوا عن السبب في ذلك فقالت : إنها كانت ترعى في قلوب المريدين يعني أن الله تعالى جازاها على إحسانها إلى الضيف بالشاة الأخرى ثم لما كان بذله عن طيب الخاطر وصفاء البال أظهر الله ثمرته في ضرع الشاة بإجراء اللبن والعسل فليس جزاء الإحسان إلا الإحسان الخاص من قبل الرحمن وليس للإمساك والبخل ثمرة سوى الحرمان نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الذين يحسنون لأنفسهم في الطلب والإرادة وتحصيل السعادة واستجلاب الزيادة والسيارة.
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} ودخل موسى مصراً آتياً من قصر فرعون.
وبالفارسية (موسى از قصر فرعون برون آمد ودرميان شهرشد) وذلك لأن قصر فرعون كان على طرف من مصر كما سيأتي عند قوله تعالى : {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} (القصص : 20) قيل المراد مدينة منف من أرض مصر وهي مدينة فرعون موسى التي كان ينزلها وفيها كانت الأنهار تجري تحت سريره وكانت في غربي النيل على مسافة اثني عشر ميلاً من مدينة فسطاط مصر المعروفة يومئذ بمصر القديمة ومنف أول مدينة عمرت بأرض مصر بعد الطوفان وكانت دار الملك بمصر في قديم الزمان.
{عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} أي حال كونه في وقت لا يعتاد دخولها.
(6/283)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : دخلها في الظهيرة عند المقيل وقد خلت الطرق.
{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ} الجملة صفة لرجلين.
والاقتتال (كارزار كردن بايكديكر) {هَـاذَآ} (آن يكي) {مِن شِيعَتِهِ} أي ممن شايعه وتابعه على دينه وهم بنو إسرائيل روي أنه السامري كما في "فتح الرحمن" والإشارة على الحكاية وإلا فهو والذي من عدوه ما كانا حاضرين حال الحكاية لرسول الله ولكنهما لما كانا حاضرين يشار إليهما وقت وجدان موسى إياهما حكى حالهما وقتئذ.
{وَهَـاذَا} (وآن يكي ديكر).
{مِنْ عَدُوِّهِ} العدو يطلق على الواحد والجمع أي من مخالفيه ديناً وهم القبط واسمه فاتون كما في "كشف الأسرار" وكان خباز فرعون أراد أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطباً إلى مطبخ فرعون.
{فَاسْتَغَـاثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِه عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ} أي سأله أن يغيثه بالإعانة عليه ولذلك عدي بعلي يقال : استغثت طلبت الغوث أي النصرة.
وبالفارسية (س فرياد خواست بموسى آإنكسى كه از كروه اوبود بررنكسي كه از دشمنان أو بود يعني ياري طلبي دسبطي ازموسى بردفع قبطي) وكان موسى قد أعطي شدة وقوة (قبطي راكفت دست ازو بدار قبطي سخن موسى ردكرد).
{فَوَكَزَه مُوسَى} الوكز كالوعد الدفع والطعن والضرب بجمع الكف وهو بالضم والكسر حين يقبضها أي فضرب القبطي بجمع كفه.
وبالفارسية (س مشت زداورا موسى) {فَقَضَى عَلَيْهِ} أي : فقتله فندم فدفنه في الرمل وكل شيء فرغت وأتممته فقد قضيت عليه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 388
في "المفردات" : يعبر عن الموت بالقضاء فيقضى نحبه لأنه فصل أمره بالمختص به من دنياه
390
والقضاء فصل الأمر.
{قَالَ هَـاذَا} القتل {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ} (از عمل كسى است كه شيطان اورا اغوا كند نه عمل أمثال من) فأضيف العمل إلى الشيطان لأنه كان بإغوائه ووسوسته وإنما كان من عمله لأنه لم يؤمر بقتل الكفار أو لأنه كان مأموناً فيهم فلم يكن له اغتيالهم ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ وإنما عده من عمل الشيطان وسماه ظلماً واستغفر منه جرياً على سنن المقربين في استعظام ما فرط منهم ولو كان من محقرات الصغائر وكان هذا قبل النبوة.
{إِنَّهُ} أي : الشيطان.
{عَدُوٌّ} لابن آدم {مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة والإضلال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 388
{قَالَ} توسيط قال بين كلاميه لإبانة ما بينهما من المخالفة من حيث أنه مناجاة ودعاء بخلاف الأول {رَبُّ} (أي روردكار من) {إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} بقتل القبطي بغير أمر {فَاغْفِرْ لِى} ذنبي {فَغَفَرَ لَه} ربه ذلك لاستغفاره {إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي : المبالغ في مغفرة ذنوب العباد ورحمتهم.
{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ} إما قسم محذوف الجواب أي أقسم عليك بإنعامك عليّ بالمغفرة لأتوبن {فَلَنْ أَكُونَ} بعد هذا أبداً {ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} معيناً لهم يقال ظاهرته أي قويت ظهره بكوني معه وإما استعطاف أي بحق إحسانك عليّ اعصمني فلن أكون معيناً لمن تؤدي معاونته إلى الجرم وهو فعل يوجب قطيعة فاعله وأصله القطع.
قال ابن عطاء : العارف بنعم الله من لا يوافق من خالف ولي نعمته والعارف بالمنعم من لا يخالفه في حال من الأحوال انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لم يستثن فابتلي به أي بالعون للمجرمين مرة أخرى كما سيأتي.
يقول الفقير : المراد بالمجرم ههنا الجاني الكاسب فعلاً مذموماً فلا يلزم أن يكون الإسرائيلي كافراً كما دل عليه هذا من شيعته وقوله : بالذي هو عدو لهما على أن بني إسرائيل كانوا على دين يعقوب قبل موسى ولذا استذلهم فرعون بالعبودية ونحوها وأما قول ابن عباس رضي الله عنهما عند قوله : ظهيراً للمجرمين ، أي عوناً للكافرين فيدل على أن إطلاق المجرم المطلق على المؤمن الفاسق من قبل التغليظ والتشديد ثم إن هذا الدعاء وهو قوله : رب بما أنعمت عليّ إلخ حسن إذا وقع بين الناس اختلاف وفرقة في دين أو ملك أو غيرهما وإنما قال موسى هذا عند اقتتال الرجلين ودعا به ابن عمر رضي الله عنهما عند قتال علي ومعاوية كذا في "كشف الأسرار".
جزء : 6 رقم الصفحة : 391
ثم إن في الآية إشارة إلى أن المجرمين هم الذين أجرموا بأن جاهدوا كفار صفات النفس بالطبع والهوى لا بالشرع والمتابعة كالفلاسفة والبراهمة والرهابين وغيرهم فجهادهم يكون من عمل الشيطان.
{فَأَصْبَحَ} دخل موسى في الصباح.
{فِى الْمَدِينَةِ} وفيه إشارة إلى أن دخول المدينة والقتل كانا بين العشاءين حين اشتغل الناس بأنفسهم كما ذهب إليه البعض.
{خَآاـاِفًا} أي : حال كونه خائفاً على نفسه من آل فرعون.
{يَتَرَقَّبُ} يترصد طلب القود أو الأخبار وما يقال في حقه وهل عرف قاتله.
والترقب انتظار المكروه.
(6/284)
وفي "المفردات" ترقب احترز راقباً أي حافظ وذلك إما لمراعاة رقبة المحفوظ وأما لرفعه رقبته {فَإِذَا} للمفاجأة (س ناكاه).
{الَّذِى اسْتَنْصَرَه بِالامْسِ} أي الإسرائيلي الذي طلب من موسى النصرة قبل هذا اليوم على دفع القبطي المقتول.
{يَسْتَصْرِخُهُ} الاستصراخ (فرياد رسيدن مخواستن)
391
أي يستغيث موسى برفع الصوت من الصراخ وهو الصوت أو شديده كما في "القاموس" : وبالفارسية (باز فرياد ميكند وياري ميطلبد برقبطىء ديكر).
{قَالَ لَه مُوسَى} أي : للإسرائيلي المستنصر بالأمس المستغيث على الفرعون الآخر {إِنَّكَ لَغَوِىٌّ} (منرد دكمراهي) وهو فعيل بمنى الغاوي.
{مُّبِينٌ} بين الغواية والضلالة لأنك تسببت لقتل رجل وتقاتل آخر يعني إني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه بسببك فالآن تريد أن توقعني في ورطة أخرى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 391
{فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ} موسى.
{أَن يَبْطِشَ} البطش تناول الشيء بشدة {بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} أي يأخذ بيد القبطي الذي هو عدو لموسى والإسرائيلي إذ لم يكن على دينهما ولأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل على الإطلاق.
{قَالَ} ذلك الإسرائيلي ظاناً أن موسى يريد أن يبطش به بناءً على أنه خاطبه بقوله : إنك لغوي مبين ورأى غضبه عليه أو قال القبطي ، وكأنه توهم من قولهم أنه الذي قتل القبطي بالأمس لهذا الإسرائيلي.
يا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسَا بِالامْسِ} يعني : القبطي المقتول {إِن تُرِيدُ} أي : ما تريد {إِلا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِى الأرْضِ} وهو الذي يفعل ما يريده من الضرب والقتل ولا ينظر في العواقب {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} بين الناس بالقول والفعل فتدفع التخاصم ولما قال هذا انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملئه وظهر أن القتل الواقع أمس صدر من موسى حيث لم يطلع على ذلك إلا ذلك الإسرائيلي فهموا بقتل موسى فخرج مؤمن من آل فرعون وهو ابن عمه ليخبر موسى كما قال {وَجَآءَ رَجُلٌ} وهو خربيل {مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} من آخرها أو جاء من آخرها.
وبالفارسية (ازدور ترجايي ازشهر يعني ازباركاه فرعون كه بريك ناره شهر بود) يقال : قصوت عنه وأقصيت أبعدت والقصي البعيد.
{يَسْعَى} صفة رجل أي يسرع في مشيه حتى وصل إلى موسى{قَالَ يا مُوسَى إِنَّ الْمَلا} أشراف قوم فرعون {يَأْتَمِرُونَ بِكَ} يتشاورون بسببك وإنما سمي التشاور ائتماراً لأن كلاً من المتشاروين يأمر الآخر ويأتمر {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} من المدينة {إِنِّى لَكَ مِنَ النَّـاصِحِينَ} في أمري إياك بالخروج.
وبالفارسية (از نيك خواهان ومهربانم) واللام للبيان كأنه قيل : لك أقول هذه النصيحة وليس صلة للناصحين لأن معمول الصلة لا يتقدم الموصول وهو اللام في الناصح.
جزء : 6 رقم الصفحة : 392
{فَخَرَجَ مِنْهَا} (س بيرون رفت درهمان دم ازان شهر بي زاد وراله ورفيق) {خَآاـاِفًا} حال كونه خائفاً على نفسه {يَتَرَقَّبُ} لحوق الطالبين والتعرض له في الطريق.
وبالفارسية : (انتظار ميبردكه كسى ازى أو درآيد).
{قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} خلصني منهم واحفظني من لحوقهم.
وبالفارسية (كفت أي روردكار من نجات ده مرا وبازرهان از كروه ستمكاران يعني فرعون وكسان أو) فاستجاب الله دعاءه ونجاه كما سيأتي.
قال بعض العارفين : إن الله تعالى إذا أراد بعبده أن يكون له فرداً أوقعه في واقعة شنيعة ليفر من دون الله إلى الله فلما فر إليه خائفاً من الامتحان وجد جمال الرحمن وعلم أن جميع ما جرى عليه واسطة الوصول إلى المراد.
وفي "المثنوي".
يك جواني برزني مجنهون بدست
روزشب بي خواب وبي خور رمست
بيدل وشوريده ومجنو ومست
مي ندادش روزكار وصل دست
392
س شكنجه كرد عشقش برزمين
خودرا داردز أول عشق كين
عشق از أول راخوني بود
تاكريزد هركه بيروني بود
ون فرستادي رسولي يش زن
آن رسول ازرشك كردي راه زن
ورصبارا يك كردي در وفا
ازغباري تيره كشتي آن صبا
راههاي اره را غيرت ببست
لشك انديشه را رايت شكست
خوشهاي فكرتش بي كاه شد
شب روانرا رهنما ون ماه شد
جست از بيم عسس وشب بباغ
يارخودرا يافت ون شمع وراغبوداندرباغ آن صاحب جمال
كز غمش اين درعنا بدهشت سالسايه أورا نبود أمكان ديد
همو عنقا وصف أورامي شنيد
جزيكي لقيه كه أول ازقضا
بروي افتاد وشداورا دلربا
ون در آمد خوش دران باغ آن جوان
خود فروشد يابكنجش ناكهان
مرعسس را ساخته يزدان سبب
تازبيم أودود درباغ شب
كفت سازنده سبب را آن نفس
أي خدا تورحمتي كن برعسسبهراين كردي سبب اينكاررا
اندرارم خار من يك خاررا
س يد مطلق نباشد درجهان
بدبنسبت باشد اين راهم بدانزهر ماران ماررا باشد حيات
نسبتش باآدمي باشد ممات
خلق آبي رابود دريا وباغ
خلق خاكي رابود آن مرك ودا غ
هره مكررهست ون شدا ودليل
سوى محبوبت حبيب أست وخليل
در حقيقت هرعدو داروي تست
(6/285)
كيمياي نافع ودلجوي تستكه ازو اندر كريزي درخلا
جزء : 6 رقم الصفحة : 392
استعانت جويي از لطف خدا
درحقيقيت دوست دانت دشمن اند
كه ز حضرت دور ومشغولت كنند
فإذا أقبل العاشق من طريق الامتحان إلى الحق خاف وترقب أن يلحقه أحد من أهل الضلال فيمنعه من الوصول إليه فإنه لا ينفك عن الخوف ما دام في الطريق نسأل الله الوصول وهو خير مسؤول.
جزء : 6 رقم الصفحة : 392
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} التوجه (روى باخيري كردن) والتلقاء تفعال من لقيت وهو مصدر اتسع فيه فاستعمل ظرفاً يقال : جلس تلقاءه أي حذاءه ومقابلته.
ومدين قرية شعيب عليه السلام على بحر القلزم سميت باسم مدين بن إبراهيم عليه السلام من امرأته قنطورا كان اتخذها لنفسه مسكناً فنسبت إليه ولم يكن في سلطان فرعون وكان بينهما وبين مصر مسيرة ثمانية أيام كما بين الكوفة والبصرة.
والمعنى لما جعل موسى وجهه نحو مدين وصار متوجهاً إلى جانبها.
{قَالَ} (باخود كفتت) توكلاً على الله وحسن ظن به وكان لا يعرف الطرق.
{عَسَى رَبِّى} (شايدكه روردكار من).
{أَن يَهْدِيَنِى} (راه نمايد مرا) {سَوَآءَ السَّبِيلِ} وسطه ومستقيمه والسبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك فظهر له ثلاث طرق فأخذ الوسطى وجاء الطلاب عقبيه فقالوا : إن الفار لا يأخذ الطريق الوسط
393
خوفاً على نفسه بل الطرفين فشرعوا في الآخرين فلم يجده (س موسى هشت شبانورز ميرفت وبي زاد وبي طعام اي برهنه وشكم كرسنه ودران هشت روز نميخورد مكر برك درختان تارسيد بمدين سلمى.
فرموده كه روى مبارك بناحيه مدين داشت أمادلش متوجه بحضرت ذو المدين بود ومسالك بداي مدين را بهمراهي غم شوق لقا مي يمود).
غمت تايار من شد روى در راه عدم كردم
خوشست آوركي آنراكه همرا هي نين باشد
قال بعضهم : مدين إشارة إلى عالم الأزل والأبد فوجد موسى نسيم الحقيقة من جانبها لأنه كان بها شعيب عليه السلام فتوجه إليها للمشاهدة واللقاء كما قال عليه السلام : "إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن" مخبراً عن وجدان نسيم الحق من روضة قلب أويس القرني رضي الله عنه ففي أرض الأولياء نفحات وفي لقائهم بركات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 393
وقال بعضهم : (ون خواستندكه موسى كليم را لباس نبوت وشند وبحضرت رسالت ومكالمت برندنخست أورا درخم وكان بيت نهادند تادران بارها وفتنها بته كشتنانكه رب العزة كفت).
{وَفَتَنَّـاكَ فُتُونًا} (طه : 40) أي طبخناك بالبلاء طبخاً حتى صرت صافياً نقياً (از مصر بدر آمد ترسان در الله زاريد رب العالمين دعاي وي أجابت كرد واورا ازبيم دشمن ايمن كرد سكينه بدل وي فرو آمد وساكن كشت باسروي كفتند مترس خداوندكه ترا در طفوليت حجر فرعون كه لطمه برروي وي ميزدي درحفظ وحمايت خود بداشت ودشمن ندد امروز همنان در حفظ خود بدارد وبدشمن ندهد آنكه روى نهاب بربيابان رفتوح نه بقصد مدين أما رب العزة أورا بمدين اكفند سريء را دران بقيه بود شعيب يغمبر خداي بود ومسكين بمدين داشت سائق تقدير موسى را بخدمت شعيب راند تايافت بخدمت وصحبت أو آنه افت خليل عليه السلام ون همه راها بسته بديد دانستكه حضرت يكيست آواز برآ وردكه.
{إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (الأنعام : 79) الآية مرد مردانه نه آنست كه برشاهراه سواري كندكه راه كشاده بود مرد آنست كه درشب تاريك برراه بي دليلي بسر كوي دوست شود) كما وقع لأكثر الأنبياء والأولياء المهاجرين الذاهبين إلى الله تعالى.
قال الحافظ :
شب تاريك وبيم موج وكردابي نين هائل
كجا دانند حال ما سبكباران ساحلها
يقول الفقير : المراد بقوله : "شب تاريك" جلال الذات لأن الليل إشارة إلى عالم الذات وظلمة جلاله الغالب وبقوله : "بيم موج" خوف صفات القهر والجلال وبقوله : "كردابي نين هائل" الامتحانات التي كدور البحر الإهلاك فهذا المصراع صفة أهل البداية والتوسط من أرباب الأحوال فإنهم بسبب ما وقعوا في بحر العشق لا يزالون بمتحنوا بالبلايا الهائلة إلى أن يخرجوا إلى ساحل البقاء والمراد بقوله : "سبكباران ساحلها" الذين لم يحملوا الإماتة الكبرى وهي العشق فبقوا في بر البشرية وهم العباد والزهاد فهم لكونهم أهل البر والبشرية والحجاب لا يعرفون أحوال أهل البحر والملكية والمشاهدة فإن بين الظاهر والباطن طريقاً بعيداً وبين الباب والصدر فرقاً كثيراً وبين المبتدأ والمنزل سيراً طويلاً نسأل الله العشق وحالاته والوصول إلى معانيه وحقائقه من ألفاظه ومقالاته.
{وَلَمَّا وَرَدَ} الورود إتيان الماء وضده الصدور وهو
394
الرجوع عنه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 393
وفي "المفردات" : الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره.
والمعنى ولما وصل موسى وجاء {مَآءَ مَدْيَنَ} وهو بئر على طرف المدينة على ثلاثة أميال منها أو أقل كانوا يسقون منها.
(6/286)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ورده وإنه ليتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال {وَجَدَ عَلَيْهِ} أي جانب البئر وفوق شفيرها {أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ} جماعة كثيرة منهم.
{يَسْقُونَ} مواشيهم {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} في مكان أسفل منهم {امْرَأَتَينِ} صفورياء ولياً ابنتا يثرون ويثرون هو شعيب قاله السهيلي في كتاب "التعريف" {تَذُودَانِ} الذود والكف والطرد والدفع أي تمنعان أغنامهما عن التقدم إلى البئر.
قال الكاشفي : (از آنجاكه شفقت ذاتي انبيا مي باشد فرا يش رفت وبطريق تلطف) {قَالَ} عليه السلام : {مَا خَطْبُكُمَا} الخطب الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب أي ما شأنكما فيما أنتما عليه من التأخر والذود ولم لا تباشران السقي كدأب هؤلاء.
قال بعضهم : كيف استجاز موسى أن يكلم امرأتين أجنبيتين والجواب كان آمناً على نفسه معصوماً من الفتنة فلأجل علمه بالعصمة كلمهما كما يقال : كان للرسول التزوج بامرأة من غير الشهود لأن الشهود لصيانة العقد عن التجاحد وقد عصم الرسول من أن يجحد نكاحاً أو يجحد نكاحه دون غيره من أفراد أمته {قَالَتَا لا نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ} لإصدار (بازكردانيدن) والرعاء بالكسر جمع راع كقيام جمع قائم ما يرعاء والمرعى موضع الرعي ويسمى كل سائس لنفسه أو لغيره راعياً وفي الحديث : "كلكم مسؤول عن رعيته" قيل : الرعاء هم الذين يرعون المواشي والرعاة هم الذين يرعون الناس وهم الولاة.
والمعنى عادتنا أن لا نسقي مواشينا حتى يصرف الرعاء : وبالفارسية : (بازكردانند شبانان) مواشيهم بعد ريها ويرجعوا عجزاً عن مساجلتهم وحذراً من مخالطة الرجال فإذا انصرفوا سقينا من فضل مواشيهم وحذف مفعول السقي والذود والإصدار لما أن الغرض هو بيان تلك الأفعال أنفسها إذ هي التي دعت موسى إلى ما صنع في حقهما من المعروف فإنه عليه السلام إنما رحمهما لكونهما على الذياد والعجز والعفة وكونهم على السقي غير مبالين بهما وما رحمهما لكون مذودهما غنماً ومستقيهم إبلاً مثلاً {وَأَبُونَا} وهو شعيب {شَيْخٌ} (يري است) {كَبِيرٌ} كبير السن أو القدر والشرف لا يستطيع أن يخرج فيرسلنا للرعي والسقي اضطراراً ومن قال من المعاصرين فيه عبرة أن مواشي النبي لم يلتفت إليها فقد أتى بالعبرة لأن الراعي لا يعرف ما النبي كما أن القروي في زماننا لا يعرف ما شريعة النبي وقد جرت العادة على أن أهل الإيمان من كل أمة أقل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 393
{فَسَقَى لَهُمَا} ماشيتهما رحمة عليهما وطلباً لوجه الله تعالى.
روي : أن الرجال كانوا يضعون على رأس البئر حجراً لا يرفعه إلا سبعة رجال أو عشرة أو أربعون فرفعه وحده مع ما كان به من الوصب والجوع وجراحة القدم (ازنيجا كفته اندكه هر يغمبر يزا بهل مردنيروي بود يغمبرامارا بهل يغمبر نيروبود) ولعله زاحمهم في السقي لهما فوضعوا الحجر على البئر لتعجيزه عن ذلك وهو الذي يقتضيه سوق النظم الكريم {ثُمَّ} بعد فراغه {تَوَلَّى} جعل ظهره يلي ما كان يليه وجهه أي أعرض
395
وانصرف {إِلَى الظِّلِّ} هو ما لم يقع عليه شعاع الشمس وكان ظل سمرة هنالك فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع.
{فَقَالَ} يا {رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ} أي : أي شيء أنزلته إلي {مِنْ خَيْرٍ} قليل أو كثير وحمله الأكثرون على الطعام بمعونة المقام {فَقِيرٌ} محتاج سائل ولذلك عدي باللام.
وفيه إشارة إلى أن السالك إذا بلغ عالم الروحانية لا ينبغي أن يقنع بما وجد من معارف ذلك العالم بل يكون طالباً للفيض الإلهي بلا واسطة.
قال بعضهم : هذا موسى كليم الله لما كان طفلاً في حجر تربية الحق ما تجاوز حده بل قال : رب إلخ فلما بلغ مبلغ الرجال ما رضي بطعام الأطفال بل قال : أرني أنظر إليك فكان غاية طلبه في بدايته الطعام والشراب وفي نهايته رفع الحجاب ومشاهدة الأحباب.
قال ابن عطاء : نظر من العبودية إلى الربوبية فخشع وخضع وتكلم بلسان الافتقار لما ورد على سره من أنواع الربوبية فافتقاره افتقار العبد إلى مولاه في جميع أحواله لا افتقار سؤال وطلب انتهى.
وسئل سهل عن الفقير الصادق فقال : لا يسأل ولا يرد ولا يحبس.
قال فارس : قلت لبعض الفقراء مرة ورأيت عليه أثر الجوع والضر : لم لا تسأل فيطعموك؟ فقال : أخاف أن أسألهم فيمنعوني فلا يفلحون.
ولما كان موسى عليه السلام جائعاً سأل من الله ما يأكل ولم يسأل من الناس ففطنت الجاريتان فلما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما قفلت قال لهما : ما أعجلكما؟ قالتا : وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقي لنا ثم تولى إلى الظل فقال : رب إلخ فقال أبوهما : هذا رجل جائع فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لنا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 393
{فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} عقيب مارجعتا إلى أبيهما وهي الكبرى واسمها صفورياء.
فإن قلت : كيف جاز لشعيب إرسال ابنته لطلب أجنبي؟.
(6/287)
قلت : لأنه لم يكن له من الرجال من يقوم بأمره ولأنه ثبت عنده صلاح موسى وعفته بقرينة الحال وبنور الوحي.
{تَمْشِى} حال من فاعل جاءته {عَلَى اسْتِحْيَآءٍ} ما هو عادة الأبكار.
والاستحياء (شسرم داشتن).
قال أبو بكر بن طاهر : لتمام إيمانها وشرف عنصرها وكريم نسبها أتته على استحياء وفي الحديث : "الحياء من الإيمان" أي : شعبة منه.
قال أعرابي : لا يزال الوجه كريماً ما غلب حياؤه ولا يزال الغصن نضيراً ما بقي لحاؤه {قَالَتْ} استئناف بياني {إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ} ليكافئك {أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} جزاء سقيك لنا (موسى بجهت زيارت شعيب وتقريب آشنايي باوي أجابت كردندنه برايطمع) ولأنه كان بين الجبال خائفاً مستوحشاً فأجابها فانطلقا وهي أمامه فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته أو كشفته عن ساقيها فقال لها : امشي خلف وانعتي إليّ الطريق فتأخرت وكانت تقول عن يمينك وشمالك وقدامك حتى أتيا دار شعيب فبادرت المرأة إلى أبيها وأخبرته فأذن له في الدخول وشعيب يومئذ شيخ كبير وقد كف بصره فسلم موسى افرد عليه السلام وعانقه ثم أجلسه بين يديه وقدم إليه طعاماً فامتنع منه وقال : أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيته وأنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا لأنه كان من بيت النبوة من أولاد يعقوب فقال شعيب : لا والله يا شاب ولكن هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا فتناول هذا وإن من فعل معروفاً فأهدي إليه شيء لم يحرم أخذه.
{فَلَمَّا جَآءَهُ} (س آن هنكام آمد موسى زنديك شعيب).
{وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} أخبره بما جرى عليه من الخبر المقصوص فإنه مصدر سمي به
396
المفعول كالعلل.
{قَالَ لا تَخَفْا نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} أي فرعون وقومه فإنه لا سلطان له بأرضنا ولسنا في مملكته.
وفيه إشارة إلى أن القلب مهما يكون في مقامه يخاف عليه أن يصيبه آفات النفس وظلم صفاتها فإذا وصل بالسر إلى مقام الروح فقد نجا من ظلمات النفس وظلم صفاتها ألا ترى أن السلطان ما دام في دار الحرب فهو على خوف من الأعداء فإذا دخل حد الإسلام زال ذلك.
وفيه إشارة إلى أن من وقع في الخوف يقال له لا تخف كما أن من وقع في الأمن يقال له : خف وفي "المثنوي" :
جزء : 6 رقم الصفحة : 393
لا تخافوا هست نزل خائفان
هشت درخور ازبراي خائف آنهركه ترسد مرورا ايمن كنند
مردل ترسنده را ساكن كنند
آنكه خوفش نيست ون كويي مترس
درس ه دهي نيست أو محتاج درس
قال أويس القرني رضي الله عنه كن في أمر الله كأنك قتلت الناس كلهم يعني خائفاً مغموماً.
قال شعيب بن حرب : كنت إذا نظرت إلى الثوري فكأنه رجل في أرض مسبعة خائف الدهر كله وإذا نظرت إلى عبد العزيز بن أبي داود فكأنه يطلع إلى القيامة من الكوة.
ثم إن موسى قد تربى عند فرعون بالنعمة الظاهرة ولما هاجر إلى الله وقاسى مشاق السفر والغربة عوضه الله عند شعيب النعمة الظاهرة والباطنة.
قيل :
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه
وانصب فإن اكتساب المجد في النصب
فالأسد لولا فراق الخيس ما افترست
والسهم لولا فراق القوس لم يصب
وقيل :
بلاد الله واسعة فضاء
ورزق الله في الدنيا فسيح
فقل للقاعدين على هوان
إذا ضاقت بكم أرض فسيحوا
قال الشيخ سعدي قدس سره :
سعد يا حب وطن كره حديث است صحيح
نتوان مرد بسختي كه من اينجا زادم
ألا ترى أن موسى عليه السلام ولد بمصر ولما ضاقت به هاجر إلى أرض مدين فوجد السعة مطلقاً فالكامل لا يكون زمانياً ولا مكانياً بل يسيح إلى حيث أمر الله تعالى من غير ليّ العنق إلى ورائه ولو كان وطنه فإن الله تعالى إذا كان مع المرء فالغربة له وطن والمضيق له وسيع.
وفي "المثنوي" :
هركجا باشد شه مارا بساط
هست صحرا كربود سم الخياطهركجا يوسف رضي باشد وماه
جنت است آن كره باشد قعرجاه
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} وهي الكبرى التي استدعته إلى أبيها وهي التي زوجها موسى.
يا اأَبَتِ} (اي در من) {اسْتَـاْجِرْهُ} أي اتخذ موسى أجيراً لرعي الغنم والقيام بأمرها.
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يا اأَبَتِ اسْتَـاْجِرْه إِنَّ خَيْرَ} اللام للجنس لا للعهد فيكون موسى مندرجاً تحته.
والقوي بالفارسية توانا).
والأمين : (استوار تعريض است بآنكه موسى را قوت وأمانت هست).
روي : أن شعيباً قال لها : وما أعلمك بقوته وأمانته؟ فذكرت له ما شاهدت منه من إقلال الحجر عن رأس البئر ونزع الدلو الكبير وأنه خفض رأسه عند
397
الدعوة ولم ينظر إلى وجهها تورعاً حتى بلغته رسالته وأنه أمرها بالمشي خلفه فخصت هاتين الخصلتين بالذكر لأنها كانت تحتاج إليهما من ذلك الوقت أما القوة فلسقي الماء وأما الأمانة فلحفظ البصر وصيانة النفس عنها كما قال يوسف عليه السلام : {إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف : 55) لأن الحفظ والعلم كان محتاجاً إليهما أما الحفظ فلأجل ما في خزانة الملك وأما العلم فلمعرفة ضبط الدخل والخرج.
جزء : 6 رقم الصفحة : 393
(6/288)
نكان شريح لا يفسر شيئاً من القرآن إلا ثلاث آيات.
الأولى {الَّذِى بِيَدِه عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (البقرة : 237) قال الزوج.
والثانية : {وَشَدَدْنَا مُلْكَه وَءَاتَيْنَـاهُ الْحِكْمَةَ} (ص : 20) البينة والإيمان.
والثالثة : {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يا اأَبَتِ اسْتَـاْجِرْه إِنَّ خَيْرَ} كما فسرت برفع الحجر وغض البصر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 393
{قَالَ} شعيب لموسى عليه السلام بعد الاطلاع على قوته وأمانته {إِنِّى أُرِيدُ} (من ميخواهم) {أَنْ أُنكِحَكَ} (آنكه زني بتودهم) {إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَـاتَيْنِ} (يكي را ازين دو دختران) وهي صفورياء التي قال فيها : {نَارًا قَالَ لاهْلِهِ امْكُثُوا} (طه : 10) {عَلَى أَن تَأْجُرَنِى} حال من المفعول في أنكحك يقال : أجرته إذا كنت له أجيراً كقولك : أبوته إذا كنت له أباً كما في "الكشاف".
والمعنى حال كونك مشروطاً عليك أو واجباً أن تكون لي أجيراً {ثَمَـانِىَ حِجَجٍ} في هذه المدة فهو ظرف جمع حجة بالكسر بمعنى السنة وهذا شرط للأب وليس بصداق لقوله : تأجرني دون تأجرها ويجوز أن يكون النكاح جائزاً في تلك الشريعة بشرط أن يكون منعقد العمل في المدة المعلومة لولي المرأة كما يجوز في شريعتنا بشرط رعي غنمها في مدة معلومة (ودر عين المعاني آورده كه در شرائع متقدمه مهر اختران مر دررا بوده وايشان مي كرفته اند ودر شريعت ما منسوخ شده بدين حكم {وَءَاتُوا النِّسَآءَ صَدُقَـاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء : 4) وآنكه جر منافع مهر تواندبود ممنوع است نزد إمام أعظم بخلاف إمام شافعي).
واعلم أن المهر لا بد وأن يكون مالاً متقوماً أي في شريعتنا لقوله تعالى : {أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم} (النساء : 24) وأن يكون مسلماً إلى المرأة لقوله تعالى : {وَءَاتُوا النِّسَآءَ صَدُقَـاتِهِنَّ} (النساء : 4) فلو تزوجها على تعليم القرآن أو خدمته لها سنة يصح النكاح ولكن يصار إلى مهر المثل لعدم تقوم التعليم والخدمة هذا إن كان الزوج حراً وإن كان عبداً فلها الخدمة فإن خدمة العبد ابتغاء بالمال لتضمنها تسليم رقبته ولا كذلك الحر فالآية سواء حملت على الصداق أو على الشرط فناظرة إلى شريعة شعيب فإن الصداق في شريعتنا للمرأة لا للأب والشرط وإن جاز عند الشافعي لكنه لكونه جراً لمنفعة المهر ممنوع عند إمامنا الأعظم رحمه الله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 398
وقال بعضهم : ما حكي عنهما بيان لما عزما عليه واتفقا على إيقاعه من غير تعرض لبيان موجب العقدين في تلك الشريعة تفضيلاً.
{فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا} أي عشر سنين في الخدمة والعمل {فَمِنْ عِندِكَ} أي : فإتمامها من عندك تفضلاً لا من عندي إلزاماً عليك.
{وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} (ونمى خواهم آنكه رنج نهم برتن تو بالزام تمام ده سال يابمناقشه درمراعات أوقات واستيفاي أعمال يعني ترا كاري فرمايم بروجهي كه آسان باشد ودر رنج نيفتي) واشتقاق المشقة من الشق فإن ما يصعب عليك بشق اعتقادك في إطاقته ويوزع رأيك في مزاولته.
قال بعض العرفاء : رأى شعيب بنور النبوة أنه يبلغ إلى درجة الكمال في ثماني حجج ولا يحتاج إلى التربية بعد ذلك ورأى أن
398
كمال الكمال في عشر حجج لأنه رأى أن بعد العشر لا يبقى مقام الإرادة ويكون بعد ذلك مقام الاستقلال والاستقامة ولا يحتمل مؤنة الإرادة بعد ذلك لذلك قال : إني أريد إلخ وما أريد إلخ.
يقول الفقير : اقتضى هذا التأويل أن عمر موسى وقتئذ كان ثلاثين لأنه لما أتم العشر عاد إلى مصر فاستنبىء في الطريق وقد سبق أن استنباءه كان في بلوغ الأربعين وهذه سنة لأهل الفناء في كل عصر وعندما يمضي ثمان وثلاثون أو أربعون من سن السلوك يكمل الفناء والبقاء وينفد الرزق فافهم.
{سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّـالِحِينَ} في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالعهد ومراده بالاستثناء التبرك به وتفويض الأمر إلى توفيقه لا تعليق صلاحه بمشيئته تعالى وفي الحديث : "بكى شعيب النبي عليه السلام من حب الله حتى عمي فرد الله عليه بصره وأوحى الله إليه يا شعيب ما هذا البكاء أشوقاً إلى الجنة أم خوفاً من النار؟ فقال : إلهي وسيدي أنت تعلم أني ما أبكي شوقاً إلى جنتك ولا خوفاً من النار ولكن اعتقدت حبك بقلبي فإذا نظرت إليك فما أبالي ما الذي تصنع بي فأوحى الله إليه يا شعيب إن يكن ذلك حقاً فهنيئاً لك لقائي يا شعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي".
اعلم أن في فرار موسى من فرعون إلى شعيب إشارة إلى أنه ينبغي لطالب الحق أن يسافر من مقام النفس الأمارة إلى عالم القلب ويفر من سوء قرين كفرعون إلى خير قرين كشعيب ويخدم المرشد بالصدق والثبات.
روي : أن إبراهيم بن أدهم كان يحمل الحطب سبع عشرة سنة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 398
(6/289)
وفي قوله : {عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَـانِىَ حِجَجٍ} إشارة إلى طريق الصوفية وأن استخدامهم للمريدين من سنن الأنبياء عليهم السلام.
قال الحافظ :
شبان وادي أيمن كهي رسد بمراد
كه ند سال بجان خدمت شعيب كند
{قَالَ} موسى {ذَالِكَ} الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم وثابت {بَيْنِى وَبَيْنَكَ} جميعاً لا أنا أخرج عما شرطت علي ولا أنت تخرج عما شرطت على نفسك {أَيَّمَا الاجَلَيْنِ قَضَيْتُ} أي شرطية منصوبة بقضيت وما زائدة مؤكدة لإبهام أي في شياعها والأجل مدة الشيء.
والمعنى أكثرهما أو أقصرهما وفيتك بأداء الخدمة فيه.
وبالفارسية : (هر كدام ازين دو مدت كه هشت ساله وده سالست بكذارم وبيابان رسانم) وجواب الشرطية قوله : {فَلا عُدْوَانَ عَلَىَّ} لا تعدي ولا تجاوز بطلب الزيادة فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثماني أو أيما الأجلين قضيت فلا إثم عليّ يعني كما لا إثم عليّ في قضاء الأكثر كذا لا أثم عليّ في قضاء الأقصر.
{وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ} من الشروط الجارية بيننا {وَكِيلٌ} شاهد وحفيظ فلا سبيل لأحد منا إلى الخروج عنه أصلاً.
فجمع شعيب المؤمنين من أهل مدين وزوجه ابنته صفوريا ودخل موسى البيت وأقام يرعى غنم شعيب عشر سنين كما في "فتح الرحمن".
روي : أنه لما أتم العقد قال شعيب لموسى : أدخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصيّ وكانت عنده عصي الأنبياء فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ولم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وصلت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفاً فلم يرضها له خوفاً من أن لا يكون أهلاً لها وقال غيرها : فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن لموسى شأناً وحين خرج للرعي قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ
399
عن يمينك فإن الكلأ وإن كان بها أكثر إلا أن فيها تنيناً أخشى منه عليك وعلى الغنم فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها ومشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية فلما أبصرها دامية والتنين مقتولاً سر ولما رجع إلى شعيب أخبره بالشأن ففرح شعيب وعلم أن لموسى والعصا شأناً وقال : إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع ودرعاء والدرع بياض في صدور الشاء ونحورها وسواد في الفخذ وهي درعاء كما في "القاموس".
فأوحى الله إليه في المنام أن اضرب بعصاك الماء الذي هو في مستقى الأغنام ففعل ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع ودرعاء فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إلى موسى وامرأته فوفى له بالشرط وسلم إليه الأغنام.
جزء : 6 رقم الصفحة : 398
قال أبو الليث : مثل هذا الشرط في شريعتنا غير واجب إلا أن الوعد من الأنبياء واجب فوفاه بوعده انتهى.
وفي "المثنوي".
جرعه برخاك وفاآنكس كه رخت
يكي تواند صيد دولت زوكريختس يمبر كفت بهر اين طريق
باوفاتر از عمل نبود رفيقكربود نيكو ابديارت شود
وربود بد در لحد بارت شود
جزء : 6 رقم الصفحة : 398
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاجَلَ} الفاء فصيحة أي فعقد العقدين وباشر ما التزمه فلما أتم الأجل المشروط بينهما وفرغ منه روي أنه قضى أبعد الأجلين وهي عشر سنين.
يعني (ده سال شباني كردس أورا آرزوي وطن خاست) فبكى شعيب وقال : يا موسى كيف تخرج عني وقد ضعفت وكبرت؟ فقال له : قد طالت غيبتي عن أمي وخالتي وهارون أخي وأختي في مملكة فرعون فقام شعيب وبسط يديه وقال : يا رب بحرمة إبراهيم الخليل وإسماعيل الصفي وإسحاق الذبيح ويعقوب الكظيم ويوسف الصديق رد قوتي وبصري فأمن موسى على دعائه فرد الله عليه بصره وقوته ثم أوصاه بابنته {وَسَارَ} موسى بإذن شعيب نحو مصر والسير المضي في الأرض {بِأَهْلِهِ} بامرأته صفوريا وولده فإنها ولدت منه قبل السير كما في "كشف الأسرار".
وقال الكاشفي : (وببرد كسان خودرا) فالباء على هذا للتعدية.
قال ابن عطاء : لما تم له أجل المحبة ودنت أيام القربة والزلفة وإظهار أنوار النبوة عليه سار بأهله ليشترك معه في لطائف الصنع.
قال في "كشف الأسرار" : (نماز يشين فراره بود همي رفت تاشب در آمد) وكان في البرية والليلة مظلمة باردة فضرب خيمته على الوادي وأدخل أهله فيها وهطلت السماء بالمطر والثلج (وأغنام ازبرف وباد ودمه متفرق شده يعني أغنمام كه أورا شعيب داده بود) وقد كان ساقها معه وكانت امرأته حاملاً فأخذها الطلق فأراد أن يقدح فلم يظهر له نار فاغتم لذلك فحينئذ {مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ} أي : أبصر من الجهة التي تلي الطور ناراً يقال جانب الحائط للجهة التي تلي الجنب والطور اسم جبل مخصوص والنار يقال للهب الذي يبدو للحاسة وللحرارة المجردة ولنار جهنم.
(6/290)
قال بعضهم : أبصر ناراً دالة على الأنوار لأنه رأى النور على هيئة النار لكون مطلبه النار والإنسان يميل إلى الأشياء المعهودة المأنوسة ولا تخلو النار من الاستئناس خاصة في الشتاء وكان شتاء تجلى الحق بالنور في لباس النار على حسب
400
إرادة موسى وهذه سنته تعالى ألا ترى إلى جبريل أنه علم أن النبي عليه السلام أحب دحية فكان أكثر مجيئه إليه في سورة دحية {قَالَ} موسى.
{لاهْلِهِ امْكُثُوا} المكث ثبات مع انتظار أي قفوا مكانكم واثبتوا.
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاجَلَ} (شايد كه من) {ءَاتِيكُم} (بيارم از براي شما).
{مِّنْهَا} (إان آتش) {بِخَبَرٍ} (بيامي يعني از نزد كساني كه برسر آن آتش اند بيارم خبر طريق كه راه مصر از كدام طرفست) وقد كانوا ضلوه {أَوْ جَذْوَةٍ} عود غليظ سواء كانت في رأسه نار أو لا ولذلك بين بقوله : {مِّنَ النَّارِ} وفي "المفردات" : الجذوة التي يبقى من الحطب بعد الالتهاب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 400
وفي "التأويلات النجمية" : تشير الآية إلى التجريد في الظاهر وإلى التفريد في الباطن فإن السالك لا بد له في السلوك من تجريد الظاهر عن الأهل والمال وخروجه عن الدنيا بالكلية فقد قيل : المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ثم من تفريد الباطن عن تعلقات الكونين فبقدر تفرده عن التعلقات يشاهد شواهد التوحيد فأول ما يبدو له في صورة شعلة النار كما كان لموسى والكوكب كما كان لإبراهيم عليهما السلام ومن جملتها اللوامع والطوالع والسواطع والشموس والأقمار إلى أن يتجلى نور الربوبية عن مطلع الألوهية.
{لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} الاصطلاء (كرم شدن بآتش).
قال في "كشف الأسرار" : الاصطلاء التدفؤ بالصلاء وهو النار بفتح الصاد وكسرها فالفتح بالقصر والكسر بالمد.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن أوصاف الإنسانية جامدة من برودة الطبيعة لا تتسخن إلا بجذوة نار المحبة بل نار الجذبة الإلهية.
قال الكمال الخجدي :
بشم أهل نظركم بود زروانه
دلي كه سوخته آتش محبت نيست
فترك موسى أهله في البرية وذهب.
{فَلَمَّآ أَتَـاـاهَا} أي : النار التي آنسها {نُودِىَ مِن شَـاطِىاِ الْوَادِ الايْمَنِ} أي : أتاه النداء من الشاطىء الأيمن بالنسبة إلى موسى فالأيمن مجرور صفة يسيل فيه الماء ومنه سمي المفرج بين الجبلين وادياً.
{فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَـارَكَةِ} متصل بالشاطىء أو صلة لنودي والبقعة قطعة من الأرض لا شجر فيها وصفت بكونها مباركة لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة وتكليم الله إياه وهكذا محال تجليات الأولياء قدس الله أسرارهم.
{مِنَ الشَّجَرَةِ} بدل اشتمال من شاطىء لأنها كانت ثابتة على الشاطىء وبقيت إلى عهد هذه الأمة كما في "كشف الأسرار" وكانت عناباً أو سمرة أو سدرة أو زيتوناً أو عوسجاً والعوسج إذا عظم يقال له : الغرقد بالغين المعجمة وفي الحديث : "إنها شجرة اليهود ولا تنطق" يعني إذا نزل عيسى وقتل اليهود فلا يختفي منهم أحد تحت شجرة إلا نطقت وقالت : يا مسلم هذا يهودي فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجرهم فلا ينطق كما في "التعريف والأعلام" للإمام السهيلي.
{إِنَّ} مفسرة أي أي يا مُوسَى إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ} أي أنا الله الذي ناديتك ودعوتك باسمك وأنا رب الخلائق أجمعين وهذا أول كلامه لموسى وهو وإن خالف لفظاً لما في طه والنمل لكنه موافق له في المعنى المقصود.
جزء : 6 رقم الصفحة : 400
قال الكاشفي : (موسى در درخت نكاه كرد آتشي سفيد بي دود
401
يديد وبدل فرونكريست شعله شوق لقاي حضرة معبود مشاهدة نمود از شهود اين در آتش نزديك بودكه شمع وجودش بتمام سوخته كردد :
هست در من آتش روشن نميدانم كه يست
اين قدر دانم كه همون شمع مي كاهم دكر
موسى عليه السلام از نداي.
{أَن يا مُوسَى} سوخته عشق وكداخته شوق شده در يش درخت بايستاد وآن ندا در مضمون داشت كه.
{إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ} .
قال في "كشف الأسرار" : موسى زير آن درخت متلاشى صفات وفإني ذات كشت وهمكي وي سمع شده وندا آمد س خلعت قربت بوشيد شراب الفت نوشيد صدر وصلت ديد ريحان رحمت بوييد).
أي عاشق دلسوخته اندوه مدار
روزي بمراد عاشقان كرددكار
(6/291)
قال بعضهم : لما وصل موسى إلى الشجرة ذهبت النار وبقي النور ونام موسى عن موسى فنودي من شجرة الذات بأصوات الصفات وصار الجبل من تأثير التجلي والكلام عقيقاً وغشي عليه فأرسل الله إليه الملائكة حتى روحوه بمراوح الأنس وقالوا له : يا موسى تعبت فاسترح يا موسى قد باخت فلا تبرح جئت على قدر يا موسى.
يعني : (مقدر بودكه حق سبحانه باتوسخن كند) وكان هذا في ابتداء الأمر والمبتدأ مرفوق به.
وفي المرة الأخرى خرّ موسى صعقاً فكان يصعق والملائكة تقول له : يا ابن النساء الحيض مثلك من يسأل الرؤية يا ليت لو تعلم الملائكة أين موسى هناك لم يعيروه فإن موسى كان في أول الحال مريداً طالباً وفي الآخر مراداً مطلوباً طلبه الحق واصطفاه لنفسه قيل : شتان بين شجرة موسى وبين شجرة آدم عندها طهرت محنة وفتنة وعند شجرة موسى افتتحت نبوة ورسالة يا صاحبي لو يعلم قائل هذا القول حقيقة شجرة آدم لم يقل مثل هذا في حق آدم فإن شجرة آدم إشارة إلى شجرة الربوبية ولذا قال : {وَلا تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ} (البقرة : 35) فإن آدم إذ كان متصفاً بصفات الحق أراد العيشة بحقيقتها فنهاه الحق عنها وقال : هذا شيء لم يكن لك فإن حقيقة الأزلية ممتنعة من الاتحاد بالمحدثية هكذا قال : ولكن أظهر أزليته من الشجرة وسكر آدم ولم يصبر عن تناولها فأكل منها حبة الربوبية فكبر حاله في الحضرة ولم يطق في الجنة حملها فأهبط منها إلى معدن العشاق ومقر المشتاق فشجرة آدم شجرة الأسرار وشجرة موسى شجرة الأنوار فالأنوار للأبرار والأسرار للأخيار.
جزء : 6 رقم الصفحة : 400
قال بعض الكبار : إذا جاز ظهور التجلي من الشجرة وكذا الكلام من غير كيف ولا جهة فأولى أن يجوز ذلك من الشجرة الإنسانية ولذا قسموا التوحيد إلى ثلاث مراتب.
مرتبة لا إله إلا هو.
ومرتبة لا إله إلا أنت.
ومرتبة لا إله إلا أنا والمتكلم في الحقيقة هو الحق تعالى بكلام قديم أزلي فإن شئت الذوق فارجع إلى الوجدان إن كنت من أهله وإلا فعليك بالإيمان فإن الكلام إما مع الوجدان أو مع أهل الإيمان فسلام على المصطفين الأخيار والمؤمنين الأبرار اللهم أرنا الأشياء كما هي وإنما الكون خيال وهو الحق في الحقيقة فلا موجود إلا هو كما لا مشهود إلا هو فاعرف يا مسكين تغنم.
قال الشيخ سعدي عن لسان العاشق :
مرا باوجود توهستي نماند
بياد توام خود رستي نماند
كرم جرم بيني مكن عيب من
توبي سربر آورده از جيب من
402
وقال :
سمندرنه كورد آتش مكرد
كه مردانكي بايد آنكه نبرد
وهو إشارة إلى من ليس حاله كحال موسى نسأل الله الوقوع في نار العشق والوصول إلى سر الفناء الكلي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 400
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} عطف على أن يا موسى وكلاهما مفسر لنودي أي ونودي أن ألق واطرح من يدك عصاك فألقاها فصارت حية فاهتزت.
{فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ} أي تتحرك تحركاً شديداً {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} في سرعة الحركة أو في الهيئة والجثة فإنها إنما كانت ثعباناً عند فرعون والجان حية كحلاء العين لا تؤذي كثيرة في الدور.
{وَلَّى مُدْبِرًا} أعرض حال كونه منهزماً من الخوف {وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي لم يرجع.
قال الخليل : عقب أي رجع على عقبه وهو مؤخر القدم فنودي يا مُوسَى أَقْبِلْ} (يش آي) {وَلا تَخَفْ} (ومترس ازين مار) {إِنَّكَ مِنَ الامِنِينَ} من المخاوف فإنه لا يخاف لدي المرسلون كما سبق في النمل.
فإن قلت : ما الفائدة في إلقائها؟.
قلت : أن يألفها ولا يخافها عند فرعون إذا ناظره بقلب العصا وغيره من المعجزات كما في "الأسئلة المقحمة".
وفيه إشارة إلى إلقاء كل متوكأ غير الله فمن اتكأ على الله أمن ومن اتكأ على غيره وقع في الخوف.
قال في "كشف الأسرار" : (جاي ديكر كفت خذها ولا تخف يا موسى عصا مي دار ومهر عصا دردل مدار وآنرا ناه خود مكير از روى أشارت بدنيا دار ميكويد دنيا ميدار ومهر دنيا در دل مدار وآنرا ناه خود مساز) "حب الدنيا رأس كل خطيئة" ويقال : شتان بين نبينا صلى الله عليه وسلّم وبين موسى عليه السلام رجع من سماع الخطاب وأتى بثعبان سلطه على عدوه ونبينا عليه السلام أسرى به إلى محل الدنو فأوحى إليه ما أوحى ورجع أتى لأمته بالصلاة التي هي المناجاة فقيل له : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فقال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين
جزء : 6 رقم الصفحة : 403
(6/292)
{اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} أدخلها في مدرعتك وهي ثوب من صوف يلبس بدل القميص ولا يكون له كم بل ينتهي كمه عند المرفقين.
وبالفارسية : (در آردست خودرادر كريبان جامه خود) {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ} أي : حال كونها مشرقة مضيئة لها شعاع كشعاع الشمس.
{مِنْ غَيْرِ سُواءٍ} عيب كالبصر.
يعني : (سفيدى أو مكروه منفر نباشد ون بياض برص).
{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} جناح الإنسان عضده ويقال : اليد كلها جناح أي يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريراً لاسلك يدك لغرض آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو إظهار جرأة ومبدأ لظهور معجزة ويجوز أن يكون المراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر فإنه إذا خاف نشر جناحيه وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه فعلى هذا يكون تتميماً لمعنى أنك من الآمنين لا تكريراً لاسلك يدك.
{مِنَ الرَّهْبِ} الرهب مخافة مع تحزن واضطراب أي من أجل الرهب أي إذا عراك الخوف فافعل ذلك تجلداً أو ضبطاً لنفسك.
{فَذَانِكَ} إشارة إلى العصا واليد {بُرْهَـانَانِ} حجتان نيرتان ومعجزتان باهرتان وبرهان فعلان من قولهم : أبره الرجل إذا جاء بالبرهان أو من قولهم : بره الرجل إذا
403
ابيض ويقال : برهاء وبرهة للمرأة البيضاء ونظيره تسمية الحجة سلطاناً من السليط وهو الزيت لإنارتها وقيل : هو فعلال لقولهم : برهن.
{مِن رَّبِّكَ} صفة لبرهانان أي كائنان منه تعالى وأصلان.
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلايْهِ} ومنتهيان إليهم.
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَـاسِقِينَ} خارجين عن حدود الظلم والعدوان فكانوا أحقاء بأن نرسلك إليهم بهاتين المعجزتين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 403
{قَالَ} موسى {رَبُّ} (أي روردكار من) {إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ} أي : من القوم وهم القبط {نَفْسَا} وهو فاتون خباز فرعون.
{فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} بمقابلتها.
{وَأَخِى هَـارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَانًا} أطلق لساناً بالبيان وكان في لسان موسى عقدة من قبل الجمرة التي تناولها وأدخلها فاه تمنعه عن إعطاء البيان حقه ولذلك قال فرعون : ولا يكاد يبين.
قال بعض العارفين : مقام الفصاحة هو مقام الصحو والتمكين الذي يقدر صاحبه أن يخبر عن الحق وأسراره بعبارة لا تكون ثقيلة في موازين العلم وهذا حال نبينا صلى الله عليه وسلّم حيث قال : "أنا أفصح العرب" : "وبعثت بجوامع الكلم" وهذه قدرة قادرية اتصف بها العارف المتمكن الذي بلغ مشاهدة الخاص ومخاطبة الخواص وكان موسى عليه السلام في محل السكر في ذلك الوقت ولم يطق أن يعبر عن حاله كما كان لأن كلامه لو خرج على وزان حاله يكون على نعوت الشطح عظيماً في آذان الخلق وكلام السكران ربما يفتتن به الخلق ولذلك سأل مقام الصحو والتمكين بقوله : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى * يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه : 27 ، 28) لأن كلامه من بحر المكافحة في المواجهة الخاصة التي كان مخصوصاً بها دونه بخلاف هارون إذ لم يكن كليماً فحاله مع الناس أسهل من حال موسى {فَأَرْسِلْهُ} إلى فرعون وقومه {مَعِىَ} حال كونه أي معيناً وهو في أصل اسم ما يعان به كالدفء واستعمل هنا صفة بدليل كونه حالاً {يُصَدِّقُنِى} بالرفع صفة ردءاً أي مصدقاً لي بتلخيص الحق وتقرير الحجة وتوضيحها وتزييف الشبهة وإبطالها لا بأن يقول له : صدقت أو للجماعة صدقوه يؤيد ذلك قوله : {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَانًا} لأن ذلك يقدر عليه الفصيح وغيره كما في "فتح الرحمن" {إِنِّى أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} أي يردوا كلامي ولا يقبلوا مني دعوتي ولساني لا يطاوعني عند المحاجة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 404
وفيه إشارة إلى أن من خاصية نمرود وفرعون النفس تكذيب الناطق بالحق ومن خصوصية هارون العقل تصديق الناطق بالحق.
{قَالَ} الله تعالى {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} العضد ما بين المرفق والكتف : وبالفارسية (بتازو) أي سنقويك به لأن الإنساني يقوى بأخيه كقوة اليد بعضدها.
وبالفارسية (زود باشدكه سخت كنم بازوي ترا يعني بيزايم نيروي ترابرادرتو) وكان هارون يومئذ بمصر {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَـانًا} أي تسلطاً وغلبة.
قال جعفر : هيبة في قلوب الأعداء ومحبة في قلوب الأولياء.
وقال ابن عطاء : سياسية الخلافة مع أخلاق النبوة {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} باستيلاء أو محاجة {بِـاَايَاتِنَآ} متعلق بمحذوف صرح به في مواضع أخرى أي اذهب بآياتنا أو بنجعل أي نسلطكما بآياتنا وهي المعجزات أو بمعنى لا يصلون أي تمتنعان منهم بآياتنا فلا يصلون إليكما بقتل ولا سوء كما في "فتح الرحمن" : {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَـالِبُونَ} أي لكما ولأتباعكما الغلبة على فرعون وقومه (زيراكه رايات آيات ما عالي است وامداد أعانت مراوليارا) متواتر ومتوالي والله الغالب والمتعالي.
404(6/293)
قال في "كشف الأسرار" : (ون اين مناجات تمام شد رب العالمين اورا بازكردانيد.
خلافغست ميان علما كه موسى آنكه يءش عيال بازشدياهم از آنجا بمصر رفت سوى فرعون.
قومي كفتندهم از آنجا سوى مصر شد وأهل وعيال رادران بيابان بكذاشت سي روز دران بيابان ميان مدين ومصر بماندندتنها دختر شعيب بود وفرزند موسى وآن كوسفندان آخر بعد تاز سي روز شباني بايشان بكذشت دختر شعيب را ديد وأورا بشناخت دل تنك واندوهكين نشسته ومي كريد آن شبان إيشانرا دريش كاد وبامدين برد يش شعيب.
وقومي كفتند موسى ون از مناجات فارغ شد همان شب بنزديك أهل وعيال باز رفت عيال وي أورا كفت آتش آوردي موسى أورا كفت من بطلب آتس شدم نور آوردم ويغمبر يوكرامت خداوند جل جلاله آنكه برخاستند وروى بمصر نهادند ون بدر شهر مصر رسيدند وقت شبانكاه بود برادر وخواهر أما درش رفته بود ازدنيا موسى بدر سراي رسيد نماز شام بود وإيشان طعام دريش نهاده بودند وميخوردند موسى آواز دادكه من يكي غريبم مرا امشب سنج دهيد بقربت اندر ما دركفت مر هارونراكه اين غريب را سنج بايدداد تامكر كسي بغربت اندر بسررا سنج دهد موسى را بخانه اندر آوردند وطعام يش وي نهادند واورا نمي شناختند ون موسى فراسخن آمد مادرا أورا بشناخت واورا دركنار كرفت وبسيار بكريست س موسى كفت مر هارونراكه خداي عز وجل مارا يغمبري داد وهر دورا فرمود كه يش فرعون رويم واورا بالله جل جلاله دعوت كنمي هارون كفت سمعاً وطاعة عز وجلما در كفت من ترسم كه اوشمارا هردو كبشدكه أو جباري طاغيست إيشان كفتند الله تعالى مارا فرموده وأومارا خود نكه دارد وايمن كردد سس موسى وهارون ديكر روز رفتند بدر سراي فرعون كرو هي كويند همان ساعت باز رفتند ويغام كذاردند وكروهي كفتند تايكسال بازنيافتند) يعني لم يأذن لهما فرعون بالدخول سنة وفيه إن صح لطف لهما حيث يتقويان في تلك المدة بما ورد عليهما من جنود إمداد الله تعالى فتسهل الدعوة حينئذ وأياً ما كان فالدعوة حاصلة كما قال تعالى :
جزء : 6 رقم الصفحة : 404
{فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى} حال كونه ملتبساً {بآياتنا} حال كونها {بَيِّنَـاتٍ} واضحات الدلالة على صحة رسالته منه تعالى والمراد المعجزات حاضرة كانت كالعصا واليد أو مترقبة كغيرها من الآيات التسع فإن زمان المجيء وقت ممتد يسع الجميع {قَالُوا مَا هَـاذَآ} أي الذي جئت به يا موسى {إِلا سِحْرٌ مُّفْتَرًى} أي سحر مختلق لم يفعل قبل هذا مثله وذلك لأن النفس خلقت من أسفل عالم الملكوت متنكسة والقلب خلق من وسط عالم الملكوت متوجهاً إلى الحضرة فما كذب الفؤاد ما رأى وما صدقت النفس ما رأت فيرى القلب إذا كان سليماً من الأمراض والعلل الحق حقاً والباطل باطلاً والنفس ترى الحق باطلاً والباطل حقاً ولهذا كان من دعائه عليه السلام : "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه" وكان عليه السلام مقصوده في ذلك سلامة القلب من الأمراض والعلل وهلاك النفس وقمع هواها وكسر سلطانها كذا في "التأويلات النجمية" {وَمَا سَمِعْنَا بِهَـاذَا} السحر {فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى} واقعاً في أيامهم.
405
{وَقَالَ مُوسَى رَبِّى أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ} يريد به نفسه : يعني (أو مرا فرستاده وميداندكه من محقهم وشما مبطليد) {وَمَن تَكُونُ لَه عَـاقِبَةُ الدَّارِ} أي عاقبة دار الدنيا وهي الجنة لأنها خلقت ممراً إلى الآخرة ومزرعة لها والمقصود منها بالذات هو الثواب وأما العقاب فمن نتائج أعمال العصاة وسيئاتهم فالعاقبة المطلقة الأصلية للدنيا هي العاقبة المحمودة دون المذمومة.
{إِنَّهُ} أي : الشان {لا يُفْلِحُ الظَّـالِمُونَ} لأنفسهم بإهلاكها في الكفر والتكذيب أي : لا يفوزون بمطلوب ولا ينجون من محذور ومن المحذور العذاب الدنيوي ففيه إشارة إلى نجاة المؤمن وهلاك الكافر وإلى أن الواجب على كل نفس السعي في نجاتها ولو هلك غيرها لا يضرها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 405(6/294)
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} حين جمع السحرة وتصدى للمعارضة.
يا اأَيُّهَا الْمَلا} (أي كروه بزركان) {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِى} قيل : كان بين هذه الكلمة وبين قوله : أنا ربكم الأعلى أربعون سنة أي ليس لكم إله غيري في الأرض (وموسى ميكويد خداي ديكر هست كه آفريدكار آسمانهاست) كما قال : {رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الرعد : 16) {فَأَوْقِدْ لِى} الإيقاد (آتش افروختن) يا هَـامَـانُ} هو وزير فرعون.
{عَلَى الطِّينِ} هو التراب والماء المختلط أي اصنع لي آجراً : وبالفارسية : (س برافروز آتشي ازبراي من أي هامان بركل تاننه شود ودربنا أو استحكامي بود) وأول من اتخذ الآجرّ فرعون ولذلك أمر باتخاذه على وجه يتضمن تعليم الصنعة حيث لم يقل اطبخ لي الآجر.
{فَاجْعَل لِّى} منه {صَرْحًا} قصراً رفيعاً مشرفاً كالميل والمنارة.
وبالفارسية (كوشكي بلندكه مرورا ايها باشد ون نردبان تابر سطح آن روم).
{لَّعَلِّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَـاهِ مُوسَى} أنظر إليه وأقف عليه.
يعني : (شايدكه برو مطلع كردم وبينم كه نان هست كه موسى كويد) {وَإِنِّى لاظُنُّهُ} أي موسى {مِنَ الْكَـاذِبِينَ} في ادعائه أن له إلهاً غيري وأنه رسوله قاله تلبيساً وتمويهاً على قومه لا تحقيقاً لقوله تعالى : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ} .
قال في "الأسئلة المقحمة" : ولا يظن بأن فرعون كان شاكاً في عدم استحقاقه لدعوى الإلهية في نفسه إذ كان يعلم حال نفسه من كونها أهل الحاجات ومحل الآفات ولكن كان معانداً في دعواه مجاحداً من غير اعتقاد له في نفسه بالإلهية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 406
وقال الكاشفي : (فرعون تصور كرده بودكه حق سبحانه وتعالى جسم وجسمانيست برآسمان مكاني دارد وترقى بسوى وي ممكن است وبدين معنى دانا تنشده بود).
كه مكان آفرين مكان ه كند
آسمان كر بر آسمان ه كند
نه مكان ره برد برو نه زمان
نه بيان زوخبر دهد نه عيان
صاحب كشاف : (آورده كه هامان ملعون ناه هزار استاد جمع كرد وراي مزدوران آن بطبخ آجر وبتن كج واهك وتراشيدن ون ورفع بنا امرنمود) واشتد ذلك على موسى وهارون لأن بني إسرائيل كانوا معذبين في بنائه.
قال أبو الليث : كان ملاط القصر خبث القوارير وكان الرجل لا يستطيع القيام عليه من طوله مخافة أن ينسفه الريح وكان طوله خمسة آلاف ذراع وعرضه ثلاثة آلاف ذراع (وآن بنايي شد رفيع ومحكم كه هيكس يش ازان بدان طريق صرحى نساخته بود ودرهمه دنيا مانند آن هركز كس نديد ونشنيد) :
406
نان بلند بنايي كه عقل نتوانست
كمند فكر فكندن بكوشه بامش
وكتب بهلول على حائط من حيطان قصر عظيم بناه الخليفة هارون الرشيد : يا هارون رفعت الطين ووضعت الدين رفعت الجص ووضعت النص إن كان من مالك فقد أسرفت إن الله لا يحب المسرفين وإن كان من مال غيرك فقد ظلمت إن الله لا يحب الظالمين.
ودر اده المسير (فرموده ون بنا باتمام رسيد فرعون لعين ببالا بر آمد وخيال أو آن بودكه بفلك نزديك رسيده باشد ون درنكريست آسمانرا از بالاي صرح نان ديدكه در روى زمين ميديد منفعل كشته تير اندازيرا بكفت تابرهوا تير انداخت وآن تيرباز إمد خون آلود فرعون كفت قد قتل إله موسى بكبشتم نعوذ بالله خداي موسى را حق سبحانه وتعالى جبرائيل را فرستاد تارخويش بدان صرح زد سه اره ساخت يك قطعه بلشكر كاه فرعون فرود آمد وهزاران هزار قبطي كشته شدند وقطعه ديكر دردريا افتاد وديكر بجانب مغرب وهي.
كس زاستادان ومزدوران زنده نماندند).
وفي "فتح الرحمن" : ولم يبق أحد ممن عمل فيه إلا هلك ممن كان على دين فرعون انتهى.
وفرعون (باوجود اين حال متنبه نكشت وغروراو زيادت كشت).
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ} تعظموا عن الإيمان ولم ينقادوا للحق والاستكبار إظهار الكبر باطلاً بخلاف التكبر فإنه أعم والكبر ظن الإنسان أنه أكبر من غيره {فِى الأرْضِ} أي أرض مصر وما يليها {بِغَيْرِ الْحَقِّ} بغير استحقاق {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} لا يردون بالبعث للجزاء من رجع رجعاً أي رد وصرف.
جزء : 6 رقم الصفحة : 406
{فَأَخَذْنَـاهُ وَجُنُودَهُ} عقيب ما بلغوا من الكفر والعتو أقصى الغايات {فَنَبَذْنَـاهُمْ} طرحناهم.
قال الراغب : النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به {فِى الْيَمِّ} بحر القلزم أي عاقبناهم بالإغراق وفيه تعظيم شأن الآخذ وتحقير شأن المأخوذ حيث أنهم مع كثرتهم كحصيات تؤخذ بالكف وتطرح في البحر {فَانظُرْ} يا محمد بعين قلبك {كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الظَّـالِمِينَ} وحذر قومك من مثلها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 406
(6/295)
{وَجَعَلْنَـاهُمْ} أي صيرنا فرعون وقومه في عهدهم {أَاـاِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي ما يؤدي إليها من الكفر والمعاصي أي قدوة يقتدي بهم أهل الضلال فيكون عليهم وزرهم ووزر من تبعهم {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ لا يُنصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه.
{وَأَتْبَعْنَـاهُمْ فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} طرداً وإبعاداً من الرحمة أو لعناً من اللاعنين لا تزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون خلفاً عن سلف.
وبالفارسية (وبر يي ايشان يوستيم درين جهان لعنت ونفرين) {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} يوم متعلق بالمقبوحين على أن اللام للتعريف لا بمعنى الذي أي من المطرودين المبعدين يقال : قبح الله فلاناً قبحاً وقبحوحاً أي أبعده من كل خير فهو مقبوح كما في "القاموس" وغيره.
قال في "تاج المصادر" : القبح والقابحة والقباحة (زشت شدن) انتهى وعليه بنى الراغب حيث قال في "المفردات" : من المقبوحين أي من الموسومين بحالة منكرة كسواد الوجوه وزرقة العيون وسحبهم بالأغلال والسلاسل وغيرها انتهى باختصار.
قال في "الوسيط" : فيكون بمعنى المقبحين انتهى.
وفي "التأويلات النجمية" : لأن قبحهم معاملاتهم القبيحة كما أن حسن وجوه المحسنين معاملاتهم الحسنة هل
407
جزاء الإحسان إلا الإحسان وجزاء سيئة سيئة مثلها انتهى.
ودلت الآية على أن الاستكبار من قبائحهم المؤدية إلى هذه القباحة والطرد قال عليه السلام : حكاية عن الله تعالى : "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار" وصف الحق سبحانه نفسه بالرداء والإزار دون القميص والسراويل لكونهما غير محيطين فبعداً عن التركيب الذي هو من أوصاف الجسمانيات.
واعلم أن الكبر يتولد من الأعجاب والأعجاب من الجهل بحقيقة المحاسن والجهل رأس الانسلاخ من الإنسانية ومن الكبر الامتناع من قبول الحق ولذا عظم الله أمره فقال : {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الأحقاف : 20) وأقبح كبر بين الناس ما كان معه بخل ولذلك قال عليه السلام : "خلصتان لا تجتمعان في مؤمن البخل والكبر" ومن تكبر لرياسة نالها دل على دناءة عنصره ومن تفكر في تركيب ذاته فعرف مبدأه ومنتهاه وأوسطه عرف نقصه ورفض كبره ومن كان تكبره لفنية فليعلم أن ذلك ظل زائل وعارية مستردة وإنما قال : بغير الحق إشارة إلى أن التكبر ربما يكون محموداً وهو التكبر والتبختر بين الصفين ولذا نظر رسول الله عليه السلام إلى أبي دجانة يتبختر بين الصفين فقال : "إن هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا المكان" وكذا التكبر على الأغنياء فإنه في الحقيقة عز النفس وهو غير مذموم قال عليه السلام : "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه" فعلى العاقل أن يعز نفسه بقبول الحق والتواضع لأهله ويرفع قدره بالانقياد لما وضعه الله تعالى من الأحكام ويكون من المنصورين في الدنيا والآخرة ومن الذين يثني عليهم بالثناء الحسن لحسن معاملاتهم الباطنة والظاهرة نسأل الله ذلك من نعمة المتوافرة.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 6 رقم الصفحة : 407
بزركان نكردند درخود نكاه
خدا بيني ازخويشتن بين مخواه
بزركي بناموس وكفتار نيست
بلندي بدعوى وندار نيست
بلنديت بايد تواضع كزين
كه آن بام را نيست سلم جزاين
برين آستان عجز ومسكينيت
به از طاعات وخويشتن بينيت
جزء : 6 رقم الصفحة : 407
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ} أي التوراة {مِنا بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاولَى} جمع قرن وهو القوم المقترنون في زمان واحد أي من بعد ما أهلكنا في الدنيا بالعذاب أقوام نوح وهود وصالح ولوط أي على حين حاجة إليها.
قال الراغب : الهلاك بمعنى الموت لم يذكره الله حيث يفقد الذم إلا في قوله : {إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ} (النساء : 176) وقوله : {وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلا الدَّهْرُ} (الجاثية : 24) وقوله : {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنا بَعْدِه رَسُولا} (غافر : 34) {بَصَآاـاِرَ لِلنَّاسِ} حال من الكتاب على أنه نفس البصائر وكذا ما بعده.
والبصائر جمع بصيرة وهي نور القلب الذي به يستبصر كما أن البصر نور العين الذي به تبصر.
والمعنى حال كون ذلك الكتاب أنوار القلوب بني إسرائيل تبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل حيث كانت عمياء عن الفهم والإدراك بالكلية {وَهُدًى} أي هداية إلى الشرائع والأحكام التي هي سبيل الله.
قال في "إنسان العيون" : التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع بخلاف ما قبله من الكتب فإنها لم تشتمل على ذلك وإنما كانت مشتملة على الإيمان بالله وحده وتوحيده ومن ثمة قيل لها صحف وإطلاق الكتب عليها
408
(6/296)
مجاز {وَرَحْمَةً} حيث ينال من عمل به رحمة الله تعالى {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ليكونوا على حال يرجى منهم التذكر بما فيه من المواعظ.
وبالفارسية (شايدكه إيشان ند ذيرند) وفي الحديث : "ما أهلك الله قرناً ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير أهل القرية الذين مسخوا قردة" ألم تر أن الله تعالى قال {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا} الآية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 408
{وَمَا كُنتَ} يا محمد {بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ} أي : جانب الجبل أو المكان الغربي الذي وقع فيه الميقات وناجى موسى ربه على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أو الجانب الغربي على إضافة الموصوف كمسجد الجامع وعلى كلا التقديرين فجبل الطور غربي.
{إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الامْرَ} أي : عهدنا إليه وأحكمنا أمر نبوته بالوحي وإيتاء التوراة.
{وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّـاهِدِينَ} أي : من جملة الشاهدين للوحي وهم السبعون المختارون للميقات حتى تشاهد ما جرى من أمر موسى في ميقاته وكتب التوراة له في الألواح فتخبره للناس والمراد الدلالة على أن إخباره عن ذلك من قبل الإخبار عن المغيبات التي لا تعرف إلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله :
{وَلَـاكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُونًا} خلقنا بين زمانك وزمان موسى قروناً كثيرة.
وبالفارسية (وليكن بيافريديم س از موسى كروهي بعد از كروهي).
{فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} تطاول بمعنى طال.
وبالفارسية (دراز شد) والعمر بالفتح والضم وبضمتين الحياة.
قال الراغب : اسم لمدة عمارة البدن بالحياة أي طال عليهم الحياة وتمادى الأمد والمهلة فتغيرت الشرائع والأحكام وعميت عليهم الأنبياء لا سيما على آخرهم فاقتضى الحال التشريع الجديد فأوحينا إليك فحذف المستدرك اكتفاء بذكر ما يوجبه.
{وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} نفي لاحتمال كون معرفته للقصة بالسماع ممن شاهد.
والثواء هو الإقامة والاستقرار أي وما كنت مقيماً في أهل مدين إقامة موسى وشعيب حال كونك.
{تَتْلُوا عَلَيْهِمْ} أي : تقرأ على أهل مدين بطريق التعلم منهم (نانه شاكردان براستادان خوانند) وهو حال من المستكن في ثاوياً أو خبر ثانٍ لكنت.
{ءَايَـاتِنَا} الناطقة بالقصة {وَلَـاكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} إياك وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 408
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} أي : وقت ندائنا موسى إني أنا الله رب العالمين واستنبائنا إياه وأرسلنا له إلى فرعون والمراد جانب الطور الأيمن كما قال : {وَنَـادَيْنَـاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الايْمَنِ} (مريم : 52) ولم يذكر هنا احترازاً عن إيهام الذم فإنه عليه السلام لم يزل بالجانب الأيمن من الأزل إلى الأبد ففيه إكرام له وأدب في العبارة معه.
{وَلَـاكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي : ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر رحمة عظيمة كائنة منا لك وللناس.
{لِتُنذِرَ قَوْمًا} متعلق بالفعل المعلل بالرحمة {مَّآ أَتَـاـاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} صفة قوماً أي لم يأتهم نذير لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى وهي خمسمائة وخمسون سنة أو بينك وبين إسماعيل على أن دعوة موسى وعيسى مختصة ببني إسرائيل.
{لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون بإنذارك وتغيير الترتيب الوقوعي بين قضاء الأمر والثواء في أهل مدين والنداء للتنبيه على أن كلاً من ذلك برهان مستقل على أن حكايته عليه السلام للقصة بطريق الوحي الإلهي ولو ذكر أولاً نفي ثوائه عليه السلام في أهل مدين ثم نفى حضوره عليه السلام عند قضاء
409
الأمر كما هو الموافق للترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل دليل واحد كما في "الإرشاد" ثم من التذكير تجديد العهد الأزلي وذلك بكلمة الشهادة وهي سبب النجاة في الدارين.
(6/297)
وفي الحديث : "كتب الله كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام في ورقة آس ثم وضعها على العرش ثم نادى : يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدي ورسولي أدخلته الجنة وقد أخذ الله الميثاق من موسى أن يؤمن بأني رسول الله في غيبتي" وفي الحديث : "إن موسى كان يمشي ذات يوم بالطريق فناداه الجبار : يا موسى فالتفت يميناً وشمالاً ولم ير أحداً ثم نودي الثانية يا موسى فالتفت يميناً وشمالاً ولم ير أحداً فارتعدت فرائصه ثم نودي الثالثة : يا موسى بن عمران إني أنا الله لا إله إلا أنا فقال : لبيك فخر ساجداً فقال : ارفع رأسك يا موسى بن عمران فرفع رأسه فقال : يا موسى إن أحببت أن تسكن في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي فكن لليتيم كالأب الرحيم وكن للأرملة كالزوج العطوف يا موسى ارحم ترحم يا موسى كما تدين تدان يا موسى إنه من لقيني وهو جاحد بمحمد أدخلته النار ولو كان إبراهيم خليلي وموسى كليمي فقال : إلهي ومن محمد؟ قال : يا موسى وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منه كتبت اسمه مع اسمي في العرش قبل أن أخلق السموات والأرض والشمس والقمر بألفي سنة وعزتي وجلالي إن الجنة محرمة على الناس حتى يدخلها محمد وأمته قال موسى : ومن أمة محمد؟ قال : أمته الحمادون يحمدون صعوداً وهبوطاً وعلى كل حال يشدون أوساطهم ويطهرون أبدانهم صائمون بالنهار ورهبان بالليل أقبل منهم اليسير وأدخلهم الجنة بشهادة لا إله إلا الله قال : إلهي اجعلني نبي تلك الأمة قال نبيها منها قال : اجعلني من أمة ذلك النبي قال : استقدمت واستأخروا يا موسى ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال".
جزء : 6 رقم الصفحة : 408
وعن وهب بن منبه قال : لما قرب الله موسى نجياً قال : رب إني أجد في التوراة أمة هي خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فاجعلهم من أمتي قال : يا موسى تلك أمة أحمد قال : يا رب إني أجد في التوراة أنهم يأكلون صدقاتهم وتقبل ذلك منهم ويستجاب دعاؤهم فاجعلهم من أمتي قال : تلك أمة أحمد فاشتاق إلى لقائهم فقال تعالى : إنه ليس اليوم وقت ظهورهم فإن شئت أسمعتك كلامهم قال : بلى يا رب فقال الله تعالى : يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم ملبين أي قائلين لبيك اللهم لبيك (موسى سخن ايشان بشنيد آنكه خداي تعالى روا نداشت كه ايشانرا بي تحف بازكرداند كفت) أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ورحمتكم قبل أن تسترحموني (زهي رتبت اين أمت عالي همت كه باوجود اختصاص ايشان بحضرت رستالت وقرآن برين وجه يافته ان)
حق لطف كرده
داد بما هره بهرتست
جزء : 6 رقم الصفحة : 408
{وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةُ} الضمير لأهل مكة والمصيبة العقوبة.
قال الراغب : أصلها في الرمية ثم اختص بالمعاقبة.
والمعنى بالفارسية : (واكرنه آن بودي كه بديشان رسيدي عقوبتى
410
رسنده).
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي : بما اقترفوا من الكفر والمعاصي وأسند التقديم إلى الأيدي لأنها أقوى ما يزال به الأعمال وأكثر ما يستعان به في الأفعال {فَيَقُولُوا} عطف على تصيبهم داخل في حيز لولا الامتناعية على أن مدار امتناع ما يجاب به هو امتناعه لا امتناع المعطوف عليه وإنما ذكر في حيزها للإيذان بأنه السبب الملجىء لهم إلى قولهم : {رَّبِّنَآ} (أي روردكارما) {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا} (را نفرستادي بسوي ما) فلولا تحضيضية بمعنى هلا.
{رَسُولا} مؤيداً من عندك بالآيات {فَنَتَّبِعَ ءَايَـاتِكَ} الظاهرة على يده وهو جواب لولا الثانية {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بها وجواب لولا الأولى محذوف ثقة بدلالة الحال عليه.
والمعنى لولا قولهم هذا عند إصابة عقوبة جناياتهم التي قدموها ما أرسلناك لكن لما كان قولهم ذلك محققاً لا محيد عنه أرسلناك قطعاً لمعاذيرهم بالكلية وإلزاماً للحجة عليهم.
{فَلَمَّا جَآءَهُمُ} أي : أهل مكة وكفار العرب.
{الْحَقَّ} أي : القرآن لقوله في سورة الرحمن : {حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} (الزخرف : 29) {مِنْ عِندِنَا} أي : بأمرنا ووحينا كما في "كشف الأسرار".
جزء : 6 رقم الصفحة : 410
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : فلما جاءهم محمد.
وفيه إشارة إلى أنه عليه السلام إنما بعث بعد وصوله إلى مقام العندية واستحقاقه أن يسميه الله الحق وهو اسمه تعالى وتقدس.
(6/298)
وفيه إشارة إلى كمال فنائه عن أنانيته وبقائه بهوية الحق تعالى وله مسلم أن يقول أنا الحق وإن صدرت هذه الكلمة عن بعض متابعيه فلا غرو أن يكون من كمال صفاء مرآة قلبه في قبول انعكاس أنوار ولاية النبوة إذا كانت محاذية لمرآة قلبه عليه السلام وكان منبع ماء هذه الحقيقة قلب محمد عليه السلام ومظهره لسان هذا القائل بتبعيته لقد كان لكلم في رسول الله أسوة حسنة كذا في "التأويلات النجمية" {قَالُوا} تعنتاً واقتراحاً قال بعضهم : قاله قريش بتعليم اليهود {لَوْلا} هلا {أُوتِىَ} محمد {مِثْلَ مَآ أُوتِىَ مُوسَىا} من الكتاب جملة لا مفرقاً.
قال بعض الكبار : احتجبوا بكفرهم عن رؤية كماليته عليه السلام وإلا لقالوا لولا أوتي موسى مثل ما أوتي محمد من الكمالات.
{أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَآ أُوتِىَ مُوسَى مِن قَبْلُ} أي : أو لم يكفروا من قبل هذا بما أوتي موسى من الكتاب كما كفروا بهذا الحق ثم بين كيفية كفرهم فقال : {قَالُوا} هما ، أي ما أوتي محمد وما أوتي موسى عليهما السلام {سِحْرَانِ تَظَـاهَرَا} أي تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر وذلك أن قريشاً بعثوا رهطاً منهم إلى رؤساء اليهود في عيد لهم فسألوهم عن شأنه عليه السلام فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا ذلك {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ} أي : بكل واحد من الكتابين {كَـافِرُونَ} وقال بعضهم : المعنى أو لم يكفر أبناء جنسهم في الرأي والمذهب وهم القبط بما أوتي موسى من قبل القرآن قالوا : إن موسى وهارون سحران أي ساحران تظاهرا وقالوا : إنا بكل كافرون.
يقول الفقير : إنه وإن صح إسناد الكفر إلى أبناء الجنس من حيث أن ملل الكفر واحدة في الحقيقة فكفر ملة واحدة بشيء في حكم كفر الملل الآخر به كما أسند أفعال الآباء إلى الأبناء من حيث رضاهم بما فعلوا لكن يلزم على هذا أن يخص ما أوتي موسى بما عدا
411
الكتاب من الخوارق فإن إيتاء الكتاب إنما كان بعد إهلاك القبط على أن مقابلة القرآن بما عدا التوراة مع أن ما أوتي إنما يدل بإطلاقه على الكتاب مما لا وجه له فالمعنى الأول هو الذي يستدعيه جزالة النظم الكريم ويدل عليه صريحاً قوله تعالى :
جزء : 6 رقم الصفحة : 410
{قُلْ} يا محمد لهؤلاء الكفار الذين يقولون هذا القول.
{ائْتُوا} (س بياريد) {بِكِتَـابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى} بطريق الحق.
وبالفارسية (رياست ترراه نماينده تر).
{مِنْهُمَآ} أي مما أوتياه من التوراة والقرآن وسميتموهما بسحرين {أَتَّبِعْهُ} جواب للأمر أي إن تأتوا به أتبعه ومثل هذا الشرط مما يأتي به من يدل وضوح حجته وسنوح محجته لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين أمر بين الاستحالة فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإفحام {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} أي : في أنهما سحران مختلقان وفي إيراد كلمة إن مع امتناع صدقهم نوع تهكم بهم.
{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى ولن يستجيبوا كقوله : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا وحذف المفعول وهو دعائك للعلم به ولأن فعل الاستجابة يتعدى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي فإذا عدي إليه حذف الدعاء غالباً.
{فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ} الزائغة من غير أن يكون لهم متمسك أصلاً إذ لو كان لهم ذلك لأتوا به.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاـاهُ} استفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا أضل منه أي هو أضل من كل ضال.
ومعنى أضل بالفارسية : (كراه تر) {بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} أي بيان وحجة وتقييد اتباع الهوى بعدم الهدى من الله لزيادة التقرير والإشباع في التشنيع والتضليل وإلا فمقارنته لهدايته تعالى بينة الاستحالة.
وقال بعضهم : هوى النفس قد يوافق الحق فلذا قيد الهوى به فيكون في موضع الحال منه {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} لا يرشد إلى دينه الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى والإعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين.
وههنا إشارات :
منها أن الطريق طريقان طريق القراءة والدراسة والسماع والمطالعة وطريق الرياضة والمجاهدة والتزكية والتحلية وهي أهدى إلى الحضرة الأحدية من الطريق الأولى كما قال تعالى : "من تقرب إليّ شبراً" أي بحسب الانجذاب الروحاني "تقربت إليه ذراعاً" أي بالفيض والفتح والإلهام والكشف فما لا يحصل بطريق الدراسة من الكتب يحصل بطريق السلوك والسماع في طريق الدراسة من المخلوق في طريق الوراثة من الخالق وشتان بين السماعين :
جزء : 6 رقم الصفحة : 410
يفضى كه جامي ازدوسه يمانهْ كه يافت
مشكل كه شيخ شهر بيابد بصد له
(6/299)
ومنها أنه لو كان للطالب الصادق والمريد الحاذق شيخ يقتدي به وله شأن مع الله ثم استعد لخدمة شيخ كامل هو أهدى إلى الله منه وجب عليه اتباعه والتمسك بذيل إرادته حتى يتم أمره ولو تجدد له في أثناء السلوك هذا الاستعداد لشيخ آخر أكمل من الأول والثاني وهلم جراً يجب عليه اتباعه إلى أن يظفر بالمقصود الحقيقي وهو الوصول إلى الحضرة بلا اتصال ولا انفصال.
ومنها أن أهل الحسبان والعزة يحسبون أنهم لو جاهدوا أنفسهم على ما دلهم بالعقل بغير هدى من الله أي بغير متابعة الأنبياء أنهم يهتدون إلى الله ولا يعلمون أن من يجاهد نفسه في عبودية الله بدلالة العقل دون متابعة الأنبياء هو متابع هواه ولا يتخلص
412
أحد من أسر الهوى بمجرد العقل فلا تكون عبادته مقبولة إذ هي مشوبة بالهوى ولا يهتدي أحد إلى الله بغير هدي من الله كما أن نبينا عليه السلام مع كمال قدره في النبوة والرسالة احتاج في الاهتداء إلى متابعة الأنبياء كما قال : {أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام : 90) ولهذا السر بعثت الأنبياء واحتاج المريد للشيخ المهتدي إلى الله بهدي من الله وهو المتابعة.
ومنها أن الظالمين هم الذين وضعوا متابعة الهوى في موضع متابعة الأنبياء وطلبوا الهداية من غير موضعها فأهل الهوى ظالمون.
قال بعضهم : للإنسان مع هواه ثلاث أحوال : الأولى أن يغلبه الهوى فيتملكه كما قال تعالى : {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} (الجاثية : 23).
والثانية : أن يغالبه فيقهر هواه مرة ويقهره هواه أخرى وإياه قصد بمدح المجاهدين وعناه النبي عليه السلام بقوله عليه السلام : "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم" والثالثة : أن يغلب هواه كالأنبياء عليهم السلام وصفوة الأولياء قدس الله أسرارهم وهذا المعنى قصده تعالى بقوله : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (النازعات : 40) وقصده النبي عليه السلام بقوله : "ما من أحد إلا وله شيطان وإن الله قد أعانني على شيطاني حتى ملكته" فإن الشيطان يتسلط على الإنسان بحسب وجود الهوى فيه.
وينبغي للعاقل أن يكون من أهل الهدى لا من أهل الهوى وإذا عرض له أمران فلم يدر أيهما أصوب فعليه بما يكرهه لا بما يهواه ففي حمل النفس على ما تكرهه مجاهدة وأكثر الخير في الكراهية والعمل بما أشار إليه العقل السليم واللب الخالص.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
هوا وهوس را نماند ستيز
ون بيند سر نه عقل تيز
جزء : 6 رقم الصفحة : 410
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} التوصيل مبالغة الوصل وحقيقة الوصل رفع الحائل بين الشيئين أي أكثرنا لقريش القول موصولاً بعضه ببعض بأن أنزلنا عليهم القرآن آية بعد آية وسورة بعد سورة حسبما تقتضيه الحكمة أي ليتصل التذكير ويكون أدعى لهم {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيؤمنون ويطيعون أو تابعنا لهم المواعظ والزواجر وبينا لهم ما أهلكنا من القرون قرناً بعد قرن فأخبرناهم أنا أهلكنا قوم نوح بكذا وقوم هود بكذا وقوم صالح بكذا لعلهم يتعظون فيخافون أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى توصيل القول في الظاهر بتفهيم المعنى في الباطن أي فهمناهم معنى القرآن لعلهم يتذكرون عهد الميثاق إذ آمنوا بجواب قولهم : بلى وأقروا بالتوحيد ويجددون الإيمان عند سماع القرآن.
{الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ} مبتدأ وهم مؤمنو أهل الكتاب {مِن قَبْلِهِ} أي من قبل إيتاء القرآن {هُم بِه يُؤْمِنُونَ} أي بالقرآن والجملة خبر المبتدأ ثم بين ما أوجب إيمانهم به بقوله.
{وَإِذَا يُتْلَى} أي القرآن {عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ} أي : بأنه كلام الله تعالى {إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ} أي الحق الذي كنا نعرف حقيقته.
وبالفارسية (راست ودرست است فرود آمدن بنزديك آفريدكارما) {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ} أي : من قبل نزوله {مُسْلِمِينَ} بيان لكون إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ وإنما هو أمر متقادم العهد لما شاهدوا ذكره في الكتب المتقدمة وأنهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن.
جزء : 6 رقم الصفحة : 413
{أولئك} الموصوفون بما ذكر من النعوت.
{يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم} ثوابهم في الآخرة.
413
{مَّرَّتَيْنِ} مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن وقد سبق معنى المرة في سورة طه عند قوله تعالى : و{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} (طه : 37) {بِمَا صَبَرُوا} أي بصبرهم وثباتهم على الإيمانين والعمل بالشريعتين.
(6/300)
وفي "التأويلات النجمية" : على مخالفة هواهم وموافقة أوامر الشرع ونواهيه وفي الحديث : "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له جارية فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها ثم تزوجها فله أجره مرتين وعبد أدى حق الله وحق مواليه ورجل آمن بالكتاب الأول ثم آمن بالقرآن فله أجره مرتين" كما في "كشف الأسرار" {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي يدفعون بالطاعة المعصية وبالقول الحسن القول القبيح.
وفي "التأويلات النجمية" : أي بأداء الحسنة من الأعمال الصالحة يدفعون ظلمة السيئة وهي مخالفات الشريعة كما قال عليه السلام : "اتبع السيئة الحسنة تمحها" وقال تعالى : {إِنَّ الْحَسَنَـاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّـاَاتِ} وهذا لعوام المؤمنين ولخواصهم أن يدفعوا بحسنة ذكر لا إله إلا الله عن مرآة القلوب سيئة صدأ حب الدنيا وشهواتها ولأخص خواصهم أن يدفعوا بحسنة نفي لا إله سيئة شرك وجود الموجودات بقطع تعلق القلب عنها وغض بصر البصيرة عن رؤية ما سوى الله بإثبات وجود إلا الله كما كان الله ولم يكن معه شيء {وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} في سبيل الخير وفيه إشارة إلى إنفاق الوجود المجازي في طلب الوجود الحقيقي.
{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} من اللاغين وهو الساقط من الكلام.
وبالفارسية (سخن بيهوده).
{أَعْرَضُوا عَنْهُ} أي : عن اللغو وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون : تباً لكم تركتم دينكم القديم فيعرضون عنهم ولا يشتغلون بالمقابلة {وَقَالُوا} للاغين {لَنَآ أَعْمَـالُنَا} من الحلم والصفح ونحوهما {وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ} من اللغو والسفاهة وغيرهما فكل مطالب بعمله {سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ} هذا السلام ليس بتسليم مواصل وتحية موافق بل هو براءة وسلام مودع مفارق.
يعني (رتك شما كرديم) {لا نَبْتَغِى الْجَـاهِلِينَ} الابتغاء الطلب والجهل معرفة الشيء على خلاف ما هو عليه أي لا نطلب صحبتهم ولا نريد مخالطتهم ومخاطبتهم والتخلق بأخلاقهم (ه مصاحبت با شرار موجب بدنامي دنيا است وسبب بد فرجامي عقبى است) :
جزء : 6 رقم الصفحة : 413
از بدان بكريز وبانيكان نشين
يا ربد زهري بود بي انكبين
وحكم الآية وإن كان منسوخاً بآية السيف إلا أن فيه حثاً على مكارم الأخلاق وفي الحديث : "ثلاث من لم يكن فيه فلا يعتد بعلمه حلم يرد به جهل جاهل وورع يحجز عن معاصي الله وحسن خلق يعيش به في الناس".
قال الشيخ سعدي : (جالينوس ابلهي را ديدكه دست بكرثيبان دانشمندي زده وبي حرمتي كرده كفت اكراين دانشمند دانا بودي كاراوبنادان بدين جايكه نرسيدي) :
دو عاقل را نباشد كين ويكار
نه دنايي ستيزد باسبكار
اكر نادان بوحشت سخت كويد
خردمندش برحمت دل بجويد
دو صاحب دل نكه دارند مويي
هميدون سركشي وازرم جويي
414
اكر برهر دو جانب جاهلاننند
اكر زنجير باشد بكسلانند
يكي را زشت خويي داد دشنام
تحمل كردو كفت أي نيك فرجام
بترزانم كه خواهي كفتن آني
كه دانم عيب من ون من نداني
(يكي برسررتاهي مست خفته بود وزمام اختيار ازدست رفته عابدي بر سر أو كذر كرد ودر حالت مستقبح أو نظر جوان مست سربر آورد وكفت) قوله تعالى : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} :
إذا رأيت أثيماً
كن ساتراً وحليماً
يا من يقبح لغوي
لم لا تمر كريماً
متاب أي ارسا روي از كنهكار
ببخشايندكي دروي نظركن
أكر من ناجوانمردم بكردار
توبر من ون جوانمردان كذركن
واعلم أن اللغو عند أرباب الحقيقة ما يشغلك عن العبادة وذكر الحق وكل كلام بغير خطاب الحال والواقعة وطلب ما سوى الله.
{وَإِذَا سَمِعُوا} مثل هذا {اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَـالُنَا} في بذل الوجود المجازي لنيل الوجود الحقيقي {وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ} في اكتساب مرادات الوجود المجازي واستجلاب مضرات الشهوات وترك الوجود الحقيقي والحرمان من سعادة الانتفاع بمنافعه {سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِى الْجَـاهِلِينَ} الغافلين عن الله وطلب المحجوبين عن الله بما سواه فعلم من هذا أن طالب ما سوى الله تعالى جاهل عن الحقيقية ولو كان عارفاً بمحاسنها لكان طالباً لها لا لغيرها فينبغي لطالبها من السلاك أن لا يبتغي صحبة الجهلاء فإنه ليس بينهم وبينه مجانسة والمعاشرة بالأضداد أضيق السجون مع أنه لا يأمن الضعيف أن تؤثر فيه صحبتهم ويتحول حاله ويتغير طبعه ويتوجه عليه المكر وينقلب من الإقبال إلى الإدبار فيكون من المرتدين نعوذ بالله من الحور بعد الكور ونسأله الثبات والتوفيق والموت في طريق التحقيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 413
(6/301)
{إِنَّكَ} يا محمد {لا تَهْدِى} هداية موصلة إلى المقصود لا محالة.
{مَنْ أَحْبَبْتَ} من الناس ولا تقدر أن تدخله في الإسلام وإن بذلت فيه غاية الطاقة وسعيت كل السعي.
{وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ} فيدخله في الإسلام {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} بالمستعدين للهداية فلا يهدي إلا المستعد لها.
هدايت هركرا داد از بدايت
بدو همراه باشد تانهايت
والجمهور على أن الآية نزلت في أبي طالب بن عبد المطلب عم رسول الله عليه السلام فيكون هو المراد بمن أحببت.
روي : أنه لما احتضر جاءه رسول الله وكان حريصاً على إيمانه وقال : "أي عم قل : لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله" قال : يا ابن أخي قد علمت أنك لصادق ولكن أكره أن يقال : خرع عند الموت وهو بالخاء المعجمة والراء المهملة كعلم بمعنى ضعف وجبن ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة بعدي أي ذلة ومنقصة لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك ولكني سوف أموت على ملة أشياخي عبد المطلب وهاشم وعبد مناف.
روي : أن أبا طالب لما أبى عن كلمة التوحيد قال له النبي
415
صلى الله عليه وسلّم "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله تعالى : {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِى قُرْبَى مِنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَـابُ الْجَحِيمِ} (التوبة : 113).
وقد جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما عاد من حجة الوداع أحيا الله له أبويه وعمه فآمنوا به كما سبق في سورة التوبة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 415
وفي "التأويلات النجمية" : الهداية في الحقيقة فتح باب العبودية إلى عالم الربوبية وذلك من خصائص قدرة الحق سبحانه لأن لقلب العبد بابين باب إلى النفس والجسد وهو مفتوح أبداً وباب إلى الروح والحضرة وهو مغلوق لا يفتحه إلا الفتاح الذي بيده المفتاح كما قال لحبيبه عليه السلام {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَه عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} إلى الحضرة كما هداه ليلة المعراج إلى قرب قاب قوسين أو أدنى وقال في حق المغلوقين أي أبواب قلوبهم : {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} (محمد : 24) وقال عليه السلام : "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء" فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه فالنبي عليه السلام مع جلالة قدره لم يكن آمناً على قلبه وكان يقول : "يا مقلب القلوب ثبت قلب عبدك على دينك وطاعتك" والهداية عبارة عن تقليب القلب من الباطل وهو ما سوى الله إلى الحق وهو الحضرة فليس هذا من شأن غير الله انتهى.
وفي "عرائس البيان" : الهداية مقرونة بإرادة الأزل ولو كانت إرادة نبينا عليه السلام في حق أبي طالب مقرونة بإرادة الأزل لكان مهتدياً ولكن كان محبته وإرادته في حقه من جهة القرابة ألا ترى أنه إذ قال : "اللهم أعز الإسلام بعمر" كيف أجابه انتهى.
وفي "كشف الأسرار" : {إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} (ما آنراكه خواهم درمفازه تحير همي رانيم وآنراكه خواهيم بسلسله قهر همي كشيم.
ما در ازل ازال تاج سعادت برسرأهل دولت نهاديم واين موكب فروكفتيم كه "هؤلاء في الجنة ولا أبالي" ورقم شقاوت برناصيه كروهى كشيديم واين مقرعه برزديم كه : "هؤلاء في النار ولا أبالي" أي جوانمرد هي صفت در صفات خداي تعالى از صفت لا أبالي دردناك ترنيست آنه صديق أكبر كفت "ليتني كنت شجرة تعضد" ازدرد اين حديث بود نيكي سخن كه آن ير طريقت كفت كار نه آن داكه كسى كسل آيد وازكسى عمل كار آن داردكه تاشايسته كه آمد درازل آن مهتر مهجوران كه أورا إبليس كوينه ندين سياه دركاه عمل بود مقراضي وديبا همي ديدند وازكاركاه ازل أورا خود كليم سياه آمدكه) {وَكَانَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} (البقرة : 34) : قال الحافظ :
باب زمزم وكوثر سفيد نتوان كرد
جزء : 6 رقم الصفحة : 415
كليم بخت كسى راكه بافتند سياه
قال الشيخ سعدي قدس سره :
كرت صورت حال بد يانكوست
نكاريده دست تقدير أوست
قضا كشتى آناكه خواهد برد
وكر ناخدا جامه برتن درد
وقال الصائب :
با ختيار حق نبود اختيارما
بانور آفتاب ه باشد شرار ما
{وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ} معنى اتباع الهدى معه الاقتداء به
416
عليه السلام في الدين والسلوك إلى طريق الرشاد.
وبالفارسية (وكفتند أكرما قبول كنيم أن يغام كه آوردي وباين راه نموني توي بريم ودر دين تو آييم باتو) أو التخطف الاختلاس بسرعة نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف حيث أتى النبي عليه السلام فقال : نحن نعلم أنك على الحق :
قول توحق وسخن راستست
وانه ميفرمايي سبب دولت ماست
(6/302)
(درحيات ووسيله سعادت ما بعد از وفات) وما كذبت كذبة قط فنتهمك اليوم ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب أن يتخطفونا أي يأخذونا ويسلبونا ويقتلونا ويخرجونا من مكة والحرم لإجماعهم على خلافنا وهم كثيرون ونحن أكلة رأس أي قليلون لا نستطيع مقاومتهم فرد الله عليهم بقوله : {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا ءَامِنًا} أي ألم نعصمهم ونجعل مكانهم حرماً ذا أمن لحرمة البيت الذي فيه يتقاتل العرب حوله ويضير بعضهم بعضاً وهم آمنون.
يعني : (امن آن حرم درهمه طباع سرشته مرغ بتامردم آشنا وازيشان ايمن وآهواز شبك ايمن وهر ترسنده كه درحرم باشد أيمن كشت ون عرب حرمت حرم دانند كجا درو قتل وغارت روا دارند) {يُجْبَى إِلَيْهِ} يحمل إلى ذلك الحرم ويجمع فيه من قولك : جبيت الماء في الحوض أي جمعته والحوض الجامع له جابية {ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ} أي ألوان الثمرات من جانب كمصر والشام واليمن والعراق لا ترى شرقي الفواكه ولا غربيها مجتمعة إلا في مكة لدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال : {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} (إبراهيم : 37).
وقال الكاشفي : يعني : (منافع از هر نوعي وغرايب از هر ناحيتي بانجا آورند) ومعنى الكلية الكثرة والجملة صفة أخرى لحرماً دافعة لما عسى يتوهم من تضررهم بانقطاع الميرة وهو الطعام المجلوب من بلد إلى بلد {رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا} من عندنا لا من عند المخلوقات فإذا كان حالهم هذا وهم عبدة الأصنام فكيف يخافون التخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد.
يقول الفقير :
جزء : 6 رقم الصفحة : 415
حرم خاص الهست توحيد
جمله را جاي ناهست توحيد
باعث امن وأمانست إيمان
كان دلراشه راهست توحيد
وانتصاب رزقاً عل أنه مصدر مؤكد لمعنى يجبى لأن فيه معنى يرزق أي يرزقون رزقاً من لدنا.
وقال الكاشفي : (وروزي داديم إيشانرا درين وادي غير ذي زرع وروزي دادني از نزديك ما بي منت غيري) {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي أكثر أهل مكة جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا ذلك.
قال في "عرائس البيان" : حرمهم في الحقيقة قلب محمد عليه السلام وهو كعبة القدس وحرم الإنس يجبى إليه ثمرات جميع أشجار الذات والصفات من دخل ذلك الحرم بشرط المحبة والموافقة كان آمناً من آفات الكونين وكان منظور الحق في العالمين وهكذا كل من دخل في قلب ولي من أولياء الله.
قال الحافظ :
كليد كنج سعادت قبول أهل دلست
مبادكس كه درين نكتشك وريب كند
وفي الآية إشارة إلى خوف النفس من التخطف بجذبات الألوهية من أرض الأنانية ولو كانت تابعة لحمد القلب لوجد في حرم الهوية حقائق كل ثمرة روحانية وجسمانية ولذائذ كل شهوة
417
ولكنها لا تعلم كمالية ذوق الرزق اللدني كما لا يعلم أكثر العلماء لأنهم لم يذوقوه ومن لم يذق لا يدري.
قال الكمال الخجندي :
زاهد نه عجب كركند از عشق تو رهيز
كين لذت اين باده ه داندكه نخوردست
ثم بين أن الأمر بالعكس يعني أنهم خافوا الناس وآمنوا من الله واللائق أن يخافوا من بأس الله على ما هم عليه ويأمنوا الناس فقال :
جزء : 6 رقم الصفحة : 415
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةا بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} البطر الطغيان في النعمة.
قال بعضهم : البطر والأشر واحد وهو دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها ويقاربه الطرب وهو خفة أكثر ما يعتري من الفرح وانتصاب معيشتها بنزع الحافظ ، أي في معيشتها كما في "الوسيط".
والمعنى وكم من أهل قرية كانت حالهم كحال أهل مكة في الأمن وسعة العيش حتى أطغتهم النعمة وعاشوا في الكفران فدمرنا عليهم وخربنا ديارهم {فَتِلْكَ} (س آنست) {مَسَـاكِنُهُمْ} خاوية بما ظلموا ترونها في مجيئكم وذهابكم {لَمْ تُسْكَن} يعني : (ننشستند دران) {مِّنا بَعْدِهِمْ} من بعد تدميرهم {إِلا قَلِيلا} إلا زماناً قليلاً إذ لا يسكنها إلا المارة يوماً أو بعض يوم (وبازخالي بكذارند درخانه دنياه نسبتي برحيز كين خانه بدان خوش است كه آيند وروند) ويحتمل أن شؤم معاصي المهلكين بقي أثره في ديارهم فلم يبق من يسكنها من أعقابهم إلا قليلاً إذ لا بركة في سكنى الأرض الشؤوم.
وقال بعضهم : سكنها الهام والبوم ولذا كان من تسبيحها سبحان الحي الذي لا يموت.
رده داري ميكند در طاق كسرى عنكبوت
يوم نوبت ميزند در قلعه افراسياب
{وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} منهم لتلك المساكن إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر متصرفاتهم :
يعني ما بيم باقي ازفناء همه
وهذا وعيد للمخاطبين
(6/303)
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ} وما كانت عادته في زمان {مُهْلِكَ الْقُرَى} قبل الإنذار {حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا} أي في أصلها وأعظمها التي تلك القرى سوادها وأتباعها وخص الأصل والأعظم لكون أهلها أفطن وأشرف والرسل إنما بعثت غالباً إلى الأشراف وهم غالباً يسكنون المدن والقصبات {رَسُولا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِنَا} الناطقة بالحق ويدعوهم إليه بالترغيب والترهيب وذلك لإلزام الحجة وقطع المعذرة بأن يقولوا : لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 418
وفي "التكملة" : الأم هي مكة ، والرسول محمد صلى الله عليه وسلّم وذلك لأن الأرض دحيت من تحتها فيكون المعنى وما كان ربك يا محمد مهلك البلدان التي هي حوالي مكة في عصرك وزمانك حتى يبعث في أمها أي أم القرى التي هي مكة رسولاً هو أنت.
{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى} بالعقوبة بعد بعثنا في أمها رسولاً يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إليه في حال من الأحوال.
{إِلا وَأَهْلُهَا ظَـالِمُونَ} أي حال كون أهلها ظالمين بتكذيب رسولنا والكفر بآياتنا فالبعث غاية لعدم صحة الإهلاك بموجب السنة الإلهية لا لعدم وقوعه حتى يلزم تحقق الإهلاك عقيب البعث.
دلت الآية على أن الظلم سبب الهلاك ولذا قيل : الظلم قاطع
418
الحياة ومانع النبات وكذا الكفران يقال : النعم محتاجة إلى الأكفاء كما تحتاج إليها الكرائم من النساء وأهل البطر ليسوا من أكفاء النعم كما أن الأرذال ليسوا أكفاء عقائل الحرم جمع عقيلة وعقيلة كل شيء أكرمه وحرم الرجل أهله فكما أن الكريمة من النساء ليست بكفؤ للرذيل من الرجال فيفرق بينهما للحوق العار فكذا النعمة تسلب من أهل البطر والكبر والغرور والكفران وأما أهل الشرك فلا يضيع سعيهم بل يزداد حسن حالهم ولله تعالى رزق واسع في البلاد ولا فرق فيه بين الشاكر والكفور من العباد كما قال الشيخ سعدي :
أديم زمين سفره عام أوست
برين خوان يغماه دشمن ه دوست
قال الشيخ عبد الواحد : وجدنا في جزيرة شخصاً يعبد الأصنام فقلنا له : إنها لا تضر ولا تنفع فاعبد الله فقال : وما الله؟ قلنا : الذي في السماء عرشه وفي الأرض بطشه قال : ومن أين هذا الأمر العظيم؟ قلنا : أرسل إلينا رسولاً كريماً فلما أدى الرسالة قبضه الله إليه وترك عندنا كتاب الملك ثم تلونا سورة فلم يزل يبكي حتى أسلم فعلمناه شيئاً من القرآن فلما صار الليل أخذنا مضاجعنا فكان لا ينام فلما قدمنا عبادان جمعنا له شيئاً لينفقه فقال : هو لم يضيعني حين كنت أعبد الصنم فكيف يضيعني وأنا الآن قد عرفته أي والعارف محبوب فهو إذا لا يترك المحبوب في يد العدو ومن العدو الفقر الغالب والألم الحاصل منه.
محالست ون دوست دارد ترا
كه دردست دشمن كذارد ترا
فعلى العاقل أن يعرف الله تعالى ويعرف قدر النعمة فيقيدها بالشكر ولا يضع الكفر موضع الشكر فإنه ظلم صريح يحصل منه الهلاك مطلقاً إما للقلب فبالإعراض عن الله ونسيان أن العطاء منه وإما للقالب فبالبطش الشديد وكم رأينا في الدهر من أمثاله من خرب قلبه ثم خرب داره ووجد آخر الأمر بواره ولكن الإنسان من النسيان لا يتذكر ولا يعتبر بل يمضي على حاله من الغفلة أيقظنا الله وإياكم من نوم الغفلة في كل لحظة وشرفنا في جميع الساعات باليقظة الكاملة المحضة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 418
{وَمَآ} مبتدأ متضمنة لمعنى الشرط لدخول الفاء في خبرها بخلاف الثانية.
وبالفارسية (وهره).
{أُوتِيتُم} أعطيتم والخطاب لكفار مكة كما في "الوسيط" {مِّن شَىْءٍ} من أسباب الدنيا {فَمَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} أي : فهو شيء شأنه أن يتمتع ويتزين به أياماً قلائل ثم أنتم وهو إلى فناء وزوال سمى منافع الدنيا متاعاً لأنها تفنى ولا تبقى كمتاع البيت.
{وَمَآ} موصولة أي الذي حصل.
{عِندَ اللَّهِ} وهو الثواب {خَيْرٍ} لكم في نفسه من ذلك لأنه لذة خالصة من شوائب الألم وبهجة كاملة عارية من مسة الهمم.
{وَأَبْقَىا} لأنه أبديّ {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي : ألا تتفكرون فلا تعقلون هذا الأمر الواضح فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وتؤثرون الشقاوة الحاصلة من الكفر والمعاصي على السعادة المتولدة من الإيمان والطاعات.
وبالفارسية (آيادر نمي يابيد وفهم نمي كنيدكه بدل ميكنيد باقي را بفاني ومرغوب را بميعوب).
حيف باشد لعل وزردادن زنك
س كرفتن در برابر خاك وسنك
جزء : 6 رقم الصفحة : 418
{أَفَمَن} موصولة مبتدأ {وَعَدْنَـاهُ} على إيمانه وطاعته {وَعْدًا حَسَنًا} هو الجنة
419
وثوابها فإن حسن الوعد بحسن الموعود.
(6/304)
وقال الكاشفي : (إيا كسى كه وعده كرده ايم أوراجنت در آخرت ونصرت دردنيا) {فَهُوَ} أي ذلك الموعود له {لَـاقِيهِ} أي مصيبه ذلك الوعد الحسن ومدركه لا محالة لاستحالة الخلف في وعده تعالى : {كَمَن} موصولة خبر للأولى {مَّتَّعْنَـاهُ} (برخور داري داديم أورا) {مَّتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} (أو متاع زندكاني دنياكه محبتش آميخته محنت أست ودولتش مؤدى نكبت ومالش در صدد زوال وجاهش بر شرف انتقال وطعوم وعسلش معقب بسموم حنظل) {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} للحساب أو النار والعذاب.
وثم للتراخي في الزمان أي لتراخي حال الإحضار عن حال التمتيع أو في الرتبة ومعنى الفاء في أفمن ترتيب إنكار التشابه بين أهل الدنيا وأهل الآخرة على ما قبلها من ظهور التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وبين ما عند الله أي أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوي بين الفريقين أي لا يسوي فليس من أكرم بالوعد الأعلى ووجدان المولى وهو المؤمن كمن أهين بالوعيد والوقوع في الجحيم في العقبى وهو الكافر وذلك بإزاء شهوة ساعة وجدها في الدنيا.
ويقال : رب شهوة ساعة أورثت صاحبها حزناً طويلاً (وقتي زنبوري موري را ديدكه بهزار حيله دانه بخانه ميكشيد ودران رنج بسيارمي ديد أورا كفت أي مور اين ه رنجست كه برخود نهاده واين ه بارست كه اختيار كرده بيا مطعم ومشرب من بين كه هر طعام كه لطيف ولذلذ ترست تا از من زيادة نيايد ادشاهانرا نرسد هر آنجاكه خواهم نشينم وآنه خواهم كزينم خورد ودرين سخن بودكه برريد وبدكان قصابي برمسلوخي نشست قصاب كاردكه دردست داشت بران زنبوره مغرور زدودواره كرد وبر زمين انداخت ومور بيامد واي كشان أورا ميبرد ومي كفت) رب شهوة إلخ وفي الحديث : "ومن كانت الدنيا همته جعل الله فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ، ومن كانت الآخرة همته جعل الله الغنى في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة".
يحكي : أن بعض أهل الله كان يرى عنده في طريق الحج كل يوم خبز طري فقيل له في ذلك فقال : تأتيني به عجوز أراد بها الدنيا ومن كان له في هذه الدنيا شدة وغم مع دين الله فهو خير ممن كان له سعة وسرور مع الشرك وفي الحديث : "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال : يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط هل مرّ بك نعيم قط فيقول : لا والله يا رب" يعني شدة العذاب أنسته ما مضى عليه من نعم الدنيا "ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له : يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط هل مر بك شدة قط فيقول : لا والله ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط" وفي الحديث : "قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً" وهو ما يكون بقدر الحاجة ومنهم من قال : هو شبع يوم وجوع يوم "وقنعه الله بما آتاه" بمد الهمزة أي أعطاه من الكفاف يعني : من اتصف بالصفات المذكورة فاز بمطلوب الدنيا والآخرة ثم الوعد لعوام المؤمنين بالجنة ولخواصهم بالرؤية ولأخص خواصهم بالوصول والوجدان كما قال تعالى : "ألا من طلبني وجدني" وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام تجوّع ترني تجرد تصل إليّ :
جزء : 6 رقم الصفحة : 419
جوع تنوير خانه دل تست
420
أكل تعمير خانه كل تست
فلا بد للسالك من إصلاح الطبيعة والنفس بالرياضة والمجاهدة وكان يستمع من حجرة الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس سره الجوع الجوع وحقيقته الزموا الجوع لا أن نفسه الزكية كانت تشكو من الجوع نسأل الله الوصول إلى النعمة والتشرف بالرؤية.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} يوم منصوب باذكر المقدر والمراد يوم القيامة والضمير للكفار أي واذكر يا محمد لقومك يوم يناديهم ربهم وهو عليهم غضبان {فَيَقُولُ} تفسير للنداء {أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي وكنتم تعبدونهم كما تعبدونني فحذف المفعولان معاً ثقة بدلالة الكلام عليهما.
قال في "كشف الأسرار" : وسؤالهم عن ذلك ضرب من ضروب العذاب لأنه لا جواب لهم إلا ما فيه فضيحتهم واعترافهم بجهل أنفسهم.
{قَالَ} استئناف مبني على حكاية السؤال كأنه قيل : فماذا صدر عنهم حينئذ؟ فقيل : قال : {الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} في الأزل بأن يكونوا من أهل النار المردودين يدل عليه قوله تعالى : {وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاـاهَا وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى} (السجدة : 13) الآية كما في "التأويلات النجمية".
(6/305)
وقال بعض أهل التفسير : معنى حق عليهم القول ثبت مقتضاه وتحقق مؤداه وهو قوله : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود : 119) وغيره من آيات الوعيد والمراد بهم شركاؤهم من الشياطين أو رؤساؤهم الذين اتخذوهم أرباباً من دون الله بأن أطاعوهم في كل ما أمر وهم به ونهوهم عنه وتخصيصهم بهذا الحكم مع شموله للاتباع أيضاً لأصالتهم في الكفر واستحقاق العذاب ومسارعتهم إلى الجواب مع كون السؤال للعبدة لتفطنهم أن السؤال عنهم لاستحقارهم وتوبيخهم بالإضلال وجزمهم بأن العبدة سيقولون : هؤلاء أضلونا {رَّبِّنَآ} (أي رورد كارما) {هَؤُلاءِ} أي كفار بني آدم أو الأتباع هم {الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ} فحذف الراجع إلى الموصول ومرادهم بالإشارة بيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم وأنهم غير قادرين على إنكاره ورده.
{أَغْوَيْنَـاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} هو الجواب في الحقيقة وما قبله تمهيد له أي ما أكرهنا على الغي وإنما أغوينا بما قضيت لنا ولهم الغواية والضلالة مساكين بنو آدم أنهم من خصوصية ولقد كرمنا بني آدم يحفظون الأدب مع الله في أقصى البعد كما يتأدب الأولياء على بساط أقصى القرب ولا يقولون : أغويناهم كما أغويتنا كما قال إبليس صريحاً ولم يحفظ الأدب رب بما أغويتني لأقعدن لهم {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ} منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصي هوى منهم وهو تقرير لما قبله ولذا لم يعطف عليه وكذا قوله تعالى : {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} إيانا مفعول يعبدون أي ما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 419
{وَقِيلَ} لمن عبد غير الله توبيخاً وتهديداً والقائلون الخزنة {ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ} أي : الأصنام ونحوها ليخلصوكم من العذاب أضافها إليهم لادعائهم أنها شركاء الله.
{فَدَعَوْهُمْ} من فرط الحيرة.
{فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} الموعود قد غشيهم {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب أو إلى الحق في الدنيا لما لقوا ما لقوا من العذاب.
وقال بعضهم : لو للتمني هنا أي تمنوا لو أنهم كانوا مهتدين لا ضالين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 419
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} أي واذكر يوم ينادي الله الكفار نداء تقريع وتوبيخ.
{فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} (ه جواب داديد) المرسلين الذين أرسلتهم
421
إليكم حين دعوكم إلى توحيدي وعبادتي ونهوكم عن الشرك.
{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانابَآءُ يَوْمَـاـاِذٍ} (س وشيده باشدبر إيشان خبرها يعني آنه بايغمبران كفته باشند وندانند كه ه كويند).
قال أهل التفسير : أي صارت كالعمى عنهم لا تهتدي إليهم وأصله فعموا عن الأنباء أي الأخبار وقد عكس بأن أثبت العمى الذي هو حالهم للأنباء مبالغة وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء والاشتباه وإذا كانت الرسل يفوضون العلم في ذلك المقام الهائل إلى علام الغيوب مع نزاهتهم عن غائلة السؤال فما ظنك بأهل الضلال من الأمم :
بجايي كه دهشت برد انبيا
تو عذر كنه راه داري بيا
{فَهُمْ لا يَتَسَآءَلُونَ} أي : لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب لفرط الدهشة واستيلاء الحيرة أو للعلم بأن الكل سواء في الجهل.
{فَأَمَّا مَن تَابَ} من الشرك {فَأَمَّا مَن تَابَ} أي : جمع بين الإيمان والعمل الصالح {فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أي الفائزين بالمطلوب عند الله تعالى الناجين من المهروب.
وبالفارسية : (س شايد آنكه باشد ازر ستكاران ورستكاري باجابت حضرت رسالت عليه السلام باز بسته است) :
مزن بي رضاى محمد نفس
ره رستكاري همين است وبس
خلاف يغمبر كسى ره كزيد
كه هركز بمنزل نخواهد رسيد
وعسى للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب بمعنى فليتوقع الإفلاح.
جزء : 6 رقم الصفحة : 421(6/306)
قال في "كشف الأسرار" : إنما قال : فعسى يعني إن دام على التوبة والعمل الصالح فإن المنقطع لا يجد الفلاح ونعوذ بالله من الحور بعد الكور فينبغي لأهل الآخرة أن يباشروا الأعمال الصالحة ويديموا على أورادهم وللأعمال تأثير عظيم في تحصيل الدرجات وجلب المنافع والبركات ولها نفع لأهل السعادة في الدنيا والآخرة ولأهل الشقاوة لكن في الدنيا فقط فإنهم يجلبون بها المقاصد الدنيوية من المناصب والأموال والنعم وقد عوض عن عبادة الشيطان قبل كفره طول عمره ورأى أثرها في الدنيا فلا بد من السعي بالإيمان والعمل الصالح.
حكي : أن إبراهيم بن أدهم قدس سره لما منع من دخول الحمام بلا أجرة تأوه وقال : إذا منع الإنسان من دخول بيت الشيطان بلا شيء فأنى يدخل بيت الرحمن بلا شيء؟ وأفضل الأعمال التوحيد وذكر رب العرش المجيد ولو أن رجلاً أقبل من المغرب إلى المشرق ينفق الأموال والآخر من المشرق إلى المغرب يضرب بالسيف في سبيل الله كان الذاكر أعظم وفي الحديث : "ذكر الله علم الإيمان" أي لأن المشرك إذا قال لا إله إلا الله يحكم بإسلامه وبراءة من النفاق أي لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً "وحرز من الشيطان وحصن من النار" كما جاء في الكلمات القدسية "لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي".
وفي "التأويلات النجمية" : {فَأَمَّا مَن تَابَ} أي رجع إلى الحضرة على قدمي المحبة وصدق الطلب {وَءَامَنَ} بما جاء به النبي عليه السلام من الدعوة إلى الله {وَعَمِلَ صَـالِحًا} بالتمسك بذيل متابعة دليل كامل وأصل صاحب قوة وقدره توصله إلى الله تعالى : {فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} الفائزين من أسر النفس المخلصين من حبس الأنانية إلى قضاء وسعة الهوية
422
انتهى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 421
{وَرَبُّكَ} (آورده اندكه صناديد عرب طعنه مي زدندكه خداي تعالى را محمد را براي نبوت اختيار كرد بايستي كه نين منصب عالي بوليد بن مغيرة وسيدي كه بررك مكه است بابعروة بن مسعود ثقفي كه عظيم طائف) كما قالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فرد الله عليهم بقوله : {وَرَبُّكَ} (وبروردكار تويا محمد) {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} أن يخلقه {وَيَخْتَارُ} مما يخلق ما يشاء اختياره واصطفاءه فكما أن الخلق إليه فكذا الاختيار في جميع الأشياء {مَّآ} نافية {كَانَ لَهُمُ} أي المشركين {الْخِيَرَةُ} أي : الاختيار عليه تعالى وهو نفي لاختيارهم الوليد وعروة وأنشدوا :
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر
والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع فيما اختيار خالقنا
وفي اختيار سواه اللوم والشوم
قال الجنيد قدس سره : كيف يكون للعبد اختيار والله المختار له؟ وقال بعض العارفين : إذا نظر أهل المعرفة إلى الأحكام الجارية بجميل نظر الله لهم فيها وحسن اختياره فيما أجراه عليهم لم يكن عندهم شيء أفضل من الرضى والسكون.
قال الحافظ :
در دائره قسمت ما نقطه تسليم
لطف آنه توانديشي حكم آنكه توفر مايي
والخيرة بمعنى التخير بالفارسية (كزيدن) كالطيرة بمعنى التطير.
وفي "المفردات" : الخيرة الحالة التي تحصل للمستخير والمختار نحو القعدة والجلسة لحال القاعد والجالس انتهى.
وفي "الوسيط" : اسم من الاختيار يقام مقام المصدر وهو اسم للمختار أيضاً يقال محمد خيرة الله من خلقه {سُبْحَـانَ اللَّهِ} أي تنزه بذاته تنزهاً خاصاً به من أن ينازعه أحد ويزاحم اختياره {وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن إشراكهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 423
(6/307)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى مشيئته الأزلية في الخلق والاختيار وأنه فاعل مختار يخلق ما يشاء كيف يشاء ممن يشاء ولما يشاء متى يشاء وله اختيار في خلق الأشياء فيختار وجود بعض الأشياء في العدم فيبقيه فانياً في العدم ولا يوجده وله الخيرة في أنه يخلق بعض الأشياء جماداً وبعض الأشياء نباتاً وبعض الأشياء حيواناً وبعض الأشياء إنساناً وأن يخلق بعض الإنسان كافراً وبعض الإنسان مؤمناً وبعضهم ولياً وبعضهم نبياً وبعضهم رسولاً وأن يخلق بعض الأشياء شيطاناً وبعضها جناً وبعضها ملكاً وبعض الملك كروبيا وبعضهم روحانياً وله أن يختار بعض الخلق مقبولاً وبعضهم مردوداً انتهى وفي الحديث : "إن الله خلق السموات سبعاً فاختار العليا منها فسكنها وأسكن سائر سماواته من شاء من خلقه ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم واختار بمن بني آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشاً واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم فأنا خيار من خيار إلى خيار فمن أحب العرف فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم".
وفي الحديث : "إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحاب أربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً فجعلهم خير أصحابي وفي كل أصحابي خير واختار أمتي على سائر الأمم واختار لي من أمتي أربعة قرون بعد أصحابي القرن الأول والثاني والثالث تترى والرابع فرداً" (بدانكه آدمي را اختيار نيست اختيار كسي تواندكه أورا ملك بود
423
وآدمي بنده است وبنده را ملك نيست آن ملك كه شرع أورا إثبات كرد آن ملك مجاز ينست عاريتي عن قريب ازوزائل كردد وملك حقيقي آنست كه آنرا زوال نيست وآن ملك الله است كه مالك ركمال است ودر ملك ايمن اززوال ودر ذات ونعت متعال) :
همه تختن وملكي ذيرد زوال
بجز ملك فرمانده لا يزال
(عالم بيافريد وآنه خواست ازان بركزيد.
فرشتكانرا بيافريد ازيشان جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل را بركزيد.
آدم وآدميا نرا بيافريد از يشان يغمبران بركزيد.
از يغمبران خليل وكلمي وعيسى ومحمد بركزيد عليهم السلام.
صحابه رسول را بيافريد أبو بكر تميمي وعرم غدوي وعثمان أموي وعلي هاشمي بركزيد.
بسيط زمنين را بيافريد ازان مكه بركزبد موضع ودلات ومدينة بركزيد هجر تكاه رسول وبيت المقدس بركزيد موضع مسراي رسول.
روزها بيافريد ازان روز رذينه بركزيد "وهو يوم إجابة الدعوة".
روز عرفه بركزيد "وهو يوم المباهات".
روز عيد بركزيد "وهو يوم الجائزة" روز عاشوراء "بركزيد وهو يوم الخلعة".
شبها بيافريد وازان شب برات بركزيد كه حق تعالى بخودىء خود نزول كندو بنده راهمه شب نداي كرامت خواند.
ونوازد شب قدر بركزيدكه فرشتكان آسمان بعدد سنك ريزه بزمين فرستد ونثار رحمت كنند بربندكان.
شب عيد بركزيد كه دررحمت ومغفرت كشايد وكناهكارا نرا آمرزد.
كوهها بيافريد وازان طور كزيد كه موسى بران بمناجات حق رسيد.
جودي بركزيد كه نوح دران نجات يافت.
حرابر كزيدكه مصطفى عربي دران بعثت يافت.
نفس آدمي بيافريدوازان دل بركزيد زبان دل محل نور معرفت وزبان موضع كلمه شهادت.
كتابها از آسمان فرو فرستاد وازان هار بركزيد توراة وإنجيل وزبور وقرآن واز كلمتها هار "سبحان الله والحمد ولا إله إلا الله والله أكبر" وفي الحديث : "أحب الكلام إلى الله سبحان الله والحمد ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهم بدأت" الكل في "كشف الأسرار".
جزء : 6 رقم الصفحة : 423
قال في "زهرة الرياض" : {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي ليس للكفار الاختيار بلا الاختيار للواحد القهار كأنه قال : الاختيار لي ليس لجبرائيل ولا لميكائيل ولا لإسرافيل ولا لعزرائيل ولا لآدم ولا لنوح ولا لإبراهيم ولا ليعقوب ولا لموسى ولا لعيسى ولا لمحمد عليهم الصلاة والسلام.
ولو كان لجبرائيل وميكائيل لاختارت الملائكة مثل هاروت وماروت.
ولو كان لإسرافيل لاختار إبليس.
ولو كان لعزرائيل لاختار شداد.
ولو كان لآدم لاختار قابيل.
ولو كان لنوح لاختار كنعان.
ولو كان لإبراهيم لاختار آزر.
ولو كان ليعقوب لاختار العماليق.
ولو كان لموسى لاختار فرعون.
ولو كان لعيسى لاختار الحواريين.
ولو كان لمحمد لاختار عمه أبا طالب ولكن الاختيار لي اخترتك فاشكر لي لأن الله أعلم حيث يجعل رسالته ونبوته وولايته.
قال يحيى الرازي رحمه الله : إلهي علمك بعيوبي لم يمنعك عن اختياري فكيف يمنعك عن غفراني.
ويقال : إن يوسف عليه السلام اختار السجن فأورثه الوبال والله تعالى اختار للفتية الكهف فأورثهم الجمال ألا ترى أن رجلاً لو تزوج امرأة فإنه يستر عيوبها مخافة أن يقال له : أنت اخترتها فالله تعالى اختارك في الأزل فالرجاء أن يستر عيوبك.
ويقال : اختار من ثمانية عشر ألف عالم أربعة
424
(6/308)
الماء والتراب والنار والريح فجعل الماء طهورك والتراب مسجدك والنار طباخك والريح نسيمك.
واختار من الملائكة أربعة جبرائيل صاحب وحيك وميكائيل خازن نعمتك وإسرافيل صاحب لوحك وعزرائيل قابض روحك.
واختار من الشرائع أربعة الصلاة عملك والوضوء أمانتك والصوم جنتك والزكاة طهارتك.
ومن القبلة أربعة العرش موضع دعوتك والكرسي موضع رحمتك والبيت المعمور مصعد عملك والكعبة قبلتك.
ومن الأوقات أربعة فوقت المغرب لطعامك ووقت العشاء لمنامك ووقت السحر لمناجاتك ووقت الصبح لقراءتك.
ومن المياه الماء الذي تفجر من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإنه أفضل من زمزم والكوثر وغيرهما من أنهار الدنيا والآخرة.
ومن البقاع البقعة التي ضمت جسمه اللطيف عليه السلام فإنها أفضل البقاع الأرضية والسماوية.
ومن الأزمنة الزمان الذي ولد فيه عليه السلام ولذا كان شهر ربيع الأول من أفضل الشهور كشعبان فإنه مضاف إلى نبينا عليه السلام أيضاً.
ومن الملوك الخواقين العثمانية لأن دولتهم آخر الدول وتتصل بزمان المهدي المنتظر على ما ثبت وصح عن أكابر علماء هذه الأمة.
واختار من العلماء من تشرف بعلم الظاهر والباطن وكان ذا جناحين نسأل الله الثبات في طريق التحقيق إنه ولي التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 423
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي تضمر قلوبهم وتخفي كعداوة الرسول وحقد المؤمنين يقال : أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك وكننته إذا سترته في بيت أو ثوب أو غير ذلك من الأجسام {وَمَا يُعْلِنُونَ} بألسنتهم وجوارحهم كالطعن في النبوة وتكذيب القرآن.
والإعلان (آشكارا كردن).
{وَهُوَ اللَّهُ} أي المستحق للعبادة.
وبالفارسية (أوست خداي مستحق رستش) {لا إله إِلا هُوَ} لا أحد يستحقها إلا هو وهو المتوحد بعز إلهيته المتفرد بجلال ربوبيته لا شبيه يساويه ولا نظر يضاهيه {لَهُ الْحَمْدُ} استحقاقاً على عظمته والشكر استيجاباً على نعمته {فِى الاولَى} أي الدنيا {وَالاخِرَةِ} لأنه المولى للنعم كلها عاجلها وآجلها على الخلق كافة يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا بقولهم : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} (فاطر : 34).
الحمد الله الذي صدقنا وعده (الزمر : 74) ابتهاجاً بفضله والتذاذاً بحمده أي بلا كلفة {وَلَهُ الْحُكْمُ} فيما يخلق ويختار ويعز ويذل ويحيي ويميت أي القضاء النافذ في كل شيء من غير مشاركة فيه لغيره.
وبالفارسية (أو راست كار بركزاردن).
قال في "كشف الأسرار" : وله الحكم النافذ في الدنيا والآخرة ومصير الخلق كلهم في عواقب أمورهم إلى حكمه في الآخرة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : حكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل معصيته بالشقاء والويل {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالبعث لا إلى غيره.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالاختيار أو بالاضطرار فأما بالاختيار فهو الرجوع إلى الحضرة بطريق السير والسلوك والمتابعة والوصول وهذا مخصوص بالإنسان دون غيره وأما بالاضطرار فبقبض الروح وهو الحشر والنشر والحساب والجزاء بالثواب والعقاب.
يقال : ثمانية أشياء تعم الخلق كلهم الموت والحشر وقراءة الكتاب والميزان والحساب والصراط والسؤال والجزاء.
425
وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : "يا موسى لا تسأل مني الغنى فإنك لا تجده وكل خلق مفتقر إليّ وأنا الغني.
ولا تسأل علم الغيب فإنه لا يعلم الغيب غيري.
ولا تسألني أن أكف لسان الخلق عنك فإني خلقتهم ورزقتهم وأميتهم وأحييهم وهم يذكرونني بالسوء ولم أكف لسانهم عني ولا أكف لسانهم عنك.
ولا تسأل البقاء فإنك لا تجده وأنا الدائم الباقي".
جزء : 6 رقم الصفحة : 423
وأوحى الله إلى محمد عليه السلام فقال : "يا محمد أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه غداً وعش ما شئت فإنك ميت" فظهر أن الحكم النافذ بيد الله تعالى ولو كان شيء منه في يد الخلق لمنعوا عن أنفسهم الموت ودفعوا ملاقاة الأعمال في الحشر وطريق النجاة التسليم والرضى والرجوع إلى الله تعالى بالاختيار فإنه إذا رجع العبد إلى الله بالاختيار لم يلق عنده شدة بخلاف ما إذا رجع بالاضطرار :
تويش از عقوبت در عفو كوب
كه سودي ندارد فغان زيروب
ومن علامات الرجوع إلى الله إصلاح السر والعلانية والحمد له على كل حال فإن الجزع والاضطراب من الجهل بمبدأ الأمر ومبديه وليخفف ألم البلاء عنك علمك بأن الله هو المبلي وقل في الضراء والسراء : لا إله إلا هو والتوحيد أفضل الطاعات وخير الأذكار والحسنات وصورته منجية فكيف بمعناه.
وعن حذيفة رضي الله عنه سمعت رسول الله يقول : "مات رجل من بني إسرائيل من قوم موسى فإذا كان يوم القيامة يقول الله لملائكته.
انظروا هل تجدون لعبدي من حسنة يفوز بها اليوم؟ فيقولون : إنا لا نجد سوى أن نقش خاتمه لا إله إلا الله فيقول الله تعالى : أدخلوا عبدي الجنة قد غفرت له" : قال المغربي :
(6/309)
اكره آنه داري ازبراي حسن
ولي ه سودكه داري هميشه آينه تار
بيا يصيقل توحيد زآينه بزد اي
غبار شرك كه اك كردد از نكار
نسأل الله سبحانه أن يوصلنا إلى حقيقة التوحيد ويخلصنا من ورطة التقليد ويجعلنا من المكاشفين لأنوار صفاته وأسرار ذاته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 423
{قُلْ} يا محمد لأهل مكة {أَرَءَيْتُمْ} أي أخبروني فإن الرؤية سبب للإخبار {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ} دائماً لا نهار معه من السرد وهو المتابعة والاطراد والميم مزيدة وقدم ذكر الليل على ذكر النهار لأن ذهاب الليل بطلوع الشمس أكثر فائدة من ذهاب النهار بدخول الليل كذا في "برهان القرآن" {إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} بإسكان الشمس تحت الأرض أو تحريكها حول الأفق الغائر{مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ} صفة لإله.
يعني (كيست خداي بجز خداي بحق كه از روى كمال قدرت) {يَأْتِيكُم بِضِيَآءٍ} صفة له أخرى عليها يدور أمر التبكيت والإلزام قصد انتفاء الموصوف بانتفاء الصفة ولم يقل : هل إله لا يراد الإلزام على زعمهم أن غيره آله والباء للتعدية : والمعنى بالفارسية (بيارد براي شما روشني يعني روز روشن كه در آن بطلب معاش اشتغال كنيد).
{أَفَلا تَسْمَعُونَ} هذا الكلام الحق سماع تدبر واستبصار حتى تنقادوا له وتعملوا بموجبه فتوحدوا الله تعالى وختم الآية به بناءً على الليل لا على الضياء.
وقال بعضهم : قرن بالضياء السمع لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر يعني استفادة العقل من السمع أكثر من استفادته من البصر.
426
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا} متصلاً لا ليل له.
{إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} بإسكانها في وسط السماء أو تحريكها فوق الأرض {مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} استراحة من متابعة الأسفار ولعل تجريد الضياء عن ذكر منافعه مثل تتصرفون فيه ونحوه لكونه مقصوداً بذاته ظاهر الاستتباع لما نيط به من المنافع ولا كذلك الليل.
{أَفَلا تُبْصِرُونَ} هذه المنفعة الظاهرة التي لا تخفى على من له بصر وختم الآية به بناءً على النهار فإنه مبصر لا على الليل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 426
وقال بعضهم : وقرن بسكون الليل البصر لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما لا تبصر أنت من السكون.
اعلم أن فلك الشمس يدور في بعض المواضع رحوياً لا غروب للشمس فيه فنهاره سرمدي فلا يعيش الحيوان فيه ولا ينبت النبات فيه من قوة حرارة الشمس فيه وكذلك يدور فلك الشمس في بعض المواضع بعكس هذا تحت الأرض ليس للشمس فيه طلوع فليله سرمدي فلا يعيش الحيوان أيضاً فيه ولا ينبت النبات ثمة فلهذا المعنى قال تعالى :
{وَمِن رَّحْمَتِه جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (واز بخشايش خودبيا فريد براي شماشب وروزرا) {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي : في الليل {وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِهِ} أي في النهار بأنواع المكاسب {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولكي تشكروا نعمته تعالى على ما فعل :
رخ را دور شبانروزي دهده
شب برو روز رورد روزي دهده
خلوت شب بهر آن تاجان ريش
رازدل كويد برجانان خويش
روزها ازبهر غوغاي عوام
تابدايشان كارتن كيرد نظام
قال إمام الحرمين وغيره من الفضلاء : لا خلاف أن الشمس تغرب عند قوم وتطلع عند قوم آخرين والليل يطول عند قوم ويقصر عند آخرين وعند خط الاستواء يكون الليل والنهار مستوياً أبداً.
وسئل الشيخ أبو حامد عن بلاد بلغار كيف يصلون لأن الشمس لا تغرب عندهم إلا مقدار ما بين المغرب والعشاء ثم تطلع فقال : يعتبر صومهم وصلاتهم بأقرب البلاد إليهم والأصح عند أكثر الفقهاء أنهم يقدرون الليل والنهار ويعتبرون بحسب الساعات كما قال عليه الصلاة والسلام : "يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة" فيقدر الصيام والصلاة في زمنه كذا ورد عن سيد البشر.
قال في "القاموس" : بلغر كقرطق والعامة تقول : بلغار مدينة الصقالبة ضاربة في الشمال شديدة البرد انتهى والفجر يطلع في تلك الديار قبل غيبوبة الشفق في أقصر ليالي السنة فلا يجب على أهاليها العشاء والوتر لعدم سبب الوجوب وهو الوقت لأنه كما أنه شرط لأداء الصلاة فهو سبب لوجوبها فلا تجب بدونه على ما تقرر في الأصول وكذلك لا تجبان على أهالي بلدة يطلع فيها الفجر لما تغرب الشمس فيسقط عنهم ما لا يجدون وقته كما أن رجلاً إذا قطع يداه مع المرفقين أو رجلاه مع الكعبين ففرائض وضوئه ثلاث لفوات محل الرابع كذا في الفقه.
والإشارة في الآية إلى نهار التجلي وليل ستر البشرية فلو دام نهار التجلي لم يقدر المتجلى له على تحمل سطواته فستره الله تعالى بظل البشرية ليستريح من تعب السطوات وإليه الإشارة بقوله عليه السلام لعائشة رضي الله عنها : "كلميني يا حميراء" وليس هذا الستر من قبيل الحجاب فإن الستر يكون عقيب التجلي وهو حجاب
427
(6/310)
الرحمة والمنحة لا حجاب الزحمة والمحنة وذلك من جملة ما كان النبي عليه السلام محمياً به إذ كان يقول : "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم سبعين مرة" وذلك غاية اللطف والرحمة والحجاب ما يكون محجوباً به عن الحق تعالى وذلك من غاية القهر والعز كما قال في المقهورين : {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (المطففين : 15) والجبل لم يستقر مكانه عند سطوة تجلي صفة الربوبية وجعله دكاً وخر موسى مع قوة نبوته صعقاً وذلك التجلي في أقل مقدار طرفة عين فلو دام كيف يعيش الإنسان الضغيف.
جزء : 6 رقم الصفحة : 426
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} منصوب باذكر أي واذكر يا محمد يوم ينادي الله المشركين {فَيَقُولُ} توبيخاً لهم {أَيْنَ} (كجا ند) {شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أنهم لي شركاء وهو تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك كما لا شيء أدخل في مرضاة الله من توحيده.
{وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ} نزع الشيء جذبه من مقره كنزع القوس من كبده وعطف على يناديهم وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق ولا التفات لإبراز كمال الاعتناء بشأن النزع أي أخرجنا من كل أمة من الأمم {شَهِيدًا} بالفارسية : (كواه) وهو نبيهم يشهد عليهم بما كانوا عليه من الخير والشر.
وقال بعضهم : يشهد عليهم وعلى من بعدهم كما جاء في الحديث أن أعمال الأمة تعرض على النبي عليه السلام ليلة الاثنين والخميس.
وقال بعضهم : عنى بالشهيد العدول من كل أمة وذلك أنه سبحانه لم يخل عصراً من الأعصار عن عدول يرجع إليهم في أمر الدين ويكونون حجة على الناس يدعونهم إلى الدين فيشهدون على الناس بما عملوا من العصيان {فَقُلْنَا} لكل من الأمم {هَاتُوا} (بياريد) وأصله آتوا وقد سبق.
{بُرْهَـانَكُمْ} على صحة ما كنتم تدعون من الشريك {فَعَلِمُوا} يومئد {أَنَّ الْحَقَّ} في الإلهية لا يشاركه فيها أحد.
{وَضَلَّ عَنْهُم} أي : غاب غيبة الضائع {مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} في الدنيا من الباطل وهو ألوهية الأصنام.
جزء : 6 رقم الصفحة : 428
واعلم أن الشريك لا ينحصر في عبادة الأصنام الظاهرة بل الأنداد ظاهرة وباطنة.
فمنهم : من صنمه نفسه.
ومنهم : من صنمه زوجته حيث يحبها محبة الله ويطيعها إطاعة الله ومنهم : من صنمه تجارته فيتكل عليها ويترك طاعة الله لأجلها فهذه كلها لا تنفع يوم القيامة.
حكي : أن مالك بن دينار رحمه الله كان إذا قرأ في الصلاة إياك نعبد وإياك نستعين غشي عليه فسئل فقال : نقول : إياك نعبد ونعبد أنفسنا أي نطيعها في أمرها ونقول : إياك نستعين ونرجع إلى أبواب غيره.
روي : أن زكريا عليه السلام لما هرب من اليهود بعد أن قتل يحيى عليه السلام وتوابعه تمثل له الشيطان في صورة الراعي وأشار إليه بدخول الشجرة فقال زكريا للشجرة : اكتميني فانشقت فدخل فيها وأخرج الشيطان هدب ردائه ثم أخبر به اليهود فشقوا الشجرة بالمنشار فهذا الشق إنما وقع له لالتجائه إلى الشجرة والشرك أقبح جميع السيئات كما أن التوحيد أحسن الحسنات وقد ورد أن الملائكة المقربين تنزل لشرف الذكر كما روى أن يوسف عليه السلام لما ألقي في الجب ذكر الله تعالى بأسمائه الحسنى فسمعه جبريل فقال : يا رب أسمع صوتاً حسناً في الجب فأمهلني ساعة فقال الله تعالى : ألستم قلتم أتجعل فيها من يفسد فيها وكذلك إذا اجتمع المؤمنون على ذكر الله مراعين لآدابه الظاهرة والباطنة تقول الملائكة : إلهنا أمهلنا نستأنس بهم فيقول الله تعالى : ألستم قلتم أتجعل فيها من يفسد فيها فالآن تتمنون الاستئناس
428
بهم وفي الحديث : "لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى" قبل يا رسول الله من الذي أبى قال : "من لم يقل لا إله إلا الله" فينبغي الاشتغال بكلمة التوحيد قبل الموت وهي عروة الوثقى وهي ثمن الجنة وهي التي يشهد بها جميع الأشياء :
هست هرذره بوحدت خويش
بيش عارف كواه وحدت او
اك كن جامه ازغبار دويي
لوح خاطر كه حق يكيست نه دو
والوصول إلى هذا الشهود والتوحيد الحقيقي إنما هو بخير الأذكار أي بالاشتغال به آناء الليل وأطراف النهار.
قال الشيخ المغربي :
تخست ديده طلب كن س آنكهي ديدار
ازانكه ياركند جلوه براولوا الأبار
جزء : 6 رقم الصفحة : 428
(6/311)
{إِنَّ قَـارُونَ} اسم أعجمي كهارون فلذلك لم ينصرف {كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى} كان ابن عمه يصهر بن قاهش بن لاوي بن يعقوب وموسى بن عمران ابن قاهش وكان ممن آمن به واقرأ بني إسرائيل للتوراة وكان يسمى المنور لحسن صورته ثم تغير حاله بسبب الغنى فنافق كما نافق السامري.
{فَبَغَى عَلَيْهِمْ} قال الراغب : البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى تجاوزه أو لم يتجاوزه وبغى تكبر وذلك لتجاوزه منزلته إلى ما ليس له.
والمعنى فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره وليس ببعيد فإن كثرة المال المشار إليها بقوله : {إِنَّ قَـارُونَ كَانَ} الآية سبب للبغي وأمارة بغيه الإباء والاستكبار والعجب والتمرد عن قبول النصيحة وكان يجر ثوبه كبراً وخيلاء وفي الحديث : "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء" وكان يستخف بالفقراء ويمنع عنهم الحقوق وفي الحديث : "اتخذوا الأيادي عند الفقراء قبل أن تجيء دولتهم" أي : فإن لهم دولة عظيمة يوم القيامة يصل أثرها إلى من أطعمهم لقمة أو سقاهم شربة أو كساهم خرقة أو نحو ذلك فيأخذون بأيديهم ويدخلون الجنة بأمر الله تعالى.
قال أهل العلم بالأخبار : كان أول طغيانه وعصيانه أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أنه يأمر بني إسرائيل أن يعلقوا في أرديتهم خيوطاً أربعة خضراً في كل طرف خيط على لون السماء قال موسى : يا رب ما الحكمة فيه؟ قال : يذكرون إذا رأوها أن كلامي نزل من السماء ولا يغفلون عني وعن كلامي والعمل به قال موسى : أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضراً فإنهم يحقرون هذه الخيوط؟ فقال : يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإنهم إن لم يطيعوني في الصغير لم يطيعوني في الكبير فأمرهم ففعلوا وامتنع قارون وقال : إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا من غيرهم فكان هذا ابتداء بغيه ولما عبروا البحر جعلت حبورة القربان وهي رياسة المذبح في هارون.
جزء : 6 رقم الصفحة : 429
قال في "كشف الأسرار" : (در رياست مذبح آن بودكه بني إسرائيل قربان كه مي كردند بر طريق تعبد يش هارون مي بردند وهارون بر مذبح مي نهاد تا آإتش از اسمان فرود آمدي وبركر فتى) فحسده قارون وقال : يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء وأنا أقرأ بني إسرائيل للتوراة ليس لي على هذا صبر فقال موسى : ما أنا جعلتها في هارون بل الله جعلها من فضله قال قارون : والله لا أصدقك في ذلك حتى تريني آية تدل عليه فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل بوضع عصيهم في القبة التي
429
الله فيها وينزل الوحي عليه ففعلوا وباتوا يحرسونها وأصبحوا فإذا بعصا هارون مورقة خضراء أي صارت بحيث لها ورق أخضر وكانت من شجرة اللوز فلما رأها قارون على تلك الحالة العجيبة قال : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر واعتزل موسى وتبعه طائفة من بني إسرائيل وجعل موسى يداريه لما بينهما من القرابة وهو لا يلتفت إليه بل يؤذيه ولا يزيد إلا تجبراً وبغياً {وَءَاتَيْنَـاهُ} أي قارون {مِنَ الْكُنُوزِ} أي الأموال المدخرة.
قال الراغب : الكنز جمع المال بعضه فوق بعض وحفظه من كنزت التمر في الوعاء انتهى.
والفرق بين الركاز والمعدن والكنز أن الركاز هو المال المركوز في الأرض مخلوقاً كان أو موضوعاً والمعدن ما كان مخلوقاً والكنز ما كان موضوعاً {مَّآ} موصولة أي الذي {إِنَّ مَفَاتِحَهُ} جمع مفتح بالكسر ما يفتح به أي مفاتح صناديقه {لَتَنُواأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ} خبر أن والجملة صلة ما وهو ثاني مفعولي آتينا.
وناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله فالباء للتعدية والعصبة والعصابة الجماعة الكثيرة.
وفي "المفردات" : جماعة معصبة أي متعاضدة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 429
(6/312)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : العصبة في هذا الموضع أربعون رجلاً وخزائنه كانت أربعمائة ألف يحمل كل رجل منهم عشرة آلاف مفتاح.
والمعنى لتثقلهم وتميل بهم إذا حملوها لثقلها.
وبالفارسية (برداشتن آن مفاتح كران ميكند مردمان بانيروي را يعني مردمان از كران باري بجانبي ميل ميكنند) وقال بعضهم : وجدت في الإنجيل أن مفاتح خزائن قارون وقرستين بغلاً ما يزيد منها مفتح على أصبع لكل مفتح كنز ويقال كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتح كنوزه وكانت من حديد فلما ثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع {إِذْ قَالَ لَه قَوْمُهُ} منصوب بتنوء يعني موسى وبني إسرائيل وقيل : قاله موسى وحده بطريق النصيحة {لا تَفْرَحْ} (شادي مكن بمال دنيا) والفرح انشراح الصدر بلذة عاجلة وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية والفرح في الدنيا مذموم مطلقاً لأنه نتيجة حبها والرضى بها والذهول عن ذهابها فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح حتماً ولذا قال تعالى : {لِّكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَـاـاكُمْ} (الحديد : 23) ولم يرخص في الفرح إلا في قوله : {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِه فَبِذَالِكَ فَلْيَفْرَحُوا} (يونس : 58) وقوله : {وَيَوْمَـاـاِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} (الروم : 4 ، 5) وعلل النهي ههنا بكونه مانعاً منه محبة الله تعالى كما قال : {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي بزخارف الدنيا فإن الدنيا مبغوضة عند الله تعالى :
دنياي دني يشت سراي ستمي
افكنده هزار كشته درهر قدمي
كردست دهد كداي شادي نكند
ورفوت شود نيز نيرزد بغمي
وإنما يحب من يفرح بإقامة العبودية وطلب السعادة الأخروية.
{وَابْتَغِ} أي : طلب {فِيمَآ ءَاتَـاـاكَ اللَّهُ} من الغنى لم يقل بما آتاك الله لأنه لم يرد بمالك وإنما أراد وابتغ في حال تملكك وفي حال قدرتك بالمال والبدن كما في "كشف الأسرار" {الدَّارُ الاخِرَةُ} أي ثواب الله فيها بصرفه إلى ما يكون وسيلة إليه من مواساة الفقراء وصلة الرحم وفك الأسير ونحوها من أبواب الخير.
.
.
.
430
بدنيا تواني كه عقبى خرى
جزء : 6 رقم الصفحة : 429
بخرجان من ورثه حسرت خورى
{وَلا تَنسَ} أي لا تترك ترك المنسي.
قال في "المفردات" : النسيان ترك الإنسان ضبط ما استودع إما لضعف قلبه وإما عن غفلة أو عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره {نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وهو أن تحصل بها آخرتك أو تأخذ منها ما يكفيك وتخرج الباقي.
وعن علي رضي الله عنه : لا تنس صحتك وقوتك وشبابك وغناك وفي ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لرجل وهو يعظه : "اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك".
وقال الكاشفي : (وفراموش مكن بهره خودرا ازمال دنيا بعني نصيب تو دروقت رحلت ازين جهان كفني خواهد بود وس ازان حال برانديش وبمال ومنال غره مشو).
كرملك توشام تايمن خواهد بود
وزسرحد روم تاختن خواهد بود
آنروز كزين جهان كني عزم سفر
همراه توند كزكفن خواهد بود
قال الشيخ سعدي قدس سره :
اكرا هلواني اكر تيغ زن
نخواهي بدر بردن الأكفن
وقال بعض العارفين : نصيب العارف من الدنيا ما أشار إليه عليه السلام بقوله : "حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة" ففي الطيب الرائحة الطيبة وفي النساء الوجه الحسن وفي الصلاة فرح القلب وقد سبق غير هذا {وَأَحْسِن} إلى عباد الله {كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} فيما أنعم به عليك.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
توانكري ودل دوست كامرانت هست
بخور ببخش كه دنيا وآإخرت بردى
وقال :
اكر كنج قارون بنك آورى
نماند مكر آنكه بخشى برى
{وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ} نهى له عما كان عليك من الظلم والبغي.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ} في أرض الروحانية بما آتاك الله من الاستعداد الإنساني باستعماله في مخالفات الشريعة وموافقات الطبيعة فإنه يفسد الاستعداد الروحاني والإنساني {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} لسوء أفعالهم بل يحب المصلحين لحسن أعمالهم وقد اختار من عباده الأبدال فإنهم يجعلون بدل الجهل العلم وبدل الشح الجود وبدل الشره العفة وبدل الظلم العدالة وبدل الطيش التؤدة وبدل الفساد الصلاح فالإنسان إذا صار من لأبدال فقد ارتقى إلى درجة الأحباب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 429
(6/313)
{قَالَ} قارون مجيباً للناصحين {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ} أي : هذا المال.
{عَلَى عِلْمٍ عِندِى} حال من مرفوع أوتيته أو متعلق بأوتيته وعندي صفة له.
والمعنى أوتيته حال كوني مستحقاً لما فيّ من علم التوراة وكان أعلمهم بها ادعى استحقاق التفضيل على الناس واستيجاب التفوق بالمال والجاه بسبب العلم ولم ينظر إلى منة الله تعالى وفضله ولذا هلك وهكذا كل من كان على طريقه في الادعاء والافتخار والكفران فإنه يهلك يوماً بشؤم معصيته وصنيعه.
قال الحافظ :
مباش غره بعلم وعمل فقيه مدام
كه هيكس زقضاي خداي جان نبرد
وقال الصائب :
431
بفكر نيستي هركز نمي فتند مغروران
اكره صورت مقراض لادرار كريبانها
وقال بعضهم : المراد بعلم علم الكيمياء وكان موسى يعلمه تعلماً من الله تعالى فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقنا ثلثه وعلم قارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه أو تعلم قارون صنعة الكيمياء من كلثوم أخت موسى وكانت تعرف ذلك فرزق مالاً عظيماً يضرب به المثل على طول الدهر وكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة والنحاس فيجعله ذهباً.
قال الزجاج : علم الكيمياء لا حقيقة له.
وفي "الكواشي" : ومتعاطي هذا العلم الكثير كذبه فلا يلتفت إليه.
يقول الفقير : وهو أولى من قول الزجاج فإن فيه إقراراً بأصله في الجملة وكذا بوجوده والكيمياء له حقيقة صحيحة وقد عمل به بعض الأنبياء وكمل الأولياء فإنه لا شك في الاستحالة والانقلاب بعد تصفية الأجساد وتظهرها من الكدورات وقد بين في موضعه ورأيت من وصل إليه بلا نكير والله العليم الخبير :
زكرامات بلند أوليا
أولا شعرست وآخر كيميا
جزء : 6 رقم الصفحة : 431
وقال بعضهم : المراد بالعلم علم التجارة والدهقنة وسائر المكاسب (كفته اند قارون هل سال بركوه متعبد بود ودر عبادت وهد برهمه بني إسرائيل غلبه كرد وإبليس شياطين را مي فرستاد تا ورا وسوسه كنند وبدنيا دركشند شايطين براو دست نمي يافتند إبليس خود برخاست وبصورت يري زاهد متعبد برابروي نشست وخدايرا عبادت همي كرد تا عبادت إبليس بر عبادت وي بيفزود وقارون بتواضع وخدمت وي در آمد وهره ميكفت بإشارت وي ميرفت ورضاي وي مي جست إبليس.
روزي كفت ما از جمعه وجماعت بازمانده ايم واز زيارت نيك مردان وتشييع جنازهاي مؤمنان محروم اكر درميان مردم باشيم وآن خصلتهاي نيكو بردست كيريم مكر صوابرتر باشد قارون را بدين سخن از كوه بزير آورد ودربيعه شدند وتعبد كاه إيشان معين ساختند مردم ون از حال ايشان باخبر شدند رفقا ازهر جانب روى بايشان نهاد وبا إيشان نيكو ميكردند وطعامها مي بردند.
ورزي إبليس كفت اكرما بهته يكروز بكسب مشغول باشيم واين بار وثقل از مردم فرونهيم مكر بهتر باشد قارون همان صواب ديد وروز آذينه بكسب شدند وباقي هفته عبادت همي كردند روزي جند برآمد إبليس كفت يكروز كسب كنيك ديكر روز عبادت تا ز معاش وبغت يزي بسر آيد وبصدقه ميدهيم ومردمانرا از ما منفعت بود همان كردند وبكسب مشغول شدند تادوستي كسب ودوستى مال درسر قارون شد إبليس آنكاه ازوي جدايي كرفت وكفت من كار خود كردم واورا دردام دنيا آوردم س قارون بكسب مشغول كشت ودنيا بوي روي نهاد وطغيان بالا كرفت وادعاي استحقاق كرد بسبب علم مكاسب وطريق او) فقال تعالى : {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} (آيا نداست قارون يعني دانست) {أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِه مِنَ الْقُرُونِ} الكافرة.
يعني (از أهل روز كارها) والقرن القوم المقترنون في زمن واحد {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً} بالعدد والعدد {وَأَكْثَرُ جَمْعًا} للمال كنمرود وغيره.
وقال بعضهم : وأكثر جمعاً للعلم والطاعة مثل إبليس.
قال المفسرون : هذا تعجيب
432
منه وتوبيخ له من جهته تعالى على اغتراره بقوته وكثرة ماله مع علمه بذلك الإهلاك قراءة في التوراة وتلقيناً من موسى وسماعاً من حفاظ التواريخ فالمعنى ألم يقرأ التوراة ويعلم ما فعل الله بأضرابه من أهل القرون السابقة حتى لا يغتر بما اغتر به :
جزء : 6 رقم الصفحة : 431
مكن تكيه بر ملك واه وحشم
كه يش ازتو بودست وبعد از توهم
بكير عبرت از ماسواي قرون
خورد ضرب هراسب كه باشد حرون
{وَلا يُسْـاَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} عند إهلاكهم لئلا يشتغلوا بالاعتذار كما قال تعالى {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (المرسلات : 36) كما في "التأويلات النجمية".
وقال الحسن : لا يسألون يوم القيامة سؤال استعلام فإنه تعالى مطلع عليها بل يسألون سؤال تقريع وتوبيخ.
وقال بعضهم : لا يسألون بل يعاقبون بلا توقف ولا حساب أو لا يسألون لأنهم تعرفهم الملائكة بسيماهم.
(6/314)
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ} عطف على قال وما بينهما اعتراض وقوله : {فِى زِينَتِهِ} إما متعلق بخرج أو بمحذوف هو حال من فاعله أي كائناً في زينته والمراد الزينة الدنيوية فمن المال والأثاث والجاه يقال : زانه كذا وزينه إذا أظهر حسنه إما بالفعل أو بالقول.
قيل : خرج قارون يوم السبت وكان آخر يوم من عمره على بغلة شهباء عليه الأرجوان يعني قطيفة أرغواني وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه.
وقال بعضهم : ومعه تسعون ألفاً عليهم المعصفرات وهو أول يوم رؤي فيه اللباس المعصفر وهو المصبوغ بالعصفر وهو صبغ أحمر معروف وقد نهي الرجال عن لبس المعصفر لأنه من لباس الزينة وأسباب الكبر ولأن له رائحة لا تليق بالرجال وأصل الزينة عند العارفين وجوه مسفرة عليها آثار دموع الشوق والمحبة ساجدة على باب الربوبية.
قال ابن عطاء : أزين ما تزين به العبيد المعرفة ومن نزلت درجاته عن درجات العارفين فازين ما تزين به طاعة ربه ومن تزين بالدنيا فهو مغرور في زينته.
قال الحافظ :
قلندران حقيقت به نيم ون نخرند
قباي اطلس آنكس كه ازهنر عاريست
وفي "المثنوي" :
افتخار از رنك وبو واز مكان
هست شادي وفريبت كودكان وقال الشيخ العطار رحمه الله :
همو طفلان منكر اندرسرخ وزرد
ون زنان مغرور رنك وبومكرد
وقال الشيخ السعدي :
كراجامه اكست وسيرت ليد
در دوزخشن را نبايد كليد
وقال المولى الجامي :
وصلش مجودر اطلس شاهي كه دوخت عشق
اين جامه برتني كه نهان زير زنده بود
{قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} من بني إسرائيل جرياً على سنن الجبلة البشرية من الرغبة في السعة واليسار يا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَـارُونُ} (يا قومكاشكي ثبوديمارا ازمالهمنانكه قارونرا دادند).
جزء : 6 رقم الصفحة : 431
وقيل : يا ليت يا متمناي تعالى فهذا أوانك تمنوا مثله لا عينه حذراً من الحسد فدل على أنهم كانوا مؤمنين {إِنَّه لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} لذو نصيب وافر من الدنيا.
433
قال الراغب : الحظ النصيب المقدر وهو تمنيهم وتأكيد له.
قال في "كشف الأسرار" : (فائده اين آيت آنست كه رب العالمين خبر ميدهد ماراكه مؤمن نبايدكه تمنى كند اته طغيان در آنست از كثرت مال وذلك قوله : {إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى} (العلق : 6 ، 7) بلكه ازخداي عز وجل كفاف خواهد دردنيا وبلغه عيش.
نانكه درخبرست) "اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً" وفي الحديث : "اللهم من أحبني فارزقه العفاف والكفاف ومن أبغضني فارزقه مالاً وولداً" وفي الحديث : "طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به" : قال الحافظ :
كنج زر كرنبود كنج قناعت باقيست
آنكه آن داد بشاهان كبدايان اين داد
وقال :
همايي ون توعاليقدر حرص استخوان حيفست
دريغا سايه همت كه برنا أهل افكندي
درين بازار اكر سوديست بادرويش خرسندست
الهي منعمم كردان بدرويشي وخرسندي
وقال المولى الجامي :
هرسفله ي بكنج قناعت كجابرد
قناعت نكوتر بدوشاب خويش
وقال الشيخ السعدي :
نيرزد عسل جان من زخم نيش
قناعت نكونر بدو شاب خويش
وفي "التأويلات النجمية" : إنما وقع نظرهم على عظمة الدنيا وزينتها لا على دناءتها وخساستها وهوانها وقلة متاعها لأنهم اغتذوا بغداء شبل حب الدنيا وزينتها المتولد من أسود ظلمات صفات النفس بعضها فوق بعض فهم ينظرون بنظر ظلمات صفات النفس بعد أن كانوا ينظرون بنظر نور صفات القلب يبصرون عزة الآخرة وعظمتها وخسة الدنيا وهوانها فإن الرضاع يغير الطباع.
جزء : 6 رقم الصفحة : 431
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} بأحوال الآخرة وزهدوا في الدنيا أي قالوا للمتمنين {وَيْلَكُمْ} (واي برشما اي طالبان دنيا) وهو دعاء بالإهلاك.
بمعنى ألزمكم الله ويلاً أي عذاباً وهلاكاً ساغ استعماله في الزجر عما لا يرتضى وقد سبق في طه.
{ثَوَابُ اللَّهِ} في الآخرة {خَيْرٍ} مما تتمنون {لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا} فلا يليق بكم أن تتمنوه غير مكتفين بثوابه ونعيمه {وَلا يُلَقَّـاـاهَآ} أي ولا يوفق لهذه الكرامة كما في "الجلالين" والمراد بالكرامة الثواب والجنة ولا يعطى هذه الكلمة التي تكلم بها العلماء وهي ثواب الله خير قال الله تعالى : {وَلَقَّـاـاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} (الإنسان : 11) أي أعطاهم ولقيته كذا إذا استقبلته به.
وبالفارسية وتلقيه وتلقين (نحواهد كرد اين كلمه كه علماً كفته اند يعني دردل وزبان نخواهند دار) {إِلا الصَّـابِرُونَ} على الطاعات وعن زينة الدنيا وشهواتها :
أهل صبر از جمله عالم برترند
صابران أزواج كردون بكذرند
هركه كاردتخم صبر اندر جهان
يدرود محصول عيش صابران
{فَخَسَفْنَا بِه وَبِدَارِهِ الارْضَ} يقال : خسف المكان يخسف خسوفاً ذهب في الأرض كما في "القاموس" وخسف القمر زال ضوءه وعين خاسفة إذا غابت حدتها والباء للتعدية.
434
والمعنى بالفارسية : (س فرو برديم قارون وراي اورا بزمين).
(6/315)
جزء : 6 رقم الصفحة : 434
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت الزكاة على موسى صالحه على أن يعطيه عن كل ألف دينار ديناراً وعن كل ألف درهم درهماً وعن كل ألف شاة شاة وذلك بالأمر الإلهي وكان الواجب عشر المال لاربعه فحسب قارون ماله فوجد الزكاة مبلغاً عظيماً فمنعه البخل والحرص عن دفعها فجمع جمعاً من بني إسرائل فقال لهم : إنكم قد أطعتم موسى في كل ما أمركم به وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم قالوا : أنت كبيرنا مرنا بما شئت قال : أريد أن أفضحه بين بني إسرائيل حتى لا يسمع بعد كلامه أحد فأمري أن تجلبوا فلانة البغي فنجعل لها جعلاً حتى تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فدعوها فجعل لها قارون ألف دينار وطشتاً من ذهب على أن تفعل ما أمر به من القذف إذا حضر بنو إسرائيل من الغد وكان يوم عيد فلما كان الغد قام موسى خطيباً فقال : من سرق قطعناه ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصناً رجمناه فقال قارون : وإن كنت أنت قال : وإن كنت أنا فقال : إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فأحضرت فناشدها موسى بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله بالتوفيق ووجدت في نفسها هيبة إلهية من تأثير الكلام فقالت : يا كليم الله جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي وأفتري عليك (ومن ناوجود كنهكاريها وبدكرداريهاي خود ه كنه سندم كه برتو تهمت كويم) فخر موسى ساجداً تعالى يبكي ويشكو من قارون ويقول : اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت فقال موسى : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان ثم قال لقارون : يا عدو الله تبعث إليّ امرأة تريد فضيحتي على رؤوس بني إسرائيل يا أرض خذيهم فأخذتهم الأرض إلى الكعبين فأخذوا في التضرع وطلب الأمان ولم يلتفت موسى إليهم ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم إلى الأوساط ثم إلى الأعناق فلم يبق على وجه الأرض منهم شيء إلا رؤوسهم وناشده قارون الله والرحم فلم يلتفت موسى لشدة غضبه ثم قال : يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض :
آنراكه زمين كشد ون قارون
ني موسيش آورد برون ني هارون
فاسد شده را زروز كار وارون
لا يمكن أن يصلحه العطارون
قال الله تعالى : يا موسى استغاث بك فلم تغثه فوعزتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته قال : يا رب غضباً لك فعلت.
قال قتادة : خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 434
صاحب لباب (فوموده هرروز قارون بمدار قامت خود بزمين ميرود) وعند نفخ الصور بأرض سفلى (خواهد رسيد).
وفي "كشف الأسرار" : (در قصه آورده اندكه هرروز يك قامت خويش بزمين فروميشدتا آنروز كه يونس در شكم ما هي در قعر بحر بدورسيد قارون از حال موسى رسيد نانكه خويشانرا رسند) فأوحى الله تعالى إلى الأرض لا تزيدي في خسفه بحرمة أنه سأل عن ابن عمه ووصل به رحمه.
ولما خسف به قال
435
سفهاء بني إسرائيل إن موسى إنما دعا على قارون ليستقل بداره وكنوزه وأمتعته ويتصرف فيها فدعا موسى فخسف بجميع أمواله وداره.
قال الحافظ :
كنج قارون كه فرو ميرود از قهر هنوز
خوانده باشي كه هم از غيرت درويشانست
وقال :
أحوال كنج قارون كأيام داد برباد
باغنه باز كوييد تا زرنهان ندارد
وقال :
توانكرا دل درويش خود بدست آور
كه مخزون زر وكنج درم نخواهد ماند
قال بعضهم : إن قارون نسي الفضل وادعى لنفسه فضلاً فخسف الله به الأرض ظاهراً وكم خسف بالأسرار وصاحبها لا يشعر بذلك وخسف الأسرار هو منع العصمة والرد على الحول والقوة وإطلاق اللسان بالدعاوي الفرضية والعمى عن رؤية الفضل والقعود عن القيام بالشكر على ما أولى وأعطى وحينئذ يكون وقت الزوال.
وخرج قارون على قومه بالزينة.
فهلك وهكذا حال من يخرج على أولياء الله بالدعاوي الباطلة والكبر والرياسة لا محالة يسقطون من عيونهم وقلوبهم بعد سقوطهم من نظر الحق وتنخسف أنوار إيمانهم في قلوبهم فلا يرى آثارها بعد ذلك نعوذ بالله سبحانه.
{فَمَا كَانَ لَهُ} أي : لقارون {مِن فِئَةٍ} جماعة.
قال الراغب : الفئة الجماعة المتظاهرة التي يرجع بعضهم إلى بعض في التعاضد انتهى من فاء ، أي رجع.
{يَنصُرُونَهُ} بدفع العذاب عنه وهو الخسف.
{مِن دُونِ اللَّهِ} أي : حال كونهم متجاوزين نصرة الله تعالى {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ} أي من الممتنعين عنه بوجه من الوجوه يقال نصره من عدوه فانتصر أي منعه فامتنع.
جزء : 6 رقم الصفحة : 434
(6/316)
{وَأَصْبَحَ} أي : صار {الَّذِينَ تَمَنَّوْا} التمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها وأكثره تصور ما لا حقيقة له والأمنية الصورة الحاصلة في النفس من تمنى الشيء.
{مَكَانَهُ} أي : منزلته وجاهه {بِالامْسِ} أي : بالوقت القريب منه فإنه يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك ولكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة.
{يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه وَيَقْدِرُ} أي : يضيق يقال : قدر على عياله بالتخفيف مثل قتر ضيق عليهم بالنفقة أي يفعل كل واحد من البسط والقدر أي التضييق بمحض مشيئته وحكمته لا لكرامة توجب البسط ولا لهوان يوجب القبض.
وويكأن عند البصريين مركب من وي للتعجب (نانست كه كسى از روى ترحم وتعجب باديكري كويد "وي لم فعلت ذلك" وي اين يست كه توكردي) كما قال الراغب : وي كلمة تذكر للتحسر والتندم والتعجب تقول : وي لعبد الله انتهى وكأن للتشبيه.
والمعنى ما أشبه الأمر إن الله يبسط إلخ وعند الكوفين من ويك بمعنى ويلك وإن واعلم مضمر وتقديره ويك اعلم أن الله إلخ.
وبالفارسية (واي برتوبداي خداي تعالى الخ) وإنما استعمل عند التنبيه على الخطأ والتندم.
والمعنى أنهم قد تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وتندموا على ذلك.
{لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ} أنعم {عَلَيْنَا} فلم يعطنا ما تمنينا.
وبالفارسية (اكر آن نبودي كه خداي تعالى منت نهادي برما وندادبما آنه تمناي ما بودازدنيا) {لَخَسَفَ بِنَا} (مارا بزمين فروبرديد) كما خسف به لتوليد الاستغناء فينا مثل ما ولده فيه من الكبر والبغي ونحوهما من أسباب العذاب والهلاك {وَيْكَأَنَّه لا يُفْلِحُ الْكَـافِرُونَ} لنعمة الله أي لا ينجون من عذابه
436
أو المكذبون برسله وبما وعدوا به من ثواب الآخرة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 436
قال في "كشف الأسرار" : حب الدنيا حمل قارون على جمعها وجمعها حمله على البغي عليهم وصارت كثرة ماله سبب هلاكه وفي الخبر : "حب الدنيا رأس كل خطيئة" (دوستي دنيا سر همه كناهها هست ومايه هر فتنه وبيخ هرفستاد.
وهركه ازخداي بازماند بمهر ودوستي دنيا بازماند دنيا لي كذشتني وبساطي در نوشتني ومرتع لافكاه مدعيان ومجمع باركاه بي خطران سرمايه بي دولتان ومصبه بدبختان معشوقه ناكسان وقبله خسيسان دوست بي وفا ودايه بي مهر جمالي بانقاب دارد ورفتاري ناصواب وون تودوست زير خاك صدهزاران هزار دارد برطارم طرازي نشسته واز شبكه بيرون مي نكرد وباتو ميكويد من ون توهزار عاشق از غم كسستم نالود بخون هيكس انكشتم مصطى عليه السلام كفت) "ما من أحد يصيب في الدنيا إلا وهو بمنزلة الضيف وماله في يده عارية فالضيف منطلق والعارية مردودة" وفي رواية أخرى "إن مثلكم في الدنيا كمثل الضيف وإن ما في أيديكم عارية" (ميكويد مثل شمادرين دنياي غدار مثل مهماني است كه بمهمان خانه فرو آيدهر آينه مهمان رفتني بود نه بودني هم نومرد كارواني كه بمنزل فرو آيد لا بد از آنجارخت بردارد درتمنا كندكه آنجابيستد سخت نادان وبي سامان بودكه آن نه بمقصود رسد ونه بخانه باز آيد جهد آن كن اي جوانمردكه ل بلوى بسلامت باز كداري وآنرا دار القرار خود نساني ودل دروبندي تا برتو شيطان ظفر نيابد صد شير كرسنه دركله كوسفند ندان زيان بكندكه شيطان باتوكند) {إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (فاطر : 6) وصد شيطان آن نكندكه نفس أمارة باتوكند "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك" (يكي تأمل كن دركار قارون بدبخت نفس وشيطان هردودست درهم دادند تا اورا زدين بر آوردند ازانكه آبش از سر شمه خود تاريك بود بكند اورا باعمل عاريتي دادند لؤلؤ شاهوار همي نمود ون حكم ازلي وسابقه أصلي در رسيد خود شبه قير رنك بود زبان حالش همي كويد).
من ندارم كه هستم اندر كاري
اي برسر ندار ون من بسياري
اكنون كه نماند باقوم بازاري
در يده نداشت زدم مسماري
واعلم أن تمني الدنيا مذموم إلا ما كان لغرض صحيح وهو صرفها إلى وجوه البر كالصدقة ونحوها.
وعن كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه.
فأما التي أقسم عليهن فإنه ما نقص مال عبد من صدقة ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله به عزاً ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله باب فقر.
وأما الذي أحدثكم فاحفظوه" فقال : "إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله علماً ومالاً فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعمل فيه بحقه فهذا بأفضل المنازل وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالاً لعملت
437
بعمل فلان فهو بنيته وأجرهما سواء وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعمل فيه بحقه وعبد لم يرزقه الله علماً ولا مالاً فهو يقول : لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته ووزرهما سواء" كما في "المصابيح".
(6/317)
جزء : 6 رقم الصفحة : 436
{تِلْكَ الدَّارُ الاخِرَةُ} إشارة تعظيم كأنه قيل : تلك الجنة التي سمعت خبرها وبلغك وصفها والدار صفة والخبر قوله : {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الأرْضِ} أي ارتفاعاً وغلبة وتسلطاً كما أراد فرعون حيث قال تعالى في أول السورة : {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرْضِ} (يونس : 83) {وَلا فَسَادًا} أي ظلماً وعدواناً على الناس كما أراد قارون حيث قال تعالى في حقه على لسان الناصح.
{وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ} (القصص : 77) وفي تعليق الوعد بترك إرادتهما لا بترك أنفسهما مزيد تحذير منهما.
{وَالْعَـاقِبَةُ} الحميدة.
وبالفارسية (سر انجام نيكو) {لِلْمُتَّقِينَ} أي : للذين يتقون العلو والفساد وما لا يرضاه الله من الأقوال والأفعال.
وعن علي رضي الله عنه أن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها يعني أن من تكبر بلباس يعجبه فهو ممن يريد علواً في الأرض.
وعن علي رضي الله عنه أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو والٍ يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ : {تِلْكَ الدَّارُ} إلخ ويقول : نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل المقدرة من سائر الناس.
وعن عمر بن عبد العزيز كان يردد هذه الآية حتى قبض وكان عليه السلام يحلب الشاة ويركب الحمار ويجيب دعوة المملوك ويجالس الفقراء والمساكين.
قال بعض الكبار : احذر أن تريد في الأرض علواً أو فساداً والزم الذل والانكسار والخمول فإن أعلى الله كلمتك فما أعلاها إلا الحق وذلك أن يرزقك الرفعة في قلوب الخلق وإيضاح ذلك أن الله ما أنشأك إلا من الأرض فلا ينبغي لك أن تعلو على أمك واحذر أن تتزهد أو تتعبد أو تتكرم وفي نفسك استجلاب ذلك لكونه يرفعك على أقرانك فإن ذلك من إرادة العلو في الأرض وما استكبر مخلوق على آخر إلا لحجابه عن معية مع الحق ذلك المخلوق الآخر ولو شهدها لذلك وخضع.
قال في "كشف الأسرار" : (فردا درساري عزت ساكنان مقعد صدق ومقربان حضرت جبروت قومي باشندكه در دنيا برتري ومهتري نجويند وخودرا ازهمه كس كهتر وكمثردانند وشم سند هركز درخود ننكرد نانكه آن جوانمرد طريقت كفت كه از موقف عرفات بازكشته بود أورا كفتند) كيف رأيت أهل الموقف قال : رأيت قوماً لولا أني كنت فيهم لرجوت أن يغفر الله لهم.
قال الشيخ سعدي :
جزء : 6 رقم الصفحة : 436
بزركي كه خودرا ز خرادن شمرد
بدنيي وعقبى زركي ببرد
تو آنكه شوي يش مردم عزيز
كه مر خويشتن را نكيري بيز
(يكي اتز بزركان دين إبليس را يديد كفت مارا ندي ده كفت مكو من تانشوي ون من شيخ حيف كفت مني بيفكندن درشريعت زندقه است ومنى اثبات كردن درحقيقت شرك است جون در مقام شريعت باشي همي كوي كه اوخود همه از وشريعت تعاليست وحقيقت أحوال أقوام أفعال بتو ونظام أحوال با و).
قال بعضهم : العلو النظر إلى النفس والفساد النظر إلى الدنيا والدنيا خمر إبليس من شرب منها شربة لا يفيق إلا يوم القيامة ويقال : العلو الخطرات في القلب والفساد في الأعضاء فمن كان في قلبه حب الرياسة والجاه وحظوظ النفس
438
وفي أعماله الرياء والسمعة فهو لا يصل إلى مقام القرب وكذا من كان في قلبه سوء العقيدة وفي جوارحه عبادة غير الله والدعوة إليها وأخذ الأموال وكسر الأعراض واستحلال المعاصي فهو لا يصل إلى الجنة أيضاً وهو قرين الشيطان والشياطين في النار مع قرنائهم.
واعلم أن العلو في أرض البشرية علو الفراعنة والجبابرة والأكاسرة والعلو في أرض الروحانية علو الأبالسة وبعض الأرواح الملكية مثل هاروت وماروت وكلاهما مذموم وكذا الفساد النظر إلى غير الله فالله تعالى لا يجعل مملكة عالم الغيب والملكوت إلا في تصرف من خلص من طلب العلو والنظر إلى الغير بنظر المحبة وسلم التصرف كله إلى المالك الحقيقي وخرج من البين.
هره خواخي بكن كه ملك تراست
جعلنا الله وإياكم من الآخذين بذيل حقيقة التقوى وعصمنا من الاعتراض والانقباض والدعوى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 436
{مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ} (هركجا بيارد خصلت نيكو در روز قيامت) {فَلَهُ} بمقابلتها {خَيْرٌ مِّنْهَا} ذاتاً ووصفاً وقدراً أما الخيرية ذاتاً فظاهرة في أجزية الأعمال البدنية لأنها أعراض وأجزيتها جواهر وكذا في المالية إذ لا مناسبة بين زخارف الدنيا ونفائس الآخرة في الحقيقة وأما وصفاً فلأنها أبقى وأنقى من الآلام والأكدار وأما قدراً فللمقابلة بعشر أمثالها لا أقل يعني أنه يجازي بالحسنة الواحدة عشراً فيكون الواحد ثواباً مستحقاً والتسعة تفضلاً وجوداً والتسعة خير من الواحد من ذلك الجنس.
(6/318)
وقال بعضهم : الحسنة المعرفة وما هو خير منها هو الرؤية.
أو الإعراض عما سوى الله وما هو خير منه هو مواهب الحق تعالى لأن الإعراض مضاف إلى الفاني ومتعلق بالمخلوق والمواهب مضافة إلى الباقي ومتعلقة بالقديم.
{وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ} كالشرك والرياء والجهل ونحوها {فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} وضع فيه الظاهر موضع الضمير لتهجين حالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم وفائدة هذه الصورة انزجار العقلاء عن ارتكاب السيئات.
هره در شرع وعقل بد باشد
نكند هركه باخرد باشد
{إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المثل وأقيم مقامه ما كانوا يعملون مبالغة في المماثلة أخبر تعالى أن السيئة لا يضاعف جزاؤها فضلاً منه ورحمة ولكن يجزي عليها عدلاً فليجتنب العبد عما نهت عنه الفتوى والتقوى إذ لكل نوع من السيئة نوع من الجزاء عاجلاً وآجلاً.
وفي "المثنوي" :
هره برتو آيد از ظلمات وغم
آن زبى شرمى وكستايست هم
جزء : 6 رقم الصفحة : 439
حكي : عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله : أنه كان بمكة فاشترى من رجل تمراً فإذا هو بتمرتين في الأرض بين رجليه ظن أنهما من الذي اشتراه فرفعهما وأكلهما وخرج إلى بيت المقدس وفيه قبة تسمى الصخرة فدخلها وسكن فيها يوماً وكان الرسم أن يخرج منها من كان فيها لتخلو للملائكة فأخرج بعد العصر من كان فيها فانحجب إبراهيم ولم يروه فبقي الليلة فيها ودخل الملائكة فقالوا : ههنا حس آدمي وريحه قال واحد منهم : هو إبراهيم بن أدهم زاهد
439
خراسان وقال آخر : الذي يصعد منه كل يوم إلى السماء عمل متقبل قال : نعم غير أن طاعتة موقوفة منذ سنة ولم تستجب دعوته منذ سنة لمكان التمرتين عليه قال : ثم نزلت الملائكة واشتغلوا بالعبادة حتى طلع الفجر ورجع الخادم وفتح القبة وخرج إبراهيم وتوجه إلى مكة وجاء إلى باب ذلك الحانوت فإذا هو بفتى يبيع التمر فسلم عليه وقال : كان ههنا شيخ في العام الأول فأخبره أنه كان والدي فارق الدنيا فقص إبراهيم قصة التمرتين فقال الفتى : جعلتك في حل من نصيبي وأنت أعلم في نصيب أختي ووالدتي؟ قال : فأين أختك ووالدتك قال : هما في الدار فجاء إبراهيم إلى الباب وقرعه فخرجت عجوز متكئة على عصاها فسلم إبراهيم عليها وأخبرها القصة قالت : جعلتك في حل من نصيبي وكذا ابنتها فخرج إبراهيم وتوجه إلى بيت المقدس ودخل القبة فدخلت الملائكة وقالوا : هو إبراهيم وكان لا تستجاب دعوته منذ سنة غير أنه أسقط ما عليه من التمرتين فقبل الله ما كان موقوفاً من طاعته واستجاب دعوته وأعاده إلى درجته فبكى إبراهيم فرحاً وكان بعد ذلك لا يفطر إلا في كل سبعة أيام بطعام يعلم أنه حلال.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن جزاء السيئات على حسب ما يعملون من السيئات فإن كانت السيئة الشرك بالله فجزاؤه النار إلى الأبد وإن كانت المعاصي فجزاؤها العذاب بقدر المعاصي صغيرها وكبيرها وإن كانت حب الدنيا وشهواتها فجزاؤه الحرمان من نعيم الآخرة بحسبها وإن كانت طلب الجاه والرياسة والسلطنة الدنيوية فجزاؤه الذلة والصغار ونيل الدركات وإن كانت طلب نعيم الآخرة ورفعة الدرجات فجزاؤه الحرمان من الكمالات وكشف شواهد الحق تعالى وإن كانت التلذذ بفوائد العلوم واستحلاء المعاني المعقولة فجزاؤه الحرمان من كشوف العلوم والمعارف الربانية وإن كانت ببقاء الوجود فجزاؤه الحرمان من الفناء في الله والبقاء بالله بتجلي صفات الجمال والجلال انتهى كلامه قدس سره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 439
{إِنَّ الَّذِى} أي : إن الله الذي {فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ} أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل به.
{لَرَآدُّكَ} أي : بعد الموت والرد الصرف والإرجاع {إِلَى مَعَادٍ} أي : مرجع عظيم يغبطك به الأولون والآخرون وهو المقام المحمود الموعود ثواباً على إحسانك في العمل وتحمل هذه المشقات التي لا تحملها الجبال.
وقال الإمام الراغب في "المفردات" : الصحيح ما أشار به أمير المؤمنين وذكره ابن عباس رضي الله عنهما : أن ذلك الجنة التي خلقه الله تعالى فيها بالقوة في ظهر آدم وأظهره منه يقال : عاد فلان إلى كذا وإن لم يكن فيه سابقاً.
وأكثر أهل التفسير على أن المراد بالمعاد مكة تقول العرب رد فلان إلى معاده يعني إلى بلده لأنه يتصرف في الأرض ثم يعود إلى بلده والآية نزلت بالجحفة بتقديم الجيم المضمومة على الحاء الساكنة موضع بين مكة والمدينة وهو ميقات أهل الشام وعليه المولى الفناري في "تفسير الفاتحة".
والمعنى لراجعك إلى مكان هو لعظمته أهل لأن يقصد العود إليه كل من خرج منه وهو مكة المشرفة وطنك الدنيوي.
وروي : أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الغار مهاجراً إلى المدينة ومعه أبو بكر رضي الله عنه عدل عن الطريق مخافة الطلب فلما أمن رجع إلى الطريق ونزل الجحفة وكانت قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلاً من مكة وكانت تسمى مهيعة فنزلها بنو
440
(6/319)
عبيد وهم إخوة عاد وكان أخرجهم العماليق من يثرب فجاءهم سيل فأجحفهم ، أي ذهب بهم فسميت جحفة فلما نزل اشتاق إلى مكة لأنها مولده وموطنه ومولد آبائه وبها عشيرته وحرم إبراهيم عليه السلام.
مشتاب ساريان كه مرا اي دركلست
بيروت شدن زمنزل أصحاب مشكلست
ون عاقبت زصحبت ياران بريدنست
يوند باكسي نكند هركه عاقلست
وقال :
فتنها دارانجمن يداشود از شورمن
ون مرادر خاطر آيد مسكن ومأواي دوست
فنزل جبريل عليه السلام فقال له : أتشتاق إلى مكة قال : نعم.
ممكن نشد شرح دهم اشتياق را
فأوحاها أي الآية إليه وبشره بالغلبة والظهور أي لرادك إلى مكة ظاهراً من غير خوف فلا تظن أنه يسلك به سبيل أبويك إبراهيم في هجرته من حران بلد الكفر إلى الأرض المقدسة فلم يعد إليها وإسماعيل من الأرض المقدسة إلى أقدس منها فلام يعد إليها.
قال الحافظ :
جزء : 6 رقم الصفحة : 439
سروش عالم غيبم بشارتي خوش داد
كه كس هميشه بكيتي دم نخواهد ماند
قال ابن عطاء رحمه الله : إن الذي يسر عليك القرآن قادر على أن يردك إلى وطنك الذي ظهرت منه حتى تشاهد سرك على دوام أوقاتك كما قال في "تأويلات الكاشفي" : (معاد فنا في الله است دراحديت ذات وبقا بالله درمقام تحقق بجميع صفات وبرسالك متبصر انيجا سر منه بداوإلهي يعود روشن ميكرد
ون اوزبد اين وآنرا ابتدا
هم بدو بايدكه باشد انتها
نورها يي راكه كرداز حق طلوع
جمله راهم سوى أو باشدر جوع
ثم قرر الوعد السابق فقال : {قُل رَّبِّى أَعْلَمُ} يعلم {مَن جَآءَ بِالْهُدَى} وما يستحقه من الثواب في المعاد والنصرة في الدنيا {وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} يريد به المشركين.
ودلت الآية على أن الله تعالى يفتح على المهتدي ويقهر الضال ولكل عسر يسر فسوف يراه من يصبر فلا ينبغي للعاقل أن ييأس من روح الله.
روي : أن رجلاً ركب البحر فانكسرت السفينة فوقع في جزيرة فمكث ثلاثة أيام لا يرى أحداً ولم يذق شيئاً فتمثل بقوله :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي
وصار القير كاللبن الحليب
وصار البر مسكن كل حوت
وصار البحر مرتع كل ذيب
فسمع هاتفاً يهتف :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان
ويأتي أهله الرجل الغريب
قال : فما لبث ساعة إلا فرج الله عنه.
وفي تفسير الآية إشارة إلى أن حب الوطن من الإيمان وكان عليه السلام يقول كثيراً الوطن الوطن فحقق الله سؤله يقال : الإبل تحن إلى أوطانها وإن كان عهدها بعيداً والطير إلى وكره وإن كان موضعه مجدباً والإنسان إلى وطنه وإن كان غيره أكثر له
441
نفعاً وقدم أصيل الغفاري على رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أن يضرب الحجاب فقالت له عائشة رضي الله عنها : كيف تركت مكة؟ قال : اخضر نباتها ابيض بطحاؤها وأغدق إذخرها واث سملها فقال عليه السلام : "حسبك يا أصيل لا تحزني" قال عمر رضي الله عنه : لولا حب الوطن لخرب بلد السوء فبحب الأوطان عمرت البلدان.
واعلم أن الميل إلى الأوطان وإن كان لا ينقطع عن الجنان لكن يلزم للمرء أن يختار من البقاع أحسنها ديناً حتى يتعاون بالإخوان.
قيل لعيسى عليه السلام من نجالس يا روح الله قال : من يزيد في علمكم منطقه ويذكركم الله رؤيته ويرغبكم في الآخرة عمله.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 6 رقم الصفحة : 439
سعد يا حب وطن كره حديث است صحيح
نتوان مرد بسختي كه من اينجا زادم
وقال الحافظ :
ديار يار مرد مرا مقيد ميكند ورنه
ه جاي فارس كين محنت جهان بكسر نمي ازرد
والعاقل يختار الفراق عن الأحباب والأوطاق ولا يجترىء على الفراق عن الملك الديان :
لكل شيء إذا فارقته عوض
وليس إن فارقت من عوض
فاقطع الألفة عما سوى الله اختياراً قبل الانقطاع اضطراراً :
الفت ممكير همو ألف هي باكسى
تابسته الم نشوى وقت انقطاع
ذو النون مصري قدس سره : (ميكويد روزي دراثناي سفركه شهري رسيدم خواستم كه دراندرون شهر روم بردران شهر كوشكي ديدم وجوبي روان بنزيدك جوى رفتم وطهارت كردم ون شم بربام كوشك افتاد كنيزكي را ديدم ايستاده درغايت حسن وجمال ون نظر أو بمن افتاد كفت أي ذو النون من ترا ازدور ديدمنداشتم كه مجنوني وون طهارت كردي تصور كردم عالمي وون از طهارت فارغ شدي ويش آمدي نداشتم عارفي أكنون محقق شدم نه مجنوني نه عالمي ونه عارفي كفتم را كفت أكر ديوانه بودي طهارت نكردي واكر عالم بودي نظر بخانه بيكانه ونا محرم نكردي واكر عارف بودي دل تو بما سوى الله مايل نبودي)كذا في جليس الخلوة وأنيس الوحدة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 439
{وَمَا كُنتَ} يا محمد {تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَـابُ} أي يرسل وينزل كما تقول العجم خبر (بمن افكند) كما في "كشف الأسرار" والمعنى سيردّك أي معادك كما ألقى إليك القرآن وما كنت ترجوه فهو تقرير للوعد السابق أيضاً {إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} ولكن ألقاه إليك رحمة منه فاعمل به فالاستثناء منقطع.
(6/320)
وفي "التأويلات النجمية" : {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} القرآن إلقاء الإكسير على النحاس لتعديل جوهر نحاس أنانيتك بإبرز هويته ما كان ذلك {إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} اختصك بهذه الرحمة عن جميع الأنبياء لأن كتبهم أنزلت في الألواح والصحف على صورتهم وكتابك نزل به الروح الأمين على قلبك إلقاء كإلقاء الإكسير {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا} (شت ويار) {لِّلْكَافِرِينَ} على ما كانوا عليه بل كن ظهيراً ومعيناً للمؤمنين.
{وَلا يَصُدُّنَّكَ} أي لا يصرفنك ويمنعنك الكافرون {عَنْ ءَايَاتِ اللَّهِ} أي عن قراءتها والعمل بها {بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ} تلك الآيات القرآنية {إِلَيْكَ} وقرئت عليك وذلك حين دعوه عليه السلام
442
إلى دين آبائهم وتعظيم أوثانهم والموافقة إلى أباطيلهم.
{وَادْعُ} الناس {إِلَى رَبِّكَ} إلى عبادته وتوحيده {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بمساعدتهم في الأمور.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في الدعوة بأن تدعو طلاب الحق وعشاقه إلى الجنة والنعيم فادعهم إلى ربهم خالصاً عن شرك الجنة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 442
وفي "فتح الرحمن" وجميع الآية يتضمن المهادنة والموادعة وهذا كله منسوخ بآية السيف انتهى.
{وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءَاخَرَ} : قال الكاشفي : (مخاطب درين آإيتات حضرت يغمبراست ومرادامت اند وفائده خاب بآن حضرت قطع طمع مشركانست از موافقت وي با يشان) وفيه إظهار أن المنهي عنه في القبح بحيث ينهي عنه من لا يمكن صدوره عنه أصلاً.
{لا إله إِلا هُوَ} وحده.
{كُلِّ شَىْءٍ} من الإنسان والحيوان والجن والشيطان والملك والحور عين والجنة والنار والعرش والكرسي ونحوها.
{هَالِكٌ} الهلاك هنا بطلان الشيء من العالم وعدمه رأساً أي فانٍ وباطل ومعدوم ولو لحظة.
{إِلا وَجْهَهُ} إلا ذاته تعالى فإنه واجب الوجود وكل ما عداه ممكن في حد ذاته عرضة للهلاك والعدم والوجه يعبر به عن الذات.
وقال أبو العالية : كل شيء فانٍ إلا ما أريد به وجهه من الأعمال وفي الأثر : "يجاء بالدنيا يوم القيامة فيقال : ميزوا ما كان منها فيميز ما كان منها ثم يؤمر بسائرها فيلقى في النار".
وقال بعض أكابر العارفين : الضمير راجع إلى الشيء والمعنى كل شيء فانٍ في حد ذاته إلا وجهه الذي يلي جهته تعالى وذلك لأن الممكن له وجود ماهية عارضة على وجوده فماهيته أمر اعتباري معدوم في الخارج لا يقبل الوجود فيه من حيث هو هو ووجوده موجود لا يقبل العدم من حيث هو هو كما قال بعضهم : الأعيان من حيث تعيناتها العدمية وهي الإمكان والحدوث راجعة إلى العدم وإن كانت باعتبار الحقيقة والتعينات الوجودية عين الوجود فإذا قرع سمعك من كلام العارفين أن عين المخلوق عدم والوجود كله فتلق بالقبول فإنه يقول ذلك من هذه الجهة قال المغربي :
غير تونيست أماهستي همي نمايد
ون يش شم تشنه درباديه سرابي
وقال المولى الجامي :
شهود ياردر اغيار مشرب جاميست
كدام غيركه لا شيء في الوجود سواه
{لَهُ الْحُكْمُ} أي : القضاء النافذ في الخلق {وَإِلَيْهِ} لا إلى غيره تعالى {تُرْجَعُونَ} تردون عند البعث للجزاء بالحق والعدل فمن كان رجوعه بالاضطرار وجد الجبار القهار فوفاه حسابه ومن كان رجوعه بالاختيار وجد العفو الغفار فأفرغ عليه ثوابه وذلك بالفناء قبل الفناء بإزالة حجاب التعين وإذابة أنانيات الوجود.
جزء : 6 رقم الصفحة : 442
قال الشيخ سعدي :
اي برادر و عاقبتخاكست
خاك شويش ازانكه خاك شوى
(در شرح عوارف مذكور است كه نكفت نهلك امعلوم شودكه وجود همه اشيادر وجود أو امروز هالك است وحواله مشاهده اين حال بفردا درحق محجوبانست) {إِنَّهُمْ يَرَوْنَه بَعِيدًا * وَنَرَااهُ قَرِيبًا} (المعارج : 5 ، 6) :
باوجودتو زمن راست نيايدكه منم
قال الشيخ أبو الحسن البكري قدس سره : استغفر الله مما سوى الله أي لأن الباطل يستغفر من إثبات
443
وجوده لذاته والعارف لا ينظر إلى الوجود الموهوم فيفنيه بحقائق التوحيد ويتحقق بسر الوحدة الذاتية والهوية الإلهية.
قال في "كشف الأسرار" : (هو يك حرفست فرد إشارت فرا خداوند فردنه مست ونه فت أما إشارتست فراخداوندي كه اورا نامست وصفت وآن يك حرف هاست واوقرار كاه نفس است نه بيني كه ون تثنيه كني هما كويي نه هو ما تابداني كه آن خوديك حرفست تنها دليل برخداوند يكتا همه أسامى وصفات كه كويي از سرزبان كويي مكر هوكه آن ازميان جان برآيد از صميم سينه وقعر دل رود زبان ولب را باوي كاري نيست مردان راه دين وخداوندان عين اليقين كه دلهاء صافي دارند وهمتهاء عالي وسينهاء خالي ون از قعر سينه نبود خود حقيقت هويت بروي مكشوف إيشان اين كلمه سربرزند مقصودومفهوم ايشان جز حق جل جلاله نبود تانين جوانمردي نكدد آن هزيزي كه درراهي ميرفت درويشي يش وي باز آمد وكفت از كجا مي آيي كفت هو كفت كجاميروي كفت هو كفت مقصودت يست كفت هو از هره سؤال ميكردي مي كفت هو اين نانست كه كفته اند).
از بس كه دويده درخيالت دارم
درهره نكه كنم تويي ندارم
فلا معبود إلا هو كما للعابدين ولا مقصود إلا هو كما للعاشقين ولا موجود إلا هو كما للمكاشفين الواجدين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 442(6/321)
سورة العنكبوت
سبع وستون آية مكية
جزء : 6 رقم الصفحة : 443
{الم} قال الكاشفي : (حروف مقطعة جهت تعجيز خلق است تادانندكه كسى را بحقائق اين كتاب راه نيست وعقل هي كامل از كنه معرفت اين كلام آكاه ني.
خرد عاجز وفهم دروي كم است
در حروف أول اينسورة كفته اند ألف اشارتست باسمالله ولام بلطيفوميمبمجيد ميفرمايدكه الله منم روى بطاعت من آر لطيف منم إخلاص در عبادت فرومكدار مجيد منم بزركي ديكران مسلم مدار).
يقول الفقير : من لطفه الابتلاء لأنه لتخليص الجوهر من الكدورات الكونية وتصفية الباطن من العلائق الإمكانية.
ومن مجده وعظمته خضع له كل شيء فلا يقدر أن يخرج عن دائرة التسخير ويمتنع عن قبول الابتلاء.
وفي الألف إشارة أخرى وهي استغناؤه عن كل شيء واحتياج كل شيء إليه كاستغناء الألف عن الاتصال بالحروف واحتياج الحروف إلى الاتصال به.
{أَحَسِبَ النَّاسُ} الحسبان بالكسر الظن كما في "القاموس".
وقال في "المفردات" : الحسبان هو أن يحكم لأحد النقيضين أحدهما على الآخر.
نزلت في قوم من المؤمنين كانوا بمكة وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام فكانت صدورهم تضيق لذلك ويجزعون فتداركهم الله بالتسلية بهذه الآية.
قال ابن عطية : وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب في هذه الجماعة فهي في معناها باقية في أمة محمد موجود حكمها بقية الدهر
444
والمعنى بالفارسية : (آيا نداشتند مردمان يعني اين ظن منكر ومستبعداست) {أَن يُتْرَكُوا} أي يهملوا سادّ مسدّ مفعولي حسب لاشتماله على مسند ومسند إليه {إِنَّ} أي لأن {يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ} أي والحال أنهم {لا يُفْتَنُونَ} لا يمتحنون في دعواهم بما يظهرها ويثبتها أي أظنوا أنفسهم متروكين بلا فتنة وامتحان بمجرد أن يقولوا آمنا بالله يعني أن الله يمتحنهم بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والراسخ في الدين من المضطرب فيه ولينالوا بالصبر عليه عوالي الدرجات فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.
عاشقانرا درد دل بسيارمي بايدكشيد
جوريان وطعنه أغيار مي بايدكشيد
جزء : 6 رقم الصفحة : 444
وفي "التأويلات النجمية" : {أَحَسِبَ النَّاسُ} يعني : الناسين من أهل الغفلة والبطالة {أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا} بالتقليد والجهالة بمجرد الدعوى دون المطالبة بالبلوى.
{وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} بأنواع البلاء لتخليص إبريز الولاء فإن البلاء للولاء كاللهب للذهب وإن المحبة والمحنة توءمان فلا مميز بينهما إلا نقطة الباء وبه يشير إلى أن أهل المحبة إذا أوقعوا أنفسهم كنقة الباء تحتها تواضعاً رفعهم الله كالنقطة فوق النون ومن تكبر وطلب الرفعة والعلو في الدنيا كالنقطة فوق النون وضعه الله بالذلة كالنقطة تحت الباء.
وقيل : عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان فمن زاد قدر معناه زاد قدر بلواه كما قال عليه السلام : "يبتلى الرجل على حسب دينه" وقال : "البلاء موكل بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل" فالعافية لمن لا يعرف قدرها كالداء والبلاء لمن يعرف قدره كالدواء فالبلاء على النفوس لإخراجها من أوطان الكسل وتصريفها في أحسن العمل والبلاء على القلوب لتصفيتها من شين الرين لقبول نقوش الغيوب والبلاء على الأرواح لتجردها بالبوائق عن العلائق والبلاء على الأسرار في اعتكافها في شاهد الكشف بالصبر على آثار التجلي إلى أن يصير مستهلكاً فيه باقياً به وإن أشد الفتن حفظ وجود التوحيد لئلا يجري عليه مكر في أوقات غلبات شواهد الحق فيظن أنه هو الحق ولا يدري أنه من الحق ولا يقال أنه الحق وعزيز من يهتدي إلى ذلك انتهى.(6/322)
قال ابن عطاء : ظن الخلق أنهم يتركون مع دعاوي المحبة ولا يطالبون بحقائقها وحقائق المحبة هي صب البلاء على المحب وتلذذه بالبلاء فبلاء يلحق جسده وبلاء يلحق قلبه وبلاء يلحق سره وبلاء يلحق روحه وبلاء النفس في الظاهر الأمراض والمحن وفي الحقيقة منعها عن القيام بخدمة القوي العزيز بعد مخاطبته إياها بقوله : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وبلاء القلب تراكم الشوق ومراعاة ما يرد عليه في الوقت بعد الوقت من ربه والمحافظة على أقواله مع الحرمة والهيبة وبلاء السر هو المقام مع من لا مقام للخلق معه والرجوع إلى من لا وصول للخلق إليه وبلاء الروح الحصول في القبضة والابتلاء بالمشاهدة وهذا ما لا طاقة لأحد فيه.
وفي "البستان" في حق العشق :
دمادم شراب ألم دركشند
وكر تلخ بينند دم دركشند
جزء : 6 رقم الصفحة : 444
بلاي خماراست در عيش مل
سلحدار خارست باشاه كل
445
نه تلخست صبري كه برياداوست
كه تلخى شكر باشد از دست دوست
اسيرش نخواهد رهايي زبند
شكارش نجويد خلاص ازكمند
{وَلَقَدْ فَتَنَّا} (وبدرستي كه ما امتحان كرديم ودر فتنه انداختيم).
{الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي : من قبل الناس وهم هذه الأمة ومن قبلهم هم الأنبياء وأممهم الصالحون يعني أن ذلك سنة قديمة إلهية مبنية على الحكم والمصالح جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافها وقد أصابهم من ضروب الفتن والمحن ما هو أشد مما أصاب هؤلاء فصبروا كما يعرب عنه قوله تعالى : {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَـاتَلَ مَعَه رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} (آل عمران : 146) يعني : (أين صورت درهمه أمم واقع بود ونقد دعوى هريك را برمحك بلا آزموده اند).
وفي الحديث : "كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فينفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظم ولحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه" {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـاذِبِينَ} معنى علمه تعالى وهو عالم بذلك فيما لم يزل أن يعلمه موجوداً عند وجوده كما علمه قبل وجوده أنه يوجد.
والمعنى فوالله ليتعلقن علمه تعالى بالامتحان تعلقاً حالياً يتميز به الذين صدقوا في الإيمان بالله والذين هم كاذبون فيه مستمرون على الكذب ويرتب عليه أجزيتهم من الثواب والعقاب ولذلك قيل : المعنى ليميزن أو ليجازين يعني أن بعضهم فسر العلم بالتمييز والمجازاة على طريق إطلاق السبب وإرادة المسبب فإن المراد بالعلم تعلقه الحالي الذي هو سبب لهما.
قال ابن عطاء : تبين صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء فمن شكر في أيام الرخاء وصبر في أيام البلاء فهو من الصادقين ومن بطر في أيام الرخاء وجزع في أيام البلاء فهو من الكاذبين.
در محبت هركه أو دعوى كند
صدهزاران امتحان بروى زنند
كربود صادق كد بارجفا
وبور كاذب كريزد از بلا
قيل :
آن بود دل كه وقت بياي
اندر وجز خدا نيابي هي
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن صدق الصادقين وكذب الكاذبين الذي عجن في تخمير طينتهم لا يظهر إلا إذا طرح في نار البلاء فإذا طرح فيها تصاعدت منها روائح الصبر وفوائح الشكر عن عود جوهر الصادقين أو بضده يصعد من الضجر وكفران النعمة وشق جوهر الكاذبين وأنهم في البلاء على ضروب منهم من يصبر في حال البلاء ويشكر في حال النعماء وهذه صفة الصادقين ومنهم من ضجر ولا يصبر في البلاء ولا يشكر في النعماء فهو من الكاذبين ومنهم من يؤثر في حال الرخاء ولا يستمتع بالعطاء ويستروح إلى البلاء فيستعذب مقاساة الضر والعناء وهذا أحد الكبراء انتهى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 444
واعلم أن البلاء كالملح يصلح وجود الإنسان بإذن الله تعالى كما أن الملح يصلح الطعام وإذا أحب الله عبداً جعله للبلاء غرضاً أي هدفاً وكل محنة مقدمة لراحة ولكل شدة نتيجة شريفة (آورده اندكه أمير نصر أحمد ساماني را معلمي بودكه در أيام كودكي أورا بسيار رنجانيدي وأمير نصر باخود عهد كرده بودكه ون بزرك شود
446
وبادشاهي رسد ازو انتقام خواهد ون بزرك شد وبادشاهي رسيد روزي در اثناي فكر آن معلم را ياد آورد وخادمي راكفت برو أورا حاضر كردان واز باغ وبى ندان باخودباير خادم برفت وبإحضار أو فرمان برد ومعلم را دريافت وتاهر دوروانه شدند حاضر در راه وب بود ببرداشت أو تحريك داد وروى بمعلم نهاد وكفت جايخود ون بيني معلم دست در آستين كرد وبهي بيرون آورد وكفت عمر أمير درازباد اين ميوه باين لطيفي وآبداري ازان وبست وندين أخلاق حميدة واستعداد ادشاهي كه حاصل فرموده است ازخوردن آن وب بوده است باقي فرمان أمير راست أمير نصر را اين سخن خوش آمد وتشريف ونواخت بسيار ارزاني فرمود).
جزء : 6 رقم الصفحة : 444
(6/323)
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أي : الكفر والمعاصي فإن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح.
{أَن يَسْبِقُونَا} أصل السبق التقدم في السير ثم تجور به في غيره من التقدم أي يفوتونا ويعجزونا فلا نقدر على مجازاتهم على مساويهم وهو سادّ مسدّ مفعولي حسب لاشتماله على مسند ومسند إليه وأم منقطعة بمعنى بل والهمزة وبل ليس لإبطال السابق لأن إنكار الحسبان الأول ليس بباطل بل للانتقال من التوبيخ بإنكار حسبانهم متروكين غير مفتونين إلى التوبيخ بإنكار ما هو أبطل من الحسبان الأول وهو حسبانهم أن يجاوزوا بسيئاتهم وهم وإن لم يحسبوا أنهم يفوتونه تعالى ولم يحدثوا نفوسهم بذلك لكنهم حيث أصروا على المعاصي ولم يتفكروا في العاقبة نزلوا منزلة من يحسب ذلك كما في قوله تعالى : {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَه أَخْلَدَهُ} (الهمزة : 3) {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي : بئس الحكم الذي يحكمونه حكمهم ذلك فحذف المخصوص بالذم.
قال الكاشفي : (درفتوحات مذكوراست كه آيامي ندارند كنهكاران ماكه به سيآت خود بر مغفرت وشمول رحمت من سبقت كيرند اين حكم ناسنديده است زيراكه رحمت من سبقت كرفته است برذنوب ايشان كه موجب غضب باشد).
كركناه تو از عدد يش است
سقت رحمتم ازان يش است
{مِنْ} (هركه) {كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللَّهِ} الرجاء ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة وتفسيره بالخوف لأن الرجاء والخوف متلازمان ولقاء الله عبارة عن القيامة وعن المصير إليه والمعنى يتوقع ملاقاة جزائه ثواباً أو عقاباً فليستعد لأجل الله باختياره من الأعمال ما يؤدي إلى حسن الثواب واجتنابه عما يسوقه إلى سوء العذاب.
{فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ} الأجل عبارة عن غاية زمان ممتد عينت لأمر من الأمور وقد يطلق على كل ذلك الزمان والأول هو الأشهر في الاستعمال أي فإن الوقت الذي عينه تعالى لذلك.
{لاتٍ} لا محالة وكائن البتة لأن أجزاء الزمان على الانقضاء والانصرام دائماً فلا بد من إتيان الوقت المعين وإتيانه موجب لإتيان اللقاء والجزاء.
{وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوال العباد {الْعَلِيمُ} بأحوالهم من الأعمال الظاهرة والباطنة فلا يفوته شيء ما فبادروا العمل قبل الفوت.
جزء : 6 رقم الصفحة : 447
وفي "التأويلات النجمية" : من أمّل الثواب يفرّ من أعمال تورث العذاب ويعانق المجاهدات فإنها تورث المشاهدات من مضي عمره في رجاء لقائنا فسوف نبيح النظر إلى جمالنا.
447
عظمت همة عين
طمعت في أن تراكا
أو ما يكفي لعين
أن ترى من قد رآكا
{وَهُوَ السَّمِيعُ} لأنين المشتاقين {الْعَلِيمُ} بحنين الوامقين الصادقين.
{وَمَنْ} (ورهكه) {جَـاهَدَ} نفسه بالصبر على طاعة الله وجاهد الكفار بالسيف وجاهد الشيطان بدفع وساوسه.
والمجاهدة استفراغ الجهد بالضم أي الطاقة في مدافعة العدو {فَإِنَّمَا يُجَـاهِدُ لِنَفْسِهِ} لأن منفعتها عائدة إليها {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ} فلا حاجة به إلى طاعتهم ومجاهدتهم وإنما أمرهم بها رحمة عليهم لينالوا الثواب الجزيل كما قال : "خلقت الخلق ليربحوا عليّ لا لأربح عليهم" فالعاملون هم الفقراء إلى الله والمحتاجون إليه في الدارين وهو مستغن عنهم.
بري ذاتش از تهمت ضد وجنس
غني ملكش از طاعت جن وأنس
مر أورا سزد كبريا ومني
كه ملكش قد يمست وذاتش غني
نه مستغني از طاعتش ت كس
نه بر حرف أو جاي انكشت كس
قال أبو العباس المشتهر بزروق في "شرح الأسماء الحسنى" : الغني هو الذي لا يحتاج إلى شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله إذ لا يلحقه نقض ولا يعتريه عارض ومن عرف أنه الغني استغنى به عن كل شيء ورجع إليه بكل شيء وكان له بالافتقار في كل شيء وللتقرب بهذا الاسم تعلق بإظهار الفاقة والفقر إليه أبداً.
قيل لأبي حفص : بماذا يلقى الفقير مولاه؟ فقال : فهل يلقى الغني إلا بالفقر قلت : يلقاه بفقره حتى من فقره وإلا فهو مستعد بفقره ولذلك قال ابن مشيش رحمه الله للشيخ أبي الحسن : لئن لقيته بفقرك لتلقينه بالاسم الأعظم وبتمام فقره له يصح غناه عن غيره فيكون متخلقاً بالغنى.
وخاصية هذا الاسم وجود العافية في كل شيء فمن ذكره على مرض أو بلاء أذهبه الله عنه وفيه سر للغني ومعنى الاسم الأعظم لمن استأهل به انتهى.
وفي "الأحياء" يستحب أن يقول بعد صلاة الجمعة : "اللهم يا غني يا حميد يا مبدىء يا معيد يا رحيم يا ودود أغنني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك" فيقال : من داوم على هذا الدعاء أغناه الله تعالى عن خلقه ورزقه من حيث لا يحتسب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 447
وفي "التأويلات النجمية" : من أمّل الثواب يفرّ من أعمال تورث العذاب ويعانق المجاهدات فإنها تورث المشاهدات من مضي عمره في رجاء لقائنا فسوف نبيح النظر إلى جمالنا.
447
عظمت همة عين
طمعت في أن تراكا
أو ما يكفي لعين
أن ترى من قد رآكا
{وَهُوَ السَّمِيعُ} لأنين المشتاقين {الْعَلِيمُ} بحنين الوامقين الصادقين.
(6/324)
{وَمَنْ} (ورهكه) {جَـاهَدَ} نفسه بالصبر على طاعة الله وجاهد الكفار بالسيف وجاهد الشيطان بدفع وساوسه.
والمجاهدة استفراغ الجهد بالضم أي الطاقة في مدافعة العدو {فَإِنَّمَا يُجَـاهِدُ لِنَفْسِهِ} لأن منفعتها عائدة إليها {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ} فلا حاجة به إلى طاعتهم ومجاهدتهم وإنما أمرهم بها رحمة عليهم لينالوا الثواب الجزيل كما قال : "خلقت الخلق ليربحوا عليّ لا لأربح عليهم" فالعاملون هم الفقراء إلى الله والمحتاجون إليه في الدارين وهو مستغن عنهم.
بري ذاتش از تهمت ضد وجنس
غني ملكش از طاعت جن وأنس
مر أورا سزد كبريا ومني
كه ملكش قد يمست وذاتش غني
نه مستغني از طاعتش ت كس
نه بر حرف أو جاي انكشت كس
قال أبو العباس المشتهر بزروق في "شرح الأسماء الحسنى" : الغني هو الذي لا يحتاج إلى شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله إذ لا يلحقه نقض ولا يعتريه عارض ومن عرف أنه الغني استغنى به عن كل شيء ورجع إليه بكل شيء وكان له بالافتقار في كل شيء وللتقرب بهذا الاسم تعلق بإظهار الفاقة والفقر إليه أبداً.
قيل لأبي حفص : بماذا يلقى الفقير مولاه؟ فقال : فهل يلقى الغني إلا بالفقر قلت : يلقاه بفقره حتى من فقره وإلا فهو مستعد بفقره ولذلك قال ابن مشيش رحمه الله للشيخ أبي الحسن : لئن لقيته بفقرك لتلقينه بالاسم الأعظم وبتمام فقره له يصح غناه عن غيره فيكون متخلقاً بالغنى.
وخاصية هذا الاسم وجود العافية في كل شيء فمن ذكره على مرض أو بلاء أذهبه الله عنه وفيه سر للغني ومعنى الاسم الأعظم لمن استأهل به انتهى.
وفي "الأحياء" يستحب أن يقول بعد صلاة الجمعة : "اللهم يا غني يا حميد يا مبدىء يا معيد يا رحيم يا ودود أغنني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك" فيقال : من داوم على هذا الدعاء أغناه الله تعالى عن خلقه ورزقه من حيث لا يحتسب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 447
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَنُكَفِّرَنَّ} (هر آينه محو كنيم) {عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ} الكفر بالإيمان والمعاصي بما يتبعها من الطاعات وتكفير الاسم ستره وتغطيته حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل.
قال بعضهم : التكفير إذهاب السيئة وإبطالها بالحسنة وسترها وترك العقوبة عليها {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي أحسن جزاء أعمالهم بأن نعطي بواحد عشراً أو أكثر لاجزاء أحسن أعمالهم فقط.
والعمل الصالح عندنا كل ما أمره الله فإنه صار صالحاً بأمره ولو نهى عنه لما كان صالحاً فليس الصلاح والفساد من لوازم الفعل في نفسه.
وقالت المعتزلة : ذلك من صفات الفعل ويترتب عليه الأمر والنهي فالصدق عمل صالح في نفسه يأمر الله تعالى به لذلك فعندنا الصلاح والفساد والحسن والقبح يترتب على الأمر والنهي وعندهم الأمر والنهي يترتب على الحسن والقبح.
448
واعلم أن كل ما يفعله الإنسان من الخير فالله يجازيه عليه ويجده عند الله حين يلقاء فمنفعة خيره تعود إلى نفسه وإن كان نفعه إلى الغير بحسب الظاهر.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه : "يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت لوعدته لوجدتني عنده.
يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال : كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال : أما علمت أنه استطعمك فلان فلم تطمعه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي.
يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال : يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي".
قال بعضهم : كنت في طريق الحج فاعترض ثعبان أسود أمام القافلة فاتحاً فاه ومنع القوم من المرور فأخذت قربة ماء وسللت سيفي وتقدمت ووضعت فم القربة في فيه فشرب ثم غاب فلما حججت ورجعت إلى هذا المكان مع القافلة أخذني النوم وذهبت القافلة وبقيت متحيراً فإذا بناقة مع ناقتي وقفت بين يدي فقالت لي : قم واركب فركبت وأخذت ناقتي وقت السحر ولحقنا القافلة فأشارت إلي بالنزول فقلت : بالله الذي خلقك من أنت قالت : أنا الأسود المعترض أمام القافلة فأنت دفعت ضرورتي وأنا دفعت ضرورتك الآن هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
جزء : 6 رقم الصفحة : 448
باحساني آسوده كردن دلي
به از ألف ركعت بهر منزلي
كر ازحق نه توفيق خيري رسد
كي از بنده خيري بغيري رسد
غم وشادماني نماند وليك
جزاي عمل ماند ونام نيك
{وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} أي بإيتاء والديه وإيلائهما فعلاً ذا حسن أي أمرناه بأن يفعل بهما ما يحسن من المعاملات فإن وصى يجرى مجري أمر معنى وتصرفاً غير أنه يستعمل فيما كان في المأمور به نفع عائد إلى المأمور وغيره يقال : وصيت زيداً بعمرو أمرته بتعهده ومراعاته.
والتوصية (وصيت كردن).
(6/325)
قال الراغب : الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ.
{وَإِن جَـاهَدَاكَ} أي وقلنا له إن جاهداك.
يعني : (اكر كوشش نمايدوالدين وجنك وجدل كنند بتو) وإن كان معنى وصينا وقلنا له افعل بهما حسناً فلا يضمر القول هنا.
{لِتُشْرِكَ بِى} (تاشرك آوري بمن وانباز كيري) {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ} أي بإلهيته على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه {عِلْمٌ} عبر عن نفي الإلهية بنفي العلم بها للإيذان بأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم بطلانه.
{فَلا تُطِعْهُمَآ} في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما ورد في الحديث ويدخل فيه الأستاذ والأمير إذا أمرا بغير معروف وهو ما أنكره الشارع عليه {إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ} مرجع من آمن منكم ومن أشرك ومن بر بوالديه ومن عق.
{فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} عبر عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة فإنهما سببان للعلم أي أظهر لكم على رؤوس الأشهاد وأعلمكم أي شيء كنتم تفعلون في الدنيا على الاستمرار وأرتب عليه جزاءه اللائق به {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّـالِحِينَ} أي في زمرة الراسخين في الصلاح
449
ولنحشرنهم معهم وهم الأنبياء والأولياء وكل من صلحت سريرته مع الله والكمال في الصلاح منتهى درجات المؤمنين وغاية مأمول الأنبياء والمرسلين.
روي : أن سعد بن مالك وهو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من السابقين الأولين لما أسلم أو حين هاجر كما في "التكملة" قالت له أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية : يا سعد ما هذا الذي قد أحدثت لتدعن دينك أو لا انتقل من الضح إلى الظل ولا آكل ولا أشرب حتى أموت فعير بي فيقال : يا قاتل أمه فلبثت ثلاثة أيام كذلك حتى جهدت أي وقعت في الجهد والمشقة بسبب الجوع فقال سعد : والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما كفرت فكلي وإن شئت فلا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت فأمره الله تعالى أن يحسن إليها ويقوم بأمرها ويسترضيها فيما ليس بشرك ومعصية ويعرض عنها ويخالف قولها فيما أنكره الشارع.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 6 رقم الصفحة : 448
ون نبود خويش را ديانت وتقوى
قطع رحم بهتر از مودت قربى
وفي "هدية المهديين" : يجب على المرء نفقة الأبوين الكافرين وخدمتهما وزيارتهما وإن خاف من أن يجلباه إلى الكفر ترك زيارتهما ويقود بهما زوجته لو كان كل منهما فاقد البصر من البيعة إلى البيعة لا العكس لأن الذهاب إليها معصية وإلى البيت لا ومنه يعلم أن الذمي إذا سأل مسلماً عن طريق البيعة لا يدله عليه.
سئل إبراهيم بن أدهم رحمه الله عن طريق بيت السلطان فأرشده إلى المقابر فضربه الجندي وشجه ثم عرفه واستعفاه فقال : كنت عفوت عنك في أول ضربة وقلت : اضرب رأساً ظالماً عصى الله كذا في "البزازية".
قال الإمام الغزالي رحمه الله : أكثر العلماء على أن طاعة الوالدين واجبة في الشبهات ولم تجب في الحرم المحض لأن ترك الشبهة ورع ورضى الوالدين حتم أي واجب.
ويجيب إذا كان في صلاة النافلة دعاء أمه دون دعوة أبيه أي يقطع صلاته ويقول لبيك مثلاً.
وقال الطحاوي : مصلي النافلة إذا ناداه أحد أبويه إن علم أنه في الصلاة وناداه لا بأس بأن لا يجيبه وإن لم يعلم يجيبه وأما مصلى الفريضة إذا دعاه أحد أبويه لايجيبه ما لم يفرغ من صلاته إلا إن ستغيثه لشيء لأن قطع الصلاة لا يجوز إلا لضرورة وكذلك الأجنبي إذا خاف أن يسقط من سطح أو تحرقه النار أو غرق في الماء وجب عليه أن يقطع الصلاة وإن كان في الفريضة وكذا لو قال له كافر : أعرض عليّ الإسلام أو سرق منه الدراهم أو فارت قدرها أو خافت على ولدها الفرض والنفل فيه سواء كما في "البزازية".
قال في "شرح التحفة" : لا يفطر في النافلة بعد الزوال إلا إذا كان في ترك الإفطار عقوق الوالدين ولا يتركهما لغزو أو حج أو طلب علم نفل فإن خدمتهما أفضل من ذلك وفي الخبر : "يسأل الولد عن الصلاة ثم عن حق الوالدين وتسأل المرأة عن الصلاة ثم عن حق الزوج ويسأل العبد عن الصلاة ثم عن حق المولى فإن أجاب تجاوز عن موقفه إلى موقف آخر من المواقف الخمسين وإلا عذّب في كل موقف ألف سنة ودعاء الوالدين على الولد لا يردّ" وقوله عليه السلام : "دعاء المرء على محبوبه خير بالنسبة إلى غيرهما" كما في "المقاصد الحسنة".
سأل الزمخشري بعض العلماء عن سبب قطع رجله قال : أمسكت عصفوراً في صباي وربطته بخيط في رجله وأفلت من يدي ودخل في خرق فجذبته فانقطعت رجله
450
فتأملت والدتي وقالت : قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله فلما رحلت إلى بخارى لطلب العلم سقطت من الدابة فانكسرت رجلي وقيل : أصابه البرد في الطريق فسقطت رجله وكان يمشي بخشب كذا في "روضة الأخبار".
جزء : 6 رقم الصفحة : 448
(6/326)
ويجب على الأبوين أن لا يحملا الولد على العقوق بسبب الجفاء وسوء المعاملة ويعيناه على البر.
فمن البر وهما حيان أن ينفق عليهما ويمتثل أمرهما في الأمور المشروعة ويجامل في معاملتهما.
ومن البر بعد موتهما التصدق لهما وزيارة قبرهما في كل جمعة والدعاء لهما في أدبار الصلاة وتنفيذ عهودهما ووصاياهما ونحو ذلك.
وفي "التأويلات" : {وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} يشير إلى تعظيم الحق تعالى وعظم شأنه وعزة الأنبياء وإعزازهم وعرفان قدر المشايخ وإكرامهم لأن الأمر برعاية حق الوالدين لمعنيين أحدهما أنهما كانا سبب وجود الولد والثاني أن لهما حق التربية فكلا المعنيين في إنعام الحق تعالى على العباد حاصل بأعظم وجه وأجل حق منهما لأن حقهما كان مشوباً بحظ نفسهما وحق الحق تعالى منزه عن الشوب وإنهما وإن كانا سبب وجود الولد لم يكونا مستقلين بالسببية بغير الحق تعالى وإرادته لأنهما كانا في السببية محتاجين إلى مشيئته وإرادته بأن يجعلهما سبباً لوجود الولد فإن الولد لا يحصل بمجرد تسببهما بالنكاح بل يحصل بموهبة الله تعالى كما قال تعالى : {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} (الشورى : 49 الآية فالسبب الحقيقي في إيجاد الولد هو الله تعالى فإن شاء يوجده بواسطة تسبب الوالدين وإن شاء بغير تسببهما كإيجاد آدم عليه السلام وأما التربية فنسبتها إلى الله تعالى حقيقة فإنه رب كل شيء ومربيه وإلى الوالدين مجازيه لأن صورة التربية إليهما وحقيقة التربية إلى الله تعالى كما ربى نطف الولد في الرحم حتى جعله علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم كساه اللحم ثم أنشأه خلقاً آخر فالله تبارك وتعالى أعظم قدراً في رعاية حقوقه بالعبودية من رعاية حق الوالدين لإحسان وإن الواجب على العبد أن يخرج من عهدة حق العبودية بالإخلاص أولاً ثم يحسن بالوالدين كما قال تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا} (الإسراء : 23) وأما النبي والشيخ فكانا سبب الولادة الثانية بإلقاء نطفة النبوة والولاية في رحم قلب الأمة والمريد وتربيتها إلى أن يولد الولد عن رحم القلب في عالم الملكوت كما أخبر النبي عليه السلام رواية عن عيسى عليه السلام أنه قال : "لن يلج ملكوت السموات والأرض إلا من يولد مرتين" وكانا سبب ولادته في عالم الأرواح وأعلى عليين القرب والولدان كانا سبب ولادته في عالم الأشباح وأسفل سافلين البعد ولهذا السر كان يقول النبي صلى الله عليه وسلّم "إنما أنا لكم كالوالد لولده" وقد كانت أزواجه أمهات للأمة وقد قال عليه السلام : "الشيخ في قومه كالنبي في أمته" ولما كان الله تعالى في الإحسان العميم بالعبد والامتنان القديم الذي خصه به قبل وبعد أحق وأولى برعاية حقوقه عن والديه قال تعالى :
جزء : 6 رقم الصفحة : 448
{وَإِن جَـاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَآ} وفيه إشارة إلى أن المريد الصادق والطالب العاشق إذا تمسك بذيل إرادة شيخ كامل ودليل واصل بصدق الإرادة وعشق الطلب بعد خروجه عن الدنيا بتركها بالكلية عن جاهها ومالها وقد سعى بقدر الوسع في قطع تعلقات تمنعه
451
عن السير إلى الله متجهاً إلى الحضرة بعزيمة كعزيمة الرجال فإن كان له الولدان وهما بمعزل عما يهيجه من الصدق والمحبة فهما بجهلهما عن حال الولد يمنعان عن صحبة الشيخ وطلب الحق بالإعراض ويقبلان به إلى الدنيا ويرغبانه في طلب جاهها ومالها ويحثان على التزويج في غير أوانه فالواجب على المريد أن لا يطيعهما في شيء من ذلك فإن ذلك بالكلية طاغوت وقته وعليه أن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ليستمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها وهما يجاهدانه على أن يشرك بالله لجهلهما بحاله وحال أنفسهما وأنه يريد أن يخرج عن عهدة العبودية الخالصة لربه كما قضى ربه أن لا يعبد إلا إياه ولا يعبد ما دونه من الدنيا والآخرة وما فيهما وما يعلمان أنهما من عبدة الهوى وأنهما يدعوانه إلى عبادة غير الله فالواجب عليه أن لا يطيعهما في ذلك ولكن عليه أن يردهما باللطف ولا يزجرهما بالعنف إلى أن يخرج عن عهدة ما قضى ربه من العبودية بالإخلاص ثم الواجب عليه أن يحسن إليهما ويسمع كلامهما ويطيعهما فيما لا يقطعه عن الله على وفق أمره ثم أوعد الجميع بالمرجع إليه فقال : {إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم} أيها الولد والولدان {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من العبادة الخالصة ومن عبادة الهوى على لسان جزائكم ليقول لكم : إن مرجع عبدة الهوى الهاوية.
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} بمحبة الحق طلبوه بأن {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} أي أعمالاً تصلح للسير إلى الله والوصول إلى حضرة جلاله {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّـالِحِينَ} أي نجعل مدخلهم مقام الأنبياء والأولياء بجذبات العناية تفهم إن شاء الله تعالى وتؤمن به.
(6/327)
جزء : 6 رقم الصفحة : 448
{وَمِنَ النَّاسِ} مبتدأ باعتبار مضمونه أي وبعض الناس والخبر قوله : {مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ} أي في شأنه تعالى بأن عذبهم الكفرة على الإيمان وهو مجهول آذى يؤذي أذى وأذية ولا تقل إيذاء كما في "القاموس" والأذى ما يصل إلى الإنسان من ضرر إما في نفسه أو في جسمه أو في قنياته دنيوياً كان أو أخروياً {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} أي ما يصيبه من أذيتهم والفتنة الامتحان والاختبار تقول : فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتظهر جودته من رداءته وأطلقت على المحنة لأنها سبب نقادة القلب {كَعَذَابِ اللَّهِ} في الآخرة في الشدة والهوى ويستولي عليه خوف البشرية إذ من لم يكن في حماية خوف الله وخشيته يفترسه خوف الحق فيساوي بين العذابين فيخاف العاجل الذي هو ساعة ويهمل الآجل الذي هو باق لا ينقطع فيرتد عن الدين ولو علم شدة عذاب الله وأن لا قدر لعذاب الناس عند عذابه تعالى لما ارتد ولو قطع إرباً إرباً ولما خاف من الناس ومن عذابهم وفي الحديث : "من خاف الله خوّف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله يخوفّه من كل شيء".
وقال بعضهم : جعل فتنة الناس في الصرف عن الإيمان كعذاب الله في الصرف عن الكفر.
يعني : (ترك إيمان كند از خوف عذاب خلق نانكه ترك كفرى بايدكرد از خوف خداي تعالى).
{وَلَـاـاِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ} أي فتح وغنيمة للمؤمنين فالآية مدنية.
{لَيَقُولُنَّ} بضم اللام نظراً إلى معنى من كما أن الإفراد فيما سبق بالنظر إلى لفظها.
{إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي : متابعين لكم في الدين فأشركونا في المغنم وهم ناس من ضعفة المسلمين كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم وكانوا يكتمونه
452
من المسلمين فرد عليهم ذلك بقوله : {أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَـالَمِينَ} أي بأعلم منهم بما في صدورهم من الإخلاص والنفاق حتى يفعلوا ما يفعلون من الارتداد والإخفاء وادعاء كونهم منهم لنيل الغنيمة.
وبالفارسية (آيانيست خداي تعالى داناتر از همه دانايان بآنه در سينه عالميانست از صفاي إخلاص وكدورت نفاق).
جزء : 6 رقم الصفحة : 452
{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا} بالإخلاص {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَـافِقِينَ} سواء كان نفاقهم بأذية الكفرة أو لا أي ليجزينهم على الإيمان والنفاق فإن المراد تعلق علمه تعالى بالامتحان تعلقاً حالياً يبتنى عليه الجزاء كما سبق فجوهر الإيمان والنفاق المودع في القلب إنما يظهر بالصبر أو بالتزلزل عند البلاء والمحنة كما أن عيار النقدين يظهر بالنار.
بشكل وهيآت إنسان زره مروزنهار
توان بصبر وتحمل شاناخت جوهر مرد
اكرنه اك بودازبلانخواهد جست
وكردر أصل بود اك صبر خواهد كرد
وفي الآية تنبيه لكل مسلم أن يصبر على الأذى في الله.
وحقيقة الإيمان نور إذا دخل قلب المؤمن لا تخرجه أذية الخلق بل يزيد بالصبر على أذاهم والتوكل على الله فإنه نور حقيقي أصلي ذاته لا يتكدر بالعوارض كنور الشمس والقمر فإنهما إذا طلعا يزداد نورهما بالارتفاع ولا يقدر أحد أن يطفىء نورهما وكنور الحجر الشفاف المضيء بالليل فإنه لا يقبل الانطفاء مثل الشمعة لأن نوره أصلي ونور الشمعة عارضي ثم إن في المحن والأذى تفاوتاً فمن كانت محنته بموت قريب من الناس أو فقد حبيب من الخلق أو نحوه فحقير قدره وكثير من الناس مثله ومن كان محنته وفي الله فعزيز قدره وقليل مثله وقد كانت كفار مكة يؤذون النبي عليه الصلاة والسلام بأنواع الأذى فيصبر وقد قال : "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت" أي ما صفى نبي مثل ما صفيت لأن الأذى سبب لصفوة الباطن وبقدر الوقوف في البلاء تظهر جواهر الرجال وتصفو من الكدر مرآئي قلوبهم ألا ترى إلى أيوب عليه السلام حيث خلص له جوهر نعم العبدية عن معدن الإنسانية مدة أيام البلاء والصبر عليه وكذا كانوا يؤذون الأصحاب رضي الله عنهم تؤذي كل قبيلة من أسلم منها وتعذبه وتفتنه عن دينه وذلك بالحبس والضرب والجوع والعطش وغير ذلك حتى إن الواحد منهم ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضرب الذي به وكان أبو جهل ومن يتابعه يحرض على الأذى وكان إذا سمع بأن رجلاً أسلم له شرف ومنعة جاء إليه ووبخه وقال له : ليغلبن رأيك وليضعفن شرفك وإن كان تاجراً قال : والله لتكسدن تجارتك ويهلك مالك وإن كان ضعيفاً حرّض على أذاه حتى إن بعض الضعفاء فتن عن دينه ورجع إلى الشرك نعوذ بالله تعالى وكان بلال رضي الله عنه ممن يعذب في الله ولا يقول إلا : أحد أحد أي الله لا شريك له وهكذا الأقوياء من أهل السعادة ثبتوا على دينهم واختاروا عذاب الدنيا وفضوحها على عذاب الآخرة وفضوحها فإن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا أضعافاً كثيرة ويدل عليه النار فإنها جزء من الأجزاء السبعين لنار الآخرة وهي بهذه الحرارة في الدنيا مع ما غسلت في بعض أنهار الجنة.
(6/328)
جزء : 6 رقم الصفحة : 452
قال الواسطي رحمه الله : لا يؤذي فيها إلا الأنبياء وخواص الأولياء وأكابر العباد فالصبر لازم في موطن الأذى والملام.
قال المولى الجامي :
453
عاشق ثابت قدم آنكس بودكز كوي دوست.
رونكرداند اكر شمشير بارد بر شرس.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} اللام للتبليغ ، أي قال كفار مكة مخاطبين للمؤمنين استمالة ليرتدوا : {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} أي : اسلكوا طريقتنا التي نسلكها في الدين عبر عن ذلك بالاتباع الذي هو المشي خلف ماش آخر تنزيلاً للمسلك منزلة السالك فيه.
{وَلْنَحْمِلْ خَطَـايَـاكُمْ} أي إن كان لكم خطيئة تؤاخذون عليها وإن كان بعث ومؤاخذة كما تقولون أي لا بعث ولا مؤاخذة وإن وقع فرضاً نحمل آثامكم عنكم وهي جمع خطيئة من الخطأ وهو العدول عن الجهة فرد الله عليهم بقوله : {وَمَا هُم بِحَـامِلِينَ مِنْ خَطَـايَـاهُم مِّن شَىْءٍ} أي والحال أنهم ليسوا بحاملين شيئاً من خطاياهم التي التزموا أن يحملوها كلها على أن من الأولى للتبيين والثانية مزيدة للاستغراق.
{إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ} في دعوى الحمل بأنهم قادرون على إنجاز ما وعدوا.
{وَلَيَحْمِلُنَّ} أي : هؤلاء القائلون {أَثْقَالَهُمْ} أي ذنوبهم التي عملوها وذلك يوم القيامة جمع ثقل بالكسر وسكون القاف كحمل وأحمال والثقل والخفة متقابلان وكل ما يترجح على ما يوزن به أو يقدر به يقال : هو ثقيل وأصله في الأجسام ثم يقال في المعاني : أثقله الغرم والوزر.
قال الراغب أثقالهم أي آثامهم التي تثقلهم وتثبطهم عن الثواب.
{وَأَثْقَالا} آخر {مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} وهي أثقال الإضلال فيعذبون بضلال أنفسهم وإضلال غيرهم من أن ينقص من أثقال من أضلوه شيء ما أصلاً فتكون أثقال المضلين زائدة على أثقال الضالين لأن من دعا إلى ضلالة فاتبع فعليه حمل أوزار الذين اتبعوه وكذا من سنّ سنة سيئة كما ورد في الحديث : وفي "المثنوي" :
هركه بنهد سنت بد أي فتى
تا در افتد بعد أو خلق ازعمى
جمع كردد بروى آن جمله بزه
كوسرى بودست وايشان دم غزه
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا} سؤال تقريع وتبكيت لم فعلوه ولأي حجة ارتكبوه {عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي يختلقونه في الدينا من الأكاذيب والأباطيل التي أضلوا بها ومن جملتها كذبهم هذا ويدخل في هذا بعض الجهلة حيث يقول لمثله : افعل هذا وإثمه في عنقي ثم التعبير عن الخطايا بالأثقال للإيذان بغاية ثقلها.
قال الشيخ سعدي قدس يره :
جزء : 6 رقم الصفحة : 452
مرو زير باركناه أي سر
كه حمال عاجز بود در سفر
يعني أن الحمال يعجز عن حمل الثقيل خصوصاً إذا كان المنزل بعيداً وفي الطريق عقبات.
ثم إن الخطايا على تفاوت في الثقل وفي الخبر : "التهمة على البريء أثقل من سبع سماوات وسبع أرضين وأثقل من جميع الموجودات" جبل الوجود والأنانيات كما ورد : "وجودك ذنب لا يقاس عليه ذنب آخر".
جمعست خيرها همه در خانه ونيست
آن خانه را كليد بغير از فروتني
شرها بدين قياس ببكخانه داست جمع
وانرا كليد نيست بجزمائي ومني
وكما أن عذاب الإضلال والحمل على الكفر والمعاصي أشد فكذا عذاب إفساد استعداد الغير وحمله على الإنكار ومنعه عن سلوك طريق الحق ومثل هذا الإفساد أشد من الزنى
454
لأن في الزنى يهلك الولد الصوري لبقائه بلا والد وفي الإفساد يهلك الولد المعنوي لبقائه بلا فيض وفساد المعنى أشد من فساد الصورة.
ففي الآية إشارة إلى حال أرباب الإلحاد والدعوى مع من يتبعهم ممن لا يفرق بين الفساد والصلاح والبقاء والهلاك اللهم اجعلنا من الثابتين على الطريق القويم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 452
(6/329)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} للدعوة إلى التوحيد وطريق الحق من قبل إرسالنا إياك يا محمد {نُوحًا} واسمه عبد الغفار كما ذكره السهيلي رحمه الله في كتاب "التعريف" والشاكر كما ذكره أبو الليث في "البستان".
وسمي نوحاً لكثرة نوحه وبكائه من خوف الله ولد بعد مضي ألف وستمائة واثنتين وأربعين سنة من هبوط آدم عليه السلام وبعث عند الأربعين.
{إِلَى قَوْمِهِ} وهم أهل الدنيا كلها.
والفرق بين عموم رسالته وبين عموم رسالة نبينا عليه السلام أن نبينا عليه السلام مبعوث إلى من في زمانه وإلى من بعده إلى يوم القيامة بخلاف نوح فإنه مرسل إلى جميع أهل الأرض في زمانه لا بعده كما في "إنسان العيون" وهو أول نبي بعث إلى عبدة الأصنام لأن عبادة الأصنام أول ما حدثت في قومه فأرسله الله إليهم ينهاهم عن ذلك وأيضاً أول نبي بعث إلى الأقارب والأجانب وأما آدم فأول رسول الله إلى أولاده بالإيمان به وتعليم شرائعه وهو أي نوح عليه السلام أبونا الأصغر وقبره بكرك بالفتح من أرض الشام كما في "فتح الرحمن".
{فَلَبِثَ فِيهِمْ} بعد الإرسال ولبث بالمكان أقام به ملازماً له {أَلْفَ سَنَةٍ} الألف العدد المخصوص سمي بذلك لكون الأعداد فيه مؤلفة فإن الأعداد أربعة آحاد وعشرات ومئون وألوف فإذا بلغ الألف فقد ائتلف وما بعده ويكون مكرراً قال بعضهم : الألف من ذلك لأنه مبدأ النظام والسنة أصلها سنهة لقولهم سانهت فلاناً أي عاملته سنة فسنة وقيل : أصلها من الواو لقولهم سنوات والهاء للوقف.
{إِلا خَمْسِينَ عَامًا} العام كالسنة لكن كثيراً ما تستعمل السنة في الحول الذي فيه الشدة والجدب ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة والعام فيما فيه الرخاء وفي كون المستثنى منه بالسنة والمستثنى بالعام لطيفة ، وهي أن نوحاً عاش بعد إغراق قومه ستين سنة في طيب زمان وصفاء عيش وراحة بال وقيل : سمى السنة عاماً لعوم الشمس في جميع بروجها والعوم السباحة ويدل على معنى العوم قوله تعالى :
جزء : 6 رقم الصفحة : 455
{كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس : 40).
ومعنى الآية فبث بين أظهرهم تسعمائة وخمسين عاماً يخوفهم من عذاب الله ولا يلتفتون إليه وإنما ذكر الألف تخييلاً لطول المدة إلى السامع أي ليكون أفخم في أذنه ثم أخرج منها الخمسون إيضاحاً لمجموع العدد فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتثبيته على ما يكابد من الكفرة.
يعني : (إيراد قصه نوح بجهت تسليه سيد أنام است وتثبيت بركشيدن اذى از قوم وتهديد يكزبان بذكر طوفان يعني نوح نهصد وناه سال جفاي قوم كشيد وهمنان دعوت ميفرمود وكسى نمي كرويد) إلا القليل الذين ذكرهم في قوله : {وَمَآ ءَامَنَ مَعَه إِلا قَلِيلٌ} (هود : 40) فأذن له في الدعاء فدعا عليهم بالهلاك.
{فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} .
أي : عقيب تمام المدة المذكورة فغرق من في الدنيا كلها من الكفار.
والطوفان يطلق على كل ما يطوف بالشيء ويحيط به على كثرة وشدة وغلبة من السيل والريح والظلام والقتل والموت والطاعون والجدري والحصبة والمجاعة وقد
455
غلب على طوفان الماء وقد طاف الماء ذلك اليوم بجميع الأرض.
{وَهُمْ ظَـالِمُونَ} أي : والحال أنهم مستمرون على الظلم والكفر لم يستمعوا إلى داعي الحق هذه المدة المتمادية.
{فَأَنجَيْنَـاهُ} أي نوحاً من الغرق والابتلاء بمشاق الكفرة {وَأَصْحَـابَ السَّفِينَةِ} أي : ومن ركب معه فيها من أولاده وأتباعه وكانوا ثمانين ذكوراً وإناثاً.
قال الكاشفي : يعني : (هركه باوي بود از مؤمنان وهره در سفينه بود از أنواع جانوران) والسفينة من سفنه يسفنه قشره ونحته كأنها تسفن الماء أي تقشره فهي فعيلة بمعنى فاعلة {وَجَعَلْنَـاهَآ} أي : السفينة أو القصة.
{لِّلْعَـالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي : عبرة لمن بعدهم من الأهالي يتعظون بها أو دلالة يستدلون بها على قدرة الله.
قال أبو الليث في "تفسيره" : وقد بقيت السفينة على الجودي إلى قريب من وقت خروج النبي عليه السلام وبين الطوفان والهجرة الشريفة ثلاثة آلاف وتسعمائة وأربع وسبعون سنة على ما في "فتح الرحمن" وكان ذلك علامة وعبرة لمن رآها ولمن لم يرها لأن الخبر قد بلغه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 455
وقال بعضهم : سفينة نوح أول سفينة في الدنيا فأبقيت السفن آية وعبرة للخلائق وعلامة من سفينة نوح وهو قوله تعالى : {وَلَقَد تَّرَكْنَـاهَآ ءَايَةً} (القمر : 15).
روي : أن نوحاً بعث على رأس الأربعين ودعا قومه تسعمائة وخمسين عاماً وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا وذلك من أولاده حام وسام ويافث لأنهم لما خرجوا من السفينة ماتوا كلهم إلا أولاد نوح كما في "البستان" فيكون عمره ألفاً وخمسين عاماً وهو أول الأنبياء عمراً ومن ذلك قيل له : كبير الأنبياء وشيخ المرسلين وهو أول من تنشق عنه الأرض بعد نبينا عليه السلام.
(6/330)
قال الكاشفي : (ملك الموت بوقت قبض روح أزوى رسيدكه اي دراز ترين يغمبران از جهت عمر دنيارا ون يافتي فرمودكه يا فتم ما نند خانهَّ كه دودر داشته باشد از يكي در آيند واز ديكري بيرون روند).
كر عمر تو عمر نوح ولقمان باشد
آخر بروى نانكه فرمان باد
در بودن دنيا وبرون رفتن ازو
يكروز وهزار سال يكسان باشد
قيل :
ألا إنما الدنيا كظل سحابة
أظلتك يوماً ثم عنك اضمحلت
فلاتك فرحاناً بها حين أقبلت
ولاتك جزعاناً بها حين ولت
قال الحسن : أفضل الناس ثواباً يوم القيامة المؤمن المعمر.
وعن عبيد بن خالد رضي الله عنه أن النبي عليه السلام آخى بين الرجلين فقتل أحدهما في سبيل الله ثم مات الآخر بعده بجمعة أو نحوها فصلوا عليه فقال عليه السلام : "ما قلتم" قالوا : دعونا الله أن يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه فقال عليه السلام : "فأين صلاته بعد صلاته وعمله بعد عمله" أو قال : "صيامه بعد صيامه لما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض" فطوبى لمن طال عمره وحسن عمله" والفيض الحاصل للأمة المتقدمة في المدة المتطاولة حاصل لهذه الأمة في المدة القصيرة لكمال الاستعداد الفطري فلا ينبغي للمرء أن يتمنى أعمال القرون الأولى فإن السبعين عمر طويل والمائة أطول بل يتمنى كثرة المدد والخلاص من يد النفس الأمارة فإنه إذا لم تصلح النفس فلا يغنى طول العمر
456
عن قهر الله شيئاً وصلاحها باستعمال أحكام الشريعة التي أشارت إليها السفينة فكما أن السفينة تنجي راكبها فكذا الشريعة تنجي عاملها وهي دلالة للناس إلى يوم القيامة تدل بظاهرها إلى طريق الجنة وبباطنها إلى طرق القربة والوصلة فبعبارتها نور وإشارتها سرور وأهل الإشارة مقربون والمتقربون إليهم متخلصون.
قال الحافظ :
جزء : 6 رقم الصفحة : 455
يار مردان خدا باش كه دركشتى نوح
هست خاكى كه بآبى نخرد طوفانرا
فليجدّ من وقع في طوفان نفسه حتى يجد الخلاص وإليه الملجأ والمناص.
جزء : 6 رقم الصفحة : 455
{وَإِبْرَاهِيمَ} نصب بالعطف على نوحاً أي ولقد أرسلنا إبراهيم أيضاً من قبل إرسالنا إياك يا محمد {إِذْ قَالَ} نصب باذكر المقدر هكذا ألهمت أي اذكر لقومك وقت قوله : {لِقَوْمِهِ} وهم أهل بابل ومنهم نمرود.
{اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده {وَاتَّقُوهُ} أن تشركوا به شيئاً {ذَالِكُمْ} أي ما ذكر من العبادة والتقوى {خَيْرٌ لَّكُمْ} مما أنتم عليه من الكفر ومعنى التفضيل مع أنه لا خير فيه قطعاً باعتبار زعمهم الباطل.
{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي : الخير والشر وتميزون أحدهما عن الآخر {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَـانًا} هي في نفسها تماثيل مصنوعة لكم ليس فيها وصف غير ذلك جمع وثن.
قال بعضهم : الصنم هو الذي يؤلف من شجر أو ذهب أو فضة في صورة إنسان والوثن هو الذي ليس كذلك بل كان تأليفه من حجارة وفي غير صورة الإنسان.
{وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} .
قال الراغب : الخلق لا يستعمل في كافة الناس إلا على وجهين أحدهما في معنى التقدير والثاني في الكذب انتهى يقال : خلق واختلق أي افترى لساناً أو يداً كنحت الأصنام كما في "كشف الأسرار".
والإفك أسوأ الكذب وسمي الإفك كذباً لأنه مأفوك أي مصروف عن وجهه.
والمعنى وتكذبون كذباً حيث تسمونها آلهة وتدعون أنها شفعاؤكم عند الله وهو استدلال على شرارة ما هم عليه من حيث أنه زور وباطل ثم استدل على شرارة ذلك من حيث أنه لا يجدي بطائل فقال : {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} يقال : ملكت الشيء إذا قدرت عليه ومنه قول موسى : لا أملك إلا نفسي وأخي ، أي لا أقدر إلا على نفسي وأخي ورزقاً مصدر وتنكيره للتقليل.
والمعنى لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئاً من الرزق.
{فَابْتَغُوا} فاطلبوا {عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} كله فإنه القادر على إيصال الرزق.
{وَاعْبُدُوهُ} وحده {وَاشْكُرُوا لَه} على نعمائه متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين للنعمة بالشكر ومستجلبين للمزيد.
جزء : 6 رقم الصفحة : 457
قال ابن عطاء : اطلبوا الرزق بالطاعة والإقبال على العبادة.
وقال سهل : اطلبوا الرزق في التوكل لا في الكسب وهذا سبيل العوام {إِلَيْهِ} لا إلى غيره {تُرْجَعُونَ} تردون بالموت ثم البعث فافعلوا ما أمرتكم به
{وَإِن تُكَذِّبُوا} أي : وإن تكذبوني فيما أخبرتكم به من أنكم إليه ترجعون.
{فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} تعليل للجواب أي فلا تضرونني بتكذيبكم فإن من قبلكم من الأمم قد كذبوا من قبلي من الرسل وهم شيت وإدريس ونوح فما ضرهم تكذيبهم شيئاً وإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم.
{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ} أي : التبليغ الذي لا يبقى معه شك وما عليه أن يصدق ولا يكذب البتة وقد خرجت
457
(6/331)
عن عهدة التبليغ بما لا مزيد عليه فلا يضرني تكذيبكم بعد ذلك أصلاً وكل أحد بعد ذلك مأخوذ بعمله.
قال في "الأسئلة المقحمة" معنى البلاغ هو إلقاء المعنى إلى النفس على سبيل الإفهام وإن لم يفهم السامع فقد حصل مني ذلك الإبلاغ والإسماع والإفهام من الله تعالى.
يش وحي حق أكر كرسرنهد
كبريا از فضل خود سمعش دهد
جزمكر جاني كه شدبى نور وفر
همون ماهى كنك بد از أصل كر
وفي الآية تسلية للرسول عليه السلام ودعاء له إلى الصبر وزجر لمخالفيه فيما فعلوا من التكذيب والجحود فعلى المؤمن الطاعة والتقوى وقبول وصية الملك الأقوى فإن التقوى خير الزاد يوم التلاق وسبب النجاة وجالبة الأرزاق وأعظم أسباب التقوى التوحيد وهو أساس الإيمان ومفتاح الجنان ومغلاق النيران.
روي : أن عمر رضي الله عنه مر بعثمان رضي الله عنه وسلم عليه فلم يرد سلامه فشكا إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال : لعله لعذر ثم أرسل إلى عثمان وسأل عن ذلك فقال : لم أسمع كلامه فإني كنت في أمر وهو أنا صاحبنا النبي زماناً فلم نسأل عما تتفتح به الجنان وتغلق أبواب النيران فقال أبو بكر رضي الله عنه : سألت عن ذلك من النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : هي الكلمة التي عرضتها على عمي أبي طالب فأبى لا إله إلا الله محمد رسول الله" وذكر الله أكثر الأشياء تأثيراً فاذكروا الله ذكراً كثيراً.
قال السري رحمه الله : صحبت زنجياً في البرية فرأيته كلما ذكر الله تغير لونه وابيض فقلت : يا هذا أرى عجباً فقال : يا أخي أما إنك لو ذكرت الله تغيرت صفتك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 457
قال الحكيم الترمذي رحمه الله : ذكر الله يرطب اللسان فإذا خلا عن الذكر أصابته حرارة النفس ونار الشهوة فتعس ويبس وامتنعت الأعضاء عن الطاعة كالشجرة اليابسة لا تصلح إلا للقطع وتصير وقود النار وبالتوحيد تحصل الطهارة التامة عن لوث الشرك والسوى فالنفس تدعو مع الشيطان إلى أسفل السافلين والله تعالى يدعو بلسان نبيه إلى أعلى عليين وقد دعا الأنبياء كلهم فقبحوا الأوثان والشرك والدنيا وحسنوا عبادة الله والتوحيد والأخرى ورغبوا إلى الشكر والطاعة في الدنيا التي هي الساعة بل كلمح البصر لا يرى لها أثر ولا يسمع لها خبر فالعاقل يستمع إلى الداعي الحق ولا يكذب الخبر الصدق فيل بالتصديق والقبول والرضى إلى الدرجات العلى والراحة العظمى.
مده براحت فاني حيات باقي را
بمحنت دوسه روز از غم ابد بكريز
جزء : 6 رقم الصفحة : 457
{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} اعتراض بين طرفي قصة إبراهيم عليه السلام لتذكير أهل مكة وإنكار تكذيبهم بالبعث مع وضوح دليله والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم الموجب لتقريرها والواو للعطف على مقدر وإبداء الخلق إظهارهم من العدم إلى الوجود ثم من الوجود الغيبي إلى الوجود العيني.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : الإيجاد إذا لم يكن مسبوقاً بمثله يسمى إبداء وإن كان مسبوقاً بمثله يسمى إعادة والله تعالى بدأ خلق الإنسان ثم هو يعيدهم أي يرجعهم ويردهم بعد العدم إلى الوجود ويحشرهم والأشياء كلها منه بدت وإليه تعود.
ومعنى الآية ألم ينظروا أي أهل مكة وكفار قريش ولم يعلموا علماً جارياً مجرى الرؤية في الجلاء والظهور كيفية خلق الله ابتداء من مادة ومن غير مادة أي قد علموا.
{ثُمَّ يُعِيدُه}
458
أي : يرده إلى الوجود عطف على أو لم يروا لا على يبدأ لعدم وقوع الرؤية عليه فهو إخبار بأنه تعالى يعيد الخلق قياساً على الإبداء وقد جوز العطف على يبدأ بتأويل الإعادة بإنشائه تعالى كل سنة ما أنشأه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث ووقوعه من غير ريب.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
بامرش وجود از عدم نقش بست
كه داند جزا وكردن از نيست هست
دكرره بكتم عدم در برد
واز آنجا بصحري محشر برد
{إِنَّ ذَالِكَ} أي : ما ذكر من الإعادة {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} سهل لا نصب فيه.
وبالفارسية (آسانت) إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء من الأسباب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 458
{قُلِ} يا محمد لمنكري البعث.
{سِيرُوا فِى الأرْضِ} سافروا في أقطارها.
{فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} خلقهم ابتداء على كثرتهم مع اختلاف الأشكال والأفعال والأحوال {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الاخِرَةَ} يقال : نشأ نشأة حيي وربا وشب.
(6/332)
قال الراغب : الإنشاء إيجاد الشيء وتربيته وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان انتهى والنشأة مصدر مؤكد لينشىء بحذف الزوائد والأصل الإنشاءة أو بحذف العامل أي ينشىء فينشؤون النشأة الآخرة كما في قوله تعالى : {وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} (آل عمران : 37) أي فنبتت نباتاً حسناً والنشأة الآخرة هي النشأة الثانية وهي نشأة القيام من القبور والجملة معطوفة على جملة سيروا في الأرض داخلة معها في حيز القول وعطف الأخبار على الإنشاء جائز فيما له محل من الإعراب وإنما لم تعطف على قوله بدأ الخلق لأن النظر غير واقع على إنشاء النشأة الأخرى فإن الفكر يكون في الدليل لا في النتيجة.
والمعنى ثم الله يوجد الإيجاد الآخر ويحيي الحياة الثانية أي بعد النشأة الأولى التي شاهدتموها وهي الإبداء فإنه والإعادة نشأتان من حيث أن كلاً اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود ـ وبالفارسية (س الله باز فردا بآفرينش سين خلق را زنده كند وظاهر كرداند آفريدن ديكررا ملخص سخن آنست كه ون بديديد وبدا نستيد كه خالق همه در ابتدا الله است حجت لازم شود برشما دراعات وبضرورت دانيد آنكه مبدىء خلائق است ميتواند آنكه معيد ايشان باشد).
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} لأن قدرته لذاته ونسبة ذاته إلى كل الممكنات على سواء فيقدر على النشأة الأخرى كما قدر على النشأة الأولى.
{يُعَذِّبُ} أي : بعد النشأة الآخرة {مَن يَشَآءُ} أن يعذبه وهم المنكرون لها {وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ} أن يرحمه وهم المصدقون بها وتقديم التعذيب لما أن الترهيب أنسب بالمقام من الترغيب.
{وَإِلَيْهِ} تعالى لا إلى غيره.
{تُقْلَبُونَ} تردون بالبعث فيفعل بكم ما يشاء من التعطيب والرحمة مجازاة على أعمالكم.
قال الكاشفي : (دركشفت الأسرار آورده كه عذابش ازروى عدلست ورحمتش اتزراه فضل س هركزا خواهد باوى عدل كند از يش براند وآنراكه خواهد باوى فضل نمايد بلطف خويش بخواند).
جزء : 6 رقم الصفحة : 458
اكر راني زراه عدل راني
وكر خواني زروي فضل خواني
مرا باراندن وخواندن ه كارست
اكر خواني وكرراني توداني
(درزان المسير آورده كه عذاب بزشت خوييست ورحمت بخوش خلقي.
ونزد بعضي عذاب
459
ورحمت بميل دنياست وترك آن يابحرص وقناعت يابمتابعت بدعت وملازمت سنت يابتفرقه خاطر وجمعيت دل.
إمام قشيري فرموده كه عذاب با آنست كه بنده را با وكذارد ورحمت آنكه بخود متولى كار أوشود).
تاتونباشي يارمارونق نيابد كارما
{وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} (ونيستيد شما اي مردمان عاجز كنند كان روردكار خودرا) أي عن إجراء حكمه وقضائه عليكم وإن هربتم.
{فِى الأرْضِ} الواسعة بالتواري فيها.
يعني (درزير زمين) {وَلا فِى السَّمَآءِ} ولا بالتحصن في السماء التي هي أوسع منها لو استطعتم الترقي فيها.
يعني في الأرض كنتم أو في السماء لا تقدرون أن تهربوا منه فهو يدرككم لا محالة ويجري عليكم أحكام تقديره {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ} (دوست كار ساز).
{وَلا نَصِيرٍ} يارى ومعين.
يعني : ليس غيره تعالى يحرسكم مما يصيبكم من بلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء ويدفعه عنكم إن أراد بكم ذلك.
قال بعضهم : الولي الذي يدفع المكروه عن الإنسان والنصير الذي يأمر بدفعه عنه والولي أخص من النصير إذ قد ينصر من ليس بولي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 458
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآيات اللَّهِ} أي بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته وصفاته وأفعاله فيدخل فيه النشأة الأولى الدالة على تحقق البعث والآيات الناطقة به دخولاً أولياً.
قال في "كشف الأسرار" : الكفر بآيات الله أن لا يستدل بها عليه وتنسب إلى غيره ويجحد موضع النعمة فيها.
{وَلِقَآاـاِهِ} الذي تنطق به تلك الآيات ومعنى الكفر بلقاء الله جحود الورود عليه وإنكار البعث وقيام الساعة والحساب والجنة والنار.
{أولئك} الموصوفون بما ذكر من الكفر بآياته تعالى ولقائه يئِسُوا مِن رَّحْمَتِى} اليأس انتفاء الطمع كما في "المفردات" : وبالفارسية (نوميدشدن) كما في "تاج المصادر" أي : ييأسون منها يوم القيامة وصيغة الماضي للدلالة على تحققه أو يئسوا منها في الدنيا لإنكارهم البعث والجزاء {وَأُولَئِكَ} الموصوفون بالكفر بالآيات واللقاء وباليأس من الرحمة الممتازون بذلك عن سائر الكفرة {لَهُمُ} بسبب تلك الأوصاف القبيحة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يقادر قدره في الشدة والإيلام.
جزء : 6 رقم الصفحة : 460(6/333)
قال في "كشف الأسرار" : (بدانكه تأثير رحمت الله درحق بندكان يش از تأثير غضب است ودرقر آن ذكر صفات رحمت يش اذ ذكر صفات غضب است ودر خبر ست كه "سبقت رحمتي غضبي" أين رحمت وغضب هردوصفت حق است وروا نباشدكه كويي يكي يش است ويكي س يايكي يش است ويكي كم زيرا كه اكريكي يش كويي ديكررا نقصان لازم آيد واكر يكي را يش كويي يكررا حدوث لازم آيد س مراد ازين تأثير ورحمت است يعني يش كرد تأثيرر حمت من بر تأثير غضب من تأثير غضب أوست نومدي كافران از رحمت أو تا مي كويد جل جلاله {أولئك يا ـاِسُوا مِن رَّحْمَتِى} (العنكبوت : 23) وتأثير رحمت الأست اميدمؤمنان بمغفرت أو دل نهادن بر رحمت أو تاميكويد) عز وجل : {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} (البقرة : 218) فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من رحمته وأن لا يأمن من عذابه فإن كلاً من اليأس وإلا من كفر بل يكون راجياً خائفاً وأما الكافر فلا يخطر بباله رجاء ولا خوف ، وإذا ترقى العبد عن حالة الخوف والرجاء يعرض له حالتا القبض
460
والبسط فالقبض للعارف كالخوف للمستأنف والبسط له كالرجاء له.
والفرق بينهما أن الخوف والرجاء يتعلقان بأمر مستقبل مكروه أو محبوب فالقبض والبسط بأمر حاضر في الوقت يغلب على قلب العارف من وارد غيبي فتارة يغلب القبض فيقول ذلي كذل اذل اليهود وإليه الإشارة بالإبداء في الآية وأخرى يغلب البسط فيقول أين السموات والأرضون حتى أحملهما على شعرة جفن عيني وإليه الإشارة بالإعادة في الآية ومن هذا القبيل ما قال عليه السلام : "ليت رب محمد لم يخلق محمداً" وما قال : "أنا سيد ولد آدم" وفي قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا} (الأحقاف : 33) إلخ إشارة إلى أنه تعالى كما بدأ خلق الخلق بإخراجهم من العدم إلى الوجود إلى عالم الأرواح ثم أهبطهم من عالم الأرواح إلى عالم الأشباح عابرين على الملكوت والنفوس السماوية والأفلاك والأنجم وفلك الأثير والهواء والبحار وكرة الأرض ثم على المركبات والمعادن والنبات والحيوان إلى أن بلغ أسفل سافلين الموجودات وهو القلب الإنساني كما قال : {ثُمَّ رَدَدْنَـاهُ أَسْفَلَ سَـافِلِينَ} (التين : 5) أي بتدبير النفخة الخاصة كما قال : {وَنَفَخْتُ فِيهِ} (الحجر : 29) فكذلك يعيده بجذبات العناية إلى الحضرة راجعاً من حيث هبط عابراً على المنازل والمقامات التي كانت على ممره بقطع تعلق نظره إلى خواص هذه المنازل وترك الانتفاع بها فإنه حالة العبور على هذه المنازل استعار خواصها وبعض أجزائها منها لاستكمال الوجود الإنساني روحانياً وجسمانياً فصار محجوباً معبداً عن الحضرة فعند رجوعه إلى الحضرة بجذبة ارجعي يرد في كل منزل ما استعار منه فإن العارية مردودة إلى أن يعاد إلى العدم بلا أنانية بتصرف جذبة العناية وهو معنى الفناء في الله.
قال المولى الجامي :
جزء : 6 رقم الصفحة : 460
طي كن بساط كون كه اين كعبه مراد
باشد وراى كون ومكان ند مرحله
وقال الشيخ المغربي :
زتنكاناي جسد ون برون نهى قدمي
بجز حظيره قدسى ادشاه مرش
وفي "المثنوي" :
از جمادى مردم نامى شدم
وزنما مردم بحوان بر زدم
مردم از حيواني وآدم شدم
س ه ترسم كي زمردن كم شدم
جمله ديكر بميرم از بشر
تا بر آرم از ملائك اورس
وزملك هم بايدم جستن زجو
كل شيء هالك إلا وجهه
بارديكر از ملك قربان شوم
آنه اندر وهم نايد آن شوم
س عدم كردم عدم ون ارغنون
كويدم كانا إليه راجعون
وفي قوله : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ إشارة إلى الطائفة من أرباب الطلب وأصحاب السلوك العابرين على بعض المقامات المشاهدين آثار شواهد الحق الذين كوشفوا ببعض الأسرار ثم أدركتهم العزة بحجاب الغيرة فابتلاهم الله للغيرة بالالتفات إلى الغير فحجبوا بعد أن كوشفوا وستروا بعد أن تجردوا واستدرجوا بعد أن رفعوا وبعدوا بعد أن قربوا وردوا بعد أن دعوا فحاروا بعد أن كاروا نعوذ بالله من الحور بعد الكور كذا في "التأويلات النجمية".
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} أي قال إبراهيم عليه السلام : اعبدوا الله واتقوه فما كان جواب قومه آخر الأمر
461(6/334)
وهو بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله : {إِلا أَن قَالُوا} إلا قول بعضهم لبعض {اقْتُلُوهُ} أصل القتل إزالة الروح عن الجسد كالموت لكن إذا اعتبر بفعل المتولى لذلك يقال : قتل وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال : موت.
{أَوْ حَرِّقُوهُ} التحريق (نيك سوزانيدن) والفرق بين التحريق والإحراق وبين الحرق أن الأول إيقاع ذات لهب في الشيء ومنه استعير أحرقني بلومه إذا بالغ في أذيته بلوم والثاني إيقاع حرارة في الشيء من غير لهيب كحرق الثوب بالدق كما في "المفردات" وفيه تسفيه لهم حيث أجابوا من احتج عليهم بأن يقتل أو يحرق وهكذا ديدن كل محجوج مغلوب.
{فَأَنجَـاـاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} الفاء فصيحة أي فألقوه في النار فأنجاه الله من أذاها بأن جعلها عليه برداً وسلاماً روي أنه لم ينتفع يومئذ بالنار في موضع أصلاً وذلك لذهاب حرها {إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي : في إنجائه منها {لايَـاتٍ} بينة عجيبة هي حفظه تعالى إياه من حرها وإخمادها مع عظمها في زمان يسير يعني عقيب احتراق الحبل الذي أوثقوه به لأنه ما أحرقت منه النار إلا وثاقه وأنشىء روض في مكانها يعني كل وريحان.
{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لأنهم المنتفعون بالتفحص عنها والتأمل فيها وأما الكافرون فمحرومون من الفوز بمغانم آثارها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 460
وفيه إشارة إلى دعوة إبراهيم الروح نمرود النفس وصفاتها إلى الله تعالى ونهيهم عن عبادة الهوى والدنيا وما سوى الله وإلى إجابتهم إياه من لؤم طبعهم وغاية سفههم قولهم : اقتلوه بسيف الكفر والشرك أو أوقدوا عليه نار الشهوات والأخلاق الذميمة وحرقوه بها فخلص الله جوهر الروحية من حرقة النار الشهوات والأخلاق الذميمة ومتعه بالخصائص المودعة فيها مما لم يكن في جبلة الروح مركوزاً وكان به محتاجاً في سيره إلى الله ولهذه الاستفادة بعث إلى أسفل سافلين القالب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 460
{وَقَالَ} إبراهيم مخاطباً لقومه {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَـانًا} أي : اتخذتموها آلهة لا لحجة قامت بذلك بل {مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} أي : لتتوادوا بينكم وتتلاطفوا لاجتماعكم على عبادتها.
{فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} يعني مدة بقائكم في الدنيا.
وبالفارسية ميخاهيد تاشمارا درعبادت آن ابتان اجتماعي باشد ودوستي بايكديكر تايكديكررا اتباع ميكنيد وبر آن اتباع دوست يكديكر ميشويد همنانكه مؤمنان در عبادت الله بايكديكر مهر دارند ودوستي وتادر دنيا باشيد آن دوستي باقيست).
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} بعد الخروج من الدنيا تنقلب الأمور ويتبدل التواد تباغضاً والتلاطف تلاعناً حيث و{يَكْفُرُ بَعْضُكُم} وهم العبدة {بِبَعْضٍ} وهم الأوثان {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا} أي : يلعن ويشتم كل فريق منكم ومن الأوثان حيث ينطقها الله الفريق الآخر واللعن طرد وإبعاد على سبيل السخط وهو من الإنسان دعاء على غيره.
وفي "التأويلات النجمية" : تكفر النفس بشهوات الدنيا إذا شاهدت وبال استعمالها وخسران حرمانها من شهوات الجنة وتلعن على الدنيا لأنها كانت سبباً لشقاوتها وتلعن الدنيا عليها كما قال عليه السلام : "إن أحدكم إذا لعن الدنيا : قالت الدنيا لعن الله أعصانا " جميعاً العابدون والمعبودون والتابعون والمتبعون {النَّارِ} أي هي منزلكم الذي تأوون إليه ولا ترجعون منه أبداً {وَمَا لَكُم مِّن نَّـاصِرِينَ} يخلصونكم منها كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني
462
فيها وجمع الناصر لوقوعه في مقابلة الجمع ، أي وما لأحد منكم من ناصر أصلاً :
ون بت سنكين شمارا قبله شد
لعنت وكورى شمارا ظاهر شد
نيست هركز ازخدا نفرت شما
شد محرم جنت ورحمت شما
جزء : 6 رقم الصفحة : 462
{فَـاَامَنَ لَه لُوطٌ} آمن له وآمن به متقارب في المعنى ولوط ابن أخته.
يعني : (خواهر زاده إبراهيم بود وبقولي برادر زاده أو) والمعنى صدقه في جميع مقالاته لا في نبوته وما دعا إليه من التوحيد فقط فإنه كان منزهاً عن الكفر وما قيل أنه آمن له حين رأى النار لم تحرقه ينبغي أن يحمل على ما ذكرنا أو على أنه يراد بالإيمان الرتبة العالية منه وهي التي لا يرتقي إليها إلا همم الأفراد وهو أول من آمن به {وَقَالَ} أي إبراهيم للوط وسارة وهي ابنة عمه وكانت آمنت به وكانت تحت نكاحه {إِنِّى مُهَاجِرٌ} أي تارك لقومي وذاهب {إِلَى رَبِّى} أي حيث أمرني والمهاجرة (از زميني شدن واز كسى ببريدن) ومنه الحديث : "لا يذكر الله إلا مهاجراً" أي : قلبه مهاجر للسانه غير مطابق له.
قال في "المفردات" : الهجر والهجران مفارقة الإنسان غيره إما بالبدن أو باللسان أو بالقلب.
قال بعض العارفين : إني راجع من نفسي ومن الكون إليه فالرجوع إليه بالانفصال عما دونه ولا يصح لأحد الرجوع إليه وهو متعلق بشيء من الكون حتى ينفصل عن الأكوان أجمع ولا يتصل بها.
قال الكمال الخجندي :
وصل ميسر نشود جز بقطع
(6/335)
قطع نخست ازهمه ببريدنست
{إِنَّه هُوَ الْعَزِيزُ} الغالب على أمره فيمنعني من أعدائي.
{الْحَكِيمُ} الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة ومصلحة فلا يأمرني إلا بما فيه صلاحي ومن لم يقدر في بلدة على طاعة الله فليخرج إلى بلدة أخرى.
وفي "التأويلات النجمية" : {إِنَّه هُوَ الْعَزِيزُ} أي إن الله أعز من أن يصل إليه أحد إلا بعد مفارقته لغيره {الْحَكِيمُ} الذي لايقبل بمقتضى حكمته إلا طيباً من لوث أنانيته كما قال عليه السلام : "إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب" انتهى.
روي : أن إبراهيم عليه السلام أول من هاجر ولكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان فإنه هاجر من كوثى وهي قرية من سواد الكوفة مع لوط وسارة وهاجر إلى حران ثم منها إلى الشام فنزل فلسطين ونزل لوط سدوم (صاحب كشاف آورده كه إبراهيم دروقت هجرت هفتاد ون ساله بود ودرهمين سال خدا إسماعيل را بوي دادازها جركه كنيزك ساره خاتون بود وون سن مبارك آن حضرت بصد وبيست رسيد حق تعالى ويرا ازساره فرزندي بخشيد نانه ميفرمايد).
جزء : 6 رقم الصفحة : 463
{وَوَهَبْنَا لَهُ} من عجوز عاقر وهي سارة {إِسْحَـاقَ} ولداً لصلبه أي من بعد إسماعيل من هاجر {وَيَعْقُوبَ} نافلة وهي ولد الولد حين أيس من الولادة.
قال القاضي : ولذلك لم يذكر إسماعيل يعني أن المقام مقام الامتنان والامتنان لهما أكثر لما ذكر.
روي : أن الله تعالى وهب له أربعة أولاد إسحاق من سارة وإسماعيل من هاجر ومدين ومداين من غيرهما.
{وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ} في نسله يعني في بني إسماعيل وبني إسرائيل.
{النُّبُوَّةَ} فكثر منهم الأنبياء يقال : أخرج من ذريته ألف نبي وكان شجرة الأنبياء.
{وَالْكِتَـابَ} أي : جنس الكتاب المتناول الكتب الأربعة يعني التوراة والإنجيل والزبور والفرقان {وَءَاتَيْنَـاهُ أَجْرَهُ} بمقابلة
463
هجرته إلينا.
{فِى الدُّنْيَا} بإعطاء الولد في غير أوانه والمال والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وانتماء أهل الملل إليه والثناء والصلاة عليه إلى آخر الدهر (ما وردي كويد مزداو دردنيا بقاء ضيافت اوست يعني همنانكه درحال حياة در مهما نخانه وي بساط دعوت انداخته حالا نيزهست وخاص وعام ازان مائده رفائده بهره مندند) :
سفره اش مبسوط بر أهل جهان
نعمتش مبذول شد بي امتنان
{وَإِنَّه فِى الاخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ} لفي عداد الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء وأتباعهم عليهم السلام.
قال ابن عطاء : أعطيناه في الدنيا المعرفة والتوكل وإنه في الآخرة لمن الراجعين إلى مقام العارفين فالدنيا والآخرة حظ العارفين وذلك بمقاساتهم الشدائد ظاهراً وباطناً كالهجرة ونحوها.
اعلم أن الهجرة على قسمين صورية وقد انقطع حكمها بفتح مكة كما قال عليه السلام : "لا هجرة بعد الفتح" ومعنوية وهي السير من موطن النفس إلى الله تعالى بفتح كعبة القلب وتخليصها من أصنام الشرك والهوى فيجري حكمها إلى يوم القيامة وإذا سار الإنسان من موطن النفس إلى مقام القلب فكل ما أراده يعطيه الله وهو الأجر الدنيوي كما قال أبو سعيد الخراز رحمه الله : أقمنا بمكة ثلاثة أيام لم نأكل شيئاً وكان بحذائنا فقير معه ركوة مغطاة بحشيش وربما أراه يأكل خبزاً حوّاري فقلت له : نحن ضيفك فقال : نعم فلما كان وقت العشاء مسح يده على سارية فناولني درهمين فاشترينا خبزاً فقلت : بم وصلت إلى ذلك فقال : يا أبا سعيد بحرف واحد تخرج قدر الخلق من قلبك تصل إلى حاجتك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 463
ثم اعلم بأن الله تعالى منّ على إبراهيم عليه السلام بهبة الولد والولد الصالح الذي يدعو لوالديه من الأجور الباقية الغير المنقطعة كالأوقاف الجارية والمصاحف المتلوة والأشجار المنتفع بها ونحوها وكذلك منّ عليه بأن جعل في ذريته النبوة.
والإشارة فيه أن من السعادات أن يكون في ذرية الرجل أهل الولاية الذين هم ورثة الأنبياء فإن بهم تقوم الدنيا والدين وتظهر الترقيات الصورية والمعنوية للمسلمين وتسطع الأنوار إلى جانب الأرواح المقربين وأعلى عليين فيحصل الفخر التام والشرف الشامل والانتفاع العام وهؤلاء إن كانا من النسب الطيني فذاك وإن كانوا من النسب الديني فالأولاد الطيبون والأحفاد الطاهرون مطلقاً من نعم الله الجليلة.
نعم الإله على العباد كثيرة
وأجلهن نجابة الأولاد
ربنا هب لنا من أزواجنا إلخ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 463
(6/336)
{وَلُوطًا} أي ولقد أرسلنا لوطاً من قبلك يا محمد اذكر لقومك {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} من أهل المؤتفكات {إِنَّكُمْ} (بدرستي كه شما) {لَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ} أي : الخصلة المتناهية في القبح.
وبالفارسية (بفاحشة ميآييد يعني ميكنيد كاري كه بغايت زشت است) كأن قائلاً قال : لم كانت تلك الخصلة فاحشة؟ فقيل : {مَا سَبَقَكُم بِهَا} أي بتلك الفاحشة {مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَـالَمِينَ} (هيكس ازجهانيان) أي لم يقدم أحد قبلكم عليها لإفراط قبحها وكونها مما تنفر عنها النفوس والطباع وأنتم أقدمتم عليها لخباثة طبيعتكم.
قالوا : لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط قط أي مع طول الزمان وكثرة القرون.
464
أئنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} (آياشما مي آييد ومي كرايي بمردان بطريق مباشرت وآن كار زشت ميكنيد) {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} السبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك وفيه سهولة وقطع الطريق يقال على وجهين أحدهما يراد به السير والسلوك والثاني يراد به الغصب من المارة والسالكين للطريق لأنه يؤدي إلى انقطاع الناس عن الطريق فجعل قطعاً للطريق.
والمعنى تتعرضون لأبناء السبيل بالفاحشة حتى انقطع الناس عن طريقكم.
روي : أنهم كانوا كثيراً ما يفعلونها بالغرباء ويجبرونهم عليها أو تقطعونها بالقتل وأخذ المال وكانوا يفعلون ذلك لكيلا يدخلوا في بلدهم ولا يتناولوا من ثمارهم أو تقطعون سبيل النسل بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحارث {وَتَأْتُونَ} تفعلون وتتعاطون من غير مبالاة {فِى نَادِيكُمُ} في مجلسكم ومتحدثكم الجامع لأصحابكم فإنه لا يقال النادي والندى إلا لما فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يبق نادياً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 464
قال في "كشف الأسرار" : النادي مجمع القوم للسمر والإنس وجمعه أندية {الْمُنكَرَ} .
قال الراغب : المنكر كل شيء تحكم العقول الصحيحة بقبحه أو تتوقف في استقباحه العقول وتحكم بقبحه الشريعة انتهى.
وهو ههنا أمور : منها الجماع واللواطة في المجالس بالعلانية والضراط وهو بالفارسية (بادرا رهايي كردن) زعمت الهند أن حبس الضراط داء وإرساله دواء ولا يحبسون في مجالسهم ضرطة ولا يرون ذلك عيباً وأفلتت من معاوية ريح على المنبر فقال : أيها الناس إن الله خلق أبداناً وجعل فيها أرياحاً فمتى يتمالك الناس أن لا تخرج منهم فقام صعصعة بن صوحان فقال : أما بعد فإن خروج الأرياح في المتوضأة سنة وعلى المنابر بدعة واستغفر الله لي ولكم.
ومنها حل أزرار القباء وضرب الأوتار والمزامير والسخرية بمن يمر بهم وفي هذا إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المناكير وأن لا يجتمعوا على الهزؤ والمناهي ـ ـ سئل ـ ـ الجنيد رحمه الله عن هذه الآية فقال : كل شيء يجتمع الناس عليه إلا الذكر فهو منكر وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو ـ أي المنكر ـ الحذف بالحصى : يعني : (بسر انكشت سبابه وناخن انكشت سترك سنك بمردم انداختن) وكانوا يجلسون على الطريق وعند كل واحد قصعة فيها حصى فمن مر بهم حذفوه فمن أصابه منهم فهو أحق به فيأخذ ما معه وينكحه ويغرّمه ثلاثة دراهم ولهم قاض يقضي بينهم بذلك.
ومنه "هو أجور من قاضي سدوم" وفي الحديث : "إياكم والحذف فإنه لا ينكي عدواً ولا يقتل صيداً ولكن يفقأ العين ويكسر السنُّ" وكان من أخلاق قوم لوط الرمي بالبنادق والجلاهق والصفير وتطريف الأصابع بالحناء والفرقعة أي مد الأصابع حتى تصوت ولذا كرهت في الصلاة وخارجها لئلا يلزم التشبه بهم.
ومن أخلاقهم مضغ العلك ولا يكره للمرأة إن لم تكن صائمة لقيامه مقام السواك في حقهن لأن سنّها أضعف من سنّ الرجال كسائر أعضائها فيخاف من السواك سقوط سنها وهو ينقي الأسنان ويشد اللثة كالسواك ويكره للرجل إذا لم يكن من علة كالبخر لما فيه من تشبه النساء.
ومن أخلاقهم السباب والفحش في المزاح يقال المزاح يجلب صغيرة الشرك وكبيرة الحرب.
ومن أخلاقهم اللعب بالحمام.
عن سفيان الثوري أنه قال : كان اللعب بالحمام من عمل قوم لوط وإن من لعب بالحمام الطيارة لم يمت حتى
465
يذوق ألم الفقر كما في "حياة الحيوان" {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} لما أنكر عليهم قبائحهم {إِلا أَن قَالُوا} له استهزاء (ما ترك أين عملها نخواهيم كرد) {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} (بيار عذاب خدايرا بما) {إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ} فيما تعدنا من نزول العذاب.
وبالفارسية (از راست كويان در آنكه اين فعلها قبيح است وبسبب آن عذاب بشما نازل خواهد شد).
جزء : 6 رقم الصفحة : 464(6/337)
قال في "الإرشاد" : فما كان جواب من جهتهم بشيء من الأشياء إلا هذه الكلمة الشنيعة أي لم يصدر عنهم في هذه المرة من مرات مواعظ لوط وقد كان أوعدهم فيها العذاب وأما ما في سورة الأعراف من قوله : {فَمَا كَانَ} (الأعراف : 39) إلخ وما في سورة النمل من قوله : {فَمَا كَانَ} (النمل : 56) إلخ فهو الذي صدر عنهم بعد هذه المرة وهي المرة الأخيرة من مرات المقاولات الجارية بينهم وبينه عليه السلام.
{قَالَ} لوط بطريق المناجاة لما أيس منهم {رَبِّ} (أي روردكار من) {انصُرْنِى} أي : بإنزال العذاب الموعود {عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} بابتداع الفاحشة وسنها فيمن بعدهم والإصرار عليها فاستجاب الله دعاءه (وفرتكان فرستاد تاقوم أورا عذاب كنند وايشانرا فرموده كه نخست بإبراهيم بكذريد وأورا بشارت دهيد) كما سيأتي وإنما وصفهم بالإفساد ولم يقل عليهم أو على قومي مبالغة في استنزال العذاب عليهم وإشعاراً بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب.
قال الطيبي : الكافر إذا وصف بالفسق أو الإفساد كان محمولاً على غلوه في الكفر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 464
قال في "الإرشاد" : فما كان جواب من جهتهم بشيء من الأشياء إلا هذه الكلمة الشنيعة أي لم يصدر عنهم في هذه المرة من مرات مواعظ لوط وقد كان أوعدهم فيها العذاب وأما ما في سورة الأعراف من قوله : {فَمَا كَانَ} (الأعراف : 39) إلخ وما في سورة النمل من قوله : {فَمَا كَانَ} (النمل : 56) إلخ فهو الذي صدر عنهم بعد هذه المرة وهي المرة الأخيرة من مرات المقاولات الجارية بينهم وبينه عليه السلام.
{قَالَ} لوط بطريق المناجاة لما أيس منهم {رَبِّ} (أي روردكار من) {انصُرْنِى} أي : بإنزال العذاب الموعود {عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} بابتداع الفاحشة وسنها فيمن بعدهم والإصرار عليها فاستجاب الله دعاءه (وفرتكان فرستاد تاقوم أورا عذاب كنند وايشانرا فرموده كه نخست بإبراهيم بكذريد وأورا بشارت دهيد) كما سيأتي وإنما وصفهم بالإفساد ولم يقل عليهم أو على قومي مبالغة في استنزال العذاب عليهم وإشعاراً بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب.
قال الطيبي : الكافر إذا وصف بالفسق أو الإفساد كان محمولاً على غلوه في الكفر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 464
{وَلَمَّا جَآءَتْ} (آن هنكام كه آمدند) {رُسُلُنَآ} يعني الملائكة وهم جبريل ومن معه {إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} أي بالبشارة والولد النافلة {قَالُوا} لإبراهيم في تضاعيف الكلام {إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ} أي قرية سدوم والإضافة لفظية لأن المعنى على الاستقبال {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَـالِمِينَ} بالكفر والتكذيب وأنواع المنكرات.
{قَالَ} إبراهيم للرسل إشفاقاً على المؤمنين ومجادلة عنهم {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} (لوط دران شهرست) أي فكيف تهلكونها سمي بلوط لأن حبه ليط بقلب عمه إبراهيم أي تعلق ولصق وكان إبراهيم يحبه حباً شديداً {قَالُوا} أي : الملائكة {نَحْنُ أَعْلَمُ} منك {بِمَن فِيهَا} ولسنا بغافلين عن حال لوط فلا تخف أن يقع حيف على مؤمن.
{لَنُنَجِّيَنَّهُ} أي : لوطاً {وَأَهْلَهُ} أتباعه المؤمنين وهم بناته {إِلا امْرَأَتَه كَانَتْ مِنَ الْغَـابِرِينَ} أي الباقين في العذاب أو القرية.
يعني : (خواهيم كفت تالوط ازميان قوم بيرون آيد باهل خود وهمه كسان وي بيرون روند مكر زن أوكه درميان قوم بماند وابايشان هلاك شود).
جزء : 6 رقم الصفحة : 466
{وَلَمَّآ أَن} صلة لتأكيد الفعلين وما فيهما من الاتصال {جَآءَتْ رُسُلُنَآ} المذكورون بعد مفارقة إبراهيم.
{لُوطًا سِىاءَ بِهِمْ} أي : اعتراه المساءة بسببهم مخافة أن يتعرض لهم قومه بسوء أي الفاحشة لأنهم كانوا يتعرضون للغرباء ولم يعرف لوط أنهم ملائكة وإنما رأى شباناً مرداً حساناً بثياب حسان وريح طيبة فظن أنهم من الإنس {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته فلم يدر أيأمرهم بالخروج أم بالنزول كقولهم : ضاقت يده وبإزائه رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقاً به قادراً عليه وذلك أن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع.
{وَقَالُوا} لما رأو فيه أثر الضجرة.
يعني : (فرشتكان أثر ملال برحبين مبارك لوط مشاهده كرده
466
(6/338)
أورا تسلى دادند وكفتند).
{لا تَخَفْ} من قومك علينا.
{وَلا تَحْزَنْ} على شيء {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} مما يصيب القوم من العذاب {إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَـابِرِينَ * إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ} يعني سدوم وكانت مشتملة على سبعمائة ألف رجل كما في "كشف الأسرار".
{رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ} عذاب منها يعني الخسف والحصب والرجز العذاب الذي يقلق المعذب أي يزعجه من قولهم : ارتجز إذا ارتعش واضطرب {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} بسبب فسقهم المستمر فانتسف جبريل المدينة وما فيها بأحد جناحيه فجعل عاليها سافلها وانصبت الحجارة على من كان غائباً أي بعد خروج لوط مع بناته منها (س بحكم خداي لوط با هالىء خود خلاص يافت وكفار موتفكه هلاك شدند وشهرخراب شده إيشان عبرت عالميان كشت نانه ميفرمايد).
جزء : 6 رقم الصفحة : 466
{وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ} أي : من القرية ومن للتبيين لا للتبعيض لأن المتروك الباقي ليس بعض القرية بل كلها.
{بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ} (نشانه روشن) وهي قصتها العجيبة وحكايتها السابقة أو آثار ديارها الخربة أو الحجارة الممطورة التي على كل واحد منها اسم صاحبها فإنها كانت باقية بعدها وأدركها أوائل هذه الأمة وقيل : ظهور الماء الأسود على وجه الأرض حين خسف بهم وكان منتناً يتأذى الناس برائحته من مسافة بعيدة.
{لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولهم في الاعتبار وهو متعلق إما بتركنا أو ببينة وفيه إشارة إلى شرف العقل فإنه هو الذي يعتبر ويردع الإنسان عن الذنب والوقوع في الخطر.
وفي "المثنوي" :
عقل إيماني و شحنه عادلست
اسبان وحاكم شهر دلستهمو كربه باشد أو بيدار هوش
دزد درسوارخ ماند همو موش
درهر آنجاكه بر آرد موش دست
نيست كربه ياكه نقش كربه است
كربه ون شير شير افكن بود
عقل ايماني كه اندرتن بود
غره أو حاكم دردندكان
نعره أو مانع رندكان
شهر ردزدست وبرجامه كنى
خواه شحنه باش كوو خواه ني
وعن أنس رضي الله عنه : أثنى قوم على رجل عند رسول الله حتى بالغوا في الثناء بخصال الخير فقال رسول الله : "كيف عقل الرجل" فقالوا : يا رسول الله نخبرك عنه باجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله فقال نبي الله عليه السلام : "إن الأحمق بحمقه أعظم من فجور الفاجر وإنما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم" قيل : كل شيء إذا كثر رخص غير العقل فإنه إذا كثر غلا.
قال أعرابي : لو صور العقل ظلمت معه الشمس ولو صور الحمق لأضاء معه الليل أي لكان الليل مضيئاً بالنسبة إليه مع أنه لا ضوء فيه من حيث أنه ليل.
وفي "المثنوي" :
كفت غمبركه أحمق هركه هست
أو عدو ماست غول ورهزن استهركه أو عاقل بود ازجان ماست
روح أو وريح اوريحان ماست
جزء : 6 رقم الصفحة : 467
مائده عقلست ني نا وشوى
نو عقلست أي سر جان را غد
467
نيست غير نور آدم را خورش
ازجز آن جان نبايد رورش
زين خورشها اندك اندك بازبر
زينغداي خربود نيآن حر
تاغداي أصل را قابل شوى
قلمهاي نوررا آكل شوى
ثم إن الآية تدل على كمال قدرته على الإنجاء والانتقام من الأعداء الله غالب على أمره ألا أن حزب الله هم المفلحون وهم الأنبياء والأولياء ومن يليهم وعلى أن المعتبر في باب النجاة والحشر أهل الفلاح والرشاد وهو حبهم وحسن اتباعهم لأن الاتصال المعنوي بذلك الاختلاط الصوري فقط ألا يرى إلى امرأة لوط وامرأة نوح حيث قيل لهما : ادخلا النار مع الداخلين لخيانتهما وعدم إطاعتهما وقد نجت بنتا لوط لإيمانهما فسبحان من يخرج الحي من الميت {وَإِلَى مَدْيَنَ} أي وأرسلنا إلى أهل مدين {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} لأنه من نسبهم وقد سبق تفسير الآية على التفصيل مراراً {فَقَالَ} شعيب بطريق الدعوة : يا قَوْمِ} (أي كروه من) {اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده {وَارْجُوا الْيَوْمَ الاخِرَ} المراد يوم القيامة لأنه آخر الأيام أي توقعوه وما سيقع فيه من فنون الأحوال وافعلوا اليوم من الأعمال ما تنتفعون به في العاقبة وتأمنون من عذاب الله ويقال : وارجوا يوم الموت لأنه آخر عمرهم {وَلا تَعْثَوْا} عثا أفسد من الباب الأولى {فِى الأرْضِ} في أرض مدين حال كونكم {مُفْسِدِينَ} بنقص الكيل والوزن أي لا تعتدوا حال إفسادكم وإنما قيده وإن غلب في الفساد لأنه قد يكون فيه ما ليس بفساد كمقابلة الظالم المعتدي بفعله ومنه يتضمن صلاحاً راجحاً كقتل الخضر الغلام وخرقه السفينة.
(6/339)
أي : شعيباً ولم يمتنعوا من الفساد {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} أي الزلزلة الشديدة حتى تهدمت عليهم دورهم وفي سورة هود : {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (هود : 94) أي صيحة جبريل فإنها الموجبة للرجفة بسبب تمويجها للهواء وما يجاوره من الأرض {فَأَصْبَحُوا} أي صاروا {فِى دَارِهِمْ} أي بلدهم أومنازلهم ولم يجمع بأن يقال في ديارهم لأمن اللبس {جَـاثِمِينَ} باركين على الركب ميتين مستقبلين بوجوههم الأرض وذلك بسبب عدم استماعهم إلى داعي الحق وتزلزل باطنهم فالجزاء من جنس العمل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 467
{وَعَادًا} منصوب بإضمار فعل دل عليه ما قبله أي وأهلكنا عاداً قوم هود {وَثَمُودَا} قوم صالح وهو غير مصروف على تأويل القبيلة {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَـاكِنِهِمْ} أي : وقد ظهر لكم يا أهل مكة إهلاكنا إياهم من جهة بقية منازلهم باليمن ديار عاد والحجر ديار ثمود بالنظر إليها عند مروركم بها في أسفاركم {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ} من فنون الكفر والمعاصي وحسنها في أعينهم {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} صرفهم عن السبيل الذي وجب عليهم سلوكه وهو السبيل السوي الموصل إلى الحق على التوحيد {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} يقال : استبصر في أمره إذا كان ذا بصيرة أي والحال أنهم أي عاداً وثمود قد كانوا ذوي بصيرة عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال ولكنهم لم يفعلوا ذلك لمتابعتهم الشيطان فلم ينتفعوا بعقولهم في تمييز الحق من الباطل فكانوا كالحيوان.
وفي "المثنوي" :
مهر حق برشم وبركوش خرد
كر فلاطونست حيوانش كنكد
468
{وَقَـارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَـامَـانَ} معطوف على عاداً وتقديم قارون لشرف نسبه كما سبق ففيه تنبيه لكفار قريش أن شرف نسبهم لا يخلصهم من العذاب كما لم يخلص قارون {وَلَقَدْ جَآءَهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَـاتِ} بالدلالات الواضحة والمعجزات الباهرة.
{فَاسْتَكْبَرُوا} وتعظموا عن قبول الحق {فِى الأرْضِ} (در زمين مصر) {وَمَا كَانُوا سَـابِقِينَ} مفلتين فائتين بل أدركهم أمر الله فهلكوا من قولهم سبق طالبه إذا فاته ولم يدركه.
قال الراغب : أصل السبق التقدم في السير ثم تجوز به في غيره من التقدم كما قال بعضهم : إن الله تعالى طالب كل مكلف بجزاء عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 467
{فَكُلا} تفسير لما ينبىء عنه عدم سبقهم بطريق الإبهام أي كل واحد من المذكورين {أَخَذْنَا بِذَنابِهِ} أي عاقبناه بجنايته لا بعضهم دون بعض كما يشعر به تقديم المفعول.
قال بعضهم : الأخد أصله باليد ثم يستعار في مواضع فيكون بمعنى القبول كما في قوله : {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَالِكُمْ إِصْرِى} (آل عمران : 81) أي : قبلتم عهدي وبمعنى التعذيب في هذا المقام.
قال في "المفردات" : الأخذ حوز الشيء وتحصيله وذلك تارة بالتناول نحو {مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلا مَن وَجَدْنَا مَتَـاعَنَا عِندَهُ} (يوسف : 79) وتارة بالقهر نحو {لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} (البقرة : 255) ويقال : أخذته الحمى ويعبر عن الأسير بالمأخوذ والأخيذ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 469
قال في "الأسئلة المقحمة" : قوله : {فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنابِهِ} دليل على أنه تعالى لا يعاقب أحداً إلا بذنبه وأنهم يقولون : إنه تعالى لو عاقب ابتداء جاز والجواب نحن لا ننكر أنه تعالى يعاقب الكفار على كفرهم والمذنبين بذنبهم وإنما الكلام في أنه لو عاقب ابتداء لا يكون ظالماً لأنه يفعل ما يشاء بحكم الملك المطلق {فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} تفصيل للأخذ أي ريحاً عاصفاً فيه حصباء وهي الحصى الصغار وهم عاد أو ملكاً رماهم بها وهم قوم لوط {وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} كمدين وثمود صاح بهم جبريل صيحة فانشقت قلوبهم وزهت أرواحهم.
وبالفارسية (بانك كرفت ايشانرا تا زهره إشان ترقيد) {وَمِنْهُم مَّنْ} (وازايشان كسى بودكه) {خَسَفْنَا بِهِ الارْضَ} (فرو برديم أورا بزمين ون قارون واتباع أو) فالباء للتعدية وهو الجزاء الوفاق لعمله لأن المال الكثير يوضع غالباً تحت الأرض {وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا} كقوم نوح وفرعون وقومه والإغراق : (غرقه كردن) كما في "التاج" والغرق الرسوب في الماء أي السفول والنزول فيه {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} بما فعل بهم بأن يضع العقوبة في غير موضعها فإن ذلك محال من جهته تعالى لأنه قد تبين بإرسال الرسل {وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالاستمرار على ما يوجب العذاب من أنواع الكفر والمعاصي :
أي كه حكم شرع را رد ميكنى
راه باطل ميروى بدمكيني
ون توبد كردي بدي يا بي جزا
س بديها جمله باخود ميكنى
وفي "المثنوي" :
س تراهر غم كه يش آيد زدرد
بركسى تهمت منه برخويش كرد
(6/340)
قال وهب بن منبه : قرأت في بعض الكتب : حلاوة الدنيا مرارة الآخرة ومرارة الدنيا حلاوة الآخرة وظمأ الدنيا ريّ الآخرة وريّ الدنيا ظمأ الآخرة فرح الدنيا حزن الآخرة
469
وحزن الدنيا وفرح الآخرة ومن قدم شيئاً من خير أو شر وجده والأمر بآخره ألا ترى أن هؤلاء المذكورين لما صار آخر أمرهم التذكيب أوخذوا عليه ولو صار التصديق لسومحوا فيما صدر عنهم أولاً.
والحاصل أنهم لما عاشوا على الإصرار هلكوا على العذاب ويحشرون على ما ماتوا عليه ولذا يقولون عند القيام من قبورهم : واويلاه فقط وعظ الله بهذه الآيات أهل مكة ومن جاء بعدهم إلى يوم القيام ليعتبروا وينتفعوا بعقولهم ويجتنبوا عن الظلم والأذى والاستكبار والإفساد فإن فيه الصلاح والنجاة والفوز بالمراد لكن التربية والإرشاد إنما تؤثر في المستعد من العباد.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 6 رقم الصفحة : 469
ون بود أصل جوهري قابل
تربتي را درو اثر باشد
هي صيقل نكو نداند كرد
آهني راكه بدكهر باشد
والقرآن كالبحر وإنما يتطهر به من كان من شأنه ذلك كالإنسان وأما الكلب فلا.
سك بدرياي هفت كانه موى
كه ون ترشد ليدتر باشد
خر عيسى اكر بمكه برند
ون بيايد هنوز خرباشد
حكي : أن بعض المتشيخين ادعى الفضل بسبب أنه خدم فلاناً العزيز أربعين سنة فقال واحد من العرفاء : كان لذلك العزيز بغل قد ركبه أربعين سنة فلم يزل من أن يكون بغلاً حتى هلك على حاله أي لم يؤثر فيه ركوب الإنسان الكامل لعدم استعداده لكونه إنساناً فأفحم المدعي ولله دره نسأل الله الخروج من موطن النفس والإقامة في حظيرة القدس.
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ} مثل الشيء بفتحتين صفته كما في "المختار" والاتخاذ افتعال من الأخذ والمراد بالأولياء الآلهة أي الأصنام.
والمعنى : صفتهم العجيبة فيما اتخذوه معتمداً.
{كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ} يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والغالب في الاستعمال التأنيث وتاؤه كتاب طاغوت أي زائدة لا للتأنيث.
{اتَّخَذَتْ} لنفسها {بَيْتًا} أي : كمثلها فيما نسجته في الوهن بل ذلك أوهن من هذا لأن له حقيقة وانتفاعاً في الجملة فالآية من قبيل تشبيه الهيئة بالهيئة لتشبيه حال من اتخذ الأصنام أولياء وعبدها واعتمد عليها راجياً نفعها وشفاعتها بحال العنكبوت التي اتخذت بيتاً فكما أن بيتها لا يدفع عنها حراً ولا برداً ولا مطراً ولا أذى وينتقض بأدنى ريح فكذلك الأصنام لا تملك لعابديها نفعاً ولا ضراً ولا خيراً ولا شراً
يش وب ويش سنك نقش كند
كه ساكولان سرها مي نهند
ومن تخيل السراب شراباً لم يلبث إلا قليلاً حتى يعلم أنه كان تخييلاً ومن اعتمد شيئاً سوى الله فهو هباءً لا حاصل له وهلاكه في نفس ما اعتمد ومن اتخذ سواه ظهيراً قطع من نفسه سبيل العصمة ورد إلى حوله وقوته.
وفي الآية إشارة إلى أن الذين اتخذوا الله ولياً وعبدوه واعتمدوا عليه وهم المؤمنون فمثلهم كمثل من بنى بيتاً من حجر وجص له حائط يحول عن تطرق الشرور إلى من فيه وسقف مظل يدفع عنه البرد والحر.
دوستيهاي همه عالم بروب از دل كمال
اك بايد داشتن خولت سراي دوست را
{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ} أي : أضعفها.
وبالفارسية (سست ترين خانها) {لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ}
470
لا بيت أوهن منه فيما تتخذه الهوام لأنه بلا أساس ولا جدار ولا سقف لا يدفع الحر والبرد ولذا كان سريع الزوال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 469
وفيه إشارة إلى أنه لا أصل لموالاة ما سوى الله فإنه لا أس لبنيانها يقول الفقير :
تكيه كم كن صوفي برد يوار غير
غير أو ديار ني خلاق دير
{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي : شيئاً من الأشياء لجزموا أن هذا مثلهم وأبعدوا عن اعتقاد ما هذا مثله.
قال الكاشفي : (صاحب بحر الحقائق آورده كه عنكبون هرند برخود مي تند ندان براي نفس خود ميسازد وقيد بدست واي خود مي نهد س خانه أو محبس أوست آنها نيزكه بدون خداي تعالى أوليا كيرند يعني رستش هوا ويروي دنيا ومتابعت شيطان ميكنند بسلاسل وأغلال ووزر وبالمقيد كشته روى خلاصي ندارندوعاقبت در ملهكه نيران ودركه بعد وحرمان افتاده معاقب ومعذب كردند وبعضي هواي نفس را در بي اعتباري بتار عنكبوت تشبيه كرده اند) كما قيل :
از هوا بكذر كه س بي اعتبار افتاده است
رشته دام هوا ون تار بيت عنكبوت
اللهم ارزقنا دنيا بلا هوى وخلصنا مما يطلق عليه السوى.
قال بعض العارفين : (عاشقان در دمي عيد كنند عنكبوتان مكس قديدكنند.
دو عيد عبارتست از نيستي هستي كه هر لحظه در نظر عارف واقع است ه عيد در إصلاح ما يعود على القلباست.
وجماعتي كه بدام تعينات كرفتارندكه عنكبوتان عبارت ازان جماعت است مكس قديد كنند يعني وجودات موهومه عالم را متحقق مي شمارند واز حقيقت حال غافلندكه اشيارا وجود حقيقي نيست وموجوديت اشيا عبارت از نسبت وجود حقست با يشان وون ان نسبت قطع كرده ميشود اشيا معدوما نندكه) التوحيد : إسقاط الإضافات.
(6/341)
جهانرانيست هستي جز مجازى
سراسر حال أو لهواست وبازى
كذا قال بعض أهل التأويل.
يقول الفقير : لعل العيدين إشارة إلى النفس الداخل والخارج وللعارفين في كل منهما عيد أكبر باعتبار كونهم مع الحق وشهوده والعناكيب إشارة إلى العباد الذين يتقيدون بالعبادات الظاهرة من غير شهود الحق فأين من يأكل القديد ممن يأكل الحلاوى {إِنَّ اللَّهَ} على إضمار القول أي قل للكفرة تهديداً إن الله {يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ} يعبدون وما استفهامية منصوبة بيدعون ويعلم معلق عنها.
{مِن دُونِهِ} أي : من دون الله {مِّن شَىْءٍ} من للتبين أي سواء كان ما يدعون صنماً أو نجماً أو ملكاً أو جنياً أو غيره لا يخفى عليه ذلك فهو يجازيهم على كفرهم {وَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب القادر على انتقام أعدائه {الْحَكِيمُ} ذو الحكمة في ترك المعاجلة بالعقوبة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 469
ولما كان الجهلة والسفهاء من قريش يقولون : إن رب محمد لا يستحيي أن يضرب مثلاً بالذباب والبعوضة والعنكبوت ويضحكون من ذلك قال تعالى :
جزء : 6 رقم الصفحة : 469
{وَتِلْكَ الامْثَـالُ} أي هذا المثل وأمثاله والمثل كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول أي تشبيه حال الثاني بالأول {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} نذكرها ونبينها لأهل مكة وغيرهم تقريباً لما بعد عن أفهامهم.
قال في "المفردات" : ضرب المثل هو من ضرب الدرهم اعتباراً بضربه
471
المطرقة وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره {وَمَا يَعْقِلُهَآ} أي وما يفهم حسن تلك الأمثال وفائدتها {إِلا الْعَـالِمُونَ} أي الراسخون في العلم المتدبرون في الأشياء على ما ينبغي وهم الذين عقلوا عن الله أي ما صدر عنه فعملوا بطاعته واجتنبوا سخطه والعالم على الحقيقة من حجزه علمه عن المعاصي فالعاصي جاهل وإن كان عالماً صورة.
فإن قيل لم لم يقل وما يعلمها إلا العاقلون والعقل يسبق العلم؟.
قلنا : لأن العقل آلة تدرك بها معاني الأشياء بالتأمل فيها ولا يمكن التأمل فيها والوصول إليها بطريقها إلا بالعلم.
ودلت الآية على فضل العلم على العقل ولا عالم منا إلا وهو عاقل فأما العاقل فقد يكون غير عالم.
قال الإمام الراغب في "المفردات" : العقل يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل ولهذا قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أقول :
العقل عقلان
فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مطبوع
إذا لم يك مسموع
كما لا تنفع الشمس
وضوء العين ممنوع
وإلى الأول أشار عليه السلام بقوله : "ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من العقل" وإلى الثاني أشار بقوله : "ما كسب أحد شيئاً أفضل من عقل يهديه إلى هدى ويرده عن ردى" وهذا العقل هو المعني بقوله : {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَـالِمُونَ} وكل موضع ذم فيه الكفار بعدم العقل فإشارة إلى الثاني دون الأول وكل موضع رفع فيه التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى الأول انتهى : وفي "المثنوي".
جزء : 6 رقم الصفحة : 471
عقل دو عقلست أول مكسبي
كه در آموزى ودر مكتبصبى
از كتاب واوستاد وفكر وذكر
از علوم وازمعانى خوب وبكر
عقل تو افزون شود برديكران
ليك توباشي ز حفظ آن كران
لوح حافظ باشي اندر دور وكشت
لوح محفوظ اسوت كوزين دركذشت
عقل ديكر بخشش يزدان بود
شمه آندرميانجان بود
ون زسينه آب دانش جوش كرد
ني شود كنده ني ديرينه ني زرد
وررهنبعش بود بسته ه غم
كو همي جوشد زخانه مبدم
عقل تحصيلي مثال جويها
كان رود درخانه زخانه دمبدم
راه آبش بسته شد شد بي نوا
از درون خويشتن ون شمه را
جهد كن تابير عقل ودين شوى
تاو عقل كل توباطن بين شوى
{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ} أي حال كونهما حقاً مراعياً للحكم والمصالح على أنه حال من فاعل خلق أو ملتبسة بالحق الذي لا محيد عنه مستتبعة للمنافع الدينية والدنيوية على أنه حال من مفعوله فإنها مع اشتمالها على جميع ما يتعلق به معاشهم شواهد دالة على وحدانيته وعظم قدرته وسائر صفاته كما أشار إليه بقوله : {إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي : في خلقهما {لايَةً} دالة على شؤونه {لِّلْمُؤْمِنِينَ} تخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الهداية والإرشاد في خلقهما
472
للكل لأنهم المنتفعون بذلك.
وفي "التأويلات النجمية" : {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ} لمرآتية صفات الحق تعالى ليكون مظهرها {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً} أي في السموات والأرض آية حق مودعة ولكن {لِّلْمُؤْمِنِينَ} الذين ينظرون بنور الله فإن النور لا يرى إلا بالنور ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
جهان مرآت حسن شاهد ماست
فشاهد وجهه في كل ذرات
(6/342)
فعلى العاقل النظر إلى آثار رحمة الله والتفكر في عجائب صنعه وبدائع قدرته حتى يستخرج الدر من بحار معرفته.
روي : أن ادود عليه السلام دخل في محرابه فرأى دودة صغيرة فتفكر في خلقها وقال : ما يعبأ الله بخلق هذه فانطقها الله تعالى فقالت : يا داود أتعجبك نفسك وأنا على ما أنا والله أذكر الله وأشكره أكثر منك على ما آتاك الله.
وحكي : أن رجلاً رأى خنفساء فقال : ماذا يريد الله تعالى من خلقه هذه أحسن شكلها أم طيب ريحها؟ فابتلاه الله بقرحة عجز عنها الأطباء حتى ترك علاجها فسمع يوماً صوت طبيب من الطرقيين ينادي في الدرب فقال : هاتوه حتى ينظر في أمري فقالوا : ما تصنع بطرقي وقد عجز عنك حذاق الأطباء؟ فقال : لا بد لي منه فلما أحضروه ورأى القرحة استدعى الخنفساء فضحك الحاضرون فتذكر العليل القول الذي سبق منه فقال : أحضروا ما طلب فإن الرجل على بصيرة فأحرقها ووضع رمادها على قرحته فبرئت بإذن الله تعالى فقال للحاضرين : إن الله تعالى أراد أن يعرفني أن أخس المخلوقات أعز الأدوية كذا في "حياة الحيوان" فظهر أن الله تعالى ما خلق شيئاً باطلاً بل خلق الكل حقاً مشتملاً على المصلحة سواء عرفها الإنسان أو لم يعرفها واللائق بشأن المؤمن أن يسلك طريق التفكر ثم يترقى منه حتى يرى الأشياء على ما هي عليه كما هو شأن أرباب البصيرة.
وقد قالوا : المشاهدة ثمرة المجاهدة فلا بد من استعمال العقل وسائر القوى وكذا الأعضاء فبالخدمة تزداد الحرمة ويحصل الانكشاف وتزول الحيرة ويجيء الاطمئنان.
قال المولى الجامي :
جزء : 6 رقم الصفحة : 471
بي طلب نتوان وصالت يافت آرى كي دهد
دولت حج دست جزراه بيابان برده را
ومعنى الطلب ليس القصد القلبي والذكر اللساني فقط بل الاجتهاد بجميع الظاهر والباطن بقدر الإمكان وهو وظيفة الإنسان ثم الفتح بيد الله إن شاء أراه ملكوت السموات والأرض وجعله مكاشفاً ومعايناً ومحققاً واحداً وإن شاء أوقفه في مقامه وأقل الأمر حصول التفكر بالعقل المودع ويلزم شكره فإن الله تعالى أخرجه بذلك عن دائرة الغافلين المعرضين اللهم اجعلنا من المتفكرين المتيقظين والمدركين لحقائق الأمور في كل شيء من خلق السماوات والأرض.
{اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ} التلاوة القراءة على سبيل التوالي والإيحاء إعلام في الخفاء ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى الأنبياء والأولياء وحي.
والمعنى : اقرأ يا محمد ما أنزل إليك من القرآن تقرباً إلى الله بقراءته وتحفظاً لنظمه وتذكراً لمعانيه وحقائقه فإن القارىء المتأمل ينكشف له في كل مرة ما لم ينكشف قبل وتذكيراً للناس وحملهم على العمل بما فيه من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق كما روي أن عمر رضي الله عنه أتى بسارق فأمر بقطع يده فقال لم تقطع يدي؟ وكان جاهلاً بالأحكام فقال له عمر : بما أمر الله في كتابه
473
فقال : اتل عليَّ فقال : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءَا بِمَا كَسَبَا نَكَـالا مِّنَ اللَّه وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقال السارق : والله ماسمعتها ولو سمعتها ما سرقت فأمر بقطع يده ولم يعذره.
فسنّ التراويح بالجماعة ليسمع الناس القرآن.
وعن علي رضي الله عنه من قرأ القرآن وهو قائم في الصلاة كان له بكل حرف مائة حسنة ومن قرأ وهو جالس في الصلاة فله بكل حرف خمسون حسنة ومن قرأ وهو في غيرالصلاة وهو على وضوء فخمس وعشرون حسنة ومن قرأ على غير وضوء فعشر حسنات.
وعن الحسن البصري رحمه الله : قراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من صلاة لا يكون فيها كثير القراءة كما قال الفقهاء : طول القيام أفضل من كثرة السجود لقوله عليه السلام : "أفضل الصلاة طول القنوت" أي : القيام وبكثرة الركوع والسجود يكثر التسبيح والقراءة أفضل منه.
قالوا : أفضل التلاوة على الوضوء والجلوس نحو القبلة وأن يكون غير مربع ولا متكىء ولا جالس جلسة متكبر ولكن نحو ما يجلس بين يدي من يهابه ويحتشم منه وقد سبق في آخر سورة النمل بعض ما يتعلق بالتلاوة من الآداب والأسرار فارجع.
{اتْلُ مَآ} أي : داوم على إقامتها وحيث كانت الصلاة منتظمة للصلوات المكتوبة المؤداة بالجماعة وكان أمره عليه السلام بإقامتها متضمناً لأمر الأمة بها علل بقوله تعالى : {اتْلُ مَآ} المعروفة وهي المقرونة بشرائطها الظاهرة والباطنة {تَنْهَى} أي من شأنها وخاصيتها أن تنهاهم وتمنعهم {عَنِ الْفَحْشَآءِ} (از كارى كه نزد عقل زشت بود) {وَالْمُنْكَرِ} (واز عملى كه بحكم شرع منهى باشد).
جزء : 6 رقم الصفحة : 471
(6/343)
قال في "الوسيط" : المنكر لا يعرف في شريعة ولا سنة أي سواء كان قولاً أو فعلاً والمعروف ضده.
يعني : (نماز سبب باز استادن مى باشد از معاصى جه مداومت بروموجب داوم ذكر ومورث كمال خشيت است وبخاصيت بنده را از كناه باز دارد) ـ كما روي ـ أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس ثم لا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف لرسول الله فقال : "إن صلاته ستنهاه" فلم يلبث أن تاب وحسن حاله وصار من زهاد الصحابة رضي الله عنه وعنهم.
يقول الفقير : لا شك أن لكل عمل خيراً أو شراً خاصية فخاصية الصلاة إثارة الخشية من الله والنهي عن المعاصي كما أن خاصية الكفر الذي قوبل به ترك الصلاة في قوله عليه السلام : "من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر" إثارة الخوف من الناس والإقبال على المناهي دل عليه قوله تعالى : {سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِه سُلْطَـانًا} (آل عمران : 151) وفي الحديث "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً" يعني : تكون صلاته وبالاً عليه ويكون سبب القرب في حقه سبب البعد لعل ذلك لعدم خروجه عن عهدة حقيقة الصلاة كما قال بعضهم : حقيقة حضور القلب بنعت الذكر والمراقبة بنعت الفكر فالذكر في الصلاة يطرد الغفلة التي هي الفحشاء والفكر يطرد الخواطر المذمومة التي هي المنكر فهذه الصلاة كما تنهى صاحبها وهو في الصلاة عما ذكر كذلك تنهاه وهو في خارجها عن رؤية الأعمال وطلب الأعواض ومثل هذه الصلاة قرة عين العارفين لأنها مبنية على المعاينة لا على المغايبة والصلاة فريضة كانت أو نافلة أفضل الأعمال البدنية لأن لها تأثيراً عظيماً في إصلاح النفس التي هي مبدأ جميع الفحشاء والمنكر
474
وفي الخبر : "قال عيسى عليه السلام يقول الله : بالفرائض نجا مني عبدي وبالنوافل يتقرب إلي".
واعلم أن الصلاة على مراتب فصلاة البدن بإقامة الأركان المعلومة.
وصلاة النفس بالخشوع والطمأنينة بين الخوف والرجاء.
وصلاة القلب بالحضور والمراقبة.
وصلاة السر بالمناجاة والمكالمة.
وصلاة الروح بالمشاهدة والمعاينة.
وصلاة الخفي بالمناغاة والملاطفة ولا صلاة في المقام السابع لأنه مقام الفناء والمحبة الصرفة في عين الوحدة.
فنهاية الصلاة الصورية بظهور الموت الذي هو صورة اليقين كما قال تعالى : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي الموت.
ونهاية الصلاة الحقيقة بالفناء المطلق الذي هو اليقين فكل صلاة تنهى عن الفحشاء في مرتبتها.
يعني : (نماز تن ناهيست از معاصي وملاهي.
ونماز نفس مانعست از رذائل وعلائق واخلاق رديه وهيآت مظلمة.
ونمازدل بازدارد ازظهور ووفور غفلت را.
ونماز سرمنع نمايد ازالتفات بما سواى حضرت را را.
ونماز استقرار بملاحظة اغيار.
ونماز خفي بكذارند سالك را زا شهود اثنينت يعني بروظاهر كرددكه ازرورى حقيقت)
جزء : 6 رقم الصفحة : 471
جزيكي نيست نقد ابن عالم
باز بين وبمعالمش مفروش
قال بعض أرباب الحقيقة : رعاية الظاهر سبب للصحة مطلقاً وأرى أن فوت مافات من ترك الصلوات.
(6/344)
يقول الفقير : هذا يحتمل معنيين.
الأول أنه على سبيل الفرض والتقدير يعني لو فرض للمرء ما يكون سبباً لبقائه في الدنيا لكان ذلك إقامة الصلاة فكان وفاته إنما جاءت من قبل ترك الصلاة كما أن الصدقة والصلة تزيدان في الأعمار يعني : لو فرض للمرء ما يزيد به العمر لكان ذلك هو الصدقة وصلة الرحم ففيه بيان فضيلة رعاية الأحكام الظاهرة خصوصاً من بينها الصلاة والصدقة والصلة.
والثاني أن لكل شيء حياً أو جماداً أجلاً علق ذلك بانقطاعه عن الذكر لأنه ما من شيء إلا يسبح بحمده فالشجر لا يقطع وكذا الحيوان لا يقتل ولا يموت إلا عند انقطاعه عن الذكر وفي الحديث : "إن لكل شيء أجلاً فلا تضربوا إماءكم على كسر إنائكم" فمعنى ترك الصلاة ترك التوجه إلى الله بالذكر والحضور معه لأن العمدة فيها هي اليقظة الكاملة فإذا وقعت النفس في الغفلة انقطع عرق حياتها وفاتت بسببها وهذا بالنسبة إلى الغافلين الذاكرين وأما الذين على صلاتهم دائمون فالموت يطرأ على ظاهرهم لا على باطنهم فإنهم لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار كما ورد في بعض الآثار هذا هو اللائح والله أعلم.
{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي والصلاة أكبر من سائر الطاعات وإنما عبر عنها بالذكر كما في قوله تعالى : {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة : 9) للإيذان بأن ما فيها من ذكره تعالى هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات أو ولذكر الله أفضل الطاعات لأن ثواب الذكر هو الذكر كما قال تعالى : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) وقال عليه السلام : "يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ أكثر من الملأ الذي ذكرني فيهم" فالمراد بهذا الذكر هو الذكر الخالص وهو أصفى وأجلى من الذكر المشوب بالأعمال الظاهرة وهو خير من ضرب الأعناق وعتق الرقاب وإعطاء المال للأحباب وأول الذكر توحيد ثم تجريد ثم تفريد كما قال عليه السلام : "سبق المفردون" قالوا : يا رسول
475
الله وما المفردون؟ قال : "الذاكرون الله كثيراً والذاكرات".
قال الشيخ العطار :
جزء : 6 رقم الصفحة : 471
أصل تجريد وداع شهوتست
بلكه كلى انقطاع لذتست
كرتوببر يدي زموجدات أميد
آنكه ازتفريد كردى مستفيد
والذكر طرد الغفلة ولذا قالوا : ليس في الجنة ذكر أي لأنه لا غفلة فيها بل حال أهل الجنة الحضور الدائم.
وفي "التأويلات النجمية" : ما حاصله أن الفحشاء والمنكر من أمارات مرض القلب ومرضه نسيان الله وذكر الله أكبر في إزالة هذا المرض من تلاوة القرآن وإقامة الصلاة لأن العلاج إنما هو بالضد.
فإن قلت : إذا كانت تلاوة القرآن وإقامة الصلاة والذكر صادرة من قلب مريض معلول بالنسيان الطبيعي للإنسان لا يكون كل منها سبباً لإزالة المرض المذكور.
قلت : الذكر مختصر بطرح إكسير ذكر الله للعبد كما قال : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) فأبطل خاصية المعلولية وجعله إبريزاً خاصاً بخاصيته المذكورة فذكر العبد فني في ذكر الله فلذا كان أكبر.
وقال بعض الكبار : ذكر اللذات في مقام العناء المحض وصلاة الحق عند التمكين في مقام البقاء أكبر من جميع الأذكار وأعظم من جميع الصلوات.
قال ابن عطاء رحمه الله : ذكر الله أكبر من ذكركم لأن ذكره والكرم بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني والسؤال.
وقال بعضهم : إذا قلت : ذكر الله أكبر من ذكر العبد قابلت الحادث بالقديم وكيف يقال الله أحسن من الخلق ولا يوازي قدمه إلا قدمه ولا ذكره إلا ذكره ولا يبقى الكون في سطوات المكون.
وقال بعضهم : (ذكر خداي بزركتراست ازهمه جيزيراكه ذكر أو طاعتست وذكر غيراو طاعت نيست) فويل لمن مرّ وقته بذكر الإغيار.
قال الحافظ :
أوقات خوش آن بودكه بادوست بسررفت باقى همه بيحاصل وبيخبرى بود {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} من الذكر وسائط الطاعات لا يخفى عليه شيء فيجازيكم بها أحسن المجازة.
(6/345)
وقال بعض الكبار : والله يعلم ما تصنعون في جميع المقامات والأحوال فمن تيقن أن الله يعلم ما يصنعه تجنب عن المعاصي والسيئات وتوجه إلى عالم السر والخفيات بالطاعات والعبادات خصوصاً الصلوات ولابد من تفريغ القلب عن الشواغل فصلاة بالحضور أفضل من ألف صلاة بدونه.
حكي : أن واحداً كان يتضرع إلى الله أن يوفقه لصلاة مقبولة فصلى مع حبيب العجمي فلم يعجبه ظاهرها من أمر القراءة فاستأنف الصلاة فقيل له في الرؤيا قد وفقك الله لصلاة مقبولة فلم تعرف قدرها فإصلاح الباطن أهم فإن به يتفاضل الناس وتتفاوت الحسنات ويحصل الفلاح الحقيقي هو الخلاص من حبس الوجود بجود واجب الوجود ونظر العبد لا يدرك كمالية الجزاء المعدّ له بمباشرة أركان الشريعة وملازمة آداب الطريقة للوصول إلى العالم الحقيقي ولكن الله يعلم ما تصنعون باستعمال مفتاح الشريعة وصناعة الطريقة بفتح أبواب طلسم الوجود المجازي والوصول إلى الكنز المخفي من الوجود الحقيقي نسأل الله سبحانه أن يوفقنا للفعل الحسن والصنع الجميل ويسعدنا بالمقام الأرفع والأجر الجزيل.
476
جزء : 6 رقم الصفحة : 471
{وَلا تُجَـادِلُوا أَهْلَ الْكِتَـابِ} المجادلة والجدل (بيكار سخت كردن بايكديكر) كما في "التاج".
قال : الجدال المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله فكأن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه.
والمعنى ولا تخاصموا اليهود والنصارى.
وبالفارسية : (وبيكار مكنيد وجدال منماييد با هل كتاب) {إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} أي بالخصلة التي هي أحسن كمعاملة الخشونة باللين والغضب بالحلم والمشاغبة أي تحريك الشر وإثارته بالنصح أي بتحريك الخير وإثارته والعجلة بالتأني والاحتياط على وجه لا يؤدي إلى الضعف ولا إلى إعظام الدنيا الدنية.
{إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} بالإفراط في الاعتداء والعناد فإن الكافر إذا وصف بمثل الفسق والظلم حمل على المبالغة فيما هو فيه أو بإثبات الولد وهم أهل نجران أو بنبذ العهد ومنع الجزية ونحو ذلك فإنه يجب حينئذ الموافقة بما يليق بحالهم من الغلظة باللسان وبالسيف والسنان.
{وَقُولُوا ءَامَنَّا} بالصدق والإخلاص.
{بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا} من القرآن {وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} أي وبالذي أنزل إليكم من التوراة والإنجيل وسمع النبي عليه السلام أن أهل الكتاب يقرؤون التوراة ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال : "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولو : آمنا بالله وبكتبه وبرسله فإن قالوا باطلاً لم تصدقوهم وإن قالوا حقاً لم تكذبوهم" قال ابن الملك إنما نهى عن تصديقهم وتكذيبهم لأنهم حرفوا كتابهم وما قالوه إن كان من جملة ما غيروه فتصديقهم يكون تصديقاً بالباطل وإن لم يكن كذلك يكون تكذيبهم تكذيباً لما هو حق وهذا أصل في وجوب التوقف فيما يشكل من الأمور والعلوم فلا يقضى فيه بجواز ولا بطلان وعلى هذا كان السلف رحمهم الله.
{وَإِلَـاهُنَا وَإِلَـاهُكُمْ وَاحِدٌ} لا شريك له في الألوهية.
{وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ} أي مطيعون له خاصة وفيه تعريض بحال الفريقين حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 477
{وَكَذَالِكَ} إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده أي ومثل ذلك الإنزال البديع الموافق لإنزال سائر الكتب أي القرآن.
{وَكَذَالِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} من الطائفتين {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أريد بهم عبد الله بن سلام وأضرابه من أهل الكتاب خاصة كأن لم يؤتوا الكتاب حيث لم يعملوا بما فيه أو من تقدم عهد الرسول عليه السلام حيث كانوا مصدقين بنزوله حسبما شاهدوا في كتابيهما ومنهم قس بن ساعدة وبحيرا ونسطورا وورقة وغيرهم وتخصيصهم بإيتاء الكتاب للإيذان بأن من بعدهم من معاصري رسول الله قد نزع عنهم الكتاب بالنسخ فلم يؤتوه والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إيمانهم به مترتب على إنزاله على الوجه المذكور.
477
{وَمِنْ هَؤُلاءِ} أي من العرب.
{مَن يُؤْمِنُ بِهِ} أي القرآن {وَمَا يَجْحَدُ} الجحد نفي ما في القلب إثباته أو إثبات ما في القلب نفيه أي بالكتاب المعظم بالإضافة إلينا عبر عنه بالآيات للتنبيه على ظهور دلالته على معانيه وعلى كونه من عند الله.
{إِلا الْكَـافِرُونَ} المتوغلون في الكفر المصممون عليه فإن ذلك يصدهم عن التأمل فيما يؤديهم إلى معرفة حقيقتها.
وفي الآية إشارة إلى أن أرباب القلوب وأصحاب العلوم الباطنة الذين علومهم من مواهب الحق يجب أن يجادلوا أهل علم الظاهر الذين علومهم من طريق الكسب والدراسة بالرفق واللين والسكون ونحوها لئلا تهيج الفتنة الإمارية ويزدادوا إنكاراً فمن رحمه الله منهم صدق الدلائل الكشفية والبراهين الحقية في دلالتها إلى الحق واهتدى ومن حرمه الله استقبل بالإنكار وزاد بعدا من الوصول إلى الله الغفار.
وفي "المثنوي" :
هركرا مشك نصيحت سودنيست(6/346)
لا جرم بابوى بدخوكرنيسبمغزرا خالى كن از انكار يار
تاكه ريحان يابد ازكازارا ياركاشكى جون طفل ازحيل باك آمدى
تاجو طفلان جنك درمادر زدىيابعلم ونقل كم ملى
علم وحى دل ربودى ازولى
باجنين نوري جويش آرى كتاب
جان وحى آساى توآرد عتاب
جون تميم باوجود آب دان
علم نقلى بادم قطب زمان
خويش ابله كن تببع مى روزيس
رسبكي زين ابلهى يابي وبس
أكثر أهل الجنة البله اى بدر
بهراين كفتست سلطان البشر
جزء : 6 رقم الصفحة : 477
زيركي جون كبرباد انكيز تست
ابلهى شو تابماند دل درست
ابلهى نى كو بمسخر كى دوتوست
ابلهى كوواله وحيران هو ست
ابلها نند آن زنان دست بر
از كف ابله وزرخ يوسف نذر
واعلم أن المجادلة في الدين تبطل ثواب الأعمال إذا كانت تعنتاً وترويحاً للباطل وأما الجدال بالحق لإظهاره فمأمور به وقد جادل علي رضي الله عنه شخصاً قال : إني أملك حركاتي وسكناتي وطلاق زوجتي وأعتق أمتي فقال علي رضي الله عنه : أتملكها دون الله أو مع الله فإن قلت : أملكها دون الله أثبت الله مالكاً وإن قلت : أملكها مع الله فقد أثبت له شريكاً كذا في "شرح المواقف".
قال الشيخ سعدى : (يكى درصورت درويشان در محفلي ديدم نشسته ودفتر شكايت بازركرده وذم توانكاران آغاز كفتم أي يارتوانكران مقصد زائران وكهف مسافرانند عبادت اينان بمحل قبول نزديكترست كه جمعند وحاضرنه براكنده خاطر ودرخبراست : "الفقر سواد الوجه في الدارين" كفت آن تشنيدي كه بيغمبر عليه السلام فرموده است (الفقر فخري) كفتم خاموش كه إشارات سيد عالم بفقر طائفه ايست كه مردان ميدان وضا ند وتسليم تيرقضا درويش بي معرفت نياراميد تافقرش بكفر آنجاميد : "كاد الفقر أن يكون كفرا".
باكرسنكي قوت وبرهيرنماند
افلاس عنان ازكف تقوى بستاند
478
(كفت توانكران مشتى طائفه اند مغرور نظر نكنند بغير الا بكراهت سخن نكويند الا بسفاهت علمارا بكداني منسوب كنند وفقرارا به بي سر وباني معيوب كردانند كفتم مذمت ايشان روامداركه خداوندان كرمند خطا كفتى بنده درمند جه فائدة اكرابر آذرند بركس نمي بارند كفتم بر بخل خداوندان وقوف ينافتة الا بعلت كداني ورنه هركه طمع يكسونهد كريم وبخيلش يكسان نمايند كفتا بتجربه آن ميكويم كه متعلقان بردر بدارند تادست برسينة تمييزنهند وكويهد كه كسى اينجانيست وراست كفته باشند زيرا
آنراكه عقل وهمت وتدبير وراى نيست
خوش كفت برده داركه كس درسراى نيست
كفتم اين حركت ازايشان بعد ازانست كه از دست سائلان بجان آمده اندو محال عقلست كه اكرريك در شود جثم كدايان برنشود كفتا كه من برحال ايشان رحمت مى برم "أي لأن لهم مالاً ولا يشترون ثواباً" كفتم نه كه بر مال ايشان حسرت مى خورى "أي لحرصك" مادرين كفتار وهردوبهم كرفتار هربيد قى براندى بدفع آن بكوشيد مى تانفد كيسه همت همه درباخت عقبة الامر دليلش نماند ذليلش كردم دست تعدى درازكرد وسنت جاهلانند كه جون بدليل فرومانند سلسله خصومت بجنبانند دشنامم داد سقطش كفتم كريبانم دريد زنخدانش كرفتم مرافعة اين سخن ييش قاضى برديم قاضى جون هيئات ما ديد ومنطق ما شنيد بعد ازبأمل بسيار كفت اى آنكه توانكر انرانثنا كفتى بدانكه هرجا كلست خارهست وبرسر كنج مارهمجنان درز مرة توانكران شاكرانند وكفور ودر حلقه درويشان صابرانند وضجور واى كه كفتى توانكران مشتغل تباهي ومست ملاهي اند قومى ازايشان برين صفتند وطائفة ديكر طالب نيك نامند ومغفرت وصاحب دنيا وآخرت قاضى جون اين سخن بكفت بمقتضاى حكم قضا رضاداديم وازمامضى دركذشتيم وبوسه برسروروى همد كرداديم وختم سخن بدين دوبت بود)
جزء : 6 رقم الصفحة : 477
مكن زكردش كيتي شكايت اى درويش
كه تيره بختى اكرهم برين نسق مردى
توانكرا جودل ودست كامرانت هست
بخور ببخش كه دنيا وآخرت بردى
وهذه الحكاية طويلة قد اختصرناها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 477
{وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ} أي : وما كانت عادتك يا محمد قبل إنزالنا إليك القرآن أن تتلو شيئاً.
{مِن كِتَـابٍ} من الكتب المنزلة.
{وَلا تَخُطُّهُ} ولا أن تكتب كتاباً من الكتب والخط كالمد ويقال لما له طول ويعبر عن الكتابة بالخط {بِيَمِينِكَ} حسبما هو المعتاد يعني ذكر اليمين لكون الكتابة غالباً باليمين لا أنه لا يخط بيمينه ويخط بشماله فإن الخط بالشمال من أبعد النوادر.
قال الشيعة : إنه عليه السلام كان يحسن الخط قبل الوحي ثم نهي عنه بالوحى وقالوا إن قوله ولا تخطه نهي فليس ينفي الخطأ.
قال في "كشف الأسرار" : قرىء ولا تخطه بالفتح على النهي وهو شاذ والصحيح أنه لم يكن يكتب انتهى.
وفي "الأسئلة المقحمة" : قول الشيعة مردود لأن لا تخطه لو كان نهياً لكان ينصب الطاء أو قال : لا تخططه بطريق التضعيف {إِذًا} (آن هنكام) أي لو كنت ممن يعتاد التلاوة والخط {ارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} .
قال في "المختار" : الريب الشك.
قال الراغب : الريب أن
479
(6/347)
يتوهم بالشيء أمراً ينكشف عما يتوهمه ولهذا قال تعالى : {لا رَيْبَ فِيهِ} والإرابة أن يتوهم فيه أمراً لا ينكشف عما يتوهمه والارتياب يجري مجرى الإرابة ونفى عن المؤمنين الارتياب كما قال : {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} (المدثر : 31) والمبطل من يأتي بالباطل وهو نقيض المحق وهو من يأتي بالحق لما أن الباطل نقيض الحق.
قال في "المفردات" : الإبطال يقال في إفساد الشيء وإزالته حقاً كان الشيء أو باطلاً قال تعالى : {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَـاطِلَ} وقد يقال فيمن يقول شيئاً لا حقيقة له.
والمعنى لارتابوا وقالوا : لعله تعلمه أو التقته من كتب الأوائل وحيث لم تكن كذلك لم يبق في شأنك منشأ ريب أصلاً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 479
قال الكاشفي : (درشك افتادندى تباه كاران وكحروان يعني مشركان عرب كفتندي كه جون مي خواند ومي نويسد بس قرآنرا ز كتب يشينيان التقاط كرده وبرما مي خواند ياجهودان درشك افتادندكه در كتب خود خواندايم كه ييغمير آخر زمان امى باشد واين كس قاري وكاتب است).
فإن قلت : لم سماهم المبطلين ولو لم يكن أميا وقالوا : ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا محقين ولكان أهل مكة أيضاً على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه فإنه رجل قارىء كاتب؟.
قلت : لأنهم كفروا به وهو أمي بعيد من الريب فكأنه قال هؤلاء المبطلون في كفرهم به : لو لو يكن أمياً لارتابوا أشد الريب فحيث أنه ليس بقارىء ولا كاتب فلا وجه لارتيابهم.
قال في "الأسئلة المقحمة" : كيف منّ الله على نبيه بأنه أمي ولا يعرف الخط والكتابة وهما من قبيل الكمال لا من قبيل النقص والجواب إنما وصفه بعدم الخط والكتابة لأن أهل الكتاب كانوا يجدون من نعته في التوراة والإنجيل أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب فأراد تحقيق ما وعدهم به على نعته إياه ولأن الكتابة من قبيل الصناعات فلا توصف بالمدح ولا بالذم ولأن المقصود من الكتابة والخط هو الاحتراز عن الغفلة والنسيان وقد خصه الله تعالى بما فيه غنية عن ذلك كالعين بها العصا والقائد انتهى.
وقال في "أسئلة الحكم" : كان عليه السلام يعلم الخطوط ويخبر عنها فلماذا لم يكتب والجواب أنه لو كتب لقيل : قرأ القرآن من صحف الأولين.
وقال النيسابوري : إنما لم يكتب لأنه إذا كتب وعقد الخنصر يقع ظل قلمه واصبعه على اسم الله تعالى وذكره فلما كان كذلك قال الله تعالى : لا جرم يا حبيبي لما لم ترد أن يكون قلمك فوق اسمي ولم ترد أن يكون ظل القلم على اسمي أمرت الناس أن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوتك تشريفاً لك وتعظيماً ولا أدع بسبب ذلك ظلك يقع على الأرض صيانة له أن يوطأ ظله بالأقدام.
قيل : إنه نور محض وليس للنور ظل.
وفيه إشارة إلى أنه أفنى الوجود الكوني الظلي وهو نور متجسد في صورة البشر وكذلك الملك إذا تجسد بصورة البشر لا يكون له ظل وبذلك علم بعض العارفين تجسد الأرواح القديسة وإذا تجسدت الأرواح الخبيثة وقعت كثافة ظلها وظلمته على الأرض أكثر من سائر الأظلال الكونية فليحفظ ذلك.
قال الكاشفي : (درتيسير آورده كه خط وقرأت فضيلة بوده است مر غير بيغمبر مارا وعدم آن فضل معجزة آن حضرت بوده وجون معجزة ظاهر شده ودراميت اوشك وشبه نماند حق سبحانه در آخر عمر اين فضيلت نيزبوى ارزاني داشته تامعجزه ديكر باشد وابن ابى شيبه درمصنف از طريق عون بن عبد الله نقل ميكند كه "مامات رسول الله حتى كتب وقرأ" واين صورت منافىء قرآن نيست زيرا كه نفي كتابت مقرر ساخته بزماني قبل از نزول قرآن ومذهب آنانكه ويرا امي دانند از اول عمرتا آخر بصواب اقربست
480
بقلم كرنرسيد انكشتش
جزء : 6 رقم الصفحة : 479
بود لوح وقلم اندر مشتش
ازسواد خط اكرديده ببست
بكمالش نرسد هيج شكست
بود اونور خط تيره ظلم
لشود نور وظلم جمع بهم
ولذا قال بعضهم : من كان القلم الأعلى يخدمه واللوح المحفوظ مصحفه ومنظره لا يحتاج إلى تصوير الرسوم وتمثيل العلوم بالآلات الجسمانية لأن الخط صنعة ذهنية وقوة طبيعية صدرت بآلاتها الجسمانية.
قال رجل من الأنصار للنبي عليه السلام إني لأسمع الحديث ولا أحفظه فقال : "استعن بيمينك" أي : اكتبه.
(6/348)
قيل : من كتب الكتات العربي والفارسي والسرياني والعبراني وغيرهما من بقية الاثني عشر وهي الحميري واليوناني والرومي والقبطي والبربري والأندلسي والهندي والصيني آدم عليه السلام كتبها في طين وطبخه فلما أصاب الأرض وانفرق وجد كل قوم كتاباً فكتبوه فأصاب إسماعيل عليه السلام كتاب العربي وأما ما جاء : "أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام" فالمراد به خط الرمل وفي "التأويلات النجمية" : القلب إذا تجرد من المعلومات والسر تقدس عن المرقومات والروح تنزه عن الموهومات كانوا أقرب إلى الفطرة ولم يشتغلوا بقبول النفوس السفلية من الحسيات والخياليات والوهميات فكانوا لما صادفهم من المغيبات قابلين من غير طبع ومشاركة كسب وتكلف بشرية ولما كان قلب النبي عليه السلام في البداية مشروطاً بعمل جبريل إذا أخرج منه ما أخرج وقال : هذا حظ الشيطان منك.
وفي "النهاية" : لما كان محفوظاً من النقوش التعليمية بالقراءة والكتابة كان قابلاً للإنزال عليه مختصاً عن جميع الأنبياء كما قال : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء : 193 ، 194) ثم أثبت هذه بتبعيته لمتابعيه فقال.
{بَلْ هُوَ} أي القرآن {بَيِّنَـاتٌ فِى} واضحات ثابتات راسخات {فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} من غير أن يلتقط من كتاب يحفظونه بحيث لا يقدر أحد على تحريفه.
قال الكاشفي : (درسينه آنا نكه داده شده اند علم رايعني مؤمنان أهل كتاب ياصحابة كرام آنرا ياد ميكردند تاهيج كس تحريف نتوان كرد واما خواندن قرآن از ظهر القلب خاصة امت مرحومه است جه كتب مقدمه را از اوراق مى خوانده اند) يعني كونه محفوظاً في الصدور من خصائص القرآن لأن من تقدم كانوا لا يقرؤون كتبهم إلا نظراً فإذا أطبقوها لم يعرفوا منها شيئاً سوى الأنبياء وما نقل عن قارون من أنه كان يقرأ التوراة عن ظهر القلب فغير ثابت (وازينجاست كه موسى عليه السلام درمناجاة حضرت كفت) يارب إني أجد في التوراة أمة أناجيلهم في صدورهم يقرؤون ظاهراً لو لم يكن رسم الخطوط لكانوا يحفظون شرائعه عليه السلام بقلوبهم لكمال قوتهم وظهور استعداداتهم ولما اختل رسم التوراة اختلت شريعتهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 479
وفي بعض الآثار : ما حسدتكم اليهود والنصارى على شيء كحفظ القرآن.
قال أبو إمامة : إن الله لا يعذب بالنار قلباً وعى القرآن وقال عليه السلام : "القلب الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخراب" وفي الحديث : "تعاهدوا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل من عقلها" أي من الإبل المعقلة إذا أطلقها صاحبها والتعاهد والتعهد التحفظ أي المحافظة وتجديد الأمر به والمراد هنا
481
الأمر بالمواظفة على تلاوته والمداومة على تكراره فمن سنة القارىء أن يقرأ القرآن كل يوم وليلة كيلا ينساه وعن النبي عليه السلام : "عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أكبر من آية أو سورة أوتيها الرجل ثم نسيها" والنسيان أن لا يمكنه القراءة من المصحف كذا في "القنية".
وكان ابن عينة يذهب إلى أن النسيان الذي يستحق صاحبة اللوم ويضاف إليه الإثم ترك العمل به والنسيان في لسان العرب الترك قال تعالى : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} (الأنعام : 44) أي تركوا وقال تعالى : {نَسُوا اللَّهَ} (التوبة : 67) أي تركوا طاعته {فَنَسِيَهُمْ} (التوبة : 67) أي فترك رحمتهم.
قال شارح "الجزرية" وقراءة القرآن من الصحف أفضل من قرارة القرآن من حفظه هذا هو المشهور عن السلف ولكن ليس هذا على إطلاقه بل إن كان القارىء من حفظه يحصل له التدبر والتفكر وجمع القلب والبصر أكثر مما يحصل له من المصحف فالقراءة من الحفظ أفضل وإن تساويا فمن المصحف أفضل لأن النظر في المصحف عبادة واستماع القرآن من الغير في بعض الأحيان من السنن
دل ازشنيدن قرآن بكيردت همه وقت
جو باطلان زكلام حقت ملول جيست
قال في "كشف الأسرار" : قلوب الخواص من العلماء بالله خزائن الغيب فيها براهين حقه وبينات سره ودلائل توحيده وشواهد ربوبيته فقانون الحقائق قلوبهم وكل شيء يطلب من موطنه ومحله (درشب افروز ازصدف جويند وآفتاب تابان از برج فلك وعسل مصفى ازنحل ونور معرفت ووصف ذات احديت ازدلهاى عارفان جويند كه دلهاى ايشان قانون معرفت است ومحل تجلىء صفات) بل يطلب حضرة جلاله عند حظائر قدس قلوب خواص عباده كما سأل الله موسى عليه السلام قال : "إلهي أين أطلبك قال أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي".
وفي "المثنوي".
ازدرون وأهل دل آب حيات
حند نوشيدي وواشد جشمهات
بس غذاي سكر ووجد وبيخودى
جزء : 6 رقم الصفحة : 479
ازدر أهل دلان برجان زدى
قال المولى الجامي : نكته عرفان مجو از خاطر آلودكان كوهر مقصود رادلهاي باك آمد صدف.
(6/349)
{وَمَا يَجْحَدُ بآياتنا} مع كونها كما ذكر {إِلا الظَّـالِمُونَ} أي المتجاوزون للحدود في الشر والمكابرة والفساد.
روي : أن المسيح ابن مريم عليه السلام قال للحواريين : "أنا أذهب وسيأتيكم الفارّ قليط" يعني محمداً صلى الله عليه وسلم روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه ولكنه ما يسمع به يكلمكم ويسوسكم بالحق ويخبركم بالحوادث والغيوب وهو يشهد لي كما شهدت له فإني جئتكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل ويفسر لكم كل شيء.
قوله : يخبركم بالحوادث.
يعني ما يحدث في الأزمنة المستقبلة مثل خروج الدجال وظهور الدابة وطلوع الشمس من مغربها وأشباه ذلك ويعني بالغيوب أمر القيامة من الحساب والجنة والنار مما لم يذكر في التوراة والإنجيل والزبور وذكره نبينا صلى الله عليه وسلم كذا في "كشف الأسرار".
وفي الآية إشارة إلى أن الحرمان من رؤية الآيات من خصوصية رين الجحد والإنكار إذا غلب على القلوب فتصدأ كما تصدأ المرآة فلا تظهر فيها نقوش الغيوب وتعمي عن رؤية الآيات : قال الكمال الخجندي.
482
له في كل موجود علامات وآثار
دو عالم برز معشوقست كويك عاشق صادق
قال الشيخ المغربي قدس سره :
نخست ديده طلب كن بس آنكهى ديار
ازانكه يار كند جلوه بر اولو الابصار
تراكه جثم نباشد جه حاصل ازشاهد
تراكه كوش نباشد جه سود از كفتار
اكرجه آينه دارى از براى رخش
ولى سود كه دارى هميشه آينه تار
بيا بصيقل توحيد ز آينه بز داى
عبار شرك تاباك كردد از زنكار
قال إبراهيم الخواص رحمه الله : دواء القلب خمسة : قراءة القرآن بالتدبر.
والخلاء.
وقيام الليل والتضرع إلى الله عند السحر.
ومجالسة الصالحين جعلنا الله وإياكم من أهل الصلاح والفلاح إنه القادر الفتاح فالق الأصباح خالق المصباح.
{وَقَالُوا} أي كفار قريش {لَوْلا} تحضيضية بمعنى هلا.
وبالفارسية (جرا).
{أُنزِلَ} (فرو فرستاه نمي شود) {عَلَيْهِ} على محمد {مِّن رَّبِّهِ قُلْ} مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى عليهم السلام {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ اللَّهِ} في قدرته وحكمته ينزلها كما يشاء وليس بيدي شيء فآتيكم بما تقترحونه.
{وَإِنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} ليس إلا الإنذار والتخويف من عذاب الله بما أعطيت من الآيات.
يعني : (تخويف مينكم بلغتى كه شمادر يابيد) وهو معنى الظهور.
جزء : 6 رقم الصفحة : 479
قال في "كشف الأسرار" : والحكمة في ترك إجابة النبي عليه السلام إلى الآيات المقترحة أنه يؤدي إلى ما لا يتناهى وإن هؤلاء طلبوا آيات تضطرهم إلى الإيمان فلو أجابهم إليها لما استحقوا الثواب على ذلك انتهى ولو لم يؤمنوا لاستأصلوا وعذاب الاستئصال مرفوع عن هذه الأمة ببركة النبي عليه السلام ثم قال تعالى بياناً لبطلان اقتراحهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 479
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام والكفاية ما فيه سد الخلة وبلوغ المراد في الأمر أي أقصر ولم يكفهم آية مغنية عما اقترحوه.
{أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} الناطق بالحق المصدق لما بين يديه من الكتب السماوية وأنت بمعزل من مدارستها وممارستها {يُتْلَى عَلَيْهِمْ} بلغتهم في كل زمان ومكان فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل كما تزول كل آية بعد كونها وتكون في مكان دون مكان.
وفيه إشارة إلى عمى بصر قلوبهم حيث لم يروا الآية الواضحة التي هي القرآن حتى طلبوا الآيات وإلى أن تيسير قراءة مثل هذا القرآن في غير كاتب وقارىء وإنزاله عليه وحفظه لديه وإحالة بيانه إليه آية واضحة.
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} الكتاب العظيم الشان الباقي على ممر الدهور والأزمان.
{لَرَحْمَةً} أي : نعمة عظيمة {وَذِكْرَى} أي تذكرة.
وبالفارسية(يندي ونصيحتي) {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي لقوم همهم الإيمان لا التعنت كأولئك المقترحين.
وفي "المثنوي" :
بند كفتن باجهول خابناك
تخم افكندن بود درشوره خاك
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ} أي كفى الله والباء صلة {بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} بما صدر عني وعنكم {يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي : من الأمور التي من جملتها شأني وشأنكم.
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ} الذي لا يجوز الإيمان به كالصم والشيطان وغيرهما.
وفيه إشارة إلى أن من
483
أبصر بعين النفس لا يرى إلا الباطل فيؤمن به.
{وَكَفَرُوا بِاللَّهِ} الذي يجب الإيمان به مع تعاضد موجات الإيمان.
{أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} المغبونون في صفقتهم الأخروية حيث اشتروا الكفر بالإيمان وضيعوا الفطرة الأصلية والأدلة السمعية الموجبة للإيمان :
عمر تو كنج وهر نفس ازوى بكل كهر
كنحى حنين لطيف مكن رايكان تلف
جزء : 6 رقم الصفحة : 483(6/350)
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} الاستعجال طلب الشيء قبل وقته.
يعني (شتاب ميكنند كافران ترا بعذاب آرودن بايشان) أي يقول : نضر بن الحارث وأمثاله بطريق الاستهزاء متى هذا الوعد وأمطر علينا حجارة من السماء.
وفيه إشارة إلى أن من استعجل العذاب ولم يصبر على العافية لعجل خلق منه وهو مركوز في جبلته كيف على البلاء والضراء لو لم يصبره الله كما قال لنبيه عليه السلام : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} (النحل : 137) يسأل الله العافية من كل بلية {وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى} أي وقت معين لعذابهم وهو يوم القيامة كما قال {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} (القمر : 46) وذلك أن الله تعالى وعد النبي عليه السلام أنه لا يعذب قومه استئصالاً بل يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة وقد سمت الإرادة القديمة بالحكمة الأزلية لكل مقدور كائن آجلاً فلا تقدم له ولا تأخر عن المضروب المسمى.
{لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ} عاجلاً.
وفيه إشارة إلى أن الاستعجال في طلب العذاب في غير وقته المقدر لا ينفع وهو مذموم فكيف ينفع الاستعجال في طلب مرادات النفس وشهواتها في غير أوانها وكيف لم يكن مذموماً {وَلَيَأْتِيَنَّهُم} العذاب الذي عين لهم عند حلول الأجل.
وبالفارسية (وبي شك خواهد آمد عذاب بديشان) {بَغْتَةً} (ناكاه).
قال الراغب : البغت مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بإتيانه.
يعني (وحال آنكه ايشان ندانند كه عذاب آيد بايشان وايشان ناآكاه).
يقول الفقير : إن قلت عذاب الآخرة ليس من قبيل المفاجأة فكيف يأتي بغتة؟.
قلت : الموت يأتيهم بغتة أي في وقت لا يظنون أنهم يموتون فيه وزمانه متصل بزمان القيامة ولذا عد القبر أول منزل من منازل الآخرة ويدل عليه قوله عليه السلام : "من مات فقد قامت قيامته" وفي البرزخ عذاب ولو كان نصفاً من حيث أنه حظ الروح فقط.
جزء : 6 رقم الصفحة : 484
وقال بعضهم : لعل المراد بإتيانه كذلك أن لا يأتيهم بطريق التعجيل عند استعجالهم والإجابة إلى مسؤولهم فإن ذلك إتيان برأيهم وشعورهم.
وفي بعض الآثار : من مات مصححاً لأمره مستعداً لموته ما كان موته بغتة وإن قبض نائماً ومن لم يكن مصححاً لأمره ولا مستعداً لموته فموته موت فجأة وإن كان صاحب الفراش سنة.
قال في "لطائف المنن" : وقد تحاورت الكلام أنا وبعض من يشتغل بالعلم في أنه ينبغي إخلاص النية فيه وأن لا يشتغل به إلا فقلت : الذي يطلب العلم إذا قيل له غداً تموت لايضع الكتاب من يده أي لكونه وفى الحقوق فلم ير أفضل مما هو فيه فيحب أن يأتيه الموت على ذلك
تو غافل در انديشه سود ومال
كه سرمايه عمر شد بايمال
طريقي بدست آروصلحى بجوى
شفيعي برانكيز وغدرى بكوى
كه يك لحظه صورت نبندد امان
جو يمانه برشد بدور زمان
{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} (تعجيل ميكنند ترا بعذاب آوردن) {وَإِنَّ جَهَنَّمَ} أي :
484
والحال أن محل العذاب الذي لا عذاب فوقه.
{لَمُحِيطَةُا بِالْكَـافِرِينَ} أي : ستحيط بهم عن قريب لأن ما هو آت قريب.
قال في "الإرشاد" : وإنما جيء بالاسمية دلالة على تحقق الإحاطة واستمرارها وتنزيلاً لحال السبب منزلة المسبب فإن الكفر والمعاصي الموجبة لدخول جهنم محيطة بهم.
وقال بعضهم : إن الكفر والمعاصي هي النار في الحقيقة ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة.
{يَوْمَ يَغْشَـاـاهُمُ الْعَذَابُ} ظرف لمضمر أي يوم يعلوهم ويسترهم العذاب الذي أشير إليه بإحاطة جهنم بهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي به المقال.
{مِن فَوْقِهِمْ} (أي ازنبر سرهاي ايشان) {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (واز زير بايهاي ايشان) والمراد من جميع جهاتهم {وَيَقُولُ} الله أو بعض الملائكة بأمره {ذُوقُوا} (بجشيد) والذوق وجود الطعم بالفم وأصله مما يقل تناوله فإذا أكثر يقال له الأكل واختير في القرآن لفظ الذوق في العذاب لأن ذلك وإن كان التعارف للقليل فهو مستصلح للكثير فخصه بالذكر ليعلم الأمرين كما في "المفردات" {مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من السيئات التي من جملتها الاستعجال بالعذاب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 484
قال الكاشفي : (دنيا دار عمل بود وعقبي دار جزاست هرجه آنجا كاشته ايد انيجا مي درويد) :
توخمى بيفشان كه جون بدروى
زمحصول خود شاد وخرم شوى
(6/351)
وفي "التأويلات النجمية" : قوله : {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} يشير إلى أن استعجال العذاب لأهل العذاب وهو نفس الكفر لا حاجة إليه بالاستعداد {وَإِنَّ جَهَنَّمَ} الحرص والشره والشهوة والكبر والحسد والغضب والحقد {لَمُحِيطَةُا بِالْكَـافِرِينَ} بالنفوس الكافرة الآن بنفاد الوقت {يَوْمَ يَغْشَـاـاهُمُ الْعَذَابُ} بإحاطة هذه الصفات {مِن فَوْقِهِمْ} الكبر والغضب والحسد والحقد {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} الحرص والشره والشهوة ولكنهم بنوم الغفلة نائمون ليس لهم خبر عن ذوق العذاب كالنائم لا شعور له في النوم بما يجري على صورته لأنه نائم الصورة فإذا انتبه يجد ذوق ما يجري عليه من العذاب كما قال {وَيَقُولُ} يعني يوم القيامة {ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي عذاب ما كنتم تعاملون الخلق والخالق به والذي يؤكد هذا التأويل قوله تعالى {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} يعني في الوقت ولا شعور لهم {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} الذي يكون فيه الصلى والدخول يوم القيامة {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآاـاِبِينَ} اليوم ولكن لا شعور لهم بها فمن تطلع له شمس الهداية والعناية من مشرق القلب فيخرج من ليل الدين إلى يوم الدين وأشرقت أرض بشريته بنور ربها يرى نفسه محاطة جهنم أخلاقها فيجد ذوق المهاد بقصد الخروج والخلاص منها فإن أرض الله واسعة كما يأتي نسأل الله الخلاص.
جزء : 6 رقم الصفحة : 484
يا عِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} خطاب تشريف لبعض المؤمنين الذين لا يتمكنون من إقامة أمور الدين كما ينبغي لممانعة من جهة الكفر وإرشاد لهم إلى الطريق الأسلم.
قال الكاشفي : (آورده اندكه جمعي ازمؤمنان دركمه اقامت كرده ازجهت قلت زاد وكمى استعداد بابسبب محبت اوطان ياصحبت اخوان هجرت نميكر دند وبترس وهراس برستش خدانمودند) وربما يعذبون في الدين فأنزل الله هذه الآية وقال : يا عبادي المؤمنين إذا لم تسهل لكم
485
العبادة في بلد ولم يتيسر لكم اظهار دينكم فهاجروا إلى حيث يتمشى لكم ذلك.
{إِنَّ أَرْضِى} الأرض الجرم المقابل للسماء أي بلاد المواضع التي خلقتها.
{وَاسِعَةٌ} لا مضايقة لكم فيها فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرضي {فَإِيَّـاىَ فَاعْبُدُونِ} أي فأخلصوها في غيره فالفاء جواب شرط محذوف ثم حذف الشرط وعوض عنه تقديم المفعول مع إفادة تقديم معنى الاختصاص والإخلاص.
قال الكاشفي : (واكر از دوستى أهل وولد بابسته بلده شده ايد روزى مفارقت ضرورت خواهد بود زيراكه).
{كُلُّ نَفْسٍ} من النفوس سواء كان نفس الإنسان أو غيرها وهو مبتدأ وجاز الابتداء بالنكرة لما فيها من العموم {ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ} أي واجدة مرارة الموت ومتجرعة غصص المفارقة كما يجد الذائق ذوق المذوق وهذا مبني على أن الذوق يصلح للقليل والكثير كما ذهب إليه الراغب.
وقال بعضهم : أصل الذوق بالفم فيما يقل تناوله فالمعنى إذاً إن النفوس تزهق بملابسة البدن جزءاً من الموت.
واعلم أن الإنسان روحاً وجسداً وبخاراً لطيفاً بينهما هو الروح الحيواني فمادام هذا البخار باقياً على الوجه الذي يصلح أن يكون علاقة بينها فالحياة قائمة وعند انطفائه وخروجه عن الصلاحية تزول الحياة ويفارق الروح البدن مفارقة اضطرارية وهو الموت الصوري ولا يعرف كيفية ظهور الروح في البدن ومفارقته له وقت الموت إلا أهل الانسلاخ التام {ثُمَّ إِلَيْنَا} أي إلى حكمنا وجزائنا.
{تُرْجَعُونَ} من الرجع وهو الرد أي تردون فمن كانت هذه عاقبته ينبغي أن يجتهد في التزود والاستعداد لها ويرى مهاجرة الوطن سهلة واحتمال الغربة هوناً هذا إذا كان الوطن دار الشرك وكذا إذا كان أرض المعاصي والبدع وهو لايقدر على تغييرها والمنع منها فيهاجر إلى أرض المطيعين من أرض الله الواسعة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 485
سفر كن جوجاي تو ناخوش بود
كزين جاي رفتن بدان ننك نيست
وكرتنك كردد ترا جايكاه
خداى جهانرا جهان تنك نيست
جزء : 6 رقم الصفحة : 485
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} ومن الصالحات الهجرة للدين {لَنُبَوِّئَنَّهُم} لننزلهم.
وبالفارسية : (هر آينه فرود اديم ايشانرا) قال في "التاج" : النبوء (كسى را جابي فرآوردن) {مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًَا} مفعول ثان لنبوئنهم أي قصوراً عالية من الدر والزبرجد والياقوت وإنما قال ذلك لأن الجنة في جهة عالية والنار في سافلة ولأن النظر من الغرف إلى المياه والحضر أشهى وألذ {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} صفة لغرفاً {خَـالِدِينَ فِيهَا} أي : ماكثين في تلك الغرف إلى غاية {نِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ} الأعمال الصالحة.
يعني : (نيك مزديست مزد عمل كنند كان خيررا كو شكهاى بهشت).
(6/352)
{الَّذِينَ صَبَرُوا} صفة للعاملين أو نصب على المدح أي صبروا على أذية المشركين وشدائد الهجرة للدين وغير ذلك من المحن والمشاق.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي : لا يعتمدون في أمورهم إلا على الله تعالى وهذا التوكل من قوة الإيمان فإذا قوي الإيمان يخرج من الكفر ملاحظة الأوطان والأموال والأرزاق وغيرهما وتصير الغربة والوطن سواء ويكفي ثواب الله بدلاً من الكل وفي الحديث : "من فرّ بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شبراً استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد" عليهما السلام أما
486
استيجابه الجنة والغرف فلتركه المسكن المألوف لأجل الدين وامتثال أمر رب العالمين وأما رفاقته لهما فلمتابعتهما في باب الهجرة وإحياء سنتهما فإن إبراهيم عليه السلام هاجر إلى الأرض المقدسة ونبينا عليه السلام هاجر أرض المدينة.
وفيه إشارة إلى أن السالك ينبغي أن يهاجر من أرض الجاه وهو قبول الخلق إلى أرض الخمول
جزء : 6 رقم الصفحة : 486
ـ ـ حكايت كنند از ابو سعيد خراز قدس سره ـ ـ كفت در شهرى بودم ونام من در آنجا مشهور شده دركار من عظيم برفنند خنانكه برست خربزه كه از دست من بيفتاد برداشتند واز يكديكر بصد دينار مى هريدند وبر آن مى افزودونذ باخود كفتم اين نه جاى منست ولائق روز كار من بس از آنجا هجرت كردم تجاى افتادم كه مرازنديق مى كفتند وهر روز دوبار برمن سنك باران همى كردند همان جاى مقام ساختم وآن رنج وبلا همى كشيدم وخوش همى بودم ـ ـ واز ابراهيم ادهم قدس سره حكايت كنند ـ ـ كه كفت درهمه عمر خوريش دردنيا سه شادى ديدم وباذن الله تعالى شادى نفس خويش راقهر كردم.
در شهر انطاكيه شدم برهنه باي وبرهنه سرميرفتم هريكي طغنه برمن همى زد يكى كفت "هذا عبد آبق من مولاه" مرا أين سخن خوش آمد بانفس خويش كفتم اكر كريخته ورميده كاه آن نيامدكه بطريق صلح باز آي.
بوكه دركشتى نشسبته بودم مخرة درميان آن جمع بود وهيج كس را از من حقير تر وخوارتر نمي ديد هر ساعتي بيامدى ودست در قفاى من داشتى سوم.
آن بودكه در شهر مطيه در مسجدى سر بزانوى حسرت نهاده بودم در وادى كم وكاست خود افتاده بي حرمتي بيامد وبند ميزر بكشاد وآب در من ريخت يعني تبول كرد وكفت "خذماء الورد" ونفس من آيات ساعت از آن حقارت خوش بكشت ودلم بدان شا شد ماين شادى از باركاه عزت در حق خود تحفه سعادت يافتم.
بير طريقت كفت بسا مغرور در سير الله ومستدرج در نعمت الله ومفتون بثناى خلق) فعلى العاقل أن يموت عن نفسه ويذوق ألم الفناء المعنوي قبل الفناء الصوري فإن الدنيا دار الفناء(هر نفسي حشنده مر كست وهر كسى را راه كندبر مركست راهي رفقتي ويلي كذشتني وشرابي آشاميثدني سيد صلوات الله عليه بيوسته امت را اين وصيت كردى "أكثروا ذكر هاذم اللذات" زينهار مرك را فراموش مكنيد واز آمدن أو غافل مباشيد.
از ابراهيم بي ادهم قدس سره سؤال كردندكه أي قدوه أهل طريقت واى مقدمه زمره حقيقت آن جه معنى بودكه درسويداى دل وسينه تو يديد ار آمد تاتاج شاهي ازسر بيهادي ولباس سلطاني ازتن بر كشيدي ومرقع درويشي دريوشيدي ومحنت وبي نوايي اختيار كردي روزي برتخت مملكت تشبه بودم وبرجهار بالش حشمت تكيه زده كه ناكاه آينيه درييش روى من داشتند در آينه نكه كردم منزل خود در خاك ديدم ومرامونس نه سفر دراز درييش ومرازادنه زنداني تافته ديدم ومرا طاقت نه قاضي عدل ديدم ومراحجت نه اى مردى كه اكر بساط امل توكوشه باز كشند ازقاف تاقاف بكيرد بارى بنكركه صاحب قاب قوسين جه ميكويد "والله مارفعت قدماً وظننت أني وضعتها وما أكلت لقمة وظننت أني ابتلعتها" كفت بدان خداني كه مرا بخلق فرستادكه هيج قدمى اززمين
487
برنداشتم كه كمان بردم ييش ازمرك من آنرا بزمين باز توانم نهاد وهيج لقمه دردهان سنهادم كه جنان بنداشتم كه من آن لقمه راييش ازمرك توانم فروبرد اوكه سيد اولين وآخرين ومقتداي أهل آسمان وزمين است جنين ميكويد وتومغرور وغافل امل دراز درييش نهاده وصد ساله كار وبار ساخته ودل بر آن نهاده خبر ندارى كه اين دنيا غدار سراي غرورست نه سرور وسراي فراست نه سراي قرار)
جزء : 6 رقم الصفحة : 486
تاكى ازدار الغرورى ساختن دار السرور
تاكى ازدار الفراري ساختن دار القرار
اي خداوندان مال الاعتبار الاعتبار
وي خداوندان قال الاعتذار الاعتذار
ييش ازان كين جان عذر آردفرو ماندث زنطق
ظييش ازان كين حشم عبرت بين فرو ماندزكار
كذا في "كشف الأسرار".
(6/353)
{وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} كأين للتكثير بمعنى كم الخبرية ركب كاف التشبيه مع أي فجرد عنها معناها الإفرادي فصار المجموع كأنه اسم مبني على السكون آخره نون ساكنة كما في من لا تنوين تمكين ولهذا يكتب بعد الياء نون مع أن التنوين لا صورة له في الخط وهو مبتدأ.
وجملة قوله الله يرزقها خبره.
ولا تحمل صفة دابة.
والدابة كل حيوان يدب ويتحرك على الأرض مما يعقل.
والحمل بالفتح : (برداشتن بسروبه بشت) وبالكسر اسم للمحمول على الرأس وعلى الظهر.
والرزق لغة ما ينتفع به واصطلاحاً اسم لما يسوقه الله إلى الحيوان فيأكله.
روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة قالوا : كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت والمعنى وكثير من دابة ذات حاجة إلى الغذاء لا تطيق حمل رزقها لضعفها أو تدخره وإنما تصبح ولا معيشة عندها (وذخيره كننده ازجانوران آميست وموش ومور وكفته اند سياه كوش ذخيره نهد وفراموش كند.
ودر كشاف از بعضى نقل ميكند كه بلبلى را ديدم خوردنى درزير بالهاي خودنهان ميكرد القصه جانوران بسيارند ازدواب وطيور ووحوش وسباع وهوام وحيوانات آبى كه ذخيره ننهند وحامل رزق خوثد نشوند) {اللَّهُ يَرْزُقُهَا} يعطي رزقها يوماً فيوماً حيث توجهت يرزق {إِيَّاكُمْ} حيث كنتم أي ثم إنها مع ضعفها وتوكلها وإياكم واجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله لأن رزق الكل بأسباب هو المسبب لها وحده فلا تخافوا الفقر بالمهاجرة والخروج إلى دار الغربة
هست زفيض كرم ذوا الجلال
مشرب ارزاق بر آب ولال
شاه وكدا روزى ازان منخوريد
مور وملخ قسمت ازاوميبرند
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} المبالغ في السمع فيسمع قولكم هذا في أمر الرزق المبالغ في العلم فيعلم ضمائركم.
وقال الكاشفي : (دانا بآنكه شمارا رزوى از كجادهد).
جزء : 6 رقم الصفحة : 486
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم} أي أهل مكة {مِنْ} استفهام {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} لمصالح العباد حيث يجريان على الدوام والتسخير جعل الشيء منقاداً للآخر وسوقه إلى الغرض المختص به قهراً.
{لَيَقُولُنَّ} خلقهن {اللَّهِ} إذ لا سبيل لهم إلى الإنكار لما تقرر في المعقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود {فَأَنَّى} (بس كجا)
488
{يُؤْفَكُونَ} الإفك بالفتح الصرف والقلب وبالكسر كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه أي فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده في الإلهية مع إقرارهم بتفرده فيما ذكر من الخلق والتسخير فهو إنكار واستبعاد لتركهم العمل بموجب العلم وتوبيخ وتقريع عليه وتعجيب منه.
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ} أن يبسط له {مِنْ عِبَادِهِ} مؤمنين أو كافرين.
اديم زمين سفره عام اوست
برين خوان يعنماجه دشمن جه دوست
{وَيَقْدِرُ} (تنك ميسازد) {لَهُ} أي : لمن يشاء أن يقدر له منهم كأئناً من كان على أن الضمير مبهم حسب إبهام مرجعه ويحتمل أن يكون الموسع له والمضيق عليه واحداً على أن البسط والقبض على التعاقب أي يقدر لمن يبسط له على التعاقب.
قال الحسن : يبسط الرزق لعدوه مكراً به ويقدر على وليه نظراً له فطوبى لمن نظر الله إليه {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} فيعلم من يليق ببسط الرزق فيبسط له ويعلم من يليق بقبضه فيقبض له أو يعلم أن كلاً من البسط والقبض في أي وقت يوافق الحكمة والمصلحة فيفعل كلاً منهما في وقته وفي الحديث القدسي : "إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك".
جزء : 6 رقم الصفحة : 488
{وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم} أي مشركي العرب {مِنْ} (كه) {نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا} (بس زنده كرد وتازه ساخت) {بِهِ} (بسبب آن آب) {الارْضِ} بإخراج الزرع والنبات والأشجار منها {مِنا بَعْدِ مَوْتِهَا} يبسها وقحطها.
وبالفارسية : (بس از مردكي وافسر دكي).
ويقال للأرض التي ليست بمنبتة : ميتة لأنه لا ينفع بها كما لا ينتفع بالميتة {لَيَقُولُنَّ} نزل وأحيا {اللَّهِ} أي يعترفون بأنه الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفروعها ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يكاد يتوهم منه القدرة على شيء ما أصلاً.
{قُلِ الْحَمْدُ} على أن جعل الحق بحيث لا يجترىء المبطول على جحوده وأن أظهر حجتك عليهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ} أي : أكثر الكفار.
{لا يَعْقِلُونَ} أي شيئاً من الأشياء فلذلك لا يعملون بمقتضى قولهم فيشركون به سبحانه أخس مخلوقاته وهو الصنم.
يقول الفقير أغناه الله القدير : قد ذكر الله تعالى آية الرزق ثم آية التوحيد ثم كررهما في صورتين أخريين تنبيهاً منه لعباده المؤمنين على أنه سبحانه لا يقطع أرزاق الكفار مع وجود الكفر والمعاصي فكيف يقطع أرزاق المؤمنين مع وجود الإيمان والطاعات
(6/354)