{قَالَ} موسى {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء} (اى يزى كه صادر شود مثل اين افعال منكره) {بَعْدَهَا} أي : بعد هذه المرة {فَلا تُصَـاحِبْنِى} أي : لا تكن صاحبي ومقارني بل أبعدني عنك وإن سألت صحبتك {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى} (بدرستى كه رسيدى از نزديك من) {عُذْرًا} أي : قد وجدت عذراً من قبلي لما خالفتك ثلاث مرات.
وبالفارسية (ون سه بار مخالفت كنم هرآينه درترك صحبت من معذور باشى) العذر بضمتين والسكون في الأصل تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه بأن يقول لم أفعل أو فعلت لأجل كذا أو فعلت فلا أعود وهذا الثالث التوبة فكل توبة عذر بلا عكس.
والاعتذار عبارة عن محو أثر الذنب وأصله القطع يقال : اعتذرت إليه أي : قطعت ما في قلبه من الموجدة وفي الحديث : "رحم الله أخي موسى استحيى فقال ذلك لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب".
وفي "الخصائص الصغرى" : ومن خصائصه صلى الله عليه وسلّم أنه جمعت له الشريعة والحقيقة ولم يكن للأنبياء إلا أحدهما بدليل قصة موسى مع الخضر عليهما السلام والمراد بالشريعة الحكم
280
بالظاهر وبالحقيقة الحكم بالباطن وقد نص العلماء على أن غالب الأنبياء إنما بعثوا ليحكموا بالظاهر دون ما اطلعوا عليه من بواطن الأمور وحقائقها وبعث الخضر ليحكم عليه من بواطن الأمور وحقائقها ومن ثمة أنكر موسى على الخضر في قتله للغلام بقوله : {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْـاًا نُّكْرًا} فقال له الخضر : وما فعلته عن أمري ومن ثمة قال الخضر لموسى إني على علم من عند الله لا ينبغي لك أن تعمل به لأنك لست مأموراً بالعمل به وأنت على علم من عند الله لا ينبغي لي أن أعمل به لأني لست مأموراً بالعمل به.
وفي "تفسير ابن حبان" : والجمهور على أن الخضر نبي وكان علمه معرفة بواطن أمور أوحيت إليه أي : ليعمل بها وعلم موسى الحكم بالظاهر أي : دون الحكم بالباطن ونبينا صلى الله عليه وسلّم حكم بالظاهر في أغلب أحواله وحكم بالباطن في بعضها بدليل قتله عليه السلام للسارق وللمصلي بما اطلع على باطن أمرهما وعلم منهما ما يوجب القتل.
وقد ذكر بعض السلف أن الخضر إلى الآن ينفذ الحكم بالحقيقة وأن الذين يموتون فجأة هو الذين يقتلهم فإن صح ذلك فهو في هذه الأمة بطريق النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلّم فإنه صار من أتباعه عليه السلام كما أن عيسى عليه السلام عندما ينزل يحكم بشريعته نيابة عنه لأنه من أتباعه.
وفيه أن عيسى اجتمع به صلى الله عليه وسلّم اجتماعاً متعارفاً ببيت المقدس فهو صحابي كذا في "إنسان العيون" ، يقول الفقير : لا وجه لتخصيص عيسى فإنه عليه السلام كما اجتمع به عليه السلام ذلك الاجتماع كذلك الخضر والياس عليهما السلام اجتمعا به اجتماعاً متعارفاً كما سبق فهما صحابيان أيضاً.
وفيه بيان شرف نبينا صلى الله عليه وسلّم حيث أن هؤلاء الأنبياء الكرام استمهلوا من الله تعالى ليكونوا من أمته :
سر خيل انبيا وسهدار اتقيا
سلطان باركاه دنى قائد امم
جزء : 5 رقم الصفحة : 279
{فَانطَلَقَا} أي : ذهبا بعدما شرطا ذلك {حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ} هي أنطاكية بالفتح والكسر وسكون النون وكسر الكاف وفتح الياء المخففة قاعدة العواصم وهي ذات أعين وسور عظيم من صخر داخله خمسة أجبل دورها اثنا عشر ميلاً كما في "القاموس".
قال الكاشفي : (واهل ديه ون شب شدى دروازه دربستندى وبراى هيكس نكشادندى نماز شام موسى وخضر بدان ديه رسيدند وخواستندكه بديه در آيند كسى دروازه مكشود واهل ديه را كفتند اينجا غريب رسيده ايم كرسنه نيز هسنيم ون مارا درديه جاى نداديد بارى طعام جهت ما يفر ستيد) وذلك قوله تعالى : {اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا} أي : طلبا منهم الطعام ضيافة.
قيل : لم يسألاهم ولكن نزولهما عندهم كالسؤال منهم.
قال في "الأسئلة المقحمة" : استطعم موسى ههنا فلم يطعم وحين سقى لبنات شعيب ما استطعتم وقد أطعم حيث قال : {إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} (القصص : 25) والجواب ههنا أن الحرمان كان بسبب المعارضة بحيث لم يكتف بعلم الله بحاله بل جنح إلى الاعتماد على مخلوق فأراد السكون بحادث مسبوق وهناك جرى على توكله ولم يدخل وساطة بين المخلوقين وبين ربه بل حط الرحل ببابه فقال : {رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (القصص : 28) قال الحافظ :
فقير وخسته بدركاهت آمدم رحمى
كه جزدعاى توام نيست هي دست آويز
281
وقال :
ما آبروى فقر وقناعت نمى بريم
با دشه بكوى كه روزى مقدرست
(5/216)
قوله : {اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا} في محل الجر على أنه صفة لقرية وجه العدول عن استطعماهم على أن يكون صفة للأهل لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعهم فإن الإباء من الضيافة وهم أهلها قاطنون بها أقبح وأشنع {فَأَبَوْا} امتنعوا {أَن يُضَيِّفُوهُمَا} أي : من تضييفهما وهو بالفارسية (مهمان كردن) يقال ضافه إذا نزل به ضيفاً وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفاً له هذا حقيقة الكلام ثم شاع كناية عن الإطعام وحقيقة ضاف مال إليه من ضاف السهم عن الغرض إذا مال وعن النبي عليه السلام : "كانوا أهل قرية لثاما" ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 281
بزر كان مسافر بجان رورند
كه نام نكويى بعالم برند
غريب آشناباش وسياح دوست
كه سياح جلاب نام نكوست
تبه كرددان مملكت عن قريب
كزوخاطر آزرده كردد غريب
نكو دار ضيف ومسافر عزيز
وز آسيب شان بر حذرباش نيز
وفي الحكاية أن أهلها لما سمعوا الآية جاءوا إلى النبي عليه السلام بحمل من الذهب وقالوا : نشتري بهذا أن تجعل الباء تاء يعني فأتوا أن يضيفوهما أي : لأن يضيفوهما وقالوا : غرضنا دفع اللؤم فامتنع وقال : تغييرها يوجب دخول الكذب في كلام الله والقدح في الإلهية كذا في "التفسير الكبير" {فَوَجَدَا فِيهَا} قال الكاشفي : (ايشان كرسنه بيرون ديه بودند بامداد روى براه نهادند س يافتند در نواحى ديه) {جِدَارًا} (ديوارى مائل شده بيك طرف) {يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} الإرادة نزوع النفس إلى شيء مع حكمه فيه بالفعل أو عدمه والإرادة من الله هي الحكم وهذا من مجاز كلام العرب لأن الجدار لا إرادة له وإنما معناه قرب ودنا من السقوط كما يقول العرب داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها.
قال في "الإرشاد" أي : يداني أن يسقط فاستعيرت الإرادة للمشارفة للدلالة على المبالغة في ذلك.
والانقضاض الإسراع في السقوط وهو انفعال من القض يقال قضضته فانقض ومنه انقضاض الطير والكواكب لسقوطها بسرعة.
وقيل هو إفعلال من النقض كاحمر من الحمرة {فَأَقَامَهُ} فسواه الخضر بالإشارة بيده كما هو المروي عن النبي عليه السلام وكان طول الجدار في السماء مائة ذراع {قَالَ} له موسى لضرورة الحاجة إلى الطعام.
قال الكاشفي : (كفت موسى اين أهل ديه ماراً جاى ندادند وطعام نيز نفرستادند س را ديوار ايشانرا عمارت كردى) والجملة جزاء الشرط {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ} افتعل من اتخذ بمعنى أخذ كأتبع وليس من الأخذ عند البصريين {عَلَيْهِ} على عملك {أَجْرًا} أجرة حتى نشتري بها طعاماً.
قال بعضهم لما قال له {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} قال الخضر : أليس كنت في البحر ولم تغرق من غير سفينة ولما قال : {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةَا بِغَيْرِ نَفْسٍ} فقال : أليس قتلت القبطي بغير ذنب ولما قال : {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} قال : أنسيت سقياك لبنات شعيب من غير أجرة وهذا من باب لطائف المحاورات.
قال القاسم لما قال موسى هذا القول وقف ظبي بينهما وهما جائعان من جانب موسى غير مشوي ومن جانب الخضر مشوي لأن الخضر أقام الجدار بغير طمع وموسى رده إلى الطمع.
قال ابن عباس
282
رضي الله عنهما : رؤية العمل وطلب الثواب به يبطل العمل ألا ترى الكليم لما قال للخضر : {لَوْ شِئْتَ} الآية كيف فارقه.
وقال الجنيد قدس سره : إذا وردت ظلمة الاطماع على القلوب حجبت النفوس على نظرها في بواطن الحكم.
يقول الفقير : إن قلت كيف جوز موسى طلب الأجر بمقالة العمل الذي حصل بمجرد الإشارة وهو من طريق خرق العادة الذي لا مؤونة فيه.
قلت : لم ينظر إلى جانب الأسباب وإنما نظر إلى النفع العائد إلى جانب أصحاب الجدار ألا ترى أنه جوز أخذ الأجر بمقالة الرقية بسورة الفاتحة ونحوها وهو ليس من قبيل طلب الأجرة على الدعوة فإنه لا يجوز للنبي أن يطلب أجراً من قومه على دعوته وإرشاده كما أشير إليه في مواضع كثيرة من القرآن.
جزء : 5 رقم الصفحة : 281
{قَالَ} الخضر {هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} أي : هذا الوقت وقت الفراق بيننا وهذا الاعتراض الثالث سبب الفراق الموعود بقوله فلا تصاحبني وإضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف اتساعاً {سَأُنَبِّئُكَ} سأخبرك السين للتأكيد لعدم تراخي التنبئة {بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} التأويل رجع الشيء إلى مآله والمراد به ههنا المآل والعاقبة إذ هو المنبأ به دون التأويل وهو خلاص السفينة من اليد العادية وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز بالبدل الأحسن واستخراج اليتيمين للكنز قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما" أي : يبين الله لنا بالوحي.
(5/217)
وفي "التأويلات النجمية" : ومن آداب الشيخ أنه لو ابتلى المريد بنوع من الاعتراض أو مما يوجب الفرقة يعفو عنه مرة أو مرتين ويصفح ولا يفارقه فإن عاد إلى الثالثة فلا يصاحبه لأنه قد بلغ من لدنه عذراً ويقول كما قال الخضر هذا فراق بيني وبينك.
ومنها أنه لو آل أمر الصحبة إلى المفارقة بالاختيار أو بالاضطرار فلا يفارقه إلا على النصيحة فينبئه عن سر ما كان عليه الاعتراض ويخبره عن حكمته التي لم يحط بها خبراً ويبين له تأويل ما لم يستطع عليه صبراً لئلا يبقى معه إنكار فلا يفلح إذا أبدا انتهى.
يقول القير وهو المراد بقول بعض الكبار من قال لأستاذه لم لم يفلح؟ قال أبو يزيد البسطامي قدس سره في حق تلميذه لما خالفه دعوا من سقط من عين الله فرؤي بعد ذلك من المحنثين وسرق فقطعت يده هذا لما نكث العهد فأين هو ممن وفي بيعته مثل تلميذ أبي سليمان الداراني قدس سره قيل له : ألققِ نفسك في التنور فألقى نفسه فيه فعاد عليه برداً وسلاماً وهذه نتيجة الوفاء ، وفي المثنوي :
جرعه بر خاك وفا آنكس كه ريخت
كى تواند صيد دولت زو كريخت
جعلنا الله وإياكم من المتحققين بحقائق المواثيق والعهود.
جزء : 5 رقم الصفحة : 281
{أَمَّا السَّفِينَةُ} التي خرقتها {فَكَانَتْ لِمَسَـاكِينَ} لضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظلمة وكانوا عشرة إخوة خمسة منهم زمنى {يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ} بها مؤاجرة طلباً للكسب فإسناد العمل إلى الكل بطريق التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكلين.
اعلم أن الفقير في الشريعة من له مال لا يبلغ نصاباً قدر مائتي درهم أو قيمتها فاضلاً عن حاجته الأصلية سواء كان نامياً أو لا والمسكين من لا شيء له من المال هذا هو الصحيح عند الحنفية والشافعية يعكسون.
قال القاضي في الآية دليل أن المسكين يطلق على من يملك شيئاً لم يكفه وحمل اللام على التمليك.
وقال مولانا سعدي : إنما يكون دليلاً
283
إذا ثبت أن السفينة كانت ملكاً لهم لكن للخصم أن يقول اللام للدلالة على اختصاصها بهم لكونها في يدهم عارية أو كونهم أجراء كما ورد في الأثر انتهى.
وقد نص على هذين الوجهين صاحب "الكفاية في شرح الهداية" ولئن سلمنا أن السفينة كانت ملكاً لهم فإنما سماهم الله مساكين دون فقراء لعجزهم عن دفع الملك الظالم ولزمانتهم والمسكين يقع على من أذله شيء وهو غير المسكين المشهور في مصرف الصدقة هذا هو تحقيق المقام {فَأَرَدتُّ} بحكم الله وإرادته {أَنْ أَعِيبَهَا} أي : اجعلها ذات عيب {وَكَانَ} (وجال آنكه هست) {وَرَآءَهُم} أمامهم كقوله : ومن ورائهم برزخ فوراء من الأضداد مثل قوله فما فوقها أي : دونها أريد به ههنا الأمام دون الخلف على ما يأتي من القصص {مَّلِكٌ} كافر اسمه جلندي بن كركرد كان بجزيرة الأندلس ببلدة قرطبة وأول فساد ظهر في البحر كان ظلمه على ما ذكره أبو الليث وأول فساد ظهر في البر قتل قابيل وهابيل على ما ذكره أيضاً عند تفسير قوله تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ} (الروم : 41) الآية {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} صحيحة جيدة وهو من قبيل إيجاز الحذف {غَصْبًا} من أصحابها وانتصابه على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ أو على الحالية بمعنى غاصباً والغصب أخذ الشيء ظلماً وقهراً ويسمى المغصوب غصباً وخوف الغصب سبب لإرادة عيبها لكنه أخر عنها لقصد العناية بذكرها مقدماً وجه العناية أن موسى لما أنكر خرقها وقال : أخرقتها لتغرق أهلها اقتضى المقام الاهتمام لدفع مبنى إنكاره بأن الخرق لقصد التعييب لا لقصد الإغراق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 283
ـ وروي ـ أن الخضر اعتذر إلى القوم وذكر لهم شأن الملك الغاصب ولم يكونوا يعلمون بخبره.
وفي قصص الأنبياء فبينما هم كذلك استقبلتهم السفينة فيها جنود الملك وقالوا إن الملك يريد أن يأخذ سفينتكم إن لم يكن فيها عيب ثم صعدوا إليها وكشفوها فوجدوا موضع اللوح مفتوحاً فانصرفوا فلما بعدوا عنهم أخذ الخضر ذلك اللوح ورده إلى مكانه ، وفي المثنوي :
كر خضر در بحر كشتى را شكست
صد درشتى درشكست خضر هست فظاهر فعله تخريب وباطنه تعمير ، وفي المثنوي :
آن يكى آمد زمين را مى شكافت
ابلهى فرياد كرد وبرنتافتكين زمين را ازه ويران ميكنى
مى شكافيّ وريشان ميكنى
كفت اي ابله برو برمن مران
تو عمارت از خرابى باز دان
كى شود كلزار وكندم زار اين
تا نكردد زشت وويران ابن زمين
كى شود بستان وكشت وبرك بر
تا نكردد نظم او زير وزبر
تا نبشكا فى بنشتر ريش غز
كى شود نيكو وكى كرديد نغز
تا نشوزد خلطهايت از دوا
كى رود شورش كجا آيد شفا
اره اره كرد درزى جامه را
كس زند آن درزى علامه را
كه را اين اطلس بكز يده را
بر دريدى ه كنم بدر يده را
هر بناى كهنه كآبادان كنند
نى كه اول كهنه را ويران كنند
همنين نجار وحداد وقصاب
هستشان يش از عمارتها خراب
284
آن هليله وان بليله كوفتن
زان تلف كردند معمورى تن
تا نكوبى كندم اندر آسيا
كى شود آراسته زان خوان ما
(5/218)
وفي إفناء الوجود المجازي تحصيل للوجود الحقيقي فما دامت البشرية وأوصافها باقية على حالها لا يظهر آثار الأخلاق الإلهية البتة.
وفي "التأويلات النجمية" : في الآية إشارات :
منها : أن خرق السفينة وإعابتها لئلا تؤخذ غصباً ليس من أحكام الشرع ظاهراً ولكنه لما كان فيه مصلحة لصاحبها في باطن الشرع جوز ذلك ليعلم أنه يجوز للمجتهد أن يحكم فيما يرى أن صلاحه أكثر من فساده في باطن الشرع بما لا يجوز في ظاهر الشرع إذا كان موافقاً للحقيقة كما قال : {وَكَانَ وَرَآءَهُم} الآية.
ومنها : أن يعلم عناية الله في حق عباده المساكين الذين يعملون في البحر غافلين عما وراءهم من الآفات كيف أدركتهم العناية بنبي من أنبيائه وكيف دفع عنهم البلاء ودرأ عنهم الآفة.
ومنها : أن يعلم أن الله تعالى في بعض الأوقات يرجح مصلحة بعض السالكين على مصلحة نبي من أنبيائه في الظاهر وإن كان لا يخلو في باطن الأمر من مصلحة النبي في إهمال جانبه في الظاهر كما أن الله تعالى رجح رعاية مصلحة المساكين في خرق السفينة على رعاية مصلحة موسى لأنه كان من أسباب مفارقته عن صحبة الخضر ومصلحته ظاهراً كانت في ملازمة صحبة الخضر وقد كان فراقه عن صحبته متضمناً لمصالح النبوة والرسالة ودعوة بني إسرائيل وتربيتهم في حق موسى باطناً انتهى.
يقول الفقير : ومنها أن أهل السفينة لما لم يأخذوا النول من موسى والخضر عوضهم الله تعالى خيراً من ذلك حيث نجى سفينتهم من اليد العادية وفيه فضيلة الفضل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 283
{وَأَمَّا الْغُلَـامُ} الذي قتلته وهو جيسور {فَكَانَ أَبَوَاهُ} اسم أبيه كازبرا واسم أمه سهوى كما في التعريف {مُؤْمِنَيْنِ} مقرين بتوحيد الله تعالى {فَخَشِينَآ} خفنا من {أَن يُرْهِقَهُمَا} رهقه غشيه ولحقه وأرهقه طغياناً أغشاه إياه وألحق ذلك به كما في "القاموس".
قال الشيخ أي : يكلفهما {طُغْيَـانًا} ضلالة {وَكُفْرًا} ويتبعان له لمحبتهما إياه فيكفران بعد الإيمان ويضلان بعد الهداية وإنما خشي الخضر من ذلك لأن الله أعلمه بحال الولد أنه طبع أي : خلق كافراً.
{فَأَرَدْنَآ} (س خواستيم ما) {أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} يعوضهما ويرزقهما ولداً {خَيْرًا مِّنْهُ زَكَواةً} طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة {وَأَقْرَبَ} منه {رُحْمًا} رحمة وبراً بوالديه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما أبدلهما الله جارية تزوجها نبي من الأنبياء فولدت سبعين نبياً.
قال مطرف فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو بقي لكان فيه هلاكهما فليرض المرء بقضاء الله فإن قضاء الله للمؤمن خير له من قضائه فيما يحب :
آن سررا كش خضر ببريد حلق
سر آنرا در نيابد عام خلقآنكه جان بخشد اكر بكشدرواست
نائب است ودست او دست خداست
بس عداوتها كه آن يارى بود
بس خرابيها كه معمارى بود فرب عداوة هي في الحقيقة محبة ورب عدو هو في الباطن محب وكذا عكسه وانتفاع الإنسان بعدو مشاجر يذكر عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يخفي عليه عيوبه ، وفي المثنوي :
285
در حقيقت دوستانت دشمنند
كه زحضرت دور ومشغولت كنند
در حقيقت هر عدو داروى تست
كيميا ونافع ودلجوى تست
كه ازو اندر كريزى در خلا
استعانت جويى از لطف خدا
ـ وكان ـ واعظ كلما وعظ ودعا أشرك في دعائه قطاع الطريق ودعا لهم فسئل عن ذلك فقال : إنهم كانوا سبباً لسلوكي هذا الطريق أي : طريق الفقراء واختياري الفقر على الغنى فإني كنت تاجراً فأخذوني وآذوني وكلما خطر ببالي أمر التجارة ذكرت أذاهم وجفاهم فتركت التجارة وأقبلت على العبادة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 283
وفي الآية إشارات :
منها أن قتل النفس الزكية بلا جرم منها محظور في ظاهر الشرع وإن كان فيه مصلحة لغيره ولكنه في باطن الشرع جائز عند من يكاشف بخواتيم الأمور ويتحقق له أن حياته سبب فساد دين غيره وسبب كمال شقاوة نفسه كما كان حال الخضر مع قتل الغلام لقوله تعالى : {وَأَمَّا الْغُلَـامُ} الآية فلو عاش الغلام لكان حياته سبب فساد دين أبويه وسبب كمال شقاوته فإنه وإن طبع كافراً شقياً لم يكن يبلغ كمال شقاوته إلا بطول الحياة ومباشرة أعمال الكفر.
ومنها تحقيق قوله تعالى : {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة : 216) الآية فإن أبوي الغلام كانا يكرهان قتل ابنهما بغير قتل نفس ولا جرم وكان قتله خيراً لهما وكانا يحبان حياة ابنهما وهو أجمل الناس وكان حياته شراً لهما وكان الغلام أيضاً يكره قتل نفسه وهو خير له ويحب حياة نفسه وهو شر له لأنه بطول حياته يبلغ إلى كمال شقاوته.
(5/219)
ومنها : أن من عواطف إحسان الله تعالى أنه إذا أخذ من العبد المؤمن شيئاً من محبوباته وهو مضر له والعبد غافل عن مضرته فإن صبر وشكر فالله تعالى يبدله خيراً منه مما ينفعه ولا يضره كما قال تعالى {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} الآية كما في "التأويلات النجمية" : نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصابرين الشاكرين في الشريعة والطريقة ويوصلنا إلى ما هو خير وكمال في الحقيقة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 283
{وَأَمَّا الْجِدَارُ} المعهود {فَكَانَ لِغُلَـامَيْنِ يَتِيمَيْنِ} اسمهما اصرم وصريم ابنا كاشح وكان سياحاً تقياً واسم أمهما دنيا فيما ذكره النقاش {فِى الْمَدِينَةِ} في القرية المذكورة فيما سبق وهي أنطاكية {وَكَانَ تَحْتَهُ} أي : تحت الجدار {كَنزٌ لَّهُمَا} (كنجى براى ايشان) هو في الأصل مال دفنه إنسان في أرض وكنزه يكنزه أي : دفنه أي مال مدفون لهما من ذهب وفضة روى ذلك مرفوعاً وهو الظاهر لإطلاق الذم على كنزهما في قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (التوبة : 34) لمن لا يؤدي زكاتهما وما تعلق بهما من الحقوق.
وقيل كان لوحاً من ذهب أو من رخام مكتوب فيه "بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يؤمن بالقدر" أي : أن الأمور كائنة بقضاء الله تعالى وتقديره "كيف يحزن"؟ أي : على فوات نعمة وإتيان شدة "وعجبت لمن يؤمن بالرزق" أي : أن الرزق مقسوم والله تعالى رازق كل أحد "كيف ينصب"؟ أي : يتعب في تحصيله "وعجبت لمن يؤمن بالموت" أي : أنه سيموت وهو حق "كيف يفرح"؟ أي : بحياته القليلة القصيرة "وعجبت لمن يؤمن بالحساب" أي : أن الله تعالى يحاسب على كل قليل وكثير "كيف يغفل"؟ أي : عن ذلك ويشغل بتكثير متاع الدنيا "وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله وعجبت لمن يؤمن بالنار كيف يضحك" وفي الجانب الآخر
286
مكتوب "أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه" وهو قول الجمهور كما في "بحر العلوم".
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـالِحًا} كان الناس يضعون الودائع عند ذلك الصالح فيردها إليهم سالمة فحفظاً بصلاح أبيهما في مالهما وأنفسهما.
قال جعفر بن محمد : كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء فيكون الذي دفن ذلك الكنز جدهما السابع {فَأَرَادَ رَبُّكَ} بالأمر بتسوية الجدار {أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا} أي : حلمهما وكمال رأيهما.
قال في "بحر العلوم" : الأشد في معنى القوة جمع شدة كانعم في نعمة على تقدير حذف الهاء وقيل لا واحد له وبلوغ الأشد بالإدراك وقيل أن يونس منه الرشد مع أن يكون بالغاً وآخره ثلاث وثلاثون سنة أو ثماني عشرة وإنما قال الخضر في تأويل خرق السفينة
جزء : 5 رقم الصفحة : 283
(5/220)
{فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} بالإسناد إلى نفسه لظاهر القبح وفي تأويل قتل الغلام بلفظ الخشية والإسناد إلى نا لأن الكفر مما يجب أن يخشاه كل أحد وقال في تأويل الجدار {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا} بالإسناد إلى الله تعالى وحده لأن بلوغ الأشد وتكامل السن ليس إلا بمحض إرادة الله تعالى من غير مدخل وأثر لإرادة العبد فالأول في نفسه شر قبيح والثالث خير محض والثاني ممتزج.
وقال بعضهم لما قال الخضر {فَأَرَدتُّ} ألهم من أنت حتى يكون لك إرادة فجمع في الثانية حيث قال : {فَأَرَدْنَآ} فإلهم من أنت وموسى حتى يكون لكما إرادة فخص في الثالثة الإرادة بالله أي : دون إضافة الإرادة إلى نفسه وادعاء الشركة فيهما أيضاً {وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} من تحت الجدار ولولا أني أقمته لانقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته وضاع بالكلية.
فإن قيل إن عرف واحد من اليتيمين والقيم عليهما الكنز امتنع أن يترك سقوط الجدار وإن لم يعرفوا فكيف يسهل عليهم استخراجه.
قلنا لعلهما لم يعلماه وعلم القيم إلا أنه كان غائباً كذا في "تفسير الإمام".
يقول الفقير قوله وإن لم يعرفوا الخ غير مسلم لأن الله تعالى قادر على أن يعرفهما مكان ذلك الكنز بطريق من الطرق ويسهل عليهما استخراجه على أن واجد الكنز في كل زمان من غير سبق معرفة بالمكان ليس بنادر واللام في كنز لهما لاختصاص الوجدان بهما ومن البعيد أن يعيش الجد السابع إلى أن يولد للبطن السادس من أولاده ويدفن له مالاً أو يعين له {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} لهما مصدر في موقع الحال أي : مرحومين من قبله تعالى أو علة لأراد فإن إرادة الخير رحمة أو مصدر لمحذوف أي : رحمهما الله بذلك رحمة {وَمَا فَعَلْتُهُ} أي : ما فعلت ما رأيته يا موسى من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار {عَنْ أَمْرِى} عن رأيي واجتهادي وإنما فعلته بأمر الله ووحيه وهذا إيضاح لما أشكل على موسى وتمهيد للعذر في فعله المنكر ظاهراً وهكذا الطريق بين المرشد والمسترشد في إزالة الشكوك والشبه عنه شفقة له {ذَالِكَ} المذكور من العواقب {تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} أي : لم تستطع فحذف التاء للتخفيف وهو إنجاز للتنبئة الموعودة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 283
ـ روي ـ أن موسى لما أراد أن يفارقه قال له الخضر : لو صبرت لأتيت على ألف عجب كل عجب أعجب مما رأيت فبكى موسى على فراقه وقال له : أوصني يا نبي الله ، قال : لا تطلب العلم لتحدث به الناس واطلبه لتعمل به وذلك لأن من لم يعمل
287
بعلمه فلا فائدة في تحديثه بل نفعه يعود إلى غيره ، وفي المثنوي :
جوع يوسف بود آن يعقوب را
بوى نانش مى رسيد ازدورجا
آنكه بستد يرهن رامى شتافت
بوى يراهان يوسف مى نيافت
وانكه صدرفرسنك زآن سوبوى او
ونكه بد يعقوب مى بوييد بو
اي بسا عالم زدانش بى نصيب
حافظ علمست آنكست نى حبيب
مستمع ازوى همى بايد مشام
كره باشد مستمع ازجنس عام
زانكه يراهان بدستش عاريه است
ون بدست آن نخاسى جاريه است
جاريه يش نخاسى سرسريست
در كف او ازبراى مشتريت
ومن وصايا الخضر : كن نَفَّاعاً ولا تكن ضراراً ، وكن بشاشاً ولا تكن عبوساً غضاباً ، وإياك واللجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تضحك من غير عجب ، ولا تعير المذنبين خطاياهم بعد الندم ، وابككِ على خطيئتك ما دمت حياً ، ولا تؤخر عمل اليوم إلى الغد ، واجعل همك في معادك ، ولا تخض فيما لا يعنيك ، ولا تأمن لخوف من أمنك ، ولا تيأس من الأمن من خوفك ، وتدبر الأمور في علانيتك ، ولا تذر الإحسان في قدرتك.
فقال له موسى : قد أبلغت في الوصية فاتم الله عليك نعمته وغمرك في رحمته وكلأك من عدوه ، فقال له الخضر : أوصني أنت يا موسى فقال له موسى : إياك والغضب إلا في الله ، ولا تحب الدنيا فإنها تخرجك من الإيمان وتدخلك في الكفر فقال له الخضر : قد أبلغت في الوصية فأعانك الله على طاعته وأراك السرور في أمرك وحببك إلى خلقه وأوسع عليك من فضله قال له : آمين كما في "التعريف والإعلام" للإمام السهيلي رحمه الله.
وفي بعث موسى إلى الخضر إشارة إلى أن الكمال في الانتقال من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على التطلع إلى حقائق الأمور كما في "تفسير الإمام".
قال بعض العارفين : من لم يكن له نصيب من هذا العلم أي : العلم الوهبي الكشفي أخاف عليه سوء الخاتمة وأدنى النصيب التصديق به وتسليمه لأهله وأقل عقوبة من ينكره أن لا يرزق منه شيئاً وهو علم الصديقين والمقربين كذا في "إحياء العلوم".
وفي الآية إشارات :
منها : أنه تعالى من كمال حكمته وغاية رأفته ورحمته في حق عباده يستعمل نبيين مثل موسى والخضر عليهما السلام في مصلحة الطفلين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 283
ومنها : أن مثل الأنبياء يجوز أن يسعى في أمر دنيوي إذا كان فيه صلاح أمر أخروي لا سيما فائدة راجعة إلى غيره في الله.
(5/221)
ومنها : أن يعلم أن الله تعالى يحفظ بصالح قوماً وقبيلة ويوصل بركاته إلى البطن السابع منه كما قال : {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـالِحًا} .
قال محمد بن المنكدر إن الله يحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وعشيرته والدويرات أي : أهلها حوله فلا يزالون في حفظ الله وستره.
وقال سعيد بن المسيب إني أصلي وأذكر ولدي فأزيد في صلاتي.
وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـالِحًا} أنه قال : حفظا بصلاح أبيهما وما ذكر منهما صلاحاً فإذا نفع الأب الصالح مع أنه السابع كما قيل في الآية فما بالك بسيد الأنبياء والمرسلين بالنسبة إلى قرابته الطاهرة الطيبة المطهرة.
وقد قيل : إن حمام الحرم إنما أكرم لأنه من ذرية حمامتين عششتا على غار ثور الذي اختفى فيه النبي عليه السلام عند خروجه من مكة للهجرة كما في "الصواعق" لابن
288
حجر.
وذكر أن بعض العلوية هم هارون الرشيد بقتله فلما دخل عليه أكرمه وخلى سبيله فقيل : بمَ دعوت حتى أنجاك الله منه؟ فقال : قلت : يا من حفظ الكنز على الصبيين لصلاح أبيهما احفظني لصلاح آبائي كما في "العرائس".
ومنها : ليتأدب المريد فيما استعمله الشيخ وينقاد له ولا يعمل إلا لوجه الله ولا يشوب عمله بطمع دنيوية وغرض نفساني ليحبط عمله ويقطع حبل الصحبة ويوجب الفرقة.
ومنها : أن الله تعالى يحفظ المال الصالح للعبد الصالح إذا كان فيه صلاح.
ليتحقق أن كل ما يجري على أرباب النبوة وأصحاب الولاية إنما يكون بأمر من أوامر الله ظاهراً وباطناً.
أما الظاهر فكحال الخضر كما قال : {وَمَا فَعَلْتُه عَنْ أَمْرِى} أي : فعلته بأمر ربي.
وأما الباطن فكحال موسى واعتراضه على الخضر في معاملته ما كان خالياً عن أمر باطن من الله تعالى في ذلك لأنه كان اعتراضه على وفق شريعته.
ومنها : أن الصبر على أفاعيل المشايخ أمر شديد فإن زل قدم مريد صادق في أمر من أوامر الشيخ أو تطرق إليه إنكار على بعض أفعال المشايخ أو اعتراه اعتراض على بعض معاملاته أو أعوزه الصبر على ذلك فليعذره ويعف عنه ويتجاوز إلى ثلاث مرات فإن قال بعد الثالثة هذا فراق بيني وبينك يكون معذوراً ومشكوراً ثم ينبئه عن أفاعيله ويقول له ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبراً.
قال في "العوارف" ويحذر المريد الاعتراض على الشيخ ويزيل اتهام الشيخ عن باطنه في جميع تصاريفه فإنه السم القاتل للمريدين وقل أن يكون مريد يعترض على الشيخ بباطنه فيفلح ويذكر المريد في كل ما أشكل عليه من تصاريف الشيخ قصة موسى مع الخضر كيف كان يصدر من الخضر تصاريف ينكرها موسى ثم لما كشف له عن معناها بان لموسى وجه الصواب في ذلك فهكذا ينبغي للمريد أن يعلم أن كل تصرف أشكل عليه صحته من الشيخ عند الشيخ فيه بيان وبرهان للصحة انتهى ، قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 283
نصيحتي كنمت بشنو وبهانه مكير
هر آنكه ناصح مشفق بكويدت بذير
وينبغي أن يكون المرشد محققاً ومشفقاً لا مقلداً غير مشفق كيلا يضيع سعي من اقتدى به فإنه قيل :
إذا كان الغراب دليل قوم
سيهديهم إلى أرض الجياف
قال الحافظ :
دردم نهفته به زطبيبان مدعى
باشد كه ازخزانه غيبش دواكنند
قال الصائب :
ربي دردان علاج درد خودجستن بآن ماند
كه خاراز ابرون آرد كسى بانيش عقربها
ومنها : أنه إذا تعارض ضرران يجب تحمل أهونهما لدفع أعظمهما وهو أصل ممهد غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة مثاله.
رجل عليه جرح لو سجد سال جرحه وإن لم يسجد لم يسل فإنه يصلي قاعداً يومي بالركوع والسجود لأن ترك الركوع والسجود أهون من الصلاة مع الحدث.
وشيخ لا يقدر على القراءة إن صلى قائماً ويقدر عليها إن صلى قاعداً يصلي قاعداً مع القراءة ولو صلى في الفصلين قائماً مع الحدث وترك القراءة لم يجز.
ورجل لو خرج إلى الجماعة لا يقدر على القيام ولو صلى في بيته صلى قاعداً صححه في "الخلاصة" وفي "شرح المنية" يصلي في بيته قائماً قال ابن نجيم وهو الأظهر ومن اضطر وعنده ميتة ومال الغير أكلها دونه.
ورجل قيل له
289
لتلقين نفسك في النار أو من الجبل أو لأقتلنك وكان الإلقاء بحيث لا ينجو يختار ما هو الأهون في زعمه عند الإمام وعندهما يصبر حتى يقتل كذا في "الأشباه".
جزء : 5 رقم الصفحة : 283
(5/222)
{وَيَسْـاَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ} هم اليهود سألوه على وجه الامتحان عن رجل طواف بلغ شرق الأرض وغربها أو سأل قريش بتلقينهم وصيغة الاستقبال للدلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجواب وهو ذو القرنين الأكبر واسمه اسكندر بن فيلقوس اليوناني ملك الدنيا بأسرها كما قال مجاهد ملك الأرض أربعة مؤمنان وكافران فالمؤمنان سليمان وذو القرنين والكافران نمرود وبخت نصر وفي "مشكاة الأنوار" شداد بن عاد بدل بخت نصر وكان ذو القرنين بعد نمرود في عهد إبراهيم عليه السلام على ما يأتي ولكنه عاش طويلاً ألفاً وستمائة سنة على ما قالوا.
وفي "تفسير الشيخ" وكان بعد ثمود وكان الخضر على مقدمة جيشه بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير.
قال ابن كثير والصحيح أنه ما كان نبياً ولا ملكاً وإنما كان ملكاً صالحاً عادلاً ملك الأقاليم وقهر أهلها من الملوك وغيرهم وانقادت له البلاد مات بمدينة شهرزور بعدما خرج من الظلمة ودفن فيها وفي "التبيان" مدة دوران ذي القرنين في الدنيا خمسمائة ولما فرغ من بناء السد رجع إلى بيت المقدس ومات به وإنما سمي بذي القرنين لأنه بلغ قرني الشمس أي : جانبيها مشرقها ومغربها كما لقب أردشير واضع النرد بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد.
وفي "القاموس" : لما دعاهم إلى الله ضربوه على قرنه الأيمن فمات فأحياه الله ثم دعاهم فضربوه على قرنه الأيسر فمات ثم أحياه الله كما سمي علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذي القرنين لما كان شجتان في قرني رأسه إحداهما من عمرو بن ود والثانية من ابن ملجم لعنه الله.
وفي "قصص الأنبياء" وكان قد رأى في منامه أنه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها فلما قص رؤياه على قومه سموه به.
وقال الإمام السيوطي رحمه الله في "الأوائل" أول من لبس العمامة ذو القرنين وذلك أنه طلع له في رأسه قرنان كالظلفين يتحركان فلبسها من أجل ذلك ثم أنه دخل الحمام ومعه كاتبه فوضع العمامة وقال لكاتبه هذا أمر لم يطلع عليه غيرك فإن سمعت به من أحد قتلتك فخرج الكاتب من الحمام فأخذه كهيئة الموت فأتى الصحراء فوضع فمه بالأرض ثم نادى ألا أن للملك قرنين فانبت الله من كلمته قصبتين فمر بهما راع فقطعهما واتخذهما مزماراً فكان إذا زمر خرج من القصبتين ألا أن للملك قرنين فانتشر ذلك في المدينة فقال ذو القرنين هذا أمر أراد الله أن يبديه.
وأما ذو القرنين الثاني وهو اسكندر الرومي الذي يؤرخ بأيامه الروم فكان متأخراً عن الأول بدهر طويل أكثر من ألفي سنة كان هذا قبل المسيح عليه السلام بنحو من ثلاثمائة سنة وكان وزيره أرسطا طاليس الفيلسوف وهو الذي حارب دارا وأذل ملوك الفرس ووطىء أرضهم وكان كافراً عاش ستاً وثلاثين سنة فالمراد بذي القرنين في القرآن هو الأول دون الثاني وقد غلط كثير من العلماء في الفرق بينهما فظنوا أن المذكور في الآية هو الرومي سامحهم الله تعالى {قُلِ} لهم في الجواب : {سَأَتْلُوا عَلَيْكُم} سأذكر لكم أيها السائلون {مِّنْهُ} أي : من خبر ذو القرنين وحاله فحذف المضاف {ذِكْرًا} نبأً مذكوراً وبياناً أو سأتلو في شأنه من جهته تعالى ذكراً أي : قرآناً والسين للتأكيد والدلالة على التحقق أي : لا أترك التلاوة
290
ألبتة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 290
{إِنَّا مَكَّنَّا لَه فِى الأرْضِ} شروع في تلاوة الذكر المعهود حسبما هو الموعود والتمكين ههنا الإقدار وتمهيد الأسباب فلا يحتاج إلى المفعول يقال مكنه ومكن له ومعنى الأول جعله قادراً قوياً ومعنى الثاني جعل له قدرة وقوة ولتلازمهما في الوجود وتقاربهما في المعنى يستعمل كل منهما في محل الآخر كما في قوله : {مَّكَّنَّـاهُمْ فِى الارْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} (الأنعام : 6) أي : جعلناهم قادرين من حيث القوى والأسباب والآلات على أنواع التصرفات فيها ما لم نجعله لكم من القوة والسعة في المال والاستظهار بالعدد والأسباب فكأنه قيل ما لم نمكن لكم فيها أي : ما لم نجعلكم قادرين على ذلك فيها أو مكنا لهم في الأرض ما لم نمكن لكم وهذا إذا كان التمكين مأخوذاً من المكان بناء على توهم أن ميمه أصلية أو المعنى إنا جعلنا له مكنة وقدرة على التصرف من حيث التدبير والرأي والأسباب حيث سخر له السحاب ومد له في الأسباب وبسط له النور وكان الليل والنهار عليه سواء وسهل عليه السير في الأرض وذللت له طرقها.
(5/223)
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان إبراهيم عليه السلام بمكة فأقبل عليها ذو القرنين فلما كان بالأبطح قيل له في هذه البلدة إبراهيم خليل الرحمن فقال ذو القرنين ما ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها إبراهيم خليل الرحمن فنزل ذو القرنين ومشى إلى إبراهيم فسلم عليه إبراهيم واعتنقه فكان هو أول من عانق عند السلام كما في "إنسان العيون ودرر الغرر" فعند ذلك سخر له السحاب لأن من تواضع رفعه الله فكانت السحاب تحمله وعساكره وجميع آلاتهم إذا أرادوا غزوة قوم وسخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه.
ون نهد در تو صفات جبرئيل
همو فرخى برهوا جويى سبيلون نهند در تو صفتهاى خرى
صد رت كرهست در آخور رى
ونكه شم دل شده محرم بنور
ظلمت كون ومكان شد ازتو دورهركه نا بينا شود اندر جهان
روز او باشب برابر بى كمان
{إِنَّا مَكَّنَّا لَه فِى} أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه {سَبَبًا} أي : طريقاً يوصل إليه وهو كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة.
وبالفارسية (دست آويزى كه بدان سبب اورا آن يز ميسر ميشد).
{فَأَتْبَعَ} بالقطع أي : فأراد بلوغ المغرب فاتبع {سَبَبًا} يوصله إليه أي : لحقه وتبعه وسلكه وسار.
قال في "القاموس" : واتبعتهم تبعتهم وذلك إذا كانوا سبقوك فلحقتهم واتبعتهم أيضاً غيري وقوله تعالى : {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ} (يونس : 90) أي : لحقهم ففي الاتباع معنى الإدراك والإسراع.
قال ابن الكمال : يقال تبعه اتباعاً إذا طلب الثاني اللحوق بالأول وتبعه تبعاً إذا مر به ومضى معه.
قال في "الإرشاد" : ولعل قصد بلوغ المغرب ابتداء لمراعاة الحرمة الشمسية انتهى.
وقال في "التبيان" : قصد إلى ناحية المغرب يطلب عين الحياة عند بحر الظلمات لأنه قيل له ثمة عين الحياة من شرب منها لم يمت أبداً إلى يوم القيامة فمشى نحو الظلمات لعله يقع بالعين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 290
وفي "التأويلات النجمية" يشير بقوله : {وَيَسْـاَلُونَكَ} الآية إلى أن السائل لا يرد وأن في القصص للقلوب عبرة وتقوية وتثبتاً وبقوله : {إِنَّا مَكَّنَّا لَه فِى الأرْضِ} يشير إلى تمكن الخلافة أي : مكناه بخلافتنا في الأرض وآتيناه بالخلافة ما كان سبب وجود كل مقدور من مقدوراتنا بالأصالة حتى
291
صار قادراً على قلب الأعيان وكانت الدنيا مسخرة له فلو أراد طويت له الأرض وإذا شاء مشى على الماء وإذا أحب طار في الهواء ويدخل النار فاتبع سبباً كل مقدور فصار مقدوراً له بالخلافة في الأرض ما كان مقدوراً لنا بالأصالة في السماء والأرض انتهى.
يقول الفقير : إنما بدأ بالسير إلى المغرب إشارة إلى كون ترتيب السلوك عروجاً فإن المغرب إشارة إلى الأجسام والمشرق إلى الأرواح فما دام لم يتم سير الأجسام من الأكوان لا يحصل الترقي إلى عالم الأرواح ثم إلى عالم الحقيقة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 290
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ} (تا ون رسيد) {مَغْرِبَ الشَّمْسِ} إلى منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته وقف على حافة البحر المحيط.
قال الشيخ : أي بلغ قوماً في جهة ليس وراءهم أحد لأنه لا يمكنه أن يبلغ موضع غروب الشمس.
قال في "التبيان" ولما وصل ذو القرنين إلى مغرب الشمس يطلب عين الحياة قال له شيخ : هي خلف أرض الظلمة ولما أراد أن يسلك في الظلمة سأل أي : الدواب في الليل أبصر قالوا الخيل فقال : أي : الخيل أبصر قالوا الإناث فقال أي : الإناث : أبصر قالوا البكارة فجمع من عسكره ستة آلاف فرس كذلك فركبوا الرماك وترك بقية عسكره فدخلوا الظلمات فساروا يوماً وليلة فأصاب الخضر العين لأنه كان على مقدمة جيشه صاحب لوائه الأكبر فشرب منها واغتسل وأخطأ ذو القرنين ، قال الحافظ :
فيض ازل بزور زر ار آمدى بدست
آب خضر نصيبه اسكندر آمدى
(5/224)
فساروا على حصحاص من حجارة لا يدرون ما هي فسألوه عنها فقال الإسكندر : خذوا من هذه الحجارة ما استطعتم فإنه من أقل منها ندم ومن أكثر منها ندم فأخذوا وملأوا مخالي دوابهم من تلك الحجارة فلما خرجوا نظروا إلى ما في مخالبهم فوجدوه زمرداً أخضر فندموا كلهم لكونهم لم يكثروا من ذلك {وَجَدَهَا} أي : رأى الشمس تغرب في عين حمئة} أي : ذات حمأة وهي الطين الأسود ، بالفارسية : (آب مكدر لاى آميز) من حمئت البئر إذا كثرت حمأتها ولعله لما بلغ ساحل البحر رآها كذلك إذ ليس في مطمح نظره غير الماء كراكب البحر ولذلك قال : {وَجَدَهَا تَغْرُبُ} ولم يقل كانت تغرب.
وقال بعضهم : لما بلغ موضعاً لم يبق بعده عمارة في جانب المغرب وجد الشمس كأنها تغرب في وهدة مظلمة كما أن راكب البحر يراها كأنها تغرب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر وإلا فقد علم أن الأرض كرة والسماء محيطة بها والشمس في الفلك وجلوس قوم في قرب الشمس غير موجود والشمس أكثر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض.
قال السمرقندي رحمه الله في "بحر العلوم" : فإن قيل قد ورد في الحديث أن الشمس تشرق من السماء الرابعة ظهرها إلى الدنيا ووجهها يشرق لأهل السموات وعظمها مثل الدنيا ثلاثمائة مرة أو ما شاء الله فكيف يمكن دخولها في عين من عيون الأرض قلنا إن قدرة الله تعالى باهرة وحكمته بالغة فالله تعالى قادر أن يدخل السموات السبع والأرضين السبع في أصغر شيء وأحقره فما ظنك بما فيها من الشمس وغيرها انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 291
وفي "التأويلات" : فإن قال قائل : إنا قد علمنا أن الشمس في السماء الرابعة ولها فلك خاص يدور بها في السماء فكيف يكون غروبها في عين حمئة قلنا : إن الله تعالى لم يخبر عن حقيقة غروبها في عين حمئة وإنما أخبر عن وجدان ذي القرنين غروبها فيها فقال : {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ} وذلك أن ذا القرنين ركب بحر الغرب وأجرى مركبه إلى أن بلغ في البحر موضعاً لم يتمكن جريان المراكب فيه فنظر إلى الشمس عند غروبها وجدها تغرب بنظره في عين حمئة انتهى.
قال بعضهم إذا كان ذو القرنين نبياً فنظر النبي ثاقب يرى الأشياء على ما هي عليها كما رأى النبي عليه السلام النجاشي من المدينة وصلى عليه وإن لم يكن نبياً فذلك الوجدان بحسب حسبانه {وَوَجَدَ عِندَهَا} عند تلك العين يعني عند نهاية العمارة.
وبالفارسية : (يافت نزديك آن شمه بر ساحل درياى محيط غربى) {قَوْمًا} (كروهى را در ناسك مذكوراست كه ايشان قومي بودند بت رست سبز شم سرخ موى لباس ايشان وست حيوانات وطعام ايشان كوشت حيوان آبى) قال بعضهم قوماً في مدينة لها اثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها لسمع الناس وجوب الشمس حين تجب.
وقال الإمام السهيلي : هم أهل جابلص بالفتح وهي مدينة يقال لها بالسريانية جرجيسا لها عشرة آلاف باب بين كل بابين فرسخ يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح عليه السلام وأهل جابلص آمنوا بالنبي عليه السلام لما مر بهم ليلة الإسراء.
وقال في أسئلة الحكم : أما حديث جابلصا وجابلقا وايمان أهاليهما ليلة المعراج وأنهما من الإنسان الأول فمشهور {قُلْنَآ} بطريق الإلهام ويدل على نبوته كونه مأموراً بالقتال معهم كما قال عليه السلام : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" كما في "التأويلات" قال الحدادي : لا يمكن إثبات نبوة إلا بدليل قطعي.
يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} أمراً ذا حسن فحذف المضاف إي أنت مخير في أمرهم بعد الدعوة إلى الإسلام إما تعذيبك بالقتل إن أبوا وإما إحسانك بالعفو أو الأسر وسماهما إحساناً في مقابلة القتل ويجوز أن يكون إما وإما للتوزيع والتقسيم دون التخبير أي : ليكن شأنك معهم إما التعذيب وإما الإحسان فالأول لمن بقي على حاله والثاني لمن تاب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 291
{قَالَ} ذو القرنين {أَمَّا مَن} (اما كسى كه) {ظَلَمَ} نفسه بالإصرار على الكفر ولم يقبل الإيمان مني {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أنا ومن معي في الدنيا بالقتل.
وعن قتادة كان يطبخ من كفر في القدور ومن آمن أعطاه وكساه {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} في الآخرة {فَيُعَذِّبُهُ} فيها {عَذَابًا نُّكْرًا} منكراً لم يعهد مثله وهو عذاب النار.
(5/225)
{وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ} بموجب دعوتي {وَعَمِلَ} عملاً {صَـالِحًا} حسبما يقتضيه الإيمان {فَلَهُ} في الدارين {جَزَآءً الْحُسْنَى} أي : فله المثوبة الحسنى حال كونه مجزياً بها فجزاء حال أو فله في الدار الآخرة الجنة {وَسَنَقُولُ لَه مِنْ أَمْرِنَا} أي : مما نأمر به {يُسْرًا} أي : سهلاً متيسراً غير شاق.
وبالفارسية (كارى آسان فراخور طاقت او) وتقديره ذا يسر وأطلق عليه المصدر مبالغة يعني لا نأمره بما يصعب عليه بل بما يسهل.
قال الكاشفي : (آورده اندكه لشكر ظلمت مرا برقوم ناسك كاشت تابكوش ودهن در آمد وزنهار خواستند وبوى ايمان آوردند).
قال في "قصص الأنبياء" سار ذو القرنين نحو المغرب فلا يمر بأمة إلا دعاها إلى الله تعالى فإن أجابوه قبل منهم وإن لم يجيبوه غشيتهم الظلمة فألبست مدينتهم وقراهم وحصونهم وبيوتهم وأبصارهم ودخلت أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم فلا يزالون منها متحيرين حتى يستجيبوا له حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجد عندها القوم الذين ذكرهم الله
293
في كتابه ففعل بهم كما فعل بغيرهم ثم مشى على ما في الظلمة ثمانية أيام كملاً وثماني ليال وأصحابه ينتظرون حتى انتهى إلى الجبل الذي هو محيط بالأرض كلها وإذا بملك قابض على الجبل وهو يقول : سبحان ربي من الأزل إلى منتهى الدهر وسبحان ربي من أول الدنيا إلى آخرها وسبحان ربي من موضع كفي إلى عرش ربي وسبحان ربي من منتهى الظلمة إلى النور بصوت رفيع شديد لا يفتر فلما رأى ذلك ذو القرنين خر ساجداًفلم يرفع رأسه حتى قواه الله وأعانه على النظر إلى ذلك الجبل والملك القابض عليه فقال له الملك : كيف قويت على أن تبلغ هذا الموضع ولم يبلغه أحد من ولد آدم قبلك قال : قواني الله الذي قواك على قبض هذا الجبل فأخبرني عن قبضك على هذا الجبل فقال : إني موكل به وهو جبل قاف المحيط بالأرض ولولا هذا الجبل انكفأت الأرض بأهلها وليس على ظهر الأرض جبل أعظم منه فلما أراد ذو القرنين الرجوع قال للملك : أوصني قال الملك : يا ذا القرنين لا يهمنك رزق غد ، ولا تؤخر عمل اليوم لغد ، ولا تحزن على ما فاتك وعليه بالرفق ولا تكن جباراً متكبراً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
تكبر كند مرد حشمت رست
نداندكه حشمت بحلم اندرست
وجود تو شهريست رنيك وبد
تو سلطان ودستور دانا خرد
همانا كه دونان كردن فراز
درين شهر كبرست وسود اوآز
و سلطان عنايت كند بابدان
كجا ماند آسايش بخردان
تو خودراو كودك ادب كن بوب
بكرز كران مغز مردم مكوب
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} أي : تبع وسلك طريقاً راجعاً من مغرب الشمس موصلاً إلى مشرقها.
قال الكاشفي : (قوم تماسك را باخودبرده لشكر نوررا زيش روان كرد وعسكر ظلمت را ازس بداشت وبجانب جنوب متوجه شده قوم هاويل راكه قطر ايمن بود مسخر كرد بهمان طريق كه درناسك مذكور شد س روى بمشرق نهاد).
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ} (تاون رسيد) {مَطْلِعَ الشَّمْسِ} يعني الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولاً من معمورة الأرض.
وبالفارسية : (موضعي كه مبدأ عماراتست از جانب شرق) إذ لا يمكنه أن يبلغ موضع طلوع الشمس قيل بلغه في اثنتي عشرة سنة وقيل في أقل من ذلك بناء على ما ذكر من أنه سخر له السحاب وطوي له الأسباب {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ} عراة {لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا} من أمام الشمس {سِتْرًا} من اللباس والبناء يعني ليس لهم لباس يتسترون به من حر الشمس ولا بناء يستظلون فيه لأن أرضهم لا تمسك الأبنية لغاية رخاوتها وبها أسراب فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب أو البحر من شدة الحر وإذا ارتفعت عنهم خرجوا يعني : (وقتى كه آفتاب ارتفاع ذير فتى وازسمت رأس ايشان دور كشتى اززير زمين بيرون آمده ماهى كرفتندى وبا آفتاب بريان كرده خوردندى).
قال الحدادي : ليس على رؤوسهم ولا على أجسادهم شعر وليس لهم حواجب وكأنما سلخت وجوههم وذلك من شدة حر بلادهم.
ـ وحكي ـ عن بعضهم خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقالوا : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه ويلتحف بالأخرى ومعي صاحب يعرف
294
(5/226)
لسانهم فقالوا له : جئنا ننظر كيف تطلع الشمس قال : فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغشي عليّ ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس على الماء إذ هو فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرباً لهم فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم.
عن مجاهد من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض وهو الزنج.
وقال الكاشفي : (ايشان قوم منسل بودند).
وقال السهيلي ـ رحمه الله ـ : هم أهل جابلق بالفتح وهي مدينة لها عشرة آلاف باب بين كل بابين فرسخ يقال لها بالسريانية مرقيشاً وهم نسل مؤمني قوم عاد الذين آمنوا بهود عليه السلام وأهل جابلق آمنوا بالنبي عليه السلام ليلة أسري به ووراء جابلق أمم وهم من نسل وثاقيل وفارس وهم لم يؤمنوا بالنبي عليه السلام.
جزء : 5 رقم الصفحة : 294
قال في "التأويلات النجمية" : في الآية إشارة إلى أن هذا العالم عالم الأسباب لم يبلغ أحد إلى شيء من الأشياء ولا إلى مقصد من المقاصد إلا أن مكنه الله تعالى وآتاه سبب بلاغ ذلك الشيء والمقصد ووفقه لاتباع ذلك السبب فباتباع السبب بلغ ذو القرنين مغرب الشمس ومطلعها.
{كَذَالِكَ} أي : أمر ذي القرنين كما وصفناه لك في رفعة المحل وبسطة الملك أوامره فيهم كأمره في أهل الغرب من التخيير والاختيار.
قال الكاشفي : (همنان كرد اسكندر با يشان كه با هل مغرب كرد وبجانب قطر ايسر روان شد وبقومى رسيدكه ايشان راتأويل خوانند وبايشان همان سلوك نمود) {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ} من الأسباب والعدد.
وبالفارسية (وبدرستى كه ما أحاطه داشتيم بآنه نزديك او بود) {خُبْرًا} تمييز أي : علماً تعلق بظواهره وخفاياه.
وبالفارسية (ازروى آكاهى) يعني أن ذلك من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير فانظر إلى سعة لطف الله تعالى وإمداده بمن شاء من عباده فإنه ذكر وهب بن منبه أن ذا القرنين كان رجلاً من أهل الاسكندرية ابن امرأة عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان خارجاً عن قومه ولم يكن بأفضلهم حسباً ولا نسباً ولكنه نشأ في ذات حسن وجمال وحلم ومروءة وعفة من لدن كان غلاماً إلى أن بلع رجلاً ولم يزل منذ نشأ يتخلق بمكارم الأخلاق ويسمو إلى معالي الأمور إلى أن علا صيته وعز في قومه وألقى الله تعالى عليه الهيبة ثم إنه زاد به الأمر إلى أن حدث نفسه بالأشياء فكان أول ما أجمع عليه رأيه الإسلام فأسلم ثم دعا قومه إلى الإسلام فأسلموا عنوة منه عن آخرهم ثم كان من أمره ما كان (اسكندررا رسيدند مشرق ومغرب به كرفتى كه ملوك يشين را خزائن ولشكر بيش ازتو بود نين فتح ميسر نشد كفت بعون خداى عز وجل كه هر مملكت راكه كرفتم رعيتش را نيازردم ونام ادشاهانرا جزبنيكويى نبردم) :
بزركش نحو انند اهل خرد
كه نام برز كان بزشتى برد
وقال بعضهم :
فلم أرَ مثل العدل للمرء رافعاً
ولم أرَ مثل الجور للمرء واضعاً
كنت الصحيح وكنا منك في سقم
فإن سقمت فإنا السالمون غدا
295
دعت عليك اكفت طالما ظلمت
جزء : 5 رقم الصفحة : 294
ولن تردّ يد مظلومة أبدا وفي تفسير "التبيان" : كان أي : ذو القرنين ملكاً جباراً فلما هلك أبوه ولي مكانه فعظم تجبره وتكبره فقبض الله له قريناً صالحاً فقال له : أيها الملك دع عنك التجبر وتب إلى الله تعالى قبل أن تموت فغضب عليه الإسكندر وحبسه فمكث في المحبس ثلاثة أيام فبعث الله إليه ملكاً كشف سقف المحبس وأخرجه منه وأتى به منزله فلما أصبح أخبر الاسكندر بذلك فجاء إلى السجن فرأى سقف السجن قد ذهب فاقشعر جلد الاسكندر وعلم أن ملكه ضعيف عند قدرة الله تعالى فانصرف متعجباً وطلب الرجل المحبوس فوجده قائماً يصلي على جبل طالس فقال الرجل لذي القرنين تب إلى الله فهمّ بأخذه وأمر جنوده به فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم وخر الاسكندر مغشياً عليه فلما أفاق تاب إلى الله تعالى وتضرع إلى الرجل الصالح وأطاع الله وأصلح سيرته وقصد الملوك الجبابرة وقهرهم ودعا الناس إلى طاعة الله وتوحيده وكان من أول أمره أن بنى مسجداً واسعاً طوله أربعمائة ذراع وعرض الحائط اثنان وعشرون ذراعاً وارتفاعه في الهواء مائة ذراع.
وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للغني عند أول أمره أن يصرف شطراً من ماله إلى وجه من وجوه الخير لا إلى ما يشتهيه طبعه ويميل إليه نفسه كما أن المفتي إذا تصدر يبدأ في فتواه بما يتعلق بالتوحيد ونحوه وكذا لابس جديد أو مغسول يبدأ بالمسجد والصلاة والذكر ونحوها لا بالخروج إلى السوق وبيت الخلاء ونحوهما.
ثم أن الفتح الصوري إنما يُبتنى على الأسباب الصورية إذ لا يحصل التسخير غالباً إلا بكثرة العدد والعدد وأما الفتح المعنوي فحصوله مبني على الفناء وترك الأسباب والتوجه إلى مسبب الأسباب كما قال الصائب :
هركس كشيد سربكريبان نيستى
تسخير كرد مملكت بى زوال را
(5/227)
فالاسكندر الحقيقي الذي لا يزول ملكه ولا يحيط بما لديه إلا الله تعالى هو من ايد ظاهره بأحكام الطاعات ومعاملات العبودية وباطنه بأنوار المشاهدات وتجليات الربوبية فإنه حينئذٍ تموت النفس الأمارة وتزول يدها العادية القاهرة عن قلعة القلب ويظهر جنود الله التي لا يعلمها إلا هو لكثرتها اللهم اجعلنا من المؤيدين بالأنوار الملكوتية والإمداد اللاهوتية إنك على ما تشاء قدير.
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} أي : أخذ طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرق والمغرب آخذاً من الجنوب إلى الشمال.
جزء : 5 رقم الصفحة : 294
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ} (تاون رسيد) {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} بين الجبلين اللذين سد ما بينهما وهما جبلان عاليان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق من ورائهما يأجوج ومأجوج.
والسد بالفتح والضم واحد بمعنى الجبل والحاجز أو بالفتح ما كان من عمل الخلق وبالضم ما كان من خلق الله لأن فعل بمعنى مفعول أي : هو مما فعله الله وخلقه وانتصاب بين على المفعولية لأنه مبلوغ وهو من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفاً كما ارتفع في قوله تعالى : {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} (الأنعام : 94) وانجرّ في قوله : {هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} (الكهف : 78) {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا} أمام السدين ومن ورائهما مجاوزاً عنهما.
وقال الكاشفي : (يافت دريش آن دوكوه) وفسره في "تفسير الجلالين" أيضاً بقوله عندهما {قَوْمًا} أمة من
296
الناس {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا} أي : لا يفهمون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم لغرابة لغتهم.
وقال الزمخشري : {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ} إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها كما يفهم البكم وهو الترك.
قال أهل التاريخ أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث فسام أبو العرب والعجم والروم وحام أبو الحبش والزنج والنوبة ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج.
وقال في "أنوار المشارق" أصل الترك بنوا قنطوراً أمة كانت لإبراهيم عليه السلام فولدت له أولاداً فانتشر منهم الترك.
{قَالُوا} على لسان ترجمانهم بطريق الشكاية والظاهر أن ذى القرنين كان قد أوتي اللغات ففهم كلامهم.
وفي "التأويلات النجمية" : كيف أخبر عنهم أنهم {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا} ثم قال : {قَالُوا} الآية قلنا كلمة كاد ليست لوقوع الفعل كقوله تعالى : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} (الشورى : 5) أي : قاربت الانفطار فلن تنفطر وإذا دخل فيها لا الجحود وما النفي تكون لوقوع الفعل كقوله تعالى : {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (البقرة : 71) أي : قرب أن لا يذبحوها فذبحوها وكذلك قوله : {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا} (الكهف : 93) أي : لا يفقهون قولاً يلين به قلب ذي القرنين ليجعل لهم السد ففقهوا بإلهام الحق تعالى حتى قالوا : يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} اسمان أعجميان بدليل منع الصرف أو عربيان ومنع صرفهما للتعريف والتأنيث لأنهما علمان لقبيلتين من أولاد يافث بن نوح كما سبق أو من احتلام آدم عليه السلام كما ذكر في "عين المعاني" وغيره أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب فهم منها يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
وقال في "أنوار المشارق" هذا منكر جداً لا أصل له وكذا قال في "بحر العلوم" : واعلم أن هذا مخالف لقوله عليه السلام : "ما احتلم نبي قط" انتهى.
يقول الفقير : سمعت من فم حضرة شيخي وسندي روح الله روحه أنه قال في أول من ابتلى بالاحتلام أبونا آدم عليه السلام لحكمة خفية كما ابتلى نبينا عليه السلام ببعض السهو لحكمة علية والحديث المذكور مخصوص بمن عداه والمنع عن الكلام فيه إنما هو لرعاية الأدب فافهم جداً {مُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ} أي : في أرضنا بالقتل والتخريب وإتلاف الزروع وكانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا احتملوه وربما أكلوا الناس إذا لم يجدوا شيئاً من الأنعام ونحوها وكان لا يموت أحد منهم حتى ينظر ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما بنو آدم عشرهم :
و وزينكان آمده در وجود
مه زرد ورخ سرخ وديده كبود
ندارند جز خواب وخور هي كار
نميرد يكى تا نزايد هزار
وهم أصناف صنف منهم طول الرجل منهم مائة وعشرون ذراعاً وصنف منهم قد هم على شبر واحد طولهم وعرضهم سواء وصنف منهم كبار الآذان يفترش أحدهم أحد أذنيه ويلتحف بالأخرى ولهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم وما يقيهم من الحر والبرد فلا يغزلون ولا ينسجون يعوون عوى الذئاب ويتسافدون كتسافد البهائم يقال سفد الذكر على أنثى نزا لهم مخالب في أيديهم وأضراس كأضراس السباع وأنياب يسمع لها حركة كحركة الجرس في حلوق الإبل لا يمرون بفيل ولا جمل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم
297
(5/228)
أكلوه ويأكلون الحشرات والحيات والعقارب.
قال في "حياة الحيوان" : التنين ضرب من الحياة كأكبر ما يكون فيها وفي فمه أنياب مثل أسنة الرماح وهو طويل كالنخلة السحوق أحمر العينين مثل الدم واسع الفم والجوف براق العينين يبتلع كثيراً من الحيوان يخافه حيوان البر والبحر إذا تحرك يموج البحر لشدة قوته وأول أمره يكون حية متمردة تأكل من دواب البر ما ترى فإذا كثر فسادها احتملها ملك وألقاها في البحر فتفعل بدواب البحر ما كانت تفعل بدواب البر فيعظم بدنها حتى يكون رأسها كالتل العظيم فيبعث الله تعالى ملكاً يحملها ويلقيها إلى يأجوج ومأجوج.
قال في "قصص الأنبياء" : إذا قذفوا بها خصبوا وإلا قحطوا {فَهَلْ} (س آيا) {نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} جعلاً من أموالنا أي : أجراً نخرجه لك والخرج والخراج واحد كالنول والنوال أو الخراج ما على الأرض والذمة والخرج المصدر أو الخرج ما كان على كل رأس والخراج ما كان على البلد أو الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه {عَلَى أَن تَجْعَلَ} (بشرط آنكه بكنى) {بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} حاجزاً يمنعهم من الخروج والوصول إلينا.
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
{قَالَ} ذو القرنين {مَا مَكَّنِّى} بالادغام وقرىء بالفك أي : الذي مكنني وبالفارسية : (آنه دست رس داده مرا) {فِيهِ رَبِّى} وجعلني فيه مكيناً قادراً من الملك والمال وسائر الأسباب {خَيْرٌ} مما تريدون أن تبذلوه إليّ من الخراج فلا حاجة لي إليه ونحوه قول سليمان عليه السلام : {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَـانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} {فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ} بفعلة وصناع يحسنون البناء والعمل بآلات لا بد منها في البناء {أَجْعَلْ} جواب الأمر {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} حاجزاً حصيناً وحجاباً عظيماً.
وبالفارسية (حجابي سخت كه بعضى ازان بر بعضى مركب باشد) وهو أكبر من السد وأوثق يقال ثوب مردم أي : فيه رقاع فوق رقاع وهذا إسعاف بمرامهم فوق ما يرجونه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
وفي "التأويلات النجمية" : قوله تعالى : {زُبَرَ الْحَدِيدِا حَتَّى} تفسير للقوة فيكون المراد بها ترتيب الآلات.
وزبر جمع زبرة كغرف جمع غرفة وهي القطعة الكبيرة وهذا لا ينافي رد خراجهم لأن المأمور به الإيتاء بالثمن والمناولة ولأن إيتاء الآلة من قبيل الإعانة بالقوة دون الخراج على العمل.
قال في "القصص" : قالوا من أين لنا من الحديد ما يسع هذا العمل فدلهم على معدن الحديد والنحاس ولعل تخصيص الأمر بالإيتاء بها دون سائر الآلات من الصخور ونحوها لما أن الحاجة إليها أمس إذ هي الركن في السد.
قال الكاشفي : (منقولست كه فرمود تاخشتها از آهن بساختند بفارغ دلى جابجاتن زدند همه روزشب خشت آهن زدند وحكم كرد تاميان آن كوه را هان هزار قدم بود درشصت ون كز عرض بكنند تا بآب رسيد).
وفي "القصص" : قاس ما بين الصدفين فوجده ثلاثة أميال.
وقال بعضهم : حفر ما بين السدين وهو مائة فرسخ حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب بدل الطين لها والبنيان من زبر الحديد بين كل زبرتين الحطب والفحم {حَتَّى إِذَآ} (تاون) {سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} الصدف منقطع الجبل أو ناحيته وبين مفعول كبين السدين أي : آتوه إياها فجعل يبني شيئاً فشيئاً حتى إذا جعل ما بين ناحيتي الجبلين مساوياً لهما في السمك يعني ملأ ما بينهما إلى أعلاهما وكان ارتفاعه مائتي ذراع وعرضه خمسين ذراعاً ثم وضع المنافخ حوله {قَالَ}
298
للعملة {انفُخُوا} على زبر الحديد بالكير والنار {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ} أي : المنفوخ فيه وهو زبر الحديد {نَارًا} كالنار في الحرارة والهيئة وإسناد الجعل المذكور إلى ذي القرنين مع أنه فعل الفعلة للتنبيه على أنه العمدة في ذلك وهم بمنزلة الآلة {قَالَ} للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة ونحوها {ءَاتُونِى} قطراً أي : نحاساً مذاباً {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} الإفراغ الصب أي : أصبب على الحديد المحمى قطراً فحذف الأول لدلالة الثاني عليه وإسناد الافراغ إلى نفسه للسر الذي وقفت عليه آنفاً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 298
بهر روى فرشى برانكيختند
برو روى حل كرده مى ريختند
(5/229)
{فَمَا اسْتَطَـاعُوا} بحذف تاء الافعال تخفيفاً وحذراً من تلاقي المتقاربين ، وقال في "برهان القرآن" : اختار التخفيف في الأول لأن مفعوله حرف وفعل وفاعل ومفعول فاختير فيه الحذف والثاني مفعوله اسم واحد وهو قوله نقباً انتهى.
والفاء فصيحة أي : فعلوا ما أمروا به من إيتاء القطر فافرغ عليه فاختلط والتصق بعضه ببعض فصار جبلاً صلداً أي : صلباً أملس فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه وينقبوه فما قدروا {أَن يَظْهَرُوهُ} أن يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته {وَمَا اسْتَطَـاعُوا لَه نَقْبًا} أي : وما قدروا أن ينقبوه ويخرقوه من أسفله لصلابته وثخانته وهذه معجزة عظيمة لأن تلك الزبر الكثيرة إذا أثرت فيها حرارة النار لا يقدر الحيوان على أن يحوم حولها فضلاً عن النفخ فيها إلى أن تكون كالنار أو عن إفراغ القطر عليها فكأنه سبحانه صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك المباشرين للأعمال فكان ما كان والله على كل شيء قدير كذا في "الإرشاد" : أخذاً عن "تفسير الإمام".
يقول الفقير : ليس ببعيد أن يكون المباشرة بالنفخ والصب من بعيد بطريق من طرق الحيل ألا ترى أن نار نمرود لما كانت بحيث لا يقرب منها أحد عملوا المنجنيق فألقوا بها إبراهيم عليه السلام فيها وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن رجلاً أخبره به أي : بالسد فقال : "كيف رأيته" قال : كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء قال : "قد رأيته" وذلك لأن الطريقة الحمراء من النحاس والسوداء من الحديد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 298
{قَالَ} ذو القرنين {هَـاذَا} السد {رَحْمَةً} عظيمة ونعمة جسيمة {مِّن رَّبِّى} على كافة العباد لا سيما على مجاهديه.
وفيه إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق عادة بل هو إحسان إلهي محض وإن ظهر بمباشرتي {فَإِذَا جَآءَ} (س ون بيايد) {وَعْدُ رَبِّى} مصدر بمعنى المفعول وهو يوم القيامة والمراد بمجيئه ما ينتظم مجيئه ومجيىء مباديه من خروجهم وخروج الدجال ونزول عيسى ونحو ذلك {جَعَلَهُ} أي : السد أشار إليه مع متانته {دَكَّآءَ} أرضاً مستوية وقرىء دكاً أي : مدكوكاً مستوياً بالأرض وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك وفيه بيان لعظم قدرته تعالى بعد بيان سعة رحمته {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى} أي : وعده المعهود أو كل ما وعد به {حَقًّا} ثابتاً لا محالة واقعاً ألبتة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 299
وفي "التأويلات النجمية" : وفي قوله : {هَـاذَا} إلى آخر الآية دلالة على نبوته فإنه أخبر عن وعد الحق وتحقيق وعده وهذا من شأن الأنبياء وإعجازهم انتهى.
وهذا آخر حكاية ذي القرنين.
قيل : إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون الشعاع قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرون غداً ولم يستثننِ فيعيده الله كما كان فيأتون غداً فيجدونه كالأول فإذا أراد الله خروجهم خلق فيهم رجلاً مؤمناً
299
(5/230)
فيحفرون السد حتى يبقى منه اليسير فيقول لهم : ارجعوا فستحفرون غداً إن شاء الله تعالى فإذا عادوا من الغد إلى الحفر قال لهم : قولوا بسم الله فيحفرونه ويخرجون على الناس فكل من لحقوه قتلوه وأكلوه ولا يمرون على شيء إلا أكلوه ولا بماء إلا شربوه فيشربون ماء دجلة والفرات ويأكلون ما فيه من السمك والسرطان والسلحفاة وسائر الدواب حتى يأتوا بحيرة طبرية بالشام وهي مملوءة ماء فيشربون فيأتي آخرهم فلا يجدون فيها قطرة ماء فيقولون : لقد كان بهذه مرة ماء وطافوا الأرض إلا أنهم لا يستطيعون أن يأتوا المساجد الأربعة مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس ومسجد طور سيناء ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس فيقولون لقد قتلنا من في الأرض هلم فنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دماً ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه في جبل الطور حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم فيدعون عليهم عيسى عليه السلام فيرسل الله عليهم دوداً تسمى النغف فتأخذهم في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط عيسى وأصحابه من الطور فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيدعو الله فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين منتخب من "المصابيح وتفسير التبيان" وغيرهما.
وعن زينب أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل عليها فزعاً يقول : "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها" قالت زينب : فقلت يا رسول الله أفنهلك وفينا الصالحون؟ قال : "نعم إذا كثر الخبث" أي : الزنى والمراد بهذا الحديث أنه لم يكن في ذلك الردم ثقية إلى هذا اليوم وقد انفتحت فيه ثقبة وانفتاح الثقبة فيه من علامات قرب القيامة وإذا توسعت خرجوا منها وخروجهم بعد خروج الدجال.
قال في "فتح القريب" المراد بالويل الحزم وقد وقع ما أخبر به عليه السلام بما استأثر به عليهم من الملك والدولة والأموال والأمارة وصار ذلك في غيرهم من الترك والعجم وتشتتوا في البوادي بعد أن كان العز والملك والدنيا لهم ببركته عليه السلام وما جاء من الإسلام والدين فلما لم يشكروا النعمة وكفروها بقتل بعضهم بعضاً وسلب بعضهم أموال بعض سلبها الله منهم ونقلها إلى غيرهم كما قال تعالى : {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (محمد : 38) فعلى العاقل أن يحترز من فتنة يأجوج النفس والطبيعة والشيطان ويبني عليها سد الشريعة الحصينة والطريقة المتينة ويكون اسكندر إقليم الباطن والملكوت واللاهوت.
جزء : 5 رقم الصفحة : 299
{وَتَرَكْنَا} في "القاموس" : الترك الجعل كأنه ضد أي : وجعلنا {بَعْضَهُمْ} بعض الخلائق {يَوْمَـاـاِذٍ} يوم إذ جاء الوعد بمجيىء بعض مباديه {يَمُوجُ فِى بَعْضٍ} آخر والموج الاضطراب أي : يضطربون اضطراب أمواج البحر ويختلط أنسهم وجنهم حيارى من شدة الهول.
وبالفارسية (روز قيامت انس وجن ازروى تحير واضطراب درهم آميزند).
قال في "الإرشاد" : لعل ذلك قبل النفخة الأولى {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} هي النفخة الثانية التي عندها يكون الحشر بمقتضى الفاء التي بعدها ولعل عدم التعرض لذكر النفخة الأولى لئلا يقع
300
الفصل بين ما يقع في النشأة الأولى من الأحوال والأهوال وبين ما يقع منها في النشأة الآخرة.
والمعنى : نفخ إسرافيل في الصور أرواح الخلائق عند استعداد صور الأجساد لقبول الأرواح كاستعداد الحشيش لقبول الاشتعال فتشتعل بأرواحها فإذا هم قيام ينظرون وكل يتخيل أن ذلك الذي كان فيه منام كما يتخيله المستيقظ وقد كان حين مات وانتقل إلى البرزخ كالمستيقظ هناك وأن الحياة الدنيا كانت له كالمنام وفي الآخرة يعتقد في أمر الدنيا والبرزخ أنه منام في منام وأن اليقظة الصحيحة هي التي هو عليها في الدار الآخرة حيث لا نوم فيها.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الصور فقال : "هو قرن من نور ألقمه إسرافيل".
(5/231)
واعلم : أن لا شيء من الأكوان أوسع منه وإذا قبض الله الأرواح من هذه الأجسام الطبيعية حيث كانت أودعها صوراً جسدية في مجموع هذا القرن النور فجمع ما يدركه الإنسان بعد الموت في البرزخ من الأمور إنما يدركه بعين الصورة التي هو فيها في القرن وبنورها وهو إدراك حقيقي فمن الصور ما هي مقيدة عن التصرف.
ومنها مطلقة كأرواح الأنبياء كلهم وأرواح الشهداء.
ومنها ما يكون لها نظر إلى عالم الدنيا في هذه الدار.
ومنها ما يتجلى للنائم في حضرة الخيال التي هي فيه وهو الذي يصدق رؤياه أبداً وكل رؤيا صادقة ولا تخطى ولكن العابر الذي يعبرها هو المخطى حيث لم يعرف ما المراد بها وكذلك قوم فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً في تلك الصور ولا يدخلونها فإنهم محبوسون في ذلك القرن ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب وهو العذاب المحسوس لا المنخيل كما في "تفسير الفاتحة" للفنارى.
{فَجَمَعْنَـاهُمْ} أي : جمعنا الخلائق بعدما تمزقت أجسادهم في صعيد واحد للحساب والجزاء {جَمْعًا} عجيباً لم نترك من الملك والإنس والجن والحيوانات أحداً وفي الحديث : "السعيد في ذلك اليوم في ذلك الجمع من يجد مكاناً يضع عليه أصابع رجليه" كما "في ربيع الأبرار".
جزء : 5 رقم الصفحة : 299
وقال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الله تعالى من كمال قدرته يحيي الخلق بسبب يميتهم به وهو النفخة وبالنفخة الأولى كما أماتهم كقوله تعالى : {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الأرْضِ} (الزمر : 68) كذلك بالنفخة الأخيرة أحياهم كقوله : {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنَـاهُمْ جَمْعًا} (الكهف : 99) وفيه إشارة إلى أن الخلق محتاجون إلى اتباع سبب كل شيء ليبلغوا إليه وهم لا يقدرون على أن يجعلوا سبباً لشيء سبباً لشيء آخر على ضده والخالق سبحانه وهو المسبب فهو قادر على أن يجعل الشيء الواحد سبباً لوجود الشيئين المتضادين كما جعل النفخة في الصورة سبباً للممات والحياة ، وفي "المثنوي".
سازد اسرافيل روزى ناله را
جان دهد وسيده صد ساله را
انبيارا در درون هم نغمههاست
طالبانرا زان حياة بى بهاست
نشنود آن نغمهارا كوش حس
كز ستمها كوش حس باشد نجس
نشنود نغمه رى را آدمي
كوبود زاسرار ريان أعجمي
كره هم نغمه رى زين عالمست
نغمه دل بر تر از هر دودمست
كر رى وآدمي زندانيند
هر دو در زندان اين نادانيند
نغمهاى اندرون اوليا
اولا كويدكه اي اجزاى لا
301
هين زلاى نفى سرها بر زنيد
اين خيال وهم يكسو افكنيد
اي همه وشيده دركون وفساد
جان باقيتان نروييد ونزاد
هين كه اسرافيل وقتند اوليا
مرده را زيشان حياتست ونما
جان هريك مرده از كورتن
بر جهد ز آواز شان اندر كفن
كويد اين آواز زآواها جداست
زنده كردن كار آواز خداست
ما بمرديم وبكلى كاستيم
بانك حق آمد همه بر خاستيم
مطلق آن آواز خود ازشه بود
كره از حلقوم عبد الله بود
{وَعَرَضْنَا} يقال : عرض الشيء له أظهره أي : أظهرنا {جَهَنَّمُ} معرب والأصل (ه نم) كذا قال البعض {يَوْمَـاـاِذٍ} يوم إذ جمعنا الخلائق كافة {لِّلْكَـافِرِينَ} منهم حيث جعلناها بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظاً وزفيراً {عَرْضًا} هائلاً لا يعرف كنهه وفي الحديث : "يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها" أي : يؤتى بها يوم القيامة من المكان الذي خلقها الله فيه فتوضع بأرض حتى لا يبقى طريق للجنة إلا الصراط وهذه الأزمّة تمنعها عن الخروج على أهل المحشر إلا من شاء الله كذا في "شرح المشارق" لابن ملك وتخصيص العرض بالكافرين مع أنها بمرأى من أهل الجمع قاطبة لأن ذلك لأجلهم خاصة وهذا العرض يجري مجرى العقاب لهم من أول الأمر لما يتداخلهم من الغم العظيم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 299
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن جهنم لو كانت معروضة على أرواح الكافرين قبل يوم القيامة كما كانت معروضة على أرواح المؤمنين آمنوا بها كما آمن المؤمنون بها إذ لم تكن أعينهم في غطاء عن ذكر الله وكانوا يستطيعون سمعاً لكلام الله تعالى لأن آذان قلوبهم مفتوحة.
{الَّذِينَ} الموصول مع صلته نعت للكافرين أو بدل ولذا لا وقف على عرضا كما في "الكواشي".
{كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ} وهم في الدنيا {فِى غِطَآءٍ} غلاف غليظ محاطة بذلك من جميع الجوانب.
والغطاء ما يغطي الشيء ويستره.
وبالفارسية : (رده وبوشش) {عَن ذِكْرِى} عن الآيات المؤدية لأولي الأبصار المتدبرين فيها إلى ذكري بالتوحيد والتمجيد كما قيل :
ففي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
برك درختان سبز درنظر هوشيار
هرورقى دفتريست معرفت كرد كار
{وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ} لفرط تصاممهم عن الحق وكمال عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلّم {سَمْعًا} استماعاً لذكري وكلامي يعني أن حالهم أعظم من الصمم فإن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء زالت عنهم تلك الاستطاعة :
ون توقر آن خوانى اي صدر امم
(5/232)
كوش شانرا رده سازم ازصمم
شمشانرا نيز سازم شم بند
تابيبنند وكلامت نشنوند
قال في "الإرشاد" : وهذا تمثيل لإعراضهم عن الأدلة السمعية كما أن الأول تصوير لتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالابصار قال بعض الكبار : كانت أعين نفوسهم في غطاء الغفلة عن نظر العبرة وأعين قلوبهم في غطاء حب الدنيا وشهواتها عن رؤية درجات الآخرة ودركاتها
302
وأعين أسرارهم في غطاء الالتفات إلى الكونين عن شواهد المكون وأعين أرواحهم في غطاء تذكار ما سوى الله تعالى عن ذكر الله تعالى فإذا فتحت العين الباطنة بالمشاهدة فتحت العين الظاهرة بنظر الاعتبار وكذا السمع بظاهر السمع تابع لسمع الباطن ويدخل في سماع كلام الحق سماع سنن المصطفى صلى الله عليه وسلّم وسير الصالحين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 299
{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الهمزة للإنكار والتوبيخ على معنى إنكار الواقع واستقباحه كما في قولك أضربت أباك لإنكار الوقوع كما في أتضرب أباك والفاء للعطف على مقدر تفصح عنه الصلة على توجيه الإنكار والتوبيخ إلى المعطوفين جميعاً أي : أكفروا بي مع جلالة شأني فحسبوا وظنوا {أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِى} من الملائكة وعيسى وعزير وهم تحت سلطاني وملكوتي {مِن دُونِى} مجاوزين إياي أي : تاركين عبادتي {أَوْلِيَآءَ} معبودين ينصرونهم من بأسي على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شيء لما أنه إنما يكون من الجانبين وهم عليهم السلام منزهون عن ولايتهم بالمرة لقولهم سبحانك أنت ولينا من دونهم وقيل مفعوله الثاني محذوف أي : أفحسبوا اتخاذهم نافعاً لهم والوجه هو الأول لأن في هذا تسليماً لنفس الاتخاذ واعتداداً به في الجملة كذا في "الإرشاد".
{إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ} هيأناها {لِّلْكَـافِرِينَ} المعهودين {نُزُلا} وهو ما يعد للنزيل والضيف أي : أحضرنا جهنم للكافرين كالنزل المعد للضيف وفيه تهكم بهم كقوله : {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران : 21) وإيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هي أنموذج له وهو كونهم محجوبين عن رؤية الله تعالى كما قال تعالى : {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} (المطففين : 15) جعل الصليّ أي : الدخول تالياً في المرتبة للمحجوبية فهو دونها في الرتبة وفسره ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بموضع النزول والمثوى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 303
فالمعنى بالفارسية (منزل ومأوايى كه براى مهمان آرند ودرين معنى تهكم است برآنكه ايشانرا عذابها خواهد بودكه دوزخ دريش آن يزى محقر باشد).
وفي الآية إشارة إلى أن من ادعى محبة الله وولاءه لا يتخذ من دون الله أولياء إذ لا يجتمع ولاية الحق وولاية الخلق ومن كفر بنعمة الولاء واتخذ من دون الله أولياء فله جهنم البعد والقطيعة أبداً.
وقد قال بعض المحققين : أبت المحبة أن تستعمل محباً لغير محبوبه وحب الله تعالى قطب تدور عليه الخيرات وأصل جامع لأنواع الكرامات وعلامته الجريان على موجب الأمر والنهي كما قال بعضهم نزه ربك وعظمه من أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك فالذين كفروا أضاعوا أيامهم بالكفر والآثام وعبدوا المعدوم وهو ما سوى الله الملك العلام وأكلوا وشربوا في الدنيا كالأنعام فلا جرم جعل الله لهم جهنم نزلاً وشر مقام وأما المؤمنين فقد جاهدوا في الله بالطاعات واشتغلوا بالرياضات والمجاهدات وما عبدوا غير الموجود الحقيقي في وقت من الأوقات فلا جرم أحسن الله إليهم بالدرجات العاليات فالخلاص والنجاة في التوجه إلى الله رفيع الدرجات.
ـ حكي ـ أنه كان ملك مشرك جبار فأخذه المسلمون فجعلوه في قمقمة ووضعوها في نار شديدة فأسلم وتضرع إلى الله تعالى فأمطرت السماء فخرجت ريح شديدة وألقتها في مملكة فرآها أهل تلك المملكة وسألوه فقال : أنا الملك الفلاني فلما أسلمت وتضرعت إلى الله خلصني من الشدة فأسلم أهل تلك المملكة لِمَا رأوا عظم قدرة
303
الله تعالى وشاهدوا شواهد توحيده والحمدتعالى.
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم} نخبركم أنا ومن تبعني من المؤمنين أيها الكفرة.
{بِالاخْسَرِينَ أَعْمَـالا} نصب على التمييز والجمع للإيذان بتنوعها أي : بالقوم الذين هم أشد الخلق وأعظمهم خسراناً فيما عملوا.
وبالفارسية (برزيانكار ترين مردمان ازروى كردارها).
قال في "الإرشاد" : هذا بيان حال الكفرة باعتبار ما صدر عنهم من الأعمال الحسنة في أنفسها من صلة الرحم وإطعام الفقراء وعتق الرقاب ونحوها وفي حسبانهم أيضاً حيث كانوا معجبين بها واثقين بنيل ثوابها ومشاهدة آثارها غب بيان حالهم باعتبار أعمالهم السيئة في أنفسها مع كونها حسنة في حسبانها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 303
(5/233)
{الَّذِينَ} كأنه قيل منهم فقيل هم الذين {ضَلَّ سَعْيُهُمْ} في إقامة الأعمال الحسنة في أنفسها أي : ضاع وبطل بالكلية.
وبالفارسية (كم شد وضائع كشت شتافتن ايشان بعملهاى نيكونماى) {فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} متعلق بالسعي لا بالضلال لأن بطلان سعيهم غير مختص بالدنيا {وَهُمْ} أي : ضل والحال أنهم {يَحْسَبُونَ} يظنون {أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} يعني : يعملون عملاً ينفعهم في الآخرة.
وبالفارسية (وايشان مى ندارند آنكه ايشان نيكويى ميكنند كاررا) والإحسان الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق وهو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي أي : يحسبون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائق وذلك لإعجابهم بأعمالهم التي سعوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها.
وفي الآية : إشارة إلى أهل الأهواء والبدع وأهل الرياء والسمعة فإن اليسير من الرياء شرك وأن الشرك محبط الأعمال كقوله تعالى : {لَـاـاِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) وأن هؤلاء القوم يبتدعون في العقائد ويراؤون بالأعمال فلا يعود وبال البدعة والرياء إلا إليهم والحاصل أن العمل المقارن بالكفر باطل وإن كان طاعة وكذا العمل المقارن بالشرك الخفي وإذا كان ما هو طاعة مردوداً لمجاورته المنافي فما ظنك بما هو معصية في نفسه وهو يظنه طاعة فيأتي به فمثل أهل الرياء والسمعة والبدعة وطالب المنة والشكر من الخلق على معروفه وكذا الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع وحملوها على الرياضات الشاقة ليسوا على شيء :
كرت بيخ إخلاص در بوم نيست
ازين دركسى ون تومحروم نيست
كرا جامه اكست وسيرت ليد
در دوز خش را بنايد كليد
وعن علي ـ رضي الله عنه ـ هم أهل حروراء قرية بالكوفة وهم الخوارج الذين قاتلهم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه كما في "التكملة".
والخوارج قوم من زهاد الكوفة خرجوا عن إطاعة علي ـ رضي الله عنه ـ عند رضاه بالتحكيم بينه وبين معاوية قالوا كفر بالتحكيم إن الحكم إلاوكانوا إثني عشر ألف رجل اجتمعوا ونصبوا راية الخلاف وسفكوا الدماء وقطعوا السبيل فخرج إليهم علي رضي الله عنه ورام رجوعهم فأبوا إلا القتال فقاتلهم بالنهروان فقتلهم واستأصلهم ولم ينج منهم إلا القليل وهم الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلّم "يخرج قوم في أمتي يحقر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم وصومه في جنب صومهم ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم" وقال عليه السلام : "الخوارج كلاب النار" كذا في "شرح الطريقة".
جزء : 5 رقم الصفحة : 303
{أولئك}
304
المنعوتون بما ذكر من ضلال السعي مع الحسبان المزبور {أولئك الَّذِينَ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِ} بدلائله الداعية إلى التوحيد عقلاً ونقلاً {وَلِقَآاـاِهِ} بالبعث وما يتبعه من أمور الآخرة على ما هي عليه {فَحَبِطَتْ} بطلت بذلك {أَعْمَـالُهُمْ} المعهودة حبوطاً كلياً فلا يثابون عليها {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} أي : لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمال {وَزْنًا} أي : فنزدري بهم ولا نجعل لهم مقداراً واعتباراً (بلكه خوار ومبتذل خواهند بود) لأن مداره الأعمال الصالحة وقد حبطت بالمرة وحيث كان هذا الازدراء من عواقب حبوط الأعمال عطف عليه بطريق التفريع وأما ما هو من أجزية الكفر فسيجيىء بعد ذلك وفي الحديث "يؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة" أي : لا يوضع له قدر لخساسته وكفره وعجبه "اقرأوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً" أي : لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزاناً لأنه إنما يوضع لأهل الحسنات والسيآت من الموحدين ليتميز به مقادير الطاعات والمعاصي ليترتب عليه التكفير أو عدمه لأن ذلك في الموحدين بطريق الكمية وأما الكفر فإحباط للحسنات بحسب الكيفية دون الكمية فلا يوضع لهم الميزان قطعاً.
وفي "التأويلات النجمية" : لأن وزن الأشخاص والأعمال في ميزان القيامة إنما يكون بحسب الصدق والإخلاص فمن زاد إخلاصه زاد ثقل وزنه ومن لم يكن فيه وفي أعماله إخلاص لم يكن له ولا لعمله وزن ومقدار كما قال الله تعالى : {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} (الفرقان : 23) أي : بلا إخلاص {فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} فلا يكون للهباء المنثور وزن ولا قيمة.
{ذَالِكَ} أي : الأمر ذلك وقوله تعالى : {جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ} جملة مبينة له {بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا ءَايَـاتِى وَرُسُلِى هُزُوًا} يعني : بسبب كفرهم وانكاهم لما يجب إيمانهم وإقرارهم به واتخاذهم القرآن وغيره من الكتب الإلهية ورسل الله وأنبياءه سخرية واستهزاء من قبيل الوصف بالمصدر للمبالغة يعني أنهم بالغوا في الاستهزاء بآيات الله ورسله فكأنهم جعلوها وإياهم عين الاستهزاء أو المعنى مهزوا بهما أو مكان هزء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 303
(5/234)
واعلم أن العلماء ورثة الأنبياء وعلومهم مستنبطة من علومهم فكما أن العلماء العاملين ورثة الأنبياء والمرسلين في علومهم وأعمالهم كذلك المستهزؤن بهم ورثة أبي جهل وعقبة ونحوهما في استهزائهم وضلالهم.
ومن استهزاء أبي جهل بالنبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يخلج بأنفه وفمه خلف رسول الله يسخر به فاطلع عليه عليه السلام يوماً فقال : "كن كذلك" فكان كذلك إلى أن مات.
ومن استهزاء عقبة به عليه السلام أنه بصق يوماً في وجه النبي صلى الله عليه وسلّم فعاد بصاقه على وجه وصار برصاً وفي حقه نزلٍ {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} (الفرقان : 27) أي : في النار يأكل إحدى يديه إلى المرفق ثم يأكل الأخرى فتنبت الأول فيأكلها وهكذا كذا في "إنسان العيون" وفي الحديث : "إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم باب من الجنة فيقال هلم هلم فيجيىء بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له الباب فيقال هلم هلم فما يأتيه" كما في "الطريقة" اللهم اجعلنا من أهل الجد لا من أهل الهزل ووفقنا للعمل بما في القرآن الجزل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 303
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} في الدنيا {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} من الأعمال وهي ما كانت خالصة لوجه الله تعالى {كَانَتْ لَهُمْ} في علم الله تعالى {جَنَّـاتُ الْفِرْدَوْسِ} (بهشتهاى فردوس يعني بوستانهاى مشتمل بر اشجاركه
305
أكثر آن تاك بود).
قال في "القاموس" : الفردوس البستان يجمع كل ما يكون في البساتين يكون فيه الكروم وقد يؤنث عربية أو رومية نقلت أو سريانية انتهى {نُزُلا} خبر كانت والجار والمجرور متعلق بمحذوف على أنه حال من نزلا والنزل المنزل وما هيىء للضيف النازل أي : كانت جنات الفردوس منازل مهيأة لهم أو ثمار جنات الفردوس نزلاً أو جعلت نفس الجنات نزلاً مبالغة في إكرام.
وفيه إيذان بأنها عندما أعدها الله لهم على ما جرى على لسان النبوة من قوله "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" بمنزلة النزل بالنسبة إلى الضيافة.
قال الكاشفي : هي دولة اللقاء ، قال الحافظ :
نعمت فردوس زاهد راوما راروى دوست
قيمت هركس بقدر همت والاى اوست
وفي "المثنوي" :
هشت جنت هفت دوزخ يش من
هست يدا همو بت يش شمن
ومن هنا قال أبو يزيد البسطامي قدس سره لو عذبني الله يوم القيامة لشغلني بالجنة ونعيمها فلا جنة أعلى من جنه اللقاء والوصال ولا نار أشد من نار الهجران والفراق :
روزشب غصه وخون ميخورم وون نخورم
ون زديدار تو دورم به باشم دلشاد
جزء : 5 رقم الصفحة : 305
{خَـالِدِينَ فِيهَا} حال مقدرة أي : مقدرين الخلود في تلك الجنات {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا} مصدر كالصغر والجملة حال من صاحب خالدين أي : لا يطلبون تحولاً وانتقالاً عنها إلى غيرها كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار إذ لا مزيد عليها وفيها كل المطالب.
قال الإمام وهذا الوصف يدل على غاية الكمال لأن الإنسان في الدنيا إذا وصل إلى أي درجة كانت في السعادة فهو طامح الطرف إلى ما هو أعلى منها ويجوز أن يراد نفي التحول وتأكيد الخلود كما في "تفسير الشيخ" وهذا كناية عن التخليد وقال المراد بالفردوس ربوة خضراء في الجنة أعلاها وأحسنها يقال لها سرة الجنة وفي الحديث "الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض الفردوس أعلاها فيها تتفجر الأنهار الأربعة وفوقها عرش الرحمن فإذا سألتم الله فاسألوا الفردوس" وفي الحديث : "جنتان الفردوس أربع جنات من فضة آنيتهما وما فيهما فضة وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ذهب" (ودرتبيان آلأرده كه خداى تعالى فردوس را بيد قدرت خود آفريده وبمقدار هر روز از روزهاى دنيا نجاه كرت بدو نظر كرده وميفرما يدكه "ازدادى طيباً وحسناً لأوليائي" افزون ساز حسن جمال وتازه كى واكى خودرا براى دوستان من) وفي بعض الروايات "يفتحها كل يوم خمس مرات".
يقول الفقير التوفيق بين الروايتين أن الأولى من مقام التفصيل والثانية من مقام الإجمال إذ المقصود ازدياد حسنها وطيبها كلما أدى الصلوات الخمس وهي في الأصل خمسون صلاة كما سبق في بحث المعراج وفي الحديث : "إن الله غرس الفردوس بيده ثم قال : وعزتي وجلالي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث" قيل ما الديوث يا رسول الله؟ قال : "الذي يرضى الفواحش لأهله" كما في "تفسير الحدادي".
وقال في "بحر العلوم" : قال عليه السلام : "إن الله كبس عرصة جنة الفردوس بيده ثم بناها لبنة من ذهب مصفى ولبنة من مسك مذرى وغرس فيها من طيب الفاكهة وطيب الريحان وفجر
306
(5/235)
فيها أنهارها ثم أوفى ربنا على العرش فنظر إليها فقال : وعزتي لا يدخلك مدمن خمر ولا مصر على زنى".
يقول الفقير : إن قلت فعلى ما ذكر من أوصاف الفردوس يكون مقام المقربين فكيف يترتب جزاء الخاصة على العامة.
قلت : يؤول العنوان بمن جمع بين الإيمان والعمل على وجه الكمال وهو بأن آمن إيماناً عيانياً بعدما آمن برهانياً وعمل بإخلاص الباطن وشرائط الظاهر على وفق الشريعة وقانون الطريقة فيدخل فيه الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر على ما فسر كعب فإن الدلالة على الخير والمنع من الشر من فواضل الأعمال وخواص الرجال.
ويدل على ما ذكرنا ما قبل الآية من قوله تعالى في حق الكفار {أولئك الَّذِينَ كَفَرُوا بآيات رَبِّهِمْ وَلِقَآاـاِهِ} فإن المراد بيان المؤمنين المتصفين بأضداد ما اتصفوا به والإيمان باللقاء أي : الرؤية والمشهود بعد الإيمان بالآيات والشاهد وهو بالترقي من العلم والغيب والآثار إلى العين والشهادة والأنوار ويدل عليه ما بعد الآية أيضاً من قوله تعالى : {فَمَن كَانَ يَرْجُوا} إلى آخره فافهم وهكذا لاح بالبال والله أعلم بحقيقة الحال نسأل الله الفردوس بل وتجلي جماله والاحتظاظ بكاسات وصاله ، قال الحافظ :
كداى كوى تو ازهشت خلد مستغنيست
اسير عشق تو ازهردو كون آزادست
جزء : 5 رقم الصفحة : 305
{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ} (بكوا كرباشد درياى محيط كه شامل ارضست) كذا في "تفسير الكاشفي".
وقال غيره : يريد الجنس يعني لو كان ماء جنس البحر {مِدَادًا} نقساً وحبراً والثلاثة بمعنى ما يكتب به نزلت حين قال حيى بن أخطب في كتابكم {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة : 269) ثم تقرأون {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} (الإسراء : 85) كأنه يشير إلى أن التوراة خير كثير فكيف يخاطب أهلها بهذا الخطاب يعني أن ذلك خير كثير بالنسبة إلينا ولكنه قطرة من بحر كلمات الله :
علمها از بحر علمش قطره
اين و خروشيدست وآنها ذره
كر كسى در علم صد لقمان بود
يش علم كاملش نادان بود
جزء : 5 رقم الصفحة : 307
لأنه لو كان ماء البحر مداداً {لِّكَلِمَـاتِ رَبِّى} لكلمات علمه وحكمته يعني لمعلوماته وحكمه فتكتب من ماء البحر كما تكتب من المداد والحبر.
قال في "تفسير الجلالين" {لِّكَلِمَـاتِ رَبِّى} أي : لكتابتها وهي حكمه وعجائبه والكلمات هي العبارات عنها انتهى {لَنَفِدَ الْبَحْرُ} يعني : ماء جنس البحر بأسره مع كثرته ولم يبق فيه شيء لأن كل جسم متناهٍ {قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـاتُ رَبِّى} أي : من غير أن تفنى معلوماته وحكمه فإنها غير متناهية لا تنفد كعلمه فلا دلالة للكلام على نفادها بعد نفاد البحر وإنما اختار جمع القلة على الكثرة وهي الكلم تنبيهاً على أن ذلك لا يقابل بالقليل فكيف بالكثير كما في "بحر العلوم".
وقال أبو القاسم الفزاري في "الأسئلة المقحمة" : ما معنى قوله كلمات ربي فذكر بلفظ الجمع وكلمته واحدة صفة له والجواب قيل معاني كلمات ربي فلا نهاية لها لأن متعلقات الصفات القديمة غير متناهية والفلاسفة يحملون كل كلمة جاءت في القرآن على الروح ويقولون بأن الروح الإنسانية قديمة منه بدت وإليه تعود.
ورأيت في كلمات بعض المعاصرين الذين يدعون التحقيق في الكلام ويحومون
307
حول هذا الحمى إظهاراً من نفوسهم التفطن في الشطح ولكن تارة يعرض بها وتارة يصرح بذلك وإياكم ثم إياكم والاغترار بها فإنها من أوائل حكم الفلسفة وأوائل العلوم مسوقة ولكنها عند البحث قلما تعود بطائل يتروج وهو مطوي ويهجر وهو منشور انتهى.
{وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} بمثل البحر الموجود يعني بمائة.
وقال الكاشفي : (واكرنيز بياريم مثل درياى محيط) {مَدَدًا} تمييز أي زيادة ومعونة أي : لنفد أيضاً والكلمات غير نافدة لعدم تناهيها فحذف جزاء الثاني لدلالة الأول عليه ويجوز أن يكون التقدير ولو جئنا بمثله مدداً ما نفدت كلمات الله وهو أحسن لكونه أوفق بقوله : {وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنا بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـاتُ اللَّهِ} (لقمان : 27) ولأنه يدل به على تحقق نفاد البحر وعدم تحقق نفاد الكلمات صريحاً فيكفي مؤنة كثيرة من الكلام كما في "بحر العلوم".
قال في "الإرشاد" : قوله :
جزء : 5 رقم الصفحة : 307
(5/236)
{وَلَوْ جِئْنَا} كلام من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن يجيىء به لتحقيق مضمونه وتصديق مدلوله والواو لعطف الجملة على نظيرتها أي : لنفد البحر من غير نفاد كلماته تعالى لو لم يجىء بمثله مدداً ولو جئنا بقدرتنا القاهرة بمثله عوناً وزيادة لأن مجموع المتناهيين متناه بل مجموع ما يدخل تحت الوجود من الأجسام لا يكون إلا متناهياً لقيام الأدلة القاطعة على تناهي الابعاد.
قال الإمام قولنا الله تعالى قادر على مقدورات غير متناهية مع قولنا أن حدوث ما لا نهاية له محال معناه أن قادرية الله تعالى لا تنتهي إلى حد إلا ويصح منه الإيجاد بعد ذلك انتهى أي : فلا يلزم منه عدم تناهي الممكنات.
قال شيخي وسندي قدس الله سره في بعض تحريراته قوله كلمات علمه وحكمته الظاهر أن المراد الكلمات التي يعبر بها عن معلومات الله تعالى وما يتعلق به حكمته فكلمة قبل على المجاز عن نفاد البحر دون أن يكون لها تحقق النفاد أي : ينفد البحر ولا يتحقق لكلمات الرب نفاد.
فإن قلت إنما يتم ما ذكرتم إذا كانت الكلمات هي المعلومات المحكومة والمقدورة كالممكنات والممتنعات فكيف يتم ما ذكرتم إذ كل منهما مما ينفد ويتناهى فههنا اشكال لأنه إن قيل : إنهما ليسا من المعلومات فيلزم أنهما من غير المعلومات فيلزم على الباري تعالى ما هو المحال والمفقود في حقه الأعلى من الجهل والغفلة فهو غير متصور في شأنه العلي.
قلنا : إن البحر إذا كان مداداً وكانت كل قطرة منه قد عينت لأن يكتب بها نفسها باعتبار كونها من الكلمات والمعلومات ينفد بكتابة نفسه وقطراته ولا يبقى منه شيء يكتب به ما عداه من الكلمات ولو جيىء بمثله مدداً لأن جميع المتناهى متناه فضلاً عن نفاد الكلمات وتناهي المعلومات فإنها غير متناهية لا تنفد أو قلنا : إن المراد مطلق المعلومات العام الشامل لكل ما يتعلق به علمه سواء كان ذلك الباري تعالى وصفاته العليا وأسماءه الحسنى أو غيره من الموجودات الممكنة والمعدومات الممتنعة فحينئذٍ يتم ما ذكرنا وإن كان يرى في صورة ما لا يتم ولا يصح باعتبار أن يكون من المعلومات ما له تناهٍ ونفاد من الممكنات والممتنعات ثم إن في إطلاق الكلمات على بعض ما يتعلق به علمه تعالى ما ليس في إطلاق المعلومات عليه من الاشكال والخفاء كذات الباري تعالى وصفاته مع أنهما من المعلومات المعبر عنها بالكلمات فيرى أن تفسير الكلمات بالمحكومات أو بالمقدورات أولى منه بالمعلومات إذ في إضافة الكلمات
308
إلى الرب إشعار به وإشارة إليه وتسمية الممكنات بالكلمات من تسمية المسبب باسم السبب لأنها إنما تكوّنت بكلمة كن كما قال تعالى : {إِنَّمَآ أَمْرُه إِذَآ أَرَادَ} (يس : 82) الآية ومحصل الكلام أن نفاد البحر وقوعاً أو فرضاً أمر ذاتي غير معلل مطلقاً كان مداداً أم لا فإن كل جسم متناه ونافد قطعاً وعدم نفاد كلمات الرب لا وقوعاً ولا فرضاً أمر أصلي غير معلل أزلاً فإنها غير متناهية أبداً ولا نافدة سرمداً انتهى كلام حضرة الشيخ روح الله روحه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 307
{قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} قل يا محمد ما أنا إلا آدمي مثلكم في الصورة ومساو بكم في بعض الصفات البشرية {يُوحَى إِلَىَّ} من ربي {أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} ما هو إلا متفرد في الألوهية لا نظير له في ذاته ولا شريك له في صفاته ، يعني : أنا معترف ببشريتي ولكن الله منّ عليّ من بينكم بالنبوة والرسالة.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن بني آدم في البشرية واستعداد الإنسانية سواء النبي والولي والمؤمن والكافر والفرق بينهم بفضيلة الإيمان والولاية والنبوة والوحي والمعرفة بأن إله العالمين إله واحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد انتهى كما قال الشيخ سعدي :
ره راست بايد نه بالاى راست
كه كافرهم ازروى صورت و ماست
{فَمَن كَانَ يَرْجُوا} شرط جزاؤه فليعمل.
والمعنى بالفارسية : (س هركه اميد ميدارد) {لِقَآءَ رَبِّهِ} .
قال في "الإرشاد" : كان للاستمرار ولرجاء توقع وصول الخبر في المستقبل والمراد بلقائه كرامته أي : فمن استمره على رجاء كرامته تعالى.
وقال الإمام : أصحابنا حملوا لقاء الرب على رؤيته والمعتزلة على لقاء ثوابه يقال لقيه كرضيه رآه كما في "القاموس".
{فَلْيَعْمَلْ} لتحصيل ذلك المطلوب العزيز {عَمَلا صَـالِحًا} (كارى شايسته يعني بسنديده خداى).
قال الأنطاكي : من خاف المقام بين أيدي الله فليعمل عملاً يصلح للعرض عليه والرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل كما في البغوي.
وقال ذو النون العمل الصالح هو الخالص من الرياء.
وقال أبو عبد الله القرشي : العمل الصالح الذي ليس للنفس إليه التفات ولا به طلب ثواب وجزاء.
(5/237)
وقال في "التأويلات النجمية" : العمل الصالح متابعة النبي عليه السلام والتأسي بسنته ظاهراً وباطناً فأما سنة باطنه فالتبتل إلى الله وقطع النظر عما سواه (يعني ديده همت ازماسوى بربستن وجز بشهود حضرت مولى نا كشودن) كما قال الله تعالى : {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (النجم : 17).
روى ازهمه برتافتم وسوى توكردم
شم ازهمه بربستم وديدار توديدم
جزء : 5 رقم الصفحة : 307
{وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّه أَحَدَا} (شريك نيارد وانباز نسازد برستش روردكار خود يكى را).
قال أبو البقاء أي : في عبادة ربه ويجوز أن يكون على بابه أي : بسبب عبادة ربه انتهى.
وفي "الإرشاد" : إشراكاً جلياً كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ولا إشراكاً خفياً كما يفعله أهل الرياء ومن يطلب به أجراً انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما لم يقل ولا يشرك به لأنه أراد العمل الذي يعمله ويحب أن يحمد عليه.
وعن الحسن هذا فيمن أشرك بعمل يريد الله به والناس على ما روى أن جندب بن زهير رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إني لأعمل العملفإذا اطلع عليه أحد سرني فقال : "إن الله لا يقبل ما شورك فيه" فنزلت تصديقاً له عليه السلام وروي أنه قال له : "لك أجران أجر السر وأجر العلانية" وهذا على
309
حسب النية فإذا سره ظهوره ليقتدي به كما هو شأن الكاملين المخلصين المعرضين عما سوى الله أو تنتفي عنه التهمة إذ كان ذلك من الواجبات فله أجران فأما إذا أراد به مجرد مدح الناس وانتشار الصيت والذكر فهو محض الرياء والشرك فيخفى المقتدي احترازاً عن إفساد العمل.
وعن عبد الله بن غالب أنه كان إذا أصبح يقول رزقني الله البارحة خيراً قرأت كذا وصليت كذا فإذا قيل له يا أبا فراس أمثلك يقول مثل هذا يقول قال الله تعالى : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى : 11) وأنتم تقولون لا تحدث بنعمة الله وإنما يجوز مثله إذا قصد به اللطف وأن يقتدي به غيره وأمن على نفسه الفتنة والستر أولى ولو لم يكن فيه إلا التشبه بأهل الرياء والسمعة لكفى كذا في "الكشاف" في سورة الضحى.
والآية جامعة لخلاصتي العلم والعمل وهما التوحيد والإخلاص في العمل ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
عبادت باخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زبى مغز وست
ه زنار مغ درميانت ه دلق
كه دريوشى ازبهر ندار خلق
بروى ريا خرقه سهلست دوخت
كرش باخدا درتوانى فروخت
قال في "بحر العلوم" إن قلت : ما معنى الرياء؟ قلت العمل لغير الله بدليل قوله عليه السلام "إن أخوف ما أخاف على أمتي الإشراك بالله أما أني لا أقول يعبدون شمساً ولا قمراً ولا شجراً ولا وثناً ولكن أعمالاً لغير الله تعالى".
قال في "الأشباه" : ولا يدخل الرياء في الصوم انتهى هذا إذا لم يجوّع نفسه إظهاراً لأثره في وجهه أو لم يقل ولم يعرض به كما لا يخفى على ما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك ومن صام صوماً يرائي به فقد أشرك" وقرأ {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ} الآية كما في "الحدادي" وقس عليه التصدق والحج وسائر وجوه البر :
جزء : 5 رقم الصفحة : 307
مرايى هركسى معبود سازد
مرايى را ازان كفتند مشرك
وفي الحديث : "إنما حرم الله لجنة على كل مرائى" ليس البر في حسن اللباس والزي ولكن البر المسكنة والوقار.
كراجامه اكست وسيرت ليد
در دوز خش را نبايد كليد
بنزديك من شب رو راهزن
به ازفاسق ارسا يرهن
وفي الحديث : "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عملهأحداً فليطلب ثواب عمله من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك".
زعمرو اى سر شم اجرت مدار
و درخانه زيد باشى بكار
وفي الحديث : "إن في جهنم وادياً تستعيذ جهنم من ذلك الوادي في كل يوم مائة مرة أعد ذلك للمرائين" وفي الحديث : "اتقوا الشرك الأصغر" قيل وما الشرك الأصغر؟ قال : "الرياء" ، وفي الحديث "إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي فإياكم وشرك السرائر فإن الشرك أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء" فشق على الناس فقال عليه السلام : "أفلا أدلكم على ما يذهب
310
صغير الشرك وكبيره قولوا : اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم" كذا في "عين المعاني".
جزء : 5 رقم الصفحة : 307
(5/238)
ـ حكي ـ أن بعض الخلفاء أراد أن يتطهر فعدا غلمانه ليصبوا عليه الماء فصدهم عن ذلك وتلا هذه الآية وأظنه المرتضى علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ كذا في الأسئلة المقحمة لأبي القاسم الفزاري.
يقول الفقير : كان المرتضى رضي الله عنه عمم الإشراك إلى الرياء والاستعانة في الوضوء ونحوه نظراً إلى ظاهر النظم وذلك زيادة في التقوى ونظيره أن الشافعي أوجب الوضوء من لمس المرأة باليد ونحوها نظراً إلى إطلاق قوله تعالى : {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ} (النساء : 43) وهو عمل بالعزيمة كما لا يخفى.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال عليه السلام : "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" رواه مسلم قال ابن ملك اللام فيه للعهد ويجوز أن تكون للجنس لأن الدجال من يكثر منه الكذب والتلبيس وقد جاء في الحديث "يكون في آخر الزمان دجالون" فأهل الأهواء والبدع دجاجلة زمانهم والسر في العصمة منه أن هذه الآيات العشر مشتملة على قصة أصحاب الكهف وهم لما التجأوا إلى الله تعالى من شر دقيانوس الكافر أنجاهم الله منه فالمرجو منه تعالى أن يحفظ قارئها من الدجال ويثبته على الدين القويم.
وفي رواية للنسائي "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال عليه السلام : "من قرأ الكهف كما أنزلت كانت له نوراً يوم القيامة من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يسلط عليه" رواه الحاكم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال عليه السلام : "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيىء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين".
وعن أبي سعيد قال : "من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق" رواه الدارمي في مسنده موقوفاً على أبي سعيد كذا في "الترغيب والترهيب" للإمام المنذري.
وفي تفسير "التبيان" : روي عبد الله بن فردة رضي الله عنه قال : قال عليه السلام : "ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك حين نزلت ملأ عظمها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك" قالوا : بلى يا رسول الله قال : "سورة الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى يوم الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نوراً يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال".
وفي "تفسير الحدادي" عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قال عليه السلام : "من قرأ سورة الكهف فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة تكون فيها ومن قرأ الآية التي في آخرها حين يأخذ مضجعه كان له نور يتلألأ إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم من مضجعه وإن كان مضجعه بمكة فتلاها كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه ويستغفرون له حتى يستيقظ".
وفي "تفسير البيضاوي" عن النبي عليه السلام : "من قرأ عند مضجعه قل إنما أنا بشر مثلكم كان له نور في مضجعه يتلألأ إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ".
وفي "فتح القريب" من قرأ عند إرادة النوم
جزء : 5 رقم الصفحة : 307
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الخ ثم قال اللهم أيقظني في أحب الأوقات إليك واستعملني بأحب الأعمال إليك فإنه سبحانه يوقظه
311
ويكتبه من قوام الليل.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أردت أن تقوم أية ساعة شئت من الليل فاقرأ إذا أخذت مضجعك {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا} الآية فإن الله يوقظك متى شئت من الليل.
وتكلموا في القراءة في الفراش مضطجعاً.
قال في "الفتاوى الحمدية" : لا بأس للمضطجع بقراءة القرآن انتهى.
والأولى أن لا يقرأ وهو أقرب إلى التعظيم كما في "شرح الشرعة" ليحيى الفقيه.
وعن ظهير الدين المرغيناني لا بأس للمضطجع بالقراءة مضطجعاً إذا أخرج رأسه من اللحاف لأنه يكون كاللبس وإلا فلا نقله قاضي خان.
وفي "المحيط" : لا بأس بالقراءة إذا وضع جنبيه على الأرض لكن يضم رجليه إلى نفسه انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 307(5/239)
سورة مريم
ثمان أو تسع وتسعون آية وهي مكية إلا آية السجدة
جزء : 5 رقم الصفحة : 311
{كهيعص} اسم للسورة ومحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير هذا كهيعص أي : مسمى به وإنما صحت الإشارة إليه مع عدم جريان ذكره لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر صار في حكم الحاضر المشاهد كما يقال هذا ما اشترى فلان ، كذا في "الإرشاد".
وقال في تفسير الشيخ قسم اقسم بالله تعالى أو هي اسم من اسمائه الحسهنى ويدل عليه ما قرأوا في بعض الأدعية من قولهم يا كهيعص يا حمعسق أو أنه مركب من حروف يشير كل منها إلى صفة من صفاته العظمى.
فالكاف من كريم وكبير.
والهاء من هاد.
والياء من رحيم.
والعين من عليم وعظيم.
والصاد من الصادق أو معناه هو تعالى كاف لخلقه هاد لعباده يده فوق أيديهم عالم ببريته صادق في وعده.
قال الكاشفي : (در مواهب صوفيان از مواهب الهى كه بر حضرت شيخ ركن الدين علاء الدولة سمناني قدس سره فرود آمده مذكوراست كه حضرت رسالت را صلى الله عليه وسلّم سه صورتست يكى بشرى كقوله تعالى : {إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} دوم ملكى نانكه فرموده است (لست كأحد ابيت عند ربي) سيوم حقي كما قال : (لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل) وازين روشتنر "من رآني فقد رأى الحق" وحق سبحانه را با او درهر صورتي سخن بعبارتي ديكر واقع شده است در صورت بشرى كلمات مركبه ون {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ودر صورت ملكي حروف مفرده مانند {كاهيعاص} واخواته ودرصورت حقى كلامى مبهم كه {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِه مَآ أَوْحَى} :
درتنكناى حرف نكنجد بيان ذوق
زان سوى حرف ونقطه حكايات ديكرست)
وفي "التأويلات النجمية" في سورة البقرة يحتمل أن يكون {أَلَمْ} وسائر الحروف المقطعة من قبيل المواضعات والمعميات بالحروف بين المحبين لا يطلع عليها غيرهم وقد واضعها الله تعالى مع نبيه عليه السلام في وقت لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ليتكلم بها معه على
312
لسان جبريل بأسرار وحقائق لا يطلع عليها جبريل ولا غيره.
يدل على هذا ما روي في الأخبار أن جبريل عليه السلام نزل بقوله تعالى : {كاهيعاص} فلما قال كاف قال النبي عليه السلام : "علمت" فقال ها فقال : "علمت" فقال يا فقال : "علمت" فقال عين فقال : "علمت" فقال صاد فقال : "علمت" فقال جبريل : كيف علمت ما لم أعلم؟ وفي "أسئلة الحكم" علوم القرآن ثلاثة :
جزء : 5 رقم الصفحة : 312
علم لم يطلع الله عليه أحداً من خلقه وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته ومعرفة حقائق أسمائه وصفاته وتفاصيل علوم غيوبه التي لا يعلمها إلا هو وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه بوجه من الوجوه اجماعاء العلم الثاني ما اطلع عليه نبيه من أسرار الكتاب واختصه به وهذا لا يجوز الكلام فيه الإله عليه السلام أو لمن أذن له واو آئل السور من هذا القسم وقيل من القسم الأول.
العلم الثالث : علوم علمها الله نبيه مما أودع كتابه من المعاني الجليلة والخفية وأمره بتعليمها {ذِكْرُ} أي : هذا المتلو ذكر {ذِكْرُ رَحْمَتِ} ذكر مضاف إلى مفعوله {عَبْدَهُ} مفعول رحمة {زَكَرِيَّآ} بدل منه وهو زكريا يمد ويقصر ابن آزر.
قال الكاشفي : (واو ازاولاد رجعيم بن سليمان بن داود عليهم السلام بوده بيغمبر عاليشان ومهتر احبار بيت المقدس وصاحب قربان).
قال الإمام زكريا من ولد هارون أخي موسى وهما من ولد لاوى بن يعقوب بن إسحاق {إِذْ نَادَى رَبَّه نِدَآءً خَفِيًّا} ظرف لرحمة ربك.
والمعنى بالفارسية (ون ندا كرد وبخواند روردكار خودرا در محراب بيت المقدس بعد از تقريب قربان وخواندن نهان) ولقد راعى عليه السلام حسن الأدب في دعائه فإنه مع كونه بالنسبة إليه تعالى كالجهر أدخل في الإخلاص وأبعد من الرياء وأقرب إلى الخلاص من غائلة مواليه الذين كان يخافهم فإنه إذا أخفى لم يطلعوا عليه ومن لوم الناس على طلب الولد لتوقفه على مبادي لا يليق به تعاطيها وقت الكبر والشيخوخة وكانت سنه وقتئذ تسعاً وتسعين على ما اختاره الكاشفي.
فإن قلت شرط النداء الجهر فكيف يكون خفيا.
قلت دعا في الصلاة فاخفاه.
يقول الفقر النداء وإن كان بمعنى الصوت لكن الصوت قد يتصف بالضعف ويقال صوت خفي وهو الهمس فكذا النداء وقد صح عن الفقهاء أن بعض المخافتة يعد من أدنى مراتب الجهر وتفصيله في "تفسير الفاتحة" للفناري.
ولي فيه وجه خفي لاح عند المطالعة وهو أن النداء الخفي عند الخواص كالذكر الخفي هو ما خفي عن الحفظة فضلاً عن الناس لا يخفض به الصوت والوجه في عبارة النداء الإشارة إلى شدة الإقبال والتوجه في الأمر المتوجه إليه كما هو شأن الأنبياء ومن له بهم إسوة حسنة من كمل الأولياء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 312
{قَالَ} استئناف وقع بياناً للنداء {رَبِّ} (اي روردكار من) {إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى} الوهن الضعف وإنما أسنده إلى العظم وهو بالفارسية (استخوان) لأنه عماد بيت البدن فإذا أصابه الضعف مع صلابته وقلة تأثره من العلل أصاب سائر الأجزاء.
قال قتادة : اشتكى سقوط الأضراس كما في البغوي وإفراده للقصد إلى جنس المنبىء عن شمول الوهن لكل فرد من أفراده ولو جمع لخرج بعض العظام عن الوهن.
{مِنِّى} متعلق بمحذوف وهو حال من العظم وهو تفصيل بعد الإجمال لزيادة التقرير لأن العظم من حيث أنه يصدق على عظمه يفيد نسبته إليه إجمالاً
313(5/240)
{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ} مني حذف اكتفاء بما سبق {شَيْبًا} شبه الشيب في بياضه وإنارته بشواظ النار وانتشاره في الشعر ومنبته مبالغة وإشعاراً لشمول الشيب جملة الرأس حتى لم يبق من السواد شيء وجعل الشيب تمييزاً إيضاحاً للمقصود والأصل اشتعل شيب رأسي فوزانه بالنسبة إلى الأصل وزان اشتعل بيته ناراً بالنسبة إلى اشتعل النار في بيته ، قال الشيخ سعدي :
و شيبت در آمد بروى شباب
شبت روز شد ديده بركن زخواب
من آن روز ازخود بربدم اميد
كه افتادم اندر سياهى سفيد
و دوران عمر از هل در كذشت
مزن دست واكآب ازسر كذشت
دريغاكه بكذشت عمر عزيز
بخواهد كذشت اين دمى ندنيز
{وَلَمْ أَكُنا بِدُعَآاـاِكَ رَبِّ شَقِيًّا} ولم أكن بدعائي إياك خائباً في وقت من أوقات هذا العمر الطويل بل كلما دعوتك استجبت لي وهذا توسل منه بما سلف من الاستجابة عند كل دعوة أثر تمهيد ما يستدعي الرحمة ويستجلب الرأفة من كبر السن وضعف الحال فإنه تعالى بعدما عوّد عبده بالإجابة دهراً طويلاً لا يخيبه أبداً لا سيما عند اضطرار وشدة افتقار.
ـ روي ـ أن محتاجاً قال لبعضهم : أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا فقال : مرحباً بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته ووجهه إن الرد بعد القبول يحبط الإنعام الأول والمنعم لا يسعى فيه وكأنه يقول ما رددتني حين ما كنت قوي القلب والبدن غير متعود بلطفك فلو رددتني الآن بعدما عودتني القبول مع نهاية ضعفي لتضاعف ألم قلبي وهلكته يقال سعد بحاجته إذا ظفر بها وشقي بها إذا خاب كذا في "تفسير الإمام" ثم بين أن ما يريده منتفع به في الدين فقال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 313
{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَآءِى} أي بعد موتي فلا بد لي من الخلف وهو متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أي جور الموالي لا بخفت لفساد المعنى والجملة عطف على قوله أني وهن مترتب مضمونه على مضمونها فإن ضعف القوى وكبر السن من مبادى خوفه من يلي أمره بعد موته ومواليه بنوا عمه وكانوا شرار بني إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا خلافته في أمته ويبدلوا عليهم دينهم.
قال في "القاموس" المولى المالك والعبد والمعتق والصاحب والقريب كابن العم ونحوه والجار والحليف والابن والعم والنزيل والشريك وابن الأخت والولي والرب والناصر والمنعم والمعم عليه والمحب والتابع والصهر انتهى.
{وَكَانَتِ امْرَأَتِى} هي ايشاع بنت فاقوذ بن فيل وهي أخت حنة بنت فاقوذ.
قال الطبري وحنة هي أم مريم.
وقال القتيبي امرأة زكريا هي ايشاع بنت عمران فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى على الحقيقة وعلى القول الآخر يكون ابن خالة أمه وفي حديث الإسراء : "فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى" وهذا شاهد للقول الأول قاله الإمام السهيلي في كتاب "التعريف والإعلام" {عَاقِرًا} أي : لا تلد من حين شبابها فإن العاقر من الرجال والنساء من لا يولد له ولد وكان سنها حينئذٍ ثماني وتسعين على ما اختاره الكاشفي {فَهَبْ} (س ببخش)
{لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} {لِى مِن لَّدُنكَ} كلا الجارين متعلق بهب لاختلاف مغييبها فاللام صلة له ومن لابتداء الغاية مجازا ولدن في الاصل بمعنى اول غاية زمان او مكان اوغيرهما من الذوات اي اعظى
314
من محض فضلك الواسع وقدرتك بطريق الاختراع لا بواسطة الاسباب العادية فاني وامراتي لا نصلح للولادة {وَلِيًّا} ولداً من صلبي يلي أمر الدين بعدي كما قال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 313
(5/241)
{يَرِثُنِى} صفة لوليا أي : يرثني من حيث العلم والدين والنبوة فإن الأنبياء لا يورثون المال كما قال عليه السلام : "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة".
فإن قلت وقد وصف الولي بالوراثة ولم يستجب له في ذلك فإن يحيى خرج من الدنيا قبل زكريا على ما هو المشهور.
قلت : الأنبياء وإن كانوا مستجابي الدعوة لكنهم ليسوا كذلك في جميع الدعوات حسبما تقتضيه المشيئة الإلهية المبنية على الحكم البالغة ألا يرى إلى دعوة إبراهيم عليه السلام في حق أبيه وإلى دعوة النبي عليه السلام حيث قال : "وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعتها" وقد كان من قضائه تعالى أن يهبه يحيى نبياً مرضياً ولا يرثه فاستجيب دعاؤه في الأول دون الثاني {وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} بن إسحاق بن إبراهيم الملك يقال ورثه وورث منه لغتان.
وآل الرجل خاصة الذين يؤول إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين.
وقال الكلبي ومقاتل هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان من نسل سليمان عليه السلام أبو مريم وكان آل يعقوب أخوال يحيى بن زكريا.
قال الكلبي : كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذٍ فأراد أن يرث ولده حبورته ويرث من بني ماثان ملكهم {وَاجْعَلْهُ} أي : الولد الموهوب {رَبِّ رَضِيًّا} مرضياً عندك قولاً وفعلاً وتوسيط رب بين مفعولي الجعل كتوسيطه بين كان وخبرها فيما سبق لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع ولذلك قيل إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته.
واعلم أن الله تعالى لا يمكن العبد من الدعاء إلا لإجابته كلاً أو بعضاً كما وقع لزكريا :
هم زاول تو دهى ميل دعا
تو دهى آخر دعاها را جزا
ترس وعشق توكمند لطف ماست
زيد هر يارب تو لبيكهاست
وفي الحديثك : "من فتح له باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة" وذلك لأن في الدعاء إظهار الذلة والافتقار وليس شيء أحب إلى الله من هذا الإظهار ولذا قال أبو يزيد البسطامي قدس سره : كابدت العبادة ثلاثين سنة فرأيت قائلاً يقول لي : يا أبا يزيد خزائنه مملوءة من العبادات إن أردت الوصول إليه فعليك بالذلة والافتقار ولذا قال عند دخوله عالم الحقيقة :
ار جبز آورده ام شاهاكه دركنج تونيست
نيستي وحاجت وعجز دنياز آورده ام
وعن بعض أهل المعرفة :
جزء : 5 رقم الصفحة : 313
نعم السلاح الدعاء ، ونعم المطية الوفاء ، ونعم الشفيع البكاء ، كما في "خالصة الحقائق" ثم إن الدعاء إما للدين أو للدنيا والأول مطمح نظر الكمل ألا ترى أن زكريا طلب من الله أن يكون من ذريته من يرث العلم الذي هو خير من ميراث المال لأن نظام العالم في العلم والعمل والصلاح والتقوى والعدل والإنصاف وفيه إشارة إلى أنه لا بد للكامل من مرآة يظهر فيها كمالاته ألا ترى أنلي خلق العوالم وبث فيها أسماءه الحسنى وجعل الإنسان الكامل في كل عصر مجلى أنواره ومظهر أسراره فمن أراد الوصول إلى الله تعالى فليصل إلى الإنسان الكامل فعليك بطلب خير الأول ليحيى به ذكرك إلى يوم التناد ومن الله رب العباد القبض والإمداد والتوفيق
315
لأسباب الوصول إلى المراد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 313
يا زَكَرِيَّآ} على إرادة القول أي : قال تعالى على لسان الملك يا زكريا كما قال في سورة آل عمران {فَنَادَتْهُ الْمَلَئكَةُ وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} (آل عمران : 39) {إِنَّا نُبَشِّرُكَ} (ما بشارت ميدهم ترا) والبشارة بكسر الباء الإخبار بما يظن رسوراً في المخبر {بِغُلَـامٍ اسْمُه يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّه مِن قَبْلُ سَمِيًّا} (همنام) أي : شريكاً له في الاسم حيث لم يسم أحد قبله بيحيى وهو شاهد بأن التسمية بالأسامي الغريبة تنويه للمسمى وإياها كانت العرب تعني لكونها أنبه وأنوه وانزه عن النبز (در زاد المسير فرموده كه وجه فضيلت نه ازان رويست كه يش ازو كسى مسمى بدين اسم نبوده ه بسيار آدمى يدين وجه يافت شودكه يش ازو مسمى نبوده باشد س فضيلت آنست كه حق سبحانه وتعالى بخود تولى تسميه او نموده به در ومادر حواله نكرد) كما أن زينب أم المؤمنين رضي الله عنها زوجها الله بالذات حبيبه عليه السلام حيث قال : (فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها) ولذا كانت تفتخر بهذ على سائر الأزواج المطهرة : (وامام ثعلبي آورده كه ذكر قبل ازان فر مودكه بعد ازو كسرى ظهور خواهد كردكه اورا بند بن اسم خاص اختصاص دهد واسم سامى اورا ازنام همايون فرجام خود مشتق سازد) كما قال حسان رضي الله عنه.
وشق له من اسمه ليجله
فذو العرش محمود وهذا محمد
اى خواجه كه عاقبت كارامتست
محمود ازان شدست كه نامت محمداست(5/242)
والأظهر أن يحيى اسم أعجمي وإن كان عربياً فهو منقول عن الفعل كيعمر ويعيش.
قيل سمي به لأنه حيي به رحم أمه أو حيي دين الله بدعوته أو حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها.
وفيه إشارة إلى أن من لم يحيه الله بنوره وعلمه فهو ميت أو حيي به ذكر زكريا كما أن آدم حيى ذكره بشيث ونوحاً حيي ذكره بسام وكذا الأنبياء الباقون ولكن ما جمع الله لأحد من الأنبياء في ولده قبل ولادة يحيى بين الاسم العلم الواقع منه تعالى وبين الصفة الحاصلة في ذلك النبي إلا لزكريا عناية منه إليه وهذه العناية إنما تعلقت به إذ قال : {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} فقدم الحق تعالى حيث كنى عنه بكاف الخطاب على ذكر ولده حين عبر عنه بالولي فأكرمه الله بأن وهبه ولياً طلبه وسماه بما يدل على صفة زكريا وهو حياة ذكره كذا قال الشيخ الأكبر قدس سره : قال الإمام السهيلي : في كتاب "التعريف والأعلام" كان سامه في الكتاب الأل حيا وكان اسم سارة زوجة إبراهيم يسارة وتفسيرها بالعربية لا تلد فلما بشرت بإسحاق قيل لها سارة سماها بذلك جبريل فقالت يا إبراهيم لم نقص من اسمي حرف فقال ذلك إبراهيم لجبرائيل عليه السلام فقال : إن ذلك الحرف قد زيد في اسم ابن لها من أفضل الأنبياء واسمه حيا وسمي يحيى ذكره النقاش.
جزء : 5 رقم الصفحة : 316
{قَالَ} استئناف مبني على السؤال كأنه فماذا قال زكريا حينئذٍ فقيل قال : {رَبِّ} ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابه تعالى إليه بتوسط الملك للمبالغة في التضرع والمناجاة والجد في التبتل إليه تعالى والاحتراز عما عسى يوهم خطابه للملك من توهم إن علمه بما صدر عنه متوقف على توسطه كما أن علم البشر بما يصدر عنه سبحانه متوقف على ذلك في عامة الأوقات {إِنِّى} (كونه) {يَكُونُ لِى غُلَـامٌ} أي : كيف أو من أين يحدث لي غلام الحال أنه قد
316
{وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا} لم تلد في شبابها وشبابي فكيف وهي عجوز الآن {وَقَدْ بَلَغْتُ} أنا {مِنَ الْكِبَرِ} من أجل كبر السن {عِتِيًّا} يبوسة وجفافاً كالعود اليابس من قولهم عتا العود إذا يبس وعتا الشيخ إذا كبر وهرم وولى ويقال لكل شيء انتهى قد عتا وإنما استعجب الولد من شيخ فان وعجوز عاقر اعترافا بان المؤثر فيه كمال قدرته وأن الوسائط عند التحقيق ملغاة فأني استعجاب واستبعاد من حيث العبادة لا من حيث القدرة.
قال الإمام فان قيل لم تعجب زكريا بقوله : {أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَـامٌ} مع أنه طلبه قلنا تعجب من أن يجعلهما شابين ثم يرزقها الولد أو يتركهما شيخين ويلدان مع الشيخوخة يدل قوله تعالى : {رَبِّ لا تَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَه وَوَهَبْنَا لَه يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَه زَوْجَه} (الأنبياء : 89 ـ 90) أي : أعدنا له قوة الولادة انتهى.
وفي "الأسئلة المقحمة" أراد من التي يكون منه هذا الولد أمن هذه المرة وهي عاقر أم من امرأة أخرى أتزوج بها أو مملوكة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 316
{قَالَ} الملك المبلغ للبشارة {كَذَالِكَ} أي : الأمر كما قلت.
وبالفارسية : (همنجين است توكفتي ازيري) وضعف أما {قَالَ رَبُّكَ هُوَ} (اين كاركه آفريدن فرزنداست درين سن ازين دو شخص) مع بعده في نفسه {عَلَىَّ} (برقدت من خاصة) {هَيِّنٌ} (آسانست) أرد عليك قوتك حتى تقوى على الجماع وأفتق رحم امرأتك بالولد كما في تفسير "الجلالين والكاشفي".
وقال في "الإرشاد" الكاف في كذلك مقحمة كما في مثلك لا يبخل فمحلها النصب على أنه مصدر تشبيهي لقال الثاني وذلك إشارة إلى مصدره الذي هو عبارة عن الوعد السابق لا إلى قول آخر شبه هذا به وقوله : {هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} جملة مقررة للوعد المذكور دالة على إنجازه داخلة في حيز قال الأول كأنه قيل قال الله مثل ذلك القول البديع قلت : أي مثل ذلك الوعد الخارق للعادة وعدت هو عليّ خاصة هين وإن كان في العادة مستحيلاً ويجوز أن يكون محل الكاف في كذلك الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وذلك إشارة إلى ما تقدم من وعده تعالى أي : قال عز وعلا أمر كما وعدت وهو واقع لا محالة وقوله : {قَالَ رَبُّكَ} استئناف.
مقرر لمضمونه {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ} من قبل يحيى في تضاعيف خلق آدم {وَلَمْ تَكُ} إذ ذاك {شَيْـاًا} أصلاً بل عد ما صرفا فخلق يحيى من البشرين اهون من خلقك مفردا والمراد خلق آدم لأنه انموذج مشتمل على جميع الذرية.
قال الإمام وجه الاستدلال بقوله تعالى : {وَقَدْ خَلَقْتُكَ} إلخ أن خلقه من العدم الصرف خلق للذات والصفات وخلق الولد من شيخين لا يحتاج إلا إلى تبديل الصفات والقادر على خلق الذات والصفات أولى أن يقدر على تبديل الصفات انتهى.
قال في "بحر العلوم" ولفظ الشيء عندنا يختص بالموجود وبالعكس ، ونفي كون الشيء تقرير لعدمه فالآية دليل على أن المعدوم ليس بشيء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 316
(5/243)
{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّى ءَايَةً} الجعل إبداعي وقيل بمعنى التصيير أي : علامة على وقوع الحبل لا تلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر من حين حدوثها وهذا السؤال ينبغي أن يكون بعدما مضى بعد البشارة برهة من الزمان لما روي أن يحيى كان أكبر من على أن تكلمهم بكلام الناس
317
مع القدرة على الذكر والتسبيح كما هو المفهوم من تخصيص الناس {ثَلَـاثَ لَيَالٍ} مع أيامهن للتصريح بها في سورة آل عمران {سَوِيًّا} حال من فاعل تكلم مفيد لكون انتفاء التكلم بطريق الاضطرار دون الاختيار أي : تمنع الكلام فلا تطيق به حال كونك سوى الخلق سليم الجوارح ما بك شائبة بكم ولا خرس قالوا : رجع تلك الليلة إلى امرأته فقربها ووقع الولد في رحمها فلما أصبح امتنع عليه الكلام الناس.
{فَخَرَجَ} صبيحة حمل امرأته {عَلَى قَوْمِه مِنَ الْمِحْرَابِ} من المصلى أو من الغرفة وكانوا من وراء المحراب ينتظرون أن يفتح لهم الباب فيدخلوه ويصلوا إذ خرج عليهم متغيراً لونه فأنكروه صامتاً وقالوا : مالك يا زكريا {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أي : أومأ إليهم لقوله تعالى : {إِلا رَمْزًا} (آل عمران : 41) {أَن سَبِّحُوا} أن إما مفسرة لأوحي أو مصدرية والمعنى أي : صلوا أو بأن صلوا {بُكْرَةً} هي من طلوع الفجر إلى وقت الضحى {وَعَشِيًّا} هو من وقت زوال الشمس إلى أن تغرب وهما ظرفاً زمان للتسبيح.
عن أبي العالية أن المراد بهما صلاة الفجر وصلاة العصر أو نزهوا ربكم طرفي النهار وقولوا سبحان الله ولعله كان مأموراً بأن يسبح شكراً ويأمر قومه بذلك كما في "الإرشاد".
يقول الفقير : هو الظاهر لأن معنى التسبيح في هذه الموضع تنزيه الله تعالى عن العجز عن خلق ولد يستبعد وقوعه من الشيخين لأن الله على كل شيء قدير وقد ورد في الاذكار "لكل أعجوبة سبحان الله".
جزء : 5 رقم الصفحة : 317
وفي "التأويلات النجمية" في قوله : يا زَكَرِيَّآ} إلى {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} إشارة إلى بشارات :
منها : أنه تعالى ناداه باسمه زكريا وهذه كرامة منه.
ومنها : أنه سماه يحيى ولم يجعل له من قبل سميا بالصورة والمعنى أما بالصورة فظاهر وأما بالمعنى فإنه ما كان محتاجاً إلى شهوة من غير علة ولم يهمّ إلى معصية قط وما خطر بباله همها كما أخبر عن حاله النبي عليه السلام وفي قوله : {لَمْ نَجْعَل لَّه مِن قَبْلُ سَمِيًّا} إشارة إلى أنه تعالى يتولى تسمية كل إنسان قبل خلقه وما سمي أحد إلا بإلهام الله كما أن الله تعالى ألهم عيسى عليه السلام حين قال : {وَمُبَشِّرَا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنا بَعْدِى اسْمُه أَحْمَدُ} (الصف : 6) وفي قوله : {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَـامٌ} الآية ، إشارة إلى أن أسباب حصول الولد منفية من الوالدين بالعقر والكبر وهي من السنة الإلهية فإن من السنة أن يخلق الله الشيء من الشيء كقوله : {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ} (الأعراف : 185) ومن القدرة أنه تعالى يخلق الشيء من لا شيء فقال : {أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَـامٌ} أي : أمن السنة أم من القدرة فأجابه الله تعالى بقوله : {قَالَ كَذَالِكَ} أي : الأمر لا يخلو من السنة أو القدرة وفي قوله : {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} إشارة إلى أن كلا الأمرين على هين إن شئت أردّ عليكما أسباب حصول الولد من القوة على الجماع وفتق الرحم بالولد كما جرت به السنة وإن شئت أخلق لك ولداً من لا شيء بالقدرة كما خلقتك من قبل ولم تك شيئاً أي : خلقت روحك من قبل جسدك من لا شيء بأمركن ولهذا قال تعالى : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85) وهو أول مقدور تعلقت القدرة به ، وفي "المثنوي" :
آب از جوشش همى كردد هوا
وان هوا كردد ز سردى آبها
بلكه بى اسباب بيرون زين حكم
آب رويانيد تكوين از عدم
تو ز طفلى ون سببها ديده
در سبب از جهل بر فسيده
جزء : 5 رقم الصفحة : 317
يا يَحْيَى} على إرادة القول أي : ووهبنا له يحيى وقلنا له يا يحيى.
قال الكاشفي :
318
(5/244)
(القصة سه روز بدين منوال كذشت س بحال خود آمد ويحيى عليه السلام بعد از مضى مدت حمل متولد شد ودر كوذكى لاس وشيده با حبار عبادت بطريق رياضت موافقت مى نمود تا وقتى كه وحى بدو فرود آمد وازحق سبحانه وتعالى خطاب رسيدكه يا يحيى) {خُذِ الْكِتَـابَ} أي : التوراة {بِقُوَّةٍ} بجد واستظهار بالتوفيق والتأييد.
قال في "الجلالين" أي : أعطيتكها وقويتك على حفظها والعمل بما فيها.
قال المولى الجامي في "شرح الفصوص" : لولا إمداد الحق زكريا وزوجته بقوة غيبية ربانية خارجة عن الأسباب المعتادة ما صلحت زوجته ولا تيسر لها الحمل ثم إنه كما سرت تلك القوة من الحق في زكريا وزوجته تعدت منهما إلى يحيى ولذلك قال له الحق يا يَحْيَى خُذِ الْكِتَـابَ بِقُوَّةٍ} .
قال في "الأسئلة المقحمة" : أي : دليل فيها على المعتزلة؟ الجواب أنه دليل على أن الاسم والمسمى واحد لأنه تعالى قال : {اسْمُه يَحْيَى} ثم نادى الشخص فقال : يا يَحْيَى} {وَءَاتَيْنَـاهُ الْحُكْمَ} حال كونه {صَبِيًّا} .
قال ابن عباس : الحكم النبوة استنبأه الله تعالى وهو ابن ثلاث سنين أو سبع وإنما سميت النبوة حكماً لأن الله تعالى أحكم عقله في صباه وأوحى إليه.
وقيل : الحكم الحكمة وفهم التوراة والفقه في الدين فهو بمعنى المنع ومنه الحاكم لأنه يمنع الظالم من الظلم والحكمة ما يمنع الشخص من السفه.
ـ روي ـ أنه دعاه الصبيان إلى اللعب فقال : ما للعب خلقنا.
قال الكاشفي : (درين سخن ندى عظيم است بيخبران بازيه كاه غفلت راكه عمر عزيز ببازى ميكذرانند وبدام فريب {إِنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} (محمد : 36) مقيد شده اند) :
عمر ببازيجه بسر ميبرى
جزء : 5 رقم الصفحة : 318
اى باندازه بدر ميبرى
به كه زبازىء جهان اكشى
طفل نه ند ببازى خوشى
يقول الفقير : مثل يحيى عليه السلام في هذه الأمة المرحومة الشيخ العارف المحقق سهل بن عبد الله التستري قدس سره فإنه تم له أمر السلوك من ثلاث سنين إلى سبع سنين كما سمعت من شيخي وسندي روح الله روحه يعني وقع له الانكشاف والإلهام وظهر له الحال التام وهو ابن ثلاث سنين فكان ما كان إلى سبع فسبحان القادر وهذا من لطافة الحجاب وأما من كان كثيف الحجاب فيحتاج في إزالته إلى مجاهدات شاقة في مدة طويلة.
واعلم أن روح الكامل سريع التعلق ببدنه يعني أن مادة النطفة تصل سريعاً إلى الأبوين فيحصل العلوق والولادة على أحسن وصف وفي أعدل زمان فيجيىء الولد غالباً عليه أحكام الوجوب اللهم أعنا على إزالة الحجب الظلمانية والنورانية واجعلنا مكاشفين للأنوار الربانية.
{وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا} عطف على الحكم وتنوينه للتفخيم وهو التحنن والاشتياق يقال حنّ أي : ارتاح واشتاق ثم استعمل في العطف والرأفة أي : وآتيناه رحمة عظيمة عليه كائنة من جنابنا أو رحمة في قلبه وشفقة على أبويه وغيرهما {وَزَكَواةً} أي : طهارة من الذنوب.
قال الإمام : لم تدعه شفقته إلى الإخلال بواجب لأن الرأفة ربما أورثت ترك الواجب ألا ترى إلى قوله تعالى : {وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ} (النور : 2) فالمعنى جمعنا له التعطف عليهم مع الطهارة عن الإخلال بالواجبات انتهى.
أو صدقة أي : تصدق الله به على أبويه أو وفقناه للتصدق على الناس {وَكَانَ تَقِيًّا} مطيعاً متجنباً عن المعاصي لم يعمل خطيئة ولم يهم بها قط.
{وَبَرَّا بِوَالِدَيْهِ} عطف على تقيا أي : بارّاً بهما لطيفاً بهما محسناً إليهما
319
{وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا} متكبراً عاقاً لهما أو عاصياً لربه.
قال في "بحر العلوم" الجبار المتكبر وقيل هو الذي يضرب ويقتل على الغضب لا ينظر في العواقب وقيل هو المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله.
{وَسَلَـامٌ} سلامة من الله تعالى وأمان {عَلَيْهِ} على يحيى أصله وسلمنا عليه في هذه الأحوال وهي أوحش المواطن لكن نقل إلى الجملة الإسمية للدلالة على ثبات السلام واستقراره فإن وحشتها لا تكاد تزول إلا بثبات السلام فيها ودوامه {يَوْمَ وُلِدَ} من رحم أمه من طعن الشيطان كما يطعن سائر بني آدم {وَيَوْمَ يَمُوتُ} بالموت الطبيعي من هول الموت وما بعده من عذاب القبر {وَيَوْمَ يُبْعَثُ} حال كونه {حَيًّا} من هول القيامة وعذاب النار.
وفيه إشارة إلى الولادة من أم الطبيعة والموت بالفناء عن مقتضيات الطبيعة في الله والبعث بالبقاء بعد الفناء.
وقال ابن أبي عيينة أوحش ما يكون الإنسان في هذه الأحوال يوم ولد فيخرج مما كان ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم ير مثله فخص يحيى بالسلام في هذه المواطن.
جزء : 5 رقم الصفحة : 318
(5/245)
واعلم أن زكريا إشارة إلى الروح الإنساني وامرأته إلى الجثة الجسدانية التي هي زوج الروح ويحيى إلى القلب وقد استبعد الروح بسبب طول زمان التعلق بالقالب أن يتولد له قلب قابل لفيض الألوهية بلا واسطة كما قال : "لا يسعني أرضى ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن" وهو الفيض الأزلي لم يؤت لواحد من الحيوانات والملائكة كما قال المولى الجامي :
ملائك را ه سود از حسن طاعت
و فيض عشق بر آدم فرو ريخت
ثم إنه لما بشر بولادة القلب الموصوف بما ذكر طلب آية يهتدي بها إلى كيفية حمل القالب العاقر بالقلب الحي الذي حيى بنور الله تعالى قال : {ءَايَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ} أي : لا تخاطب غير الله ولا تلتفت إلى ما سوى الله ثلاث ليال وبها يشير إلى مراتب ما سوى الله وهي ثلاث : الجمادات ، والحيوانات ، والروحانيات ، فإذا تقرب إلى الله تعالى بعدم الالتفات إلى ما سواه يتقرب إليه بموهبة الغلام الذي هو القلب الحي بنوره فخرج زكريا الروح من محراب هواه وتبعه على قوم صفات نفسه وقلبه وأنانيته فقال : كونوا متوجهين إلى الله معرضين عما سواه آناء الليل وأطراف النهار بل بكرة الأزل وعشيّ الأبد فلما ولد له يحيى القلب قيل له يا يحيى خذ كتاب الفيض الإلهي بقوّة ربانية لا بقوّة إنسانية لأنه خلق الإنسان ضعيفاً وهو عن القوة بمعزل وأن الله هو الرزاق ذو القوّة المتين فجاء صاحب علم وحكمة ورحمة وطهارة من الميل إلى ما سوى الله واتقاء {وَبَرَّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا} كالنفس الأمارة بالسوء ما بره بوالد الروح فتنويره بنور الفيض الإلهي إذ هو محل قبول الفيض لأن الفيض الإلهي وإن كان نصيب الروح أو لا ولكن لا يمسكه للطافة الروح بل يعبر عنه الفيض ويقبله القلب ويمسكه لأن فيه صفاء وكثافة فبالصفاء يقبل الفيض وبالكثافة يمسكه كمالا هي أن الشمس فيضها يقبل الهواء لصفائه ولكن لا يمسكه للطافة الهواء فأما المرة فتقبل فيضها بصفائها وتمسكه لكثافتها وهذا أحد أسرار حمل الأمانة التي حملها الإنسان ولم تحملها الملائكة وأما برّه بوالدة القالب فباستعمالها على وفق أوامر الشرع ونواهيه لينجيها من عذاب القبر ويدخلها الجنة كذا في "التأويلات النجمية" باختصار.
قال بعض الأولياء : كنت في تيه بني إسرائيل فإذا رجل يماشيني فتعجبت منه وألهمت أنه الخضر فقلت له : بحق الحق
320
من أنت؟ قال : أنا أخوك الخضر فقلت له : أريد أن أسألك قال : سل قلت : بأي وسيلة رأيتك؟ قال : ببرك أمك كما في "المقاصد الحسنة" للإمام السخاوي.
فعلى العاقل أن يكون باراً بوالديه مطلقاً أنفسين أو أفاقيين فإن البر يهدي إلى الجنة ودار الكرامة ويبشر في شدائد الأحوال بالأمن والأمان وأنواع السلامة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 318
(5/246)
{وَاذْكُرْ} يا محمد للناس {فِى الْكِتَـابِ} أي : القرآن أو السورة الكريمة فإنها بعض من الكتاب فصح إطلاقه عليها {مَرْيَمَ} على حذف المضاف أي : خبر بنت عمران وقصتها فإن الذكر لا يتعلق بالأعيان ومريم بمعنى العابدة قال بعض العلماء في حكمة ذكر مريم باسمها دون غيرها من النساء أن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ ولا يبتذلون أسماءهن بل يكنون عن الزوجة بالعرس والعيال والأهل ونحو ذلك فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر والتصريح بها فلما قالت النصارى في حق مريم ما قالت وفي ابنها صرح الله تعالى باسمها ولم يكنّ عنها تأكيداً للأموّة والعبودية التي هي صفة لها وإجراء للكلام على عادة العرب في ذكر إمائها ومع هذا فإن عيسى عليه السلام لا أب له واعتقاد هذا واجب فإذا تكرر ذكره منسوباً إلى الأم استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله تعالى كذا في "التعريف والإعلام" للإمام السهيلي.
وقال في "أسئلة الحكم" : سميت مريم في القرآن باسمها لأنها أقامت نفسها في الطاعة كالرجل الكامل فذكرت باسمها كما يذكر الرجال من موسى وعيسى ونحوهما عليهم السلام وخوطبت كما خوطب الأنبياء كما قال تعالى : يا مَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ} (آل عمران : 43) ولذا قيل : بنبوتها {إِذِ انتَبَذَتْ} ظرف لذلك المضاف من النبذ وهو الطرح والانتباذ افتعال منه {مِنْ أَهْلِهَا} من قومها متعلق بانتبذت {مَكَانًا شَرْقِيًّا} مفعول له باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان.
قال الحسن ومن ثمة اتخذ النصارى المشرق قبلة كما اتخذ اليهود المغرب قبلة لأن الميقات وإيتاء التوراة واقعاً في جانب الجبل الغربي كما قال تعالى : {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الامْرَ} (القصص : 44) والمعنى حين اعتزلت وانفردت وتباعدت من قومها وأتت مكاناً شرقياً من دار خالتها ايشاع زوجة زكريا فإن موضعها كان المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهرت عادت إلى المسجد فاحتاجت يوماً إلى الاغتسال وكان الوقت وقت الشتاء فجاءت إلى ناحية شرقية من الدار وموضع مقابل للشمس.
جزء : 5 رقم الصفحة : 321
{فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ} أي : أرخت من أدنى مكان أهلها.
قال الكاشفي : (از يش ايشان يعني از سوى ايشان) {حِجَابًا} ستراً تستر به.
قال الكاشفي : (رده كه مانع باشد ازديدن) فبينما هي في مغتسلها وقد تطهرت ولبست ثوبها أتاها الملك في صورة آدمي شاب أمرد وضيىء الوجه جعد الشعر وذلك قوله تعالى : {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا} أي : جبريل فإنه كان روحانياً فأطلق عليه الروح للطافته مثله ولأن الدين يحيى به.
وقال بعض الكبار جبرائيل هو الروح حقيقة باعتبار حقيقته المجردة مجازاً باعتبار صورته المثالية ومن خصائص الأرواح المجردة التي من صفاتها الذاتية الحياة ومن شأنها التمثل بالصور المثالية لأنها لا تمس شيئاً في حال تمثلها إلا حيى ذلك الشيء وسرت منها الحياة فيه ولذا قبض
321
السامري قبضة تراب من أثر براق جبرائيل فنبذها في صورة العجل المتخذة من حلي القوم فخار العجل بسراية الحياة فيه وقيل سماه روحاً مجازاً محبة له وتقريباً كقولك أنت روحي لمن تحب {فَتَمَثَّلَ لَهَا} (س متمثل شد جبريل براى مريم) يعني فتشبه لأجلها فانتصاب قوله : {بَشَرًا} على أنه مفعول به {سَوِيًّا} تام الخلق كامل البنية لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئاً وذلك لتستأنس بكلامه وتتلقى منه ما يلقي إليها من كلماته تعالى إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع استماع كلامه ولأنه جاء للنفخ المنتج للبشر فتمثل بشراً ولو جاء على صورة الملك لجاء عيسى على صورة الروحانيين كما لا يخفى.
وفيه إشارة إلى أن القربان بعد الطهر التام أطهر والولد إذن أنجب فافهم.
وفي "التأويلات" : الروح هو نور كلمة الله التي يعبر عنها بقوله كن وإنما سمي نور كلمته روحاً لأنه به يحيى القلوب الميتة كما قال : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ} (الأنعام : 122) الآية فتارة يعبر عن الروح بالنور وتارة يعبر عن النور بالروح كقوله : {وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} (الشورى : 52) الآية فأرسل الله إلى مريم نور كلمة كن فتمثل لها بشراً سوياً كما تمثل نور التوحيد بحروف لا إله إلا الله والذي يدل على أن عيسى من نور الكلمة قوله تعالى : {وَكَلِمَتُه أَلْقَـاهَآ إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} (النساء : 171) أي : نور من لقائه فلما تمثلت الكلمة بالبشر أنكرتها مريم ولم تعرفها فاستعاذت بالله منه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 321
(5/247)
{قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَـانِ مِنكَ} يا شاب ذكره تعالى بعنوان الرحمانية للمبالغة في العياذ به تعالى واستجلاب آثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها.
قال في "الكشاف" : دل على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة {إِن كُنتَ تَقِيًّا} تتقي الله وتبالي بالاستعاذة به وجواب الشرك محذوف ثقة بدلالة السياق عليه أي : فإني عائذة به.
وقال الكاشفي : (يعني تومتقى ومتورعى من از تور هيز ميكنم وناه بحق ميبرم فكيف كه نين نباشى).
قال الشيخ في تفسيره : وإنما قالت ذلك لأن التقي يتعظ بالله ويخاف والفاسق يخوف بالسلطان والمنافق يخوف بالناس كما قال في "التأويلات النجمية" يعني : أنك إن كنت تقياً من أهل الدين تعرف الرحمن فلا تقربني بعوذي به وإن كنت شقياً لا تعرف الرحمن فأتعوذ منك بالخلق فأجابها.
{قَالَ إِنَّمَآ أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} يريد أني لست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر وإنما أنا رسول ربك الذي استعذت به {لاهَبَ لَكِ غُلَـامًا} أي : لأكون سبباً في هبته بالنفخ في الدرع {زَكِيًّا} طاهراً من الذنوب ولوث الظلمة النفسانية الإنسانية.
{قَالَتْ} استبعاداً ظاهراً أي : متعجبة من حيث العادة لا مستبعدة من حيث القدرة {أَنَّى يَكُونُ لِى} (كونه بودمرا) {غُلَـامٌ} كما وصف {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} أي : والحال أنه لم يباشرني بالنكاح رجل فإن المس كناية عن الوطىء الحلال أما الزنى فإنما يقال خبث بها أو فجر أو زنى وإنما قيل بشر مبالغة في بيان تنزهها عن مبادي الولادة الحال أنه {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} فعول بمعنى الفاعل أصله بغوياً.
قال الشيخ في "تفسيره" : ولم يقل بغية لأنه وصف غالب على المؤنث كحائض أي : فاجرة تبغي الرجال.
وبالفارسية (زنا كار وجوينده فجور) يريد نفي الوطىء مطلقاً وأن الولد إما من النكاح الحلال أو الحرام أما الحلال فلأنها لم يمسها بشر وأما الحرام فلأنها لم تك بغيا فإذا انتفى السببان جميعاً انتفى الولد.
وفي "التأويلات
322
النجمية" : {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} قبل هذا {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} ليمسسني بشر بعد هذا بالزنى أو بالنكاح لأني محررة محرم عليّ الزوج.
جزء : 5 رقم الصفحة : 321
{قَالَ كَذَالِكَ} أي : الأمر كما قلت.
وبالفارسية : (يعني نين است كه توميكويى هي كس بنكاح وسفاح ترامس نكرده است) فأما {قَالَ رَبُّكَ} الذي أرسلني إليك {هُوَ} أي : ما ذكرت من هبة الغلام من غير أن يمسك بشر أصلاً {عَلَىَّ} خاصة {هَيِّنٌ} يسر وإن كان مستحيلاً عادة لما أني لا أحتاج إلى الأسباب والوسائط.
وفي "التأويلات النجمية" : {قَالَ كَذَالِكَ} الذي تقولين ولكن {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} أن أخلق ولداً من غير ماء منيّ والد فإني أخلقه من نور كلمة كن كما قال تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَا خَلَقَه مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَه كُن فَيَكُونُ} (آل عمران : 59) {وَلِنَجْعَلَهُ} أي : ونفعل ذلك لنجعل وهب الغلام {لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً} وبرهاناً يستدلون بها على كمال قدرتنا فالواو أعتراضية أو لنبين به عظم قدرتنا ولنجعله الخ.
وفي "التأويلات النجمية" {ءَايَةً} أي : دلالة على قدرتي بأني قادر على أن أخلق ولداً من غير أب كما أني خلقت آدم من غير أب وأم وخلقت حواء من غير أم {وَرَحْمَةً} عظيمة كائنة {مِّنَّا} عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده وبين قوله : {وَرَحْمَةً مِّنَّا} وقوله : {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ} فرق عظيم وهو أنه تعالى إذا أدخل عبداً في رحمته يرحمه ويدخله الجنة ومن جعله رحمة منه يجعله متصفاً بصفته وكذا بين قوله : {رَحْمَةً مِّنَّا} وقوله في حق نبينا عليه السلام {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} أبداً أما في الدنيا فبأن لا ينسخ دينه وأما في الآخرة فبأن يكون الخلق محتاجين إلى شفاعته حتى إبراهيم عليه السلام فافهم جداً كذا في "التأويلات النجمية" {وَكَانَ} خلقه بلا فحل {أَمْرًا مَّقْضِيًّا} قضيت به في سابق علمي وحكمت بوقوعه لا محالة فيمتنع خلافه فلا فائدة في الحزن وهو معنى قوله : "من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب".
يقول الفقير : ذلك أن العلم تابع للمعلوم فكل ما يقتضيه من الأحوال فالله تعالى يظهره بحكمته وخلق عيسى عليه السلام على الصفة المذكورة كان في الأزل بمقتضى الحكمة القديمة مقدراً فجميع الأعيان وما يتبعها من الأحوال المختلفة داخلة تحت الحكمة فمن كوشف عن سر هذا المقام هانت عليه المصائب والآلام إذ كل ما نبت في مزرعة الوجود الخارجي فهو من بذر الحكم الأزلي على حسب تفاوت الاستعدادات كتفاوت المزارع فمن وجد خيراً فيحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 321
نمى كنم كله ليكن ابر رحمت دوست
بكشت زار جكر تشنكان ندادنمى
(5/248)
أي : لا أشتكي من هذا المعنى فإنه من مقضتى ذاتي ، وقال :
درين من مكنم سرزنش بخود رويى
نانكه رورشم ميدهند وميرويم
أي : لا تثريب عليّ في هذا المعنى فإنه من قضاء الله تعالى.
قال الإمام أبو القاسم القشيري قدس سره : سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول في آخر عمره وقد اشتدت به العلة من إمارات التأييد حفظ التوحيد في أوقات الحكم ثم قال كالمفسر لفعله مفسراً لما كان فيه من حاله هو أن يقرضك بمقاريض القدرة في إمضاء الأحكام قطعة قطعة وأنت شاكر حامد انتهى.
فقصة مريم من جملة أحكام الله تعالى ولذا عرفت الحال لأنها كانت صديقة وصبرت على
323
أذى القوم وشماتتهم وفي الحديث : "إذا أحب الله عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه وإن رضي اصطفاه" فالواجب على العبد الحمد على البلية لما تضمنته من النعمة فإن فقد فالصبر وكلاهما من طريق العبودية وإذا وقف مع الجزع المستفاد من وجود الشفقة على نفسه فهو من غلبة الهوى.
قال أحمد بن حضرويه قدس سره الطريق واضح والدليل لائح والداعي قد أسمع فما التحير بعد هذا إلا من العمى وفي الحديث خطاباً لابن عباس رضي الله عنهما "إن استطعت أن تعملبالرضى في اليقين فافعل وإلا ففي الصبر على ما تكره خير كثير".
قال في "شرح الحكم العطائية" ثم إذا تأملت ظهر لك أن التحقق بالمعرفة منطو في وجود البلايا إذ ليست المعرفة إلا بتحقق أوصافه تعالى حتى يفنى في أوصافه كل شيء من وجودك فلا يبقى لك عز مع عزه ولا غنى مع غناه ولا قدرة مع قدرته ولا قوة مع قوته وهذا يتحقق لك بوجود البلية إذ هي مشعرة بقهر الربوبية فافهم هذا وفقنا الله وإياكم للتحقق بحقيقة الحال والتمكن في مقام الصبر والحمد على جميع الأحوال ، وفي "المثنوي" :
صد هزاران كيميا حق آفريد
كميايى همو صبر آدم نديد
وذلك لأن بالبلاء تحترق الأوصاف الرديئة الخلقية وبالصبر يحصل الأخلاق الإلهية والصفات الحقية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 321
{فَحَمَلَتْهُ} قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فاطمأنت مريم إلى قول جبريل فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت عيسى عقيب النفخ.
يقول الفقير : وصول النفخ إلى الجوف لا يحتاج إلى منفذ من المنافذ كالفم ونحوه ألا ترى أن الروح حين دخل جسد آدم دخل من اليافوخ وهو وسط الرأس إذا اشتد وقبل اشتداده كما في رأس الطفل يقال له الفادية بالفاء ثم نزل إلى العينين ثم إلى الفم ثم إلى سائر الأعضاء.
واعلم أن لعيسى عليه السلام جهة جسمانية وجهة روحانية وأحدية جمع للجهتين فإذا نظر إلى جهة الجسمانية يظن أنه تكون من ماء مريم وإذا نظر إلى جهة الروحانية وآثارها من إحياء الموتى وخلق الطير من الطين يحكم أنه من نفخ جبريل وإذا نظر إلى أحدية جمعها يقال أنه تكون منهما فالتحقيق أن الملك لما تمثل لها بشراً سوياً نزل الماء منها إلى الرحم لشدة اللذة بالنظر إليه فتكون عيسى من ذلك الماء المتولد عن النفخ الموجب للذة منها فهو من ماء أمه فقط خلافاً للطبيعيين فإنهم ينكرون وجود الولد من ماء أحد الزوجين دون الآخر.
فإن قلت : قد ثبت أن ماء الرجل يكون منه العظم والعصب وماء المرأة يكون منه اللحم والدم فكيف جاء عيسى مركباً من هذه الأجزاء؟ قلت : خروجه على الصورة البشرية كامل الأجزاء إنما هو من أجل أمه لأن ماءها محقق ومن أجل تمثل جبريل في صورة البشر فإنه إنما مثل في صورة البشر حتى لا يقع التكوين في هذا النوع الإنساني إلا على الحكم المعتاد الذي جرت به العادة غالباً وهو تولده من شخصين إنسانين وقد توهمت في النفخ الماء فحصل الماء المتوهم أيضاً ووجود بعض الأشياء قد يترتب على توهمه كترتب السقوط عن الجذع على توهمه ولأجل تكونه من نفخ جبريل طالت إقامته في صورة البشر لأن للأرواح صفة البقاء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 324
ـ روي ـ أن مولد عيسى عليه السلام كان قبل مولد نبينا عليه السلام بخمسمائة وخمس وخمسين سنة وقد بقي بعد
324
(5/249)
وسينزل ويدعو الناس إلى دين نبينا عليه السلام.
قال بعض الكبار : لو لم يتمثل جبريل عند النفخ بالصورة البشرية لظهر عيسى على صورة الروحانيين ولو نفخ فيها وقت الاستعاذة على الحالة التي كانت عليها من تحرّج صدرها وضجرها لتخيلها أنه بشر يريد مواقعتها على وجه لا يجوز في الشرائع لخرج عيسى بحيث لا يطيقه أحد لشكاسة خلقه أي : رداءته لسراية حال أمه فيه لأن الولد إنما يتكوّن بحسب ما غلب على الوالدين من المعاني النفسانية والصورة الجسمانية.
نقل في الأخبار : أن امرأة ولدت ولداً صورته صورة البشر وجسمه جسم الحية فلما سئلت عنها أخبرت أنها رأت حية عند المواقعة ، وأن امرأة ولدت ولداً له عين أربع ورجلان كرجل الدب وكانت قبطية جامعها زوجها وهي ناظرة إلى دبين كانا عند زوجها فلما قال لها جبريل : {إِنَّمَآ أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} جئت من عنده {لاهَبَ لَكِ غُلَـامًا زَكِيًّا} انبسطت عن ذلك القبض لما عرفت أنه مرسل إليها من عند ربها وانشرح صدرها لما تذكرت بشارة ربها إياها بعيسى {إِذْ قَالَتِ الملائكة يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (آل عمران : 45) فنفخ فيها في حين الانبساط والانشراح فخرج عيسى منبسطاً منشرح الصدر لسراية حال أمه فيه.
ولذا قالوا : يتفكر عند الجماع الأقوياء ويمثل بين عينيه صورة رجل على أحسن خلقة وأقوم جثة وأفضل خلق وأكمل حال قالوا : حملته وسنها وقتئذٍ ثلاث عشرة سنة وقد حاضت حيضتين قبل أن تحمل.
واختلف في مدة حملها كما اختلف في مدة حمل آمنة والدة النبي عليه السلام.
ففي رواية عن ابن عباس كانت مدة الحمل والولادة ساعة واحدة وجعله بعضهم أصح لأن عيسى كان مبدعاً ولم يكن من نطفة يدور في أدوار الخلقة ويؤيده عطف قوله {فَانتَبَذَتْ بِهِ} بالفاء التعقيبية.
يقول الفقير : القول بأن مثل هذه الفاء قد يدل على ترتيب الحكم وعدم تكونه من نطفة ظاهرة البطلان لأنه من ماء محقق وماء متوهم كما سبق وكونه من المبدعات بلا سبب ظاهر لا يستلزم أن يكون جميع أحواله بطريق خرق العادة.
وفي رواية أخرى عنه كانت تسعة أشهر كحمل أكثر النساء إذ لو كان أقل لذكر ههنا في جملة مدائحها وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى وكان ذلك آية أخرى.
قال الحكماء في بيان سبب ذلك : أن الولد عند استكماله سبعة أشهر يتحرك للخروج حركة عنيفة أقوى من حركته في الشهر السادس فإن خرج عاش وإن لم يخرج استراح في البطن عقيب تلك الحركة المضعفة فلا يتحرك في الشهر الثامن ولذلك تقل حركته في البطن في ذلك الشهر فإذا تحرك للخروج وخرج فقد ضعف غاية الضعف فلا يعيش لاستيلاء حركتين مضعفتين له مع ضعفه.
وفي كلام الشيخ يحيى الدين بن العربي قدس سره لم أر للثمانية صورة في نجوم المنازل ولهذا كان المولود إذا ولد في الشهر الثامن يموت ولا يعيش وعلى فرض أن يعيش كان معلولاً لا ينتفع بنفسه وذلك لأن الشهر الثامن يغلب فيه على الجنين البرد واليبس وهو طبع الموت
جزء : 5 رقم الصفحة : 324
{فَانتَبَذَتْ بِهِ} الباء للملابسة والجار والمجرور في حيز النصب على الحالية أي : فاعتزلت ملتبسة به أي : وهو في بطنها كقوله تنبت بالدهن أي : تنبت ودهنها فيها {مَكَانًا قَصِيًّا} مفعول انتبذت على تضمين معنى الإتيان كما سبق أي : أتت مكاناً بعيداً من أهلها.
قال الكاشفي :
325
(مكاني دورز شهر ايليا كويند بكوهى رفت درجانب شرقي از شهريا بوادى بيت لحم كه شش ميل دور بود از ايليا) وعن أنس رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حديث الإسراء : "فقال لي جبريل أنزل فصللِ فصليت فقال : أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى ابن مريم" وهو حديث صحيح أو حسن رواه النسائي والبيهقي في "دلائل النبوة" أو أقصى الدار وهو الأنسب لقصر مدة الحمل كما في "الإرشاد".
وقال في "قصص الأنبياء" : لما دنت ولادة مريم خرجت في حوف الليل من منزل زكريا إلى خارج بيت المقدس وأحبت أن لا يعلم بها زكريا ولا غيره.
{فَأَجَآءَهَا} تعدية جاء بالهمزة أي : جاء بها واضطرها {الْمَخَاضُ} وجع الولادة.
وبالفارسية (درد زادن) يقال مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة إذ لم تكن لها قابلة تعينها.
وقال في القصص : رأت نخلة يابسة في جوف الليل فجلست عند أصلها.(5/250)
وفي "التأويلات النجمية" : {فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} لإظهار المعجزة في الجذع انتهى.
والجذع ما بين العرق والغصن أي : أسفلها ما دون الرأس الذي عليه الثمر وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة وكان الوقت شتاء ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما يسكن روعتها فإن النخلة اليابسة التي لا رأس لها قد أثمرت في الشتاء وهي أقل شيء صبراً على البرد وثمرها إنما هو من جمارها بعد اللقاح والجمار رأس النخلة وهو شيء أبيض لين وليطعمها الرطب الذي هو خرست النفساء الموافقة لها والخرسة بالتاء طعام النفساء وبدونها طعام الولادة {قَالَتْ يا لَيْتَنِى مِتُّ} (كفت كاشكى من مردمى) وهو بكسر الميم من مات يمات كخفت وقرىء بضمها من مات يموت {قَبْلَ هَـاذَا} اليوم أو هذا الأمر كما في "الجلالين" وإنما قالته مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل من الوعد الكريم استحياء من الناس على حكم العادة البشرية لا كراهة لحكم الله وخوفاً من ملامتهم وحذراً من وقوع الناس في المعصية بما تكلموا فيها أو جرياً على سنن الصالحين عند اشتداد الأمر عليهم كما روى عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تبنة من الأرض فقال : يا ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئاً وعن بلال أنه قال : ليت بلالاً لم تلده أمه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 324
فقولي تارة يا رب زدني
وأخرى ليت أمي لم تلدني
وفي "التأويلات النجمية" : {قَبْلَ هَـاذَا} أي : قبل هذا الحمل فإنه بسبب حملي وولدي يدخل الله النار خلقاً عظيماً لأن بعضهم يتهمني بالزنى وبعضهم يتهم ولدي بابن الله {وَكُنتُ} (وبودمى) {نَسِيًّا} شيئاً حقيراً شأنه أن ينسى ولا يعتد به أصلاً {مَّنسِيًّا} لا يخطر ببال أحد من الناس وهو نعت للمبالغة.
وفي "التأويلات" : {نَسْيًا مَّنسِيًّا} في العدم لا يذكرني الله بالإيجاد.
وقال الكاشفي : (يعني هيكس مرا اندانستى وازمن حساب نداشتى وحال آنكه همه اخبار بيت المقدس مرامى شناسندكه دختر امام ايشانم در كفالت زكريا بوده ام وهنوز بكارت من زائل نشده وشوهرى نكرده ام واكنون فرزند مى زايم واز خجالت آن حال نمى دانم ه كنم) :
هرند بروى كار درمينكرم
محنت زده وخود نمى بينم من
أي : جبرائيل حين سمع جزعها لأن عيسى لم يتكلم حتى أتت به قومها
326
{مِن تَحْتِهَآ} من مكان أسفل منها تحت الأكمة.
وقال في "القصص" : من تحت النخلة.
وفي "الأسئلة المقحمة" قرىء بفتح الميم يعني به عيسى لما خرج من البطن ناداها {أَلا تَحْزَنِى} أن مفسرة بمعنى أي : لا تحزني بولادة عيسى وبمكان القحط (وتمناى مرك مكن) أو مصدرية على حذف الباء تقديره بأن لا تحزني.
والحزن غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ} أي : في مكان أسفل منك {سَرِيًّا} نهراً صغيراً على ما فسره النبي عليه السلام.
قال ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل ضرب برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى جدولاً.
وقال بعض أرباب الحقيقة : أنبأ عيسى عن نبوته في المهد بقوله : {الْكِتَـابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا * وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَـانِى} (مريم : 30) وفي بطن أمه بقوله : {أَلا تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} أي : سيداً على القوم بالنبوة انتهى.
فيكون من السرو وهو السؤدد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 324
(5/251)
هز الشيء تحريكه إلى الجهات المتقابلة تحريكاً عنيفاً متداركاً والمراد ههنا ما كان منه بطريق الجذب والدفع لقوله : {إِلَيْكِ} أي : إلى جهتك {بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} الباء صلة لتأكيد كما في قوله تعالى : {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة : 195) قال الفراء : تقول العرب هزه وهز به {تُسَـاقِطْ} أي : تسقط النخلة {عَلَيْكِ} إسقاطاً متواتراً حسب تواتر الهز {رُطَبًا} (خرماى تازه) {جَنِيًّا} وهو ما قطع قبل يبسه فعيل بمعنى مفعول أي : رطباً مجنياً أي : صالحاً للاجتناء قد بلغ الغاية.
قال في "الأسئلة المقحمة" : كيف أمرها بهز النخلة ههنا وقبل ذلك كان زكريا يجد رزقها في المحراب فالجواب أنها في حالة الطفولية كانت بلا علاقة أوجبت العناء والمشقة.
وقال في "أسئلة الحكم" ما الحكمة في أمرها بالهز قيل لأنها تعجبت من ولد بغير أب فأراها الرطب من نخل يابس آية منه تعالى كيلا تتعجب منه.
وأما سر كون الآية في النخلة فلأنها خلقت من طينة آدم وفيها نسبة معنوية لحقيقة الإنسانية دون غيرها لعدم حصولها بغير زوج ذكر يسمى بالتأبير وقال : لم أجرى الله النهر بغير سعي مريم ولم يعطها الرطب إلا بسعيها؟ قيل : لأن الرطب غذاء وشهوة والماء سبب للطهارة والخدمة وقيل ثمرة الرطب صورة العمل الكسبي والماء صورة سر الفيض الإلهي فأجرى كل شيء في منزله ومقامه لأن كل كرامة صورة عمل السالك إذا تحقق وتخلق به وقيل جرت عادة الله تعالى في الرطب بأسباب التعمل كالغرس والسقي والتأبير والماء ليس له سبب أرضى بل هو وهبي سماوي ولذا أجرى النهر لمريم بغير سبب.
{فَكُلِى} من ذلك الرطب {وَاشْرَبِى} من ماء السري وكان ذلك إرهاصاً لعيسى أو كرامة لأمه وليس بمعجزة لفقد شرطها وهو التحدي كما في "بحر العلوم".
قال الإمام في تفسيره قدم الأكل لأن حاجتها إليه أشد من حاجتها إلى الماء لكثرة ما سال منها من الدماء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 324
فإن قيل مضرة الخوف أشد لأنه ألم الروح والجوع والعطش ألم البدن ونقل أنه أجيع شاة ثم قدم إليها العلف وربط عندها ذئب فلم تأكل ثم أبعد الذئب وكسر رجلها فتناولت فدل على أن ألم الخوف أشد فلم أخر الله سبحانه دفع ضرره.
قلنا : كان الخوف قليلاً لبشارة جبريل فلم يحتج إلى التذكير مرة أخرى انتهى.
قالوا : التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذلك التحنيك وهو بالفارسية (كام كودك بماليدن) يقال حنك الصبي تمراً أو غيره فدلكه بحنكه وقالوا : كان من
327
العجوة وهي بالحجاز أم التمر كما في "القاموس" وفي الحديث : "إذا ولدت امرأة فليكن أول ما تأكل الرطب فإن لم يكن رطب فتمر فإنه لو كان شيء أفضل منه لأطعمه الله تعالى مريم بنت عمران حين ولدت عيسى".
قال الربيع بن خيثم : ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل {وَقَرِّى عَيْنًا} وطيبي نفساً وارفضي عنها ما أحزنك واهمك فإن الله تعالى قد نزه ساحتك بالخوارق من جري النهر واخضرار النخلة اليابسة وإثمارها قبل وقتها لأنهم إذا رأوا ذلك لم يستبعدوا ولادة ولد بلا فحل واشتقاقه من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره يقال أقر الله عينيك أي : صادف فؤادك ما يرضيك فيقر عينك من النظر إلى غيره.
قال في "القاموس" : قرت عينه تقر بالكسر والفتح قرة ويضم وقروراً بردت وانقطع بكاؤها أو رأت ما كانت متشوفة إليه انتهى.
أو من القر بالضم وهو البرد فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة ولذلك يقال قرة العين وسخنة العين للمحبوب والمكروه.
وقال الكاشفي : (وقري عيناً وروشن ساز شم را يفرزند ياخود بسبز شدن درخت وبر دادن او كه مناسبت باحال تو دارد ه آنكه قادراست بر اظهار خرما از درخت يابس قدرت دارد برايجاد ولد ازمادربى در وحق سبحانه وملائكه فرستاد تابكرد مريم در آمدند وون عيسى عليه السلام متولد شد اورا فرا كرفته شتند ودرحرير بهشت ييده دركنار مريم نهادند) قالوا : ما من مولود يستهل غيره (وندا رسيد) {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} أي : فإن ترى آدمياً كائناً من كان وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط وهي بمنزلة لام القسم في أنها إذا دخلت على الفعل دخلت معها النون المؤكدة {فَقُولِى} له إن استنطقك أي : سألك علي ولدك (يعني رسند اين فرزند از كجاست) ولأمككِ عليه {إِنِّى نَذَرْتُ} أوجبت على نفسي {لِلرَّحْمَـانِ صَوْمًا} أي : صمتاً أو صياماً وكان صيام المجتهدين من بني إسرائيل بالإمساك عن الطعام والكلام حتى يمسي وقد نسخ في هذه الأمة لأنه عليه السلام نهى عن صوم الصمت.
قال في أبكار الأذكار السكوت في وقته صفة الرجال كما أن النطق في موضعه شرف الخصال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 324
اكره يش خرمند خامشى ادبست
بوقت مصلحت آن به كه درسخن كوشى
دويز طيره عقلست دم فرو بستن
بوقت كفتن وكفتن بوقت خاموشى
(5/252)
وأما إيثار أصحاب المجاهدة السكوت فلعلمهم بما في الكلام من حظ النفس وإظهار صفات المدح والميل إلى حسن النطق.
فأما صمت الجاهلية فمنهي عنه كما ورد لا يتم بعد الاحتلام ولا صمات يوم إلى الليل فكان أهل الجاهلية من نسكهم اعتكاف يوم وليلة بالصمات فنهوا في الإسلام عن ذلك وأمروا بالحديث بالخير والذكر.
يقول الفقير : إن المنهي عنه هو السكوت مطلقاً.
وأما السكوت عن كلام الناس مع ملازمة الذكر فمقبول بل مأمور به ولذا جعل دوام السكوت أحد الشرائط الثمان فصحة الانقطاع وفائدة السلوك إنما تحصل به وباخواته {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} (س سخن نخواهم كفت امروز باهي آدمي بلكه باملائكه وباحق سخن ميكويم ومناجات ميكنم) أمرت بأن تخبر بنذرها بالإشارة فالمعنى قولي ذلك بالإشارة لا باللفظ.
قال الفراء : العرب تسمي كل وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر
328
فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلة السفهاء ومناقلتهم والاكتفاء بكلام عيسى أنه قاطع لطعن الطاعن والرائب في براءة ساحتها وذلك أن الله تعالى أراد أن يظهر براءتها من جهة عيسى فتكلم ببراءة أمه وهو في المهد وفيه أن السكوت عن السفيه واجب ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً ، قال الصائب :
درجنك ميكند لب خاموش كار تيغ
داد جواب مرمدم نادان ه لازمست
وقال :
باكران جانان مكو حرف كران تانشنوى
كوه در رد صدا بى اختيار افتاده است
ومن بلاغات الزمخشري : ما قدع السفيه بمثل الإعراض وما أطلق عنانه بمثل العراض سورة السفيه تكسرها الحلماء والنار المضطرمة يطفئها الماء يعني أن سورة السفيه كالنار المضطرمة ولا يطفأها إلا الحلم كما لا يطفىء النار إلا الماء والنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله.
وفي الآية : إشارة إلى الصوم عن الالتفات لغير الله تعالى كما قال بعض الكبار الدنيا يوم ولنا فيه صوم ولا يكون إفطاره إلا على مشاهدة الجمال.
فعلى السالك أن ينقطع عن عالم الناسوت ويقطع لسانه عن غير ذكر اللاهوت حتى يحصل قطع الطريق والوصول إلى منزل التحقيق وكما أن مريم هزت النخلة فأسقطت عليها رطباً جنياً فكذا مريم القلب إذا هزت بنخلة الذكر وهي كلمة "لا إله إلا الله" تسقط عليها من المشاهدات الربانية والمكاشفات الإلهية ما به يحصل التمتعات التي هي مشارب الرجال البالغين كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلّم يقول : "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" اللهم اجعلنا من الذين كوشفوا عن وجه حقيقة الحال ووصلوا إلى تجليات الجمال والجلال.
جزء : 5 رقم الصفحة : 324
{فَأَتَتْ بِه قَوْمَهَا} والباء بمعنى مع أي : جاءتهم مع ولدها راجعة إليهم عندما طهرت من نفاسها وجعلها الكاشفي للتعدية حيث قال : (س آورد مريم عيسى را).
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنها خرجت من عندهم حين شرقت الشمس وجاءتهم عند الظهر ومعها صبي {تَحْمِلُهُ} في موقع الحال أي : حاملة له.
ـ روي ـ أن زكريا افتقد مريم فلم يجدها في محرابها فاغتم غماً شديداً وقال لابن خالها يوسف : اخرج في طلبها فخرج يقص أثرها حتى لقيها تحت النخلة فلما رجعت إلى قومها وهم أهل بيت صالحون وزكريا جالس معهم بكوا وحزنوا ثم {قَالُوا} موبخين لها يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْـاًا} على حذف الباء من شيء ومآله فعلت شيئاً {فَرِيًّا} أي : عظيماً بديعاً منكراً مقطوعاً بكذبه من فرى الجلد إذا قطعه.
والفرية بالكسر الكذب والفري الأمر المختلق المصنوع أو العظيم وهو يفري الفرى يأتي بالعجب في عمله.
وفي "الأختري" : أنه من الأضداد يجيىء بمعنى الأمر الصالح والسيىء.
قال الكاشفي : (يزى شكفت يا زشت كه در ميان اهل بيت مثل اين واقع ثبوده).
جزء : 5 رقم الصفحة : 324
يا اأُخْتَ هَـارُونَ} روي عن النبي عليه السلام أنهم إنما عنوا به هارون النبي عليه السلام وكانت من أعقاب من كان معه في مرتبة الأخوة وذلك بأن تكون من أخت هارون أو أخيه وكان بينها وبينه ألف وثمانمائة سنة وقيل كان هارون أخاها من أبيها وكان رجلاً صالحاً وقيل هو أخو موسى نسبت إليه بالأخوة لأنها من ولده كما يقال يا أخا العرب أي : يا واحداً منهم
329
{مَا كَانَ أَبُوكِ} عمران {امْرَأَ سَوْءٍ} المرء مع ألف الوصل الإنسان أو الرجل ولا يجمع من لفظه كما في "القاموس".
وسوء يفتح السين وبإضافة امرأ إليه وهي أكثر استعمالاً من الصفة والمعنى ما كان عمران زانياً قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ .
قال الكاشفي : (نبوددرتو عمران مردى بد بلكه مردى كه مسجد اقصارا اشرف احبار بود) {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ} حنة بنت فاقوذ {بَغِيًّا} زانية فمن أين لك هذا الولد من غير زوج وهو تقرير لكون ما جاءت به فريا منكراً وتنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.
(5/253)
واعلم أن المعتاد من أهل الزمان إذا أظهر الله في كل زمان نبياً أو ولياً يخصه بمعجزة أو كرامة أن ينكر عليه أكثرهم وينسبوه إلى الجنون والضلالة والافتراء والكذب والسحر وأمثالها وأما الأقلون فيعرفون أن من سافر عن منزل الجمهور فإنه يرجع عن سفره ومعه من العلوم الغريبة والأحوال العجيبة ما لم يألف بها العقول ولم يشاهدها الأنظار فلا يرجعون بالرد عليه بل بالاعتقاد ، وفي "المثنوي" :
مغزرا خالي كن از انكار يار
تا كه ريحان يابد از كلزار يار
تابيابى بوى خلد ازيار من
ون محمد بوى رحمان ازيمن
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أي : إلى عيسى أن كلموه ليجيبكم ويكون كلامه حجة لي والظاهر أنها حينئذٍ بينت نذرها وأنها بمعزل عن محاورة الإنس {قَالُوا} منكرين لجوابها {كَيْفَ نُكَلِّمُ} نحدث {مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ} (در كهواره يعنى درخور كهواره) {صَبِيًّا} ولم نعهد فيما سلف صبياً رضيعاً في الحجر يكلمه عاقل لأنه لا قدرة له على فهم الخطاب ورد الجواب وكان لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم صالح لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة بدليل أنه مسوق للتعجب أو زائدة والظرف صلة من وصبياً حال من المستكن فيه أو تامة أو دائمة كما في قوله تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (الفتح : 4).
يقول الفقير : الظاهر أن كان لتحقيق صباوته فإن الماضي دال على التحقق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 329
{قَالَ} استئناف بياني كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك فقيل : قال عيسى بلسان فصيح {إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ} أقر على نفسه بالعبودية أول ما تكلم رداً على من يزعم بربوبيته من النصارى وإزالة للتهمة عن الله مع إفادة إزالة تهمة الزنى عن أمه لأنه تعالى لا يخص الفاجرة بولد مثله.
قال الجنيد لست بعبد سوء ولا عبد طمع ولا عبد شهوة وفيه إشارة إلى أن أفضل أسماء البشرية العبودية.
يقول الفقير : سمعت من فم حضرة شيخي وسندي روح الله روحه أنه قال عبد الله فوق عبد الرحمن وهو فوق عبد الرحيم وهو فوق عبد الكريم ولذا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عبد الله وكذا عبد الحي وعبد الحق أعلى الأسماء وأمثلها لأن بعض الأسماء الإلهية يدل على الذات وبعضها على الصفات وبعضها على الأفعال والأولى أرفع من الثانية وهي من الثالثة.
قيل : كان المستنطق لعيسى زكريا وقد أكرم الله تعالى أربعة من الصبيان بأربعة أشياء : يوسف بالوحي في الجب ، وعيسى بالنطق في المهد ، وسليمان بالفهم ، ويحيى بالحكمة في الصباوة.
وأما الفضيلة العظمى والآية الكبرى أن الله أكرم سيد المرسلين عليه وعليهم السلام في الصباوة بالسجدة عند الولادة بأنه رسول الله وشرح الصدر وختم النبوة وخدمة الملائكة والحور عند ولادته وأكرم بالنبوة في عالم الأرواح قبل الولادة والصباوة وكفى بذلك اختصاصاً وتفضيلاً :
330
شمسه نه مسند وهفت اختران
ختم رسل خواجه يغمبران
{الْكِتَـابَ وَجَعَلَنِى} الإنجيل {وَجَعَلَنِى نَبِيًّا * وَجَعَلَنِى} مع ذلك {مُبَارَكًا} نفاعاً معلماً للخير أخبر عما يكون لا محالة بصيغة الماضي والجمهور على أن عيسى آتاه الله الإنجيل والنبوة في الطفولية وكان يعقل عقل الرجال كما في "بحر العلوم".
يقول الفقير المشهور أنه أوحى الله إليه بعد الثلاثين فتكون رسالته متأخرة عن نبوته يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْـاًا} حيثما كنت فإنه لا يتقيد باين دون اين {وَأَوْصَـانِى بِالصَّلَواةِ} أي : أمرني بها أمراً مؤكداً {وَالزَّكَواةِ} أي : زكاة المال ملكية.
يقول الفقير : الظاهر أن إيصاءه بها لا يستلزم غناء بل هي بالنسبة إلى أغنياء أمته وعموم الخطايات الإلهية منسوب إلى الأنيباء تهييجاً للأمة على الائتمار والانتهاء {مَا دُمْتُ حَيًّا} في الدنيا.
قال في "بحر العلوم : فيه دلالة بينة على أن العبد ما دام حياً لا يسقط عنه التكاليف والعبادات الظاهرة فالقول بسقوطها كما نقل عن بعض الإباحيين كفر وضلال.
جزء : 5 رقم الصفحة : 329
وفي "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى أنه ما دام العبد حياً لا بد من مراقبة السر وإقامة العبودية وتزكية النفس.
يقول الفقير : إقامة التكاليف عبودية وهي إما للتزكية كالمبتدئين وإما للشكر كالمنتهين وكلا الأمرين لا يسقط ما دام العبد حياً بالغاً فإذا تغير حاله بالجنون ونحوه فقد عذر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 329
{وَبَرَّا} (مهربان) {بِوَالِدَتِى} عطف على مباركاً أي : جعلني باراً بها محسناً لطيفاً وهو إشارة إلى أنه بلا فحل {وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا} متكبراً.
وبالفارسية (كرد نكشى متعظم كه خلق را تكبر كنم وانسانرا بر نجانم) {شَقِيًّا} عاصياً لربه.
(5/254)
{وَالسَّلَـامُ عَلَىَّ} (سلام خداى برمنست) {يَوْمَ وُلِدتُّ} بلا والد طبيعي أي : من طعن الشيطان {وَيَوْمَ أَمُوتُ} من شدائد الموت وما بعده {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} حال أي : من هول القيامة وعذاب النار كما هو على يحيى يعني السلامة من الله وجهت إليّ كما وجهت إلى يحيى في هذه الأحوال الثلاثة العظام على أن التعريف للعهد والأظهر على أنه للجنس والتعريض باللعن عن أعدائه فإن إثبات جنس السلام لنفسه تعريض لإثبات ضده لأضداده كما في قوله تعالى : {وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (طه : 47) فإنه تعريض بأن العذاب على من كذب وتولى فلما كلمهم عيسى بهذا الكلام أيقنوا ببراءة أمه وأنها من أهل العصمة والبعد من الريبة ولم يتكلم بعد حتى بلغ سن الكلام.
قال في "الأسئلة المقحمة" قوله : {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} يدل على أن لا حياة في القبر لأنه ذكر حياة واحدة والجواب أنه أراد بها الدائمة الباقية بخلاف حياة القبر انتهى.
يقول الفقير : لا شك أن حياة البرزخ على النصف من حياة يوم البعث فإن الأولى حياة الروح فقط والثانية حياة الروح والجسد معاً وهي المرادة ههنا ولا انقطاع لحياة الأرواح مذ خلقت من الأبديات فافهم.
ثم إنه نكر في سلام يحيى وعرف في سلام عيسى لأن الأول من الله والقليل منه كثير قال بعضهم قليلك لا يقال له قليل ولهذا قرأ الحسن إهدنا صراطاً مستقيماً أي : نحن راضون بالقليل ، كذا في "برهان القرآن".
قال شيخي وسندي في "كتاب البرقيات" له قدس سره إنما أتى بطريق الغيبة في حق يحيى عليه السلام لأن كلا منهما أهل الحقيقة والفناء والكمال الجامع بين الجلال والجمال وأهل الشريعة والبقاء والجلال والجمال مندرجون
331
جزء : 5 رقم الصفحة : 331
تحت حيطة الكمال إلا أن الميل الاستعدادي الأزلي إلى جانب الحقيقة والفناء وكمال الجلال غالب في جمعية يحيى عليه السلام بحسب الفطرة الإلهية الأزلية وهذه الغلبة ليست إختيارية بل إضطرارية أزلية حاصلة باستيلاء سلطنة الحقيقة والفناء وكمال الجلال على قلبه وهذا الميل إلى جانب الشريعة والبقاء جمال غالب في جمعية عيسى عليه السلام بحسب الفطرة الإلهية الأزلية وهذه الغلبة أيضاً ليست إختيارية بل إضطرارية حاصلة باستيلاء دولة الشريعة والبقاء وجمال الكمال على قلبه ومقتضى الغلبة اليحياوية السكوت وترك النطق ولذا كان المتكلم في بيان أحواله هو الله تعالى وأتى بطريق الغيبة لا نفسه وهو من قبيل من عرف كل لسانه لغلبة الفناء على البقاء وكل من كل لسانه في معرفة الله فهو على مشرب يحيى ومقتضى الغلبة العيسوية النطق وترك السكوت ولذا كان المتكلم في بيان أحوال نفسه وأتى بطريق الحكاية دون الله تعالى وهو من قبيل من عرف الله طال لسانه لغلبة البقاء على الفناء وكل من طال لسانه في معرفة الله فهو على مشرب عيسى عليه السلام وحال كل منهما بقضاء الله ورضاه وهما مشتركان في الجمعية الكبرى مجتمعان في ميل الأهلية العظمى ومنفردان في غلبة العليا بأن تكون غلبة ميل يحيى عليه السلام إلى الفناء وغلبة ميل عيسى عليه السلام إلى البقاء ولو اجتمعا في تلك الغلبة أيضاً لما امتاز حال أحدهما عن الآخرة بل يكون عبثاً نوعاً تعالى الله عن العبث ولذا لم يتجل لأحد بعين ما يتجلى به لغيره بل إنما يتجلى لكل متجل له بوجه آخر ولهذه الحكمة كان الجلال غالباً في قلب يحيى والجمال غالباً في قلب عيسى عليه السلام حتى يكون التجلي لكل منهما بوجه آخر مع أحدية أصله ويوجد بينهما فرق بعد الجمع وكل من ورث هذا المقام بعدهما إلى يوم القيامة من أولياء الله الكرامة يقول الله له بطريق الفيض والإلهام السلام عليك يوم ولدت ويوم تموت ويوم تبعث حياً ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهو من قبيل مبشراتهم الدنيوية التي أشير إليها بقوله تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} (يونس : 64) إلا أنهم يكتمون أمثاله لكونهم مأمورين بالكتمان وعلمهم بسلامتهم يكفي لهم ولا حاجة لهم بعلم غيرهم وأما الأنبياء عليهم السلام فهم يخبرون بسلامتهم لكونهم شارعين فلا بد لغيرهم من العلم بسلامتهم حتى يؤمن ويقبل دعوتهم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل انتهى.
قال في"أسئلة الحكم" : أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن مقامهما حيث قال : "إن عيسى ويحيى التقيا فقال يحيى لعيسى كأنك قد أمنت مكر الله وقال عيسى ليحيى كأنك قد أيست من فضل الله ورحمته فأوحى الله تعالى إليهما أن أحبكما إليّ أحسنكما ظناً بي" وكان عاقبة أمره في مقام الجلال أن قتل فلم يزل فائراً دمه حتى قتل من أجله سبعون ألفاً قصاصاً منه فسكن فورانه وكان عاقبة أمر عيسى في مقام البسط والجمال أن رفع إلى السماء أي إلى الملأ الأعلى من مظاهر الجمال فكلاهما في مقامهما فائزان كاملان انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 331
(5/255)
وفي "التأويلات النجمية" قوله : {وَيَوْمَ أَمُوتُ} فيه إشارة إلى أن عيسى المعنى المتولد من نفخ الحق في القلب قابل الموت بسم غلبات صفات النفس والمعاملات المنتجة منها لئلا يغتر الواصل بأنه إذا حي بحياة لا يموت المعنى الذي في قلبه ، يقول الفقير :
332
اى بسازنده بمرده مغرور
شده از دائره زنكى دور
كشت بروى متغير حالش
زهر شد جمله فيض بالش
ماند دوعين قفا صورت او
كره در صورت ظاهر شده رو
درى نفس بدش هركه دويد
تانبنداركه سر منزل ديد
قال في "التكملة" : ولد عيسى عليه السلام في أيام ملوك الطوائف لمضي خمس وستين سنة من غلبة الاسكندر على أرض بابل وقيل لأكثر من ذلك وكان حمل مريم به وهي ابنة ثلاث عشرة سنة ونبىء عيسى وهو ابن ثلاثين سنة ورفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وعاشت مريم بعده ست سنين وخرجت به أمه من الشام إلى مصر وهو صغير خوفاً عليه من هيردوس الملك وذلك أن ملك فارس علم بمولده لطلوع نجمه فوجه له هدايا من الذهب والمر واللبان فأتت رسله بالهدايا حتى دخلت على هيردوس فسألوه عنه فلم يعلم به فأخبروه بخبره وبأنه يكون نبياً وأخبروه بالهدايا فقال لهم : لم أهديتم الذهب؟ قالوا : لأنه سيد المتاع وهو سيد أهل زمانه قال لهم : ولم أهديتم المر؟ قالوا : لأنه يجبر الجرح والكسر وهو يشفي السقام والعلل قال : ولم أهديتم اللبان؟ قالوا : لأنه يصعد دخان إلى السماء وكذلك هو يرفع إلى السماع فخافه هيردوس وقال لهم : إذا عرفتم مكانه فعرفوني به فإني راغب فيما رغبتم فيه فلما وجدوه دفعوا الهداية لمريم وأرادوا الرجوع إلى هيردوس فبعث الله لهم ملكاً وقال لهم إنه يريد قتله فرجعوا ولم يلقوا هيردوس وأمر الله مريم أن ينتقل به إلى مصر ومعهما يوسف بن يعقوب النجار فسكنت به في مصر حتى كان ابن اثنتي عشرة سنة ومات هيردوس فرجعت إلى الشام انتهى.
ـ روي ـ أن مريم سلمت عيسى إلى معلمه فعلمه أبجد فقال عيسى : أتدري ما "أبجد"؟ قال : لا فقال : أما الألف فآلاء الله والباء بهاء الله والجيم جلال الله والدال دين الله فقال المعلم : أحسنت فما "هوز"؟ فقال : الهاء هو الله الذي لا إله إلا هو والواو ويل للمكذبين والزاي زبانية جهنم أعدت للكافرين فقال المعلم : أحسنت فما "حطي"؟ قال : الحاء حطة الخطايا عن المذنبين والطاء شجرة طوبى والياء يد الله على خلقه فقال : أحسنت فما "كلمن"؟ قال : الكاف كلام الله واللام لقاء أهل الجنة بعضهم بعضاً والميم ملك الله والنون نور الله فقال : أحسنت فما "سعفص"؟ قال : السين سناء الله والعين علم الله والفاء فعله في خلقه والصاد صدقه في أقواله فقال : أحسنت فما "قرشت"؟ قال : القاف قدرة الله والراء ربوبيته والشين مشيئته والتاء تعالى الله عما يشركون فقال له المعلم : أحسنت ثم قال لمريم : خذي ولدك وانصرفي فإنه علمني ما لم أكن أعرفه كذا في "قصص الأنبياء".
قيل : هذه الكلمات وهي أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت وثخذ وضظع أسماء ثمانية ملوك فيما تقدم.
وقيل هي أسماء ثمانية من الفلاسفة.
وقيل هذه الكلمات وضعها اليونانيون لضبط الأعداد وتمييز مراتبها كذا في "شرح التقويم".
جزء : 5 رقم الصفحة : 331
وقال محمد بن طلحة في "العقد الفريد" : أول من وضع الخط العربي وأقامه وصنع حرفه وأقسامه ستة أشخاص من طسم كانوا نزولاً عند عدنان بن داود وكانت أسماؤهم أبجد وهوز حطي وكلمن وسعفص وقرشت ووضعوا الكتابة والخط على أسمائهم فلما وجدوا في الألفاظ حروفاً ليست في
333
أسمائهم ألحقوها بها وسموها الروادف وهي الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين على حسب ما يلحق حروف الجمل هذا تلخيص ما قيل في ذلك وقيل غيره انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 331
{ذَالِكَ} الذي فصلت نعوته الجليلة {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} لا ما يصفه النصارى وهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ والطريق البرهاني حيث جعله موصوفاً بأضداد ما يصفونه ثم عكس على الحكم {قَوْلَ الْحَقِّ} قول الثابت والصدق وهو بالنصب على أنه مصدر مؤكد لقال إني عبد الله الخ وقوله ذلك عيسى ابن مريم اعتراض {الَّذِى فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي : يشكون فإن المرية الشك فيقولون هو ابن الله.
{مَّا كَانَ اللَّهُ} ما صح وما استقام له تعالى : {أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} أي : ولداً وجاء بمن لتأكيد النفي العام.
(5/256)
وفي "التأويلات النجمية" : أي : جزأ فإن الولد جزؤ الوالد كما قال عليه السلام : "فاطمة بضعة مني" {سُبْحَـانَه} أي : تنزه وتعالى تنزيهاً عن بهتان النصارى لأنه ليس للقديم جنس إذ لا جنس له ولذلك قالوا : لا فضل له {إِذَا قَضَى أَمْرًا} أي : أراد كونه {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} قال لعيسى : كن فكان من غير أب والقول ههنا مجاز عن سرعة الإيجاد.
والمعنى أنه تعالى إذا أراد تكوين الأشياء لم تمتنع عليه ووجدت كما أرادها على الفور من غير تأخير في ذلك كالمأمور المطيع الذي إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع كان المأمور به مفعولاً لا حبس ولا إبطاء وهو المجاز الذي يسمى التمثيل.
{وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} من تمام كلام عيسى عطف على قوله : {إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ} داخل تحت القول {هَـاذَا} الذي ذكرته من التوحيد {صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} لا يضل سالكه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 334
{فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ} جمع حزب بمعنى الجماعة {مِنا بَيْنِهِمْ} أي : من بين الناس المخاطبين بقوله : {رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} وهم القوم المبعوث إليهم فقالت النسطورية : هو ابن الله واليعقوبية هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء وقالت الملكانية هو عبد الله ونبيه.
وفي "التأويلات النجمية" أي : تحزبوا ثلاث فرق : فرقة يعبدون الله بالسير على قدمي الشريعة والطريقة بالعبور على المقامات والوصول إلى القربات وهم الأولياء والصديقون وهم أهل الله خاصة وفرقة يعبدون الله على صورة الشريعة وأعمالها وهم المؤمنون المسلمون وهم أهل الجنة وفرقة يعبدون الهوى على وفق الطبيعة ويزعمون أنهم يعبدون الله كما أن الكفار يعبدون الأصنام ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فهؤلاء ينكرون على أهل الحق وهم أهل البدع والأهواء والسمعة والنفاق وهم أهل النار {فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} وهم المختلفون.
والويل الهلاك وهو نكرة وقعت مبتدأ وخبره ما بعده ونظيره سلام عليك فإن أصله منصوب نائب مناب فعله لكنه عدل به إلى الرفع على الابتداء للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه {مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي : من شهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء وهو يوم القيامة.
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (ه شنو باشد كافران وه بينا) وهو تعجب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذٍ ومعناه أن استماعهم وأبصارهم للهدى {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} للحساب والجزاء يوم القيامة جدير بأن يتعجب منه بعد أن كانوا في الدنيا صماً وعمياً والتعجب استعظام الشيء مع الجهل بسببه ثم استعمل لمجرد الاستعظام {لَـاكِنِ الظَّـالِمُونَ الْيَوْمَ} أي : في الدنيا {فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} في خطأ ظاهر
334
لا يدرك غايته حيث أغفلوا الاستماع والنظر بالكلية حين ينفعهم.
عمر مكن ضايع بافسوس وحيف
كه فرصت عزيزست والوقت سيف
كه فردا شيمان برآرى خروش
كه آوخ را حق نكردم بكوش
{وَأَنذِرْهُمْ} خوفهم يا محمد يعني الظالمين {يَوْمَ الْحَسْرَةِ} أي : من يوم يتحسر فيه ويتحزن الناس ويندمون قاطبة أما المسيىء فعلى إساءته وأما المحسن فعلى قلة إحسانه {إِذْ قُضِىَ الامْرُ} بدل من يوم الحسرة أي : فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار.
جزء : 5 رقم الصفحة : 334
ـ وروي ـ أن النبي عليه السلام سئل عن ذلك فقال : "حين يجاء بالموت على صورة الكبش الأملح فيذبح والفريقان ينظرون فينادي المنادي يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح وأهل النار غماً إلى غم" {وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ} أي : عما يفعل بهم في الآخرة {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وهما جملتان حاليتان من الضمير المستتر في قوله تعالى : {فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} أي : مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين وما بينهما إعتراض.
{إِنَّا نَحْنُ} تأكيد لأنا {نَرِثُ} نملك {الارْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} ذكر من تغليباً للعقلاء أي : لا يبقى لأحد غيرنا عليهم ملك ولا ملك وقد سبق في سورة الحجر ما يتعلق بهذه الآية {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي : يردون للجزاء لا إلى غيرنا استقلالاً واشتراكاً.
اعلم أن الرجوع على نوعين : رجوع بالقهر وهو رجوع العوام لأن نفوسهم باقية مطمئنة بالدنيا فلا يخرجون مما هم عليه إلا بالكراهة ورجوع باللطف وهو رجوع الخواص لأن نفوسهم فانية غير مطمئنة بالدنيا والعقبى بل بالمولى الأعلى فيخرجون من الدنيا والموت ولقاء الله تعالى أحب إليهم من كل شيء.
فعلى السالك أن يجتهد في تحصيل الفناء والبقاء وتكميل الشوق إلى اللقاء ويرجع إلى الله تعالى قبل أن يرجع فإن سرّ لمن الملك اليوم دائر على هذا.
صرصر قهروى از ممكن وحدت بوزيد
حس وخاشاك تعين همه برباد ببرد
هره در عرصه امكان بوجود آمده بود
سيل عزت همه را تا عدم آباد ببرد
(5/257)
ولله عباد خوطبوا فصار كلهم اذناً وشهدوا فصار كلهم عيناً ووجدوا في الرحيل حتى حطوا الرحل عند الملك الجليل :
نظرت في الراحة الكبرى فلم أرها
تنال إلا على جنس من التعب
والجد منها بعيد في تطلبها
فكيف تدرك بالتقصير واللعب
قال الشيخ أبو الحسن المزين رحمه الله : دخلت البادية على التجريد حافياً حاسراً فخطر ببالي أنه ما دخل بهذه البادية في هذه السنة أحد أشد تجريداً مني فجذبني إنسان من ورائي وقال : يا حجام كم تحدث نفسك بالأباطيل فظهر أن الترك والتجرد والرجوع في الحق على مراتب ولكل سالك خطوة فلا يغتر أحد بحاله ولا يخطر العجب بباله.
وعن إبراهيم الخواص قدس سره قال : دخلت البادية فأصابتني شدة فكابدتها وصابرتها فلما دخلت مكة داخلني شيء من الإعجاب فنادتني عجوز من الطواف يا إبراهيم كنت معك في البادية فلم أكلمك لأني لم أرد أن أشغل سرك عنه أخرج هذا الوسواس عنك فظهر أن التوفيق للرجوع إلى الله
335
إنما هو من الله وكل كمال فبحوله وقوته ونصرته ومعونته.
جزء : 5 رقم الصفحة : 334
{وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ إِبْرَاهِيمَ} أي : اتل يا محمد على قومك في السورة أو القرآن قصة إبراهيم وبلغها إياهم كقوله تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} وذلك أن أهل الملل كانوا يعترفون بفضله ومشركو العرب يفتخرون بكونهم من أبنائه فأمر الله تعالى حبيبه عليه السلام أن يخبرهم بتوحيده ليقلعوا عن الشرك {إِنَّه كَانَ صِدِّيقًا} ملازماً للصدق في كل ما يأتي وما يذر مبالغاً فيه قائماً في جميع الأوقات {نَبِيًّا} خبر آخر لكان مقيد للأول مخصص له أي : كان جامعاً بين الصديقية والنبوة وذلك أن الصديقية تلو النبوة ومن شرطها أن لا يكون نبياً إلا وهو صديق وليس من شرط الصديق أن يكون نبياً.
ولأرباب الصدق مراتب صادق وصدوق وصديق فالصادق من صدق في قيامه مع الله بالله وفي الله وهو الفاني عن نفسه والباقي بربه.
والفرق بين الرسول والنبي أن الرسول من بعث لتبليغ الأحكام ملكاً كان أو إنساناً بخلاف النبي يفإنه مختص بالإنسان.
{إِذْ قَالَ} بدل من إبراهيم بدل الاشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها أي : اذكر وقت قوله : {لابِيهِ} آزر متلطفاً في الدعوة مسهلاً له يا اأَبَتِ} أي : يا أبي فإن التاء عوض عن ياء الإضافة ولذلك لا يجتمعان أي : لا يقال يا أبتي ولا يقال يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ} ثناءك وتضرعك له به عند عبادتك له وما عبارة عن الصور والتماثيل ولام الإضافة التي دخلت على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : بمَ ، وعلامَ ، وفيمَ ، وإلامَ ، وممَ ، وعمَ ، حذفت الألف لأن ما والحرف كشيء واحد وقل استعمال الأصل {وَلا يُبْصِرُ} خضوعك وخشوعك بين يديه {وَلا يُغْنِى عَنكَ} أي : لا يقدر على أن ينفعك {شَيْـاًا} لا في الدنيا ولا في الآخرة وهو مصدر أي : شيئاً من الإغناء وهو القليل منه أو مفعول به أي : ولا يدفع عنك شيئاً من عذاب الله تعالى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 335
يا اأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى} بطريق الوحي {مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى} ولا تستنكف عن التعلم مني {أَهْدِكَ} (ما بنماييم ترا) {صِرَاطًا سَوِيًّا} أي : مستقيماً موصلاً إلى أعلى المراتب منجياً من الضلال لم يشافهه بالجهل المفرط وإن كان في أقصاه ولم يصف نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل جعل نفسه في صورة رفيق له في مسير يكون أعرف وذلك من باب الرفق واللطف.
يا اأَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَـانَ} فإن عبادتك للأصنام عبادة له إذ هو الذي يزينها لك ويغريك عليها {إِنَّ الشَّيْطَـانَ كَانَ لِلرَّحْمَـانِ عَصِيًّا} ومن جملة عصيانه اباؤه عن السجدة ومعلوم أن طاعة العاصي تورث النقم وزوال النعم والتعرض لعنوان الرحمانية لإظهار كمال شناعة عصيانه.
يا اأَبَتِ إِنِّى أَخَافُ} إن مت على ما أنت عليه من متابعة الشيطان وعصيان الرحمن {إِنَّ} أي : من أن {يَمَسَّكَ} يصيبك.
وبالفارسية (بر سيد بتو) {عَذَابٌ} كائن {مِّنَ الرَّحْمَـانِ} وذلك الخوف للمجاملة {فَتَكُونَ} (س باشى) {لِلشَّيْطَـانِ وَلِيًّا} أي : قريناً له في اللعن المخلد أو قريباً تليه ويليك من الولي وهو القرب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 335
{قَالَ} استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال أبوه عندما سمع منه هذه النصائح الواجبة القبول فقيل قال مصراً على عناده {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِى يا اإِبْرَاهِيمُ} أي : أمعرض ومنصرف أنت عنها بتوجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجب كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن
336
(5/258)
العاقل فضلاً عن ترغيب الغير عنها قدم الخبر على المبتدأ للاهتمام الأولى كونه مبتدأ وأنت فاعله سد مسد الخبر لئلا يلزم الفصل بين الصفة وما يتعلق بها وهو عن كذا في "تفسير الشيخ".
{لَـاـاِن لَّمْ تَنتَهِ} والله لئن لم ترجع عما كنت عليه من النهي عن عبادتها {لارْجُمَنَّكَ} بالحجارة حتى تموت أو تبعد عني وقيل باللسان يعني : الشتم والذم ومنه الرجيم المرمي باللعن وأصل الرجم الرمي بالرجام بالكسر وهي الحجارة {وَاهْجُرْنِى} عطف على ما دل عليه لأرجمنك أي : فاحذرني واتركني {مَلِيًّا} أي : زماناً طويلاً سالماً مني ولا تكلمني من الملاوة وهو الدهر {قَالَ} إبراهيم وهو استئناف بياني.
جزء : 5 رقم الصفحة : 336
{سَلَـامٌ عَلَيْكَ} (سلام برتو يعنى ميروم ووداع ميكنم) فهو سلام مفارقة لا سلام لطف وإحسان لأنه ليس بدعاء له كقوله : {سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِى الْجَـاهِلِينَ} على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة ودل على جواز متاركة المنصوح إذا أظهر اللجاج.
والمعنى سلمت مني لا أصيبك بمكروه بعد ولا أشافهك بما يؤذيك ولكن {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} السين للاستقبال أو لمجرد التأكيد أي : استدعيه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديك إلى الإيمان كما يلوح به تعليل قوله : {وَاغْفِرْ لابِى} (الشعراء : 86) بقوله : {إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ} (الشعراء : 86) والاستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبيين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه وإنما المحظور استدعاؤه له مع بقائه على الكفر فإنه مما لا مساغ له عقلاً ولا نقلاً وأما الاستغفار له بعد موته على الكفر فلا يأباه قضية العقل وإنما الذي يمنعه السمع ألا يرى إلى أنه عليه السلام قال لعمه أبي طالب "لا أزال أستغفر لك ما لم أُنهَ عنه" فنزل قوله تعالى : {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} (التوبة : 113) الآية ولا اشتباه في أن هذا الوعد من إبراهيم وكذا قوله : {لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} (الممتحنة : 4) وما ترتب عليهما من قوله {وَاغْفِرْ لابِى} إنما كان قبل انقطاع رجائه عن إيمانه لعدم تبين أمره {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَه أَنَّه عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} (التوبة : 114) {إِنَّه كَانَ بِى حَفِيًّا} أي : بليغاً في البر والإلطاف يقال حفيت به بالغت وتحفيت في إكرامه بالغت.
{وَأَعْتَزِلُكُمْ} أي : أتباعد عنك وعن قومك بالمهاجرة بديني حيث لم يؤثر فيكم نصائحي {وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} أي : تبعدون {وَأَدْعُوا رَبِّى} أي : اعبده وحده {عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا} أي : بدعائي إياه خائباً ضائع السعي وفيه تعريض لشقائهم في عبادتهم آلهتهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 336
حاجت زكسى خواه كه محتاجا نرا
بى بهره نكرداند از انعام عميم
وفي تصدير الكلام بعسى إظهار التواضع ومراعاة حسن الأدب.
{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} بالمهاجرة إلى الشام.
قال في "تفسير الشيخ" : فارتحل من كوثي إلى الأرض المقدسة {وَهَبْنَا لَه إِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ} ابن إسحاق بدل من فارقه من أقربائه الكفرة لا عقيب المجاوزة والمهاجرة فإن المشهور أن الموهوب حينئذٍ إسماعيل لقوله : {فَبَشَّرْنَـاهُ بِغُلَـامٍ حَلِيمٍ} أثر دعائه بقوله : {رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّـالِحِينَ} (الصافاتت : 100) ولعل تخصيصهما بالذكر لأنهما شجرة الأنبياء أو لأنه أراد أن يذكر إسماعيل بفضل على انفراده {وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا} أي : كل واحد منهم جعلناه نبياً لا بعضهم دون بعض فكلاً مفعول أول لجعلنا قدم عليه للتخصيص لكن لا بالنسبة إلى من عداهم بل بالنسبة إلى بعضهم.
{وَوَهَبْنَا لَهُْم مِّن رَّحْمَتِنَا} كل خير ديني ودنيوي
337
مما لا يوهب لأحد من العالمين {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} ثناء حسناً رفيعاً فإن لسان الصدق هو الثناء الحسن على أن يكون المراد باللسان ما يوجد به من الكلام ولسان العرب وإضافته من إضافة الموصوف إلى الصفة أي : يفتخر بهم الناس ويثنون عليهم استجابة لدعوته بقوله : {وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ} (الشعراء : 84).
اعلم أن في الآيات إشارات :
منها : الرفق وحسن الخلق فإن الهادي إلى الحق يجب أن يكون رفيقاً فإن العنف يوجب إعراض المستمع وفي الحديث "أوحى الله إلى إبراهيم يا خليل حَسِّن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه بأن أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس وأدنيه من جواري" ، قال الصائب :
كذشت عمرو نكردى كلام خودرا نرم
ترا ه حاصل ازين آسياى دندانست
(5/259)
ومنها المتابعة قال أبو القاسم : الطريق إلى الحق المتابعة من علت مرتبته اتبع الكتاب ومن نزل عنهم اتبع الرسول عليه السلام ومن نزل عنهم اتبع الصحابة رضي الله عنهم ومن نزل عنهم اتبع أولياء الله والعلماء بالله وأسلم طرق إلى الله الطريق الاتباع لأن سهل بن عبد الله قال : أشد ما على النفس الاقتداء فإنه ليس للنفس فيه نفس ولا راحة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 336
ومنها العزلة قال أبو القاسم : من أراد السلامة في الدنيا والآخرة ظاهراً وباطناً فليعتزل قرناء السوء وأخدان السوء ولا يمكنه ذلك إلا بالالتجاء والتضرع إلى ربه في ذلك ليوفقه لمفارقتهم فإن المرء مع من أحب.
قال بعض الكبار : العزلة سبب لصمت اللسان فمن اعتزل عن الناس لم يجد من يحادثه فأداه ذلك إلى صمت اللسان وهي على قسمين : عزلة المريدين بالأجسام عن الأغيار وعزلة المحققين بالقلوب عن الأكوان فليست قلوبهم محالاً لغير علم الله الذي هو شاهده الحاصل فيها من المشاهدة ونية أهل العزلة إما اتقاء شر الناس وإما اتقاء شره المتعدي إليهم وهو أرفع من الأول إذ سوء الظن بالنفس أولى من سوء الظن بالغير وإما إيثار صحبة المولى على صحبة السوى فأعلى المعتزلين من اعتزل عن نفسه إيثاراً لصحبة ربه فمن آثر العزلة على المخالطة فقد آثر ربه على غيره ولم يعرف أحد ما يعطيه الله من المواهب والأسرار والعزلة تعطي صمت اللسان لا صمت القلب إذ قد يتحدث المرء في نفسه بغير الله ومع غير الله فلهذا جعل الصمت ركناً برأسه من أركان الطريق وحال العزلة التنزيه عن الأوصاف سالكاً كاد المعتزل يكون صاحب يقين مع الله تعالى حتى لا يكون له خاطر متعلق بخارج بيت عزلته والهجرة سبب للعزلة عن الأشرار من هاجر في طلب رضى الله أكرمه الله في الدنيا والآخرة.
فعلى العاقل أن يجتهد في تحصيل الرضى بالهجرة والخلوة والعزلة ونحوها ، قال الصائب :
در مشرب من خلوت اكر خلوت كوراست
بسيار به از صحبت ابناى زمانست
ومنها : أن من فارق محبوبه ابتغاء لمرضاة الله تعالى فإن الله تعالى يجعل له بدلاً خيراً من ذلك وأحب فيأنس به ويتوحش عما ألف به فيما مضى فيحصل الحل والعقد على مراد الله اللهم اجعلنا من المنقطعين إليك والمستوحشين عما سواك والسالكين إلى سبيل الفناء والطالبين لرضاك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 336
{وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ مُوسَىا} قدم ذكره على إسماعيل لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب
338
{إِنَّه كَانَ مُخْلَصًا} أخلصه الله من الادناس والنقائص ومما سواه وهو معنى الفتح الموافق للصديق فإن أهل الإشارة قالوا : إن الصادق والمخلص بالكسر من باب واحد وهو التخلص من شوائب الصفات النفسانية مطلقاً والصديق والمخلص بالفتح من باب واحد وهو التخلص أيضاً من شوائب الغيرية.
قال في "التأويلات النجمية" : اعلم أن الإخلاص في العبودية مقام الأولياء فلا يكون ولي إلا وهو مخلص ولا يكون كل مخلص ولياً ولا يكون رسولاً إلا وهو نبي ولا يكون كل نبي رسولاً والمخلص بكسر اللام من أخلص نفسه في العبودية بالتزكية عن الأوصاف النفسانية الحيوانية والمخلص بفتح اللام من أخلصه الله بعد التزكية بالتحلية بالصفات الروحانية الربانية كما قال النبي عليه السلام : "من أخلصأربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" وقال تعالى : "الإخلاص سرّ بيني وبين عبدي لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل أنا الذي أتولى تحلية قلوب المخلصين بتجلي صفات جمالي وجلالي لهم" وفي الحقيقة لا تكون العبودية مقبولة إلا من المخلصين لقوله تعالى : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة : 5) ولإخلاص المخلصين مراتب أدناها أن تكون العبوديةخالصة لا يكون لغير الله فيها شركة وأوسطها أن يكون العبد مخلصاً في بذل الوجودإلى الله وأعلى درجة المخلصين أن يخلصهم من حبس وجودهم بأن يفنيهم عنهم ويبقيهم بوجوده {وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا} أرسله الله إلى الخلق فأنبأهم عنه ولذلك قدم رسولاً مع كونه أخص وأعلى.
يقول الفقير : تأخير نبياً لأجل الفواصل.
{وَنَـادَيْنَـاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الايْمَنِ} الطور جبل بين مصر ومدين والأيمن في الأصل خلاف الأيسر أي : جانب اليمن وهو صفة للجانب أي : ناديناه من ناحيته اليمنى وهي التي تلي يمين موسى إذ لا يمين للجبل ولا شمال أو من جانبه الميمون من اليمن ومعنى ندائه منه أنه تمثل له الكلام من تلك الجهة.
وقال في "الجلالين" : أقبل من مدين يريد مصر فنودي من الشجرة وكانت في جانب الجبل على يمين موسى {وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا} تقريب تشريف مثل حاله بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته حيث كلمه بغير واسطة ملك ونجياً أي : مناجياً حال من أحد الضميرين في ناديناه والمناجاة (راز كفتن) كما في "التهذيب" يقال ناجاه مناجاة ساره كما في "القاموس".
جزء : 5 رقم الصفحة : 338
(5/260)
{وَوَهَبْنَا لَه مِن رَّحْمَتِنَآ} أي : من أجل رحمتنا ورأفتنا به {أَخَاهُ هَـارُونَ} أخاه مفعول وهبنا وهارون عطف بيان لأخاه {نَبِيًّا} حال منه ليكون معه وزيراً معيناً كما سأل ذلك ربه فقال : {وَاجْعَل لِّى وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِى} (طه : 29) فالهبة على ظاهرها كما في قوله : {وَوَهَبْنَا لَه إِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ} (مريم : 49) فإن هارون كان أسن من موسى فوجب الحمل على المعاضدة والموازرة (صاحب كشف الأسرار كويد حضرت موسى عليه السلام را هم روش بود وهم كشش اشارت بروش او {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى} (الأعراف : 143) عبارت از كشش او {وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا} سالك تا در روش است خطر دارد وون كشش در رسيد خطر را باوكار نيست يعنى در سلوك شوب تفرقه هست وجذبه محض جمعيت است :
با خود روى بيحاصلى ون او كشيدت واصلى
رفتن كجا بردن كجا اين سر ربانيست اين
قال المولى الجامي :
339
سالكان بى كشش دوست بجايى نرسند
سالها كره درين راه تك ووى كنند)
وفي "التأويلات النجمية" : قوله : {وَوَهَبْنَا لَه مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَـارُونَ نَبِيًّا} يشير إلى أن النبوة ليست بكسبية بل هي من مواهب الحق تعالى يهب لمن يشاء النبوة ويهب لمن يشاء الرسالة من رحمته وفضله لا من كسبهم واجتهادهم على أن توفيق الكسب والاجتهاد أيضاً من مواهب الحق تعالى وفيه إشارة إلى أن موسى عليه السلام أشد اختصاصاً بالقربة والقبول عند الله تعالى حتى يهب أخاه هرون النبوة والرسالة بشفاعته والعجب أن الله تعالى يهب النبوة والرسالة بشفاعة موسى عليه السلام وأنه يهب الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلّم لقوله : "الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم عليه السلام" اللهم اجعلنا من المستسعدين بشفاعته واحشرنا تحت لوائه ورايته.
جزء : 5 رقم الصفحة : 338
{وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ إِسْمَـاعِيلَ} فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه لإبراز كمال الاعتناء بأمره بإيراده مستقلاً أي : واتل على قومك يا محمد في القرآن قصة جدك إسماعيل وبلغها إليهم {إِنَّه كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} فيما بينه وبين الله وكذا بين الناس.
قال في "التأويلات النجمية" : فيما وعد الله بأداء العبودية انتهى.
والوعد عبارة عن الأخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها وإيراده بهذا الوصف لكمال شهرته به واتصاله بأشياء في هذا الباب لم تعهد من غيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إسماعيل عليه السلام وعد صاحباً له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة :
نيست بر مردم صاحب نظر
صورتى از صدق ووفا خوبتر
وناهيك أنه وعد الصبر على الذبح فوفى حيث قال : {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّـابِرِينَ} (الصافات : 102) وفيه حث على صدق الوعد والوفاء به والأصل فيه نيته لقوله عليه السلام : "إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف ولم يجىء للميعاد فلا إثم عليه".
واعلم أن الله تعالى أثنى على إسماعيل بكونه صادق والوعد إشارة إلى أن الثناء إنما يتحقق بصدق الوعد وإتيان الواعد بالموعود لا بصدق الوعيد وإتيان المتوعد مما توعد به إذ لا يثني عقلاً وعرفاً على ما يصدر منه الآفات والمضرات بل على من يصدر منه الخيرات والمبرات ومن هذا ذهب بعض العلماء إلى الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى دون الوعد صرحه الإمام الواحدي في "الوسيط" في قوله تعالى في سورة النساء {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُه جَهَنَّمُ} الآية وفي الحديث : "من وعد لأحد على عمله ثواباً فهو منجز له ومن أوعده على عمله عقاباً فهو بالخيار" والعرب لا تعد عيباً ولا خلفاً أن يعد أحد شراً ثم لا يفعله بل ترى ذلك كرماً وفضلاً كما قيل :
وإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقيل :
إذا وعد السرّاء نجز وعده
وإن أوعد الضراء فالعقل مانعه
وأحسن يحيى بن معاذ في هذا المعنى حيث قال الوعد والوعيد حق فالوعد حق العباد على ما ضمن لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم كذا ومن أولى بالوفاء من الله والوعيد حقه على العباد قال : لا تفعلوا كذا فأعذبكم ففعلوا فإن شاء عفا وإن شاء آخذ لأنه حقه وأولاهما العفو ولكرم لأنه غفور رحيم كذا في "شرح العضد" للجلال الدواني {وَكَانَ رَسُولا} أرسله الله تعالى
340
إلى جرهم وإلى العماليق وإلى قبائل اليمن في زمن أبيه إبراهيم عليهما السلام.
قال في "القاموس" : جرهم كقنفذ حي من اليمن تزوج فيهم إسماعيل {نَبِيًّا} يخبر عن الله وكان على شريعة أبيه إبراهيم ولم يكن له كتاب أنزل إليه بإجماع العلماء وكذا لوط وإسحاق ويعقوب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 340
(5/261)
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} الخاص وهو من اتصل به بجهة الزوجية والولاد والعام وهو من اتصل به بجهة الدعوة وهم قومه ويجوز أن يرجح الأول لأن الأهم أن يقبل الرجل بالتكميل على نفسه ومن هو أقرب الناس إليه قال تعالى : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ} (الشعراء : 214) {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ} (طه : 214) {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (التحريم : 6) فإنهم إذا صلحوا صلح الكل وتزيي بزيهم في الخير والصلاح {بِالصَّلَواةِ} التي هي أشرف العبادات البدنية {وَالزَّكَواةِ} التي هي أفضل العبادات المالية.
وفيه إشارة إلى أن من حق الصالح أن ينصح للأقارب والأجانب ويحظيهم بالفوائد الدينية :
اى صاحب كرامت شكرانه سلامت
روزى تفقدي كن درويش بى نوارا
{وَكَانَ عِندَ رَبِّه مَرْضِيًّا} في الأقوال والأفعال والأحوال.
وفي "الجلالين" : مرضياً لأنه قد قام بطاعته انتهى :
اى مرد اكرت رضاء دلبر بايد
آن بايد كرد هره او فرمايد
كر كويد خون كرى مكو ازه سبب
وركويد جان بده مكوكه نايد
وعن بعض الصالحين أنه قال : نزل عندي أضياف وعلمت أنهم من أبدال فقلت لهم : أوصوني بوصية بالغة حتى أخاف الله قالوا : نوصيك بستة أشياء : أولها : من كثر نومه فلا يطمع في رقة قلبه.
ومن كثر أكله فلا يطمع في قيام الليل.
ومن اختار صحبة ظالم فلا يطمع في استقامة دينه.
ومن كان الكذب والغيبة عادته فلا يطمع في أن يخرج من الدنيا مع الإيمان.
ومن كثر اختلاطه بالناس فلا يطمع في حلاوة العبادة.
ومن طلب رضى الناس فلا يطمع في رضى الله تعالى.
واعلم أن المرضي المطلق هو الإنسان الكامل الجامع لجميع الكمالات المحيط بحقائق جميع الأشياء والصفات وأما من دونه فمرضى بوجه دون وجه وعلى حال دون حال نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أهل الرضى واليقين والسكون والتمكين آمين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 340
{وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ إِدْرِيسَ} هو جد أبي نوح فإن نوحاً بن لمك بن متوشلخ بن اخنوخ وهو إدريس النبي عليه السلام ابن يرد بن مهلاييل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم ولد وآدم حي قبل أن يموت بمائة سنة كذا في "روضة الخطيب".
وقال الكاشفي : (در جامع الأصول آورده كه ادريس بصد سال بعد ازوفات آدم متولد شده) هو أول من وضع الميزان والمكيال وأول من اتخذ السلاح وجاهد في سبيل الله وسبى واسترق بني قابيل وأول من خط بالقلم ونظر في علم الحساب والنجوم وأول من خاط الثياب وكانوا يلبسون الجلود وأول من لبس ثوب القطن واشتقاقه من الدرس يمنعه منع صرفه نعم لا يبعد أن يكون في تلك اللغة قريباً من ذلك فلقب به لكثرة دراسته إذ روى أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة {إِنَّه كَانَ صِدِّيقًا} ملازماً للصدق في جميع أحواله {نَبِيًّا} خبر آخر لكان مخصص للأول إذ ليس كل صديق نبياً.
قال عباس بن عطاء : أدنى منازل المرسلين أعلى مراتب النبيين وأدنى مراتب النبيين أعلى مرتب الصديقين
341
وأدنى مراتب الصديقين أعلى مراتب المؤمنين.
{وَرَفَعْنَـاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} وهو السماء الرابعة فإن النبي عليه السلام رأى آدم ليلة المعراج في السماء الدنيا ويحيى وعيسى في الثانية ويوسف في الثالثة وإدريس في الرابعة وهارون في الخامسة وموسى في السادسة وإبراهيم في السابعة.
واختلف القائلون بأنه في السماء أهو حي فيها أم ميت فالجمهور على أنه حي وهو الصحيح وقالوا : أربعة من الأنبياء في الأحياء اثنان في الأرض وهما الخضر والياس واثنان في السماء إدريس وعيسى كما في "بحر العلوم".
قال الكاشفي : (در رفع ادريس اخبار متنوعه هست ابن عباس فرمودكه روزى ادريس را حرارت آفتاب غلبه كرد مناجات كردكه الهى باوجود اين مقدار بعدكه ميان من وآفتاب هست ازحرارت او باحتراق نزديك شدم آيا آن فرشته كه حامل اوست ه حال داشته باشد خدايا بار آفتاب وشدت بروسبك كردان واورا ازتاب حرارت آفتاب درسايه عنايت خود محفوظ دار :
جزء : 5 رقم الصفحة : 341
ازتاب آفتاب حوادث ه غم خورد
آنرا كه سائبان عنايت ناه اسوت
(5/262)
حق سبحانه وتعالى دعاى أو مستجاب فرمود روز ديكر آن فرشته كه حامل آفتابست خودرا سبكبار يافت وتأثيرى ازحرارت او فهم نكرد سبب آنرا از حضرت عزت استدعا نمود خطاب رسيدكه بنده من ادريس در حق تو دعا كرده ومن اجابت كردم آن فرشته اجازت خواست كه بزيارت ادريس آيد اجازت يافت وبرزمين آمد وبالتماس ادريس اورا به ر بافر خود نشانيده بآسمان بردو نزديك مطلع آفتاب رسانيده وباستدعاى ادريس ادريس كميت عمرو كيفيت اجل وى از ملك الموت رسيد وعزرائيل درديون اعمار نكاه كرده فرمود كه حكم الهى درباره اين كس كه توميكويى آنست كه حالى نزديك مطلع آفتاب متوفى شود وون آن فرشته باز آمد ادريس را يافت نقد جان بخازن اجل سرده طوطى روحش بشكرستان قدس يرواز كرده.
وروايتي ديكر آنست كه ملك الموت از كثرت طاعت ادريس مشتاق ديدارش شد وباذن حق تعالى برزمين آمده ويرادريافت وبامر الهى بالتماس ادريس جانش برداشت وباز حق سبحانه جانش داد وعزرائيل اورا بآسمان برد ودوزخ بدو نمود واز آنجا ببهشت رفت وديكر بيرون نيامد) فالآية دلت على رفعته وعلى علو مكانه وهو فلك الشمس أما رفعته فبتبعية مكانه وأما علو مكانه فوجهين : أحدهما باعتبار ما تحته من الكرات الفلكية والعنصرية وثانيهما باعتبار المرتبة بالنسبة إلى جميع الأفلاك وذلك أن فلك الشمس تحته سبعة أفلاك : فلك الزهرة ، وفلك عطارد ، وفلك القمر ، وكرة الأثير أي : النار ، وكرة الهواء ، وكرة الماء ، وكرة التراب ، وفوقه سبعة أفلاك أيضاً : فلك المريخ ، وفلك المشتري ، وفلك زحل ، وفلك الثوابت ، والفلك الأطلس ، وفلك الكرسي ، وفلك العرش ، فأعلى الأمكنة بالمكانة والمرتبة فلك الشمس الذي هو قطب الأفلاك إذ الفيض إنما يصل من روحانيته إلى سائر الأفلاك كما أن من كوكبه يتنور الأفلاك جميعاً وذلك كما يقال على القلب يدور البدن أي : منه يصل الفيض إلى سائر البدن وفي فلك الشمس مقام روحانية إدريس كما يشعر به حديث المعراج.
وفي "التأويلات النجمية" : المكان العلي فوق المكونات عند المكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر انتهى.
وقد أعطى الله تعالى للمحمديين علو المكانة لكن العبد لا يتصور
342
أن يكون علياً مطلقاً إذ لا ينال درجة إلا ويكون في الوجود ما هو وفقها وهي درجات الأنبياء والملائكة نعم يتصور أن ينال درجة لا يكون في جنس الإنس من يفوقه وهي درجة نبينا عليه السلام ولكنه قاصر بالإضافة إلى العلو المطلق لأنه علو بالإضافة إلى بعض الموجودات والآخر علو بالإضافة إلى الوجود لا بطريق الوجوب بل يقارنه إمكان وجود إنسان فوقه فالعلى المطلق هو الذي له الفوقية بالإضافة وبحسب الوجوب لا بحسب الوجود الذي يقارنه إمكان نقيضه ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 341
دست بر بالاى دست اين تاكجا
تا بيزدان كه اليه المنتهى
كان يكى درياست بى غور وكران
جمله درياها وسيلى يش آن
حيلها وارها كر ادهاست
يش الا الله إنها جملة لاست
فعلى العامة أن لا يلتفتوا إلى العلو الإضافي الحاصل من بعض الرياسات كالقضاء والتدريس والإمامة والإمارة ونحوها وعلى الخاصة أن لا ينظروا إلى العلو الاعتباري الحاصل من بعض المقامات كالأفعال والصفات فإن الكمال الحقيقي هو الترقي من كل إضافة فانية وعلاقة زائلة والتجرد من ملابس كل كون حادث صورة ومعنى ألا ترى إلى حال أصحاب الصفة رضي الله عنهم نسأل الله تعالى أن لا يجعلنا من المفتخرين بغيره.
(5/263)
{أولئك} إشارة إلى المذكورين في هذه السورة من زكريا إلى إدريس وهو مبتدأ خبره قوله {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} بأنواع النعم الدينية والدنيوية وأصناف المواهب الصورية والمعنوية وقد أشير إلى بعض ما يخص كلاً منهم {مِّنَ النَّبِيِّـانَ} بيان للموصول ونظيره في سورة الفتح {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً} (الفتح : 29) {مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ} بدل منه بإعادة الجار يقال ذرأ الشيء كثر ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين كما في "القاموس" {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي : ومن ذرية من حملنا معه في سفينته خصوصاً وهم من عدا إدريس فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح {وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} وهم الباقون {وَإِسْرَاءِيلَ} عطف على إبراهيم أي : ومن ذرية إسرائيل أي : يعقوب وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى.
وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية لأن عيسى من مريم وهي من نسل يعقوب {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ} أي : ومن جملة من هديناهم إلى الحق واصطفيناهم للنبوة والكرامة قالوا من فيه للتبيين إن عطف على من النبيين وللتبعيض إن عطف على ومن ذرية آدم {إِذَا تُتْلَى} تقرأ {عَلَيْهِم} على هؤلاء الأنبياء {الرَّحْمَـانِ خَرُّوا} أي : آيات الترغيب والترهيب في كتبهم المنزلة {خَرُّوا} سقطوا على الأرض حال كونهم {سُجَّدًا} ساجدين جمع ساجد {وَبُكِيًّا} باكين جمع باك وأصله بكويا والمعنى أن الأنبياء قبلكم مع مالهم من علو الرتبة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله تعالى كانوا يسجدون ويبكون لسماع آيات الله فكونوا مثلهم وفي الحديث "اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا" يقال تباكى فلان إذا تكلف البكاء أي : إن لم تبك أعينكم فلتبك قلوبكم يعني تحزنوا عند سماع القرآن فإن القرآن نزل بحزن على المحزونين.
قال الكاشفي : (كلام دوست مهيج شوقست ون آتش شوق بركانون دل بر افروخته كردد ازديده
343
خون ريختن كيرد :
جزء : 5 رقم الصفحة : 341
اى دريغا اشك من دريابدى
تانثار دلبر زيبا بدى
اشك كان ازبهر آن بارند خلق
كوهرست واشك ندارند خلق)
قال في "التأويلات النجمية" : {خَرُّوا} بقلوبهم على عتبة العبودية {سُجَّدًا} بالتسليم للأحكام الأزلية {وَبُكِيًّا} بكاء السمع بذوبان الوجود على نار الشوق والمحبة انتهى.
قالوا : ينبغي أن يدعو الساجد في سجدته بما يليق بآياتها فههنا يقول : "اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهديين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك" وفي آية الإسراء "اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك" وفي آية تنزيل السجدة يقول : "اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك".
قال الكاشفي : (اين سجده نجمست از سجدات كلام الله حضرت شيخ قدس سره اين سجده راكه بجهت تلاوت آيات رحمانى مى بايد سجود انعام عام كفته وكريه كه متفرع براوست انرا كريه فرح وسرور ميداند ه رحمت رحما نيست مقتضى لطف ورأفت است وموجب بهجت ومسرت س نتيجه او طربست نه اندوه وتعب).
جزء : 5 رقم الصفحة : 341
{فَخَلَفَ مِنا بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} يقال لعقب الخير خلف بفتح اللام ولعقب الشر خلف بالسكون أي : فعقب الأنبياء المذكورين وجاء بعدهم عقب سوء من أولادهم.
وفي "الجلالين" بقي من بعد هؤلاء قوم سوء يعني اليهود والنصارى والمجوس انتهى.
وفي الحديث "ما من نبي بعثه الله في أمة إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" ذكره مسلم {أَضَاعُوا الصَّلَواةَ} تركوها أو أخروها عن وقتها أو ضيعوا ثوابها بعد الأداء بالنميمة والغيبة والكذب ونحوها أو شرعوا فيها بلا نية وقاموا لها بلا خضوع وخشوع {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} من شرب الخمر واستحلال نكاح الأخت من الأب والانهماك في فنون المعاصي.
وعن علي رضي الله عنه هم من بنى المشيد وركب المنظور ولبس المشهور وفي الحديث "أوحى الله إلى داود مثل الدنيا كمثل جيفة اجتمعت عليها الكلاب يجرونها أفتحب أن تكون كلباً مثلهم فتجر معهم يا داود طيب الطعام ولين اللباس والصيت في الناس والجنة في الآخرة لا يجتمعان أبداً".
(5/264)
واعلم أن تيسير أسباب الشهوات ليس من أمارة الخير وعلامة النجاة في الآخرة ومن ثمة امتنع عمر رضي الله عنه من شرب ماء بارد بعسل وقال : اعزلوا عني حسابها.
وقال وهب بن منبه : التقى ملكان في السماء الرابعة فقال أحدهما للآخر : من أين؟ فقال : أمرت بسوق حوت من البحر اشتهاه فلان اليهودي وقال الآخر : أمرت بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد والشهوة في الأصل التمني ومعناها بالفارسية (آرزو خواستن) والمراد بها في الآية المشتهيات المذمومة.
والفرق بين الهوى والشهوة أن الهوى هو المذموم من جملة الشهوات والشهوة قد تكون محمودة وهي من فعل الله تعالى وهي ما يدعو الإنسان إلى الصلاح وقد تكون
344
مذمومة وهي من فعل النفس الأمارة بالسوء وهي استجابتها لما فيه لذاتها البدنية ولا عبادةأعظم وأشرف من مخالفة الهوى والشهوات وترك اللذات ، قال الشيخ سعدي :
جزء : 5 رقم الصفحة : 344
مبر طاعت نفس شهوت يرست
كه هر ساعتش قبله ديكرست
مرو درى هره دل خواهدت
كه تمكين تن نورجان كاهدت
كند مردرا نفس اماره خوار
اكر هو شمندى عزيزش مدار
{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} أي : شراً فإن كل شر عند العرب غي فكل خير رشاد.
وعن الضحاك جزاء غي كقوله تعالى {يَلْقَ أَثَامًا} (الفرقان : 68) أي : جزاء أثام.
وقيل غي واد من جهنم يستعيذ من حره أوديتها أعد للزاني وشارب الخمر وآكل الربا وشاهد الزور ولأهل العقوق وتارك الصلاة.
{إِلا مَن تَابَ} رجع من الشرك والمعاصي {وَءَامَنَ} اختيار الإيمان مكان الكفر {وَعَمِلَ صَـالِحًا} بعد التوبة والندم فأولئك المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} بموجب الوعد المحتوم {وَلا يُظْلَمُونَ} لا ينقصون من جزاء أعمالهم {شَيْـاًا} ولا يمنعونه فالظلم بمعنى النقص والمنع وشيئاً مفعوله ويجوز أن يكون شيئاً في موضع المصدر أي : ولا يظلمون البتة شيئاً من الظلم.
{جَنَّـاتِ عَدْنٍ} بدل من الجنة بدل البعض لأن الجنة تشتمل على جنات عدن وما بينهما اعتراض وجنات عدن علم لجنة مخصوصة كشهر رمضان وقد يحذف المضاف حيث يقال جاء رمضان وقيل جنات عدن علم لدار الثواب جميعها والعدن الإقامة وهو الأنسب بمثل هذا المقام فإن جنة عدن المخصوصة وجنة الفردوس لا يدخلهما العوام بالأصالة لأنهما مقام المقربين {الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَـانُ عِبَادَهُ} أي : وعدها إياهم ملتبسة {بِالْغَيْبِ} أي : وهي غائبة عنهم غير حاضرة أو غائبين عنها لا يرونها وإنما آمنوا بها بمجرد الاخبار والتعرض لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدها وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى.
وفي الإضافة إشارة إلى أن المراد من يعبده مخلصاً له في العبودية لا يعبد الدنيا والنفس والهوى إذ كمال التشريف بالإضافة إنما يحصل بهذا المعنى فله جنة عدن المخصوصة {إِنَّهُ} أي : الله تعالى {كَانَ وَعْدُهُ} أي : موعوده الذي هو الجنة {مَأْتِيًّا} أي : يأتيه من وعد له لا محالة بغير خلف فالمأتي بمعنى المفعول من الإتيان أو بمعنى الفاعل أي : جائياً ألبتة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 344
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا} في تلك الجنات {لَغْوًا} أي : فضول كلام لا طائل تحته وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها.
وفيه تنبيه على أن اللغو مما ينبغي أن يجتنب عنه في هذه الدار ما أمكن {إِلا سَلَـامًا} استثناء منقطع أي : لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم أو تسليم بعضهم على بعض {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً} (بامداد) {وَعَشِيًّا} (شبانكاه) والمراد دوام الرزق كما يقال أنا عند فلان صباحاً ومساء يراد الدوام منه وقيل يؤتى طعامهم على مقدار البكرة والعشي إذ لا نهار ثمة ولا ليل بل هم في نور أبداً وإنما وصف الله الجنة بذلك لأن العرب لا تعرف من العيش أفضل من الرزق بالبكرة والعشي.
قال الإمام في تفسيره فإن قيل المقصود من الآيات وصف الجنة بأمور مستعظمة وليس وصول الرزق بكرة وعشياً منها قلنا قال الحسن : أراد أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة ولبس
345
الحرير الذي كان عادة العجم والأرائك التي كانت عادة أشراف اليمن ولا شيء أحب إلى العرب من الغداء والعشاء.
قال في "التأويلات النجمية" : {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا} من رؤية الله تعالى {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} كما جاء في الخبر : "وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشياً" انتهى.
(5/265)
{تِلْكَ} إشارة إلى الجنة المذكورة المتقدمة يريد تلك التي بلغك وصفها وسمعت بذكرها {الْجَنَّةُ} قال في "الإرشاد" : مبتدأ وخبر جيء به لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها ويجوز أن يكون الجنة صفة للمبتدأ الذي هو اسم الإشارة وخبره قوله : {الَّتِى نُورِثُ} أي : نورثها ونعطيها بغير إختيار الوارث {مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} مجتنباً عن الشرك والمعاصي مطيعاًأي : نبقيها عليهم بتقواهم ونمتعهم بها كما نبقي على الوارث مال مورثه ونمتعه به.
قال في "الأسئلة المقحمة" : كيف قال نورث والميراث ما انتقل من شخص إلى شخص والجواب أن هذا على وجه التشبيه أراد أن الأعمال سبب لها كالنسب ملك بلا كسب ولا تكلف وكذا الجنة عطاء من الله ورحمة منه خلافاً للقدرية انتهى.
والوراثة أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من حيث أنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع ولا إبطال ولا إسقاط.
قال في "الأشباه" : لو قال الوراث تركت حقي بطل حقه انتهى.
وقيل يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا وأطاعوا زيادة في كرامتهم.
قال المولى الفناري في تفسير الفاتحة : اعلم أن الجنات ثلاث :
جزء : 5 رقم الصفحة : 344
الأولى جنة اختصاص إلهي وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا حد العمل وحدهم من أول ما يولد إلى أن يستهل صارخاً إلى انقضاء ستة أعوام ويعطي الله من شاء من عباده من جنات الاختصاص ما شاء ومن أهلها المجانين الذين ما عقلوا ومن أهلها أهل التوحيد العلمي ومن أهلها أهل الفترات ومن لم تصل إليهم دعوة رسول.
والجنة الثانية : جنة ميراث ينالها كل من دخل الجنة ممن ذكرنا من المؤمنين وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها.
والجنة الثالثة : جنة الأعمال وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر سواء كان الفاضل بهذه الحال دون المفضول أو لم يكن فما من عمل إلا وله جنة يقع التفاضل فيها بين أصحابها ورد في الحديث الصحيح عن النبي عليه السلام أنه قال لبلال : "يا بلال بمَ سبقتني إلى الجنة فما وطئت منها موضعاً إلا سمعت خشخشتك أمامي" فقال : يا رسول الله ما أحدثت قط إلا توضأت وما توضأت إلا صليت ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "بهما" فعلمنا أنها كانت جنة مخصوصة بهذا العمل فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم ومكروه إلا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص يناله من دخلها ومن الناس من يجمع في الزمن الواحد أعمالاً كثيرة فيصرف سمعه وبصره ويده فيما ينبغي في زمان صومه وصدقته بل في زمان صلاته في زمان ذكره في زمان نيته من فعل وترك فيؤجر في الزمن الواحد من وجوه كثيرة فيفضل غيره ممن ليس له ذلك نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الطاعة.
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} .
قال مجاهد : أبطأ الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أتاه فقال له عليه السلام : "ما حبسك يا جبرائيل" قال : وكيف آتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تأخذون شواربكم ولا تنقون براجمكم ولا تستاتكون ثم قرأ
346
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} كما في "أسباب النزول" و"سفينة الأبرار" وفي الحديث : "نقوا براجمكم" وهي مفاصل الأصابع والعقد التي على ظهرها يجتمع فيها الوسخ واحدها برجمة وما بين العقدتين يسمى راجبة والجمع رواجب وذلك مما يلي ظهرها وهو قصبة الأصبع فلكل أصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الإبهام فإن له برجمة وراجبتين فأمر بتنقيته لئلا يدرن فيبقى فيه الجنابة ويحول الدرن بين الماء والبشرة ذكره القرطبي.
وقال بعض المفسرين : هو حكاية لقول جبريل حين استبطأه رسول الله لما سئل عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فلم يدر كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه فأبطأ عليه أربعين يوماً أو خمسة عشر فشق عليه ذلك مشقة شديدة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه فلما نزل ببيان ذلك قال له : "أبطأت عليّ حتى ساء ظني واشتقت إليك" فقال جبريل : إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فأنزل الله هذه الآية وسورة والضحى.
والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع للتنزيل والمعنى قال الله لجبريل : قل لمحمد وما نتنزل وقتاً غب وقت إلا بأمر الله على تقتضيه حكمته.
جزء : 5 رقم الصفحة : 344
{لَهُ} أي : بالاختصاص {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} من الأمور الأخروية الآتية {وَمَا خَلْفَنَا} من الأمور الدنيوية الماضية {وَمَا بَيْنَ ذَالِكَ} ما بين ما كان وما سيكون أي : من هذا الوقت إلى قيام الساعة.
(5/266)
وفي "التأويلات النجمية" : {لَه مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} من التقدير الأزلي {وَمَا خَلْفَنَا} من التدبير الأبدي {وَمَا بَيْنَ ذَالِكَ} من أزل إلى الأبد انتهى.
ونظيره قوله تعالى : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} (البقرة : 255) {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (فر اموشكار يعنى ازحال تو آكاهست هركاه كه خواهد مارا بتوفرستد).
قال أهل التفسير فعيل بمعنى فاعل من النسيان بمعنى الترك أي : تاركاً لك كما زعمت الكفرة وإن تأخر عنك الوحي لمصلحة أو بمعنى نقيض الذكر الذي هو الغفلة أي : غافلاً عنك.
{رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} خبر مبتدأ محذوف أي : هو مالكهما {وَمَا بَيْنَهُمَا} من الخلق فكيف يجوز النسيان على الرب {فَاعْبُدْهُ} أي : إذا كان هو الرب فأثبت على عبادته يا محمد والعبادة قيام العبد بما تعبد به وتكلف من امتثال الأوامر والنواهي.
وفي "التأويلات النجمية" : {فَاعْبُدْهُ} بجسدك ونفسك وقلبك وسرك وروحك فعبادة جسدك إياه بأركان الشريعة وهي الائتمار بما أمرك الله به والانتهاء عما نهاك الله عنه وعبادة نفسك بآداب الطريقة وهي ترك موافقة هواها ولزوم مخالفة هواها وعبادة القلب والإعراض عن الدنيا وما فيها والإقبال على الآخرة ومكارمها وعبادة السر خلوه عن تعلقات الكونين اتصالاً بالله تعالى ومحبة وعبادة الروح ببذل الوجود لنيل الشهود {وَاصْطَبِرْ لِعِبَـادَتِهِ} أي : اصبر لمشاقها ولا تحزن بإبطاء الوحي واستهزاء الكفرة وشماتتهم بك فإنه يراقبك ويراعيك ويلطف بك في الدنيا والآخرة.
وتعدية الاصطبار باللام لا بحرف الاستعلاء كما في قوله {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (طه : 132) لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما تورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمبارز اصطبر لقرنك أي : اثبت له فيما يورد عليك من شدائده وحملاته {هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا} السمي الشريك في الاسم والمثل والشبيه أي : مثلاً يستحق أن يسمى إلهاً وإنما قيل للمثل سمي لأن كل متشاكلين يسمى كل واحد منهما باسم المثل والشبيه والنظير وكل واحد منهما سمي لصاحبه أو أحداً يسمي الله غيره فإن المشركين
347
مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلاً والمراد بإنكار العلم ونفيه إنكار المعلوم ونفيه أي : لا يكون ولم يكن ذلك.
قال الكاشفي : (يكى از آثار سطوت آلهي آن بودكه هي كس ازاهل شرك معبود خودرا الله نكفته اند عزت احديت وغيرت الوهيت اين اسم سامى را از تصرف كفار وتسميه ايشان در حصن حصين امان محفوظ داشت وزبان اهل ايمانرا در نعمت ومحنت وسرا وضرا بتكرر آن نام نامى جارى ساخت) :
جزء : 5 رقم الصفحة : 344
الله الله ه طرفه نامست اين
حرزدل وردجان تمامست اين
بس بود نزد صاحب معنى
حسبي الله كواه اين دعوى
روي أن بعض الجبابرة سمى نفسه بلفظ الجلالة فصهر ما في بطنه من دبره وهلك من ساعته وقال فرعون مصر للقبط أنا ربكم الأعلى ولم يقدر أن يقول أنا الله.
قال ابن عباس رضي الله عنهما لا يسمى أحد الرحمن وغيره.
قال المولى الفناري في ترتيب أسماء البسملة : إن لاسم الجلالة اختصاصاً وضعياً واستعمالياً وللرحمن اختصاصاً استعمالياً وقولهم رحمن اليمامة لمسيلمة تعنت في كفرهم كما لو سموه الله مثلاً ولا اختصاص للرحيم قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لن نؤمن بالرحمن أبداً وقد عنوا بالرحمن مسيلمة الكذاب وقيل عنوا كاهناً كان لليهود باليمامة وقد رد الله عليهم بأن الرحمن المعلم له هو الله تعالى بقوله : {قُلْ هُوَ رَبِّى لا إله إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (الرعد : 30) أي : توبتي ورجوعي كما في "إنسان العيون" وتكره التسمية بالأسماء التي لا تليق إلا بالله تعالى كالرحمن والرحيم والإله والخالق والقدوس ونحوها قال الله تعالى : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} (الرعد : 33) قال بعض المفسرين قل سموهم بأسمائي ثم انظروا هل تليق بهم أي : لا تليق بهم وغير رسول الله صلى الله عليه وسلّم اسم العزيز لأن العزةوشعار العبد الذلة والاستكانة كما في "ابكار الأفكار".
جزء : 5 رقم الصفحة : 344
(5/267)
{وَيَقُولُ الانسَـانُ} بطريق الإنكار والاستبعاد للبعث وهو أبي بن خلف حين فت عظماً بالياً فقال : يزعم محمد أنا نبعث بعدما نموت ونصير إلى هذه الحال {أَءِذَا مَا مِتُّ} وكنت رميماً {لَسَوْفَ أُخْرَجُ} من القبر حال كوني {حَيًّا} وبالفارسية (آياون بميرم من هر آينه زود بيرون شوم از خاك زنده يعني كونه تواند بودكه مرده زنده شود وازخاك بيرون آيد) تقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار لما أن المنكر كون ما بعد الموت وقت الحياة وانتصابه بفعل دل عليه اخرج وهو البعث لا به فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها لصدارتها وهي في الأصل للحال وههنا للتأكيد المجرد أي : لتأكيد معنى همزة الإنكار في أئذا ولذا جاز اقترانها بسوف الذي هو حرف الاستقبال.
وفي "التكملة" اللام في قوله تعالى : {لَسَوْفَ} ليست للتأكيد فإنه منكر فكيف يحقق ما ينكر وإنما كلامه حكاية لكلام النبي عليه السلام كأنه صلى الله عليه وسلّم قال إن الإنسان إذا مات لسوف يخرج حياً فأنكر الكافر ذلك وحكي قوله فنزلت الآية على ذلك حكاه الجرجاني في كتاب "نظم القرآن".
قال في "بحر العلوم" لما كانت هذه اللام لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر وجب تقدير مبتدأ وخبر وأن يكون أصله لأنا سوف أخرج حياً وما في أئذا ما للتوكيد أيضاً وتكرير التوكيد إنكار
348
على إنكار.
{أَوَلا يَذْكُرُ الانسَـانُ} الهمزة للإنكار التوبيخي والواو لعطف الجملة المنفية على مقدر يدل عليه يقول.
والذكر في الأصل هو العلم بما قد علم من قبل ثم تخلله سهو وهم ما كانوا عالمين فالمراد به هنا التذكر والتفكر والمعنى أيقول ذلك ولا يتفكر {أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ} أي : من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه {وَلَمْ يَكُ} أصله لم يكن حذف النون تخفيفاً لكثرة الاستعمال أو تشبيهاً بحروف العلة في امتداد الصوت.
وقال الرضي : النون مشابه للواو في الغنة {شَيْـاًا} بل كان عدماً صرفاً فيعلم أن من قدر على الابتداء من غير مادة قدر على الإعادة بجمع المواد بعد تفريقها وفي هذا دليل على صحة القياس حيث أنكر عليه وجهله في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى فيستدل به على البعث والإعادة قيل لو اجتمع الخلق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا.
جزء : 5 رقم الصفحة : 348
{فَوَرَبِّكَ} الواو للقسم.
والمعنى بالفارسية (س بحق رورد توكه بوقت قيامت) {لَنَحْشُرَنَّهُمْ} لنجمعه القائلين بالسوق إلى المحشر بعد ما أخرجناهم من الأرض أحياء {وَالشَّيَـاطِينَ} معهم وهم الذين أغووهم إذ كل كافر سيحشر مع شيطانه في سلسلة {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ} حال كونهم {جِثِيًّا} جمع جاث من جثا يجثو ويجثي جثوا وجثياً فيهما جلس على ركبتيه كما في "القاموس" أي : جالسين على الركب لما يعرضهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما جثيا جماعات جمع جثوة وهي الجماعة واختاره في تفسير "الجلالين".
{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ} لنخرجن قاله البغوي والنزع الجذب {مِن كُلِّ شِيعَةٍ} أمة وفرقة شاعت أي : نبعث غاوياً من الغواة {أَيُّهُمْ} موصول حذف صدر صلته منصوب بننزعن الذين هم أو استفهام مبتدأ خبره أشد فرفعه على الحكاية أي : لننزعن الذين يقال لهم أيهم {أَشَدُّ} (سختتر وبسيارتر) {عَلَى الرَّحْمَـانِ} (برخداى تعالى) {عِتِيًّا} (از جهت سركشى وجرأت يعني أول ازهر امتى آنراكه نافرمان تربوده جدا كنيم) يقال عتا على فلان إذا تجاوز الحد في الظلم والمقصود أنه يميز من كل طائفة منهم الأعصى فالأعصى فإذا اجتمعوا يطرح في النار على الترتيب.
قال في الكبير يحضرهم أولاً ثم يخص أشدهم تمرداً بعذاب أعظم إذ عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً وليس عذاب من يورد الشبهة كعذاب من يقتدي به غافلاً قال الله تعالى : {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَـاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} (النحل : 88) انتهى.
يقول الفقير في الآية تهديد عظيم لأبي المذكور وأنه أول منزوع من مشركي العرب لكونه أشد على الرحمن عتياً من جهة مقالته المذكورة.
واعلم أن أول الأمر البعث ثم الحشر ثم الإحضار ثم النزع ثم الإدخال في النار وهو قوله تعالى :
{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى} (سزاوار ترند) {بِهَا} (بآتش دوزخ) {صِلِيًّا} دخولاً يعني (ميدانيم كه كيست سزاى انكه اورا نخست در آتش افكنند) وهم المنتزعون يقال صلى يصلي كلقي يلقي ومضى يمضي إذا دخل النار.
جزء : 5 رقم الصفحة : 348
(5/268)
{وَإِن مِّنكُمْ} أي : وما منكم أيها الناس {إِلا وَارِدُهَا} أي : واصل جهنم وداخلها {كَانَ} أي : ورودهم إياها {عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا} مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمي به الموجب كقولهم خلق الله وضرب الأمير أي : أمراً محتوماً أوجبه الله على ذاته
349
{مَّقْضِيًّا} حتى أنه لا بد من وقوعه ألبتة.
{ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا} (س نجات دهيم آنانرا كه رهيز كردند از شرك يعنى بيرون آريم ازدوزخ) أحال الورود إلى الوارد وأحال النجاة إلى نفسه تعالى.
ففيه إشارة إلى أن كل وارد يرد بقدم الطبيعة في هاوية الهوى إن شاء وإن أبى ولو خلى إلى طبيعته لا ينجو منها أبداً ولكن ما نجا من نجا إلا بإنجاء الله تعالى إياه {وَّنَذَرُ} تترك {الظَّـالِمِينَ} لأنفسهم بالكفر والمعاصي {فِيهَا} في جهنم {جِثِيًّا} (بزانو در آمد كان) وهو إشارة إلى هوانهم وتقاعدهم عن الحركة إلى الجنة مع الناجين.
وفي تفسير "الجلالين" جثياً أي : جميعاً انتهى.
اعلم أن الوعيدية وهم المعتزلة قالوا : إن من دخلها لا يخرج منها وقالت المرجئة لا يدخلها مؤمن قط وقالوا أن الورود ههنا هو الحضور لا الدخول فأما أهل السنة فقالوا يجوز أن يعاقب الله العصاة من المؤمنين بالنار ثم يخرجهم منها.
وقالوا معنى الورود الدخول كقوله تعالى : {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} (هود : 98) وقال تعالى {حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (الأنبياء : 98) وبدليل قوله تعالى : {ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا} والنجاة إنما تكون بعد الدخول فيها كقوله تعالى : {وَنَجَّيْنَـاهُ مِنَ الْغَمِّا وَكَذَالِكَ نُـاجِى الْمُؤْمِنِينَ} فإن قلت كيف يدخلونها والله تعالى يقول : {أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} .
قلت : المراد به الإبعاد عن عذابها.
قال في "الأسئلة المقحمة" يجوز أن يدخلوها ولا يسمعوا حسيسها لأن الله تعالى يجعلها عليهم برداً وسلاماً كما جعلها على إبراهيم عليه السلام فالمؤمنون يمرون بجهنم وهي برد وسلام والكافرون وهي نار كما أن الكوز الواحد كان يشربه القبطي فيصير دماً والإسرائيلي فيكون ماء عذباً :
جزء : 5 رقم الصفحة : 349
مؤمن فسون ه داند بر آتشش بخواند
سوزش درو نماند كردد ونور روشن
وفي الحديث : "جز يا مؤمن فإن نورك قد أطفأ لهبي" ، وفي "المثنوي" :
كويدش بكذر سبك اى محتشم
ورنه آتشهاى تومرد آتشم
فإن قلت إذا لم يكن في دخول المؤمنين عذاب فما الفائدة فيه؟ قلت وجوه :
الأول : أن يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه.
والثاني : يزيد غم أهل النار لظهور فضيحتهم عند المؤمنين والأولياء الذين كانوا يخوفونهم بالنار.
والثالث : يرون أعداءهم المؤمنين قد تخلصوا منها وهم يبقون فيها.
والرابع : أن المؤمنين إذا كانوا معهم فيها بكتوهم فيزداد غمهم.
والخامس : أن مشاهدة عذابهم توجب مزيد التذاذهم بنعيم الجنة.
يقول الفقير : لا شك عند أهل المعرفة أن جهنم صورة النفس الأمارة ففي الدنيا يرد كل من الأنبياء والأولياء والمؤمنين والكافرين هاوية الهوى بقدم الطبيعة لكن الأنبياء لكون نفوسهم من المطمئنة يجدونها خامدة وأما الأولياء فيردون عليها وهي ملتهبة ثم يجهدون إلى أن يطفئوها بنور الهدى ويلتحق بهم بعض المؤمنين وهم المعفو عنهم ولا يمر هؤلاء الطوائف الجليلة بالنار في الآخرة فلا يحترقون بها أصلاً وأما الكفار فلما كان كفرهم كبريت الهوى في الدنيا فلا جرم يدخلون النار في الآخرة وهي ملتهبة فيبقون هناك محترقين مخلدين ويلتحق بهم بعض العصاة وهم المعذبون لكنهم يخرجون منها بسبب نور تقواهم عن الشرك.
وقال ابن مسعود والحسن وقتادة ورودها الجواز على الصراط الممدود عليها وذلك لأنه لا طريق إلى الجنة سوى
350
(5/269)
الصراط فالمرور في حكم الورود وفي الحديث : "لا يموت لمسلم ثلاث من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم" وهي قوله تعالى : {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا} والتحلة مصدر حللت اليمين أي : أبررتها وتحلة القسم ما يفعله الحالف مما أقسم عليه مقدار ما يكون باراً في قسمه فهو مثل في القليل المفرط القلة.
وقال مجاهد ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا لقوله عليه السلام : "الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء" وفي الحديث : "الحمى حظ كل مؤمن من النار" وقد جاء "إن حمى ليلة كفارة سنة ومن حم يوماً كان له براءة من النار وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وعن جابر رضي الله عنه استأذنت الحمى على رسول الله عليه السلام فقال : "من هذه" قالت أم ملدم فأمر بها عليه السلام إلى أهل قبا فلقوا منها ما لا يعلمه إلا الله فشكوا إليه عليه السلام فقال : "إن شئتم دعوت الله ليكشفها عنكم وإن شئتم تكون لكم طهوراً" قالوا : أويفعل ذلك قال : "نعم" قالوا فدعها قالت عائشة رضي الله عنها قدمنا المدينة وهي أوبى أرض الله ولما حصلت لها الحمى قال لها عليه السلام : "مالي أراك هكذا" قالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله هذه الحمى وسبّتها فقال : "لا تسبيها فإنها مأمورة ولكن إن شئت علمتك كلمات إذا قلتهن أذهب الله عنك" قالت : فعلمني قال : "قولي اللهم ارحم جلدي الرقيق وعظمي الدقيق من شدة الحريق يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله العظيم فلا تصدعي الرأس ولا تنتني الفم ولا تأكلي اللحم ولا تشربي الدم وتحولي عني إلى من اتخذ مع الله إلهاً آخر" فقالتها فذهبت عنها كذا في إنسان العيون.
جزء : 5 رقم الصفحة : 349
{وَإِذَا تُتْلَى} (وون خوانده شود) {عَلَيْهِم} أي : على المشركين {ءَايَـاتُنَا} القرآنية {بَيِّنَـاتٍ} واضحات الاعجاز والمعاني وهي حال مؤكدة فإن آيات الله لا ينفك عنها الوضوح {قَالَ} (كويند) {الَّذِينَ كَفَرُوا} كنضر بن الحارث وأصحابه {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} أي : لفقراء المؤمنين واللام للتبليغ كما في مثل قوله تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} (البقرة : 247) أولام الأجل أي : لأجلهم في حقهم {أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ} أي : المؤمنين والكافرين كأنهم قالوا أينا {خَيْرٌ} نحن أو أنتم {مَّقَامًا} مكاناً ومسكناً يعني (مارا منازل نزه است وهمه اسباب معيشت) {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} أي : مجلساً ومجتمعاً.
قال بعض المفسرين الندى المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم يعنى (در مجمع ما همه صناديد قريش وأشراف عرب اند ودر مجلس او همه موالى وضعفاً).
ـ يروى ـ أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنونها ويتطيبون ويتزينون بالزين الفاخرة فإذا سمعوا الآيات الواضحات وعجزوا عن معارضتها والدخل عليها قالوا مفتخرين بالحظوظ الدنيوية على فقراء المؤمنين لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه في العذاب والذل وأعداءه في العز والراحة لكن الأمر بالعكس وقصدهم بهذا الكلام صرفهم عن دينهم فرد الله عليهم بقوله :
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ} كم فعول أهلكنا ومن قرن بيان لإبهامها وأهل كل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم مأخوذ من قرن الدابة وهو مقدمها.
وقال الكاشفي : (من قرن : كروهى را مجتمع بودند در زمان واحد) انتهى كأنه أخذه من الاقتران {هُمْ أَحْسَنُ} في محل النصب على أنه صفة لكم {أَثَـاثًا} تمييز عن النسبة وهو متاع البيت يعني (نيكوثر ازجهت امتعه بيت كه آرايش منازل بدان باشد) هو المنظر والهيئة
351
فعل من الرؤية لما يرى كالطحن لما يطحن والمعنى كثيراً من القرون التي كانوا أفضل منهم فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية كعاد وثمود وأضرابهم من الأمم العاتية قبل هؤلاء أي : كفار قريش أهلكناهم بفنون العذاب لو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا لما فعلنا بهم ما فعلنا.
جزء : 5 رقم الصفحة : 349
وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى كأنه قيل فلينظر هؤلاء أيضاً مثل ذلك.
قال الكاشفي : (نه آن مال هلاك از ايشان دفع كرد ونه آن جمال عذاب از ايشان باز داشت) :
برمال وجمال خويشتن تكيه مكن
كانرا بشبى برند وآنرا بتبى
(5/270)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن أهل الإنكار وأهل العزة بالله {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ} من الحقائق والأسرار {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ستروا الحق بالإنكار والاستهزاء {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} من أهل التحقيق إذا رأوهم مرتاضين مجاهدين مع أنفسهم متحملين متواضعين متذللين متخاشعين وهم متنعمون متمولون متكبرون متبعوا شهوات أنفسهم ضاحكون مستبشرون {أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ} منا ومنكم {خَيْرٌ مَّقَامًا} منزلة ومرتبة في الدنيا ووجاهة عند الناس وتوسعاً في المعيشة {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} مجلساً ومنصباً وحكماً فقال تعالى في جوابهم {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ} أي : أهلكناهم بحب الدنيا ونعيمها إذ أغرقناهم في بحر شهواتها واستيفاء لذاتها والتعزز بمناصبها {هُمْ أَحْسَنُ أَثَـاثًا وَرِءْيًا} استعداداً واستحقاقاً في الكمالات الدينية منكم كما قال عليه السلام : "خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية إذا فقهوا".
جزء : 5 رقم الصفحة : 349
{قُلْ} للمفتخرين بالمال والمنال {مِنْ} شرطية والمعنى بالفارسية (هركه) {كَانَ} مستقراً {فِى الضَّلَـالَةِ} (دركمر اهى ودر دوى ازراه حق) مغموراً بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـانُ مَدًّا} أي : يمد له بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة لقطع المعاذير أو للاستدراج واعتبار الاستقرار في الضلالة لما أن المد لا يكون إلا للمصرين عليها إذ رب ضال يهديه الله والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المد من أحكام الرحمة الدنيوية.
قال شيخي وسندي قدس سره في بعض تحريراته {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـانُ مَدًّا} أي : فليستدرجه الرحمن استدراجاً بمد عمره وتوسيع ماله وتكثير ولده أو فليمهله الرحمن إمهالاً بمد راحته على الطغيان وإيصال نعمته على وجه الإحسان حتى يقع في العقاب والعذاب على سبيل التدريج لا التعجيل فيكون عقابه وعذابه أكمل وأشمل أثراً وألماً لأن الأخذ على طريق التدريج والنعمة أشد منه على طريق التعجيل والنقمة مع أن مبدأ المد مطلقاً هو الرحمن دون القهار أو الجبار لأن كلاً منهما مبدأ الشدة ولذلك عبر به لا بغيره هذا هو الخاطر ببالي في وجه التعبير بالرحمن وإن كانت أشدية عقاب الرحمن وجهاً لكن وجه أشدية عقابه ما ذكرنا لأنه إذا أراد العقاب يأتي به على وجه الرحمة والنعمة فيكون كدراً بعد الصفاء وألما بعد الراحة وشدة بعد الرخاء فهذا أقوى أثراً والحاصل لا يتصور وقوع المد المذكور إلا من الرحمن لأنه أصله ومنشأه انتهى كلامه روح الله روحه {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} (تاوقتى كه ببينند آنه بيم كرده شده اند بدان) غاية للمد الممتد وجمع الضمير في الفعلين باعتبار معنى من كما أن الأفراد في الضميرين الأولين باعتبار لفظها
352
{إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} تفصيل للموعود على سبيل البدل فإنه إما العذاب الدنيوي بغلبة المسلمين واستيلائهم عليهم وتعذيبهم إياهم قتلاً وأسراً وإما يوم القيامة وما ينالهم فيه من الحزن والنكال على طريقة منع الخلو دون الجمع فإن العذاب الأخروي لا ينفك عنهم بحال.
قال الإمام أي : لو فرض أن هذا الضال المتنعم قد مد له في أجله أليس أنه ينتهي إلى عذاب في الدنيا أو في الآخرة فسيعلم أن النعم لا تنفعه كما قال تعالى : {فَسَيَعْلَمُونَ} جواب الشرط والجملة محكية بعد حتى فإنها هي التي تحكي بعدها الجملة ولذا وقع بعد الجملة الشرطية أي : حتى إذا عاينوا ما يوعدون من العذاب الدنيوي أو الأخروي فقط فيسعلمون حينئذٍ {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا} من الفريقين بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يقدرونه فيعلمون أنهم شر مكاناً لا خير مقاماً.
قال الكاشفي : (س بدانند آنرا كه بدترست از هر دو كروه ازجهت مكان جه جاى مؤمنان درجات جنان باشد ومأواى ايشان دركات نيران) :
جزء : 5 رقم الصفحة : 352
قال في "بحر العلوم" : جعلت الشرارة للمكان ليفيد إثباتها لأهله لأنه إذا ثبت الأمر في مكان الرجل فقد ثبت له كما في قولهم المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه {وَأَضْعَفُ جُندًا} أي : فئة وأنصاراً لا أحسن ندياً كما كانوا يدعونه.
قال في "تفسير الجلالين" وذلك أنهم إن قتلوا ونصر المؤمنون عليهم علموا أنهم أضعف جنداً ضعفاء كلا "ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً" وإنما ذكر ذلك رداً لما كانوا يزعمون أن لهم أعواناً من الأعيان وأنصاراً من الأخيار ويفتخرون بذلك في الأندية والمحافل.
(5/271)
{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوا هُدًى} كلام مستأنف سبق لبيان حال المهتدين أثر بيان حال الضالين أي : ويزيد الله المؤمنين إيماناً وعملاً ويقيناً ورشداً كما زاد الضالين ضلالاً ومدهم في استدراجهم {وَالْبَـاقِيَـاتُ الصَّـالِحَـاتُ خَيْرٌ} كلام مستأنف وارد من جهته تعالى لبيان فضل أعمال المهتدين غير داخل في حيز الكلام الملقن لقوله تعالى : {عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا} هو الجزاء لأنه نفع يعود إلى المجزى وهو اسم من الإثابة أو التثويب أي : الأعمال التي تبقى عائدتها أبداً خير عند ربك من مفاخرات الكفار وحظوظهم العاجلة {وَخَيْرٌ مَّرَدًّا} مرجعاً وعاقبة لأن مآلها رضوان الله والنعيم الدائم ومآل هذه السخط والعذاب المقيم.
وقال الكاشفي يعني (اكر كافر انرا دفردنيا جاه ومال است ودر آخرت وبال ونكال خواهدشد اما مؤمن دردنيا هم هدايت دارندوهم حمايت ودر آخرت هم ثواب خواهند داشت وهم حسن المآب) :
بدنيى سر فراز ونام دارند
بعقبى كامدار وكام كارند
ففي الآية إشارة إلى أن الضرر القليل المتناهي الذي يعقبه نفع كثير غير متناه كما هو حال المؤمنين خير من عكسه كما هو حال الكافرين فإمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله كما أن قصور حظ المؤمن منها ليس لنقصه بل لأن الله تعالى أراد به ما هو خير له وعوضه منه.
واعلم أن الباقيات الصالحات هي أعمال الآخرة كلها ومنها الكلمات الطيبة.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : جلس رسول الله عليه السلام ذات يوم وأخذ عوداً يابساً وأزال الورق عنه ثم قال : "إن قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمدليحط الخطايا كما يحط ورق
353
هذه الشجرة الريح خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فهن الباقيات الصالحات وهي من كنوز الجنة".
جزء : 5 رقم الصفحة : 352
وفي "التأويلات النجمية" : الباقيات الصالحات هي الأعمال الصالحات التي هي من نتائج الواردات الإلهية التي ترد من عند الله إلى قلوب أهل الغيوب يعني كل عمل يصدر من عند نفس العبد من نتائج طبعه وعقله لا يكون من الباقيات الصالحات يدل عليه قوله {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُا وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} (النحل : 96) انتهى.
فعلى العاقل أن يجتهد في إصلاح النفس وتزكيتها ليتولد منها الأعمال الباقية والأحوال الفاضلة ويحصل له نسل بلا عقم ونكاح منتج قواناً الله وإياكم في ذلك آمين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 352
{أَفَرَءيْتَ الَّذِى كَفَرَ بآياتنا} نزلت فيمن سخر بالبعث وهو العاص بن وائل كان لخباب بن الأرت عليه مال فتقاضاه فقال له لا حتى تكفر بمحمد فقال لا والله لا أكفر بمحمد حياً ولا ميتاً ولا حين نبعث قال : وإذا بعثت جئتني فيكون لي مال وولد فأعطيك والهمزة للتعجب من حاله والإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يجب أن يرى ويقضي منها العجب والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي : أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا التي من جملتها آيات البعث {وَقَالَ} مستهزئاً بها مصدراً كلامه باليمين الفاجرة {لاوتَيَنَّ} في الآخرة إن بعثت يعني (بمن دهند) {مَالا وَوَلَدًا} أي : أنظر إليه يا محمد فتعجب من حالته البديعة وجراءته الشنيعة.
{أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} همزته استفهام وأصله أأطلع من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه وطلع الثنية.
والمعنى أقد بلغ من عظمة الشأن إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به العليم الخبير حتى ادعى أن يؤتى في الآخرة مالاً وولداً وأقسم عليه {أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـانِ عَهْدًا} أو اتخذ من عالم الغيب عهداً بذلك فإنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين علم الغيب وعهد من عالمه وقيل العهد كلمة الشهادة والعمل الصالح فإن وعد الله بالثواب عليهما كالعهد الموثق عليه {كَلا} ليس الأمر على ما يقول.
{سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} ستحفظ عليه ما يقول من الكذب والكفر والاستهزاء فنجازيه به {وَنَمُدُّ لَه مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد أي : نطول له من العذاب ما يستحقه.
(5/272)
{وَنَرِثُهُ} بموته {مَا يَقُولُ} أي : مسمى ما يقول ومصداقه وهو ما أوتيه في الدنيا من المال والولد.
وفيه إيذان بأنه ليس لما يقوله مصداق موجود سوى ما ذكر أي : ننزع ما آتيناه كما في "الإرشاد".
وقال في "العيون" ما بدل من هاء نرثه بدل اشتمال أي : نهلكه ونورث ماله وولده غيره.
وقال الكاشفي : (وميراث ميكيريم آنه ميكويدكه فردا بمن خواهند داد يعني مال وفرزند) {وَيَأْتِينَا} يوم القيامة {فَرْدًا} وحيداً خالياً لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا فضلاً عن أن يؤتى ثمة زائداً.
وفي الآية إشارة إلى أن أهل الغرور يدعون الإحراز للفضيلتين المال والولد في الدنيا والنجاة والدرجات في الآخرة وينكرون على أهل التجرد في الإعراض عن الكسب واعتزال النساء والأولاد ولا يدرون أنهم يقعون بذلك في عذاب البعد إذ لا سند لهم أصلاً ، قال الكمال الخجندي :
بشكن بت غروركه دردين عاشقان
يك بت كه بشكنند به ازصد عبادتست
جزء : 5 رقم الصفحة : 353
{وَاتَّخَذُوا} أي : مشركوا قريش {مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً} أي : اتخذوا الأصنام آلهة
354
متجاوزين الله تعالى {لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} أي : ليتعززوا بهم بأن يكونوا لهم وصلة إليه تعالى وشفعاء عنده وأنصاراً ينجون بهم من عذاب ا لله تعالى.
قال بعضهم : كيف تظفر بالعز وأنت تطلبه في محل الذل ومكانه إذ ذللت نفسك بسؤال الخلق ولو كنت موفقاً لأعززت نفسك بسؤال الحق أو بذكره أو بالرضى لما يرد عليك منه فتكون عزيزاً في كل حال دنيا وآخرة.
{كَلا} ليس الأمر على ما ظنوا {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} سينكر الكفرة حين شاهدوا سوء عاقبة كفرهم عبادتهم لهم {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} أعداء للآلهة كافرين بها بعد أن كانوا يحبونها كحب الله ويعبدونها.
وقال في تفسير الجلالين {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} أي : يجحدونها لأنهم كانوا جماداً لم يعرفوا أنهم يعبدون ويكونون عليهم ضداً أي : أعواناً وذلك أن الله تعالى يحشر آلهتهم فينطقهم ويركب فيهم العقول فتقول : يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك انتهى فالضمير في يكفرون ويكونون للآلهة.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَـاطِينَ عَلَى الْكَـافِرِينَ} أي : سلطناهم عليهم بسبب سوء اختيارهم حال كون تلك الشياطين {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي : تغريهم تهيجهم على المعاصي تهييجاً شديداً بأنواع الوساوس والتسويلات فإن الاز والهز والاستفزاز أخوات معناها شدة الازعاج.
وفي "العيون" الاز في الأصل هو الحركة مع صوت متصل من ازيز القدر أي : غليانه والمراد تعجيب رسول الله عليه السلام من أقاويل الكفرة وتماديهم في الغي والانهماك في الضلال والإفراد في العناد والإجماع على موافقة الحق بعد اتضاحه وتنبيه على أن جميع ذلك منهم باضلال الشياطين وإغوائهم لا لأن له مسوغاً في الجملة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 354
{فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} أي : بأن يهلكوا حسبما تقضيه جناياتهم حتى تستريح أنت والمؤمنون من شرورهم وتطهر الأرض من فسادهم يقال عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ} أيام آجالهم {عَدًّا} أي : لا تعجل بهلاكهم فإنه لم يبق لهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة فيجازيهم بها.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا قرأها بكى وقال آخر العدد خروج نفسك آخر العدد فراق أهلك آخر العدد دخول قبرك.
وكان ابن السماك رحمه الله عند المأمون فقرأها فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد قال أعرابي : كيف تفرح بعمر تقطعه الساعات وسلامة بدن تعرض للآفات.
قال العلامة الزمخشري استغنم تنفس الأجل وإمكان العمل واقطع ذكر المعاذير والعلل فإنك ي أجل محدود وعمر ممدود.
قال المنصور لما حضرته الوفاة بعنا الآخرة بنومة قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : من حافظ على الأنفاس فالساعات في حكمه إلى ما فوق ذلك ومن كان وقته الساعات فأتته الأنفاس ومن كان وقته الأيام فأتته الساعات ومن كان وقته الجمعة فأتته الأيام ومن كان وقته الشهور فأتته الأسابيع ومن كان وقته السنون فأتته الشهور ومن كان وقته العمر فأتته السنون ومن فاته عمر لم يكن له وقت ولم تعد همته بهمة :
على نفسك فليبك من ضاع عمره†
ويطول الوقت ويقصر بحسب حضور صاحبه فمنهم من وقته ساعة ويوم وجمعة وشهر وسنة ومرة واحدة في عمره ومن الناس من لا وقت له لغلبة بهيميته عليه واستغراقه في الشهوات ، قال المولى الجامي :
355
هردم از عمر كرامى هست كنج بى بدل
ميرود كنج نين هر لحظه برباد آخ آخ
وقال :
عمر توكنج وهر نفس ازوى يكى كهر
كنجى نين لطيف مكن رايكان تلف
وقال الحافظ :
كارى كشيم ورنه خجالت بر آورد
روزيكه رخت جان بجهان دكر كشيم
جزء : 5 رقم الصفحة : 354
(5/273)
{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ} أي : أذكر يا محمد لقومك بطريق الترغيب والترهيب يوم نجمع أهل التقوى والطاعة {إِلَى الرَّحْمَـانِ} إلى ربهم الذي يغمرهم برحمته الواسعة حال كونهم {وَفْدًا} وافدين عليه كما يفد الوفود على الملوك منتظرين لكرامتهم وأنعامهم والوافد من يأتي بالخير.
وفي "التهذيب" الوفد والوفادة (بنزديك امير شدن بحاجت) وفي "القاموس" وفد إليه وعليه قدم ورد وهم وفود ووفد.
وفي "التأويلات النجمية" : إنما خص حشر وفد المتقين إلى حضرة الرحمانية لأنها من صفات اللطف ومن شأنها الجود والانعام والفضل والكرم والتقريب والمواهب انتهى.
والرحمة إن كانت من صفات الذات يراد بها إرادة إيصال الخير ودفع الشر وإن كانت من صفات الفعل يراد بها إيصال الخير ودفع الشر كما في "بحر العلوم".
وعن علي رضي الله عنه ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رحالها ذهب وعلى نجائب سروجها ياقوت وأزمتها زبر جد ثم ينطق بهم حتى يقرعوا باب الجنة.
قال الكاشفي : {وَفْدًا} (در حالتى كه سواران باشند بر ناقهاى بهشت يعنى ايشانرا سوار ببهشت برند نانه وافدانرا بدركاه ملوك ميبرند ، إمام قيري رحمه الله فرمودكه بعضى بر نجائب طاعات وعبادات باشند وقومى بر مراكب همم ونيات.
آنانكه بر مراكب طاعت باشند بهشت خويانند ايشانرا بروضه جنان برند.
وآنانكه بر نجائب همت باشند خداى طلبانند ايشانرا بقرب رحمت خوانند جنان جوى ديكرست ورحمان جوى ديكر.
در كشف الاسرار آورده كه ممشاد دينورى رحمه الله در حال نزع بود درويشى يش وى ايستاده ودعا مى كردكه خدايا برو رحمت كن وبهشت اورا كرامت كن ممشاد بانك بروزدكه اى غافل سى سالست كه بهشت را باشرف وعزت وحور وقصور برمن جلوه ميدهند ومن كوشه شم هست برو نيفكنده ام اكنون بدركاه قرب ميروم زحمت خود آورده وبراى من بهشت ورحمت مى خواهى) :
باغ فردوس از براى ديدنش بايد مرا
بى جما لش روضه رضوان ه كار آيد مرا
جزء : 5 رقم الصفحة : 356
{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ} العاصين كما تساق البهائم {إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} مشاة عطاشا فإن من يرد الماء لا يرده إلا العطش وحقيقة الورد المسير إلى الماء.
{لا يَمْلِكُونَ الشَّفَـاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـانِ عَهْدًا} إن كانت الشفاعة مصدراً من المبني للفاعل والعهد بمعنى الاذن لأنه يقال عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به فالمعنى لا يملك أحد من العباد أيا من كان أن يشفع للعصاة إلا من اتخذ من الله إذناً فيها كقوله تعالى : {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه إِلا بِإِذْنِهِ} (البقرة : 255) وإن كانت مصدراً من المبني للمفعول والعهد عهد الإيمان فالمعنى لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان منهم مسلماً.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال لأصحابه ذات يوم "أيعجز أحدكم
356
أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهداً" قالوا : وكيف ذلك؟ قال : "يقول كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك وأنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وأني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع" أي : ختم عليه بخاتم "ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند الرحمن عهداً فيدخلون الجنة" كما في "بحر العلوم الكبير".
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَـانُ وَلَدًا} أي : قال اليهود والنصارى ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله فقال الله تعالى.
{لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْـاًا إِدًّا} الاد والادة بكسرهما العجب والأمر الفظيع والداهية والمنكر كالاد بالفتح كما في "القاموس" أي : فعلتم أمراً منكراً شديداً لا يقادر قدره فإن جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيعديان تعديته.
وقال الكاشفي : (بدرستى كه آوردى يزى زشت يعنى ناخوش وبى ادبانه).
جزء : 5 رقم الصفحة : 356
{تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ} صفة الأدِّ أي : تقرب من أن {يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} يتشققن مرة بعد أخرى من عظم ذلك الأمر فإن التفطر التشقق وهو بالفارسية (شكافته شدن) واصل التفعل التكلف.
{وَتَنشَقُّ الارْضُ} وتكاد تنشق الأرض وتنصدع أجزاؤها.
(5/274)
ـ وروي ـ عن بعض الصحابة أنه قال : كان بنو آدم لا يأتون شجرة إلا أصابوا منها منفعة حتى قالت فجرة بني آدم اتخذ الرحمن ولداً فاقشعرت الأرض وشاك الشجر {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ} أي : تسقط وتتهدم {هَدًّا} مصدر مؤكد لمحذوف هو حال من الجبال أي : تهد هدا أي : تكسر كسرا يعني (اره اره كردد).
قال في "القاموس" الهدُّ : الهدم الشديد والكسر كالهدود.
والمعنى أن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها بحيث لو تصورت بصورة محسوسة لم تطق بها هاتيك الأجرام العظام وتفتتت من شدتها أو أن فظاعتها في استجلاب الغضب واستيجاب السخط بحيث لولا حلمه تعالى على أهل الأرض وأنه لا يعالجهم بالعقاب لخرب العالم وبدد قوائمه غضباً على من تفوه بها.
{أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـانِ وَلَدًا} منصوب على حذف اللام المتعلقة بتكاد أو مجرور بإضمارها أي : تكاد السموات تتفطرن والأرض تنشق والجال تخر لأن دعوا له سبحانه ولداً ودعوا من دعا بمعنى سمي المتعدي إلى المفعولين وقد اقتصر على ثانيهما ليتناول كل ما دعي له من عيسى وعزير والملائكة ونحوهم إذ لو قيل دعوا عيسى ولداً لما علم الحكم على العموم أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ادعى إلى فلان أي : انتسب إليه.
{وَمَا يَنابَغِى لِلرَّحْمَـانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} حال من فاعل قالوا وينبغي مطاوع بغى إذا طلب أي : قالوه والحال أنه ما يليق به تعالى اتخاذ الولد ولا ينطلب له لو طلب مثلاً لاستحالته في نفسه وذلك لأن الولد بضعة من الوالد فهو مركب ولا بد للمركب من مؤلف فالمحتاج إلى المؤلف لا يصل أن يكون إلهاً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 357
{إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي : ما منهم أحد من الملائكة والثقلين فإن بمعنى النفي كما ولك مبتدأ خبره آتى ومن موصوفة لأنها وقعت بعد كل نكرة {إِن كُلُّ مَن} حال كونه {عَبْدًا} أي : إلا وهو مملوك يأوي إليه بالعبودية والانقياد.
وفي "العيون" : سيأتي جميع الخلائق يوم القيامة إلى الرحمن خاضعاً ذليلاً مقراً بالعبودية كالملائكة
357
وعيسى وعزير وغيرهم يعني : يلتجئون إلى ربوبيته منقادين كما يفعل العبيد للملوك فلا يليق به اتخاذ الولد منهم انتهى.
قال أبو بكر الوراق رحمه الله : ما تقرب أحد إلى ربه بشيء ازين عليه من ملازمة العبودية وإظهار الافتقار لأن ملازمة العبودية تورث دوام الخدمة وإظهار الافتقار إليه يورث دوام الالتجاء والتضرع ، قال الحافظ :
فقير وخسته بدركاهت آمدم رحمى
كه جزدعاى توام نيست هي دست آويز
{لَّقَدْ أَحْصَـاـاهُمْ} أي : حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يكاد يخرج منهم أحد من حيطة علمه وقبضة قدرته وملكوته مع إفراط كثرتهم {وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أي : عد أشخاصهم وأنفاسهم وآجالهم.
{وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فَرْدًا} أي : كل واحد منهم آت إياه تعالى منفرداً من الاتباع والأنصار فلا يجانسه شيء من ذلك ليتخذه ولداً ولا يناسبه ليشرك به وفي الحديث القدسي "كذبني ابن آدم" أي : نسبني إلى الكذب "ولم يكن له ذلك" يعني لم يكن التكذيب لائقاً به بل كان خطأ "وشتمني" الشتم وصف الغير بما فيه نقص وإزراء "ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني" يعني : لن يحييني الله بعد موتي كما خلقني وليس أول الخلق بأهون عليّ أي : بأسهل والخلق بمعنى المخلوق من إعادته أي : من إعادة المخلوق بل إعادته أسهل لوجود أصل البنية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 357
(5/275)
اعلم أن هذا مذكور على طريق التمثيل لأن الإعادة بالنسبة إلى قوانا أيسر من الإنسان وأما النسبة إلى قدرة الله تعالى فلا سهولة في شيء ولا صعوبة "وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً" وإنما صار هذا شتماً لأن التولد هو انفصال الجزء عن الكل بحيث ينمو وهذا إنما يكون في المركب وكل مركب محتاج إلى المؤلف أو لأن الحكمة في التولد استحفاظ النوع عند فناء الآباء تعالى الله عما لا يليق.
فإن قلت قوله "اتخذ الله" تكذيب أيضاً لأنه تعالى أخبر أن لا ولد له وقوله "لن يعيدني" شتم أيضاً لأنه نسبة له إلى العجز فلم خص أحدهما بالشتم والآخر بالتكذيب.
قلت : نفي الإعادة نفي صفة كمال واتخاذ الولد إثبات صفة نقصان له والشتم افحش من التكذيب ولذلك نفاه الله عنه بأبلغ الوجوه فقال : "وانا الأحد" أي : المتفرد بصفات الكمال من البقاء والتنزه وغيرهما الواو فيه للحال "الصمد" بمعنى المصمود يعني المقصود إليه في كل الحوايج "الذي لم يلد" هذا نفي للتشبيه والمجانسة "ولم يولد" هذا وصف بالقدم والأولية "ولم يكن له كفواً أحد" هذا تقرير لما فعله.
فإن قلت لا يلزم من نفي الكفو في الماضي نفيه في الحال والاستقبال.
قلت يلزم لأنه إذا لم يكن في الماضي فوجد يكون حادثاً والحادث لا يكون كفواً للقديم كذا في "شرح المشارق" لابن ملك فإذا ثبت أن الألوهية والربوبيةتعالى وأنه لا يجانسه ولا يشاركه شيء من المخلوقات ثبتت العبودية والمربوبية للعبد وأن من شأنه أن لا يعبد شيئاً من الأجسام والأرواح ولا يتقيد بشيء من العلويات والسفليات بل يخص عبادته بالله تعالى ويجرد توحيده عن هواه.
قال علي رضي الله عنه قيل للنبي عليه السلام : هل عبدت وثنا قط قال : لا قيل : هل شربت خمراً قط قال : لا وما زلت أعرف أن الذي هم أي : الكفار عليه كفر وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان فهذا من آثار حسن الاستعداد حيث استغنى عن البرهان بقاطع العقل فليتبع العاقل أثر متبوعه المصطفى عليه
358
السلام وقد لاح المنار واستبان النور من النار فالنور هو التوحيد والإقرار والنار هو الشرك والإنكار والتوحيد إذا تجلى بحقائقه ظهر التجريد وهو إذا حصل بمعانية ثبت التفريد فالفردانية صفة السر الأعلى وهي حاصلة للعارفين في هذه الدار ولغيرهم يوم القيامة وما في هذه الدار اختياري مقبول وما في الآخرة اضطراري مردود فيا أرباب الشرك أين التوحيد ويا أهل التوحيد أين التجريد ويا أصحاب التجريد أين التفريد {وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فَرْدًا} وقد قيل : قيامة العارفين دائمة ، قال الصائب :
ترك هستى كن كه آسودست از تاراج سيل
هركه يش ازسيل رخت خودبرون از خانه ريخت
جزء : 5 رقم الصفحة : 357
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} جمعوا بين عمل القلب وعمل الجوارح {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـانُ وُدًّا} أي : سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرض منهم لأسبابها من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك سوى ما لهم من الإيمان والعمل الصالح والسين إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذٍ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله ذلك إذا قوي الإسلام وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم الله إلى خلقه بما يظهر من حسناته.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن بذر الإيمان إذا وقع في أرض القلب وتربى بماء الأعمال الصالحات ينمو ويتربى إلى أن يثمر فتكون ثمرته محبة الله ومحبة الأنبياء والملائكة والمؤمنين جميعاً كما قال تعالى : {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينا بِإِذْنِ رَبِّهَا} (إبراهيم : 45) انتهى.
واعلم أن المحبة الموافقة ثم الميل ثم الود ثم الهوى ثم الوله فالموافقة للطبع والميل للنفس والود للقلب والمحبة للفؤاد وهو باطن القلب والهوى غلبة المحبة والوله زيادة الهوى يقال نور المحبة ثم نار العشق ثم حرارة الشهوة ثم البخار اللطيف ثم النفس الرقيق ثم الهواء الدقيق.
قال رجل لعبد الله بن جعفر : إن فلاناً يقول أنا أحبك فبم اعلم صدقه فقال استخبر قلبك فإن توده فإنه يودك قيل :
وعلى القلوب من القلوب دلائل
بالود قبل تشاهد الأشباح
(5/276)
وفي الحديث : "أكثروا من الاخوان فإن ربكم حي كريم يستحيى أن يعذب عبده بين اخوانه يوم القيامة" وعنه عليه السلام : "من نظر إلى أخيه نظر مودة ولم يكن في قلبه إحن لم يطرف حتى يغفر الله له ما تقدم من ذنبه" يقال طرف بصره إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر.
قال عمر رضي الله عنه ثلاث يثبتن الود في صدر أخيك أن تبدأه بالسلام وأن توسع له في المجلس وأن تدعوه بأحب أسمائه إليه.
وقال سقراط اثن على ذي المودة خيراً عند من لقيت فإن رأس المودة حسن الثناء كما أن رأس العداوة سوء الذكر.
ومن بلاغات الزمخشري محك المودة الإخاء حال الشدة دون حال الرخاء.
وقال أبوعلي الدقاق قدس سره لما سعى غلام الخليل بالصوفية إلى الخليفة أمر بضرب أعناقهم فأما الجنيد فإنه تستر بالفقه وكان يفتى على مذهب أبي ثور وأما الشحام والرقام والنورى وجماعة فقبض عليهم فبسط النطع لضرب أعناقهم فتقدم النوري قال السياف تدري لماذا تبادر فقال : نعم فقال : وما يعجلك فقال : أوثر أصحابي بحياة ساعة فتحير السياف فانتهى الخبر إلى الخليفة فردهم إلى القاضي ليتعرف حالهم فألقى القاضي على أبي الحسن النوري مسائل فقهية فأجاب عن الكل ثم أخذ يقول وبعد فإنعباداً إذا قاموا قاموا بالله وإذا نطقوا نطقوا بالله وسرد ألفاظاً أبكى القاضي فأرسل القاضي إلى
359
الخليفة وقال إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم فانظر واعتبر من معاملة النوري مع إخوانه فإنه آثرهم حال الشدة على نفسه بخلوص جنانه :
جزء : 5 رقم الصفحة : 359
حديث عشق ازان بطال منيوش
كه درسختى كند يارى فراموش
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} أي : سهلنا القرآن.
وبالفارسية (س جزاين نيست كه آسان كردانيده قرآنرا) {بِلِسَانِكَ} بأن أنزلناه على لفتك والباء بمعنى على والفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل بعد إيحاء السورة الكريمة بلغ هذا المنزل وبشر به وأنذر فإنما يسرناه بلسانك العربي المبين {لِتُبَشِّرَ بِهِ} (تامده دهى بدو) {الْمُتَّقِينَ} أي : الصائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهي {وَتُنذِرَ بِهِ} يقال انذره بالأمر إنذاراً أعلمه وحذره وخوفه في إبلاغه كما في "القاموس" {قَوْمًا لُّدًّا} لا يؤمنون به لجاجاً وعناداً.
واللد جمع الألد وهو الشديد الخصومة اللجوج المعاند.
قال في "القاموس" الألد الخصم الشحيح الذي لا يزيغ إلى الحق وفي الحديث "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن حقيقة القرآن التي هي صفة الله تعالى القديمة القائمة بذاته لا تسعها ظروف الحروف المحدثة المعدودة المتشابهة لأنها قديمة غير معدودة ولا متناهية وإنما يسر الله درايته بقلب النبي عليه السلام وقراءته باللسان العربي المبين ليبشر به المتقين لأنهم أهل البشارة وهم أصناف ثلاثة فصنف منهم يتقون الشرك بالتوحيد وصنف يتقون المعاصي بالطاعة وصنف يتقون عما سوى الله تعالى بالله وينذر ه قوماً لداً شداداً في الخصومة لأنهم أهل الإنذار وهم ثلاث فرق ففرقة منهم الكفار الذين يقاتلون على الباطل وفرقة منهم أهل الكتاب الذين يخاصمون على أديانهم المنسوخة وفرقة منهم أهل الأهواء والبدع والفلاسفة الذين يجادلون أهل الحق بالباطل.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ} سبق معنى القرن أي : قروناً كثيرة أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين بعد أن أنذرهم أنبياؤهم بآيات الله وحذروهم عذابه وتدميره {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ} .
قال في "تهذيب المصادر" : الإحساس (دانستن وديدن) قال الله تعالى : {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ} الخ أي : هل تشعر بأحد منهم وترى أي : لا والفارسية (هي مى بايد ومى بينى ازان هلاك شد كان يكى را) {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ} (يامى شنوى مرا يشانرا) {رِكْزَا} أي : صوتاً خفياً وأصل الركز هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون المخفي والمعنى أهلكناهم بالكلية وأستأصلناهم بحيث لا يرى منهم أحد ولا يسمع منهم صوت خفي.
وبالفارسية يعني : (ون عذاب ما بديشان فرود آمد مستأصل شدند نه ازايشان شخصى باقى ماندكه كسى بيند ونه آواز برجاى كه كسى بشنود بلكه مؤكل قهر الهي باهيكس درنساخت وهمه را بدست فنا دردام خمول ونسيان انداخت) :
جزء : 5 رقم الصفحة : 359
كأن لم يخلقوا ولم يكونوا†
كواثر از سروران تاج بخش
كونشان از خسروان تاجدار
سوخت ديهيم شهان كامجوى
خاك شد تحت ملوك كامكار
وفي الآية وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عليه في ضمن وعيد الكفرة بالإهلاك وحث له على الإنذار قال الشيخ سعدي قدس سره :
360
بكوى آنه دانى سخن سودمند
وكر هيكس را نيايد سند
كه فردا شيمان بر آرد خروش
كه آوخ را حق نكردم بكوش
بكمراء كفتن نكو ميروى
كناه بزركست وجور قوى
مكو شهد شيرين شكر فايقست
كسى راكه سقمونيا لايقست
ه خوش كفت يكروز دار وفروش
شفا بايدت داروى تلخ نوش
وفي "المثنوي" :
هركسى كو ازصف دين سركشست
ميرود سوى صفي كان واست
تو زكفتار تعالوا كم مكن
كيميائى س شكر فست اين سخن
كرمسى كردد زكفتارت نفير
كيميارا هي ازوى وامكير
اين زمان كريست نفس ساحرش
كفت نو سودش كند دد آخرش
قل تعالوا قل تعالوا اى غلام
هين كه ان الله يدعو بالسلام
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لإجابة الدعوة إنه قريب مجيب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 359(5/277)
سورة طه
مائة وخمس وثلاثون آية مكية
جزء : 5 رقم الصفحة : 360
{طه} اختلفوا فيه أكثر مما في غيره من المقطعات.
فقال بعضهم هو اسم القرآن أو اسم السورة أو اسم الله أو مفتاح الاسم الطاهر والهادي.
وقال بعضهم هو اسم من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثل أحمد ويس وغير ذلك كما قال عليه السلام : "أنا محمد وأنا أحمد والفاتح والقاسم والحاشر والعاقب والماحي وطه ويس" ويؤيده الخطاب في عليك فيكون حرف النداء محذوفاً أي : يا طه والطاء والهاء إشارة إلى أنه عليه السلام طالب الشفاعة للناس وهادي البشر أو أنه طاهر من الذنوب وهاد إلى معرفة علام الغيوب.
قال الكاشفي : (ياطا طهارت دل اوست از غير حق تعالى وها هدايت او بقرب حق).
قال الإمام جعفر الصادق ـ رضي الله عنه ـ طه قسم بطهارة أهل البيت وهدايتهم كما قال تعالى : {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب : 33) أو بطوبى والهاوية أي : الجنة والنار.
وفي "زاد المسير" الطاء طيبة والهاء مكة والله تعالى أقسم بهذين الحرمين أو الطاء طلب الغزاة والهاء هرب الكفار أو طلب أهل الجنان وهوان أرباب النيران.
وفي "التأويلات النجمية" : يا من طوى به بساط النبوة وأيضاً يا من طوى به المكونات إلى هويتنا انتهى.
وقال بعضهم : إنه ليس من الحروف المقطعة بل هو موضوع بازاء يا رجل بلغة عك أو بلسان الحبشة أو النبطية أو السريانية والمراد به حضرة الرسالة (ودر بعضى تفاسير آمده كه طا بحساب جمل نه است وهان ومجموع هارده باشد وغالب آنست كه ماه را مرتبه بدريت
361
در هاردهم حاصل شود س در ضمن اين خطاب مندر جست كه اى ماه شب هارده ومنادى حضرت رسالنست وبدريت اشارت بكمال مرتبة جغامعيت آن حضرت) كما لا يخفى على العرفاء :
ماه ون كامل شود انور بود
وانكه او مرآت نهور خور بود
كاه ماء بدرى وكه شاه بدر
صدرتو مشروح وكارت شرح صدر
جزء : 5 رقم الصفحة : 361
درشب تاريكى وكفر وضلال
ازمهت روشن شود نور جلال
جوز الحسن طه بوزن هب على أنه أمر للرسول عليه السلام بأن يطأ الأرض بقدميه معاً فإنه لما نزل عليه الوحي اجتهد في العبادة وكان يصلي الليل كله ويقوم على إحدى رجليه تخفيفاً على الأخرى لطول القيام ويتعب نفسه كل الإتعاب فيكون أصله طأ من وطىء يطأ قلبت همزته هاء.
وفي الحديث "إن الله تعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت : طوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لأمة محمد ينزل هذا عليهم وطوبى لألسن تتكلم بهذا" رواه الطبراني وصاحب الفردوس.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أعطيت السورة التي ذكرت فيها البقرة من الذكر الأول وأعطيت طه وطواسين من ألواح موسى وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي ذكرت فيها البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة" كذا في "بحر العلوم".
{مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى} الشقاء شائع بمعنى التعب ومن أشقى من رائض المهر أي : أتعب ممن يجعل المهر وهو ولد الفرس صالحاً للركوب بأن تزول عنه الصعوبة وينقاد لصاحبه وفي ذلك العمل مشقة وتعب للرائض ولذلك يضرب به المثل والمعنى لتتعب بفرط تأسك على كفر قريش إذ ما عليك إلا البلاغ وقد فعلت فلا عليك أن يؤمنوا به بعد ذلك أو بكثرة الرياضة وكثرة التهجد والقيام على ساق إذ ما بعثت إلا بالحنيفية السمحة وبالفارسية (نفر ستاديم ما برتوقر آنرا تادررنج افتى وشب خواب نكنى وبواسطه قيام درنماز الم ورم باى مباركت رسد).
وفي "التأويلات النجمية" : {مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى} في الدنيا أو العقبى بل أنزلناه على قلبك لتسعد بتخلقك بخلقه لتكون على خلق عظيم وليسعد بك أهل السموات وأهل الأرضين فتكون الشقاوة ضد السعادة ويجوز أن يكون رداً للمشركين وتكذيباً لهم فإن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا له : إنك شقي لأنك تركت دين آبائك وأن القرآن أنزل عليك لتشقى به فأريد رد ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز والسبب في درك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها.(5/278)
{إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} نصب على أنه مفعول له لأنزلنا معطوف على تشقى بحسب المعنى بعد نفيه بطريق الاستدراك المستفاد من الاستثناء المنقطع فإن الفعل الواحد لا يتعدى إلى علتين إلا من حيث البدلية أو العطف كأنه قيل ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب في تبليغه ولكن تذكيراً وموعظة لمن يعلم الله منه أن يخشى بالتذكرة والتخويف وقد جرد التذكرة عن اللام لكونها فعلاً لفاعل الفعل المعلل وتخصيصها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ لقوله تعالى : {لِيَكُونَ لِلْعَـالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان : 1) لأنهم المنتفعون بها.
قال في "الكبير" ويدخل تحت قوله : {لِّمَن يَخْشَى} الرسول لأنه في الخشية والتذكرة فوق
362
الكل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 361
{تَنزِيلا} أي : نزل القرآن تنزيلاً {مِّمَّنْ} متعلقة بتنزيلاً {خَلَقَ} أخرج من العدم إلى الوجود {الارْضَ وَالسَّمَـاوَاتِ الْعُلَى} تخصيص خلقهما لأنهما قوام العالم وأصوله وتقديم الأرض لكونها أقرب إلى الحس وأظهر عنده من السموات ووصف السموات بالعلى وهو جمع العليا تأنيث الأعلى للدلالة على عظم قدرة خلقها بعلوها وعطف السموات على الأرض من عطف الجنس على الجنس لأن التعريف مصروف إلى الجنس لا من عطف الجمع على المفرد حتى يلزم ترك الأولى من رعاية التطابق بين المعطوف والمعطوف عليه.
{الرَّحْمَـانُ} رفع على المدح أي : هو الرحمن أو مبتدأ واللام فيه للعهد مشاراً به إلى من خلق خبره ما بعده {عَلَى الْعَرْشِ} الذي يحمله الملائكة متعلق بقوله : {اسْتَوَى} اعلم أن العرش سرير الملك والاستواء الاستقرار والمراد به ههنا الاستيلاء ومعنى الاستيلاء عليه كناية عن الملك لأنه من توابع الملك فذكر اللازم وأريد الملزوم يقال استوى فلان على سرير الملك على قصد الاخبار عنه بأنه ملك وإن لم يقعد على السرير المعهود أصلاً فالمراد بيان تعلق إرادته الشريفة بإيجاد الكائنات وتدبير أمرها إذ الباري مقدس الانتقال والحلول وإنما خلق العرش العظيم ليعلم المتعبدون إلى أين يتوجهون بقلوبهم بالعبادة والدعاء في السماء كما خلق الكعبة ليعلموا إلى أين يتوجهون بأبدانهم في العبادة في الأرض (وشيخ أكبر قدس سره در فتوحات فرموده كه استواء خداوند بر عرش در قرآنست ومراد بدين ايمانست تأويل نجوييم كه تأويل دلارين باب طغيانست بظاهر قبول كنيم وبباطن تسليم كه اين اعتقاد سفيانست اما ميدانم كه نه محتاج مكانست ونه عرش بر دارنده اوست كه اوست بر دارنده مكان ونكه دارنده عرش) :
نى مكان ره يافت سويش نه زمان
نى بيان دارد خبرزو نه عيان
اين همه مخلوق حكم داورست
خالق عالم زعالم بر ترست
جزء : 5 رقم الصفحة : 361
قال بضهم ليس على الكون من أثر ولا على الأثر من كون.
قال بعضهم : إنا نقطع بأن الله منزه عن المكان والإلزم قدم المكان وقد دل الدليل على أن لا قديم سوى الله تعالى وأنه تعالى لم يرد من الاستواء الاستقرار والجلوس بل مراده به شيء آخر إلا أنا لا نشتغل بتعيين ذلك المراد خوفاً من الخطأ ونفوض تأويل المتشابهات إلى الله تعالى كما هو رأى من يقف على {إِلا اللَّهُ} (محمد : 19) وعليه أكثر السلف كما روي عن مالك وأحمد الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والبحث عنها بدعة وما كان مقصود الإمامين الأجلين بذلك إلا المنع من الجدال وقد أحسنا حيث حسما بذلك باب الجدال وكذلك فعل الجمهور لأن في فتح باب الجدال ضرراً عظيماً على أكثر عباد ا لله تعالى.
وقد روي أن رجلاً سأل عمر رضي الله عنه عن آيتين متشابهتين فعلاه بالدرة.
وقال بعض كبار المحققين من أهل الله تعالى المراد بهذا الاستواء استواؤه سبحانه لكن لا باعتبار نفسه وذاته تعالى علواً كبيراً عما يقول الظالمون من المجسمة وغيرهم بل باعتبار أمره الإيجادي وتجليه الحسي الأحدي وإنما كان العرش محل هذا الاستواء لأن التجليات الذاتية التي هي شروط التجليات المتعينة والأحكام الظاهرة والأمور البارزة والشئون المتحققة
363
(5/279)
في السماء والأرض وفيما بينهما من عالم الكون والفساد بالأمر الإلهي والإيجاد الأولى إنما تمت باستيفاء لوازمها واستكمال جوانبها واستجماع أركانها الأربعة المستوية في ظهور العرش بروحه وصورته وحركته الدورية لأنه لا بد في استواء تجليات الحق سبحانه في هذه العوالم بتجليه الحسي وأمره الإيجادي من الأمور الأربعة التي هي من هذه التجليات الحسية والإيجادية بمنزلة الشكل المستوي المشتمل على الحد الأصغر والأكبر والأوسط المكرر الكائن به السورة ذات الأركان الأربعة من النتيجة وتلك الأمور أربعة هي الحركة المعنوية الاسمائية والحركة النورية الروحانية والحركة الطبيعية المثالية والحركة الصورية الحسية وتلك الحركة الصورية الحسية هي حركة العرش وهي بمنزلة الحد الأكبر ولما استوى أمر تمام حصول الأركان الأربعة الموقوف عليها بتوقيف الله تعالى التجليات الإيجادية الأمرية المتنزلة بين السموات السبع والأرضين السبع بحسب مقتضيات استعدادات أهل العصر وموجب قابليات أصحاب الزمان في كل يوم بل في كل آن كما أشير إليه بقوله تعالى : {يَتَنَزَّلُ الامْرُ بَيْنَهُنَّ} (الطلاق : 12) وقوله تعالى : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} (الرحمن : 29) في العرش كان العرش مستوى الحق سبحانه بالاعتبار المذكور الثاني لا بالاعتبار المزبور الأول وفي الحقيقة بالنظر إلى هذا الاعتبار هو مستوى أمره الإيجادي لا مستوى نفسه وذاته فلا اضطراب ولا خلجان في الكلام والمقال والحال.
جزء : 5 رقم الصفحة : 361
ثم إن استواء الأمر الإرادي الإيجادي على العرش بمنزلة استواء الأمر التكليفي "الإرشاد"ي على الشرع فكما أن كل واحد من الأمرين قلب الآخر وعكسه المستوي السوي فكذلك كل واحد من العرش والشرع قلب الآخر وعكسه السوي المستوي.
يقول الفقير قواه الله القدير لا شك أن بين زيد والعالم فرقاً من حيث أن الأول يدل على الذات المجردة والثاني على المتصفة بصفة العلم فإسناد الاستواء إلى عنوان الاسم الرحمن الذي يراد به صفة الرحمة العامة وإن كان مشتملاً على الذات دون الاسم الله الذي يراد به الذات وإن كان مستجمعاً لجميع الصفات ينادي بتنزه ذاته تعالى عن الاستواء وأن الذي استوى على العرش المحيط بجميع الأجسام هو الرحمة المحيطة بالكل ومن لم يفرق بين استواء الذات واستواء الصفة فقد أخطأ وذلك أن الله تعالى غني بذاته عن العالمين جميعاً متجل بصفاته وأسمائه في الأرواح والأجسام بحيث لا يرى في مرائي الأكوان إلا صور التجليات الأسمائية والصفاتية ولا يلزم من هذا التجلي أن تحل ذاته في كون من الأكوان إذ هو الآن على ما كان عليه قبل من التوحد والتجرد والتفرد والتقدس ولذا كان أعلى المراتب الوصول إلى عالم الحقيقة المطلقة إطلاقاً ذاتياً كما أشار إليه قوله تعالى : {لا يَمَسُّه إِلا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة : 79) وفي الحديث "إن الله احتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم" ذكره في "الروضة" فهذا يدل على أن الله تعالى ليس في السماء ولا في الأرض ولو كان لانقطع الطلب وأما قوله عليه السلام : "يا رب أنت في السماء ونحن في الأرض فما علامة غضبك من رضاك قال إذا استعملت عليكم خياركم فهو علامة رضاي عنكم وإذا استعملت عليكم شراركم فهو علامة سخطي عليكم" على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في "كتاب المسامرة".
وقوله
364
عليه السلام لجارية معاوية بن الحكم السلمي : "أين الله" فقالت : في السماء فقال : "من أنا" فقالت : أنت رسول الله فقال : "أعتقها فإنها مؤمنة" ونحو ذلك من الأخبار الدالة على ثبوت المكان له تعالى فمصروفة عن ظواهرها محمولة على محل ظهور آثار صفاته العليا ولذا خص السماء بالذكر لأنها مهبط الأنوار ومحل النوازل والأحكام ومن هذا ظهر أن من قال : إن الله في السماء عالم إن أراد به المكان كفر وإن أراد به الحكاية عما جاء في ظاهر الأخبار لا يكفر لأنها مؤولة والأذهان السليمة والعقول المستقيمة لا تفهم بحسب السليقة من مثل هذه التشبيهات إلا عين التنزيه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 361
(5/280)
ـ يروى ـ أن إمام الحرمين رفع الله درجته في الدارين نزل ببعض الأكابر ضيفاً فاجتمع عنده العلماء والأكابر فقام واحد من أهل المجلس فقال : ما الدليل على تنزيهه تعالى عن المكان وهو قال : {الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال : الدليل عليه قول يونس عليه السلام في بطن الحوت : {لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} (الأنبياء : 87) فتعجب منه الناظرون فالتمس صاحب الضيافة بيانه فقال الإمام : إن ههنا فقيراً مديوناً بألف درهم أد عنه دينه حتى أبينه فقبل صاحب الضيافة دينه فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما ذهب في المعراج إلى ما شاء الله من العلى قال هناك : "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ولما ابتلي يونس عليه السلام بالظلمات في قعر البحر ببطن الحوت قال : {لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} فكل منهما خاطب بقوله أنت وهو خطاب الحضور فلو كان هو في مكان لما صح ذلك فدل ذلك على أنه ليس في مكان.
فإن قلت فليكن في كل مكان.
قلت : قد أشرت إلى أنه في كل مكان بآثار صفاته وأنوار ذاته لا بذاته كما أن الشمس في كل مكان بنورها وظهورها لا بوجودها وعينها ولو كان في كل مكان بالمعنى الذي أراده جهالة المتصوفة فيقال فأين كان هو قبل خلق هذه العوالم ألم يكن له وجود متحقق فإن قالوا لا فقد كفروا وإن قالوا بالحلول والانتقال فكذلك لأن الواجب لا يقارن الحادث إلا بالتأثير والفيض وظهور كمالاته فيه لكن لا من حيث أنه حادث مطلقاً بل من حيث أن وجوده مستفاض منه فافهم.
فإن قلت فإذا كان تعالى منزهاً عن الجهة والمكان فما معنى رفع الأيدي إلى السماء وقت الدعاء؟ قلت : معناه الاستعطاء من الخزانة لأن خزائنه تعالى في السماء كما قال : {وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات : 22) وقال : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُه إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر : 21) فثبت أن العرش مظهر استواء الصفة الرحمنية وإن من يثبت له تعالى مكاناً فهو من المجسمة ومنهم جهلة المتصوفة القائلون بأنه تعالى في كل مكان ومن يليهم من العلماء الزائغين عن الحق الخارجين عن طريق العقل والنقل والكشف فمثل مذهبهم وقذره كمثل مذهبهم وقذره فنعوذ بالله تعالى من التلوث بلوث الجهل والزيغ والضلال ونعتصم به عما يعصم من الوهم والخيال والحق حق والأشياء أشياء ولا ينظر إلى الحق بعين الأشياء إلا من ليس في وجهه حياء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 361
{لَه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما {وَمَا بَيْنَهُمَا} من الموجودات الكائنة في الجو دائماً كالهواء والسحاب أو أكثرياً كالطير أي : له تعالى وحده دون غيره لا شركة ولا استقلالاً كل ما ذكر ملكاً وتصرفاً وإحياء وإمانة وإعداماً
365
{وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} الثرى التراب الندي أي : الرطب والأرض كما في "القاموس" ويجوز الحمل على كليهما في هذا المقام فإن ظاهر الأرض تراب جاف وما هو أسفل منه تراب مبتل.
فإن قلت الثرى إذا كان محمولاً على السطح الأخير من العالم فما الذي تحته حتى يكون الله تعالى مالكاً له.
قلت : هو إما الثور أو الحوت أو الصخرة أو البحر أو الهواء على اختلاف الروايات وقال بعضهم أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله تعالى كما لا يعلم أحد ما فوق السدرة إلا هو أي : الذي هو التراب الرطب مقدار خمسمائة عام تحت الأرض ولولا ذلك لأحرقت النار الدنيا وما فيها كما في "إنسان العيون".
قال الكاشفي : (زمين بردوش فرشته ايست وقدمين فرشته بر صخره ايست وصخره برشاخ كاوى وقوائم كاو برشت ما هي ازحوض كوثر وما هي ثابت است بر بحر وبحر بر جهنم مبنى بر ريح وريح بر جابي از ظلمت وآن حجاب بر ثرى وعلم أهل آسمان وزمين تاثرى بيش نرسد وما تحت الثرى جز حق سبحانه نداند) وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الأرضين على ظهر النون والنون على بحر ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي الصخرة المذكورة في سورة لقمان في قوله : {فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ} والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى وما تحت الثرى لا يعلمه إلا الله تعالى وذلك الثور فاتح فاه فإذا جعل الله البحار بحراً واحداً سالت في جوفه فإذا وقعت في جوفه يبست ذكره البغوي.
جزء : 5 رقم الصفحة : 361
(5/281)
{وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} أي : إن تعلن بذكره تعالى ودعائه.
فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك وإعلانك {فَإِنَّهُ} تعالى {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} يقال فلان يحسن إلى الفقراء لا يراد حال ولا استقبال وإنما يراد جود الإحسان منه في جميع الأزمنة والأوقات ومنه قوله {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} علمهما منه مستمر دائم وذلك أن علمه تعالى منزه عن الزمان كما هو منزه عن المكان بأسره فالتغيير على المعلوم لا على العلم عندنا والسر واحد الأسرار وهو ما يكتم ومنه أسرّ الحديث إذا أخفاه وتنكير أخفى للمبالغة في الخفاء أي : يعلم ما أسررته إلى غيرك وشيئاً أخفى من ذلك وهو ما أخطرته ببالك من غير أن تتفوّه به أصلاً وما أسررته في نفسك وأخفى منه وهو ما ستسره فيما سيأتي أي : ما يلقيه الله في قلبك من بعد ولا تعلم أنك ستحدث به نفسك وهذا إما نهي عن الجهر كقوله تعالى : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} (الأعراف : 205) وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لاسماعه بل لغرض آخر من تصور النفس بالذكر ورسوخه فيها ومنعها من الاشتغال بغيره وقطع الوسوسة عنها وهضمها بالتضرع والجؤار وإيقاظ الغير ونشر البركات إلى مدى صوته وتكثير إشهاد ونحو ذلك وجاء أنه عليه السلام لما توجه إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر لا إله إلا الله فقال عليه السلام :
366
"أربعوا على أنفسكم" أي : ارفقوا بأنفسكم لا تبالغوا في رفع أصواتكم "إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم" ويحتاج إلى الجمع بين هذا وبين أمره عليه السلام برفع الأصوات بالتلبية وقد يقال المنهى عنه هنا الرفع الخارج عن العادة الذي ربما آذى بدليل قوله عليه السلام أربعوا على أنفسكم أي : أرفقوا بها كذا في "إنسان العيون".
يقول الفقير : إنما نهى النبي عليه السلام أصحابه عن رفع الصوت إخفاء لأمره عن العدو ولأن أكثر أصحابه كانوا أرباب أحوال فشأنهم الاعتدال بل الإخفاء إلا لضرورة قوية كما في إزاء العدو أو اللصوص تهييباً لهم ولا شك أن أعدى العدو النفس وأشد اللصوص الشيطان ولذا اعتاد الصوفية بجهر الذكر تهييباً لهما وطرداً للوسوسة وقد اختار الحكماء للسلطان جهارة الصوت في كلامه ليكون أهيب لسامعيه وأوقع في قلوبهم كما في "العقد الفريد".
جزء : 5 رقم الصفحة : 361
وفي "التأويلات النجمية" : السر باصطلاح أهل التحقيق لطيفة بين القلب والروح وهو معدن أسرار الروحانية والخفي لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية وهو مهبط أنوار الربوبية وأسرارها ولهذا قال عقيب قوله : {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إله إِلا هُوَ} الآية إشارة إلى أن مظهر ألوهية صفاته العليا إنما هو الخفي الذي هو أخفى من السر أي : ألطف وأعز وأعلى وأشرف وأقرب إلى الحضرة ألا وهو سر وعلم آدم الأسماء كلها وهو حقيقة قوله عليه السلام : "إن الله خلق آدم فتجلى فيه".
ثم اعلم أن لطيفة السر التي بين القلب والروح تكون موجودة في كل إنسان عند نشأته الأولى والخفي ينتشيء عند نشأته الأخرى فلذا يمكن أن يكون كل إنسان مؤمن أو كافر معدن أسرار الروحانية وجملتها المعقولات ولا يمكن إلا لمؤمن موحد أن يكون مهبط أنوار الربانية وأسرارها وملتها المشاهدات والمكاشفات وحقائق العلوم اللدنية.
{اللَّهُ} خبر مبتدأ محذوف أي : ذلك المنعوت بما ذكر من النعوت الجليلة الله {لا إله إِلا هُوَ} لا معبود في الأرض ولا في السماء إلا هو دل على الهوية بهذا القول فإن هو كناية عن غائب موجود والغائب عن الحواس الموجود في الأزل هو الله تعالى وفيه معنى حسن وهو التعالي عن درك الحواس حتى استحق اسم الكناية عن الغائب من غير غيبة كما في "بحر العلوم".
يقول الفقير على هذا المعنى بنى الصوفية ذكرهم بالاسم هو إخفاء وجهراً اجتماعاً وانفراداً مع أن مرجعه هو الله فيكون في حكم الاسم المظهر ولا ينازع فيه إلا مكابر وفي الحديث "إن الله خلق ملكاً من الملائكة قبل أن خلق السموات والأرض وهو يقول أشهد أن لا إله إلا الله ماداً بها صوته لا يقطعها ولا يتنفس فيها ولا يتمها فإذا أتمها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور وقامت القيامة" كما في "التفسير الكبير" فعلم منه أن الركن الأعظم للعالم ودوام وجوده إنما هو الذكر فإذا انقطع الذكر انهدم العالم وكل فوت إنما هو من أجل ترك الذكر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 361
(5/282)
ـ ذكر ـ أن صياداً كان يصيد السمكة وكانت ابنته تطرحها في الماء وتقول إنها ما وقعت في الشبكة إلا لغفلتها.
وفي الحديث "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله" أكده بالتكرار ولا شك أن لا يذكر الله ذكراً حقيقياً وخصوصاً بهذا الاسم الجامع الأعظم المنعوت بجميع الأسماء إلا الذي يعرف الحق المعرفة التامة وأتم الخلق معرفة بالله في كل عصر خليفة الله وهو كامل العصر فكأنه يقول عليه السلام : لا تقوم الساعة وفي الأرض إنسان كامل وهو المشار إليه بأنه العماد المعنوي الماسك فإن شئت قلت الممسك لأجله فإذا انتقل انشق السماء وكورت الشمس وانكدرت النجوم وانتثرت وسيرت الجبال وزلزلت الأرض وجاءت القيامة كذا في "الفكوك" لحضرة الشيخ صدر الدين قدس سره {لَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى}
367
بيان لكون ما ذكر من الخالقية والرحمانية والمالكية والعالمية أسماءه وصفاته من غير تعدد في ذاته تعالى فإنه روى أن المشركين حين سمعوا النبي عليه السلام يقول يا الله يا رحمن قالوا : ينهانا أن نعبد إلهين وقد يدعو إلهاً آخر.
والحسنى تأنيث الأحسن يوصف به الواحدة المؤنثة والجمع من المذكر والمؤنث كمآرب أخرى وآياتنا الكبرى وفضل أسماء الله في الحسن على سائر الأسماء لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الفضل والحسن.
قال في "تفسير الكبير" : يقال إنأربعة آلاف اسم ثلاثة آلاف منها لا يعلمها إلا الله والأنبياء أما الألف الرابعة فإن المؤمنين يعلمونها فثلاثمائة في التوراة وثلاثمائة في الإنجيل وثلاثمائة في الزبور ومائة في القرآن تسعة وتسعون ظاهرة وواحد مكنون من أحصاها دخل الجنة وليس حسن الأسماء لذواتها لأنها ألفاظ وأصوات بل حسنها لحسن معانيها ثم ليس حسن المسمى حسناً ينطلق بالصورة والخلقة فإن ذلك محال على من ليس بجسم بل حسن يرجع إلى معنى الإحسان مثلاً اسم الستار والغفار والرحيم إنما كانت حسنى لأنها دالة على معنى الإحسان.
ـ روي ـ أن حكيماً ذهب إليه قبيح وحسن والتمسا الوصية فقال للحسن : أنت حسن ولا يليق بك الفعل القبيح وللقبيح أنت قبيح إذا فعلت القبيح عظم قبحك الهنا أسماؤك حسنة وصفاتك حسنة فلا تظهر لنا من تلك الأسماء الحسنة والصفات الحسنة إلا الإحسان ويكفينا قبح أفعالنا وسيرتنا فلا تضم إليه قبح العقاب ووحشة العذاب.
وفي الحديث : "اطلبوا الحوايج عند حسان الوجوه" وذلك لأنهم إذا قضوا الحاجات قضوا بوجه طلق وإن ردوا ردوا بوجه طلق :
جزء : 5 رقم الصفحة : 361
كشته از لطف حق بعرصه خاك
حسن صورت دليل سيرت اك
وقال بعضهم :
يدل على معروفه حسن وجهه
وما زال حسن الوجه إحدى الشواهد
وفي الحديث "إذا بعثتم إليّ رجلاً فابعثوه حسن الوجه حسن الاسم" الهنا حسن وجوهنا قبيح بعصياننا فمن هذا الوجه نستحي طلب الحوائج وحسن الأسماء والصفات يدلنا عليك فلا تردنا عن إحسانك خائبين خاسرين.
قال موسى : إلهي أي : خلق أكرم عليك قال الذي لا يزال لسانك رطباً من ذكري قال فأي خلقك أعلم؟ قال : الذي يلتمس إني أعلم علم غيره قال فأي خلقك أعدل؟ قال : الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس قال فأي خلقك أعظم جرماً قال الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قضيته له إلهنا لانتهمك فإنا نعلم أن كل ما أحسنت فهو فضل وكل ما لا تفعله فهو عدل فلا تؤاخذنا بسوء أعمالنا ، قال الحافظ :
در دائره قسمت ما نقطه تسليميم
لطف آنه توانديشى حكم انجه توفر مايى
جزء : 5 رقم الصفحة : 361
{وَهَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ مُوسَى} يحتمل أن يكون أول ما أخبر الله به من أمر موسى فإن السورة من أوائل ما نزل فيكون الاستفهام للإنكار أي : لم يأتك إلى الآن خبر موسى وقصته وقد أتاك الآن بطريق الوحي فتنبه له واذكر لقومك ما فيه من أمر التوحيد ونحوه ويحتمل أنه قد أتاه ذلك سابقاً فيكون استفهام تقرير فكأنه قال قد أتاك.
{إِذْ رَءَا نَارًا} ظرف
368
للحديث.
(5/283)
ـ روي ـ أن موسى عليه السلام تزوج صفوراء وقال السهيلي صفورياء بنت شعيب عليه السلام فاستأذن منه في الخروج من مدين لزيارة أمه وأخيه هارون في مصر فخرج بأهله وأخذ على غير الطريق خوفاً من ملوك الشام فلما أتى وادي طوى وهو بالجانب الغربي من الطور ولد له ولد في ليلة مظلمة ذات برد وشتاء وثلج وكانت ليلة الجمعة فقدح زنده فصلد أي : صوّت ولم يخرج ناراً وقيل كان موسى رجلاً غيوراً يصحب الناس بالليل ويفارقهم بالنهار غيرة منه لئلا يروا امرأته فلذا أخطأ الرفقة والطريق فبينما هو في ذلك إذ رأى ناراً من بعيد على يسار الطريق من جانب الطور فظن أنها من نيران الرعاة {فَقَالَ لاهْلِهِ} لامرأته وولده وخادمه فإن الأهل يفسر بالأزواج والأولاد والعبيد والإماء وبالأقارب وبالأصحاب وبالمجموع كما في"شرح المشارق" لابن ملك {امْكُثُوا} أقيموا مكانكم ولا تتبعوني {إِذْ رَءَا نَارًا} الإيناس الأبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين لأنه يبين به الشيء والانس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم أي : أبصرتها إبصاراً بيناً لا شبهة فيه فأذهب إليها {إِذْ رَءَا نَارًا} راجياً أن أجيئكم من النار {بِقَبَسٍ} بشعلة من النار أي : بشيء فيه لهب مقتبس من معظم النار وهي المرادة بالجذوة في سورة القصص وبالشهاب القبس في سورة النمل يقال قبست منه نارا في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما لم يقطع بأن يقول إني آتيكم لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به انظر كيف احترز موسى عن شائبة الكذب قبل نبوته فإنه حينئذٍ لم يكن مبعوثاً.
قال أكثر المفسرين : إن الذي رآه موسى لم يكن ناراً بل كان نور الرب تعالى ذكر بلفظ النار لأن موسى حسبه ناراً.
وقال الإمام الصحيح أنه رأى ناراً ليكون صادقاً في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء انتهى.
قال بعض الكبار لما كانت النار بغية موسى تجلى الله له في صورة مطلوبة المجازي ليقبل عليه ولا يعرض عنه فإنه لو تجلى له في غير صورة مطلوبة أعرض عنه لاجتماع ما تجلى فيه :
جزء : 5 رقم الصفحة : 368
كنار موسى يراها عين حاجته
وهو الاله ولكن ليس يدريه
أي : ليس يعرف الاله المتجلي في صورة النور والمتكلم فيها {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} هادياً يدلني على الطريق لأن النار قلما تخلو من أهل لها وناس عندها على أنه مصدر سمي به الفاعل مبالغة أو حذف منه المضاف أي : ذا هداية كقوله في سورة القصص {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِه ءَانَسَ مِن} (القصص : 28) وكلمة أو في الموضعين لمنع الخلو دون منع الجمع ومعنى الاستعلاء في على أن أهل النار يكتنفونها عند الاصطلاء قياماً وقعوداً فيشرفون عليها.
{فَلَمَّآ أَتَـاـاهَا} أي : انتهى إلى النار التي آنسها قال ابن عباس رضي الله عنه : رأى شجرة خضراء أحاطت بها من أسفلها إلى أعلاها نار بيضاء تتقد كأضوء ما يكون ولم ير هناك أحداً فوقف متعجباً من شدة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة فلا النار تغير خضرتها ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوء النار فسمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً تكل الأبصار عنه فوضع يديه على عينيه وخاف وبهت فألقيت عليه السكينة والطمأنينة ثم نودي وكانت الشجرة سمرة خضراء أو عوسجة أو عليقاً أو شجرة العناب وهي شجرة لا نار فيها بخلاف غيرها من الأشجار.
قالوا : النار أربعة أصناف : صنف يأكل ولا يشرب وهي نار الدنيا ، وصنف يشرب ولا يأكل وهي نار الشجر الأخضر ، وصنف يأكل
369
ويشرب وهي نار جنهم ، وصنف لا يأكل ولا يشرب وهي نار موسى.
وقالوا أيضاً هي أربعة أنواع : نوع له إحراق بلا نور وهي نار الحجيم ، ونوع له نور بلا إحراق وهي نار موسى ، ونوع له إحراق ونور وهي نار الدنيا ، ونوع ليس له إحراق ولا نور وهي نار الأشجار.
يقول الفقير : النور للمحبة والنار للعشق وعندما كمل وامتلأ نور محبة موسى وتم واشتعل نار عشقه وشوقه تجلى الله له بصورة ما في بطنه وذلك لأنه لما ولد له ولد القلب الذي هو طفل خليفة الله في أرض الوجود في ليلة شاتية هي ليلة الجلال ظهر له نور ذاتي في صورة نار صفاتية لأن الصورة إنما هي للصفات واحترق جميع أنانيته وحصل له التوجه الوحداني فعند ذلك {نُودِىَ} فقيل : يا مُوسَى} {إِنِّى أَنَا} للتوكيد والتحقق يعني (شك مكن ومتيقن شوكه من) {رَبِّكَ} (بروردكار توام) {فَاخْلَعْ} (س بيرون كن وبيكفن ازاى خود) {نَعْلَيْكَ} أمر بذلك لأن الحفوة أدخل في التواضع وحسن الأدب ولذلك كان بشر الحافي ونحوه يسيرون حفاة وكان السلف الصالحون يطوفون بالكعبة حافين :
جزء : 5 رقم الصفحة : 368
كنجى كه زمين وآسمان طالب اوست
ون درنكرى برهنه ايان دارند
(5/284)
أو ليتشرف مشهد الوادي بقدوم قدميه وتتصل بركة الأرض إليه.
وقيل للحبيب تقدم على بساط العرش بنعليك ليتشرف العرش بغبار نعال قدميك ويصل نور العرش يا سيد الكونين إليك أو لأنه لا ينبغي لبس النعل بين يدي الملوك إذا دخلوا عليهم وهذا بالنسبة إلى المرتبة الموسوية دون الجاه المحمدي كما مر آنفاً.
وذكر في فضائل أبي حنيفة أنه كان إذا قدم على الخليفة للزيارة استدعى منه الخليفة أن لا ينزل عن بغلته بل يطأ بها بساطه.
أو لأنهما كانا غير مدبوغين من جلد الحمار فالخطاب خطاب التأديب كما في "حل الرموز".
قال الكاشفي : (أصح آنست كه نعلين از جلد بقربود وطاهر) أو لأن النعل في النوم يعبر بالزوجة فأراد تعالى أن لا يلتفت بخاطره إلى الزوجة والولد.
قال في "الأسرار المحمدية" جاء في غرائب التفسير في قوله سبحانه {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} يعني همك بامرأتك وغنمك.
وقال حضرة الشيخ الشهير بافتاده قدس سره يعني الطبيعة والنفس.
يقول الفقير : لا شك أن المرأة صورة الطبيعة والولد صورة النفس لأن حبه من هواها غالباً وأيضاً أن المرأة في حكم الرجل نفسه لأنها جزؤ منه في الأصل والغنم ونجوه إنما هو من المعاش التابع للوجود فكأنه قيل فاخلع فكر النفس وما يتبعها أياً كان وتعال.
وقال بعضهم : "المراد بالنعلين الدنيا والآخرة كأنه أمره بالاستغراق في معرفة الله ومشاهدته والوادي المقدس قدس جلال الله وطهارة عزته".
وقال بعضهم إن إثبات الصانع يكون بمقدمتين فشبهتا بالنعلين إذ بهما يتوصل إلى المقصود وينتقل إلى معرفة الخالق فبعد الوصول يجب أن لا يلتفت إليهما ليبقى القلب مستغرقاً في نور القدس فكأنه قيل فاخلع فكر الدليل والبرهان فإنه لا فائدة فيه بعد المشاهدة والعيان :
ساكنان حرم از قبله نما آزادن
وفي "المثنوي" :
ون شدى ربامهاى آسمان
سرد باشد جست وجوى نردبان
370
آينه روشن كه شد صاف وجلى
جهل باشد برنهادن صيقلى
يش سلطان خوش نشستهدر قبول
زشت باشد جستن نامه رسول
ولهذا غسل حضرة الشيخ الشبلي قدس سره جميع كتبه بعد الوصول إلى الله تعالى فتدبر {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} المطهر والمتبعد من السوء {طُوًى} اسم الوادي عطف بيان له.
قال في "القاموس" الوادي مفرج بين جبال أو تلال أو آكام وطوى واد بالشام وهو بالتنوين منصرف بتأويل المكان وبتركه غير منصرف بتأويل البقعة المعروفة.
ـ روي ـ أن موسى عليه السلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي.
جزء : 5 رقم الصفحة : 368
{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} أي : اصطفيتك للنبوة والرسالة وقرأ حمزة "وأنا اخترناك" {فَاسْتَمِعْ} (س كوش فرا دار) {لِمَا يُوحَى} للذي يوحى إليك مني من الأمر والنهي اللام متعلقة بالسمع مزيدة في المفعول كما في ردف لكم.
{إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ} (بدرستى كه منم خداى تعالى) وهو بدل من يوص دال على تقدم علم الأصول على الفروع فإن التوحيد من مسائل الأصول والعبادة الآتية من الفروع {لا إله إِلا أَنَا} (نيست خداى بغير من) فإذا كان كذلك {فَاعْبُدْنِى} فخصني بالعبادة والتوحيد ولا تشرك بعبادتي أحداً {وَأَقِمِ الصَّلَواةَ} من عطف الخاص على العام لفضله {لِذِكْرِى} من إضافة المصدر إلى مفعوله أي : لتذكرني وتكون ذاكراً لي فإن ذكر الله كما ينبغي عبارة عن الاشتغال بعبادته باللسان والجنان والأركان والصلاة جامعة لها أو من إضافته إلى فاعله أي لأذكرك بالإثابة.
وفي "التأويلات النجمية" : وأدم المناجات والمحاضرة معي ببذل الوجود لنيل ذكرى إياك بالتجلي على الدوام لإفناء وجودك المتجدد.
{إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ} تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة.
والساعة اسم لوقت تقوم فيه القيامة سمي بها لأنها ساعة حقيقة يحدث فيها أمر عظيم أي : القيامة كائنة لا حالة وإنما عبر عن ذلك بالإتيان تحقيقاً لحصولها بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين {أَكَادُ أُخْفِيهَا} .
قال في "تفسير الجلالين" : استرها للتهويل والتعظيم وأكاد صلة انتهى.
وقال بعضهم : كاد وإن كان موضوعاً للمقاربة إلا أنه من الله للتحقق والوجوب فالمعنى أريد إخفاء وقتها عن الخلق ليكونوا على الحذر منها كل وقت كما أن عسى في قوله تعالى : {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} (الإسراء : 51) للقطع بقربه أي : هو قريب.
وفي "الإرشاد" لا أظهرها بأن أقول هي آتية ولولا ما في الاخبار بذلك من اللطف وقطع الاعذار لما فعلت.
جزء : 5 رقم الصفحة : 371
(5/285)
وفي "التأويلات النجمية" : أكاد أخفي الساعة وإتيانها وأخفى أحوال الجنة ونعيمها وأهوال النار وعذاب جحيمها لئلا تكون عبادتي مشوبة بطمع الجنة وخوف النار بل تكون خالصة لوجهي كما قال تعالى : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة : 5) وفي ذلك تهديد عظيم للعباد وإظهار عزة وعظمة لنفسه إلا أنه سبقت رحمتي غضبي فما أخفيت الساعة وإتيانها {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا تَسْعَى} متعلقة بآتية وما بينهما اعتراض وما مصدرية أي : بسعيها وعملها خيراً كان أو شراً لتمييز المطيع من العاصي وتخصيص السعي بالذكر للإيذان بأن المراد بالذات من إتيانها هو الإثابة بالعبادة وأما العقاب بتركها فمن مقتضيات سوء اختيار العصاة.
{فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} أي : لا يمنعنك عن ذكر الساعة ومراقبتها {مَن لا يُؤْمِنُ بِهَا}
371
أي : بالساعة هذا وإن كان بحسب الظاهر نهياً للكافر عن صد موسى عن الساعة لكنه في الحقيقة نهى له عن الانصداد عنها على أبلغ وجه وآكده فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهى عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية من أصلها {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} مراده المبني على ميل النفس لا يعضده برهان سماوي ولا دليل عقلي.
وفي "الإرشاد" ما تهواه نفسه من اللذات الحسية الفانية {فَتَرْدَى} من الردى وهو الموت والهلاك أي : فتهلك فإن الإغفال عنها وعن تحصيل ما ينجي من أحوالها مستتبع للهلاك لا محالة والمراد بهذا النهي الأمر بالاستقامة في الدين وهو خطاب له والمراد غيره.
واعلم أن هذه الآيات والآتية بعدها دلت على أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام وأنه سمع كلام الله تعالى.
فإن قيل بأي شيء علم موسى أنه كلام الله.
قيل : لم ينقطع كلامه بالنفس مع الحق كما ينقطع به مع المخلوق بل كلمه تعالى بمدد وحداني غير منقطع وبأنه سمع الكلام من الجوانب الستة وبجميع الأجزاء فصار الوجود كله سمعاً وكذا المؤمن في الآخرة وجه محض وعين محض وسمع محض ينظر من كل جهة وبكل جهة وعلى كل جهة وكذا يسمع بكل عضو من كل جهة وإذا شاهد الحق يشهده بكل وجه ليس في جهة من الجهات لا يحتجب سمعه وبصره بالجهات ويجوز أن يخلق الله تعالى علماً ضرورياً بذلك كما خلق لنبينا عليه السلام عند ظهور جبريل بغار حراء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 371
ثم اعلم أن للكلام مراتب فكلام هو عين المتكلم وكلام هو معنى قائم به كالكلام النفسي وكلام مركب من الحروف ومتعين بها وهو في عالمي المثال والحس بحسبهما فموسى عليه السلام قد تنزل له الكلام في مرتبة الأمر إلى مرتبة الروح ثم إلى مرتبة الحس ومن مشى على المراتب لم يعثر ألا ترى أن نبينا عليه السلام إذا نزل عليه الوحي كان يسمع في بعض الأحيان مثل صلصلة الجرس فإن التجلي الباطني لا يمنع مثل هذا.
فإن قلت لماذا كلم الله موسى حتى صار كليم الله دون سائر الأنبياء؟ قلت : لأن الجزاء إنما هو من جنس العمل وكان قد احترق لسانه عليه السلام عند الامتحان الفرعوني فجازاه الله بمناجاته اسماع كلامه :
هر محنتى مقدمه راحتى بود
شد همزبان حق وزبان كليم سوخت
رؤي بعضهم في النوم فقيل : ما فعل الله بك؟ فقال رضي الله عني ورحمني وقال لي كل يا من لم يأكل واشرب يا من لم يشرب فجوزي من حيث عمل حيث لم يقل له كل يا من قطع الليل تلاوة واشرب يا من ثبت يوم الزحف.
وقيل لبعضهم وقد رؤي يمشي في الهواء بم نلت هذه الكرامة؟ فقال : تركت هواي لهواه فسخر لي هواه فالعلم والحكمة إنما هي في معرفة المناسبات قضاء عقلياً وقضاء إلهياً وحكمياً ومن قال إن الله تعالى يفعل خلاف هذا فليس عنده معرفة بمواقع الحكم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 371
{وَمَا تِلْكَ} السؤال بما تلك عن ماهية المسمى أي : حقيقته التي هو بها هو كقولك ما زيد تعني ما حقيقة مسمى هذا اللفظ فيجاب بأنه إنسان لا غير.
قال الكاشفي : (ون موسى نعلين بيرون كرد در وادي مقدس خطاب رسيدكه) وما تلك أي : أي شيء هذه حال كونها مأخوذة {بِيَمِينِكَ يا مُوسَى} فما استفهامية في حيز الرفع بالخبرية لتلك المشار إليها أي : العصا وهو أوفق بالجواب من عكسه والعامل في الحال
372
معنى الإشارة ولم يقل بيدك لاحتمال أن يكون في يساره شيء مثل الخاتم ونحوه فلو أجمل إليه لتحير في الجواب للاشتباه وسيأتي سر الاستفهام إن شاء الله تعالى.
(5/286)
{قَالَ} موسى {هِىَ عَصَاىَ} نسبها إلى نفسه تحقيقاً لوجه كونها بيمينه وتمهيداً لما يعقبه من الأفاعيل المنسوبة إليه عليه السلام {أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا} أي : اعتمد عليها عند الإعياء في الطريق وحال المشي وحين الوقوف على رأس القطيع في المرعى {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى} الهش (بيفشاندن برك ازدرخت) يقال هش الورق يهشه ويهشه خبطه بعصا ليتحات أي : ضربه ضرباً شديداً ليسقط.
والمعنى أخبط بها الورق وأسقطه على رؤوس غنمي لتأكله.
وبالفارسية (وفروميريزم برك ازدر ختها) {قَالَ هِىَ عَصَاىَ} جمع مأربة بفتح الراء وضمها وهي الحاجة {أُخْرَى} لم يقل آخر لرعاية الفاصلة أي : حاجات أخر غير التوكي والهش وهي أنه إذا سار ألقاها على عاتقه وعلق بها قوسه وكنانته وحلابه ومطهرته وحمل عليها زاده وتحدثه.
يعني (درراه باموسى سخن كفتى) وكان لها شعبتان ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا حاول كسره لواه بالشعبتين وفي أسفلها سنان ويركزها فيخرج الماء وتحمل أي : ثمرة أحب وربما يدليها في البئر وتصير شعبتاها كالدلو فيخرج الماء وإذا قصر الرشاء وصله بها وتضيىء بالليل كالشمع وتحارب عنه.
يعني : (بادشمن وى حرب كردى) وإذا تعرضت لغنمه السباع قاتل بها وتطرد الهوام في النوم واليقظة ويستظل بها إذا كان قعد يعني إذا كان في البرية ركزها وألقى كساءه عليها فكان ظلاً وكانت اثني عشر ذراعاً بذراعه عليه السلام من عود آس من شجر الجنة استودعها عند شعيب ملك من الملائكة في صورة إنسان.
وقال الكاشفي : (آن عصا ازوب مرد بهشت بود طول اوده كز وسراو دوشاخه ودر زيراو سناني نشانده نامش عليق بود يانيعه از آدم ميراث بشعيب رسيده بود وازو بموسى رسيد) وفي العصا إشارة إلى أن الأنبياء عليهم السلام رعاة الخلق والخلق مثل البهائم محتاجون إلى الرعي والكلاءة من ذئاب الشياطين وأسد النفس فلا بد من العمل بإرشادهم والوقوف بالخدمة عند باب دارهم ، قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 372
شبان وادى ايمن كهى رسد بمراد
كه ند سال بجان خدمت شعيب كند
قال بعض أهل المعرفة لما كانت العصا صورة النفس المطمئنة المفنية للموهومات والمتخيلات لأن صورة الحية تستعد للإيمان كما ظهر بعض الجن بالمدينة في صورة الحية ونهوا عن قتلها كما ذكر في "الصحاح" لذلك قال موسى عليه السلام : {قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا} أي : أستعين بها على مطالبي في السر {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى} أي : على رعايا أعضائي وحواسي وعلى ما تحت يدي من القوى الطبيعية والبدنية {قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا} أي : مقاصد لا تحصل إلا بها من الكمالات المكتسبة بالمجاهدات البدنية والرياضات النفسة فإذا جاهدت وارتاضت وأنابت إلى ربها انقلبت المعصية التي هي السيئة طاعة أي : حسنة كما قال تعالى في صفة التائبين {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ} (الفرقان : 70).
فإن قيل السؤال للاستعلام وهو محال على العلام فما الفائدة فيه قلنا فائدته أن من أراد أن يظهر من الحقير شيئاً نفيساً يعرضه أولاً على الحاضرين ويقول ما هذا فيقال فلان
373
ثم إنه يظهر صنعه الفائق فيه فيقول لهم : خذوا منه كذا وكذا كما يريك الزراد زبرة من حديد ويقول لك ما هي فتقول زبرة حديد ثم يريك بعد أيام لبوساً مسرداً فيقول لك هي تلك الزبرة صيرتها إلى ما ترى من عجيب الصنع وأنيق السرد فالله تعالى لما أراد أن يظهر من العصا تلك الآيات الشريفة عرضها أولاً عليه فقال : هل حقيقة ما في يدك إلا خشبة لا تضر ولا تنفع ثم قلبها ثعباناً عظيماً فنبه به على كمال قدرته ونهاية حكمته.
قال الكاشفي : (استفهام متضمن تنبيه است يعني حاضر شو تا عجايب بيني).
جزء : 5 رقم الصفحة : 372
(5/287)
وقال في "التأويلات النجمية" : إنما امتحن موسى بهذا السؤال تنبيهاً له ليعلم أن للعصا عند الله اسماً آخر وحقيقة أخرى غير ما علمه منها فيحيل علمها إلى تعالى فيقول : أنت أعلم بها يا رب لما اتكل على علم نفسه وقال هي عصاي فكأنه قيل له أخطأت في هذا الجواب خطأين أحدهما في التسمية بالعصا والثاني في إضافتها إلى نفسك وهو ثعباني لا عصاك.
فإن قيل هذا سؤال من الله مع موسى ولم يحصل لمحمد عليه السلام.
قلنا خاطبه أيضاً في قوله : {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِه مَآ أَوْحَى} (النجم : 10) إلا أنه ما أفشاه وكان سراً لم يؤهل له أحداً من الخلق وأيضاً فإن دار الكلام بينه وبين موسى فأمة محمد يخاطبونه في كل يوم مرات على ما قاله عليه السلام : "المصلي يناجي ربه" وقال بعضهم : فهم موسى أن هذا السؤال ليس للاستعلام لأنه تعالى منزه عن ذلك بل للتذكر واستحضار حقيقتها وما يعلم من منافعها ولذا زاد في الجواب.
وقال الكاشفي : (جواب داد وجهت تعداد نعم رباني برآن افزود) وقال بعضهم : سأل الله عما في يده للتقرير على أنها عصا حتى لا يخاف إذا صارت ثعباناً ويعلم أنها معجزة عظيمة لإزالة الوحشة عن موسى ولذا كرر يا موسى يعني : ليحصل زيادة الانبساط والاستئناس وإزالة تلك الهيبة والدهشة الحاصرة من استماع ذلك الكلام الذي لم يشبه كلام الخلق مع مشاهدة تلك النار وتلك الشجرة وسمع تسبيح الملائكة ومن ثمة لما زالت بذلك اطنب في الجواب قال نبينا عليه السلام : قلت أي : ليلة المعراج : اللهم إنه لما لحقني استيحاش سمعت منادياً ينادي بلغة تشبه لغة أبي بكر رضي الله عنه فقال لي : قف فإن ربك يصلي فعجبت من هاتين هل سبقني أبو بكر إلى هذا المقام وإن ربي لغني عن أن يصلي فقال تعالى : أنا الغني عن أن أصلي لأحد وإنما أقول سبحاني سبحاني سبقت رحمتي على غضبي أقرأ يا محمد هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً فصلاتي رحمة لك ولأمتك وأما أمر صاحبك يا محمد فإن أخاك موسى كان أنسه بالعصا فلما أردنا كلامه قلنا وما تلك بيمينك يا موسى قال : هي عصاي وشغل بذكر العصا على عظيم الهيبة وكذلك أنت يا محمد لما كان أنسك بصاحبك أبي بكر خلقنا ملكاً على صورته ينادي بلغته ليزول عنك الاستيحاش لما يلحقك من عظيم الهيبة كذا في "إنسان العيون".
وذكر الراغب الأصفهاني في "المحاضرات" إنه قال الإمام الشاذلي قدس سره صاحب الحزب البحر اضطجعت في المسجد الأقصى فرأيت في المنام قد نصب تحت خارج الأقصى في وسط الحرم فدخل خلق كثير أفواجاً أفواجاً فقلت : ما هذا الجمع فقالوا : جمع الأنبياء والرسل عليهم السلام قد حضروا ليشفعوا في حسين الحلاج عند محمد عليه السلام في إساءة أدب وقعت منه فنظرت إلى التخت
374
جزء : 5 رقم الصفحة : 372
فإذا نبينا صلى الله عليه وسلّم جالس عليه بانفراده وجميع الأنبياء على الأرض جالسون مثل إبراهيم وموسى وعيسى ونوح عليهم السلام فوقفت أنظر وأسمع كلامهم فخاطب موسى نبينا عليه السلام وقال له : إنك قد قلت : "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" فأرنا منهم واحداً فقال : هذا وأشار إلى الإمام الغزالي قدس سره فسأله موسى سؤالاً فأجابه بعشرة أجوبة فاعترض عليه موسى بأن الجواب ينبغي أن يطابق السؤال والسؤال واحد والجواب عشرة فقال الإمام : هذا اعتراض وارد عليك أيضاً حين سئلت {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} وكان الجواب عصاي فأوردت صفات كثيرة فقال : فبينما أنا متفكر في جلالة قدر محمد عليه السلام وكونه جالساً على التخت بانفراده والخليل والكليم والروح جالسون على الأرض إذ رفسني شخص برجله رفسة مزعجة أي : ضربني فانتبهت فإذا بقيم يشعل قناديل الأقصى قال : لا تعجب فإن الكل خلقوا من نوره فخررت مغشياً فلما أقاموا الصلاة أفقت وطلبت القيم فلم أجده إلى يومي هذا ومن هذا قال في قصيدة البردة :
وانسب إلى ذاته ما ئشت من شرف
وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
وقال آخر :
سر خيل انبيا وسيهدار اتقيا
سلطان باركاه دنا قائد امم
{قَالَ} الله تعالى اشتئناف بياني {أَلْقِهَا يا مُوسَى} اطرحها لترى من شأنها ما لم يخطر ببالك والالقاء والنبذ والطرح بمعنى واحد.
على الأرض.
قال الكاشفي : (موسى كمان بردكه اورانيزون نعلين مى بايد افكند س بيفكند آنرا ازقفاى خود في الحال آوازى عظيم بكوش وى رسيد بازنكريست) {فَإِذَا هِىَ} (س ازآنجا آن عصا) {حَيَّةٌ} (مارى بود) {تَسْعَى} (مى شتافد بهر جانب) والسعي المشي بسرعة وخفة حركة والجملة صفة لحية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 372
(5/288)
ـ روي ـ أنه حين ألقاها انقلبت حية صفراء في غلظ العصا ثم انتفخت وعظمت فلذلك شبهت بالجان تارة وهو الخفيف كما قال تعالى : {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} (النمل : 10) أي : باعتبار ابتداء حالها وسميت ثعباناً أخرى وهو أعظمها كما قال تعالى : {فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} أي : باعتبار انتهاء حالها وعبر عنها ههنا بالاسم العام للحالين أي : الصغير والكبير والظاهر أنها انقلبت من أول الأمر ثعباناً وهو الأليق بالمقام كما يفصح عنه قوله تعالى : {فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} (الأعراف : 7) وإنما شبهت بالجان في الجلادة وسرعة الحركة.
قال بعض أهل المعرفة أما انقلاب العصا حيواناً فإيماء إلى انقلاب المعصية طاعة وحسنة فإن العصا من المعصية والمعصية إذا انقلبت صارت طاعة كما قال تعالى : {إِلا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا فأولئك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْـاًا} (الفرقان : 70) وهذا التبديل من مقام المغفرة وأما المحو في قوله عليه السلام : "اتبع السيئة الحسنة تمحها" فعبارة عن حقيقة العفو.
قال المولى الجامي في قوله : {فأولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ} يعني في الحكم فإن الأعيان أنفسها لا تتبدل ولكن تنقلب أحكامها انتهى.
يقول الفقير على هذا يدور انقلاب العصا حية حين الإلقاء ويحول النحاس فضة عند طرح الأكسير وتمثل جبريل في الصورة البشرية فاعرفه فإن باب عظيم من دخله بالعرفان التام أمن من الأوهام ، قال الحافظ :
375
دست ازمس وجود و مردان ره بشوى
تا كيمياى عشق بيابى وزر شوى
وقال المولى الجامي :
و كسب علم كردى در عمل كوش
كه علم بى عمل زهريست بى نوش
ه حاصل زآنكه دانى كيميارا
مس خودرا نكرده زرسارا
جزء : 5 رقم الصفحة : 372
{قَالَ} استئناف بياني {خُذْهَا وَلا تَخَفْ} روي أنها انقلبت ثعباناً ذكراً يبتلع كل شيء يمر به من صخر وحجر وعيناه تتقدان كالنار ويسمع لأنيابه صريف شديد وكان بين لحييه أربعون ذراعاً أو ثمانون لما رآه كذلك خاف ونفر لأن الخوف والهرب من الحيات ونحوها من طباع البشر.
فإن قيل لم خاف موسى من العصا ولم يخف إبراهيم من النار؟ قلنا : لأن الخليل كان أشد تمكيناً إذ فرق بين بداية الحال ونهايتها وقد أزال الله هذا الخوف من موسى بقوله : ولا تخف ولذا تمكن من أخذ العصا كما يأتي فصار أهل تمكين كالخليل عليهما السلام ألا ترى أن نبينا عليه السلام أول ما جاءه جبريل خافه فرجع من الجبل مرتعداً ثم كان من أمره ما كان حتى استعد لرؤيته على صورته الأصلية ليلة المعراج كما قال تعالى : {وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} (النجم : 13 ـ 14).
وفي "التأويلات النجمية" {خُذْهَا وَلا تَخَفْ} يعني كنت تحسب أن لك فيها المنافع والمآرب في البداية ثم رأيتها وأنت خائف من مضارها خذها ولا تخف لتعلم أن الله تعالى هو الضار والنافع فيكون خوفك ورجاؤك منه إليه لا من غيره ، وفي "المثنوي" :
هركه ترسيد از حق وتقوى كزيد
ترسد ازوى جن وأنس وهركه ديد
{سَنُعِيدُهَا} (زود باشدكه كردانيم ويرا) {سِيَرتَهَا الاولَى} السيرة فعلة من السير أي : نوع منه تجوز بها للطريقة والهيئة وانتصابها على نزع الجار أي : سنعيدها بعد الأخذ إلى هيئتها الأولى التي هي الهيئة العصوية فوضع يده في فم الحية فصارت عصا كما كانت ويده في شعبتيها في الموضع الذي يضعها فيه إذا توكأ وأراه هذه الآية كيلا يخاف عند فرعون إذا انقلبت حية وفي الحديث "يجاء لصاحب المال الذي لم يؤد زكاته بذلك المال على صورة ثعبان" يقول الفقير : لا شك عند أهل المعرفة أن لكل جسد روحاً ولو كان معنوياً ولكل عمل وخلق ووصف صورة معتدلة في الدنيا تتحو صورة محسوسة في الآخرة كما قال تعالى : {فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام : 108) أي : يظهر لهم صور أعمالهم كما مر في سورة الأنعام ولما كان حب المال من أشد صفات النفس الأمارة التي هي في صورة ثعبان ضار لا جرم يظهر يوم تبلى السرائر على هذا الصورة المزعجة ويصير طوقاً لعنق صاحبه فإذا تزكى موسى القلب من حب المال وأحب بذله في سبيل الله جاء في صورة حسنة يهواها مناسبة لما عمل به من الخيرات وقس حال البواقي عليه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 376
ثم أراه آية أخرى فقال :
{وَاضْمُمْ} (ضم كن وببر) {يَدَكَ} اليمنى {إِلَى جَنَاحِكَ} (بسوى بهلوى خود درزير بغل) وجناح الإنسان جنبه وعضده إلى أصل إبطه كما أن جناحي العسكر ناحيتاه مستعار من جناحي الطائر وقد سميا جناحين لأنه يجنحهما أي : يميلها عند الطيران.
والمعنى اضمم يدك إلى جنبك تحت العضد {تَخْرُجْ} (تابيرون آيد جواب) {بَيْضَآءَ} (در حالتى كه سفيد وروشن) حال من الضمير فيه
376
(5/289)
{مِنْ غَيْرِ سُواءٍ} حال من الضمير في بيضاء أي : كائنة من غير عيب وقبح كنى به عن البرص كما كنى بالسوءة عن العورة لما أن الطباع تعافه وتنفر عنه.
ـ روي ـ أن موسى عليه السلام كان أسمر اللون فإذا أدخل يده اليمنى تحت إبطه الأيسر وأخرجها كان عليها شعاع كشعاع الشمس يغشى البصر ويسد الأفق ثم إذا ردها إلى جنبه صارت إلى لونها الأول بلا نور وبريق {أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَـاتِنَا الْكُبْرَى} أي : معجزة أخرى غير العصا وانتصابها على الحالية من الضمير في بيضاء.
{لِنُرِيَكَ} أي : فعلنا ما فعلنا من قلب العصا حية وجعل اليد بيضاء لنريك بهاتين الآيتين {مِنْ ءَايَـاتِنَا الْكُبْرَى} أي : بعض آياتنا الكبرى فكل من العصا واليد من الآيات الكبرى وهي تسع كما قال تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَـاتٍ بَيِّنَـاتٍ} (الإسراء : 101) وقد سبق بيانها ونظير الآية قوله تعالى في حق نبينا عليه السلام {لَقَدْ رَأَى} أي : محمد ليلة المعراج {مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (النجم : 18) والفرق بين آيات موسى وآيات نبينا عليهما السلام أن آيات موسى عجائب الأرض فقط وآيات نبينا عجائب السموات والأرض كما لا يخفى هذا هو اللائح في هذا المقام فاعرفه.
واعلم أن موسى عليه السلام أدخل يده في جيبه فأخرجها بيضاء من غير سوء وهذا من كرامات اليد بعد التحقق بحقيقة الجود والكرم والسخاء والإيثار فالجود عطاؤك ابتداء قبل السوء والكرم عطاؤك ما أنت محتاج إليه وبالعطاء صحت الخلة.
ـ روي ـ أن الله تعالى أرسل إلى إبراهيم جبريل عليهما السلام على صورة شخص فقال له : يا إبراهيم أراك تعطي الأوداء والأعداء فقال : تعلمت الكرم من ربي رأيته لا يضيعهم فأنا لا أضيعهم فأوحى الله إليه أن يا إبراهيم أنت خليلي حقاً.
ومن كرامات اليد ما روي أن نبينا عليه السلام نبع الماء من بين أصابعه في غزوة تبوك حتى شرب منه ورفعه خلق كثير ورمى التراب في وجوه الأعداء فانهزموا وسبح الحصى في يده ، قال العطار قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 376
داعي ذرات بود آن اك ذات
در كفش تسبيح ازان كفتى حصات
وقبض من شاء من الأولياء في الهواء فيفتح يده عن فضة أو ذهب إلى أمثال هذا فإذا سمعت هذا عرفت أن كل كمال يظهر في النوع الإنسان فهو أثر عمل من الأعمال أو حال من الأحوال فبين كل شيئين إما مناسبة ظاهرة أو باطنة إذا طلبها الحكيم المراقب وجدها نسأل الله تعالى أن يوفقنا لصرف الأعضاء والقوى إلى ما خلقت هي لأجله ويفيض علينا فضله بسجله.
{اذْهَبْ} يا موسى بطريق الدعوة والتحذير {إِلَى فِرْعَوْنَ} وملئه بهاتين الآيتين العصا واليد لقوله تعالى في سورة القصص {فَذَانِكَ بُرْهَـانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلايْهِ} (القصص : 32) وأما قوله تعالى : {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـاَايَـاتِى} (طه : 42) فسيأتي معنى الجمع فيه إن شاء الله تعالى {إِنَّه طَغَى} أي : جاوز حد العبودية بدعوى الربوبية استقلالاً لا اشتراكاً كما قال : {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى} .
وفيه إشارة إلى معنيين :
أحدهما : أن السالك الصادق إذا بلغ مرتبة كماله يقيضه الله لدلالة عباده وتربيتهم.
والثاني : أن كمال البالغين في أن يرجعوا إلى الخلق ومخالطتهم والصبر على أذاهم ليختبروا بذلك حلمهم وعفوهم.
فإن قيل لم أرسله الله بالعصا؟ قلنا : لأن العصا من آلات الرعاة وموسى عليه السلام كان راعياً فأرسله الله مع آلته وأيضاً كان فرعون بمنزلة
377
الحمار فاحتاج إلى العصا والضرب ، وفي "المثنوي" :
كرترا عقلست كردم لطفها
وزخرى آورده ام خررا عصا
آننان زين آخرت بيرون كنم
كز عصا كوش وسرت رخون كنم
اندرين آخر خران ومردمان
مى نيابند از خفاى تو امان
يك عصا آورده ام بهر ادب
هر خرى را كونباشد مستحب
ازدهائى ميشود در قهر تو
كاتردهائى كشته در فعل وخو
ازدهائى كوهى تو بى امان
ليك بنكر ازدهاى آسمان
اين عصا ازدوزخ آمد اشنى
كه هلا بكريز اندر روشنى
ورنه درمانى تو دردندان من
مخلصت نبود زدربندان من
اين عصائى بود اين دم ازدهاست
تانكوشى دوزخ يزدان كجاست
هركجا خواهد خدا دوزخ كند
اوج را برموغ دام وفخ كند
هم زدندانت برآيد دردها
جزء : 5 رقم الصفحة : 376
تابكوئى دوز خست وادها
يا كند آب دهانت را عسل
كه بكوئى كه بهشست وحلل
ازبن دندان برو ياند شكر
تابدانى قوت حكم قدر
س بدندان بى كنهانرا مكز
فكركن ازضربت نا محترز
جزء : 5 رقم الصفحة : 376
(5/290)
{قَالَ} موسى مستعيناً بالله لما علم أنه حمل ثقيل وتكليف عظيم ، يعني : (باخود انديشيدكه من ننها بافرعون ولشكر اوكونه مقاومت نوانم كرد س ازخدا تقويت طلبيده آغاز ودعا كرد وازروى نياز كفت) {رَبِّ} (اى روردكار من) {اشْرَحْ لِى صَدْرِى} (كشاده كردان براى من سينه مرا) والمراد بالصدر هنا القلب لا العضو الذي فيه القلب أي : وسع قلبي حتى لا يضيق بسفاهة المعاندين ولجاجهم ولا يخاف من شوكتهم وكثرتهم.
واعلم أن شرح الصدر من نعم الله تعالى على الأنبياء وكمل الأولياء وقد أخذ منه نبينا عليه السلام الحظ الأوفى لأنه حصل له بصورته ومعناه إذ شق صدره في صباوته وألقي عنه العلقة التي هي حظ الشيطان ومغمزه وغسل في طست من الذهب وأيضاً في البلوغ إلى الأربعين لينشرح لتحمل أثقال الرسالة وفي المعراج ليتسع لأسرار الحق تعالى فجاء حاملاً للأوصاف الجليلة التي لا توصف من الحلم والعفو والصبر والكف واللطف والدعاء والنصيحة إلى غير ذلك.
{وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى} سهل علي أمر التبليغ بإحداث الأسباب ورفع الموانع.
{وَاحْلُلْ} وافتح ، وبالفارسية (وبكشاى) {عُقْدَةً} لكنة ، وبالفارسية (كرهى را) {مِّن لِّسَانِى} متعلق بالفعل وتنكير عقدة يدل على قلتها في نفسها قالوا ما الإنسان لولا اللسان الابهمية مرسلة أو صورة ممثلة والمرؤ بأصغريه قلبه ولسانه.
{يَفْقَهُوا قَوْلِي} أي : يفهم هو وقومه كلامي عند تبليغ الرسالة فإنما يحسن التبليغ من البليغ وكان في لسانه رتة ، وبالفارسية (يستكى زبان) من جمرة أدخلها فاه وذلك أن فرعون حمله يوماً فأخذ لحيته ونتفها لما كانت مرصعة بالجواهر فغضب وقال إن هذا عدوي
378
المطلوب وأمر بقتله فقالت آسية زوجته : أيها الملك إنه صبي لا يفرق بين الجمر والياقوت فاحضرا بين يدي موسى بأن جعل الجمر في طست والياقوت في آخر فقصد إلى أخذ الجوهر فأمال جبرائيل يده إلى الجمر فرفعه إلى فيه فاحترق لسانه فكانت منه لكنة وعجمة وإلى هذه القصة أشار العطار قدس سره بقوله :
جزء : 5 رقم الصفحة : 378
همو موسى اين زمان در طست آتش مانده ايم
طفل فرعونيم ما كان ودهان راخكرست
ولعل تبيض يده لما كانت آلة لأخذ الجمر واللحية والنتف.
فإن قيل لم احترق لسان موسى ولم يحترق أصابعه حين قبض على الجمر عند امتحان فرعون؟ قلنا ليكون معجزة بعد رجوعه إلى فرعون بالدعوة لأنه شاهد احتراقه عنده فيكون دليلاً على إعجازه كأنه يقول الكليم أخرجني الله من عندك يا فرعون مغلولاً ذا عقدة ثم ردني إليك فصيحاً متكلماً وأورثني ذلك ابتلاء من ربي حال كوني صغيراً أن جعلني كليماً مع حضرته حال كوني كبيراً وأورث تناول يدي إلى النار آية نيرة بيضاء كشعلة النار في أعينكم فكل بلاء حسن.
قال في "الأسئلة المقحمة" : لما دعا موسى بهذا الدعاء هل انحلت أي : كما يدل عليه قوله قال : قد أوتيت سؤلك فلماذا قال وأخي هارون هو أفصح مني لساناً وقال فرعون فيه ولا يكاد يبين؟ الجواب : يجوز أن يكون هارون هو أفصح منه مع زوالها وقول فرعون تكلم به على وجه المعاندة والاستصغار كما يقول المعاند لخصمه : لا تقول شيئاً ولا تدري ما تقول وقالوا لشعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وقالوا لهود ما جئتنا بينة ولنبينا عليه السلام قلوبنا في أكنة انتهى وإلى هذا التأويل جنح المولى أبو السعود في "الإرشاد".
{وَاجْعَل لِّى وَزِيرًا} الوزير حباء الملك أي : جليسه وخاصته الذي يحمل ثقله ويعينه برأيه كما في "القاموس" فاشتقاقه من الوزر بالكسر الذي هو الثقل لأنه يحمل الثقل عن أميره أو من الوزر محركة وهو الملجأ والمعتصم لأن الأمير يعتصم برأيه ويلجأ إليه في أموره والمعنى واجعل لي موازراً يعاونني في تحمل أعباء ما كلفته {مِّنْ أَهْلِى} من خواصي وأقربائي فإن الأهل خاصة الشيء ينسب إليه ومنه قوله تعالى : {إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى} وأهل الله خاصته كما في الحديث "إنأهلين من الناس أهل القرآن وهم أهل الله" كما في "المقاصد الحسنة" وهو صفة لوزير أو صلة لأجعل.
{هَـارُونَ} مفعول أول لأجعل قدم عليه الثاني وهو وزيراً للعناية به لأن مقصوده الأهم طلب الوزير {أَخِى} بدل من هارون.
{اشْدُدْ بِه أَزْرِى} الأزر القوة والظهر أي : أحكم به قوتي أو قوّ به ظهري.
(5/291)
{وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى} واجعله شريكي في أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي.
فإن قيل كيف سأل لأخيه النبوة؟ فإنما هي باختيار الله تعالى كما قال : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} قلت إن في إجابة الله دليلاً على أن سؤاله كان بإذن الله والهاماً منه ولما كان التعاون في الدين درجة عظيمة طلب أن لا يحصل إلا لأخيه.
وفيه إشارة إلى أن صحبة الأخيار وموازرتهم مرغوب للأنبياء فضلاً عن غيرهم ولا ينبغي أن يكون المرؤ مستبداً برأيه مغروراً بقوته وشوكته وينبغي أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويجوز لنفسه الشريك في أمور المناصب ولا تقدح وزارة هارون في نبوته وقد كان أكثر أنبياء بني إسرائيل كذلك أي : كان أحدهم موازراً ومعيناً للآخر في تبليغ الرسالة وكان هارون بمصر
379
حين بعث موسى نبياً بالشام.
جزء : 5 رقم الصفحة : 378
{كَىْ} غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة ، والمعنى بالفارسية (تا) {نُسَبِّحَكَ} تسبيحاً {كَثِيرًا} أي : ننزهك عما لا يليق بك من الأفعال والصفات التي من جملتها ما يدعيه فرعون {وَنَذْكُرَكَ} ذكراً {كَثِيرًا} أي : على كل حال ونصفك بما يليق بك من صفات الكمال ونعوت الجمال والجلال فإن التعاون يهيج الرغبات ويؤدي إلى تكاثر الخير وتزايره.
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن للجليس الصالح والصديق الصديق أثراً عظيماً في المعاونة على كثرة الطاعة والموافقة والمرافقة في اقتحام عقبات السلوك وقطع مفاوزه ، قال الحافظ :
دريغ ودردكه تا اين زمان ندانستم
كه كيمياى سعادت رفيق بود رفيق
{إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا} الباء متعلقة ببصيراً قدمت عليه لرعاية الفواصل أي : عالماً بأحوالنا وإن التعاون يصلحنا وإن هارون نعم الوزير والمعين لي فيما أمرتني به فإنه أكبر مني سناً وأفصح لساناً وكان أكبر من موسى بأربع سنين أو بسنة على الاختلاف الروايات.
جزء : 5 رقم الصفحة : 378
{قَالَ} الله تعالى {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسَى} مسئولك ومطلوبك فعل بمعنى مفعول كالخبز بممعنى المخبوز والإيتاء عبارة عن تعلق آرادته تعالى بوقوع تلك المطالب وحصولها له.
قال داود القيصري قدس سره : ومن جملة كمالات الأقطاب ومنن الله عليهم ألاّ يبتليهم بصحبة الجهلاء بل يرزقهم صحبة العلماء الأدباء الأمناء يحملون عنهم أثقالهم وينفذون أحكامهم وأقوالهم انتهى وذلك كما كان آصف بن برخيا وزيراً لسليمان عليه السلام الذي كان قطب وقته ومتصرفاً وخليفة على العالم فظهر عنه ما ظهر من إتيان عرش بلقيس كما حكاه الله تعالى في القرآن.
وكان أنوشروان يقول لا يستغني أجود السيوف عن الصيقل ولا أكرم الدواب عن السوط ، ولا أعلم الملوك عن الوزير وفي الحديث : "إذا أراد الله بملك خيراً قيض له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن نوى خيراً أعانه وإن نوى شراً كفه" وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وزراء كما قال : "إن لي وزيرين في الأرض أبا بكر وعمر ووزيرين في السماء جبريل وإسرافيل" فكان من في السماء يمده عليه السلام من جهة الروحانية ومن في الأرض من جهة الجسمانية قال الله تعالى {هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِه وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال : 62) فنصر الله سماوي ونصر المؤمنين أرضي وبالكل يحصل الإمداد مطلقاً وفي الحديث : "إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أهل القبور" ذكره الكاشفي في "الرسالة العلية" وابن الكمال في "شرح الأربعين" حديثاً والمراد من أهل القبور الروحانيون سواء كانوا في الأجساد الكثيفة أو اللطيفة فافهم.
ثم إن العادل يرث من النبي عليه السلام هذه الوزارة وأما الظالم فيجعل له وزير سوء وهو علامة غضب الله وانتقامه ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
بقومي كه نيكى سندد خداى
دهد خسرو عادل نيك راى
و خواهد كه ويران كند عالمي
كند ملك دريه ظالمي
وقال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 380
زمانه كرنه سر قلب داشتى كارش
بدست آصف صاحب عيار بايستى
380
ولما كان السلطان ظل الله في الأرض ظهر مظهر الحقيقة الجامعة الإلهية وهو القطب الذي هو مدار العالم فكما أن للقطب وزراء من العلماء الأمناء كذلك لمن هو ظله وزراء من العادلين الأدباء وهذه الوزراة ممتدة إلى زمن المهدي ووزراؤه سبعة هم أصحاب الكهف يحييهم الله في آخر الزمان يختم بهم رتبة الوزراء المهدية ومنهم الوزراء السبعة للملوك العثمانية وهم الذين يسمون بوزراء القبة.
(5/292)
واعلم أن موسى بطريق الإشارة سلطاننا في الآفاق وروحنا في الأنفس وهارون هو الوزير أياً من كان في الآفاق والعقل في الأنفس وفرعون هو رئيس أهل الحرب من النصارى وغيرهم والنفوس الأمارة بالسوء فإذا قارن الروح بالعقل الكامل المشير المدبر وهو عقل المعاند يغلب على النفس وقواها ويخلص حصن القلب من أيديها كما أن السلطان إذا اصطفى لوزارته رجلاً صالحاً عادلاً يغلب إن شاء الله تعالى على الأعداء ويتصرف في بلادهم وحصونهم ، وفي "المثنوي" :
عقل تو دستور مغلوب هواست
در وجودت رهزن راه خداست
واى آن شه كه وزيرش اين بود
جاى هردو دوزخ بركين بود
شاد آن شاهى كه اورا دستكير
باشد اندركار ون آصف وزير
شاه عادل ون قرين اوشود
نام او نور على نور اين بود
ون سليمان شاه وون آصف وزير
نور بر نورست وعنبر بر عبير
شاه فرعون وو هامانش وزير
هر دورا نبود زبد بختى كزير
س بود ظلمات بعضى فوق بعض
نى خرد يارو نه دولت روز عرض
عقل جزؤى را وزير خودمكير
عقل كل را ساز اى سلطان وزير
مر هوارا تو وزير خود مساز
كه بر آرد جان اكت از نماز
كين هوا ر حرص وحالى بين بود
عقل را انديشه يوم الدين بود
وفي الحديث : "من قلد إنساناً عملاً وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين" ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
كسى راكه باخواجه تست جنك
بدستش رامى دهى وب وسنك
سك آخر كه باشدكه خوانش نهند
بفرماى تا استخوانش نهند
مكافات موذى بمالش مكن
كه بيخش بر آورد بايد زبن
سركرك بايد هم اول بريد
نه ون كوسفندان مردم دريد
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ} من قولهم من عليه منا بمعنى أنعم عليه لا من قولهم عليه منة بمعنى امتن عليه لأن المنة تهدم الصنيعة.
وفي "الكبير" : فإن قيل ذكر تلك النعم بلفظ المنة مؤذ والمقام مقام التلطف قلنا عرفه إنه لم يستحق شيئاً منها بذاته وإنما خصه بها بمحض التفضل والمعنى وبالله لقد أنعمنا عليك يا موسى أكرمناك بكرامات من غير أن تسألنا {مَرَّةً أُخْرَى} في وقت ذي مر وذهاب أي : وقتاً غير هذا الوقت فإن أخرى تأنيث آخر بمعنى غير والمرة في الأصل اسم للمر الواحد الذي هو مصدر قولك مر يمر مراً ومروراً أي : ذهب ثم أطلق
381
على فعلة واحدة من الفعلات متعدية كانت أو لازمة ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد ماله أفراد متحدة فصار علماً في ذلك حتى جعل معياراً لما في معناه من سائر الأشياء فقيل هذا بناء المرة ويقرب منها الكرة والتارة والدفعة المراد به ههنا الوقت الممتد الذي وقع فيه ما سيأتي ذكره من المنن العظيمة الكثيرة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 380
{إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ} ظرف لمننا والمراد من هذا الوحي ليس الوحي الواصل إلى الأنبياء لأن أم موسى ما كانت من الأنبياء فإن المرأة لا تصلح للإمارة والقضاء فكيف تصلح للنبوة بل الإلهام كما في قوله تعالى : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} (النحل : 68) بأن أوقع الله في قلبها عزيمة جازمة على ما فعلته من اتخاذ التابوت والقذف.
قال في "الأسئلة المقحمة" : كيف يجوز لها أن تلقي ولدها في البحر وتخاطر بروحه بمجرد الإلهام؟ والجواب كانت مضطرة إلى ركوب أحد الخطرين فاختارت له خير الشرين انتهى والظاهر أن الله تعالى قدر أنها تكون صدف درة وجود موسى فكما أن الصدف يتنور بنور الدرة نور صدر أمه أيضاً بنور الوحي من تلألؤ أنوار نبوته ورسالته فهذا الإلهام من أحوال الخواص من أهل الحال {مَا يُوحَى} المراد به ما سيأتي من الأمر بقذفه في التابوت والبحر أبهم أولاً تهويلاً له وتفخيماً لشأنه عليه السلام ثم فسر ليكون أقر عند النفس.
(5/293)
{أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ} أن مفسرة بمعنى أي : لأن الوحي من باب القول أي : قلنا لها اقذفيه ومعنى القذف ههنا الوضع وفي قوله : {فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمِّ} الإلقاء وليس المراد القذف بلا تابوت واليم نيل مصر في قول جميع المفسرين فإن اليم يقع على البحر والنهر العظيم.
فإن قيل ما الحكمة بإلقاء موسى في اليم دون غيره فيه؟ قلنا : له جوابان بلسان الحكمة والمعرفة قيل : بلسان الحكمة إن المنجمين إذا ألقي شيء في الماء يخفى عليهم أمره فأراد الله أن يخفي حال موسى على النجمين حتى لا يخبروا به فرعون وقيل بلسان الحال ألقيه في التلف لأنجيه بالتلف من التلف قيل لها بلسان الحال سلميه إليّ صبياً أسلمه إليك نبياً وقيل أنجاه من البحر في الابتداء كذلك أنجاه من البحر في الانتهاء بإغراق فرعون بالماء.
وقال بعض أرباب المعارف : التابوت إشارة إلى ناسوت موسى عليه السلام أي : صورته الإنسانية واليم إشارة إلى ما حصل له من العلم بواسطة هذا الجسم العنصري فلما حصلت النفس في هذا الجسم وأمرت بالتصرف فيه وتدبيره جعل الله لها هذا القوى آلات يتوصل بها إلى ما أراده الله منها في تدبير هذا التابوت فرمى في اليم ليحصل له بهذا القوى من فنون العلم تكميل استعداده بذلك الأمر من النفس الكلية التي هي أمه المعنوية وأبوه الروح الكلي فكل ولد منها يأخذ استعداده بحسب القابلية فكمل لموسى الاستعداد الأصلي بذلك الإلقاء من توجه النفس الكلية له ، وقال المولى الجامي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 380
ديدم رخت آفتاب عالم اينست
در طور وجود نور اعظم اينست
افتاد دلم اسير تابوت بدن
دربحر غمت القى في اليم اينست
{فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} لما كان إلقاء البحر إياه بالساحل أمراً واجب الوقوع لتعلق الإرادة الربانية به جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمر بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر فصورته أمر ومعناه خبر والضمائر كلها لموسى والمقذوف في البحر والملقى بالساحل وإن كان التابوت
382
أصالة لكن لما كان المقصود بالذات ما فيه جعل التابوت تبعاً له في ذلك.
والساحل فاعل بمعنى مفعول من السحل لأنه يسحل الماء أي : يقشره ويسلخه وينزع عنه ما هو بمنزلة القشر على ظاهره يقال قشرت العود نزعت عنه قشره {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ} الجزم جواب للأمر بالالقاء وتكرير عدو للمبالغة أي : دعيه حتى يأخذه العدو فإني قادر على تربية الولي في حجر العدو ووقايته من شره بإلقاء محبة منه عليه.
فإن قيل كيف يجوز أن يكون مثل فرعون له رتبة معاداته تعالى حتى سمي عدو الله؟ قلنا معناه يأخذه مخالف لأمري كالعدو كذا في "الأسئلة المقحمة".
قالوا : ليس المراد بالساحل نفس الشاطىء بل ما يقابل الوسط وهو ما يلي الساحل من البحر بحيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون لما روى أنها جعلت في التابوت قطناً ووضعته فيه ثم أحكمته بالقير وهو الزفت لئلا يدخل فيه الماء وألقته في اليم وكان يدخل منه إلى بستان فرعون نهر فدفعه الماء إليه فأتى به إلى بركة في البستان وكان فرعون جالساً ثمة مع آسية بنت مزاحم فأمر به فأخرج ففتح فإذا هو صبي أصبح الناس وجهاً ولما وجده في اليم عنده الشجر سماه موسى و"مو" هو الماء بالقبطية و"سا" هو الشجر وأحبه حباً شديداً لا يكاد يتمالك الصبر عنه وذلك قوله تعالى : {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً} عظيمة كائنة {مِّنِّى} قد زرعتها في القلوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك ولذا أحبك عدو الله وآله.
ـ روي ـ إنه كان على وجهه مسحة جمال وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه.
ماه زيباست ولى روى تو زيباتر ازوست
شم نركس ه كنم شم تور عناتر ازوست
وفي "التأويلات النجمية" : {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً} من محبتي ليحبك بمحبتي من أحبني بالتحقيق ويحبك عدوي وعدوك بالتقليد كما أن آسية أحبته بحب الله على التحقيق وفرعون أحبه لما ألقى الله عليه محبته بالتقليد ولما كانت محبة فرعون بالتقليد فسدت وبطلت بأدنى حركة رآها من موسى ولما كانت محبة آسية بالتحقيق ثبتت عليها ولم تتغير وهكذا يكون إرادة أهل التقليد تفسد بأدنى حركة لا تكون على وفق طبع المريد المقلد ولا تفسد إرادة المريد المحقق بأكبر حركة تخالف طبعه وهواه وهو مستسلم في جميع الأحوال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 380
نشان اهل خدا عاشقى وتسليمست
كه درمريد شهر اين نشان نمى بينم
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى} عطف على علة مضمرة لألقيت أي : ليتعطف عليك ولتربى بالحنو والشفقة ويحسن إليك وأنا راقبك ومراعيك وحافظك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به من قولهم صنع إليه معروفاً إذا أحسن إليه.
وعيني حال من الضمير المستتر في لتصنع لا صلة له جعل العين مجازاً عن الرعاية والحراسة بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب فإن الناظر إلى الشيء يحرسه مما لا يريد في حقه ويراعيه حسبما يريد فيه.
(5/294)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن من أدركته العناية الأزلية يكون في جميع حالاته منظور نظر العناية لا يجري عليه أمر من أمور الدنيا والآخرة إلا وقد يكون له فيه صلاح وتربية إلى أن يبلغه درجة ومقاماً قد قدر له.
جزء : 5 رقم الصفحة : 380
{إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ} مريم ظرف لتصنع على أن المراد به وقت وقع فيه مشيها إلى بيت فرعون وما ترتب عليه من القول والرجع إلى أمها وتربيتها له بالبر والحنو وهو المصداق لقوله
383
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى} إذ لا شفقة أعظم من شفقة الام.
قال ابن الشيخ تقييد التربية بزمان مشي أخته صحيح لأن التربية إنما وقعت زمان المشي ورده إلى أمه {فَتَقُولُ} أي : لفرعون وآسية حين رأيتهما يطلبان له مرضعة يقبل ثديها وكان لا يقبل ثدياً وصيغة المضارع في الفعلين لحكاية الحال الماضية أي : قالت : {هَلْ أَدُلُّكُمْ} (آيا دلالت كنم شمارا) أي : حاضران {عَلَى مَن يَكْفُلُهُ} (بركسي له تكفل أي طفل كند واوراشير دهد) أي يضمه إلى نفسه ويربيه وذلك إنما يكون بقبول ثديها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 383
ـ يروى ـ أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاماً من النيل لا يرضع ثدي امرأة واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت مريم لتعرف خبره فجاءتهم منكرة فقالت ما قالت وقالوا من هي : قالت : أمي قالوا : ألها لبن؟ قالت : نعم لبن أخي هارون فجاءت بها فقبل ثديها {فَرَجَعْنَـاكَ إِلَى أُمِّكَ} الفاء فصيحة معربة عن محذوف قبلها يعطف عليه ما بعدها أي : فقالوا : دلينا عليها فجاءت بأمك فرجعناك إليها أي : رددناك ، وبالفارسية : (س بازكر دانيديم ترابسوى ما درتو وبوعده وفا كرديم) وهو قوله : {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وذلك لأن إلهامها كان من إلهام الخواص الذي بمنزلة الوحي فلا تستبعد عليها هذه المكالمة المعنوية ويجوز أن يكون ذلك من قبيل الإعلام بالمبشرة {كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} (تاشايدكه روشن شود شم مادر بلقاء تو).
وقال بعضهم : تطيب نفسها بلقائك يقال قرت عينه إذا بردت نقيض سخنت هذا أصله ثم استعير للسرور وهو المراد ههنا كما في "بحر العلوم" {وَلا تَحْزَنَ} على فقدك ، وبالفارسية : (واندو هناك كردد بفراق تو).
قال في "الكبير" فإن قيل : {وَلا تَحْزَنَ} فضل لأن السرور يزيل الغم لا محالة قلنا تقر عينها بوصولك إليها ولا تحزن بوصول لبن غيرها إلى باطنك انتهى.
وفي "الإرشاد" أي : لا يطرأ عليها الحزن بفراقك بعد ذلك وإلا فزوال الحزن مقدم على السرور المعبر عنه بقرة العين فإن التخلية متقدمة على التحلية انتهى.
يقول الفقير : الواو لمطلق الجمع وأيضاً أن الثاني لتأكيد الأول فلا يرد ما قالوا {وَقَتَلْتَ نَفْسًا} هي نفس القبطي الذي استغاثه الإسرائيلي عليه كما يأتي في سورة القصص {فَنَجَّيْنَـاكَ مِنَ الْغَمِّ} أي : غم قتله خوفاً من عقاب الله بالمغفرة ومن اقتصاص فرعون بالأنجاء منه بالمهاجرة إلى مدين {وَفَتَنَّـاكَ فُتُونًا} الفتنة والفتون المحنة وكل ما شق على الإنسان وكل ما يبتلي الله به عباده فتنة ولا يطلق الفتان على الله لأنه صفة ذم عرفاً وأسماء الله توقيفية.
فإن قيل : كيف يجوز ذكر الفتن عند ذكر النعم؟ قلنا : الفتنة تشديد المحنة ولما أوجب تشديد المحنة كثرة الثواب عده الله في النعم ألا ترى إلى قوله عليه السلام : "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت" وقد فسره البعض بقوله ما صفى نبي مثل ما صفيت والمعنى ابتليناك ابتلاء.
وقال بعضهم : طحناك بالبلاء طحناً ، وبالفارسية : (وبياز موديم ترا آزمودنى يعني ترادر بوته بلاها افكنديم وخالص بيرون آمدى) ومن ابتلائه قتله القبطيّ ومهاجرته من الوطن ومفارقة الأحباب والمشي راجلاً وفقد الزاد ونحو ذلك مما وقع قبل وصوله إلى مدين بقضية الفاء الآتية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 383
وفي "التأويلات النجمية" : منها فتنة صحبتك مع فرعون وتربيتك مع قومه فحفظناك من التدين بدينهم.
ومنها : فتنة قتل نفس بغير الحق وفرارك من فرعون بسبب قتل القبطي فنجوت منها.
384
ومنها : ابتليناك بابنتي شعيب واحتياجهما إليك في سقي غنمهما فلولا حفظناك لملت إليهما ميل البشر للنساء.
ومنها : ابتليناك بخدمة شعيب وصحبته واستئجاره فوفقناك للخروج من عهدة حقوقه وعهوده.
(5/295)
قال بعض الكبار : اختبره في مواطن كثيرة ليتحقق في نفسه صبره على ما ابتلاه به فأول ما ابتلاه الله به قتل القبطي بما ألهمه الله في سره وأن يعلم بذلك الإلهام ولكن كان فيه علامة ذلك وهو إن لم يجد في نفسه مبالاة بقتله فعدم مبالاته بقتله مع عدم انتظاره الوحي علامة كونه ملهماً به في السر وألا ينبغي أن يعتريه وحشة عظيمة من ذلك الفعل.
وإنما قلنا إنه عليه السلام كان ملهماً في قتل القبطي لأن باطن النبي معصوم من أن يميل إلى أمر ولم يكن مأموراً به من عند ربه وإن كان في السر ولكون النبي معصوم الباطن من حيث لا يشعر حتى يخبر بأن ذلك الأمر مأمور به في السر أراه الخضر حين قصد تنبيهه على ما ذهل عنه من كونه ملهماً بقتل القبطي قتل الغلام فأنكر عليه قتله ولم يتذكر قتله القبطي فقال له الخضر : ما فعلته عن أمري ينبهه على مرتبته قبل أن ينبأ أنه كان معصوم الحركة في قتله في نفس الأمر وإن لم يشعر بذلك وأراه أيضاً خرق السفينة الذي ظاهره هلاك وباطنه نجاة من يد الغاصب جعل له ذلك في مقابلة التابوت الذي كان في اليم مطبقاً عليه فإن ظاهره هلاك وباطنه نجاة وإنما فعلت به أمه ذلك خوفاً من يد الغاصب فرعون أن يذبحه مع الوحي الذي ألهمها الله من حيث لا تشعر فوجدت في نفسها أنها ترضعه فإذا خافت عليه ألقته في اليم وغلب على ظنها أن الله ربما رده إليها لحسن ظنها به وقالت حين ألهمت ذلك لعل هذا هو الرسول الذي يهلك فرعون والقبط على يده فعاشت وسرت بهذا التوهم والظن بالنظر إليها إذ لم يكن عندها دليل يفيد العلم بذلك وهذا التوهم والظن علم باعتبار أن متعلقه حق مطابق للواقع متحقق في نفس الأمر {فَلَبِثْتَ سِنِينَ} عشر سنين {فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} أي : عند شعيب لرعي الأغنام لأن شعيباً أنكحه بنته صفوراء على أن يخدمه ثماني سنين فخدمه عشراً قضاء لأكثر الأجلين كما يأتي في سورة القصص ومدين على ثماني مراحل من مصر وذكر اللبث دون الوصول إليهم إشارة إلى مقاساة شدائد أخرى في تلك السنين كإيجار نفسه ونحوه مما كان من قبيل الفتون.
جزء : 5 رقم الصفحة : 383
وفي "التأويلات النجمية" : {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} لتستحق بتربية شعيب وملازمته النبوة والرسالة ، قال الحافظ :
شبان وادى ايمن كهى رسد بمراد
كه ند سال بجان خدمت شعيب كند
يقول الفقير : انظر كيف أن الله تعالى جعل في الأمر المكروه أمراً محبوباً فإن قتل القبطي ساق موسى إلى خدمته شعيباً إلى أن استعد للنبوة وقس على هذا ما عداه وإذا كانت النبوة مما يقدم لها الخدمة مع كونها اختصاصاً إلهياً فما ظنك بالولاية {ثُمَّ جِئْتَ} أي : الوادي المقدس بعد ضلال الطريق وتفرق الغنم في الليلة المظلمة ونحوها {عَلَى قَدَرٍ} تقدير قدرته لأن أكلمك واستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر أو على مقدار من السن يوحى فيه إلى الأنبياء وهو رأس أربعين سنة وفي الحديث : "ما بعث الله نبياً إلا على رأس أربعين سنة" كما في "بحر العلوم" وأورده البعض في الموضوعات لأن عيسى عليه السلام نبىي ورفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين ونبىء يوسف عليه السلام في البئر وهو ابن ثماني عشرة وكذا يحيى عبد الله أوتي
385
الحكم وهو صبي فاشتراط الأربعين في حق الأنبياء ليس بشيء كما في "المقاصد الحسنة" يا مُوسَى} كرره تشريفاً له عليه السلام وتنبيهاً على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية.
{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} تذكير لقوله {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} أي : اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فهو تمثيل لما أعطاه تعالى من الكرامة العظمى بتقريب الملك بعض خواصه واصطناعه لنفسه وترشيحه لبعض أموره الجليلة.
وقال الكاشفي : (وترا بر كزيديم وخالص ساختيم براى محبت خود يعنى ترا دوست كرفتيم).
وفي "حواشي" ابن شيخ أي : اخترتك لتحبني وتتصرف على إرادتي ومحبتي وتشتغل بما أمرتك من إقامة حجتي وتبليغ رسالتي وأن تكون في حركاتك وسكناتك لوجهي لا لنفسك ولا لغيرك.
والاصطناع افتعال من الصنع بالضم وهو مصدر قولك صنع إليه معروفاً واصطناع فلان اتخاذه صنيعاً محسناً إليه بتقريبه وتخصيصه بالتكريم والإجلال.
عن القفال قال : اصطنعتك أصله من قولهم اصطنع فلان فلاناً إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال هذا صنيع فلان كما يقال هذا جريح فلان.
وفي "القاموس" واصطنعتك لنفسي اخترتك لخاصة أمر استكفيكه انتهى وحقيقته جعله عليه السلام مرآة قابلة لأنوار صفات الجمال والجلال.
وفيه إشارة إلى أن الخواص إنما خلقوا لأجل هذا المعنى الخاص وأما غيرهم فبعضهم للدنيا وبعضهم للآخرة فالخواص هم عباد الله حقاً وقد تخلصوا من شوب الميل إلى الباطل وهو ما سوى الله تعالى ، قال لبيد :
جزء : 5 رقم الصفحة : 383
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
(5/296)
وكل نعيم لا محالة زائل وفي الحديث "إذا أحب الله عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه وإن رضي اصطفاه" فالصبر تجرع المرارات عند نزول المصيبات والرضى سرور القلب بمر القضايا فالعبد الذي أراد الله اصطفاءه يجعله في بوتقة البلاء أولاً فيخلص جوهره مما سواه فطريق هذا المنزل صعب جداً ، قال المولى الجامي :
مكوكه قطع بيانان عشق آسانست
كه كوههاى بلا ريك آن بيانانست
اللهم اجعلنا من الصابرين الشاكرين الراضين الواصلين.
{اذْهَبْ أَنتَ} يا موسى والذهاب المضي يقال ذهب بالشيء وأذهبه ويستعمل ذلك في الأعيان والمعاني قال تعالى : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} (الصافات : 99) وقال : {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} (هود : 74) {وَأَخُوكَ} أي : وليذهب أخوك هارون حسبما استدعيت عطف عليه لأنه كان غائباً عن موسى وقتئذٍ.
والأخوة المشاركة في الولادة من الطرفين أو من أحدهما أو من الرضاع ويستعار الأخ لكل مشارك لغيره في القبلة أو في الدين أو في صنعة أو في معاملة أو في مودة أو في غير ذلك من المناسبات {بِـاَايَـاتِى} بمعجزاتي والباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابهما إلى فرعون ملتبسين بالآيات متمسكين بها في إجراء أحكام الرسالة وإكمال أمر الدعوة لا مجرد إذهابهما وإيصالهما إليه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد الآيات التسع التي أنزلت عليه وإن كان وقوع بعضها بالفعل مترقباً بعد.
ويحتمل أن يكون الجمع للتعظيم والمراد العصا واليد.
أو لما أن أقل الجمع عند الخليل اثنان يعني إن إطلاق الآيات على الآيتين وارد على الأدنى {وَلا تَنِيَا} لا تفترا ، وبالفارسية : (وسستى ميكنيد) من ونى يني ونيا فهو وإن مثل وعد يعد وعداً فهو وأعد بمعنى فتر يفتر فتوراً {فِى ذِكْرِى} أي : في مداومته
386
على كل حال لساناً وجناناً فإنه آلة لتحصيل كل المقاصد فإن أمراً من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري فالفتور في الأمور بسبب الفتور في ذكر الله وهو تذكير لقوله : {كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} .
قال بعضهم : الحكمة في هذا التكليف أن من ذكر جلال الله تعالى وعظمته استخف غيره فلا يخاف أحداً غيره فيتقوى روحه بذلك الذكر فلا يضعف في مقصود.
قال مرجع طريقتنا الجلوتية بالجيم حضرة الهدايى قدس سره التوحيد قبل الوعظ باعث لإصغاء السامعين وموجب للتأثير بعون الله الملك القدير.
وفي "العرائس" : لا تغيباً عن مشاهدتي باشتغالكما بأمري حتى تكونا فاترين بي عني.
وفي "الإرشاد" : في ذكرى أي : بما يليق بي من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة عند تبليغ رسالتي والدعاء إليّ انتهى.
يقول الققير : أهل الشهود ليسوا بغائبين عن المشهود.
ففي الآية إشارة إلى إدامة الأوراد وتنبيه للطالبين في الجد والاجتهاد ونعم ما قيل :
جزء : 5 رقم الصفحة : 383
يا خاطب الحوراء في حسنها
شمر فتقوى الله في مهرها
وكن مجداً لا تكن وانيا
وجاهد النفس على صبرها
قال الخجندي :
بكوش تا بكف آرى كليد كنج وجود
كه بى طلب نتوان يافت كوهر مقصود
وقال المولى الجامي :
بي طلب نتوان وصالت يافت آرى كى دهد
دولت حج دست جز راه بيابان برده را
وقال الحافظ :
مقام عيش ميسر نميشود بى رنج
بلى بحكم بلا بسته اند حكم ألست
ـ روي ـ أنه تعالى لما نادى موسى بالواد المقدس وأرسله إلى فرعون وأعطاه سؤله انطلق من ذلك الموضع إلى فرعون وشعيته الملائكة يصافحون وخلف أهله في الموضع الذي تركهم فيه (درتيسير آورده كه كسان موسى شب انتظار بردند ونيامد وروز نيز ازوى خبرى نيافتند دران صحرا متحير بماندند) فلم يزالوا مقيمين فيه حتى مر بهم راع من أهل مدين فعرفهم فحملهم إلى شعيب فمكثوا عنده حتى بلغهم خبر موسى بعدما جاوز ببني إسرائيل البحر وغرق فرعون قومه وبعث بهم شعيب إلى موسى بمصر.
ففيه إشارة إلى أن المؤمن إذا عرض له الأمران أمر الدنيا وأمر الآخرة يختار أمر الآخرة فإنه أمر الله تعالى ألا ترى أن موسى عليه السلام لم ينظر وراءه حين أمر بالذهاب إلى فرعون ولم يلتفت إلى الأهل والعيال بل ولم يخطر بباله سوى الحكيم الفعال إذ يكفيه أن الله خليفته في كل أمر من أموره وقت غيبته وحضوره ومثله إبراهيم عليه السلام حين ترك إسماعيل وأمه هاجر بأرض مكة وهي يومئذٍ أرض قفر ولا ماء بها ولا نبات امتثالاً لأمر الله تعالى من غير اعتراض وانقباض وهكذا تكون المسارعة في هذا الباب.
وسمعت من شيخي وسندي قدس سره أنه نام نومة الضحى يوماً في مدينة فلبه من البلاد الرومية فأمر بالهجرة إلى مدينة قسطنطينية فلما استيقظ توضأ وصلى فلم يلبث لحظة حتى خرج راجلاً وترك الأهل والعيال في تلك المدينة حتى كان ما كان على ما استوفيناه في كتابنا الموسوم "بتمام الفيض" ، قال الحافظ :
387
خرم آن روزكه زين مرحله بربندم رخت
وزسر كوى تورسند رفيقان خبرم
جزء : 5 رقم الصفحة : 383
(5/297)
{اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ} هذا الخطاب إما بطريق التغليب أو بعد ملاقاة أحدهما الآخر وتكرير الأمر بالذهاب لترتيب ما بعده عليه.
وفرعون اسم أعجمي لقب الوليد بن مصعب صاحب موسى وقد اعتبر غوايته فقيل تفرعن فلان إذا تعاطى فعل فرعون وتخلق بخلقه كما يقال أبلس وتبلس ومنه قيل للطغاة الفراعنة والأبالسة {إِنَّه طَغَى} الطغيان مجاوزة الحد في العصيان أي : تجاوز حد العبودية بدعوى الربوبية.
قال في "العرائس" : أمر الله موسى وهارون عليهما السلام بالذهاب إلى فرعون لقطع حجته وإظهار كذبه في دعواه وهذا تهديد لكل مدع لا يكون معه بينة من الله في دعواه والحكمة في إرسال الأنبياء إلى الأعداء ليعرفوا عجزهم عن هداية الخلق إلى الله ومن يعجز عن هداية غيره فأيضاً يعجز عن هداية نفسه كالطبيب العاجز عن معالجة الغير فإنه عاجز عن معالجة نفسه أيضاً وليعلموا أن الاختصاص لا يكون بالأسباب ويشكروا الله بما أنعم عليهم بلطفه وربما يصطادون من بين الكفرة من يكون له استعداد بنظر الغيب مثل حبيب النجار والرجل من آل فرعون وامرأة فرعون والسحرة.
قال ابن عطاء : الإشارة إلى فرعون وهو المبعوث بالحقيقة إلى السحرة فإن الله يرسل أنبياءه إلى أعدائه ولم يكن لأعدائه عنده من الخطر ما يرسل إليهم أنبياءه بسببه ولكن يبعث الأنبياء إليهم ليخرج أولياءه المؤمنين من أعدائه الكفرة :
حافظ ازبهر تو آمد سوى اقليم وجود
قدمى نه بوداعش كه رواه خواهد شد
وفي "التأويلات النجمية" اعلم أن فائدة إتيانهما ورسالتهما إلى فرعون وتبليغ الرسالة كانت عائدة إلى موسى وهارون لنفسهما لا إلى فرعون في علم الله تعالى فالحكمة في إرسالهما أن يكونا رسولين من ربهما مبلغين منذرين لتحقق رسالتهما وينكرها فرعون ويكفر بهما ليتحقق كفره كما قال {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنا بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَنا بَيِّنَةٍ} (الأنفال : 42).
جزء : 5 رقم الصفحة : 388
{فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا} أي : كلماه باللين والرفق من غير خشونة ولا تعنيف ويسرا ولا تعسرا فإنه ما دخل الرفق في شيء إلا وقد زانه وما دخل الخرق في شيء إلا وقد شانه وكان في موسى حدة وصلابة وخشونة بحيث إذا غضب اشتعلت قلنسوته ناراً فعالج حدته وخشونته باللين ليكون حليماً وهو معنى قول من قال طبع الحبيب كان على اللين والرحمة فلذا أمر بالغلظة كما قال تعالى : {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} تحققاً بكمال الجلال وطبع الكليم على الشدة والحدة والصلابة فلذا أمر بالقول اللين تحققاً بكمال الجمال وقد قال عليه السلام : "تخلقوا بأخلاق الله" فالخطاب خطاب الأمر بالتخلق جمالاً وجلالاً فكل واحد منهما أوفق بمقامه وأيضاً إن فرعون كان من الملوك الجبابرة ومن عادتهم ين يزدادوا عتواً إذا خوشنوا في الوعظ فاللين عندهم أنفع وأسلم كما أن الغلظة على العامة أوفق حكمة وأشد دعوة فلو كان في قول موسى خشونة لم يحتمل طبع فرعون بل هاج غضبه فلعله يقصد موسى بضرب أو قتل ففائدة اللين عائدة إلى موسى وفي "الأسئلة المقحمة" إنما أمرهما بذلك لأنه كان ابتداء حال الدعوة وفي ابتداء الحال يجب التمكين والإمهال لينظر المدعو فيما يدعى إليه كما قال لنبينا عليه السلام : {وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} قيل أمهلهم لينظروا
388
ويستدلوا فبعد أن ظهر منهم التمرد والعناد فحينئذٍ يتوجه العنف والتشديد ويختلف ذلك باختلاف الأحوال انتهى فكل من اللين والخشونة يمدح به طوراً ويذم به طوراً بحسب اختلاف الواقع وعليه يحمل نحو قوله عليه السلام : "لا تكن مراً فتعقي ولا حلواً فتسترط" يقال أعقيب الشيء إذا أزلته من فيك لمرارته واستراطه ابتلاعه ومن أمثال العرب لا تكن رطباً فتعصر ولا يابساً فتكسر وذلك لأن خير الأمور أوسطها ورعاية مقتضى الحال قاعدة الحكيم ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
و نرمى كنى خصم كردد دلير
وكر خشم كيرى شوند ازتوسير
درشتى ونرمى بهم در بهست
ورك زن كه جراح ومرهم نهست
جزء : 5 رقم الصفحة : 388
(5/298)
وقيل : أمر الله موسى باللين مع الكافر مراعاة لحق التربية لأنه كان رباه فنبه به على نهاية تعظيم حق الأبوين.
وفي الإحياء سئل الحسن عن الولد كيف يحتسب على والده فقال : يعظه ما لم يغضب فإذا غضب سكت فعلم منه أنه ليس للولد الحسبة على الوالد بالتعنيف والضرب وليس كذلك التلميذ مع الأستاذ إذ لا حرمة لعالم غير عامل.
وقيل أمر موسى باللين ليكون حجة على فرعون لئلا يقول أغلظ علي القول في دعوته.
وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ رحمه الله هذه الآية فبكى وقال الهي هذا رفقك بمن يقول أنا الاله فكيف بمن يقول أنت الإله {لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ} (شايد او ندكيرد) {أَوْ يَخْشَى} (يا بترسد از عذاب خداى) كما قال في "الإرشاد" لعله يتذكر بما بلغتماه من ذكري ويرغب فيما رغبتماه فيه أو يخشى عقابي وكلمة أو لمنع الخلو انتهى.
وقال بعضهم : الرجاء والطمع راجعان إلى مال موسى وهارون والتذكر للمتحقق والخشية للمتوهم والخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه ولذلك خص العلماء بها في قوله {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} (فاطر : 28) أي : قولاً له ذلك راجيين أن يترك الإصرار على إنكار الحق وتكذيبه إما بأن يتذكر ويتعظ ويقبل الحق قلباً وقالباً أو بأن يتوهم أنه حق فيخشى بذلك من أن يصر على الإنكار ويبقى متردداً وتوقفاً بين الأمرين وذلك خير بالنسبة إلى الإنكار والإصرار عليه لأنه من أسباب القول ولقد تذكر فرعون وخشي حين لم ينفعاه وذلك حين ألجمه الغرق {قَالَ ءَامَنتُ أَنَّه لا إله إِلا الَّذِى ءَامَنَتْ بِه بَنُوا إسرائيل وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس : 90).
ـ روي ـ أن موسى وعده على قبول الإيمان شباباً لا يهرم وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت ويبقى عليه لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته فإذا مات دخل الجنة فأعجبه ذلك وكان هامان غائباً وهو لا يقطع أمراً بدونه فلما قدم أخبره بما قال له موسى وقال : أردت أن أقبل منه يا هامان فقال له هامان : كنت أرى أن لك عقلاً ورأياً أنت الآن رب تريد أن تكون مربوباً فأبى عن الإيمان.
وفائدة إرسالهما إليه مع علمه تعالى بأنه لا يؤمن الزام الحجة وقطع المعذرة لأن عادة الله التبليغ ثم التعذيب.
قال بعض أرباب الحقيقة : الأمر تكليفي وإرادي والإرادة كثيراً ما تكون مخالفة للأمر التكليفي فالرسل والورثة في خدمة الحق من حيث أمره التكليفي وليسوا في خدمته من حيث الأمر الإرادي ولو كانوا خادمين للإرادة مطلقاً لما ردوا على أحد في فعله القبيح بل يتركونه على ما هو عليه لأنه هو المراد ولما كان لعين
389
العاصي الثابتة في الحضرة العلمية استعداد التكليف توجه إليه الأمر التكليفي وليس لتلك العين استعداد الإتيان المأمور به فلا يتحقق منه المأمور به ولهذا تقع المخالفة والمعصية.
فإن قلت ما فائدة التكليف والأمر بما يعلم عدم وقوعه.
قلت : فائدته تمييز من له استعداد القبول ممن ليس له استعداد ذلك لتظهر السعادة والشقاوة وأهلهما انتهى ، قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 388
درين من مكنم سرزنش بخود رويى
نانكه رورشم ميدهند مى رويم
قال في "بحر العلوم" : إن الله قد علم كل شيء على ما هو عليه والعلم تبع للمعلوم وعلمه بأن فرعون لا يؤمن باختياره لا يخرجه عن حيز الإمكان ولذلك أمرهما بدعوته والرفق فيها وفي قوله : {لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} دلالة ظاهرة على أن لقدرة العبد تأثيراً على أفعاله وفي أفعال غيره وأنه ليس بمجبور فيها كما زعم الأشعري حيث قال لا تأثير لقدرة العبد في أفعاله بل هو مجبور والإلم يثبت له التذكر والخشية بقول موسى :
{قَالا رَبَّنَآ} .
قال في "الإرشاد" أسند القول إليهما مع أن القائل حقيقة هو موسى بطريق التغليب إيذاناً بأصالته في كل قول وفعل وتبعية هارون له في كل ما يأتي وما يذر.
(5/299)
ـ وروي ـ أن موسى انطلق من الطور إلى جانب مصر لا علم له بالطريق وليس له زاد ولا حمولة ولا صحبة ولا شيء إلا العصا يظل صادياً ويبيت طاوياً يصيب من ثمار الأرض ومن الصيد شيئاً قليلاً حتى ورد أرض مصر.
قال الكاشفي : (ون بمصر توجه فرمود وحى آمد بهارون كه باستقبال برادر براه مدين دوان شود س در اثناى طريق ملاقات فرمودند وموسى شرح احوال بتمامى باز كفت هارون كفت اى برادر شوكت وعظمت ازانه ديده زياده شد وبأدنى سببى حكم بقطع وقتل وصلب ميكند موسى انديشناك شد وهردو برادر باتفاق كفتند اى روردكار ما) {إِنَّنَا نَخَافُ} الخوف توقع مكروه عن إمارة مظنونة أو معلومة كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن إمارة مظنونة أو معلومة ويضاد الخوف الأمن ويستعمل ذلك في الأمور الدنيوية والأخروية قال تعالى : {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَه وَيَخَافُونَ عَذَابَه} (الإسراء : 57) والخوف من الله يراد به ما يخطر بالبال من الرعب كاستشعار الخوف من الأسد بل إنما يراد به الكف عن المعاصي واختيار الطاعات {أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ} من فرط إذا تقدم تقدماً بالقصد ومنه الفارط إلى الماء أي : المتقدم لإصلاح الدلو أي : يعجل علينا بالعقوبة ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة فيتعطل المطلوب من الإرسال إليه.
وقرىء يفرط من الإفراط في الأذية.
فإن قلت : كيف هذا الخوف وقد علما أنهما رسولا رب العزة إليه؟ قلت : جرياً على الخوف الذي هو مجبول في طينة بني آدم كما في "التأويلات النجمية" يشير إلى أن الخوف مركوز في جبلة الإنسان حتى أنه لو بلغ مرتبة النبوة والرسالة فإنه لا يخرج الخوف من جبلته كما قالا : {رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ} يعني أن يقتلنا ولكن الخوف ليس بجهة القتل وإنما نخاف فوات عبوديتك بالقيام لأداء الرسالة والتبليغ كما أمرتنا أو يتمرد بجهله ولا ينقاد لأوامرك ويسبك انتهى {أَوْ أَن يَطْغَى} أي : يزداد طغياناً إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لكمال جراءته وقساوته وإطلاقه حيث لم يقل عليك من حسن الأدب ولما كان طغيانه في حق الله أعظم من إفراطه في حقهما ختم
390
الكلام به فإن المتمسك بالأعذار يؤخر الأقوى ونحوه ختم الهدهد بقوله : {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} (النمل : 24).
جزء : 5 رقم الصفحة : 388
يقول الفقير : يجوز أن يكون المراد يطغى علينا أي : يجاوز الحد في الإساءة إلينا إلا أنه حذف الجار والمجرور رعاية للفواصل كما حذف المفعول لذلك في قوله : {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى : 3) وإظهار أن مع سداد المعنى بدونه للإشعار بتحقق الخوف من كل منهما.
{قَالَ} استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه فقيل قال : {لا تَخَافَآ} ما توهمتما من الأمرين يشير إلى أن الخوف إنما يزول عن جبلة الإنسان بأمر التكوين كما قال {قُلْنَا يا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء : 69) فكانت بتكوين الله إياها برداً وسلاماً ، وفي "المثنوي" :
لا تخافوا هست نزل خائفان
هست درخور از براى خائفان
هركه ترسد مرورا ايمن كنند
مردل ترسندرا ساكن كنند
آنكه خوفش نيست ون كوئى مترس
درس ه دهى نيست او محتاج درس
قال ابن الشيخ في "حواشيه" : ليس المراد منه النهي عن الخوف لأنه من حيث كونه أمراً طبيعياً لا مدخل للاختيار فيه لا يدخل تحت التكليف ثبوتاً وانتفاء بل المراد به التسلي بوعد الحفظ والنصرة كما يدل عليه قوله : {إِنَّنِى مَعَكُمَآ} بكمال الحفظ والنصرة فإن الله تعالى منزه عن المعية المكانية {أَسْمَعُ وَأَرَى} أي : ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فافعل في كل حال ما يليق بها من دفع ضرر وشر وجلب نفع وخير فمن كان الله معه يحفظه من كل جبار عنيد.
ـ روي ـ أن شاباً كان يأمر وينهى فحبسه الرشيد في بيت وسد المنافذ ليهلك فبعد أيام رؤي في بستان يتفرج فأحضره الرشيد وقال : من أخرجك؟ قال : الذي أدخلني البستان فقال : من أدخلك؟ قال : الذي أخرجني من البيت فتعجب الرشيد وبكى وأمر له بالإحسان وبأن يركب وينادي بين يديه هذا رجل أعزه الله وأراد الرشيد إهانته فلم يقدر الله إلا إكرامه واحترامه ، قال الحافظ :
هزار دشمن اكر ميكنند قصد هلاك
كرم تو دوستى از دشمنان ندارم باك
وقال الشيخ سعدي قدس سره :
محالست ون دوست دارد ترا
كه دردست دشمن كذارد ترا
واعلم أن الله تعالى حاضر مع عباده الحضور اللائق بشأنه ولا يعرف ذلك إلا من اكتحلت عين بصيرته بنور الشهود ولكن شهود الوحدة الذاتية أتم وأعلى من شهود المعية ولذلك لا يرضى الكمل الوقوف في مرتبة المعية بل يطلبون أن يصلوا بالفناء التام إلى مقام الوحدة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 388
(5/300)
ثم اعلم أن موسى وهارون عليهما السلام التجئا إلى حضرة الربوبية بكمال العبودية فتداركهما الله بالحفظ والعون.
قال الفقيه أبو الحسن : وقع القحط ببغداد فاجتمع الناس فرفعوا قصتهم إلى علي بن عيسى الوزير فقرأها وكتب على ظهرها : لست بسماء فأسقيكم ولا بأرض فأكفيكم ارجعوا إلى بارئكم.
قال أبو المعين : سألت بعض النصارى عن أحسن آية في الإنجيل فقال : خمس كلمات : "سلني أجبك ، واشكر لي أزدك ، وأقبل عليّ أقبل عليك ،
391
واقرب مني أقرب منك ، وأطعني في الدنيا أطعك في الدنيا والآخرة" ، وفي "المثنوي" :
كفت حق كر فاسق واهل صنم
ون مراخوانى اجابتها كتم
تودعارا سخت كيرو مى شخول
عاقبت برهاندت ازدست غول
جزء : 5 رقم الصفحة : 388
{فَأْتِيَاهُ} أُمِرَا بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعدما أمرا بالذهاب إليه فلا تكرار والإتيان مجيىء بسهولة والمجيىء أعم والإتيان قد يقال باعتبار القصد وإن لم يكن منه الحصول والمجيىء اعتباراً بالحصول {فَقُولا} من أول الأمر {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} ليعرف الطاغي سؤالكما ويبني جوابه عليه ورسولا تثنية رسول وهو فعول مبالغة مفعل بضم الميم وفتح العين بمعنى ذي رسالة اسم من الإرسال وفعول هذا لم يأت إلا نادراً وعرفاً من بعث لتبليغ الأحكام ملكاً كان أو إنساناً بخلاف النبي فإنه مختص بالإنسان {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} (س فرست باما فرزندان يعقوبرا بارض مقدسه بازرويم كه مسكن آباء ما بوده) ما قال في "بحر العلوم" فأطلقهم وخلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين وكانت مسكنهما وفلسطين بكسر الفاء وفتح اللام وسكون السين المهملة هي البلاد التي بين الشام وأرض مصر منها الرملة وغزة وعسقلان وغيرها.
وقال في "الإرشاد" بالإرسال إطلاقهم من الأسر والقسر وإخراجهم من تحت يدالعادية لا تكليفه أن يذهبوا معهما إلى الشام كما ينبىء عنه قوله تعالى : {وَلا تُعَذِّبْهُمْ} أي : بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب فإنهم كانوا تحت مملكة القبط يستخدمونهم في الأعمال الصعبة الفادحة من الحفر ونقل الأحجار وغيرهما من الأمور الشاقة ويقتلون ذكور أولادهم عاماً دون عام ويستخدمون نساءهم.
وتوسيط حكم الإرسال بين رسالتهما وبين ذكر المجيء بآية دالة على صحتها لإظهار الاعتناء به لأن تخليص المؤمنين من أيدي الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان كما قيل.
والعذاب هو الإيجاء الشديد وقد عذبه تعذيباً أي : أكثر حبسه في العذاب وأصله من قولهم عذب الرجل إذا ترك المأكل والنوم فهو عاذب وعذوب فالتعذيب في الأصل هو حمل الإنسان على أن يعذب أي : يجوع ويسهر وقيل أصله من العذب فعذبته أزلت عذب حياته على بناء مرّضته وفديّته وقيل أصل التعذيب إكثار الضرب بعذبة السوط أي : طرفه
جزء : 5 رقم الصفحة : 392
{قَدْ جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ} (بدرستى كه آلأرده ايم نشانى يعنى معجزه ازيرورد كارتو) وتوحيد الآية مع تعددها لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها لا بيان تعدد الحجة فكأنه قال : قد جئناك ببرهان على ما ادعيناه من الرسالة {وَالسَّلَـامُ} اللام لتعريف الماهية والسلامة التعري من الآفات الظاهرة والباطنة والمراد هنا إما التحية فالمعنى والتحية المستتبعة بسلامة الدارين من الله والملائكة أي : خزنة الجنة وغيرهم من المسلمين {عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} بتصديق آيات الله الهادية إلى الحق فاللام على أصلها كما في سلام عليكم يقال تبعه واتبعه قفا أثره وذلك تارة بالجسم وتارة بالارتسام والامتثال وعلى ذلك قوله : {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} (البقرة : 38) وأما السلامة فعلى بمعنى اللام كعكسه في قوله تعالى : {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} (غافر : 52) أي : عليهم اللعنة.
قال في "التأويلات" : سلم من استسلم واتبع هدى الله تعالى وهو ما جاء به أنبياؤه عليهم السلام.
392
(5/301)
{إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ} من جهة ربنا وأصل الوحي الإشارة السريعة وذلك قد يكون بالكلام الخفي على لسان جبريل وقد يكون بالإلهام وبالمنام والوحي إلى موسى بوساطة جبريل وإلى هارون بوساطته ووساطة موسى {أَنَّ الْعَذَابَ} أي : كل العذاب لأنه في مقابله السلام أي : كل السلام وهو العذاب الدنيوي والأخروي الدائم لأن العذاب المتناهي كلا عذاب فلا يرد أنه يلزم قصر العذاب على المكذبين مع أن غيرهم قد يعذبون {عَلَى مَن كَذَّبَ} بآياته تعالى وكفر بما جاء به الأنبياء عليهم السلام والكذب يقال في المقال وفي الفعال {وَتَوَلَّى} إذا عدي بعن لفظاً أو تقديراً اقتضى معنى الإعراض وترك الولي أي : القرب فالمعنى أعرض عن قبولها بمتابعة الهوى وفيه من التلطيف في الوعيد حيث لم يصرح بحلول العذاب به ما لا مزيد عليه.
يقول الفقير : إن كلاً من تكذيب الرسوم والحقائق سبب العذاب والهوان مطلقاً فكفار الشريعة كفار الرسوم والحقائق جميعاً فلهم عذاب جسماني وروحاني وكفار الحقيقة كفار الآيات الحقيقية فلهم هوان معنوي فالنعيم والعزة في الإطاعة والاتباع والاستسلام كما أن الجحيم والذل في خلافها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 392
ـ حكي ـ أن بعض السادات لما رأى عبد الله بن المبارك في عزة ورفعة مع جماعة قال : انظروا إلى حال آل محمد وعزة ابن المبارك فقال ابن المبارك : إن سيدنا لما لم يراع سنة جده ذل وابن المبارك لما أطاع النبي عليه السلام وسار سيرته أعطاه الله عزاً وشرفاً.
واعلم أن عزة فرعون وشرفه انقلبا ذلاً وهواناً بسبب تكذيب موسى وإعراضه عن قبول دعوته وهامان وإن كان سبباً صورياً في امتناعه عن القبول ونكوله عن الانقياد لكن لم يكن له في أصل جبلته استعداد لقبول الحق فلا يغرنكم عزة الدنيا مع عدم الإطاعة لأنه ينقلب يوماً ذلاً وخسراناً وكثيراً ما وقع في الدنيا ورأيناه فاقبل النصيحة مع مداومة مجلس العلم وإلا فعند ظهور الحق ووجود الاستعداد والقابلة لا يبقى غير الاستسلام وإن منعه العالم بأسره عن ذلك ألا ترى أن النجاشي ملك الحبشة لما علم علماً جازماً أن الرسول حق اتبعه من غير خوف من أحد من العالمين ومبالاة لكلام أحد في ذلك فنجا من العذاب نجاة أبدية ثم اعلم أنه كما أن للأنبياء معجزات فكذا للأولياء كرامات والعلمية منها هي التي حق اعتبارها فإن الكونية مما يشترك فيه الملتان فالكرامات العلمية آيات الأولياء جاءوا بها من الله من طريق الكشف الصحيح فمن اتبع هداهم بقبول آياتهم الهادية إلى عالم الحقيقة فقد سلم من الإنكار مطلقاً صورياً أو معنوياً ونجا من العذاب قطعاً صورياً أو معنوياً وهو عذاب القطيعة والبعد ودخل المكذب في النار مع الداخلين والعجب أن الأنبياء والأولياء مع كونهم رحمة من الله على عباده إذ لا نعمة فوق "الإرشاد" وإيصال المريدين إلى المراد لم يدر جاههم أكثر الناس ولم يوفق لاتباعهم إلا أقل من القليل وبقي البقية كالنسناس ولذا لم يمض قرن من القرون إلا والعذاب بالعصاة مقرون فانظر من أنت وما بغيتك فإن كنت تطلب النجاة فلا تجدها إلا في الإطاعة وخصوصاً في هذا الزمان المشوب بالجور والعدوان والفسق والعصيان والغالب على أهاليه الابتلاء بأنواع البلايا الموبقة وعلى تقدير الإطاعة والاتباع يلزم للمريد أن يخرج من البين ويجعل جل همه
393
أن يصل إلى عالم العين ولا يطمع في شيء سوى الرضى الوافي والولاء الكافي.
قال حمدون القصار : القائمون بالأوامر على ثلاثة مقامات.
واحد يقوم إليه على العادة وقيامه قيام كسل.
وآخر يقوم إليه على طلب الثواب وقيامه قيام طمع.
وآخر يقوم إليه على المشاهدة فهو القائم بالله لا بنفسه لفنائه عن نفسه وغيره وهذا القسم من القيام بالأمر هو المؤدي إلى محبة الله الموصلة إلى العزة الباقية وسعادة الدارين فلا بد للعاقل من الاجتهاد ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 392
جهدكن تا نورتو رخان شود
تا سلوك وخدمتت آسان شود
كود كانرا مى يرى مكتب بزور
زانكهستند از فوائد شم كور
ون شود واقف بمكتب مى رود
جانش از رفتن شكفته مى شود
والله المعين في كل حين.
(5/302)
{قَالَ} قال الكاشفي : (س موسى وهارون بحكم حضرت الهي بدركاه فرعون آمدند وبعد ازمدتى كه ملاقات او ميسر شد كفتند مارسولان رور دكاريم وترا بعبادت او ميخوانيم وآن كلمات كه حق تعالى تلقين كرده بود اداكردند فرعون كفت) {فَمَنِ} استفهامية : والمعنى بالفارسية (س كيست) {رَّبُّكُمَا} وقال غيره الفاء لترتيب السؤال على ما سبق من كونهما رسولي ربهما أي : إذا كنتما رسولي ربكما فأخبرا من ربكما الذي أرسلكما إليّ ولم يقل فمن ربي مع قولهما {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} لغاية عتوه ونهاية طغيانه.
قال الإمام أثبت نفسه رباً في قوله : {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} (الشعراء : 18) فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال : أنا ربك فلم تدعو ربا آخر يا مُوسَى} خاطبهما ثم أفرد موسى إذ كان يعلم أن موسى هو الأصل في الباب وهارون وزيره وتابع له.
{قَالَ} موسى مجيباً له {رَبُّنَا} مبتدأ خبره قوله {الَّذِى} من محض رحمته {أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ} من أنواع المخلوقات {خَلْقَهُ} أي : صورته وشكله اللائق به مشتملاً على خواصه ومنافعه فالمراد بالخلق المخلوق ومنه يفهم أن ضمير الجمع في ربنا عام لموسى وهارون وفرعون وغيرهم ولم يقل ربنا الله بل وصفه بأفعاله ليستدل بالفعل على الفاعل {ثُمَّ هَدَى} وجه كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له طبعاً كما في الجمادات واختياراً كما في الحيوانات وهيأه لما خلق له ولما كان الخلق الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام متقدماً على الهداية التي هي عبارة عن إيداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجسام وسط بينهما كلمة التراخي.
قال بعض الكبار : إن للمخلوقات كلها حياة وروحاً إما صورية كما في الإنس والجن والملك ومن يتبعهم وإما معنوية كما في الجمادات والنباتات ولذا قال تعالى : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} (الإسراء : 44) فما من مخلوق إلا وقد هدى إلى معرفته تعالى بقدر عقله وروحه وحياته.
جزء : 5 رقم الصفحة : 392
وفي "التأويلات النجمية" : {أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ} استعداداً لما خلق له {ثُمَّ هَدَى} أي : يسره لما خلق له والذي يدل عليه قوله عليه السلام : "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" معناه أن الله تعالى خلق المؤمن مستعداً لقبول فيض الإيمان ثم هداه إلى قبول دعوة الأنبياء ومتابعتهم وخلق الكافر مستعداً لقبول فيض القهر والخذلان والتمرد على الأنبياء ومخالفتهم ، قال المغربي قدس سره :
يكى را بهر طاعت خلق كردند
يكى را بهر عصيان آفريدند
394
يكى از بهر مالك كشت موجود
يكى را بهر رضوان آفريدند
جزء : 5 رقم الصفحة : 392
{قَالَ} فرعون {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاولَى} ما استفهام.
والبال الحال التي يكترث بها ولذا يقال ما باليت بكذا أي : ما اكترثت به ويعبر به عن الحال الذي ينطوي عليه الإنسان فيقال : ما خطر ببالي كذا.
والقرن القوم المقترنون في زمن واحد.
والأولى تأنيث الأول وواحد الأول كالكبرى والأكبر والكبر.
والمعنى فما بال القرون الماضية وما خبر الأمم الخالية مثل قوم نوح وعاد وثمود وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة.
قال في "الأسئلة المقحمة" فإن قلت هذا لا يليق بما تقدم قلنا : إن موسى كان قد قال له إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب أن يلحقكم ما قد لحقهم إن لم تؤمنوا بي فلهذا سأله فرعون عن حالهم انتهى.
"
يقول الفقير : هذا وإن كان مطابقاً لمقتضى الفاء إلا أن الجواب لا يساعده مع أن القائل بالخوف ليس هو موسى بل الذي آمن وبعيد أن يحمل الذي آمن على موسى لعدم مساعدة السباق والسياق فارجع إلى سورة المؤمن.
وقال بعضهم لما سمع البرهان خاف أن يزيد في إيضاحه فيتبين لقومه صدقه فيؤمنوا به فأراد أن يصرفه عنه ويشغله بالحكاية فلم يلتفت موسى إليه ولذا.
{قَالَ} أي : موسى {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى} أي : إن علم أحوال تلك القرون من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله ولا ملابسة للعلم بأحوالهم بمنصب الرسالة فلا أعلم منها إلا ما علمنيه من الأمور المتعلقة بما ارسلت {فِى كِتَـابٍ} أي : مثبت في اللوح المحفوظ بتفاصيله {لا يَضِلُّ رَبِّى وَلا يَنسَى} الضلال أن تخطىء الشيء في مكانه فلم تهتد إليه والنسيان : أن تغفل عنه بحيث لا يخطر ببالك وهما محالان على العالم بالذات.
والمعنى لا يخطىء ابتداء بل يعلم كل المعلومات ولا يغفل عنه بقاء بل هو ثابت أبداً وهو لبيان أن إثباته ي اللوح المحفوظ ليس لحاجته تعالى إليه في العلم به ابتداء وبقاء وإنما كتب أحكام الكائنات في كتاب ليظهرها للملائكة فيزيد استدلالهم بها على تنزه علمه تعالى عن السهو والغفلة.
برو علم يك ذره وشيده نيست
كه يدا ونهان بنزدش يكيست
فبعد الجواب القاطع رجع إلى بيان شؤونه تعالى وقال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 394
(5/303)
{الَّذِى} أي : هو الذي {جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا} قال الإمام الراغب : المهد ما يهيأ للصبي والمهد والمهاد المكان الممهد الموطأ قال تعالى : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا} (طه : 53) انتهى.
قال الكاشفي : (خوش كسترانيدكه برآن مى نشينيد ومسكن ميسازيد) {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} السلوك النفاذ في الطريق (يعني اندرراه شدن ورفتن) وسلك لازم ومتعد يقال سلكت الشيء في الشيء أدخلته والسبل جمع سبيل وهو من الطرق ما هو معتاد السلوك.
والمعنى جعل لكم أي : لأجلكم لا لغيركم طرقاً كثيرة ووسطها بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مآربكم وتنتفعوا بمنافعها {وَأَنزَلَ} النزول هو الانحطاط من علو يقال نزل عن دابته ونزل في مكان كذا حط رحله فيه وأنزل غيره {مِنَ السَّمَآءِ} أي : من الفلك أو من السحاب فإن كل ما علا سحاب {مَآءً} هو جسم سيان قد أحاط حول الأرض والمراد هنا المطر وهو الأجزاء المائية إذا التأم بعضها مع بعض ونكره قصداً إلى معنى البعضية أي : أنزل
395
من السماء بعض الماء {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} يقال خرج خروجاً برز من مقره أو حاله وأكثر ما يقال الإخراج في الأعيان أي : أنبتنا بسببه ذكر الماء وعدل عن لفظ الغيبة إلى صيغة التكلم على الحكاية لكلام الله تنبيهاً على زيادة اختصاص الفعل بذاته وإن ذلك منه ولا يقدر عليه غيره تعالى {أَزْوَاجًا} أصنافاً سميت بذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض لأنه يقال لكل ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضاداً زوج ولكل قرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة زوج ولكل قرينين فيها وفي غيرها زوج كالخف والنعل {مِّن نَّبَاتٍ} هو كل جسم يغتذي وينمو كما قال الراغب النبت والنبات ما يخرج من الأرض من الناميات سواء كان له ساق كالشجر أو لم يكن له ساق كالنجم لكن اختص في التعارف بما لا ساق له بل قد اختص عند العامة بما تأكله الحيوانات ومتى اعتبرت الحقائق فإنه يستعمل في كل نام نباتاً كان أو حيواناً أو إنساناً انتهى ومن بيانية فيكون قوله : {شَتَّى} صفة للنبات لما أنه في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد والجمع.
وشتى جمع شتيت بمعنى المتفرق أي : نباتات مختلة الأنواع والطعوم والروائح والأشكال والمنافع بعضها صالح للناس على اختلاف وجوه الصلاح وبعضها للبهائم والأظهر أن من نبات وشتى صفتان لا زواجاً وآخر شتى رعاية للفواصل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 395
{كُلُوا} حال من ضمير فأخرجنا على إرادة القول أي : أخرجنا منها أصناف النباتات قائلين كلوا منها أي : من الثمار والحبوب ونحوهما {وَارْعَوْا} الرعي في الأصل حفظ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه أي : أسيموا وأسرحوا فيها ، وبالفارسية : (وبرانيد) {أَنْعَـامَكُمْ} وهي الإبل والبقر والضأن والمعز أي اقصدوا بها الانتفاع بالذات وبالواسطة آذنين في الانتفاع بها مبيحين بأن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها.
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن السماء والماء والنبات والأنعام كلها مخلوقة لكم ولولا احتياجكم للتعيش بهذه الأشياء بل بجميع المخلوقات ما خلقتها ، قال المغربي قدس سره :
غرض توبى ز وجود همه جهان ورنه
لما تكوّن في الكون كائن لولاك
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} المذكور من الشؤون والأفعال الإلهية من جعل الأرض مهداً وسلك السبل فيها وإنزال الماء وإخراج أصناف النبات {لايَـاتٍ} كثيرة جليلة واضحة الدلالة على الصانع ووحدته وعظيم قذرته وباهر حكمته {لاوْلِى النُّهَى} جمع نهية سمي بها العقل لنهيه عن اتباع الباطل وارتكاب القبيح كما سمي بالعقل والحجر لعقله وحجره عن ذلك لذوي العقول الناهية عن الأباطيل التي من جملتها ما تدعيه الطاغية وتقبله منهم الفئة الباغية وتخصيص أولي النهى مع أنها آيات للعالمين باعتبار أنهم المنتفعون بها.
{مِّنْهَا} أي : من الأرض.
وفي "التأويلات النجمية" : من قبضة التراب التي أمر الله تعالى عزرائيل أن يأخذها من جميع الأرض {خَلَقْنَـاكُمْ} بوساطة أصلكم آدم والا فمن عدا آدم وحواء مخلوق من النطفة وأصل الخلق التقدير المستقيم ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء قال تعالى : {خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الأنعام : 1) ويستعمل في إيجاد الشيء من الشيء كما في هذا المقام {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} عند الموت بالدفن في الموضع الذي أخذ ترابكم منه وإيثار كلمة في للدلالة على الاستقرار والعود الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف
396
(5/304)
عنه إما إنصراف بالذات أو بالقول والعزيمة وإعادة الشيء كالحديث وغيره تكريره {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} أي : عند البعث بتأليف الأجزاء وتسوية الأجساد ورد الأرواح للحساب والجزاء وكون هذا الإخراج تارة أخرى باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها وإن لم يكن على نهج التارة الثانية.
والتارة في الأصل اسم للتور الواحد وهو الجريان ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتجددة كما مر في المرة ، قال الحكيم فردوسي :
جزء : 5 رقم الصفحة : 395
بخاكت در آرد خداوند اك
دكرره برون آرد از زير خاك
بدان حال كايى بخاك اندرون
بدان كونه از خاك آيى برون
اكر اك درخاك كيرى مقام
برآيى از واك واكيزه نام
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل جاء إلى النبي عليه السلام فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام وهو يقول مالي أراك مغموماً حزيناً؟ قال عليه السلام : "يا جبريل طال تفكيري في أمر أمتي يوم القيامة" قال : أفي أمر أهل الكفر أم في أمر أهل الإسلام؟ فقال : "يا جبريل في أمر أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله" فأخذ بيده حتى أقامه إلى مقبرة بني سلمة ثم ضرب بجناحه الأيمن على قبر ميت فقال : قم بإذن الله فقام رجل مبيض الوجه وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال جبريل : عد إلى مكانك فعاد كما كان ثم ضرب بجناحه الأيسر فقال : قم بإذن الله فخرج رجل مسود الوجه أزرق العينين وهو يقول واحسرتاه واندامتاه فقال له جبريل : عد إلى مكانك فعاد كما كان ثم قال : يا محمد على هذا يبعثون يوم القيامة وعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "تموتون كما تعيشون وتبعثون كما تموتون".
قيل ليحيى بن معاذ رضي الله عنه : ما بال الإنسان يحب الدنيا؟ قال : حق له أن يحبها منها خلق وهي أمه ومنها عيشه ورزقه فهي حياته وفيها يعاد فهي كفاته وفيها كسب الجنة فهي مبدأ سعادته وهي ممر الصالحين إلى الله تعالى كيف لا يحب طريقاً يأخذ بسالكه إلى جوار ربه.
واعلم أن من صفة الأرض الطمأنينة والسكون لفوزها بوجود مطلوبها فكانت أعلى مرتبة في عين السفل وقامت بالرضى فمقامها رضى وحالها تسليم ودينها إسلام وهكذا الإنسان الكامل في الدنيا فإن الله تعالى قد صاغه من قالب الأرض وهو وإن كان ترابي الأصل لكن طرح عليه اكسير الروح الأعظم فإذا طار الروح بقيت سبيكة الجسد على حالها كالذهب الخالص إذ لا تبلى نفوس الكمل.
قال في "أسئلة الحكم" : الأكثرون على تفضيل الأرض على السماء لأن الأنبياء خلقوا من الأرض وعبدوا فيها ودفنوا فيها وأن الأرض دار الخلافة ومزرعة الآخرة وأما الأرض الأولى فقال بعضهم : إنها أفضل لكونها مهبط الوحي ومشاهد الأنبياء وللانتفاع بها ولاستقرار الخلفاء عليها وغيرها من الفضائل انتهى.
يقول الفقير : كان الظاهر أن تفضل السماء لكونها مقر الأرواح العالية ولذا يبقى الجسد هنا بعد الوفاة ويعرج الروح ولكن فضل الأرض لأن أسباب العروج إنما حصلت بالآلات الجسدانية وهي من الأرض ولذا جعل عليه السلام الصلاة من الدنيا في قوله : "حبيب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرة عيني في الصلاة" وذلك لأن صورة الصلاة التي هي الأفعال والاذكار تحصل بالأعضاء والجوارح التي هي من الدنيا وعالم الملك وإن كان القلب
397
والتوجه من عالم الملكوت نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتحققين بحقائق الأرض والمعرضين عن كل طول وعرض.
جزء : 5 رقم الصفحة : 395
{وَلَقَدْ أَرَيْنَـاهُ ءَايَـاتِنَا كُلَّهَا} إضافة الآيات عهدية وكلها تأكيد لشمول الأنواع أي : وبالله لقد بصرنا فرعون على يدي موسى آياتنا كلها من العصا واليد وغيرهما على مهل من الزمان أو عرفناه صحتها وأوضحنا وجه الدلالة فيها {فَكَذَّبَ} بالآيات كلها من فرط عناده من غير تردد وتأخير وزعم أنها سحر {وَأَبَى} عن قبولها لعتوه والاباء شدة الامتناع فكل اباء امتناع وليس كل امتناع إباء.
(5/305)
{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يا مُوسَى} استئناف مبين لكيفية تكذيبه وأبائه والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وادعاء أنه أمر محال والمجيىء إما على حقيقته أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي والسحر خداع وتخييلات لا حقيقة لها نحو ما تفعله المشعبذة من صرف الابصار عما تفعله بخفة يد وما يفعله التمام بقول حرف عائق للاسماع.
والمعنى أجئتنا من مكانك الذي كنت فيه بعدما غبت عنا أو أقبلت علينا لتخرجنا من أرض مصر بالغلبة والاستيلاء بما أظهرته من السحر فإن ذلك مما لا يصدر عن العاقل لكونه من باب محاولة المحال.
قال الكاشفي : (يعني دانستيم كه تو ساحرى وميخواهى كه بسحر مارا از مصر بيرون كنى وبنى اسرائيل را متمكن سازى وادشاهى كنى بر ايشان) وقال بعضهم هذا تعلل وتحير ودليل على أنه علم كون موسى محقاً حتى خاف منه على ملكه فإن ساحراً لا يقدر أن يخرج ملكاً مثله من أرضه.
وفي "الإرشاد" إنما قال لحمل قومه على غاية المقت بإبراز أن مراده ليس مجرد إنجاء بني إسرائيل من أيديهم بل إخراج القبط من وطنهم وحيازة أموالهم وأملاكهم بالكلية حتى لا يتوجه إلى اتباعه أحد ويبالغوا في المدافعة والمخاصمة وسمي ما أظهره عليه من المعجزات الباهرة سحراً ليجسرهم على المقابلة.
وفي "التأويلات النجمية" : إنما قال هذا لأنه كان من أهل البصر لا من أهل البصيرة ولو كان من أهل البصيرة لرأى مجيئه لإخراجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمات البشرية إلى نور الروحانية ومن ظلمات الإنسانية إلى نور الربانية ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 398
هركه از ديدار برخوردار شد
اين جهان در شم او مردار شدملك برهم زن توادهم وار زود
تا بيابى همو او ملك خلود فلما رأى ببصر الحس المعجزة سحراً ادعى أن يعارضه بمثل ما أتى به فقال :
{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام جواب قسم محذوف كأنه قيل إذا كان كذلك فوالله لنأتينك بسحر مثل سحرك فلا تغلب علينا ، وبالفارسية : (هر آينه بياريم براى تو جادويى مانند جادويى تو وبآن باتو معارضه كنيم تا مردمان بدانندكه تو يغمبر نيستى جادو كرى) {فَاجْعَلْ} صير {بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ} لإظهار السحر {مَوْعِدًا} أي : وعداً لقوله : {لا نُخْلِفُهُ} أي : ذلك الوعد {نَحْنُ وَلا أَنتَ} يقال اخلف وعده ولا يقال اخلف زمانه ولا مكانه.
وقال بعضهم : أراد بالموعد ههنا موضعاً يتواعدون فيه الاجتماع هناك انتهى.
والوعد عبارة عن الاخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها.
والخلف المخالفة في الوعد يقال وعدني فأخلفني أي : خالف في الميعاد {مَكَانًا سُوًى} منصوب بفعل يدل عليه المصدر لا به فإنه موصوف وسوى
398
بالضم والكسر بمعنى العدل والمساواة أي : عد مكاناً عدلاً بيننا وبينك وسطاً يستوي طرفاه من حيث المسافة علينا وعليكم لا يكون فيه أحد الطرفين أرجح من الآخر أو مكاناً مستوياً لا يحجب العين ارتفاعه ولا انخفاضه ، وبالفارسية : (ون وعد برسد حاضر شويم درجايى كه مساوى باشد مسافت قوم ما وتوبآن يا مكان مستوى وهموار كه دروستى وبلندى نباشد تا مردم نظاره نتوانند كرد) ففوض اللعين أمر الوعد إلى موسى للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب كأنه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة طال الأمد أم قصر.
وفي "التأويلات النجمية" : إنما طلب الموعد لأن صاحب السحر يحتاج إلى تدبير السحر إلى طول الزمان وصاحب المعجزة لا يحتاج في إظهار المعجزة إلى الموعد.
{قَالَ} موسى : {مَوْعِدُكُمْ} (زمان وعد شما) {يَوْمُ الزِّينَةِ} (روز آرايش قبطيانست) يعني يوم عيدهم الذي يجتمع فيه الناس من كل مكان ليكون بمشهد خلق عظيم لعلهم يستحيون منهم فلا ينكرون المعجزة بعد إبطال السحر سألوا عن المكان فأجابهم بالزمان فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 398
اعلم أن الأعياد خمسة : "أحدها" : عيد قوم إبراهيم عليه السلام وفيه جعل إبراهيم الأصنام جذاذاً ، والثاني عيد قوم فرعون وهو يوم الزينة ، والثالث عيد قوم عيسى كما مر في أواخر المائدة ، والرابع والخامس عيدا أهل المدينة في الجاهلية وذلك يومان في السنة فأبدلهما الله في الإسلام يومي الفطر والأضحى وهذان اليومان مستمران إلى يوم القيامة.
قال المولى الجامي :
قربان شدن بتيغ جفاى تو عيد ماست
جان ميدهيم بهر نين عيد عمر هاست
(5/306)
{وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} عطف على اليوم أو الزينة والحشر : إخراج الجماعة من مقارهم وازعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها ولا يقال إلا في الجماعة.
وضحى نصب على الظرف أي : وأن يجمع الناس في وقت الضحى ليكون أبعد من الريبة.
قال في "ضرام السقط" : أول اليوم الفجر ثم الصباح ثم الغداة ثم البكرة ثم الضحى ثم الضحوة ثم الهجيرة ثم الظهيرة ثم الرواح ثم المساء ثم العصر ثم الأصيل ثم العشاء الأولى ثم العشاء الأخيرة عند مغيب الشفق.
وفي "بحر العلوم" الضحى صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقي شعاعها.
وقال الإمام الراغب الضحى انبساط النهار وامتداده سمى الوقت به.
وقال الكاشفي : (ضحى درجاشتكاه كه روشنترست از باقى روز).
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ} أي : ترك الولي والقرب وانصرف عن المجلس وأرسل إلى المدائن لجمع السحرة {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} أي : ما يكاد به من السحرة وأدواتهم والكيد ضرب من الاحتيال {ثُمَّ أَتَى} أي : الموعد ومعه ما جمعه من كيده وفي كلمة التراخي إيماء إلى أنه لم يسارع إليه بل أتاه بعد تأخير.
جزء : 5 رقم الصفحة : 398
{قَالَ لَهُم مُّوسَى} كأنه قيل فماذا صنع موسى عند إتيان فرعون مع السحرة فقيل قال لهم بطريق النصيحة {وَيْلَكُمْ} أصله الدعاء بالهلاك بمعنى ألزمكم الله ويلا يعني عذاباً وهلاكاً والمراد هنا الزجر والردع والحث والتحريض على ترك الافتراء ، وبالفارسية : (واى برشما) {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بأن تدعو أن الآيات التي ستظهر على يدي سحر أو لا تشركوا مع الله أحداً والافتراء التقول والكذب عن عمد.
399
وفي "التأويلات" : قال موسى للسحرة {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بإتيان السحر في معرض المعجزة ادعاء بأن الله قد أعطانا مثل ما أعطى الأنبياء من المعجزة {فَيُسْحِتَكُم} فيهلككم ويستأصلكم بسببه ، وبالفارسية : (ازبيخ بركند شمارا) يقال اسحت الشيء أعدمه واستأصله {بِعَذَابٍ} هائل لا يقادر قدره {وَقَدْ خَابَ} الخيبة فوت المطلب أي : (بى بهره ونا اميدماند) {مَنِ افْتَرَى} أي : على الله تعالى كائناً من كان بأي وجه كان.
{فَتَنَـازَعُوا} أي : السحرة حين سمعوا كلامه كأن ذلك غاظهم فتنازعوا {أَمْرَهُم} الذي أريد منهم من مغالبته عليه السلام وتشاوروا وتناظروا {بَيْنَهُمْ} في كيفية المعارضة وتجاذبوا أهداب القول في ذلك.
قال في "المفردات" نزع الشيء جذبه من مقره كنزع القوس عن كبده والتنازع والمنازعة المجاذبة ويعبر بها عن المخاصمة والمجادلة {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} وبالغوا في إخفاء النجوى عن موسى لئلا يقف عليه فيدافعه ، وبالفارسية : (ونهان داشتند ازكفتن را) والنجوى السر وأصله المصدر وناجيته أي : ساررته وأصله ارتحلوا في نجوة من الأرض أي : مكان مرتفع منفصل بارتفاعه عما حوله وقيل أصله من النجاة وهو أن تعاونه على ما فيه خلاصه أو أن تنجوا بسرك من أن يطلع عليه وكان نجواهم ما نطق به قوله تعالى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 399
{قَالُوا} أي : بطريق التناجي والأسرار {إِنْ هَـاذَانِ لَسَـاحِرَانِ} إن مخففة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية والمشار إليه موسى وهارون {يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم} أي : من أرض مصر بالغلبة والاستيلاء عليها وهو خبر بعد خبر {بِسِحْرِهِمَا} الذي أظهراه من قبل {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} المثلى تأنيث الأمثل وهو الأشرف أي : بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب وأمثلها بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما يريدون ما كان عليه قوم فرعون لقوله : {إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} لا طريقة السحر فإنهم ما كانوا يعتقدون ديناً.
قال في "بحر العلوم" سموا مذهبهم بها لزيادة سرورهم وكمال فرحهم بذلك وإنه الذي تطمئن به نفوسهم كما قال تعالى : {كُلُّ حِزْبا بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون : 53).
قال الإمام الراغب الطريق السبيل الذي يطرق بالأرجل ويضرب قال تعالى : {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا} (طه : 77) ومنه استعير لكل مسلك يسلكه الإنسان في فعل محموداً كان أو مذموماً قال تعالى : {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} أي : الأشبه بالفضيلة.
(5/307)
{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} الفاء فصيحة واجمعوا من الإجماع يقال أجمع الأمر إذا أحكمه وعزم عليه وحقيقته جمع رأيه عليه وأجمع المسلمون كذا اجتمعت آراؤهم عليه.
قال الراغب : أكثر ما يقال فيما يكون جمعاً يتوصل إليه بالتدبير والفكرة.
والمعنى إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين يريدان بكم ما ذكر من الإخراج والإذهاب فازمعوا مكركم وحيلكم في رفع هذا المزاحم واجعلوه مجمعاً عليه بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم وارموا عن قوس واحدة.
وقرىء فاجمعوا من الجمع ويعضده قوله تعالى : {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} أي : فاجمعوا أداوات سحركم ورتبوها كما ينبغي {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} أي : مصطفين في الموعد ومجتمعين ليكون أشد لهيبتكم وانظم لأمركم فجاءوا في سبعين صفاً كل صف ألف والصف أن يجعل الشيء على خط مستو كالناس والأشجار ونحو ذلك وقد يجعل بمعنى الصاف.
جزء : 5 رقم الصفحة : 399
قال في "الإرشاد" : لعل الموعد كان مكاناً متسعاً خاطبهم موسى بما ذكر في قطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم في قطر آخر منه ثم أمروا بأن يأتوا وسطه
400
على الوجه المذكور {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} افللاح الظفر وإدراك البغية والاستعلاء قد يكون طلب العلو المذموم وقد يكون طلب العلاء أي : الرفعة.
والآية تحتمل الأمرين جميعاً أي : وقد فاز بالمطلوب من غلب ونال علو المرتبة بين الناس.
قال في "الإرشاد" : يريدون بالمطلوب ما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب وبمن غلب أنفسهم جميعاً أو من غلب منهم حثالهم على بذل المجهود في المغالبة.
يقول الفقير فيه إشارة إلى أن المنهى من العلوم والأسباب كالسحر ونحوه ما يتقرب به إلى الدنيا وجمع طامها لا إلى الآخرة والفوز بنعيمها ولا إلى الله تعالى ولذا قال : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُهُ} فكل من أراد أن يتوصل بما يفعله مما نهاه الشرع إلى درجة من الدرجات الأخروية أو مرتبة من المراتب المعنوية فإنه يضيع سعيه ولا يفلح ولا يبقى له سوى التعب.
ثم إن أرباب التقليد يقتفون آثار فرعون وسحرته ويقولون في حق أهل التحقيق إن هؤلاء يخرجونكم من مناصب شيخوختكم ومراتب قبولكم عند العوام ويصرفون وجوه الناس عنكم ويذهبون بأشراف قومكم من الملوك والأمراء وأرباب المعارف وأهل الدثور والأموال فيسلكون مسالك الحيل ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون أي : المشركون بالشرك الخفي ، وفي "المثنوي" :
هركه برشمع خدا آرد فو
شمع كى ميرد بسوزد وزاو
فالذي خلق علوياً كالشمس فإنه لا يكون سفلياً بوجه من وجوه الحيل وكذا التراب خلق سفلياً فإنه لا يكون سماوياً ، قال المولى الجامي :
ستست قدر سفله اكر خود كلاه جاه
براوج سلطنت زند از كردش زمان
سفليست خاك اكره ته بر مقتضاى طبع
همراه كرد باد كشد سر بر آسمان
نسأل الله أن يجعلنا من أهل السعادة والفلاح.
جزء : 5 رقم الصفحة : 399
{قَالُوا} أي : السحرة بعد إجماعهم وإتيانهم الموعد واصطفافهم.
قال الكاشفي : (سره بقولى سيصد هزار خروار حبل وعصاها ميان نهى كرده وير اززيبق ساخته بميدان آوردند بطريق ادب وكفتند) يا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ} الإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي : تراه ثم صار في التعارف إسماً لكل طرح أي : تطرح عصاك من يدك على الأرض {وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} ما نلقيه من العصي والحبال وأن مع ما في حيزها منصوب بفعل مضمر أو مرفوع بخبرية مبتدأ محذوف أي : اختر إلقاءك أولاً أو إلقاءنا أو الأمر إما إلقاؤك أو إلقاؤنا.
وفيه إشارة إلى أن السحرة لما أعزوا موسى عليه السلام بالتقديم والتخبير في الإلقاء أعزهم الله بالإيمان الحقيقي حتى رأوا بنور الإيمان معجزة موسى فآمنوا به تحقيقاً لا تقليداً وهذا حقيقة قوله : "من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً" فلما تقربوا إلى الله بإعزاز من أعزه الله أعزهم بالإيمان تقرباً إليه فكذلك أعزهم موسى بالتقديم في الإلقاء كما حكى الله عنه بقوله :
{قَالَ} موسى : {بَلْ أَلْقُوا} أولاً ما أنتم ملقون.
يقول الفقير : الظاهر أن يالله تعالى ألهم السحرة التخيير وعلم موسى اختيار إلقائهم أولاً ليظهر الحق من الباطل لأن الحق يدفع الباطل ويمحوه ولو كان موسى أول من ألقى لتفرق الناس من أول الأمر خيفة الثعبان كا تفرقوا بعد ابتلاع العصا عصيهم وحبالهم وذا مخل بالمقصود.
قال الإمام فإن قيل كيف أمرهم به وهو سحر وكفر.
401
(5/308)
قلنا لما تعين طريقاً إلى كشف الشبهة صار جائزاً.
وفي "الأسئلة المقحمة" : هذا ليس بأمر وإنما هو للاستهانة بذلك وعدم الإكتراث به لما كان يعلم أن ذلك سبب لظهور الحق وزهوق الباطل {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} الفاء فصيحة وإذا المفاجأة ظرفية والحبال جمع حبل وهو الرسن والعصي جمع عصا والتخيل تصوير خيال الشيء في النفس والتخيل تصور ذلك والخيال أصله الصورة المجردة كالصورة المتصورة في المنام وفي المرآة وفي القلب بعيد غيبوبة المرئى ثم تستعمل في صورة كل أمر متصور وفي كل شخص دقيق يجري مجرى الخيال وأنها تسعى نائب فاعل ليحيل والسعي المشي السريع وهو دون العدو.
والمعنى فألقوا ففاجأ موسى وقت أن يخيل إليه سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم ، وبالفارسية (س رسنها وعصاهايي ايشان نموده شد بموسى از جادويى وكيد ايشان كه كويى بدرستى كه آن ميرود ومى شتايد) وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت فخيل إليها أنها تتحرك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 401
{فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِه خِيفَةً مُّوسَى} الوجس الصوت الخفي والتوجس التسمع والإيجاس وجود ذلك في النفس والخيفة الحالة التي عليها الإنسان من الخوف وهي مفعول أوجس وموسى فاعله.
والمعنى : أضمر موسى في نفسه بعض خوف من مفاجأته بمقتضى البشرية المجبولة على النفرة من الحيات والاحتراز من ضررها المعتاد من اللسع ونحوه كما دل عليه قوله في نفسه لأنه من خطرات النفس لا من القلب وفي الحقيقة أن الله تعالى ألبس السحر لباس القهر فخاف موسى من قهر الله لا من غيره لأنه لا يأمن من مكر الله إلا القوم الفاسقون ، يقول الفقير :
ون خدا خواهد شودهر برك خار
رشته باريك درشم عين مار
برك لرزان آب ريزان از الم
ون نمى ترسم زقهر كردكار
{قُلْنَا لا تَخَفْ} ما توهمت {إِنَّكَ} أي : لأنك {أَنتَ الاعْلَى} أي : الغالب القاهر لهم ونحن معك في جميع أحوالك فإنك القائم بالمسبب وهم القائمون المعتمدون على الأسباب وأيضاً معك آياتنا الكبرى وهو لباس حفظنا.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن خوف البشرية مركوز في جبلة الإنسان ولو كان نبياً إلى أن ينزع الله الخوف منه انتزاعاً ربانياً بقول صمداني كما قال تعالى : {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعْلَى} أي : أعلى درجة من أن تخاف من المخلوقات دون الخالق وفيه معنى آخر أن خوف موسى ما كان من المكونات بل من المكون إذ رأى عصاه ثعباناً تلقف سحر السحرة وقد علم أنها صارت مظهر صفة قهارية الحق فخاف من الحق وقهره لا من العصا وثعبانها فلهذا قال تعالى : {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعْلَى} أي : لأنك على درجة عندنا منها لأنها عصاك مصنوعة لنفسك وأنت رسولي وكليمي واصطنعتك لنفسي فإن كانت هي مظهر صفة قهري فأنت مظهر صفات لطفي وقهري كلها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 401
{وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ} أي : عصاك والإبهام لتفخيم شأنها والإيذان بأنها ليست من جنس العصى المعهودة لأنها مستتبعة لآثار غريبة {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} بالجزم جواب للأمر من لقفه كسمعه لقفا بسكون القاف وفتحها إذا ابتلعه التقمه سرعة.
قال في "المفردات" : لقفت الشيء القفه وتلقفته تناولته بالجذب سواء كان تناوله بالفم أو باليد
402
انتهى والتأنيث لكون ما عبارة عن العصا والصنع إجادة الفعل فكل صنع فعل وليس كل فعل صنعا ولا تنسب إلى الحيوانات والجمادات كما ينسب إليها الفعل.
والمعنى تبتلع وتلقم ما صنعوه من الحبال والعصي التي خيل إليك سعيها وخفتها والتعبير عنها بما صنعوا للتحقير والإيذان بالتمويه والتزوير أي زوروه وافتعلوه {إِنَّمَا صَنَعُوا} ما موصولة أو موصوفة أي : إن الذي صنعوه أو إن شيئاً صنعوه {كَيْدُ سَـاحِرٍ} بالرفع على أنه خبر لأن أي : كيد جنس الساحر ومكره وحيلته وتنكيره للتوسل به إلى تنكير ما أضيف إليه للتحقير والكيد ضرب من الاحتيال يكون محموداً أو مذموماً وإن كان يستعمل في المذموم أكثر وكذلك الاستدراج والمكر {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ} أي : لا يدرك بغيته هذا الجنس {حَيْثُ أَتَى} من الأرض وعمل السحر فيها وهو من تمام التعليل.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن ما في يمينك هو مصنوعي وكيدي وما صنعه السحرة إنما هو مصنوعهم وكيدهم ولا يفلح الساحر ومصنوعه وكيده حيث أتى مصنوعي وكيدي لأن كيدي متين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 402
(5/309)
واعلم أن الفلاح دنيوي وهو الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز وأخروي وهو أربعة أشياء : بقاء بلا فناء وغنى بلا فقر وعز بلا ذل وعلم بلا جهل ففلاح أهل الدنيا كلا فلاح لأن عاقبته خيبة وخسران ألا ترى أن من قال لأستاذه لم أي : اعترض عليه لن يفلح أبداً وقد رأينا بعض المعترضين قد أوتي مالاً وجاهاً ورياسة فهو فهو تقلبه خائب خاسر وقس عليه سائر المخالفين من أهل المنكرات.
قال في "نصاب الاحتساب" الساحر إذا تاب قبل أن يؤخذ تقبل توبته وإن أخذ ثم تاب لم تقبل توبته.
وفي "شرح المشارق" : للشيخ أكمل روي محمد بن شجاع عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال في الساحر يقتل إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله إني أترك السحر وأتوب منه فإذا أقر أنه ساحر فقد حل دمه وإن شهد عليه شاهدان بالسحر فوصفوا ذلك بصفة يعلم أنها سحر قتل ولا يستتاب انتهى.
وفي "شرح رمضان" على "شرح العقائد" أن الساحر يقتل ذكراً أو أنثى إذا كان سعيه بالإفساد والإهلاك في الأرض وإذا كان سعيه بالكفر فيقتل الذكر دون الأنثى انتهى.
وفي الفروع لا تقتل الساحرة المسلمة ولكن تضرب وتحبس لأنها ارتكبت جريمة عظيمة وإنما لا تقتل لأن النبي عليه السلام نهى عن قتل النساء مطلقاً.
وفي الأشباه كل كافر تاب فتوبته مقبولة في الدنيا والآخرة إلا جماعة الكافر بسب النبي وبسب الشيخين أو أحدهما وبالسحر ولو امرأة وبالزندقة إذا أخذ قبل توبته انتهى.
وفي "فتاوي قارىء الهداية" الزنديق من يقول ببقاء الدهر أي : لا يؤمن بالآخرة ولا الخالق ويعتقد أن الأموال والحرم مشتركة.
وقال في موضع آخر : هو الذي لا يعتقد إلهاً ولا بعثاً ولا حرمة شيء من الأشياء وفي قبول توبته روايتان والذي ترجح عدم قبول توبته انتهى.
قال في "شرح الطريقة" السحر في اللغة كل ما لطف ودق ومنه السحر للصبح الكاذب وقوله عليه السلام : "إن من البيان لسحراً" وبابه منع وفي العرف إراءة الباطل في صورة الحق وهو عندنا أمر ثابت لقوله عليه السلام : "السحر حق والعين حق".
وفي "شرح الأمالي" السحر من سحر يسحر سحراً إذا خدع أحداً وجعله مدهوشاً متحيراً وهذا
403
إنما يكون بأن يفعل الساحر شيئاً يعجز عن فعله وإدراكه المسحور عليه.
وفي "كتاب اختلاف الأئمة" السحر رقي وعزائم وعقد تؤثر في الأبدان والقلوب فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه وله حقيقة عند الأئمة الثلاثة.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله لا حقيقة له ولا تأثير له في الجسم وبه قال أبو جعفر الاسترابادي من الشافعية.
وفي "شرح المقاصد" : السحر إظهار أمر خارق للعادة من نفس شريرة خبيثة بمباشرة أعمال مخصوصة يجري فيها التعلم والتعليم وبهذين الاعتبارين يفارق المعجز والكرامة وبأنه لا يكون بحسب اقتراح المقترحين وبأنه يخص الأزمنة أو الأمكنة أو الشرائط وبأنه قد يتصدى لمعارضته ويبذل الجهد في الإتيان بمثله وبأن صاحبه ربما يعلن بالفسق ويتصف بالرجس في الظاهر والباطن والخزي في الدنيا والآخرة وهو أي : السحر عند أهل الحق جائز عقلاً ثابت سمعاً وكذا الإصابة بالعين.
وقال المعتزلة بل هو مجرد إراءة ما لا حقيقة له بمنزلة الشعوذة التي سببها خفة حركات اليد أو إخفاء وجه الحيلة وفيه لنا وجهان الأول يدل على الجواز والثاني يدل على الوقوع ، أما الأول هو إمكان الأمر في نفسه وشمول قدرة الله تعالى فإنه هو الخالق وإنما الساحر فاعل وكاسب وأيضاً فيه إجماع الفقهاء وإنما اختلفوا في الحكم وأما الثاني فهو قوله تعالى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 402
{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـارُوتَ وَمَـارُوتَ} إلى قوله : {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِه بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِه مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة : 102) وفيه إشعار بأنه ثابت حقيقة ليس مجرد إراءة وتمويه وبأن المؤثر والخالق هو الله تعالى وحده.
فإن قيل قوله تعالى في قصة موسى {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه : 66) يدل على أنه لا حقيقة للسحر وإنما هو تمويه وتخييل.
قلنا : يجوز أن يكون سحرهم هو إيقاع ذلك التخييل وقد تحقق ولو سلم فكون أثره في تلك الصورة هو التخييل لا يدل على أنه لا حقيقة له أصلاً.
ثم إن السحر خمسة أنواع في المشهور :
منها : الطلسم قيل هو مقلوب المسلط وهو جمع الآثار السماوية مع عقاقير الأرض ليظهر منها أمر عجيب.
ومنها : النيرنج قيل هو معرب "نيرنك" وهو التمويه والتخييل قالوا ذلك تمزيج قوى جواهر الأرض ليحدث منها أمر عجيب.
(5/310)
ومنها : الرقية وهو الافسون معرب "آب سون" وهو النفث في الماء وسمي به لأنهم ينفئون في الماء ثم يشربونه أو يصبون عليه وإنما سميت رقية لأنها كلمات رقيت من صدر الراقي فبعضها فهلويه وبعضها قبطية وبعضها بلا معنى يزعمون أنها مسموعة من الجن أو في المنام.
ومنها : الخلقطيرات وهي خطوط عقدت عليها حروف وأشكال أي : حلق ودوائر يزعمون أن لها تأثيرات الخاصية.
ومنها : الشعبذة ويقال لها الشعوذة معرب "شعياذة" اسم رجل ينسب إليه هذا العلم وهي خيالات مبنية على خفة اليد وأخذ البصر في تقليب الأشياء كالمشي على الإرسال واللعب بالمهارق والحقات وغير ذلك والمذهب أن التأثير الحاصل عقيب الكل هو فعل الله تعالى على وفق إجراء عادته ووجه الحكمة فيه لا يعلمه إلا هو سبحانه.
قال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في "الفتوحات المكية" : إن التأثير الحاصل من الحروف وأسماء الله تعالى من جنس الكرامات أي : إظهار الخواص بالكرامة فإن كل أحد لا يقدر على الاستخراج خواص الأشياء.
{فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ} الفاء فصيحة أي : فإلقاه فوقع ما وقع
404
من اللقف فألقى السحرة حال كونهم {سُجَّدًا} ساجدين كأنما ألقاهم ملقي لشدة خرورهم وبالفارسية (حضرت موسى عصا بيفكند في الحال ازدهايى شد ودهن خود كشاده تمام ادوات جادواثرا فروبرد ومردم ازترس روى بكريز آوردند وموسى اورا بكرفت همان عصا شد جادوان دانستندكه آن سحر نيست زيراكه سحر سحر ديكررا باطل نكند بلكه قدرت خدا ومعجزه موسى است س درافكنده شدند يعنى تأمل اين معنى ايشانرا درروى افكند درحلتى كهسجده كندكان بودند مردايرا ازروى صدق) وإنما عبر عن الخرور بالالقاء ليشاكل تلك الالقاآت.
جزء : 5 رقم الصفحة : 402
ـ روي ـ أن رئيسهم قال : كنا نغلب الناس وكانت الآلات تبقى علينا فلو كان هذا سحراً فأين ما ألقيناه من الآلات فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع العالم القادر وبظهور ذلك على يد موسى على صحة رسالته فتابوا وأتوا بنهاية الخضوع وهو السجود قال جار الله : ما أعجب أمرهم القوا حبالهم للكفر والجحود ثم ألقوا رؤوسهم للشكر والسجود فما أعظم الفرق بين الإلقاءين {قَالُوا} في سجودهم وهو استئناف بياني {ءَامَنَّا بِرَبِّ هَـارُونَ وَمُوسَى} تأخير موسى عند حكاية كلامهم لرعاية الفواصل ولأن فرعون ربى موسى في صغره فلو اقتصر على موسى أو قدم ذكره فربما توهم أن المراد فرعون وذكر هارون على الاستتباع ومعنى إضافة الرب إليهما أنه هو الذي يدعوان إليه وأجرى على يديهما ما أجرى.
قال بعض الكبار : من كان له استعداد النظر إلى عالم الغيب وباشر حظوظ النفس احتجب عنه فإنه انقطع إلى الله نظر الله إلى قلبه بنعت الإخلاص واليقين وكشف الله له أنوار حضرته وجذبه إلى قربه فالسحرة مجذوبون مهتدون بالله إلى الله مؤمنون بالبرهان لا بالتقليد وأن فرعون ما رأى برهان الربوبية فلم يؤمن.
{قَالَ} فرعون للسحرة بطريق التوبيخ {لَه قَبْلَ} أي : لموسى واللام لتضمين الفعل معنى الاتباع واللام مع الإيمان في كتاب الله لغيره.
وفي "بحر العلوم" : له أي : لربهما على أن اللام بمعنى الباء والدليل القاطع عليه قوله : {قَالَ} أي : فرعون {ءَامَنتُم بِه قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ} (الأعراف : 123) في سورة الأعراف وآمنتم بالمد على الاخبار أي : فعلتم هذا الفعل توبيخاً لهم {قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ} أي : من غير أن آذن لكم في الإيمان له وأمركم به كما في قوله تعالى : {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـاتُ رَبِّى} (الكهف : 109) لا أن الإذن لهم في ذلك واقع بعده أو متوقع والإذن في الشيء إعلام بإجازته واذنته بكذا وآذنته بمعنى {إِنَّهُ} يعني موسى {لَكَبِيرُكُمُ} أي : في فنكم وأعلمكم به وأستاذكم {الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} فتواطأتم على ما فعلتم.
قال الكاشفي : (يعني استاد ومعلم ومهتر جادوانست شماباهم خواهيدكه ملك برابر ادازند) وأراد التلبيس على قومه لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان لأنه عالم أن موسى ما علمهم السحر يعني أن هذه شبهة زورها اللعين وألقاها على قومه وأراهم أن أمر الإيمان منوط بإذنه فلما كان إيمانهم بغير إذنه لم يكن معتداً به وأنهم من تلامذته عليه السلام فلا عبرة بما أظهره كا لا عبرة بما أظهروه وذلك لما اعتراه من الخوف من اقتداء الناس بالسحرة في الإيمان بالله ثم أقبل عليهم بالوعيد المؤكد حيث قال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 402
{فَلاقَطِّعَنَّ} أي : فوالله لأقطعن وصيغة التفعيل للتكثير وكذا في الفعل الآتي والقطع فصل شيء مدركاً بالبصر كالأجسام أو مدركاً بالبصيرة كالأشياء المعقولة
405
(5/311)
{أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـافٍ} الخلاف أعم من الضد لأن كل ضدين مختلفان دون العكس.
والمعنى من كل شق طرفاً وهو أن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ومن فيه لابتداء الغاية أي : ابتداء القطع من مخالفة العضو العضو لا من وفاقه إياه فإن المبتدىء من المعروض مبتدىء من العارض أيضاً وهي مع مجرورها في حيز النصب على الحالية أي : لأقطعنها مختلفاً لأنها إذا خالف بعضها بعضاً بأن هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك يسار فقد اتصفت بالاختلاف وتعيين القطع وكيفيته لكونه أفظع من غيره {وَلاصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ} الصلب الذي هو تعليق الإنسان للقتل قيل هو شد صلبه على خشب أي : على أصول النخل في شاطىء النيل ، وبالفارسية : (وهر آيينه برآويزم شمارا درتن خرما بن كه دراز ترين درختانست تاهمه كس شمارابه بيند وعبرت كيرد) وإيثار كلمة في للدلالة على إبقائهم عليها زماناً طويلاً تشبيهاً لاستقرارهم عليها باستقرار المظروف في الظرف المشتمل عليه.
قالوا : فرعون موسى هو أول من استعمل الصلب.
فإن قيل مع قرب عهده بانقلاب العصا حية وقصدها ابتلاع قصره واستغاثته بموسى من شرها كيف يعقل أن يهدّد السحرة إلى هذه الحد ويستهزىء بموسى.
قلنا : يجوز أن يكون في أشد الخوف ويظهر الجلادة تمشية لناموسه وترويجاً لأمره والاستقراء يوقفك على أمثاله {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ} أي : أنا وموسى {أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} أدوم وموسى لم يكن في شيء من التعذيب إلا أن فرعون ظن السحرة خافوا من قبل موسى على أنفسهم حين رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم فقال ما قال وعلى ما سبق من "بحر العلوم" في {لَه قَبْلَ} يكون المراد بـ {أَيُّنَآ} نفسه ورب موسى.
وفي "التأويلات النجمية" : وإنما قال : {أَشَدُّ عَذَابًا} لأنه كان بصيراً بعذاب الدنيا وشدته وقد كان أعمى بعذاب الآخرة وشدته.
جزء : 5 رقم الصفحة : 402
{قَالُوا} غير مكترثين بوعيده.
قال الكاشفي : (ساحران ون ازجام جذبه حقانى مست شده بودند واز انوار تواتر ملاطفات ربانى كه بردل ايشان تافته بود ازدست شده :
خورده يكجرعه از كف ساقى
هره فانيست كرده درباقى
دامن از فكر غير افشانده
ليس في الدار غيره خانده
لا جرم درجواب فرعون كفتند) {لَن نُّؤْثِرَكَ} لن نختارك بالإيمان والاتباع {عَلَى مَا جَآءَنَا} من الله على يد موسى {مِنَ الْبَيِّنَـاتِ} من المعجزات الظاهرة التي لا شبهة في حقيتها وكان من استدلالهم أنهم قالوا : لو كان هذا سحراً فأين حبالنا وعصينا.
وفيه إشارة إلى أن القوم شاهدوا في رؤية الآيات أنوار الذات والصفات فهان عليهم عظائم البليات ومن آثر الله على الأشياء هان عليه ما يلقى في ذات الله.
وقد قال بعض الكبار ليخفف ألم البلاء عنك علمك أن الله هو المبلى {وَالَّذِى فَطَرَنَا} أي : خلقنا وسائر المخلوقات عطف على ما جاءنا وتأخيره لأن ما في ضمنه آية عقلية نظرية وما شاهده آية حسية ظاهرة.
وقال بعضهم هو قسم محذوف الجواب لدلالة المذكور عليه أي : وحق الذي فطرنا لا نؤثرك فإن القسم لايجاب بلن إلا على شذوذ.
وفي "التفسير الفارسي" : (وسوكنده ميخوريم بخدايى كه مارا آفريد).
وفي "التأويلات" : أي : بالذي فطرنا على فطرة الإسلام والتعرض للفاطرية
406
لإيجابها عدم إيثارهم فرعون عليه تعالى {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ} جواب عن تهديده بقوله لأقطعن أن فاصنع ما أنت صانعه أو احكم فينا ما أنت فيه حاكم من القطع والصلب.
وفي "التأويلات" : أي : فاحكم وأجر علينا ما قضى الله لنا في الأزل من الشهادة {إِنَّمَا تَقْضِى هَـاذِهِ الْحَيَواةَ الدُّنْيَآ} أي : إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياة الدنيا ومدة حياتنا فحسب فسيزول أمرك وسلطانك عن قريب ومالنا من رغبة في عذبها ولا رهبة من عذابها (امروز بجور هره خواهى ميكن فردا بتونيز هره خواهند كنند).
جزء : 5 رقم الصفحة : 406
{إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـايَـانَا} من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذ بها في الدار الآخرة لا ليمتعنا بتلك الحياة الفانية حتى تتأثر بما أوعدتنا به من القطع والصلب والمغفرة صيانة العبد عما استحقه من العقاب للتجاوز عن ذنوبه من الغفر وهو إلباس الشيء ما يصونه عن الدنس.
والخطايا جمع الخطية والفرق بينها وبين السيئة أن السيئة قد تقال فيما يقصد بالذات والخطية فيما يقصد بالعرض لأنها من الخطأ {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} عطف على خطايانا أي : ويغفر لنا السحر الذي عملناه في معارضة موسى بإكراهك وحشرك إيانا من المدائن القاصية خصوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم إظهاراً لغاية نفرتهم منه ورغبتهم في مغفرته {وَاللَّهُ خَيْرٌ} أي : في ذاته وهو ناظر إلى قولهم والذي فطرنا {وَأَبْقَى} أي : جزاء ثواباً كان أو عقاباً أو خير لنا منك ثواباً إن أطعناه وأدوم عذاباً منك إن عصيناه.
(5/312)
وفي "التأويلات النجمية" : {وَاللَّهُ خَيْرٌ} في إيصال الخير ودفع الشر منك {وَأَبْقَى} خيره من خيرك وعذابه من عذابك.
قال الحسن : سبحان الله لقوم كفارهم أشد الكافرين كفراً ثبت في قلوبهم الإيمان طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن قالوا : {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ} في ذات الله والله إن أحدهم اليوم ليصحب القرآن ستين عاماً ثم إنه ليبيع دينه بثمن حقير ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
زيان ميكند مرد تفسيردان
كه علم أدب ميفروشد بنان
كجا عقل باشرح فتوى دهد
كه اهل خرد دين بديني دهد
{إِنَّهُ} أي : الشأن وهو تعليل من جهتهم لكونه تعالى خيراً وأبقى {مِنْ} (كس كه) {يَأْتِ} (آيد در روز قيامت) {رَّبِّهِ} (نزديك رور دكار او) {مُجْرِمًا} حال كونه متوغلاً في إجرامه منهمكاً فيه بأن يموت على الكفر والمعاصي ولأنه مذكور في مقابلة المؤمن {فَإِنَّ لَه جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا} فينتهي عذابه ويستريح وهذا تحقيق لكون عذابه أبقى {وَلا يَحْيَى} حياة ينتفع بها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 406
{وَمَن يَأْتِه مُؤْمِنًا} به تعالى وبما جاء من عنده من المعجزات التي من جملتها ما شاهدناه {قَدْ} أي : وقد {عَمِلَ الصَّـالِحَـاتِ} الصالحة كالحسنة جارية مجرى الاسم ولذلك لا تذكر غالباً مع الموصوف وهي كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والنقل فأولئك إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها أي : فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات {لَهُمُ} بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحة {الدَّرَجَـاتُ الْعُلَى} جمع العليا تأنيث الأعلى أي : المنازل الرفيعة في الجنة.
وفيه إشارة إلى الفرق بين أهل الإيمان المجرد
407
وبين الجامع بين الإيمان والعمل حيث أن الدرجات العالية للثاني وغيرها لغيره.
جزء : 5 رقم الصفحة : 406
{جَنَّـاتُ عَدْنٍ} بدل من الدرجات العلى {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} (يوسته ميرود از زير منازل آن يا أشجار آن جويها) حال من الجنات {خَـالِدِينَ فِيهَا} حال من الضمير في لهم والعامل معنى الاستقرار أو الإشارة {وَذَالِكَ} أي : المذكور من الثواب {جَزَآءُ مَن تَزَكَّى} الجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيراً فخير وإن شراً فشر يقال جزيته كذا وبكذا والفرق بين الأجر والجزاء أن الأجر يقال فيما كان عن عقد وما يجري مجرى العقد ولا يقال إلا في النفع دون الضر والجزاء يقال فيما كان عن عقد وعن غير عقد ويقال في النافع والضار والمعنى جزاء من تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة وهذا تحقيق لكون ثواب الله تعالى أبقى وفي الحديث : "إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدريّ في أفق السماء وإن أبا أبكر وعمر منهم وانعما" أي : هما أهل لهذا.
قالوا ليس في القرآن أن فرعون فعل بأولئك المؤمنين ما أوعدهم به ولم يثبت في الأخبار كما في الأخبار.
وقال في "التفسير الكبير" : نقلاً عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا أول النهار سحرة وآخره شهداء وفي "بحر العلوم" أصبحوا كفرة وامسوا أبراراً شهداء ، وفي "المثنوي" :
ساحران در عهد فرعون لعين
ون مرى كردند با موسى بكين
ليك موسى را مقدم داشتند
ساحران اورا مكرّم داشتند
زانكه كفتندش كه فرمان آن تست
كو تومى خواهى عصا بفكن نخست
كفت نى اول شما أى ساحران
افكنيد آن مكرهارا درميان
اين قدر تعظيم ايشانرا خريد
وازمرى آن دست واهاشان بريد
ساحران ون قدر او نشناختند
دست وادر جرم آن در باختند
فدلت هذه الأخبار على كونهم شهداء وأن فرعون استعمل الصلب فيهم وإلا لم يكن أول من صلب.
فعلى العاقل أن يختار الله تعالى ويتزكى عن الأخلاق الذميمة النفسانية والأوصاف الشنيعة الشيطانية ويتحلى بالأخلاق الروحانية الربانية ويبذل المال والروح لينال أعلى الفتوح جعلنا الله وإياكم من أهل الولاء وممن هان عليه البلاء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 408
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى} وبالله لقد أوحينا إليه بعد إجراء الآيات التسع في نحو من عشرين سنة كما في "الإرشاد".
يقول الفقير : يخالفها ما في بعض الروايات المشهورة من أن موسى عليه السلام دعا ربه في حق فرعون وقومه فاستجيب له ولكن أثره بعد أربعين سنة على ما قالوا عند قوله تعالى : {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} (يونس : 89) {أَنْ} مفسرة بمعنى أي : أو مصدرية أي : بأن {أَسْرِ بِعِبَادِى} السرى والإسراء سير الليل أي : قال سر ببني إسرائيل من مصر ليلاً ، وبالفارسية : (بشب ببريندكان مرا) أمر بذلك لئلا يعوقهم أعوان فرعون {فَاضْرِبْ لَهُمْ} فاجعل من قولهم ضرب له في ماله سهماً أو فاتخذوا عمل من قولهم ضرب اللبن إذا عمله.
وفي "الجلالين" : فاضرب لهم بعصاك {طَرِيقًا} الطريق كل ما يطرقه طارق معتاداً كان أو غير معتاد.
قال الراغب : الطريق السبيل الذي يطرق بالأرجل ويضرب {فِى الْبَحْرِ} البحر
408
(5/313)
كل مكان واسع جامع للماء الكثير والمراد هنا بحر القلزم.
قال في "القاموس" هو بلد بين مصر ومكة قرب جبل الطور وإليه يضاف بحر القلزم لأنه على طرفه أو لأنه يبتلع من ركبه لأن القلزمة الابتلاع {يَبَسًا} صفة لطريقا واليبس المكان الذي كان فيه ماء فذهب.
قال في "الإرشاد" أي : يابساً على أنه مصدر وصف به الفاعل مبالغة ، وبالفارسية : (خشك كه دروآب ولاى تبود) {لا تَخَـافُ دَرَكًا} حال مقدرة من المأمور أي : موسى والدرك محركة اسم من الإدراك كالدرك بالسكون.
والمعنى حال كونك آمنا من أن يدرككم العدو {وَلا تَخْشَى} الغرق.
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} الفاء فصيحة أي : ففعل ما أمر به من الإسراء بهم وضرب الطريق وسلوكه فتبعهم فرعون ومعه جنوده حتى لحقوهم وقت إشراق الشمس وهو إضاءتها يقال اتبعهم أي : تبعهم وذلك إذا كانوا سبقوك فلحقتهم فالفرق بين تبعه واتبعه أن يقال اتبعه اتباعاً إذ طلب الثاني اللحوق بالأول وتبعه تبعاً إذا مر به ومضى معه.
ـ روي ـ أن موسى خرج بهم أول الليل وكانوا ستمائة وسبعين ألفاً فأخبر فرعون بذلك فاتبعهم بعساكره وكانت مقدمته سبعمائة ألف فقص أثرهم فلحقهم بحيث تراءى الجمعان فعند ذلك ضرب موسى عليه السلام بعصاه البحر فانفلق على اثني عشر فرقاً كل فرق كالطود العظيم وبقي الماء قائماً بين الطرق فعبر موسى بمن معه من الأسباط سالمين وتبعهم فرعون بجنوده {فَغَشِيَهُم} سترهم وعلاهم {مِّنَ الْيَمِّ} أي : بحر القلزم {مَا غَشِيَهُمْ} أي : الموج الهائل الذي لا يعلم كنهه إلا الله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 408
{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} أي : سلك بهم مسلكاً أدّاهم إلى الخيبة والخسران في الدين والدنيا معاً حيث ماتوا على الكفر بالعذاب الهائل الدنيوي المتصل بالعذاب الخالد الأخروي {وَمَا هَدَى} أي : ما أرشدهم قط إلى طريق موصل إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية وهو تقرير لإضلاله وتأكيد له إذرب مضل قد يرشد من يضله إلى بعض مطالبه.
وفيه نوع تهكم في قوله : {وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر : 29) فإن نفى الهداية من شخص مشعر بكونه ممن تتصور منه الهداية في الجملة وذلك إنما يتصور في حقه بطريق التهكم.
يقول الفقير موسى مع قومه إشارة إلى الروح القدسي مع قواه وفرعون مع قومه إشارة إلى النفس الأمارة مع قواها والبحر هو بحر الدنيا فموسى الروح يعبره إما بسفينة الشريعة أو بنور الكشف الإلهي ويغرق فرعون النفس لأنها تابعة لهواها لا شريعة لها ولا كشف فعلم منه أن اتباع أهل الضلال أنفساً وآفاقاً يؤدي إلى الهلاك الصوري والمعنوي واقتداء أهل الهدى يفضي إلى النجاة الأبدية.
زينها راز قرين بد زنهار
وقنا ربنا عذاب النار
وأحسن وجوه الاتباع الإيمان والتوحيد لأن جميع الأنبياء متفقون على ذلك والمؤمن في حصن حفظه الله تعالى من الأعداء الظاهرة والباطنة في الدنيا والآخرة.
ـ حكي ـ عن عبد الله بن الثقفي أن الحجاج أْضر أنس بن مالك وقال له : أريد أن أقتلك شر قتلة فقال أنس : لو علمت أن ذلك بيدك لعبدتك من دون الله تعالى قال الحجاج : ولم ذلك؟ قال : لأن رسول الله عليه السلام علمني دعاء وقال : "من دعا به في كل صباح لم يكن لأحد عليه سبيل"
409
وقد دعوت به في صباحي فقال الحجاج : علمنيه قال : معاذ الله أن أعلمه لأحد وأنت حي فقال : خلوا سبيله فقيل له في ذلك فقال : رأيت على عاتقيه أسدين عظيمين فاتحين أفواههما ولما حضرته الوفاة قال لخادمه إن لك علي حقاً أي : حق الخدمة فعلمه الدعاء المذكور وقال له قل : "بسم الله خير الأسماء بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء" ثم إن هذا في الدنيا وإما في الآخرة فيحفظه من النار والعذاب.
واعلم أن موسى نصح فرعون ولكن لم ينجعه الوعظ فلم يدر قدره ولم يقبل فوصل من طريق الرد والعناد إلى الغرق والهلاك نعوذ بالله رب العباد.
فعلى العاقل أن يستمع إلى الناصح ، قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 408
امروز قدر ند عزيزان شناختم
يا رب روان ناصح ما از تو شاد باد
قوله : أمروز يريد به وقت الشيخوخة وفيه إشارة إلى أن وقت الشباب ليس كوقت الكهولة ولذا ترى أكثر الشباب منكبين على سماع الملاهي معرضين عن الناصح الإلهي فمن هداه الله تعالى رجع إلى نفسه ودعا لناصحه لأنه ينصح حروفه بالفارسية (ميدوزد دريدهاى او) ولا بد للسالك من مرشد ومجاهدة ورياضة فإن مجرد وجود المرشد لا ينفعه ما دام لم يسترشد ألا ترى أن فرعون عرف حقية موسى وما جاء به لكنه أبى عن سلوك طريقه فلم ينتفع به فالأول الاعتقاد ثم الإقرار ثم الاجتهاد وقد قال بعضهم : "إن السفينة لا تجري على اليبس" والنفس تجر إلى الدعة والبطالة وقد قال تعالى : {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} (التوبة : 41) فالعبادة لازمة إلى أن يأتي اليقين حال النشاط والكراهة والجهاد ماض إلى يوم القيامة ، قال المولى الجامي قدس سره :
(5/314)
بى رنج كسى ون نبردره بسر كنج
آن به كه بكوشم بتمنا ننشيتم
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطريق مرضاته ويوصلنا إلى جناب حضرته.
جزء : 5 رقم الصفحة : 408
يا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} أي : قلنا لهم بعد إغراق فرعون وقومه وإنجائهم منهم {قَدْ أَنجَيْنَـاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ} فرعون وقومه حيث كانوا يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ويستخدمونكم في الأعمال الشاقة والعدو يجيىء في معنى الوحدة والجماعة {وَوَاعَدْنَـاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الايْمَنَ} بالنصب على أنه صفة للمضاف أي : واعدناكم بوساطة نبيكم إتيان جانبه الأيمن نظراً إلى السالك من مصر إلى الشام وإلا فليس للجبل يمين ولا يسار أي : إتيان موسى للمناجاة وإنزال التوراة عليه ونسبة المواعدة إليهم مع كونها لموسى نظراً إلى ملابستها إياهم وسراية منفعتها إليهم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} هو شيء كالطل فيه حلاوة يسقط على الشجر يقال له الترنجبين معرب "كرنكبين" {وَالسَّلْوَى} طائر يقال له السماني كان ينزل عليهم المن وهم في التيه مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع ويبعث عليهم الجنوب السماني فيذبح الرجل ما يكفيه والتيه المفازة التي يتاه فيها وذلك حين أمروا بأن يدخلوا مدينة الجبارين فأبوا ذلك فعاقبهم الله بأن يتيهوا في الأرض أربعين سنة كما مر في سورة المائدة ومثل ذلك كمثل الوالد المشفق يضرب ولده العاصي ليتأدب وهو لا يقطع عنه إحسانه فقد ابتلوا بالتية ورزقوا بما لا تعب فيه.
اى كريمى كه از خزانه غيب
كبر وترسا وظيفه خوردارى
410
دوستانرا كجا كنى محروم
توكه بادشمنان نظر دارى
{كُلُوا} أي : وقلنا لكم كلوا {مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ} أي : من لذائذه أو حلالاته.
قال الراغب : أصل الطيب ما تستلذه الحواس والنفس والطعام الطيب في الشرع ما كان متناولاً من حيث ما يجوز وبقدر ما يجوز ومن المكان الذي يجوز فإنه متى كان كذلك كان طيباً عاجلاً وآجلاً لا يستوخم وإلا فإنه وإن كان طيباً عاجلاً لم يطب آجلاً {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ} الطغيان تجاوز الحد في العصيان أي : ولا تتجاوزا الحد فيما رزقناكم بالإخلال بشكره وبالسرف والبطر والمنع من المستحق والادخار منه لأكثر من يوم وليلة {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى} جواب للنهي أي : فيلزمكم عقوبتي وتجب لكم من حل الدين يحل بالكسر إذا وجب أداؤه وأما يحل بالضم فهو بمعنى الحلول أي : النزول والغضب ثوران دم القلب عند إرادة الانتقام وإذا وصف الله تعالى به فالمراد الانتقام دون غيره ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 410
شكر منعم واجب امد درخرد
ورنه بكشايد درخشم ابد
{وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى} أي : تردى وهلك وأصله أن يسقط من جبل فيهلك ومن بلاغات الزمخشري من أرسل نفسه مع الهوى فقد هوى في أبعد الهوى.
(5/315)
وفي "التأويلات النجمية" : ونزلنا عليهم المن من صفاتنا والسلوى سلوى أخلاقنا كلوا من طيبات ما رزقناكم أي : اتصفوا بطيبات صفاتنا وتخلقوا بكرائم أخلاقنا التي شرفناكم بها أي : لو لم تكن العناية الربانية لما نجا الروح والقلب وصفاتهما من شر فرعون النفس وصفاتها ولولا التأييد الإلهي لما اتصفوا بصفات الله ولا تخلقوا بأخلاقه ثم قال ولا تطغوا فيه أي : إذا استغنيتم بصفاتي وأخلاقي عن صفاتكم وأخلاقكم فلا تطغوا بأن تدعوا العبودية وتدعوا الربوبية وتسموا باسمي بأن اتصفتم بصفاتي كما قال بعضهم أنا الحق وبعضهم سبحاني وما أشبه هذه الأحوال مما يتولد من طبيعة الإنسانية فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى وإن طغيان هذه الطائفة بمثل هذه المقالات وإن كانت هي من أحوالهم لأن الحالات لا تصلح للمقامات وهي موجبة للغضب كما قال تعالى : {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى} أي : نجعل كل معاملاته في العبودية هباء منثوراً ولهذا الوعيد أمر الله عباده في الاستهداء بقوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة : ا ـ 6) أي : إهدنا هداية غير من أنعمت عليه بتوفيق الطاعة والعبودية ثم ابتليته بطغيان يحل عليه غضبك {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ} لستور {لِّمَن تَابَ} من الشرك والمعاصي التي من جملتها الطغيان فيما ذكر.
قال في "المفاتيح شرح المصابيح" الفرق بين الغفور والغفار أن الغفور كثير المغفرة وهي صيانة العبد عما استحقه من العقاب للتجاوز عن ذنوبه من الغفر وهو إلباس الشيء ما يصونه عن الدنس ولعل الغفار أبلغ منه لزيادة بنائه وقيل الفرق بينه وبين الغفار أن المبالغة فيه من جهة الكيفية وفي الغفار باعتبار الكمية {وَءَامَنَ} بما يجب الإيمان به {وَعَمِلَ صَـالِحًا} مستقيماً عند الشرع والعقل.
وفيه ترغيب لمن وقع منه الطغيان فيما ذكر وحث على التوبة والإيمان {ثُمَّ اهْتَدَى} أي : استقام على الهدى ولزمه حتى الموت وهو إشارة إلى أن من لم يستمر عليه بمعزل من الغفران وثم للتراخي الرتبي.
قال في "بحر العلوم" ثم التراخي الاستقامة على الخير عن الخير
411
نفسه وفضلها عليه لأنها أعلى منه وأجل لأن الشأن كلها فيها وهي مزلة أقدام الرجال.
قال ابن عطاء : {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} أي : رجع من طريق المخالفة إلى طريق الموافقة وصدق موعود الله فيه واتبع السنة {ثُمَّ اهْتَدَى} أقام على ذلك لا يطلب سواه مسلكاً وطريقاً :
جزء : 5 رقم الصفحة : 410
راه سنت رواكر خواهى طريق مستقيم
كزسنن راهى بود سوى رضاى ذو المتن
هر مزده درشم وى همون سنانى بادتيز
كرسنان زندكى خواهد زمانى بى سنن
وفي "التأويلات النجمية" : أي : رجع من الطغيان بعبادة الرحمن {وَعَمِلَ صَـالِحًا} بالعبودية للربوبية {ثُمَّ اهْتَدَى} أي : تحقق له أن تلك الحضرة منزهة عن دنس الوهم والخيال وإن الربوبية قائمة والعبودية دائمة.
واعلم أن التوبة بمنزلة الصابون فكما أن الصابون يزيل الأوساخ الظاهرة فكذلك التوبة تزيل الأوساخ الباطنة أعني الذنوب.
ـ روي ـ أن رجلاً قال للدينوري : ما أصنع فكلما وقفت على باب المولى صرفتني البلوى فقال : كن كالصبي مع أمه كلما ضربته يجزع بين يديها فلا يزال كذلك حتى تضمه إليها والتوبة على أقسام : فتوبة العوام من السيئات ، وتوبة الخواص من الزلالت والغفلات ، وتوبة الأكابر من رؤية الحسنات والالتفات إلى الطاعات.
وشرائط البلوى ثلاث : الندم بالقلب ، والاعتذار باللسان بأن يستغفر الله ، والإقلاع بالجوارح وهو الكف عن الذنب وفي الحديث "المستغفر باللسان المصر على الذنوب كالمستهزىء بربه" ، وقال المولى قدس سره :
دارم جهان جهان كنه اى شرم روى من
ون روى ازين جهان بجهان دكرنهم
ياران دواسيه عازم ملك يقين شدند
تاكى عنان عقل بدست كمان دهم
باخلق لاف توبه ودل بركنه مصر
كس ى نمى بردكه بدين كونه كمرهم
جزء : 5 رقم الصفحة : 410
(5/316)
{وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يا مُوسَى} مبتدأ وخبر أي : وقلنا لموسى عند ابتداء موافاته الميقات بموجب المواعدة المذكورة أي : شيء حملك على العجلة وأوجب سبقتك منفرداً عن قومك وهم النقباء السبعون المختارون للخروج معه إلى الطور وذلك أنه سبقهم شوقاً إلى ميعاد الله وأمرهم أن يتبعوه كما في "الجلالين".
قال في "العرائس" : ضاق صدر موسى من معاشرة الخلق وتذكر أيام وصال الحق فعلة العجلة الشوق إلى لقاء الله تعالى.
قال الكاشفي : (آورده اندكه بني إسرائيل بعد ازهلاك فرعون از موسى عليه السلام استدعا نمودندكه از براى ما قواعد شريعتي وأحكام آن مبين ساز موسى در آن باب باحضرت رب الأرباب مناجات كرد خطاب رسيدكه باجمعى از اشراف بني إسرائيل بكوه طور آى تا كتابى كه جامع احكام شرع باشد بتودهم موسى هارون بجاى خود بكذاشت وباوجوه قوم كه هفتادتن بودند متوجه طور شدند قوم را وعده كردكه هل روز ديكرمى آيم وكتاب مى آورم وون بنزديك طور رسيدند قوم را بكذاشت واز غايت اشتياق كه بكلام وبيام الهي داشت زود تربالاى كوه برآمد خطاب ربانى رسيدكه {وَمَآ أَعْجَلَكَ} الخ وجه يز شتابان ساخت تراتا تعجيل كردى ويش آمدى ازكروه خود اى موسى).
.
يقول الفقير : هذا سؤال انبساط كقوله تعالى : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} لا سؤال إنكار كما ظن أكثر المفسرين من الاجلاء
412
وغيرهم.
{قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِى} يجيئون بعدى ، بالفارسية : (كفت موسى كه ايشان كروه مردان اينك مى آيند برى من وساعت بساعت برسند) {وَعَجِلْتُ} بسبقى إياهم {إِلَيْكَ} (بسوى تو) {رَبِّ} (اي رورردكار من) {لِتَرْضَى} عنى بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك واعتنائي بالوفاء بعهدك.
وفي الآيتين إشارة إلى معاني مختلفة :
منها ليعلم أن السائر لا ينبغي أن يتوانى في السير إلى الله ويرى أن رضى الله في استعجاله في السير والعجلة ممدوحة في الدين قال تعالى : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (آل عمران : 133) والأصل الطلب ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 412
كركران وكر شتابنده بود
آنكه جوينده است يابنده بوددر طلب زن دائماً توهر دودست
كه طلب درراه نيكور هبراست
وقد ورد "إن الأمور مرهونة بأوقاتها" ولذا قال :
و صبح وصل او خواهد دميدن عاقبت جامى
مخور غم كرشب هجران بايان ديرمى آيد
ومنها : ينبغي أن السائر لا يتعوق بعائق في السير وإن كان في الله ولله كما كان حال موسى في السير إلى الله فما تعوق بقومه واستعجل في السير وبطلت العوائق وقد صح أن المجنون العامري ترك الناقة في طريق ليلى لكونها عائقة عن سرعة السير إلى جنابها فمشى على الوجه كما قال في "المثنوي" :
راه نزديك وبماندم سخت دير
سير كشتم زين سوارى سير سيرسر نكون خود را زاشتر در فكند
كفت سوزيدم زغم تاند ند
تنك شد بروى يابان فراخ
خويشتن افكند اندر سنكلاخ
ون نان افكند خودرا سوى ست
از قضا آن لحظه ايش هم شكست
اى را بربست وكفتا كوشوم
درخم و كان غلطان مى روم
عشق مولى كى كم ازليلى بود
كوى كشتن بهر او اولى بود
كوى شو مى كرد برهلوى صدق
غلط غلطان درخم وكان عشق
ومنها : أن قصد السائر إلى الله تعالى ونيته ينبغي أن يكون خالصاًوطلبه لا لغيره كما قال : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ} كان قصده إلى الله ، قال الكمال الخجندي :
سالك اك رونخوا نندش
آنكه از ما سوى منزه نيست
ومنها : أن يكون مطلوب السائر من الله رضاه لا رضى نفسه منه كما قال : {لِتَرْضَى} كما في "التأويلات النجمية" :
{قَالَ} الله تعالى وهو استئناف بياني : {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنا بَعْدِكَ} القيناهم في فتنة من بعد خروجك من بينهم وابتليناهم في إيمانهم بخلق العجل وهم الذين خلفهم مع هارون على ساحل البحر وكانوا ستمائة ألف ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفاً قال الله تعالى لموسى : أتدري من أين أتيت : قال : لا يا رب قال : حين قلت لهارون اخلفني في قومي أين كنت أنا حين اعتمدت على هارون.
وفيه إشارة إلى أن طريق الأنبياء ومتبعيهم محفوف بالفتنة والبلاء كما قال عليه السلام : "إن البلاء موكل بالأنبياء الأمثل فالأمثل" وقد قيل : إن البلاء للولاء كاللهب للذهب وإلى أن فتنة الأمة والمريد مقرونة بمفارقة الصحبة من النبي والشيخ
413
كما قال تعالى : {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنا بَعْدِكَ} أي : بعد مفارقتك إياهم فإن المسافر إذا انقطع عن صحبة الرفقة افتتن بقطاع الطريق والغيلان ، قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 412
قطع اين مرحله بى همر هى خضر مكن
ظلماتست بترس از خطر كمراهى
(5/317)
ـ روي ـ أنهم أقاموا على ما وصى به موسى عشرين ليلة بعد ذهابه فحسبوها مع أيامها أربعين وقالوا : قد أكملنا العدة وليس من موسى عين ولا أثر {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ} حيث كان هو المدبر في الفتنة والداعي إلى عبادة العجل.
قال في "الأسئلة المقحمة" : أضاف الإضلال إلى السامري لأنه كان حصل بتقريره ودعوته وأضاف الفتنة إلى نفسه لحصولها بفعله وقدرته وإرادته وخلقه وعلى هذا ابدا إضافة الأشياء إلى أسبابها ومسبباتها انتهى.
وإخباره تعالى بوقوع هذه الفتنة عند قدومه عليه السلام إما باعتبار تحققها في علمه ومشيئته تعالى وإما بطريق التعبير عن المتوقع بالواقع أو لأن السامري قد عزم على إيقاع الفتنة على ذهاب موسى وتصدي لترتيب مباديها فكانت الفتنة واقعة عند الإخبار.
والسامري رجل من عظماء بني إسرائيل منسوب إلى قبيلة السامرة منهم أو علج من أهل كرمان من قوم يعبدون البقر وحين دخل ديار بني إسرائيل أسلم معهم وفي قلبه حب عبادة البقر فابتلى الله بني إسرائيل فكشف له عن بصره فرأى أثر فرس الحياة لجبريل ويقال له حيزوم وأخذ من ترابه وألقاه بوحي الشيطان في الحلى المذابة كما يجيىء.
قال الكاشفي : (أصح آنست كه او از ارسائيليانست ودر وقتى كه فرعون ابناى ايشانرا مى كشت او متولد شده ومادر بعد ازتولد اورا بكنارنيل در جزيره بيفكند وحق سبحانه جبرائيل را امر فرمود تا اورا رورش دهد ومأكول ومشروب وى مهيا كرداند محافظت نموده ازين وقت كه موسى بطور رفت سامري نزد هارون آمده كفت قدرى بيرايه كه از قبطيان عاريت كرفته ايم باماست ومارا در آن تصرف كردن روانيست ومى بينم كه بني إسرائيل آنرا مى خرند ومى فروشند حكم فرماى تاهمه جمع كنند وبسوزند هارون امر فرمودكه تمام يرايه ها آوردند ودر حفره ريختند ودرآن آتش زنند وسامرى زركرى الاك بودهمين كه ان زر بكداخت وى قالبى ساخته بود وآن زر كداخته دراه ريخته وشكل كوساله بيرون آورد وقدرى ازخاك زيرسم جبريل كه فرس الحياة مى كفتند در درون وى ريخت في الحال زنده كشت وكوشت وبوست برويداشت وبآواز در آمد وكويند زنده نشد ليك بآن وضع ريخته بود بانكى كردكه هاردانك قوم بني إسرائيل ويراسجده كردند حق تعالى موسى را خبر دادكه قوم توبعد از خروج توكوساله رست شدند)
جزء : 5 رقم الصفحة : 412
{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ} أي : بعدما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأخذ الألواح المكتوب فيها التوراة وكانت ألف سورة كل سورة ألف آية يحمل أسفارها سبعون جملاً {غَضْبَـانَ} (خشمناك بريشان) {أَسِفًا} (اندوهكين از عمل ايشان) أي : شديد الحزن على ما فعلوا أو شديد الغضب ومنه قوله عليه السلام في موت الفجأة "رحمة للمؤمنين وأخذة أسيف للكافرين".
قال الإمام الراغب الأسف الحزن والغضب معاً وقد يقال لكل منهنما على الانفراد.
قال الكاشفي : (ون بميان قوم رسيد بانك
414
وخروش ايشان شنيدكه كردا كرد كوساله دف ميزدند ورقص ميكردند بعتاب آغاز كرد ازروى ملامت) {قَالَ يا قَوْمِ} (اى كروه من) {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} بأن يعطيكم التوراة فيها ما فيها من النور والهدى أي : وعدكم وعداً صادقاً بحيث لا سبيل لكم إلى إنكاره.
قال في "بحر العلوم" {وَعْدًا حَسَنًا} أي : متناهياً في الحسن فإنه تعالى وعدهم أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور ولا وعد أحسن من ذلك وأجمل.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى إذا وعد قوماً لا بد له من الوفاء بالوعد فيحتمل أن يكون ذلك الوفاء فتنة للقوم وبلاء لهم كما كان لقوم موسى إذ وعدهم الله بإيتاء التوراة ومكالمته موسى وقومه السبعين المختارين فلما وفى به تولدت لهم الفتنة والبلاء من وفائه وهي الضلال وعبادة العجل ولكن الوعد لما كان موصوفاً بالحسن كان البلاء الحاصل من الوعد الحسن بلاء حسناً وكان عاقبة أمرهم التوبة والنجاة ورفعة الدرجات {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} الفاء للعطف على مقدر والهمزة لإنكار المعطوف ونفيه فقط أي : أو وعدكم ذلك فطال زمان الإنجاز فأخطأتم بسببه.
وفي "الجلالين" مدة مفارقتي إياكم يقال طال عهدي بك أي : طال زماني بسبب مفارقتك {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ} يجب كما سبق {عَلَيْكُمْ غَضَبٌ} عذاب عظيم وانتقام شديد كائن {مِّن رَّبِّكُمْ} من مالك أمركم على الإطلاق بسبب عبادة ما هو مثل في الغباوة والبلادة {فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِى} أي : وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات على إضافة المصدر إلى مفعوله والفاء لترتيب ما بعدها على كل واحد من شقى الترديد على سبيل البدل كأنه قيل أنسيتم الوعد بطول العهد فاختلفتموه خطأ أم أردتم حلول الغضب عليكم فأخلفتموه عمداً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 414
(5/318)
{قَالُوا مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ} أي : وعدنا إياك الثبات على ما أمرتنا به {بِمَلْكِنَا} أي : بقدرتنا واختيارنا لكن غلبنا من كيد السامري وتسويله وذلك أن المرء إذا وقع في البلية والفتنة لم يملك نفسه ويكون مغلوباً والملك القدرة {وَلَـاكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ} جمع وزر بالكسر بمعنى الحمل الثقيل أي : أحمالاً من حلي القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس {فَقَذَفْنَـاهَا} أي : طرحنا الحلي في النار رجاء للخلاص من ذنبها {فَكَذَالِكَ} أي : مثل ذلك القذف {أَلْقَى السَّامِرِىُّ} أي : ما معه من الحلي وقد كان أراهم أنه أيضاً يلقى ما كان معه من الحلي فقالوا ما قالوا على زعمهم وإنما كان الذي ألقاه التربة التي أخذها من أثر فرس الحياة وكان لا يخالط شيئاً إلا غيره وهو من الكرامة التي خصها الله بروح القدس.
جزء : 5 رقم الصفحة : 414
{فَأَخْرَجَ} أي : السامري بسبب ذلك التراب {لَهُمُ} أي : للقائلين {عِجْلا} من تلك الحلي المذابة وهو ولد البقرة {جَسَدًا} بدل منه أو جثة ذا دم ولحم أو جسداً من ذهب لا روح له ولا امتناع في ظهور الخارق على يد الضال {لَّه خُوَارٌ} نعت له يقال خار العجل خواراً إذا صاح أي : صوت عجله فسجدوا له {فَقَالُوا} أي : السامري ومن افتتن به أول ما رأى {هَـاذِهِ} العجل {إِلَـاهُكُمْ وَإِلَـاهُ مُوسَى فَنَسِىَ} أي : غفل عنه وذهب يطلبه في الطور وهذا حكاية نتيجة فتنة السامري فعلاً وقولاً من جهته تعالى قصداً إلى زيادة تقريرها ثم ترتيب الإنكار عليها لا من جهة القائلين وإلا لقيل فأخرج لنا ولا شك أن الله خلقه ابتلاء لعباده ليظهر الثابت
415
من الزائغ وأعجب من خلق الله العجل خلقه إبليس محنة لهم ولغيرهم.
{أَفَلا يَرَوْنَ} الفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي : ألا يتفكرون فلا يعلمون {أَنْ} مخففة من الثقيلة أي : أنه {لا يَرْجِعُونَ} (بازنمى كرداند كوساله) {إِلَيْهِمْ} (بسوى ايشان) {قَوْلا} كلاماً ولا يرد عليهم جواباً ، يعني : (هر ند اورا مى خوانند جواب نمى دهد) فكيف يتوهمون أنه آله فقوله يرجع من الرجع المتعدي بمعنى الإعادة لا من الرجوع اللازم بمعنى العود {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي : لا يقدر على أن يدفع عنهم ضرراً أو يجلب لهم نفعاً.
قال في "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى أن الله تعالى إذا أراد أن يقضي قضاء سلب ذوي العقول عقولهم وأعمى أبصارهم بعد أن رأوا الآيات وشاهدوا المعجزات كأنهم لم يروا شيئاً فيها فلهذا قال : {أَفَلا يَرَوْنَ} يعني العجل وعجزه {أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا} أي : شيئاً من القول {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 415
وفي الآيات إشارت :
منها : أن الغضب في الله من لوازم نشأة الإنسان الكامل لأنه مرآة الحضرة الإلهية وهي مشتملة على الغضب ورد عن النبي عليه السلام أنه كان لا يغضب لنفسه وإذا غضبلم يقم لغضبه شيء فمن العباد من يغضب الحق لغضبه ويرضى لرضاه بل من نفس غضبه غضب الحق وعين رضاه هو رضى الحق فمطلق غضبهم في الحقيقة عبارة عن تعين غضب الحق فيهم من كونهم مجاليه ومجالي أسمائه وصفاته لا كغضب الجمهور.
قال أبو عبد الله الرضي : إن الله لا يأسف كأسفنا ولكن له أولياء يأسفون ويرضون فجعل رضاهم رضاه وغضبهم غضبه قال : وعلى ذلك قال : "من أهان لي ولياً فقد بارزني في المحاربة".
فعلى العاقل أن يتبع طريق الأنبياء والأولياء ويغضب للحق إذا رأى منكراً :
كرت نهى منكر بر آيد زدست
نشايد وبى دست وايان نشست
و دست وزبانرا نماند مجال
بهمت نمايند مردى رجال
ومنها : أي من أسباب غضب الله تعالى الخلق بالوعد ونقض العهد فلا بد لطالب الرحمة من الاستقامة والثبات :
ازدم صبح ازل تا آخر شام آبد
دوستى ومهر بريك عهد ويك ميثاق بود
(وفي "وصايا الفتوحات" حق تعالى بموسى عليه السلام وحى كرد هركه باميد توآيد اورا بى بهره مكذار وهكره زينهار خواست اورا زنيهارده.
موسى درسياحت بودنا كاه كبوترى بر كتف او نشست وبازى در عقب او مى آمد وقصد آن كبوتر داشت بر كتف ديكر فرو آمد آن كبوتر درآستين موسى در آمد وزينهار مى خواست وباز بزبان فصيح بموسى آواز دادكه اى سر عمران مرا بى بهره مكذار وميان من ورزق من جدايى ميفكن موسى كفت ه زود مبتلا شدم ودست كردتا ازران خود اره قطع كند براى طعمه بازتا حفظ عهد كرده باشد وبكار هر دو وفانموده كفتند يا ابن عمران تعجيل مكن كه مارسولانيم وغرض آن بودكه صحت عهد تو آزمابش كنيم) :
أيا سامعاً ليس السماع بنافع
إذا أنت لم تفعل فما أنت سامع
إذا كنت في الدنيا من الخير عاجزاً
فما أنت في يوم القيامة صانع
416
(5/319)
ومنها : أن متاع الدنيا سبب الغرور والفساد والهلاك ألا ترى أن فرعون اغتر بدنياه فهلك وأن السامري صاغ من الحلي عجلاً فأفسد ولو لم يستصحبوها حين خرجوا من مصر لنجوا من عبادته والابتلاء بتوبته نسأل الله تعالى أن يهدينا هداية كاملة إلى جنابه ولا يردنا عن بابه ولا يبتلينا بأسباب عذابه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 415
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَـارُونُ مِن قَبْلُ} أي : وبالله لقد نصح لهم هارون ونبههم على كنه الأمر من قبل رجوع موسى إليهم وخطابه إياهم بما ذكر من المقالات يا قَوْمِ} (اى كروه من) {إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ} أي : أوقعتم في الفتنة بالعجل وأضللتم به على توجيه القصر المستفاد من كلمة إنما إلى نفس الفعل بالقياس إلى مقابله الذي يدعيه القوم لا إلى قيده المذكور بالقياس إلى قيد آخر على معنى إنما فعل بكم الفتنة لا "الإرشاد" إلى الحق لا على معنى إنما فتنتم بالعجل لا بغيره {وَإِنَّ رَبَّكُمُ} المستحق للعبادة هو {الرَّحْمَـانُ} المنعم بجميع النعم لا العجل وإنما ذكر الرحمن تنبيهاً على أنهم إن تابوا قبل توبتهم وإذا كان الأمر كذلك {فَاتَّبِعُونِى} في الثبات على الدين {وَأَطِيعُوا أَمْرِى} هذا واتركوا عبادة ما عرفتم شأنه وما أحسن هذا الوعظ فإنه زجرهم عن الباطل بقوله : {إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ} وأزال الشبهات أولاً وهو كإماطة الأذى عن الطريق ثم دعاهم إلى معرفة الله بقوله : {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـانُ} فإنها الأصل ثم إلى معرفة النبوة بقوله : {فَاتَّبِعُونِى} ثم إلى الشرائع فقال : {وَأَطِيعُوا أَمْرِى} وفي هذا الوعظ شفقة على نفسه وعلى الخلق أما على نفسه فإنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن عند أخيه بقوله : {اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف : 142) فلو لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر لخالف أمر الله وأمر موسى وأنه لا يجوز.
أوحى الله إلى يوشع أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم فقال : يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال : إنهم لم يغضبوا لغضبي وفي الحديث : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
بني آدم أعثاضى يكديكرند
كه در آفر ينش ريك كوهرند
و عضوى بدرد آورد روزكار
جزء : 5 رقم الصفحة : 415
دكر عضوها را نماند قرار
تو كز محنت ديكران بى غمى
نشايد كه نامت نهند آدمي
ثم إن هارون رأى المتهافتين على النار فلم يبال بكثرتهم ولا نفرتهم بل صرح بالحق :
بكوى آنه دانى سخن سودمند
وكر هي كس را نيايد سند
كه فردا شيمان بر آرد خروش
كه آوخ را حق نكردم بكوش
وههنا دقيقة وهي أن الرافضة تمسكوا بقوله عليه السلام : "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" ثم إن هارون ما منعه التقية في مثل هذا الجمع العظيم بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعة نفسه والمنع من متابعة غيره فلو كانت أمة محمد على الخطأ لكان يجب أن يفعل مثل ما فعل هارون وأن يصعد المنبر من غير تقية وخوف ويقول فاتبعوني وأطيعوا أمري فلما لم يقل كذلك علمنا أن الأمة كانوا على الصواب وقد ثبت أن علياً أحرق الزنادقة الذين قالوا بآلهيته لما كانوا
417
على الباطل.
{قَالُوا} في جواب هارون {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ} لن نزال على العجل وعبادته {عَـاكِفِينَ} مقيمين.
قال الراغب : العكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم.
قال في "الكبير" رحمته تعالى خلصتهم من آفات فرعون ثم إنهم لجهلهم قابلوه بالتقليد فقالوا : {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَـاكِفِينَ} {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} أي : لا نقبل حجتك وإنما نقبل قول موسى.
وقال في "الإرشاد" : وجعلوا رجوعه عليه السلام إليهم غاية لعكوفهم على عبادة العجل لكن لا على طريق الوعد بتركها عند رجوعه بل بطريق التعلل والتسويف وقد دسوا تحت ذلك أنه عليه السلام لا يرجع بشيء مبين تعويلاً على مقابلة السامري.
ـ روي ـ أنهم لما قالوه اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفاً وهم الذين لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى وسمع الصياح وكانوا يرقصون حول العجل قال للسبعين الذين كانوا معه هذا صوت الفتنة فقال لهم ما قال وسمع منهم ما قالوا.
(5/320)
وفي "التأويلات النجمية" : لم يسمعوا قول هارون لأنهم عن السمع الحقيقي لمعزولون فلهذا {قَالُوا لَن نَّبْرَحَ} الخ وفيه إشارة إلى أن المريد إذا استسعد بخدمة شيخ كامل واصل وصحبه بصدق الإرادة ممتثلاً لأوامره ونواهيه قابلاً لتصرفات الشيخ في إرشاده يصير بنور ولايته سميعاً بصيراً يسمع ويرى من الأسرار والمعاني بنور ولاية الشيخ ما لم يكن يسمع ويرى ثم إن ابتلى بمفارقة صحبة الشيخ قبل أوانه يزول عنه نور الولاية أو يحتجب بحجاب ما ويبقى أصم وأعمى كما كان حتى يرجع إلى صحبة الشيخ ويتنور بنور ولايته.
جزء : 5 رقم الصفحة : 415
{قَالَ} استئناف بياني كأنه قيل فما قال لهارون حين سمع جوابهم له وهل رضي بسكوته بعدما شاهد منهم ما شاهد فقيل : قال له وهو مغتاظ وقد أخذ بلحيته ورأسه وكان هارون طويل الشعر يا هَـارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} أخطأوا طريق عبودية الله بعبادة العجل وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بالمقالة الشنعاء.
{أَلا تَتَّبِعَنِ} لا مزيدة وهو مفعول ثان لمنع وهو عامل في إذ أي : أي شيء منعك حين يؤيتك لضلالهم من أن تتبعني في الغضبوالمقاتلة مع من كفر به وأن تأتي عقبي وتلحقني وتخبرني لأرجع إليهم لئلا يقعوا في هلاك هذه الفتنة أو غير مزيدة على أن منعك مجاز عن دعاك.
والمعنى ما دعاك إلى ترك اتباعي وعدمه في شدة الغضبولدينه ونظير لا هذه قوله : {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} (الأعراف : 12) في الوجهين.
قال في "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى أن موسى لما كان بالميقات مستغرقاً في بحر شواهد الحق ما كان يرى غير الحق ولم يكن محتجباً بحجب الوسائط حتى أن الله تعالى ابتلاه بالوسائط بقوله : {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنا بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ} أضاف الفتنة إلى نفسه وأحال الإضلال إلى السامري اختباراً ليعلم منه أنه هل يرى غير الله مع الله في أفعاله الخير والشر فما التفت إلى الوسائط وما رأى الفعل في مقام الحقيقة على بساط القربة إلا منه وقال في جوابه : {إِنْ هِىَ إِلا فِتْنَتُكَ} أضاف الفتنة والإضلال إليه تعالى مراعياً حق الحقيقة على قدم الشريعة إلى نور الحقيقة قال : يا هارون {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى} أي : بالصلابة في الدين والمحاماة عليه كما عصى هؤلاء القوم أمري وأمر الله فإن قوله عليه السلام : {اخْلُفْنِى} متضمن للأمر بهما حتماً فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلف لو كان حاضراً والهمزة للإنكار
418
التوبيخي والفاء عطف على مقدر يقتضيه المقام أي : أخالفتني فعصيت أمري.
جزء : 5 رقم الصفحة : 418
{قَالَ يَبْنَؤُمَّ} الأم بازاء الأب وهي الوالدة القريبة التي ولدته والبعيدة التي ولدت من ولدته ويقال لكل ما كان أصلاً لوجود شيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدئه أم وأصله يا ابن أمي أبدل الياء ألفاً فقيل : يا ابن أما ثم حذف الألف واكتفى بالفتحة لكثرة الاستعمال وطول اللفظ وثقل التضعيف وقرىء يا ابن أم بالكسر بحذف الياء والاكتفاء بالكسرة وخص الأم بالإضافة استعظاماً لحقها وترقيقاً لقلبه واعتداداً لنسبها وإشارة إلى أنهما من بطن واحد وإلا فالجمهور عل أنهما لأب وأم.
قال بعض الكبار كانت نبوة هارون من حضرة الرحمة كما قال تعالى : {وَوَهَبْنَا لَه مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَـارُونَ نَبِيًّا} (مريم : 53) ولذا ناداه بأمه إذ كانت الرحمة للام أوفر ولذا صيرت على مباشرة التربية.
وفي "التأويلات النجمية" : لما رأى هارون موسى رجع من تلك الحضرة سكران الشوق ملآن الذوق وفيه نخوة القربة والاصطفاء والمكاملة ما وسعه إلا التواضع والخشوع فقال : يا ابن أم {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلا بِرَأْسِى} أي : بشعر رأسي وخاطبه بيابن أم لمعنيين أحدهما ليأخذه رأفة صلة الرحم فيسكن غضبه والثاني ليذكره بذكر أمه الحالة التي وقعت له في الميقات حين سأل ربه الرؤية فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً وجاء الملائكة في حال تلك الصعقة يجرون برأسه ويقولون يا ابن النساء الحيض ما للتراب ورب الأرباب ، قال الحافظ :
برو اين دام برمرغ دكرنه
كه عنقارا بلنداست آشيانه
وقال :
عنقا شكاركس نبود دام بازين
كآنجا هميشه بادبد سثست دام را
ـ روي ـ أنه أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله من شدة غيظه وغضبهوكان حديداً متصلباً في كل شيء فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل ففعل ما فعل بمرأى من قومه أي : بمكان يراه قومه ويرون ما يفعل بأخيه {إِنِّى خَشِيتُ} لو قاتلت بعضهم ببعض وتفرقوا {أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} برأيك وأراد بالتفريق ما يستتبعه القتال من تفريق لا يرجى بعده الاجتماع.
)
(5/321)
وفي "الجلالين" : خشيت إن فارقتهم واتبعتك أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضاً فتقول : أوقعت الفرق فيما بينهم {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} لم تحفظ وصيتي في حسن الخلافة عليهم يريد به قوله : {اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ} فإن الإصلاح ضم النشر وحفظ جماعات الناس والمداراة بهم إلى أن ترجع إليهم وترى فيهم ما ترى فتكون أنت المتدارك للأمر بنفسك المتلافي برأيك لا سيما وقد كانوا في غاية القوة ونحن على القلة والضعف كما يعرف عنه قوله : {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِى} (الأعراف : 150).
وفي "العيون" : أي : لم تنظر في أمري أو لم تنتظر قدومي.
جزء : 5 رقم الصفحة : 418
وفي "التأويلات النجمية" : يعني منعني ترقب قولك وإطاعة أمرك عن اتباعك لا عصيان أمرك انتهى وهذا الكلام من هارون اعتذار والعذر تحرى الإنسان ما يمحو به ذنوبه وذلك ثلاثة أضرب أن يقول لم أفعل أو يقول فعلت لأجل كذا فيذكر ما يخرجه عن كونه مذنباً أو يقول فعلت ولا أعود ونحو ذلك وهذا الثالث هو التوبة فكل توبة عذر دون العكس وكان هارون
419
حليماً رفيقاً ولذا كان بنو إسرائيل أشد حباله.
وعن علي رضي الله عنه أحسن الكنوز محبة القلوب.
قال سقراط : من أحسن خلقه طابت عيشته ودامت سلامته وتأكدت في النفوس محبته ومن ساء خلقه تنكدت عيشته ودامت بغضته ونفرت النفوس منه.
قال بزرجمهر ثمرة القناعة الراحة وثمرة التواضع المحبة :
أرى الحلم في بعض المواضع ذلة
وفي بعضها عزا يسود فاعله
قال أرسطو بإصابة المنطق يعظم القدر وبالتواضع تكثر المحبة وبالحلم تكثر الأنصار وبالرفق تستخدم القلوب وبالوفاء يدوم الإخاء وكان النبي عليه السلام لم يخرج عن حد اللين والرفق ولذا قال في وصفه بالمؤمنين {رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة : 117) وفي "المثنوي" :
بندكان حق رحيم وبردبار
خوى حق دارند در اصلاح كارمهربان بى رشوتان يارى كران
در مقام سخت ودر روز كران
هين بجو اين قوم را اى مبتلا
هين غنيمت دارشان يش از بلا
{قَالَ} كأنه قيل فماذا صنع موسى بعد اعتذار القوم واعتذار هارون واستقرار أصل الفتنة على السامري فقيل قال موبخاله هذا شأنهم {فَمَا خَطْبُكَ يا سَـامِرِيُّ} الخطب لغة الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب وهو من تقاليب الخبط.
ففيه إشارة إلى عظيم خبطه والمعنى ما شأنك وما مطلوبك فيما فعلت وما الذي حملك عليه ، وبالفارسية : (يست اين كار عظيم ترا اى سامرى يعني اين يست كه كردى) خاطبه بذلك ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه ويفعل به وبما صنعه من العقاب ما يكون نكالاً للمفتونين به ولمن خلفهم من الأمم.
قال بعض الكبار {فَمَا خَطْبُكَ يا سَـامِرِيُّ} يعني فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل على الاختصاص وصنعك هذا الشبح من حلي القوم حتى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم فإن عيسى عبد الله يقول لبني إسرائيل يا بني إسرائيل قلب كل إنسان حيث ماله فاجعلوا أموالكم في السماء تكن قلوبكم هناك أي : تصدقوا وقدموا إلى الآخرة التي هي أبقى وأعلم وما سمى المال مالاً إلا لكونه بالذات تميل القلوب إليه في نيل المقاصد وتحصيل الحوائج ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 418
مال دنيا دام مرغان ضعيف
ملك عقبى دام مرغان شريفهين مشو كر عارفى مملوك ملك
مالك الملك آنكه بجهيد اوز هلك
جزء : 5 رقم الصفحة : 418
{قَالَ} السامري مجيباً لموسى عليه السلام {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} .
قال في "القاموس" بصر به ككرم وفرح بصراً وبصارة وبكسر صار مبصراً.
وفي المفردات قلما يقال بصرت في الحاسة إذا لم تضامه رؤية القلب.
والمعنى رأيت ما لم يره القوم وقد كان رأى أن جبريل جاء راكب فرس وكان كلما وضع الفرس يديه أو رجليه على الطريق اليبس يخرج من تحته النبات في الحال فعرف أن له شأناً فأخذ من موطئه حفنة.
وفي الكبير رآه يوم فلق البحر حين تقدم خيل فرعون راكباً على رمكة ودخل البحر.
وفي غيره حين ذهب به إلى الطور.
وفي "الجلالين" قال موسى وما ذلك قال رأيت جبرائيل على فرس الحياة فألقي في
420
نفسي أن أقبض من أثرها فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ولحم ودم فحين رأيت قومك سألوك أن تجعل لهم إلهاً زينت لي نفسي ذلك فذلك قوله تعالى : {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} أي : من تربة موطىء فرس الملك الذي أرسل إليك والمراد فرس الحياة لجبريل ولم يقل جبريل أو روح القدس لأنه لم يعرف أنه جبريل والقبضة المرة من القبض وهو الأخذ بجميع الكف أطلقت على المقبوض مرة {فَنَبَذْتُهَا} النبذ القاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به أي : طرحتها في الحلي المذابة أو في فم العجل فكان ما كان.
وفي "العرائس" : قبض السامري من أثر فرسه قبضة لأنه سمع من موسى تأثير القدسيين في أشباح الأكوان فنثرها على العجل الذهبي فجعل الحق لها إكسيراً من نور فعله ولذا حيى.
(5/322)
جزء : 5 رقم الصفحة : 420
وفي "التأويلات النجمية" : {بَصُرْتُ} يعني خصص بكرامة فيما رأيت من أثر فرس جبريل والهمت بأن له شأناً ما خص به أحد منكم {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} يشير بهذا العنى إلى أن الكرامة لأهل الكرامة كرامة ولأهل الغرامة فتنة واستدراج.
والفرق بين الفريقين أن أهل الكرامة يصرفونها في الحق والحقيقة وأهل الغرامة يصرفونها في الباطل والطبيعة كما أن الله تعالى أنطق السامري بنيته الفاسدة الباطلة بقوله : {وَكَذَالِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى} أي : بشقاوتي ومحنتي والتسويل تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح منها بصورته الحسن وأصل التركيب سولت لي نفسي تسويلاً كائناً مثل ذلك التسويل على أن يكون مثل صفة مصدر محذوف وذلك إشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعد فقدّم على الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مقحة لإفادة تأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة فصار مصدراً مؤكداً لا صفة أي : ذلك التزيين البديع زينت لي نفسي ما فعلته من القبض والنبذ لا تزييناً أدنى ولذلك فعلته وحاصل جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء وغوائها لا بشيء آخر من البرهان العقلي والإلهام الإلهي.
قال الكاشفي : (در لباب آورده كه موسى عليه السلام قصد قتل سامري كرد ازحق سبحانه وتعالى ندا آمد اورا مكش كه صفت سخاوت برو غالبست وون ازسخاى او خلق را منفعت بود نفع حيات ازوباز نتوان داشت سرّ واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض اينجا ظاهر ميشود) :
هرنها لى كه برك دارد وبر
باد زاب حيات تازه وتر
وانه بى ميوه باشد وسايه
به كه كردد تنوررا مايه
فعند ذلك.
{قَالَ} موسى مكافئاً له.
قال الكاشفي : (كفت موسى مر سامري راكه ون مرا از قتل تومنع كردند) {فَاذْهَبْ} أي : من بين الناس {فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَواةِ} أي : ثابت لك مدة حياتك عقوبة ما فعلت {أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ} قال في "المفردات" المس كاللمس لكن اللمس قد يقال لطلب الشيء وإن لم يوجد والمس يقال فيما يكون معه إدراك بحاسة اللمس.
وفي "القاموس" قوله تعالى : {لا مِسَاسَ} بالكسر أي : لا أمس ولا أمسى وكذلك التماس ومنه من قبل أن يتماسا انتهى أي : لا يمسني أحد ولا أمس أحداً خوفاً من أن تأخذ كما الحمى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 420
ـ روي ـ أنه
421
كان إذا ماس أحداً ذكراً أو أنثى حم الماس والممسوس جميعاً حمى شديدة فتحامى الناس وتحاموه وكان يصيح بأقصى صوته لا مساس وحرم عليهم ملاقاته ومواجهته ومكالمته ومبايعته وغيرها مما يعتاد جريانه فيما بين الناس من المعاملات فصار وحيداً طريداً يهيم في البرية مع الوحش والسباع (ودر بعضى تفاسير هست كه جمعى از اولاد سامري درين زمان كوساله رست اند همان حال دارند) يعني أن قومه باقية فيهم تلك الحالة إلى اليوم ، يقول الفقير : التناسل موقوف على مخالطة الأزواج والأولاد فكيف تقوم هذه الدعوى.
قال في "الإرشاد" : لعل السر في مقابلة جنايته بتلك العقوبة خاصة ما بينهما من مناسبة التضاد فإنه لما أنشأ الفتنة بما كانت ملابسته سبباً لحياة الموات عوقب بما يضاده حيث جعلت ملابسته للحمى التي هي من أسباب موت الاحياء.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن قصدك ونيتك فيما سولت نفسك أن تكون مطاعاً متبوعاً آلفاً مألوفاً فجزاؤك في الدنيا أن تكون طريداً وحيداً ممقتاً ممقوتاً متشرداً متنفراً تقول لمن رآك لا تمسني ولا أمسك فنهلك :
ون عاقبت زصحبت ياران بريدنست
يوند باكسى نكند آنكه عاقلست
وذلك لأن في الانقطاع بعد الاتصال الماً شديداً بخلاف الانقطاع الأصلي ولذا قال من قال :
الفت مكير همو الف هي باكسى
تابسته الم نشوى وقت انقطاع
جزء : 5 رقم الصفحة : 420
(5/323)
{وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا} أي : وعداً في الآخرة بالعقاب على الشرك والإفساد {لَّن تُخْلَفَهُ} أي : لن يخلفك الله ذلك الوعد بل ينجزه البتة بعدما عاقبك في الدنيا والخلف والإخلاف المخالفة في الوعد يقال وعدني فأخلفني أي : خالف في الميعاد {وَانظُرْ إِلَى إِلَـاهِكَ} معبود بزعمك {الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} أصله ظللت فحذفت اللام الأولى تخفيفاً.
قال في "المفردات" : ظلت بحذف إحدى اللامين يعبر به عما يفعل بالنهار ويجري مجرى صرت.
والمعنى صرت مقيماً على عبادته.
وأما بالفارسية : (بودى يوسته بر رستش او) {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} جواب قسم محذوف أي : بالنار ويؤيده قراءة {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} من الإحراق وهو إيقاع نار ذات لهب في الشيء بخلاف الحرق فإنه إيقاع حرارة في الشيء من غير لهب كحرق الثوب بالدق.
قال الكاشفي : (واين قول كسيست كه كويد آن كاورا كوشت ووست بود) او بالمبرد ، بالفارسية : (سوهان) على أنه مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد ويعضده قراءة {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} أي : لنبردنه يقال بردت الحديد بالمبرد والبرادة ما سقط منه.
قال الكاشفي : (واين بران قوليست كه او جسدى بودزرين بى حيات) {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّه فِى الْيَمِّ نَسْفًا} أي : لنذرينه في البحر رماداً أو مبروداً بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر من نسفت الريح التراب إذا قعلته وأزالته وذرته.
والنسف بالفارسية (بر كندن) للنبات من أصله (وبربودن) كما في "التهذيب".
والذر (وبباد بر دادن وباد يزى را بر داشتن).
قال الكاشفي : (س را كنده سازيم خاكستر اورا در دريا تابدانند كه اورا كه توان سوخت صفت الوهيت بروعين جهل ومحض خلافست) {إِنَّمَآ إِلَـاهُكُمُ} أي : معبودكم المستحق للعبادة {اللَّهُ الَّذِى لا إِلَـاهَ} في الوجود لشيء من الأشياء {إِلا هُوَ} وحده من غير أن يشاركه شيء من الأشياء بوجه من الوجوه التي
422
من جملتها أحكام الألوهية.
قال في "بحر العلوم" قوله : {الَّذِى لا إله إِلا هُوَ} تقرير لاختصاص الإلهية ونحوه قولك القبلة الكعبة التي لا قبلة إلا هي {وَسِعَ كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا} أي : وسع علمه بكل ما كان وما يكون أي : علم كل شيء وأحاط به بدل من الصلة كأنه قيل إنما الهكم الذي وسع كل شيء علماً لا غيره كائناً ما كان فيدخل فيه العجل دخولاً أولياً.
قال الكاشفي : (نه قالب كوساله كه اكره زنده نيزباشد مثلست درغباوت ونادانى) روى أن موسى أخذ العجل فذبحه ثم حرقه بالنار ثم ذراه في البحر زيادة عقوبة حيث أبطل سعيه وأظهر غباوة المفتتنين به :
جزء : 5 رقم الصفحة : 420
بادست موسوى ه زند سحر سامرى†
قال الحافظ :
سحر با معجزه هلو نزند ايمن باش
سامرى كيست كه دست ازيد بيضا ببرد
قال في "التأويلات النجمية" في الآية إشارة إلى عبدة عجل النفس والهوى بأنهم وما يعبدون حصب جهنم منسوفون في بحرالقهر نسفاً لا خلاص لهم منه إلى الأبد وفي قوله : {إِنَّمَآ إِلَـاهُكُمُ اللَّهُ الَّذِى لا إله إِلا هُوَ} إشارة إلى أن من يعبد إلهاً دونه يحرقه بنار القطيعة وينسفه في بحر القهر إلى أبد الآباد {وَسِعَ كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا} فعلم استحقاق كل عبد للطف أو للقهر.
يقال لما وقع الازدواج بين آدم وحواء والازدواج بين إبليس والدنيا فتولد من الازدواج الأول نوع البشر ومن الثاني الهوى فجميع الأديان الباطلة والأخلاق المذمومة من تأثير ذلك الهوى يقال إن ضرر البدعة والهوى أكثر من ضرر المعصية فإن صاحب المعصية يعلم قبحها فيستغفر فيتوب بخلاف صاحب البدعة والهوى.
اعلم أنهم قالوا لكل فرعون موسى أي : لكل مبطل ومفسد محق ومصلح ألا ترى أن فرعون أفسد الأرض بالكفر والتكذيب والظلم والمعاصي فأصلحها موسى بالإيمان والتصديق والعدل والطاعات ثم أن السامري أراد أن يكدر وجه مرآة الدين بما صنعه بيده العادية فجاء موسى فأزاله وهكذا الحال إلى يوم القيامة والأصل إصلاح القلب وتطهيره عن لوث الأخلاق الرذيلة ومنعه عن العكوف على عبادة الهوى ثم تغيير المنكر عن وجه العالم إن قدر كما فعله الأنبياء وأولوا الأمر ومن يليهم فإن الغيرة من الإيمان والله غيور وعبده في غيرته وفي الحديث "إن سعداً لغيور وأنا أغير من سعد والله أغير مني ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن" ، وفي "المثنوي" :
جمله عالم زان غيور آمدكه حق
بردر غيرت برين عالم سبق
غيرت حق بر مثل كندم بودم
كاه خر من غيرت مردم بود
أصل غيرتها بدانيد ازاله
آن خلقان فرع حق بى اشتباه
جزء : 5 رقم الصفحة : 420
(5/324)
{كَذَالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنابَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ} ذلك إشارة إلى اقتصاص حديث موسى والقص تتبع الأثر والقصص الأخبار المتتبعة.
ومن مفعول نقص باعتبار مضمونه.
والنبأ خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة وحق الخبر الذي فيه نبأ أن يتعرى عن الكذب كالتواتر وخبر الله تعالى وخبر النبي
423
عليه السلام والمعنى مثل ذلك القص البديع الذي سمعت نقص عليك يا محمد بعض الحوادث الماضية الجارية على الأمم السالفة لاقصاً ناقصاً عنه تبصرة لك وتوفيراً لعلمك وتكثيراً لمعجزاتك وتذكيراً للمستبصرين من أمتك.
وفيه وعد بتنزيل أمثال ما مر من أخبار القرون الخالية ، وبالفارسية : (همنانه اين قصه موسى برتو خوانديم مى خوانيم برتو اى محمد از خبرها آنه بتحقيق كذشته است يعني ازامور ماضيه وقرون سابقة ترا خبر ميدهيم تا معجزه نبوت توبود وتنبيه مستبصران امت تو) {وَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ مِن لَّدُنَّا} متعلق بآتينا أي : من عندنا {ذِكْرًا} أي : كتاباً شريفاً مطوياً على هذه الأقاصيص والأخبار حقيقاً بالتفكر والاعتبار.
وفي "الكبير" في تسميته به وجوه : الأول أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه في أمر دينهم ودنياهم ، والثاني : أن يذكر أنواع آلاء الله ونعمائه وفيه التذكير والموعظة ، والثالث فيه الذكر والشرف لك ولقومك وقد سمي الله كل كتبه ذكراً فقال : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن} .
قال بعض الكبار أي : موعظة تتعظ بها وتتأدب بملازمتها فلا يخفى عليك شيء من أسرارنا وما أودعناه أسرار الذين كانوا قبلك من الأنبياء فتكون الأنبياء مكشوفين لك وأنت في ستر الحق.
{مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} عن ذلك الذكر العظيم الشأن الجامع لوجوه السعادة والنجاة فلم يعتبر ولم يعمل به لإنكاره إياه ومن شرطية أو موصولة وأياماً كانت فالجملة صفة لذكر {فَإِنَّهُ} أي : المعرض عنه {يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وِزْرًا} عقوبة ثقيلة على كفره وسائر ذنوبه وتسميتها وزراً تشبيهاً في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الذي يفدح الحامل وينقض ظهره.
جزء : 5 رقم الصفحة : 423
{خَـالِدِينَ فِيهِ} أي : ماكثين في الوزر حال من المستكن في يحمل والجمع بالنظر إلى معنى من لما أن الخلود في النار مما يتحقق حال اجتماع أهلها {وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ حِمْلا} أي : بئس لهم حملاً وزرهم واللام للبيان كأنه لما قيل ساء قيل لمن يقال هذا فأجيب لهم وإعادة يوم القيامة لزيادة التقرير وتهويل الأمر.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن من أعرض عن الذكر الحقيقي الذي به قامت حقيقة الإيمان والإيقان والعرفان فإنه يحمل يوم القيامة حملاً ثقيلاً من الكفر والنفاق والشرك والجهل والعمى وقساوة القلب والرين والختم والأخلاق الذميمة والبعد والحسرة والندامة وخسر حقيقة العبودية ودوام الذكر ومراقبة القلب وصدق التوجه لقبول الفيض الإلهي الذي هو حقيقة الذكر الذي أوله إيمان وأوسطه إيقان آخره عرفان فالذكر الإيماني يورث الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة بترك المعاصي والاشتغال بالطاعات والذكر الإيقاني يورث ترك الدنيا وزخارفها حلالها وحرامها وطلب الآخرة ودرجانها منقطعاً إليها والذكر العرفاني يوجب قطع تعلقات الكونين والتبكير إلى سعادة الدارين في بذل الوجود على شواهد المشهود انتهى فأعلى المراتب في الذكر فناء الذاكر في المذكور فلا يبقى للنفس هناك أثر.
ـ روي ـ أنه كثر الزنى في بغداد وكثر الفسق فقيل للشبلي لولا ذكرك لا حرقنا البلدة فلما سمعه بعض أهل النفس قال : أليس لنا ذكر فقال الشبلي ذكركم بوجود النفس وذكرى بالله.
واعلم أن التوحيد أفضل العبادات وذكر الله أقرب القربات وقد وقت الله العبادات كلها كالصلاة والصيام والحج ونحوها بالمواقيت إلا الذكر فإنه أمر به على كل حال قياماً وقعوداً
424
واضطجاعاً وحركة وسكوناً وفي كل زمان ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاء ولما سئل النبي عليه السلام عن جلاء القلب قال : "ذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة عليّ" ، قال المغربي قدس سره :
اكره آينه دارى از براى رخش
ولى ه سود كه دارى هميشه آينه تار
بيا بصيقل توحيد زآينه بردارى
غبار شرك كه تا اك كردد از نكار
ـ حكي ـ أن موسى عليه السلام قال : إلهي علمني شيئاً أذكرك به فقال الله تعالى قل : لا إله إلا الله فقال موسى يا رب كل عبادك يقول ذلك فقال الله تعالى يا موسى لو أن السموات والأرضين وضعت في كفة ميزان ولا إله إلا الله في أخرى لمالت به تلك الكلمة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 423
قال الفقير :
كرتو خواهى شوى زحق آكاه
دم على لا اله إلا الله
افضل ذكر باشد اين كلمه
يكثر الذكر كل من يهواه
جزء : 5 رقم الصفحة : 423
(5/325)
{يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ} بدل من يوم القيامة أو منصوب بإضمار اذكر أي : اذكر لقومك يا محمد يوم ينفخ إسرافيل في القرن الذي التقمه للنفخ {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَـاـاِذٍ} أي : نخرج المتوغلين في الإجرام والآثام المنهمكين فيها وهم الكفرة والمشركون من مقابرهم ونجمعهم يوم إذ ينفخ في الصور وذكره صريحاً مع تعين أن الحشر لا يكون إلا يومئذٍ للتهويل {زُرْقًا} جمع ازرق والزرقة اسوء ألوان العين وأبغضها إلى العرب فإن الروم الذين كانوا أعدى عدوهم زرق.
قال الكاشفي : (در خبراست كه زرقه عين وسواد وجه علامت دوز خيانست).
وقال الإمام في المفرادت قوله تعالى : {يَوْمَـاـاِذٍ زُرْقًا} أي : عمياً عيونهم لا نور لها لأن حدقة الأعمى تزرق يعني أن العين إذا زال نورها ازرقت.
{يَتَخَـافَتُونَ بَيْنَهُمْ} استئناف لبيان ما يأتون وما يذرون حينئذٍ والتخافت إسرار المنطق وإخفاؤه أي : يقول بعضهم لبعض خفية من غير رفع صوت بسبب امتلاء صدورهم من الخوف والهوان أو استيلاء الضعف {إِن لَّبِثْتُمْ} لبث بالمكان أقام به ملازماً له أي : أقمتم ومكثتم في الدنيا أو في القبر {إِلا عَشْرًا} عشر ليال أو عشر ساعات استقصاراً لمدة لبثهم فيها لزوالها لأن أيام الراحة قليلة والساعات تمر مر السحاب.
وفي "الجلالين" يتسارون فيما بينهم ما لبثتم في قبوركم إلا عشر ليال يريدون ما بين النفختين وهو أربعون سنة يرفع العذاب في تلك المدة عن الكفار ويستقصرون تلك المدة إذا عاينوا أهوال القيامة انتهى وهو مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وفي "بحر العلوم" هو ضعيف جداً.
{نَّحْنُ} (ماكه خداونديم) {أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} (دانا تريم بآنه ايشان ميكويند) وهو مدة لبثهم {إِذْ يَقُولُ} (خون كويد) {أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} اوفرهم رأياً وأوفاهم عقلاً ، وبالفارسية : (تمامترين ايشان ازروى عقل).
قال في "المفردات" الأمثل يعبر به عن الأشبه بالأفاضل والأقرب إلى الخير وأماثل القوم كناية عن خيارهم وعلى هذا قوله تعالى : {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} انتهى {أَنْ} بمعنى النفي أي : ما {لَّبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} ونسبة هذا القول إلى أمثلهم استرجاع منه تعالى له لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق بل لكونه أدل على شدة الهول.
جزء : 5 رقم الصفحة : 425
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنه إذا نفخ في الصور وحشر أهل البلاء وأصحاب الجفاء يوم الفزع الأكبر في النفخة الثانية
425
{يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} (المزمل : 37) {يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ غَيْرَ الأرْضِ} (إبراهيم : 48) وقد غضب ربنا ذلك اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله يرون من شدة أهوال ذلك اليوم ما يقلل في أعينهم شدة ما أصابهم من العذاب طول مكثهم في القبور فهم يحسبون أنهم ما لبثوا في القبور إلا عشرة أيام ثم قال تعالى : {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} من عظم البلاء وبما يقولون : {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي : أصوبهم رأياً في نيل شدة البلاء {إِن لَّبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} وذلك لأنه وجد شدة بلاء ذلك اليوم عشرة أمثال ما وجده انتهى قيل :
ألا إنما الدنيا كظل سحابة
أظلتك يوماً ثم عنك اضمحلت
فلا تك فرحاناً بها حين أقبلت
ولا تك جزعاناً إذا هي ولت
قال المنصور لما حضرته الوفاة بعنا الآخرة نومة ، قال الشيخ سعدى :
نكه دار فرصت كه عالم دميست
دمى يش دانا به از عالميست
مكن عمر ضايع فافسوس وحيف
كه فرصت عزيزست والوقت سيف
قال السلطان ولد :
بكذار جها نرا كه جهان آن تونيست
وين دم كه همى زنى بفرمان تو نيست
كر مال جهان جمع كسى شاد مشو
ور تكيه بجان كنى جان آن تونيست
فعلى العاقل أن لا يضيع وقته بالصرف إلى الدنيا وما فيها من الشهوات فإن الوقت نقد نفيس وجوهر لطيف وبازى اشهب لا ينبغي أن يبذل لشيء حقير وأن يصاد به طير لا يسمن ولا يغني من جوع ومن المعلوم أن عيش الدنيا قصير وخطرها يسير وقدرها عند الله صغير إذا كانت لا تعدل عنده جناح بعوضة فمن عظم هذا الجناح كان أصغر منه.
بر مرد هشيار دنيا خسست
كه هرمدتى جاى ديكر كسست
(5/326)
قال عيسى عليه السلام من ذا الذي يبني على موج البحر داراً تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً وقد ثبت أن الدنيا ساعة فاجعلها طاعة وأهل الطاعة تكافىء ساعة من ساعاتهم في الآخرة بألف سنة في الراحة بخلاف أهل المعصية فإن ساعاتهم أيضاً تنبسط ولكن في المحنة وأفضل الطاعات وأحسن الحسنات التوحيد وتقوية اليقين بالعبادات ومتابعة سيد المرسلين وفي الحديث "لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى" قيل يا رسول الله من الذي أبى قال : "من لم يقل لا إله إلا الله فأكثروا من قول لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها فإنها كلمة التوحيد وهي العروة الوثقى وهي ثمن الجنة" أي : جنة الصورة وجنة المعنى وهي جنة القلب والروح وفيها أزهار الأنوار وثمرات الأسرار وهي أعلى من جنة الصورة إذ كل كمال إنما هو من تأثير المعنى وتجلياته فمن أصلح باطنه صلح ظاهره البتة كالشجرة إذا كان لها عرق فإنها تورق نسأل الله الاحتراق بنار العشق والمحبة والاستغراق في بحر التوحيد والفوز باللقاء الدائم كما قال : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} .
جزء : 5 رقم الصفحة : 425
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنه إذا نفخ في الصور وحشر أهل البلاء وأصحاب الجفاء يوم الفزع الأكبر في النفخة الثانية
425
{يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} (المزمل : 37) {يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ غَيْرَ الأرْضِ} (إبراهيم : 48) وقد غضب ربنا ذلك اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله يرون من شدة أهوال ذلك اليوم ما يقلل في أعينهم شدة ما أصابهم من العذاب طول مكثهم في القبور فهم يحسبون أنهم ما لبثوا في القبور إلا عشرة أيام ثم قال تعالى : {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} من عظم البلاء وبما يقولون : {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي : أصوبهم رأياً في نيل شدة البلاء {إِن لَّبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} وذلك لأنه وجد شدة بلاء ذلك اليوم عشرة أمثال ما وجده انتهى قيل :
ألا إنما الدنيا كظل سحابة
أظلتك يوماً ثم عنك اضمحلت
فلا تك فرحاناً بها حين أقبلت
ولا تك جزعاناً إذا هي ولت
قال المنصور لما حضرته الوفاة بعنا الآخرة نومة ، قال الشيخ سعدى :
نكه دار فرصت كه عالم دميست
دمى يش دانا به از عالميست
مكن عمر ضايع فافسوس وحيف
كه فرصت عزيزست والوقت سيف
قال السلطان ولد :
بكذار جها نرا كه جهان آن تونيست
وين دم كه همى زنى بفرمان تو نيست
كر مال جهان جمع كسى شاد مشو
ور تكيه بجان كنى جان آن تونيست
فعلى العاقل أن لا يضيع وقته بالصرف إلى الدنيا وما فيها من الشهوات فإن الوقت نقد نفيس وجوهر لطيف وبازى اشهب لا ينبغي أن يبذل لشيء حقير وأن يصاد به طير لا يسمن ولا يغني من جوع ومن المعلوم أن عيش الدنيا قصير وخطرها يسير وقدرها عند الله صغير إذا كانت لا تعدل عنده جناح بعوضة فمن عظم هذا الجناح كان أصغر منه.
بر مرد هشيار دنيا خسست
كه هرمدتى جاى ديكر كسست
قال عيسى عليه السلام من ذا الذي يبني على موج البحر داراً تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً وقد ثبت أن الدنيا ساعة فاجعلها طاعة وأهل الطاعة تكافىء ساعة من ساعاتهم في الآخرة بألف سنة في الراحة بخلاف أهل المعصية فإن ساعاتهم أيضاً تنبسط ولكن في المحنة وأفضل الطاعات وأحسن الحسنات التوحيد وتقوية اليقين بالعبادات ومتابعة سيد المرسلين وفي الحديث "لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى" قيل يا رسول الله من الذي أبى قال : "من لم يقل لا إله إلا الله فأكثروا من قول لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها فإنها كلمة التوحيد وهي العروة الوثقى وهي ثمن الجنة" أي : جنة الصورة وجنة المعنى وهي جنة القلب والروح وفيها أزهار الأنوار وثمرات الأسرار وهي أعلى من جنة الصورة إذ كل كمال إنما هو من تأثير المعنى وتجلياته فمن أصلح باطنه صلح ظاهره البتة كالشجرة إذا كان لها عرق فإنها تورق نسأل الله الاحتراق بنار العشق والمحبة والاستغراق في بحر التوحيد والفوز باللقاء الدائم كما قال : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} .
جزء : 5 رقم الصفحة : 425
{وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} السؤال استدعاء معرفة أو ما يؤدي إلى المعرفة وجوابه على اللسان واليد خليفة له بالكتابة أو الإشارة أو استدعاء مال وما يؤدي إلى مال وجوابه على اليد واللسان خليفة لها إما بوعد أو برد والسأال للمعرفة قد يكون تارة للاستعلام وتارة للتبكيت وتارة لتعريف المسؤول وتنبيهه لا ليخبر ويعلم فإذا كان للتعريف
426
(5/327)
تعدى إلى المفعول الثاني تارة بنفسه وتارة بالجار تقول سألته كذا وسألته عن كذا وبكذا وبعن أكثر كما في هذا المقام وإذا كان لاستدعاء مال فإنه يتعدى بنفسه أو بمن نحو قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ} (الأحزاب : 53) والجبال جمع جبل وهو كل وتد للأرض عظم وطال فإن انفرد فاكمة أو قنة واعتبر معانيه فاستعير واشتق منه بحسبها فقيل فلان جبل لا يتزحزح تصوراً لمعنى الثبات فيه وجبله الله على كذا إشارة إلى ما ركب فيه من الطبع الذي يأبى على الناقل نقله وتصور منه العظم فقيل للجماعة العظيمة جبل كما قال تعالى : {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلا كَثِيرًا} (يس : 67) أي : جماعة تشبيهاً بالجبل في العظم والجبال في الدنيا ستة آلاف وستمائة وثلاثة وسبعون جبلاً سوى التلول.
والمعنى يسألونك عن ما آل أمرها وقد سأل عنها رجل من ثقيف وقال يا رسول الله ما يصنع بالجبال يوم القيامة {فَقُلْ} الفاء للمسارعة إلى الزام السائلين.
قال الكاشفي : (س بكويى تأخير در جواب ايشان كه بقدرت) {يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا} يقال نسفت الريح الشيء اقلعته وإزالته ونسف البناء قلعه من أصله والجبال دكها وذراها كما في "القاموس" أي : يقلعها من أصلها ويجعلها كالهباء المنثور.
وفي "الإرشاد" يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها وتذورها.
وفي الكبير لعل قوماً قالوا إنك تدعى أن الدنيا تفنى فوجب أن تبتدىء بالنقصان حتى تنتهي إلى البطلان لكنا لا نرى فيها نقصاناً ونرى الجبال كما هي وهذه شبهة ذكرها جالينوس في أن السماوات لا تفنى وجواب هذه الشبهة أن بطلان الشيء قد يكون ذبولياً يتقدمه النقصان وقد يكون دفعة فتبين أنه تعالى يزيل تركيبات العالم الجسماني دفعة بقدرته ومشيئته انتهى ومثاله : أن الدنيا مع جبالها وشدادها كالشاب القوى البدن ومن الشبان من يموت فجأة من غير تقدم مرض وذبول :
جزء : 5 رقم الصفحة : 426
ديدى آن قهقهه كبك خرامات حافظ
كه زسر نه شاهين قضا غافل بود
قال في "الأسئلة المقحمة" : قال هنا {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ} بالفاء وفي موضع آخر {فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِا وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ} (البقرة : 220) من غير الفاء والجواب لأنهم يسألونه ههنا بعد فتقريره إن سألوك عن الجبال فقل نظيره فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فإن كنت في شك فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به بخلاف قوله : {فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِا وَيَسْـاَلُونَكَ} لأنه هناك كانوا قد سألوه فأمر بالجواب كقوله تعالى : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} (البقرة : 222) وغيرها من المواضع انتهى.
وفي "التأويلات النجمية" : وإن سألونك عن أحوال الجبال في ذلك اليوم فقل ينسفها ربي نسفاً يقلعها يتجلى صفة القهارية كما جعل الطور دكاً.
{فَيَذَرُهَا} يقال فلان يذر الشيء أي : يقذفه لقلة اعتداده به ولم يستعمل ماضيه أي : وذر والمعنى فيترك مقارها ومراكزها حال كونها {قَاعًا} مكاناً خالياً وأصله قوع.
قال في "القاموس" القاع أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام انتهى {صَفْصَفًا} مستوياً كأن أجزاءها على صنف واحد من كل جهة.
{لا تَرَى فِيهَا} أي : في مقار الجبال لا بالبصر ولا بالبصيرة استئناف مبين لكيفية القاع الصفصف والخطاب لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤية {عِوَجًا} بكسر العين أي : عوجاً ما كأنه لغاية خفائه من قبيل خافي المعاني وذلك لأن العوج بالكسر يخص المعاني.
قال في
427
"المفردات" العوج العطف عن حال الانتصاب والعوج يقال فيما يدرك بالبصر كالخشب المنتصب ونحوه والعوج يقال فيما يدرك بفكر وبصيرة كما يكون في أرض بسيطة وكالدين والمعاش {وَلا أَمْتًا} ارتفاعاً يسيراً.
قال الزمخشري الأمت النتوء اليسير.
وفي "القاموس" الأمت المكان المرتفع والتلال الصغار والانخفاض والارتفاع.
قال في "المناسبات" {وَلا أَمْتًا} أي : تفاوتاً بارتفاع وانخفاض.
وفي "الجلالين" {عِوَجًا وَلا أَمْتًا} انخفاضاً وارتفاعاً ومثله ما في تفسير الفارسي حيث قال : (عوجا ستى دفرمناره ولا امتا ونه بلندى وشته).
جزء : 5 رقم الصفحة : 426
(5/328)
{يَوْمَـاـاِذٍ} أي : يوم اذ نسفت الجبال على إضافة اليوم إلى وقت النسف وهو ظرف لقوله : {يَتَّبِعُونَ} أي : الناس {الدَّاعِىَ} الذي يدعوهم إلى الموقف والمحشر وهو إسرافيل عليه السلام يدعو الناس عند النفخة الثانية قائماً على صخرة بيت المقدس ويقول أيتها العظام البالية والأوصال المتفرقة واللحوم المتمزقة قوموا إلى عرض الرحمن فيقبلون من كل أوب إلى صوبه أي : من كل جانب إلى جهته {لا عِوَجَ لَهُ} لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه بل يستوي إليه من غير انحراف متبعاً لصوته لأنه ليس في الأرض ما يحوجهم إلى التعويج ولا يمنع الصوت من النفوذ على السواء {وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَـانِ} خفضت من شدة الفزع وخفتت لهيبته والخشوع الخضوع وهو التواضع والسكون أو هو في الصوت والبصر والخضوع في البدن.
وفي "المفردات" الخشوع ضراعة وأكثر ما يستعمل فيما يوجد على الجوارح والضراعة أكثر ما يستعمل فيما يوجد في القلب ولذلك قيل فيما روى إذا ضرع القلب خشعت الجوارح والصوت هواء متموج بتصادم جسمين وهو عام والحرف مخصوص بالإنسان وضعاً {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} صوتاً خفياً ومنه الحروف المهموسة وهمس الأقدام أخفى ما يكون من صوتها.
وقال الكاشفي : (س نشنوى تودران روزمكر آوازى نرم يعنى صوت اقدام ايشان در رفتن محشر).
قال الإمام الغزالي في "الدرة الفاخرة" ينفخ في الصور أي : نفخة أولى فتتطاير الجبال وتتفجر الأنهار بعضها في بعض فيمتلىء عالم الهواء ماء وتنثر الكواكب وتتغير الأرض والسماء ويموت العالمون فتخلو الأرض والسماء ثم يكشف سبحانه عن بيت في سقر فيخرج لهب من النار فيشتعل في البحور فتنشف أي : تسرب ويدع الأرض حمأة سوداء والسموات كأنها عكر الزيت والنحاس المذاب ثم يفتح تعالى خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة فيمطر به الأرض وهو كمنيّ الرجال فتنبت الأجسام على هيئتها الصبي صبي والشيخ شيخ وما بينهما ثم يهب من تحت العرش ريح لطيفة فتبرز الأرض ليس فيها جبل ولا عوج ولا أمت ثم يحيى الله تعالى إسرافيل فينفخ من صخرة بيت المقدس فتخرج الأرواح من ثقب في الصور بعددها ويحل كل روح في جسده حتى الوحش والطير فإذا هم بالساهرة أي : بوجه الأرض بعد أن كانوا في بطنها وقيل الساهرة صحراء على شفير جهنم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أرض من فضة بيضاء لم يعص الله عليها منذ خلقها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 428
قال في "التأويلات النجمية" : {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} من نقاياها {وَلا أَمْتًا} من زواياها {يَوْمَـاـاِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ} أي : الذي دعاهم في الدنيا فأجابوا داعيهم {لا عِوَجَ لَهُ} في دعائهم يعني كل داع من الدعاة يكون مجيباً في جبلته
428
الإنسانية لأنه تعالى هو الداعي والمجيب كقوله تعالى : {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَـامِ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (يونس : 25) فالله تعالى هو الداعي وهو المجيب بالهداية يجيب بلسان المشيئة فافهم جداً ولهذا السر يوجد في كل زمان من متبعي كل داع خلق عظيم ولا يوجد في كل قرن من متبعي داعي الله إلا الشواذ من أهل الله ومن أهل داعي الهوى والدنيا والشيطان والملك والنبي والجنة والقربة يوجد في كل زمان خلق على تفاوت طبقاتهم وقدر مراتبهم وبقوله : {وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَـانِ} يشير إلى أن داعي الله إذا دعا عبداً بالرحمانية خشعت وانقادت وذلت أصوات جميع الدعاة وانقطعت {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} أي : إلا وطأ أقدام المدعو ونقلها إلى داعيه انتهى.
فعلى العاقل أن يتبع داعي الله الحق فإن ما سواه باطل ، وفي "المثنوي" :
ديد روى جز تو شد غل كلو
كل شيء ما سوى الله باطلباطلند ومينما يندم رشد
زانكه باطل باطلانرا مى كشد
اشتر كورى مهار تومتين
توكشش مى بين مهارت را مبينكرشدى محسوس جذاب ومهار
س نماندى اين جهان دار الفرار
كبر ديدى كوى سك مى رود
سخره ديو ستنبه مى شود
درى اوكى شدى مانند حيز
اى خودرا واكشيدى كبر نيز
كاو كر واقف زقصابان بدى
كى ى ايشان بدان دكان شدى
يابخوردى از كف ايشان سوس
يابدادى شير شان از ايلوس
وربخوردى كى علف هضمنش شدى
كر ز مقصود علف واقف بدى
توبجد كارى كه بركفتى بدست
عيش اين دم برتو وشيده شدست
برتوكر يدا شدى زان عيب وشين
زان رميدى جانت بعد المشرقين
حال كاخر زان شيمان مى شوى
كربود اين حالت اول كى دوى
(5/329)
{يَوْمَـاـاِذٍ} أي : يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة {لا تَنفَعُ الشَّفَـاعَةُ} من الشفعاء أحداً.
قال الإمام الراغب الشفاعة الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى ومنه الشفاعة في القيامة {إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ} في أن يشفع له والإذن في الشيء إعلام بإجازته والرخصة فيه {وَرَضِىَ لَه قَوْلا} أي : ورضي لأجله قول الشافع في شأنه وأما من عداه فلا تكاد تنفعه وإن فرض صدورها عن الشفعاء المتصدين للشفاعة للناس كقوله تعالى : {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـاعَةُ الشَّـافِعِينَ} فالاستثناء من أعم المفاعيل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 428
{يَعْلَمُ} الله تعالى {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي : ما تقدمهم من الأحوال {وَمَا خَلْفَهُمْ} وما بعدهم مما يستقبلون والضمير عائد إلى الذين يتبعون الداعي.
وقال الكاشفي : (ميداند خداى تعالى آنه يش آدميانست ازامور آخرت وآنه س ايشانست ازكار دنيا).
وفي "التأويلات النجمية" : يعلم اختلاف أحوالهم من بدء خلقهم واختلاف أحوالهم إلى الأبد {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ} تعالى {عِلْمًا} (يعني : أحاط نمى توانند كرد جميع عالميان بذات خداى تعالى ازجهت دانش) لأنه تعالى قديم وعلم المخلوقين لا يحيط بالقديم.
وفيه إشارة
429
إلى العجز عن كنه معرفته.
كجا دريابد اورا عقل الاك
كه بيرونست از سرحد ادراك
تماشا ميكن اسما وصفاتش
كه آكه نيست كس از كنه ذاتش
قال بعض الكبار ما علمه غيره ولا ذكره سواه فهو عالم والذاكر على الحقيقة وذلك أن الحادث فاني الوجود والقديم باقي الوجود والفاني لا يدرك الباقي إلا بالباقي وإذا أدركه به فلا يبلغ إلى ذرة من كمال الأزلية لأن الإحاطة بوجوده مستحيلة من كل الوجوه صفاتاً وذاتاً وسراً وحقيقة.
قال الواسطي : كيف يطلب أن يأخذ طريق الإحاطة وهو لا يحيط بنفسه علماً ولا بالسماء وهو يرى جوهرها.
قال الراغب الإحاطة بالشيء هي أن تعلم وجوده وجنسه وكيفيته وغرضه المقصود به ءيجاده وما يكون به ومنه وذلك ليس إلاتعالى.
قال في "أنوار المشارق" : يجوز في طريقة الصوفية أن يطلب ما يقصر العقل عنه ولا يطيقه أي : ما لا يدرك بمجرد العقل ولا يجوز أن يطلب ما يحكم العقل باستحالته فلا يرد ما يقال أنى يحصل للعقول البشرية أن يسلكوا في الذات الإلهية سبيل الطلب والتفتيش وأنى تطيق نور الشمس أبصار الخفافيش.
قال الشيخ محمد ارسافى "فصل الخطاب" : لا يجوز أن يظهر في طور الولاية ما يحكم العقل باستحالته ويجوز أن يظهر فيه ما يقصر العقل عنه ومن لم يفرق بين ما يستحيله العقل وما لا يناله العقل فليس له عقل انتهى.
قال الشيخ عز الدين كنه ذات الحق تعالى وصفاته محجوب عن نظر العقول ونهاية معرفة العارفين هو أن ينكشف لهم استحالة معرفة حقيقة ذات الله لغير الله وإنما اتساع معرفتهم بالله إنما يكون في معرفة أسمائه وصفاته تعالى فبقدر ما تنكشف لهم معلوماته تعالى وعجائب مقدوراته وبديع آياته في الدنيا والآخرة يكون تفاوتهم في معرفته سبحانه وبقدر التفاوت في المعرفة يكون تفاوتهم في الدرجات الأخروية العالية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 428
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ} يقال عنوت فيهم عنواً وعناه صرت أسيراً كعنيت وخضعت كما في "القاموس" وإنما قيل عنت دون تعنو إشعاراً بتحقق العنو وثبوته كما في "بحر العلوم".
واللام في الوجوه للجنس إشارة إلى الوجوه كلها صالحة وعاصية أو للعهد والمراد بها وجوه العصاة كقوله تعالى : {سِيائَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (الملك : 27) وعبر عن المكلفين بالوجوه لأن الخضوع فيها يتبين كما في "الكبير".
والمعنى ذلت الوجوه يوم الحشر وخضعت للحي القيوم خضوع العناة أي : الأسارى في يد ملك قهار.
وفي "التأويلات النجمية" : خضعت وتذللت وجوه المكونات لمكونها الحي الذي به حياة كل حي القيوم الذي به قيام كل شيء احتياجاً واضطراراً واستسلاماً.
وفي "العرائس" : افهم يا صاحب العلم أنه سبحانه ذكر الوجوه وفي العرف صاحب الوجه من كان وجيهاً من كل ذي وجاهة فالأنبياء والمرسلون والأولياء والمقربون بالحقيقة هم أصحاب الوجوه وكيف أنت بوجوه الحور العين ووجه كل ذي حسن فوجوه الجمهور مع حسنها وجلالها المستفاد من حسن الله وإن كانوا جميعاً مثل يوسف تلاشت وخرت وخضعت عند كشف نقاب وجهه الكريم وظهور جماله وجلاله القديم ، قال المولى جامي :
آهنك جمال جاودانى آرم
حسنى كه نه جاودان ازان بيزارم
430
(5/330)
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم "اطلبوا اسم الله الأعظم في هذه السور الثلاث البقرة وآل عمران وطه" قال الراوي والمشترك بينها {اللَّهُ لا إله إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ} {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ} منهم {ظُلْمًا} خسر من أشرك بالله ولم يتب ، يعني : (بى بهره ماند ونوميد كشت) قال الراغب الخيبة فوق المطلب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 430
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـالِحَـاتِ} أي : بعض الصالحات فمن مفعول يعمل باعتبار مضمونه {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فإن الإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا} أي : منع ثواب مستحق بموجب الوعد {وَلا هَضْمًا} ولا كسراً منه ينقص ومنه هضم الطعام.
قال الراغب الهضم شدخ ما فيه رخاوة يقال هضمته فانهضم وهضم الدواء الطعام نهكه والهاضوم كل دواء هضم طعاماً ونخل طلعها هضيم أي : داخل بعضها في بعض كأنما شدخ.
وقال الكاشفي : (س نترسد دران روز ازستم وبيدادكه زيادتى سيآتست ونه از كسر وشكست كه نقصان حسنانست يعني نه از حسنات مؤمن يزى كم كنند ونه سيآت وى افزايند) فعليك بالحسنات والكف عن السيآت فإن كل أحد يجد ثمرة شجرة أعماله ويصل بأعماله إلى كل آماله وأفضل الأعمال أداء الفرائض مع اجتناب المحارم.
قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم : عظني وأوجز قال : نعم يا أمير المؤمنين نزه ربك وعَظِّمه من أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك.
قال بعض الكبار من علامة اتباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات والتكاسل عن القيام بحقوق الواجبات وهذا حال غالب الخلق إلا من عصمه الله ترى الواحد منهم يقوم بالأوراد الكثيرة والنوافل العديدة الثقيلة ولا يقوم بفرض واحد على وجهه وإنما حرموا الوصول بتضييعهم الأصول.
ـ حكي ـ عن أبي محمد المرتعش رحمه الله أنه قال : حججت حجات على قدم التجريد فسألتني أمي ليلة أن أستقي لها جرة فثقل ذلك عليّ فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كانت بحظ مشوب للنفس إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع.
ثم إن المرء بمجرد العمل لا يكون إلا عابداً وأما المعارف الإلهية والوصول إلى الدرجات العاليات فيحتاج إلى مرشد كامل ولذا هاجر الكبار من دار إلى دار لتحصيل صحبة المقربين والأبرار ، قال الحافظ :
من يسر منزل عنقا نه بخود بردم راه
قطع اين مرحله بامرغ سليمان كردم
{وَكَذَالِكَ} إشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد المنبئة عما سيقع من أحوال القيامة وأهوالها أي : مثل ذلك الإنزال {أَنزَلْنَـاهُ} أي : القرآن كله وإضماره لكونه حاضراً في الأذهان قال في "بحر العلوم" ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر أنزلنا أي : مثل ذلك الإنزال البين أنزلناه حال كونه {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} يعني : بلغة العرب ليفهموه ويقفوا على إعجازه وخروجه عن حد كلام البشر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 430
وفي "التأويلات النجمية" : أي كما أنزلنا الصحائف والكتب إلى آدم وغيره من الأنبياء بألسنتهم ولغاتهم المختلفة كذلك أنزلنا إليك قرآناً عربياً بلغة العرب وحقيقة كلامه التي هي الصفة القائمة بذاته منزهة عن الحروف والأصوات المختلفة المخلوقة وإنما الأصوات والحروف تتعلق باللغات والألسنة المختلفة
431
{وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} الصرف رد الشيء عن حالة إلى حالة أو إبداله بغيره ومثله التصريف إلا في التكثير وأكثر ما يقال في صرف الشيء من حالة إلى حالة ومن أمر إلى أمر وتصريف الرياح هو صرفها من حال إلى حال.
(5/331)
والوعيد التهديد بالفارسية (بيم نمودن) والمعنى بينا وكررنا في القرآن بعض الوعيد.
قال الكاشفي : (ون ذكر طوفان ورجفه وصيحه وخسف ومسخ) كما قال في "التأويلات النجمية" أي : أوعدنا فيه قومك بأصناف العقوبات التي عاقبنا بها الأمم الماضية وكررنا ذلك عليهم.
قال في "الكبير" يدخل تحته بيان الفرائض والمحارم لأن الوعيد بهما يتعلق {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي : يتقون الكفر والمعاصي بالفعل {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} أي : يجدد القرآن لهم إيقاظاً واعتباراً بهلاك من قبلهم مؤدياً بالآخرة إلى الاتقاء وإحداث الشيء إيجاده والحدوث كون الشيء بعد أن لم يكن عرضاً كان أو جوهراً {فَتَعَـالَى اللَّهُ} تفاعل من العلو وليست مرتبة شريفة إلا والحق تعالى في أعلى الدرجات منها وأرفعها وذلك لأنه مؤثر وواجب لذاته وكل ما سواه أثر وممكن ولا مناسبة بين الواجب والممكن.
قال في "الإرشاد" وهو استعظام له تعالى ولشؤونه التي يصرف عليها عباده من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد وغير ذلك أي : ارتفع بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله وأحواله {الْمَلِكُ} السلطان النافذ أمره ونهيه الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده {الْحَقُّ} في ملكوته وألوهيته الحقيقي بالملك لذاته {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ} يؤدي ويتم ويفرغ قال تعالى : {لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} (يونس : 11) أي : فرغ أجلهم ومدتهم المضروبة {وَحْيُهُ} إلقاؤه وقراءته كان عليه السلام إذا ألقى إليه جبريل الوحي يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة لكمال اغتنائه بالتلقي والحفظ فنهى عن ذلك إذ ربما يشغله التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها.
والمعنى لا تعجل بقراءة القرآن خوف النسيان والانفلات قبل أن يستتم جبريل قراءته ويفرغ من الإبلاغ والتلقين فإذا بلغ فاقرأه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 430
وفي "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى سكوته عند قراءة القرآن واستماعه والتدبر في معانيه وأسراره للتنور بأنواره وكشف حقائقه ولهذا قال : {وَقُل} أي : في نفسك {رَبِّ} (اى روردكار من) {زِدْنِى} (بيفزاي مرا) {عِلْمًا} أي : فهماً لإدراك حقائقه فإنها غير متناهية وتنوراً بأنواره وتخلقاً بخلقه.
وقال بعضهم علماً بالقرآن فكان كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد به علماً.
وقال محمد بن الفضل علماً بنفسي وما تضمره من الشرور والمكر والغدر لأقوم بمعونتك في مداواة كل شيء منها بدوائه.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا قرأها قال : اللهم زدني إيماناً ويقيناً بك وهو أجل التفاسير وأدقها لأنه علق الإيمان واليقين به تعالى دون غيره وهو أصعب الأمور كذا سمعت من شيخي وسندي قدس الله سره.
قيل : ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.
قال الكاشفي : (در لطائف قشيري رحمه الله مذكوراست كه حضرت موسى عليه السلام زيادة علم طلبيد اورا حواله بخضر كردند وبى طلب يغمبر مارا صلى الله عليه وسلّم دعاى زيادتي علم بياموخت وحواله بغير خود نكرد تا معلوم شودكه آنكه درمكتب ادب.
"أدبني
432
ربي" سبق {وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} (طه : 114) خوانده باشد هر آيينه دردركاه "علمك ما لم تكن تعلم" نكته "فعلمت علم الأولين والآخرين" بكوش هوش مستفيدان حقائق اشيا تواند رسانيد.
علمهاى انبياء واولياء
دردلش رخشنده ون شمس الضحى
عالمى كاموز كارش حق بود
علم اوبس كامل مطلق بود)
قال إبراهيم الهروي كنت بمجلس أبي يزيد البسطامي قدس سره فقال بعضهم إن فلاناً أخذ العلم من فلان قال أبو يزيد المساكين أخذوا العلوم من الموتى ونحن أخذنا العلم من حي لا يموت.
قال أبو بكر الكتاني قال لي الخضر عليه السلام كنت بمسجد صنعاء وكان الناس يستمعون الحديث من عبد الرزاق وفي زاوية المسجد شاب في المراقبة فقلت له لم لا تسمع كلام عبد الرزاق؟ قال : أنا أسمع كلام الرزاق وأنت تدعوني إلى عبد الرزاق فقلت له : إن كنت صادقاً فأخبرني من أنا فقال لي : أنت الخضر.
وفي الآية بيان لشرف العلم.
قال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر العلم نور من أنوار الله تعالى يقذفه في قلب من أراده من عباده وهو معنى قائم بنفس العبد يطلعه على حقائق الأشياء وهو للبصيرة كنور الشمس للبصر مثلاً بل أتم وفي الخبر : قيل يا رسول الله أي : الأعمال أفضل؟ قال : "العلم بالله" قيل الأعمال نريد قال : "العلم بالله" فقيل : نسأل عن العمل وتجيب عن العلم فقال عليه السلام : "إن قليل العمل ينفع مع العلم وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل" والمعتبر هو العلم النافع ولذلك قال عليه السلام : "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع" والعلم بالله لا يتيسر إلا بتصفية الباطن فتصفية القلب عما سوى الله تعالى من أعظم القربات وأفضل الطاعات ولذلك كان مطمح نظر الأكابر في إصلاح القلوب والسرائر ، قال الحافظ :
اك وصافى شو وازاه طبيعت بدر آى
كه صفايى ندهد آب تراب آلوده
(5/332)
جزء : 5 رقم الصفحة : 430
{وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ} يقال : عهد فلان إلى فلان بعهد أي : ألقى العهد إليه وأوصاه بحفظه والعهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال وسمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهداً وعهد الله تارة يكون بما ركزه في عقولنا وتارة يكون بما أمرنا به بكتابه وبألسنة رسله وتارة بما نلتزمه وليس بلازم في أصل الشرع كالنذور وما يجري مجراها وآدم أبو البشر عليه السلام قيل سمي بذلك لكون جسده من أديم الأرض وقيل لسمرة في لونه يقال رجل آدم نحو أسمر وقيل سمي بذلك لكونه من عناصر مختلفة وقوى مفترقة يقال جعلت فلاناً أدمة أهلي أي : خلطته بهم وقيل سمي بذلك لما طيب به من الروح المنفوخ فيه وجعل له من العقل والفهم والرؤية التي فضل بها على غيره وذلك من قولهم الإدام وهو ما يطيب به الطعام وقيل أعجمي وهو الأظهر والمعنى وبالله لقد أمرناه ووصيناه بأن لا يأكل من الشجرة وهي المعهودة ويأتي بيانه بعد هذه الآية {مِّن قَبْلِهِ} من قبل هذا الزمان {فَنَسِىَ} العهد ولم يهتم به حتى غفل عنه والنسيان بمعنى عدم الذكر أو تركه ترك المنسى عنه.
قال الراغب النسيان ترك الإنسان ضبط ما استودع إما لضعف قلبه وإما عن غفلة أو عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره وكل نسيان من الإنسان ذمه الله تعالى به فهو ما كان أصله عن تعمد وما عذر فيه نحو ما روى "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" فهو ما لم يكن
433
سببه منه {وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا} إن كان من الوجود العلمي فله وعزماً مفعولاه وقدم الثاني على الأول لكونه ظرفاً وإن كان من الوجود المقابل للعدم وهو الأنسب لأن مصب الفائدة هو المفعول وليس في الأخبار بكون العزم المعدوم له مزيد مزية فله متعلق به والعزم في اللغة توطين النفس على الفعل وعقد القلب على إمضاء الأمر.
والمعنى لم نعلم أو لم نصادف له تصميم رأى وثبات قدم في الأمور ومحافظة على ما أمر به وعزيمة على القيامة به إذ لو كان كذلك لما أزله الشيطان ولما استطاع تغريره وقد كان ذلك منه عليه السلام في بدء أمره من قبل أن يجرب الأمور ويتولى حارها وقارها ويذوق شريها وأريها لا من نقصان عقله فإنه أرجح الناس عقلاً كما قال عليه السلام : "لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه" وقد قال الله تعالى : {وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا} ومعنى هذا أن آدم مع ذلك أثر فيه وسوسته فكيف في غيره ، قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 433
دام سختست مكر لطف خدا يا رشود
ورنه آدم نبرد صرفه ز شيطان رجيم
قيل : لم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعاً عن الإنسان فكان مؤاخذاً به وإنما رفع عنا.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ} أي : من قبل أن يكون أولاً وأن لا يتعلق بغيرنا ولا ينقاد لسوانا فلما دخل الجنة ونظر إلى نعيمها {فَنَسِىَ} عهدنا وتعلق بالشجرة وانقاد للشيطان {وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا} يشير إلى أن الله تعالى لما خلق آدم وتجلى فيه بجميع صفاته صارت ظلمات صفات خليقته مغلوبة مستورة بسطوات تجلى أنوار صفات الربوبية ولم يبق فيه عزم التعلق بما سواه والانقياد لغيره فلما تحركت فيه دواعي البشرية الحيوانية وتداعت الشهوات النفسانية الإنسانية واشتغل باستيفاء الحظوظ نسي أداء الحقوق ولهذا سمي الناس ناساً لأنه ناس فنشأت له من تلك العاملات ظلمات بعضها فوق بعض وتراكمت حتى صارت غيوم شموس المعارف وأستار أقمار العوارف فنسي عهود الله ومواثيقه وتعلق بالشجرة المنهي عنها.
قال العلامة : يا إنيسان عادتك النسيان أذكر الناس ناسسٍ وأرق القلوب قاسسٍ.
قال أبو الفتح البستي في الاعتذار من النسيان إلى بعض الرؤساء :
يا أكثر الناس إحساناً إلى الناس
يا أحسن الخلق إعراضاً عن الباس
نسيت وعدك والنسيان مغتفر
فاغفر فأول ناس أول الناس
قال علي رضي الله عنه : عشرة يورثن النيسان : كثرة الهم ، والحجامة في النقرة ، والبول في الماء الراكد ، وأكل التفاح الحامض ، وأكل الكزبرة ، وأكل سؤر الفار ، وقراءة ألواح القبور ، والنظر إلى المصلوب ، والمشي بين الجملين المقطورين ، وإلقاء القملة حية كما في "روضة الخطيب" لكن في قاضي خان لا بأس بطرح القملة حية والأدب أن يقتلها.
وزاد في المقاصد الحسنة مضغ العلك أي : للرجال إذا لم يكن من علة كالبخر ولا يكره للمرأة إن لم تكن صائمة لقيامه مقام السواك في حقهن لأن سنها أضعف من سن الرجال كسائر أعضائها فيخاف من السواك سقوط سنها وهو ينقي الأسنان وتشد اللثة كالسواك.
واعلم أن من أشد أسباب النسيان العصيان فنسأل الله العصمة والحفظ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 433
{وَإِذْ قُلْنَا} أي : واذكر يا محمد وقت قولنا {للملائكة} أي : لمن في الأرض والسماء منهم عموماً كما سبق تحقيقه {اسْجُدُوا لادَمَ} سجود تحية
434
(5/333)
وتكريم.
وقال البيضاوي اذكر حاله في ذلك الوقت ليتبين لك أنه نسي ولم يكن من أولى العزيمة والثبات انتهى.
وفيه إشارة إلى استحقاقه لسجودهم لمعان جمة : منها لأنه خلق لأمر عظيم هو الخلافة فاستحق لسجودهم ، ومنها لأن الله تعالى جعله مجمع مجرى عالمي الخلق والأمر والملك والملكوت والدنيا والآخرة فما خلق شيئاً في عالم الخلق والدنيا إلا وقد جعل في قالبه أنموذجاً منه وما خلق شيئاً في عالم الأمر والآخرة إلا وقد أودع في روحه حقائقه وأما الملائكة فقد خلقت من عالم الأمر والملكوت دون عالم الخلق والملك فبهذه النسبة اختص آدم بالكمال وما دونه بالنقصان فاستحق السجود والكمال ، ومنها لأنه خلق روحه في أحسن تقويم من بين سائر الأرواح من الأرواح الملكية وغيرها وخلقت صورته في أحسن صورة على صورة الرحمن والملائكة وإن خلقت في حسن ملكي روحاني لم يخلقوا في حسن صورته فله الأفضلية في كلا الحالين فاستحق لسجودهم بالأفضلية ، ومنها لأنه شرف في تسوية قالبه بتشريف خمر طينة آدم بيده أربعين صباحاً وباختصاص لما خلقت بيدي وأكرم في تعلق روحه بالقالب بكرامة ونفخت فيه من روحي فألزمهم سجود الكرامة بقوله فقعوا له ساجدين وأثبت له استحقاق سجودهم بقوله : "يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" ومنها لأنه اختص بعلم الأسماء كلها وأنهم قد احتاجوا في أنباء أسمائهم كما قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فوجب عليهم أداء حقوقه بالسجود ، ومنها : لأنه لما خلقه الله تعالى تجلى فيه بجميع صفاته فاسجد الله تعالى ملائكته إياه تعظيماً وتكريماً وإعزازاً وإجلالاً فإنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فسجدوا إلا إبليس أبى أن يسجد وذلك لأن الله تعالى لما قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة إلي ونقدس لك كان هذا الكلام منهم نوع اعتراض على الله وجنس غيبة لآدم وإظهار فضيلة لأنفسهم عليه فأجابهم الله بقوله إني أعلم ما لا تعلمون أي : إني أودعت فيه من علم الأسماء واستعداد الخلافة ما لا تعرفونه به فله الفضيلة عليكم فاسجدوا له كفارة لاعتراضكم واستغفاراً لغيبته وتواضعاً لأنفسكم فأقر الملائكة واعترفوا بما جرى عليهم من الخطأ وتابوا واستسلموا لأحكام الله تعالى فسجدوا لآدم وأما إبليس فقد أصر على ذنب الاعتراض والغيبة والعجب بنفسه ولم يستسلم لأحكام الله وزاد في الاعتراض والغيبة والعجب فقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين وأبى أن يسجد كذا في "التأويلات" {فَسَجَدُوا} تعظيماً لأمر ربهم وامتثالاً له {إِلا إِبْلِيسَ} فإنه لم يسجد ولم يطرح أردية الكبر ولم يخفض جناحه ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 433
آنكه آدم را بدن ديد اورميد
وانكه نور مؤتمن ديد او خميد
يقال أبلس يئس وتحير ومنه إبليس أو هو أعجمي كما في "القاموس" كأنه قيل ما باله لم يسجد فقيل : {أَبَى} السجود وامتنع منه.
قال في "المفردات" : الإباء شدة الامتناع فكل إباء امتناع وليس كل امتناع إباء.
{فَقُلْنَا} عقيب ذلك اعتناء بنصحه يا اـاَادَمُ إِنَّ هَـاذَا} الحقير الذي رأيت ما فعل {عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} حواء والزوج اسم للفرد بشرط أن يكون معه آخر من جنسه ذكراً كان أو أنثى.
ولعداوته وجوه :
الأول : أنه كان حسوداً فلما رأى
435
نعم الله على آدم حسده فصار عدواً له.
وفيه إشارة إلى أن كل من حسد أحداً يكون عدواً له ويريد هلاكه ويسعى في إفساد حاله.
والثاني أنه كان شاباً عالماً وإبليس شيخاً جاهلاً لأنه أثبت فضيلته بفضيلة أصله وأنه جهل والشيخ الجاهل يكون أبداً عدو الشاب العالم :
زد شيخ شهر طعنه بر اسرار اهل دل
المرء لا يزال عدواً لما جهل
(5/334)
والثالث أنه مخلوق من النار وآدم من الماء والتراب وبين أصليهما عداوة فبقيت العداوة فيهما {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ} أي : لا يكونن سبباً لإخراجكما منها فهو من قبيل إسناد الفعل إلى السبب وإلا فالمخرج حقيقة هو الله تعالى وظاهره وإن كان نهي إبليس عن الإخراج إلا أن المراد نهيهما من أن يكونا بحيث يتسبب الشيطان في إخراجهما منها بالطريق البرهاني {فَتَشْقَى} جواب للنهي وإسناد الشقاء إليه لرعاية الفواصل ولأصالته.
قال في المفردات الشقاوة خلاف السعادة وكما أن السعادة ضربان سعادة دنيوية وسعادة أخروية ثم السعادة الدنيوية ثلاثة أضرب : سعادة نفسية ، وبدنية ، وخارجية ، كذلك الشقاوة على هذه الأضرب وفي الشقاوة الأخروية قال تعالى : {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} وفي الدنيوية {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} انتهى وقد يوضع الشقاء موضع التعب نحو شقيت في كذا كما قال في "القاموس" الشقا الشدة والعسر ويمد انتهى.
فالمعنى لا تباشر أسباب الخروج فيحصل الشقاء وهو الكد والتعب الدنيوي مثل الحرث والزرع والحصد والطحن والعجن والخبز ونحو ذلك مما لا يخلو الناس عنه في أمر تعيشهم ويؤيده ما بعد الآية.
قال الكاشفي : (فتشقى كه تودر رنج افتى يعنى ون از بهشت بيرون روى بكديمين وعرق جبين اسباب معاش مهيا بايدكرد).
عن سعيد بن جبير أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فذلك شقاوة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 433
يقول الفقير : الظاهر أن الشيطان بسبب عداوته لا يخلو عن تحريض فعل يكون سبباً للخروج فالشقاوة في الحقيقة متفرعة على مباشرة أمر منهي عنه فافهم.
وفي "التأويلات النجمية" : هي شقاوة البعد عن الحضرة إن لم يرجع إلى مقام قربه من جوار الحق بالتوبة والاستغفار.
وفيه إشارة إلى أن العصيان وامتثال الشيطان موجب للإخراج من جنة القلب والهبوط إلى أرض البشرية بعد الصعود عنها والعبور عليها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 433
{إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا} لك خبر أنّ وأن لا تجوع في محلّ النصب على الاسمية أي : قلنا إن حالك ما دمت في الجنة عدم الجوع إذ النعم كلها حاضرة فيها {وَلا تَعْرَى} من الثياب لأن الملبوسات كلها موجودة في الجنة والعرى الجلد عما يستره.
{وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيهَا} أي : لا تعطش لأن العيون والأنهار جارية على الدوام.
قال الراغب : الظمىء ما بين الشربتين والظمأ العطش الذي يعرض من ذلك {وَلا تَضْحَى} أي : لا يصيبك حر الشمس في الجنة إذ لا شمس فيها وأهلها في ظل ممدود يقال ضحى الرجل للشمس بكسر الحاء إذا برز وتعرض لها وأن بالفتح مع ما في حيزها عطف على أن لا تجوع وفصل الظمأ دفعاً لتوهم أن نفيهما نعمة واحدة وكذا الحال في الجمع بين العرى والضحو.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الجنة وإن كانت باقية وهي جوار الحق لكنها مرتعة من مراتع النفس البهيمية الحيوانية ولها
436
فيها تمتع من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمنكوحات كما كان لها في المراتع الدنيوية الفانية انتهى.
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَـانُ} أي : أنهى إلى آدم وسوسته وأبلغ فتعديته بإلى باعتبار تضمينه معنى الإنهاء والإبلاغ وإذا قيل وسوس له فمعناه لأجله والوسوسة الصوت الخفي ومنها وسواس الحلى لأصواتها وهو فعل لازم.
قال الكاشفي : (س وسوسه كرد بسوى آدم شيطان س آزانكه ببهشت درآمد وحوارا ديد وازمرك بترسانيد وحوا با آدم بازكفت وآدم ازمرك ترسان شده بابليس كه بصورته بيرى برايشان ظاهر شده بوديدو رجوع كرده بود بطريق تضرع ازوى علاج مرك طلبيد) {قَالَ} أما بدل من وسوس أو استئناف كأنه قيل فماذا قال في وسوسته فقيل قال : يا اـاَادَمُ} (علاج اين مرض خوردن ميوه شجره خلداست) {هَلْ أَدُلُّكَ} (آيادلالت كنم ترا) {عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} أي : شجرة من أكل منها خلد ولم يمت أصلاً سواء كان على حاله أو بأن يكون ملكاً فإضافها إلى الخلد وهو الخلود لأنها سببه بزعمه كما قيل لحيزوم فرس الحياة لأنها سببها.
قال الراغب الخلود تبرى الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها من غير اعتراض الكون والفساد عليها {وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} أي : لا يزول ولا يختل بوجه من الوجوه ، وبالفارسية : (كهنه نشود آدم كفت دلالت كن مرابا آن ابليس راهنمون شد آدم وحوارا بشجره منهيه).
جزء : 5 رقم الصفحة : 436
(5/335)
{فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} يقال بدا الشيء بدوّا ظهر ظهوراً بيناً وكنى عن الفرج بالسوءة لأنه يسوء الإنسان انكشافه أي : يغمه ويحزنه.
قال الكاشفي : (يعني لباس جنت ازايشان بريخت وبرهنه شدند).
قال ابن عباس : إنهما عريا عن النور الذي كان الله البسهما إياه حتى بدت فروجهما.
وقيل : كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع.
وقيل : كان لباسهما لخلة.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قال عليه السلام : "إن أباكم آدم كان رجلاً طويلاً كالنخلة السحوق كثير الشعر مواري العورة فلما واقع الخطيئة بدت سوءته فانطلق في الجنة هارباً فمر بشجرة فأخذت بناصيته فأجلسته فناداه ربه أفراراً مني يا آدم؟ قال : لا يا رب ولكن حياء منك".
قال الحصيري : بدت لهما ولم تبد لغيرهما لئلا يعلم الأغيار من مكافأة الجناية ما علما ولو بدت للأغيار لقال بدت منهما {وَطَفِقَا} شرعاً يقال طفق يفعل كذا أي : أخذ وشرع ويستعمل في الإيجاب دون النفي لا يقال ما طفق {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} في "القاموس" خصف النعل يخصفها خرزها والورق على بدنه ألزقها وأطبقها عليه ورقة ورقة أي : يلزقان الورق على سوءاتهما للتستر وهو ورق التين قيل كان مدوراً فصار على هذا الشكل من تحت أصابعهما {وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ} بأكل الشجرة ، يعني : (خلاف كرد آدم امر روردكار خودرا درخوردن درخت) يقال عصى عصيان إذا خرج عن الطاعة وأصله أن يتمنع بعصاه كما في المفردات {فَغَوَى} ضل عن مطلوبه الذي هو الخلود أو عن المأمور به وعن التباعد عن الشجرة في ضمن ولا تقربا هذه الشجرة أو عن الرشد حيث اغتر بقول العدو لأن الغي خلاف الرشد.
واعلم أن
437
المعصية فعل محرم وقع عن قصد إليه والزلة ليست بمعصية ممن صدرت عنه لأنها اسم لفعل حرام غير مقصود في نفسه للفاعل ولكن وقع عن فعل مباح قصده فإطلاق اسم المعصية على الزلة في هذه الآية مجاز لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكبائر والصغائر لا من الزلات عندنا وعند بعض الأشعرية لم يعصموا من الصغائر وذكر في "عصمة الأنبياء" ليس معنى الزلة أنهم زلوا عن الحق إلى الباطل ولكن معناها أنهم زلوا عن الأفضل إلى الفاضل وأنهم يعاتبون به لجلال قدرهم ومكانتهم من الله تعالى.
قال ابن الشيخ في "حواشيه" العصيان ترك الأمر وارتكاب المنهى عنه وهو إن كان عمداً يسمى ذنباً وإن كان خطأ يسمى زلة والآية دالة على أنه عليه السلام صدرت عنه المعصية والمصنف سماها زلة حيث قال وفي النعي عليه بالعصيان والغواية مع صغر زلته تعظيم الزلة وزجر بليغ لأولاده عنها انتهى بناء على أنه إنما ترك الانتهاء عن أكل الشجرة اجتهاداً لا بأن تعمد المعصية ووجه الاجتهاد أنه عليه السلام حمل النهي على التنزيه دون التحريم وحمل قوله تعالى : {هَـاذِهِ الشَّجَرَةِ} على شجرة بعينها دون جنسها ومع ذلك الظاهر أن هذه الواقعة إنما كانت قبل نبوته.
جزء : 5 رقم الصفحة : 436
وفي "الأسئلة المقحمة" : فإن قيل فإذا كان هذا خطأ في الاجتهاد ومن اجتهد فأخطأ لا يؤخذ به فكيف آخذ آدم بذلك قلنا لم يكن هذا موضع الاجتهاد إذا كان الوحي يتواتر عليه نزوله فكان تفريطه لو اجتهد في غير الاجتهاد.
فإن قيل فهل أوحي إليه ليعلم ذلك؟ قلنا : انقطع عنه الوحي ليقضي الله تعالى ما أراده كما انقطع عن الرسول عليه السلام ثمانية عشر يوماً وقت أفك عائشة رضي الله عنها ليقضي الله تعالى ما أراده.
وفي "الكبير" فإن قيل دل هذا على الكبيرة لأن العاصي اسم ذم فلا يليق إلا بصاحب الكبيرة ولأن الغواية ترادف الضلالة وتضاد الرشد ومثله لا يتناول إلا المنهمك في الفسق وأجيب بأن المعصية خلاف الأمر والأمر قد يكون بالمندوب ويقال أمرته بشرب الدواء فعصاني فلم يبعد إطلاقه على آدم لا لأنه ترك الواجب بل لأنه ترك المندوب.
وفيه أيضاً ليس لأحد أن يقول كان آدم عاصياً غاوياً لوجوه :
الأول قال العتبي : يقال للرجل قطع ثوباً وخاطه قد قطعه وخاطه ولا يقال خائط وخياط إلا إذا عاود الفعل فكان معروفاً به والزلة لم تصدر من آدم إلا مرة فلا تطلق عليه.
والثاني : أن الزلة إن وقعت قبل النبوة لم يجز بعد أن شرف الله تعالى بالرسالة إطلاقها عليها وإن كانت بعد النبوة فكذلك بعد أن تاب كما لا يقال للمسلم التائب إنه كافر أو زان أو شارب خمر اعتباراً بما قبل إسلامه وتوبته.
والثالث : أن قولنا عاص وغاو يوهم عصيانه في الأكثر وغوايته عن معرفة الله والمراد في القصة ليس ذلك فلا يطلق دفعاً للوهم الفاسد.
والرابع : يجوز من الله ما لا يجوز من غيره كما يجوز للسيد في ولده وعبده عند المعصية قول ما لا يجوز لغيره.
قال الحسن : والله ما عصى إلا بنسيان.
قال جعفر طالع الجنان ونعيمها فنودي عليه إلى يوم القيامة وعصى آدم ولو طالعها بقلبه لنودي عليه بالهجران إلى أبد الآباد.
(5/336)
وفي "التأويلات النجمية" : {وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ} بصرف محبته في طلب شهوات نفسه {فَغَوَى} بصرف الفناء في الله في طلب الخلود وملك البقاء في الجنة انتهى ، وفي "المثنوي" :
جيست توحيد خدا آموختن
خويشتن را يش واحد سوختن
كرهمى خواهى كه بفروزى وروز
هستىء همون شب خودرا بسوز
438
هستيت درهست آن هستى هواز
همومس دركيميا اندر كداز
سئل ابن عطاء عن قصة آدم أن الله تعالى نادى عليه بمعصية واحدة وستر على كثير من ذريته فقال : إن معصية آدم كانت على بساط القربة في جواره ومعصية ذريته في دار المحنة فزلته أكبر وأعظم من زلتهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 436
{ثُمَّ اجْتَبَـاهُ رَبُّهُ} اصطفاه وقربه بالحمل على التوبة والتوفيق لها من اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه أي : جمعه {فَتَابَ عَلَيْهِ} أي : قبل توبته حين تاب هو وزوجته قائلين {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} {وَهَدَى} أي : إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب العصمة.
وفيه إشارة إلى أنه لو وكل إلى نفسه وغريزته التي جبل عليها ما كانت التوبة من شأنه ولا الرجوع إلى الله من برهانه ولكنّ الله بفضله وكرمه اجتباه وبجذبة العناية رفاه وإلى حضرة الربوبية هداه وفي الحديث "لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاؤه أكثر ولو جمع ذلك إلى بكاء نوح لكان أكثر" وإنما سمي نوحاً لنوحه على نفسه "ولو جمع ذلك كله إلى بكاء آدم على خطيئته لكان أكثر" ، وفي "المثنوي" :
خاك غم را سرمه سازم بهر شم
تاز كوهر رشود دوبحر شماشك كان ازبهر او بارند خلق
كوهرست واشك ندارند خلق
توكه يوسف نيستى يعقوب باش
همو اوبا كريه وآشوب باشيش يوسف نازش وخوبى مكن
جزنياز وآه يعقوبى مكن
آخر هركريه آخر خنده ابست
جزء : 5 رقم الصفحة : 439
مرد آخر بين مبارك بنده ايست قال وهب لما كثر بكاؤه أمره الله بأن يقول : "لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوأ وظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين" فقالها ثم قال : "قل سبحانك لا إله إلا أنت عملت سوء وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الراحمين" ثم قال : "قل سبحانك لا إله إلا أنت عملت سوء وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب" قال ابن عباس رضي الله عنهما هي الكلمات التي تلقيها آدم من ربه.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لما اعترف آدم بالخطيئة قال : يا رب أسألك بحق محمد أن تغفر لي فقال الله : يا آدم كيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال : لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا اسم أحب الخلق إليك فقال الله تعالى : صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إليّ فغفرت لك ولولا محمد ما خلقتك" رواه البيهقي في "دلائله" قال بعض الكبار إنه من لطفه وكرمه عاقب آدم في الدنيا بالمجاهدات الكثيرة بما جرى عليه من المعصية ويعاقب الجمهور في الآخرة بما جرى عليهم من المعصية في الدنيا وفي هذا خاصية له لأن عقوبة الدنيا أهون وقال مثل الشيطان مثل حية تمشي على وجه الأرض إلى رأس كنز وخلفها إنسان ليقتلها فلما ضربها وجد تحت ضربه كنزاً فصار الكنز له وصارت الحية مقتولة وبلغ إلى الأمرين العظيمين البلوغ إلى المأمول والفلاح من العدو فكذا شأن آدم مع الملعون دله على كنز من كنوز الربوبية غرضه العداوة والضلالة فوصل آدم إلى
439
الاجتبائية الأبدية بعد الاصطفائية الأزلية وبلغ الملعون إلى اللعنة الأزلية الأبدية.
قال ابن عطاء : اسم العصيان مذموم إلا أن الاجتباء والاصطفاء منعاً أن يلحق آدم اسم المذمة.
قال الواسطي العصيان لا يؤثر في الاجتبائية وفي الحديث : "احتج آدم وموسى" احتجاجاً روحانياً أو جسمانياً بأن أحياهما واجتمعا كما ثبت في حديث الإسراء إنه عليه السلام اجتمع مع الأنبياء وصلى بهم "فقال موسى يا آدم أنت أبونا الذي خيبتنا" أي : كنت سبباً لخيبتنا عن سكون الجنة من أول الأمر "وأخرجتنا من الجنة بخطيئتك التي خرجت بها منها" قال الحافظ :
من ملك بودم فردوس برين جايم بود
آدم آورد درين دير خراب آبادم
(5/337)
"فقال له آدم : أنت موسى اصطفاك الله بكلامه" أي : جعلك كليمه "وخط لك التوراة بيده أتلومني" همزة الاستفهام فيه للإنكار "على أمر قدره الله عليّ" أي : كتبه في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقني بأربعين سنة المراد منه التكثير لا التحديد.
فإن قيل العاصي منا لو قال هذه معصية قدرها الله عليّ لم يسقط عنه اللوم فكيف أنكر آدم بهذا القول على كونه ملوماً.
قلنا : أنكر اللوم من العبد بعد عفو الله عن ذنبه ولهذا قال أتلومني ولم يقل أألام على بناء المجهول أو تقول اللوم على المعاصي في دار التكليف كان للزجر وفي غيرها لا يفيد فيسقط "فحج آدم موسى فحج آدم موسى" كرره للتأكيد يعني غلب بالحجة على موسى لأنه أحال ذلك على علم الله ونبه عليه بأنه غفل عن القدر السابق الذي هو الأصل وقصر النظر على السبب اللاحق الذي هو الفرع وزاد في بعض الروايات "قال آدم بكم وجدت الله كتب لك التوراة قبل أن أخلق قال موسى أربعين عاماً قال آدم فهل وجدت فيها وعصى رسول الله عليه السلام فحج آدم موسى" قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 439
عيب رندان مكن اى زاهدا كيزه سرشت
كه كناه دكران بر تو نخواهند نوشت
من اكرنيكم وكر بدتو برو خودرا باش
هركسى آن درود عاقبت كار كه كشت
وقال :
درين من نكنم سرزنش بخود رويى
نانكه رورشم ميدهند ميرويم
وقال :
نقش مستورى ومستى نه بدست من وتست
آنه سلطان ازل كفت بكن آن كردم
وقال :
عيبم مكن زرندى وبدنامى اى حكيم
كين بود سرنوشت زديوان قسمتم
وقال :
من اره عاشقم ورند ومست ونامه سياه
هزار شكر كه ياران شهر بى كنهند
{قَالَ} الله تعالى لآدم وحواء بعد صدور الزلة {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعَا} أي : انزلا من الجنة إلى الأرض هذا خطاب العتاب واللوم في الصورة وخطاب التكميل والتشريف في المعنى يقال هبط هبوطاً إذا نزل.
قال الراغب الهبوط الانحدار على سبيل القهر كهبوط الحجر قال تعالى : {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (البقرة : 74) وإذا استعمل في الإنسان الهبوط فعلى سبيل
440
الاستخفاف بخلاف الإنزال فإن الإنزال ذكره الله في الأشياء التي نبه على شرفها كإنزال القرآن والملائكة والمطر وغير ذلك والهبوط ذكره حيث نبه على البغض نحو {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} (البقرة : 36) وقال : {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} (الأعراف : 13) {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي : بعض أولادكم عدو لبعض في أمر المعاش كما عليه الناس من التجاذب والتحارب فيكون نظير قوله تعالى : {فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُمَا صَـالِحًا جَعَلا لَه شُرَكَآءَ} أي : جعل أولادهما وجمع الخطاب باعتبار أنهما أصل الذرية ومآله بعضكم يا ذرية آدم عدو لبعض.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنه جعل فيما بينهم العداوة لئلا يكون لهم حبيب إلا هو كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 77) ولما اختص آدم منهم بالاجتباء والاصطفاء وأهبطه إلى الأرض معهم للابتلاء وعده بالاهتداء فقال : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} يا ذرية آدم وحواء {مِّنِّى هُدًى} كتاب ورسول والأصل فإن يأتينكم وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط وما هذه مثل لام القسم في دخول النون المؤكدة معها وإنما جيء بكلمة الشك إيذاناً بأن إتيان الهدى بطريق الكتاب والرسول ليس بقطعي الوقوع وإنه تعالى إن شاء هدى وإن شاء ترك لا يجب عليه شيء ولك أن تقول إتيان الكتاب والرسول لما لم يكن لازم التحقق والوقوع أبرز في معرض الشك وأكد حرف الشرط والفعل بالنون دلالة على رجحان جهة الوقوع والتحقق {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ} أي : فمن آمن بالكتاب وصدق بالرسول {فَلا يَضِلُّ} في الدنيا عن طريق الدين القويم ما دام حياً {وَلا يَشْقَى} في الآخرة بالعقاب ، يعني : (برنج نيفتد در آخرت وبعقوبت وعذاب مبتلا نشود).
جزء : 5 رقم الصفحة : 439
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى} أي : الكتاب الذاكر لي والرسول الداعي إليّ والذكر يقع على القرآن وغيره من كتب الله كما سبق {فَإِنَّ لَهُ} في الدنيا {مَعِيشَةً ضَنكًا} ضيقاً مصدر وصف به مبالغة ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث.
والمعنى معيشة ذات ضنك وذلك لأن نظره مقصور على أغراض الدنيا وهو يتهالك على ازديادها وخائف من انتقاصها بخلاف المؤمن الطالب الآخرة مع أنه قد يضيق الله عليه بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإيمان.
واعلم أن من عقوبة المعصية ضيق المعيشة والرد إلى النفس والأجناس والأكوان من ضيق المعيشة.
(5/338)
وفي "التأويلات النجمية" الهدى في الحقيقة نور يقذفه الله في قلوب أنبيائه وأوليائه ليهتدوا به إليه وفي الصورة العلماء السادة والمشايخ القادة بعد الأنبياء والمرسلين {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ} بالتسليم والرضى والأسوة الحسنة {فَلا يَضِلُّ} عن طريق الحق {وَلا يَشْقَى} بالحرمان وحقيقة الهجران {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى} أي : عن ملازمة ذكري في اتباع هداي أي : إذا جاءه {فَإِنَّ لَه مَعِيشَةً ضَنكًا} أي : يعذب قلبه بذل الحجاب وسد الباب فإن الذكر مفتاح القلوب والإعراض عنه سد بابها :
ذكر حق مفتاح باشد أى سعيد
تا تبكشايى در جان بى كليد
ون ملك ذكر خدارا كن غذا
اين بود دائم معاش اوليا
{وَنَحْشُرُهُ} أي : المعرض.
قال في "بحر العلوم" : الحشر يجيىء بمعنى البعث والجمع والأول هو المراد هنا {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ أَعْمَى} فاقد البصر كما في قوله تعالى :
441
{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} (الإسراء : 97).
وفي "عرائس البقلى" : يعني جاهلاً بوجود الحق كما كان جاهلاً في الدنيا كما قال علي رضي الله عنه : من لم يعرف الله في الدنيا لا يعرفه في الآخرة {قَالَ} استئناف بياني {رَبِّ} (اى روردكارمن) {لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} أي : في الدنيا.
جزء : 5 رقم الصفحة : 441
{قَالَ كَذَالِكَ} أي : مثل ذلك فعلت أنت ثم فسر بقوله : {قَالَ كَذَالِكَ} أي : آيات الكتاب أو دلائل القدرة وعلامات الوحدة واضحة نيرة بحيث لا تخفى على أحد {فَنَسِيتَهَا} أي : عميت عنها وتركتها ترك المنسي الذي لا يذكر أصلاً {وَكَذَالِكَ} أي : ومثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا {الْيَوْمَ تُنسَى} تترك في العمى والعذاب جزاء وفاقاً لكن لا أبداً كما قيل بل إلى ما شاء الله ثم يزيله عنه ليرى أهوال القيامة ويشاهد مقعده من النار ويكون ذلك له عذاباً فوق العذاب وكذلك البكم والصمم يزيلهما الله عنهم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا.
{وَكَذَالِكَ} أي : ومثل ذلك الجزاء الموافق للجناية {نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ} في عصيانه والإسراف مجاوزة الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر {وَلَمْ يُؤْمِنا بآيات رَبِّهِ} أي : بالقرآن وسائر المعجزات بل كذبها وأعرض عنها {وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ} على الإطلاق أو عذاب النار {أَشَدُّ} مما نعذبهم به في الدنيا من ضنك العيش ونحوه {وَأَبْقَى} وأدوم لعدم انقطاعه فمن أراد أن ينجو من عذاب الله وينال ثوابه فعليه أن يصبر على شدائد الدنيا في طاعة الله ويجتنب المعاصي وشهوات الدنيا فإن الجنة قد حفت بالمكاره وحفت النار بالشهوات كما ورد دعا الله جبريل فأرسله إلى الجنة فقال : انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فرجع فقال : وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فحفت بالمكاره فقال : ارجع إليها فانظر فرجع فقال : وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ثم أرسله إلى النار فقال : انظر إليها وما أعددت لأهلها فرجع إليه فقال : وعزتك لا يدخلها أحد يسمع بها فحفت بالشهوات فقال : عد إليها فانظر فرجع فقال : وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها.
ـ روي ـ أن أهل النار إذا انتهوا إلى أبوابها استقبلتهم الزبانية بالأغلال والسلاسل وتسلك السلسلة في فيه وتخرج من دبره وتغل يده اليسرى إلى عنقه وتدخل يده اليمنى في فؤاده وتنزع من بين كتفيه ويشد بالسلاسل ويقرن كل آدمي مع شيطان في سلسلة ويسحب على وجهه تضربه الملائكة بمقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وفي الحديث "إن أدنى أهل النار عذاباً الذي يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه في رأسه".
فعلى العاقل أن يجتنب أسبابالعذاب والعمى ويجتهد أن لا يحشر أعمى وأشد العذاب عذاب القطيعة من الله الوهاب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 441
بعد حق بأشد عذاب مستهين
از نعيم قرب عشرت سازهين
هركه نا بينا شود ازآى هو
ماند در تاريك مردمهاى او
جزء : 5 رقم الصفحة : 441
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ} الهمزة للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر.
والهداية بمعنى التبيين والمفعول محذوف والفاعل هو الجملة بمضمونها ومعناها وضمير لهم للمشركين المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلّم والقرون جمع قرن وهو القوم
442
(5/339)
المقترنون في زمن واحد.
والمعنى اغفلوا فلم يبين لهم مآل أمرهم كثرة إهلاكنا للقرون الأولى أو الفاعل الضمير العائد إلى الله.
والمعنى أفلم يفعل الله لهم الهداية فقوله : أهلكنا بيان لتلك الهداية بطريق الالتفات.
ومن القرون في محل النصب على أنه وصف لمميزكم أي : كم قرناً كائناً من القرون {يَمْشُونَ فِى مَسَـاكِنِهِمْ} حال من القرون أي : وهم في أمن وتقلب في ديارهم أو من الضمير في لهم مؤكداً للإنكار أي : أفلم يهد إهلاكنا للقرون السالفة من أصحاب الحجر وثمود وقريات قوم لوط حال كونهم ماشين في مساكنهم مارين بها إذا سافروا إلى الشام مشاهدين لآثار هلاكهم مع أن ذلك مما يوجب أن يهتدوا إلى الحق فيعتبروا لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك.
قال الراغب : المشي الانتقال من مكان إلى مكان بإرادة والسكون ثبوت الشيء بعد تحرك ويستعمل في الاستيطان نحو سكن فلان مكان كذا أي : استوطنه واسم المكان مسكن والجمع مساكن {إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي : في الإهلاك بالعذاب {لايَـاتٍ} كثيرة واضحة الهداية ظاهرة الدلالة على الحق فأذن هو هاد وأي هاد {لاوْلِى النُّهَى} جمع نهية بمعنى العقل أي : لذوي العقول الناهية عن القبائح وفيه دلالة على أن مضمون الجملة هو الفاعل لا المفعول ، وفي "المثنوي" :
س ساس اوراكه مار ادر جهان
كرد يدا از س يشينيانتاشنيديم آن سياستهاى حق
جزء : 5 رقم الصفحة : 442
برقرون ماضيه اندر سبق
استخوان وشم آن كركان عيان
بنكريد وند كيريد اى مهان
عاقل از سربنهد اين هستى وباد
ون شنيد آنجام فرعونان وعاد
ورنه بنهد ديكران از حال او
عبرتي كيرند از اضلال او
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} أي : ولولا الكلمة المتقدمة وهي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة أي : أمة الدعوة إلى الآخرة لحكمة تقتضيه يعني أن الكلمة إخبار الله ملائكته وكتبه في اللوح المحفوظ أن أمة محمد وإن كذبوا فسيؤخرون ولا يفعل بهم ما يفعل بغيرهم من الاستئصال لعلمه أن فيهم من يؤمن ولو نزل بهم العذاب لعمهم الهلاك {لَكَانَ} عقاب جناياتهم {لِزَامًا} أي : لزاماً لهؤلاء الكفرة بحيث لا تتأخر جناياتهم ساعة لزوم ما نزل بأولئك الغابرين عند التكذيب مصدر لازم وصف به للمبالغة {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} عطف على كلمة والفصل للإشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآي أي : ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم وهو يوم القيامة أو يوم بدر لما تأخر عذابهم أصلاً.
واعلم أن الله تعالى حرضهم على الإيمان من طريق العبرة والاستدلال رحمة منه تعالى ليعود نفعه إليهم لا له ، كما قال "المثنوي" :
ون خلقت الخلق كي يربح على
لطف توقر مورد أي : قيوم وحىلا لأن أربح عليهم جودنست
كه شود زو جمله ناقصها درست
وقع في الكلمات القدسية "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم
443
وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً" فعلى العاقل التمسك بكلمة التوحيد حذراً من وقوع الوعيد وفي الحديث "لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى" قيل يا رسول الله من ذا الذي أبى؟ قال : "من لم يقل لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها فإنها كلمة التوحيد وهي العروة الوثقى وهي ثمن الجنة".
ثم إن تأخير العقوبة يتضمن لحكم منها رجوع التائب وانقطاع حجة المصر فينبغي للعاقل المكلف أن يتعظ بمواعظ القرآن الكريم ويتقي القادر الحكيم ويجتهد في الطاعة والانقياد ولا يكون أسوأ من الجماد مع أن الإنسان أشرف المخلوقات وأبدع المصنوعات.
عن جعفر الطيار رضي الله عنه قال : كنت مع النبي عليه السلام في طريق فاشتد علي العطش فعلمه النبي عليه السلام وكان حذاءنا جبل فقال عليه السلام : "بلّغ مني السلام إلى هذا الجبل وقل له يسقيك إن كان فيه ماء" قال : فذهبت إليه وقلت : السلام عليك أيها الجبل فقال : بنطق فصيح لبيك يا رسول رسول الله فعرضت القصة فقال : بلغ سلامي إلى رسول الله وقل له منذ سمعت قوله تعالى : {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (البقرة : 24) بكيت لخوف أن أكون من الحجارة التي هي وقود النار بحيث لم يبق فيّ ماء يقال من لم ينزجر بزواجر القرآن ولم يرغب في الطاعات فهذا أشد قسوة من الحجارة وأسوء حالاً من الجمادات نسأل الله تليين القلوب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 442
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي : إذا كان الأمر على ما ذكر من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهال وإنه لازم لهم البتة فاصبر على ما يقولون فيك من كلمات الكفر والنسبة إلى السحر والجنون إلى أن يحكم فيهم فإن علمه عليه السلام بأنهم معذبون لا محالة مما يسليه ويحمله على الصبر.
(5/340)
وفي "التأويلات النجمية" على ما يقول أهل الاعتراض والإنكار لأنك محتاج في التربية إلى ذلك لتبلغ إلى مقام الصبر انتهى.
قال بعضهم : هذا منسوخ بآية السيف.
وفي "الكبير" هذا غير لازم لجواز أن يقاتل ويصبر على ما يسمع منهم من الأذى.
قال الراغب : الصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه فالصبر لفظ عام وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه فإن كان حبس النفس لمعصية يسمى صبراً لا غير ويضاده الجزع وإن كان في محاربة سمي شجاعة ويضاده الجبن وإن كان في نائبة سمي رحب الصدر ويضاده الضجر وإن كان في إمساك الكلام سمي كتماناً ويضاده البذل وقد سمي الله تعالى كل ذلك صبراً ونبه عليه بقوله : {وَالصَّـابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ} (البقرة : 7 ، 1) وقال تعالى : {وَالصَّـابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ} (الحج : 35) {وَالصَّـابِرِينَ وَالصَّـابِرَاتِ} (الأحزاب : 35) ويسمى الصوم صبراً لكونه كالنوع له {وَسَبِّحْ} ملتبساً {بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي : صل حامداً لربك على هدايته وتوفيقه بطريق إطلاق اسم الجزء على الكل لأن التسبيح وذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة وينسى جميع ما أصاب من الغموم والأحزان {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد : 28) {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} المراد صلاة الفجر وفي الخبر "إن الذكر والتسبيح إلى طلوع الشمس أفضل من إعتاق ثمانين رقبة من ولد إسماعيل" خص إسماعيل بالذكر لشرفه وكونه أبا العرب {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} يعني صلاتي الظهر والعصر لأنهما قبل غروبها بعد زوالها {وَمِنْ ءَانَآىاِ الَّيْلِ} أي : بعض ساعاته جمع أنى بالكسر والقصر كمعى وأمعاء واناء بالفتح والمد {فَسَبِّحْ}
جزء : 5 رقم الصفحة : 442
فصل والمراد المغرب والعشاء وتقديم الوقت فيهما
444
لاختصاصهما بمزيد الفضل فإن القلب فيهما أجمع والنفس إلى الاستراحة أميل فتكون العبادة فيهما أشق {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} أمر بالتطوع أجزاء النهار.
وفي "العيون" هو بالنصب عطف على ما قبله من الظروف أي : سبح فيها وهي صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار لإرادة الاختصاص كما في قوله تعالى : {حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَواةِ الْوُسْطَى} (البقرة : 238) صلاة العصر عند بعض المفسرين.
وفي "الجلالين" قبل غروبها صلاة العصر وأطراف النهار صلاة الظهر في طرف النصف الثاني ويسمى الواحد باسم الجمع.
وقال الطبري قبل غروبها وهي العصر ومن آناء الليل هي العشاء الآخرة وأطراف النهار الظهر والمغرب لأن الظهر في آخر الطرف الأول من النهار وفي أول الطرف الثاني فكأنها بين طرفين والمغرب في آخر الطرف الثاني فكانت أطرافاً انتهى.
وبهذا احتج الشيخ أبو القاسم الفزاري في "الأسئلة المقحمة" : وقد مضى ما يناسب هذه الآية في أواخر سورة هود وسيأتي في سورة ق أيضاً {لَعَلَّكَ تَرْضَى} متعلق بسبح أي : سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عنده تعالى ما ترضى به نفسك ويسر به قلبك.
وقال الكاشفي : (خوشنودى در اصح اقوال بكرامتى ماشدكه خداى تعالى اورا عطا دهد وآن شفاعت امتست ونكته {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} تقويت اين قول ميكند) :
امت همه جسمند وتويى جان همه
ايشان همه آن تو وتو آن همه
خوشنودى توجست خدادر محشر
خوشنود نه مكر بغفران همه
جزء : 5 رقم الصفحة : 442
(5/341)
واعلم أن الاشتغال بالتسبيح استنصار من المسبح للنصر على المكذبين وأن الصلاة أعظم ترياق لإزالة الألم ولذا كان النبي عليه السلام إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة وكان آخر ما أوصى به الصلاة وما ملكت أيمانكم والآية جامعة لذكر الصلوات الخمس.
عن جرير بن عبد الله كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فرأى القمر ليلة البدر فقال : "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامّون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وسبح بحمد ربك" الآية قوله : {لَعَلَّكَ تَرْضَى} بتشديد الميم من الضم أي : لا يضم بعضكم بعضاً ولا يقول أرنيه بل كل ينفرد برؤيته فالتاء مفتوحة والأصل تتضامون حذفت منه إحدى التاءين وروى بتخفيف الميم من الضيم وهو الظلم فالتاء مضمومة يعني لا ينالكم ضيم بأن يرى بعضكم دون بعض بل تستوون كلكم في رؤيته تعالى وفي الحديث : "إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً" يقال : من داوم على الصلوات الخمس في الجماعة يرفع الله عنه ضيق العيش وعذاب القبر ويعطي كتابه بيمينه ويمر على الصراط كالبرق ويدخل الجنة بغير حساب ومن تهون في الصلاة في الجماعة يرفع الله البركة من رزقه وكسبه وينزع سيما الصالحين من وجهه ولا يقبل منه سائر عمله ويكن بغيضاً في قلوب الناس ويقبض روحه عطشان جائعاً يشق نزعه ويبتلي في القبر بشدة مسألة منكر ونكير وظلمة القبر وضيقه وبشدة الحساب وغضب الرب وعقوبة الله في النار وفي الحديث : "أمتي أمة مرحومة" وإنما يدفع الله عنهم البلايا بإخلاصهم وصلواتهم ودعائهم وضعفائهم" وعن قتادة أن دانيال النبي عليه السلام نعت أمة محمد فقال :
445
يصلون صلاة لو صلاها قوم نوح ما أغرقوا ولو صلاها قوم عاد ما أرسلت عليهم الريح ولو صلاها ثمود ما أخذتهم الصيحة فعلى المؤمن أن لا ينفك عن الصلاة والدعاء والالتجاء إلى الله تعالى {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أصل المد الجر ومنه المدة للوقت الممتد وأكثر ما جاء الإمداد في المحبوب والمد في المكروه نحو وأمددناهم بفاكهة ونمد له من العذاب مداً والعين الجارحة بخلاف البصر ولذا قال تعالى في الحديث القدسي "كنت له سمعاً وبصراً" دون أذناً وعيناً والمعنى لا تطل نظرهما بطريق الرغبة والميل.
وقال بعضهم مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه وإعجاباً به وتمنياً أن له مثله.
وفيه دليل على أن النظر الغير الممدود معفو عنه لأنه لا يمكن الاحتراز منه وذلك أن يباده الشيء بالنظر ثم يغض الطرف ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع وأن من أبصر منها شيئاً أحب أن يمد إليه نظره ويملأ عينيه قيل له عليه السلام :
جزء : 5 رقم الصفحة : 442
(5/342)
{لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أي : لا تفعل ما عليه جبلة البشر.
قال الكاشفي أبو رافع رضي الله عنه : (نقل ميكندكه مهماني نزد يغمبر آمد ودرخانه يزى نبودكه بدان إصلاح شان مهمان توانستي نمود مرا بنزديك يكى ازيهود فرستاد وكفت اورا بكوكه محمد رسول الله ميكويدكه مهمانى بمنزل ما نزول نوده ونمى يابيم نزديك خود يزى كه بدان إصلاح شان مهمان توانستى نمود ونمى يابيم نزديك خود يزى كه بدان شرائط ضيافت بتقديم رسد اين مقدار آرد بما بفروش ومعامله كن تاهلال رجب ون وقت برسدبها بفرستم من يغام به يهودى رسانيدم واوكفت نمى فروشم ومعامله نميكنم مكر آنكه يزى دركرو من نهيد من باحضرت مراجعت نمودم وصورت حال بازكفتم حضرت فرمود والله إني لأمين في السماء وأمين في الأرض اكربا من معامله كردى البته حق اورا اداكردمى س زره خود بمن داد تانزديك او كرو كردم اين آيت جهت تسليت دل مبارك وى نازل شد {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} وباز مكش نظر شمهاى خودرا يعنى منكر) {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} نفعنا به من زخارف الدنيا ومنه متاع البيت لما ينتفع به وأصل المتوع الامتداد والارتفاع يقال متع النهار ومتع النبات ارتفع والمتاع انتفاع ممتد الوقت ، والمعنى بالفارسية : (بسوى آن يزى كه برخوردار كردانيديم بدان يزى).
وفي "الكبير" : ألذذنا به والامتاع الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة ويسمع من الأصوات المطربة ويشم من الريح الطيبة وغير ذلك من الملابس والمناكح {أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} أي : أصنافاً من الكفرة كالوثنى والكتابي من اليهود والنصارى وهو مفعول متعنا {زَهْرَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} منصوب بفعل يدل عليه متعنا أي : أعطينا زينة الدنيا وبهجتها ونضارتها وحسنها.
قال الواسطي : هذه تسلية للفقراء وتعزية لهم حيث منع خير الخلق عن النظر إلى الدنيا على وجه الاستحسان {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي : لنعاملهم فيما أعطينا معاملة من نبتليهم حتى يستوجبوا العذاب بأن نزيد لهم النعمة فيزيدوا كفراً وطغياناً فمن هذه عاقبته فلا بد من التنفر عنه فإنه عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان.
وقد شدد العلماء من أهل التقوي في وجوب غض البصر عن الظلمة وعدد الفسقة في ملابسهم ومراكبهم حتى قال الحسن لا تنظروا إلى دقدقة هماليج الفسقة
446
ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرفات وهذا لأنهم اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة فالناظر إليها محصل لغرضهم ومغر لهم على اتخاذها وفي الحديث "إن الدنيا" أي : صورتها ومتاعها "حلوة" شيرين "خضرة حسنة في المنظر تعجب الناظر" وإنما وصفها بالخضرة لأن العرب تسمى الشيء الناعم خضراً ولتشبيهها بالخضروات في سرعة زوالها وفيه بيان كونها غرارة تفتن الناس بحسنها وطعمها ، قال الخجندي :
جزء : 5 رقم الصفحة : 446
جهان وجمله لذاتش بزنبور عسل ماند
كه شيرينيش بسيارست وزان افزون شر وشورش
وفي "المثنوي" :
هركه از ديدار بر خوردار شد
اين جهان درشم او مردار شد
وقال الحافظ :
ازره مرو بعشوه ديني كه اين عجوز
مكاره مى نشيند ومحتاله مى رود
وقال :
خوش عروسيست جهان ازره صورت ليكن
هركه يوست بدو عمر خودش كابين داد
"وإن الله مستخلفكم فيها" أي : جاعلكم خلفاء في الدنيا يعني أن أموالكم ليست هي في الحقيقة لكم وإنما هيتعالى جعلكم في التصرف فيها بمنزلة الوكلاء "فناظر كيف تعلمون" أي : تتصرفون.
وعن عيسى بن مريم عليه السلام لا تتخذوا الدنيا رباً فتتخذكم لها عبيداً.
(5/343)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بقوله {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أي عيني البصر والبصيرة وهما عين الرأس وعين القلب واختص النبي عليه السلام بهذا الخطاب واعتز بهذا العتاب لمعنيين أحدهما لأنه مخصوص من جميع الأنبياء بالرؤية ورؤية الحق لا تقبل الشرك كما أن اللسان بالتوحيد لا يقبل الشرك والقلب بالذكر لا يقبل الشرك أو قال اذكر ربك إذا نسيت أي : بعد نسيان ما سواه فكذلك الرؤية لا تقبل الشرك وهو مد العينين {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِه أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} وهو الدنيا والآخرة لكن اكتفى بذكر الواحد عن الثاني والأزواج أهل الدنيا والآخرة أي : اغسل عيني ظاهرك وباطنك بماء العزة عن وصمة رؤية الدنيا والآخرة لاستحقاق اكتحالهما بنور جلالنا لرؤية جمالنا وإنما متعنا أهل الدارين بهما عزة لحضرة جلالنا {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} باشتغالهم بتمتعات الدارين عن الوصول إلى كمال رؤية جمالنا.
قيل : قرىء عند الشبلي قدس سره {أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُلٍ فَـاكِهُونَ} فشهق شهقة وقال مساكين لا يدرون عمن شغلوا حين شغلوا {وَرِزْقُ رَبِّكَ} أي : ما ادخر لك في الآخرة من الثواب أو ما أوتيته من يسير الكفاية مع الطاعة والرزق يقال للعطاء دنيوياً كان أو أخروياً وللنصيب تارة ولما يوصل إلى الجوف ويتغذى به تارة {خَيْرٌ} لك مما منحهم في الدنيا لأنه مع كونه في نفسه أجل ما يتنافس فيه المتنافسون مأمون الغائلة بخلاف ما منحوه {وَأَبْقَى} فإنه لا يكاد ينقطع أبداً.
قال الكاشفي : (در كشف الاسرار آورده كه زهر درلغت شكوفه است حق سبحانه وتعالى دينارا شكوفه خواند زيرا كه تروتا زكى اودوسه روزه بيش نباشد در اندك فرصتى زمرده كردد ونيست شود) :
447
مال جهان بباغ تنعم شكوفه ايست
جزء : 5 رقم الصفحة : 446
كاول بجلوه دل بربايد زاهل حال
يكهفته نكذردكه فرو ريزد ازدرخت
برخاك ره شود وخس وخاك ايمال
اهل كمال در دل خود جا را دهند
آنراكه دمبدم زى است آفت زوال
فعلى العاقل أن يختار الرزق الذي هو الباقي ولا يلتفت إلى النعيم الذي هو الفاني ويقنع بما في يده من القوت إلى أن يموت ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
كر آزاده برزمين خسب وبس
مكن بهرفانى زمين بوس كس
نيرزد عسل جان من زخم نيش
قناعت نكوتر بدوشاب خويش
خداوند زان بنده خرسند نيست
كه راضى بقسم خداوند نيست
مندار ون سركه خود خورم
كه جور خداوند حلوا برم
قناعت كن اى نفس براندكى
كه سلطان ودرويش بينى يكى
كند مردرا نفس اماره خوار
اكر هو شمندى عزيزش مدار
ثم إن الرزق المعتبر غاية الاعتبار ما صار غذاء للروح القدسي من العلم والحكمة والفيض الأزلي والتجلي ، وفي "المثنوي" :
فهم نان كردى نه حكمت اى رهى
زانكه حق كفت كلوا من رزقه
رزق حق حكمت به بود در مرتبت
كان كلو كيرت نباشت عاقبت
اين دهان بستى دهانى بازشد
كه خورنده لقمهاى رازشد
كر زشير ديوتن را وابرى
در فطام اوبسى نعمت خورى
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ} يعني : كما أمرناك بالصلاة فأمر أنت أهل بيتك فإن الفقير ينبغي أن يستعين بها على فقره ولا يهتم بأمره المعيشة ولا يلتفت إلى جانب أهل الغنى {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} وداوم أنت وهم عليها غير مشتغل بأمر المعاش فكان النبي صلى الله عليه وسلّم يذهب إلى فاطمة وعلي كل صباح ويقول : "الصلاة" كان يفعل ذلك أشهراً.
قال في "عرائس البقلى" : الاصطبار مقام المجاهدة والصبر مقام المشاهدة.
قال ابن عطاء أشد أنواع الصبر الاصطبار وهو السكون تحت موارد البلاء بالسر والقلب والصبر بالنفس لا غير {لا نَسْـاَلُكَ رِزْقًا} أي : لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك إنما نسألك العبادة {نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} وإياهم ففرغ بالك لأمر الآخرة فإن من كان في عمل الله كان الله في عمله {وَالْعَـاقِبَةُ} الحميدة وهي الجنة فإن إطلاقها يختص بالثواب وبالفارسية (وسر انجام سنديده) {لِلتَّقْوَى} أي لأهل التقوى يعني لك ولمن صدقك لا لأهل الدنيا إذ هي مع الآخرة لا تجتمعان فهو على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه تنبيهاً على أن ملاك الأمر هو التقوى وهو ذم النفس والجوارح عن جميع ما يقبحه العلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 446
ـ روي ـ أنه عليه السلام كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية.
قال وهب بن منبه : إن الحوائج لم تطلب من الله تعالى بمثل الصلاة وكانت الكرب العظام تكشف عن الأولين بالصلاة وقلما نزلت بأحد منهم كرب إلا وكان مفزعه إلى الصلاة وقال الله تعالى في قصة يونس : {فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (الصافات : 143).
قال ابن عباس
448
(5/344)
رضي الله عنهما : يعني من المصلين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون يعني لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة.
وعن الشافعي رحمه الله أخذاً من هذه الآية لم أرَ أنفع للوباء من التسبيح.
قال يحيى بن معاذ رحمه الله للعابدين أردية يكسونها من عند الله سداها الصلاة ولحمتها الصوم وصلاة الجسد الفرائض والنوافل وصلاة النفس عروجها من حضيض البشرية إلى ذروة الروحانية وخروجها عن أوصافها لدخولها الجنة المشرفة بالإضافة إلى الحضرة بقوله : {فَادْخُلِى فِى عِبَادِى * وَادْخُلِى جَنَّتِى} (الفجر : 30) وصلاة القلب دوام المراقبة ولزوم المحاضرة كقوله : {الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون : 2) وصلاة السر عدم الالتفات إلى ما سوى الله تعالى مستغرقاً في بحر المشاهدة كما قال عليه السلام : "اعبد الله كأنك تراه" وصلاة الروح فناؤه في الله وبقاؤه بالله كما قال تعالى : {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء : 80) لأنه الفاني عن نفسه الباقي بربه فمن صلى هذه الصلاة أغناه الله عما عند الناس ورزقه مما عنده كما قال تعالى : {وَوَجَدَكَ عَآااِلا فَأَغْنَى} (الضحى : 8) ومن هنا كان يقول صلى الله عليه وسلّم "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني".
نيست غير نور آدم را خورش
جانرا نباشد رورش
ون خورى بكبار ازان ماكول نور
خاك ريزى بر سرنان تنور
{وَقَالُوا} يعني كفار قريش : {لَوْلا} هلا {يَأْتِينَا} (را نمى آرد محمد براى ما) {بِاَايَةٍ} مما اقترحنا نحن ومن نعتد به {مِّن رَّبِّهِ} كموسى وعيسى ليكون علامة لنبوته بلغوا من العناد إلى حيث لم يعدوا ما شاهدوا من المعجزات من قبيل الآيات حتى اجترأوا على التفوه بهذه الكلمة العظيمة {أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاولَى} الهمزة لإنكار الوقوع والواو للعطف على مقدر والبينة الدلالة الواضحة عقلية كانت أو حسية والمراد هنا القرآن الذي فيه بيان للناس وما عبارة عن العقائد الحقية وأصول الأحكام التي اجتمعت عليها كافة الرسل.
والصحف جمع صحيفة وهي التي يكتب فيها وحروف التهجي صحيفة على حدة مما أنزل على آدم والمراد بها التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب السماوية.
والمعنى ألم يأتهم سائر الآيات ولم تأتهم خاصة بينة ما في الصحف الأولى أي : قد أتاهم آية هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز وهو القرآن الذي فيه بيان ما في الكتب الإلهية وهو شاهد بحقية ما فيها وبصحة ما ينطق به من أنباء الأمم من حيث أنه غني بإعجازه عما يشهد بحقيته حقيق بإثبات حقية غيره فاشتماله على زبدة ما فيها مع أن الآتي به أمي لم يرها ولم يتعلم ممن علمها إعجاز بين.
ثم بين أنه لا عذر لهم في ترك الشرائع وسلوك طريق الضلالة بوجه ما فقال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 446
{وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُم} في الدنيا {بِعَذَابٍ} مستأصل {مِّن قَبْلِهِ} متعلق بأهلكنا أي : من قبل إتيان البينة وأصله ولو أهلكناهم أهلكناهم لأن لو إنما تدخل على الفعل فحذف الفعل الأول احترازاً عن العبث لوجود المفسر ثم أبدل من الضمير المتصل وهو الفاعل ضمير منفصل وهو إنا لتعذر الاتصال لسقوط ما يتصل به فإنا فاعل الفعل المحذوف لا مبتدأ ولا تأكيد إذ لم يعهد حذف المؤكد والعامل مع بقاء التأكيد {لَقَالُوا} يوم القيامة احتجاجاً {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ} (را نفر ستادى) {إِلَيْنَآ} في الدنيا {رَسُولا} مع كتاب {فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ} التي أنزلت
449
معه {مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ} بذل الضلالة وعذاب القتل والسبي في الدنيا كما وقع يوم بدر والذل الهوان وضد الصعوبة.
وقال الراغب الذل ما كان من قهر والذل ما كان يعد تصعب وشماس من غير قهر وقوله تعالى : {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أي : كن كالمقهور لهما {وَنَخْزَى} بعذاب الآخرة ودخول النار اليوم ، وبالفارسية : (ورسوا كنيم در قيامت بدخول در آتش).
قال الراغب خزي الرجل لحقه انكسار إما من نفس وإما من غيره فالذي يلحقه من نفسه هو الحياء المفرط ومصدره الخزاية والذي يلحقه من غيره يقال هو ضرب من الاستخفاف ومصدره الخزي.
والمعنى ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها فانقطعت معذرتهم فعند ذلك اعترفوا وقالوا : بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء.
قال في "الأسئلة المقحمة" : هذا يدل على أنه يجب على الله أن يفعل ما هو الأصلح لعباده المكلفين إذ لو لم يفعل لقامت لهم عليه الحجة بأن قالوا هلا فعلت بنا ذلك حتى نؤمن والجواب لو كان يجب عليه ما هو الأصلح لهم لما خلقهم فليس في خلقه إياهم وإرسال الرسل إليهم رعاية الأصلح لهم مع علمه بأنهم لا يؤمنون به ولكنه أرسل الرسل وأكد الحجة وسلب التوفيق ولله تعالى ما يشاء بحق المالكية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 449
{قُلْ} لأولئك الكفرة المتمردين {كُلَّ} أي : كل واحد منا ومنكم {مُّتَرَبِّصٌ} انتظار الأمر أو زواله منتظراً لما يؤول إليه أمرنا وأمركم.
قال الكاشفي : (يعني شما نكبت ما راشم ميداريد وما عقوبت شمارا).
قال في "الكبير" : كل منا ومنكم منتظر عاقبة أمره إما قبل الموت بسبب الجهاد وظهور الدولة والقوة أو بعد الموت بالثواب والعقاب وبما يظهر على المحق من أنواع كرامة الله وعلى المبطل من أنواع إهانته.
ـ وروي ـ أن المشركين قالوا : نتربص بمحمد حوادث الدهر فإذا مات تخلصنا فقال تعالى : {فَتَرَبَّصُوا} أنتم {فَسَتَعْلَمُونَ} عن قريب إذا جاء أمر الله {مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} المستقيم.
والأصحاب جمع صاحب بمعنى الملازم.
والصراط من السبيل ما لا التواء فيه أي : لا إعوجاج بل يكون على سبيل القصد {وَمَنِ اهْتَدَى} من الضلال أي : أنحن أم أنتم كما قال بعضهم :
سوف ترى إذا انجلى الغبار
أفرس تحتك أم حمار وفيه تهديد شديد لهم.
قال الكاشفي : (مراد حضرت يغمبرست كه هم راه يافته وهم راه نماينده است) :
راه دان وراه بين وراه بر
در حقيقت نيست جز خير البشر
وفي الآية إشارة إلى المهتدين بالوصول إليه بقطع المنازل والانفصال عما سواه والمنقطعين عنه باتصال غيره كما قال الخجندي :
وصل ميسر نشود جز بقطع
قطع نخست از همه ببريدنست
واعلم أن الله تعالى قطع المعذرة بالإمهال و"الإرشاد" فللّه الحجة البالغة.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال عليه السلام : "يحتج على الله ثلاثة : الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول وتلا لولا أرسلت إلينا رسولاً والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلاً أنتفع به ويقول الصغير
450
كنت صغيراً لا أعقل فترفع لهم نار ويقال ادخلوها فيدخلها من كان في علم الله أنه سعيد وينكل عنها من كان في علمه أنه شقي فيقول الله إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتوكم" كما في "التفسير الكبير" وفي الحديث : "لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا سورة طه ويس" كما في "الكشاف".
جزء : 5 رقم الصفحة : 449(5/345)
سورة الأنبياء
مائة واثنتا عشرة آية مكية
جزء : 5 رقم الصفحة : 450
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} يقال قرب الشيء واقترب إذا دنا وقربت منه ولذا قال في "العيون" : اللام بمعنى من وهي متعلقة بالفعل وتقديمها على الفاعل للمسارعة إلى إدخال الروعة فإن نسبة الاقتراب إليهم من أول الأمر مما يسوؤهم ويورثهم رهبة وانزعاجاً من المقترب والمراد بالناس المشركون المنكرون للبعث من أهل مكة كما يفصح عنه ما بعده من الغفلة والإعراض ونحوهما.
والحساب بمعنى المحاسبة وهو إظهار ما للبعد وما عليه ليجازي على ذلك والمراد باقتراب حسابهم اقترابه في ضمن اقتراب الساعة وسمي يوم القيامة بيوم الحساب تسمية للزمان بأعظم ما وقع فيه وأشده وقعاً في القلوب فإن الحساب هو الكاشف عن حال المرء ومعنى اقترابه لهم تقاربه ودنوه منهم بعد بعده عنهم فإنه في كل ساعة من ساعات الزمان أقرب إليهم من الساعة السابقة مع أن ما مضى أكثر مما بقي وفي الحديث "أما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس" وإنما لم يعين الوقت لأن كتمانه أصلح كوقت الموت.
والمعنى دنا من مشركي قريش وقت محاسبة الله إياهم على أعمالهم السيئة الموجبة للعقاب يعني القيامة.
وقال الكاشفي نقلاً عن بعض (نزديك شد وقت مؤاخذت وياد داشت ايشان كه قتل وكر فتارىء روز بدرست).
يقول الفقير : هذا هو الأظهر عندي لأن زمان الموت متصل بزمان القيامة فاقتراب وقت مؤاخذتهم بالقتل ونحوه في حكم اقتراب وقت محاسبتهم بالقيامة ومثله من مات فقد قامت قيامته {وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ} الغفلة سهو يعتري من قلة التحفظ والتيقظ أي : والحال أنهم في غفلة تامة من الحساب على النقير والقطمير والتأهب له ساهون عنه بالكلية لا أنهم غير مبالين مع اعترافهم بإتيانه بل منكرون له كافرون به مع اقتضاء عقولهم لأن الأعمال لا بد لها من الجزاء وإلا لزم التسوية بين المطيع والعاصي وهي بعيدة عن مقتضى الحكمة والعدالة {مُّعْرِضُونَ} عن الإيمان والآيات والنذر المنبهة لهم من سنة الغفلة يقال أعرض أي : ولى مبدياً عرضه أي : ناحيته وهما خبران للضمير وحيث
451
كانت الغفلة أمراً جبلياً لهم جعل الخبر الأول ظرفاً منبئاً عن الاستقرار بخلاف الإعراض والجملة حال من الناس.
جزء : 5 رقم الصفحة : 451
وفي "التأويلات النجمية" : وإذا نصحهم ناصح واقف على أحوالهم فهم معرضون عن استماع قوله ونصيحته كما قال : {وَلَاكِن لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} (الأعراف : 79) ، قال الشيخ سعدي :
كسى راكه ندار در سر بود
مندار هركز كه حق بشنود
زعلمش ملال آيداز وعظننك
شقائق بباران زويد زسنك(5/346)
وفي "العرائس للبقلى" : أن الله تعالى حذر الجمهور من مناقشته في الحساب وزجرهم حتى ينتهوا عن رقاد الغفلات وقرب الحساب أقرب من كل شيء منهم لو يعلمون فإنه تعالى يحاسب العباد في كل لمحة ونفس وحسابه أدق من الشعر وأخفى من دبيب النمل على الصفا ولا يعرف ذلك إلا المراقبون الذي يحاسبون في كل نفس وخطوة وهم في غفلة وفي حجاب عن مشاهدة الله معرضون عن طاعته إذ لا حظ لهم في الطاعات ولا شرب لهم في المشاهدات.
{مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ} من طائفة نازلة من القرآن تذكرهم الحساب أكمل تذكير وتنبههم عن الغفلة أتم تنبيه كأنها نفس الذكر {مِّن رَّبِّهِمُ} من لابتداء الغاية مجازاً متعلقة بيأتيهم وفيه دلالة على فضله وشرفه وكمال شناعة ما فعلوا به {مُّحْدَثٍ} بالجر صفة لذكر أي : محدث تنزيله بحسب اقتضاء الحكمة لتكرره على أسماعهم للتنبيه كي يتعظوا فالمحدث تنزيله في كل وقت على حسب المصالح وقدر الحاجة لا الكلام الذي هو صفة قديمة أزلية وأيضاً الموصوف بالإتيان وبأنه ذكر هو المركب من الحروف والأصوات وحدوثه مما لا نزاع فيه قالوا : القرآن اسم مشترك يطلق على الكلام الأزلي الذي هو صفة الله وهو الكلام النفسي القديم من قال بحدوثه كفر ويطلق أيضاً على ما يدل عليه وهو النظم المتلو الحادث من قال بقدمه سجل على كمال جهله {إِلا اسْتَمَعُوهُ} استثناء مفرغ محله النصب على أنه حال من مفعول يأتيهم بإضمار قد {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} حال من فاعل استمعوه يقال لعب إذا كان فعل غير قاصد به مقصداً صحيحاً.
{لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} حال أخرى يقال لها عنه إذا ذهل وغفل.
قال الراغب اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه يقال لهوت بكذا ولهيت بكذا اشتغلت عنه بلهو وألهاه عن كذا شغله عما هو أهم.
والمعنى ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا حال استماعهم إياه لاعبين مستهزئين به لاهين عنه متشاغلين عن التأمل فيه لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور والتفكر في العواقب قدم اللعب على اللهو تنبيهاً على أنهم إنما قدموا على اللعب لذهولهم عن الحق فاللعب الذي هو السخرية والاستهزاء نتيجة اللهو الذي هو الغفلة عن الحق والذهول عن التفكر.
قال بعضهم : القلب اللاهي هو المشغول بأحوال الدنيا والغافل عن أحوال العقبى.
قال الواسطي لاهية عن المصادر والموارد والمبدأ والمنتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 451
يا الهي بحود نامتناهى
ازسوا دوركن دل لاهى
{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} النجوى في الأصل مصدر ، بالفارسية : (راز كفتن) ثم جعل اسماً من التناجي بمعنى القول الواقع بطريق المسارة أي : السر بين اثنين فصاعداً يقال تناجى القوم إذا تسارّوا وتكالموا سراً عن غيرهم.
قال الراغب ناجيته ساررته وأصله ارتحلوا به في نجوه
452
من الأرض أي : المرتفع المنفصل بارتفاعه عما حوله ومعنى إسرارها مع أنها لا تكون إلا سراً أنهم بالغوا في إخفائها {الَّذِينَ ظَلَمُوا} على أنفسهم بالشرك والمعصية بدل من واو أسروا منبىء عن كونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به كأنه قيل فماذا قالوا في نجواهم فقيل قالوا : {هَلْ هَـاذَآ} هل بمعنى النفي أي : ما محمد {إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} لحم ودم مساو لكم في المأكل والمشرب وكل ما يحتاج إليه البشر والموت مقصور على البشرية ليس له وصف الرسالة التي يدعيها والبشر ظاهر الجلد والأدمة باطنه عبر عن الإنسان بالبشر اعتباراً بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف والشعر والوبر واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع وخص في القرآن كل موضع عبر عن الإنسان جثته وظاهره بلفظ البشر {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} حال من فاعل تأتون مقررة للإنكار ومؤكدة للاستبعاد أي : ما هذا إلا من جنسكم وما أتى به يعنون القرآن سحر أتعلمون ذلك فتأتونه وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكاً وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر أي : الخداع والتخييلات التي لا حقيقة لها.
قال الإمام طعنوا في نبوته بأنه بشر وما أتى به سحر وهو فاسد إذ صحة النبوة تعرف من المعجزة لا من الصورة ولو بعث الملك إليهم لم يعلموا نبوته بصورته بل بالمعجزة فإذا ظهر على يد بشر وجب قبوله :
لوح صورت بشوى ومعنى جو
كه صور برك شد معاني بو
وإنما أسروا ذلك لما كان هذا الحديث منهم على طريق التشاور فيما بينهم والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمر النبوة وإطفاء الدين وعادة المشاورين أن يجتهدوا في كتمان سرهم عن أعدائهم ما أمكن ومنه قول معاذ رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم "استعينوا على نجاح الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود".
جزء : 5 رقم الصفحة : 451
(5/347)
{قَالَ} الرسول عليه السلام بعدما أوحى إليه أقوالهم وأحوالهم بياناً لظهور أمرهم وانكشاف سرهم {رَبِّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ} سراً كان أو جهراً حال كون ذلك القول {فِى السَّمَآءِ وَالارْضِ} فضلاً عما أسروا به وإذا علم القول علم الفعل {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي : المبالغ في العلم بالمسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أسروه من النجوى فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم.
{بَلْ قَالُوا أَضْغَـاثُ أَحْلَـام} الضغث بالكسر قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس وأضغاث أحلام رؤيا لا يصح تأويلها لاختلاطها كما في "القاموس".
والحلم بضم الحاء وسكون اللام الرؤيا وضم اللام أيضاً لغة فيه فالأحلام بمعنى المنامات سواء كانت باطلة أو حقة وأضيفت الأضغاث بمعنى الأباطيل إليها على طريق إضافة الخاص إلى العام إضافة بمعنى من وقد تخص الرؤيا بالمنام الحق والحلم بالمنام الباطل كما في قوله عليه السلام : "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان" ثم إن هذا إضراب من جهته تعالى وانتقال من حكاية قول إلى آخر أي : لم يقتصروا على أن يقولوا في حقه عليه السلام {هَلْ هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ} وفي حق ما ظهر على يده من القرآن الكريم إنه سحر بل قالوا تخاليط أحلام أي : أخلاط أحلام كاذبة رآها في المنام {بَلِ افْتَرَاهُ} من تلقاء نفسه من غير
453
أن يكون له أصل أو شبهة أصل ثم قالوا : {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} وما أتى به شعر يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها وهذا شأن المبطل المحجوج متحير لا يزال يتردد بين باطل وأبطل فالإضراب الأول كما ترى من جهته تعالى والثاني والثالث من قبلهم.
قال الراغب شعرت أصبت الشعر ومنه استعير شعرت كذا أي : علمت علماً في الدقة كإصابة الشعر قيل وسمي الشاعر لفطنته ودقة معرفته فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم ليت شعري وصار في التعارف اسماً للموزون المقفى من الكلام والشاعر للمختص بصناعته وقوله تعالى حكاية عن الكفار {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} كثير من المفسرين حملوه على أنهم رموه بكونه آتياً بشعر منظوم مقفى حتى تأولوا عليه ما جاء في القرآن من كل لفظة تشبه الموزون من نحو قوله : "وجفان كالجواب وقدور راسيات" وقوله تعالى : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} .
وقال بعض المحققين لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به وذلك أنه ظاهر من هذا الكلام أنه ليس على أساليب الشعر ولا يخفى ذلك على الاغتام من العجم فضلاً عن بلغاء العرب وإنما رموه بالكذب فإن الشعر يعبر به عن الكذب والشاعر الكاذب حتى سموا الأدلة الكاذبة بالشعر ولكون الشعر مقر الكذب.
قيل : أحسن الشعر أكذبه.
وقال بعض الحكماء لم ير متدين صادق اللهجة مفلقاً في شعره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 451
در قيامت نرسد شعر بفرياد كسى
كر سراسر سخنش حكمت يونان كردد
وأما قول صاحب "المثنوي" :
از كرامات بلند اوليا
اولا شعرست وآخر كيميا
فالمراد به القدرة على إنشاء الكلام الموزون وليس من مقتضاها التكلم {بَلْ قَالُوا} جواب شرط محذوف يفصح عنه السياق كأنه قيل وإن لم يكن كما قلنا بل كان رسولاً من الله فليأتنا بآية جليلة {كَمَآ أُرْسِلَ الاوَّلُونَ} أي : مثل الآية التي أرسل بها الأولون كاليد والعصا وإحياء الموتى والناقة ونظائرها حتى نؤمن به فما موصولة وعائدها محذوف ومحل الكاف الجر على أنها صفة الآية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 451
{مَآ ءَامَنَتْ قَبْلَهُم} قبل مشركي مكة {مِن قَرْيَةٍ} اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس أي : من أهل قرية وهو في محل الرفع على الفاعلية ومن مزيدة لتأكيد العموم {أَهْلَكْنَـاهَآ} أي : بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيىء ما اقترحوه من الآيات صفة لقرية {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} الهمزة لإنكار الوقوع والفاء للعطف على مقدر.
والمعنى أنه لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات أهم لم يؤمنوا فهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سئلوا وأعطوا ما اقترحوا مع كونهم أعتى منهم وأطغى كما قال تعالى : 45أكفاركم خير من أولائكم (القمر : 43) يعني أن كفاركم مثل أولئك الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون فهم في اقتراح تلك الآيات كالباحث عن حتفه بظلفه ، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
ولا تك كالشاة التي كان حتفها
بحفر ذراعيها فلم ترض محفراً وأصله أن رجلاً وجد شاة وأراد ذبحها فلم يظفر بسكين وكانت مربوطة فلم تزل تبحث
454
برجليها حتى أبرزت سكيناً كانت مدفونة فذبحها بها يضرب في مادة تؤدي صاحبها إلى التلف وما يورط الرجل فيه نفسه كهذا المستعمق وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للترحم بهم إذ لو أتى به لم يؤمنوا واستوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم وقد سبق وعده تعالى في حق هذه الأمة أن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة.
(5/348)
قال في "التأويلات النجمية" : والآية وإن نزلت في منكري البعث من الكفار فهي تعم أكثر مدعي الإسلام في زماننا هذا فإنه لا يحدث الله في عالم رباني من أهل الذكر وهم أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته سراً من أسرار القرآن وحقيقة من حقائق العلوم اللدنية إلا أسمعه أهل العزة بالله وهم يستهزئون به وينكرونه عليه لاهية قلوبهم بمتابعة الهوى متعلقة بشهوات الدنيا ساهية عن ذكر الله غافلة عن طلبه وتناجوا في السر الذين ظلموا أنفسهم بالإنكار على أن الأسرار يقولون فيه ما يأتيكم به من الكلام المموه وأنتم تبصرون أنه مموه كالسحر قل أمرهم إلى الله فإنه يعلم قول أهل السماء سماء القلوب وقول أهل الأرض النفوس وهو السميع لأقوال أهل القلوب وأقوال أهل النفوس وإنكارهم العليم بما في ضمائرهم وبأفعالهم وأوصافهم وأوصاف سرائرهم بل قالوا كلام المحققين خيالات فاسدة وقال بعض المنكرين بل اختلقه من نفسه وادعى أنه من مواهب الحق وقال بعضهم بل هو شاعر أي : يقول ما يقول بحذاقة النفس وقوة الطبع والذكاء ثم قال بعضهم لبعض فليتأتنا هذا المحق بكرامة ظاهرة كما أتى بها المشايخ المتقدمون ثم قال : ما آمنت قبلهم من أهل قرية من المنكرين لما رأوا كرامات أولياء الله فأهلكناهم بالخذلان والإبعاد أفهم يصدقون أرباب الحقائق إن رأوا كرامة منهم وهم طبعوا على الإنكار مثل المنكرين الهالكين وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 454
مغزراً خالى كن ازانكار يار
تاكه ريحان يابد از كلزار يارتا بيابى بوى خلد از يار من
ون محمد بوى رحمان ازيمن
يك مناره درثناى منكران
كو درين عالم كه تاباشد نشانمنبرى كوكه برآنجا مخبرى
ياد آرد روزكار منكرى
روى دينار ودرم از نامشان
تا قيامت ميدهد ازحق نشان
سكه شاهان همى كردد دكر
سكه احمد ببين تا مستقر
برزخ نقره وياروى زرى
وانما برسكه نام منكرى
هركه باشد همنشين دوستان
هست دركلخن ميان بوستان
هركه بادشمن نشيند درزمن
هست او در بوستان دركولخن اللهم اجعلنا من المجالسين لأهل الودّ والولا واحشرنا معهم بحق الملأ الأعلى.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا} جواب لقولهم هل هذا إلا بشر مثلكم أي : وما أرسلنا إلى الأمم قبل إرسالك إلى أمتك إلا رجالاً مخصوصين من أفراد الجنس مستأهلين ومثله في الفارسية (كلمه مرد) {نُّوحِى إِلَيْهِمْ} بواسطة الملك ما نوحي من الشرائع والأحكام وغيرها من القصص والأخبار كما نوحي إليك من غير فرق بينهما في حقيقة الوحي وحقيقة مدلوله كما لا فرق بينك وبينهم في البشرية
455
فما لهم لا يفهمون أنك لست بدعا من الرسل وأن ما أوحي إليك ليس مخالفاً لما أوحي إليهم فيقولون ما يقولون.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنه تعالى يظهر في كل قرن رجالاً بالغين من متابعي الأنبياء ويخصهم بوحي الإلهام كما أظهر في زمان عيسى عليه السلام الحواريين من متابعيه وأوحى إليهم كما قال تعالى : {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّـانَ أَنْ ءَامِنُوا بِى وَبِرَسُولِى} (المائدة : 111) {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى} قد سبق أن الذكر يطلق على الكتب الإلهية أي : إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أيها الكفرة الجهلة أهل الكتاب الواقفين على أحوال الرسل السالفة لتزول شبهتكم أمروا بذلك لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته عليه السلام ويشاورونهم في أمره وكانوا لا ينكرون كون الرسل بشراً وإن أنكروا نبوته عليه السلام.
ـ روي ـ أنه قيل للإمام الغزالي رحمه الله بماذا حصل لكم الإحاطة بالأصول والفروع فتلا هذه الآية وأشار إلى أن السؤال من أسباب العلم وطرائقه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 454
{وَمَا جَعَلْنَـاهُمْ} أي : الرسل {جَسَدًا} الجسد جسم الإنسان والجن والملائكة.
قال الراغب : الجسد كالجسم لكنه أخص فإن الجسد ما له لون والجسم يقال لما لا يبين له لون كالماء والهواء ونصبه على أنه مفعول ثان للجعل لا بمعنى جعله جسداً بعد أن لم يكن كذلك كما هو المشهور من معنى التصيير بل بمعنى جعله كذلك ابتداء على طريقة قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل {لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} صفة له والطعام البر وما يؤكل والطعم تناول الغذاء أي : وما جعلناهم جسداً مستغنياً عن الأكل والشرب بل محتاجاً إلى ذلك لتحصيل بدل ما يتحلل منه {وَمَا كَانُوا خَـالِدِينَ} لأن مآل التحلل هو الفناء لا محالة والخلود تبرىء الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها والمراد إما المكث المديد كما هو شأن الملائكة أو الأبدي وهم معتقدون أنهم لا يموتون.
والمعنى جعلناهم أجساداً متغذية صائرة إلى الموت بالآخرة على حسب آجالهم لا ملائكة ولا أجساداً مستغنية عن الأغذية مصونة عن التحلل كالملائكة فلم يكن لها خلود كخلودهم.
(5/349)
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن الأنبياء والأولياء خلقوا محتاجين إلى الطعام بخلاف الملائكة وذلك لا يقدح في النبوة والولاية بل هو من لوازم أحوالهم وتوابع كمالهم فإن لهم فيه فوائد جمة منها :
أن الطعام للروح الحيواني الذي هو مركب الروح الإنساني كالدهن للسراج وهو منبع جميع الصفات النفسانية الشهوانية وهو مركب الشوق والمحبة التي بها يقطع السالك الصادق مسالك البعاد ويعبر العاشق مهالك الفراق للوصول إلى كعبة الوصال.
ومنها : أن أكل الطعام من نتائج الهوى وهو يميل النفس إلى مشتهياتها والسير إلى الله بحسب نهي النفس عن الهوى كقوله تعالى : {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى} (النازعات : 40 ـ 41) ولذا قال المشايخ : لولا الهوى ما سلك أحد طريقاً إلى الله.
ومنها : أن كثيراً من علم الأسماء التي علم الله آدم منوط بأكل الطعام مثل علم ذوق المذوقات وعلم التلذذ بالمشتهيات وعلم لذة الشهوة وعلم الجوع وعلم العطش وعلم الشبع والري وعلم هضم الطعام وثقله وعلم الصحة والمرض وعلم الداء والدواء وأمثاله والعلوم التي تتعلق به كعلوم الطب بأجمعها والعلوم التي هي توابعها كمعرفة الأدوية والحشائش
456
وخواصها وطباعها وغيرها اقتصرنا على هذا القدر من الفوائد الجمة فافهم جداً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 454
ـ حكي ـ أن واحداً من الصوفية المتحققين بحقائق تجلي الصمدية لم يأكل طعاماً ستة أشهر فألح عليه شيخه بالأكل لما أن الكمال المحمدي في الإفطار والإمساك والسهر والمنام ونحو ذلك لا في الرهبانية المذمومة وفي "المثنوي" :
هين مكن خودرا خصى رهبان مشو
زانكه عفت هست شهوت را كرو
هين مكن خودرا خصى رهبان مشو
زانكه عفت هست شهوت را كرو
بى هوا نهى ازهوا ممكن نبود
هم غزا بر مردكان نتوان نمود
ش كلوا ازبهر دام شهوتست
بعد ازان لا تسرفوا آن عفتست
ونكه رنج صبر نبود مرترا
شرط نبود س فرونايد جزا
حبذا آن شر وشادا آن جزا
آن جزاى دلنواز جانفزا
قال الشافعي رحمه الله : أربعة لا يعبأ الله بهم يوم القيامة : زهد خصي ، وتقوى جندي ، وأمانة امرأة ، وعبادة صبي وهو محمول على الغالب كما في "المقاصد الحسنة" للإمام السخاوي.
{ثُمَّ صَدَقْنَـاهُمُ الْوَعْدَ} عطل على مقدر وصدق يتعدى إلى الثاني بحرف الجر وهو هنا محذوف كما في قوله تعالى : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} كأنه قيل أوحينا إليهم ما أوحينا ثم صدقناهم في الوعد الذي وعدناهم في تضاعف الوحي بإهلاك أعدائهم {فَأَنجَيْنَـاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ} من المؤمنين وغيرهم ممن تستدعي الحكمة إبقاءه كمن سيؤمن هو أو بعض فروعه بالآخرة وهو السر في حماية العرب من عذاب الاستئصال.
يقول الفقير هكذا قال إذ الظاهر تخصيص من نشاء بالمؤمنين الآية في الرسل السالفة مع أممهم وعذابهم كان عذاب استئصال ولم ينج منهم غير المؤمنين فهي كقوله تعالى : {ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا كَذَالِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} (يونس : 103) ولما كانت العرب مصونة من عذاب الاستئصال لم يبعد أن يبقى منهم من سيؤمن هو أو بعض فروعه كما وقع يوم بدر فافهم {وَأَهْلَكْنَا الْمُسِْرفِينَ} أي : مجاورين للحد في الكفر والمعاصي.
قال الراغب السرف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 454
{لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ} أي : والله لقد أنزلنا إليكم يا معشر قريش {كِتَـابًا} عظيم الشأن نير البرهان {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} موعظتكم بالوعد لترغبوا وتحذروا وليس بسحر ولا شعر ولا أضغاث أحلام ولام مفترى كما تدعون {أَفَلا تَعْقِلُونَ} الفاء للعطف على مقدر أي : ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الأمر كذلك.
وقال بعضهم فيه ذكركم أي : شرفكم لأنه بلغة العرب.
قال الكاشفي : (اين آيت أهل قرآنرا تشريفي تمام وتكريمي مالا كلامست وخبر "أشراف أمتي حملة القرآن" مؤيد ومأكسد اين اجلال واكرام) والمراد بحملة القرآن ملازموا قراءته كما في "تفسير الفاتحة" للفناري :
آهل قرآنند أهل الله وبس
اندر ايشان كى رسى هى بوالهوس
اهل باشد جنس وجنس اين كلام
نيست جز مرغى كه بروازد زدام
وفي الحديث : "إنأهلين من الناس أهل القرآن وهم أهل الله" أي : خاصته.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لما دنا فراق رسول الله صلى الله عليه وسلّم جمعنا في بيت أمنا عائشة رضي الله
457
(5/350)
عنها عنها ثم نظر إلينا فدمعت عيناه وقال : "مرحباً بكم حياكم الله رحمكم الله تعالى أوصيكم بتقوى الله وطاعته قد دنا الفراق وحان المنقلب إلى الله وإلى سدرة المنتهى وإلى جنة المأوى يغسلني رجال أهل بيتي ويكفنونني في ثيابي هذه إن شاءوا أو في حلة يمانية فإذا غسلوني وكفنوني ضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير لحدي ثم اخرجوا عني ساعة فأول من يصلي علي حبيبي جبرائيل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنودهم ثم ادخلوا عليّ فوجاً فوجاً وصلوا عليّ فلما سمعوا فراقه صاحوا وبكوا" وقالوا : يا رسول الله أنت نور ربنا وشمع جمعنا وسلطان أمرنا إذا ذهبت عنا إلى من نرجع في أمورنا قال : "تركتكم على المحجة البيضاء" أي : الطريق الواسع الواضح "ليلها كنهارها" في الوضوح "وتركت لكم واعظين ناطقاً وصامتاً" فالناطق القرآن والصامت الموت "فإذا أشكل عليكم أمر فارجعوا إلى القرآن والسنة وإذا قست قلوبكم فلينوها بالاعتبار في أحوال الأموات" وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً "من تعلم القرآن في صغره اختلط القرآن بلحمه ودمه ومن تعلمه في كبره فهو يتفلت منه ولا يتزكه فله أجره مرتين" وجه الأول أنه في الصغر خال عن الشواغل وما صادف قلباً خالياً يتمكن فيه قال الشاعر :
جزء : 5 رقم الصفحة : 457
اتانى هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا خاليا فتمكنا
ويدخل في الثاني من له حصر أو عيّ لأن من قرأ القرآن وهو عليه شاق فله أجران أجر لقراءته وأجر لمشقته كذا في "شرح المصابيح".
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ} كم خبرية للتكثير محلها النصب على أنها مفعول لقصمنا ومن قرية تمييز وفي لفظ القصم الذي هو عبارة عن الكسر بإبانة إجراء المكسور وإزالة تأليفها بالكلية من الدلالة على قوة الغضب وشدة السخط ما لا يخفى {كَانَتْ ظَالِمَةً} صفة لقرية بتقدير المضاف أي : وكثيراً كسرنا وأهلكنا من أهل قرية كانوا ظالمين بآيات الله كافرين بها كدأبكم يا معشر قريش {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا} أي : بعد إهلاكها والإنشاء والاختراع والتكوين والتخليق والإيجاد أسماء مترادفة يراد بها معنى واحد وهو إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود كما في "بحر العلوم".
قال الراغب : الإنشاء إيجاد الشيء وتربيته وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان كما في هذه الآية {قَوْمًا ءَاخَرِينَ} أي ليسوا منهم نسباً ولا ديناً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 457
{فَلَمَّآ أَحَسُّوا بَأْسَنَآ} الضمير للأهل المحذوف والبأس الشدة والمكروه والنكاية أي : أدركوا عذابنا الشديد إدراكاً تاماً كأنه إدراك المشاهد المحسوس {إِذَا هُم مِّنْهَا} من القرية إذا للمفاجأة وهم مبتدأ خبره قوله : {يَرْكُضُونَ} الركض ضرب الدابة بالرجل للعدو فمتى نسب إلى الراكب فهو إعداء مركوبه نحو ركضت الفرس ومتى نسب إلى الماشي فوطىء الأرض والمعنى يهربون مسرعين راكضين دوابهم أو مشبهين بهم في إفراط الإسراع.
{لا تَرْكُضُوا} أي : قيل لهم بلسان الحال أو بلسان المقال من الملك لا تركضوا {وَارْجِعُوا إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} يقال أترفته النعمة أطغته وأترف فلان أصر على البغي أي : إلى ما أعطيتموه من العيش الواسع والحال الطيبة حتى بطرتم به فكفرتم وأعرضتم عن المعطي وشكره {وَمَسَـاكِنِكُمْ} التي تفتخرون بها وفي "المثنوي" :
458
افتخاراز رنك وبو واز مكان
هست شادى وفريب كودكان
{لَعَلَّكُمْ تُسْـاَلُونَ} تقصدون من جهة الناس للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات والنوازل كما هو عادة الناس مع عظمائهم في كل قرية لا يزالون يقطعون أمراً دونهم.
{قَالُوا} لما يئسوا من الخلاص بالهرب وأيقنوا بنزول العذاب يا وَيْلَنَآ} يا ويل ويا هلاك تعال فهذا وقتك.
وقال الكاشفي : (اى واى برما) {إِنَّا كُنَّا ظَـالِمِينَ} أي : مستوجبين للعذاب وهو اعتراف منهم بالظلم وباستتباعه للعذاب وندمهم عليه حين لم ينفعهم ذلك.
{فَمَا زَالَت تِّلْكَ} أي : كلمة الويل وهي يا ويلنا إنا كنا ظالمين وهي اسم ما زالت وخبرة قوله : {دَعْوَاـاهُمْ} أي : دعائهم ونداءهم أي : رددوها مرة بعد أخرى {حَتَّى جَعَلْنَـاهُمْ حَصِيدًا} أي : مثل الحصيد وهو المحصود من الزرع والنبت ولذلك لم يجمع أي : لأن الفعيل بمعنى المفعول يستوي فيه المفرد والجمع والمذكر والمؤنث {خَـامِدِينَ} حال من المنصوب في جعلناهم أي : ميتين من خمدت النار إذا أطفىء لهبها ومنه استعير خمدت الحمى أي : سكنت حرارتها وزالت شهوة الموت لخمود النار وانطفائها فأطلق عليه الخمود ثم اشتق منه خامدين.
دلت الآية على أن في الظلم خراب العمران ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 458
بقومى كه نيكى سنند خداى
دهد خسرو عادل نيك راى
و خواهدكه ويران كند عالمى
كند ملك در نه ظالمى
(5/351)
وفي الحديث "الظلم ظلمات يوم القيامة" وإذا أظلم القلب عن المعرفة والإخلاص خرب وعلامة خراب القلب عصيان الجوارح وتعديها وميلها إلى ما فيه الهلاك.
وقال بعض أهل التفسير والأخبار : إن أهل حضور من قرى اليمن وقيل كانت بأرض الحجاز من ناحية الشام بعث إليهم نبي اسمه موسى بن ميشان كما في "الكشف".
وقال الإمام السهيلي في "التعريف والأعلام" اسمه شعيب بن ذي مهرم وقبر شعيب هذا في اليمن بجبل يقال له ضين.
قال في "القاموس" ضين بالكسر جبل عظيم بصنعاء اهـ وليس شعيب صاحب مدين لأن قصة حضور قبل مدّة معدّ جده عليه السلام وبعد مئين من السنين من مدة سليمان عليه السلام وأنهم قتلوا نبيهم وقتل أصحاب الرس أيضاً في ذلك التاريخ نبياً لهم اسمه حنظلة بن صفوان فأوحى الله إلى أرمياء أن ائت بخت نصر وأعلمه أني قد سلطته عليهم وعلى أرض العرب وأني منتقم به منهم وأوحى الله إلى أرمياء أن احمل معد بن عدنان على البراق إلى أرض العراق كيلا يصيبه النقمة والبلاء معهم فإني مستخرج من صلبه نبياً في آخر الزمان اسمه محمد صلى الله عليه وسلّم فحمل معداً وهو ابن اثني عشر وكان مع بني إسرائيل إلى أن كبر وتزوج امرأة اسمها معانه.
ثم إن بخت نصر نهض بالجيوش وكمن للعرب في مكان وهو أول من اتخذ المكامن في الحرب فيما زعموا ثم شن الغارات على حضور أي : صبها على أهلها من كل وجه فقتل وسبى وخرب العامر ولم يترك بحضور أثراً قال الله تعالى : {حَتَّى جَعَلْنَـاهُمْ حَصِيدًا خَـامِدِينَ} ثم وطىء أرض العرب يمنها وحجازها فأكثر القتل والسبي وخرب وحرق ثم انصرف راجعاً إلى السواد وإياهم عنى الله بقوله : {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} وهذه الرواية منقولة عن ابن عباس رضي الله عنهما وظاهر الآية على الكثرة لأن كم للتكثير ولعله رضي الله عنه ذكر حضور بأنها إحدى القرى التي أرادها الله بهذه الآية
459
وفي الحديث "خمس في خمس ما نقض العهد قوم إلا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا منع عنهم القطر".
هره بر توآيد از ظلمات وغم
آن زبى شر مى وكستاخيست هم
جزء : 5 رقم الصفحة : 458
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ} الخلق أصله التقدير المستقيم ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء أي : وما أبدعنا السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة {وَالارْضِ} التي هي كالفراش والبساط {وَمَا بَيْنَهُمَآ} من أنواع الخلائق وأصناف العجائب حال كوننا {لَـاعِبِينَ} يقول لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً أي : عابثين بل لحكم ومصالح وهي أن تكون مبدأ لوجود الإنسان وسبباً لمعاشه ودليلاً يقوده إلى تحصيل معرفتنا التي هي الغاية القصوى.
برك درختان سبرز در نظر هوشيار
هر ورقى دفتريست معرفت كردكان
وكل شيء فهو إما مظهر لطفه تعالى أو قهره وفي كل ذرة سر عجيب.
بنكر بشم فكركه ازعرش تابفرش
در هي ذره نيست كه سرى عجيب نيست
فإن قيل : دلت الآية على أن اللعب ليس من فعله وإنما هو من أفعال اللاعبين لأن اللاعب اسم لفاعل اللعب فنفى اسم الموضوع يقتضي نفي الفعل.
أجيب بأن ذلك يبطل بمسألة خلق الداعي والقدرة.
{لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} أي : ما يتلهى به ويلعب على أنه مصدر بمعنى المفعول يقال لهوت بالشيء لهواً إذا لعبت به.
قال الكاشفي : (يزى بآن بازى كنند وبرؤية آن مستأنس شوند ون زن وفرزند).
وقال الراغب اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه ويعبر عن كل ما به استمتاع باللهو قال تعالى : {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا} وقول من قال أراد باللهو المرأة والولد فتخصيص ببعض ما هو من زينة الحياة الدنيا انتهى.
يقول الفقير : فسره بالمرأة في تفسير "الجلالين" المقصور على رواية ابن عباس رضي الله عنهما وبهما في "التأويلات" الشيخ نجم الدين قدس سره وهو من أكابر من جمع بين الطرفين ويدل على هذا المعنى قوله تعالى فيما بعد : {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} .
قال الإمام الواحدي يستروح بكل واحد منهما أي : من المرأة والولد ولهذا يقال لامرأة الرجل وولده ريحانتاه {اتَّخَذْنَـاهُ مِن لَّدُنَّآ} أي : من جهة قدرتنا عليه لتعلقها بكل شيء من المقدورات أو مما نصطفيه ونختاره مما نشاء من خلقنا من الحور العين أو من غيرها.
قال الواحدي معنى من لدنا من عندنا بحيث لا يظهر لكم ولا تطلعون عليه ولا يجري لأحد فيه تصرف لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره {إِن كُنَّا فَـاعِلِينَ} ذلك لكن تستحيل إرادتنا له لمنافاته الحكمة لا لعدم القدرة على اتخاذه ولا لغيره فيستحيل اتخاذنا له قطعاً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 460
(5/352)
قال في "التأويلات النجمية" : جل جلال قدس حضرتنا عن أمثال هذه التدنسات وعز جناب كبريائنا عن أنواع هذه الوصمات وقد تنزه عن أمثالها الملائكة المقربون وهم عبادنا المكرمون المخلوقون فالحضر الخالقية أولى بالتنزه عن أمثالها انتهى.
وإن للشرط على سبيل الفرض والتقدير وجواب إن محذوف لدلالة الجواب المتقدم عليه أي : إن كنا فاعلين لاتخذناه.
460
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَـاطِلِ} إضراب عن اتخاذ الولد وإرادته كأنه قيل لكنا لا نريده بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد والإيمان والقرآن ونحوها على الباطل الذي من جملته اللهو والكفر والأباطيل الأخر.
قال الراغب القذف الرمي البعيد ولاعتبار البعد فيه قيل منزل قذف وقذيف وبلدة قذوف طروح بعيدة والباطل نقيض الحق وهو الذي لا ثبات له عند الفصح عنه {فَيَدْمَغُهُ} فيهلكه ويعدمه.
قال أهل التفسير إنما استعار لذلك أي : للتغليب والتسليط وإيراد الحق على الباطل القذف وهو الرمي الشديد المستلزم لصلابة المرمى ولمحوه وإعدامه الباطل وهو كسر الشيء الرخو الأجوف وهو الدماغ بحيث يشق غشاءه المؤدي إلى زهوق الروح تصويراً لإبطاله به فشبه الحق بجرم صلب كالماس أو الياقوت مثلاً قذف به على جرم رخو أجوف من قزاز أو تراب فمحقه وأعدمه.
قال "صاحب المفتاح" : أصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل والدمغ لإذهاب الباطل ومحوه فالمستعار منه حسي والمستعار له عقلي أي : ففيه تشبيه المعقول بالمحسوس عبر عن الصورة المقولة بما يدل على الهيئة المحسوسة لتتمكن تلك الهيئة المعقولة في ذهن السامع فضل تمكن {فَإِذَا هُوَ} (س آنجا او) {زَاهِقٌ} أي : ذاهب بالكلية والزهوق ذهاب الروح ويقال زهقت نفسه خرجت من الأسف وفي إذا المفاجأة والجملة الإسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى فكأنه زاهق من الأصل وذكره لترشيح المجاز فإن ذهاب الروح إنما يلائم المستعار منه أي : المعنى الأصلي للدمغ فإن الدماغ مجمع الحواس وإذا بلغت الشجة إليه يموت الحيوان.
وفي "التأويلات النجمية" للحق ثلاث مراتب وكذا للباطل مرتبة أفعال الحق ومرتبة صفات الحق ومرتبة ذات الحق تعالى فأما أفعال الحق فهي ما أمره الله به العباد فبها يدمغ باطل ما نهى الله عنه وأما صفات الحق فبتجليها يدمغ باطل صفات العبد وأما ذات الحق فإذا تجلى الله بذاته يدمغ باطل جميع الذوات كما قال تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} (القصص : 88) ويدل عليه {وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَـاطِلُ} (الإسراء : 81) ولعل من قال أنا الحق إنما قال عند تجلي ذات الحق أو صفة حقيقته لذاته الباطل إذا زهق باطل ذاته عند مجيىء الحق فأخبر الحق عن ذاته بلسان اتصف بصفة الحق فقال أنا الحق ، قال المغربي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 460
ناصر ومنصور ميكويد انا الحق المبين
بشنواز ناصركه آن كفتاراز منصور نيست
وقال الخجندي قدس سره :
هركه بدار فنا جبه هستى بسوخت
رمز سوى الله بخواند سرانا الحق شنود
وقال :
أسرار أنا الحق سخهن نيك بلندست
معنى نين جز بسردار نيابى
{وَلَكُمُ الْوَيْلُ} قال الأصمعي ويل قبوح وقد يستعمل في التحسر وويس استصغار وويح ترحم ومن قال ويل واد في جهنم فإنه لم يرد أن ويلاً في اللغة هو موضوع لهذا وإنما أراد أن من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقراً من النار وثبت ذلك له.
والمعنى استقر لكم الهلاك أيها المشركون {مِمَّا تَصِفُونَ} من تعليلية متعلقة بالاستقرار أي : من أجل وصفكم له سبحانه
461
بما لا يليق بشأنه الجليل من المرأة والولد ووصف كلامه بأنه سحر وأضغاث أحلام ونحو ذلك من الأباطيل.
(5/353)
{وَلَهُ} خاصة {مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي : جميع المخلوقات إيجاداً واستبعاداً {وَمَنْا عِندَهُ} من عطف الخاص على العام والمراد الملائكة المكرمون المنزلون لكرامتهم عليه منزلة المقربين عند الملوك على طريقة التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم على أكثر خلقه لا على الجميع كما زعم أبو بكر الباقلاني وجميع المعتزلة فالمراد بالعندية عندية الشرف لا عندية المكان والجهة وعند وإن كان من الظروف المكانية إلا أنه شبه قرب المكانة والمنزلة بقرب المكان والمسافة فعبر عن المشبه بلفظ المشبه به.
قال الكاشفي : (يعني فرشتكان كه مقربان دركاه الوهيت اند وشما ايشانرا مى رستيد) {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي : لا يتعظمون عنها ولا يعدون أنفسهم كبيرة بل يتفاخرون بعبوديته فالبشر مع نهاية ضعفهم أولى أن يطيعوه والجملة حال من قوله من عنده.
وجعل المولى أبو السعود رحمه الله من عنده مبتدأ ولا يستكبرون خبره {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} ولا يكلون ولا يعيون يقال حسر واستحسر إذا تعب وأعيى يعني أن استفعل بمعنى فعل نحو قر واستقر.
قال في "المفردات" : الحسر كشف الملبس عما عليه يقال حسرت عن الذراع والحاسر من لا درع عليه ولا مغفر والناقة حسير حسر عنها اللحم والقوة والحاسر المعيى لانكشاف قواه ويقال للمعي حاسر ومحسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره والحسرة الغم على ما فاته والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه أو انحسر قواه من فرط غم أدركه وأعياه عن تدارك ما فرط منه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 460
{يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ} كأنه قيل كيف يعبدون فقيل يسبحون الليل والنهار أي : ينزهونه في جميع الأوقات عن وصمة الحدوث وعن الأنداد ويعظمونه ويمجدونه دائماً {لا يَفْتُرُونَ} لا يتخلل تسبيحهم فترة طرفة عين بفراغ منه أو بشغل آخر لأنهم يعيشون كما يعيش الإنسان بالنفس والحوت بالماء.
يعني أن التسبيح بالنسبة إلى الملائكة كالتنفس بالنسبة إلينا فكما أن قيامنا وقعودنا وتكلمنا وغير ذلك من أفعالنا لا يشغلنا عن التنفس فكذلك الملائكة لا يشغلهم عن التسبيح شيء من أفعالهم كما قال عبد الله بن الحارث لكعب أليس إنهم يؤدون الرسالة ويلعنون من لعنه الله كما قال : {جَاعِلِ الملائكة رُسُلا} (فاطر : 1) وقال : {أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائكَةِ} (البقرة : 161) فقال : التسبيح لهم كالتنفس لنا فلا يمنعهم عن عمل.
فإن قلت التسبيح واللعن من جنس الكلام فكيف لا يمنع أحدهما الآخر.
قلنا لا يبعد أن يخلق الله لهم ألسنة كثيرة ببعضها يسبحون وببعضها يلعنون.
أو المعنى لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته كما يقال فلان مواظب على الجماعة لا يفتر عنها فإنه لا يراد به دوام الاشتغال بها وإنما يراد العزم على أدائها في أوقاتها كما في "الكبير".
وعن بعض أرباب الحقائق زالت مشقة التكاليف الشرعية عن أهل الله تعالى لفرط محبتهم إياه سبحانه ولتبدل مجاهدتهم بالحب الإلهي لأنه ظهر شرف تلك التكاليف وبهر كونها تجليات الهية.
يقول الفقير : سمعت من حضرة شيخي وسندي قدس سره وهو يقول لا تتيسر حلاوة العبودية إلا بعد المعرفة التامة بالله تعالى والشهود الكامل له وذلك لأن لذة المناجاة مع السلطان لا يصل إليها السائس
462
فعبادة أهل الحجاب لا تخلو عن فتور وكلفة بخلاف أهل الكشف الإلهي فإن العبادة صارت لهم كالعادة لغيرهم في سهولة المأخذ والقيام بها نسأل الله تعالى أن يخفف عنا الأوزار أنه الكريم الغفار.
قال الراغب الفتور سكون بعد حدة ولين بعد شدة وضعف بعد قوة قال تعالى : يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ} (المائدة : 19) أي : سكون خال عن مجيىء رسول وقوله تعالى : {لا يَفْتُرُونَ} أي : لا يسكنون عن نشاطهم في العبادة وفي الحديث : "لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فمن فتر إلى سنتي فقد نجا وإلا فقد هلك" فقوله : "لكل شرة" فترة إشارة إلى ما قيل للباطل صولة ثم تضمحل وللحق دولة لا تزل وقوله : "من فتر إلى سنتي أي : سكن إليها فالطرف الفاتر فيه ضعف مستحسن والفتر ما بين طرف الإبهام وطرف السبابة يقال فترته بفترى وشبرته بشبري انتهى كلام الراغب الأصفهاني في "كتاب المفردات".
جزء : 5 رقم الصفحة : 460(5/354)
{أَمِ اتَّخَذُوا ءَالِهَةً} أم منقطعة مقدرة ببل مع الهمزة ومعنى الهمزة إنكار الوقوع لا إنكار الواقع والضمير للمشركين والمراد بالآلهة الأصنام {مِّنَ الأرْضِ} متعلق باتخذوا بمعنى ابتدأوا اتخاذها من الأرض بأن صنعوها ونحتوها من بعض الحجارة أو من بعض جواهرها كالشبة والصفر ونحوهما والمراد به تحقير المتخذ لا التخصيص {هُمْ يُنشِرُونَ} يقال : أنشره الله أحياه أي : يبعثون الموتى والجملة صفة الآلهة وهو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع لا نفس الاتخاذ فإنه واقع لا محالة بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى كلا فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل عن ذلك وهم وإن لم يقولوا بذلك صريحاً فإنهم لم يثبتوا الإنشارتعالى كما قالوا من يحيي العظام وهي رميم فكيف يثبتونه للأصنام لكنهم حيث ادعوا لها الآلهية فكأنهم ادعوا لها الإنشار ضرورة أنه من الخصائص الإلهية حتماً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 460
{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ} تنزيه لنفسه عن الشريك بالنظر العقلي وإلا بمعنى غير على أنها صفة آلهة أي : لو كان في السموات والأرض آلهة غير الله كما هو اعتقادهم الباطل سواء كان الله معهم أو لم يكن.
قال في "الأسئلة المقحمة" : كيف قال لو كان فيهما فجعل السموات ظرفاً وهو تحديد والجواب لم يرد به معنى الظرف وإنما هو كقوله : {وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ} {لَفَسَدَتَا} الفساد خروج الشيء عن الاعتدال قليلاً كان الخروج عنه أم كثيراً ويضاده الصلاح ويستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامة أي : لخرجتا عن هذا لنظام المشاهد لأن كل أمر بين الإثنين لا يجري على نظام واحد والرعية تفسد بتدبير الملكين وحيث انتفى التالي تعين انتفاء المقدم.
قال في "التأويلات النجمية" : إن هذه الآلهة لا تخلو إما أن يكون كلهم متساوياً في الألوهية وكمال القدرة أو بعضهم كامل وبعضهم ناقص وإما أن يكون كلهم ناقصاً يحتاج بعضهم إلى بعض في الإلهية وإما كمالية بعضهم وناقصية بعضهم فهو يقتضي استغناء الكامل عن الناقص فالناقص لا يصلح للإلهية.
وأما الناقصون الذين يحتاجون إلى إعانة بعضهم لبعض فلا يصلحون للآلهية لأنهم محتاجون إلى مكمل واحد مستغن عما سواه وهو الله الواحد الأحد الصمد الغني عما سواه وما سواه محتاج إليه ولو كان فيهما آلهة غيره لفسدتا لعدم مدبر كامل في الإلهية ولعجز آلهة أخرى في المدبرية :
463
درد وجهان قادر ويكتا تويى
جمله ضعيفند وتوانا تويى
ون قدمت بانك برابلق زند
جزتوكه يارو كه انا الحق زند
{فَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي : نزهوه تنزيهاً عما يصفونه به من اتخاذ الشريك والصاحبة والولد لأن ذلك من صفات الأجسام ولو كان الله جسماً لم يقدر على خلق العالم وتدبير أمره ولم يكن مبدأ له على أن الجسم مركب ومتحيز وذلك من إمارات الحدوث وجواز الوجود وواجب الوجود متعال عن ذلك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 463
قال في "التأويلات النجمية" : نزه الله نفسه عن العجز والاحتياج لغيره في الإلهية وأثبت أنه خالق العرش الذي هو مصدر فيض الرحمانية إلى المكونات لنفي الإلهية عن غيره منزهاً عما يصفون باحتياجه إلى العرش أو بآلهة أخرى في الإلهية ، وفي "المثنوي" :
واحد اندر ملك او را يارانى
بندكانش را جزاو سالارنىنيست خلقش را دكركس مالكى
شر كتش دعوى كند جزها لكى
قال بعض الكبار افترى العادلون عن الله إلى غيره كالطبائعيين القائلين بأن جميع التأثيرات الواقعة إنما هي من مقتضيات الطبيعة كديمقراطيس واتباعه والسوفسطائيين المنكرين لجميع الموجودات حتى أنفسهم وإنكارهم وأما الثنوية أعني القائلين بالهين اثنين أحدهما مصدر للخيرات والآخر مصدر للشرور فإنهم قد لعنوا على لسان أهل الإشراف الكشفي والبرهاني ليس لجسد قلبان ولا لبدن نفسان ولا للسماء شمسان شهد الأخبار بواحد وهو منتهى الأعيان لو حصل شمسان لانطمست الأركان أبي النظام شمسا أخرى فكيف لا يأبى إلهاً آخر إن كان للقيوم شريك فأين شمسه لأنها أكمل النيرات فخالقها أكمل ممن لم يخلق مثلها ومن غيره أكمل منه لا يكون واجباً لذاته لأن الوجوب الذاتي من خصائص الكمال التام فحيث لم نجد شمساً أخرى عرفنا أنه ليس في الوجود إله آخر :
يشهد الله أينما يبدو
أنه لا إله إلا هو
(5/355)
قال بعض أرباب الحقائق : لو كان في سماء الروحانية وأرض البشرية مدبرات مثل العقل في سماء الروحانية وفي الهوى أرض البشرية غير هداية الله تعالى بواسطة الأنبياء والشرائع لفسدنا كما فسدت بتدبير العقل والهوى سماء الروحانية الفلاسفة والطبائعية والدهرية والإباحية والملاحدة وأرض بشريتهم فأما فساد سماء أرواحهم فبأن زلت قدمهم عن جادة التوحيد وصراط الوحدانية حتى أثبتوا لواحد القديم شريكاً قديماً وهو العالم فلم يقبلوا دعوة الأنبياء ولم يهتدوا بهداية الحق ، وفي "المثنوي" :
اى ببرده عقل هديه تا اله
عقل آنجا كمترست ازخاك راه وأما فساد أرض بشريتهم فبأن زلت قدمهم عن جادة العبودية وصراط الشريعة والمتابعة حتى عبدوا طاغوت الهوى والشيطان وآل أمر فساد حالهم إلى أن قال تعالى فيهم : {صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} (البقرة : 18).
قال الشيخ أبو عثمان المغربي قدس سره من أمر السنة على نفسه أخذاً وتركاً وحباً وبغضاً نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة فعلى السالك أن يأخذ بالطريق الوسط وهو طريق الكتاب والسنة الموصل إلى الجنة والقربة والوصلة ويجتهد في تحصيل كمال الصدق والإخلاص إذ هو الزاد لأهل الاختصاص نسأل الله الفياض
464
الكريم أن يشرفنا بفيضه العميم ويثبتنا على صراطه المستقيم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 463
{لا يُسْـاَلُ} الله تعالى {عَمَّا يَفْعَلُ} ويحكم {وَهُمْ} أي : العباد {يُسْـاَلُونَ} عما يفعلون نقيراً وقطميراً والسؤال استدعاء معرفة أو ما يؤدي إلى المعرفة وجوابه على اللسان واليد خليفة له بالكتابة والإشارة.
فإن قيل ما معنى السؤال بالنسبة إلى الله تعالى؟ قلنا تعريف للقوم وبتكيتهم لا تعريفتعالى فإنه علام الغيوب فالسؤال كما يكون للاستعلام يكون للتبكيت وإنما لا يسأل سؤال إنكار ويجوز السؤال عنه على سبيل الاستكشاف والبيان كقوله : {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ} (مريم : 8) وعلى سبيل التضرع والحاجة كقوله تعالى حكاية عن الكافر {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} (طه : 125).
قال في "بحر العلوم" : إنما لا يسأل عما يفعل لأنه رب مالك علام لا نهاية لعلمه وكل من سواه مربوب مملوك جاهل لا يعلم شيئاً إلا بتعليم فليس للمملوك الجاهل أن يتعرض على سيده العليم بكل شيء فيما يفعل ويقول لم فعلت وهلا فعلت مثلاً وهم يسألون لأنهم مملوكون مستعبدون خطاؤون فيقال لهم في كل شيء فعلوه لم فعلتم.
واعلم أن الاعتراض شؤم يسخط الرب ويوجب عقابه وسخطه ، قال الحافظ :
مزن زون ورادم كه بنده مقبل
قبول كردبجان هرسخن كه جانان كفت
جزء : 5 رقم الصفحة : 463
وبشؤم الاعتراض على الله في فعله لعن إبليس وكان من مردة الكافرين فإنه تعالى لما أمره بالسجود قال : {لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَـاـاِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} (الإسراء : 61) وبشؤم الاعتراض في شأن بني آدم أصاب الملكين هاروت وماروت ما أصابهما فهذا بالاعتراض في شأن المخلوق فكيف بالاعتراض في شأن الخالق وبالاعتراض على الله والتعمق في الخوض في صفاته هلك الهالكون من أهل الأهواء وأرباب الآراء تعمقوا فيما لم يتعمق فيه أصحاب رسول الله والتابعون ومن تبعهم من أهل الحق وتكلفوا الخوض فيه فوقعوا في الشبهات فضلوا وأضلوا ولو لم يتعمقوا لسلموا وقد اتفقت كلمة أهل الحق على أن الاعتراض على الله الملك الحق في فعله وما يحدثه في خلقه كفر فلا يتجرىء عليه إلا كافر وجاهل ضال.
وكذا الاعتراض على النبي عليه السلام فإنه إنما يقول عن الحق لا عن الهوى فالاعتراض عليه اعتراض على الحق وفيه الهلاك.
قال أبو هريرة رضي الله عنه : سمعت رسول الله يقول : "يا أيها الناس كتب عليكم الحج" فقام عكاشة بن محصن فقال : أكل عام يا رسول الله فقال : "لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ثم تركتموها لضللتم اسكتوا عني ما سكت عنكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" فأنزل الله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَسْـاـاَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة : 101) الآية.
ومن أشد التشنيع وأقبح الاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما روى عن بعض الكبار أنه قال : كنت في مجلس بعض الغافلين فتكلم إلى أن قال لا مخلص لأحد من الهوى ولو كان فلاناً عني به النبي عليه السلام من حيث قال : "حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة" فقلت أما تستحيى من الله تعالى فإنه ما قال أحببت بل قال حبب فكيف يلام العبد من عند الله ثم حصل لي هم وغم فرأيت النبي عليه السلام في المنام فقال : لا تغتم فقد كفيناك أمره ثم سمعت أنه قتل.
قال الفقهاء من عيره عليه السلام بالميل إلى نسائه قاصداً به النقص يقتل قاتله الله تعالى.
يقول الفقير :
465
(5/356)
شب ره ميطلبد بدر تمامت نقصان
اونداندكه ابدنور تو ظاهر باشد
هركه ازروى جدل برتو سخن ميراند
بمثل شد اكرش بو على كافر باشد
جزء : 5 رقم الصفحة : 463
وأما الاعتراض على الأولياء والمشايخ من العلماء فإنه يحرم الخير ويقطع بركة الصحبة وزيادة العلم يدل على ذلك شأنه موسى والخضر عليهما السلام نهاه عن الاعتراض عليه فيما يفعل بقوله : {فَلا تَسْـاَلْنِي عَن شَىءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} (الكهف : 70) فاعترض عليه فناداه الخضر بالفراق فحرم بركة صحبته وانقطعت بركة الزيادة من علمه والخير الذي جعله الله معه.
ومن شؤم الاعتراض ما كان من أمر الخوارج اعترضوا على علي رضي الله عنه وخرجوا عليه فخرجوا من الدين وصاروا كلاب النار وشر قتلى تحت أديم السماء.
قال أبو يزيد البسطامي قدس سره في حق تلميذه لما خالفه دعوا من سقط من عين الله فرؤي بعد ذلك مع المخنثين وسرق فقطعت يده هذا حظ المعترض في الدنيا وأما حاله في الآخرة فلا يكلمه الله ولا ينظر إليه وله عذاب أليم في نار القطعية والهجران ، يقول الفقير :
هين مكن بامر شد كامل جدل
تانباشد كمرهى اورا بدل
{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِه ءَالِهَةً} الهمزة لإنكار الاتخاذ المذكور واستقباحه واستعظامه ومن متعلقة باتخذوا.
والمعنى بل اتخذوا متجاوزين إياه تعالى آلهة مع ظهور خلوهم عن خواص الألوهية بالكلية {قُلْ} لهم بطريق الإلزام وإلقام الحجر {هَاتُوا} (بياريد).
قال في "بحر العلوم" هات من أسماء الأفعال يقال هات الشي أي : أعطنيه.
والمعنى أعطوني {بُرْهَـانَكُمْ} حجتكم على ما تدعون من جهة العقل والنقل فإنه لا صحة لقول لا دليل عليه في الأمور الدينية لا سيما في مثل هذا الشأن الخطير.
قال الراغب البرهان فعلان مثل الرجحان والبنيان.
وقال بعضهم هو مصدر بره يبره إذا ابيض انتهى وقد أشار صاحب "القاموس" إلى كليهما حيث قال في باب النون البرهان بالضم الحجة وبرهن عليه أقام البرهان وفي باب الهاء أبره أتى بالبرهان.
قال في "المفردات" : البرهان أوكد الأدلة وهو الذي يقتضي الصدق أبداً {هَـاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى} هذا إشارة إلى الموجود بينهم من الكتب الثلاثة القرآن والتوارة والإنجيل فالقرآن ذكر وعظة لمن اتبعه عليه السلام إلى يوم القيامة والتوراة والإنجيل ذكر وعظة للأمم المتقدمة يعني راجعوا هذه الكتب الثلاثة هل تجدون في واحد منها غير الأمر بالتوحيد فهذا برهاني قد أقمته فأقيموا أيضاً برهانكم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 463
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن إثبات الوحدانية بالتحقيق وكشف العيان من خصوصية العلماء المحققين من أمتي الذين هم معي في سير المقامات وقطع المنازل إلى الخضرة كما هو من خصائص الأنبياء من قبلي ومن هنا قال صلى الله عليه وسلّم "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" أي : في صدق طلب الحق بالإعراض عن الكونين والتوجه إلى الله تعالى {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} إضراب من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن أي : لا يفهمون الحق ولا يميزون بينه وبين الباطل فلا تنجع فيهم المحاجة بإظهار حقية الحق وبطلان الباطل.
وفي "بحر العلوم" كأنه قيل بل عندهم ما هو أصل الفساد كله وهو الجهل وعدم التمييز بين الحق والباطل فمن ثمة جاء
466
الإعراض ومن هناك ورد الإنكار {فَهُمُ} لأجل ذلك {مُّعْرِضُونَ} مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول وأما أقلهم العالمون فلا يقبلونه عناداً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 463
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ} أي : الشأن {لا إله إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} أي : وحدوني ولا تشركوا بي.
وفيه إشارة إلى أن الحكمة في بعثة جميع الأنبياء والرسل مقصورة على هاتين المصلحتين وهما إثبات وحدانية الله تعالى وتعبده بالإخلاص لتكون فائدة تينك المصلحتين راجعة إلى العباد لا إلى الله تعالى كما قال : "خلقت الخلق ليربحوا عليّ لا لأربح عليهم" ، وفي "المثنوي" :
ون خلقت الخلق كي يربح على
لطف توفر مود أي : قيوم وحي
لا لأن أربح عليهم جودنست
كه شود زو جمله ناقصها درست
عفو كن زين ناقصان تن رست
عفو ازدرياى عفو او ليترست
وأكبر فائدتهما معرفة الله تعالى كما قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) أي : ليعرفون وهي مختصة بالإنسان دون سائر المخلوقات فإنها هي حقيقة الأمانة التي قال تعالى : {إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الأحزاب : 72) الآية.
(5/357)
يقول الفقير : العبادة طريق المعرفة وهي طريق الرؤية فالرؤية أعلى من المعرفة لأن العارفين مشتاقون إلى منازل أهل الوصال والواصلون لا يشتاقون إلى منازل أهل المعرفة والمعرفة يتولد منها التعب والعناء والرؤية يتولد منها السرور والرضى.
قال بعض العارفين المعرفة ألطف والرؤية أشرف والمعرفة أشد والرؤية آكد فعلى السالك أن يجتهد في تحقيق المعرفة والتوحيد ويصل إلى رؤية الحميد المجيد.
والتوحيد على ثلاث مراتب : توحيد أهل البداية وهو لا إله إلا هو وسير أهل هذا التوحيد في عالم الأجسام ، وتوحيد أهل التوسط وهو لا إله إلا أنت وسير أهل هذا التوحيد في عالم الحقيقة وإلى هذه المرتبة أشار الشيخ المغربي قدس سره بقوله :
جزء : 5 رقم الصفحة : 467
نور هستى جمله ذرات عالم تا ابد
ميكننداز مغربى ون ماء ازمهر اقتباس
ومن لطائف الكمال الخجندي قوله :
طاس بازى بديدم از بغداد
ون جنيد ازسلوكش آكاهى
رفت درجبه وقت بازى كفت
ليس في جبتي سوى اللهي
ثم إن في الآية إشارة إلى أن أكثر الخلق من يدعون الإسلام والتوحيد ولا يميزون الحق من الباطل فيتبعون أهل الشرك والرياء والبدع والهوى والدنيا ولذا قلت عبادتهم بالإخلاص بل انتفى رعاية الشريعة بينهم ولو كان لهم استعداد وجدان الحق لوجدوا أهله أولاً ووصلوا بتسليكهم على قدمي الشريعة والطريقة إلى المعرفة والحقيقة فإنما حرموا الوصول بتضييعهم الأصول ومن الله الهداية والتوفيق ومنه الوصول إلى مقام الصدق والتحقيق.
{وَقَالُوا} أي : حي من خزاعة {اتَّخَذَ الرَّحْمَـانُ وَلَدًا} من الملائكة وادعوا أنهم بنات الله وأنه تعالى صاهر سروات الجن فولدت له الملائكة.
قال الراغب الأخذ وضع الشيء وتحصيله وذلك تارة
467
بالتناول نحو {مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلا مَن وَجَدْنَا مَتَـاعَنَا عِندَهُ} (يوسف : 79) وتارة بالقهر نحو قوله تعالى : {لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} (البقرة : 255) ويقال أخذته الحمى ويعبر عن الأسير بالمأخوذ والأخيذ والاتخاذ افتعال منه فيتعدى إلى مفعولين ويجري مجرى الجعل {سُبْحَـانَه} أي : تنزه بالذات تنزهه اللائق به على أن السبحان مصدر من سبح أي : بعد أو أسبحه تسبيحه على أنه علم للتسبيح وهو مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحه.
قال في "بحر العلوم" ويجوز أن يكون تعجباً من كلمتهم الحمقاء أي : ما أبعد من ينعم بجلائل النعم ودقائقها وما أعلاه عما يضاف إليه من اتخاذ الولد والصاحبة والشريك انتهى.
وقال في "الكشف" التنزيه لا ينافي التعجب {بَلِ} ليست الملائكة كما قالوا بل هم {عِبَادِ} مخلوقون له تعالى {مُّكْرَمُونَ} مقربون عنده مفضلون على كثير من العباد لا على كلهم والمخلوقية تنافي الولادة لأنها تقتضي المناسبة فليسوا بأولاد وإكرامهم لا يقتضي كونهم أولاداً كما زعموا.
{لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ} صفة أخرى لعباد وأصل السبق التقدم في السير ثم تجوز به في غيره من التقدم أي : لا يقولون شيئاً حتى يقوله تعالى ويأمرهم به لكمال انقيادهم وطاعتهم كالعبيد المؤدبين.
قال الكاشفي : (يعني بى دستورىء وى سخن نكويند مراد ازين سخن قطع طمع كافرانست از شفاعت ملائكه يعني ايشان بى اذن خداشفاعت نتوانند كرد) {وَهُم بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ} أي : كما أنهم يقولون بأمره كذلك يعملون بأمره لا بغير أمره أصلاً فالقصر المستفاد من تقديم الجار معتبر بالنسبة إلى غير أمره لا إلى أمر غيره والأمر مصدر أمرته إذا كلفته أن يفعل شيئاً.
وفي الآية إشارة إلى أن العباد المتكرمين بالتقرب إلى الله تعالى والوصول إليه لا يقولون شيئاً من تلقاء نفوسهم ولا يفعلون شيئاً بإرادتهم بل إذا نطقوا نطقوا بالله وإذا سكتوا سكتوا بالله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 467
يقول الفقير :
ون وزد باد صبا وقت سحر
ميشود دريا زجنبش موجكر
موج وتحريك از صبا باشد همين
نى زدريا اين خروش آينده هين
(5/358)
{يَعْلَمْ} الله تعالى أي : لا يخفى عليه {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما قدموا من الأقوال والأعمال {وَمَا خَلْفَهُم} وما أخروا منهما وهو الذي ما قالوه وما عملوه بعد فيعلمهم بإحاطته تعالى بذلك ولا يزالون يراقبون أحوالهم فلا يقدمون على قول أو عمل بغير أمره تعالى فهو تعليل لما قبله وتمهيد لما بعده {وَلا يَشْفَعُونَ} الشفع ضم الشيء إلى مثله.
والشفاعة الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى ومنه الشفاعة في القيامة {إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} أن يشفع له من أهل الإيمان مهابة منه تعالى وبالفارسية : (مكر كسى كه خداى بشفاعت به سندد اورا) قال ابن عباس رضي الله عنهما إلا لمن قال لا إله إلا الله.
فلا دليل فيه للمعتزلة في نفي الشفاعة عن أصحاب الكبائر.
قال في الأسئلة المقحمة هذا دليل على أن لا شفاعة لأهل الكبائر لأنه لا يرضى لهم والجواب قد ارتضى العاصي لمعرفته وشهادته وإن كان لا يرتضيه لفعله لأنه أطاعه من وجوه وإن عصاه من وجوه أخر فهو مرتضاه من وجوه الطاعة له ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما الذي ارتضاهم هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله ، وفي "المثنوي" :
468
كفت يغمبركه روز رستخيز
كى كذارم مجرمانرا اشك ريز
من شفيع عاصيان باشم بجان
تارهانم شان زاشكنجه كران
عاصيان واهل كبائررا بجهد
وارهانم ازعتاب نقض عهد
صالحان امتم خود فارغند
از شفاعتهاى من روز كزند
بلكه ايشانرا شفاعتها بود
كفتشان ون حكم نافذمى رود
{وَهُمْ} مع ذلك {مِّنْ خَشْيَتِهِ} أي : من خشيتهم منه تعالى فأضيف المصدر إلى مفعوله {مُشْفِقُونَ} مرتعدون (يا ازمهابت وعظمت اوترسان) والإشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه كما في "المفردات".
قال ابن الشيخ الخشية والإشفاق متقاربان في المعنى والفرق بينهما أن المنظور في الخشية جانب المخشى منه وهو عظمته ومهابته وفي الإشفاق جانب المخشى عليه وهو الاعتناء بشأنه وعدم الأمن من أن يصيبه مكروه ثم إنالإشفاق يتعدى بكل واحد من كلمتي من وعلى يقال أشفق عليه فهو مشفق وأشفق منه أي : حذر فإن عدى بمن يكون معنى الخوف فيه أظهر من معنى الاعتناء وإن عدى بعلى يكون معنى الاعتناء أظهر من معنى الخوف.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه رأى جبريل ليلة المعراج ساقطاً كالحلس من خشية الله تعالى.
وعنه أيضاً أن إسرافيل له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب والعرش على جناحه وإنه ليتضاءل الأحيان حتى يعود مثل الوصع وهو بالسكون ويحرك طائر أصغر من العصفور كما في "القاموس" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 467
خوف وخشيت حليه اهل دلست
امن وبى روايى شان غافلست
حينئذٍ.
{وَمَن يَقُلْ} (وهركه كويد) {مِنْهُمْ} أي : من الملائكة {إِنِّى إِلَـاهٌ مِّن دُونِهِ} أي : حال كونه متجاوزاً إياه تعالى {فَذَالِكَ} الذي فرض قوله فرض محال فهذا لا يدل على أنه قالوه.
وقال بعضهم هو إبليس حيث ادعى الشركة في الألوهية ودعا إلى عبادة نفسه وفيه إنه يلزم أن يكون من الملائكة {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} كسائر المجرمين ولا يغني عنهم ما ذكر من صفاتهم السنية وأفعالهم المرضية وهو تهديد للمشركين بتهديد مدّعى الربوبية ليمتنعوا عن شركهم {كَذَالِكَ نَجْزِى الظَّـالِمِينَ} مصدر تشبيهي مؤكد لمضمون ما قبله أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الذين يضعون الأشياء من غير مواضعها ويتعدون أطوارهم بالإشراك وادعاء الإلهية.
والقصر المستفاد من التقديم معتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة أي : لا جزاء أنقص منه والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيراً فخير وإن شراً فشر يقال جزيته كذا وبكذا.
جزء : 5 رقم الصفحة : 467
وفي "التأويلات النجمية" يشير بقوله : {لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ} إلى أنهم خلقوا منزهين عن الاحتياج إلى مأكول ومشروب وملبوس ومنكوح وما يدفع عنهم البرد والحر وما ابتلاهم الله بالأمراض والعلل والآفات ليسبقوا الله بالقول ويستدعوا منه رفعها وإزالتها والخلاص منها بالتضرع وكذلك ما ابتلاهم الله بطبيعة تخالف أوامر الله تعالى فيمكن منهم خلاف ما يؤمرون {وَهُم بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ} نظيره {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم : 6) ولعمري إنهم وإن كانوا
469
(5/359)
مكرمين بهذه الخصال فإن بني آدم في سر {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} (الإسراء : 71) آكد المكرمين منهم بكرامات أكبر منها درجة وأرفع منها منزلة وذلك لأنهم لما خلقوا محتاجين إلى ما لا تحتاج إليه الملائكة أكرموا بالكرامتين اللتين لم تكرم بهما الملائكة فإحداهما الرجوع إلى الله مضطرين فيما يحتاجون إليه فأكرموا بكرامة الدعاء ووعدهم عليه بالاستجابة بقوله : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر : 60) فلهم الشركة مع الملائكة في قوله : {لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ} الآية لأنهم بأمره دعوه عند رفع الحاجات ولذلك أثنى عليهم بقوله : {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} (السجدة : 16) وقد أعظم أمر الدعاء بقوله : {قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلا دُعَآؤُكُمْ} (الفرقان : 77) وهم ممتازون عن الملائكة بكرامة الدعاء والاستجابة وهذه مرتبة الخواص من بني آدم في الدعاء.
فأما مرتبة أخص الخواص فهي أنهم يدعون ربهم لا خوفاً ولا طمعاً بل محبة منهم وشوقاً إلى وجهه الكريم كما قال : {يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الأنعام : 52) وهذه هي الكرامة الثانية التي من نتائج الاحتياج حتى لا يبقى شيء من المخلوقات إلا محتاجاً بخلاف مخلوق آخر فإن لكل مخلوق استعداداً في الاحتياج يناسب حال جبلته التي جبل عليها فكل مخلوق يفتقر إلى خالقه بنوع ما وتفتقر إليه بنوا آدم من جميع الوجوه وهذا هو سر قوله تعالى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 467
{وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ} (محمد : 38) كما أن ذاته وصفاته استوعبت الغنى كذلك ذواتهم وصفاتهم استوعبت الفقر فأكرمهم الله بعلم أسماء ما كانوا محتاجين إليه كله ووفقهم للسؤال عنه وأنعم عليهم بالإجابة فقال : {وَءَاتَـاـاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} (إبراهيم : 34) وعد ذلك من النعم التي لا نهاية لها وكرامة لا كرامة فوقها بقوله : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ} (إبراهيم : 34) وبقوله : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} يشير إلى أنه يعلم ما بين أيدي الملائكة من خجالة قولهم : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} (البقرة : 30) الآية فإن فيه شائبة نوع من الاعتراض ونوع من الغيبة ونوع من العجب حتى عيرهم الله فيما قالوا وقال : {إِنِّيا أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة : 30) يعني أعلم منه استحقاق المسجودية وأعلم منكم استحقاق الساجدية له وما خلفهم أي : وما يأمرهم بالسجود له والاستغفار لمن في الأرض يعني المغتابين من أولاده ليكون كفارة لما صدر منهم في حقهم {وَلا يَشْفَعُونَ} في الاستغفار {إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} يعني الله تبارك وتعالى من أهل المغفرة وهم من خشيته مشفقون أي : من خشية الله وسطوة جلاله خائفون أن لا يعفو عنهم ما قالوا أو يأخذهم به ومن يقل منهم إني إله من دونه يعني من الملائكة فذلك نجزيه جهنم يشير إلى أنه ليس للملك استعداد الاتصاف بصفات الألوهية ولو ادعى هذه المرتبة فجزاؤه جهم البعد والطرد والتعذيب كما كان حال إبليس وبه يشير إلى أن الاتصاف بصفات الألوهية مرتبة بني آدم كما قال عليه السلام : "تخلقوا بأخلاق الله" وقال : "عنوان كتاب الله إلى أوليائه يوم القيامة من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت" فافهم جداً كذلك نجزي الظالمين يعني الذين يضعون الأشياء في غير موضعها كأهل الرياء والسمعة والشرك الخفي انتهى ما في "التأويلات النجمية".
جزء : 5 رقم الصفحة : 467
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الهمزة لإنكار نفي الرؤية وإنكار النفي نفي له ونفي النفي إثبات والواو للعطف على مقدر والرؤية قلبية لا بصرية حتى لا يناقض قوله تعالى : {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الكهف : 51) والمعنى ألم يتفكروا أو ألم يستفسروا من العلماء أو ألم يطالعوا الكتب أو ألم يسمعوا الوحي ولم يعلموا {أَنَّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ كَانَتَا} ثني الضمير الراجع إلى الجمع باعتبار أن المرجع إليه
470
(5/360)
جماعتان {رَتْقًا} على حذف المضاف أي : ذواتي رتق بمعنى ملتزقتين ومنضمتين لا فضاء بينهما ولا فرج فإن الرتق هو الضم والالتحام خلقة كان أو صنعة {فَفَتَقْنَـاهُمَا} الفتق الفصل بين المتصلين وهو ضد الرتق أي : ففصلنا وفرقنا إحداهما عن الأخرى بالريح وفي الحديث المشهور "أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بنظر الهيبة فذابت وارتعدت من خوف ربها فصارت ماء ثم نظر إليها نظر الرحمة فجمد نصفها فخلق منه العرش وارتعد العرش فكتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن العرش فترى الماء يرتعد إلى يوم القيامة" وذلك قوله تعالى : {وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ} أي : العذب "ثم حصل من تلاطم الماء أدخنة متراكمة بعضها على بعض وزبد فخلق منها السموات والأرض طباقاً وكانتا رتقاً وخلق الريح فيها ففتق بين طباق السموات وطباق الأرض" كما أخبر بقوله : {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ} وإنما خلقها من دخان ولم يخلقها من بخار لأن الدخان خلق متماسك الأجزاء يستقر عند منتهاه والبخار يتراجع وذلك من كمال علمه وحكمته "ثم بعد ذلك مد الزبد على وجه الماء ودحاه فصار أرضاً بقدرته" وذلك قوله تعالى : {وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ} (النازعات : 30) (وكفته اند آسمان بسته بود ازوى باران نمى آمد وزمين بسته بود ازو كياه نمى رست ما آن را بباران واين را بكياه كشاديم) يعني فتق السماء وهي أشد الأشياء وأصلبها بألين الأشياء وهو الماء وكذلك فتق الأرض بألين الأشياء وهو النبات مع شدتها وصلابتها.
فإن قيل المفتوقة بالمطر هي سماء الدنيا فما معنى الجمع؟ قلنا : جمع السموات لأن لها مدخلاً في الأمطار إذ التأثير إنما يحصل من جهة العلو.
جزء : 5 رقم الصفحة : 467
واعلم أن الفتق صفة الله تعالى كالعلم والقدرة وغيرهما فهو أزلي والمفتوق حادث بحدوث التعلق كما في العلم وغيره من الصفات التي لا يلزم من قدمها قدم متعلقاتها فتكون تعلقاتها حادثة.
فقول البيضاوي إن الفتق عارض خطأ كما في "بحر العلوم" {وَجَعَلْنَا} خلقنا {مِنَ الْمَآءِ} الماء جسم سيال قد أحاط حول الأرض {كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ} أي : كل حيوان عرف الماء باللام قصداً إلى الجنس أي : جعلنا مبدأ كل شيء حي من هذا الجنس أي : جنس الماء وهو النطفة كما في قوله تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} (النور : 45) أي : كل فرد من أفراد الدواب من نطفة معينة هي نطفة أبيه المختصة به أو كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع المياه وهو نوع النطفة التي تختص بذلك النوع من الدواب.
يقول الفقير : قد فرقوا بين الحي والحيوان بأن كل حيوان حي وليس كل حي حيواناً كالملك فالظاهر ما جاء في بعض الروايات من "أن الله تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء وآدم من تراب خلقه منه والجن من نار خلقها منه".
وقال بعضهم : يدخل في الآية النبات والشجر لنمائهما بالماء والحياة قد تطلق على القوة النامية الموجودة في النبات والحيوان كما في "المفردات" ويدل على حياتهما قوله تعالى : {وَيُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الروم : 19) كما في "الكبير" {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (آيا نمى كردند مشركان باوجود اين آيات واضحة).
وفي "التأويلات النجمية" يشير بقوله {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَـاهُمَا} إلى أن أرواح المؤمنين والكافرين خلقت قبل السموات والأرض كما قال عليه السلام : "إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام" وفي رواية "بأربعة آلاف سنة وكان خلق السموات والأرض
471
بمشهد من الأرواح وكانتا شيئاً واحداً" كما جاء في الحديث المشهور "أول ما خلق الله جوهرة" ويشير بقوله : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ} إلى أنه تعالى خلق حياة كل ذي حياة من الحيوانات من الماء الذي عليه عرشه وذلك أن الجوهرة التي هي مبدأ الموجودات وهي الروح الأعظم خلقت أرواح الإنسان والملك من أعلاها وخلقت أرواح الحيوانات والدواب من أسفلها وهي الماء كما قال : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} وكان ذلك كله بمشهد الأرواح فلذلك قال : {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} أي : أفلا يؤمنون بما خلقنا بمشهد من أرواحهم انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 467
واعلم أن المراد من رؤية الآيات الانتقال منها إلى رؤية صانعها رؤية قلبية هي حقيقة الإيمان.
(5/361)
ـ روي ـ أن علياً رضي الله عنه صعد المنبر يوماً وقال : سلوني عما دون العرش فإن ما بين الجوانح علم جم هذا لعاب رسول الله في فمي هذا ما رزقني رسول الله رزقاً فوالذي نفسي بيده لو أذن للتوراة والإنجيل أن يتكلما فأخبرت بما فيهما لصدّقاني على ذلك وكان في المجلس رجل يماني فقال : ادعى هذا الرجل دعوى عريضة لأفضحنه فقام وقال : اسأل قال : سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً فقال : أنت حملتني على ذلك هل رأيت ربك يا عليّ قال : ما كنت أعبد رباً لم أره فقال : كيف رأيت؟ قال : لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقيقة الإيمان ربي أحد واحد لا شريك له أحد لا ثاني له فرد لا مثل له لا يحويه مكان ولا يداوله زمان ولا يدرك بالحواس ولا يقاس بالقياس فسقط اليماني مغشياً عليه فلما أفاق قال : عاهدت الله أن لا أسأل تعنتاف ، قال الشيخ المغربي قدس سره :
نخست ديده طلب كن س آنكهى ديدار
ازانكه يار كند جلوه بر اولو الابصار
وقال الخجندي قدس سره :
بيدارشو آنكه طلب آن روى كه هركز
در خواب نين دولت بيدار نيابى
أزال الله عنا الغين والغفلة والحجاب وفتح بصائرنا إلى جناب جمال المهيمن الوهاب أنه رب الأرباب ومسبب الأسباب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 467
{وَجَعَلْنَا فِى الأرْضِ} الأرض جسم غليظ أغلظ ما يكون من الأجسام واقف على مركز العالم مبين لكيفية الجهات الست فالشرق حيث تطلع الشمس والقمر والغرب حيث تغيب والشمال حيث مدار الجدي والجنوب حيث مدار سهيل والفوق ما يلي المحيط والأسفل ما يلي مركز الأرض {رَوَاسِىَ} جبالاً ثوابت جمع راسي من رسا إذا ثبت ورسخ {أَن تَمِيدَ بِهِمْ} الميد اضطراب الشيء العظيم كاضطراب الأرض يقال ماد يميد ميداً إذا تحرك ومنه سميت المائدة وهي الطعام والخوان عليه الطعام كما قال الراغب : المائدة الطبق الذي عليه الطعام ويقال : لكل واحدة منهما مائدة.
والمعنى كراهة أن تميل الأرض وتضطرب والظاهر أن الباء للتعدية كما يفهم من قول بعضهم بالفارسية (تا بجنباند زمين آدميانرا).
قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الأرض بسطت على وجه الماء فكانت تميد بأهلها كما تميد السفينة على الماء فأرس لها الله بالجبال الثوابت كما ترسي السفينة بالمرساة وسئل عليّ رضي الله عنه أي : الخلق أشد؟ قال : أشد الخلق الجبال الرواسي والحديد أشد منها يبحث به الجبل والنار تغلب الحديد والماء يطفي النار والسحاب يحمل الماء والريح يحمل
472
السحاب والإنسان يغلب الريح بالثبات والنوم يغلب الإنسان والهم يغلب النوم والموت يغلب كلها.
يقول الفقير :
نباشد درجهان ون مرك يزى
كه غالب شد ترا هرخند عزيزى
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى الأبدال الذين هم أوتاد الأرض وأطوادها فأهل الأرض بهم يرزقون وبهم يمطرون والأبدال قوم بهم يقيم الله الأرض وهم سبعون : أربعون بالشام ، وثلاثون بغيرها ، لا يموت أحدهم إلا يقام مكانه آخر من سائر الناس وفي الحديث : "لن تخلو الأرض من أربعين رجلاً مثل خليل الرحمن فبهم تسقون وبهم تنصرون ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه آخر" {وَجَعَلْنَا فِيهَا} في الأرض أو في الرواسي وعليه اقتصر في "الجلالين" لأنها المحتاجة إلى الطرق {فِجَاجًا سُبُلا} أي : طرقاً مسلوكة لأن السبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك والفج الشق بين الجبلين {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} إرادة أن يهتدوا إلى مصالحهم ومهماتهم التي جعلت لهم في البلاد البعيدة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 472
{وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفًا} سميت سقفاً لأنها للأرض كالسقف {مَّحْفُوظًا} من الوقوع مع كونها بغير عمد أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم أو من استراق السمع بالشهب.
وفيه إشارة إلى أن سماء قلب العارف محفوظة من وساوس شيطان الإنس والجن وكان من دعاء النبي عليه السلام : "اللهم اعمر قلبي من وساوس ذكرك واطرد عني وساوس الشيطان" كما في "آكام المرجان" ، وفي "المثنوي" :
ذكر حق كن بانك غولانرا بسوز
شم نركسرا ازين كركس بدوز {وَهُمْ عَنْ ءَايَـاتِهَا} أي : أدلتها الواضحة التي خلقها الله تعالى فيها وجعلها علامات نيرة على وجوده ووحدته وكمال صنعه وعظيم قدرته وباهر حكمته مثل الشمس والقمر والنجوم وغيرها {مُّعْرِضُونَ} لا يتدبرون فيها فيقفون على ما هم عليه من الكفر والضلال.
يقال : أخلاق الأبدال عشرة أشياء : سلامة في الصدر ، وسخاوة في المال ، وصدق اللسان ، وتواضع النفس ، والصبر في الشدة ، والبكاء في الخلوة ، والنصيحة في الخلق ، والرحمة للمؤمنين والتفكر في الأشياء ، والعبرة في الأشياء فانظروا إلى آثار رحمته وتفكروا في عجائب صنعه وبدائع قدرته حتى تستخرجوا الدر من بحار معرفته.
(5/362)
ـ روي ـ أن داود عليه السلام دخل في محرابه فرأى دودة صغيرة فتفكر في خلقها وقال : ما يعبأ الله بخلق هذه فأنطقها الله تعالى فقالت : يا داود أتعجبك نفسك وأنا على ما أنا والله أذكر الله وأشكره أكثر مما آتاك الله فالمقصود برؤية الآيات بالحق ذكر الله تعالى عند كل شيء وهي من أوصاف المؤمنين الكاملين وأما التعامي والإعراض فحال الكفرة الجاهلين ، وفي "المثنوي" :
يش خر خر مهره وكوهر يكيست
آن اشك را در درو دريا شكيستمنكر بحرست وكوهر هاى او
كى بود حيوان درو يرايه جو
در سر حيوان خدا ننهاده است
كوبود دربند لعل ودر رست
مر خرانرا هي ديدى كوشوار
كوش هوش خربود در سبزه زار
وفي الآية إشارة إلى آيات سماء قلب العارف وهي التجليات الحقية والكلمات الذوقية فأهل
473
السلوك الحقيقي يؤمنون بالعلماء بالله وبأحوالهم ومقاماتهم وكلماتهم وأما غيرهم فينكرون ويعرضون لأنهم يمشون من طريق العقل وينظرون بنظر النقل.
وقد صح أن العقل ليس له قدم إلا في طريق المعقولات وفوقها المكاشفات فالاهتداء إلى الله إنما هو بأهل الله إذ هم المرشدون إلى الفجاج الصحيحة والسبل المستقيمة وعلومهم محفوظة من النسخ والتبديل دنيا وآخره وأما الرسوم فإنما تتمشى إلى الموت.
فعلى العاقل أن يعقل نفسه عن هواها ويتفكر في هداها ويختار للإرشاد من هو أعرف بطريق العقل والنقل والكشف فإنه قال في "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 472
رهروراه طريقت اين بود
كو باحكام شريعت ميرود
ويعرض عمن لا يعرف قدر الشريعة والحكمة فيها فإنه عقيم والمرتبط بالعقيم لا يكون إلا عقيماً نسأل الله تعالى أن يوفقنا للثبات في اتباع طريقة أهل المكاشفات والمشاهدات في جميع الحالات.
{وَهُوَ} وحده {وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ} الذي هو ظل الأرض {وَالنَّهَارَ} الذي هو ضوء الشمس {وَالشَّمْسُ} الذي هو كوكب مضيىء نهاري {وَالْقَمَرِ} الذي هو كوكب مضيىء ليلي أي : الله تعالى أوجد هذه الأشياء وأخرجها من العدم إلى الوجود دون غيره فله القدرة الكاملة والحكمة الباهرة {كُلٌّ} أي : كل واحد من الشمس والقمر وهو مبتدأ خبره قوله : {فِى فَلَكٍ} على حدة كما يشهده الوجود وقوله : {يَسْبَحُونَ} حال أي : يجرون في سطح الفلك كالسبح في الماء فإن السبح المرّ السريع في الماء أو في الهواء واستعير لمر النجوم في الفلك كما في "المفردات" ويفهم منه أن الكواكب مرتكزة في الأفلاك إرتكاز فص الخاتم في الخاتم قال في "شرح التقويم" : كل واحد من الكواكب مركوز في فلك مغرق فيه كالكرة المنغمسة في الماء لا كالسمك فيه والأفلاك متحركة بالإرادة والكواكب بالعرض.
وقال بعضهم أخذاً بظاهر الآية : إن الفلك موج مكفوف من السيلان دون السماء تجري فيه الشمس والقمر كما تسبح السمكة في الماء والفلك جسم شفاف محيط بالعالم.
قال الراغب الفلك مجرى الكواكب وتسميته بذلك لكونه كالفلك.
وقال محيى السنة الفلك في كلام العرب كل شيء مستدير جمعه أفلاك ومنه فلكة المغزل.
قال ابن الشيخ : اختلف الناس في حركات الكواكب والوجوه الممكنة فيها ثلاثة فإنه إما أن يكون الفلك ساكناً والكواكب تتحرك فيه كحركة السابح في الماء الراكد وإما أن يكون الفلك متحركاً والكواكب تتحرك فيه أيضاً مخالفة لجهة حركته أو موافقة لها مساوية لحركته في السرعة والبطيء أولاً وإما أن يكون الفلك متحركاً والكواكب ساكنة.
قال الفلاسفة : الرأي الأول باطل لأنه يوجب خرق الفلك وهو محال وكذا الرأي الثاني فإنه أيضاً باطل لعين ما ذكر فلم يبق إلا الاحتمال الثالث وهو أن تكون الكواكب مغروزة في الفلك واقفة فيه والفلك يتحرك فتتحرك الكواكب تبعاً لحركة الفلك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 472
قال الإمام : واعلم أن مدار هذا الكلام على امتناع الخرق على الأفلاك وهو باطل بل الحق أن الاحتمالات الثلاثة كلها ممكنة والله تعالى قادر على كل الممكنات والذي يدل عليه لفظ القرآن أن تكون الأفلاك واقفة والكواكب تكون جارية فيها كما تسبح السمكة في الماء.
واعلم أنه لو خلق السماء ولم يخلق الشمس والقمر
474
(5/363)
ليظهر بهما الليل والنهار وسائر المنافع بتعاقب الحر والبرد لم تتكامل نعمه على عباده وإنما تتكامل بحركاتها في أفلاكها ولهذا قال : {كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .
واحتج أبو علي بن سينا على كون الكواكب أحياء ناطقة بقوله : {يَسْبَحُونَ} وبقوله : {إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ} (يوسف : 4) قال : الجمع بالواو والنون لا يكون إلا للأحياء العاقلين والجواب أنه لما أسند إليهم ما هو من أفعال العقلاء وهو السباحة والسجود نزلن منزلة العقلاء فعبر عنهن بضمير العقلاء ومثله {ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ} (النحل : 18).
قال بعض أهل الحقيقة : الأجرام الفلكية هي الأجسام فوق العناصر من الأفلاك والكواكب ومحركاتها أي : مبادي حركاتها بالحركة الإرادية على الاستدارة جواهر مجردة عن مواد الأفلاك في ذواتها وأنفسها متعلقة بالأفلاك في حركاتها لتكون تلك الجواهر مبادي تحريكاتها ويقال لتلك الجواهر المجردة النفوس الناطقة الفلكية.
فإن قلت فعلى هذا لا يكون الناطق فصلاً للإنسان ، قلت : المراد بالنطق ما يجري على اللسان وفيه نظر لأنه يرد النقض بالملك والجن والببغاء والجواب الحق هو ما يجري على الجنان لا ما يجري على اللسان وليس لهم جنان حتى يجري عليه الشيء.
قال الكاشفي : (در كشف الاسرار آورده كه نزد اهل اشارت شب وروز نشان قبض وبسط عارفانست كاه يكى را بقبضه قبض كيرد تا سلطان جلال دمار ازنهاد اوبر آرد وكاه يكى را بر بساط بسط فشاند تاميزبان جمال اورا ازخوان نوال نواله اقبال دهد وآفتاب نشانه صاحب توحيداست بنعمت تمكين در حضرت شهود آراسته نه فزايد ونه كاهد لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً وقمر نشانه اهل تلوين است كاه دركاهش بود وكاه در افزايش زمانى بظهور نور برق وحدت درمحاق نيستى افتد وساعتى ببروز رموز جامعيت بمرتبه بدريت رفسد كوييا در كلام حقائق انجام حضرت قاسم الانوار قدس سره اشارتى بدين معنى هست :
جزء : 5 رقم الصفحة : 472
زبيم سوز هجرانت زمو باريكتر كردم
وروزوصل ياد آرم شوم در حال ازان فربه
وحضرت يررومى قدس سره ميفرمايد :
ون روى برتابى زمن كردم هلالى ممتهن
ورروىء سوىء من كنى ون بدربى نقصان شوم
تو آفتابى من ومه كرد توكردم روز وشب
كه درمحاق افتم زتوكه شمع نور افشان شوم
جزء : 5 رقم الصفحة : 472
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} البشر والبشرة ظاهر الجلد وعبر عن الإنسان بالبشر اعتباراً بظهور جلده بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الشعر أو الوبر والخلد تبرى الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي عليها نزلت حين قال المشركون نتربص به ريب المنون ، يعني : (انتظار مى بريم كرد باد حوادث بر آمد وياران حضرت محمد عليه السلام متفرق ساخته اورا در ورطه هلاك اندازد) والريب ما يريبك من المكاره والمنون الموت أي ننتظر به أن تصيبه مكاره وحوادث تؤديه إلى الموت فريب المنون الحوادث المهلكة من حوادث الدهر.
والمعنى وما جعلنا لفرد من أفراد الإنسان من قبلك يا محمد دوام البقاء في الدنيا أي : ليس من سنتنا أن نخلد آدمياً في الدنيا وإن كنا قادرين على تخليده فلا أحد إلا وهو عرضة للموت فإذا كان الأمر كذلك {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن} في الدنيا بقدرتنا لا بل
475
أنت وهم ميتون كما هو من سنتنا دليله قوله تعالى : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر : 30) وبالفارسية : (س ايشان يعنى منتظران مرك تو بابندكان خواهند بودى) والهمزة في المعنى داخلة على الخلود كأنه قيل فاذا مت انت أيبقى هؤلاء المشركون حتى يشمتون بموتك كما قال الشاعر :
فقل للشامتين بنا افيقوا
سيلقي الشامتون كما لقينا
وقال الشيخ سعدي قدس سره :
مكن شاد مانى بمرك كسى
كه دوران س ازوى نماند بسى
فالمراد بإنكار الخلود ونفيه إنكار الشماتة التي كان الخلود مداراً لها وجوداً وعدماً.
قال في "بحر العلوم" : المراد بالخلود المكث الطويل سواء كان معه دوام أم لا وجيىء بالشرطية التي لا تقتضي تحقق الطرفين فلم يوصف عليه السلام بالموت قبلهم بل فرض موته قبلهم كما يفرض المحال وذلك لما علم الله تعالى أنهم يموتون قبله وأنه يبقى بعدهم بمدة مديدة كما يشهده وقعة بدر.
يقول الفقير : إن الوزير المصطفى الشهير بابن كوريلى أقصى حضرة شيخي وسندي قدس سره إلى جزيرة قبرص لما عليه العوام من الأغراض الفاسدة فحين زيارتي له سمعته عند السحرة وهو يكرر هذه الآية فمات الوزير قبله.
قال الإمام : ويحتمل أنه لما كان خاتم الأنبياء قدر أنه لا يموت إذ لو مات لتغير شرعه فنبه على أن حاله كحال غيره في الموت.
واستدل بالآية من قال بأن الخضر مات وليس بحي في الدنيا مع أن المشايخ بأسرهم وكثيراً من العلماء قائلون بأنه حي حتى أخبر بعضهم برؤيته إياه ومكالمته معه والله أعلم وإن صح ذلك فيكون من العام المخصوص.
(5/364)
جزء : 5 رقم الصفحة : 475
واعلم أن ما يدل على أن الخضر كان حياً في عهد النبي عليه السلام ما ذكر في صحيح المستدرك من أنه عليه السلام لما توفي عزتهم الملائكة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إن في الله عزاء في كل مصيبة وخلفا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإنما المحروم من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ودخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى ثم التفت إلى الصحابة فقال : إن في الله عزاء في كل مصيبة وعوضاً عن كل فائت وخلفاً من كل هالك فإلى الله فانيبوا وإلى الله فارغبوا ونظره إليكم في البلاء فانظروا فإنما المصاب من لم يجبر وانصرف فقال أبو بكر وعلي رضي الله عنهما : هذا الخضر عليه السلام.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ} برهان على ما أنكر من خلودهم والمراد النفس الناطقة التي هي الروح الإنساني وموتها عبارة عن مفارقتها جسدها أي : ذائقة مرارة المفارقة والذوق هذا لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأن الموت ليس من المطعوم حتى يذاق بل الذوق إدراك خاص فيجوز جعله مجازاً على أصل الإدراك والموت صفة وجودية خلقت ضداً للحياة وباصطلاح أهل الحق قمع هوى النفس فمن مات عن هواه فقد حيى.
قال الراغب أنواع الموت بحسب أنواع الحياة الأول ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الإنسان والحيوانات والنبات نحو {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الحديد : 17) والثاني زوال القوة الحساسة نحو {وَيَقُولُ الانسَـانُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} (مريم : 66) والثالث زوال القوة العاقلة وهي الجهالة نحو
476
{فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} (الروم : 52) والرابع الحزن المكدر للحياة نحو {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (إبراهيم : 17) والخامس المنام فقيل النوم موت خفيف والموت نوم ثقيل وعلى هذا النحو سماه الله تعالى توفياً فقال : {وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُم بِالَّيْلِ} (الأنعام : 60) وقوله : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ} عبارة عن زوال القوة الحيوانية وإبانة الروح عن الجسد انتهى بإجمال.
وفي التعريفات النفس هي الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية وسماه الحكيم الروح الحيواني فهي جوهر مشرق للبدن فعند الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن وباطنه فالنوم والموت من جنس واحد لأن الموت هو الانقطاع الكلي والنوم هو الانقطاع الناقص.
والحاصل أنه إن لم ينقطع ضوء جوهر النفس عن ظاهر البدن وباطنه فهو اليقظة وإن انقطع عن ظاهره دون باطنه فهو النوم أو بالكلية فهو الموت.
جزء : 5 رقم الصفحة : 475
يقول الفقير : يفهم منه أن الموت انقطاع ضوء الروح الحيواني عن ظاهر البدن وباطنه وهذا الروح غير الروح الإنساني الذي يقال له النفس الناطقة إذ هو جوهر مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعلها ويؤيده ما في "إنسان العيون" من أن الروح عند أكثر أهل السنة جسم لطيف مغاير للأجسام ماهية وهيئة متصرف في البدن حال فيه حلول الدهن في الزيتون يعبر عنه بأنا وأنت وإذا فارق البدن مات.
وقول بعض الروحانيين أيضاً : إن الله تعالى جمع في طينة الإنسان الروح الملكي النوراني العلوي الباقي ليصير مسبحاً ومقدساً كالملك باقياً بعد المفارقة والروح الحيواني الظلالي السفلي الفاني ليقبل الفناء الذي يعبر عنه بالموت.
وقول بعضهم أيضاً ذكر النفوس لا القلوب والأرواح لأنها تتجلى حياة الحق لها فإذا انسلخت الأرواح من الأشباح انهدمت جنابذ الهياكل ورجعت الأرواح إلى معادن الغيب ومشاهدة الرب.
قال حضرة شيخي وسندي روح الله روحه في بعض تحريراته : اعلم أن الروح من حيث جوهريته وتجرده وكونه من عالم الأرواح المجردة مغاير للبدن متعلق به تعلق التدبير والتصرف قائم بذاته غير محتاج إليه في بقائه ودوامه ومن حيث أن البدن صورته ومظهر كمالاته وقواه في عالم الشهادة محتاج إليه غير منفك عنه بل سارى فيه لا كسريان الحلول المشهور عند أهل النظر بل كسريان الوجود المطلق الحق في جميع الموجودات فليس بينهما مغايرة من كل الوجوه بهذا الاعتبار ومن علم كيفية ظهور الحق في الأشياء وأن الأشياء من أي : وجه عينه ومن أي : وجه غيره يعلم كيفية ظهور الروح في البدن وأنه من أي : وجه عينه ومن أي : وجه غيره لأن الروح رب بدنه ويتحقق له ما ذكرنا وهو الهادي إلى العلم والفهم.
انتهى كلام الشيخ قدس سره وهو العمدة في الباب فظهر أن إطلاق النفس على الروح الإنساني إنما هو لتعينه بتعين الروح الحيواني فهو المفارق في الحقيقة فافهم جداً.
(5/365)
قال الجنيد قدس سره : من كان بين طرفي فناء فهو فان ومن كانت حياته بنفسه يكون مماته بذهاب روحه ومن كانت حياته بربه فإنه ينقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل وهي الحياة في الحقيقة.
قال بعضهم : ظهور الكرامة من الأولياء إنما هو بعد الموت الاختياري أي : بوجوده لا بفقده فالموت لا ينافي الكرامة فالأولياء يظهرونها بعد وفاتهم الصورية أيضاً كذا في "كشف النور" ، قال الصائب :
477
مشو بمرك زامداد اهل دل نوميد
كه خواب مردم آكاه عين بيداريست
جزء : 5 رقم الصفحة : 475
وفي "عمدة الاعتقاد" : للنسفي كل مؤمن بعد موته مؤمن حقيقة كما في حال نومه وكذا الرسل والأنبياء عليهم السلام بعد وفاتهم رسل والأنبياء حقيقة لأن المتصف بالنبوة والإيمان الروح وهو لا يتغير بالموت انتهى.
وإذ قد عرفت أن المراد بالنفس هي الروح لا معنى الذات فلا يرد أننفساً كما قال : {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} (المائدة : 116) مع أن الموت لا يجوز عليه وكذا الجمادات لها نفس وهي لا تموت وفي الحديث : "آجال البهائم كلها والخشاش والدواب كلها في التسبيح فإذا انقضى تسبيحها أخذ الله أرواحها وليس إلى ملك الموت من ذلك شيء" وفي الحديث "لا تضربوا إماءكم على كسر إنائكم فإن لها آجالاً كآجالكم".
ـ روي ـ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : استأذن أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله وقد مات وسجى عليه الثوب فكشف عن وجهه ووضع فمه بين عينيه ووضع يديه بين صدغيه وقال : وانبياه واخليلاه واصفياه صدق الله ورسوله {أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَـالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} (الأنبياء : 34 ـ 35) ثم خرج إلى الناس فخطب وقال في خطبته : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد ربه فإن رب محمد حي لا يموت ثم قرأ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُا أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ} (آل عمران : 144) الآية.
قال الكاشفي : (هركه قدم از دروازه عدم بفضاى صحراى وجودنهاده بضرورت شربت فنا خواهد نوشيد ولباس ممات ووفات خواهد وشيد) :
هركه آمد بجهان اهل فنا خواهد بود
وانكه اينده وباقيست خدا خواهد بود
{وَنَبْلُوكُم} أي : نعاملكم أيها الناس معاملة من يبلوكم ويختبركم كما قال الإمام إنما سمي ابتلاء وهو عالم بما سيكون لأنه في صورة الاختبار {بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} بالبلايا والنعم كالفقر والألم والشدة والغنى واللذة والسرور هل تبصرون وتشكرون أو لا.
وقال بعضهم بالقهر واللطف والفراق والوصال والإقبال والإدبار والمحنة والعافية والجهل والعلم والنكرة والمعرفة.
قال سهل : نبلوكم بالشر وهو متابعة النفس والهوى بغير هدى والخير العصمة من المعصية والمعونة على الطاعة {فِتْنَةً} أي : بلاء واختياراً فهو مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه وأصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال النبي عليه السلام : "إن الله يجرب أحدكم بالبلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنه ما يخرج كالذهب فذاك الذي افتتن" ، قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 475
خوش بود كرمحك تجربه آيد بميان
تاسيه روى شود هركه دروغش باشد
وقال الخجندي :
نقد قلب وسره عالم را
عشق ضراب ومحبت محكست
قال الراغب : يقال بلى الثوب بلى أي : خلق وبلوته اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له وسمي الغم بلاء من حيث أنه يبلي الجسم.
ويسمى التكليف بلاء من أوجه :
الأول : أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان فصارت من هذا الوجه بلاء.
والثاني : أنها اختبارات.
478
والثالث : أن اختبار الله تعالى تارة بالمسار ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا فصارت المحنة والمنحة جميعاً بلاء فالمحنة مقتضية للصبر والمنحة مقتضية للشكر والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر فصارت المنحة أعظم البلاءين وبهذا النظر قال عمر رضي الله عنه : "بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نشكر" ولهذا قال أمير المؤمنين رضي الله عنه : "من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله" وإذا قيل : ابتلى فلاناً بكذا وبلاه فذلك يتضمن أمرين : أحدهما تعرف حاله والوقوف على ما يجهل من أمره ، والثاني : ظهور جودته ورداءته دون التعرف لحاله والوقوف على ما يجهل من أمره إذ كان الله علام الغيوب {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} لا إلى غيرنا لا استقلالاً ولا اشتراكاً فنجازيكم على ما وجد منكم من الخير والشر فهو وعد ووعيد وفيه إيماء إلى أن المقصود من هذه الحياة الدنيا الابتلاء والتعرض للثواب والعقاب.
(5/366)
واعلم أن المجازاة لا تسعها دار التكليف فلا بد من دار أخرى لا يصار إليها إلا بالموت والنشور فلا بد لكل نفس من أن تموت ثم تبعث.
قال بعضهم فائدة حالة المفارقة رفع الخبائث التي حصلت للروح بصحبة الأجسام وفائدة حالة الإعادة حصول التنعمات الأخروية التي أعدت لعباد الله الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وفي "التأويلات النجمية" يشير بقوله : {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} إلى أنا نبلوكم بالمكروهات التي تسمونها شراً وهي الخوف والجوع والنقص من الأموال والأنفس والثمرات وإن فيها موت النفس وحياة القلب ونبلوكم بالمحبوبات التي تسمونها الخير وهي الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والقضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وفيها حياة النفس وموت القلب وكلتا الحالتين ابتلاء فمن صبر على موت النفس عن صفاتها بالمكروهات وعن الشهوات فله البشارة بحياة القلب واطمئنان النفس وله استحقاق الرجوع إلى ربه بجذبة ارجعي إلى ربك باللطف كما قال : {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} فيصير ما يحسبه شراً خيراً كما قال له تعالى : {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة : 216) ومن لم يصبر على المكروهات وعن الشهوات المحبوبات ولم يشكر عليها بأداء حقوق الله فيها فله العذاب الشديد من كفران النعمة ويصير ما يحسبه خيراً شراً له كما قال تعالى : {وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} (البقرة : 216) فيرجع إلى الله بالقهر في السلاسل والأغلال انتهى فعلى العاقل الصبر على الفقر ونحوه مما يعد مكروهاً عند النفس ، قال الحافظ :
درين بازار كرسوديست بادرويش خر سندست
الهى منعمم كردان بدرويشى وخر سندى
جزء : 5 رقم الصفحة : 475
{وَإِذَا رَءَاكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي : المشركون نزلت حين مر النبي عليه السلام بأبي جهل فضحك وقال لمن معه من صناديد العرب هذا نبي عبد مناف كالمستهزىء به {إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} الهزؤ : مزح في خفية أي : لا يفعلون بك إلا اتخاذك مهزواً به ، يعني : (كسى كه با او استهزاء كنند مراد آنست كه ايشان ترا با استهزاء يغمبر خوانند) على معنى قصر معاملتهم معه على اتخاذهم إياه هزؤاً لا على معنى قصر اتخاذهم على كونه هزؤاً كما هو المتبادر {أَهَـاذَا الَّذِى} على إرادة القول ، يعني : (بايكديكر كفتند اين كس است كه يوسته)
479
{يَذْكُرُ ءَالِهَتَكُمْ} أصنامكم بسوء أي : يبطل كونها معبودة ويقبح عبادتها يقال فلان يذكر الناس أي : يغتابهم ويذكرهم بالعيوب كما قال في "بحر العلوم" وإنما أطلق الذكر لدلالة الحال فإن ذكر العدو لا يكون إلا بذم وسوء {وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَـانِ هُمْ كَـافِرُونَ} حال والضمير الأول خبره كافرون والثاني تأكيد لفظي له وبذكر متعلق بالخبر وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله أي : يعيبون أن يذكر عليه السلام آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء والحال أنهم كافرون بأن يذكروا الرحمن المنعم عليهم بما يجب أن يذكر به من الوحدانية فهم أحقاء بالعيب والإنكار.
وفي الآية إشارة إلى أن كل من كان محجوباً عن الله بالكفر لا ينظر إلى خواص الحق إلا بعين الإنكار والاستهزاء لأن خواص الحق من الأنبياء والأولياء يقبحون في أعينهم إذ ما اتخذوا لهم آلهة من شهوات الدنيا من جاهها ومالها وغير ذلك مما اتخذوه آلهة كما قال تعالى : {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} (الجاثية : 23) وكل محب يغار على محبوبه ولذا يذكرونهم بعيب ونقصان والحال أن العيب والنقصان فيهم لا في أضدادهم ، وفي "المثنوي" :
آن دهان ككرد واز تسخر بخواند
جزء : 5 رقم الصفحة : 479
مر محمدرا دهانش ك بماند
باز آمد كاى محمد عفو كن
اى ترا الطاف علم من لدن
من ترا افسوس ميكردم ز جهل
من بدم افسوس را منسوب واهل
ون خدا خواهدكه رده كس درد
ميلش اندر طعنه اكان برد
ورخدا خواهدكه وشد عيب كس
كم زند درعيب معيوبان نفس
(5/367)
فعلى العاقل أن يصون لسانه عن ذكر العيوب ويشتغل في جميع الأوقات بذكر علام الغيوب فإنه الذي أفاض سجال الرحمة والشكر لازم لولي النعمة وفي الحديث : "من ذكر الله مطيعاً ذكره الله بالرحمة ومن ذكر الله عاصياً ذكره الله باللعنة وأفضل الذكر لا إله إلا الله" لأنه إعراض عما سوى الله وإقبال بالكلية على الله.
يقال النصف الأول إشارة إلى قوله : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (الذاريات : 50) والثاني : إلى قوله {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام : 91).
ويقال أن سائر العبادات والأذكار تصل إلى الله تعالى بواسطة الملك أما هذه الكلمة فتصل إلى الله بلا واسطة الملك من قالها مرة خالصاً غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر وإنه تعالى أمر جميع الأنبياء أن يدعو أممهم إلى هذا الذكر فما نزلت كلمة أجل من لا إله إلا الله بها قامت السموات والأرضون وهي كلمة الإسلام وكلمة النجاة وكلمة النور إذ بها يستنير الباطن بأنوار الخلوص والصدق والصفاء واليقين.
{خَلَقَ الانسَـانَ} أي : جنسه {مِنْ عَجَلٍ} العجلة طلب الشيء وتحريه قبل أوانه وهو من مقتضى الشهوة فلذلك صارت مذمومة حتى قيل العجلة من الشيطان جعل الإنسان لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق منه كما يقال خلق زيد من الكرم تنزيلاً لما طبع عليه من الأخلاق منزلة ما طبع منه من الأركان إيذاناً بغاية لزومه وعدم انفكاكه عنه ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد قال النضر بن الحارث : {قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال : 32) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالإنسان آدم وإنه حين بلغ الروح صدره أراد أن يقوم أي : استعجل في القيام قبل أن يبلغ الروح أسفله أيها المستعجلون {ءَايَـاتِىَ} (نشانهاى قدرت خود دردنيا بواسطه واقعه بدر ودر آخرت عذاب دوزخ) {فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} بالإتيان بها ، وبالفارسية : (س شتاب
480
مكنيد مر بخواستن آن) والنهي عما جبلت عليه نفوسهم ليقمعوها عن مرادها فإن لهم الإرادة والاختيار فطبعهم على العجل لا ينافي النهي كما قال تعالى : {وَأُحْضِرَتِ الانفُسُ الشُّحَّ} (النساء : 128) فخلق في الإنسان الشح وأمر بالانفاق وخلق فيه الضعف وأمر بالجهاد وخلق فيه الشهوة وأمر بمخالفتها فهذا ليس من قبيل تكاليف ما لا يطاق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 479
وفي "التأويلات النجمية" فيه إشارة إلى معان :
منها : أنتم تستعجلون في طلب العذاب من جهلكم وضلالكم وذلك لأنكم تؤذون حبيبي ونبي بطريق الاستهزاء والعداوة ومن عادى لي ولياً فقد بارزني في الحرب فقد استعجل في طلب العذاب لأني أغضب لأوليائي كما يغضب الليث ذو الجرو لجروه فكيف بمن يعادي حبيبي ونبي عليه السلام ويدل على صحة هذا التأويل قوله : {سَأُوْرِيكُمْ ءَايَـاتِى} أي : عذابي {فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} في طلبه بطريق إيذاء نبيي والاستهزاء به.
ومنها : أن الروح الإنساني خلق من عجل لأنه أول شيء تعلقت به القدرة.
ومنها : أن الله تعالى خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وخمر طينة آدم بيده أربعين صباحاً وقد روي أن كل يوم من أيام التخمير كان مقداره ألف سنة مما تعدون فتكون أربعين ألف سنة فالمعنى أن الإنسان مع هذا خلق من عجل بالنسبة إلى خلق السموات والأرض في ستة أيام لما خلق فيه عند تخمير طينته من أنموذجات ما في السموات والأرض وما بينهما واستعداده لقبول سر الخلافة المختصة به وقابليته تجلى ذواته وصفاته وللمرآتية التي تكون مظهرة للكنز الخفي الذي خلق الخلق لإظهاره ومعرفته لاستعداد حمل الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال وأهاليها فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان وتمام الآية يدل على هذا المعنى وهو قوله : {سَأُوْرِيكُمْ ءَايَـاتِى فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} أي : سأريكم صفات كمالي في مظاهر الآفاق ومرآة أنفسكم بالتربية في كل قرن بواسطة نبي أو ولي فلا تستعجلون في طلب هذا المقام من أنفسكم فإنه قيل حد طلبه من المهد إلى اللحد بل أقول من الأزل إلى الأبد وهذا منطق الطير لا يعلمه إلا سليمان الوقت قال تعالى : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت : 53) انتهى ، قيل :
لا تعجلن لأمر أنت طالبه
فقلما يدرك المطلوب ذو العجل
فذو التأني مصيب في مقاصده
وذو التعجل لا يخلو عن الزلل
قال أعرابي : إياكم والعجلة فإن العرب تكنيها أم الندامات قال آدم عليه السلام لأولاده : "كل عمل تريدون أن تعملوه فقفوا له ساعة فإني لو وقفت ساعة لم يكن أصابني ما أصابني" فلا بد من التأني في الأمور الدنيوية والمقاصد المعنوية :
جزء : 5 رقم الصفحة : 479
و صبح وصل او خواهد دميدن عاقبت جامى
(5/368)
مخور غم كر شب هجران بايان دير مى آيد
{وَيَقُولُونَ} بطريق الاستعجال والاستهزاء {مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ} أي : وعد العذاب والساعة فليأتنا بسرعة {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} في وعدكم بأنه يأتينا والخطاب للنبي عليه السلام والمؤمنين الذين يتلون الآيات المنبئة عن مجيىء الوعد فقال تعالى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 479
{لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} جواب لو محذوف وإيثار صيغة المضارع في الشرط وإن كان المعنى لإفادة استمرار عدم العلم وحين مفعول به ليعلم والكف الدفع يقال كففته أصبته بالكف ودفعته بها وتعورف الكف بالدفع على أي : وجه كان بالكف أو غيرها
481
والمعنى لو علموا الوقت الذي يستعجلونه بقولهم متى هذا الوعد وهو حين تحيط بهم النار من كل جانب بحيث لا يقدرون على دفعها ولا يجدون ناصراً يمنعها لما استعجلوا وتخصيص الوجوه والظهور يعني القدام والخلف لكونهما أشرف الجوانب واستلزام الإحاطة بهما للإحاطة بالكل.
{بَلْ تَأْتِيهِم} العدة {بَغْتَةً} البغتة مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب أي : فجأة ، وبالفارسية : (ناكهان) وهو مصدر لأن البغتة نوع من الإتيان أو حال أي : باغتة {فَتَبْهَتُهُمْ} (س مبهوت ومتحير كرداند ايشان) والبهت الحيرة.
قال الإمام وإنما لم يعلم الله وقت الموت والساعة لأن المرء مع الكتمان أشد حذراً وأقرب إلى التدارك.
قال بعض الكبار من بهته شيء من الكون فهو لمحله عنده وغفلته عن مكنونه ومن كان في قبضة الحق وحضرته لا يبهته شيء لأنه قد حصل في محل الهيبة من منازل القدس {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} أي : العدة فإن المراد بها العذاب أو النار أو الساعة {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} من الإنظار بمعنى الإمهال والتأخير أي : لا يمهلون ليستريحوا طرفة عين أو يتولوا أو يعتذروا أو من النظر أي : لا ينظر إليهم.
ولا إلى تضرعهم وفيه إشارة إلى أنه لو علم أهل الإنكار قبل أن يكافئهم الله على إنكارهم نار القطيعة والحسرة والبعد والطرد لما أقاموا على إنكارهم ولتابوا ورجعوا إلى طلب الحق وعلم منه أن أعظم المقاصد هو طلب الحق والوصول إليه فكما أن من أدب الظاهر أن يحفظ المرء بصره عن الالتفات إلى يمينه وشماله فكذا من أدب الباطن أن يصون بصيرته عن النظر إلى ما سوى الله تعالى ولا يحصل غالباً إلا بالسلوك والاسترشاد من أهل الله تعالى فلا بد من إفناء الوجود فإنه طريق المقصود.
جزء : 5 رقم الصفحة : 481
ـ حكي ـ أن ليلى لما كسرت إناء قيس المجنون رقص ثلاثة أيام من الشوق فقيل : أيها المجنون كنت تظن أن ليلى تحبك وهي تعطي ما أعطته لغيرك فضلاً عن المحبة فقال : إنما المجنون من لم يتفطن لهذا السر أشار إلى أن كسر الوعاء عبارة عن الإفناء.
واعلم أن من المتفق عليه شرعاً وعقلاً وكشفاً أن كل كمال لم يحصل للإنسان في هذه النشأة وهذه الدار فإنه لا يحصل له بعد الموت في الدار الآخرة كما في "الفكوك" لحضرة الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره فعلم منه أن زمان الفرصة غنيمة وأن وقت الموت إذا جاء بغتة لا يقدر المرء أن يستأخر ويتدارك حاله ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
خبر دارى اى استخوانى قفس
كه جان تو مرغيست نامش نفس
و مرغ از قفس رفت بكسست قيد
دكرره نكردد بسعى توصيد
نكه دار فرصت كه عالم دميست
دمى يش دانا به از عالميست
جزء : 5 رقم الصفحة : 481
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِىاَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عن استهزائهم به أي : بالله لقد استهزىء برسل أولي شأن خطير وذوي عدد كثير كائنين من زمان قبل زمانك كما استهزأ بك قومك فصبراً ففيه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} يقال حاق به يحيق حيقاً أحاط به وحاق بهم الأمر لزمهم ووجب عليهم وحاق نزل ولا يكاد يستعمل إلا في الشر والحيق ما يشمل الإنسان من مكروه فعل وبالذين متعلق بحاق وضمير منهم للرسل والموصول فاعل حاق.
والمعنى فأحاط بهم عقيب
482
ذلك العذاب الذي كانوا به يستعجلون ووضع يستهزئون موضع يستعجلون لأن استعجالهم كان على جهة الاستهزاء وهو وعد له بأن ما يفعلون به يحيق بهم كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا يعني جزاءه.
(5/369)
{قُلْ} يا محمد للمستهزئين بطريق التقريع والتبكيت {مِنْ} استفهام {يَكْلَؤُكُم} الكلأ حفظ الشيء وتبقيته والكالىء الذي يحفظ أي : يحفظكم {الَّذِينَ يُنفِقُونَ} أي : فيهما {مِّنَ الرَّحْمَـانِ} أي : من بأسه الذي يستحقون نزوله ليلاً أو نهاراً إن أراد بكم أي : لا يمنعكم من عذابه إلا هو وفي ذكر الرحمن تنبيه على أنه لا كالىء غير رحمته العامة وأن اندفاعه بمهلته وتقديم الليل لما أن الدواهي أكثر فيه وقوعاً وأشد وقعاً {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ} لا يخطرون ذكره تعالى ببالهم فضلاً عن أن يخافوا الله ويعدّوا ما كانوا عليه من الأمن والدعة حفظاً وكلاءة حتى يسألوا عن الكالىء أي : دعهم عن هذا السؤال لأنهم لا يصلحون له لإعراضهم عن ذكر الله تعالى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 482
وفي "التأويلات النجمية" المحجوبون بحجب البشرية أرجى صلاحاً من المحجوبين بحجب الروحانية لأنهم مقرون بجهالتهم وهؤلاء مغرورون بمقالتهم وأهل الحجب البشرية معرضون عن ذكر ربهم وطلبه لاشتغالهم بلوازم البشرية وأهل الحجب الروحانية معرضون عن ذكر ربهم ومعرفته بحسبانهم بمعارف المعقولات ، قال الكمال الخجندي :
بشكن بت غروركه دردين عاشقان
يك بت كه بشكنندبه از صد عبادتست
وقال الصائب :
بفكر نيستى هركز نمى افتند مغروران
اكره صورت مقراض لا دارد كريبانها
{أَمْ لَهُمْ ءَالِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا} أم منقطعة أي : بل لهم آلهة تمنعهم من العذاب متجاوزة منعنا فهم معتمدون عليها أي : ليس لهم {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ} استئناف مقرر لما قبله من الإنكار وموضح لبطلان اعتقادهم أي : هم لا يقدرون أن ينصروا أنفسهم ، يعني : (اكركسى با يشان مكروهى خواهد از كسر وقلع وتلويث وامثال آن ازخود دفع نتوانند كرد) ولا يصحبون بالنصر من جهتنا.
قال الراغب : لا يكون لهم من جهتنا ما يصحبهم من سكينة وروح وترفق ونحو ذلك مما يصحب أولياءنا فكيف يتوهم أن ينصروا غيرهم وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يصحبون يمنعون.
جزء : 5 رقم الصفحة : 482
{بَلْ مَتَّعْنَا هَـاؤُلاءِ وَءَابَآءَهُمْ} المتاع انتفاع ممتد الوقت يقال متعه الله بكذا وامتعه وتمتع به ، يعني : (بلكه ما برخوردارى داديم آن كروه را بجهت سعت معيشت وايمنى وسلامتى ودر ايشانرا) {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} بضم الميم وسكونها اسم لمدة عمارة البدن بالحياة أي : طال عليهم الأجل في التمتع فاغتروا وحسبوا أنهم ما زالوا على ذلك لا يغلبون (وندانستندكه دست اجل برهم زنداين بناكه افراشته) {أَفَلا يَرَوْنَ} أي : ألا ينظرون فلا يرون {أَنَّا نَأْتِى الارْضَ} أرض الكفرة التي هي دار الحرب {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} بتسليط المؤمنين عليها فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا والجملة خبر بعد خبر أو حال أو بدل والأطراف جمع طرف بالتحريك وهو ناحية من النواحي وطائفة من الشيء قالوا : هذا تمثيل وتصوير لما يخربه الله من ديارهم على أيدي
483
المسلمين ويضيفه إلى دار الإسلام وذلك أن الله لا يأتي بل العساكر تغزوا أرض الكفرة وتأتي غالبة عليها ناقصة من نواحيها.
قال الكاشفي يعني : (ميكشاييم آنرا بر مسلمانان كه تاهر روز قلعه ميكيرند ومنزلى بحوزه تصرف درمى آرند) وقد سبق في آخر سورة الرعد {أَفَهُمُ الْغَـالِبُونَ} القاهرون على رسول الله والمؤمنين أي : أبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم له يتوهم غلبتهم أي : الغالب هو الله وهم المغلوبون وفي الحديث : "فضلت على الناس بأربع بالسماحة والشجاعة وكثرة الجماع وشدة البطش" قيل : للاسكندر في عسكر دارا ألف ألف مقاتل فقال : إن القصاب الحاذق لا يهوله كثرة الأغنام ، وفي "المثنوي" :
تيشه را زانبوهى شاخ درخت
كى هراس آيد بررد لخت لختشعله را زانبوهى هيزم ه غم
كى رمد قصاب زانبوه غنم
جزء : 5 رقم الصفحة : 483
خر نشايد كشت از بهر صلاح
ون شودو حشى شود خونش مباحلا جرم كفار را شد خون مباح
همو وحشى يش نشاب ورماح
جفت وفرزندان شان جمله سبيل
زانكه بى عقلند ومردود وذليل
(5/370)
واعلم أن الغلبة والنصرة منصب شريف فهو بجند الله تعالى وهم الأنبياء والأولياء وصالحوا المؤمنين كما قال تعالى : {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـالِبُونَ} (الصافات : 173) أي : وإن رؤي أنهم مغلوبون لأن الغالبية له ألا ترى أن الله تعالى أظهر المؤمنين على العرب كلهم وافتتحوا بلاد الشرق والغرب ومزقوا ملك الاكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا وما وقع في بعض الأوقات من صورة الانهزام فهو من باب تشديد المحنة والبلاء الحسن.
فعلى المؤمن أن يثق بوعد الله تعالى ولا يضعف عن الجهاد فإن بالهمة تنقلع الجبال عن أماكنها.
وعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أني ما قلعت خيبر بقوة جسمانية ولا بحركة غذائية لكني أيدت بقوة ملكوتية ونفس بنور ربها مضيئة عن جابر رضي الله عنه أن علياً رضي الله عنه لما انتهى إلى الحصن أخذ أحد أبوابه فألقاه في الأرض فاجتمع عليه بعد سبعون رجلاً فكان جهدهم أن أعادوا الباب قالوا : "كل طائر يطير بجناحيه والعاقل بهمته".
فللمزيد رجال وللحروب رجال†
{قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْىِ} أي : إنما شأنى أن أخوفكم مما تستعجلونه بما أوحي إلي من القرآن وأخبر بذلك لا الإتيان به فإنه مزاحم للحكمة التكوينية والتشريعية إذ الإيمان برهاني لا عياني {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ} إلى الإيمان جمع الأصم والصمم فقدان حاسة السمع {إِذَا مَا يُنذَرُونَ} شبهوا بالصم وهم صحاح الحواس لأنهم إذا سمعوا ما ينذرون به من آيات الله لا تعيه آذانهم وكان سماعهم كلا سماع فكانت حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الذين عدموا مصحح السماع وينعق بهم فلا يسمعون وتقييد نفي السماع به مع أن الصم لا يسمعون الكلام إنذاراً كان أو تبشيراً لبيان كمال شدة الصمم كما أن إيثار الدعاء الذي هو عبارة عن الصوت والنداء على الكلام لذلك فإن الإنذار عادة يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئة دالة عليه فإذا لم يسمعوها يكون صممهم في غاية وراءها وهذا من تتمة الكلام الملقن ويجوز أن يكون من جهته تعالى كأنه قيل قل لهم ذلك وأنت بمعزل من إسماعهم.
وفيه إشارة
484
إلى أنه ليس للأنبياء والأولياء إلا الإنذار والنصح وليس لهم إسماع الصم وهم الذين لعنهم الله في الأزل بالطرد عن جوار الحضرة إلى أسفل الدنيا وأصمهم وأعمى أبصارهم بحبها وطلب شهواتها فلا يسمعون ما ينذرون به وإنما الإسماعلا للخلق كما قال تعالى : {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ} (الأنفال : 23).
جزء : 5 رقم الصفحة : 483
{وَلَـاـاِن مَّسَّتْهُمْ} (واكر برسد بكفره) والمس اللمس ويقال في كل ما ينال الإنسان من أذى {نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ} أي : وبالله لئن أصابهم أدنى شيء من عذابه تعالى الذي ينذر به والنفحة من الريح الدفعة من العذاب القطعة كما في "القاموس" وعلى الأولى حمل شارح الشهاب ما وقع في قوله عليه السلام : "إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها" قال في "بحر العلوم" من نفحته الدابة إذا ضربته أي : ضربة أو من نفحت الريح إذا هبت أي : هبة أو من نفح الطيب إذا فاح أي : فوحة كما يقال شمة.
وقال ابن جريج : أي نصيب من نفحه فلان من ماله إذا أعطاه حظاً منه {لَّيَقُولَنَّ} من غاية الاضطراب والحيرة يا وَيْلَنَآ} (واى برما) وقد سبق تحقيقه {إِنَّا كُنَّا ظَـالِمِينَ} أي : لدعوا على أنفسهم بالويل والهلاك واعترفوا عليها بالظلم حين تصاموا وأعرضوا وهو بيان لسرعة تأثرهم من مجيىء نفس الوعد أثر بيان عدم تأثرهم من مجيىء خبره.
وفيه إشارة إلى أن أهل الغفلة والشقاوة لا تنتبهون بتنبيه الأنبياء ونصح الأولياء في الدنيا حتى يمسهم أثر من آثار عذاب الله بعد الموت فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فاعترفوا بذنوبهم ونادوا بالويل والثبور على أنفسهم بما كانوا ظالمين فالظلم يجلب النقم ويسلب النعم سواء كان ظلم الغير أو ظلم النفس فليجتنب المؤمن من أسباب العذاب والنقمة وليأت إلى باب النجاة والرحمة وذلك بالمجاهدة وقمع الهوى واختيار طريق الطاعة والتقوى.
ـ روي ـ أن بعض الصالحين قال لعجوز متعبدة ارفقي بنفسك فقالت : إن رفقي بنفسي يغيبني عن باب المولى ومن غاب عن باب المولى مشتغلاً بالدنيا فقد عرض للمحن والبلوى ثم بكت وقالت : واسوأتاه من حسرة السباق وفجيعة الفراق أما حسرة السباق فإذا قاموا من قبورهم وركب الأبرار نجائب الأبرار وقدمت بين يديهم نجائب المقربين بقي المسبوق في جملة المحرمين وأما فجيعة الفراق فإذا جمع الخلق في مقام واحد أمر الله تعالى ملكاً ينادي أيها الناس امتازوا فإن المتقين قد فازوا كما قال تعالى : {وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (يس : 59) فيمتاز الولد من والديه والزوج من زوجته والحبيب من حبيبه فهذا يحمل مبجلاً إلى رياض الجنة وهذا يساق مسلسلاً إلى عذاب الجحيم فأين من يمسه العذاب ممن يصل إليه الثواب.
(5/371)
جزء : 5 رقم الصفحة : 483
واعلم أن الإنذار أبلغ فإنه من باب التخلية فلا بد للعاصي من التخوف على المعاصي والإصغاء إلى الموعظة والنصيحة الموقظة فإنه سوف يقول المعرضون {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـابِ السَّعِيرِ} (الملك : 10) وهم الصم في الحقيقة ، قال الشيخ سعدي :
بكوى آنه دانى سخن سودمند
وكرهي كس را نيايد سند
كه فردا شيمان برآرد خروش
كه آوخ را حق نكردم بكوش
جزء : 5 رقم الصفحة : 483
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} الموازين جمع ميزان ، بالفارسية : (ترازو) والقسط العدل أي : نقيم الموازين العادلة التي نوزن بها صحائف الأعمال ونحضرها أو الأعمال باعتبار التجوهر
485
والتجسم وجمع الموازين باعتبار تعدد الأعمال أو لأن لكل شخص ميزاناً.
قال الراغب الوزن معرفة قدر الشيء وذكر الميزان في مواضع بلفظ الواحد اعتباراً بالمحاسبة وفي مواضع بلفظ الجمع اعتباراً بالمحاسبين انتهى.
وإفراد القسط لأنه مصدر وصف به مبالغة كرجل عدل.
قال الإمام وصف الموازين بالقسط لأنها قد لا تكون مستقيمة {لِيَوْمِ الْقِيَـامَةِ} أي : لأجل جزائه {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ} من النفوس {شَيْـاًا} حقاً من حقوقها على أن يكون مفعولاً ثانياً لتظلم لأنه بمعنى تنقص وتنقص يتعدى إلى مفعولين يقال نقصه حقه من الظلم بل يوفى كل ذي حق حقه إن خيراً فخير وإن شراً فشر على أن يكون مفعولاً مطلقاً {وَإِن كَانَ} أي : العمل المدلول عليه بوضع الموازين {مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} المثقال ما يوزن به من الثقل أي : مقدار حبة كائنة من خردل ، بالفارسية : (ازسندان كه اصغر حباتست) أي : وإن كان في غاية القلة والحقارة فإن حبة الخردل مثل في الصغر {أَتَيْنَا بِهَا} بقصر الهمزة من الإتيان والباء للتعدية أي : أحضرنا ذلك العمل المعبر عنه بمثقال حبة الخردل للوزن والتأنيث لإضافته إلى الحبة {وَكَفَى بِنَا حَـاسِبِينَ} إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا الباء زائدة ونا فاعل كفى وحاسبين حال منه بمعنى عادّين من حسب المال إذا عده.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : عالمين حافظين لأن من حسب شيئاً علمه وحفظه وفيه تحذير فإن المحاسب العالم القدر الذي لا يفوته شيء يجب أن يخاف منه وروىء الشبلي قدس سره في المنام فقيل ما فعل الله بك فقال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 485
حاسبونا فدققوا
ثم منوا فأعتقوا
قال الإمام الغزالي رحمه الله : الميزان حق ووجهه أن الله تعالى يحدث في صحائف الأعمال وزناً بحسب درجات الأعمال عند الله فتصير مقادير أعمال العباد معلومة للعباد حتى يظهر لهم العدل في العقاب أو الفضل في العفو وتضعيف الثواب.
يقول الفقير بهذا يندفع سؤال الإمام في تفسيره حيث قال أهل القيامة إن علموا كونه تعالى عادلاً فلا حاجة إلى وضع الميزان بل يكفي مجرد حكمه بترجيح جانب وإن لم يعلموا لم يفد وزن الصحائف لاحتمال أنه جعل إحدى الكفتين أثقل ظلماً انتهى وذلك لأنهم علموا ذلك ضرورياً لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا لكن الله تعالى أراد أن يحصل لهم العلم بمقادر أعمالهم ليظهر العدل والفضل ظهوراً لا غاية وراءه وفيه إلزام الحجة لهم.
قيل للميزان لسان وكفتان وهو بيد جبريل يوزن فيه الحسنات والسيآت في أحسن صورة وأقبحها والحكم للغالب في الوزن وفي التساوي لفضل الله.
يقول الفقير : لعل وجه كونه بيد جبريل أنه الواسطة في تنزيل الأمر والنهي فناسب أن يكون الميزان بيده ليزن صحائف الأوامر والنواهي.
ـ روي ـ أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه كل كفة كما بين المشرق والمغرب فغشي عليه ثم أفاق فقال : إلهي من ذا الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة وفي الحديث "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" إنما صارتا أحب لأن فيهما المدح
486
(5/372)
بالصفات السلبية التي يدل عليها التنزيه وبالصفات الثبوتية التي يدل عليها الحمد وفي الحديث "التسبيح نصف الميزان والحمديملؤه".
قال المولى الفناري : توضع الموازين لوزن الأعمال فيجعل فيها الكتب بما عملوا وآخر ما يوضع في الميزان قول الإنسان الحمدولهذا قال عليه السلام : "الحمدتملأ الميزان" فإنه يلقى في الميزان جميع أعمال العباد من الخير إلا كلمة لا إله إلا الله فيبقى على ملئه تحميدة فتجعل فيه فيمتلىء بها فإن كفة ميزان كل أحد بقدر عمله من غير زيادة ولا نقصان وكل ذكر وعمل يدخل الميزان إلا لا إله إلا الله كما قلنا وسبب ذلك أن كل عمل خير له مقابل من ضده فيجعل هذا الخير في موازنته ولا يقابل لا إله إلا الله إلا الشرك ولا يجتمع توحيد وشرك في ميزان أحد لأنه إن قال لا إله إلا الله معتقداً لها فما أشرك وإن أشرك فما اعتقد فلم يكن لها ما يعادلها في الكفة الأخرى ولا يرجحها شيء فلهذا لا تدخل في الميزان وأما المشركون فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً أي : لا يقدر لهم ولا يوزن لهم عمل ولا من هو من أمثالهم من المعطل والمتكبر على الله فإن أعمال خير المشرك محبوطة فلا يكون لشرهم ما يوازيه فلا وزن لهم وأما صاحب السجلات فإنه شخص لم يعمل خيراً قط إلا أنه تلفظ يوماً بكلمة لا إله إلا الله مخلصاً فيوضع له في مقابلة التسعة والتسعين سجلاً من أعمال الشر كل سجل منها كما بين المشرق والمغرب وذلك لأنه ماله عمل خير غيرها فترجح كفتها بالجميع وتطيش السجلات.
والتحقيق أن لا إله إلا الله كلمة التوحيد والتوحيد لا يماثله ولا يعادله شيء وإلا لما كان واحداً بل كان اثنين فصاعداً فإذا أريد بهذه الكلمة التوحيد الحقيقي لم تدخل في الميزان لأنه ليس له معادل ومماثل فكيف يدخل فيه وإليه أشار الخبر الصحيح عن الله تعالى قال الله تعالى : "لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع وعامرهن غيري في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله" فعلم من هذه الأشارة أن المانع من دخولها في ميزان الحقيقة هو عدم المماثل والمعادل كما قال تعالى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 485
{لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ} (الشورى : 11) وإذا أريد بها التوحيد الرسمي تدخل في الميزان لأنه يوجد لها ضد بل أضداد كما أشير إليه بحديث صاحب السجلات فما مالت الكفة إلا بالبطاقة التي كتبها الملك فيها فهي الكلمة المكتوبة المنطوقة المخلوقة فعلم من هذه الإشارة أن السبب لدخولها في ميزان الشريعة هو وجود الضد والمخالف وهو السيآت المكتوبة في السجلات وإنما وضعها في الميزان ليرى أهل الموقف في صاحب السجلات فضلها لكن إنما يكون ذلك بعد دخول من شاء الله من الموحدين النار ولم يبق في الموقف إلا من يدخل الجنة لأنها لا توضع في الميزان لمن قضى الله أن يدخل النار ثم يخرج بالشفاعة أو بالعناية الإلهية فإنها لو وضعت لهم أيضاً لما دخلوا النار أيضاً ولزم الخلاف للقضاء وهو محال ووضعها فيه لصاحب السجلات اختصاص إلهي يختص برحمته من يشاء هكذا حقق شيخي وسندي قدس سره هذا المقام ولا يدخل الموازين إلا أعمال الجوارح شرها وخيرها وهي السمع والبصر واليد والبطن والفرج والرجل وأما الأعمال الباطنة فلا تدخل الميزان المحسوس لكن يقام فيها العدل وهو الميزان الحكيمي فمحسوس لمحسوس ومعنى لمعنى يقابل كل شيء بمثله فلهذا توزن الأعمال من حيث هي مكتوبة وقد أصاب من قال الذكر الخفي هو الذي لم يطلع عليه الحفظة وهو توحيد الحقيقي
487
الباطني الذي لا يدخل في الميزان الصوري لأنه ما كان مكتوباً فكيف يدخل فيه.
فإن قيل أين الميزان؟ قلنا : على الصراط ومترتب على الحساب ولهذا لا ميزان لمن يدخل الجنة بغير حساب وإنما الميزان للمخلصين من المؤمنين.
قال بعض الكبار : ميزان العدل في الدنيا ثلاثة : ميزان النفس والروح ، وميزان القلب والعقل ، وميزان المعرفة والسر.
فميزان النفس والروح الأمر والنهي وكفتاه الوعد والوعيد ، وميزان القلب والعقل الإيمان والتوحيد وكفتاه الثواب والعقاب ، وميزان المعرفة والسر الرضى والسخط وكفتاه الهرب والطلب.
وقال بعضهم : من يزن ههنا نفسه بميزان الرياضة والمجاهدات ويزن قلبه بميزان المراقبات ويزن عقله بميزان الاعتبارات ويزن روحه بميزان المقامات ويزن سره بميزان المحاضرات ومطالعة الغيبيات ويزن صورته بميزان المعاملات الذي كفتاه الحقيقة والطريقة ولسانه الشريعة وعموده العدل والإنصاف توزن نفسه يوم القيامة بميزان الشرف ويوزن قلبه بميزان اللطف ويوزن عقله بميزان النور ويوزن روحه بميزان السرور ويوزن سره بميزان الوصول ويوزن صورته بميزان القبول فإذا ثقلت موازينه مما ذكرنا فجزاء نفسه الأمن من الفراق فجزاء قلبه مشاهدة الشرف في الأسرار وجزاء عقله مطالعة الصفات وجزاء روحه شف أنوار الذات وجزاء سره إدراك الأسرار القدسيات وجزاء صورته الجلوس في مجالس وصال الأبديات وأيضاً توزن الأعمال بميزان الإخلاص.
(5/373)
جزء : 5 رقم الصفحة : 485
عبادت باخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زبى مغزوست
والأحوال بميزان الصدق :
بصدق كوش كه خورشيد زآيد ازنفست
كه از دروغ سيه روى كشت صبح نخست
فمن كانت أعماله بالرياء مصحوبة لم تقبل أعماله :
منه آب زرجان من بر شيز
كه صراف دانا نكيرد بيز
ومن كانت أحواله بالعجب مشوبة لم ترفع أحواله :
حال خود از عجب دل تخليص كن
از عمل توفيق را تخصيص كن
كر بخواهى تا كران معنى شوى
وزن كن حالت بميزان شوى
ون ترازوى تو كج بود ودغا
راست ون جويى ترازوى جزا
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَـارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ} أي : وبالله لقد آتيناهما كتاباً جامعاً بين كونه فرقاناً بين الحق والباطل وضياء يستضاء به في ظلمات الحيرة والجهالة وذكراً يتعظ به الناس فالمراد بجميع هذه الصفات واحد هو التوراة وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المستضيئون بأنواره والمغتنمون بمغانم آثاره.
{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم} عذابه وهو مجرور المحل على أنه صفة مادحه للمتقين {بِالْغَيْبِ} حال من المفعول أي : يخشون عذابه تعالى وهو غائب عنهم غير مشاهد لهم ففيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يشاهدوا ما أنذروه من العذاب {وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ} اسم لوقت تقوم فيه القيامة سمي بها لأنها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم وسميت الساعة ساعة لسعيها إلى جانب الوقوع ومسافته الأنفاس.
وقال الراغب الساعة جزء من أجزاء الزمان ويعبر بها عن القيامة سميت بذلك لسرعة
488
حسابه كما قال تعالى : {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَـاسِبِينَ} (الأنعام : 62) ولما نبه عليه بقوله : {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَار} (الأحقاف : 35) وقوله : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} فالأولى هي القيامة والثانية الوقت القليل من الزمان {مُشْفِقُونَ} أي : خائفون منها وقد سبق الإشفاق في هذه السورة وتخصيص إشفاقهم منها بالذكر بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق للإيذان بكونها معظم المخوفات.
جزء : 5 رقم الصفحة : 485
{وَهَـاذَآ} أي : القرآن الكريم أشير إليه بهذا إيذاناً بغاية وضوح أمره {ذُكِرَ} يتذكر به من يتذكر {مُّبَارَكٌ} كثير الخير والنفع يتبرك به {أَنزَلْنَـاهُ} على محمد صفة ثانية لذكر أو خبر آخر {أَفَأَنتُمْ لَه مُنكِرُونَ} إنكار لإنكارهم بعد ظهور كون إنزاله كإيتاء التوراة كأنه قيل أبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة في الإيتاء والإيحاء أنتم منكرون لكونه منزلاً من عندنا فإن ذلك بعد ملاحظة حال التوراة مما لا مساغ له أصلاً.
قال بعض الكبار كلام الله سبحانه في نفسه مبارك وإن لم يسمعه الجاهل ولكن مبارك على من يسمعه باستماع المحبة والشوق إلى لقاء المتكلم ويعمل بمضمونه ويعرف إشارته ويجد حلاوته في قلبه فإذا كان كذلك تبلغه بركته إلى مشاهدة معدنه وهو رؤية الذات القديم وفي الحديث "إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب" وفي الحديث "لا تجعلوا بيوتكم مقابر" يعني : لا تتركوا بيوتكم خالية من تلاوة القرآن فإن كل بيت لا يقرأ القرآن فيه يشبه المقابر في عدم القراءة والذكر والطاعة وإلى الله المشتكي من إهمال أهالي هذا الزمان فإن ميل أكثرهم إلى الإشعار وكلام أهل الهوى لا إلى القرآن والهدي ، قال الخجندي :
دل ازشنيدن قرآن بكيردت همه وقت
و باطلان ز كلام حقت ملولى يست
وفي "التأويلات النجمية" النور الذي هو يفرق بين الحق والباطل بل بين الخلق والخالق والحدوث والقدم نور يقذفه الله في قلوب عباده المخلصين من الأنبياء والمرسلين والأولياء الكاملين لا يحصل إلا بتكرار العلوم الشرعية لا بالأفكار العقلية وله ضياء وهو ذكر يتعظ به المتقون الذين يتقون عن الشرك بالتوحيد وعن الطمع بالشرع وعن الرياء بالإخلاص وعن الخلق بالخالق وعن الأنانية بالهوية {وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} لمن يتعظ به ويعلم أن الاتعاظ به إنما هو من نور {أَنزَلْنَـاهُ} في قلبه لا من نتائج عقله وتفكره أتنكرون على أنه نور من هدايتنا.
جزء : 5 رقم الصفحة : 489
(5/374)
ـ حكي ـ أن عثمان الغازي جد السلاطين العثمانية إنما وصل إلى ما وصل برعاية كلام الله تعالى وذلك أنه كان من أسخياء زمانه ببذل النعم للمترددين فثقل ذلك على أهل قريته وأنكروا عليه فذهب ليشتكي من أهل القرية إلى الحاجي بكتاش أو غيره من الرجال فنزل ببيت رجل قد علق فيه مصحف فسأل عنه فقالوا : هو كلام الله تعالى فقال : ليس من الأدب أن نقعد عند كلام الله فقام وعقد يديه مستقبلاً إليه فلم يزل إلى الصبح فلما أصبح ذهب إلى طريقه فاستقبله رجل فقال : أنا مطلبك ثم قال له : إن الله تعالى عظمك وأعطاك وذريتك السلطنة بسبب تعظيمك لكلامه ثم أمر بقطع شجرة وربط رأسها بمنديل وقال : ليكن ذلك لواء ثم اجتمع عنده جماعة فجعل أول غزوته إلى بلجك وفتح بعناية الله تعالى ثم أذن له السلطان علاء الدين في الظاهر أيضاً فصار سلطاناً.
ففي هذه الحكاية فوائد منها أن السلطنة اختصاص إلهي كالنبوة
489
ومنها أن السخاء مفتاح باب المراد.
ومنها أن المراجعة عند الحيرة إلى الله لها تأثير عظيم.
ومنها أن رعاية كلام الله سبب السلطنة مطلقاً صورية كانت أو معنوية إذ هو ذكر مبارك.
ومنها أن ترك الرعاية سبب لزوال قوتها بل لزوال نفسها كما وقع في هذه الأعصار فإن الترقي الواقع في زمان السلاطين المتقدمين آل إلى التنزل وقد عزل السلطان محمد الرابع في زماننا بسبب الترك المذكور فهذا هو زوال السلطنة نسأل الله تعالى أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء أحزاننا.
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} الرشد خلاف الغي وهو الابتداء لمصالح الدين والدنيا وكماله يكون بالنبوة أي : بالله لقد آتينا بجلالنا وعظم شأننا إبراهيم الخليل عليه السلام الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار على ما أفادته الإضافة {مِن قَبْلُ} من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة وتقديم ذكر إيتائها لما بينه وبين إنزال القرآن من الشبه التام {وَكُنَّا بِه عَـالِمِينَ} أي : وكنا عالمين بأنه أهل لما آتيناه من الرشد والنبوة وتقديم الظرف لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة ونظير الآية قوله تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام : 124).
واعلم أن الأهلية أيضاً من الله تعالى :
قابلي كر شرط فعل حق بدى
همو معدومى بهستى نامدى
جزء : 5 رقم الصفحة : 489
وقد قالوا القابلية صفة حادثة من صفات المخلوق والعطاء صفة قديمة من صفات الخالق والقديم لا يتوقف على الحادث.
{إِذْ قَالَ لابِيهِ وَقَوْمِهِ} ظرف لآتينا على أنه وقت متسع وقع فيه الإيتاء وما ترتب عليه من أفعاله وأقواله.
يقول الفقير : والظاهر من عدم التعرض لأمه كونها مؤمنة كما يدل عليه تبريه وامتناعه من أبيه دونها والمراد من قومه أهل بابل بالعراق وهي بلاد معروفة من عبادان إلى الموصل طولاً ومن القادسية إلى حلوان عرضاً سميت بها لكونها على عراق دجلة والفرات أي : شاطئهما {مَآ} (يست) {هَـاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَـاكِفُونَ} التماثيل جمع تمثال وهو الشيء المصور المصنوع مشبهاً بخلق من خلائق الله والممثل المصور على مثال غيره من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم لغرض من الأغراض ضمن معنى العبادة كما يدل عليه الجواب الآتي ولذا جيىء باللام دون على أي : ما هذه الأصنام التي أنتم عابدون لها مقيمون عليها وهذا السؤال تجاهل منه وإلا فهو يعرف أن حقيقتها حجر أو شجر اتخذوها معبوداً.
قال الكاشفي : (آن هفتاد دو صورت بود.
ودر تيسير كويد نودبت بود وبزر كترهمه را اززر ساخته بودند ودوكوهر شاهوار درشمهاى او تركيب كرده.
ودرتبيان آورده كه صورتها بودند برهيأت سباع وطيور وبهائم وإنسان.
وبقول بعضي تماثيل بر مصور هياكل كواكب بود).
ـ روي ـ أن علياً رضي الله عنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج ، فقال : ما هذه التماثيل كما في تفسير أبي الليث وفيه تقبيح للعب الشطرنج حيث عبر عن شخوصه بما عبر به إبراهيم عن الأصنام فأشار إلى أن العكوف على هذا اللعب كالعكوف على عبادة الأصنام.
قال صاحب الهداية يكره اللعب بالنرد والشطرنج والأربعة عشر والكل لهو لأنه إن قامر بها فالميسر حرام بالنص وهو اسم لكل قمار وإن لم يقامر فهو عبث ولهو وقال عليه السلام : "لهو المؤمن باطل إلا لثلاث تأديبه لفرسه
490
ومناضلته عن قوسه وملاعبته مع أهله" وحكي عن الشافعي رحمه الله إباحة اللعب بالشطرنج لما فيه من تسخية الخاطر.
قال زين العرب في "شرح المصابيح" رجع الشافعي عن هذا القول قبل موته بأربعين يوماً وذكر الغزالي أيضاً في "خلاصته" إنه مكروه عند الشافعي أي : في قوله الأخير وكيف لا يكون مكروهاً وهو إحياء سنة المجوس وقد قال عليه السلام : "من لعب بالشطرنج والنردشير فكأنما غمس يده في دم الخنزير" ، وأما قول ابن خيام :
جزء : 5 رقم الصفحة : 489
زماني بحث ودرس قيل وقالى
كه انسانرا بود كسب كمالى
(5/375)
زمانى شعر وشطرنج وحكايات
كه خاطررا شود دفع ملالى
فمن قبيل القول الباطل الناشىء عن هوى النفس الأمارة بالسوء أعاذنا الله وإياكم من مكرها تسويلها.
وفي الآية إشارة إلى أحوال أهل الدين فإنهم يرون أهل الدنيا بنور الرشد عاكفين لأصنام الهوى والشهوات يقولون لهم ما هذه التماثيل الخ ولو لم يكن نور الرشد والهداية من الله لكانوا معهم عاكفين لها وما رأوها بنظر التماثيل.
{قَالُوا} كأنه قال إبراهيم عليه السلام أي شيء حملكم على عبادتها فقالوا : {وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَـابِدِينَ} أي : عابدين لها فنحن نعبدها اقتداء بهم وهو جواب العاجز عن الإتيان بالدليل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 489
زماني بحث ودرس قيل وقالى
كه انسانرا بود كسب كمالى
زمانى شعر وشطرنج وحكايات
كه خاطررا شود دفع ملالى
فمن قبيل القول الباطل الناشىء عن هوى النفس الأمارة بالسوء أعاذنا الله وإياكم من مكرها تسويلها.
وفي الآية إشارة إلى أحوال أهل الدين فإنهم يرون أهل الدنيا بنور الرشد عاكفين لأصنام الهوى والشهوات يقولون لهم ما هذه التماثيل الخ ولو لم يكن نور الرشد والهداية من الله لكانوا معهم عاكفين لها وما رأوها بنظر التماثيل.
{قَالُوا} كأنه قال إبراهيم عليه السلام أي شيء حملكم على عبادتها فقالوا : {وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَـابِدِينَ} أي : عابدين لها فنحن نعبدها اقتداء بهم وهو جواب العاجز عن الإتيان بالدليل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 489
{قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} أي : وبالله لقد كنتم أنتم أيها المقلدون وآباؤكم الذين سنوا لكم هذه السنة الباطلة مستقرين في ضلال عظيم وخطأ ظاهر لكل أحد لعدم استناده إلى دليل ما والتقليد إنما يجوز فيما يحتمل الحقية في الجملة والباطل لا يصير حقاً بكثرة القائلين به وفيه إشارة إلى أن التقليد غالب على الخلق كافة في عبادة الهوى والدنيا إلا من آتاه الله رشده.
واعلم أن التقليد قبول قول الغير بلا دليل وهو جائز في الفروع والعمليات ولا يجوز في أصول الدين والاعتقاديات بل لا بد من النظر والاستدلال لكن إيمان المقلد صحيح عند الحنفية والظاهرية وهو الذي اعتقد جميع ما وجب عليه من حدوث العالم ووجود الصانع وصفاته وإرسال الرسل وما جاءوا به حقاً من غير دليل لأن النبي عليه السلام قبل إيمان الأعراب والصبيان والنسوان والعبيد والإماء من غير تعليم الدليل ولكنه يأثم بترك النظر والاستدلال لوجوبه عليه.
وفي "فصل الخطاب" من نشأ في بلاد المسلمين وسبح الله عند رؤية صنائعه فهو خارج عن حد التقليد أي : فإن تسبيحه عند رؤية المصنوعات عين الاستدلال فكأنه يقول الله خالق هذا على هذا النمط البديع ولا يقدر أحد غيره على خلق مثل هذا فهو استدلال بالأثر وإثبات للقدرة والإرادة إلى غير ذلك فالمقصود من الاستدلال هو الانتقال من الأثر إلى المؤثر ومن المصنوع إلى الصانع بأي وجه كان لا ملاحظة الصغرى والكبرى وترتيب المقدمات للإنتاج على قاعدة المعقول.
يقول الفقير : أدى جهل هذا الزمان إلى حيث أن من سبح عند كل أعجوبة لم يلزم أن يكون مستدلاً مطلقاً لأنه سمع الناس يقولون سبحان الله عند رؤية سيل عظيم أو شجر كبير أو حريق هائل أو نحوها مما خرج عن حد جنسه فيقلده في ذلك من غير أن يخطر بباله أنه صنع الله تعالى وقد رأيت ملاحاً ذمياً يحث خدام السفينة على بعض الأعمال ويقول لهم اجتهدوا وكونوا من أهل الغيرة فإن الغيرة من الإيمان
491
وهو لا يعرف ما الغيرة وما الإيمان وكذا الخدام والألم يذكرهما فهو قول مجرد جار على طريق العرف فعلى المؤمن ترك التقليد والوصول إلى مقام التحقيق ومن الله التوفيق ، قال المولى الجامي :
جزء : 5 رقم الصفحة : 491
خواهى يصوب كعبة تحقيق ره برى
ى برى مقلد كم كرده ره مرو
وقال :
مقلدان ه شناسند داغ هجرانرا
خبر ز شعله آتش ندارد افسرده
ففيه فرق بين المقلد والمحقق فمن رام التحقيق طلبه ولا يتشبث في هذا البحر بغريقه كما لا يخفى.
(5/376)
{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ} أي : بالجد وبالفارسية (آيا آورى بما اين سخن براستى وجه) {أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّـاعِبِينَ} بنا فتقول ما تقول على وجه المزاح واللعب حسبوا أنهم إنما أنكر عليهم دينهم القديم مع كثرتهم وشوكتهم على وجه المزاح واللعب.
وفيه إشارة لطيفة وهي كما أن أهل الصدق والطلب يرون أهل الدنيا لاعبين والدنيا لعباً ولهواً كقوله تعالى : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام : 91) كذلك أهل الدنيا يرون أهل الدين لاعبين والدين لعباً ولهواً {قَالَ بَلْ} (نيستم بازى كننده) {رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ} أي : خلقن ابتداء من غير مثال سابق فهو الخالق كما أنه المربى فالضمير للسموات والأرض أو للتماثيل أي : فكيف تعبدون ما كان من جملة المخلوقات {وَأَنَا عَلَى ذَالِكُم} الذي ذكرته من كون ربكم رب السموات والأرض فقط دون ما عداه كائناً ما كان {مِّنَ الشَّـاهِدِينَ} أي : العالمين به على الحقيقة المبرهنين وليس المراد حقيقة الشهادة لأنه لا شهادة من المدعي بل استعيرت الشهادة لتحقيق الدعوى بالحجة والبرهان أي : لست من اللاعبين في الدعاوي بل من المحتجين عليها بالبراهين القاطعة بمنزلة الشاهد الذي تقطع به الدعاوي.
قال الكاشفي : (آلأرده اندكه نمروديان روزى عبدداشتند كه در آن روز بصحرا رفتندى وتا آخر روزتماشا كردندى ودرياز كشتن به بتخانه در آمده بتانرا بياراسته بزبانها بنو اختندى آنكه سربر زمين نهاده رسم رستش بجاى آوردندى وبخانها بازكشتندى ون ابراهيم عليه السلام باجمعى درباب تماثيل مناظره فرمود كفتند فردا عيدست بيرون آى تابينى كه دين وآيين ماه زيباست ابراهيم نعم جواب ايشان بكفت روز ديكركه مى رفتند ميخواستند كه اورا ببرند ببهانه بيمارى يش آورد) {فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ} يعني : عن عبادة الأصنام كما في "القصص" (ايشان دست از وبازداشته برفتند ابراهيم نهان از ايشان بفرمودكه).
جزء : 5 رقم الصفحة : 491
{وَتَاللَّهِ} (بخدا سوكند كه من) {لاكِيدَنَّ أَصْنَـامَكُم} (هر آينه تدبيرى كنم وجهد نمايم تابشكنم بتان شمارا) كما قال في "الإرشاد" لاجتهدن في كسرها.
وفيه ايذان بصعوبة الأمر وتوقفه على استعمال الحيل.
وقال ابن الشيخ أخذاً من تفسير الإمام فإن قيل لم قال : {لاكِيدَنَّ أَصْنَـامَكُم} والكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به والأصنام جمادات لا تتضرر بالكسر ونحوه وأيضاً ليست هي مما يحتال في إيقاع الكسر عليها لأن الاحتيال إنما يكون في حق من له شعور أجيب بأن ذلك من قبيل التوسع في الكلام فإن القوم كانوا يزعمون أن الأصنام لهن
492
شعور ويجوز عليهن الضرر فقال ذلك بناء على زعمهم.
وقيل المراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل قد أنزل بهم الغم.
والأصنام جمع صنم وهي جثة متخذة من فضة أو نحاس أو خشب كانوا يعبدونها متقربين بها إلى الله تعالى كما في المفردات {بَعْدَ أَن تُوَلُّوا} ترجعوا مضارع ولى مشدداً {مُّدْبِرِينَ} ذاهبين من عبادتها إلى عيدكم وهو حال مؤكدة لأن التولية والادبار بمعنى والادبار نقيض الإقبال وهو الذهاب إلى خلف.
قال الكاشفي : {بَعْدَ أَن تُوَلُّوا} (بعد ازانكه روى بكردانيد ازايشان يعنى برويد بعيد كاه وباشيد مدبرين شت برايشان كنندكان وقتى كه بتانرا بكذا ريد وبتماشا كاه خودرويد).
جزء : 5 رقم الصفحة : 491
{فَجَعَلَهُمْ} الفاء فصيحة أي : فولوا فجعلهم {جُذَاذًا} قطاعاً فعال بمعنى المفعول من الجذ الذي هو القطع كالحطام من الحطم الذي هو الكسر.
قال في "القاموس" الجذ القطع المستأصل والكسر والاسم الجذاذ مثلثة انتهى {إِلا كَبِيرًا لَّهُمْ} استثناء من مفعول قوله فجعلهم ولهم صفة لكبيراً والضمير للأصنام أي : لم يكسر "الكبير" وتركه على حاله وعلق الفأس في عنقه وكبره في التعظيم أو في الجثة أو فيهما {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ} إلى "الكبير" وتقديم الظرف للاختصاص أو لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة {يَرْجِعُونَ} فيسألون عن كاسرها لأن من شأن المعبود أن يرجع إليه في حل المشكل فيستجهلهم ويبكتهم بذلك كذا في "بحر العلوم" أو إلى إبراهيم يرجعون لاشتهاره بإنكار دينهم وسب آلهتهم وعداوتهم فيحاججهم بقوله بل فعله كبيرهم فيحجهم ويبكتهم كما في "الإرشاد" وغيره.
(5/377)
ـ روي ـ أن آزر خرج به في يوم عيد لهم فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً وخبزاً جاءوا به معهم وقالوا : الآن ترجع بركة الآلهة على طعامنا فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام فقال مستهزئاً بهم مالكم لا تنطقون مالكم لا تأكلون ثم التفت فإذا بفأس معلق فتناوله فكسر الكل ولم يبق إلا "الكبير" وعلق ألفأس في عنقه وأراق تلك الأطعمة ورجع إلى منزله.
قال الإمام فإن قيل إن كان القوم عقلاء فقد علموا بالضرورة أنها لا تسمع ولا تضر ولا تنفع فما الحاجة إلى كسرها غايته أنهم كانوا يعظمونها كما نعظم نحن المصحف والمحراب والكسر لا يقدح فيه وإن لم يكونوا عقلاء لم تحسن المناظرة معهم ولا بعث الرسل إليهم والجواب أنهم كانوا عقلاء عالمين أنها لا تضر ولا تنفع لكنهم ربما اعتقدوا أنها تماثيل الكواكب وطلسمات من عبدها ينتفع بها ومن استخف بها ناله ضرر ثم إن إبراهيم كسرها ولم ينله ضرر فدل على فساد مذهبهم.
وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان إذا وكل إلى نفسه وطبعه ينحت من هوى نفسه أصناماً كما كان أبو إبراهيم آزر ينحت الأصنام وإذا أدركته العناية الأزلية وأيد بالتأييدات الإلهية يكسر أصنام الهوى ويجعلها جذاذاً فضلاً عن نحتها كما كان حال إبراهيم كان يكسر من الأصنام ما ينحت أبوه وإذا كان المرء من أهل الخذلان يرى الحق باطلاً والباطل حقاً كما كان قوم نمرود ، وقال الخجندي :
جزء : 5 رقم الصفحة : 493
بشكن بت غروركه دردين عاشقان
يك بت كه بشكنند به ازصد عبادتست
{قَالُوا} حين رجعوا من عيدهم ورأوا {مَن فَعَلَ هَـاذَا بِـاَالِهَتِنَآ} (كه كرده است اين
493
عمل باخدايان ما وايشانرا درهم شكسته) والاستفهام للإنكار والتوبيخ ولم يقولوا بهؤلاء مع أنها كانت بين أيديهم مبالغة في التشنيع {إِنَّه لَمِنَ الظَّـالِمِينَ} بالكسر حيث عرض نفسه للهلاك (يعنى از ظالمانست برنفس خودكه بدين عمل خودرا درورطه هلاك انداخته).
{قَالُوا} أي : بعض منهم مجيبين للسائلين فالآية تدل على أن القائلين جماعة {سَمِعْنَا} من الناس {فَتًى} وهو الطري من الشبان {يَذْكُرُهُمْ} بسوء أي : بعيب الأصنام فلعله فعل ذلك بها وأطلق الذكر ولم يقيد لدلالة الحال فإن ذكر من يكره إبراهيم ويبغضه إنما يكون بذم ونظيره قولك سمعت فلاناً يذكرك فإن كان الذاكر صديقاً فهو ثناء وإن كان عدواً فذم {يُقَالُ لَه إِبْرَاهِيمُ} أي : يطلق عليه هذا الاسم.
{قَالُوا} أي : السائلون.
قال ابن الشيخ : بلغ ذلك النمرود الجبار وأشراف قومه فقالوا فيما بينهم {فَأْتُوا بِهِ} (س بياريد اورا) {عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} حال من ضمير به أي : ظاهراً مكشوفاً بمرأى منهم ومنظر بحيث تتمكن صورته في أعينهم تمكن الراكب على المركوب {لَعَلَّهُمْ} أي : بعضاً منهم {يَشْهَدُونَ} بفعله أو بقوله ذلك لئلا نأخذه بلا بينة.
وفيه إشارة إلى أن بعض الكفار من لا يحكم على أهل الجنايات إلا بمشهد من العدول فكل حاكم يحكم على متهم بالجناية من غير بينة فهو أسوأ حالاً منهم ومن قوم نمرود كما في "التأويلات النجمية".
جزء : 5 رقم الصفحة : 493
بشكن بت غروركه دردين عاشقان
يك بت كه بشكنند به ازصد عبادتست
{قَالُوا} حين رجعوا من عيدهم ورأوا {مَن فَعَلَ هَـاذَا بِـاَالِهَتِنَآ} (كه كرده است اين
493
عمل باخدايان ما وايشانرا درهم شكسته) والاستفهام للإنكار والتوبيخ ولم يقولوا بهؤلاء مع أنها كانت بين أيديهم مبالغة في التشنيع {إِنَّه لَمِنَ الظَّـالِمِينَ} بالكسر حيث عرض نفسه للهلاك (يعنى از ظالمانست برنفس خودكه بدين عمل خودرا درورطه هلاك انداخته).
{قَالُوا} أي : بعض منهم مجيبين للسائلين فالآية تدل على أن القائلين جماعة {سَمِعْنَا} من الناس {فَتًى} وهو الطري من الشبان {يَذْكُرُهُمْ} بسوء أي : بعيب الأصنام فلعله فعل ذلك بها وأطلق الذكر ولم يقيد لدلالة الحال فإن ذكر من يكره إبراهيم ويبغضه إنما يكون بذم ونظيره قولك سمعت فلاناً يذكرك فإن كان الذاكر صديقاً فهو ثناء وإن كان عدواً فذم {يُقَالُ لَه إِبْرَاهِيمُ} أي : يطلق عليه هذا الاسم.
{قَالُوا} أي : السائلون.
قال ابن الشيخ : بلغ ذلك النمرود الجبار وأشراف قومه فقالوا فيما بينهم {فَأْتُوا بِهِ} (س بياريد اورا) {عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} حال من ضمير به أي : ظاهراً مكشوفاً بمرأى منهم ومنظر بحيث تتمكن صورته في أعينهم تمكن الراكب على المركوب {لَعَلَّهُمْ} أي : بعضاً منهم {يَشْهَدُونَ} بفعله أو بقوله ذلك لئلا نأخذه بلا بينة.
وفيه إشارة إلى أن بعض الكفار من لا يحكم على أهل الجنايات إلا بمشهد من العدول فكل حاكم يحكم على متهم بالجناية من غير بينة فهو أسوأ حالاً منهم ومن قوم نمرود كما في "التأويلات النجمية".
جزء : 5 رقم الصفحة : 493
(5/378)
{قَالُوا} في الكلام حذف أي : فأتوا به فلما شهدوه قالوا منكرين عليه فعله موبخين له {فَعَلْتَ هَـاذَا بِـاَالِهَتِنَا} الكسر {بِـاَالِهَتِنَا يا اإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ هَـاذَا} مشيراً إلى الذي لم يكسره وهذا صفة لكبير أسند الفعل إليه باعتبار أنه الحامل عليه لأنه لما رأى الأصنام مصطفة مزينة يعظمها المشركون ورأى على "الكبير" ما يدل على زيادة تعظيمهم له وتخصيصهم إياه بمزيد التواضع والخضوع غاظة وكان غيظ كبيرها أكبر وأشد.
وقال بعضهم فعله كبيرهم هذا غضب من أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها ، يعني : (كفت من آن نكرده ام بلكه كرده است اين را بزرك ايشان ازروى خشم برايشان كه باوجود من را ايشانرا رستند) {فَسْـاَلُوهُمْ} عن حالهم {إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} أي : إن كانوا ممن ينطقون حتى يخبروا من فعل ذلك بهم وفي الحديث : "لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا ثلاث كذبات" سميت بالمعاريض كذباً لما شابهت صورتها صورته وإلا فالكذب الصريح كبيرة فالأنبياء معصومون منها.
فإن قلت إذا كانت هذه معاريض لم جعلها سبباً في تقاعده عن الشفاعة حين يأتي الناس إليه يوم القيامة.
قلت : الذي يليق بمرتبة النبوة والخلة أن يصدع بالحق ويصرح بالأمر ولكنه قد تنزل إلى الرخصة فإن حسنات الأبرار سيآت المقربين والتعريض تورية الكلام عن الشيء بالشيء وهو أن تشير بالكلام إلى شيء والغرض منه شيء آخر فالغرض من قوله بل فعله كبيرهم الإعلام بأن من لم يستطع دفع المضرة عن نفسه كيف يستطيع دفع المضرة عن غيره فكيف يصلح إلهاً؟ قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام فإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المطلوب مباحاً وواجب إن كان المقصود
494
واجباً فهذا ضابطه ثنتين في ذات الله أي : في طلب رضاه والثالثة كانت لدفع الفساد عن سارة وفيها رضى الله أيضاً لكن لما كان له نفع طبيعي فيها خصص الثنتين بذات الله دونهاقوله إني سقيم أي : إحدى تلك الكذبتين قوله إني سقيم وذلك أنه لما قال له أبوه : لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال : إني سقيم تأويله إن قلبي سقيم بكفركم أو مراده الاستقبال كما قال الكلبي كان إبراهيم من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا للعيد لم يتركوا إلا مريضاً فلما همّ إبراهيم بكسر الأصنام نظر قبل العيد إلى السماء وقال : أراني أشتكي غداً فأصبح معصوباً رأسه فخرج القوم ولم يتخلف غيره وقوله : بل فعله كبيرهم مر شرحه وواحدة في شأن سارة وذلك أنه قدم الأردنّ وبها ملك جبار يقال له صادوق ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها : إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فأخبريه أنك أختي أي : في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيرك وغيري فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فقال له : لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك فأرسل إليها فأتي بها وقام إبراهيم إلى الصلاة والدعاء فلما دخلت عليه أعجبته فمد يده إليها فأيبس الله تعالى يده فقال لها : ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك فدعت فعاد ثم وثم حتى دعا الذي جاء بها وقال : اخرجها من أرضي وأعطاها هاجر وكانت جارية في غاية الحسن والجمال وهبتها سارة لإبراهيم فولدت له إسماعيل عليهما السلام.
جزء : 5 رقم الصفحة : 494
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ} أي : راجعوا عقولهم وتذكروا أن ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسره بوجه من الوجوه يستحيل أن يقدر على دفع مضرة غيره أو جلب منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبوداً {فَقَالُوا} أي : قال بعضهم لبعض فيما بينهم.
{إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّـالِمُونَ} بعبادتها لا من كسرها.
{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} أي : انقلبوا إلى المجادلة بعدما استقاموا بالمراجعة شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه من قولهم نكس المريض إذا عاد إلى مرضه الأول بعد العافية والنكس قلب الشيء ورد آخره على أوله.
وقال الكاشفي : (س نكونسار كرده شدند برسرهاى خود يعنى سردريش افكندنداز حجالت وغيرت).
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن لكل إنسان عقلاً لو رجع إلى عقله وتفكر في حاله لعلم صلاحه وفساد حاله ، وفي "المثنوي" :
كشتىء بى لنكر آمدمردنر
كه زبادك ندارد او حذرلنكر عقلست عاقل را امان
لنكرى دريوزه كن ازعاقلان
وفيه إشارة أخرى وهي أن العقل وإن كان يعرف الصلاح من الفساد ويميز بين الحق والباطل ما لم يكن له تأييد من نور الله وتوفيق منه لا يقدر على اختيار الصلاح واحتراز الفساد فيبقى مبهوتاً كما كان حال قوم نمرود حيث نكسوا على رؤوسهم إذ لم يكونوا موفقين فما نفعهم ما عرفوا من الحق ، وفي "المثنوي" :
جز عنايت كه كشايد شم را
(5/379)
جزمحبت كه نشاند خشم راجهدبى توفيق خود كس رامباد
درجهان والله أعلم بالرشاد
495
{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـاؤُلاءِ يَنطِقُونَ} على إرادة القول أي : قائلين لقد علمت يا إبراهيم أن ليس من شأنهم النطق فكيف تأمرنا بسؤالهم فأقروا بهذا للحيرة التي لحقتهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 494
{قَالَ} مبكتاً لهم {أَفَتَعْبُدُونَ} أي : أتعلمون ذلك فتعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} أي : حال كونكم متجاوزين عبادته تعالى {مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْـاًا} من النفع إن عبدتموهم {وَلا يَضُرُّكُمْ} إن لم تعبدوهم فإن العلم بالحالة المنافية للألوهية مما يوجب الاجتناب عن عبادته قطعاً.
{أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} تضجر منه من إصرارهم على الباطل البين وأف صوت التضجر إذا صوت بها الإنسان علم أنه متضجر ومعناه قبحاً ونتناً ، وبالفارسية : (زشتى وناخوشى شمارا ومران يزرا كه مى رستيد بجز خداى تعالى) واللام لبيان المتأفف له أي : لكم ولآلهتكم هذا التأفف لا لغيركم وفي كتب النحو من أسماء الأفعال أف بمعنى أتضجر {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي : أجننتم فلا تعقلون قبح صنيعكم.
قال ابن عطاء دعا الله تعالى عباده إليه وقطعهم عما دونه بقوله : {أَفَتَعْبُدُونَ} الخ كيف تعتمده وهو عاجز مثلك ولا تعتمد من إليه المرجع وبيده الضر والنفع.
قال حمدون القصار : استغاثة الخلق بالخلق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
وقال بعض الكبار طلبك من غيره لوجود بعدك عنه إذ لو كنت حاضراً بقلبك معه ما صح منك توجه لغيره وكل ما دون الله خوض ولعب فالتعلق به زور وكذب فدع الكل جانباً وتعلق بمولاك حتماً تجده في كل مهم وغيره مغنياً وعند كل شيء حقاً يقيناً جعلنا الله ممن تعلق به بلا علة وعافانا من الذلة والزلة والقلة.
ـ حكي ـ أن امرأة حبيب العجمي ألحّت عليه أن يعمل بالأجرة طلباً للسعة في الرزق فخرج من بيته وعبد الله إلى الليل فعاد إلى بيته وليس معه شيء فلما سألته امرأته قال : عملت لعظيم كريم واستحييت أن اطلب الأجرة فلما مضى عليه ثلاثة أيام قالت : أطلب الأجرة أو اعمل لغيره أو طلقني فخرج إلى الليل فلما عاد إلى منزله وجد رائحة الطعام وامرأته مستبشرة فقالت : إن الذي عملت له أرسل إلينا أشياء عظيمة وكيساً مملواً ذهباً فبكى حبيب وقال : إنه من عند الله الكريم فلما سمعت المرأة تابت وحلفت أن لا تعود إلى مثله أبداً.
ففي هذه الحكاية فوائد : منها أن العمل بالأجرة وإن كان أمراً مشروعاً لكن الحبيب اختار طاعة الحبيب وعد ذلك العمل من قبيل الاستناد إلى الغير مع أنه تعالى قال : "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطى السائلين".
جزء : 5 رقم الصفحة : 496
ومنها : أن الصبر مؤد إلى الفتح ولو كان بعد حين فلا بد من الصبر وترك الجزع ، ومنها أن تلك المرأة عرفت الحال فتابت إلى الله المتعال واختارت القوت والقناعة ولازمت العبادة والطاعة فإن من أعرض عن الحق بعد ظهور البرهان فقد خان نفسه وأهان ألا ترى أن قوم إبراهيم بعدما استبان لهم الحق رجعوا إلى الكفر والإصرار وعبادة الأصنام من الخشب والأحجار فأهلكهم الله تعالى بالبعوض الصغار ، وفي "المثنوي" :
هست دنيا قهر كردكار
قهر بين ون قهر كردى اختيار
استخوان وموى مقهوران نكر
تيغ قهر افكنده اندر بحر وبر
{قَالُوا حَرِّقُوهُ} أي : قال بعضهم لبعض لما عجزوا عن المحاجة وهكذا ديدن المبطل المحجوج
496
(5/380)
إذا قرعت شبهته بالحجة القاطعة وافتضح لا يبقى له مفزع إلا المناصبة واتفقت كلمتهم على إحراقه لأنه أشد العقوبات.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما : إن الذي أشار بإحراقه رجل من أعراب العجم يعني من الأكراد ولعمري أنهم لفي فسادهم وجفائهم وغلوهم في تعذيب الناس بعد يقدمون ولا ينفكون عن ذلك ما ترى للإسلام الذي هو دين إبراهيم الخليل عليهم أثراً في خلق ولا عمل خلقهم نهب أموال المسلمين وعلمهم ظلم وسرقة وقتل وقطع الطريق والله ما هؤلاء بأهل الملة الغراء لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء إياك والمصاحبة بأصلحهم والمرور ببلادهم {وَانصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ} بالانتقام لها {إِن كُنتُمْ فَـاعِلِينَ} أمراً في إهلاكه يعني أن الإحراق هو المعتد به في هذا الباب.
وقصته أنه لما اجتمع نمرود وقومه لإحراقه عليه السلام حبسوه في بيت بنوا له حائطاً كالحظيرة ارتفاعه ستون ذراعاً وذلك في جنب جبل كوثى وهي بالضم قرية بالعراق ثم جمعوا له الحطب الكثير حتى أن الرجل المريض كان يوصي بشراء الحطب وإلقائه فيها وكانت المرأة لو مرضت قالت : إن عافاني الله لأجمعن حطباً لإبراهيم وكانت تنذر في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحتطبن في نار إبراهيم وتغزل وتشتري الحطب بغزلها فتلقيه في ذلك البنيان احتساباً في دينها.
وكانت امرأة عجوز نذرت أن تحمل الحطب إلى نار إبراهيم فحملت حزمة حطب وذهبت بها إلى موضع النار فاعترضها ملك في الطريق وقال : أين تذهبين يا عجوز فقالت : أريد نار إبراهيم فقال : طول الله طريقك وقصر خطاك فأقامت تسير والحطب فوق رأسها وهي جيعانة عطشانة حتى ماتت لعنها الله تعالى قيل : جمعوا له أصناف الحطب من أنواع الخشب على ظهر الدواب أربعين يوماً.
قال الكاشفي : (وروغن فراوان برهيمه ريختند) يقال أن جميع الدواب امتنعت من حمل الحطب إلا البغال فعاقبها الله أن أعقمها كما في "القصص".
وذكر في فضائل القدس عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال في زمن بني إسرائيل في بيت المقدس عند عين سلوان وعين سلوان في القدس الشريف كزمزم في مكة وكانت المرأة إذا قذفت أتوا بها فسقوها من ماء هذه العين فإن كانت بريئة لم يضرها وإن كانت سقيمة ماتت فلما حملت مريم أم عيسى عليه السلام أتوا بها وحملوها على بغلة فعثرت بها فدعت الله تعالى أن يعقم رحمها فعقمت من ذلك اليوم فلما أتتها شربت منها فلم تزد إلا خيراً فدعت الله تعالى أن لا يفضح امرأة مؤمنة فغارت انتهى.
ثم أوقدوا الحطب سبعة أيام فلما اشتعلت النار صار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الجو لاحترق من شدة وهجها أي : شدة حرها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 496
ـ روي ـ أنهم لم يعلموا كيف يلقونه فيها لعدم تأتي القرب منها فجاء إبليس في صورة شيخ وعلمهم عمل المنجنيق.
قال في "إنسان العيون" أول من وضع المنجنيق إبليس فإنه لما جعلوا في الحطب النار ووصلت النار إلى رأس الجدار المرتفع المبني جنب الجبل لم يدروا كيف يلقون إبراهيم فتمثل لهم إبليس في صورة نجار فصنع لهم المنجنيق ونصبوه على رأس الجبل ووضعوه فيه وألقوه في تلك النار وأول من رمى به في الجاهلية جذيمة الأبرش وهو أول من أوقد الشمع انتهى.
وقيل : صنعه لهم رجل من الأكراد وكان أول من صنع المنجنيق فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ثم عمدوا إلى إبراهيم فوضعوه في كفة المنجنيق مقيداً مغلولاً فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة إلا الثقلين
497
صيحة واحدة أي : ربنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم وإنه يحرق فيك فائذن لنا في نصرته فقال تعالى : إن استغاث بأحد منكم لينصره فقد أذنت له في ذلك فإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه فإنه خليلي ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء وأتاه خازن المياه فقال : إن أردت أخمدت النار فقال إبراهيم لا حاجة لي إليكم ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس في الأرض من يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل وأقبلت الملائكة فلزموا كفة المنجنيق فرفعه أعوان النمرود فلم يرتفع فقال لهم إبليس : أتحبون أن يرتفع؟ قالوا : نعم قال : ائتوني بعشر نسوة فأتوه بهن فأمرهن بكشف رؤوسهن ونشر شعورهن ففعلوا ذلك فمدت الأعوان المنجنيق وذهبت الملائكة فارتفع إبراهيم في الهواء كما في "القصص" وذلك أن الملك لا يرى الرأس المكشوف من المرأة بخلاف الجنى ولذا لما رأى نبينا عليه السلام الملك في بدء الوحي فزع منه فأجلسته خديجة رضي الله عنها في حجرها وألقت خماراً وهو ما يعطي به الرأس ثم قالت : هل تراه قال : لا قالت : يا ابن عم أثبت وأبشر فوالله إنه لملك ما هذا بشيطان وحين ألقى في النار قال : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك.
(5/381)
قال في "التأويلات النجمية" إذا أراد الله تعالى أن يكمل عبداً من عباده المخلصين يفديه بخلق عظيم كما أنه تعالى إذا أراد استكمال حوت في البحر يفديه بكثير من الحيتان الصغار فلما أراد تخليص ابريز الخلة من غش البشرية جعل النمرود وقومه فداء لإبراهيم حتى أجمعوا على تحريقه بعد أن علموا أنهم ظالمون فوضعوه في المنجنيق ورموه إلى النار فانقطع رجاؤه عن الخلق بالكلية متوجهاً إلى الله تعالى مستسلماً نفسه إليه حتى أن جبريل عليه السلام أدركه في الهواء فامتحنه بقوله هل لك من حاجة؟ وما كان فيه من الوجود ما تتعلق به الحاجة فقال : أما إليك فلا قال له جبريل : سل ربك امتحاناً له فأخفى سره عن جبريل غيرة على حاله فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي وما أظهر عليه حاله فأدركته العناية الأزلية بقوله :
جزء : 5 رقم الصفحة : 496
{قُلْنَا يا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} البرد خلاف الحر والسلام التعري من الآفات أي : كوني ذات برد من حرك وسلامة من بردك فزال ما فيها من الحرارة والإحراق وبقي ما فيها من الإضاءة والإشراق واختاره المحققون لدلالة الظاهر عليه وهذا كما ترى من أبدع المعجزات فإن انقلاب النار هواء طيباً وإن لم يكن بدعاً من قدرة الله لكن وقوع ذلك على هذه الهيئة مما يخرق العادات وقيل : كانت النار بحالها إلا أنه تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه كخزنة جهنم في الآخرة وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار كما يشعر به ظاهر قوله على إبراهيم قيل فبردت نار الدنيا يومئذٍ ولم ينتفع بها أحد من أهلها ولو لم يقل على إبراهيم لبقيت ذات برد أبداً على كافة الخلق بل على جميع الأنبياء ولو لم يقل سلاماً بعد قوله برداً لمات إبراهيم من بردها.
قال في "الكبير" أما كونها سلاماً عليه فلأن البرد المفرط مهلك كالحر بل لا بد من الاعتدال وهو إما بأن يقدر الله بردها بمقدار لا يؤثر أو بأن يصير بعض النار برداً ويبقى بعضها على حرارته
498
أو بأن يزيد في حرارة جسمه حتى لا يتأثر ببردها.
قيل : جعل كل شيء يطفىء عنه النار إلا الوزغة فإنها كانت تنفخ النار ولذا أمر النبي عليه السلام بقتلها.
قيل : لما ألقى في النار كان فيها أربعين يوماً أو خمسين وقال : ما كنت أطيب عيشاً زماناً من الأيام التي كنت فيها في النار كما قال بعض العارفين في جبل لبنان وكان يأكل أصول النبات وأوراق الشجر ظننت أن حالي أطيب من حال أهل الجنة ، قال الحافظ :
عاشقاً نرا كردر آتش مينشا ندمهر دوست
تنك شمم كر نظر در شمه كوثر كونم
جزء : 5 رقم الصفحة : 498
قيل لما رموه في النار : أخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه في الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس.
قال الكاشفي : (ون ابراهيم بميدان آتش فرود آمد في الحال غل وبند او بسوخت) فبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم فجاء فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه وقال : يا إبراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبابي على أحسن ما يكون من الهيئة والنار محيطة به فناداه : يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال : نعم قال : قم فأخرج فقام يمشي حتى خرج فاستقبله النمرود وعظمه وقال : من الرجل الذي رأيته معك في صورتك؟ قال : ذلك ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني فيها فقال له النمرود : إني مقرب إلى إلهك قرباناً لما رأيته من قدرته وعزته فيما صنع بك وإني ذابح له أربعة آلاف بقرة فقال إبراهيم لا يقبل الله منك ما كنت على دينك هذا قال النمرود : لا أستطيع ترك ملكي وملتي لكن سوف أذبحها له ثم ذبحها وكف عن إبراهيم.
وفي "القصص" قال له النمرود : أي : بعد الخروج : ما أعجب سحرك يا إبراهيم قال : ليس هذا سحر ولكن الله جعل النار عليّ برداً وسلاماً وألبسني ثوب العز والبهاء فقال له النمرود : فمن ذلك الرجل الذي كان جالساً عن يمينك والرجال الذين كانوا حولك فقال له إبراهيم : فمن ملائكة ربي بعثهم إلي يؤنسونني ويبشرونني بأن الله قد اتخذني خليلاً فتحير النمرود ولم يدر ما يصنع بإبراهيم فحدثته نفسه بالجنون وقال : لأصعدن إلى السماء وأقتل إلهك فأمر أن يصنع له تابوت وثيق كما سبق في أواخر سورة إبراهيم.
ـ وروي ـ أنهم لما رأوه سالماً لم يحترق منه سوى وثاقه قال هاران أبو لوط عليه السلام : إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار لكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله ففعلوا فطارت شرارة إلى لحية أبي لوط فأحرقتها.
(5/382)
ـ روي ـ إن إبراهيم ألقي في النار وهو ابن ست عشرة سنة.
فإن قلت : هل وجد القول من الله تعالى حيث قال : {قُلْنَا يا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا} أو هو تمثيل؟ قلت : جعل الله النار باردة من غير أن يكون هناك قول وخطاب لقوله تعالى : {أَن يَقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (يس : 82).
وذهب بعضهم إلى أن ذلك القول قد وجد والقائل هو الله أو جبريل قال بأوامر الله.
قال ابن عطاء سلام إبراهيم من النار بسلامة صدره لما حكي الله عنه {إِذْ جَآءَ رَبَّه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الصافات : 84) أي : خاللٍ من جميع الأسباب والعوارض وبردت عليه النار لصحة توكله ويقينه مع أن نار العشق غالبة على كل شيء ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 498
عشق آن شعله است كو ون بر فروخت
هره جز معشوق باقى جمله سوخت
499
در ناه لطف حق بايد كريخت
كو هزاران لطف بر ارواح ريختتا ناهى يابى آنكه ون ناه
آب وآتش مر ترا كردد ساه
نوح وموسى را نه دريا يار شد
نى بر اعدا شان بكين قهارشد
آتش ابراهيم را نى قلعه بود
تا برآورد از دل نمرود دود
كوه يحيى را نه سوى خويش خواند
قاصدانش را بزخم سنك راند
كفت اى يحيى بيا در من كريز
تا ناهت باشم از شمشيرتيز
فإن قلت لم ابتلاه الله بالنار في نفسه؟ قلت : كل رسول أتى بمعجزة تناسب أهل زمانه فكان أهل ذلك الزمان يعبدون النار والشمس والنجوم معتقدين أنها من حيث أرواحها تربي الهياكل والأجسام بخاصية طبائع هن عليها فأراهم الله تعالى الحق أن العنصر الأعظم عندهم هو حقيقة الشمس وروح كرة الأثير والنجوم ولا تضر تلك الآلهة إلا بإذن الله بسريان القدرة القاهرة في حقائق العناصر.
وقيل : ابتلاه الله بالنار لأن كل إنسان يخاف بالطبع من صفة القهر كما قيل لموسى : {وَلا تَخَفْا سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاولَى} (طه : 21) فأراه تعالى أن النار لا تضر شيئاً إلا بإذن الله تعالى وإن ظهرت بصفة القهر ولذلك أظهر الجمع بين التضاد بجعلها برداً وسلاماً ومعجزة قاهرة لأعدائه المعتقدين بوصف الربوبية للعنصر الأعظم فكان ابتلاؤه بالنار معجزة ساطعة لعبدة النيران والنجوم كذا في "أسئلة الحكم" {وَأَرَادُوا بِه كَيْدًا} مكراً عظيماً في الاضرار به {فَجَعَلْنَـاهُمُ الاخْسَرِينَ} أي : أخسر من كل خاسر حيث عاد سعيهم في إطفاء نور الحق برهاناً قاطعاً على أنه على الحق وهم على الباطل وموجباً لارتفاع درجته واستحقاقهم لأشد العذاب ، وفي "المثنوي" :
هركه بر شمع خدا آرد فو
شمع كى ميرد بسوزد وز اوون توخفاشان بسى بينند خواب
كين جهان ماند يتيم از آفتاب
اى بريده آن لب وحلق ودهان
كه كند تف سوى مه با آسمان
تف برويش باز كردد بى شكى
تف سوى كردون نيابد مسلكى
تا قيامت تف برو بارد زرب
همو تبت برروان بو لهب
وقيل : {فَجَعَلْنَـاهُمُ الاخْسَرِينَ} أي : من الهالكين بتسليط البعوض عليهم وقتله إياهم وهو أضعف خلق الله تعالى وما برح النمرود حتى رأى أصحابه قد أكلت البعوض لحومهم وشربت دماءهم ووقعت واحدة في منخره فلم تزل تأكل إلى أن وصلت إلى دماغه وكان أكرم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة من حديد فأقام بهذا نحواً من أربعمائة سنة وقد سبق في سورة النحل {وَنَجَّيْنَـاهُ} أي : إبراهيم من الإحراق ومن شر النمرود.
جزء : 5 رقم الصفحة : 498
{وَلُوطًا} هو ابن أخي إبراهيم اسمه هاران مهاجراً {إِلَى الارْضِ الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا لِلْعَـالَمِينَ} أي : من العراق إلى الشام.
قيل : كانت واقعة إبراهيم مع النمرود بكوثى في حدود بابل من أرض العراق فنجاه الله من تلك البقعة إلى الأرض المباركة الشامية.
وعن سفيان أنه خرج إلى الشام فقيل له : إلى أين؟ فقال : إلى بلد يملأ فيه الجراب بدرهم وقد كان الله تعالى بارك في الأرض المقدسة ببعث أكثر الأنبياء فيها ونشر شرائعهم
500
هي البركات الحقيقية الموصلة للعالمين إلى الكمالات والسعادة الدينية والدنيوية وبكثرة الماء والشجر والثمر والحطب وطيب عيش الغني والفقير.
وقال أبي بن كعب : سماها مباركة لأن ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس وقد كان لوط النبي آمن بإبراهيم بن تارخ وهو لوط بن هاران بن تارخ بن تاخور وآزر لقب تارخ وكان هاران وإبراهيم أخوين وآمنت به أيضاً صارة بنت عم إبراهيم وسارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم فخرج من كوثى مهاجراً إلى ربه ومعه لوط وسارة يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران فمكث بها ما شاء الله ثم ارتحل منها ونزل بفلسطين ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر ثم خرج من مصر وعاد إلى أرض الشام ونزل لوط بالمؤتفكة وبعثه الله نبياً إلى أهلها.
(5/383)
ـ روي ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم إلى مهاجر إبراهيم" أراد عليه السلام بالهجرة الثانية الهجرة إلى الشام والمقصود ترغيب الناس في المقام بها وفي الحديث "بيت المقدس أرض الحشر والنشر والشام صفوة الله من بلاده يجيىء إليها صوفته من خلقه" وفي المرفوع "عليكم بالشام".
سعد يا حب وطن كره حديث است صحيح
نتوان مرد بسختى كه من اينجا زادم
وفي "المثنوي" :
مسكن يارست وشهر شاه من
يش عاشق اين بود حب الوطن
{وَوَهَبْنَا لَهُ} أي : لإبراهيم بعد نزوله في الأرض المباركة وطلب الولد منها {إِسْحَـاقَ} ولداً لصلبه من سارة معناه بالعبرانية الضحاك كما أن معنى إسماعيل بها مطيع الله {وَيَعْقُوبَ} أي : ووهبنا له يعقوب أيضاً حال كونه {نَافِلَةً} أي : ولد ولد فهو حال من المعطوف عليه فقط لعدم اللبس وسمى يعقوب لأنه خرج عقيب أخيه عيص أو متمسكاً بعقبه.
قال في "القاموس" : النافلة الغنيمة والعطية وما تفعله مما لم يجب كالنفل وولد الولد {وَكُلا} أي : كل واحد من هؤلاء الأربعة بعضهم دون بعض {جَعَلْنَا صَـالِحِينَ} بأن وفقناهم للصلاح في الدين والدنيا فصاروا كاملين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 498
{وَجَعَلْنَـاهُمْ أَاـاِمَّةً} يقتدي بهم في أمور الدين {يَهْدُونَ} أي : الأمة إلى الحق {بِأَمْرِنَا} لهم بذلك وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} ليحثوهم عليه فيتم كمالهم بانضمام العمل إلى العلم.
يقول الققير : جعلوا المصدر من المبنى للمفعول بمعنى أن يفعل الخيرات بناء على أن التكاليف يشترك فيها الأنبياء والأمم ولكن قوله تعالى في أواخر هذه السورة {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ} وقوله تعالى في سورة مريم حكاية عن عيسى عليه السلام : {وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَـانِى} ينادي على أنه من المبنى للفاعل ولا يضر ذلك في الاشتراك إذ الأنبياء أصل في الذي أوحي إليهم من الأوامر {وَإِقَامَ الصَّلَواةِ وَإِيتَآءَ الزَّكَواةِ} عطف الخاص على العام دلالة على فضله وحذفت تاء الإقامة المعوضة من إحدى الألفين لقيام المضاف إليه مقامه {وَكَانُوا لَنَا} خاصة دون غيرنا {عَـابِدِينَ} لا يخطر ببالهم غير عبادتنا والعبادة غاية التذلل.
قال في "التأويلات النجمية" قوله : {وَوَهَبْنَا} يشير إلى أن الأولاد من مواهب الحق لا من مكاسب العبد وقوله : {وَكُلا جَعَلْنَا صَـالِحِينَ} يشير إلى أن الصلاحية
501
من المواهب أيضاً وحقيقة الصلاحية حسن الاستعداد الفطري لقبول الفيض الإلهي وقوله : {وَجَعَلْنَـاهُمْ أَاـاِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} يشير إلى أن الإمامة أيضاً من المواهب وأنه ينبغي أن الإمام يكون هادياً بأمر الله لا بالطبع والهوى وإن كان له أصل البداية وقوله : {وَأَوْحَيْنَآ} الخ يشير إلى أن هذه المعاملات لا تصدر من الإنسان إلا بالوحي للأنبياء وبالإلهام للأولياء وأن طبيعة النفس الإنسانية أن تكون أمارة بالسوء انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 501
واعلم أن آخر الآيات نبه على أهل الإخلاص بالعبارة وعلى غيره بالإشارة فالأول هو العبد المطلق والثاني هو عبد هواه ودنياه وفي الحديث "تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار" خصهما بالذكر لأنهما معظم ما يعبد من دون الله تعالى.
وعن يحيى بن معاذ أنه قال : الناس ثلاثة أصناف : رجل شغله معاده عن معاشه ، ورجل شغله معاشه عن معاده ، ورجل مشتغل بهما جميعاً فالأول درجة العابدين والثاني درجة الهالكين والثالث درجة المخاطرين ، وفي "المثنوي" :
آدمى راهست دركار دست
ليك ازو مقصود اين خدمت بدستتاجلا باشد مرين آيينه را
كه صفا آيد ز طاعت سينه راجهد كن تانور تورخشان شود
تاسلوك وخدمتت آسان شودبند بكسل باش آزاد اى سر
ند باشى بند سيم وبند زرهركه از ديدار بر خوردار شد
اين جهان درشم اومردار شدباز اكر باشد سيد وبى نظير
ونكه صيدش موش باشد شد حقير {وَلُوطًا} منصوب بمضمر يفسره قوله : {ءَاتَيْنَـاهُ} أي : وآتينا لوطاً آتيناه {حُكْمًا} .
(5/384)
قال في "التأويلات النجمية" حكمة حقيقة ، وفي "بحر العلوم" هو ما يجب فعله ، وفي "الجلالين" فصلاً بين الخصوم بالحق.
يقول الفقير : الحكم وإن كان أعم من الحكمة لكنه في حق الأنبياء بمعناها غالباً كما يدل عليه قوله تعالى في حق يحيى عليه السلام : {وَءَاتَيْنَـاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} (مريم : 12) وهو الفهم عن الله تعالى وقوله تعالى في حق داود عليه السلام : {وَءَاتَـاـاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَه مِمَّا يَشَآءُ} (البقرة : 251) فرق بين الملك والحكمة والعلم فيكون معنى قوله : {وَعِلْمًا} أي : علماً نافعاً يتعلق بأمور الدين وقواعد الشرع والملة {وَنَجَّيْنَـاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ} قرية سدوم أعظم القرى المؤتفكة أي : المنقلبة المجعول عاليها سافلها وهي سبع كما سبق {الَّتِى كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَـائِثَ} جمع خبيثة والخبيثة ما يكره رداءة وخساسة يتناول الباطل في الاعتقاد والكذب في المقال والقبيح في الفعال وأعوذ بك من الخبث والخبائث أي : من ذكور الشياطين وإناثها والمراد ههنا اللواطة وصفت القرية بصفة أهلها وأسندت إليها على حذف المضاف وإقامتها مقامه كما يوزن به قوله : {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} (كروهى بد).
قال الراغب : السوء كل ما يغم الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجية من فوات مال وفقد حميم ويعبر به عن كل ما يقبح وهو مقابل الحسن {فَـاسِقِينَ} أي : منهمكين في الكفر والمعاصي متوغلين في ذلك ، وبالفارسية (بيرون رفتكان ازدائره فرمان).
وفي الآية إشارة إلى أن النجاة من الجليس السوء من المواهب والاقتران معه من الخذلان.
502
زينهار ازقرين بد زنهار
جزء : 5 رقم الصفحة : 501
وقنا ربنا عذاب النار
وفي "المثنوي" :
هر حويجى باشدش كردى دكر
درميان باغ ازسير وكبر
هريكى باجنس خود دركرد خود
از براى ختكى نم ميخورد
توكه كرد زعفرانى زعفران
باش آميزش مكن باضميران
آب ميخور زعفرانا تارسى
زعفرانى اندران حلوا رسى
تومكن دركرد شلغم وز خويش
تانكردد باتواو همطبع وكيش
توبكردى او بكردى مودعه
زانكه ارض الله آمد واسعه
{وَأَدْخَلْنَـاهُ فِى رَحْمَتِنَآ} في أهل رحمتنا الخاصة {إِنَّه مِنَ الصَّـالِحِينَ} الذين سبقت لهم منا الحسنى.
قال في "التأويلات النجمية" يشير إلى أن الرحمة على نوعين : خاص وعام ، فالعام منها يصل إلى كل بر وفاجر كقوله تعالى : {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ} (الأعراف : 156) والخاص لا يكون إلا للخواص وهو الدخول في الرحمة وذلك متعلق بالمشيئة وحسن الاستعداد ولهذا قال : {إِنَّه مِنَ الصَّـالِحِينَ} المستعدين لقبول فيض رحمتنا والدخول فيها وهو إشارة إلى مقام الوصول فافهم جداً كقوله تعالى : {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ} (الشورى : 8).
جزء : 5 رقم الصفحة : 501
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى} ظرف للمضاف المقدر أي : اذكر نبأه الواقع حين دعائه على قومه بالهلاك {مِن قَبْلُ} أي : من قبل هؤلاء المذكورين {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي : دعاءه الذي هو قوله : {أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} (القمر : 10).
قال في "بحر العلوم" : الاستجابة الإجابة لكن الاستجابة تتعدى إلى الدعاء بنفسها وإلى الداعي باللام ويحذف الدعاء إذا عدى إلى الداعي في الغالب فيقال : استجاب الله دعاءه أو استجاب له ولا يكاد يقال استجاب له دعاءه وهو الدليل على أن النداء المذكور بمعنى الدعاء لأن الاستجابة تقتضي دعاء {فَنَجَّيْنَـاهُ وَأَهْلَه مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} من الغم العظيم الذي كانوا فيه من أذية قومه.
قال الراغب الكرب الغم الشديد من كرب الأرض قلبها بالحفر فالغم يثير النفس إثارة ذلك.
{وَنَصَرْنَـاهُ} نصراً مستتبعاً للانتقام والانتصار ولذلك عدى بمن حيث قيل : {مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتنا} أولاً وآخراً {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} (كروهى بديعنى كافر بودند ه كفر سر جمله همه بديهاست) {فَأَغْرَقْنَـاهُمْ أَجْمَعِينَ} فإنه لم يجتمع الإصرار على التكذيب والانهماك في الشر والفساد في قوم إلا أهلكهم الله تعالى.
اعلم أن الدعاء إذا كان بإذن الله تعالى وخلوص القلب كما للأنبياء وكمل الأولياء يكون مقروناً بالإجابة.
ـ روي ـ أن زيد بن ثابت رضي الله عنه خرج مع رجل من مكة إلى الطائف ولم يعلم أنه منافق فدخلا خربة وناما فأوثق المنافق يد زيد وأراد قتله فقال زيد : يا رحمن أعني فسمع المنافق قائلاً يقول : ويحك لا تقتله فخرج المنافق ولم ير أحداً ثم وثم ففي الثالثة قتله فارس ثم حل وثاقه وقال : أنا جبريل كنت في السماء السابعة حين دعوت الله فقال الله تعالى : أدرك عبدي.
ففي الحكاية أمور : منها لا بد لأهل الطريق من الرفيق لكن يلزم تفتيش حاله ليكون على أمان من المخلوق وقد كثر العدو في صورة الصديق في هذا الزمان ، وفي "المثنوي" :
503
(5/385)
آدمى رادشمن نهان بسيست
جزء : 5 رقم الصفحة : 503
آدمىء باحدر عاقل كسيست وقد قيل في كل شيء عبرة والعبرة في الغراب شدة حذره.
ومنها أن الدعاء من أسباب النجاة فرعها الله عليه حيث قال : {فَنَجِّيْنَـاهُ} بعد قوله : {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} قال الحافظ :
مرا درين ظلمات آنكه رهنمائى كرد
دعاى نيم شبى بود وكريه سحرى
وفي "المثنوي" :
آن نياز مريمى بودست ودرد
كه نان طفلى سخن آغازكردهركجا دردى دوا آنجا رود
هركجا ستيست رب آنجا رود ومنها أن الله تعالى يعين عبده المضطر من حيث لا يحتسب إذ كل شيء جند من جنوده كما حكي أن سفينة مولى رسول الله عليه السلام أخطأ الجيش بأرض الروم فأسر فانطلق هارباً يلتمس فإذا هو بالأسد فقال : يا أبا الحارث أنا سفينة مولى رسول الله وكان من أمري كيت وكيت فأقبل الأسد يبصبص حتى قام إلى جانبه كلما سمع صوتاً أهوى إليه فلم يزل كذلك حتى بلغ الجيش ثم رجع الأسد ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
يكى ديدم از عرصه رودبار
كه يش آمدم برلنكى سوار
نان هول ازان حال بر من نشست
كه ترسيدنم اى رفتن به بست
تبسم كنان دست برلب كرفت
كه سعدى مدار آنه آيد شكفت
توهم كردن از حكم داور مي
كه كردن نيد زحكم توهي
محالست ون دوست دارد ترا
كه دردوست دشمن كذارد ترا
ومنها : أن الملك يتمثل لخواص البشر.
قال الغزالي رحمه الله في "المنقذ من الضلال" إن الصوفية يشاهدون الملائكة في يقظتهم أي : لحصول طهارة نفوسهم وتزكية قلوبهم وقطعهم العلائق وحسمهم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال وإقبالهم على الله تعالى بالكلية علماً دائماً وعملاً مستمراً :
شد فرشته ديدن ازشان فرشته خصلتى†
جزء : 5 رقم الصفحة : 503
{وَدَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ} أي : اذكر خبرهما وقت حكمهما في وقت الحرث وهو بالفارسية (كشت) {إِذْ نَفَشَتْ} تفرقت وانتشرت ظرف للحكم {فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} ليلاً بلا راع فرعته وأفسدته فإن النفش أن ينتشر الغنم ليلاً بلا راع والغنم محركة الشاة لا واحد لها من لفظها الواحدة شاة وهو اسم مؤنث للجنس يقع على الذكور والإناث وعليهما جميعاً كما في "القاموس" {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ} أي : لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما.
فإن قيل : كيف يجوز أن يجعل الضمير لمجموع الحاكمين والمتحاكمين وهو يستلزم إضافة المصدر إلى فاعله ومفعوله دفعة واحدة وهو إنما يضاف إلى أحدهما فقط لأن إضافته إلى الفاعل على سبيل القيام به وإضافته إلى المفعول على سبيل الوقوع عليه فهما معمولان مختلفان فلا يكون اللفظ الواحد مستعملاً فيهما معاً وأيضاً أنه يستلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن إضافته إلى الفاعل حقيقة وإلى المفعول مجاز فالجواب أن هذه الإضافة لمجرد الاختصاص مع كون القطع عن كون المضاف إليه فاعلاً
504
أو مفعولاً على طريق عموم المجاز كأنه قيل وكنا للحكم المتعلق بهم {شَـاهِدِينَ} حاضرين علماً وهو مقيد لمزيد الاعتناء بشأن الحكم.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أنا كنا حاضرين في حكمهما معهما وإنما حكما بإرشادنا لهما ولم يخطىء أحد منهما في حكمه إلا أنا أردنا تشييد بناء الاجتهاد بحكمهما عزة وكرامة للمجتهدين ليقتدوا بهما مستظهرين بمساعيهم المشكورة في الاجتهاد.
{فَفَهَّمْنَـاهَا} أي : الحكومة {سُلَيْمَـانُ} وهو ابن إحدى عشرة سنة.
وقال الكاشفي : (درسن سيزده سالكى).
قال في "التأويلات النجمية" يشير إلى رفعة درجة بعض المجتهدين على بعض وأن الاعتبار في الكبر والفضيلة بالعلم وفهم الأحكام والمعاني والأسرار لا بالسن فإنه فهم بالأحق والأصوب وهو ابن صغير وداود نبي مرسل كبير.
وحكماً (كفته اند تو انكرى بهنرست نه بمال وبزركى بعقلست نه بسال).
وفي "القصص" إن بني إسرائيل حسدوا سليمان على ما أوتي من العلم في صغر سنه فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام يا داود إن الحكمة تسعون جزأ سبعون منها في سليمان وعشرون في بقية الناس {وَكُلا} (هريك را زدر وسر) {حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا} كثيراً لا سليمان وحده فحكم كليهما حكم شرعي.
جزء : 5 رقم الصفحة : 504
قال في "التأويلات النجمية" أي : حكمة وعلماً ليحكم كل واحد منهما موافقاً للعلم والحكمة بتأييدنا وإن كان مخالفاً في الحكم بحكمتنا ليتحقق صحة أمر الاجتهاد وأن كل مجتهد مصيب كما قال في "الإرشاد" وهذا يدل على أن خطأ المجتهد لا يقدح في كونه مجتهداً.
(5/386)
ـ روي ـ أنه دخل على داود عليه السلام رجلان فقال أحدهما إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلاً فأفسدته فقضى له بالغنم إذ لم يكن بين قيمة الحرث وقيمة الغنم تفاوت فخرجا فمرا على سليمان عليه السلام فأخبراه بذلك فقال غير هذا أرفق بالفريقين فسمعه داود فدعاه فقال له بحق النبوة والأبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين؟ فقال : أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الأرض لينتفع بدرها ونسلها وصوفها والحرث إلى أرباب الغنم ليقوموا عليه أي : بالحرث والزرع حتى يعود إلى ما كان ويبلغ الحصاد ثم يترادّا فقال القضاء : ما قضيت وأمضى الحكم بذلك.
قال في "الإرشاد" الذي عندي أن حكمهما كان بالاجتهاد فإن قول سليمان غير هذا أرفق بالفريقين ثم قوله أرى أن تدفع الخ صريح في أنه ليس بطريق الوحي وإلا لبت القول بذلك ولما ناشده داود لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يظهره ابتداء وحرم عليه كتمه ومن ضرورته أن يكون القضاء السابق أيضاً كذلك ضرورة استحالة نقض حكم النص بالاجتهاد انتهى والاجتهاد بذل الفقيه الوسع ليحصل له ظن بحكم شرعي وهو جائز للأنبياء عند أهل السنة ليدركوا ثواب المجتهدين وليقتدي بهم غيرهم ولذا قال عليه السلام : "العلماء ورثة الأنبياء" فإنه يستلزم أن تكون درجة الاجتهاد ثابتة للأنبياء ليرث العلماء عنهم ذلك إلا أن الأنبياء لا يقرون على خطأ وفي الحديث "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم واجتهد وأخطأ فله أجر" وفي كل حادثة حكم معين عند الله وعليه دليل قطعي أو ظني فمن وجده أصاب ومن فقده أخطأ ولم يأنم.
فإن قيل لو تعين الحكم فالمخالف له لم يحكم بما أنزل الله فيفسق أو يكفر.
قلنا إنه أمر بالحكم بما ظنه وإن أخطأ فقد حكم بما أنزل الله.
قال في "بحر العلوم" : واعلم أن في هذه الآية دليلاً على أن المجتهد
505
يخطىء أو يصيب وأن الحق واحد في المسائل الاجتهادية إذ لو كان كل من الاجتهادين صواباً وحقاً لكان كل منهما قد أصاب الحق وفهمه ولم يكن لتخصيص سليمان خلافه بالذكر جهة فإنه في هذا المقام يدل على نفي الحكم عما عداه وعلى أن للأنبياء اجتهاداً كما للعلماء على أنه لو كان كل مجتهد مصيباً لزم اتصاف الفعل الواحد بالنقيضين من الصحة والفساد والوجوب والحظر والإباحة وهو ممتنع ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 504
وهم افتد در خطا ودر غلط
عقل باشد در اصابتها فقطمجتهد هركه كه باشد نص شناس
اندران صوت نينديشد قياسون نيايد نص اندر صورتى
از قياس آنجا نمايد عبرتى
{وَسَخَّرْنَا} (ورام ساختيم) {مَعَ دَاوُادَ الْجِبَالَ} مع متعلقة بالتسخير وهو تذليل الشيء وجعله طائعاً منقاداً.
وسفن مواخر إذا أطاعت وطابت لها الريح {يُسَبِّحْنَ} حال من الجبال أي : يقدسن الله تعالى بحيث يسمع الحاضرون تسبيحهن فإنه هو الذي يليق بمقام الامتنان لا انعكاس الصدى فإنه عام وكذا ما كان بلسان الحال فاعرف {وَالطَّيْرُ} عطف على الجبال وقدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدر وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان {وَكُنَّا فَـاعِلِينَ} قادرين على أن نفعل هذا وإن كان عجباً عندكم.
ـ روي ـ أن داود كان إذا مر يسمعه الله تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه.
قال الكاشفي : (مؤمن موقن بايدكه اعتقاد كند برين وجه كه كوهها ومرغان بموافقت داود بروجهى تسبيح مى كفته اندكه همه سامعانرا تركيب حروف وكلمات آن مفهوم ميشده واين معنى ازقدرت الهي غريب نيست) :
هر كجا قدرتش علم افراخت
ازغرائب هر آنه خواست بساخت
قدرتى را كه نيست نقصانش
كارها جمله هست آسانش
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن الذاكرإذا استولى عليه سلطان الذكر تتنور أجزاء وجوده بنور الذكر فيتجوهر قلبه وروحه بجوهر الذكر فربما ينعكس نور الذكر من مرآة القلب إلى ما يحاذيها من الجمادات والحيوانات فتنطقه بالذكر فتارة يذكر معه أجزاء وجوده وتارة يذكر معه بعض الجمادات والحيوانات كما كانت الحصاة تسبح في يد رسول الله صلى الله عليه وسلّم والضب يتكلم معه.
ـ وروي ـ عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قال : كنا نأكل الطعام ونسمع تسبيحه انتهى.
وفي "عرائس البقلى" رحمه الله كان يطلب كل وقت مكاناً خالياً لذكره وأنسه فيدخل الجبال لأنها ملتبسة بأنوار قدرته خالية عن صنع أهل الحدثان باقية على ما أخرجت من العدم بكسوة نور القدم فإذا كان مسبحاً سبحت الجبال معه والطير بلسان نور الفعل الحق كأنه تعالى ينزه نفسه بتنزيه داود حيث غلب على داود سطوات عظمته ونور كبريائه.
قال محمد بن علي رحمه الله : جعل الله الجبال تسلية للمجذوبين وأنساً للمكروبين والانس الذي في الجبال هو أنها خالية عن صنع الخلائق فيها بحال باقية على صنع الخالق لا أثر فيها لمخلوق فتوحش والآثار التي فيها آثار الصنع الحقيقي عن غير تبديل ولا تحويل انتهى.
قال ابن عباس رضي الله
506
(5/387)
عنهما أن بني إسرائيل كانوا قد تفرقوا قبل مبعث داود وأقبلوا على ملاهي الشيطان وهي العيدان والطنابير والمزامير والصنوج وما أشبهها فبعث الله داود وأعطاه من حسن الصوت ونغمة الألحان حتى كان يتلو التوراة بترجيع وخفض ورفع فأذهل عقول بني إسرائيل وشغلهم عن تلك الملاهي وصاروا يجتمعون إلى داود يستمعون ألحانه وكان إذا سبح تسبح معه الجبال والطير والوحش كما في "قصص الأنبياء" ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 504
به از روى زيباست آواز خوش
كه اين حظ نفس است وآن قوت روح
وقال :
اشتر بشعر عرب در حالنست وطرب
كرذوق نيست تراك طبع جانورى
وقال :
وعند هبوب الناشرات على الحمى
تميل غصون البان لا الحجر الصلد
وكما أن الأصوات الحسنة والنغمات الموزونة تؤثر في النفوس فتجذبها من الشر إلى الخير بالنسبة إلى المستعد الكامل فكذا الأصوات القبيحة والنغمات الغير الموزونة تؤثر في النفوس فتفعل خلاف ما يفعل خلافها ، وفي "المثنوي" :
يك مؤذن داشت بس آواز بد
درميان كافرستان بانك زد
ند كفتندش مكو بانك نماز
كه شود نك وعداوتها دراز
او ستيزه كرد وبس بى احتراز
كفت دركافرستان بانك نماز
خلق خائف شد زفتنه عامه
خود بيامد كافرى باجامه
شمع وحلوا بانان جامه لطيف
هديه آورد وبيامد ون اليف
رس رسان كين مؤذن كوكجاست
كه صلاى بانك اوراحت فزاست
دخترى درام لطيف وبس سنى
آرزوا مى بود اورا مؤمنى
هي اين سودا نمى رفت از سرش
ندها ميداد ندى كافرش
هي اره مى ندانستم دران
تافرو خواند اين مؤذن آن اذان
كفت دختر يست اين مكروه بانك
كه بكوشم آمد اين دوار دانك
من همه عمر اين نين آواززشت
هي نشنيدم درين ديرو كنشت
خواهرش كفتاكه اين بانك اذان
هست اعلام وشعار مؤمنان
باورش نامد برسيد از دكر
آن دكرهم كفت آرى اى قمر
ون يقين كشتش رخ او زردشد
از مسلمانى دل اوسرد شد
بازرستم من زتشويش وعذاب
دوش خوش خفتم داران بى خوف خواب
راحتم اين بود از آواز
هديه آوردم بشكرآن مردكو
ون بديدش كفت اين هديه ذير
ون مراكشتى مجيرو دستكير
كربمال وملك وثروت فردمى
من دهانت را راززر كردمى
جزء : 5 رقم الصفحة : 504
{وَعَلَّمْنَـاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} أي : عمل الدروع ، وبالفارسية : (ساختن زره) والصنع إجادة
507
الفعل فكل صنع فعل وليس كل فعل صنعاً والصناعة ككتابة حرفة الصانع وعمل الصنعة واللبوس في الأصل اللباس درعاً كان أو غيرها ولبس الثوب استتر به وكانت الدروع قبل داود صفائح أي : قطع حديد عراضاً فحلقها وسردها {لَكُمْ} أي : لنفعكم متعلق بعلمنا أو بمحذوف هو صفة لبوس.
والمعجزة فيه أن فعل ذلك من غير استعانة بأداة وآلة من نحو الكير والنار والسندان والمطرقة.
وكان لقمان يجلس مع داود ويرى ما يصنع ويهمّ أن يسأل عنها لأنه لم يرها قبل ذلك فيسكت فلما فرغ داود من الدرع قام وأفرغه على نفسه وقال : نعم الرداء هذا للحرب فقال لقمان عندها إن من الصمت لحكمة.
قالت الحكماء وإن كان الكلام فضة فالصمت من ذهب.
اكر بسيار دانى اندكى كوى
يكى راصد مكو صدرا يكى كوى
{لِتُحْصِنَكُم} لتحرزكم أي : اللبوس بتأويل الدرع ودرع حصينة لكونها حصناً للبدن فتجوّز به في كل تحرز وهو بدل اشتمال من لكم بإعادة الجار لأن لتحصنكم في تأويل لإحصانكم وبين الإحصان وضمير لكم ملابسة الاشتمال مبين لكيفية الاختصاص والمنفعة المستفادة من لكم {مِّنا بَأْسِكُمْ} البأس هنا الحرب وإن وقع على السوء كله أي : من حرب عدوكم ، وبالفارسية : (ازكارزار شما يعنى از قتل وجراحت دركار زار بماندند تيغ وتيرو نيزه).
وفي الآية دلالة على أن جميع الصنائع بخلق الله وتعليمه وفي الحديث "إن الله خلق كل صانع وصنعه" وفي "المثنوي" :
قابل تعليم وفهمست اين خرد
ليك صاحب وحى تعليمش دهد
جمله حرفتها يقين ازوحى بود
اول اوليك عقل آنرا فزود
جزء : 5 رقم الصفحة : 507
(5/388)
{فَهَلْ أَنتُمْ شَـاكِرُونَ} ذلك يعني قد ثبت عليكم النعم الموجبة للشكر حيث سهل عليكم المخرج من الشدائد فاشكروا له.
قال الكاشفي يعني : (شكر كوييد خدايرا برنين لباس) فهو أمر وارد على صورة الاستفهام والخطاب لهذه الأمة من أهل مكة ومن بعدهم إلى يوم القيامة أخبر الله تعالى أن أول من عمل الدرع داود ثم تعلم الناس فعمت النعمة بها كل محارب من الخلق إلى آخر الدهر فلزمهم شكر الله على هذه النعمة.
وقال بعضهم : الخطاب لداود وأهل بيته بتقدير القول أي : فقلنا لهم بعدما أنعمنا عليهم بهذه النعم بل أنتم شاكرون وما أعطى لكم من النعم التي ذكرت من تسخير الجبال له والطير وإلانة الحديد وعلم صنعة اللبوس.
قيل : إن داود خرج يوماً متفكراً طالباً من يسأله عن سيرته في مملكته فاستقبل جبريل على صورة آدمي ولم يعرفه داود فقال له : كيف ترى سيرة داود في مملكته فقال له جبريل : نعم الرجل هو لولا أن فيه خصلة واحدة قال : وما هي قال : بلغني أنه يأكل من بيت المال وليس شيء أفضل من أن يأكل الرجل من كدّ يده فرجع داود وسأل الله أن يجعل رزقه من كدّ يده فألان له الحديد وكان يتخذ الدرع من الحديد ويبيعها ويأكل من ذلك.
يقول الفقير : قد ثبت في الفقه أن في بيت المال حق العلماء وحق السادات ونحوهم فالأكل منه ليس بحرام عند أهل الشريعة والحقيقة لكن الترك أفضل لأهل التقوى كما دل عليه قصة داود وقس عليه الأوقاف ونحوها من الجهات المعينة وذلك لأنه
508
لا يخلو عن شبهة في هذا الزمان مع أن الاستناد إلى الرزق المعلوم ينافي التوكل التام ولذا لم يأكل كثير من أهل الحق ربح المال الموقوف بل أكلوا مما فتح الله عليهم من الصدقات الطيبة من غير حركة ذهنية منهم فضلاً عن الحركة الحسية نعم أكل بعضهم من كسب يده قال الحافظ :
فقيه مدرسه دى مست بود وفتوى داد
كه مى حرام ولى به زمال اوقافست
جزء : 5 رقم الصفحة : 507
غلط الشراح في شرح هذا البيت وأقول تحقيقه أن قوله "ولى به" من كلام الحافظ لا من كلام المفتي.
يعني أن الفقيه كان سكران من شراب الغفلة وحب الدنيا والاعتماد على مال المدرسة ولذا أنكر أهل حال العشق وجعل شرابهم الذي هو العشق حراماً ولكن ليس الأمر كما قال فإنه أولى من مال الوقف.
يعني أن العشق والتوكل التام اللذين عليهما محققوا الصوفية أفضل من الزهد والأكل من مال الوقف اللذين عليهما فقهاء العصر وعلماؤه فالإنكار يتعلق بالفقيه المعتمد لا بالعاشق المتوكل.
قال العلماء : كان الأنبياء عليهم السلام يحترفون بالحرف ويتكسبون بالمكاسب.
فقد كان إدريس خياطاً.
وقد كان أكثر عمل نبينا عليه السلام في بيته الخياطة وفي الحديث "عمل الأبرار من الرجال الخياطة وعمل الأبرار من النساء الغزل" كما في "روضة الأخبار" وفي الحديث "علموا بنيكم السباحة والرمي ولنعم لهو المؤمنة مغزلها وإذا دعا أبوك وأمك فأجب أمك" كما في "المقاصد الحسنة" للسخاوي وفي الحديث "صرير مغزل المرأة يعدل التكبير في سبيل الله والتكبير في سبيل الله أثقل في الميزان من سبع سموات وسبع أرضين" وفي الحديث "المغزل في يد المرأة الصالحة كالرمح في يد الغازي المريد به وجه الله تعالى"(3) كما في "مجمع الفضائل".
وكان نوح نجارا.
وإبراهيم بزازاً وفي الحديث "لو اتجر أهل الجنة لاتجروا في البز ولو اتجر أهل النار لاتجروا في الصرف" كذا في "الأحياء".
وداود زراداً.
وآدم زراعاً وكان أول من حاك ونسج أبونا آدم.
قال كعب : مرت مريم في طلب عيسى بحاكة فسألت عن الطريق فأرشدوها إلى غير الطريق فقالت : اللهم انزع البركة من كسبهم وأمتهم فقراء وحقرهم في أعين الناس فاستجيب دعاؤها ولذا قيل لا تستشيروا الحاكة فإن الله سلب عقولهم ونزع البركة من كسبهم.
وكان سليمان يعمل الزنبيل في سلطته ويأكل من ثمنه ولا يأكل من بيت المال.
وكان موسى وشعيب ومحمد رعاة فإنه عليه السلام آجر نفسه قبل النبوة في رعى الغنم وقال : "وما من نبي إلا وقد رعاها" ومن حكمة الله في ذلك أن الرجل إذا استرعى الغنم التي هي أضعف البهائم سكن قلبه الرأفة واللطف تعطفاً فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان قد هرب أولاً من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي فيكون في أعدل الأحوال وحينئذٍ لا ينبغي لأحد عير برعاية الغنم أن يقول كان النبي عليه السلام يرعى الغنم فإن قال ذلك أدّب لأن ذلك كما علمت كمال في حق الأنبياء دون غيرهم فلا ينبغي الاحتجاج به ويجري ذلك في كل ما يكون كمالاً في حقه عليه السلام دون غيره كالأمية فمن قيل له أنت أمي فقال : كان عليه السلام أمياً يؤدب كما في "إنسان العيون".
جزء : 5 رقم الصفحة : 507
يقول الفقير فقول السلطان سليم الأول من الخواقين العثمانية :
509
يك كدا بود سليمان بعصا وزنبيل
يافت از لطف توآن حشمت ملك آرايى
مصطفى بود يتيمى زعرب ست درت
دادش انعام توتاج شرف بالايى
(5/389)
ترك أدب لأنه يوهم التحقير في شأنهما العظيم.
وكان صالح ينسج الأكسية جمع كساء بالفارسية (كليم).
وعيسى يخصف النعل ويرقعها.
وأفضل الكسب الجهاد وهو حرفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد النبوة والهجرة.
ثم التجارة بشرط الأمانة بحيث لا يخون على مقدار حبة أصلاً.
ثم الحراثة.
ثم الصناعة كما في "المختار والتحفة".
ويجتنب المكاسب الخبيثة أي : الحرام والرديىء أيضاً نحو أجرة الزانية والكاهن وهو الذي يخبر عن الكوائن المستقبلة أو عما مضى وعن نحوسة طالع أو سعد أو دولة أو محنة أو نحو ذلك.
ويجتنب عن صنعة الملاهي ونحوها.
وكره للرجل أن يكون بائع الأكفان لأنه يوجب انتظار موت الناس أو حناطاً يحتكر أو جزاراً وهو القصاب الذي يذبح الدواب لما فيه قساوة القلب.
أو صائغاً بالفارسية (زركر) لما فيه من تزيين الدنيا وقد كرهوا كل ما هو بمعناه كصناعة النقش وتشييد البنيان بالجص ونحو ذلك.
أو نخاساً وهو الذي يبيع الناس من الذكور والإناث.
يقال : ثلاثة لا يفلحون : بائع البشر ، وقاطع الشجر ، وذابح البقر.
وكره أن يكون حجاماً أو كناساً أو دباغاً وما في معناه لما فيه من مخالطة النجاسة.
وكره ابن سيرين وقتادة أجرة الدلال لقلة اجتنابه عن الكذب وإفراطه في الثناء على السلعة لترويجها.
ـ روي ـ أن أول من دل إبليس حيث قال : {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} (طه : 120) كما في "روضة الأخبار".
جزء : 5 رقم الصفحة : 507
{وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ} أي : وسخرنا له الريح وتخصيص داود بلفظ مع وسليمان باللام للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت فإن تسخير ما سخر له عليه السلام من الريح وغيرها كان بطريق الانقياد الكلي له والامتثال بأمره ونهيه والمقهورية تحت ملكوته فجيىء بلام التمليك وأما تسخير الجبال والطير لداود عليه السلام فلم يكن بهذه المثابة بل بطريق التبعية له والاقتداء في عبادة الله تعالى {عَاصِفَةً} حال من الريح أي : حال كونها شديدة الهبوب من حيث أنها تبعد بكرسيه في مدة يسيرة من الزمان وكانت لينة في نفسها طيبة كالنسيم فكان جمعها بين الرخاوة في نفسها وعصفها في عملها مع طاعتها لسليمان وهبوبها حسبما يريد ويحتكم معجزة مع معجزة {تَجْرِى} (ميرفت) حال ثانية {بِأَمْرِهِ} بمشيئته {إِلَى الارْضِ الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا} وهي الشام التي تذهب به غدوة من الشام إلى ناحية من نواحي الأرض وبينها وبين الشام مسيرة شهر إلى وقت الزوال ثم ترجع به منها بعد الزوال إلى الشام عند الغروب كما قال تعالى : {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} (سبأ : 12).
قال مقاتل : عملت الشياطين لسليمان بساطاً فرسخاً في فرسخ من ذهب في إبريسم وكان يوضع له منبر من ذهب في وسط البساط فيقعد عليه وحوله كراسي من ذهب وفضة يقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تطلع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى المغرب وكان عليه السلام امرأ قلما يقعد عن الغزو ولا يسمع في ناحية من الأرض ملكاً إلا أتاه ودعاه إلى الحق.
قال الكاشفي : (در تلخيص آورده كه
510
در شام شهرى بود تدمر نام كه ديوان براى سليمان بنياد ساخته بودند صباح از آنجا بيرون آمدى وياز تماز شام دير آيد آنجا آوردى.
ودر مختار القصص آورده كه بامداد از تدمر بيرون آمدى وقيلوله در اصطخر فارس كردى وشبانكاه بكابل رفتى وروزى ديكر از كابل بيرون آمدى وغشت در اصطخر بودى وشام بتدمر باز آمدى) وكانت تجري إلى حيث شاء سليمان ثم يعود إلى منزله بالشام.
ـ وروي ـ أن سليمان سار من العراق غادياً فقابل نمرود وصلى العصر ببلخ ثم سار من بلخ متخللاً بلاد الترك وأرض الصين ثم عطف منها على مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى قندهار وخرج منها إلى مكران وكرمان حتى أتى فارس فنزلها أياماً وغدا منها بكسكر ثم راح إلى الشام وكان مستقره بمدينة تدمر كما في "بحر العلوم" ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 507
نه برباد رفتى سحركاه وشام
سرير سليمان عليه السلام
باخر نه ديدى كه برباد رفست
خنك آنكه بادانش وداد وفست
{وَكُنَّا بِكُلِّ شَىْءٍ عَـالِمِينَ} فنجريه على ما يقتضي علمنا وحكمتنا {وَمِنَ الشَّيَـاطِينِ} أي : وسخرنا له من الشياطين {مَن يَغُوصُونَ لَهُ} أي : يدخلون تحت البحر ويستخرجون له من نفائسه.
قال الراغب الغوص الدخول تحت الماء وإخراج شيء منه ويقال لك من هجم على غامض فأخرجه غائص عيناً كان أو علماً والغواص الذي يكثر منه ذلك {وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَالِكَ} أي : غير ما ذكر من بناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة وهؤلاء إما الفرقة الأولى أو غيرها لعموم كلمة من كأنه قيل ومن يعملون.
(5/390)
ـ روي ـ أن المسخر له كفارهم لا مؤمنوهم لقوله تعالى : {وَمِنَ الشَّيَـاطِينِ} {وَكُنَّا لَهُمْ حَـافِظِينَ} أي : من أن يزيغوا عن أمره ويعصوا ويتمردوا عليه أو يفسدوا ما عملوا على ما هو مقتضى جبلتهم والشياطين وإن كانوا أجساماً لطيفة لكنهم يتشكلون بأشكال مختلفة ويقدرون على أعمال الشاقة ألا ترى أن لطافة الريح لا تمنع عصوفها لا سيما أنهم تكثفوا في زمن سليمان فكانوا بحيث يراهم الناس ويستعملونهم في الأعمال قال في "الأسئلة المقحمة" : فلماذا لم تخرج الشياطين عن طاعة سليمان مع استعمالهم في تلك الأمور الشديدة فالجواب أن الله تعالى أوقع لسليمان في قلوبهم من الخوف والهيبة حتى خافوا أن يخرجوا عن طاعته وهذا من معجزاته.
قال في "التأويلات النجمية" : من كمالية الإنسان أنه إذا بلغ مبلغ الرجال البالغين من الأنبياء والأولياء سخر الله له بحسب مقامه السفليات والعلويات من الملك والملكوت فسخر لسليمان عليه السلام من السفليات الريح والجن والشياطين والطير والحيوانات والمعادن والنبات ومن العلويات الشمس حين ردت لأجل صلاته كما سخر لداود عليه السلام الجبال والطير والحديد والأحجار التي قتل بها جالوت وهزم عسكره فسخر لكل نبي شيئاً آخر من أجناس العلويات والسفليات وسخر لنبينا عليه الصلاة والسلام من جميع أجناسها فمن السفليات ما قال عليه السلام : "زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها" وقال : "جعلت لي الأرض مسجداً وتربها طهوراً" وقال : "أتيت بمفاتيح خزائن الأرض" وكان الماء ينبع من بين
511
أصابعه وقال : "نصرت بالصبا" وكان الأشجار تسلم عليه وتسجد وتنقلع بإشارته عن مكانها وترجع والحيوانات كانت تتكلم معه وتشهد بنبوته وقال : "أسلم شيطاني على يدي" وغيره من السفليات وأما العلويات فقد انشق له القمر بإشارة أصبعه :
جزء : 5 رقم الصفحة : 507
س قمركه امر بشنيد وشتافت
س دونيمه كشت بررح وشكافت
وسخر له البراق وجبريل والرفرف وعبر السموات السبع والجنة والنار والعرش والكرسي إلى مقام قاب قوسين أو أدنى فما بقي شيء من الموجودات إلا وقد سخر له :
نه كسى دركرد توهركز رسيد
نه كسى رانيز ندين عز رسيد
وبقوله : {وَمِنَ الشَّيَـاطِينِ مَن يَغُوصُونَ} الآية يشير إلى أنا كما سخرنا الشياطين له يعملون له الأعمال سخرنا للشياطين الأعمال والغوص والصنائع يصنعون بحفظ الله ما لا يقدرون عليه الآن.
جزء : 5 رقم الصفحة : 507
{وَأَيُّوبَ} أي : واذكر خبر أيوب.
واختلفوا في أسماء نسبه بعد الاتفاق على الانتهاء إلى روم بن عيص بن ابراهيم عليه السلام.
ـ روي ـ أن الله تعالى استنبأ أيوب وأرسله إلى أهل حران وهي قرية بغوطة دمشق وكثر أهله وماله وكان له سبعة بنين وسبع بنات ومن أصناف البهائم ما لا يحصى فحسده ابليس وقال : (الهى بنده تودر عافيت وسعت عيش است مال بسيار وفرزندان بزركوار دارد اكر اورا بانتزاع مال واولاد مبتلا سازى زود ازتو بكردد وطريق كفران نعمت يش كيرد حق سبحانه وتعالى فرمودكه نين نيست كه توميكويى اومارا بنده ايست سنديده اكر هزار باردر بوته ابتلا بكداختم بى غش وخالص العيار آيد :
نان در عشق بكرويم كه كر تيغم زنى برسر
برو ز امتحان باشم و شمع استاده ابراجا
س حق سبحانه وتعالى اقسام محن بروى كما شت شترانش بصاعقه هلاك شدند وكوسفندان بسبب سيل در كرداب فنا افتادند وزراعت بريح متلاشى شد واولاد در زير ديوار ماندند وقروح در جسد مباركش ظاهر شدوديدان يدا كشتند وخلق ازوى كريخت بجززن او) فكان نظير إبراهيم عليه السلام في الابتلاء بالمال والولد والبدن.
وقد قال بعض الكبار إن بلاء أيوب اختاره قبله سبعون نبياً فما اختاره الله إلا له وبقي في مرضه ثماني عشرة سنة أو سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات قالت له يوماً امرأته رحمة بنت افراييم بن يوسف : لو دعوت الله فقال لها : كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت : ثمانين سنة فقال : أنا أستحيى من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي (وهرسحر اين خطاب مستطاب بايوب مكروب رسيدى كه اى ايوب كونه وايوب بذوق وشوق اين رسش كوه بلا بجان مى كشيد وبآن بيمارى خوش بود) :
كربر سر بيمار خود آيى بعيادت
صد ساله باميد توبيمار توان بود
وقد سلط الله على جسده اثني عشر ألف دودة لأنها عدد الجند الكامل كما قال عليه السلام "اثنا عشر ألفاً لن يغلب عن قلة أبداً" ولله عساكر كالدود والبعوض للنمرود والأبابيل لأصحاب الفيل والهدهد لعوج والعنكبوت والحمامة لرسول الله عليه السلام وأكل الدود جميع
512
(5/391)
جسده حتى بقي العظام والقلب واللسان والأذنان والعينان ولما قصد قلبه الذي هو منبع المعرفة ومعدن النبوة والولاية ولسانه الذي هو مصدر الذكر ومورد التوحيد غار عليه وخاف أن ينقطع عن طاعة الله وتسبيحه بالكلية فإنه كان من ضعف الحال بحيث لا يستطيع القيام للصلاة فلما انتهى وقت الابتلاء وحصل الفناء التام في مقام البلاء وألهمه الله الدعاء ليوصله إلى مرتبة البقاء ويتجلى له بالجمال واللقاء بعد الجلال والأذى كما أخبر عنه بقوله : {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أي : دعاه {إِنِّى} أي : بأني {مَسَّنِىَ} أصابني {الضُّرُّ} (رنج وسختى) قالوا : الضر بالفتح شائع في كل ضرر وبالضم خاص بما في النفس من مرض وهزال ونحوهما {وَأَنتَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ} بين افتقاره إليه تعالى ولم يقل ارحمني لطفاً في السؤال وحفظاً للأدب في الخطاب فإن أكثر أسئلة الأنبياء في كشف البلاء عنهم إنما هي على سبيل التعريض.
جزء : 5 رقم الصفحة : 512
وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي بيان عندها وخطاب
وقال الحافظ :
أرباب حاجتيم وزبان سؤال نيست
در حضرت كريم تمناه حاجتست
فإن قيل أليس صرح زكريا في الدعاء قال : {وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} .
قلنا : هذا سؤال العطاء لا يجمل به التعريض ودلك كشف البلاء فيجمل به التعريض لئلا يشتبه بالشكاية.
ـ ويحكى ـ أن عجوزاً تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت : يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصى فقال لها : الطفت في السؤال لا جرم لاردنها تثب وثب الفهود وملأ بيتها حباً.
فهذا القول من أيوب دعاء وتضرع وافتقار لا جزع وشكاية كما هو حال الاضطرار ولذا جاء جوابه بلفظ الاستجابة وقال تعالى في حقه : {إِنَّا وَجَدْنَـاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ} وعلى تقدير تضمنه الشكاية فقد اشتكى من البلوى إليه تعالى لا إلى غيره وهو لا ينافي الصبر الجميل كما قال يعقوب إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فصبر جميل والعارف الصادق إذا كان متحققاً في معرفته فشكواه حقيقة الانبساط ومناداته تحقيق المناجاة وأساه في بلاء حبيبه حقيقة المباهاة ولسان العشق لسان التضرع والحكاية لا لسان الجزع والشكاية كما أشار العاشق :
بشنوازنى ون حكايت ميكند
از جداييها شكايت ميكند
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن كل ما كان لأيوب من الشكر والشكاية في تلك الحالة كان مع الله لا مع غيره وإلى أن بشرية أيوب كانت تتألم بالضر وهو يخبر عنها ولكن روحانيته المؤيدة بالتأييد الإلهي تنظر بنور الله وترى في البلاء كمال عناية المبتلي وعين مرحمته في تلك الصورة تربية لنفسه ليبلغها مقام الصبر ورتبة نعمة العبدية وهو يخبر عنها ويقول : {مَسَّنِىَ الضُّرُّ} من حيث البشرية بنور فضلك {وَأَنتَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ} عليّ بأنك تترحم عليّ بهذا البلاء ومس الضر وقوة الصبر عليه لتفني نفسي عن صفاتها وفي العجلة وتبقى بصفاتك : منها الصبر والصبر من صفات الله لا من صفات العبد كقوله تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} (النحل : 127) والصبور هو الله تعالى.
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} (س اجابت كرديم دعاى وبرا) {فَكَشَفْنَا} (بس
513
ببرديم) {مَا بِه مِن ضُرٍّ} (آنه ويرابود ازرنج يعنى اور اشفاداديم).
جزء : 5 رقم الصفحة : 512
ـ روي ـ أنه قيل له يوم الجمعة عند السحر أو وقت زوال الشمس ارفع رأسك فقد استجيب لك اركض برجلك أي : اضرب بها الأرض فركض فنبعت من تحتها عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دودة إلا سقطت ولا جراحة إلا برئت ثم ركض مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وعاد صحيحاً ورجع إلى شبابه وجماله ثم كسى حلة.
قال بعض الكبار : السر في ابتلائه تصفية وجوده بالرياضات الشاقة وأنواع المجاهدات البدنية لتكميل المقامات العلية فأمر بضرب أرض النفس ليظهر له ماء الحياة الحقيقية متجسداً في عالم المثال فيغتسل به فتزول من بدنه الأسقام الجسمانية ومن قلبه الأمراض الروحانية فلما جاهد وصفا استعداده وصار قابلاً للفيض الإلهي ظهر له من الحضرة الروحانية ماء الحياء فاغتسل به فزال من ظاهره وباطنه ما كان سبب الحجاب والبعد عن ذلك الجناب الإلهي انتهى.
وأراد الله تعالى أن يجعل الدود عزيزاً بسبب صحبة أيوب فإن الدود أذل شيء وصحبة الشريف تعزه كما أعز حوت يونس فلما تناثرت منه صعدت إلى الشجرة وخرج من لعابها الإبريسم ليصير لباساً ببركة أيوب ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
كلي خوشبوى درحمام روزى
رسيد ازدست محبوبى بدستم
بدو كفتم كه مشكى يا عبيرى
كه ازبوى دلاويز تومستم
بكفتا من كل نايز بودم
وليكن مدتى باكل نشستم
كمال همنشين برمن اثر كرد
وكرنه من همان خاكم كه هستم
(5/392)
قالوا : من كان مجاوراً للعزيز والشريف صار عزيزاً شريفاً ومن كان مجاوراً للذليل والوضيع كان ذليلاً ووضيعاً ألا ترى أن الصبا إذا مرت بالأزهار والأوراد تحمل الرائحة الطيبة وإذا عبرت على المستقذرات تحمل الرائحة الخبيثة وقس على هذا من كان مصاحباً لأوصاف النفس ومن كان مجاوراً لأخلاق الروح {وَءَاتَيْنَـاهُ أَهْلَه وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} بأن ولد له ضعف ما كان.
ـ روي ـ أن الله تعالى رد إلى امرأته شبابها فولدت له ستة وعشرين ولداً كما هو المروى عن ابن عباس رضي الله عنهما ورد أمواله وكان رحيماً بالمساكين يكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل وفي الحديث "بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه رجل جراد من ذهب فجعل أيوب يحثو في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال : بلى وعزتك ولكن لا غنى لي عن بركتك" وفيه دلالة على إباحة تكثير المال الحلال {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أي : آتيناه ما ذكر لرحمتنا إياه بالرحمة الخاصة {وَذِكْرَى لِلْعَـابِدِينَ} وتذكرة وعبرة لغيره من العابدين ليعلموا بذلك كما قدرتنا ويصبروا كما صبر أيوب فيثابوا كما أثيب :
جزء : 5 رقم الصفحة : 512
هركه اودرراه حق صابر بود
بر مراد خويشتن قادر بود
صبر بايد تاشود بكسو حرج
زانكه كفت الصبر مفتاح الفرج
واعلم أن بلاء أيوب من قبيل الامتحان ليبرز ما في ضميره فيظهر لخلقه درجته أين هو من ربه وبلاء يوسف من قبيل تعجيل العقوبة أي : على قوله : {اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ} (يوسف : 42).
وبلاء يحيى حيث
514
ذبح من قبيل الكرامة إذ لم يهم بخطيئة قط.
جزء : 5 رقم الصفحة : 512
{وَإِسْمَـاعِيلَ} بمعنى مطيع الله {وَإِدْرِيسَ} هو اخنوخ بن برد بن مهلاييل قال بعضهم سمي به لكثرة دراسته وقد سبق تحقيقه {وَذَا الْكِفْلِ} بمعنى الكفالة والضمان لأن نبياً من أنبياء بني إسرائيل أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك فأعرض ملكك على بني إسرائيل فمن تكفل لك أنه يصلي بالليل لا يفتر ويصوم بالنهار لا يفطر ويقضي بين الناس ولا يغضب فسلم ملكك إليه ففعل ذلك فقال شاب : أنا أتكفل لك بهذا فتكفل ووفى به فشكره الله ونبأه فسمي ذا الكفل والمعنى واذكرهم {كُلٌّ} أي : كل واحد من هؤلاء {مِّنَ الصَّـابِرِينَ} أي : الكاملين في الصبر على مشاق الطاعات واحتمال البليات فإن إسماعيل قد صبر عند ذبحه وقال : يا أبت افعل ما تؤمر الآية وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء فلا جرم أكرمه الله وأخرج من صلبه خاتم النبيين عليه وعليهم السلام وإدريس قد صبر على دراسته وذو الكفل قد صبر على صيام النهار وقيام الليل وأذى الناس في الحكومة بينهم ولا يغضب.
وفيه إشارة إلى أن كل من صبر على طاعة الله وعن معصيته أو على ما أصابه من مصيبة في المال والأهل والنفس فإنه بقدر صبره يستوجب نعمة رتبة نعم العبدية ويصلح لإدخاله في رحمته المخصوصة به كما قال.
{وَأَدْخَلْنَـاهُمْ فِى رَحْمَتِنَآ} الخاصة من النبوة وغيرها {إِنَّهُم مِّنَ الصَّـالِحِينَ} أي : الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء فإن صلاحهم معصوم من الفساد (وبعض كبار ميفرما يدكه مؤمنان كناه كنند وباز توبه كنند وون توبه بشرط باشد خداوند قبول كند واوليا كناه نكنند اما امكان داردكه بكنند ازجهت آنكه جائز الخطا ند).
قيل لأبي يزيد قدس سره أيعصي العارف؟ فقال وكان أمر الله قدراً مقدوراً ثم يرد إلى مقامه بعد ذلك إن كان من أهل العناية والوصول فتكون توبته من ذلك على قدر مقامه فيرجى أن يكون في قوة تلك التوبة وعلو منصبها أن يجبر وقت الغفلة حتى يكون كأنه ما خسر شيئاً وما انتقل كتوبة ماعز الذي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لو قسمت على أهل السموات والأرض لوسعتهم" (وانبيا كناه نكردند وامكان نداشت كه بكنندازجهت آنكه معصوم بوردند).
جزء : 5 رقم الصفحة : 515
(5/393)
واعلم أن للصلاح بداية وهي الأخذ بالشرائع والأحكام ورفض المنهي والحرام ونهاية وهي التوجه إلى رب العباد وعدم الالتفات إلى عالم الكون والفساد وهي في الحقيقة مقام الصديقية وإصلاح الله تعالى الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحاً وتارة بإزالة ما فيه من فساد بعد وجوده فإن من العباد من اختار الله له في الأزل البلوغ بلا كسب ولا تعمل فوقع مفطوراً على النظر إليه بلا اجتهاد بدفع غيره عن مقتضى قصده ومنهم من شغلته الأغيار عن الله زماناً فلم يزل في علاج وجودها بتوفيق الله حتى أفناها ولم يبق له سواه سبحانه.
ثم الصبر من مراتب الصلاح.
وعن يزيد الرقاشي رحمه الله قال : إذا دخل الرجل القبر قامت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبر يظله والصبر يحاجه يقول : دونكم صاحبكم فإن حججتم وإلا فأنا من ورائه يعني إن استطعتم أن تدفعوا عنه العذاب وإلا فأنا أكفيكم ذلك وأدفع عنه العذاب فهذا الخبر دليل على أن الصبر أفضل الأعمال والرضى أجل الصفات ولا يكون الصبر إلا على بلاء ومشقة فالترقي إنما هو بالصبر لا بنفس البلاء ولو كان البلاء بما هو بلاء يرفع
515
درجات من قام به عند الله وينال به السعادة الأبدية لنالها أهل البلاء من المشركين والكفار بل هو في حقهم تعجيل لعذابهم وفي حق المؤمنين الصابرين تكميل لدرجاتهم وحط من خطيآتهم وإكسير لنحاس وجودهم ، وفي "المثنوي" :
صد هزاران كيميا حق آفريد
كيميايى همو صبر آدم نديدون بمانى بسته دربند حرج
صبر كن الصبر مفتاح الفرجشكر كويم دوست را درخير وشر
زانكه هست اندر قضا ازبدبترونكه قسام اوست كفر آمد كله
صبر بايد صبر مفتاح الصله
غير حق جمله عدو انداوست دوست
باعدو ازدوست شكوت كى نكوست
تادهد دوغم نخواهم انكبين
زانكه هر نعمت غمى دارد قرين
جزء : 5 رقم الصفحة : 515
{وَذَا النُّونِ} أي : واذكر صاحب النون أي : الحوت والمراد يونس بن متى بفتح الميم وتشديد التاء المثناة فوق مفتوحة.
قيل : هو اسم أم يونس كذا في "جامع الأصول".
قال عطاء : سألت كعباً عن متى أهو اسم أبيه أم أمه فقال : اسم أبيه وأمه بدورة وهي من ولد هارون وسمي يونس بذي النون لأنه ابتلعه الحوت.
قال الإمام السهيلي أضافه هنا إلى النون وقد قال في سورة القلم : {وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (القلم : 48) وذلك أنه حين ذكره في موضع الثناء عليه قال ذو النون فإن الإضافة بذو أشرف من الإضافة بصاحب لأن قولك ذو يضاف إلى التابع وصاحب إلى المتبوع تقول أبو هريرة رضي الله عنه صاحب النبي عليه السلام ولا تقول النبي صاحب أبي هريرة الأعلى جهة وأما ذو فإنك تقول ذو المال وذو العرش فتجد الاسم للاسم متبوعاً غير تابع ولفظ النون أشرف من الحوت لوجوده في حروف التهجي وفي أوائل بعض السور نحو {ا وَالْقَلَمِ} (القلم : 1) {إِذ ذَّهَبَ} أي : اذكر خبره وقت ذهابه حال كونه {مُغَـاضِبًا} مراغماً لقومه أهل نينوى وهي قرية بالموصل لما مر من طول دعوته إياهم وشدة شكيمتهم وتمادي إصرارهم مهاجراً عنهم قبل أن يؤمر وبناء المفاعلة للدلالة على كمال غضبه والمبالغة فيه وقيل وعدهم بنزول العذاب لأجل معلوم وفارقهم ثم بلغه بعد مضي الأجل أنه تعالى لم يعذبهم ولم يعلم سببه وهو أنهم حين رأوا أمارات العذاب تابوا وأخلصوا في الدعاء فظن أنه كذبهم وغضب من اندفاع العذاب عنهم وذهب غضبان وهذا القول أنسب بتقرير الشيخ نجم الدين في "تأويلاته" وهو من كبار المحققين فكلامه راجح عند أهل اليقين {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي : لن نضيق عليه الأمر يقال قدر على عياله قدراً ضيق وقدرت عليه الشيء ضيقته كأنما جعلته بقدر خلاف ما وصف بغير حساب نزل حاله منزلة من يظن ذلك.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن الإنسان إذا استولى عليه الغضب يلتبس عليه عقله ويحتجب عنه نور إيمانه حتى يظن بالله ما لا يليق بجلاله وعظمته ولو كان نبياً وإن من كمال قوة نبينا عليه السلام أنه كان يغضب ولا يقول في الرضى والغضب إلا الحق.
وفيه إشارة أخرى وهي أن الله تعالى من كمال فضله وكرمه على عباده وإن كانوا عصاة مستوجبين للعذاب أن يعاتب أنبياءه لهم ولا يرضى عنهم اشتهاء نزول عذاب الله بقومهم وكراهية دفع العذاب عنهم بل يرضى لهم أن يستغفروا لهم ويستعفوه
516
لدفع العذاب عنهم كما قال لنبينا عليه السلام : {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (آل عمران : 159) وقال في حق الكفار وكان النبي عليه السلام يلعن بعضهم {لَيْسَ لَكَ مِنَ الامْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَـالِمُونَ} (آل عمران : 128) انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 516
(5/394)
ـ روي ـ أنه حين خرج مغاضباً أتى بحر الروم فوجد قوماً هيأوا السفينة فركب معهم فلما توسطت السفينة البحر وقفت ولم تجر بحال فقال الملاحون هنا رجل عاص أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا إلا وفيها عاص أو آبق ومن عادتنا إذا ابتلينا بهذا البلاء أن تقترع فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة فيها كلها على يونس فقال : أنا الرجل العاصي والعبد الآبق فألقى نفسه في البحر فجاء حوت فابتلعه فأوحى الله تعالى إلى الحوت أن لا تؤذي منه شعرة فإني جعلت بطنك سجناً له ولم أجعله طعاماً {فَنَادَى} الفاء فصيحة أي : فكان ما كان من القرعة والتقام الحوت فنادى {فِى الظُّلُمَـاتِ} أي : في الظلمة الشديدة المتكافئة أو في ظلمات بطن الحوت والبحر والليل.
وقال الشيخ السمرقندي في تفسيره وعندي والله أعلم أن تلك الظلمات كانت من الجهات الست كما قال عليه السلام : "ورأيت رجلاً من أمتي من بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن يساره ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة فهو متحير في الظلمات" {ءَانٍ} أي : بأنه {لا إله إِلا أَنتَ} .
قال في "التأويلات النجمية" يشير إلى أن الروح الشريف إذا ألقي في بحر الدنيا والتقمه حوت النفس الأمارة بالسوء وابتلع حوت النفس حوت القالب يكون من النوادر سلامة الروح من آفات النفس بحيث لا تتصرف فيه ولا تغيره عن صفاته بوحي الحق إليها بأن لا تؤذيه فإني لم أجعله طعمه لك وإنما جعلتك حرزاً وسجناً له كما كان حال يونس وسلامته في بطن الحوت من النوادر ومن سلامة الروح أن يناديه في ظلمة النفس وظلمة القالب وظلمة الدنيا أن لا إله إلا أنت أي : لا إله يحفظني من هذه الظلمات ويسلمني من آفاتها وفتنتها ويلهمني أن أذكره في هذا الموطن على هذه الحالة إلا أنت {سُبْحَـاـنَكَ} أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن يعجزك شيء وأن يكون ابتلائي هذا بغير سبب من جهتي كما قال في "المثنوي" :
هره برتو آيد ازظلمات غم
آن زبى باكى وكستاخيست هم وفي "التأويلات النجمية" : نزهه عن الظلم عليه وإن كان فعله بخلق فيه كما قال تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات : 96) ونسب الظلم إلى نفسه اعترافاً واستحقاقاً ورعاية للأدب فقال : {إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} لأنفسهم بتعريضها للهلاك حيث بادرت إلى المهاجرة ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 516
ون بكويى جاهلم تعليم ده
ايننين انصاف از ناموس بهاز در آموز اى بوشن جبين
ربنا كفت وظلمنا يش ازين
نى بهانه كردونى توير ساخت
نى لو اى مكر وحيلت برفراخت
وفي "عرائس البقلى" قدس سره أن الله أراد ليونس معراجاً ومشاهدة في بطن الحوت فتعلل بالأمر والنهي والمقصود منه القربة والمشاهدة فأراه الحق في طباق الثرى في ظلمات بطن الحوت ما رأى محمد عليه السلام فوق العرش فلما رأى الحق تحير في حاله فقال : {لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} نزهتك عما ظننت فيك فأنت بخلاف الظنون وأوهام الحدثان
517
{إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} في وصف جلالك إذ وصفي لا يليق بعزة وحدانيتك فوقع هذا القول منه موقع قول سيد المرسلين حيث قال : "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ولذلك قال عليه السلام : "لا تفضلوني على أخي يونس" فلما رأى ما رأى استطاب الموضع فظن أن لا يدرك ما أدرك في الدنيا بعد فغاب الحق عنه فاهتم ودعا بالنجاة فنجاه الله من وحشة بطن الحوت بقوله :
(5/395)
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي : دعاءه الذي في ضمن الاعتراف بالذنب على ألطف وجه وآكده.
وفيه إشارة إلى أنه تعالى كما أجاب يونس ونجاه من ظلمات عالم الأجسام كذلك ينجي روح المؤمن المؤيد منه من حجب ظلمات النفس والقالب والدنيا ليذكره بالوحدانية في ظلمات عالم الأجساد كما كان يذكره في أنوار عالم الأرواح ويكون متصرفاً في عالم الغيب والشهادة بإذنه خلافة عنه كما في "التأويلات النجمية" وفي الحديث "ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له".
وعن الحسن ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم.
وفي "صحيح المستدرك" قال عليه السلام : "اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى لا إله إلا أنت" الخ {وَنَجَّيْنَـاهُ مِنَ الْغَمِّ} من غم الالتقام والبحر بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات أو ثلاثة أيام أو سبعة أو أربعين والذهاب به إلى البحار القاصية وتخوم الأرض السابعة.
وقال بعضهم : كان رأس الحوت فوق الماء وفمه مفتوحاً.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه : ما هذا فأوحى الله إليه أن هذا تسبيح دواب البحر فسبح هو في بطنه فسمع الملائكة تسبيحه وقالوا : يا رب نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة.
وفي رواية صوتاً معروفاً من مكان مجهول فقال : ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال : نعم فشفعوا عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل
جزء : 5 رقم الصفحة : 516
{وَكَذالِكَ} أي : مثل ذلك الإنجاء لا إنجاء أدنى منه {نُـاجِى الْمُؤْمِنِينَ} من غموم دعوا الله فيها بالإخلاص.
وعن جعفر بن محمد قال : عجبت ممن يبتلي بأربع كيف يغفل عن أربع عجبت لمن يبتلي بالهم كيف لا يقول : {لا إله إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} لأن الله تعالى يقول : {فَاسْتَجَبْنَا لَه وَنَجَّيْنَـاهُ مِنَ الْغَمِّا وَكَذَالِكَ نُـاجِى الْمُؤْمِنِينَ} وعجبت لمن يخاف شيئاً من السوء كيف لا يقول : {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} لأن الله تعالى يقول : {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُواءٌ} (آل عمران : 174) وعجبت لمن يخاف مكر الناس كيف لا يقول {وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّه إِنَّ اللَّهَ بَصِيرُا بِالْعِبَادِ} (غافر : 44) لأن الله تعالى يقول : {فَوَقَـاـاهُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِ مَا مَكَرُوا} (غافر : 45) وعجبت لمن يرغب في الجنة كيف لا يقول : {مَا شَآءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} (الكهف : 39) لأن الله تعالى يقول : {فَعَسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ} (الكهف : 40).
قال قتادة : ذكر لنا رجل على عهد رسول الله عليه السلام قال : اللهم ما كنت تعاقبني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فمرض الرجل مرضاً شديداً فأضنى حتى صار كأنه هامة فأخبر به رسول الله فأتاه فرفع رأسه وليس به حراك فقيل : يا رسول الله إنه كان يدعو بكذا وكذا فقال عليه السلام : "يا ابن آدم إنك لن تستطيع أن تقوم بعقوبة الله تعالى ولكن
518
قل : اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" فدعا بها فبرىء.
وعن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله أروّع في منامي قال : قل "أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين أن يحضروني" ، وفي "المثنوي" :
تا فرود آيد بلابى دافعى
ون نباشد از تضرع شافعىجز خضوع وبندكى واضطرار
اندرين حضرت ندارد اعتبارزور را بكذار وزارى را بكير
رحم سوى زارى آيد اى فقيرزارىء مضطركه تشنه معنويست
زارىء سردى دروغ آن غويست
كريه اخوان يوسف حيلتست
كه درونشان برزرشك وعلتست
جزء : 5 رقم الصفحة : 516
{وَزَكَرِيَّآ} واذكر خبر زكريا بن اذن بن مانان من أنبياء بني إسرائيل {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} وقال : {رَبِّ} (اى رورد كار من) {لا تَذَرْنِى فَرْدًا} مثل هذه العبارة من العبد للسيد تضرع ودعاء لا نهى أي : هب لي ولداً ولا تدعني وحيداً بلا ولد يرثني لما بلغ عمر زكريا عليه السلام مائة سنة وبلغ عمر زوجته تسعاً وتسعين ولم يرزق لهما ولد أحب أن يرزقه الله من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه ويكون قائماً مقامه بعد موته فدعا ثم رد الأمر إلى مولاه مستسلماً ومنقاداً لمشيئته فقال : {وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} خير من يبقى بعد من يموت فحسبي أنت إن لم ترزقني وارثاً فهو ثناء على الله تعالى بأنه الباقي بعد فناء الخلق وله ميراث السموات والأرض.
جزء : 5 رقم الصفحة : 519
(5/396)
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي : دعاءه في حق الولد كما قال : {وَوَهَبْنَا لَه يَحْيَى} لا في حق الوراثة إذ المشهور أن يحيى قتل قبل موت أبيه وهذا لا يقدح في شأن زكريا كما لا يقدح عدم استجابة دعاء إبراهيم في حق أبيه في شأنه فإن الأنبياء عليهم السلام وإن كانوا مستجابي الدعوة لكن أثر بعض الدعوات لا يظهر في هذا الموطن للحكمة الإلهية {وَأَصْلَحْنَا لَه زَوْجَه} ايشاع بنت عمران او بنت فاقود أي : جعلناها ولوداً بعد أن كانت عقيماً فإنها لم تلد قط بعد أن بلغت تسعاً وتسعين سنة {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ} الضمير عائد إلى زكريا وزوجه ويحيى أو الأنبياء المذكورين فيكون تعليلاً لما فصل من فنون إحسانه تعالى المتعلقة بهم مثل إيتاء موسى وهارون الفرقان وتبريد النار وإطفائها لإبراهيم وإنجاء لوط مما نزل بقومه وإنجاء نوح ومن كان معه في السفينة من أذى القوم وكرب الطوفان وغير ذلك مما تفضل به على الأنبياء السابقين أي : أنهم كانوا يبادرون في وجوه الخيرات مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخيرات وهو السر في إيثار كلمة في على كلمة إلى المشعرة بخلاف المقصود من كونهم خارجين عن أصل الخيرات متوجهين إليها كما في قوله تعالى : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} (آل عمران : 3ظ1) الآية.
قال الراغب الخير ما يرغب فيه الكل بكل حال وهو الخير المطلق والشر ضده {وَيَدْعُونَنَا} حال كونهم {رَغَبًا} راغبين في اللطف والجمال {وَرَهَبًا} خائفين من القهر والجلال أو راغبين فينا وراهبين مما سوانا والرغبة السعة في الإرادة يقال رغب الشيء اتسع فإذا قيل رغب فيه وإليه يقتضي الحرص عليه فإذا قيل : رغب عنه اقتضى صرف الرغبة عنه والزهد فيه والرغبة العطاء الكثير لكونه مرغوباً
519
فيه فيكون مشتقاً من الأصل فإن أصل الرغبة السعة في الشيء ومنه ليلة الرغائب أي : العطايا الجزيلة قال : يعطي الرغائب من يشاء ويمنع والرهبة مخافة مع تحرك واضطراب {وَكَانُوا لَنَا خَـاشِعِينَ} عابدين في تواضع وضراعة وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح ولكن شأن الأنبياء أعلى من أن يكون حالهم منحصراً في الظاهر فلهم خشوع كامل في القلب والقالب جميعاً وأكل العبد خشناً واللبس خشناً وطأطأة الرأس ونحوها من غير أن يكون في قلبه الإخلاص والخوف من الله تعالى صفة المرائي والمتصنع.
جزء : 5 رقم الصفحة : 519
ورآوازه خواهى در اقليم فاش
برون حله كن كردرون حشو باش
بنزديك من شب روراه زن
به از فاسق ارسا يرهن
ه قدر آورد بنده خورديش
كه زير قبا دارد اندام يش
والمعنى أنهم نالوا من الله ما نالوا بسبب اتصافهم بهذه الخصال الحميدة فليفعل من أراد الإجابة إلى مطلوبه مثل ما فعلوا وليتخلق بتلك الأخلاق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 519
{وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} المراد بها مريم بنت عمران.
والحصن في الأصل كل موضع حصين أي : محكم لا يوصل إلى جوفه وأحصنه جعله في حصن وحرز ثم تجوز في كل تحرز وامرأة حصان كسحاب عفيفة أو متزوجة والفرج والفرجة الشق بين الشيئين كفرجة الحائط والفرج ما بين الرجلين وكنى به عن السوء وكثر حتى صار كالصريح فيه والفرج انكشاف الغم وفراريج الدجاج لانفراج البيض عنها.
أي : اذكر خبر مريم التي حفظت سوأتها حفظاً كلياً من الحلال والحرام (يعني خوردا اكيزه داشت ودست هيكس بدا من عفت او نرسيد).
وقال الإمام السهيلي رحمه الله يريد فرج القميص أي : لم يعلق بثوبها ريبة أي : أنها طاهرة الأثواب وفروج القميص أربعة : الكمان ، والأعلى ، والأسفل ، فلا يذهب وهمك إلى غير هذا فإنه من لطيف الكناية انتهى {فَنَفَخْنَا فِيهَا} أي : أحيينا عيسى كائناً في جوفها فقوله فيها حال من المفعول المحذوف {مِن رُّوحِنَا} من الروح الذي هو من أمرنا ففيه تشبيه لايراد الروح في البدن بنفخة النافخ في الشيء فيكون نفخنا استعارة تبعية.
وقال السهيلي : النفخ من روح القدس بأمر القدوس فأضف القدس إلى القدوس ونزه المقدسة عن الظن الكاذب والحدس انتهى وقد سبقت قصة النفخ في سورة مريم {وَجَعَلْنَـاهَا وَابْنَهَآ} أي : حالهما {ءَايَةً} عظيمة {لِّلْعَـالَمِينَ} وعلامة دالة على القدرة الكاملة لأهل زمانهما ولمن بعدهما فإن من تأمل في ظهور ولد من بتول عذراء من غير فحل تحقق كمال قدرته تعالى ولم يقل آيتين لأنها قصة واحدة وهي ولادتها له من غير ذكر ولكل واحد منهما آيات مستقلة متكاثرة كما أشير إلى بعض منها في القرآن وإلى بعض آخر في التفاسير وكتب القصص ، وفي "المثنوي" :
صومعه عيسيست خوان اهل دل
هان هان اى مبتلا اين درمهل
جمع كشتندى زهر اطراف خلق
از ضرير وشل ولنك واهل دلق
بر درآن صومعه عيسى صباح
جزء : 5 رقم الصفحة : 520
تابدم اوشان رهاند ازجناح
او و كشتى فارغ از اوراد خويش
اشتكه بيرون شدى آن خوب كيش
520
(5/397)
جوق جوقى مبتلا ديدى نزار
شسته بردر براميد وانتظار
كفتى اى أصحاب آفت ازخدا
حاجت ومقصود جمله شد روا
بى توقف جمله شادان درامان
ازدعاى او شدندى ادوان
ازدر دل واهل دل آب حيات
ند نوشيدى وواشد شمهات
آزمودى توبسى آفات خويش
يافتى صحت ازين شاهان كيش
باز اين دررا رها كردى زحرص
كرد هردكان همى كردى زحرصبردر آن منعمان رب ديك
ميدوى بهر ثريد مرده ريك
ربش اينجا دانكه جان فربه شود
كار نا اميد اينجا به شود
ومن عجائب عيسى عليه السلام أن أمه ذهبت به إلى صباغ وقالت له : خذ هذا الغلام وعلمه شيئاً من صنعتك فأخذه منها وقال : ما اسمك يا غلام فقال : عيسى بن مريم فقال له : يا عيسى خذ هذه الجرة واملأ هذه النقائر من هذا النهر ففعل فأعطاه الصباغ الثياب وقال له : ضع كل لون مع ثيابه في نقير ثم تركه وانصرف إلى منزله فأخذ عيسى الثياب جميعاً ووضعها في نقير واحد ووضع عليها الأصباغ جملة واحدة وانصرف إلى أمه ثم عاد من الغد وجاء الصباغ فرأى الثياب والأصباغ كلها في نقير واحد فغضب وقال : أتلفتني وأتلفت ثياب الناس فقال له عيسى ما دينك؟ قال : يهودي فقال له : قل لا إله إلا الله وأني عيسى روح الله ثم أدخل يدك في هذا النقير وأخرج كل ثوب على اللون الذي يريده صاحبه فهداه الله تعالى ففعل فكان الأمر كما قال عيسى :
{إِنَّ هَـاذِهِ} أي : ملة التوحيد والإسلام أشير إليها بهذه تنبيهاً على كمال ظهور أمرها في الصحة والسداد {أُمَّتُكُمْ} أيها الناس أي : ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها ولا تخلو بشيء منها {أُمَّةً وَاحِدَةً} نصب على الحالية من أمتكم أي : غير مختلفة فيما بين الأنبياء فإنهم متفقون في الأصول وإن كانوا مختلفين في الفروع بحسب الأمم والأعصار.
قال في "القاموس" : الأمة جماعة أرسل إليهم رسول انتهى فاصلها القوم الذي يجتمعون على دين واحد ثم اتسع فيها فأطلقت على ما اجتمعوا عليه من الدين والملة واشتقاقها من أم بمعنى قصد فالقوم هم الجماعة القاصدة وما اجتمعوا عليه هو الملة المقصودة {وَأَنَا رَبُّكُمْ} لا إله لكم غيري {فَاعْبُدُونِ} .
جزء : 5 رقم الصفحة : 520
خاصة لا غير {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ} التفات من الخطاب إلى الغيبة.
القطع فصل الشيء مدركاً بالبصر كالأجسام أو بالبصيرة كالأشياء المعقولة والتفعل هنا للتعدية نحو علمته الفقه فتعلم الفقه والمعنى جعل الناس أمر الدين قطعاً واختلفوا فيه فصاروا فرقاً كأنه قيل ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله الذي أجمعت عليه كافة الأنبياء حيث جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً فأصاب كل جماعة قطعة من الدين فصاروا بتقطيع دينهم كأنهم قطع شتى يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض كما قال الكاشفي : (وببريدند امم ماضيه كاردين خودرا درميان خود يعنى فرقه فرقه شدند ون يهود ونصارى وهريك تكفير ديكرى كرند) وقد ثبت أن أمة إبراهيم عليه السلام صاروا بعده سبعين فرقة وأمة موسى عليه السلام إحدى وسبعين وأمة عيسى
521
عليه السلام ثنتين وسبعين وأمة محمد صلى الله عليه وسلّم ثلاثاً وسبعين كلهم في النار إلا واحدة وهي التي لا يشوبون ما عين الله ورسوله بشيء من الهوى {كُلٌّ} أي : كل واحدة من الفرق المتقطعة {إِلَيْنَآ} لا إلى غيرنا {رَاجِعُونَ} بالبعث فنجازيهم حينئذٍ بحسب أعمالهم.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن الخلق تفرقوا في أمرهم فمنهم من طلب الدنيا ، ومنهم من طلب الآخرة ، ومنهم من طلب الله تعالى ثم قال : {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فأما طالب الدنيا فراجع إلى صورة قهرنا وهي جهنم وأما طالب الآخرة فراجع إلى صورة لطفنا وهي الجنة وأما طالبنا فراجع إلى وحدانيتنا ثم فصل الجزاء بقوله :
جزء : 5 رقم الصفحة : 520
خاصة لا غير {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ} التفات من الخطاب إلى الغيبة.
القطع فصل الشيء مدركاً بالبصر كالأجسام أو بالبصيرة كالأشياء المعقولة والتفعل هنا للتعدية نحو علمته الفقه فتعلم الفقه والمعنى جعل الناس أمر الدين قطعاً واختلفوا فيه فصاروا فرقاً كأنه قيل ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله الذي أجمعت عليه كافة الأنبياء حيث جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً فأصاب كل جماعة قطعة من الدين فصاروا بتقطيع دينهم كأنهم قطع شتى يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض كما قال الكاشفي : (وببريدند امم ماضيه كاردين خودرا درميان خود يعنى فرقه فرقه شدند ون يهود ونصارى وهريك تكفير ديكرى كرند) وقد ثبت أن أمة إبراهيم عليه السلام صاروا بعده سبعين فرقة وأمة موسى عليه السلام إحدى وسبعين وأمة عيسى
521
(5/398)
عليه السلام ثنتين وسبعين وأمة محمد صلى الله عليه وسلّم ثلاثاً وسبعين كلهم في النار إلا واحدة وهي التي لا يشوبون ما عين الله ورسوله بشيء من الهوى {كُلٌّ} أي : كل واحدة من الفرق المتقطعة {إِلَيْنَآ} لا إلى غيرنا {رَاجِعُونَ} بالبعث فنجازيهم حينئذٍ بحسب أعمالهم.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن الخلق تفرقوا في أمرهم فمنهم من طلب الدنيا ، ومنهم من طلب الآخرة ، ومنهم من طلب الله تعالى ثم قال : {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فأما طالب الدنيا فراجع إلى صورة قهرنا وهي جهنم وأما طالب الآخرة فراجع إلى صورة لطفنا وهي الجنة وأما طالبنا فراجع إلى وحدانيتنا ثم فصل الجزاء بقوله :
جزء : 5 رقم الصفحة : 520
{فَمَنْ} (س هركه) {يَعْمَلْ مِنَ الصَّـالِحَـاتِ} أي : بعض الصالحات {وَهُوَ} أي : والحال أنه {مُؤْمِنٍ} بالله ورسله {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي : لا حرمان لثواب عمله استعير لمنع الثواب كما استعير الشكر لإعطائه يعني شبه رد العمل ومنع الثواب بالكفران الذي هو ستر النعمة وإنكارها وشبه قبول العمل وإعطاء الثواب بمقابلته بشكر المنعم عليه للنعم فأطلق عليه الشكر كما قال : {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر : 34) والسعي في الأصل المشي السريع وهو دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيراً كان أو شراً وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحدودة {وَإِنَّا لَهُ} أي : لسعيه {كَـاتِبُونَ} أي : مثبتون في صحائف أعمالهم لا نغادر من ذلك شيئاً (مزدكار نيكوان ضائع نباشد نزد حق) لا يضيع الله في الدارين أجر المحسنين.
{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَآ أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} حرام خبر لقوله أنهم لا يرجعون والجملة لتقرير مضمون ما قبلها من قوله كل إلينا راجعون والحرمان مستعار لممتنع الوجود بجامع أن كل واحد منهما غير مرجو الحصول.
والقرية اسم للمصر الجامع كما في "القاموس" واسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس كما في "المفردات" فعلى هذا تطلق على ما يعبر عنه بالفارسية (سبهر وكوى) ومعنى التحقيق في أنّ معتبر في النفي المستفاد من حرام على أن المعنى وممتنع البتة على أهل القرية المهلكة عدم رجوعهم إلينا للجزاء لا في المنفي على معنى أن عدم رجوعهم المحقق ممتنع وتخصيص امتناع عدم رجوعهم بالذكر مع شمول الامتناع لعدم رجوع الكل حسبما نطق به قوله كل إلينا راجعون لأنهم المنكرون للبعث والرجوع دون غيرهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 522
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى قلوب أهل الأهواء والبدع المهلكة باعتقاد السوء ومخالفات الشرع إنهم لا يتوبون إلى الله ولا يرجعون إلى الحق يدل على هذا التأويل قوله تعالى : {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (الجاثية : 23).
{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} حتى هنا ليس بحرف جر ولا حرف عطف بل حرف يبتدأ بعدها الكلام غاية لما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل يستمرون على ما هم عليه من الهلاك حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ويقولون يا وَيْلَنَا} الخ وإذا شرطية ويأجوج ومأجوج قبيلتان من الإنس يقال الناس عشرة أجزاء : تسعة منها يأجوج ومأجوج والمراد بفتحها فتح سدها على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وقد سبق قصة يأجوج ومأجوج وبناء السد عليهم وفتحه في آخر الزمان في سورة الكهف {وَهُمْ} أي : والحال أن يأجوج ومأجوج {مِّن كُلِّ حَدَبٍ} مرتفع من الأرض
522
وتل.
قال الراغب : يجوز أن يكون الأصل في الحدب حدب الظهر وهو خروجه ودخول الصدر والبطن ثم شبه به ما ارتفع من الأرض فسمى حدباً ومنه محدب الفلك {يَنسِلُونَ} ينزلون مسرعين وأصله مقاربة الخطو مع الإسراع.
وفي "بحر العلوم" من نسل الذئب إذا أسرع في مشيه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 522
(5/399)
ـ روي ـ أنهم يسيرون في الأرض ويقبلون على الناس من كل موضع مرتفع.
قال الكاشفي : (همه عالم را فرا كيرند وآبهاى درياها تمامى بياشامند وازخشك وتر هره يابند بخورند) {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} عطف على فتحت والمراد ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب والجزاء {فَإِذَا هِىَ شَـاخِصَةٌ أَبْصَـارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} جواب الشرط وإذا للمفاجأة والضمير للقصة وشاخصة خبر مقدم لأبصار والجملة خبر ضمير القصة مفسرة له يقال شخص بصره فهو شاخص إذا فتح عينيه وجعل لا يطرف وبصره رفعه وشخص شخوصاً ارتفع والمعنى بالفارسية (س آنجا قصه آنست كه خيره وبازمانده است ازهول رستخيز ديدهاى كفار) وفي الآية دلالة على أن قيام الساعة لا يتأخر عن خروج يأجوج ومأجوج كما روي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : لو أن رجلاً اقتنى فلواً بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة والفلو المهر أي : ولد الفرس.
فإن قيل فتح السد واقتراب الوعد الحق يحصل في آخر أيام الدنيا والجزاء وشخوص الأبصار إنما يحصل يوم القيامة والشرط والجزاء لا بد وأن يكونا متقاربين.
فالجواب أن التفاوت القليل يجري مجرى العدم يا وَيْلَنَا} (واى برما) وهو على تقدير قول وقع حالاً من الموصول أي : يقولون يا ويلنا تعال فهذا أوان حضورك {قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ} تامة في الدنيا والغفلة سهو يعتري من قلة التحفظ والتيقظ {مِّنْ هَـاذَا} أي : من البعث والرجوع إليه للجزاء ولم نعلم أنه حق {بَلْ كُنَّا ظَـالِمِينَ} إضراب عما قبله من وصف أنفسهم بالغفلة أي : لم نكن غافلين عنه حيث نبهنا عليه بالآيات والنذر بل كنا ظالمين بتلك الآيات والنذر مكذبين بها أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب فليتفكر العاقل في هذا البيان والتذكار فقد نبه الله وقطع الأعذار وفي الحديث : "يقول الله يا معشر الجن والإنس إني قد نصحت لكم فإنما هي أعمالكم في صحفكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
وعن بعض الحكماء أنه نظر إلى أناس يترحمون على ميت خلف جنازته فقال : لو تترحمون على أنفسكم لكان خيراً لكم أما أنه قد مات ونجا من ثلاثة أهوال : أولها رؤية ملك الموت ، والثاني مرارة الموت ، والثالث خوف الخاتمة ، قال الشيخ سعدي :
جزء : 5 رقم الصفحة : 522
خبر دارى أي : استخواني قفس
كه جان تو مرغيست نامش نفس
و مرغ از قفس رفت بكسست قيد
دكرره نكردد بسعى توصيد
سر ازجيب غفلت بر آورد كنون
كه فردا نماند يخجلت نكون
اكر مرد مسكين زنان داشتى
بفرياد وزارى فغان داشتى
كه اى زنده ون هست امكان كفت
لب از ذكر ون مرده برهم مخفت
جو مارا بغفلت بشد روزكار
توبارى دمى ند فرصت شمار
{إِنَّكُمْ} يا أهل مكة {وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} أي : والأصنام التي تعبدونها متجاوزين
523
عبادة الله تعالى وذلك بشهادة ما فإنها لما لا يعقل فخرج عزير وعيسى والملائكة {حَصَبُ جَهَنَّمَ} بفتح المهملتين اسم لما يحصب أي : يرمي في النار فتهيج به من حصبه إذا رماه بالحصباه ولا يقال له حصب إلا وهو في النار وأما قبل ذلك فيقال له حطب وشجر وخشب ونحو ذلك والمعنى تحصبون في جهنم وترمون فتكونون وقودها.
وهو بالفارسية (آتش انكيز) {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} داخلون على طريق الخلود والخطاب لهم ولما يعبدون تغليباً (درتبيان كفته كه حكمت ايراد بتان بدوزخ زيادت تعذيب بت رستانست ه بدانها آتش افروخته كردد واحتراق ايشان بيفزايد).
جزء : 5 رقم الصفحة : 522
{لَوْ كَانَ هَـاؤُلاءِ} الأصنام {ءَالِهَةً} على الحقيقة كما يزعمون {مَّا وَرَدُوهَا} ما دخلوها وحيث تبين ورودهم إياها تعين امتناع كونهم آلهة بالضرورة {وَكُلٌّ} من العابدين والمعبودين {فِيهَا خَـالِدُونَ} لا خلاص لهم منها {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} الزفير ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه أي : أنين وتنفس شديد وهو مع كونه من أفعال العبدة أضيف إلى الكف للتغليب {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} أي : لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدة الهول وفظاعة العذاب.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه يجعلون في توابيت من نار ثم تجعل تلك التوابيت في توابيت أخرى ثم تلك في أخرى عليها مسامير من نار فلا يسمعون شيئاً ولا يرى أحد منهم أن في النار أحداً يعذب غيره ثم بين أحوال أضداد هؤلاء فقال :
(5/400)
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى} الخصلة الحسنى التي هي أحسن الخصال وهي السعادة وهو كافة المؤمنين الموصوفين بالإيمان والأعمال الصالحة أو سبقت لهم كلمتنا بالبشرى بالثواب على الطاعة {أولئك} المنعوتون بما ذكر من النعت الجميل {عَنْهَا} أي : عن جهنم {مُبْعَدُونَ} (دور كرده شد كانند) لأنهم في الجنة وشتان بينها وبين النار لأن الجنة في أعلى عليين والنار في أسفل السافلين (صاحب بحر فرموده كه سبق عنايت ازليه دربدايت موجب ظهور ولايت است درنهايت هرتخم كه درازل بكشتند نهان درمزرعه ابد برويد بعيان).
قال بعض الكبار ظاهر حسن العناية السابقة لأهل الاصطفاء أربعة أشياء : الانفراد من الكونين ، والرضى بلقاء الله عن الدارين ، وإمضاء العيش مع الله بالحرمة والأدب ، وظهور أنوار قدرة الله منهم بالفراسات الصادقة والكرامات الظاهرة.
وباطن حسن العناية السابقة من الله في الأزل لهم أربعة أيضاً : المواجيد الساطعة ، وانفتاح العلوم الغيبية ، والمكاشفات القائمة ، والمعارف الكاملة وفي كل موضع ظهرت هذه الأشياء بالظاهر والباطن صار صاحبها مشهوراً في الآفاق بسمات الصديقين وعلامات المقربين وخلافة سيد المرسلين.
وقال بعضهم الحسنى العناية والاختيار والهداية والعطاء والتوفيق فبالعناية وقعت الكفاية وبالاختيار وقعت الرعاية وبالهداية وقعت الولاية وبالعطاء وقعت الحكمة وبالتوفيق وقعت الاستقامة ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 524
نحست او ارادت بدل بر نهاد
سين بنده بر آستان سرنهاد
ه اندريشى ازخودكه فعلم نكوست
ازان درنكه كن كه توفيق اوست
برد بوستان بان بايوان شاه
بتحفه ثمر هم زبستان شاه
524
جزء : 5 رقم الصفحة : 524
{لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} الحسيس صوت يحس به أي : لا يسمعون صوتها سمعاً ضعيفاً كما هو المعهود عند كون المصوت بعيداً وإن كان صوته في غاية الشدة لا أنهم لا يسمعون صوتها الخفي في نفسه فقط.
قال الصادق : كيف يسمعون حسيسها والنار تخمد لمطالعتهم وتتلاشى برؤيتهم وفي الحديث "تقول النار للمؤمن يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي" ، وفي المثنوي :
ز آتش مؤمن ازين رو اى صفى
ميشود دوزخ ضعيف ومنطفى
كويدش بكذر سبك اى محتشم
ورنه ز آنشهاى تومرد آتشم
وفي "التأويلات النجمية" ومن آثار سبق العناية الأزلية أن لا يسمعون حسيس جهنم القهر وحسيسها مقالات أهل الأهواء والبدع وأدلة الفلاسفة وبراهنيهم بالعقول المشوبة بالوهم والخيال وظلمة الطبيعة {وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَـالِدُونَ} دائمون في غاية التنعم والاشتهاء والشهوة طلب النفس اللذة وتقديم الظرف للقصر والاهتمام وهو بيان لفوزهم بالمطالب أثر بيان خلاصهم من المهالك.
قال ابن عطاء للقلوب شهوة وللأرواح شهوة وللنفوس شهوة وقد يجمع الله لهم في الجنة جميع ذلك فشهوة الأرواح القرب وشهوة القلوب المشاهدة والرؤية وشهوة النفوس الالتذاذ بالراحة والأكل والشرب والزينة.
{لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ} بيان لنجاتهم من الافزاع بالكلية بعد بيان نجاتهم من النار لأنهم لم يحزنهم أكبر الافزاع لا يحزنهم ما عداه بالضرورة والفزع انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف وهو من جنس الجزع ولا يقال فزعت من الله كما يقال خفت منه.
قال الراغب الفزع الأكبر هو الفزع من دخول النار.
وقال بعضهم ذبح الموت بمرأى من الفريقين وإطباق جهنم على أهلها أي : وضع الطبق عليها بعدما أخرج منها من أخرج فيفزع أهلها حينئذٍ فزعاً شديداً لم يفزعوا فزعاً أشد منه.
وقال بعض أرباب الحقيقة هو قوله تعالى في الأزل "هؤلاء في الجنة ولا أبالي" وذلك لأن نفوسهم المطمئنة في الجنة المضافة إلى الحضرة كما قال تعالى : {وَادْخُلِى جَنَّتِى} (الفجر : 30) فافهم جداً {وَتَتَلَقَّـاهُمُ الملائكة} أي : تستقبلهم ملائكة الرحمة مهنئين لهم {هَـاذَا يَوْمُكُمُ} على إرادة القول أي : قائلين هذا اليوم يومكم {الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} في الدنيا وتبشرون بما فيه من فنون المثوبات على الإيمان والطاعة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 525
قال الكاشفي : (عابدانرا كويند اين روز جزاى شماست عارفانرا خطاب رسدكه اين روز تماشاى شماست) :
نيك مردانرا نعيم اندر نعيم
عشق بازانرا لقا اندر لقاء
حصه آنها وصال حور عين
بهزه اينها جمال كبريا
فليجتهد العاقل في الطاعات حتى يصل إلى القربات وليبعد نفسه عن المخالفات ليأمن من العقوبات.(5/401)
واعلم أن الدار الآخرة وثوابها إنما ينال إليها بترك الدنيا وزخارفها كما أن وصلة المولى لا تحصل إلا بترك الكونين فمن كان مشتهاه الجنة ونعيمها فليترك اللذة في الدنيا ومن كان مشتهاه المشاهدات فليقطع نظره عن غير الله تعالى.
قال في الفتوحات الملكية : اجمع أهل كل ملة على أن الزهد في الدنيا مطلوب وقالوا إن الفراغ من الدنيا أحب لكل عاقل خوفاً على نفسه من الفتنة التي حذرها الله منها بقوله : {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَـادُكُمْ فِتْنَةٌ} (التغابن : 15) انتهى كلامه.
قال الشيخ عبد الوهاب الشعراوي
525
رحمه الله : ومن فوائد الرهبان أنهم لا يدخرون قوتاً لغد لا يكنزون فضة ولا ذهباً قال ورأيت شخصاً قال لراهب انظر لي هذا الدينار هو من ضرب أي : الملوك فلم يرض وقال النظر إلى الدنيا منهى عنه عندنا قال ورأيت الرهبان مرة وهم يسحبون شخصاً ويخرجونه من الكنيسة ويقولون له أتلفت علينا الرهبان فسألت عن ذلك فقالوا : رأوا على عمامته نصفاً مربوطاً فقلت لهم : ربط الدرهم مذموم فقالوا : نعم عندنا وعند نبيكم صلى الله عليه وسلّم قال بعض الحكماء إن في الجنة راحة لا يجدها إلا من لم يكن له في الدنيا راحة وفيها غنى لا يجده إلا من ترك الفضول في الدنيا واقتصر على اليسير منها وفيها أمن لا يجده إلا أهل الخوف والفزع في الدنيا :
لا تخافوا هست نزل خائفان
هست درخو رازبر اى خائف آن
وفيها ما تشتهي الأنفس لا يجده إلا أهل الزهد.
وعن بعض الزهاد أنه كان يأكل بقلاً وملحاً من غير خبز فقال له رجل : اقتصرت على هذا قال : نعم لأني إنما جعلت الدنيا للجنة وأنت جعلت الدنيا للمزبلة يعني تأكل الطيبات فتصير إلى المزبلة وإني آكل لإقامة الطاعات لعلي أصير إلى الجنة نسأل الله الفيض والجود والتوفيق بطريق الشهود.
جزء : 5 رقم الصفحة : 525
{يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ} منصوب باذكر والطي ضد النشر {كَطَىِّ السِّجِلِّ} وهي الصحيفة أي : طياً كطي الطومار {لِلْكُتُبِ} متعلقة بمحذوف هو حال من السجل أي : كائناً للكتب عبارة عن الصحائف وما كنت فيها فسجلها بعض أجزائها وبه يتعلق الطي الحقيق.
وقال الإمام السهيلي ذكر محمد بن حسن المقري عن جماعة من المفسرين أن السجل ملك في السماء الثالثة ترفع إليه أعمال العباد ترفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت.
وفي السنن لأبي داود : السجل كاتب كان للنبي عليه السلام وهذا لا يعرف في كتاب النبي ولا في أصحابه من اسمه السجل ولا وجد إلا في هذا الخبر انتهى كلام السهيلي رحمه الله.
قال في "إنسان العيون" : لم يذكر في القرآن من الصحابة رضي الله عنهم أحد باسمه إلا زيد بن حارثة رضي الله عنه الذي تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما لم يذكر امرأة باسمها إلا مريم.
قال ابن الجوزي إلا ما يرى في بعض التفاسير أن السجل الذي في قوله تعالى : {يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ} إلى آخره اسم رجل كان يكتب لرسول الله عليه السلام انتهى.
وفي "القاموس" السجل اسم كاتب للنبي عليه السلام واسم ملك {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} ما كافة تكف الكاف عن العمل وأول مفعول لبدأنا أي : نعبد ما خلقناه مبتدأ إعادة مثل بدئنا إياه في كونها إيجاداً بعد العدم وهو لا ينافي الإعادة من عجب الذنب.
قال في "البحر" أي : نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيهاً للإعادة بالإبداء في تناول القدرة القديمة لهما على السواء {وَعْدًا} أي : وعدنا الإعادة وعداً {عَلَيْنَآ} أي : علينا إنجازه وبالفارسية (برماست وفاكردن بدان) {إِنَّا كُنَّا فَـاعِلِينَ} ذلك لا محالة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 526
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى طي سماء الوجود الإنساني بتجلي صفة الجلال في إفناء مراتب الوجود من الانتهاء إلى الابتداء كما بدأنا أول خلق من ابتداء النطفة بالتدريج من خلق النطفة علقة ومن خلق العلقة مضغة ومن خلق المضغة عظاماً إلى انتهاء خلق الإنسان ومن وصف النباتية إلى وصف المركبية ومن وصف المركبية إلى وصف مفردات العنصرية ومن وصف المفردية إلى وصف الملكوتية ومن وصف الملكوتية إلى وصف الروحانية
526
ومن وصف الروحانية إلى وصف الربوبية بجذوة ارجعي إلى ربك وعداً علينا في الأزل إنا كنا فاعلين إلى الأبد.(5/402)
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ} وهو كتاب داود عليه السلام كما قال : {وَءَاتَيْنَا دَاوُادَ زَبُورًا} (النساء : 163) {مِنا بَعْدِ الذِّكْرِ} أي : بعدما كتبنا في التوراة لأن كل كتاب سماوي ذكر كما سبق.
قال الراغب زبرت الكتاب كتبته كتابة غليظة وكل كتاب غليظ الكتابة يقال له الزبور وخص بالكتاب المنزل على داود.
قيل : بل الزبور كل كتاب يصعب الوقوف عليه من الكتب الإلهية.
وقال بعضهم اسم للكتاب المقصور على الحكمة العقلية دون الأحكام الشرعية والكتاب لما يتضمن الأحكام والحكم ويدل على ذلك أن زبور داود لا يتضمن شيئاً من الأحكام.
قال في "القاموس" الزبور الكتاب بمعنى المزبور والجمع زبر وكتاب داود عليه السلام انتهى {أَنَّ الارْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـالِحُونَ} أي : عامة المؤمنين بعد إجلاء الكفار كما قال : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الارْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور : ذ5) وهذا وعد منه بإظهار الدين وإعزاز أهله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن المراد أرض الجنة كما ينبىء عنه قوله تعالى : {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه وَأَوْرَثَنَا الارْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ} (الزمر : 74).
قال في "عرائس البقلى" : كان في علم الأزلية أن أرض الجنان ميراث عباده الصالحين من الزهاد والعباد والأبرار والأخيار لأنهم أهل الأعواض والثواب والدرجات وأن مشاهدة جلال أزليته ميراث أهل معرفته ومحبته وشوقه وعشقه لأنهم في مشاهدة الربوبية وأهل الجنة في مشاهدة العبودية.
قال سهل أضافهم إلى نفسه وحلاهم بحلية الصلاح معناه لا يصلح لي إلا ما كان لي خالصاً لا يكون لغيري فيه أثر وهم الذين أصلحوا سريرتهم مع الله وانقطعوا بالكلية عن جميع ما دونه.
وقال الشيخ المغربي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 526
مجوى دردل ما غير دوست زآنكه نيابى
ازانكه دردل محمود جزاياز نباشد
{إِنَّ فِى هَـاذَا} أي : فيما ذكر في السورة الكريمة من الأخبار والمواعظ البالغة والوعد والوعيد والبراهين القاطعة على التوحيد وصحة النبوة {لَبَلَـاغًا} أي : كفاية {لِّقَوْمٍ عَـابِدِينَ} أي : لقوم همهم العبادة دون العادة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 526
{وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ} يا محمد بما ذكر وأمثاله من الشرائع والأحكام وغير ذلك من الأمور التي هي مناط السعادة في الدارين في حال من الأحوال {إِلا} حال كونك {رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين ومنشأ لانتظام مصالحهم في النشأتين ومن أعرض عنه واستكبر فإنما وقع في المحنة من قبل نفسه فلا يرحم وكيف كان رحمة للعالمين وقد جاء بالسيف استباحة الأموال.
قال بعضهم : جاء رحمة للكفار أيضاً من حيث أن عقوبتهم أخرت بسببه وأمنوا به عذاب الاستئصال والخسف والمسخ ورد في الخبر أنه عليه السلام قال لجبريل : "إن الله يقول وما أرسلناك إلى آخره فهل أصابك من هذه الرحمة" قال : نعم إني كنت أخشى عاقبة الأمر فأمنت بك لثناء أثنى الله علي بقوله : {ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (التكوير : 20 ـ 21).
قال الكاشفي : (در كشف الأسرار آورده كه از رحمت وى بودكه امت را در هي مقام فراموش نكرد اكر دومكه معظمه بود واكر در مدينة زاهره اكر در مسجد مكرم بود واكر در حجره طاهره همنين در ذروه عرش على ومقام قاب قوسين
527
او ادنى ياد فرمودكه "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" فردا در مقام محمود بساط شفاعت كسترده كويد امتى امتى) :
عاصيان ركنه در دامن آخر زمان
دست درد امان تودارندو جان در آستين
نا اميد از حضرت بانصرتت نتوان شدن
ون تويى درهر دو عالم رحمة للعالمين
قال بعض الكبار : وما أرسلناك إلا رحمة مطلقة تامة كاملة عامة شاملة جامعة محيطة بجميع المقيدات من الرحمة الغيبية والشهادة العلمية والعينية والوجودية والشهودية والسابقة واللاحقة وغير ذلك للعالمين جمع عوالم ذوي العقول وغيرهم من عالم الأرواح والأجسام ومن كان رحمة للعالمين لزم أن يكون أفضل من كل العالمين وعبارة ضمير الخطاب في قوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ} خطاب للنبي عليه السلام فقط وإشارته خطاب لكل واحد من ورثته الذين هم على مشربه إلى يوم القيامة بحسب كونه مظهراً لارثه.
وقال بعض الكبار : إنما كان رحمة للعالمين بسب اتصافه بالخلق العظيم ورعايته المراتب كلها في محالها كالملك والملكوت والطبيعة والنفس والروح والسر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 527
(5/403)
وفي "التأويلات النجمية" في سورة مريم بين قوله : {وَرَحْمَةً مِّنَّا} في حق عيسى وبين قوله في حق نبينا عليه السلام {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} فرق عظيم وهو أنه في حق عيسى ذكر الرحمة مقيدة بحرف من ومن للتبعيض فلهذا كان رحمة لمن آمن به واتبع ما جاء به إلى أن بعث نبينا عليه السلام هم انقطعت الرحمة من أمته بنسخ دينه وفي حق نبينا عليه السلام ذكر الرحمة للعالمين مطلقاً فلهذا لا تنقطع الرحمة عن العالمين أبداً أما في الدنيا فبأن لا ينسخ دينه وأما في الآخرة فبأن يكون الخلق محتاجين إلى شفاعته حتى إبراهيم عليه السلام فافهم جداً.
قال في "عرائس البقلى" : أيها الفهيم إن الله أخبرنا أن نور محمد عليه السلام أول ما خلقه ثم خلق جميع الخلائق من العرش إلى الثرى من بعض نوره فإرساله إلى الوجود والشهود رحمة لكل موجود إذ الجميع صدر منه فكونه كون الخلق وكونه سبب وجود الخلق وسبب رحمة الله على جميع الخلائق فهو رحمة كافية وافهم أن جميع الخلائق صورة مخلوقة مطروحة في فضاء القدرة بلا روح حقيقة منتظرة لقدوم محمد عليه السلام فإذا قدم إلى العالم صار العالم حياً بوجوده لأنه روح جميع الخلائق.
ويا عاقل إن من العرش إلى الثرى لم يخرج من العدم إلا ناقصاً من حيث الوقوف على أسرار قدمه بنعت كمال المعرفة والعلم فصاروا عاجزين عن البلوغ إلى شط بحار الألوهية وسواحل قاموس الكبريائية فجاء محمد عليه السلام اكسير أجساد العالم وروح أشباحه بحقائق علوم الأزلية وأوضح سبيل الحق للخلق بحيث جعل سفر الآزال والآباد للجميع خطوة واحدة فإذا قدم من الحضرة إلى سفر القربة بلغهم جميعاً بخطوة من خطوات صحاري "سبحان الذي أسرى بعبده" حتى وصل إلى مقام أو أدنى فغفر الحق لجميع الخلائق بقدمه المبارك.
قال بعض العلماء : إن كل نبي كان مقدمة للعقوبة لقوله تعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} ونبينا عليه السلام كان مقدمة للرحمة لقوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ} إلى آخره وأراد الله تعالى أن يكون خاتمة على الرحمة لا على العقوبة لقوله تعالى : "سبقت رحمتي على غضبي" ولهذا جعلنا آخر الأمم فابتداء الوجود رحمة وآخره وخاتمته
528
رحمة.
واعلم أنه لما تعلقت إرادة الحق بإيجاد الخلق أبرز الحقيقة الأحمدية من كمون الحضرة الأحدية فميزه بميم الامكان وجعله رحمة للعالمين وشرف به نوع الإنسان ثم انجبست منه عيون الأرواح ثم بدا ما بدا في عالم الأجساد والأشباح كما قال عليه السلام : "أنا من الله والمؤمنون من فيض نوري" فهو الغاية الجليلة من ترتيب مبادي الكائنات كما قال تعالى : "لولاك لما خلقت الأفلاك" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 527
علت غائيه هر عالم اوست
سرور اولاد بني آدم اوست
واسطه فيض وجودي همه
رابطه بود ونبودى همه
قال العرفي الشيرازي في قصيدته النعتية :
ازبس شرف كوهر تومنشىء تقدير
آن روزكه بكذا شتى اقليم عدم را
تاحكم نزول تودرين دار نوشته است
صدره بعبث باز تراشيده قلم را
المراد من العبث مقلوبه وهو البعث يعني يكفيك شرفاً وفضلاً أن الله سبحانه إنما خلق الخلق وبعث الأنبياء والرسل ليكونوا مقدمة لظهورك في عالم الملك والشهادة فأرواحهم وأجسادهم تابعة لروحك الشريف وجسمك اللطيف.
ثم اعلم أن حياته عليه السلام رحمة ومماته رحمة كما قال : "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم" قالوا هذا خيرنا في حياتك فما خيرنا في مماتك؟ فقال : "تعرض عليّ أعمالكم كل عشية الإثنين والخميس فما كان من خير حمدت الله تعالى وما كان من شر أستغفر الله لكم" ، قال المولى الجامي :
زمهجورى برآمد جان عالم
ترحم يا نبي الله ترحم
نه آخر رحمة للعالمين
زمحرومان را فارغ نشينى
زخاك اى لاله سيراب برخيز
ونركس ند خواب از خواب برخيز
اكره غرق درياى كناهم
فناده خشك لب برخاك راهم
تو ابر رحمتي آن به كه كاهى
كنى درحال لب خشكان نكاهى
(5/404)
{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ} أي : ما يوحى إليّ إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد وحاصله ما يوحى إليّ شيء غير التوحيد ومعنى القصر مع أنه قد أوحي إليه التوحيد وغيره من الأحكام كون التوحيد مقصوداً أصلياً من البعثة فإن ما عداه متفرع عليه وإنما الأولى لقصر الحكم على الشيء كقولك إنما يقوم زيد أي : ما يقوم إلا زيد والثانية لقصر الشيء على الحكم نحو إنما زيد قائم أي : ليس له إلا صفة القيام.
قال ابن الشيخ فإن قلت هذا الحصر يستلزم أن لا يكون الله تعالى موصوفاً بغير الوحدانية مع أن له تعالى من صفات الجلال والجمال ما لا يحصى فالجواب أن القصر ليس حقيقياً إذ المقصود نفي ما يصفه المشركون {فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي : مخلصون العبادةتعالى مخصوصونها به سبحانه وتعالى.
وبالفارسية (س آيا هستيد شما كردن نهاد كان مقتضاى وحى را) والفاء للدلالة على أن ما قبلها موجب لما بعدها يعني أن العاقل إذا خلي ونفسه بعدما قرىء عليه ما قبله ينبغي بل يجب أن لا يتوقف في التوحيد وإذعانه وقبوله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 527
{فَإِن تَوَلَّوْا} أعرضوا عن الإسلام ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه
529
من الوحي {فَقُلْ} لهم {ءَاذَنتُكُمْ} أعلمتكم ما أمرت به من وجوب التوحيد والتنزيه وبالفارسية (آكاه كردم شمارا) {عَلَى سَوَآءٍ} كائنين على سواء في الإعلام به لم أطوه عن أحد منكم وما فرقت بينكم في النصح وتبليغ الرسالة فهو حال من مفعول آذنتكم {وَإِنْ أَدْرِى} أي : ما أعلم {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} من غلبة المسلمين وظهور الدين أو الحشر مع كونه آتياً لا محالة ولا جرم أن العذاب والذلة يلحفكم.
وفي "الأسئلة المقحمة" كيف قال هذا وقد قال {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} فذلك يوم القيامة وهو قريب كما قال تعالى : {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} (الأنبياء : 1).
{أَنَّهُ} تعالى {يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ} أي : ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام وتكذيب الآيات {وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} من الحسد والعداوة للرسول وللمسلمين فيجازيكم عليه نقيراً وقطميراً وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد.
قال بعض الكبار : كيف يخفي على الحق من الخلق خافية وهو الذي أودع الهياكل أوصافها من الخير والشر والنفع والضر فما يكتمونه أظهر مما يبدونه وما يبدونه مثل ما يكتمونه جل الحق أن يخفي عليه حافية وهو الذي قال :
يرو علم يك ذره وشيده نيست
كه يدا ونهان بنزدش يكيست
قال في "التأويلات النجمية" : {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} من دعاوي الإسلام والإيمان والزهد والصلاح والمعارف {وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} من الصدق والإخلاص والرياء والسمعة والنفاق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 529
{وَأَنْ} ما {أَدْرِى لَعَلَّهُ} لعل تأخير جزائكم {فِتْنَةٌ لَّكُمْ} استدراج لكم وزيادة في افتنانكم لما كان الاستدراج سبباً للفتنة والعذاب أطلق عليه لفظ الفتنة مجازاً مرسلاً أو امتحان لكم كيف تعملون أي : معاملة تشبيهية بالامتحان على طريق الاستعارة التمثيلية {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} وتمتيع لكم إلى أجل مقدر يقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة ليكون ذلك حجة عليكم وليقع الجزاء في وقت هو فيه حكمة.
{قَالَ} الرسول فهو حكاية لدعائه عليه السلام {رَبِّ} (اى روردكارمن) {احْكُم بِالْحَقِّ} أي : اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المقتضي لتعجيل العذاب والتشديد عليهم {وَرَبُّنَا} مبتدأ خبره قوله : {الرَّحْمَانُ} كثير الرحمة على عباده وهي إن كانت بمعنى الانعام فمن صفات الفعل وإن أريد بها إرادة إيصال الخير فمن صفات الذات {الْمُسْتَعَانُ} خبر آخر أي : المطلوب منه المعونة ، يعني : (يارى آور خواهنده) {عَلَى مَا تَصِفُونَ} من الحال فإنهم كانوا يقولون إن الشوكة تكون لهم (ورايت اسلام ودين دم بدم نكونسار خواهد شد) وإن المتوعد لو كان حقاً لنزل بهم إلى غير ذلك مما لا خير فيه ، يعني : (شما سخن ناسزا ميكوييد وما ازخداى بران يارى خواهيم واميدوارى ازدركاه حضرت او داريم) :
مراد خويش زدركاه ادشاهى خواه
كه هيكس نشود نا اميد ازان دركاه
فاستجاب الله تعالى دعاء رسوله فخيب آمالهم وغير أحوالهم ونصر أولياءه عليهم فأصابهم يوم بدر ما أصابهم.
وفي الآية إشارة إلى أنه لا يطلب من الله تعالى ولا يطمع في حق المطيع والعاصي إلا ما هو مستحقه وقد جرى حكم الله فيها في الأزل وأن
530
رحمته غير متناهية وإن كانت أنواعها مائة على ما قال عليه السلام : "إنمائة رحمة" فعلى العاقل أن لا يغتر بطول العمر وكثرة الأموال والأولاد فإن الاغترار بذلك من صفات الكفرة.
ومن كلمات أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد يمكر به فهو مخدوع عن عقله.
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله لرجل أدرهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة؟ فقال : دينار في اليقظة فقال : كذبت لأن الذي تحبه في الدنيا كأنك تحبه في المنام والذي لا تحبه في الآخرة كأنك لا تحبه في اليقظة نسأل الله العصمة والتوفيق.
531
جزء : 5 رقم الصفحة : 529(5/405)
سورة الحج
مكية إلا ست آيات من {هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ} وهي ثمان وسبعون آية
جزء : 5 رقم الصفحة : 531
يا اأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} أي : أحذروا من عقوبة مالك أموركم ومربيكم بطاعته {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} الزلزلة التحريك الشديد بطريق التكرير كما يدل عليه تكرير الحروف لأن زلزل مضاعف زل والساعة عبارة عن القيامة سميت بذلك لسرعة حسابها كما في المفردات.
اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة.
فقال بعضهم : تكون في الدنيا قبيل طلوع الشمس من مغربها فيكون الذهول والوضع الإتيان على حقيقتهما.
وقال بعضهم : تكون يوم القيامة فيحملان على التمثيل والأظهر ما قال ابن عباس رضي الله عنهما : أن زلزلة الساعة قيامها فيكون معناها أن الزلزلة الواقعة عند قيام الساعة شيء عظيم لا يحيط به الوصف فلا بد من التقوى لتخليص النفس من العذاب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 531
{يَوْمَ تَرَوْنَهَا} منتصب بما بعده أي : وقت رؤيتكم تلك الزلزلة {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} الذهول الذهاب عن الأمر مع دهشة والمرضعة المرأة المباشرة للإرضاع بالفعل وبغير التاء هي التي من شأنها الإرضاع لكن لم تلابس الفعل ومثلها حائض وحائضة والتعبير عن الطفل بما دون من لتأكيد الذهول وكونه بحيث لا يخطر ببالها أنه ماذا أي تغفل مع حيرة عما هي بصدد إرضاعه من طفلها الذي ألقمته ثديها اشتغالاً بنفسها وخوفاً : وبالفارسية (غافل شود وفراموش كندازهيبت آن هر شير دهنده ازان فرزندى كه ويرا شيرميدهابا وجود مهربانىء مرضعه بررضيع) أي لو كان مثلها في الدنيا لذهلت المرضعة عما أرضعته لغير فطام وكذا قوله
2
تعالى : {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أي تلقى وتسقط جنينها لغير تمام من شدة ما غشيها والحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس الشجر وبالكسر ما كان على الظهر.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى مواد الأشياء فإن لكل شيء مادة هي ملكوته ترضع رضيعها من الملك وذهولها عنه بهلاك استعدادها للإرضاع وذات حمل هي ما تسمى هيولى فإنها حامل بالصور أي تسقط حمل الصور الشهادية إملاك الهيولى.
{وَتَرَى النَّاسَ} أهل الموقف {سُكَارَى} جمع سكران ، أي كأنهم سكارى وأفراد الخطاب هنا بعد جمعه في ترونها لأن الزلزلة يراها الجميع لكونها أمراً مغايراً للناس بخلاف الحالة القائمة بهم من أثر السكر فإن كل أحد لا يرى إلا ما قام بغيره والسكر حالة تعرض بين المرء وعقله وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب وقد يعتري من الغضب والعشق ولذا قال الشاعر :
سكران سكر هوى وسكر مدامة
ومنه سكرات الموت.
قال جعفر رضي الله عنه : أسكرهم ما شاهدوا من بساط العز والجبروت وسرادق الكبرياء حتى ألجأ النبيين إلى أن قالوا نفسي نفسي.
دران روز كزفعل رسند وقول
اواوا العزم راتن بلرزد زهول
بجابي كه دهشت خورد انبيا
توعذر كنه راه داري بيا
جزء : 6 رقم الصفحة : 2
{وَمَا هُم بِسُكَارَى} حقيقة.
قال الكاشفي : (زيرا زوال عقل ازخوف وحيرت سكر نباشد واكر رأي العين مانند سكر نمايد) وفيه إشارة إلى أن الصور الأخروية وإن كانت مثل الصور الدنيوية في ظاهر النظر لكن بين الحقيقتين تخالف ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا يشبه شيء مما في الجنة شيء مما في الدنيا إلا بالاسم.
واعلم أن السكر من أنواع شتى.
فمن شراب الغفلة والعصيان.
ومن حب الدنيا وشهواتها.
ومن التنعيم.
ومن لذة العلم ومن الشوق.
ومن المحبة.
ومن الوصال.
ومن المعرفة.
ومن المحبية والمحبوبية كما قال بعضهم :
لي سكرتان وللندمان واحدة
شيء خصصت به من بينهم وحدي
{وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فغشيهم هوله وطير عقولهم وسلب تمييزهم وللعذاب نيران نار جهنم ونار القطيعة والفراق ونار الاشتياق ونار الفناء في النار والبقاء بالنار كقوله تعالى : {أَنا بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} (النحل : 8) وكانت استغاثة النبي عليه السلام بقوله : "كلميني يا حميراء" من فوران هذه النار وهيجانها والله اعلم.(6/1)
قال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله : لو أمرني الله أن أقسم العذاب بين الخلق ما قسمت للعاشقين عذاباً.
قال الحافظ :
هرند غرق بحر كناهم زصد جهت
كرآشناي عشق شوم زاهل رحمتم
قال بعضهم : نزلت هاتان الآيتان في غزوة بني المصطلق ليلاً فقرأهما رسول الله على أصحابه فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدراً وكانوا بين حزين وباك ومفكر فقال عليه السلام : "أتدرون أي يوم ذلك" فقالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : "ذلك يوم يقول الله لآدم يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول أخرج بعث النار فيقول من كل كم قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين" قال عليه السلام : "فذلك" أي التقاول "حين يشيب الصغير وتضع كل ذات
3
حمل حملها وترى الناس سكارى" أي : من الخوف {وَمَا هُم بِسُكَـارَى} أي من الخمر {وَلَـاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} فكبر ذلك على المسلمين فبكوا وقالوا يا رسول الله أينا ذلك فقال : "أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجل" ثم قال : "والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة" فكبروا وحمدوا الله ثم قال : "والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله ثم قال : "والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة وإن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً ثمانون منها أمتي وما المسلمون إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الحمار بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض وكالشعرة البيضاء في الثور الأسود" ، ثم قال : "ويدخل من أمتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب" فقال عمر رضي الله عنه سبعون ألفاً قال : "نعم ومع كل ألف سبعون ألفاً" فقام عكاشة بن محصن رضي الله عنه فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال صلى الله عليه وسلّم "أنت منهم فقام رجل من الأنصار فقال : ادع الله أن يجعلني منهم فقال عليه السلام : "سبقك بها عكاشة".
جزء : 6 رقم الصفحة : 2
قال : بعض أرباب الحقائق وجه كون هذه الأمة ثمانين صفاً أن الله تعالى قال في حقهم : {أولئك هُمُ الْوَارِثُونَ} (المؤمنون : 10) ولما كانت الجنة دار أبيهم آدم فالأقرب إليه من أولاده يحجب الأبعد وأقرب بنيه إليه وأفضلهم على الإطلاق هو محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته فكان ثلثا الجنة للأصل الأقرب وبقي الثلث للفرد الأبعد وذلك أن الأمة المحمدية أقرب إلى الكمال من سائر الأمم كالذكر أقرب إلى الكمال من الأنثى وللذكر مثل حظ الأنثيين ولهذا السر يكنى آدم في الجنة بأبي محمد ولا شك أنه عليه السلام أبو الأرواح كما أن آدم أبو البشر فالأب الحقيقي يحجب أولاد أولاده فأمته هم الأولاد الأقربون وسائر الأولاد هم الأبعدون.
جزء : 6 رقم الصفحة : 2
{وَمِنَ النَّاسِ} مبتدأ ، أي وبعض الناس وهو النضر بن الحارث وكان جدلاً يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين ولا بعث بعد الموت {مَن يُجَـادِلُ} الجدال المفاوضة على سبيل المنازعة والمقاتلة وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله كأن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأَيه {فِى اللَّهِ} أي في شأنه ويقول فيه ما لا خير فيه من الأباطيل حال كون ذلك المجادل ملابساً {بِغَيْرِ عِلْمٍ} (بي دانشي وبي معرفتي وبي برهاني وحجتي).
والآية عامة في كل ذات كافر يجادل الله وصفاته بالجهل وعدم اتباع البرهان.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن من يجادل في الله ما له علم بالله ولا معرفة به وإلا لم يجادل فيه ولم يستسأل وإنما يجادل لاتباعه الشيطان كما قال : {وَيَتَّبِعُ} في جداله وعامة أحواله {كُلَّ شَيْطَـانٍ مَّرِيدٍ} متجرد للفساد متعر من الخيرات وهم رؤساء الكفرة الذين يدعون من دونهم إلى الكفر أو إبليس وجنوده يقال : مرد الشيء إذا جاوز حد مثله وأصله العري يقال : غلام أمرد إذا عري من الشعر والورق.
وروي (أهل الجنة مرد) فقد حمل على ظاهره وقيل أن معناه معرّون عن المقابح والشوائب {كُتِبَ عَلَيْهِ} أي قضى على كل شيطان من الجن والإنس كما في "التأويلات النجمية".
قال الكاشفي (نوشته شده است بان ديو درلوح محفوظ) {أَنَّهُ} أي الشأن {مِن} (هركس كه)
4
{تَوَلاهُ} اتخذه ولياً وتبعه {فَأَنَّه يُضِلُّهُ} بالفتح على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فشأن الشيطان أن يضل من تولاه عن طريق الحق {وَيَهْدِيهِ} يدله {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} بحمله على مباشرة ما يؤدي إليه من السيئات وإضافة العذاب إلى السعير وهي النار الشديدة الاشتغال بيانية كشجر الأراك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 4
وعن الحسن أنه اسم من أسماء جهنم.
(6/2)
قال في "التأويلات النجمية" : أما الشيطان الجني فيضله بالوساوس والتسويلات والقاء الشبه وأما الشيطان الإنسي فبإيقاعه في مذاهب أهل الأهواء والبدع والفلاسفة والزنادقة المنكرين للبعث والمستدلين بالبراهين المعقولة بالعقول المشوبة بشوائب الوهم والخيال وظلمة الطبيعة فيستدل بشبههم ويتمسك بعقائدهم حتى يصير من جملتهم ويعد في زمرتهم كما قال تعالى : {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّه مِنْهُمْ} (المائدة : 51) ويهديه بهذه الاستدلالات والشبهات إلى عذاب السعير سعير القطيعة والحرمان انتهى.
واعلم أن الكمال الآدمي في العلوم الحقيقية وهي أربعة :
الأول : معرفة النفس وما يتعلق بها.
والثاني : معرفة الله تعالى وما يتعلق به.
والثالث : معرفة الدنيا وما يتعلق بها.
والرابع : معرفة الآخرة وما يتعلق بها وأهل التقليد دون أهل الاستدلال وهم دون أهل الإيقان وهم أهل العيان ولا بد للسالك أن يجهد في الوصول إلى مرتبة العيان وذلك بتسليك مرشد كامل فإن الاتباع بغيره لا يوصل إلى المنزل.
قال المولى الجامي :
خواهي بصوب كعبة تحقيق ره بري
بي بري مقلدكم كرده ره مرو
وعند الوصول إلى مرتبة العيان يلزم غسل الكتب فإنه لا يحتاج إلى الدليل بعد الوصول إلى المدلول وفي "المثنوي" :
ون شدي بربامهاي آسمان
سرد باشد جست وجوي نرديان
آينه روشن كه شد صاف وجلي
جهل باشد برنهادن صيقلي
يش سلطان خوش نشسته در قبول
زشت باشد جستن نامه ورسول
وعند هذا المقام ينقطع الجدل من الأنام إذ لا جدال بعد العلم الحقيقي ولا اتباع للشيطان الأسود والأبيض بعد حط الرحل في عالم الذات الذي لا يدخله الشيطان وهو مقام آمن من شر الوسواس الخناس.
فعلى العاقل الاجتهاد في الليل والنهار لتزكية النفس وقمع الإنكار فإنه جهاد أكبر إذ النفس من الأعداء الباطنة التي يستصعب الاحتراز عنها.
نفس ازدرون وديو زبيرون زندرهم
ازمكراين دورهزن رحيله ون كنم
نسأل الله سبحانه أن يحفظنا من شر الأعداء ويجعلنا تابعين للحق الصريح الذي لا محيد عنه إنه أعظم ما يرجى منه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 4
يا اأَيُّهَا النَّاسُ} يا أهل مكة المنكرين للبعث {إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ} البعث الإخراج من الأرض والتسيير إلى الموقف وجيء بأن مع كثرة المرتابين لاشتمال المقام على ما يقلع الريب من أصله وتصوير أن المقام لا تصلح إلا لمجرد الفرض له كما يفرض المحال إن كنتم في شك من إمكان الإعادة وكونها مقدورة له تعالى أو من وقوعها.
{فَإِنَّا خَلَقْنَـاكُم} ليس جزاء للشرط لأن خلقهم مقدم على كونهم مرتابين بل هو علة للجزاء المحذوف أي فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم أي خلقنا كل
5
فرد منكم خلقاً إجمالياً {مِّن تُرَابٍ} في ضمن خلق آدم منه وفي الحديث : "إن الله جعل الأرض ذلولاً تمشون في مناكبها وخلق بني آدم من تراب ليذلهم بذلك فأبوا إلا نخوة واستكباراً ولن يدخل الجنة من كان في قلبه حبة من خردل من كبر" {ثُمَّ} خلقناكم خلقاً تفصيلياً {مِن نُّطْفَةٍ} هي الماء الصافي قلّ أو كثر ويعبر بها عن ماء الرجل من نطف الماء إذا سال أو من النطف وهو الصب {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} قطعة من الدم جامدة مكونة من المني {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} أي قطعة من اللحم مكونة من العلق وهي في الأصل مقدار ما يمضغ {مُّخَلَّقَةٍ} بالجر صفة مضغة أي مستبينة الخلق مصورة.
{وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أي : لم يستبن خلقها وصورتها بعد والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولاً قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء ثم ظهر بعد ذلك شيء لكنه آخر غير المخلقة لكونها عدم الملكة كذا في "الإرشاد".
جزء : 6 رقم الصفحة : 5
ويؤيده قول حضرة النجم في "التأويلات" : {مُّخَلَّقَةٍ} أي منفوخة فيها الروح {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أي صورة لا روح فيها وفي الحديث : "إن أحدكم يجمع خلقه" أي : يحرز ويقر مادة خلقه "في بطن أمه" أي : في رحمها من قبيل ذكر الكل وإرادة الجزء "أربعين يوماً".
روي : عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها تنشر في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعرة فتمكث أربعين ليلة ثم تنزل دماً في الرحم فذاك جمعها "ثم تكون علقة مثل ذلك ثم تكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح" وهذا يدل على أن التصوير يكون في الأربعين الثاني لكن المراد تقدير تصويرها لأن التصوير قبل المضغة لا يتحقق عادة "ويؤمر بأربع كلمات" يعني يؤمر الملك بكتابة أربع من القضايا وكل قضية سميت كلمة "بكتب رزقه وأجله" أي : مدة حياته "وعمله وشقي" وهو من وجبت له النار "أو سعيد" وهو من وجبت له الجنة قدم ذكر شقي لأن أكثر الناس كذا {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم بذلك أمر البعث والنشور فإن من قدر على خلق البشر أولاً من تراب لم يشم رائحة الحياة قط فهو قادر على إعادته.
بعث إنسان كرنشد عيان
(6/3)
أول خلقش هذا بيان
هر كه برايجاد أو قادر بود
فدرتش بريعث أو ظاهر شود
أوست خلاقي كه بعد خزان
ميكند يدا بهار بوستان
{وَنُقِرُّ فِى الارْحَامِ مَا نَشَآءُ} استئناف مسوق لبيان حالهم بعد تمام خلقهم أي ونحن نقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وقت معين هو وقت الوضع وأدناه ستة أشهر عند الكل وأقصاه سنتان عند أبي حنيفة رحمه الله وأربع سنين عند الشافعي وخمس سنين عند مالك.
روي : أن الضحاك بن مزاحم التابعي مكث في بطن أمه سنتين ومالكاً ثلاث سنين كما ذكره السيوطي وأخبر الإمام رحمه الله أن جارة له ولدت ثلاثة أولاد في اثنتي عشرة سنة تحمل أربع سنين وفيه إشارة إلى أن بعض ما في الأرحام لا يشاء الله تعالى إقراره فيها بعد تكامل خلقه فيسقط.
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ} أي من بطون أمهاتكم بعد إقراركم فيها عند تمام الأجل المسمى حال كونكم.
{طِفْلا} أطفالاً بحيث لا تقومون
6
لأموركم من غاية الضعف والأفراد باعتبار كل واحد منهم أو بإرادة الجنس المنتظم للواحد والمتعدد والطفل الولد ما دام ناعماً كما في "المفردات".
جزء : 6 رقم الصفحة : 5
وقال المولى الفناري في تفسير الفاتحة حد الطفل من أول ما يولد إلى أن يستهل صارخاً إلى انقضاء ستة أعوام {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} علة لنخرجكم معطوفة على علة أخرى مناسبة لها كأنه قيل ثم نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً ثم لتبلغوا كما لكم في القوة والعقل والتمييز وهو فيما بين الثلاثين والأربعين.
وفي "القاموس" : ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين واحد جاء على بناء الجمع كآنك ولا نظير لهما انتهى.
{وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى} أي : يقبض روحه ويموت بعد بلوغ الأشد أو قبله والتوفي عبارة عن الموت وتوفاه الله قبض روحه {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} وهو الهرم والخرف والرذل والرذال المرغوب عنه لرداءته والعمر مدة عمارة البدن بالحياة.
{لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنا بَعْدِ عِلْمٍ} كثير {شَيْـاًا} أي شيئاً من الأشياء أو شيئاً من العلم وهو مبالغة في انتقاض علمه وانتكاس حاله وإلا فهو يعلم بعض الأشياء كالطفل أي ليعود إلى ما كان عليه آوان الطفولية من ضعف البنية وسخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما عمله وينكر ما عرفه ويعجز عما قدر عليه وقد سبق بعض ما يتعلق بهذه الآية في سورة النحل عند قوله تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّـاكُمْ} الآية (النحل : 70) : قال الشيخ سعدي قدس سره.
طرب نوجوان زير مجوى
كه دكر يدآب رفته بجوى
زرع راوان رسيد وقت درو
نخرامد نانكه سبزءه نو
وقال :
و دوران عمر ازجها دركذشت
مزن دست واكاب از سركذشت
بسيزي كجا تازه كردد دلم
كه سبزى نخواهد دميد ار كلم
تفرج كنان در هوا وهوس
كذشتيم بر خاك بسيار كس
كساني كه ديكر بغيت اندرند
بيايند وبر خاك مابكذرند
دريغاكه فصل جواني كذشت
بلهو ولعب زندكاني كذشت
ه خوش كفت باكودك آموزكار
كه كاري نكرديم وشد روزكار
قال النسفي في "كشف الحقائق" : (أي درويش جهل يش ازعمل دوزخست وجهل بعد ازعلمبهشت است ازجهت آنكه جهل يش از علم سبب حرص وطمعست وجهل بعد ازعلم سبب رضا وقناعت است).
وفي "عرائس البقلي" : ارذل العمر أيام المجاهدة بعد المشاهدة وأيام الفترة بعد المواصلة لكيلا يعلم بعد علم بما جرى عليه من الأحوال الشريفة والمقامات الرفيعة وهذا غيرة الحق على المحققين حين أفشوا أسراره بالدعاوي الكثيرة أستعيذ بالله وأستزيد منه فضله وكرمه ليخلصنا به من فتنة النفس وشرها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 5
وفي "التأويلات النجمية" : في الآية إشارة إلى أن أطفال المكونات كانوا في أرحام أمهات العدم متقررين بتقرير الحق إياهم فيها ولكل خارج منها أجل مسمى بالإرادة القديمة والحكمة الأزلية فلا يخرج طفل مكون من رحم العدم إلا بمشيئة الله تعالى وأوان أجله وهذا رد على الفلاسفة يقولون
7
(6/4)
يقدم العالم ويستدلون في ذلك بأنه هل كانتعالى في الأزل أسباب الإلهية في إيجاد العالم بالكمال أو لا فإن قلنا لم تكن أثبتنا له نقصاناً فالناقص لا يصلح للإلهية وإن قلنا قد كان له أسباب الإلهية بالكمال بلا مانع يلزم إيجاد العالم في الأزل بلا تقدم زماني للصانع على المصنوع بل بتقدم رتبي فنقول في جوابهم إن الآية تدل على أن الله تعالى كان في الأزل ولم يكن معه شيء شاء وكان قادراً على إيجاد ما يشاء كيف شاء ولكن الإرادة الأزلية اقتضت بالحكمة الأزلية أجلاً مسمى بإخراج طفل العالم من رحم العدم أوان أجله وإن لم يكن قبل وجود العالم أوان وإنما كان مقدار الأوان في أيام الله التي لم يكن لها صباح ولا مساء كما قال الله تعالى : {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّـاـامِ اللَّهِ} (إبراهيم : 5) وبقوله : {نُخْرِجُكُمْ} إلخ يشير إلى أن كل طفل من أطفال المكونات يخرج من رحم العدم مستعداً للتربية وله كمال يبلغه بالتدريج ومن المكونات ما ينعدم قبل بلوغ كماله ومنها ما يبلغ كماله ثم يتجاوز عن حد الكمال فيؤول إلى ضد الكمال لكيلا يبقى فيه من أوصاف الكمال شيء وذلك معنى قوله : {لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنا بَعْدِ عِلْمٍ شَيْـاًا} .
دفتر دانش من جملة يشوييد بمى
تاشودارزنم فيض ازلي جانم حي
{وَتَرَى الارْضَ} يا من شأنه الرؤية وهو حجة أخرى على البعث {هَامِدَةً} ميتة يابسة همدت النار إذا صارت رماداً {فَإِذَآ} (بس ون) {أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ} أي المطر {اهْتَزَّتْ} تحركت بالنبات والاهتزاز الحركة الواقعة على البهجة والسرور فلا يكاد يقال اهتز فلان لكيت وكيت إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع.
{وَرَبَتْ} انتفخت وازدادت من ربا يربو ربا زاد ونما والفرس ربوا انتفخ من عدو وفزع كما في "القاموس" {وَأَنابَتَتْ مِن كُلِّ زَوْج} صنف {بَهِيجٍ} البهجة حسن اللون وظهور السرور فيه وابتهج بكذا سروراً بان أثره في وجهه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 5
والمعنى حسن رائق يسر ناظره : وبالفارسية (تازه وترونيكو وبهجت افزاي بس قادري كه زمين مرده را بابي زنده سازد تواناست برآنكه اجزاي موتي را جمع ساخته بهمان حال كه بوده اندباز كرداند.
).
جزء : 6 رقم الصفحة : 5
{ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ} أي ذلك الصنع البديع وهو خلق الإنسان على أطوار مختلفة وتصريفه في أطوار متباينة وإحياء الأرض بعد موتها حاصل بسبب أنه تعالى : {هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّه يُحْىِ الْمَوْتَى} أي شأنه وعادته إحياؤها وحاصله أنه تعالى قادر على إحيائها بدءاً وإعادة وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة مراراً بعد مرار.
{وَأَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} مبالغ في القدرة وإلا لما أوجد هذه الموجودات.
{وَأَنَّ السَّاعَةَ} أي : القيامة {ءَاتِيَةٌ} فيما سيأتي لمجازاة المحسن والمسيء {لا رَيْبَ فِيهَا} إذ قد وضح دليلها وظهر أمرها وهو خبر ثانٍ {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ} (برمي انكيزد) أي بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف.
{مَن فِى الْقُبُورِ} جمع قبر وهو مقر الميت والبعث هو أن ينشر الله الموتى من القبور بأن يجمع أجزاءهم الأصلية ويعيد الأرواح إليها وأنكره الفلاسفة بناء على امتناع إعادة المعدوم قلنا إن الله يجمع الأجزاء
8
الأصلية للإنسان وهي الباقية من أول عمره إلى آخره ويعيد روحه إليه سواء سمى ذلك إعادة المعدوم بعينه أم لا ، وأما الأجزاء المأكولة فإنما هي فضل في الأكل فليست بأصلية.
روي : أن السماء تمطر مطراً يشبه المني فمنه النشأة الآخرة كما أن النشأة الدنيا من نطفة تنزل من بحر الحياة إلى أصلاب الآباء ومنها إلى أرحام الأمهات فيتكون من قطرة الحياة تلك النطفة جسداً في الرحم وقد علمنا أن النشأة الأولى أوجدها الله على غير مثال سبق وركبها في أي صورة شاء وهكذا النشأة الآخرة يوجدها الحق على غير مثال سبق مع كونها محسوسة بلا شك فينشىء الله النشأة الأخرى على عجب الذنب الذي يبقى من هذا النشأة الدنيا وهو أصلها فعليه تركب النشأة الآخرة ثم إن الله تعالى كما يحيي الأرض والموتى بالماء الصوري كذلك القلوب القاسية بالماء المعنوي وهو الأذكار وأنوار الهداية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 8
فالعاقل يجتهد في تنوير القلب وإحيائه بأنوار الطاعات والأذكار كي يتخلص من ظلمات الشكوك والشرك جلياً كان أو خفياً ولا شك أن الجسد من الروح كالقبر من الميت ينتفع في قبره بدعوات الأحياء كذلك الروح يترقى إلى مقامه العلوي بما حصل من إمداد القوى والأعضاء نسأل الله الحياة الأبدية بفضله وكرمه.
اكر هوشمندي بمعنى كراي
كه معنى بماندنه صورت يجاي
جزء : 6 رقم الصفحة : 8
{وَمِنَ النَّاسِ مَن} هو أبو جهل {يُجَـادِلُ فِى اللَّهِ} حال كون ذلك المجادل {بِغَيْرِ عِلْمٍ} ضروري أو بديهي فطري {وَلا هُدًى} استدلال ونظر صحيح هاد إلى المعرفة.
(6/5)
قال الكاشفي : (وبادليلي كه راه نمايد بمقصد) {وَلا كِتَـابٍ مُّنِيرٍ} وحي مظهر للحق.
قال الكاشفي : (وبي كتابي روشن كه بدان صواب از خطا ظاهر كردد) أي يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بمقدمة ضرورية ولا بحجة نظرية ولا ببرهان سمعي بل يمحض التقليد والجدال بغير هذه الأمور الثلاثة شهادة على المجادل بإفراطه في الجهل في الله ويستحيل عليه بانهماكه في الغي والضلال.
{ثَانِىَ عِطْفِهِ} حال أخرى من فاعل يجادل من ثنى العود إذا حناه وعطفه لأنه ضم أحد طرفيه إلى الآخر وعطف الإنسان بكسر العين جانبه من رأسه إلى وركه أو قدمه.
قال ابن الشيخ العطف بكسر العين الجانب الذي يعطفه الإنسان ويلويه ويميله عند الإعراض عن الشيء وبفتح العين التعطف والبر وثنى العطف وكناية عن التكبر كلي الجيد والشدق.
ففي الجلالين لاوي عنقه تكبرا
وفي "التفسير الفارسي" : (ييدة دامن خوداست واين كنايه باشد ازتكبره متكبر دامن ازهر يز درمي يند).
وفي "الإرشاد" : عاطفاً بجانبه وطاوياً كشحه معرضاً متكبراً {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} متعلق بيجادل فإن غرضه الإضلال عنه وإن لم يعترف بأنه إضلال أي ليخرج المؤمنين من الهدى إلى الضلال أو ليثبت الكفرة عليه.
{لَه فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ} الخزي الهوان والفضيحة أي ليثبت في الدنيا بسبب ما فعله خزي وهو ما أصابه يوم بدر من القتل والصغار.
{وَنُذِيقُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} الحريق بمعنى المحرق فيجوز أن يكون من إضافة المسبب إلى سببه على أن يكون الحريق عبارة عن النار وأن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته
9
والأصل العذاب الحريق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 9
{ذَالِكَ} أي يقال له يوم القيامة ذلك الخزي في الدنيا وعذاب الآخرة كائن.
{بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي وإسناده إلى يديه لما أن الاكتساب عادة بالأيدي ويجوز أن يكون الكلام من باب الالتفات لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد.
{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم.
فإن قلت : الظاهر أن يقال ليس بظالم للعبيد ليفيد نفي أصل الظلم ونفي كونه مبالغاً مفرطاً في الظلم لا يفيد نفي أصله.
قلت : المراد نفي أصل الظلم وذكر لفظ المبالغة مبني على كثرة العبيد فالظالم لهم يكون كثير الظلم لإصابة كل منهم ظلماً لأن العبيد دال على الاستغراق فيكون ليس بظالم لهذا ولا ذلك إلى ما لا يحصى وأيضاً أن من عدله تعالى أن يعذب المسيء من العبيد ويحسن إلى المحسن ولا يزيد في العقاب ولا ينقص من الأجر لكن بناء على وعده المحتوم فلو عذب من لا يستحق العذاب لكان قليل الظلم منه كثيراً لاستغنائه عن فعله وتنزيهه عن قبحه وهذا كما يقال زلة العالم كبيرة وفي المرفوع : "يقول الله تعالى : إني حرمت الظلم على نفسي وحرمته على عبادي فلا يظلمون" يقال : من كثر ظلمه واعتداؤه قرب هلاكه وفناؤه وشر الناس من ينصر الظلوم ويخذل المظلوم.
وفي الآية إشارة إلى أن العبيد ظلامون لأنفسهم كما قال الله تعالى : {وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل : 118) بأن يضعوا العبادة والطلب في غير موضعه : قال المولى الجامي :
قصد ما ابروي تست ازسجده در محرابها
كرنباشد نيت خالص ه حاصل ازعمل
واعلم أن جدال المنافق والمرائي وأهل الأهواء والبدع مذموم وأما من يجادل في معرفة الله ودفع الشبه وبيان الطريق إلى الله تعالى بالعلم بالله وهدي نبيه عليه السلام وشاهد نص كتاب منير يظهر بنوره الحق من الباطل فجداله محمود.
جزء : 6 رقم الصفحة : 10
قال بعضهم : البحث والتفتيش عما جاءت به السنة بعد ما وضح سنده يجر الباحث إلى التعمق والتوغل في الدين فإنه مفتاح الضلال لكثير من الأمة يعني الذين لم يرزقوا بأذهان وقادة وقرائح نقادة وما هلكت الأمم الماضية إلا بطول الجدال وكثرة القيل والقال فالواجب أن يعض بأضراسه على ماثبت من السنة ويعمل بها ويدعو إليها ويحكم بها ولا يصغي إلى كلام أهل البدعة ولا يميل إليهم ولا إلى سماع كلامهم فإن كل ذلك منهي شرعاً وقد ورد فيه وعيد شديد وقد قالوا الطبع جذاب والمقارنة مؤثرة والأمراض سارية : قال المولى الجامي قدس سره.
يهوش باش كه راه بسي مجرد زد
عروس دهر كه مكاره است ومحتاله
بلاف ناخلفان زمانه غره مشو
ومروو سامري ازره ببانك كوساله
(6/6)
في كلام أهل البدعة والأهواء كخوار العجل فكما أن السامري ضل بذلك الخوار وأضل كثيراً من بني إسرائيل فكذا كل من كان في حكمه فإنه يغتر بأوهامه وخيالاته ظناً أنها علوم صحيحة فيدعو أهل الأوهام إليها فيضلهم بخلاف من له علم صحيح وكشف صريح فإنه لا يلتفت إلى كلمات الجهال ولا يميل إلى خارق العادة ألا ترى أن من ثبت على دين موسى لم يصخ إلى الخوار وعرف أنه ابتلاء من الله تعالى فويل للمجادل المبطل وويل للسامع إلى كلامه
10
وقد ذم الله تعالى هذا المجادل بالكبر وهو من الصفات العائقة عن قبول الحق ولا شيء فوقه من الذمائم.
وعن أرسطو من تكبر على الناس أحب الناس ذلته.
وعنه : بإصابة المنطق يعظم القدر.
وبالتواضع تكثر المحبة.
وبالحلم تكثر الأنصار.
وبالرفق يستخدم القلوب.
وبالوفاء يدوم الإخاء.
وبالصدق يتم الفضل.
نسأل الله التخلي عن الصفات القبيحة الرذيلة والتحلي بالملكات الحسنة الجميلة.
{وَمِنَ النَّاسِ} .
روي : أن الآية نزلت في أعاريب قدموا المدينة وكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرياً سرياً وولدت امرأته ولداً وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً واطمأن وإن كان الأمر بخلافه قال ما أصبت إلا شراً وانقلب فقال تعالى وبعض الناس : {مَن يَعْبُدُ اللَّهَ} حال كونه {عَلَى حَرْفٍ} أي على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه فلا ثبات له فيه كالذي ينحرف على طرف الجيش فإن أحس بظفر قر وإلا فرّ فالحرف الطرف والناحية وصف الدين بما هو من صفات الأجسام على سبيل الاستعارة التمثيلية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 10
قال الراغب : حروف الهجاء أطراف الكلمة الرابطة بعضها ببعض {فَإِنْ أَصَابَهُ} (س اكر برسد اورا) {خَيْرٌ} أي دنيوي من الصحة والسعة {اطْمَأَنَّ} في الدين {بِهِ} بذلك الخير والاطمئنان السكون بعد الانزعاج.
قال الكاشفي (آرام كير بدين وثابت شود برآن بسبب آن يز) انتهى أي ثبت على ما كان عليه ظاهراً لا باطناً إذ ليس له اطمئنان المؤمنين الراسخين {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي : شيء يفتن به من مكروه يعتريه في نفسه أو أهله أو ماله فالمراد بالفتنة ما يستكرهه الطبع ويثقل على النفس وإلا لما صح أن يجعل مقابلاً للخير لأنه أيضاً فتنة وامتحان وإن أصابه شر مع أنه المقابل للخير لأن ما ينفر عنه الطبع ليس شراً في نفسه ، بل هو سبب القربة ورفع الدرجة بشرط التسليم والرضى بالقضاء.
{انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} الانقلاب الانصراف والرجوع والوجه بمعنى الجهة والطريقة أي ارتد ورجع إلى الكفر.
قال الكاشفي : (بركردد برروي خود يعني ازجهتي كه آمده بدان جهت عودكند مراد آنست كه مرتد كردد واز دين إسلام دست بردارد).
يقول الفقير : قوله في "بحر العلوم" : تحول عن وجهه فانكب فرجع إلى ما كان عليه من الكفر يشير إلى أن على بمعنى عن كما ذهب إليه بعضهم في قوله تعالى : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود : 6) حيث فسره بالجهة التي أقبل إليها وهي الإسلام {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاخِرَةَ} فقدهما وضيعهما بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد والأظهر أن خسران الدنيا ذهاب أهله حيث أصابته فتنة وخسران الآخرة الحرمان من الثواب حيث ذهب الدين ، ودخل النار مع الداخلين كما قال الكاشفي : (زيان كرد دنيا كه بمراد نرسد وزيان دارد در آخرت كه عملها ي أونابود شد) {ذَالِكَ} (زيان هردو سراي) {هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (آنست زيان هويدا ه برهمه عقلاً ظاهر اسن زيان ازان عظيم ترنيست).
نه مال ونه أعمال نه دنيا ونه دين
لامعة صدق ونه أنوار يقين
درهر دوجهان منفعل وخوار وحزين
البته زياني نبود بدتر ازين
قال بعضهم : الخسران في الدنيا ترك الطاعات ولزوم المخالفات والخسران في الآخرة كثرة
11
الخصوم والتبعات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 10
{يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ} استئناف مبين لعظم الخسران فيكون الضمير راجعاً إلى المرتد المشرك أي يعبد متجاوزاً عبادة الله تعالى : {مَا لا يَضُرُّهُ} إذا لم يعبده {وَمَا لا يَنفَعُهُ} إن عبده أي جماداً ليس من شأنه الضر والنفع كما يلوح به تكرير كلمة ما {ذَالِكَ} الدعاء {هُوَ الضَّلَـالُ الْبَعِيدُ} عن الحق والهدى مستعاراً من ضلال من أبعد في التيه ضالاً عن الطريق فطالت وبعدت مسافة ضلاله فإن القرب والبعد من عوارض المسافة الحسية.(6/7)
{يَدْعُوا لَمَن ضَرُّه أَقْرَبُ مِن نَّفْعِه لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} الدعاء بمعنى القول واللام داخلة على الجملة الواقعة مقولاً له ومن مبتدأ وخبره مبتدأ ثان خبره أقرب والجملة صلة للمبتدأ الأول وقوله لبئس إلخ جواب لقسم مقدر وهو وجوابه خبر للمبتدأ الأول وإيثار من على ما مع كون معبوده جماداً وإيراد صيغة التفضيل مع خلوه عن النفع بالكلية للمبالغة في تقبيح حاله والإمعان في ذمه ، أي : يقول ذلك الكافر يوم القيامة بدعاء وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه ولا يرى منه أثر النفع أصلاً لمن ضره أقرب من نفعه والله لبئس الناصر ولبئس الصاحب والمعاشر والخليط هو فكيف بما هو ضرر محض عار عن النفع بالكلية ، فالآية استئناف مسوق لبيان مآل دعائه المذكور وتقرير كونه ضالاً بعيداً والظاهر أن اللام ، زائدة ومن مفعول يدعو ويؤيده القراءة بغير اللام أي يعبد من ضره بكونه معبوداً لأنه يوجب القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة أقرب من نفعه الذي يتوقع بعبادته في زعمهم وهو الشفاعة والتوسل إلى الله فإيراد كلمة من وصيغة التفضيل تهكم به والجملة القسمية مستأنفة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 11
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} بيان لكمال حسن حال المؤمنين العابدين له تعالى أثر بيان سوء حال الكفرة.
والجنة الأرض المشتملة على الأشجار المتكاثفة الساترة لما تحتها والنهر مجرى الماء الفائض فإسناد الجري إلى الأنهار من الإسناد الحكمي كقولهم سال الميزاب إذ الجريان من أوصاف الماء لا من أوصاف النهر ووصف الجنات به دلالة على أنها من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليها طباعهم كما قال الكاشفي (غايت نزهت باغ وبستان بآب روانست) {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} أي يفعل البتة كل ما يريده من إثابة الموحد الصالح وعقاب المشرك لا دافع له ولا مانع.
وفي الآيات إشارات ، منها : أن من يعبد الله على طبع وهوى ورؤية عوض وطمع كرامات ومحمدة الخلق ونيل الدنيا فإذا أصابته أمانيه سكن في العبادة وإذا لم يجد شيئاً منها ترك التحلي بتحلية الأولياء فخسرانه في الدنيا فقدان القبول والجاء عند الخلق وافتضاحه عندهم وسقوطه من طريق السنة والعبادة إلى الضلالة والبدعة وخسرانه في الآخرة بقاؤه في الحجاب عن مشاهدة الحق واحتراقه بنيران البعد ، وأيضاً أن بعض الطالبين ممن لا صدق له ولا ثبات في الطلب يكون من أهل التمني فيطلب الله في شك فإن أصابه شيء مما يلائم نفسه وهواه ، أو فتوح من الغيب أقام على الطلب في الصحبة وإن أصابه بلاء أو شدة وضيق في المجاهدات والرياضات وترك الشهوات ومخالفة النفس وملازمة الخدمة ورعاية حق الصحبة والتأدب بآداب الصحبة والتحمل من الإخوان انقلب على وجه يتبدل
12
الإقرار بالإنكار والاعتراض والتسليم بالآباء والاستكبار والإرادة بالارتداد والصحبة بالهجران خسر ما كان عليه من الدنيا وبتركه وخسر الآخرة بارتداده عن الطلب والصحبة.
ومن هنا قال الشيخ مرتد الطريقة شر من مرتد الشريعة ذلك هو الخسران المبين فإن من رده صاحب قلب يكون مردود القلوب كلها كما أن من قبله يكون مقبول الكل.
قال الحافظ :
جزء : 6 رقم الصفحة : 12
كليد كنج سعادت قبول أهل دلست
مباد كس كه درين نكته شك وريب كند
شبان وادىء أيمن كهي رسد بمراد
كه ندان سال بجان خدمت شعيب كند
يقول الفقير : المسلمون صنفان صنف مشتغل بالجهاد الأصغر وصنف مشتغل بالجهاد الأكبر فضعفاء الصنف الأول يكونون على طرف الجيش والثاني على طرف الدين فإن كان الأمر على مرادهم أقبلوا وإلا أدبروا وفي ذلك خسارة لهم من جهة الدنيا والآخرة لأنهم يغلبهم الكفار والنفس الأمارة في الدنيا ويفوت عنهم درجات السعداء في الآخرة فلا يظفرون بغنيمة مطلقاً فلا بد من الصبر على المشاق.
وقال الشيخ سعدي في وصف الأولياء.
خوشا وقت شوريد كان غمش
اكر زخم بينند اكر مرهمش
دماً دم شراب ألم در كشند
وكر تلخ بينند دم در كشند
نه تلخست صبري كه برياد أوست
كه تلخي شكر باشد ازدست دوست
ومنها : أن من يعبد الله يعبد الضار والنافع الذي يصدر منه كل نفع وضر إما بواسطة الملائكة والإنس والجمادات أو بغير الواسطة وأما من يعبد ما سواه تعالى فيعبد ما لا يضر وما لا ينفع وذلك لأن الملك أو الإنسان أو الشيطان أو شيئاً من المخلوقات من فلك أو كوكب أو غيرها لا يقدر على خير أو شر بنفسه أو نفع أو ضر بل كل ذلك أسباب مسخرة لا يصدر منها إلا ما سخرت له وجملة ذلك بالإضافة إلى القدرة الأزلية كالقلم بالإضافة إلى الكاتب فلبئس المولى ما عبده وطلبه من دون الله تعالى ولبئس العشير أي ما عاشره وشهواتها.
(6/8)
ومنها : أن من يدخل الجنة من المؤمنين لا يدخل الجنة بمجرد الإيمان التقليدي والأعمال الظاهرية بل يدخله الله بالإيمان الحقيقي الذي كتبه بقلم العناية في قلبه الذي من نتائجه الأعمال الصالحة لوجه الله تعالى.
{مِن} شرطية.
والمعنى بالفارسية (هركه ازظانين بالله ظن السوء) {كَانَ يَظُنُّ} يتوهم {أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ} أي محمداً صلى الله عليه وسلّم {فِى الدُّنْيَا} بإعلاء دينه وقهر أعدائه {وَالاخِرَةَ} بإعلاء درجته والانتقام من مكذبيه يعني أنه تعالى ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن كان يظن من أعادته وحساده خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه.
{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ} السبب الذي تصعد به النخل أي ليربط بحبل إلى سقف بيته لأن كل ما علاك فهو سماء {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} .
جزء : 6 رقم الصفحة : 12
قال في "القاموس" : قطع فلان الحبل اختنق ، ومنه تعالى : {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} أي : ليختنق انتهى وسمي الاختناق قطعاً لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه.
قال الكاشفي : (س ببرد آن رسن تابزمين افتد وبميرد) {فَلْيَنظُرْ} المراد تقدير النظر وتصوره لأن الأمر بالنظر بعد الاختناق غير معقول أي فليتصور في نفسه وليقدر النظر إن فعل {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ} فعل ذلك بنفسه وسماه كيداً لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره أو على وجه الاستهزاء لأنه
13
لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه.
{مَا يَغِيظُ} الغيظ أشد غضب وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دم قلبه أي ما يغيظه من النصرة كلا يعني أنه لا يقدر على دفع النصرة وإن مات غيظاً كما قال الحافظ :
كرجان بدهد سنك سيه لعل نكردد
باطينت أصلي ه كند بد كهر افتاد
وفي الآية إشارة إلى نفي العجز عن الله تعالى وأنه فوق عباده وأنه ينصر أولياءه.
روي : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : أقبل يهودي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى دخل المسجد قال أين وصي محمد فأشار القوم إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي فقال أبو بكر سل عما بدا لك فقال اليهودي : أخبرني عما لا يعلم الله وعما ليسوعما ليس عند الله فقال أبو بكر هذا كلام الزنادقة وهمّ هو والمسلمون به فقال ابن عباس رضي الله عنهما ما أنصفتم الرجل إن كان عندكم جوابه وإلا فاذهبوا به إلى من يجيبه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول لعلي رضي الله عنه : "اللهم أيد قلبه وثبت لسانه" فقام أبو بكر ومن حضره حتى أتوا علياً فأفادوا له ذلك فقال أما ما لا يعلمه الله فذلكم يا معشر اليهود قولكم أن عزيراً ابن الله والله لا يعلم أن له ولداً وأما ما ليسفليس له شريك وأما ما ليس عند الله فليس عند الله ظلم وعجز فقال اليهودي أشهد أن لا إله إلا الله وإنك وصي رسول الله ففرح المسلمون بذلك.
واعلم أن الكفار أرادوا أن يطفئوا نور الله فأطفأهم الله حيث نصر حبيبه وأنجز وعده وهزم الأحزاب وحده وأما تشديد المحنة في بعض الأحيان وتأخير النصرة فلحكم ومصالح فعلى العبد الصالح الراضي بالله تعالى رباً أن يصبر على أذى الأعداء وحسدهم فإن الحق يعلو ولا يعلى وسيرجع الأمر من المحنة إلى الراحة فيكون أهل الإيمان والإخلاص مستريحين ومن الراحة إلى المحنة فيكون أهل الشرك والنفاق مستراحاً منهم والله تعالى يفعل ما يريد.
جزء : 6 رقم الصفحة : 12
{وَكَذَالِكَ} أي مثل ذلك الانزال البديع المنطوي على الحكم البالغة.
{أَنزَلْنَـاهُ} أي القرآن الكريم كله حال كونه {بَيِّنَـاتٍ وَأَنَّ} واضحات الدلالة على معانيها اللطيفة.
{وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ} محل الجملة الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن الله تعالى يهدي بالقرآن ابتداء أو يثبت على الهدى أو يزيد فيه من يريد هدايته أو تثبيته أو زيادته وفي الحديث : "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" : أي يرفع بالقرآن درجة أقوام وهم من آمن به وعمل بمقتضاه ويحط به أقواماً آخرين وهم من أعرض عنه ولم يحفظ وصاياه وكان نظر الصحابة رضي الله عنهم وشغلهم في الأحوال والأعمال ولذا كانوا يتعلمون عشر آيات لا يجاوزونها إلى غيرها حتى يعملوا بما فيها.
قال في "الأحياء" : مات النبي عليه السلام عن عشرين ألفاً من الصحابة ولم يحفظ القرآن منهم إلا ستة اختلف منهم في اثنين فكان أكثرهم يحفظ السورة أو السورتين وكان الذي يحفظ البقرة والأنعام من علمائهم فالاشتغال بعلم القرآن والعمل بمقتضاه من علامات الهداية ولا بد من الاجتهاد آناء الليل وأطراف النهار إلى أن يحصل المقصود فإن من أراد أن يصل إلى ماء الحياة يقطع الظلمات بلا فتور وجمود والملال من العلم واستماعه سبب الانقطاع عن طريق التحقيق وأثر الحرمان من العناية والتوفيق.
14
دل ازشنيدن قرآن بكيردت همه وقت
و باطلان زكلام حقت ملولي يست
(6/9)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري وقارىء يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقام علينا فلما قام رسول الله سكت القارىء فسلم ثم قال : "ما كنتم تصنعون"؟ قلنا كنا نستمع إلى كتاب الله فقال : "الحمد الله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم" قال : فجلس وسطنا ليعدل بنفسه فينا ثم قال بيده : هكذا فتحلقوا وبرزت وجوههم له فقال : "أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم" وذلك خمسمائة سنة وذلك لأن الأغنياء يوقفون في العرصات ويسألون من أين جمعوا المال وفيم صرفوه ولم يكن للفقراء مال حتى يوقفوا ويسألوا عنه ويعني رسول الله بالفقراء الفقراء الصابرين الصالحين وبالأغنياء الأغنياء الشاكرين المؤدين حقوق أموالهم هذا ثم إن كون القرآن مشتملاً على متشابهات وغوامض لا ينافي كون آياته بينات لأنه ليس فيه ما لا يعلم معناه لكن العلماء يتفاوتون في طبقات المعرفة هدانا الله وإياكم إلى ما هدى العلماء الراسخين إليه وشرفنا في كل غامض بالاطلاع عليه.
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} بكل ما يجب أن يؤمن به {وَالَّذِينَ هَادُوا} دخلوا في اليهودية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 14
قال الراغب : الهود الرجوع برفق وصار في التعارف التوبة قال تعالى : {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} أي : تبنا إليك.
قال بعضهم : اليهود في الأصل هو من قولهم هدنا إليك وكان اسم مدح ثم صار بعد نسخ شريعتهم لازماً لهم وإن لم يكن فيه معنى المدح كما أن النصارى في الأصل من قوله : {مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ} (آل عمران : 52) ثم صار لازماً لهم بعد نسخ شريعتهم.
{وَالصَّـابِـاِينَ} أي : الذين صبؤوا عن الأديان كلها أي خرجوا واختاروا عبادة الملائكة والكواكب من صبأ الرجل عن دينه إذا خرج عنه إلى دين آخر ، قال الراغب : الصابئون قوم كانوا على دين نوح وقيل لكل خارج من الدين إلى دين آخر صابىء من قولهم : صبأ ناب البعير إذا طلع.
{وَالنَّصَـارَى} جمع نصران ونصرانة مثل الندامى جمع ندمان وندمانة ويستعمل بغير الياء فيقال : رجل نصران وامرأة نصرانة {وَالْمَجُوسَ} .
قال في "القاموس" : مجوس كصبور رجل صغير الأذنين وضع ديناً ودعا إليه معرب "منج كوش" ورجل مجوسي جمعه كيهودي ويهود وهم عبدة النار وليسوا من أهل الكتاب ولذا لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم وإنما أخذت الجزية منهم لأنهم من العجم لا لأنهم من أهل الكتاب.
{وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعني : عبدة الأوثان {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} في حيز الرفع على أنه خبر لأن السابقة أي يقضي بين المؤمنين وبين الفرق الخمس المتفقة على ملة الكفر بإظهار المحق من المبطل بإثابة الأول وعقاب الثاني بحسب الاستحقاق يعني أن الله تعالى يعامل كل صنف منهم يوم القيامة على حسب استحقاقه إما بالنعيم وإما بالجحيم وبالوصال أو بالفراق وعلم من الآية أن الأديان ستة واحد للرحمن وهو دين المؤمنين هو الإسلام كما قال تعالى : {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ} (آل عمران : 19) وخمسة للشيطان وهي ما عدا الإسلام لأنها مما دعا إليها الشيطان وزينها في أعين الكفرة.
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} (كواه وازهمه حال آكاه).
قال الإمام الغزالي رحمه الله :
15
الشهيد يرجع معناه إلى العلم مع خصوص إضافة فإنه تعالى عالم الغيب والشهادة والغيب عبارة عما بطن والشهادة عما ظهر وهو الذي يشاهد فإذا اعتبر العلم المطلق فهو العليم مطلقاً وإذا أضيف إلى الغيب والأمور الباطنية فهو الخبير وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 14
وفي الآية وعيد وتهديد فعلى العاقل أن يذكر يوم الفصل والقضا ويجتهد في الأعمال التي يحصل بها الرضى.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
قيامت كه نيكان باعلى رسند
زعر ثرا باثريا رسند
تراخود بماند سرازننك يس
كه كردت آيد عملها خويش
برادر زكار بدان شرم دار
كه درروي نيكان شوي شرمار
بناز وطرب نفس رورده كير
بايام دشمن قوي كرده كير
يكى بة كرك مي بروريد
ور ورده شد خواجه رابردريد
بهشت أوستاند طاعت برد
كرا نقد باشد بضاعت برد
ي نيك مردان ببايد شتافت
كه هركو سعادت طلب كرديافت
وليكن تودنبال ديو خسي
ندانم كه در صالحان كي رسي
ميبر كسي را شفاعتكرست
كه بر جادة شرع يغميرست
ره راست بايد نه بالاي راست
كه كافرهم ازروي صورت جوماست
(6/10)
واعلم أن الإيمان والكفر أوصاف القلب وللقلب بابان علوي وسفلي فالعلوي يتصل إلى الروح والسفلي إلى النفس فإذا انسد الباب السفلي بالمخالفة إلى النفس ينفتح الباب العلوي فتنصب المعارف الإلهية من الروح إلى القلب فيكون القلب منوراً بأنوار المعرفة ويتخلص من الحجب النفسانية ، وإذا انسد الباب العلوي بسبب الاتباع إلى النفس ينفتح الباب السفلي فتظهر في القلب الوساوس الشيطانية وكل بدعة وهوى والدين الباطل إنما يحصل من النفس والشيطان فمن اتبع هوى النفس ووساوس الشيطان ضل عن طريق الحق والدين المبين واتخذ إلهه هواه فإن الله تعالى يفصل بينه وبين المهتدي ، فإنه كما أن الإيمان والكفر لا يجتمعان في قلب فكذا أهلهما لا يجتمعون في دار والبرزخ الفاصل بينهم وإن كان موجوداً الآن على ما عرفه أهل المعرفة لكنه معنوي فإذا كان يوم القيامة يصير صورياً حسياً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 14
{أَلَمْ تَرَ} ألم تعلم يا من من شأنه العلم.
{أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَه مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الأرْضِ} أي : ينقاد لتدبيره ومشيئته الملائكة والجن والإنس مطيعاً أو عاصياً وذلك لأن السجود إما سجود باختيار وهو للإنسان وبه يستحق الثواب وإما سجود تسخير وهو للإنسان والحيوان والنبات شبه الانقياد بأكمل أفعال المكلف في باب الطاعة وهو السجود إيذاناً بكمال التسخير والتذلل وإنما حمل على المعنى المجازي إذ ليس في كفرة الإنس ومردة الجن والشياطين وسائر الحيوانات والجمادات سجود طاعة وعبادة وهو وضع الجبهة على الأرض خصوصاً
16
تعالى.
{وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} بالسير والطلوع والغروب لمنافع العباد {وَالْجِبَالُ} بإجراء الينابيع وإنبات المعادن.
{وَالشَّجَرُ} بالظل وحمل الثمار ونحوها {وَالدَّوَآبُّ} (هار ايان) أي : بعجائب التركيب ونحوها فكل شيء ينقاد له سبحانه على ما خلقه وعلى ما رزقه وعلى ما أصحه وعلى ما أسقمه فالبر والفاجر والمؤمن والكافر في هذا سواء {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} أي : ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة فهو مرتفع بمحذوف لا بالمذكور وإلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز.
قال في "التأويلات" : أهل العرفان يسجدون سجود عبادة بالإرادة والجماد وما لا يعقل ومن لا يدين يسجدون سجود خضوع للحاجة.
قال الكاشفي : (همه ذرات عالم مرخدايرا خاضع وخاشعند بدلالت حال كه افصح است ازدلالت مقال).
درنكر تابيني ازعين شهود
جملة ذرات جهانرادر سجود
{وَكَثِيرٌ} من الناس {حَقٍّ} ثبت {عَلَيْهِ الْعَذَابُ} بسبب كفره وإبائه عن الطاعة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 16
قال الكاشفي : (اين سجدة ششم است باتفاق علما ازسجدات قرآن.
درفتوحات اين را سجدة مشاهد واعتبار كفته اندكه ازهمه اشياغير آدميانرا تبعيض نكرد س بنده بايدكه مبادرت نمايد بسجدة تا از كثير أول باشد كه ازاهل سجده واقترابندنه از كثير ثاني مستحق عذاب وعقابند).
ذوق سجده وطاعتي يش خدا
خوشتر باثيد زصد دولت ترا
يقول الفقير : الكثير الأول كثير في نفسه بالنسبة إلى الكثير الثاني إذ أهل الجمال أقل من أهل الجلال هو الواحد من الألف وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن الواحد على الحق هو السواد الأعظم وعن بعضهم : قليل إذا عدوا كثير إذا شدوا أي أظهروا الشدة.
{وَمِنَ} (وهر كرا) {يُهِنِ اللَّهُ} يهنه الله : بالفارسية(خوار كرداند) بأن كتب عليه الشقاوة في الأزل حسبما علمه من صرف اختياره إلى الشر {فَمَا لَه مِن مُّكْرِمٍ} يكرمه بالسعادة إلى الأبد {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} من الإكرام والإهانة من الأزل إلى الأبد.
قال الإمام النيسابوري رحمه الله في "كشف الأسرار" : جعل الله الكفار أكثر من المؤمنين ليريهم أنه مستغن عن طاعتهم كما قال : (خلقت الخلق ليربحوا عليّ لا لأربح عليهم) وقيل ليظهر عز المؤمنين فيما بين ذلك لأن الأشياء تعرف بأضدادها والشيء إذا قل وجوده عز ألا ترى أن المعدن لعزته صار مظهراً للاسم العزيز وقيل : ليرى الحبيب قدرته بحفظه بين أعدائه الكثيرة كما حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو واحد وأهل الأرض أعداد كله ليتبين أن النصر من عند الله والقليل يغلب الكثير يعونه وعنايته ومن أكرمه بالغلبة لا يهان بالخذلان البتة.
فإن قيل : إن رحمته سبقت وغلبت غضبه فيقتضي الأمر أن يكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب وأهل الغضب تسع وتسعون من كل ألف واحد يؤخذ للجنة كما ورد في الصحيح ، وورد : (أهل الرحمة كشعرة بيضاء في جلد الثور الأسود).
قلنا هذه الكثرة بالنسبة إلى بني آدم وأما أهل الرحمة بالنسبة إليهم وإلى الملائكة والحور والغلمان فأكثر من أهل الغضب والتحقيق أن المقصود من النشآت كلها ظهور الإنسان الكامل وهو واحد كالألف فالناس عشرة أجزاء فتسعة
17
(6/11)
الأعشار كفار والواحد مؤمنون ثم المؤمنون عشرة فتسعة عصاة وواحد مطيعون ثم المطيعون عشرة فتسعة أهل الزهد وواحد أهل العشق ثم أهل العشق عشرة فتسعة أهل البرزخ والفرقة وواحد أهل المنزل والوصلة فهو أعز من الكبريت الأحمر والمسك الأذفر وهو الذي أكرمه الله بكرامة لم يكرم بها أحداً من العالمين فلو أن أهل العالم اجتمعوا على إهانته ما قدروا إذ له العز الحقيقي لأنه أذل نفسه بالفناء في الله وهو مقام السجود الحقيقي فاعزه الله ورفعه ألا ترى إلى قوله : "من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة" أي من أغضب وآذى وأهان واحداً من أوليائي فقد ظهر وخرج بالمحاربة لي والله ينصر أولياءه فيكون المبارز مقهوراً مهاناً بحيث لا يوجد له ناصر ومكرم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 16
أهل حق هركز نمى باشد مهان
أهل باطل خوار باشد درجهان
{هَـاذَانِ} أي : فريق المؤمنين وفريق الكفرة المنقسم إلى الفرق الخمس {خَصْمَانِ} أي : فريقان مختصمان.
{اخْتَصَمُوا} (جنك كردند وجدل نمودند) {فِى رَبِّهِمْ} في شأنه أو في دينه أو في ذاته وصفاته والكل من شؤونه فإن اعتقاد كل من الفريقين بحقية ما هو عليه وبطلان ما عليه صاحبه وبناء أقواله وأفعاله عليه خصوصة للفريق الآخر وإن لم يجر بينهما التحاور والخصام.
أهل دين حق وأنواع ملل
مختصم شد بي زبان اندر علل
{فَالَّذِينَ كَفَرُوا} تفصيل لما أجمل في قوله يفصل بينهم يوم القيامة {قُطِّعَتْ لَهُمْ} التقطيع (اره اره كردن) والمراد هنا قدرت على مقادير جثتهم {ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} أي نيران هائلة تحيط بهم إحاطة الثياب بلابسها {يُصَبُّ} (يخته ميشود) صب الماء إراقته من أعلى {مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} أي الماء الحار الذي انتهت حرارته لو قطرت قطرة منه على جبال الدنيا لأذابتها.
قال الراغب : الحميم الماء الشديد الحرارة وسمي العرق حميماً على التشبيه واستحم الفرس عرق وسمي الحمام إما لأنه يعرق وإما لما فيه من الماء الحار والحمى سميت بذلك إما لما فيها من الحرارة المفرطة وإما لما يعرض فيها من الحميم أي العرق وإما لكونها من إمارات الحمام أي : الموت.
جزء : 6 رقم الصفحة : 16
{يُصْهَرُ بِهِ} (كداخته شود) أي يذاب بذلك الحميم من فرط الحرارة يقال صهرت الشيء فانصهر أي أذبته فذاب فهو صهير والصهر إذابة الشيء والصهارة ما ذاب منه.
{مَا فِى بُطُونِهِمْ} من الأمعاء والأحشاء.
{وَالْجُلُودُ} تشوى جلودهم فتتساقط عطف على ما وتأخيره عنه لمراعاة الفواصل أي إذا صب الحميم على رؤوسهم يؤثر من فرط حرارته في باطنهم نحو تأثيره في ظاهرهم فيذاب به أحشاؤهم كما يذاب به جلودهم ثم يعاد كما كان.
{وَلَهُم} للكفرة أي لتعذيبهم وجلدهم {مَّقَـامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} (كرزها باشد دردست زبانية ازآهن) جمع مقمعة وهي آلة القمع.
قال في "بحر العلوم" : سياط منه يجلدون بها وحقيقتها ما يقمع به أي يكف بعنف وفي الحديث (لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها منها) أي رفعوها {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا} أي أشرفوا على الخروج من النار ودنوا منه حسبما يروى أنها تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا
18
في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً وهو من ذكر البعض وإرادة الكل إذ الخريف آخر الفصول الأربعة.
{مِنْ غَمٍّ} أي : غم شديد من غمومها يصيبهم وهو بدل اشتمال من الهاء.
{أُعِيدُوا فِيهَا} أي في قعرها بأن ردوا من أعلاها إلى أسفلها من غير أن يخرجوا منها.
قال الكاشفي : (بازكردانيده شوندبدان كرزها دردوزخ يعني ون بكنازة دوزخ وسيده بخروج نزديك شوندزبانيه كرزبرسر ايشان ميزند وبازمي كرداند لدركات).
قيل لهم : {ذُوقُوا} (بشيد) {عَذَابَ الْحَرِيقِ} (عذاب آتش سوزنده) أو العذاب المحرق كما سبق والعدول إلى صيغة الفعيل للمبالغة.
قال في "التأويلات النجمية" : {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} من أرباب النفس بانقطاعهم عن الله ودينه وباتباعهم الهوى وطلب الشهوات الدنيوية ومن أصحاب الروح بإعراضهم عن الله ورد دعوة الأنبياء.
{قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} بتقطيع خياط القضاء على قدّ هم وهي ثياب نسجت من سدى مخالفات الشرع ولحمة موافقات الطبع.
{يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} حميم الشهوات النفسانية يذاب ويخرج ما في قلوبهم من الأخلاق الحميدة الروحانية.
{وَلَهُم مَّقَـامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} أي الأخلاق الذميمة واستيلاء الحرص والأمل وقيل لهم ذوقوا عذاب ما أحرقت منكم نار الشهوات من الاستعدادات الحسنة انتهى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 18
إن قيل : نار جهنم خير أم شر.
قلنا : ليست هي بخير ولا بشر ، بل عذاب وحكمة.
(6/12)
وقيل : خير من وجه كنار نمرود شر في أعينهم وبرد وسلام على إبراهيم وكالسوط في يد الحاكم خير للطاغي وشر للمطيع فالنار خير ورحمة على مالك وجنوده وشر على من دخل فيها من الكفار.
وأيضاً خير لعصاة المؤمنين حيث تخلص جواهر نفوسهم من ألواث المعاصي وشر لغيرهم كالطاعون رحمة للمؤمنين ورجز للكافرين والوجود خير محض عند العارفين والعدم شر محض عند المحققين لأن الوجود أثر صنع الحكيم كما قال : {مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا سُبْحَـانَكَ} (آل عمران : 191) فالشرور بالنسبة إلى الأعيان الكونية لا بالنسبة إلى أفعال الله ولله في ملكه أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فالنار مظهر الجلال فمن جهة مظهريتها خير محض ، ومن جهة تعلقها ببعض الأعيان شر محض وقد خلق الله النار ليعلم الخلق قدر جلال الله وكبريائه ويكونوا على هيبة وخوف منه ويؤدب بها من لم يتأدب بتأديب الرسل ولهذا الشر علق النبي صلى الله عليه وسلّم السوط حيث يراه أهل البيت لئلا يتركوا الأدب.
وروي : أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام : ما خلقت النار بخلاً مني ولكن اكره أن أجمع أعدائي وأوليائي في دار واحدة.
وقيل : خلق النار لغلبة الشفقة كرجل يضيف الناس ويقول من جاء إلى ضيافتي أكرمته ومن لم يجىء ليس عليه شيء ويقول مضيف آخر : من جاء إليّ أكرمته ومن لم يجىء ضربته وحبسته ليتبين غاية كرمه وهو أكمل وأتم من الكرم الأول والله تعالى دعا الخلق إلى دعوته بقوله : {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَـامِ} ثم دفع السيف إلى رسوله فقال : من لم يحب ضيافتي فاقتله فعلى العاقل أن يجيب إلى دعوة الله ويمتثل لأمره حتى يأمن من قهره ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
هنوزت اجل دست هوشت نبست
بر آور بدركاه داور دودست
تويش از عقوبت درعفو كوب
كه سودى ندارد فغان زيروب
19
نان شرم دار از خداوند خويش
كه شرمت زهمسايكانست وخويش
بترس ازكناهان خويش اين نفس
كه روز قيامت نترسي زكس
بران خورد سعدي كه بيخي نشاند
كسي برد خرمن كه تخمي فشاند
جزء : 6 رقم الصفحة : 18
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} (وكردند عملهاي شايسته) {جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} الأربعة {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} من حليت المرأة إذا ألبست الحلي وهو ما يتحلى به من ذهب أو فضة ، أي تحليهم الملائكة بأمره وتزينهم.
بالفارسية (آراسته كردانند ويرايه بندند ايشانرا دربهشت) {مِنْ أَسَاوِرَ} أي بعض أساور وهي جمع أسورة جمع سوار.
بالفارسية (دستوانه).
{مِن ذَهَبٍ} بيان للأساور.
{وَلُؤْلُؤًا} عطف على محل من أساور وقرىء بالجر عطفاً على ذهب على أن الأساور مرصعة بالذهب واللؤلؤ أو على أنهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة وإما على الجمع كما تجمع نساء الدنيا بين أنواع الحلي ، وما أحسن المعصم إذا كان فيه سواران سوار من ذهب أحمر قان وسوار من لؤلؤ أبيض يقق وقيل : عطف على أساور لا على ذهب لأن السوار لا يكون من اللؤلؤ في العادة وهو غلط لما فيه من قياس عالم الملك بعالم الملكوت وهو خطأ لقوله : "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" وينصره قول سعيد بن جبير يحلى كل واحد منهم ثلاثة أساور واحد من ذهب وواحد من فضة وواحد من اللؤلؤ واليواقيت.
قال ابن الشيخ وظاهر أن السوار قد تتخذ من اللؤلؤ وحده بنظم بعضه إلى بعض غاية ما في الباب أن لا يكون معهوداً في الزمان الأول أي فيكون تشويقاً لهم بما لم يعرفوه في الدنيا {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} يعني أنهم يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم وهو الذي حرم لبسه في الدنيا على الرجال على ما روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" فإن دخل الجنة لبس أهل الجنة ولم يلبسه هو ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله : لا يحل لرجل أن يلبس حريراً إلا قدر أربع أصابع لما روي أنه عليه السلام لبس جبة مكفوفة بالحرير ولم يفرق بين حالة الحرب وغيره وقال أبو يوسف ومحمد : يحل في الحرب ضرورة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 20
قلنا الضرورة تندفع بما لحمته إبريسم وسداه غيره وعكسه في الحرب فقط كما في "بحر العلوم".
قال الإمام الدميري في "حياة الحيوان" : ويجوز لبس الثوب الحرير لدفع القمل لأنه لا يقمل بالخاصية والأصح ان الرخصة لا تختص بالسفر كما في "أنوار المشارق".
(6/13)
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} (راه نموده شده اند مؤمنان به اكيزه ازقول يعني بسخنهاي اك راه نمايند ايشانرا درآخرت وآن نان باشدكه ون نظرايشان بربهشت افتدكويند "الحمدالذي هدانا لهذا" وون ببهشت درآيندبرزبان رانندكه "الحمد الذي أذهب عنا الحزن" وون درمنارل خود قرار كيرند كويند "الحمد الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض" الآية وأكثر مفسران برانندكه ايشان راه يافته اند يقول طيب دردنياكه كلمة طيبة "لا إله إلا الله ومحمد رسول الله" است) كما قال في "التأويلات النجمية" هو الإخلاص في قول لا إله إلا الله والعمل به.
وقال في "حقائق البقلي" : هو الذكر أو الأمر بالمعروف أو نصيحة المسلمين أو دعاء المؤمنين وارشاد السالكين.
قال الكاشفي : (حضرت الهي دركشف
20
الاسرار فرموده كه كلام اكيزه آنست كه ازدعوى اك باشد وازعجب دوروبنياز نزديك.
سهل تستري رحمه الله فرموده كه ، رين كلام نظر كردم هي راه بحق نزديكتر ازنياز نديدم وهي عجائب صعبتر ازدعوى نيافتم.
ايمن آبادست اين راه نياز
ترك نازش كيروبا ابن ره بساز
روبترك دعوى دعوت بكو
راه حق ازكبرو از نخوت مجو
{وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة آخر بيان الهداية لرعاية الفواصل.
وقال الكاشفي (وراه يافته شده اند أهل إيمان براه خداوند ستوده كه دين اسلامست) أي فيكون المعنى دين الله المحمود في أفعاله.
وفي "التأويلات النجمية" : هو الطريق إلى الله فإن الحميد هو الله تعالى.
واعلم أن علامة الاهتداء إلى الطريق القويم السلوك بقدم العمل الصالح وهو ما كان خالصاً الله تعالى ومجرد الإيمان وإن كان يمنع المؤمن من الخلود في النار ويدخله الجنة لكن العمل يزيد نور الإيمان وبه يتنور قلب المؤمن.
جزء : 6 رقم الصفحة : 20
قال موسى عليه السلام يا رب أي عبادك أعجز؟ قال : الذي يطلب الجنة بلا عمل والرزق بلا دعاء قال : وأي عبادك أبخل؟ قال : الذي سأله سائل وهو يقدر على إطعامه ولم يطعمه وكان رجل بيثرب جمع قوماً من ندمائه ودفع إلى غلام له أربعة دراهم وأمره أن يشتري شيئاً من الفواكه للمجلس فمر الغلام بباب مسجد منصور بن عمار وهو يسأل لفقير شيئاً ويقول من دفع إليه أربعة دراهم دعوت له أربع دعوات فدفع الغلام الدراهم فقال منصور ما الذي تريد أن أدعو لك فقال : لي سيد اريد أن اتخلص منه فدعاه منصور ثم قال : والآخر ، أن يخلف الله عليّ دراهمي فدعاه ثم قال : والآخر ، فقال : أن يتوب الله على سيدي فدعاه ثم قال : والآخر ، فقال : أن يغفر الله لي ولسيدي ولك وللقوم فدعاه منصوراً فرجع الغلام إلى سيده فقال لم أبطأت فقص عليه القصة فقال وبم دعا فقال : سألت لنفسي العتق فقال : اذهب فأنت حر ثم قال : وأي شيء الثاني فقال : أن يخلف الله عليّ الدراهم فقال : لك أربعة آلاف درهم ثم قال : وأي سيء الثالث فقال : أن يتوب الله عليك فقال : تبت إلى الله ثم قال وأي شيء الرابع فقال : أن يغفر الله لي ولك وللمذكور وللقوم فقال هذا الواحد ليس إليّ فلما بات رأى في المنام كأن قائلاً يقول له أنت فعلت ما كان إليك أترى أني لا أفعل ما إليّ فقد غفرت لك وللغلام ولمنصور وللقوم الحاضرين ففي الحكاية فوائد لا تخفى نسأل الله المغفرة والعاقبة المحمودة.
توا كر درسلطان عشق شوواياز
كه هست عاقبت كار عاشقان محمود
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي يمنعون الناس عن طاعة الله والدخول في دينه والمراد بصيغة المضارع الاستمرار لا الحال والاستقبال كأنه قيل : إن الذين كفروا ومن شأنهم الصد عن سبيل الله ومثله قوله تعالى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَـاـاِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ} (الرعد : 28) {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} عطف على سبيل الله والمراد به مكة أو يمنعون المؤمنين عن طواف المسجد الحرام أي المحترم من كل وجه فلا يصاد صيده ولا يقطع شوكه ولا يسفك فيه الدماء.
قال الكاشفي : (بقول اشهر روز حديبيه است كه حضرت يغمبر عليه السلام وأصحاب بورا ازطواف خانه ومسجد بازداشتتد) {الَّذِى جَعَلْنَـاهُ} صيرناه كونه معبداً
21
{لِلنَّاسِ} كائناً من كان من غير فرق بين مكي وآفاقي {سَوَآءً الْعَـاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} مفعول ثان لجعلنا والعاكف مرتفع به على الفاعلية يقال : للمقيم بالبادية : باد والبادية كل مكان يبدو ما يعنّ فيه وبالعكس في شيء من ساعات الليل والنهار.
وبالفارسية (يكسانست مقيم درو وآينده يعني غريب وشهري درقضاي مناسك وإدراي مراسم تعظيم خانه مساوىء اند).
جزء : 6 رقم الصفحة : 20
(6/14)
وفائدة وصف المسجد الحرام بذلك زيادة تشنيع الصادين عنه وخبر إنّ محذوف أي معذبون كما يدل عليه آخر الآية {وَمِنَ} (وهركه) {يُرَدُّ} مراداً ما {فِيهِ} (درحرم) {بِإِلْحَادا بِظُلْمٍ} حالان مترادفان أي حال كونه مائلاً عن القصد ظالماً وحقيقته ملتبساً بظلم فالباء للملابسة والإلحاد الميل.
قال الراغب : ألحد فلان مال عن الحق والإلحاد ضربان إلحاد إلى الشرك بالله وإلحاد إلى الشرك بالأسباب فالأول ينافي الإيمان ويبطله والثاني يوهن عراه ولا يبطله ومن هذا النحو الآية {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} جواب من يعني يجب على من كان فيه أن يعدل في جميع ما يريده والمراد بالإلحاد والظلم صيد حمامه وقطع شجره ودخوله غير محرم وجميع المعاصي حتى قيل : شتم الخادم لأن السيئات تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات : يعني (ون مكة محترمة مخصوصيت بتضاعف حسنات ونمازي درو باندين نماز در غير او برابراست س جزاي مساوي نيزدروكلي ترست ازسائر مواضع).
ولحرمة المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى قال الفقهاء : لو نذر أن يصلي في أحد هذه الثلاثة تعين بخلاف سائر المساجد فإن من نذر أن يصلي في أحدها له أن يصلي في آخر.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر اعلم أن الله تعالى قد عفا عن جميع الخواطر التي لا تستقر عندنا إلا بمكة لأن الشرع قد ورد أن الله يؤاخذ فيه من يريد فيه بإلحاد وبظلم وهذا كان سبب سكنى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالطائف احتياطاً لنفيه لأنه ليس في قدرة الإنسان أن يدفع عن قلبه الخواطر انتهى.
وفي الآية إشارات منه : أن من حال النفوس المتمردة والأرواح المرتدة مع إنكارهم وإعراضهم عن الحق يصدون الطالبين عن طريق الله بالإنكار والاعتراضات الفاسدة على المشايخ ويقطعون الطريق على أهل الطلب ليردوهم عن طلب الحق وعن دخول مسجد حرم القلب فإنه حرم الله تعالى ، قال الحافظ :
در راه عشق وسوسة اهرمن بسيست
هش دارو كوش دل به يام سروش كن
وفي "المثنوي" :
س عدو جان صرافست قلب
دشمن درويش كه بود غير كلب
مغزراً خالي كن از انكار يار
تاكه ريحان يابد ازكلزار يار
ومنها : أنه يستوي في الوصول إلى مقام القلب الذي سبق إليه بمدة طويلة والذي يصل إليه في الحال ليس لأحد فضل على الآخر إلا بالسبق إلى مقامات القلب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 20
قال في "الحقائق" : المقيم بقلبه هناك من أول عمره إلى آخره والطارىء لحظة من المكاشفين والمشاهدين ينكشف له ما انكشف للمقيمين لأنه وهاب كريم يعطي للنائب من المعاصي ما يعطي المطيع المقيم في طاعته طول عمره.
قال الحافظ :
22
فيض روح القدس ار باز مدد فرمايد
دكران هم بكنند رنجه مسيحا ميكرد
وقد قال بعضهم أمسيت كردياً وأصبحت عربياً.
ومنها : أن من أراد في القلب ميلاناً إلى غير الحق يذيقه الله عذاب أليم البعد والقطيعة عن الحضرة فالقلب معدن محبة الله ووضع محبة غيره فيه ظلم.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
دلم خانة مهرياريت وس
ازان مي نكنجد دروكين كس
قال الخجندي :
بادوست كزين كمال يا جان
يك خانه دوميهمان نكنجد
فلا يسع القلب غير محبة الله تعالى وعشقه وتوجهه.
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لابْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} يقال : بوأه منزلاً أي أنزله فيه.
والمعنى اذكر وقت جعلنا مكان البيت ، أي الكعبة مباءة له عليه السلام أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة.
وفي "الجلالين" : بينا له أن يبني.
روي أن الكعبة الكريمة بنيت خمس مرات.
إحداها : بناء الملائكة إياها قبل آدم وكانت من ياقوتة حمراء ثم رفعت الى السماء أيام الطوفان.
والثانية : بناء إبراهيم روي أن الله تعالى لما أمر إبراهيم ببناء البيت لم يدر أين يبني فأعلمه الله مكانه بريح أرسلها يقال لها الخجوج كنست ما حوله فبناه على القديم.
وقال الكلبي بعث الله سحابة على قدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم بن علي قدري فبنى عليه.
والمرة الثالثة : بناء قريش في الجاهلية وقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذا البناء وكان يومئذٍ رجلاً شاباً فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فأراد كل قبيلة أن تتولى رفعه ثم توافقوا على أن يحكم بينهم أول رجل يخرج من هذه السكة فكان عليه السلام أول من خرج فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط ثم يرفعه جميع القبائل كلهم فرفعوه ثم ارتقى هو عليه السلام فرفعوه إليه فوضعه في مكانه وكانوا يدعونه الأمين قيل : كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة.
والمرة الرابعة : بناء عبد الله بن الزبير رضي الله عنه.
(6/15)
والخامسة : بناء الحجاج وهو البناء الموجود اليوم وكان البيت في الوضع القديم مثلث الشكل إشارة إلى قلوب الأنبياء عليهم السلام إذ ليس لنبي إلا خاطر إلهي وملكي ونفسي ثم كان في الوضع الحادث على أربعة أركان إشارة إلى قلوب المؤمنين بزيادة الخاطر الشيطاني ـ ـ ذكر المحدث الكازورني في "مناسكه" ـ ـ أن هذا البيت خامس خمسة عشر سبعة منها في السماء إلى العرش وسبعة منها إلى تخوم الأرض السفلى لكل بيت منها حرم هذا البيت لو سقط منها بيت لسقط بعضها على بعض إلى تخوم الأرض السابعة ولكل بيت من أهل السماء والأرض من يعمره كما يعمر هذا البيت وأفضل الكل الكعبة المكرمة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 20
روبحرم نه كه دران خوش حريم
هست سيه يوش نكاري مقيم
صحن حرم روضة خلد برين
أوبنان صحن مربع نشين
قبلة خوبان عرب روى أو
سجدة شوخان عجم سوى أو
كعبة بودنو كل مشكين من
تازه ازو باغ دل ودين من
23
{أَن لا تُشْرِكْ بِى شَيْـاًا} مفسرة لبوأنا من حيث أنه متضمن لمعنى تعبدنا إذ التبوئة لا تقصد إلا من أجل العبادة فكأنه قيل : وإذ تعبدنا إبراهيم قلنا له لا تشرك بي شيئاً (آنكه شرك ميار وانباز مكير بمن يزي راكه من ازشرك منزه ومقدسم) {وَطَهِّرْ بَيْتِىَ} من الأوثان والأقذار أن تطرح حوله أضافه إلى نفسه لأنه منور بأنوار آياته {لِلطَّآاـاِفِينَ} لمن يطوف به.
{وَالْقَآاـاِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} جمع راكع وساجد أي ويصلي فيه ولعل التعبير عن الصلاة بأركانها وهي القيام والركوع والسجود للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك فكيف وقد اجتمعت.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالقائمين المقيمون بالبيت فيكون المراد بالطائفين من يطوف به وآفاقي غير مقيم هناك.
قال الكاشفي : (اين بزبان أهل علمست وأما بلسان إشارات ميفر ما يدكه دل خودراكه دار الملك كبرياي منست ازهمه يزاك كن وغيري را بروراه مده كه أو يمانة اشراب محيت ماست "القلوب أواني الله في الأرض فأحب أواني إليّ أصفاها" وحي آمد بداود عليه السلام كه براي من خانة اك سازكه نظر عظمت من بوي فرود آيد داود عليه السلام كفت "وأي بيت يسعك" كدام خانه است كه عظمت وجلال تراشايد فرمودكه آن دل بندة مؤمن است داود عليه السلام فرمودكه اوراه كونه اك دارم كفت آتش عشق دروي زن تاهره غير ماست همه رابسوزد).
خوش آن آتش كه دردل برفروزد
بجز حق هره يش آيد بسوزد
قال سهل رحمه الله كما يطهر البيت من الأصنام والأوثان يطهر القلب من الشرك والريب والغل والغش والقسوة والحسد.
قال الشيخ المغربي رحمه الله :
كل توحسيد نرويد ززميني كه درو
خار شرك وحسد وكبر وريا وكينست
مسكن دوست زجان ميطلبيدم كفتا
مسكن دوست اكرهست دل مسكين است
وفي "التأويلات النجمية" : كن حارساً للقلب لئلا يسكن فيه غيري وفرغ القلب من الأشياء سواي ويقال : {وَطَهِّرْ بَيْتِىَ} أي بإخراج كل نصيب لك في الدنيا والآخرة من تطلع إكرام وتطلب إنعام أو إرادة مقام ويقال : طهر قلبك.
{لِلطَّآاـاِفِينَ} فيه من واردات الحق وموارد الأحوال على ما يختاره الحق {وَالْقَآاـاِمِينَ} وهي الأشياء المقيمة من مستوطنات العرفان والأمور المغنية عن البرهان وتطلعه بما هي حقيقة البيان {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وهي أركان الأحوال المتوالية من الرغبة والرهبة والرجاء والمخافة والقبض والبسط والأنس والهيبة وفي معناها أنشدوا :
جزء : 6 رقم الصفحة : 20
لست من جملة المحبين إن لم
أجعل القلب بيته والمقاما
وطوافي إجالة السر فيه
وهوركني اذا أردت استلاما
جزء : 6 رقم الصفحة : 20
{وَأَذِّن فِى النَّاسِ} التأذين النداء إلى الصلاة كما في القاموس والمؤذن كل من يعلم بشيء نداء كما في "المفردات" والمعنى ناد فيهم يا إبراهيم {بِالْحَجِّ} بدعوة الحج والأمر به.
وبالفارسية (وندا درده أي إبراهيم درميان مردمان وبخوان ايشانرا خانة خداي).
روي أن إبراهيم عليه السلام "لما فرغ من بناء البيت قال الله تعالى له أذن في الناس بالحج قال : يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال تعالى : عليك الأذان وعليّ البلاغ فصعد إبراهيم الصفا وفي رواية أبا قبيس ،
24
وفي أخرى على المقام فارتفع المقام حتى صار كطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً وقال : أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتاً وكتب عليكم الحج إلى بيت العتيق فأجيبوا ربكم وحجوا بيته الحرام ليثيبكم به الجنة ويجيركم من النار فسمعه أهل ما بين السماء والأرض فما بقي شيء سمع صوته إلا أقبل يقول لبيك اللهم لبيك فأول من أجاب أهل اليمن فهم أكثر الناس حجاً" ومن ثمة جاء في الحديث : "الإيمان يمان" ويكفى شرفاً لليمن ظهور أويس القرني منه وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : "أني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن".
(6/16)
قال مجاهد : من أجاب مرة حج مرة ومن أجاب مرتين أو أكثر يحج مرتين أو أكثر بذلك المقدار.
قال في "أسئلة الحكم" : فأجابوه من ظهور وبطون الأمهات في عالم الأرواح.
أذن في الناس نداييست عام
توكه بخواب آمده بين الآنام
دعوى خاصي كنى وامتياز
خاص نباشد همه كس جون إياز
بهر همين شد دل خاصان دونيم
حالت لبيك زاميد وبيم
وفي "الخصائص الصغرى" : وافترض على هذه الأمة ما افترض على الأنبياء والرسل وهو الوضوء والغسل من الجنابة والحج والجهاد وما يوجب في حق نبي وجب في حق أمته إلا أن يقوم الدليل الصحيح على الخصوصية {يَأْتُوكَ} جواب للأمر والخطاب لإبراهيم فإن من أتى الكعبة فكأنه قد أتى إبراهيم لأنه مجيب نداءه {رِجَالا} حال ، أي مشاة على أرجلهم جمع راجل كقيام جمع قائم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 24
قال الراغب : اشتق من الرجل رجل وراجل للماشي بالرجل {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} عطف على رجالاً أي وركباناً على كل بعير ضامر أي مهزول أتعبه بعد السفر فهزل.
قال الراغب : الضامر من الفرس الخفيف اللحم من الأصل لا من الهزال {يَأْتِينَ} صفة لضامر لأن المعنى على ضوامر من جماعة الإبل.
{مِن كُلِّ فَجٍّ} طريق واسع.
قال الراغب : الفج طريق يكتنفها جبلان.
{عَمِيقٍ} بعيد واصل العمق البعد سفلاً يقال : بئر عميق إذا كانت بعيدة القعر.
روي : عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حجة وللحاج الماشي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم" قال : قيل ، وما حسنات الحرم قال : "الحسنة بمائة ألف".
قال مجاهد : حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين وكانا إذا قربا من الحرم خلعا نعالهما هذا إذا لم يتغير خلقه بالمشي وإلا فالركوب أفضل ولما انفرد الرهبانيون في الملل السالفة بالسياحة والسفر إلى البلاد والبواد ، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال : "أبدل الله بها الحج" فأنعم بالحج على أمته بأن جعل الحج وسفره رهبانية لهم وسياحة ، وفي الخبر : "إن الله ينظر إلى الكعبة كل سنة في نصف شعبان فعند ذلك تحن إليها القلوب" فلا يحن عند التجلي إلا القلب المسارع لإجابة إبراهيم فما حن قلب لتلك الإجابة إلا القلب المسارع لدعوة الحق في قوله : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} .
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : أخبرني بعض العارفين عن رجل من أهل
25
الثروة في الدنيا لم يحدث نفسه بالحج قط فجرى له أمر كان سبباً لأن قيد بالحديد وجيء به إلى الأمير صاحب مكة ليقتله لأمر بلغه عنه والذي وشى به عند الأمير حاضر فاتفق أن كان وصوله يوم عرفة والأمير بعرفة فأحضره بين يديه وهو مغلول العنق بالحديد فاستدعى الأمير الواشي وقال له : هذا صاحبنا فنظر إلى الرجل فقال : لا أيها الأمير فاعتذر إليه الأمير وأزيل عنه الحديد واغتسل وأهلّ بالحج ولبى من عرفة ورجع معفواً مغفوراً بالظاهر والباطن فانظر العناية الإلهية ما تفعل بالعبد فمن الناس من يقاد إلى الجنة بالسلاسل وهو من أسرار الإجابة الإبراهيمية ، وفي "فتوح الحرمين" :
جزء : 6 رقم الصفحة : 24
هركه رسيده بوجود ازعدم
در ره اوساخته أز سرقدم
هي نبي هي هم نبود
كونبرد در ره اميدسود
جمله خلائق زعرب تاعجم
باديه ميا بهواي حرم
{لِّيَشْهَدُوا} متعلق بيأتوك أي ليحضروا {مَنَـافِعُ} كائنة {لَهُم} من المنافع الدينية والدنيوية وهي العفو والمغفرة والتجارة في أيام الحج فتنكيرها لأن المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة لا يوجد في غيرها من العبادات.
وعن أبي حنيفة رحمه الله : أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص.
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} عند إعداد الهدايا والضحايا وذبحها.
قال الكاشفي : (مراد قربانيست كه بنام خداي كنند كفار ينام بت ميكردند) وفي جعله غاية للإتيان إيذان بأنه الغاية القصوى دون غيره.
{فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ} هي أيام النحر كما ينبىء عنه قوله تعالى : {عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنا بَهِيمَةِ الانْعَـامِ} فإن المراد بالذكر ما وقع عند الذبح علق الفعل بالمرزوق وبينه بالبهيمة تحريضاً على التقرب وتنبيهاً على مقتضى الذكر والبهيمة هو اسم لكل ذات أربع في البحر والبر فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز لأن الهدي والذبيحة لا يكونان من غيرها.(6/17)
قال الراغب : البهيمة ما لا نطق له وذلك لما في صوته من الإبهام لكن خص في التعارف بما عدا السباع والطير.
والأنعام جمع نعم وهو مختص بالإبل وتسميته بذلك لكون الإبل عندهم أعظم نعمة لكن الأنعام يقال للإبل والبقر والغنم ولا يقال لها : أنعام حتى يكون في جملتها الإبل.
{فَكُلُوا مِنْهَا} التفات إلى الخطاب والفاء فصيحة عاطفة لمدخولها على مقدر أي فاذكروا اسم الله على ضحاياكم فكلوا من لحومها والأمر للإباحة وكان أهل الجاهلية لا يأكلون من نسائكهم فاعلم الله أن ذلك جائز إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل ، {وَأَطْعِمُوا الْبَآاـاِسَ} هذا الأمر للوجوب والبائس الذي أصابه بؤس وشدة وبالفارسية : (در مانده ومحنت كشيده) {الْفَقِيرَ} المحتاج.
قال الكاشفي : (محتاج تنكدست را) فالبائس الشديد الفقر والفقير المحتاج الذي أضعفه الإعسار ليس له غنى أو البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه والفقير الذي لا يكون كذلك بأن تكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني.
جزء : 6 رقم الصفحة : 24
وفي "مختصر الكرخي" أوصى بثلث ماله للبائس ، الفقير والمسكين قال : فهو يقسم إلى ثلاثة أجزاء جزء للبائس وهو الذي به الزمانة إذا كان محتاجاً ، والفقير المحتاج الذي لا يطوف
26
بالأبواب والمسكين الذي يسأل ويطوف وعن أبي يوسف إلى جزءين الفقير والمسكين واحد واتفق العلماء على أن الهدي إن كان تطوعاً كان للمهدي أن يأكل منه وكذا أضحية التطوع لما روى أنه عليه السلام ساق في حجة الوداع مائة بدنة فنحر منها ثلاثاً وستين بدنة بنفسه إشارة إلى مدة عمره ونحر علي رضي الله عنه ما بقي ثم أمر عليه السلام أن يؤخذ بضعة من كل بدنة فتجعل في قدر ففعل ذلك فطبخ فأكلا من لحمها وحسيا مرقها وكان هدي تطوع.
واختلفوا في الهدي الواجب هل يجوز للمهدي أن يأكل منه شيئاً مثل دم التمتع والقران والنذور والكفارات والدماء الواقعة جبراً للنقصان والتي وجبت باصياد الحج وفواته وجزاء الصيد فذهب قوم إلى أنه لا يجوز للمهدي أن يأكل شيئاً منها ومنهم الشافعي رحمه الله وذهب الأئمة الحنفية إلى أنه يأكل من دم التمتع والقران لكونهما دم الشكر لا دم الجنابة ولا يأكل من واجب سواها وكذا لا يأكل أولاده وأهله وعبيده وإماؤه وكذا الأغنياء إذ الصدقة الواجبة حق للفقراء.
وفي الآية إشارة إلى أنه يلزم على الأغنياء أن يشاركوا الفقراء في المآكل والمشارب فلا يطعموهم إلا ما يأكلون ولا يجعلواما يكرهون.
قال ابن عطاء : البائس الذي تأنف من مجالسته ومواكلته والفقير من تعلم حاجته إلى طعامك ولم يسأل.
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} عطف على يذكروا أي ليزيلوا وسخهم بخلق الرأس وقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال أي الخروج من الإحرام فالتفث الوسخ يقال : للرجل ما أتفثك وما ادرنك أي وما أوسخك وكل ما يستقذر من الشعث وطول الظفر ونحوهما تفث.
قال الراغب : أصل التفث وسخ الظفر وغير ذلك مما شأنه أن يزال عن البدن والقضاء فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً وكل منها على وجهين إلهي وبشري والآية من قبيل البشرى كما في قوله تعالى : {ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ وَلا تُنظِرُونِ} (يونس : 71) أي افرغوا من أمركم وقول الشاعر :
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها
يحتمل القضاء بالقول والفعل جميعاً كما في "المفردات" {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} يقال : وفى بعهده وأوفى إذا تمم العهد ولم ينقض حفظه كما دل عليه الغدر وهو الترك والنذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب والمراد بالنذور ما نذروه من أعمال البر في أيام الحج فإن الرجل إذا حج واعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدي وغيره ما لولا إيجابه لم يكن الحج يقتضيه وإن كان على الرجل نذور مطلقة فالأفضل أن يتصدق بها على أهل مكة.
{وَلْيَطَّوَّفُوا} طواف الركن الذي به يتم التحلل فإنه قرينة قضاء التفث.
{بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي القديم فإنه أول بيت وضع للناس أو المعتق من تسلط الجبابرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فعصمه الله وأما الحجاج الثقفي فإنما قصد إخراج ابن الزبير رضي الله عنه لا التسلط عليه ولما قصد التسلط عليه إبرهة فعل به ما فعل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 24
اعلم أن طواف الحجاج ثلاثة.
الأول : طواف القدوم وهو أن من قدم مكة يطوف بالبيت سبعاً يرمل ثلاثاً من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه ويمشي أربعاً وهذا الطواف سنة لا شيء بتركه.
والثاني : طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي
27
والحلق ويسمى أيضاً طواف الزيارة وهو ركن لا يحصل التحلل من الإحرام ما لم يأت به.
والثالث : طواف الوداع لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعاً فمن تركه فعليه دم إلا المرأة الحائضة يجوز لها ترك طواف الوداع ثم أن الرمل يختص بطواف القدوم ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع :
اي كه درين كوى قدم مي نهى
روى توجه بحرم مي نهى
اي باندازه درين كوى نه
اي اكر سوذه شود روى نه
(6/18)
رخ زنان طوف كنان برحضور
توشده بروانه واوشمع نور
عادت بروانه ندانى مكر
رخ زند أول وسوزد دكر
قال الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : في "الفتوحات المكية" : لما نسب الله العرش في السماء إلى نفسه وجعله محل استواء للرحمن فقال : {الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه : 5) وجعل الملائكة حافين به بمنزلة الحراس الذين يدورون بدار الملك والملازمين له لتنفيذ أمره كذلك جعل الله بيته في الأرض ونصبه للطائفين به على ذلك الأسلوب وتميز البيت على العرش بأمر جلي وسر إلهي ما هو في العرش وهي يمين الله في الأرض لتبايعه في كل شوط مبايعة رضوان فالحجر يمين الله يبايع به عباده بلا شك ولكن على الوجه الذي يعلمه سبحانه من ذلك فصح النسب بالتقديس ومن هنا يعرف أن ما في الوجود إلا الله سبحانه وتقدس.
كعبه كزو درهمه دلها رءاست
جزوى از اعضاي يمين الله است
قال بعض الكبار : وضع الله بيته في الأرض قبل آدم وذريته وآجال الطائفين حوله ابتلاءً وأمتحاناً ليحتجبوا بالبيت عن صاحب البيت يعني حجبهم بالوسائط عن مشاهدة جماله غيرة على نفسه من أن يرى أحد إليه سبيلاً حكي : أن عارفاً من أولياء الله تعالى قصد الحج وكان له ابن فقال ابنه : إلى أين تقصد فقال : إلى بيت الله فظن الغلام أن من يرى البيت يرى رب البيت فقال : يا أبي لم لا تحملني معك فقال : أنت لا تصلح لذلك فبكى الغلام فحمله معه فلما بلغا إلى الميقات أحرما ولبيا ودخلا الحرم فلما شوهد البيت تحير الغلام عند رؤيته فخر ميتاً فدهش والده وقال أين ولدي وقطعة كبدي فنودي من زاوية البيت ، أنت طلبت البيت فوجدته وهو طلب رب البيت فوجد رب البيت فرقع الغلام من بينهم فهتف هاتف إنه ليس في القبر ، ولا في الأرض ، ولا في الجنة ، بل هو في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وفي "المثنوي".
جزء : 6 رقم الصفحة : 24
خوش بكش اين كارووانرا تاجج
أي أمير الصبر مفتاح الفرج
حج زيارت كردن خانه بود
حج رب البيت مردانه بود
فمن أعرض عن الجهة وتوجه إلى الوجه الأحدي صار الحق قبلة له فيكون هو قبلة الجميع كآدم عليه السلام كان قبلة الملائكة لأنه وسيلة الحق بينه وبين ملائكته لما عليه من كسوة جماله وجلاله كما قال عليه السلام : "خلق الله آدم على صورته" يعني ألقى عليه حسن صفاته ونور مشاهدته.
قال بعض العارفين : لما كانت البيت المحرم سر لباس شمس الذات الأحدية وحد الحق سبحانه القصد إليه فقال : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فجاء بلفظ البيت لما فيه
28
من اشتقاق المبيت والمبيت لا يكون إلا في الليل ، والليل محل التجلي للعباد فإنه فيه نزول الحق كما يليق وهو مظهر الغيب وهو محل التجلي ولباس الشمس كذلك البيت الحرام مظهر حضرة الغيب الإلهي وسر التجلي الوجداني وسر منبع رحمة الرحمانية لأن الحق إذا تجلى لأهل الأرض بصفة الرحمة ينزل الرحمة أولاً على البيت ثم تقسم منه فالبيت سر وحدانية الحق فجعل الحق حجة واحدة لا يتكرر وجوبه ، كتكرر سائر العبادات لأجل مضاهاته بحضرة الأحدية وفضل البيت على سائر البيوت كفضله سبحانه على خلقه والفضل كلهتعالى فأنوار جميع البيوت وفضائلها مقتبسة من نوره كما وردت الإشارة أن الأرض مدت من البيت وهو حقيقة الحقائق الكونية الشهادية فلذلك سميت مكة بأم القرى شرفها الله تعالى وتقدس.
(6/19)
وفي "التأويلات النجمية" : {وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} أي : ونادِ في الناسين من النفس وصفاتها والقالب وجوارحه بزيارة القلب للاتصاف بصفاته والدخول في مقاماته يأتوك مشاة وهي النفس وصفاتها.
{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} وهو القالب وجوارحه يعني يقصدون القلب بالأعمال الشرعية البدنية فإنهم كالركبان لأن الأعمال البدنية مركبة بحركات الجوارح ونيات الضمير كما أن أعمال النفس مفردة لأنها نيات الضمير فحسب.
{يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} وهو سفل الدنيا لأن القالب من الدنيا وأكثر استعماله في مصالح الدنيا بالجوارح والأعضاء فردها إلى استعمالها في مصالح القلب إتيانها من كل فج عميق.
{لِّيَشْهَدُوا مَنَـافِعَ لَهُمْ} أي : ليحضروا وينتفعوا بالمنافع التي هي مستكنة في القلب فأما النفس وصفاتها فمنافعها بتبديل الأخلاق وأما القالب وجوارحه فمنافعهم قبول طاعاتهم وظهور آثارها على سيماهم ويذكروا اسم الله أي القلب والنفس والقالب شكراً على مارزقهم من بهيمة الأنعام بأن جعل الصفات البهيمية الحيوانية مبدلة بالصفات القلبية الروحانية الربانية وبقوله : {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَآاـاِسَ الْفَقِيرَ} يشير إلى أن انتفعوا من هذه المقامات والكرامات وأطعموا بمنافعها الطالب المحتاج والقاصد إلى الله بالخدمة والهداية والإرشاد ثم ليقضوا الطلاب تفثهم وهو ما يجب عليهم من شرائط الإرادة وصدق الطلب.
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} فيما عاهدوا الله على التوجه إليه وصدق الطلب والإرادة.
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي : يطوفوا حول الله بقلبهم وسرهم ولا يطوفوا حول ما سواه وأراد بالعتيق القديم وهو من صفات الله تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 24
{ذَالِكَ} أي الأمر والشأن ذلك الذي ذكر من قوله : {وَإِذْ بَوَّأْنَا} إلى قوله : {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فإن هذه الآية مشتملة على الأحكام المأمور بها والمنهي عنها وهذا وأمثاله يطلق للفصل بين الكلامين أو بين وجهي كلام واحد {وَمِنَ} (وهركه) {يُعَظِّمْ حُرُمَـاتِ اللَّهِ} جمع حرمة وهي ما لا يحل هتكه وهو خرق الستر عما وراءه أي أحكامه وفرائضه وسننه وسائر ما لا يحل هتكه كالكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام بالعلم بوجوب مراعاتها والعمل بموجبه {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} أي : فالتعظيم خير له ثواباً عند ربه أي في الآخرة.
قال ابن الشيخ : عند ربه يدل على الثواب المدخر لأنه بطاعة ربه فيما حصل من الخيرات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 29
وفي الآية إشارة إلى أن تعظيم حرمات الله هو تعظيم في ترك ما حرمه الله عليه وتعظيم ترك ما أمره الله به يقال بالطاعة
29
يصل العبد إلى الجنة وبالحرمة يصل إلى الله ولهذا قال : {فَهُوَ خَيْرٌ لَّه عِندَ رَبِّهِ} يعني : تعظيم الحرمة خير للعبد في التقرب إلى الله من تقربه بالطاعة ويقال : ترك الخدمة يوجب العقوبة وترك الحرمة يوجب الفرقة ويقال : كل شيء من المخالفات فللعفو فيه مساغ وللأمل فيه طريق وترك الحرمة على خطر أن لا يغفر ذلك بأن يؤدي شؤمه لصاحبه إلى أن يختل دينه وتوحيده.
{وَأُحِلَّتْ} جعلت حلالاً وهو من حل العقدة.
{لَكُمُ} لمنافعكم {الانْعَـامُ} وهي الأزواج الثمانية على الإطلاق من الضأن اثنين أي الذكر والأنثى ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين فالخيل والبغال والحمير خارجة من الأنعام.
{إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} آية تحريمه كما قال في سورة المائدة {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} الآية (المائدة : 3) وهو استثناء متصل بناء على أن ما عبارة عما حرم منها لعارض كالميتة وما أهل به لغير الله والجملة اعتراض جيء به تقريراً لما قبله من الأمر بالأكل والإطعام ، ودفعاً لما عسى يتوهم أن الإحرام يحرمها كما يحرم الصيد والمعنى أن الله تعالى ، قد أحل لكم أن تأكلوا الأنعام كلها إلا ما استثناه كتابه فحافظوا على حدوده ، وإياكم أن تحرموا مما أحل الله شيئاً ، كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة ونحوهما وأن تحلوا مما حرم حلالهم شيئاً ، كأكل الموقوذة والميتة ونحوهما.
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاوْثَـانِ} أي : الرجس الذي هو الأوثان يعني عبادتها كما يجتنب الأنجاس والرجس الشيء القذر يقال : رجل رجس ورجال أرجاس والرجس يكون على أربعة أوجه إما من حيث الطبع وإما من جهة العقل وإما من جهة الشريعة وإما من كل ذلك كالميتة فإنها تعاف طبعاً وعقلاً وشرعاً والرجس من جهة الشرع الخمر والميسر والأوثان وهي جمع وثن وهو حجارة كانت تعبد كما في "المفردات".
وقال بعضهم : الفرق بينه وبين الصنم أن الصنم هو الذي يؤلف من شجر أو ذهب أو فضة في صورة الإنسان والوثن هو الذي ليس كذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 29(6/20)
قال في "الإرشاد" وقوله : {فَاجْتَنِبُوا} إلخ مرتب على ما يفيده قوله تعالى : {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَـاتِ اللَّهِ} من وجوب مراعاتها والاجتناب عن هتكها ولما كان بيان حل أنعام من دواعي التعاطي لا من مبادىء الاجتناب عقبه بما يجب الاجتناب عنه من الحرمات ، ثم أمر بالاجتناب عما هو أقصى الحرمات كأنه قيل ومن يعظم حرمات الله فهو خير له والأنعام ليست من الحرمات فإنها محللة لكم إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه فإنه مما يجب الاجتناب عنه فاجتنبوا ما هو معظم الأمور التي يجب الاجتناب عنها.
{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور والمشرك يزعم أن الوثن يحق له العبادة كأنه قيل فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله ولا تقربوا شيئاً منه وكأنه لما حث على تعظيم الحرمات اتبع ذلك رداً لما كانت الكفرة عليه من تحريم السوائب والبحائر ونحوهما والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك.
وبالفارسية : (واجتناب كنيد ازسخن دروغ مطلقاً) وقيل : المراد به شهادة الزور لما روى أنه عليه السلام قال : "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاثاً" وتلا هذه الآية وكان عمر رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ويسود وجهه بالفحم ويطوف به في الأسواق والزور من الزور وهو الانحراف كالإفك المأخوذ من الإفك الذي هو القلب
30
والصرف فإن الكذب منحرف مصروف عن الواقع.
وفي "التأويلات النجمية" : قول الزور كل قول باللسان مما لا يساعده قول القلب ومن عاهد الله بقلبه في صدق الطلب ثم لا يفي بذلك فهو من جملة قول الزور.
طريق صدق بياموز ازآب صافي دل
براستي طلب ازادكي جو سرومن
وفاكنيم وملامت كشيم وخوش باشيم
كه در طريقت ما كافريست رنجيدم
{حُنَفَآءَ} حال من واو فاجتنبوا أي حال كونكم مائلين عن كل دين زائغ إلى الدين الحق مخلصين له والحنف هو الميل عن الضلال إلى الاستقامة والحنيف هو المائل إلى ذلك وتحنف فلان أي تحرى طريق الاستقامة.
{غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} أي : شيئاً من الأشياء فيدخل في ذلك الأوثان دخولاً أولياً وهو حال أخرى من الواو.
{وَمِنَ} (هركه) {يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ} .
جزء : 6 رقم الصفحة : 29
قال الراغب : معنى (خر) سقط سقوطاً يسمع منه خرير وهو صوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علوٍ.
{فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} الخطف الاختلاس بالسرعة وصبغة المضارع لتصوير هذه الحالة الهائلة التي اجترأ عليها المشرك للسامعين.
قال الكاشفي : (وهركه شرك آرد بخداي تعالى س همنا نست كه كوييا درافتاد ازآسمان برروى زمين وهلاك شد س مي ربايند اورا مرغان مردار خوار ازرزى زمين واجزا واعضاي اورا متفرق ومتمزق ميسازند).
{أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ} أي : تسقطه وتقذفه يقال : هوى يهوي من باب ضرب هوياً سقط من علو إلى سفل وأما هوى يهوى من باب علم هوى فمعناه أحب.
{فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي : بعيد فإن السحق البعد وليس إسحاق العلم منه فإنه عبراني معناه الضحاك واو للتخيير كما في قوله : {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ} (البقرة : 19).
قال الكاشفي : (يابزير افكند اورا باد ازموضعي مرتفع درجانبي دوراز فرياد رس ودستكير اين كلمات ازتشبيهات مركبه است يعني هركه أزاوج إيمان بحضيض كفر افتد هواي نفس اورابريشان سازد ياباد وسوسة شيطان اورا در وادي ضلالت افكند ونابود شود ملخص سخن آنكه هلاك مشركانست) فالهلاك في الشرك كما أن النجاة في الإيمان.
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه عليه السلام قال له : "هل تدري ما حق الله" قال : قلت : الله ورسوله أعلم قال : "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً يا معاذ هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك" قلت : الله ورسوله أعلم قال : "أن لا يعذبهم" فلا بد من تخصيص العبادة بالله والتخليص من شوب الشرك ليكون العبد على الملة الحنيفية وهي واحدة من لدن آدم إلى يومنا هذا وهي ملازمة التوحيد واليقين.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي الأعمال أفضل قال : "الإيمان بالله ورسوله" قيل ثم ماذا قال : "الجهاد في سبيل الله" قيل ثم ماذا قال : "حج مبرور" ، وفي الحديث : "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا : يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال : "الرياء".
مُرائي هركسي معبود سازد
مُرائي را ازان كفتند مشرك
قال الحافظ :
كوييا باورونمي دارند داوري
كين همه قلب ودغل دركار داورميكنند
31
فالشرك أقبح الرذائل كما أن التوحيد أحسن الحسنات وفي الحديث : "إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة فإنها بعشرة أمثالها" فقال المخاطب : يا رسول الله قول لا إله إلا الله من الحسنات قال : "أحسن الحسنات".
جزء : 6 رقم الصفحة : 29
(6/21)
{ذَالِكَ} أي : الأمر والشأن ذلك الذي ذكر من أن تعظيم حرمات الله خير وأن الاجتناب عن الإشراك وقول الزور أمر لازم أو امتثلوا ذلك.
{وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أي الهدايا فإنها من معالم الحج وشعائره كما ينبىء عنه قوله تعالى : {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَـاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} (الحج : 36) وهو الأوفق لما بعده.
والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة من الأشعار وهو الأعلام والشعور العلم وسميت البدنة شعيرة من حيث أنها تشعر بأن تطعن في سنامها من الجانب الأيمن والأيسر حتى يسيل الدم فيعلم أنها هدي فلا يتعرض لها فهي من جملة معالم الحج بل من أظهرها وأشهرها علامة وتعظيمها اعتقاد أن التقرب بها من أجل القربات وأن يختارها حساناً سمانا غالية الأثمان روي : أنه عليه السلام أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب وأن عمر أهدى نجيبة أي ناقة كريمة طلبت منه بثلاثمائة دينار.
هركسي ازهمت والأي خويش
سود بردارد خوركالاي خويش
قال الجنيد : من تعظيم شعائر الله التوكل والتفويض والتسليم فإنها من شعائر الحق في أسرار أوليائه فإذا عظمه وعظم حرمته زين الله ظاهره بفنون الآداب.
{فَإِنَّهَا} أي : فإن تعظيمها ناشىء {مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} وتخصيصها بالإضافة لأنها مركز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء.
{لَكُمْ فِيهَا} أي : في الهدايا المشعرة ليعرف أنها هدي.
{مَنَـافِعُ} هي درها ونسلها وصوفها وظهرها فإن للمهدي أن ينتفع بهديه إلى وقت النحر إذا احتاج إليه {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو وقت نحرها والتصدق بلحمها والأكل منه.
{ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} المحل اسم زمان بتقدير المضاف من حل الدين إذا وجب أداؤه معطوف على قوله منافع وإلى البيت حال من ضمير فيها والعامل في الحال الاستقرار الذي تعلق به كلمة في.
والمعنى ثم بعد تلك المنافع هذه المنفعة العظمى وهي وقت حلول نحرها ووجوبه حال كونها متهيئة إلى البيت العتيق أي إلى الحرم الذي هو في حكم البيت فإن المراد به الحرم كله كما في قوله تعالى : {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا} (التوبة : 28) أي : الحرم كله فإن البيت وما حوله نزهت عن إراقة دماء الهدايا وجعل مني منحراً ولا شك أن الفائدة التي هي أعظم المنافع الدينية في الشعائر هي نحرها خالصةتعالى وجعل وقت وجوب نحرها فائدة عظيمة مبالغة في ذلك فإن وقت الفعل إذا كان فائدة جليلة فما ظنك بنفس الفعل والعتيق المتقدم في الزمان والمكان والرتبة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 32
قال الكاشفي : (س جان ذبح باوجوب نحران منتهى شود بخائه كه آزادست ازغرق شدن بوقت طوفان يا خائة بزركوار).
روي : أن إبراهيم عليه السلام وجد حجراً مكتوباً عليه أربعة أسطر الأول : "إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني".
والثاني : "إني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسولي طوبى لمن آمن به واتبع".
والثالث : "إني أنا الله لا إله إلا أنا من اعتصم بي نجا".
والرابع : "إني أنا الله لا إله إلا أنا الحرم لي والكعبة بيتي من دخل بيتي أمن من عذابي" وفي الحديث : "إن الله تعالى ليدخل ثلاثة نفر بالحجة الواحدة
32
الجنة الموصي بها والمنفذ لها والحاج عنه".
وفي "الإشباه" : ليس للمأمور الأمر بالحج ولو لمرض إلا إذا قال له الآمر اصنع ما شئت فله ذلك مطلقاً والمأمور بالحج له أن يؤخره عن السنة الأولى ثم يحج ولا يضمن كما في "التاتارخانية" ولو عين له هذه السنة لأن ذكرها للاستعجال لا للتقييد وإذا أمر غيره بأن يحج عنه ينبغي أن يفوض الأمر إلى المأمور فيقول حج عني بهذا المال كيف شئت مفرداً بالحج أو العمرة أو متمتعاً أو قارناً والباقي من المال لك وصية كيلا ضيق الأمر على الحاج ولا يجب عليه ردما فضل إلى الورثة ولو أحج من لم يحج عن نفسه جاز والأفضل أن يحج من قد حج عن نفسه كما في "الفتاوي المؤيدية" ولا يسقط به الفرض عن المأمور وهو الحاج كما في "حواشي أخي لبي" ولو أحج امرأة أو أمة بإذن السيد جاز لكنه أساء ولو زال عجز الآمر صار ما أدى المأمور تطوعاً للآمر وعليه الحج كما في "الكاشفي".
وعن أبي يوسف إن زال العجز بعد فراغ المأمور عن الحج يقع عن الفرض وإن زال قبله فعن النفل كما في "المحيط" والحج النفل يصح بلا شرط ويكون ثواب النفقة للآمر بالاتفاق وأما ثواب النفل فالمأمور يجعله للآمر وقد صح ذلك عند أهل السنة كالصلاة والصوم والصدقة كما في "الهداية" وإن مات الحاج المأمور في طريق الحج يحج غيره وجوباً من منزل آمره الموصي أو الوارث قياساً إذا اتحد مكانهما والمال واف فيه أن السفر هل يبطل بالموت أو لا وهذا إذا لم يبين مكاناً يحج منه بالاجماع كما في "المحيط".(6/22)
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم لا لبعض منهم دون بعض فالتقديم للتخصيص.
{جَعَلْنَا مَنسَكًا} متعبداً وقرباناً يتقربون به إلى الله تعالى والمراد به إراقة الدماء لوجه الله تعالى.
والمعنى شرعنا لكل أمة مؤمنة أن ينسكوا له تعالى يقال نسك ينسك نسكاً ونسوكاً ومنسكاً بفتح السين إذا ذبح القربان.
{لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} خاصة دون غيره ويجعلوا نسكهم لوجهه الكريم علل الجعل به تنبيهاً على أن المقصود الأصلي من المناسك تذكر المعبود.
{عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنا بَهِيمَةِ الانْعَـامِ} عند ذبحها وفي تبيين البهيمة بإضافتها إلى الأنعام تنبيه على أن القربان يجب أن يكون من الأنعام وأما البهائم التي ليست من الأنعام كالخيل والبغال والحمير فلا يجوز ذبحها في القرابين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 32
وفي "التأويلات النجمية" : ولكل سالك جعلنا طريقة ومقاماً وقربة على اختلاف طبقاتهم فمنهم من يطلب الله من طريق المعاملات ومنهم من يطلبه من باب المجاهدات ومنهم من يطلبه به ليتمسك كل طائفة منهم في الطلب بذكر الله على ما رزقهم من قهر النفس وكسر صفاتها البهيمية والإنعامية فإنهم لا يظفرون على اختلاف طبقاتهم بمنازلهم ومقاماتهم إلا بقهر النفس وكسر صفاتها فيذكرون الله بالحمد والثناء على ما رزقهم من قهر النفس من العبور على المقامات والوصول إلى الكمالات.
{فَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الجعل المذكور والخطاب للكل تغليباً أي فإلهكم إله منفرد يمتنع أن يشاركه شيء في ذاته وصفاته وإلا لاختل النظام المشاهذ في العالم.
{فَلَه أَسْلِمُوا} أي فإذا كان إلهكم إله واحد فاجعلوا التقرب أو الذكر سالماً له أي خالصاً لوجهه ولا تشوبوه بالإشراك.
وبالفارسية (س مرورا كردن نهيد وقربانرا بشرك آميخته مسازيد).
وفي "التأويلات النجمية" : والإسلام يكون بمعنى الإخلاص والإخلاص
33
تصفية الأعمال من الآفات ثم تصفية الأخلاق من الكدورات ثم تصفية الأحوال من الالتفاتات ثم تصفية الأنفاس من الأغيار.
{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} المتواضعين أو المخلصين فإن الخبت هو المطمئن من الأرض وحقيقة المخبت من صار في خبت الأرض ولما كان الإخبات من لوازم التواضع والإخلاص صح أن يجعل كناية عنهما.
قال الكاشفي : (وبشارت ده أي محمد فروتنانرا بيزركي آن سرايا سكارانرا برحمت بي منتهى ، سلمي قدس سره فرمودهكه مزده ده مشتاقانرا بسعادت لقاكه هي مده ازين فرح آفزاي ترنيست س در صفت مخبتين ميفرمايد).
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الوجل استشعار الخوف كما في "المفردات" أي : خافت منه تعالى لإشراق أشعة جلاله عليها وطلوع أنوار عظمته والوجل عند الذكر على حسب تجلي الحق للقلب.
هركرانور تجلي شد فزون
خشيت وخوفش بوداز حد برون
{وَالصَّـابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ} من المصائب والكلف.
قال في "بحر العلوم" : الذين صبروا على البلايا والمصائب من مفارقة أوطانهم وعشائرهم ومن تجرع الغصص والأحزان واحتمال المشاق والشدائد في نصر الله وطاعته وازدياد الخير ومعنى الصبر الحبس يقال صبرت نفسي على كذا أي حبستها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 32
وفي "التأويلات النجمية" : {وَالصَّـابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ} أي : خامدين تحت جريان الحكم من غير استكراه ولا تمنى خروجه ولا روم فرجه يستسلمون طوعاً.
قال الحافظ :
اكر بلطف بخواني مزيد الطافست
وكر بقهر براني درون ما صافت
وقال :
بدرد وصاف تراحكم نيست دم دركش
كه هره ساقي ما كرد عين الطافست
وقال :
عاشقانرا كء درآتش مينشاند قهر دوست
تنك شمم كرد نظر زشمة كوثر كنم
وقال :
آشنايان ره عشق اكرم خون بخورند
نا كسم كر بشكايت سوى بيكانه روم
وقال :
حافظ از جور توباشا كه بنالد روزي
كه ازان روز كه دربند تؤام دلشادم
وأيضاً الحافظين مع الله أسرارهم لا يطلبون السلوة باطلاع الخلق على أحوالهم {وَالْمُقِيمِى الصَّلَواةِ} في أوقاتها أصله مقيمين والإضافة لفظية.
وفي "التأويلات النجمية" : والمديمي النجوى مع الله كقوله : {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَآاـاِمُونَ} (المعارج : 23) قال شاعرهم :
إذا ما تمنى الناس روحاً وراحة
تمنيت أن أشكو إليك وتسمع
{وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} في وجوه الخيرات قدم المفعول إشعاراً بكونه أهم كأنه قيل : ويخصون بعض المال الحلال بالتصدق به والمراد به إما الزكاة المفروضة لاقترانها بالصلاة المفروضة أو مطلق ما ينفق في سبيل الله لوروده مطلق اللفظ من غير قرينة الخصوص وفي الحديث : "بدلاء أمتي لا يدخلون الجنة بصيامهم وقيامهم ولكن دخلوها بسلامة الصدر وسخاء النفس
34
والنصح للمسلمين".
واعلم أن خدمة المولى بالمال وبالوجود سبب لسعادة الدنيا والعقبى.
(6/23)
قال بعض الكبار : إن الله لما أظهر الصنائع وعرضها عل الخلق في الأزل اختار كل منهم صنيعة وقال طائفة ما أعجبنا شيء فأظهر الله لهم العبادة ومقامات الأولياء فقالوا : قد اخترنا خدمتك فقال : لأسخرنهم لكم ولأجعلنهم خداماً لكم واشفعنكم فيمن خدمكم وعرفكم.
قال الشيخ أبو الحسن : سمعت وصف ولي في جبل فبت عند باب صومعته ليلة فسمعته يقول : إلهي إن بعض عبادك طلب منك تسخير الخلق فأعطيته مراده وأنا أريد منك أن لا يحسنوا معاملتهم معي حتى لا ألتجىء إلا إلى حضرتك قال : فلما أصبحت سألت عن ذلك فقال : يا ولدي قل اللهم كن لي مكان قولك اللهم سخر لي فإذا كان الله لك فلا تحتاج إلى شيء أبداً فلا بد من الاجتهاد في طريق الطلب والجد في الدعاء إلى حصول المطلب.
قال المولى الجامي :
بي طلب نتوأن وصالت يافت آري كي دهد
دولت حج دست جزراه بيابان برده را
جزء : 6 رقم الصفحة : 32
{وَالْبُدْنَ} منصوب بمضمر يفسره ما بعده كقوله تعالى : {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ} (يس : 39) جمع بدنة وهي الإبل والبقر مما يجوز في الهدي والأضاحي سميت بها لعظم بدنها.
قال في "بحر العلوم" : البدنة في اللغة من الإبل خاصة وتقع على الذكر والأنثى وأما في الشريعة فللإبل والبقر لاشتراكهما في البدانة ولذا ألحق عليه السلام البقر بالإبل في الإجزاء عن السبعة.
وفي "القاموس" : البدنة محركة من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدى إلى مكة للذكر والأنثى.
قال الكاشفي : (وشتران وكاوان كه براي هدى رانده) {جَعَلْنَـاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} أي : من أعلام دينه التي شرعها الله مفعول ثان للجعل ولكم ظرف لغو متعلق به وأضيف الشعائر إلى اسم الله تعظيماً لها كبيت الله فإن المضاف إلى العظيم عظيم وقد سبق معنى الشعائر.
وبالفارسية (ساختيم آنها يعني كشتن آنها شمارا از نشانهاي دين خدايرا تعالى) {لَكُمْ فِيهَا} في البدن {خَيْرٌ} نفع كثير في الدنيا وأجر عظيم في العقبى.
وفيه إشارة إلى قربان بهيمة النفس عند كعبة القلب وأنه من أعلام الدين وشعار أهل الصدق في الطلب وأن الخير في قربانها وذبحها بسكين الصدق.
ظاهرش مرك وبباطن زنده كي
ظاهرش ابترنهان ايندكي
{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} بأن تقولوا عند ذبحها "الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك" أي : هي عطاء منك ونتقرب بها إليك {صَوَآفَّ} كناية عن كونها قائمات لأن قيام الإبل يستلزم أن تصف أيديها وأرجلها جمع صافة.
والمعنى حال كونها قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن معقولة الأيدي اليسرى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 35
والآية دلت على أن الإبل تنحر قائمة كما قال الكاشفي : (صواف درحالتي كه براي ايستاده باشند وشتررا ايستاده ذبح كردن سنت است).
{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يقال : وجب الحائط يجب وجبة إذا سقط.
قال في "التهذيب" : الوجب (بيفتادن ديوار) وغيره والمعنى سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت.
قال الكاشفي : (س ون بيفتد برزمين هلو هاي مذبوحان وروح ازايشان بيرون رود) {فَكُلُوا مِنْهَا} أي من لحومها أن لم يكن دم الجناية والكفارة والنذر كما سبق والأمر
35
للإباحة {وَأَطْعِمُوا} الأمر للوجوب {الْقَانِعَ} أي الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة {وَالْمُعْتَرَّ} الاعترار التعرض للسؤال من غير أن يسأل كما قال في "القاموس" : المعتر الفقير المعترض للمعروف من غير أن يسأل انتهى يقال : اعتره وعررت بك حاجتي والعر الجرب الذي يعر البدن أي يعترضه.
قال الكاشفي : (درزاد المسير آورده كه قانع فقير مكة است ومعتء درويش آفاقي) {كَذَالِكَ} مثل ذلك التسخير البديع المفهوم من قوله صواف.
{سَخَّرْنَـاهَا لَكُمْ} ذللناها لمنافعكم : وبالفارسية (رام كردانيم) مع كمال عظمها ونهاية قوتها فلا تستعصي عليكم حتى تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحسبونها صافة قوائمها ثم تطعنون في لباتها أي مناحرها من الصدور ولولا تسخير الله لم تطق ولم تكن أعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرماً وأقل قوة.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لتشكروا إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص ولما كان أهل الجاهلية ينضحون البيت أي الكعبة بدماء قرابينهم ويشرحون اللحم ويضعونه حوله زاعمين ذلك قربة قال تعالى نهياً للمسلمين {لَن يَنَالَ اللَّهَ} لن يصيب ويبلغ ويدرك رضاه ولا يكون مقبولاً عنده.
{لُحُومُهَا} المأكولة والمتصدق بها {وَلا دِمَآؤُهَا} المهراقة بالنحر من حيث أنها لحوم ودماء {وَلَـاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} وهو قصد الائتمار وطلب الرضى والاحتراز عن الحرام والشبهة.(6/24)
وفيه دليل على أنه لا يفيد العمل بلا نية وإخلاص : وبالفارسية : (وليكن ميرسد بمحل قبول وي رهيز كاري ازشماكه آن تعظيم امر خداوندست وتقرب بدو بقربان سنديده).
{كَذَالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} تكرير للتذكير والتعليل بقوله : {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} أي لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره فتوحدوه بالكبرياء.
{عَلَى مَا هَدَاـاكُمْ} على متعلقة بتكبروا لتضمنه معنى الشكر وما مصدرية أي على هدايته إياكم أو موصولة أي على ما هداكم إليه وأرشدكم وهو طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها.
{وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} أي المخلصين في كل ما يأتون وما يذرون في أمور دينهم بالجنة أو بقبول الطاعات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 35
قال ابن الشيخ : هم الذين يعبدون الله كأنهم يرونه يبتغون فضله ورضوانه لا يحملهم على ما يأتونه ويذرون إلا هذا الابتغاء وأمارة ذلك أن لا يستثقل ولا يتبرم بشيء مما فعله أو تركه والمقصود منه الحث والتحريض على استصحاب معنى الإحسان في جميع أفعال الحج.
واعلم أن كل مال لا يصلح لخزانة الرب ولا كل قلب يصلح لخدمة الرب فعجل أيها العبد في تدارك حالك وكن سخياً محسناً بمالك فإن لم يكن فبالنفس والبدن وإن كان لك قدرة على بذلهما فيهما معاً ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام كيف أعطى ماله الضيافة وبدنه النيران وولده للقربان وقلبه للرحمن حتى تعجب الملائكة من سخاوته فأكرمه الله بالخلة.
قالوا للحجاج يوم عيد للقربان مناسك.
الأول : الذهاب من منى إلى المسجد الحرام فلغيرهم الذهاب إلى المصلى موافقة لهم.
والثاني : الطواف فلغيرهم صلاة العيد لقوله عليه السلام : "الطواف بالبيت صلاة".
والثالث : إقامة السنن من الحلق وقص الأظفار ونحوهما فلغيرهم إزالة البدعة وإقامة السنة.
والرابع : القربان فلغيرهم أيضاً ذلك إلى غير ذلك من البعادات وأفضل القربان بذل المجهود وتطهير كعبة القلب لتجليات الرب المعبود وذبح النفس بسكين المجاهدة والفناء عن الوجود.
قال مالك بن دينار
36
رحمه الله : خرجت إلى مكة فرأيت في الطريق شاباً إذا جن عليه الليل رفع وجهه نحو السماء وقال : يا من تسره الطاعات ولا تضره المعاصي هب لي ما يسرك واغفر لي ما لا يضرك فلما أحرم الناس ولبوا قلت له لم لا تلبي فقال يا شيخ وما تغني التلبية عن الذنوب المتقدمة والجرائم المكتوبة أخشى أن أقول لبيك فيقال لي لا لبيك ولا سعديك لا أسمع كلامك ولا أنظر إليك ثم مضى فما رأيته إلا بمنى وهو يقول ؛ اللهم اغفر لي إن الناس قد ذبحوا وتقربوا إليك وليس لي شيء أتقرب به إليك سوى نفسي فتقبلها مني ثم شهق شهقة وخر ميتاً.
جان كه نه قربانيء جانان بود
جيفة تن بهتر ازآن جان بود
هركه نشد كشته بشمشير دوست
لا شة مردار به ازجان أوست
وفي "المثنوي" :
معنىء تكبير أينست أي أميم
كاي خدا يش توما قربان شديم
وقت ذبح الله أكبر ميكنى
همنان در ذبح نفس كشتني
تن و إسماعيل وجان شد ون خليل
كرد جان تكبير برجسم نبيل
كشته كشته تن زشهوتها وآز
شد ببسم الله بسمل در نماز
جزء : 6 رقم الصفحة : 35
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا} ، قال الراغب : الدفع إذا عدي بإلى اقتضى معنى الإنالة نحو قوله تعالى : {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء : 6) وإذا عدي بعن اقتضى معنى الحماية نحو : {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا} أي : يبالغ في دفع ضرر المشركين عن المؤمنين ويحميهم أشد الحماية من أذاهم {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} بليغ الخيانة في أمانة الله أمراً كانت أو نهياً أو غيرهما من الأمانات {كَفُورٍ} بليغ الكفران لنعمته فلا يرضى فعلهم ولا ينصرهم.
والكفران في جحود النعمة أكثر استعالاً والكفر في الدين أكثر والكفور فيهما جميعاً وصيغة المبالغة فيهما لبيان أنهم كانوا كذلك لا لتقييد البعض بغاية الخيانة والكفر فإن نفي الحب كناية عن البغض والبغض نفار النفس من الشيء الذي ترغب عنه وهو ضد الحب فإن الحب انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه قال عليه السلام : "إن الله يبغض المتفحش" فذكر بغضه له تنبيه على بعد فيضه وتوفيق إحسانه منه.
وفي الآية : تنبيه على أنه بارتكاب الخيانة والكفران يصير بحيث لا يتوب لتماديه في ذلك وإذا لم يتب لم يحبه الله المحبة التي وعد بها التائبين والمتطهرين وهي إصابتهم والإنعام عليهم فإن محبة الله للعبد إنعامه عليه ومحبة العبد له طلب الزلفى لديه.
(6/25)
واعلم أن الخيانة والنفاق واحد لأن الخيانة تقال اعتباراً بالعهد والأمانة والنفاق يقال اعتباراً بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر ونقيض الخيانة الأمانة ومن الخيانة الكفر فإنه إهلاك للنفس التي هي أمانة الله عند الإنسان وتجري في الأعضاء كلها قال تعالى : {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْـاُولا} (الإسراء : 36) ويجري في الصلاة والصوم ونحوهما إما بتركها أو بترك شرط من شرائطها الظاهرة والباطنة فأكل السحور مع غلبة الظن بطلوع الفجر أو الإفطار مع الشك بالغروب خيانة للصوم ومن أكل السحور فنام عن صلاة الصبح حتى طلع الشمس فقد كفر بنعمة الله التي هي السحور وخانه بالصلاة أيضاً فترك الفرض من أجل السنة تجارة خاسرة.
روي : أن واحداً
37
ضاع له تسعة دراهم فقال من وجدهم وبشرني فله عشرة دراهم فقيل له في ذلك فقال : إن في الوجدان لذة لا تعرفونها أنتم فأهل الغفلة وجدوا في المنام لذة هي أفضل عندهم من ألف صلاة نعوذ بالله تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 37
ومن الخيانة النقص في المكيال والميزان.
حكي : أنه احتضر رجل فإذا هو يقول جبلين من نار جبلين من نار فسئل أهله عن عمله فقالوا كان له مكيالان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخرة.
ومن الخيانة التسبب إلى الخيانة.
وكتب رجل إلى الصاحب بن عباد أن فلاناً مات وترك عشرة آلاف دينار ولم يخلف إلا بنتاً واحدة فكتب على ظهر المكتوب النصف للبنت والباقي يرد عليها وعلى الساعي ألف ألف لعنة.
ثم إن المؤمن الكامل منصور على كل حال فلا يضره كيد الخائنين فإن الله لا يحب الخائنين فإذا لم يحبهم لم ينصرهم ويحب المؤمن فينصره.
وفي الآية إشارة إلى أن الله تعالى يدافع خيانة النفس وهواها عن المؤمنين وأن مدافعة النفس وهواها عن أهل الإيمان إنما كان لإزالة الخيانة وكفران النعمة لأنه لا يحب المتصفين بها وأنه يحب المؤمنين المخلصين عنها فالآية تنبيه على إصلاح النفس الأمارة وتخليصها عن الأوصاف الرذيلة.
وجود تو شهريست رنيك وبد
تو سلطان ودستور دانا خرد
هما نا كه دونان كردن فراز
درين شهر كبرست وسود او آز
و سلطان عنايت كند بابدان
كجا ماند آسايش بخردان
قال الله تعالى :
{أُذِنَ} الأذن في الشيء إعلام بإجازته والرخصة فيه والمأذون فيه محذوف ، أي رخص في القتال.
{لِّلَّذِينَ} للمؤمنين الذين {يُقَـاتَلُونَ} بفتح التاء على صيغة المجهول ، أي يقاتلهم المشركون.
{بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أي : بسبب أنهم ظلموا وهم أصحاب النبي عليه السلام كان المشركون يؤذونهم وكانوا يأتونه عليه السلام بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه فيقول عليه السلام لهم : "اصبروا فإني لم أومر بالقتال" حتى هاجروا فنزلت وهي أول آية نزلت في القتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وعد للمؤمنين بالنصر والتغليب على المشركين بعدما وعد بدفع أذاهم وتخليصهم من أيديهم.
قال الراغب : القدرة إذا وصف بها الإنسان فاسم لهيئة له بها يتمكن من فعل ما وإذا وصف الله بها فنفى للعجز عنه ومحال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة معنى وإن أطلقت عليه لفظاً بل حقه أن يقال قادر على كذا ومتى قيل : هو قادر فعلى سبيل معنى التقييد ولهذا لا أحد غير الله يوصف بالقدرة من وجه إلا ويصح أن يوصف بالعجز من وجه والله تعالى هو الذي ينتفي عنه العجز من كل وجه والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه ولذلك لا يصح أن يوصف به غير الله تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 37
تعالى الله زهى قيوم ودانا
توانايي ده هر ناتوانا
وفي الآية إشارة إلى أن قتال الكفار بغير أذن الله لا يجوز ولهذا لما وكز موسى عليه السلام القبطي الكافر وقتله قال هذا من عمل الشيطان لأنه ما كان مأذوناً من الله في ذلك وبهذا المعنى يشير إلى أن الصلاح في قتال كافر النفس وجهاده أن يكون بإذن الله على وفق الشرع وأوانه وهو بعد البلوغ فإن قبل البلوغ تحلى المجاهدة باستكمال الشخص الإنساني الذي هو حامل
38
أعباء الشريعة ولهذا لم يكن مكلفاً قبل البلوغ وينبغي أن تكون المجاهدة محفوظة عن طرفي التفريط والإفراط بل يكون على حسب ظلم النفس على القلب باستيلائها عليه فيما يضره من اشتغالها بمخالفة الشريعة وموافقة الطبيعة في استيفاء حظوظها وشهواتها من ملاذ الدنيا فإن منها يتولد رين مرآة القلب وقسوته واسوداده وإن ارتاضت النفس ونزلت عن ذميم صفاتها وانقادت للشريعة وتركت طبعها واطمأنت إلى ذكر الله واستعدت لقبول جذبة ارجعي إلى ربك راضية مرضية تصان من فرط المجاهدة ولكن لا يؤمن مكر الله المودع في مكر النفس وآخر الآية يشير إلى أن الإنسان لا يقدر على النفس وتزكيتها بالجهاد المعتدل إلا بنصر الله تعالى.
ورويي بخدكت نهى بر زمين
خدارا ثنا كوى وخودرا مبين(6/26)
كراز حق نه توفيق خيري رسد
كي ازبنده خيري بغيري رسد
جزء : 6 رقم الصفحة : 37
تعالى الله زهى قيوم ودانا
توانايي ده هر ناتوانا
وفي الآية إشارة إلى أن قتال الكفار بغير أذن الله لا يجوز ولهذا لما وكز موسى عليه السلام القبطي الكافر وقتله قال هذا من عمل الشيطان لأنه ما كان مأذوناً من الله في ذلك وبهذا المعنى يشير إلى أن الصلاح في قتال كافر النفس وجهاده أن يكون بإذن الله على وفق الشرع وأوانه وهو بعد البلوغ فإن قبل البلوغ تحلى المجاهدة باستكمال الشخص الإنساني الذي هو حامل
38
أعباء الشريعة ولهذا لم يكن مكلفاً قبل البلوغ وينبغي أن تكون المجاهدة محفوظة عن طرفي التفريط والإفراط بل يكون على حسب ظلم النفس على القلب باستيلائها عليه فيما يضره من اشتغالها بمخالفة الشريعة وموافقة الطبيعة في استيفاء حظوظها وشهواتها من ملاذ الدنيا فإن منها يتولد رين مرآة القلب وقسوته واسوداده وإن ارتاضت النفس ونزلت عن ذميم صفاتها وانقادت للشريعة وتركت طبعها واطمأنت إلى ذكر الله واستعدت لقبول جذبة ارجعي إلى ربك راضية مرضية تصان من فرط المجاهدة ولكن لا يؤمن مكر الله المودع في مكر النفس وآخر الآية يشير إلى أن الإنسان لا يقدر على النفس وتزكيتها بالجهاد المعتدل إلا بنصر الله تعالى.
ورويي بخدكت نهى بر زمين
خدارا ثنا كوى وخودرا مبين
كراز حق نه توفيق خيري رسد
كي ازبنده خيري بغيري رسد
جزء : 6 رقم الصفحة : 37
تعالى الله زهى قيوم ودانا
توانايي ده هر ناتوانا
وفي الآية إشارة إلى أن قتال الكفار بغير أذن الله لا يجوز ولهذا لما وكز موسى عليه السلام القبطي الكافر وقتله قال هذا من عمل الشيطان لأنه ما كان مأذوناً من الله في ذلك وبهذا المعنى يشير إلى أن الصلاح في قتال كافر النفس وجهاده أن يكون بإذن الله على وفق الشرع وأوانه وهو بعد البلوغ فإن قبل البلوغ تحلى المجاهدة باستكمال الشخص الإنساني الذي هو حامل
38
أعباء الشريعة ولهذا لم يكن مكلفاً قبل البلوغ وينبغي أن تكون المجاهدة محفوظة عن طرفي التفريط والإفراط بل يكون على حسب ظلم النفس على القلب باستيلائها عليه فيما يضره من اشتغالها بمخالفة الشريعة وموافقة الطبيعة في استيفاء حظوظها وشهواتها من ملاذ الدنيا فإن منها يتولد رين مرآة القلب وقسوته واسوداده وإن ارتاضت النفس ونزلت عن ذميم صفاتها وانقادت للشريعة وتركت طبعها واطمأنت إلى ذكر الله واستعدت لقبول جذبة ارجعي إلى ربك راضية مرضية تصان من فرط المجاهدة ولكن لا يؤمن مكر الله المودع في مكر النفس وآخر الآية يشير إلى أن الإنسان لا يقدر على النفس وتزكيتها بالجهاد المعتدل إلا بنصر الله تعالى.
ورويي بخدكت نهى بر زمين
خدارا ثنا كوى وخودرا مبين
كراز حق نه توفيق خيري رسد
كي ازبنده خيري بغيري رسد
جزء : 6 رقم الصفحة : 37
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَـارِهِم} في حيز الجر على أنه صفة للموصول.
قال ابن الشيخ : لما بين أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظلموا فسر ذلك الظلم بقوله : الذين إلى آخره والمراد بديارهم مكة وتسمى البلاد الديار لأنه يدار فيها للتصرف يقال : ديار بكر لبلادهم وتقول العرب الذين حوالي مكة نحن من عرب الدار يريدون من عرب البلد.
قال الراغب : الدار المنزل اعتباراً بدورانها الذي لها بالحائط وقيل : وجمعها ديار ثم تسمى البلدة داراً {بِغَيْرِ حَقٍّ} أي خرجوا بغير موجب استحقوا الخروج فالحق مصدر قولك حق الشيء يحق بالكسر أي وجب {إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} بدل من حق أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجباً للإقرار والتمكين دون الإخراج والتسيير لكن لا على الظاهر بل على طريقة قول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} بتسليط المؤمنين منهم على الكفارين في كل عصر وزمان {لَّهُدِّمَتْ} الهدم إسقاط البناء والتهديم للتكثير أي لخربت باستيلاء المشركين {صَوَامِعُ} للرهبانية {وَبِيَعٌ} للنصارى وذلك في زمان عيسى عليه السلام الصوامع جمع صومعة وهي موضع يتعبد فيه الرهبان وينفردون فيه لأجل العبادة.
قال الراغب : الصومعة كل بناء منصمع الرأس متلاصقة والأصمع اللاصق أذنه برأسه والبيع جمع بيعة وهي كنائس النصارى التي يبنونها في البلدان ليجتمعوا فيها لأجل العبادة والصوامع لهم أيضاً إلا أنهم يبنونها في المواضع الخالية كالجبال والصحارى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 39
قال الراغب : البيعة مصلى النصارى فإن يكن ذلك عربياً في الأصل فتسميته بذلك لما قال : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} الآية (التوبة : 111) {وَصَلَوَاتٌ} كنائس لليهود في أيام موسى عليه السلام.
(6/27)
قال الكاشفي : (صومعهاي راهبان وكليساهاي ترسايان وكنشتهاي جهودان) سميت بالصلوات لأنها تصلى فيها.
قال الراغب : يسمى موضع العبادة بالصلاة ولذلك سميت الكنائس صلوات.
وقال بعضهم : هي كلمة معربة وهي بالعبرية "صلوثا" بالثاء المثلثة وهي في لغتهم بمعنى المصلى {وَمَسَـاجِدُ} للمسلمين في أيام شريعة محمد صلى الله عليه وسلّم وقدم ما سوى المساجد عليها في الذكر لكونه أقدم في الوجود
39
بالنسبة إليها.
وفي "الأسئلة المقحمة" : تقديم الشيء بالذكر لا يدل على شرفه كقوله تعالى : {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} (التغابن : 2) {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} أي ذكراً كثيراً أو وقتاً كثيراً صفة مادحة للمساجد خصت بها دلالة على فضلها وفضل أهلها ويجوز أن يكون صفة للأربع لأن الذكر في الصوامع والبيع والصلوات كان معتبراً قبل انتساخ شرائع أهلها.
وفي الآية إشارة إلى أنه تعالى لو لم ينصر القلوب على النفوس ويدافع عن القلوب استيلاء النفوس لهدمت صوامع أركان الشريعة وبيع آداب الطريقة وصلوات مقامات الحقيقة ومساجد القلوب التي يذكر فيها اسم الله كثيراً فإن الذكر الكثير لا يتسع إلا في القلوب الواسعة المنورة بنور الله.
{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُه} أي : بالله لينصرن الله من ينصر أولياءه أو من ينصر دينه ولقد أنجز الله وعده حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم وأورثهم أرضهم وديارهم.
{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ} على كل ما يريده.
{عَزِيزٌ} لا يمانعه شيء ولا يدافعه ، وفي "بحر العلوم" : يغني بقدرته وعزته في إهلاك أعداء دينه عنهم وإنما كلفهم النصر باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة الأعداء وبذل الأرواح والأموال لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيها إلى منافع دينية ودنيوية.
فإن قلت فإذا كان الله قوياً عزيزاً غالباً غلبة لا يجد معها المغلوب نوع مدافعة وانفلات فما وجه انهزام المسلمين في بعض وقد وعدهم النصرة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 39
قلت : إن النصرة والغلبة منصب شريف فلا يليق بحال الكافر لكن الله تعالى تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين لأنه لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الإيمان وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله ولأن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي فيكون تشديد المحنة عليه في الدنيا كفارة له في الدنيا وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضباً من الله كالطاعون مثلاً فإنه رحمة للمؤمنين ورجز أي عذاب وغضب للكافرين.
مرّ عامر برجل قد صلبه الحجاج قال : يا رب إن حلمك على الظالمين أضر بالمظلومين ، فرأى في منامه أن القيامة قد قامت وكأنه دخل الجنة فرأى المصلوب فيها في أعلى عليين فإذا منادٍ ينادي حلمي على الظالمين أحل المظلومين في أعلى عليين.
واعلم أن الله تعالى يدفع في كل عصر مدبراً بمقبل ومبطلاً بمحق وفرعوناً بموسى ودجالاً بعيسى فلا تستبطىء ولا تنضجر.
قال الحافظ :
اسم أعظم بكند كارخود أي دل خوش باش
كه بتلبيس وحيل ديو سليمان نشود
قال بعض الكبار : الأمراء يقاتلون في الظاهر وأولياء الله في الباطن فإذا كان الأمير في قتاله محقاً والطرف المقابل مستحقاً للعقوبة أعانه رجال الغيب من الباطن وإلا فلا.
وفي التوارة في حق هذه الأمة : أناجيلهم في صدورهم أي يحفظون كتابهم لا يحضرون قتالاً إلا وجبريل عليه السلام معهم وهو يدل على أن كل قتال حق يحضره جبريل ونحوه إلى قيام الساعة بل القتال إذا كان حقاً فالواحد يغلب الألف.
قال الحافظ :
40
تيغي كه آسمانش ازفيض خود دهد آب
تنها هان بكيرد بي منت ساهي
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّـاهُمْ فِى الأرْضِ} وصف من الله للذين أخرجوا من ديارهم بما سيكون منهم من حسن السيرة عند تمكينه تعالى إياهم في الأرض وإعطائه إياهم زمام الأحكام {أَقَامُوا الصَّلَواةَ} لتعظيمي.
قال الراغب : كل موضع مدح الله بفعل الصلاة أو حث عليه ذكر بلفظ الإقامة ولم يقل المصلين إلا في المنافقين نحو : {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} (الماعون : 4) وإنما خص لفظ الإقامة تنبيهاً على أن المقصود من فعلها توفية حقوقها وشرائطها لا الإتيان بهيئتها فقط ولهذا روي أن المصلين كثير والمقيمين لها قليل {وَءَاتَوُا الزَّكَواةَ} لمساعدة عبادي {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} وكل ما عرف حسنه شرعاً وعرفاً.
{وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} هو ما يستقبحه أهل العلم والعقل السليم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 39
قال الراغب : المعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل والشرع حسنه والمنكر ما ينكر بهما.
(6/28)
وفي الآية إشارة إلى أن وصف القلوب المنصورة أنهم إن مكنهم الله في أرض البشرية استداموا المواصلات وآتوا زكاة الأحوال وهي أن يكون من مائتي نفس من أنفاسهم مائة وتسعة وتسعون ونصف جزء منها لهم والباقي إيثار على خلق الله في الله مهما كان زكاة أموال الأغنياء من مائتي درهم خمسة للفقراء والباقي لهم وأمروا بالمعروف حفظ الحواس عن مخالفة أمره ومراعاة الأنفاس معه إجلالاً لقدره ونهوا عن المنكر ومن وجوه المنكرات الرياء والإعجاب والمساكنة والملاحظة {وَلِلَّهِ} خاصة {عَـاقِبَةُ الامُورِ} فإن مرجعها إلى حكمه وتقديره فقط : يعني (انجام امور آن كه اوميخواهد).
اين دولت فقر وها وهو ميخواهد
وأن كلشن وحوض وآب جوميخواهد
از حق همه كس حال نكو ميخواهد
آنست سرانجام كه أوميخواهد
وعن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه إلى النبي عليه السلام : "أن من أشراط الساعة إماتة الصلوات واتباع الشهوات والميل إلى الهوى ويكون أمراء خونة ووزراء فسقة" فوثب سلمان فقال : بأبي وأمي إن هذا لكائن قال : "نعم يا سلمان عندها يذوب قلب المؤمن كما يذوب الملح في الماء ولا يستطيع أن يغير" قال : أو يكون ذلك؟ قال : "نعم يا سلمان إن أذل الناس يومئذٍ المؤمن يمشي بين أظهرهم بالمخالفة أن تكلم أكلوه وأن سكت مات بغيظه".
قال عمر رضي الله عنه للنبي عليه السلام : أخبرني عن هذا السلطان الذي ذلت له الرقاب وخضعت له الأجساد ما هو فقال : "ظل الله في الأرض فإذا أحسن فله الأجر وعليكم الشكر وإذا أساء فعليه الأصر وعليكم الصبر" وفي الحديث : "عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة" ، قال الحافظ :
شاه رابه بود از طاعت صد ساله وزهد
قدر يكساعت عمري كه دروداد كند
قال الشيخ سعدي قدس سره :
بقومي كه نيكي سندد خداي
دهد خسر وعادل نيك رأي
وخواهدكه ويران كند عالمي
كند ملك درنة ظالمي
نخواهي كه نفرين كنند ازست
نكو باش تابد نكويد كست
41
نخفتست مظلوم ازآهش بترس
زدود دل صبحكا هش بترس
نترسي كه اك اندروني شي
بر آرد ز سوز جكر يا ربي
نمى ترسي أي كرك ناقص خرد
كه روزي لنكيت برهم درد
ألا تابغفلت نخسي كه نوم
حرامست برشم سالار قوم
جزء : 6 رقم الصفحة : 39
غم زير دستان بخور زينهار
بترس از زبر دستىء روزكار
وعن ازدشير لا سلطان إلا برجال ولا رجال إلا بمال ولا مال إلا بعمارة ولا عمارة إلا بعدل وحسن سياسية قيل السياسة أساس الرياسة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 39
{وَإِن يُكَذِّبُوكَ} يا محمد وصيغة المضارع في الشرط مع تحقق التكذيب لما أن المقصود تسليته عليه السلام عما يترتب على التكذيب من الحزن المتوقع أي وإن تحزن على تكذيب قومك إياك فاعلم أنك لست بأوحدي في ذلك.
{فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} قبل تكذيبهم.
{قَوْمُ نُوحٍ} أي : نوحاً {وَعَادٌ} أي : هوداً {وَثَمُودُ} أي : صالحاً {وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ} أي : إبراهيم {وَقَوْمُ لُوطٍ} أي : لوطاً.
{وَأَصْحَـابُ مَدْيَنَ} أي : شعيباً ومدين كان ابناً لإبراهيم عليه السلام ثم صار علماً لقرية شعيب {وَكُذِّبَ مُوسَى} كذبه القبط وإصروا إلى وقت الهلاك وأما بنو إسرائيل فإنهم وإن قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ونحوه فما استمروا على العناد بل كلما تجدد لهم المعجزة جددوا الإيمان هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقال وغير النظم بذكر المفعول وبناء الفعل له للإيذان بأن تكذيبهم له كان في غاية الشناعة لكون آياته في كمال الوضوح.
{فَأَمْلَيْتُ لِلْكَـافِرِينَ} أمهلتهم إلى أجلهم المسمى {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي : أخذت كل فريق من فرق المكذبين بعد انقضاء مدة إملأئه وأمهاله بعذاب الطوفان والريح الصرصر والصيحة وجند البعوض والخسف والحجارة وعذاب يوم الظلة والغرق في بحر القلزم.
قال الراغب : الأخذ وضع الشيء وتحصيله وذلك تارة بالتناول نحو معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده وتارة بالقهر ومنه الآية.
{فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي : انكاري عليهم بتغيير النعمة محنة والحياة هلاكاً والعمارة خراباً أي فكان ذلك في غاية الهول والفظاعة ، فمعنى الاستفهام التقرير ومحصول الآية قد أعطيت هؤلاء الأنبياء ما وعدتهم من النصرة فاستراحوا فاصبر أنت إلى هلاك من يعاديك فتستريح ففي هذا تسلية للنبي عليه السلام.
جزء : 6 رقم الصفحة : 42
{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} .
قال المولى الجامي في "شرح الكافية" : من الكناية كأين وإنما بني لأن كاف التشبيه دخلت على أي وأي كان في الأصل معربا لكنه انمحى عن الجزأين معناهما الإفرادي فصار المجموع كاسم مفرد بمعنى كم الخبرية فصار كأنه اسم مبني على السكون آخره نون ساكنة كما في من لا تنوين تمكن ولهذا يكتب بعد الياء نون مع أن التنوين لا صورة له في الخط انتهى.
(6/29)
والمعنى فكثير من القرى : وبالفارسية : (س بسيارديه وشهر) وهو مبتدأ وقوله : {أَهْلَكْنَـاهَا} خبره {وَهِىَ ظَالِمَةٌ} جملة حالية من قوله اهلكناها والمراد ظلم أهلها بالكفر والمعاصي وهو بيان لعدله وتقدسه عن الظلم حيث أخبر بأنه لم يهلكهم إلا إذا استحقوا الإهلاك بظلمهم.
{فَهِىَ خَاوِيَةٌ} عطف على أهلكناها والمراد بضمير القرية حيطانها والخواء بمعنى السقوط من خوى النجم إذا سقط
42
أي ساقطة حيطان تلك القرية.
{عَلَى عُرُوشِهَا} أي سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف فالعروش السقوف لأن كل مرتفع أظلك فهو عرش سقفاً كان أو كرماً أو ظلة أو نحوها.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى خراب قلوب أهل الظلم فإن الظلم يوجب خراب أوطان الظالم فيخرب أولاً أوطان راحة الظالم وهو قلبه فالوحشة التي هي غالبة على الظلمة من ضيق صدورهم وسوء أخلاقهم وفرط غيظهم على من يظلمون عليهم كل ذلك من خراب أوطان راحاتهم وهي في الحقيقة من جملة العقوبات التي تلحقهم على ظلمهم ويقال : خراب منازل الظلمة ربما يستأخر وربما يستعجل وخراب نفوسهم في تعطلها عن العبادات بشؤم ظلمها كما قال : {فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} وخراب قلوبهم باستيلاء الغفلة عليهم خصوصاً في أوقات صلواتهم وأوان خلواتهم غير مستأخر.
{وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} البئر في الأصل ، حفيرة يستر رأسها لئلا يقع فيها من مر عليها وعطلت المرأة وتعطلت إذا لم يكن عليها حلى فهي عاطل والتعطيل التفريغ ، يقال لمن جعل العالم بزعمه فارغاً من صانع أتقنه وزينه معطل وهو عطف على قرية أي وكم بئر عامرة في البوادي ، أي فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلا أنها تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها.
{وَقَصْرٍ} يقال : قصرت كذا ضممت بعضه بعضه إلى بعض ومنه سمي القصر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 42
قال في "القاموس" : القصر خلاف الطول وخلاف المد والمنزل وكل بيت من حجر وعلم لسبعة وخمسين موضعاً ما بين مدينة وقرية وحصن ودار أعجبها قصر بهرام جور من حجر واحد قرب همذان.
{مَّشِيدٍ} مبني بالشيد أخليناه عن ساكنيه ، وأهل المدينة يسمون الجص شيداً وقيل : مشيد أي مطول مرفوع البنيان وهو يرجع إلى الأول كما في "المفردات" ويقال : شيد قواعده أحكمها كأنه بناها بالشيد.
وفي "القاموس" : شاد الحائط يشيده طلاه بالشيد وهو ما طلي به حائط من جص ونحوه والمشيد المعمول به وكمؤيد المطول روي أن هذه بئر نزل عليها صالح النبي عليه السلام مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله من العذاب وهي بحضرموت وإنما سمي بذلك لأن صالحاً حين حضرها ، مات وثمة بلدة عند البئر اسمها حاضوراء ، بناها قوم صالح وأمروا عليهم جليس بن جلاس وأقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً فأرسل الله عليهم حنظلة بن صفوان ، نبياً وكان حمالاً فيهم فقتلوه في السوق فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرب قصورهم.
قال الإمام السهيلي : قيل : إن البئر الرس وكانت بعدن لأمة من بقايا ثمود وكان لهم ملك عدل حسن السيرة يقال له العلس وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها ورجال كثيرون موكلون بها وإبازن بالنون من رخام وهي تشبه الحياض كثيرة تملأ للناس وآخر للدواب ، وآخر للغنم والبقر والهوام ، يستقون عليها بالليل والنهار يتداولون ولم يكن لهم ماء غيره فطال عمر الملك ، فلما جاءه الموت طلي بدهن لتبقى صورته ولا يتغير وكذلك يفعلون إذا مات منهم الميت وكان ممن يكرم عليهم فلما مات شق ذلك عليهم ورأوا أن أمرهم قد فسد وضجوا جميعاً بالبكاء واغتنمها الشيطان منهم ، فدخل في جثة الملك
43
(6/30)
بعد موته بأيام كثيرة فكلمهم فقال : إني لم أمت ولكني قد تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم بعدي ، ففرحوا أشد الفرح وأمر خاصته أن يضربوا له حجاباً بينه وبينهم يكلمهم من ورائه كيلا يعرف الموت في صورته ووجهه فنصبوه صنماً من وراء حجاب لا يأكل ولا يشرب وأخبرهم أنه لا يموت أبداً وأنه إله لهم وذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه فصدق كثير منهم وارتاب بعضهم وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق فكلما تكلم ناصح منهم زجر وقهر فاتفقوا على عبادته فبعث الله تعالى لهم نبياً كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة وكان اسمه حنظلة بن صفوان فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له وأن الشيطان فيه وقد أضلهم وأن الله تعالى لا يتمثل بالحلق وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكاًوأوعدهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته فآذوه وعادوه حتى قتلوه وطرحوه في بئر فعند ذلك حلت عليهم النقمة فباتوا شباعاً رواء من الماء وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان وضجت البهائم عطشاً حتى عمهم الموت ، وشملهم الهلاك ، وخلفهم في أرضهم السباع وفي منازلهم الثعالب والضباع ، وتبدلت بهم جناتهم وأموالهم بالسدر والشوك ، شوك العضاة والقتاد فلا تسمع فيها إلا عزيف الجن وزئير الأسد نعوذ بالله من سطوته ومن الإصرار على ما يوجب نقماته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 42
وأما القصر المشيد : فقصر بناه شداد بن عاد بن إرم لم يبن في الأرض مثله فيما ذكر وحاله كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الإنس وإقفاره بعد العمران ، وإن أحداً لا يستطيع أن يدنو منه على أميال لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغيد ، وبها الملك وانتظام الأهل كالسلك فبادوا وما عادوا فذكرهم الله تعالى في هذًه الآية موعظة وذكراً وتحذيراً من سوء عاقبة المخالفة والمعصية.
قال الكاشفي : (در تيسير آورده كه ادشاهي كافر بر وزير مسلمان غضب كرد وخواست اورا بكشد وزير بكريخت باهار هزاركس ازاهل إيمان ودرايان كوه حضرموت كه هواي خوش داشت منزل ساخت هرند اه كندند آب تلخ بيرون آمديكي ازرجال الغيب بديشان رسيده موضعي جهت اه نشان كرد ون بكندند آبي درغايت صفا لطافت ونهايت رقت وعذوبت بيرون آمد.
درمزه ون شيرة شاخ نبات
در حوشي همشيرة آب حيات
ايشان آن اه راكشاده ساختند وازايان تابالابخشتهاي زر ونقره برآوردند ورستش رور دكار خود مشغول كشتند بعد ازمدتي متمادي شيطان بصورت عجوز صالحه برآمد زنانرا دلالت كرد برآنكه بوقت غيبت شوهران سحاقي اشتغال كند وديكر باره بشكل مردي زاهد برايشان ظاهر شدمردانرا بوقت دوري ازواج ازايشان باتيان بهائم ثم فرمود وون اين عمل قبيح درميان ايشان بديد آمد حق سبحانه حنظلة يا قحافة بن صفوان رابه يغمبري بديشان فرستاد وبدو نكرديدند آب ايشان غائب شد وبعد ازوعدة إيمان يغمبر دعا فرموده آب بازآمد وهم فرمان نبردند حق تعالى فرمودكه بعد ازهفت سال وهفت ماه وهفت روز عذاب بديشان ميفرستم ايشان قصر مشيدرا بناكردند بخشتهاي زر ونقره
44
ويواقيت وجواهر مرصع ساختند وبعد ازانقضاي زمانه مهلت رجوع بآن قصر كرده درها فروبستند وجبرئيل فرود آمد وايشانرا بكوشك برزمين فرو برد واه ايشان مانده است ودود سياه منتن ازانجا برمي آمد ودران نواحي نالة هلاك شد كان ميشنوند.
نه هركز شنيدم درين عمر خويش
كه بدمردرا نيكي آمد به يش
رطب ناورد وب خرزهره بار
ه تخم افكني برهمان شم دار
غم وشاد ماني نماند وليك
جزاي عمل ما ند ونام نيك
جزء : 6 رقم الصفحة : 42
(6/31)
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا} أي : كفار مكة ، أي أغفلوا فلم يسافروا {فِى الأرْضِ} في اليمن والشام ليروا مصارع المهلكين.
{فَتَكُونَ لَهُمْ} بسبب ما يشاهدونه من مواد الاعتبار وهو منصوب على جواب الاستفهام وهو في التحقيق منفي.
{قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ} ما يجب أن يعقل من التوحيد {أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} ما يجب أن يسمع من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورهم من الناس فإنهم أعرف منهم بحالهم وهم وإن كانوا قد سافروا فيها ولكنهم حيث لم يسافروا للاعتبار جعلوا غير مسافرين فحثوا على ذلك فالاستفهام للإنكار.
{فَإِنَّهَا} أي القصة وبالفارسية (س قصه اينست) {لا تَعْمَى الابْصَـارُ وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} أي : ليس الخلل في مشاعرهم وإنما هو في عقولهم باتباع الهوى والانهماك في الغفلة ، وبالفارسية (نابينا نشود ديدهاي حس يعني در مشاعر ايشان خلل نيست همه يز مي بينند ولكن نابينا شود از مشاهدة اعتبار آن دلها كه هست درسينها يعني ثم دل إيشان وشيده است ازمشاهدة أحوال كذشتكان لا جرم بدان عبرتي نمى كيرند) ولا يعتد بعمى الأبصار فكأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب والعمى يقال في افتقاد البصر وافتقاد البصيرة وذكر الصدور للتأكيد ونفي التجوز قصداً للتنبيه على أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يختص بالبصر ، وفي الحديث : "ما من عبد إلا وله أربع أعين عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه ، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر دينه" ، وأكثر الناس عميان بصر القلب لا يبصرون به أمر دينهم.
شم دل بكشاببين بي انتظار
هر طرف آيات قدرت آشكار
شم سر جزوست خود يزي نديد
شم سردر مغز هريزي رسيد
قال في "حقائق البقلي" : قدس سره : الجهال يرون الأشياء بأبصار الظاهر وقلوبهم محجوبة عن رؤية حقائق الأشياء التي هي تابعة أنوار الذات والصفات أعماهم الله بغشاوة الغفلة وغطاء الشهوة.
قال سهل : اليسير من نور بصر القلب يغلب الهوى والشهوة فإذا عمي بصر القلب عما فيه غلبت الشهوة وتواترت الغفلة فعند ذلك يصير البدن متخبطاً في المعاصي غير منقاد للحق بحال.
وفي "التأويلات النجمية" : في الآية إشارة إلى أن العقل الحقيقي إنما يكون من نتائج صفاء القلب بعد تصفية حواسه عن العمى والصمم فإذا صح وصف القلوب بالسمع والبصر صح وصفها بسائر صفات الحي من وجوه الإدراكات فكما تبصر القلوب بنور اليقين تدرك نسيم الإقبال بمشام السر وفي الخبر : "إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن" وقال تعالى خبراً عن يعقوب عليه السلام : {إِنِّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} (يوسف : 94) وما كان ذلك إلا بإدراك السرائر دون اشتمام ريح في الظاهر فعلى
45
العاقل أن يجتهد في تصفية الباطن وتجلية القلب وكشف الغطاء عنه بكثرة ذكر الله تعالى وعن مالك بن أنس رضي الله عنه بلغني أن عيسى بن مريم عليهما السلام قال : "لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم والقلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون".
جزء : 6 رقم الصفحة : 42
وقال مالك بن دينار من لم يأنس بحديث الله عن حديث المخلوقين فقد قل عمله وعمى قلبه وضاع عمره ، وفي الحديث : "لكل شيء صقالة وصقالة القلب ذكر الله".
وقال أبو عبد الله الأنطاكي : دواء القلب خمسة أشياء : مجالسة الصالحين وقراءة القرآن وإخلاء البطن وقيام الليل والتضرع عند الصبح كذا في "تنبيه الغافلين".
جزء : 6 رقم الصفحة : 42
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} كانوا يقولون له عليه السلام ائتنا بما وعدتنا إن كنت من الصادقين : والمعنى بالفارسية (وبشتاب ميخواهند ازتوكافران مكة ون نضر بن حارث وإضراب أو يعني تعجيل مينمايند بطريق استهزاء وتعجيز بنزول عذاب موعود).
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى عدم تصديقهم كما قال تعالى : {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} (الشورى : 18) ولو آمنوا لصدقوا ولو صدقوا لسكتوا عن الاستعجال وهو طلب الشيء وتحريه قبل أوانه.
{وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أبدأ وقد سبق الوعد فلابد من مجيئه حتماً وقد أنجز الله ذلك يوم بدر.
قال في "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى أن الخلف في وعيد الكفار لا يجوز كما أن الخلف في الوعد للمؤمنين لا يجوز الخلف في وعيد المؤمنين لأنه سبقت رحمة الله غضبه في حق المؤمنين ووعدهم بالمغفرة بقوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ} (النساء : 48) وبقوله : {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (الزمر : 53) انتهى وأحسن يحيى بن معاذ في هذا المعنى حيث قال الوعد والوعيد حق فالوعد حق العباد على الله ضمن لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم كذا ومن أولى بالوفاء من الله والوعيد حقه على العباد قال لا تفعلوا كذا فأعذبكم ففعلوا فإن شاء عفا وأن شاء أخذ لأنه حقه وأولاهما العفو والكرم لأنه غفور رحيم.
قال السري الموصلي :
(6/32)
إذا وعد السرّاء أنجز وعده
وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
كذا في "شرح العضد" للجلال الدواني : ثم ذكر أن لهم مع عذاب الدنيا في الآخرة عذاباً طويلاً وهو قوله : {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ} أي : من أيام عذابهم {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وذلك أن لليوم مراتب فيوم كالآن وهو أدنى ما يطلق عليه الزمان فمنه يمتد الكل وهو مشار إليه بقوله تعالى : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} (الرحمن : 29) فالشأن الإلهي بمنزلة الروح يسري في أدوار الزمان ومراتبه سريان الروح في الأعضاء ويوم كخمسين ألف سنة وهو يوم القيامة ويوم كألف سنة وهو يوم الآخرة والخطاب للرسول ومن معه من المؤمنين كأنه قيل : كيف يستعجلون بعذاب ويوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم إما من حيث طول أيام عذابه حقيقة أو من حيث أن أيام الشدائد مستطالة كما يقال : ليل الفراق طويل وأيام الوصل قصار ويقال : سنة الوصل سنة وسنة الهجر سنة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 46
ويوم لا أراك كألف شهر
وشهر لا أراك كألف عام
قال الحافظ :
آندم كه باتو باشم يكساله هست روزي
واندم كه بي تو باشم يك لحظه هست سالي
46
ويجوز أن يكون قوله : وإن يوماً إلخ ، متعلقاً بقوله : ولن يخلف إلخ والمعنى ما وعده تعالى ليصببنهم ولو بعد حين لكنه تعالى حليم صبور لا يعجل بالعذاب وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون لكمال حلمه ووقاره وتأنيه ، حتى استقصر المدد الطوال شبه المدة القصيرة عنده بالمدة الطويلة عند المخاطبين إشارة إلى أن الأيام تتساوى عنده إذ لا استعجال له في الأمور فسواء عنده يوم واحد وألف سنة ، ومن لا يجري عليه الزمان فسواء عليه وجود الزمان وعدم الزمان وقلة الزمان وكثرة الزمان إذ ليس عنده صباح ولا مساء ، وبالفارسية : (نزديك خداي تعالى يكروز برابر هزار سالست زيراكه حكم زمان بروجاري نيست س وجود وعدم وقلت وكثرت آن نزديك خداي يكسانست هركاه كه خواهد عذاب فرستد وبر استعجال زمان عقوبت هي اثري مترتب نشود.
تادر نرسد وعدة هركاركه هست
هرند كني جهد بجاني نرسد
فعلى العاقل أن يلاحظ أن كل آت قريب ولا يغتر بالإمهال فإن بطش الله شديد وعذابه لا يطاق ويسارع إلى رضى الله تعالى بامتثال أوامره والاجتناب عن نواهيه وترك الاستهزاء بالدين وأهله بأحكام الله ووعده ووعيده فإن الله صادق في قوله حكيم في فعله وليس للعبد إلا تعظيمه وتعظيم أمره.
{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} وكثير من أهل قرية{أَمْلَيْتُ لَهَا} أمهلتها بتأخير العذاب كما أمهلت لهؤلاء.
{وَهِىَ ظَالِمَةٌ} أي والحال أنها ظالمة مستوجبة لتعجيل العقوبة كدأب هؤلاء.
{ثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب بعد طول الإمهال : يعني (س كرفتيم ايشانرا ون توبه نكردند بعذابي سحت دردنيا).
{وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ} أي : إلى حكمي مرجع الكل لا إلى أحد غيري لا استقلالاً ولا شركة فأفعل بهم ما أفعل مما يليق بأعمالهم وفيه إشارة إلى أن الإمهال يكون من الله تعالى والإهمال لا يكون فإنه يمهل ولا يهمل ويدع الظالم في ظلمه ويوسع له الحبل ويطيل به المهل فيتوهم أنه يفلت من قبضة التقدير وذلك ظنه الذي أراد ويأخذه من حيث لا يرتقب فيعلوه ندامة ولات حينه ، وكيف يستبقى بالحيلة ما حق في التقدير عدمه وإلى الله مرجعه فالظلم من العبد سبب للأخذ من الله فلا يلومن إلا نفسه ، قال الحافظ :
توبتقصير خود افتادى ازين محروم
ازكه مي نالي وفرياد جرا ميداري
جزء : 6 رقم الصفحة : 46
{قُلْ يا اأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أنذركم إنذاراً بيناً بما أوحي إليّ من أخبار الأمم المهلكة من غير أن يكون لي دخل في إتيان ما توعدونه من العذاب حتى يستعجلوني والاقتصار على الإنذار مع بيان حال الفريقين بعده ؛ لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين وعقابهم وإنما ذكر المؤمنون وثوابهم زيادة في غيظهم.
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى إنذار أهل النسيان أي قل لهم يا محمد إني أشابهكم من حيث الصورة لكن أباينكم من حيث السيرة فأنا لمحسنكم بشير ولمسيئكم نذير وقد أيدت بإقامة البراهين ما جئتكم به من وجوه الأمر بالطاعة والإحسان والنهي عن الفجور والعصيان.
{فَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ} تجاوز لذنوبهم{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} نعيم الجنة : يعني (رزق بي رنج ومنت) والكريم من كل نوع ما يجمع فضائله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 46
{وَالَّذِينَ سَعَوْا} أسرعوا واجتهدوا {وَالَّذِينَ سَعَوْا} في رد آياتنا وإبطالها
47
(6/33)
بالطعن فيها ونسبتها إلى السحر والشعر وغير ذلك من الافتراء.
{مُعَـاجِزِينَ} حال كونهم يعاجزون الأنبياء وأولياءهم ، أي يقابلونهم ويمانعونهم ليصيروهم إلى العجز عن أمر الله أو ظانين أنهم يعجزوننا فلا نقدر عليهم أو معاندين مسابقين من عاجز فلان فلاناً سابقه فعجزه سبقه كما قال الكاشفي : (درحالتي يشي كيرند كانند برما بكمال خود يعني خواهندكه ازما دركذرند وعذاب ما ازيشان فوت) {أولئك} الموصوفون بالسعي والمعاجزة {أَصْحَـابُ الْجَحِيمِ} أي : ملازمون النار الموقدة وقيل : هو اسم دركة من دركاتها.
وفي "المثنوي" :
هركه برشمع خدا آرد تفو
شمع كي ميرد بسوزد وزاو
كي شود دريا زوزسك نجس
كي شود خورشيد ازف منطمس
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن من عاند أهل آياته من خواص أوليائه أولئك أصحاب جحيم الحقد والعداوة ورد الولاية والسقوط عن نظر الله وجحيم نار جهنم في الآخرة وإذا أراد الله تعالى بعبد خيراً يحوله عن الإنكار ويوفقه للتوبة والاستغفار.
روي : أن رجلاً قال كنت أبغض الصوفية فرأيت بشراً الحافي يوماً قد خرج من صلاة الجمعة فاشترى خبزاً ولحماً مشوياً وفالوذجاً وخرج من بغداد فقلت إنه زاهد البلد فتبعته لأنظر ماذا يصنع وظننت أنه يريد التنعم في الصحراء فمشى إلى العصر فدخل مسجداً في قرية وفيه مريض فجعل يطعمه فذهبت إلى القرية لأنظر ثم جئت فلم أجد بشراً فسألت المريض فقال : ذهب إلى بغداد ، فقلت : كم بيني وبين بغداد ، قال : أربعون فرسخاً ، فقلت : إناوإنا إليه راجعون ولم يكن عندي ما أكتري به وأنا عاجز عن المشي فبقيت إلى جمعة أخرى فجاء بشر ومعه طعام للمريض فقال المريض : يا أبا نصر رد هذا الرجل إلى منزله فنظر إليّ مغضباً وقال : لم صحبتني فقلت : أخطأت فأوصلني إلى محلتي فقال : اذهب ولا تعد فتبت إلى الله وأنفقت الأموال وصحبتهم ، وفي الحكاية إشارت منها أن كرامات الأولياء حق ومنها أن إنكار ما ليس للعقل فيه مجال خطأ ومنها أن الرجوع إلى باب وأرث الرسول ينظم العبد في سلك القبول.
قال الحافظ :
جزء : 6 رقم الصفحة : 47
كليد كنج سعادت قبول أهل دلست
مبادكس كه درين نكته شك وريب كند
قال بعض الكبار : الاستمداد من أهل الرشاد وإن كان صالحاً عظيماً في نيل المراد إلا أن حسن الاعتقاد مع مباشرة الأسباب يسهل الأمور الصعاب ويوصل إلى رب الأرباب والله مفتح الأبواب والهادي إلى سبيل الصواب.
وقال بعضهم : المنكر على العلماء بالله إنما أنكر لقصور فهمه وقلة معرفته ، فإن علومهم مبنية على الكشف والعيان وعلوم غيرهم من الخواطر الفكرية والأذهان وبداية طريقهم التقوى والعمل الصالح وبداية طريق غيرهم مطالعة الكتب والاستمداد من المخلوقين في حصول المصالح ونهاية علومهم الوصول إلى شهود حضرة الحي القيوم ونهاية علوم غيرهم تحصيل الوظائف والمناصب والخصام الذي لا يدوم فلا طريق إلا طريق السادة الهداة القادة.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِىٍّ} هذا دليل بين على تغاير الرسول والنبي والرسول إنسان أرسله الله إلى الخلق لتبليغ رسالته وتبيين ما قصرت عنه عقولهم من مصالح الدارين وقد يشترط فيه
48
الكتاب بخلاف النبي فإنه أعم ويعضده ما روى أنه عليه السلام سأل عن الأنبياء فقال : "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً" قيل : فكم الرسل منهم قال : "ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً" وفي رواية "مائتا ألف وأربعة وعشرون ألفاً".
وقال القهستاني : الرسول من بعث لتبليغ الأحكام ملكاً كان أو إنساناً بخلاف النبي فإنه مختص بالإنسان.
قال الكاشفي في "تفسيره" : (در بعض تفاسير قصة إلقاء الشيطان درامنيت يغمبر وبر وجهي آورده اندكه مرضى أهل تحقيق نيست وما از تأويلات علم الهدى وتيسير وديكر كتب معتبره ون معتمد في المعتقد وذروة الأحباب مدت أنوار جمال مؤلفه إلى يوم الحساب آنرا اينجا ايراد كرديم بطريقي كه موافق أهل سنت است آورده اندكه ون والنجم نازل شد سيد عالم عليه السلام آنرادر مسجد الحرام در مجمع قريش ميخواند ودرميان آيتها توقف مي نمود تامردم تلقي نموده ياد كيرند س طريق مذكور بعد ازتلاوت آيت.
{أَفَرَءَيْتُمُ اللَّـاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاخْرَى} (النجم : 91 ـ ـ 20) متوقف شد وشيطان دران ميان مجال يافت بكوش مشركان رسانيدكه تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن بترتجي حاصل معنى آنكه ايشان بزركان يامرغان بلند روازند واميد بشفاعت ايشان ميتوان داشت كفار باستماع أين كلمات خوش دل شده نداشتندكه حضرت يغمبر خواند وبتان ايشانرا ستايش كرد لا جرم در آخر سوره كه آن حضرت بامؤمنان سجده كردند أهل شرك اتفاق كردند جبرائيل فرود وصورت حال بعرض رسانيد ودل مبارك حضرت بسيار اندوهناك شد وحق تعالى جهت تسليت خاطر عاطر سيد عالم آيت فرستاد وفرمود وما أرسلنا الخ) {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى} أي قرأ.
(6/34)
جزء : 6 رقم الصفحة : 47
قال في "القاموس" : تمنى الكتاب قرأه.
قال الراغب : التمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها والأمنية الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء وقوله تعالى : {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَـابَ إِلا أَمَانِىَّ} (البقرة : 78) معناه إلا تلاوة مجردة عن المعرفة من حيث أن التلاوة بلا معرفة المعنى تجري عند صاحبها مجرى أمنية تمناها على التخمين {أَلْقَى الشَّيْطَـانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ} أي : قراءته كما فسره الراغب وغيره.
قال الكاشفي : (بيفكند شيطان نزديك تلاوت ازآنه خواست نانكه بوقت تلاوت حضرت يغمبر ما عليه السلام شيطاني كه اورا أبيض كويند بهنجار آواز حضرت آن كلمات برخواند وكمان بردند آن تلاوت يغمبراست).
{فَيَنسَخُ اللَّهُ} يزيل ويبطل فالمراد بالنسخ هو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام.
{مَا يُلْقِى الشَّيْطَـانُ} من كلمات الكفر {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ} يثبت.
{ءَايَـاتِهِ} التي تلاها الأنبياء عليهم السلام ، حتى لا يجد أحد سبيلاً إلى إبطالها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما أوحي وبما ألقى الشيطان.
{حَكِيمٌ} ذو الحكيمة في تمكينه من ذلك يفعل ما يشاء ليميز به الثابت على الإيمان من المتزلزل فيه وقولهم : لو جوّز مثل هذا لأدى إلى اشتباه أحوال الأنبياء من حيث أن ما يسمع عند تلاوتهم من قولهم أو من إلقاء الشيطان فيتعذر الاقتداء مدفوع بأن ما ألقى الشيطان أمر ظاهر بطلانه عند المؤمنين المخلصين ألا ترى أن القرآن ورد بإبطال الأصنام فكيف يجوز كون قوله : تلك الغرانيق إلخ من القرآن ولو سلم فالنسخ والأحكام والإيقاف على حقيقة الأمر ولو بعد حين يجلي كل مشتبه فيكون
49
إلقاء الشيطان من باب الامتحان والتعليل الآتي يرفع النقاب ويهدي المتردد إلى طريق الصواب وهو قوله :
جزء : 6 رقم الصفحة : 47
{لِّيَجْعَلَ} أي : مكنه الله من الإلقاء في قراءة النبي عليه السلام خاصة ليجعل أن تمكينه تعالى إياه من الإلقاء في حق سائر الأنبياء لا يمكن تعليله بما سيأتي فأول الآية عام وآخرها خاص.
{مَا يُلْقِى الشَّيْطَـانُ فِتْنَةً} (ازمايشي وابتلايي).
{لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي : شك ونفاق لأنه مرض قلبي مؤد إلى الهلاك الروحاني كما أن المرض القلبي مؤد إلى الهلاك الجسماني.
{وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} أي المشركين والقسوة غلظ القلب وأصله من حجر قاس والمقاساة معالجة ذلك.
قال الكاشفي : (مرد آنست منافق ومشرك از ألقاى شيطان درشك وخلاف افتند) {وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ} أي : المنافقين والمشركين وضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالظلم.
{لَفِى شِقَاق} خلاف {بَعِيدٍ} عن الحق ، أي لفي عداوة شديدة ومخالفة تامة ووصف الشقاق بالبعد مع أن الموصوف به حقيقة هو معروضة للمبالغة.
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ} أي : القرآن.
وفي "التفسير الجلالين" : أن الذي أحكم الله من آيات القرآن.
{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} أي هو الحق النازل من عنده ليس للشيطان مجال تصرف فيه من حق الأمر إذا ثبت ووجب.
{فَيُؤْمِنُوا بِهِ} القرآن أي يثبتوا على الإيمان به أو يزدادوا إيماناً برد ما يلقي الشيطان وهو عطف على قوله ليعلم {فَتُخْبِتَ لَه قُلُوبُهُمْ} تخشع وتتواضع وقد مر بيان الإخبات في هذه السورة.
قال الكاشفي : (س نرم شود براي قرآن دلهاي ايشان وأحكام آنرا قبول كنند) {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا} أي في الأمور الدينية خصوصاً في المداحض والمشكلات التي من جملتها ما ذكر {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} هو النظر الصحيح الموصل إلى الحق الصريح.
جزء : 6 رقم الصفحة : 49
وفي "التأويلات النجمية" : أن الله ليبتلي المؤمن المخلص بفتنة وبلاء ويرزقه حسن بصيرة يميز بها بين الحق والباطل فلا يظله غمام الريب وينجلي عنه غطاء الغفلة فلا يؤثر فيه دخان الفتنة والبلاء كما لا تأثير للضباب الغداة في شعاع الشمس عند متوع النهار أي ارتفاعه وأن الهداية من الله ومن تأييده لا من الإنسان وطبعه وأن من وكله الله إلى نفسه وخذله بطبعه لا يزول عنه الشك والكفر والضلالة إلى الأبد ولو عالجه الصالحون.
قال المولى الجامي :
آنراكه زمين كشد درون ون قارون
ني موسيش آورد برون ني هارون
فاسد شده راز روزكار وارون
لا يمكن أن يصلحه العطارون
وقال الشيخ :
توان اك كردن زنك آينه
وليكن نيايد زسنك آينه
فعلى العاقل أن يستسلم لأمر القرآن المبين ويجتهد في إصلاح النفس الأمارة إلى أن يأتي اليقين فإن النفس سحارة ومكارة ومحتالة وغدارة.
قال الشيخ المغربي :
ملك بودكه افتاد دره بابل
ه سحرها ست درين قعر جاه بابل ما
جزء : 6 رقم الصفحة : 49
{وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ} أي : في شك وجدال من القرآن.
(6/35)
قال الراغب : المرية التردد في الأمر وهي أخص من الشك.
{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} القيامة وقد سبق وجه
50
تسميتها بها مراراً.
{بَغْتَةً} فجاءت على غفلة منهم.
وبالفارسية (ناكهان) {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} أصل العقم اليبس المانع من قبول الأثر والعقيم من النساء التي لا تقبل ماء الفحل والمعنى عذاب يوم لا يوم بعده كأن كل يوم يلد ما بعده من الأيام فما لا يوم بعده يكون عقيماً والمراد به الساعة أيضاً بشهادة ما بعد الآية من تخصيص الملك فيه بالله والحكم بين الفريقين كأنه قيل أو يأتيهم عذابها فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل كذا في "الإرشاد".
يقول الفقير : إن الساعة شفعت في القرآن بالعذاب الدنيوي في مواضع كثيرة كما في قوله تعالى : {أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَـاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} (يوسف : 107) وفي قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} ونحوها فالظاهر أن اليوم العقيم يوم لا يلد خيراً وليس لهم فيه فرج ولا فرح أصلاً كيوم بدر ونحوه ولما كان زمان الموت آخر زمان من أزمنة الدنيا وأول زمان من أزمنة الآخرة أثبت فيه تخصيص التصرف بالله والحكم بين الفريقين في الآية الآتية من حيث اتصال زمان الموت بزمان القيامة.
{الْمُلْكُ} أي : السلطان القاهر والاستيلاء التام والتصرف على الإطلاق.
وبالفارسية (ادشاهي وفرمان دهي).
{يَوْمَـاـاِذٍ} يوم إذ تأتيهم الساعة أو العذاب وحده بلا شريك أصلاً لا مجازاً ولا حقيقة.
يعني (امروز ملوك وسلاطين دعوى سلطنت وملك داري ميكنند دران روز كمر تكبر أزميان متجبران بكشايند وتاج ازسر خسروان بربايند ودعويها منقطع وكمالها مرتفع كردد ومالك ملك رخت تخيلات وتصورات ملوك را در قعر درياي عدم أفكند ورسوم توهمات وتفكرات سلاطين را بصدمت لمن الملك اليوم درهم شكندهمه را جزا ظهار عبوديت واقرار بعجز وبياركي اره نباشد :
جزء : 6 رقم الصفحة : 50
آن سركه صيت افسرش ازرخ دركذشت
روزي برآستانة أو خاك در شود
قال الشيخ سعدي قدس سره :
همه تخت وملكي ذيرد زوال
بجز ملك فرمان ده لا يزال
قال ابن عطاء الملك على دوام الأوقات وجميع الأحوال له تعالى ولكن يكشف للعوام الملك يومئذٍ لإبراز القهارية والجبارية فلا يقدر أحد أن يجحد ما عاين.
{يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} كأنه قيل : فماذا يصنع بهم حينئذٍ فقيل : يحكم بين فريقي المؤمنين بالقرآن والمجادلين فيه بالمجازاة ثم فسر هذا الحكم وفصله بقوله : {فَالَّذِينَ ءَامَنُوا} بالقرآن ولم يجادلوا فيه {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} امتثالاً بما أمر في تضاعيفه {فِى جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} مستقرون فيها.
قال الكاشفي : (در بوستانهاي ناز ونعمت أند بي رنج ومحنت).
قال الراغب : النعيم النعمة الكثيرة : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآياتنا} أي أصروا على ذلك واستمروا فأولئك مبتدأ خبره جملة قوله : {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ، (خوار كننده ورسوا سازنده).
قال السمرقندي : مهين يذهب بعزهم وكبرهم رأساً وبالكلية ويلحقهم من الخزي والصغار ما لا يحيط به الوصف.
قال في "الإرشاد" : ومهين صفة لعذاب مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة وإدخال الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن إثابة المؤمنين بطريق التفضل لا لإيجاب الأعمال الصالحة إياها وأن عقاب
51
الكافرين بسبب أعمالهم السيئة.
واعلم أن الفصل والحكومة العادلة كائن لا محالة وإن كان الكفار في شك من القرآن وما نطق به من البعث والمجازاة روي أن لقمان وعظ ابنه وقال يا بنيّ إن كنت في شك من الموت فادفع عن نفسك النوم ولن تستطيع ذلك وإن كنت في شك من البعث فإذا نمت فادفع عن نفسك الانتباه ولن تستطيع ذلك فإنك إذ فكرت في هذا علمت أن نفسك بيد غيرك فإن النوم بمنزلة الموت واليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت فإذا عرف العبد مولاه قبل أمره ونال به عزة لا تنقطع أبداً وهي عزة الآخرة التي تستصغر عندها عزة الدنيا.
روي أن عابداً رأى سليمان عليه السلام في عزة الملك فقال : يا ابن داود لقد آتاك الله ملكاً عظيماً فقال سليمان لتسبيحة واحدة خير مما فيه سليمان فإنها تبقى وملك سليمان يفنى فإذا كانت التسبيحة الواحدة أفضل من ملك سليمان فما ظنك بتلاوة القرآن الذي هو أفضل الكتب الإلهية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 50
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في "الفتوحات المكية" : يستحب لقارىء القرآن في المصحف أن يجهر بقراءته ويضع يده على الآية يتبعها فيأخذ اللسان حظه من الرفع ويأخذ البصر حظه من النظر وتأخذ اليد حقها من المس قال : وهكذا كان يتلو ثلاثة من أشياخنا منهم عبد الله بن مجاهد فعلى العاقل أن يجتهد في الوصول إلى أعالي درجات الجنان بالأذكار وتلاوة القرآن.
(6/36)
جزء : 6 رقم الصفحة : 50
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} فارقوا أوطانهم {فِى سَبِيلِ اللَّهِ} في الجهاد الموصل إلى جنته ورضاه حسبما يلوح به قوله تعالى : {ثُمَّ قُتِلُوا} ، (س كشته شدند درجهاد بادشمنان دين) والقتل إزالة الروح عن الجسد لكن إذا اعتبر بفعل المتولي لذلك يقال : قتل وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال : موت.
{أَوْ مَاتُوا} أي : في تضاعيف المهاجرة.
وبالفارسية (يا بمردن شربت شهادت ناشيده) {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} مرزوقاً حسناً والمراد نعيم الجنة الغير المنقطع أبداً.
قال الكاشفي : (هر آينه روزي دهد خداي تعالى ايشانرا روزي نيكركه نعيم بهشت است نه تعبي رسد تحصيل آن ونه علتي بود درتناول آن ونه دغدغة انقطاع باشد دران روزي).
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} فإنه يرزق بغير حساب مع أن ما يرزقه لا يقدر عليه أحد غيره والرزق العطاء الجاري دنيوياً كان أو أخروياً ثم بين مسكنهم بقوله :
{لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا} اسم مكان أريد به الجنة {يَرْضَوْنَهُ} لما أنهم يرون فيها ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} بأحوال كل {حَلِيمٌ} لا يعاجل بعقوبة الأعداء مع غاية الاقتدار روي : أن إبراهيم عليه السلام رأى عاصياً في معصيته فدعا عليه وقال : اللهم أهلكه ثم رأى ثانياً وثالثاً ورابعاً فدعا عليه فقال الله تعالى : يا إبراهيم لو أهلكنا كل عبد عصى ما بقي إلا القليل ولكن إذا عصى أمهلناه فإن تاب قبلناه وأن استغفر أخرنا العذاب عنه لعلمنا أنه لا يخرج عن ملكنا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 52
قال الكاشفي : (آورده اندكه بعضي ازصحابه كفتند يا رسول الله باجمع برادران ديني بجهاد ميرويم ايشان شهيد مبشوند وبعطيات إلهي اختصاص ميكردندا اكر ما بميريم وشهيد نميشويم حال ما ون باشد اين آيت فرود آمد) يعني : سوى في الآية بين المقتول والمتوفى على حاله في الوعد لاستوائهما في العقد وهو التقرب إلى الله ونصرة الدين.
ونظيره
52
ما قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في "الفتوحات المكية" : إنما قال المؤذن قد قامت الصلاة بلفظ الماضي مع أن الصلاة مستقبلة بشرى من الله لعباده لمن جاء إلى المسجد ينتظر الصلاة ، أو كان في الطريق آتياً أو كان في حال الوضوء بسببها ، أو كان في حال القصد إلى الوضوء قبل الشروع فيه ليصلي بذلك الوضوء فيموت في بعض هذه المواطن قبل وقوع الصلاة منه فبشره الله بأن الصلاة قد قامت له في هذه المواطن كلها فله أجر من صلاها وإن كانت ما وقعت منه فلذلك جاء بلفظ الماضي لتحقق الحصول فإذا حصلت بالفعل أيضاً فله أجر الحصول كذلك وقد ورد أن أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة انتهى روي : أن جنازتين أصيب أحدهما بمنجنيق والآخر توفي فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى فقيل له : تركت الشهيد فلم تجلس عنده فقال : ما أبالي من أي حفريتهما بعثت إن الله تعالى يقول : {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} الآية ، وفي الحديث : "من خرج حاجاً فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ومن خرج معتمراً فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ومن خرج غازياً فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة" روب : أن أبا طلحة رضي الله عنه لما غزا في البحر فمات طلبوا جزيرة يدفنونه فيها فلم يقدروا عليها إلا بعد سبعة أيام وما تغير جسده وهذا من صفة الشهداء.
وقال بعضهم : مراتب حسن الأرزاق متفاونة تفاوت حسن حال المرزوقين فلا تقتضي الآية تساوي المقتول والمتوفى على كل حال ، فللمقتول في سبيل الله مزية على الميت بما أصابه في ذات الله تعالى فهو أفضل منه ويدل عليه دلائل كثيرة منها قوله عليه السلام لما سئل أي الجهاد أفضل : "أن يعقر جوادك ويهراق دمك" ، وأيضاً المقتول في سبيل الله يجيء وريح دمه ريح المسك والميت لم ينل ذلك وأيضاً المقتول يتمنى الرجعة إلى الدنيا ليقتل في سبيل الله مرة ثانية لما يرى من فضل الشهادة وليس كذلك الميت وأيضاً القتل في سبيل الله يكفر كل ذنب ولم يرد ذلك في الموت وأيضاً الميت في سبيل الله يغسل والمقتول لا يغسل وأيضاً الشهيد المقتول يشفع ولم يرد ذلك في الميت وأيضاً الشهيد يرى الحور العين قبل أن يجف دمه وليس كذلك الميت.
جزء : 6 رقم الصفحة : 52
وفي الآية إشارة إلى المهاجرة عن أوطان الطبيعة في طلب الحقيقة وقتل النفس بسيف الصدق أو الموت عن الأوصاف البشرية وأجر هذا هو الرزق المعنوي في الدنيا فرزق القلوب حلاوة العرفان ورزق الأسرار مشاهدات الجمال ورزق الأوراح مكاشفات الجلال.
وفي "المنثوي" :
أي بسا نفس شهيد معتمد
مرده دردنياه وزنده مي رود
أي بساخامي كه ظاهر خويش ريخت
ليك نفس زنده آن جانب كريخت
آلتش بشكست وره زن زنده ماند
نفس زنده است اره مركب خون فشاند
(6/37)
جزء : 6 رقم الصفحة : 52
{ذَالِكَ} خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك الذي قصصنا عليكم وبينا لكم والجملة لتقرير ما قبله والتنبيه على أن ما بعده كلام مستأنف.
{وَمِنَ} (وهركه) {عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي : من جازى الظالم بمثل ما ظلم ولم يزد في الاقتصاص والعقوبة اسم لما يعقب الجرم من الجزاء وإنما سمى الابتداء بالعقاب الذي هو جزاء الجناية ، أي مع أنه ليس بجزاء يعقب الجريمة للمشاكسة أو على سبيل المجاز المرسل فإنه ما وقع ابتداء سبب لما وقع جزاء وعقوبة فسمى
53
السبب باسم المسبب.
{ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ} ظلم عليه بالمعاودة إلى العقوبة يقال : بغى عليه بغياً علا وظلم.
قال الراغب : البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى تجاوزه أو لم يتجاوزه فتارة يعتبر في القدرة التي هي الكمية وتارة يعتبر في الوصف الذي هو الكيفية يقال : بغيت الشيء إذا طلبت أكثر ما يجب.
{لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} على من بغى عليه لا محالة وهو خبر من {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} مبالغ في العفو والغفران فيعفو عن المنتصر ويغفر له ما صدر عنه من ترجيح الانتقام على العفو والصبر المندوب إليهما بقوله : {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَالِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ} (الشورى : 43) فالعفو وإن اقتضى سابقية الجناية من المعفو عنه لكن الجناية لا تلزم أن تكون بارتكاب المحرم بل قد يعد ترك ما ندم إليهه جناية على سبيل الزجر والتغليظ وفي "بحر العلوم" : العفو محاء للذنوب بإزالة آثارها من ديوان الحفظة والقلوب بالكلية كي لا يطالبهم بها يوم القيامة ولا يخجلوا عند تذكرها وبأن يثبت مكان كل ذنب عملاً صالحاً كما قال : {فأولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ} غفور ، أي مريد لإزالة العقوبة عن مستحقها من الغفر وهو الستر أي ستور عليهم وقدم العفو لأنه أبلغ يشعر بالمحو الذي هو أبلغ من الستر وفيه إشارة إلى أن الأليق بالمنتصر والأقرب بحاله أن يعفو ويغفر عن كل من ظلمه ويقابله بالإحسان.
جزء : 6 رقم الصفحة : 53
بدي را بدي سهل باشد جزا
اكر مردي أحسن إلى من أساء
ولا يذكر ما صدر منه من أنواع الجفاء والأذى فإنه متى فعل ذلك فإن الله أكرم الأكرمين أولى أن يفعل ذلك على أن الانتصار لا يؤمن فيه تجاوز التسوية والاعتداء خصوصاً في حال الغضب والحرب والتهاب الحمية فربما كات المنتصر من الظالمين وهو لا يشعر انتهى كلام "البحر".
يقول الفقير سمعت من في حضرة شيخي وسندي قدس سره وهو يقول الإنسان الكامل كالبحر فمن آذاه واغتابه أو قصد إليه بسوء فإنه لا يتكدر به بل يعفو عنه ألا يرى أن البول إذا وقع في البحر فالبحر يطهره وكذا من أجنب إذا دخل البحر واغتسل فإنه يتطهر ولا يتغير البحر لا بالبول ولا بدخول الجنب وقال روح الله روحه من قال في حقنا قولاً فاحشاً أو فعل فعلاً مكروهاً فهو في حل فإنه إرادة الانتقام له أو وقوعه في أمر مكروه من باب الشرك في طريقنا فنحن لا نلتفت إليه أصلاً بل إلى ما وتر الله لنا من الأمور وكل فعله حسن وقد أخفى جماله في جلاله وأطال في ذلك وهو مذكور في كتابنا المسمى "بتمام الفيض".
قال في "الخلاصة" : في كتاب الحدود رجل قال لآخر يا خبيث هل يقول له بل أنت الأحسن أن يكف عنه ولا يجيب ولو رفع الأمر إلى القاضي ليؤدب يجوز ومع هذا لو أجاب لا بأس به ، وفي "مجمع الفتاوي" في كتاب الجنايات لو قال لغيره : يا خبيث ، فجازاه بمثله جاز لأنه انتصار بعد الظلم ، وذلك مأذون فيه قال الله تعالى : {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِه فأولئك مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} (الشورى : 41) والعفو أفضل قال الله تعالى : {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُه عَلَى اللَّهِ} (الشورى : 40) وإن كانت تلك الكلمة موجبة للحد لا ينبغي له أن يجيبه تحرزاً عن إيجاب الحد على نفسه انتهى.
كما قال في "التنوير" : لو قال لآخر : يا زاني ، فقال الآخر : لا بل أنت الزاني حد بخلاف ما لو قال له مثلاً : يا خبيث فقال : أنت تكافئا.
وفي "التنوير" : أيضاً ضرب غيره بغير حق وضربه المضروب يعزران ويبدأ
54
في إقامة التعزير بالبادي :
{ذَالِكَ} النصر هو مبتدأ خبره قوله : {ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى} أي بسبب أن القادر على ما يشاء من التغليب وغيره من آيات قدرته البالغة الدالة على التغليب أنه يحصل ظلمة الليل في مكان ضياء النهار بتغييب الشمس وضياء النهار في مكان ظلمة الليل باطلاعها وجعلها طالعة أو يزيد في أحد الملوين ما ينقص من الآخر من الساعات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 53
(6/38)
قال الراغب : الولوج الدخول في مضيق قال تعالى : {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ} (الأعراف : 40) وقوله : {يُولِجُ} الخ تنبيه على ركب الله عليه العالم من زيادة الليل في النهار في الليل وذلك بحسب مطالع الشمس ومغاربها {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعُ} يسمع قول المعاقب والمعاقب : {بَصِيرٌ} يرى أفعالهما فلا يهملهما.
{ذَالِكَ} الوصف بكمال العلم والقدرة {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} في الألوهية {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ} يعبدون ، {مِن دُونِه هُوَ الْبَـاطِلُ} إلهية {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ} على جميع الأشياء ، {الْكَبِيرُ} عن أن يكون به شريك لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً.
وفي "التأويلات النجمية" : أعلى من ما يجده الطالبون بداية والعظيم الذي لا يدرك الواصلون نهايته.
وفي "بحر العلوم" : هو العلي شأنه أي أمره وجلاله في ذاته وأفعاله لا شيء أعلى منه شأناً لأنه فوق الكل بالإضافة وبحسب الوجوب وهو فعيل من العلو في مقابلة السفل وهما في الأمور المحسوسة كالعرش والكرسي مثلاً ، وفي الأمور المعقولة كما بين النبي صلى الله عليه وسلّم وأمته وبين الخليفة والسلطان والعالم والمتعلم من التفاوت في الفضل والشرف والكمال والرفعة ولما تقدس الحق سبحانه عن الجسمية تقدس علوه عن أن يكون بالمعنى الأول وهو الأمور المحسوسة فتعين واختص بالثاني.
قال الإمام الغزالي رحمه الله العبد لا يتصور أن يكون علياً مطلقاً إذ لا ينال درجة إلا ويكون في الوجود ما هو فوقها وهي درجات الأنبياء والملائكة نعم يتصور أن ينال درجة لا يكون في جنس الإنس من يفوقه وهي درجة نبينا عليه الصلاة والسلام ولكنه قاصر بالإضافة إلى العلو المطلق لأنه علو بالإضافة إلى بعض الموجودات والآخر أنه علو بالإضافة إلى الوجود لا بطريق الوجوب بل يقارنه إمكان وجود إنسان فوقه فالعلي المطلق هو الذي له الفوقية لا بالإضافة وبحسب الوجوب لا بحسب الوجود الذي يقارنه إمكان نقيضه والكبير هو ذو الكبرياء عبارة عن كمال الذات المعنى به كمال الوجود وكمال الوجود بشيئين أحدهما : أن يصدر عنه كل موجود والثاني أن يدوم إذ كل وجود مقطوع بعدم سابق أو لاحق فهو ناقص ولذلك يقال للإنسان : إذا طالت مدة وجوده أنه كبير السن طويل مدة البقاء ولا يقال : عظيم السن ، فالكبير يستعمل فيما لا يستعمل فيه العظيم والكبير من العباد هو الكامل الذي لا تقتصر عليه صفات كماله بل تسري إلى غيره ولا يجالسه أحد إلا ويفيض عليه من كماله شيء وكمال العبد في عقله وورعه وعلمه فالكبير هو العالم التقي المرشد للخلق الصالح لأن يكون قدوة يقتبس من أنواره وعلومه ولهذا قال عيسى عليه السلام : "من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السماء" وقيل لعيسى عليه السلام : يا روح الله من نجالس فقال : من يزيد في علمكم منطقه ويذكركم الله رؤيته ويرغبكم في الآخرة عمله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 53
وفي الآية إشارة إلى أن ما سوى الله باطل أي غير موجود بوجود
55
ذاتي ، وفي "المثنوي" :
كل شيء ما خلا الله باطل
أن فضل الله غيم هاطل
ملك ملك أوست أو خود ما لكست
غير ذاتش كل شيء هالكست
قال الشيخ أبو الحسن الكبرى : استغفر الله مما سوى الله ، أي لأن الباطل يستغفر من إثبات وجوده لذاته فعلى العاقل أن يجتهد في تحصيل الشهود واليقين ويصل في التوحيد إلى مقام التمكين.
تادم وحدت زدي حافظ شوريده حال
خامة توحيد كش برورق اين وآن
نسأل الله التوفيق لدرك الحقيقة على التحقيق.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الارْضُ مُخْضَرَّةً} (سبز كشته يكباربعد ازمردكي وخشكي).
قال الراغب : الخضرة أحد الألوان بين البياض والسواد وهو إلى السواد أقرب ولهذا يسمى الأسود أخضر والأخضر أسود وقيل : سواد العراق للموضع الذي تكثر فيه الخضرة قوله : ألم تر استفهام تقرير ولذلك رفع فتصبح عطفاً على أنزل إذ لو نصب جواباً للاستفهام لدل على نفي الاخضرار والمقصود إثباته كمايدل النصب على نفي النظر في قوله : {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا} (محمد : 10) وأورد تصبح بصيغة المضارع ليدل على بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} يصل لطفه إلى الكل من حيث لا يعلم ولا يحتسب.
وقال الكاشفي : (لطف كننده است بربندكا ن باروييدن كياه تا ايشانرا ازان روزي دهد) {خَبِيرٌ} بما يليق من التدابير الحسنة ظاهراً وباطناً.
وقال الكاشفي : (داناست محال رزقاً ومرزوقاً).
{لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} خلقاً وملكاً وتصرفاً ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ} في ذاته عن كل شيء.
وبالفارسية : (هرآينه أوست بي نياز درذات خود ازهمه أشياء).
وفي "التأويلات النجمية" : في ذاته مستغن عن الحامدين.
(6/39)
قال الإمام الغزالي رحمه الله الحميد هو المحمود المثنى عليه والله تعالى هو الحميد لحمده لنفسه أزلاً ولحمد عباده له أبداً ويرجع هذا إلى صفات الجلال والعلو والكمال منسوباً إلى ذكر الذاكرين له فإن الحمد هو ذكر أوصاف الكمال من حيث هو كمال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 53
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الأرْضِ} أي جعل ما فيها من الأشياء مذللة لكم معدة لمنافعكم تتصرفون فيه كيف شئتم فلا أصلب من الحجر ، ولا أشد من الحديد ولا أهيب من النار وهي مسخرة منقادة لكم {وَالْفُلْكَ} عطف على ما أو على اسم أن {تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} ، حال من الفلك والمراد ، بالأمر التيسير والمشيئة {وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ} من {أَن تَقَعَ عَلَى الأرْضِ} بأن خلقها على صورة متداعية إلى الاستمساك يقال أمسك الشيء إذا أخذه والوقوع السقوط {إِلا بِإِذْنِهِ} أي بمشيئة.
قال الراغب : في الشيء الإعلام بإجازته والرخصة فيه انتهى.
وذلك يوم القيامة وفيه رد لاستمساكها ، بذاتها فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية فتكون قابلة للميل الهابط كقبول غيرها.
يقول الفقير : من الغرائب ما رأيت في بعض الكتب أن طائراً كان يتدلى من الشجرة برجله كل ليلة إلى الصباح ويصبح خوفاً من وقوع السماء عليه ونظيره ما ذكره الحافظ أن الكركي لا يطأ الأرض بقدميه
56
بل بأحدهما فإذا وطئها لم يعتمد عليها خوفاً أن تخسف الأرض وفي هذين عبرة لأولي الأبصار.
{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (مهربان وبخشاينده است) حيث هيأ لهم أسباب معاشهم وفتح لهم أبواب المنافع ودفع عنهم أنواع المضار وأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية بمعنى الرحيم أو الرأفة أشد الرحمة أو أرقها كما في "القاموس".
قال في "بحر العلوم" : لرؤوف لمريد للتخفيف على عباده رحيم مريد للإنعام عليهم.
{وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ} بعد أن كنتم جماداً عناصر ونطفاً حسبما فصل في مطلع السورة الكريمة.
{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند مجيء آجالكم.
{ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} عند البعث {إِنَّ الانسَـانَ لَكَفُورٌ} أي : لجحود للنعم مع ظهورها فلا يعبد المنعم الحقيقي وهذا وصف للجنس بوصف بعض أفراده.
جزء : 6 رقم الصفحة : 56
قال الجنيد قدس سره أحياكم بمعرفته ثم يميتكم بأوقات الغفلة والفترة ثم يحييكم بالجذب بعد الفترة ثم يقطعكم عن الجملة فيوصلكم إليه حقيقة أن الإنسان لكفور يذكر ما له وينسى ما عليه.
اعلم أن الله تعالى كرم الإنسان وعظم شأنه فنقله من عالم الجماد إلى عالم النبات ثم منه إلى عالم الحيوان ثم جعله ناطقاً وأفاض عليه نعمة الصورية والمعنوية وجعل الموجودات خادمة له فلا بد من الشكر لألطافه والشكر إظهار النعمة والكشف عنها ونقيضه الكفران وهو سترها وإخفاؤها وكل نعمة فهي سبيل إلى معرفة المنعم لأنها أثره فيلزم الاستدلال بالأثر على المؤثر وهو الإيمان اليقيني وفي الحديث : "كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتحببت إليهم بالنعم حتى عرفوني" فعلى العاقل أن لا يغتر بالنعم والغنى ويلاحظ التوفيق في كل حال وفي الخبر أن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلّم "قل للقوي لا تعجبنك قوتك فإن أعجبتك قوتك فادفع الموت عن نفسك ، وقل للعالم لا يعجبنك علمك فإن أعجبنك علمك فأخبرني متى أجلك ، وقل للغني لا يعجبنك مالك وغناؤك فإن أعجبك فأطعم خلقي غداء واحداً" فالإنسان عاجز والله على كل شيء قدير ومنه النعمة إلى الصغير والكبير قال الشيخ سعدي قدس سره :
اديم زمين سفرة عام أوست
برين خوان يغماه دشمن ه دوست
ولكل عضو من أعضاء الإنسان طاعة تخصه فإذا لم يصرفه إلى مصارفه ولم يستخدمه فيما يناسب فقد تعرض لسخط الله تعالى وفي "البستان" :
يكي كوش كودك بماليد سخت
كه أي بو العجب رأى وبركشته بخت
تراتيشه دادم كه هيزم شكن
نكفتم كه ديوار مسجد بكن
زبان آمد بهر شكر وساس
بغيبت نكرداندش حق شناس
كذركاه قرآن وندست كوش
به بهتان وباطل شنيدن مكوش
دوشم از ي صنع باري نكوست
زعيب برادر فروكير ودوست
يقال : علامة المنيب أي المقبل إلى الله تعالى في ثلاث خصال :
أولاها : أن يجعل قلبه للتفكر في صفات الله والأمور الأخروية.
والثانية : أن يجعل لسانه للذكر والشكر.
والثالثة : أن يجعل بدنه للخدمة في سبيل الله تعالى بلا فتور إلى أن يأتي الموت نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لطاعته
57
وخدمته ويشرفنا بجنته ووصلته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 56
(6/40)
{لِّكُلِّ أُمَّةٍ} معينة من الأمم الماضية والباقية والأمة جماعة أرسل إليهم رسول.
{جَعَلْنَا} (معين ساختيم) {مَنسَكًا} مصدر مأخوذ من النسك وهو العبادة أي شريعة خاصة لا لأمة منهم على معنى عينّا كل شريعة لأمة معينة من الأمم بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى لا استقلالاً ولا اشتراكاً.
{هُمْ نَاسِكُوهُ} صفة لمنسكاً مؤكدة للقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور على الفعل والضمير لكل أمة باعتبار خصوصها أي تلك الأمة المعينة ناسكوه والعاملون به لأمة أخرى فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام ، منسكهم التوراة هم ناسكوها والعاملون بها لا غيرهم والأمة التي من مبعث عيسى إلى مبعث النبي عليه السلام ، منسكهم الإنجيل هم ناسكوه والعاملون به لا غيرهم وأما الأمة الموجودة عند بعث النبي عليه السلام ومن بعدهم من الموجودين إلى يوم القيامة فهم أمة واحدة منسكهم الفرقان ليس إلا.
{فَلا يُنَـازِعُنَّكَ} أي : من يعاصرك من أهل الملل يقال : نزع الشيء جذبه من مقره كنزع القوس عن كبده المخاصمة {فِى الامْرِ} أي : في أمر الدين زعماً منهم أن شريعتهم ماعين لآبائهم الأولين من التوراة والإنجيل فإنهما شريعتان لمن مضى من الأمم قبل انتساخهما وهؤلاء أمة مستقلة منسكهم القرآن المجيد فحسب.
وبالفارسية (س بايدكه نزاع نكنند سائر أرباب اديان باتو دركار دين ه امردين توازان ظاهر ترست كه تصور نزاع دران توان درتور آفتاب ه جاي تأمل است).
{وَادْعُ} الناس كافة ولا تخص أمة دون أمة بالدعوة فإن كل الناس أمتك {إِلَى رَبِّكَ} إلى توحيده وعبادته حسبما بين لهم في منسكهم وشريعتهم {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} أي : طريق موصل إلى الحق سويّ وهو الدين.
{وَإِن جَـادَلُوكَ} وخاصموك بعد ظهور الحق ولزوم الحجة وأصله من جدلت الحبل أي حكمت فتله فكأن المجادلين يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه.
{فَقُلِ} لهم على سبيل الوعيد {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأباطيل التي من جملتها المجادلة فيجازيكم عليها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 57
{اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} بالثواب والعقاب كما فصل في الدنيا بالحجج والآيات {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين.
{أَلَمْ تَعْلَمْ} الاستفهام للتقرير أي قد علمت {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَآءِ وَالارْضِ} فلا يخفى عليه شيء من الأشياء التي من جملتها ما يقول الكفرة وما يعملونه.
{إِنَّ ذَالِكَ} أي : ما في السماء والأرض {فِى كِتَـابٍ} هو اللوح قد كتب فيه قبل حدوثه فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له.
{إِنَّ ذَالِكَ} أي ما ذكر من العلم والإحاطة به وإثباته في اللوح {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} سهل : وبالفارسية : (آسانست) فإن علمه وقدرته مقتضى ذاته فلا يخفى عليه شيء ولا يعسر عليه مقدور.
وفي الآيات إشارات : منها أن لكل فريق من الطلاب شرعة هم واردوها ولكل قوم طريقة هم سالكوها ومقاماً هم سكانه ومحلاً هم قطانه ربط كل جماعة بما أهلهم وأوصل كل ذوي رتبة إلى ما جعله محلهم فبساط التعبد موطوء بأقدام العابدين ومشاهد الاجتهاد معمورة بأصحاب
58
الكلف من المجتهدين ومجالس أصحاب المعارف مأنوسة بلوازم العارفين ومنازل المحبين مأهولة بحضور الواجدين ولتفاوت مقامات السلوك والموصول تفاوتت الدعوة إلى الله تعالى فمنهم من يدعو الخلق من باب الفناء في حقيقة العبودية وهو قوله تعالى : {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـاًا} (مريم : 9) ومنهم من يدعوهم من باب ملاحظة العبودية وهو الذلة والافتقار وما يقتضيه مقام العبودية ومنهم من يدعوهم من باب ملاحظة الأخلاق الرحمانية ومنهم من يدعوهم من باب ملاحظة الأخلاق بالقهرية ومنهم من يدعوهم من باب الأخلاق الإلهية وهو أرفع باب وأجله وقد قالوا الطرق إلى الله بعد أنفاس الخلائق وبعدد الأنفاس الإلهية فإن الشؤون المتجددة من الله تعالى في كل مظهر أنفاس الإلهية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 58
ومنها : أن أهل المجادلة هم أهل التأبّي والإنكار والاعتراض والله أعلم بأحوالهم ويحكم يوم القيامة بين كل فريق بما يناسب حاله أما الأجانب فيقول لهم : {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الإسراء : 14) وأما الأولياء فقوم منهم يحاسبهم حساباً يسيراً وصنف منهم يؤتون أجورهم بغير حساب وأما الأحباب فيقعدون في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ومنها : أن السماء سماء القلب وفية نور اليقين والصدق والإخلاص والمحبة والأرض أرض البشرية والنفس الأمارة وفيها ظلمة الشك والكذب والشرك وحرص الدنيا فيزيل الله عن أرباب القلوب البلوى ويجمل لهم النعمى وتنزل بأرباب النفوس البلوى ولا يسمع منهم الشكوى أن ذلك في كتاب مكتوب بقلم التقدير في القدم كما قال الشيخ سعدى.
(6/41)
كرت صورت خال بد يانكوست
نكاريدة دست تقدير أوست
إن ذلك على الله يسير مجازاتهم على وفق التقدير سهلة على الله تعالى ولكن ليعرف المؤمن أن كلاً ميسر أو مهيأ لما خلق له فمن وفق للعلم والعمل كان ذلك علامة للسعادة العظمى ومن ابتلي بالجهل والكسل كان ذلك أمارة للشقاوة الكبرى فلم يبق إلا التسليم للأحكام الإلهية والاجتهاد في طريق الحق بالشريعة والطريقة إلى أن يحصل الوصول إلى المعرفة الحقيقة وأما قوله :
قضا كشتي آنجا كه خواهد برد
وكر ناخدا جامه برتن درد
فناظر إلى عالم القضاء والعبد أعمى وليس له التفحص عن ذلك والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 58
{وَيَعْبُدُونَ} أي : أهل الشرك{مِن دُونِ اللَّهِ} أي : متجاوزين عبادة الله تعالى {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ} أي بجواز عبادته وما عبارة عن الأصنام.
{سُلْطَـانًا} أي حجة وبرهاناً {وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ} أي بجواز عبادته {عِلْمٍ} حصل لهم من ضرورة العقل أو استدلاله فهم إنما يعبدون الأصنام بمجرد الجهل ومحض التقليد {وَمَا لِلظَّـالِمِينَ} أي : المشركين الذين ارتكبوا مثل هذا الظلم العظيم {مِن نَّصِيرٍ} يدفع عنهم العذاب الذي يعتريهم بسبب ظلمهم.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى من كان من جملة خواصة أفرده ببرهان وأيده ببيان وأعزه بسلطان وما لأهل الخذلان سلطان فيما عبدوه من أصناف الأوثان ولا برهان على ما طلبوه ومالهم نصرة من الله بل خذلان.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} أي على المشركين {ءَايَـاتُنَا} من القرآن حال كونها {بَيِّنَـاتٍ} واضحات الدلالة على العقائد الخفية والأحكام الإلهية.
{تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ} أي الإنكار بالعبوس والكراهة
59
كالمكرم بمعنى الإكرام.
وبالفارسية : (يعني ون قرآن بركافران خواني انر كراهت ونفرت درروي إيشان به بيني ازفرط عناد ولجاج كه باحق دارند).
واعلم أن الوجوه كالمرائي فكل صورة من الإقرار والإنكار تظهر فيها فهي أثر أحوال الباطن وكل إناء يترشح بما فيه كتلون وجوه قوم صالح فما ظهر عليهم في ظاهرهم إلا حكم ما استقر في باطنهم.
قال الفقير :
جزء : 6 رقم الصفحة : 59
هركرا صورت بياض الوجوه بود
صورت حال درونش رونمود
كرسياه ويا كبودي بود رنك
رنك أو ظاهر شد ازدل بي دل نك
{يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِنَا} أي يثبون ويبطشون بهم من فرط الغيظ والغضب لأباطيل أخذوها تقليداً من السطوة وهي البطش برفع اليد يقال سطا به {قُلْ} رداً عليهم وإقناطاً مما يقصدونه من الإضرار بالمسلمين.
{أَفَأُنَبِّئُكُم} أي : أخاطبكم فأخبركم بشر من ذلكم الذي فيكم من غيضكم على التالين وسطوتكم بهم.
{النَّارُ} أي : هو النار على أنه جواب لسؤال مقدر كأنه قيل ما هو.
{وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي : النار والمصير المرجع.
وفيه إشارة إلى أن نار القطيعة والطرد والإبعاد شر من الإنكار الذي في قلوب المنكرين فعلى العاقل أن يجتنب عن كل ما يؤدي إلى الشرك والإنكار ويصحب أهل التوحيد والإقرار ويقبل الحقائق والأسرار ويحب أرباب الولاية ويبغض أصحاب الضلالة.
وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى غداً : يا ابن آدم أما زهدك من الدنيا فإنما طلبت الراحة لنفسك وأما انقطاعك إلي فإنما طلبت العزة لنفسك ولكن هل عاديت لي عدواً أو واليت لي ولياً.
واعلم أن الكفر والإنكار يؤديان إلى النار كما أن التوحيد والإقرار يفضيان إلى الجنة وهما من أفضل النعم فإن العبد يصل بسبب التوحيد إلى السعادة الأبدية ولذلك كل عمل يوزن إلا شهادة أن لا إله إلا الله وإذا رسخ التوحيد في قلب المؤمن لم يجد بداً من الإقرار والذكر كلما وجد مجالاً صالحاً له حكي : أن بعض الصالحين رأى زبيدة امرأة هارون الرشيد في المنام بعد الموت وسأل عن حالها فقالت : غفر لي ربي فقال : أبالحياض التي حفرتها بين الحرمين الشريفين فقالت : لا فإنها كانت أموالاً مغصوبة فجعل ثوابها لأربابها فقال : فيم قالت : كنت في مجلس شرب الخمر فأمسكت عن ذلك حين أذن المؤذن وشهدت ما شهد المؤذن فقال الله تعالى لملائكته أمسكوا عن عذابها لو لم يكن التوحيد راسخاً في قلبها لما ذكرتني عند السكر فغفر لي وأحسن حالي وأما أهل النار والمؤاخذة فالأدنى منهم عذاباً يتنعل من نار يغلى منه دماغه ولذلك قال الله تعالى : {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فإنه لا راحة فيها لأحد عصمنا الله وإياكم من نار البعد وعذاب السعير إنه خير عاصم ومجير.
جزء : 6 رقم الصفحة : 59
يا اأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} أي : بين لكم حالة مستغربة أو قصة بديعة حقيقة بأن تسمى مثلاً وتسير في الأمصار والأعصار.
{فَاسْتَمِعُوا لَه} أي : للمثل استماع تدبر وتفكر : وبالفارسية : (س بشنويد آن مثل را بكوش هوش ودران تأمل كنيد).
(6/42)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بقوله : يا اأَيُّهَا النَّاسُ} إلى أهل النسيان عن حقيقة الأمر بالعيان فلا بد لهم من ضرب مثل لعلهم ينبهون من نوم الغفلة فالخطاب لناسي عهد الميثاق عامة
60
وللمستعين المستعدين لإدراك فهم الخطاب بقوله : {فَاسْتَمِعُوا لَه} خاصة وهذا الأمر أمر التكوين بسمعهم الخطاب ويتعظون به ثم بين المعنى فقال : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} يعني الأصنام التي تعبدونها متجاوزين عبادة الله تعالى وهو بيان للمثل وتفسير له.
قال الكاشفي : (وآن سيصد وشصت بت بودند برحوالي خانه نهاده حق سبحانه وتعالى فرمودكه اين همه بت كه مي رستيد بجز خداي تعالى).
وفي "التأويلات" : من أنواع الأصنام الظاهرة والباطنة {لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا} أي لن يقدروا على خلقه أبداً مع صغره وحقارته فإن لن بما فيها من تأكيد النفي دالة على منافاة ما بين المنفي والمنفي عنه والذباب من الذب أي يمنع ويدفع.
قال في "المفردات" : الذباب يقع على المعروف من الحشرات الطائرة وعلى النحل والزنابير وفي قوله : {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْـاًا} فهو المعروف.
وفي "حياة الحيوان" : في الحديث : "الذباب في النار لا النحل" وهو يتولد من العفونة لم يخلق لها أجفان لصغر أحداقها ومن شأن الأجفان أن تصقل مرآة الحدقة من الغبار فجعل الله لها يدين تصقل بهما مرآة حدقتها فلهذا ترى الذباب أبداً يمسح بيديه عينيه وإذا بخر البيت بورق القرع ذهب منه الذباب.
{وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} أي لخلقه وهو مع الجواب المقدر في موضع حال جيء بها للمبالغة أي لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه فكيف إذا كانوا منفردين {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْـاًا} أي : أن يأخذ الذباب منهم شيئاً ويخطفه {لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} أي : لا يستردوه من الذباب مع غاية ضعفه لعجزهم ، وبالفارسية : (نميتوانند رهانيد يعني باز نميتوانند ستانند آن يزرا) قيل : كانوا يطيبون الأصنام بالطيب والعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 60
قال الكاشفي : (رسم ايشان آن بودكه بتان را بعسل وخلوق مي اندودند ودرهاي تنجانه برايشان مي بستند مكسان ازروزن در آمده آنها ميخوردند وبعد ازند روز أثر طيب وعسل برايشان نبود شادي مينمودندكه آنهاراً خورده اند حق سبحانه وتعالى ازعجز وضعف بتان خبر ميد هدكه نه برآفريدن مكس قادرند ونه بردفع ايشان ازخود).
{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} أي : عابد الصنم ومعبوده أو الذباب الطالب لما يسلبه عن الصنم من الطيب والصنم المطلوب منه ذلك {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي : ما عرفوه حق معرفته أو ما عظموه حق تعظيمه حيث أشركوا ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصر منه وسموا باسم ما هو أبعد الأشياء منه مناسبة.
{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ} على خلق الممكنات بأسرها وإفناء الموجودات عن آخرها.
{عَزِيزٌ} غالب على جميع الأشياء لا يغلبه شيء وآلهتهم التي يدعونها عجزة عن أقلها مقهورة من أذلها.
قال ابن عطاء دلهم بقوله : {وَإِن يَسْلُبْهُمُ} إلخ على مقادر الخليقة فمن كان أشد هيبة وأعظم ملكاً لا يمكنه الاحتراز من أهون الخلق وأضعفه ليعلم بذلك عجزه وضعفه وعبوديته وذلته ولئلا يفتخر على أبناء جنسه من بني آدم بما يملكه من الدنيا :
عاجز انكه عاجزاً نرا بنده اند
ون فتدكاري زهم شرمنده اند
عجزوا إمكان لازم يكديكرند
س همه خلقي زهم عاجز ترند
قوت أزحق است وقوت حق أوست
آن أو مغزاست وآن خلق وست
61
قال الواسطي : في الآية الأخيرة لا يعرف قدر الحق إلا الحق وكيف يقدر قدره أحد وقد عجز عن معرفة قدر الوسائط والرسل والأولياء والصديقين ومعرفة قدره أن لا يلتفت منه إلى غيره ولا يغفل عن ذكره ولا يفتره عن طاعته إذ ذاك عرفت ظاهر قدره وأما حقيقة قدره فلا يقدر قدرها إلا هو.
قال الكاشفي : (محققان برآنندكه نانه أهل شرك بحق المعرفة اورا تشناخته اند أهل علم نيز بحقيقت معرفت اوراه نبرده اند زيراكه دورباشي {وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلْمًا} (طه : 110) كسي را در حوالي باركاه كبريا نميكذارد وبعيب هويت خود هي رهبر ورهنمارا راه نميدهد ميان اووماسوى بهي نوع نسبتي نيست تادر طريق معرفتش شروع تواند كرد ومعرفت بي مناسبت ازقبيل محالات است ماللطين ورب العالمين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 60
ه نسبت خاك را با عالم اك
قال بعض الكبار ما عرفناك حق معرفتك أي بحسبك ولكن عرفناك حق معرفتك أي بحسبنا.
وفي "شرح مفتاح الغيب" لحضرة شيخي وسندي قدس الله سره العلم الإلهي الشرعي المسمى في مشرب أهل الله علم الحقائق هو العلم بالحق سبحانه من حيث الارتباط بينه وبين الخلق وانتشاء العالم منه بقدر الطاقة البشرية وهو ما وقع فيه الكمل في ورطة الحيرة وأقروا بالعجز عن حق المعرفة انتهى.
(6/43)
قال الشيخ أبو العباس رحمه الله : معرفة الولي أصعب من معرفة الله فإن الله معروف بكماله وجماله متى يعرف مخلوقاً مثله يأكل كما يأكل ويشرب كما يشرب انتهى.
وهذا الكلام موافق لما في "شرح المفتاح" ولما قبله كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في هذاب الباب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 60
{اللَّهُ يَصْطَفِى} (بركزيند) {مِنَ الملائكة رُسُلا} يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحي مثل جبرائيل وميكائيل وإسرافيل.
قال في "المفردات" : أصل الصفاء خلوص الشيء من الشوب والاصطفاء تناول صفو الشيء كما أن الاختيار تناول خيره والاجتباء تناول جبايته واصطفاء الله بعض عباده قد يكون بإيجاد تعالى إياها صافياً عن الثوب الموجود في غيره وقد يكون باختياره وبحكمه وإن لم يتعر ذلك من الأول.
وفي "التأويلات" : يصطفي من الملائكة رسلاً بينه وبين العباد ولتربيتهم بأداء الرسالة إذا لم يكونوا بعد مستأهلين لاستماع الخطاب بلا واسطة فيربيهم بواسطة رسالة الملائكة.
{وَمِنَ النَّاسِ} (ومي كزيند ازآدميان يغمبران تاخلق را دعوت كند بوي) وهم المختصون بالنفوس الزكية المؤيدون بالقوة القدسية المتعلقون بكلام العالمين الروحاني والجسماني يتلقون من جانب ويلقون إلى جانب ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق عن التبتل إلى جانب الحق فيدعونهم إليه تعالى بما أنزل عليهم ويعلمونهم شرائعه وأحكامه {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُ} بجميع المسموعات.
وقال الكاشفي (شنواست مقالة يغمبر رادر وقت تبليغ) {بَصِيرٌ} مدرك لجميع المبصرات فلا يخفى عليه شيء من الأقوال والأفعال.
وقال الكاشفي (بينا بحال امت اودر رد وقبول دعوت).
وفي "التأويلات النجمية" : سميع يسمع ضراعتهم في احتياج الوجود وهم في العدم بصير ، من يستحق للرسالة وهو معدوم {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} عالم بواقع الأشياء ومترقبها.
وقال الكاشفي : (ميداند آنه در يش آدميانست يعني عملها كه
62
كرده اند وآنه ازس ايشانست يعني كارهاً خواهندكرد) {وَإِلَى اللَّهِ} لا إلى أحد غيره لا اشتراكاً ولا استقلالاً {تُرْجَعُ} ترد من الرجع القهقرى {الامُورِ} كلها لأنه مالكها بالذات لا يسأل عما يفعل من الاصطفاء وغيره وهم يسألون روي : أنه تكلم رجل في زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وافترى عليه فقال له زين العابدين : أن كنت كما قلت فأستغفر الله وإن لم أكن كما قلت فغفر الله لك فقام إليه الرجل وقبل رأسه وقال جعلت فداءك لست كما قلت فاغفر لي قال غفر الله لك فقال الرجل الله اعلم حيث يجعل رسالته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 62
وخرج يوماً من المسجد فلقيه رجل فسبه فثارت إليه العبيد والموالي فقال لهم زين العابدين : مهلاً على الرجل ثم أقبل على الرجل ، وقال ماستر عنك من أمرنا أكثر ألك حاجة نعنيك عليها فاستحيى الرجل فألقى إليه حميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسول ولا يتوهم أنهم كانوا أهل دنيا ينفقون منها الأموال إنما كانوا أهل سخاء وفتوة ومروءة وجود ومكارم كانت تأتيهم الدنيا فيخرجونها في العاجل وفيهم يصدق قول القائل :
تعود بسط الكف حتى لو أنه
ثناها لقبض لم تطعه أنامله
فلو لم يكن في كفه غير نفسه
لجاد بها فليتق الله سائله
جزء : 6 رقم الصفحة : 62
يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} أي في صلاتكم أمرهم بها لما أنهم ما كانوا يفعلونها أول إسلام.
قال أبو الليث : كانوا يسجدون بغير ركوع فأمرهم الله بأن يركعوا ويسجدوا وقال بعضهم كانوا يركعون بلا سجود ويسجدون بلا ركوع.
قال الكاشفي : (در أول إسلام همين قعود وقيام بدين آيت ركوع وسجود داخل شد) أو المعنى صلوا عبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها.
{وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} بسائر ما تعبدكم به {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} وتحروا ما هو خير وأصلح في كل ما تأتون وما تذرون كنوافل الطاعات وصلة الأرحام ومكارم الأخلاق وفي الحديث : "حسنوا نوافلكم فبها تكمل فرائضكم" وفي المرفوع : "النافلة هدية المؤمن إلى ربه فليحسن أحدكم هديته وليطيبها".
قال في "المفردات" : الخير ما يرغب فيه الكل كالعقل مثلاً والعدل والفضل والشيء النافع والشر ضده وقيل : الخير ضربان خير مطلق وهو أن يكون مرغوباً فيه بكل حال وعند كل أحد وصف عليه السلام الجنة فقال : "لا خير بخير بعده النار ولا شر بشر بعده الجنة" وخير مقيد وهو أن يكون خير الواحد شر الآخر كالمال الذي ربما كان خيراً لزيد وشراً لعمرو {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي افعلوا هذه كلها وأنتم راجون بها الإفلاح غير متيقنين له واثقين بأعمالكم.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
بضاعت نياوردم إلا أميد
خدايا زعفوم مكن نا أميد
(6/44)
والفلاح الظفر وإدراك البغية وذلك ضربان دنيوي وآخروي ، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي يطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء والغني والعز والعلم والأخروي أربعة أشياء بقاء بلا فناء وغني بلا فقر وعز بلا ذل وعلم بلا جهل ولذلك قيل لا عيش إلا عيش الآخرة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 63
زنهار دل مبند براسباب دنيوي
قالوا : الآية آية سجدة عند الشافعي وأحمد لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود.
قال الكاشفي :
63
(اين سجد ، مختلف فيه است وبمذهب إمام شافعي سجدة هفتم باشد از سجدات قرآن وحضرت شيخ اين راسجدة الفلاح كفته) وقال الإمام الأعظم والإمام مالك : دل مقارنة السجود بالركوع في الآية على أن المراد سجود الصلاة.
قال في "التأويلات النجمية" : يشير بقوله : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} الآية إلى الرجوع من تكبر قيام الإنسانية إلى تواضع خشوع الحيوانية فإن الحيوانات على أربع في الركوع لقوله : {وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ} (النور : 45) والرجوع من الركوع إلى الانكسار والذلة والنباتية في السجود فإن النبات في السجود لقوله : {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن 6) لأن الروح بهذه المنازل كان مجيئه من عالم الأوراح عبر على المنزل النباتي ثم على المنزل الحيواني إلى أن بلغ المنزل الإنساني فعند رجوعه إلى الحضرة يكون عبوره على هذه المنازل وهذا سر قوله صلى الله عليه وسلّم "الصلاة معراج المؤمنين" ثم قال : {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} يعني : بهذا الرجوع إليه خالصاً لوجه تعالى : {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} بالتوجه إلى الله في جميع أحوالكم وأعمال الخير كلها {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بالعبور على هذا المنازل من حجب الظلمات النفسانية والأنوار الروحانية.
{وَجَـاهِدُوا} الجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو {فِى اللَّهِ} أي في سبيل الله كما في "تفسير الجلالين".
وقال في غيره : أيولأجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس {حَقَّ جِهَادِهِ} (نانكه سزاوار جهاد أو باشد يعني بدل صافي ونيت خالص) أي جهاداً فيه حقاً خالصاً لوجهه فعكس وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة وأضيف الجهاد إلى الضمير الراجع إلى الله اتساعاً.
قال الإمام الراغب : الجهاد ثلاثة أضرب مجاهدة العدو الظاهر ومجاهدة الشيطان ومجاهدة النفس وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى : {وَجَـاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} وفي الحديث : "جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم" ، وفي الحديث : "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم" وعنه صلى الله عليه وسلّم أنه رجع من غزوة تبوك فقال : "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" فجهاد النفس أشد من جهاد الأعداء والشياطين وهو حملها على اتباع الأوامر والاجتناب عن النواهي.
وفي "المثنوي" :
جزء : 6 رقم الصفحة : 63
أي شهان كشتيم ما خصم برون
ماند ازو خصمي بتر در اندرون
كشتن اين كار عقل وهو ش نيست
شير باطن سخرة خركوش نيست
{هُوَ اجْتَبَـاكُمْ} أي : هو اختاركم لدينه ونصرته لا غيره وفيه تنبيه على ما يقتضي الجهاد ويدعو إليه.
قال ابن عطاء الاجتبائية أورثت المجاهدة لا المجاهدة أورثت الاجتبائية.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَجَـاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} بأن تجاهدوا النفوس في تزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ وتجاهدوا القلوب في تصفيتها بقطع تعلقات الكونين ولزوم المراقبات عن الملاحظات وتجاهدوا الأرواح في تحليتها بإفناء الوجود في وجوده ليبقى بوجوده وجوده {هُوَ اجْتَبَـاكُمْ} لهذه الكرامات من بين سائر البريات ولولا أن اجتباكم واستعداد هذا الجهاد أعطاكم وإليه هداكم لما جهدتم في الله كما قيل :
فلولا كمو ما عرفنا الهوى
ولولا الهوى ما عرفنا كمو
ومن مبادىء الحق الجهاد وهو أن لا يفتر مجاهدة النفس لحظة كما قال قائلهم :
يا رب أن جهادي غير منقطع
فكل أرضك لي ثغر وطرطوس
64
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أصل الحرج والحراج مجتمع الشيء وتصور منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج أي ما جعل فيه من ضيق بتكليف ما يشق عليه إقامته ولذلك أزال الحرج في الجهاد عن الأعمى والأعرج وعادم النفقة والراحلة والذي لا يأذن له أبواه.
قال الكاشفي : (يعني برشماتنك فرانكرفت ودر أحكام دين تكليف ما لا يطاق نكرد بوقت ضرورت رخصتها دادون قصر تميم وإفطار در مرض وسفر).
(6/45)
وفي "التأويلات النجمية" : أي ضيق في السير إلى الله والوصول إليه لأنك تسير إلى الله بسيره لا بسيرك وتصل إليه بتقربه إليك لا بتقربك إليه وإن كنت ترى أن تقربك إليه منك ولا ترى أن تقربك إليه من نتائج تقربه إليك وتقربه إليك سابق على تقربك إليه كما قال : "من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً" فالذراع إشارة إلى الشبرين شبر سابق على تقربك إليه وشبر لاحق يتقربك إليه حتى لو مشيت إليه فإنه يسارعك من قبل مهرولاً انتهى.
{مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} نصب على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبله بحذف المضاف أي وسع عليكم دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم أو اتبعوا ملة أبيكم كما في "الجلالين".
جزء : 6 رقم الصفحة : 63
قال الراغب : الملة كالدين وهو اسم لما شرع الله لعباده على لسان الأنبياء ليتوصلوا به إلى جوار الله تعالى والفرق بينها وبين الدين أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي الذي تسند إليه نحو اتبعوا ملة إبراهيم واتبعت ملة آبائي ولا يكاد يوجد مضافاً إلى الله تعالى ولا إلى آحاد أمة النبي ولا يستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها ولا يقال ملة الله ولا ملتي وملة زيد كما يقال دين الله ، وأصل الملة من مللت الكتاب ويقال : الملة اعتباراً بالنبي الذي شرعها والدين يقال اعتباراً بمن يقيمه إذا كان معناه الطاعة هذا كله في "مفردات الراغب" وإنما جعله آباهم لأنه أبو رسول الله وهو كالأب لأمته من حيث أنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته فغلبوا على غيرهم.
قال ابن عطية ملة إبراهيم هو السخاء والبذل وحسن الأخلاق والخروج عن النفس والأهل والمال والولد.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن السير والذهاب إلى الله من سنة إبراهيم عليه السلام لقوله : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} (الصافات : 99) وإنما سماه بأبيكم لأنه كان أباكم في طريقة السير إلى الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم "أنا لكم كالوالد لولده" {هُوَ} أي : الله تعالى {سَمَّـاـاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} أي في الكتب المتقدمة {وَفِى هَـاذَا} أي في القرآن {لِيَكُونَ الرَّسُولُ} يعني حضرة محمد يوم القيامة متعلق بسمّاكم واللام لام العاقبة {شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} بأنه بلغكم فيدل على شهادته لنفسه اعتماداً على عصمته أو بطاعة من أطاع وعصيان من عصى.
{وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} بتبليغ الرسل إليهم {وَجَـاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ} أي : فتقربوا إلى الله بأنواع الطاعات لما خصكم بهذا الفضل والشرف وتخصيصهما بالذكر لفضلها فإن الأول دال على تعظيم أمر الله والثاني على الشفقة على الخلق.
{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} أي ثقوا به في مجامع أموركم ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه.
وبالفارسية : (ونك در زنيد بفضل خداى يعني در مجامع أمور خود اعتماد بدو كنيد يابكستاب وسنت متمسك شويد سلمى فرموده كه اعتصام بحبل الله أمر عوام است وبالله كار خواص أما اعتصام بحبل الله تمسك بأوامر وتنفر ازنواهي واعتصام بالله خلوت دلست ازماسواي حضرت الهي).
{هُوَ مَوْلَـاـاكُمْ}
65
ناصركم ومتولي أموركم.
{فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} إذ لا مثل له في الولاية والنصرة ، بل لا ولي ونصير في الحقيقة سواه تعالى.
قال الكاشفي : (س نيك ياريست أو ونيكو مدد كاري بياري عيبها ببوشد وبمدد كاري كناهان ببخشدياري ازو جوي كه ازبادي درنما ند مدد كاري ازوي طلب كه از مدد كاري عاجز نشود).
جزء : 6 رقم الصفحة : 63
از ياري خلق بكذراي مرد خدا
ياري طلب آننان ازروي وفا
كارتوتواندكه بسازد همه وقت
دست تو تواند كه بكيرد همه جا
قال فيثاغورث : متى التمست فعلاً من الأفعال فابدأ إلى ربك بالابتهال في النحج فيه.
وشكا رجل إلى أخيه الحاجة والضيق فقال له : يا أخي أغير تدبير ربك تريد لا تسأل الناس وسل من أنت له.
ودخل سليمان بن عبد الملك الكعبة فقال لسالم بن عبد الله : ارفع حوائجك فقال : والله لا أسأل في بيت الله غير الله فينبغي للعبد الطالب لعصمة الله تعالى أن يعتصم به في كل الأمور ويجتهد في رضاه في الخفاء والظهور ولا يقول أن هذا الأمر عسير فإن ذلك على الله يسير فإنه هو المولى فنعم المولى ونعم النصير قال تعالى ذلك أي النصر بأن الله مولى الذين آمنوا الآية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 63(6/46)
سورة المؤمنون
مكية وهي مائة وعشر آيات عند البصريين وثماني عشرة عند الكوفيين
جزء : 6 رقم الصفحة : 65
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} سعد المصدقون ونالوا البقاء في الجنة ويدل عليه "أن الله تعالى لما خلق جنة عدن بيده قال : تكلمي فقالت : قد أفلح المؤمنون فقال : طوبى لك ، منزل الملوك أي ملوك الجنة وهم الفقراء الصابرون".
فصيغة الماضي للدلالة على تحقق الدخول في الفلاح وكلمة قد لإفادة ثبوت ما كان متوقع الثبوت من قبل لأن المؤمنين كانوا متوقعين ذلك الفلاح من فضل الله والفلاح البقاء والفوز بالمراد والنجاة من المكروه والإفلاح الدخول في ذلك كالإبشار الذي هو الدخول في البشارة وقد يجيء متعدياً بمعنى الإدخال فيه وعليه قراءة من قرأ على البناء للمفعول ولما كان الفلاح الحقيقي لا يحصل بمطلق الإيمان وهو التصديق بما علم ضرورة أنه من دين نبينا عليه السلام ، من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء ونظائرها بل يحصل بالإيمان الحقيقي المقيد بجميع الشرائط قال بطريق الإيضاح أو المدح.
{الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} الخشوع الخوف والتذلل.
وفي "المفردات" : الخشوع : الضراعة وأكثر ما يستعمل فيما يوجد على الجوارح والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد على القلب ولذلك قيل فيما ورد : "إذا ضرع القلب خشعت الجوارح" أي خائفون من الله متذللون له ملزمون أبصارهم مساجدهم.
قال الكاشفي : (شم برسجده كاه
66
نهاده وبدل بردركاه مناجات حاضر شده) روي : أنه عليه السلام كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فلما نزلت رمى ببصره نحو مسجده وأنه رأى مصلياً يعبث بلحيته فقال : "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه".
وفي "النتف" : يكره تقليب الوجه إلى نحو السماء عند التكبيرة الأولى ، وجه النهي أن النظر إلى السماء من قبيل الالتفات المنهي عنه في الصلاة ، وأما في غيرها فلا يكره لأن السماء قبلة الدعاء ومحل نزول البركات.
قال الكاشفي : (رلباب فرموده كه درحالت قيام ديده برسجده كاه بايد نهاد مكر بمكة معظمه كه درخانة مكرمه بايد نكريست) ، وفي الحديث : "إن العبد إذا قام إلى الصلاة فإنما هو بين يدي الرحمن فإذا التفت يقول الله تعالى : إلى من تلتفت إلى خير مني أقبل يا ابن آدم إليّ فأنا خير ممن تلتفت إليه".
وفي "التأويلات النجمية" : خاشعون أي بالظاهر والباطن.
أما الظاهر فخشوع الرأس بانتكاسه وخشوع العين بانغماضها عن الالتفات وخشوع الأذن بالتذلل للاستماع وخشوع اللسان القراءة والحضور والتأنى وخشوع اليدين وضع اليمين على الشمال بالتعظيم كالعبيد وخشوع الظهر انحناؤه في الركوع مستوياً وخشوع الفرج ينفي الخواطر الشهوانية وخشوع القدمين بثباتهما على الموضع وسكونهما عن الحركة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 66
وأما الباطن : فخشوع النفس سكونها عن الخواطر والهواجس وخشوع القلب بملازمة الذكر ودوام الحضور وخشوع السر بالمراقبة في ترك اللحضات إلى المكونات وخشوع الروح استغراقه في بحر المحبة وذوبانه عند تجلي صفة الجمال والجلال (حققي فرموده كه در نماز أول ازخود بيزار بايد شد س طالب وصول بقرب يار باي كذشت).
يار بيزاراست ازتو تاتويي
أول ازخود خويش رابيزاركن
كر زتويكذره باقي مانداه است
خرقه وتسبيح با زنار كن
ترك خويش وهردوعالم كيرورو
ذرة منديش وون عطاركن
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ} أي : عما لا يعنيهم من الأقوال والأفعال.
وفي "المفردات" : اللغو من الكلام ما لا يعتد به وهو الذي يورد لا عن روية وفكر ويجري مجرى اللغا وهو صوت العصافر ونحوها من الطيور.
وفي "التأويلات النجمية" : اللغو كل فعل لاوكل قول لا من الله ورؤية غير الله وكل ما يشغلك عن الله فهو لغو.
قال الكاشفي : (أمام قشيري فرمودكه هره براي خدانيست حشواست وآنه ازخدا بازدارد سهواست وآنه بنده رادران حظي باشد لهواست وآنه ازخدا نبود لغواست وحقيقت آنست كه لغو يزى راكوينداز اقوال وأفعال بهيج كارنيايد) ، {مُعْرِضُونَ} يقال : أعرض أظهر عرضه أي ناحيته فإذا قيل عرض لي كذا أي بدا عرضه فأمكن تناوله وإذا قيل أعرض فمعناه ولى مبدياً عرضه ، أي معرضون في عامة أوقاتهم كما ينبىء عنه الاسم الدال على الاستمرار فيدخل في ذلك إعراضهم عنه حال اشتغالهم بالصلاة دخولاً أولياً ومدار إعراضهم عنه ، ما فيه من الحالة الداعية إلى الإعراض عنه لا مجرد الاشتغال بالجد في أمور الدين فإن ذلك ربما يوهم أن لا يكون في اللغو نفسه ما يزجرهم عن تعاطيه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 66
{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَواةِ فَاعِلُونَ} للصدقة مؤدون والتعبير عن الأداء بالفعل مذكور في كلام العرب قال أمية بن أبي الصّلت : المطعمون الطعام في السنة
67
الأزمة والفاعلون للزكوات.
وتوسيط حديث الإعراض بين الطاعة البدنية والمالية لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة والزكاة مصدر لأنه الأمر الصادر عن الفاعل لا المحل الذي هو موقعه.(6/47)
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن الزكاة إنما وجبت لتزكية النفس عن الصفات الذميمة النجسة من حب الدنيا أو غيره كقوله : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة : 103) فإن الفلاح في تزكية النفس كقوله : {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} (الأعلى : 14) ، وقوله : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـاـاهَا} (الشمس : 9 ـ ـ 10) ، ولم يكن المراد مجرد إعطاء المال وحبه في القلب وإنما كان لمصلحة إزالة حب الدنيا عن القلب ومثل حب الدنيا جميع الصفات الذميمة إلى أن تتم إزالتها :
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ} الفرج والفرجة الشق بين الشيئين كفرجة الحائط والفرج ما بين الرجلين وكني به عن السوءة وكثر حتى صار كالصريح فيه.
{حَـافِظُونَ} ممسكون لها من الحرام ولا يرسلونها ولا يبذلونها.
{إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} زوجاتهم فإن الزوج يقع على الذكر والأنثى.
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} يعني : (كنيز كان كه مليكة يمين اند) فما ملكت أيمانهم وإن كان عاماً للرجال أيضاً لكنه مختص بالنساء إجماعاً وإنما قال ما أجراء للمماليك مجرى غير العقلاء إذا الملك أصل شايع فيه.
قال في "الأسئلة المقحمة" : كيف يجوز أن يسمى الرقيق ملك يمين ولا يسمى به سائر الأملاك الجواب ملك الجارية والعبد أخص لأنه يختص بجواز التصرف فيه ولا يعم كسائر الأملاك فإن مالك الدار مثلاً ، يجوز له نقض الدار ولا يجوز لمالك العبد نقض بنيته انتهى.
وإفراد ذلك بعد تعميم قوله والذين هم عن اللغو معرضون لأن المباشرة أشهى الملاهي إلى النفس وأعظمها خطراً.
{فَإِنَّهُمْ} (س بدرستي كه نكاه دار ندكان فروج) {غَيْرُ مَلُومِينَ} على عدم حفظها منهن (بشرط آنكه در حيض ونفاس وروزه واحرام نباشد) ، واللوم عذل إنسان بنسبته إلى ما فيه لوم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 67
وفي "التهذيب" : اللوم : (ملامت كردن).
قال في "الأسئلة المقحمة" : أي فرق بين الذم واللوم الجواب أن الذم يختص بالصفات يقال الكفر مذموم واللوم يختص بالأشخاص يقال فلان ملوم.
وفي "التأويلات النجمية" : يعني يحفظون عن التلذذ بالشهوات أي لا يكون أزواجهم وإمائهم عدواً لهم بأن يشغلهم عن الله وطلبه فحينئذٍ يلزم الحذر منه ، كقوله : {عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (التغابن : 14) وإنما ذكر بلفظ على لاستيلائهم على أزواجهم لا لاستيلائهن عليهم وكانوا عليهن لا مملوكين لهن فإنهم غير ملومين إذا كانت المناكحة لابتغاء النسل ورعاية السنة وفي أوانها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 67
{فَمَنِ ابْتَغَى} طلب : وبالفارسية (س هركه جويد براي مباشرت) ، {وَرَآءَ ذَالِكَ} الذي ذكر من الحد المتسع وهو أربع من الحرائر وما شاء من الإماء.
وبالفارسية ؛ (غير زنان وزكنيزان خود) ، {فأولئك هُمُ الْعَادُونَ} الكاملون في العدوان المتناهون فيه أو المتعدون من الحلال إلى الحرام والعدوان الإخلال بالعدالة والاعتداء مجاوزة الحق : وبالفارسية ، (كاملند درست مكاري با ايشان ودركذرندكانند از حلال بحرام وانكه استمنا بيدكندهم ازين قبل است) كما في "تفسير الفارسي".
قال في "أنوار المشارق في الحديث" : "ومن لم يستطع" أي التزوج "فعليه بالصوم" استدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه أرشد عند العجز عن التزوج إلى أن الصوم الذي يقطع الشهوة جائز وفي رواية "الخلاصة" : الصائم
68
إذا عالج ذكره حتى أمنى يجب عليه القضاء ولا كفارة عليه ولا يحل هذا الفعل خارج رمضان إن قصد تسكين شهوته وأرجو أن لا يكون عليه ويل.
وفي بعض "حواشي البخاري" : والاستمناء باليد حرام بالكتاب والسنة قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـافِظُونَ} إلى قوله : {فأولئك هُمُ الْعَادُونَ} أي : الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام.
قال البغوي : في الآية دليل على أن الاستمناء باليد حرام.
قال ابن جريج : سألت عطاء عنه فقال : سمعت أن قوماً يحشرون وأيديهم حبالى وأظنهم هؤلاء.
وعن سعيد بن جبير عذب الله أمة كانوا يبعثون بمذاكرهم والواجب على فاعله التعزير كما قال ابن الملقن وغيره ، نعم يباح عند أبي حنيفة وأحمد إذا خاف على نفسه الفتنة وكذلك يباح الاستمناء بيد زوجته أو جاريته لكن قال القاضي حسين مع الكراهة لأنه في معنى العزل.
وفي "التاتارخانية" قال أبو حنيفة : حسبه أن ينجو رأساً برأس.
{وَالَّذِينَ هُمْ لامَـانَـاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ} لما يؤتمنون عليه ويعاهدون من جهة الحق أو الخلق.
وبالفارسية يعني : حايشانرا بران امين ساخته باشند ازامانات وودايع خلق يا انه أمانت حق است ون نماز وروزه وغسل جنابت وبرعهد اك باحق وخلق بندند) والأمانة اسم لما يؤتمن عليه الإنسان والعهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال ويسمى الموثق الذي يلزم مراعاته عهداً {رَاعُونَ} أي قائمون عليها وحافظون لها على وجه الإصلاح.
(6/48)
جزء : 6 رقم الصفحة : 68
وفي "التأويلات النجمية" : الأمانة التي حملها الإنسان وهي الفيض الإلهي بلا واسطة في القبول وذلك الذي يختص الإنسان بكرامة حمله وعهدهم أي الذي عاهدهم عليه يوم الميثاق على أن لا يعبدوا إلا إياه كقوله : {وَأَنِ اعْبُدُونِى هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (سونس : 61) راعون بأن لا يخونوا في الأمانات الظاهرة والباطنة ولا يعبدوا غير الله فإن أبغض ما عبد غير الله الهوى لأنه بالهوى عبد ما عبد من دون الله انتهى.
قال محمد بن الفضل : جوارحك كلها أمانات عندك أمرت في كل واحدة منها بأمر فأمانة العين الغض عن المحارم والنظر بالاعتبار وأمانة السمع صيانتها عن اللغو والرفث وإحضارها مجالس الذكر وأمانة اللسان اجتناب الغيبة والبهتان ومداومة الذكر وأمانة الرجل المشي إلى الطاعات والتباعد عن المعاصي وأمانة الفم أن لا يتناول به إلا حلالاً وأمانة اليد أن لا يمدها إلى حرام ولا يمسكها عن المعروف وأمانة القلب مراعاة الحق على دوام الأوقات حتى لا يطالع سواه ولا يشهد غيره ولا يسكن إلا إليه.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ} المفروضة عليهم {يُحَافِظُونَ} يواظبون عليها بشرائطها وآدابها ويؤدونها في أوقاتها.
قال في "التأويلات النجمية" : يحافظون لئلا يقع خلل في صورتها ومعناها ولا يضيع منهم الحضور في الصف الأول صورة ومعنى.
وفي الحديث : "يكتب للذي خلف الإمام بحذائه في الصف الأول ثواب مائة صلاة ، وللذي في الأيمن خمس وسبعون ، وللذي في الأيسر خمسون ، وللذي في سائر الصفوف خمس وعشرون" كما في "شرح المجمع" والصف الأول أعلم بحال الإمام فتكون متابعته أكثر وثوابه أتم وأوفر كما في "شرح المشارق" لابن الملك ، وفي الحديث : "أول زمرة تدخل المسجد هم أهل الصف وإن صلوا في نواحي المسجد" كما في "خالصة الحقائق" ولفظ يحافظون لما في الصلاة من التجدد والتكرر وهو السر في جمعها وليس فيه تكرير
69
الخشوع والمحافظة فضيلة واحدة.
قال الكاشفي : (ذكر صلاة در مبدأ ومنتهاي اين اوصاف كه موجب فلاح مؤمنانست اشارتست بتعظيم شان نماز).
{أولئك} المؤمنون المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة.
وبالفارسية : (آن كروه مؤمنان كه جامع اين شش صفت اند {هُمُ الْوَارِثُونَ} أي : الأحقاء بأن يسموا وارثاً دون من عداهم ممن ورث رغائب الأموال والذخائر وكرائمها.
والوراثة انتقال مالك إليك من غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد وسمي بذلك المنتقل عن الميت فيقال للمال المورث ميراث.
جزء : 6 رقم الصفحة : 68
{الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} بيان لما يرثونه وتقييد للموارثة بعد إطلاقها وتفسير لها بعد إبهامها تفخيماً لشأنها ورفعاً لمحلها وهي استعارة لاستحقاقهم الفردوس باعمالهم حسبما يقتضيه الوعد الكريم للمبالغة فيه ؛ لأن الوراثة أقوى سبب يقع في ملك الشيء ولا يتعقبه رد ولا فسخ ولا إقالة ولا نقض.
{هُمْ فِيهَا} أي : الفردوس والتأنيث لأنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا وهو البستان الجامع لأصناف الثمر روي : "أنه تعالى بني جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان" {خَـالِدُونَ} يخرجون منها ولا يموتون.
والخلود تبرىء الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها من غير اعتراض الكون والفساد عليها.
وفي "التأويلات النجمية" : الفردوس أعلى مراتب القرب قد بقي ميراثاً عن الأموات قلوبهم فيرثه الذين كانوا أحياء القلوب انتهى.
وفي "تفسير الفاتحة" للمولى الفناري رحمه الله : اعلم أن الجنان ثلاث : الأولى جنة الاختصاص الإلهي وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا حد العمل وحدهم من أول ما يولد ويستهل صارخاً إلى انقضاء ستة أعوام ويعطي الله من شاء من عباده من جنات الاختصاص ما شاء ومن أهلها المجانين الذين ما عقلوا ومن أهلها أهل التوحيد العلمي ومن أهلها أهل الفترات ومن لم يصل إليهم دعوة رسول.
والجنة الثانية : ميراث ينالها كل من دخل الجنة ممن ذكرنا ومن المؤمنين وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها.
(6/49)
والجنة الثالثة : جنة الأعمال وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر سواء كان الفاضل بهذه الحالة دون المفضول أو لم يكن فما من عمل إلا وله جنة يقع التفاضل فيها بين أصحابها ورد في الحديث الصحيح عن النبي عليه السلام أنه قال لبلال : "يا بلال بم سبقتني إلى الجنة فما وطئت فيها موضعاً إلا سمعت خشخشتك أمامي" فقال : يا رسول الله ما أحدثت قط إلا توضأت وما توضأت إلا صليت ركعتين فقال عليه السلام "بهما" فعلمنا أنها كانت جنة مخصوصة بهذا العمل فما من فريضة لا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم ومكروه إلا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص بمن دخلها ثم فصل مراتب التفاضل فمن أراد ذلك فليطلب هناك فما ذكره موافق لما قيل في الآية أنهم يرثون من الكفار منازلهم فيها حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار كما قال الكاشفي : (منزل مؤمنان ازدوزخ اضافة منازل كفار كنند ومنزلهاي ايشان ازبهشت برمنزل مؤمنان افزايند ودرزاد المسير آورده بهشت بنظر
70
كفار در آرند ومقامهاي ايشانرا اكر ايمان آوردندي بريشان نمايند تاحسرت ايشان زياده كردد :
جزء : 6 رقم الصفحة : 70
نظر ازدور درجانان بدان ما ندكه كافررا
بهشت ازدور بنمايند وآن سوز دكرباشد
اللهم اجعلنا من الذين يرثون الفردوس ويتنعمون بنعيمها ويصلون إلى نسيمها واحفظنا عن الأسباب المؤدية إلى النار وجحيمها.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ} اللام جواب قسم أي وبالله لقد خلقنا جنس الإنسان في ضمن خلق آدم خلقاً إجمالياً{مِن سُلَـالَةٍ} يقال : سل الشيء من الشيء نزع كسل السيف من الغمد وسل الشيء من البيت على سبيل السرقة وسل الولد من الأب ومنه للولد سليل ، والسلالة اسم ما سل من الشيء واستخرج منه فإن فعالة اسم لما يحصل من الفعل فتارة يكون مقصوداً منه كالخلاصة وأخرى غير مقصود منه كالقلامة والكناسة والسلالة من القبيل الأول فإنها مقصودة ما يسل ومن ابتدائية متعلقة بالخلق ، أي من خلاصة سلت من بين الكدر كما في "الجلالين" ، {مِّن طِينٍ} من بيانية متعلقة بمحذوف وقع صفة لسلالة أي خلقنا من سلالة كائنة من طين : وبالفارسية : (خلاصة وازنقاوه بيرون كشيده شده ازكل) والطين التراب والماء المختلط به.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى سلالة سلت من جميع طيبها وسبخها وسهلها وجبلها باختلاف ألوانها وطبائعها المتفاوتة ولهذا اختلفت ألوانهم وأخلاقهم لأنه مودع في طبيعتهم ما هو من خواص الطين الذي اختص بخاصية منها نوع من الحيوان من جنس البهائم والسباع والجوارح والحشرات المؤذيات الغالبة على كل أحد منها صفة من الصفات الذميمة ، والحميدة.
فأما الذميمة فكالحرص في الفأرة والنملة وكالشهوة في العصفور وكالغضب في الفهد والأسد وكالكبر في النمر وكالبخل في الكلب وكالشره في الخنزير وكالحقد في الحية وغير ذلك من الصفات الذميمة وأما الحميدة فكالشجاعة في الأسد والسخاوة في الديك والقناعة في البوم وكالحلم في الجمل وكالتواضع في الهرة وكالوفاء في الكلب وكالبكور في الغراب وكالهمة في البازي والسلحفاة وغير ذلك من الصفات الحميدة فقد جمعها كلها مع خواصها وطبائعها ثم أودعها في طينة الإنسان وهو آدم عليه السلام.
{ثُمَّ جَعَلْنَـاهُ} أي : الجنس باعتبار أفراده المغايرة لآدم وقال بعضهم : ثم جعلناه أي نسله فحذف المضاف فيكون المراد بالإنسان آدم خلق من صفوة سلت من الطين.
{نُطْفَةً} بأن خلقناه منها والنطفة الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل.
{فِى قَرَارٍ} أي مستقر وهو الرحم عبر عنها بالقرار الذي هو مصدر مبالغة.
{مَّكِينٍ} أي حصين وهو وصف لها بصفة ما استقر فيها مثل طريق سائر.
وبالفارسية : (درقرار كاهي كه استوار يعني رحم وجهل روز اورا نكاه داشتيم سفيد).
جزء : 6 رقم الصفحة : 70
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء.
قال الراغب : العلق الدم الجامد ومنه العلقة التي يكون منها الولد {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} المضغة لحم تمضع أي فصيرناها قطعة لحم لا استبانة ولا تمايز فيها.
وبالفارسية : (س ساختيم آن خون را آن مقدار كوشت كه بخايند يكبار كوشتي بي استخوان بسته جهل روز ديكر {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ} أي : غالبها ومعظمها
71
(6/50)
{عِظَـامًا} بأن صلبناها بعد ثلاث وأربعين وجعلناها عموداً للبدن على هيئات وأوضاع مخصوصة تقتضيها الحكمة.
{فَكَسَوْنَا} (س بوشانيديم) {الْعِظَـامَ} المعهودة {لَحْمًا} من بقية المضغة أي كسونا كل عظم من تلك العظام ما يليق به من اللحم على مقدار لائق به وهيئات مناسبة له : وبالفارسية : (برو برويانيديم كوشت بعد از رستن عروق وأعضاب وأوتار وعضلات برو) واختلاف العواطف للتنبيه على تفاوت الاستحالات وجمع العظام لاختلافها.
{ثُمَّ أَنشَأْنَـاهُ} الإنشاء إيجاد الشيء وتربيته وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان وبالفارسية (س بيافريديم أورا).
{خَلْقًا ءَاخَرَ} بنفخ الروح فيه.
وبالفارسية : (روح درو دميده تازنده شد بعد ازآنكه مرده بود يا بعد ازخروج اورادندان وموي داديم وراه ستان برو كشاديم وازمقام رضاع بفطام رسانيديم وبغذاهاي كونا كون تربيت فرموديم وون قدم در حد بلوغ نهاد وقلم تكليف برو جاري كرديم وبر مراتب شباب وكهولت وشيخوخت بكذارانيديم) وثم لكمال التفاوت بين الخلقين واحتج به أبو حنيفة رحمه الله على أن من غصب بيضة فأفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ فإنه خلق آخر.
قال في "الأسئلة المقحمة" : خلق الله الآدمي أطواراً ولو خلقه دفعة واحدة كان أظهر في كمال القدرة وأبعد عن نسبة الأسباب فما معناه فالجواب لا بل الخلق بتقليب الأعيان واختراع الأشخاص أظهر في القدرة فإنه تعالى خلق الآدمي من نطفة متماثلة الأجزاء ومن أشياء كثيرة مختلفة المراتب متفاوتة الدرجات من لحم وعظم ودم وجلد وشعر وغيرها ثم خص كل جزء منها بتركيب عجيب وباختصاص غريب من السمع والبصر واللمس والمشي والذوق والشم وغيرها وهي أبلغ في إظهار كمال الإلهية والقدرة.
{فَتَبَارَكَ اللَّهُ} فتعالى شأنه من علمه الشامل وقدرته الباهرة {أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} بدل من الجلالة أي أحسن الخالقين خلقاً أي المقدرين تقديراً حذف المميز لدلالة الخالقين عليه فالحسن للخلق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 70
وفي "الأسئلة المقحمة" : هذا يدل على أن العبد خالق أفعاله ويكون الرب أحسن منه في الخالقية فالجواب معناه أحسن المصورين لأن المصور يصور الصورة ويشكلها على صورة المخلوق أخبر به لأنه لا يبلغ في تصوريره إلى حد الخالق لأنه لن يقدر على أن ينفخ فيها الروح وقد ورد الخلق في القرآن بمعنى التصوير قال الله تعالى : {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ} (المائدة : 110) أي وإذ تصور كذلك ههنا انتهى.
وفي "التأويلات النجمية" : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} يعني خلقاً غير المخلوقات التي خلقها من قبل وهو أحسنهم تقويماً وأكملهم استعداداً وأجلهم كرامة وأعلاهم رتبة وأخصهم فضيلة فلهذا أثنى على نفسه عند خليقته بقوله : {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} لأنه خلق أحسن المخلوقين حيث جعله معدن العرفان وموضع المحبة ومتعلق العناية (أي عزيز حق سبحانه وتعالى عرش وكرسي ولوح وقلم وملائكة ونجوم وسوموات وأرضين بيافريد وذات مقدس را بدين نوع ثناءكه بعد ازآفرينش إنسان فمرموده نفر موده واين دليل تفضيل وتكريم ايشانست.
بر ورق روى لطف إله
آيينة حسن كه تحرير كرد
72
وفي "المثنوي" :
أي رخ زن زهرهاست شمس الضحى
أي كداي رنك توكلكونها
تاج كرمناست بر فرق سرت
طوق فضلناست آويزبرت
هي كرمنا شنيد أين آسمان
كه شنيد آن آدمي رغمان
أحسن التقويم در والتين بخواند
كه كرامي كوهرست أي دوست جان
كر بكويم قيمت آن ممتنع
من بسوزم هم بسوزد مستمع
(بعضي ازاهل وجدان كويندكه ون درين آيت أحوال بني آدم وترقي ازمقامي بمقامي بيان فرموده وآنست كه اورا زباني دإداء مراسم حمد وثنايي كه مستحق باركاه قدم باشد نخواهد بود درستايش ذات مقدس ازجناب أو نيابت نموده كفت) {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} روي : أن عبد الله بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله الوحي فلما انتهى عليه السلام إلى قوله {خَلْقًا ءَاخَرَ} سارع عبد الله إلى النطق به قبل إملائه عليه السلام فقال عليه السلام : اكتب هكذا أنزلت فشك عبد الله فقال : إن كان محمد يوحي إليه فأنا كذلك فلحق بمكة كافراً ثم أسلم يوم الفتح وقيل : مات على كفره ولما نزلت هذه الآية قال عمر رضي الله عنه فتبارك الله أحسن الخالقين فقال عليه السلام : "هكذا نزلت يا عمر" وكان يفتخر بتلك الموافقة انظر كيف وقعت هذه الواقعة سبباً لسعادة عمر رضي الله عنه وشقاوة ابن أبي سرح حسبما قال تعالى : {يُضِلُّ بِه كَثِيرًا وَيَهْدِي بِه كَثِيرًا} لا يقال قد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن وذلك فادح في إعجازه لما أن الخارج عن قدرة البشر ما كان مقدار أقصر سورة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 70
(6/51)
{ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَالِكَ} أي بعدما ذكر من الأمور العجيبة {لَمَيِّتُونَ} لصائرون إلى الموت لا محالة كما تؤذن به صيغة النعت الدالة على الثبوت دون الحدوث الذي يفيده صيغة الفاعل.
وبالفارسية : (يعني مآل حال شما بمرك خواهد كشيد وساغر فنا از دست ساقي أجل خواهيد شيد).
قال بعضهم : من مات من الدنيا خرج إلى حياة الآخرة ومن مات من الآخرة خرج منها إلى الحياة الأصلية وهو البقاء مع الله تعالى.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} أي عند النفخة الثانية {تُبْعَثُونَ} تخرجون من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب.
وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان بعد بلوغه إلى رتبة الإنسانية يكون قابلاً للموت مثل موت القلب وموت النفس وقابلاً لحشرهما وفي موت القلب حياة النفس وحشرها مودع وفي موت النفس حياة القلب وحشره مودع وحياة النفس بالهوى وظلمته وحياة القلب بالله ونوره كما قال تعالى : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَه نُورًا} الآية (الأنعام : 122) وهذا معنى حقيقة قوله : {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ تُبْعَثُونَ} كذا في "التأويلات النجمية".
قال في "الأسئلة المقحمة" : عد سائر أطوار الآدمي من خلقه إلى أن يبعث ولم يذكر فيها شيئاً من سؤال القبر فدل على أنه ليس بشيء فالجواب لأنه تعالى ذكر الحياة الأولى التي هي سبب العمل والحياة الثانية التي هي سبب الجزاء وهما المقصودان من الآية ولا يوجب ذلك نفي ما يذكر انتهى.
اعلم أن الموت يتعلق بصعقة سطوات العزة وظهور أنوار العظمة والحياة تتعلق بكشف الجمال الأزلي هناك تعيش الأرواح والأشباح بحياة وصالية لا يجري بعدها موت الفراق والموت والحياة الصوريان من باب التربية الإلهية
73
لأن في الفناء تربية أخرى في التراب وفي الحياة إظهار زيادة قدرة فينا بإدخال حياة ثانية في أشباحنا وتربية ثانية في أرواحنا فافهم جداً {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآاـاِقَ} جمع طريقة كما أن الطرق جمع والمراد طباق السموات السبع كما قال في "المفردات" : طرائق السماء طباقها.
يعني (هفت آسمان طبقي بالاي طبقه) سميت بها لأنها طورق بعضها فوق بعض مطارقة النعل فإن كل شيء فوق مثله فهو طريقه.
{وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ} عن ذلك المخلوق الذي هو السموات.
{غَـافِلِينَ} مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها حتى تبلغ منتهى ما قدر لها من الكمال حسبما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة ،
جزء : 6 رقم الصفحة : 73
وقال الكاشفي : (يا از جميع آفريد كان غافل نيستيم برخير وشر ونفع وضرر وكفر وشرك ايشان مطلعيم).
قال أبو يزيد قدس سره في هذه الآي : إن لم تعرفه فقد عرفك وإن لم تصل إليه فقد وصل إليك وإن غبت أو غفلت عنه فليس عنك بغائب ولا غافل.
قال بعضهم : فوقنا حجب ظاهرة وباطنة ففي ظاهر السموات حجب تحول بيننا وبين المنازل العالية من العرش والكرسي وعلى القلوب أغطية كالمني والشهوات والإرادات الشاغلة والغفلات المتراكمة والله تعالى ليس بغافل عن سكنات الغافلين وحركات المريدين ورغبات الزاهدين ولحظات العارفين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 73
{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ} من ابتدائية متعلقة بأنزلنا {مَآءَ} هو المطر {بِقَدَرٍ} (باندازه كه صلاح بند كان در آن دانستيم).
وفي "بحر العلوم" : بتقدير يسلمون معه من الضرر ويصلون إلى النفع.
{فَأَسْكَنَّـاهُ فِى الأرْضِ} أي جعلنا ذلك الماء ثابتاً قاراً فيها.
{وَإِنَّا عَلَى ذَهَابا بِهِ} أي إزالته بالإفساد أو التصعيد أو التغوير بحيث يتعذر استنباطه حتى تهلكوا أنتم ومواشيكم عطشاً.
{لَقَـادِرُونَ} كما كنا قادرين على إنزاله.
وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي عليه السلام : "إن الله تعالى أنزل من الجنة خمسة أنهار جيحون وسيحون ودجلة والفرات والنيل فأنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس" ، فذلك قوله : {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءَا بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّـاهُ فِى الأرْضِ} وإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة إلى السماء فذلك قوله : {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابا بِه لَقَـادِرُونَ} فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خيري الدين والدنيا هذا حديث حسن كما في "بحر العلوم".
{فَأَنشَأْنَا لَكُم} (س بيافريديم براي شما) {بِهِ} بسبب ذلك الماء {جَنَّـاتٍ} (بستانها) {مِّن نَّخِيلٍ} (زخرما بنان).
قال في "المفردات" : النخل : معروف ويستعمل في الواحد والجمع وجمعه نخيل {وَأَعْنَـابٍ} (وازتاك بنان).
جزء : 6 رقم الصفحة : 74
(6/52)
قال في "المفردات" : العنب يقال لثمرة الكرم والكرم نفسه الواحدة عنبة انتهى.
قال الكاشفي : (تخصيص اين دو درخت جهت اختصاص أهل مدينة بخرما وأهل طائف بانكوراست ونخل وعنب در زمين حجاز ازهمه ديار عرب بيشتر مي باشد) {لَّكُمْ فِيهَا} أي في تلك الجنات {فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} تتفكهون بها.
قال في "المفردات" : الفاكهة قيل هي الثمار
74
كلها وقيل : بل هي الثمار ما عدا العنب والرمان وقائل هذا كأنه نظر إلى اختصاصهما بالذكر وعطفهما على الفاكهة انتهى.
قال أبو حنيفة رحمه الله إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رطباً أو عنباً أو رماناً لم يحنث لأن كلاً منها وإن كان فاكهة لغة وعرفاً إلا أن فيه معنى زائداً على التفكه ، أي التلذذ والتنعم وهو الغدائية وقوام البدن فيه فبهذه الزيادة يخص من مطلق الفاكهة وخالفه صاحباه {وَمِنْهَا} أي من الجنات ثمارها وزروعها {تَأْكُلُونَ} تغذياً أو ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته كما قال الكاشفي (وما ما لا بد معيشت ازان حاصل ميكنيد).
وفي الآية إشارة إلى أنه كما أنزل من السماء ماء المطر الذي هو سبب حياة الأرضين كذلك أنزل من سماء العناية ماء الرحمة فيحيى القلوب ويزيل به دون العصاة وآثار زلتهم وينبت في رياض قلوبهم فنون أزهار البسط وصنوف أنوار الروح وإلى أنه كما يحيي الغياض بماء السماء ويثمر الأشجار ويجري به الأنهار فكذلك ماء سماء العناية ينشىء شجرة العرفان ويؤتي أكلها من الكشف والعيان وما تتقاصر العبارات عن شرحه ولا تطمع الإشارات في حصره ثم إن الله تعالى عد نعمه على العباد وأحسن الإرشاد فمن تجاوز من النعم إلى المنعم فقد فاز بالمطلوب الحقيقي.
فإن قلت : لم أمر الله بالزهد في الدنيا مع أنه خلقها له؟.
قلت السكر إذا نثر على رأس الختن فإنه لا يلتقطه لعلو همته ولو التقطه لكان عيباً والأولياء زهدوا فيها ومنعوا أنفسهم عن طيباتها وقنعوا بالقليل رجاء رفع الدرجات ، وفي الحديث : "جوعوا أنفسكم لوليمة الفردوس" والضيف إذا كان حكيماً لا يشبع من الطعام رجاء الحلوى حكي : أن واحداً من أهل الرياضة مرّ من تحت شجرة فإذا ثمرها قد أدرك فحملته عليه نفسه للأكل منه فقال لها إن صمت سنة وإلا فلا فصامت حتى إذا كان وقت الثمر من السنة الآتية ذهب ليأكل منه فتناول من الساقط تحتها فقالت النفس إن على الشجرة أعلى الثمر فكل منه فقال لها : إن شرطي معك أن آكل منه مطلقاً لا من جيده الذي على الشجرة.
قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 6 رقم الصفحة : 74
مرو در هره دل خواهدت
كه تمكين تن نور جان كاهدت
كند مردرا نفس إماره خوار
اكر هوشمندي عزيزش مدار
اكر هره باشد مرادت خوري
زدوران بسي نامرادي برى
قال بعضهم الجوز واللوز والفستق والبندق والشاه بلوط الصنوبر والرمان والنارنج والموز والخشخاش والرطب والزيتون والمشمش والخوخ والإجاص والعناب والغبيراء والدراق والزعرور والنبق والتفاح والكمثرى والسفرجل والتين والعنب والأترج والخرنوب والقثاء والخيار والبطيخ كلها من فواكه الجنة فالعشرة الأولى لها قشر والثانية لا قشر لها والعشرة الثالثة ليس لها قشر ولا نوى كما لا يخفى.
{وَشَجَرَةً} بالنصب عطف على جنات وتخصيصها بالذكر من بين سائر الأشجار لاستقلالها بمنافع معروفة قيل : هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وهي شجرة الزيتون.
قال في "إنسان العيون" : شجرة الزيتون تعمر ثلاثة آلاف سنة.
وفي "المفردات" : الشجر من النبت ماله ساق يقال شجرة وشجر نحو ثمرة وثمر.
{تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ} هو جبل بين مصر وآيلة نودي منه موسى عليه السلام.
وبالفارسية :
75
(وديكر بيافريديم براي شما درختي كه بيرون مي آيدازكوه زيباكه جبل موسى است درميان مصر وايله) ويقال له : طور سنين ومعناه الحسن أو المبارك.
قال أهل التفسير : فإما أن يكون الطور اسم الجبل وسيناء اسم البقعة أضيف إليها أو المركب منهما علم له كامرىء القيس وهو بالفتح فعلاء كصحراء فمنع صرفه للتأنيث وبالكسر فيعال كديماس من السناء بالمد وهو الرفعة أو بالقصر وهو النور فمنع صرفه للتعريف والعجمة أو التأنيث على تأويل البقعة لا للألف وتخصيصها بالخروج منه مع خروجها من سائر البقاع أيضاً لتعظيمها ولأنه المنشأ الأعلى لها.
(6/53)
قال في "الجلالين" : أول ما نبت الزيتون نبت هناك.
{تَنابُتُ بِالدُّهْنِ} (مي رويد باروغن) صفة أخرى لشجرة والباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً منها أي تنبت ملتبسة به ومستصحبة له كما قال الراغب معناه تنبت والدهن موجود فيها بالقوة ويجوز كونها صلة معدية لتنبت كما في قولك : ذهبت بزيد أي تنبته بمعنى تتضمنه وتحصله فإن النبات حقيقة صفة للشجرة لا للدهن.
{وَصِبْغٍ} (نان خورش) {لِّلاكِلِينَ} أي إدام لهم وذلك من قولهم اصطبغت بالحل وهو معطوف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الآخر أي تنبت الجامع بين كونه دهناً يدهن به ويسرج به وكونه أدماً يصبغ فيه الخبز أي : يغمس للائتدام ويلون به كالدبس والخل مثلاً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 74
وفي "التأويلات النجمية" : هي شجرة الخفي الذي يخرج من طور سيناء الروح بتأثير تجلي أنوار الصفات تنبت بالدهن وهو حسن الاستعداد لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة ومقر هذا الدهن هو الخفي الذي فوق الروح وهو سر بين الله وبين الروح لا تطلع عليه الملائكة المقربون وهو إدام لا آكلي الكونين بقوة الهمة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 74
{وَإِنَّ لَكُمْ فِى الانْعَـامِ} (درهار ايان يعني إبل وبقر وغنم) {لَعِبْرَةً} لآية تعتبرون بحالها وتستدلون على عظيم قدرة خالقها ولطيف حكمته.
وبالفارسية : (يزى كه بدان اعتبار كريد وبرقدرت إلهي استدلال نمايند) فكأنه قيل : كيف العبرة؟ فقيل : {نُّسْقِيكُم} (مي اشامانيم شمارا).
{مِّمَّا فِى بُطُونِهَا} ما عبارة إما عن الألبان فمن تبعيضية والمراد بالبطون الجوف أو عن العلف الذي يتكون منه اللبن فمن ابتدائية والبطون على حقيقتها.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنه كما يخرج من بطون الأنعام من بين الفرث والدم لبناً خالصاً وفيه عبرة لأولي الأبصار فكذلك يخرج من بين فرث الصفات النفسانية وبين دم الصفات الشيطانية لبناً خالصاً من التوحيد والمحبة يسقي به أرواح الصديقين كما قال بعضهم :
سقاني شربة أحيا فؤادي
بكأس الحب من بحر الوداد
{وَلَكُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ كَثِيرَةٌ} غير ما ذكر من أصوافها وأوبارها وأشعارها.
قال الكاشفي : (ومرشماراست درايشان سودهاي بسياركه بعضي راسوار ميشويد وبرخي رابارميكنيد واز بعضي نتاج مسيتانيد وازيشم وموي ايشان بهره ميكيريد) {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فتنتفعون بأعيانها كما تنتفعون بما يحصل منها وفي الحديث : "عليكم بألبان البقر فإنها ترمُّ من كل الشجر" أي تجمع وفي الحديث : "عليكم بألبان البقر وسمنانها وإياكم ولحومها فإن ألبانها وسمنانها دواء وشفاء ولحومها داء" وقد صح أن النبي عليه السلام ضحى عن نسائه بالبقر.
قال
76
الحليمي : هذا ليبس الحجاز ويبوسة لحم البقر ورطوبة لبنها وسمنها فكأنه يرى اختصاص ذلك به وهذا التأويلات مستحسن وإلا فالنبي عليه السلام لا يتقرب إلى الله تعالى بالداء فهو إنما قال ذلك في البقر لتلك اليبوسة.
وجواب آخر أنه عليه السلام ضحى بالبقر لبيان الجواز ولعدم تيسر غيره كذا في "المقاصد الحسنة" للإمام السخاوي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 76
{وَعَلَيْهَا} أي على الأنعام فإن الحمل عليها لا يقتضي الحمل على جميع أنواعها بل يتحقق بالحمل على البعض كالإبل ونحوها وقيل : المراد هي الإبل خاصة لأنها المحمول عليها عندهم والمناسب للفلك فإنها سفائن البر {وَعَلَى الْفُلْكِ} أي السفينة.
قال الراغب : ويستعمل ذلك للواحد والجمع وتقديراهما مختلفان فإن الفلك إذا كان واحداً كان كبناء قفل وإذا كان جمعاً فكبناء حمر {تُحْمَلُونَ} يعني (برشتران درخشك وبركشتيها برترى برداشته مي شويد يعني شتر وكشتي شمارا برميدارند وازهر موضعي بموضعي ميبرند) وإنما لم يقل وفي الفلك كقوله : {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} (هود : 40) لأن معنى الإيعاء ومعنى الاستعلاء كلاهما مستقيم لأن الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها فلما صح المعنيان صحت العبارتان وأيضاً هو يطابق قوله عليها ويزاوجه كذا في "بحر العلوم".
ودلت الآية على جواز ركوب البحر للرجال والنساء على ما قاله الجمهور وكره ركوبه للنساء لأن التستر فيه لا يمكنهن غالباً ولا غض البصر من المتصرفين فيه ولا يمكن عدم انكشاف عوراتهن في تصرفهن لا سيما فيما صغر من السفن مع ضرورتهن إلى قضاء الحاجة بحضرة الرجال كما في "أنوار المشارق".
(6/54)
قال في "الذخيرة" : إذا أراد أن يركب السفينة في البحر للتجارة أو لغيرها فإن كان بحال لو غرقت السفينة أمكنه دفع الغرق عن نفسه بكل سبب يدفع الغرق به حل له الركوب في السفينة وإن كان لا يمكنه دفع الغرق لا يحل له الركوب انتهى فالمفهوم من هذه المسألة حرمة الركوب في السفينة لمن لا يقدر على دفع الغرق عن نفسه مطلقاً سواء كان لطلب العلم أو التجارة أو الحج أو زيارة الأقارب أو صلة الرحم أو نحو ذلك وسواء كانت السلامة غالبة أو لا لكن المفهوم من بعض المسائل جوازه عند غلبة السلامة وإلا فلا.
قال في "شرح حزب البحر" : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص صف لي البحر فقال : يا أمير المؤمنين مخلوق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود فقال عمر لا جرم لولا الحج والجهاد لضربت من يركبه بالدرة ثم منع ركوبه ورجع عن ذلك بعد مدة وكذلك وقع لعثمان رضي الله عنه ومعاوية ثم استقر الإجماع على جوازه بشرائطه انتهى.
والسباحة في الماء من سنن النبي ، قال في "إنسان العيون" : كانت وفاة أبيه عليه السلام عبد الله بالمدينة ودفن في دار المتابعة بالتاء المثناة فوق وبالباء الموحدة والعين المهملة وهو رجل من بني عدي بن النجار أخوال أبيه عبد المطلب والنجار هذا اسمه تميم وقيل له : النجار لأنه اختتن بقدوم وهو آلة النجار ولما هاجر عليه السلام إلى المدينة ونظر إلى تلك الدار عرفها وقال : ههنا نزلت بي أمي وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله وأحسنت القوم السباحة في بئر بني عدي بن النجار ومن هذا ومما جاء عن عكرمة عن ابن عباس أنه عليه السلام كان هو وأصحابه يسبحون في غدير في الجحفة فقال عليه السلام لأصحابه : "ليسبح كل رجل منكم إلى صاحبه" وبقي النبي عليه السلام
77
وأبو بكر فسبح النبي إلى أبي بكر حتى اعتنقه وقال : "أنا وصاحبي أنا وصاحبي" وفي رواية : "أنا إلى صاحبي أنا إلى صاحبي" يعلم رد قول بعضهم : وقد سئل هل عام عليه السلام الظاهر لا لأنه لم يثبت أنه عليه السلام سافر في بحر ولا بالحرمين بحر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 76
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} اللام جواب قسم وتصدير القصة به لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها أي وبالله لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه وجاء في قصيدة جمال الدين :
من كثير الذنب نوحوا
نوح نوح في الرسل
إنه عمرا طويلا
من قليل النطق ناح
وهو أنه عليه السلام مر على كلب به جرب فقال : بئس الكلب هذا ثم ندم فناح من أول عمره إلى آخر {فَقَالَ} داعياً لهم إلى التوحيد يا قَوْمِ} (أي كروه من) وأصله يا قومي {اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده كما دل عليه التعليل وهو {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه} أي : ما لكم في الوجود أو في العالم غير الله فغير بالرفع صفة لآلة باعتبار محله الذي هو الرفع على أنه فاعل ومن زائدة أو مبتدأ خبره لكم.
{أَفَلا تَتَّقُونَ} الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام ، أي ألا تعرفون ذلك أي مضمون قوله مالكم من إله غيره فلا تتقون عذابه بسبب إشراككم به في العبادة ما لا يستحق الوجود لولا إيجاد الله فضلاً عن استحقاق العبادة فالمنكر عدم الاتقاء مع تحقق ما يوجبه.
قال الكاشفي : يعني (ترسيداز عذاب وي وبعبادت غير أو ميل مكنيد).
وفي "التأويلات النجمية" : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} نوح الروح إلى قومه من القلب والسر والنفس والقالب وجوارحه : {فَقَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه} من الهوى والشيطان فعبادة القلب بقطع التعلقات والمحبة وعبادة السر بالتفرد بالتوحيد وعبادة النفس بتبديل الأخلاق وعبادة القالب بالتجريد وعبادة الجوارح بإقامة أركان الشريعة.
{أَفَلا تَتَّقُونَ} بهذه العبادات عن الحرمان والخذلان وعذاب النيران.
جزء : 6 رقم الصفحة : 76
{فَقَالَ الْمَلَؤُا} أي : الأشراف والسادة {الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ} أي : قالوا لعوامهم مبالغة في وضع الرتبة العالية وحطها عن منصب النبوة.
قال الكاشفي : ون اكابر قوم اصاغر را بدين ودعوت نوح مائل ديدند ايشانرا تنفير نموده كفتند) {مَا هَـاذَآ} (نيست أين كس كه مي خواند بتوحيد) {إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} أي في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه.
قال الكاشفي : (مانند شما درخوردن وآشاميدن وغير آن) {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي يريد أن يطلب الفضل عليكم ويتقدمكم بإدعاء الرسالة مع كونه مثلكم.
(6/55)
قال في "الجلالين" : يتشرف عليكم فيكون أفضل بأن يكون متبوعاً وتكونوا له تبعاً كقوله وتكون لكما الكبرياء في الأرض وصفوه بذلك إغضاباً للمخاطبين عليه وإغراء على معاداته {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لانزَلَ مَلَائكَةً} أي : لو شاء الله إرسال الرسول لأرسل رسلاً من الملائكة (تامر سل ازمرسل إليهم متميز بودي) وإنما قيل : لأنزل لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال فمفعول المشيئة مطلق الإرسال المفهوم من الجواب لا نفس مضمونه كما في قوله ولو شاء لهداكم ونظائره.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بهذا إلى مقالات بعض البطلة من
78
الطلبة فإن بعضهم يتكاسلون في الطلب فيقولون لو شاء الله سعينا في الطلب لأيدنا بالصفات الملكية والتوفيق الرباني {مَّا سَمِعْنَا بِهَـاذَا} أي بمثل هذا الكلام الذي هو الأمر بعبادة الله خاصة {فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ} أي : الماضين قبل بعثته.
وفي "بحر العلوم" : بهذا أي بإرسال البشر وإن جاء ذكر من الله على رجل منهم كما قال الكاشفي : (مانشنودهايم أين رامه آدمي رسول خدا تواند بخلقان) قالوه إما لفرط غلوهم في التكذيب والعناد وإما لكونهم وآبائهم في فترة متطاولة يعني (ميان ادريس وميان ايشان مدتي مديد كذشته بود وشنوده بودندكه ازاولاد آدم يغمبري بوده).
جزء : 6 رقم الصفحة : 78
{إِنْ هُوَ} ما هو {إِلا رَجُلُا بِه جِنَّةٌ} أي : جنون ولذلك يقول ما يقول (اكر جنون نداشتي كه بشر قابليت رسالت ندارد) والجنون اختلال حائل بين النفس والعقل.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن أحوال أهل الحقيقة عند أرباب الطبيعة جنون كما أن أحوال أرباب الطبيعة عند أهل الحقيقة جنون انتهى والجنون المعتبر هو ترك العقل واختيار العشق : قال الحافظ :
درره منزل ليلى كه خطر هاست درو
شرط أول قدم آنست كه مجنون باشي
وقال الصائب :
روزن عالم غيبست دل أهل جنون
من وآن شهركه ديوانه فراوان باشد
{فَتَرَبَّصُوا بِهِ} اصبروا عليه وانتظروا.
وبالفارسية (س انتظار بريد ويرا وشم داريد).
قال الراغب : التربص الانتظار بالشيء ساعة يقصد بها غلاء أو رخصاً أو أمراً ينتظر زواله أو حصوله {حَتَّى حِينٍ} إلى وقت يفيق من الجنون.
قال الكاشفي : (تاهنكامي از زمان يعني صبر كنيدكه اندك وقتي بميرد وازوى بازرهيم يا از جنون باهوش آيد وترك كفتن اين سخنان نموده ي كار خود كيرد).
{قَالَ} نوح بعدما أيس من إيمانهم {رَبِّ} (أي روردكار من).
{انصُرْنِى} بإهلاكهم بالكلية {بِمَا كَذَّبُونِ} أي بسبب تكذيبهم إياي أو بدل تكذيبهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 78
{فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ} عند ذلك ، أي فأعلمناه في خفاء فإن الإيحاء والوحي إعلام في خفاء {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} أن مفسرة لما في الوحي من معنى القول والصنع إجادة الفعل {بِأَعْيُنِنَا} ملتبساً بحفظنا نحفظه من أن تخطىء في صنعته أو يفسده عليك مفسد يقال : فلان بعيني أي أحفظه وأراعيه كقولك : هو مني بمرأى ومسمع.
قال الجنيد قدس سره : من عمل على مشاهدة أورثه الله عليها الرضى قال الله تعالى : {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} {وَوَحْيِنَا} وأمرنا وتعليمنا لكيفية صنعها روي : أنه أوحي إليه أن يصنعها على مثال الجؤجؤ.
جزء : 6 رقم الصفحة : 79
وفي "التأويلات النجمية" : ألهمنا إلى نوح الروح أن اصنع فلك الشريعة باستصواب نظرنا وأمرنا لا بنظر العقل وأمر الهوى كما يعمل الفلاسفة والبراهمة.
{فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} أي : إذا اقترب أمرنا بالعذاب {وَفَارَ التَّنُّورُ} (وبجوشد تنور يعني بوقتي كه زن تونان بزد ازميان آتش آب بآيد) كما في "تفسير الفارسي".
والفور شدة الغليان ويقال ذلك في النار نفسها إذا هاجت وفي القدر وفي الغضب وفوارة الماء سميت تشبيهاً بغليان القدر ويقال الفور الساعة والتنور تنور الخبز ابتداء منه النبوع على خرق العادة وكان في الكوفة موضع مسجدها كما روي أنه
79(6/56)
قيل له عليه السلام : إذا فار الماء من التنور اركب أنت ومن معك وكان تنور آدم فصار إلى نوح فلما نبع منه الماء أخبرته امرأته فركبوا.
{فَاسْلُكْ فِيهَا} أي أدخل في الفلك يقال : سلك فيه أي دخل وسلكه فيه أي أدخله ومنه قوله : ما سلككم في سقر {مِن كُلٍّ} من كل أمة ونوع {زَوْجَيْنِ} فردين مزدوجين {اثْنَيْنِ} تأكيد والمراد الذكر والأنثى (ودر تيسير كويد دركشتي نياورد مكر آنهاراكه مي زايندا بابيضه مي نهند).
{وَأَهْلَكَ} منصوب بفعل معطوف على فاسلك أهلك والمراد به امرأته وبنوه وتأخير الأهل لما فيه من ضرب تفصيل بذكر الاستثناء وغيره {إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} أي القول بإهلاك الكفرة ومنهم ابنه كنعان وأمه واغلة وإنما جيء بعلى لكونه السابق ضاراً كما جيء باللام في قوله : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى} (الأنبياء : 101) لكونه نافعاً {وَلا تُخَـاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا} بالدعاء وإنجائهم {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} مقضي عليهم بالإغراق لا محالة لظلمهم بالإشراك وسائر المعاصي ومن هذا شأنه لا يشفع له ولا يشفع فيه كيف لا وقد أمر بالحمد على النجاة منهم بإهلاكهم بقوله تعالى :
{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ} أي من أهلك وأشياعك أي اعتدلت في السفينة راكباً.
قال الراغب : استوى يقال على وجهين أحدهما أن يسند إليه فاعلان فصاعداً نحو استوى زيد وعمرو كذا أي تساويا قال تعالى : {لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ} (التوبة : 19) والثاني أن يقال لاعتدال الشيء في ذاته نحو فإذا استويت ومتى عدي بعلي اقتضى معنى الاستعلاء نحو {الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه : 5) {عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى نَجَّـاـانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} أفرد بالذكر مع شركة الكل في الاستواء والنجاة لإظهار فضله والإشعار بأن في دعائه وثنائه مندوحة عما عداه {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى} أي : في السفينة أو منها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 79
قال الكاشفي (قولي آنست كه امر بدين دعا دروقت خروج ازكشتي بوده واشهر آنست كه دروقت دخول وخروج أين دعا فرموده) {مُنزَلا مُّبَارَكًا} أي : إنزالاً أو موضع إنزال يستتبع خيراً كثيراً وقرىء منزلاً بفتح الميم أي موضع نزول والنزول في الأصل هو الانحطاط من علو يقال : نزل عن دابته ونزل في مكان كذا حطا رحله فيه وأنزله غيره {وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} ، وفي "الجلالين" : استجاب الله دعاءه حيث قال : {اهْبِطْ بِسَلَـامٍ مِّنَّا وَبَرَكَـاتٍ عَلَيْكَ} (هود : 48) فبارك فيهم بعد إنزالهم من السفينة حتى كان جميع الخلق من نسل نوح ومن كان معه في السفينة.
قال الكاشفي : (سلمى از ابن عطا نقل ميفرمايدكه منزل مبارك آن منزلست كه دراو ازهواجس نفساني ووساوس شيطاني أيمن باشند وآثار قرب ازجمال قدس نازل باشد :
هركجا رتو أنوار جمال بيشتر
بركت آن منزل ازهمه منازل افزونتر
در منزلي كه ياري روزي رسيده باشد
باذره هاي خاكش داريم مرحبائي
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} الذي ذكر مما فعل به وبقومه.
{لايَـاتٍ} جليلة يستدل بها أولو الأبصار ويعتبر بها ذوو الاعتبار {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} إن مخففة من إن واللام فارقة بينها وبين النافية وضمير الشأن محذوف أي وإن الشأن كنا مصيبي قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويتذكر.
قال الراغب : إذا قيل : ابتلى فلان
80
بكذا وأبلاه فذلك يتضمن أمرين أحدهما : تعرف حاله والوقوف على ما يجهل من أمره والثاني : ظهور جودته ورداءته دون التعرف بحاله والوقوف على ما يجهل من أمره إذا كان الله علام الغيوب انتهى.
واعلم أن البلاء كالملح وأن أكابر الأنبياء والأولياء إنما كانوا من أولى العزم ببلايا ابتلاهم الله بها فصبروا ألا ترى إلى حال نوح عليه السلام كيف ابتلى ألف سنة إلا خمسين عاماً فصبر حتى قيل له : {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى نَجَّـاـانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} (المؤمنون : 28) قال الحافظ :
كرت و نوح نبي صبر هست برغم طوفان
بلا بكردد وكام هزار ساله برآيد
ثم إن نوحاً عليه السلام دعا بهلاك قومه مأذوناً من الله تعالى فجاء القهر الإلهي إذ لم يؤثر فيهم اللطف الرحماني والمقصود من الدعاء إظهار الضراعة وهو نافع عند الله تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 79
يحيى بن معاذ رحمه الله : (كفت عبادت قفلست كليدش دعا ودندانة كليدالقمة حلال واز جملة دعاء أو أين بودي بار خدايا اكر آن نكنى كه خواهم صبر برآنه توخواهي) وفي الآية إشارة إلى أن المؤمن ينبغي له أن يطلب منزلاً مباركاً يبارك له فيه حيث دينه ودنياه :
سعد يا حب وطن كره يثست صحيح
تتوان مرد بسختي كه من ايجا زادم
ولو تفكرت في أحوال الأنبياء وكمل الأولياء لوجدت أكثرهم مهاجرين إذ لا يمن في الإقامة بين قوم ظالمين.
(6/57)
يقول الفقير : أحمد الله تعالى على نعمه المتوافرة لا سيما على المهاجرة التي وقعت مراراً وعلى المنزل وهي بلدة بروسه حيث جاء الفال بلدة طيبة ورب غفور وعلى الإنجاء من القوم الظالمين حيث أن كل من عاداني ورد موعظتي هلك مع الهالكين فجاءت عاقبة الابتلاء نجاة والقهر لطفاً والجلال جمالاً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 79
{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنا بَعْدِهِمْ} أي : أوجدنا وأحدثنا من بعد إهلاك قوم نوح {قَرْنًا ءَاخَرِينَ} هم عاد لقوله تعالى حكاية عن هود.
{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِنا بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (الأعراف : 69) والقرن القوم المقترنون من زمن واحد أي أهل زمان واحد.
{فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ} (س فرستاديم درميان إيشان) {رَسُولا مِّنْهُمْ} أي : من جملتهم نسباً وهو هود لا هود وصالح على أن يكون المراد بالقرن عاداً وثمود لأن الرسول بمعنى المرسل لا بد وأن يثنى ويجمع بحسب المقام كقوله : {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} (طه : 47) وجعل القرن موضعاً للارسال كما في قوله : {كَذَالِكَ أَرْسَلْنَـاكَ فِى أُمَّةٍ} (الرعد : 30) ونحوه لا غاية له كما في مثل قوله تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} (العنكبوت : 14) للإيذان من أول الأمر بأن من أرسل إليهم لم يأتهم من غير مكانهم بل إنما نشأ فيما بين أظهرهم {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أن مفسرة لأرسلنا لما في الإرسال من معنى القول أي قلنا لهم على لسان الرسول أن اعبدوا الله تعالى وحده لأنه {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه} مر إعرابه {أَفَلا تَتَّقُونَ} .
قال في "بحر العلوم" : أتشركون بالله فلا تخافون عذابه على الاشراك انتهى فالشرك وعدم الاتقاء كلاهما منكران.
جزء : 6 رقم الصفحة : 81
{وَقَالَ الْمَلا مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
قال الراغب : الملأ الجماعة يجتمعون على رأي فيملؤون العيون روعاء والنفوس دلالة وبهاء أي أشراف قومه الكافرين وصفوا بالكفر ذماً لهم وذكره بالواو دون الفاء كما في قصة نوح لأن كلامهم لم يتصل بكلام الرسول ومعناه أنه اجتمع في الحصول ذلك القول الحق وهذا القول الباطل وشتان ما بينهما.
قال في "برهان القرآن" : قدم من قومه في هذه الآية وأخر فيما قبلها لأن صلة الذين فيما قبل اقتصرت على فعل وضمير الفاعلين ثم ذكر بعده
81
الجار والمجرور ثم الفاعل ثم المفعول وهو المقول وليس كذلك هذه فإن صلة الموصول طالت بذكر الفاعل والمفعول والعطف عليه مرة أخرى فقدم الجار والمجرور لأن تأخيره ملبس وتوسطه ركيك فخص بالتقديم.
{وَكَذَّبُوا بِلِقَآءِ الاخِرَةِ} أي : بالمصير إلى الآخرة بالبعث والحشر أو بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب {وَأَتْرَفْنَـاهُمْ} أي : نعمناهم ووسعنا عليهم.
وبالفارسية : (ونعمت داده بودم ايشانرا) يقال : ترف فلان أي توسع في النعمة وأترفنه النعمة أطغته.
{وَقَالَ الْمَلا مِن} بكثرة الأموال والأولاد أي قالوا لأعقابهم مضلين لهم.
{مَا هَـاذَآ} أي : هود {إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} في الصفات والأقوال البشرية {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} أي تشربون منه وهو تقرير للمماثلة.
يعني (بغداء محتاجست مانندشما اكر نبي بودي بايستي كه متصف بصفات ملائكة بودي نخوردي ونياشاميدي).
{وَلَـاـاِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ} أي فيما ذكر من الأحوال والصفات أي وبالله إن امتثلتم أوامره {إِنَّكُمْ إِذًا} أي : على تقدير الإطاعة : وبالفارسية (آنكاه).
{لَّخَـاسِرُونَ} عقولكم ومغبونون في آرائكم حيث اذللتم أنفسكم.
وقال الكاشفي : (زيان زد كانيدكه خودرا مأمور ومتبوع مثل خود سازيد) انظر كيف جعلوا أتباع الرسول الحق الذي يوصلهم إلى سعادة الدارين خسراناً دون عبادة الأصنام التي لا خسران وراءها قاتلهم الله وإذن وقع بين اسم إن وخبرها لتأكيد مضمون الشرط والجملة جواب لقسم محذوف.
جزء : 6 رقم الصفحة : 81
قال بعض الفضلاء : إذن ظرف حذف منه ما أضيف إليه ونون عوضاً.
وفي "العيون" : إذن جواب شرط محذوف أي إنكم إن أطعتموه إذن لخاسرون.
{أَيَعِدُكُمْ} (ايا وعده ميدهد شمارا اين ـيغمبر).
{أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} بكسر الميم من مات يمات وقرىء بضمها من مات يموت {وَكُنتُمْ} وصرتم.
{تُرَابًا وَعِظَـامًا} نخرة مجردة عن اللحوم والأعصاب أي كان بعض أجزائكم من اللحم ونظائره وبعضها عظاماً وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابه من الأجزاء البادية أو كان متقدموكم تراباً صرفاً ومتأخروكم عظاماً.
يقول الفقير : الظاهر أن مرادهم بيان صيرورتهم عظاماً ثم تراباً لأن الواو لمطلق الجمع.
{إِنَّكُمْ} تأكيد للأول لطول الفصل بينه وبين خبره الذي هو قوله : {مُّخْرَجُونَ} أي من القبور أحياء كما كنتم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 81
(6/58)
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} اسم فعل وهو بعد وتكريره لتأكيد البعد ، أي : بعد الوقوع.
{لِمَا تُوعَدُونَ} يعني : (آنه وعده داده ميشويد ازبعث وجزا هركز نباشد) أو بعدما توعدون واللام لبيان المستبعد كأنهم لما صوتوا بكلمة الاستبعاد قيل : لماذا هذا الاستبعاد لما توعدون.
{إِنْ هِىَ} إن بمعنى ما ، أي ما الحياة {إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} الدانية الفانية {نَمُوتُ وَنَحْيَا} مفسرة للجملة المتقدمة أي يموت بعضنا ويولد بعض إلى انقراض العصر أو يصيبنا الأمران الموت والحياة يعنون الحياة المتقدمة في الدنيا والموت بعدها وليس وراء ذلك حياة.
{وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بمنشرين بعد الموت كما تزعم يا هود انظر كيف عميت قلوبهم حتى لم يروا أن الإعادة أهون من الابتداء وأن الذي هو قادر على إيجاد شيء من العدم وإعدامه من الوجود يكون قادراً على إعادته ثانياً.
{إِنْ هُوَ} أي : ما هود {إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي : اخترع
82
الكذب على الله فيما يدعيه من الإرسال والبعث.
قال الراغب : الفري قطع الجلد للخرز والإصلاح والإفراء للإفساد والافتراء فيهما وفي الإفساد أكثر ولذلك استعمل في القرآن في الكذب والشرك والظلم {وَمَا نَحْنُ لَه بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين فيما يقول.
{قَالَ} هود بعد ما يئس من إيمانهم {رَبِّ انصُرْنِى} عليهم وانتقم لي منهم : وبالفارسية (أي روردكار من ياري كن مرا بغالبيت وايشانرا مغلوب كردان) {بِمَا كَذَّبُونِ} أي بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه.
{قَالَ} تعالى إجابة لدعائه وعدة بالقبول {عَمَّا قَلِيلٍ} أي عن زمان قليل وما مزيدة بين الجار والمجرور لتأكيد معنى القلة {لَّيُصْبِحُنَّ} أي ليصيرن أي الكفار المكذبون.
{نَـادِمِينَ} على الكفر والتكذيب وذلك عند معاينتهم العذاب.
والندامة بالفارسية : (شيماني).
جزء : 6 رقم الصفحة : 82
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} صيحة جبريل صاح عليهم صيحة هائلة تصدعت منها قلوبهم فماتوا والصيحة رفع الصوت.
فإن قلت : هذا يدل على أن المراد بالقرن المذكور في صدر القصة ثمود قوم صالح فإن عاداً أهلكوا بالريح العقيم.
قلت : لعلهم حين أصابتهم الريح العقيم أصيبوا في تضاعفها بصيحة هائلة أيضاً كما كان عذاب قوم لوط بالقلب والصيحة كما مر وقد روي أن شداد بن عاد حين أتم بناء إرم سار إليها بأهله فلما دنا منها بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا وقيل : الصيحة نفس العذاب والموت.
وفي "الجلالين" : فأخذتهم صيحة العذاب {بِالْحَقِّ} متعلق بالأخذ أي بالوجه الثابت الذي لا دافع له.
وفي "الجلالين" : بالأمر من الله.
{فَجَعَلْنَـاهُمْ} فصيرناهم {غُثَآءً} أي كغثاء السيل لا ينتفع به وهو ما يحمله السيل على وجهه من الزبد والورق والعيدان كقولك : سال به الوادي لمن هلك.
قال الكاشفي : (غثاء : ون خاشاك آب آورده يعني هلاك كرديم ونابود ساختيم ون خس وخاشاك كه سيل آنرا بأطراف افكند وسياه كهنه كردد).
{فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} يحتمل الإخبار والدعاء.
قال الكاشفي : (س دوري باد ازرحمت خداي مركروه ستمكارانرا) وبعداً مصدر بعد إذا هلك وهو من المصادر التي لا يكاد يستعمل ناصبها ، والمعنى بعدوا بعداً أي هلكوا واللام لبيان من قيل له بعداً.
وفي الآية إشارة إلى أن أهل الدنيا حين بغوا في الأرض وطغوا على الرسل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 83
ومنعم كند سفله را روزكار
نهد بردل تنك درويش بار
و بام بندش بود خود رست
كند بول وخاشاك بربام ست
وقالوا لرسلهم ما قالوا لا يعلمون أن الرسل وأهل الله وإن كانوا يأكلون مما يأكل أهل الدنيا ولكن لا يأكلون كما يأكل هؤلاء فإنهم يأكلون بالإسراف وأهل الله يأكلون ولا يسرفون كما قال النبي عليه السلام : "المؤمن يأكل في معى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعار".
لا جرم كافر خورد درهفت بطن
دين ودل باريك ولا غرزفت بطن
بل أهل الله يأكلون ويشربون بأفواه القلوب مما يطعمهم ربهم ويسقيهم حيث يبيتون عند ربهم.
قال حضرة الشيخ الشهير بأفتاده أفندي قدس سره : كان عليه السلام يبيت عند ربه فيطعمه ويسقيه من تجلياته المتنوعة وإنما أكله في الظاهر لأجل أمته الضيعفة وإلا فلا احتياج
83
له إلى الأكل والشرب وما روى من أنه كان يشد الحجر فهو ليس من الجوع بل من كمال لطافته لئلا يصعد إلى الملكوت بل يستقر في الملك للإرشاد وقد وصف الله الكفار بشر الصفات وهي الكفر بالخالق وبيوم القيامة والانغماس في حب الدنيا ثم سجل عليهم بالظلم وأشار إلى أن هلاكهم إنما كان بسبب ظلمهم.
نماند ستمكار بدروزكار
بماند برو لعنت ايدار
فالظلم من شيم أهل الشقاوة والبعد وأنهم كالغثاء في عدم المبالاة بهم كما قال : "هؤلاء في النار ولا أبالي".
(6/59)
{ثُمَّ أَنشَأْنَا} خلقنا من بعدهم أي بعد هلاك القرون المذكورة وهم عاد على الأشهر.
{قُرُونًا ءَاخَرِينَ} هم قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم السلام إظهاراً للقدرة وليعلم كل أمة استغناءنا عنهم وأنهم إن قبلوا دعوة الأنبياء وتابعوا الرسل تعود فائدة استسلامهم وانقيادهم وقيامهم بالطاعات إليهم.
{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} من مزيدة للاستغراق أي ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة الوقت الذي عين لهلاكهم.
{وَمَا يَسْتَـاْخِرُونَ} ذلك الأجل بساعة وطرفة عين بل تموت وتهلك عندما حد لها من الزمان.
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} عطف على أنشأنا لكن لا على معنى أن إرسالهم متأخر ومتراخ عن إنشاء القرون المذكورة جميعاً بل على معنى أن إرسال كل رسول متأخر عن إنشاء قرن مخصوص بذلك الرسول كأنه قيل : ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولاً خاصاً به.
{تَتْرَا} مصدر من المواترة وهي التعاقب في موضع الحال أي متواترين واحداً بعد واحد.
وبالفارسية : (ي دري يعني يكي درعقب ديكري).
جزء : 6 رقم الصفحة : 83
قال في "الإرشاد" : وغيره من الوتر وهو الفرد والتاء بدل من الواو والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة {كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا} المخصوص أي جاء بالبينات وللتبليغ {كَذَّبُوهُ} نسبوا إليه الكذب يعني أكثرهم بدليل قوله : {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاوَّلِينَ} (الصافات : 71) كما في "بحر العلوم".
قال الكاشفي : (تكذيب كردنداورا وآنه كفت ازتوحيد ونبوت وبعث وحشر دروغ نداشتتد وبتقليد دران ولزوم عادات ناسنديده ازدولت تصديق محروم ماندند) {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم} أي بعض القرون {بَعْضًا} في الإهلاك أي أهلكنا بعضهم في أثر بعض حسبما تبع بعضهم بعضاً في مباشرة الأسباب التي هي الكفر والتكذيب وسائر المعاصي.
قال الكاشفي : (يعني هي كدام را مهلت نداديم وآخرين را ون أولين معاقب كردانيم) {وَجَعَلْنَـاهُمْ} بعد إهلاكهم {أَحَادِيثَ} لمن بعدهم ، أي لم يبق عين ولا أثر إلا حكايات يسمر بها ويتعجب منها ويعتبر بها المعتبرون من أهل السعادة وهو اسم جمع للحديث أو جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به تلهياً وتعجباً وهو المراد ههنا كأعاجيب جمع أعجوبة وهي ما يتعجب منها.
قال الكاشفي : (وساختيم آنراسخنان يعني عقوبت خلق كردانيديم كه دائم عذاب ايشانرا ياد كنند وبدان مثل زنند خلاصة شخن آنكه ازايشان غير حكايتي باقي نماندكه مردم إفسانه وار ميكويند واكر سخن نيكوى آيشان بماندى به بودي بزركي كفته است).
تفنى وتبقى عنك أحدوثة
فاجهد بأن تحسن أحدوثتك
84
(ودر ترجمة آن فرموده اند).
س ازتو اين همه افسانها كه مي خوانند
دران بكوش كه نيكو بماند افسانه
يقول الفقير : في البيت العربي دلالة على أن الأحدوثة تقال على الخير والشر وهو خلاف ، ما قال الأخفش من أنه لا يقال في الخير : جعلتهم أحاديث وأحدوثة وإنما يقال : جعلت فلاناً حديثاً انتهى.
ويمكن أن يقال في البيت الأحدوثة الثانية وقعت بطريق المشاكلة {فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (س دوري باد از رحمت حق مر كروهي راكه نمى كروند بأنبياء وتصديق ايشان نمى كنند) وفي أكثر التفاسير بعدوا بعداً أي هلكوا واللام لبيان من قيل له : بعداً وخصهم بالنكرة لأن القرون المذكورة منكرة بخلاف ما تقدم من قوله : فبعداً للقوم الظالمين حيث عرف بالألف واللام لأنه في حق قوم معنيين كما سبق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 83
وفي الآية دلالة على أن عدم الإيمان سبب للهلاك والعذاب في النيران كما أن التصديق مدار للنجاة والتنعم في الجنان.
قال يعقوب عليه السلام للبشير : على أي دين تركت يوسف؟ قال : على الإسلام قال : الآن تمت النعمة على يعقوب وعلى آل يعقوب إذ لا نعمة فوق الإسلام وحيث لا يوجد فجميع النعم عدم وحيث يوجد فجميع النقم عدم.
وسأل رجل علياً رضي الله عنه هل رأيت ربك؟ فقال : أفأعبد ما لا أرى فقال : كيف تراه قال : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلب بحقائق الإيمان.
وعنه : من عرف ربه جل ومن عرف نفسه ذل ، يعني : عرفان الرب يعطي جلالة في المعنى وعرفان النفس يعطي ذلة في الصورة فالكفار وسائر أهل الظلم عدوا أنفسهم أعزة فذلوا صورة ومعنى حيث بعدوا من الله تعالى في الباطن وهلكوا مع الهالكين في الظاهر والمؤمنون وسائر العدول عدوا أنفسهم أذلة فعزوا صورة ومعنى حيث تقربوا إلى الله تعالى في الباطن ونجوا من الهلاك في الظاهر فجميع التنزل إنما يأتي من جهة الجهل بالرب والنفس.
رونق كار خسان كاسد شود
همو ميوة تازة زوفاسد شود
فعلى العاقل الانقياد لأهل الحق فإن جمع الفيض إنما يحصل من مشرب الانقياد وبالانقياد يحصل العرفان التام وشهود رب العباد.
اللهم اعصمنا من العناد أثبتنا على الانقياد.
(6/60)
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَـارُونَ بآياتنا} هي الآيات التسع من اليد والعصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص الثمرات والطاعون ولا مساغ لعد فلق البحر منها ؛ إذ المراد الآيات التي كذبوها.
{وَسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} حجة واضحة ملزمة للخصم وهي العصا وخصصها لفضلها على سائر الآيات أو نفس الآيات عبر عنها بذلك على طريق العطف تنبيهاً على جمعها لعنوانين جليلين وتنزيلاً لتغايرها منزلة التغاير الذاتي.
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلايْهِ} أي : أشراف قومه من القبط خصوا بالذكر لأن إرسال بني إسرائيل منوط بآرائهم لا بآراء أعقابهم.
{فَاسْتَكْبَرُوا} عن الإيمان والمتابعة وعظم الكبر أن يتهاون العبيد بآيات ربهم وبرسالاته بعد وضوحها وانتفاء الشك عنها ويتعظموا عن امتثالها وتقبلها.
{وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} متكبرين مجاوزين للحد في الكبر
85
والطغيان أي كانوا قوماً عادتهم الاستكبار والتمرد {فَقَالُوا} عطف على استكبروا وما بينهما اعتراض مقرر للاستكبار أي قالوا فيما بينهم بطريق المناصحة {أَنُؤْمِنُ} الهمزة للإنكار بمعنى لا نؤمن وما ينبغي أن يصدر منا الإيمان.
{لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} وصف بالمثل الاثنان لأنه في حكم المصدر العام للإفراد والتثنية والجمع المذكر والمؤنث.
{وَقَوْمُهُمَا} يعنون بني إسرائيل {لَنَا} متعلقة بقوله : {عَـابِدُونَ} والجملة حال من فاعل نؤمن ، أي : خادمون منقادون لنا كالعبيد وكأنهم قصدوا بذلك التعرض لشأنهما وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 83
قال الكاشفي : (در بعضى تفاسير آورده انده كه بني إسرائيل فرعون رامي رستيدند نعوذ بالله واوبت مي رستيد ياكوساله) أي فتكون طاعتهم لهم عبادة على الحقيقة.
{فَكَذَّبُوهُمَا} أي فاصروا على تكذيب موسى وهارون حتى يئسا من تصديقهم {فَكَانُوا} فصاروا {مِنَ الْمُهْلَكِينَ} بالغرق في بحر القلزم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 83
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى} أي : بعد إهلاكهم وإنجاء بني إسرائيل من أيديهم {الْكِتَـابَ} التوراة {لَعَلَّهُمْ} لعل بني إسرائيل {يَهْتَدُونَ} إلى طريق الحق بالعمل بما فيها من الشرائع والأحكام.
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ} أي : عيسى {وَأُمَّه ءَايَةً} دالة على عظم قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشر فالآية أمر واحد مضاف إليهما أو جعلنا ابن مريم آية بأن تكلم في المهد فظهرت منه معجزات جمة وأمه آية بأنها ولدته من غير مسيس فحذف الأولى لدلالة الثانية عليها.
قال في "العيون" : آية أي عبرة لبني إسرائيل بعد موسى لأن عيسى تكلم في المهد واحيا الموتى ومريم ولدته من غير مسيس وهما آيتان قطعاً فيكون هذا من قبيل الاكتفاء بذكر إحداهما انتهى.
وتقديمه عليه السلام لأصالته فيما ذكر من كونه آية كما أن تقديم أمه في قوله : {وَجَعَلْنَـاهَا وَابْنَهَآ ءَايَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 91) لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ ـ ـ وروي ـ ـ أن رسول الله عليه السلام صلى الصبح بمكة فقرأ سورة المؤمنين فلما أتى على ذكر عيسى وأمه أخذته شرقة فركع أي شرق بدمعه فعي بالقراءة {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ} (وجاي داديم مادر وسررا وقتي كه ازيهود فرار كردند وباز آورديم بسوى ربوة از زمين بيت المقدس) أي أنزلناهما إلى مكان مرتفع من الأرض وجعلناه مأواهما ومنزلهما وهي إيليا أرض بيت المقدس فإنها مرتفعة وإنها كبد الأرض وأقربها إلى السماء بثمانية عشر ميلاً على ما يروى عن كعب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 86
وقال الإمام السهيلي : أوت مريم بعيسى طفلاً إلى قرية من دمشق يقال لها ناصرة وبناصرة تسمى النصارى واشتق اسمهم منها.
قال الكاشفي : (آورداندكه مريم باسر وسر عم خود يوسف بن ماتان دوازده سال دران موضع بسر بردند وطعام عيسى ازبهاي ريسمان بودكه كه مادرش مي رشت وميفروخت).
يقول الفقير فيه إشارة إلى أن غزل القطن والكتان ونحوهما لكونه من أعمال خيار النساء ، أحب من غزل القز ونحوه على ما أكب عليه أهل بروسة والديار التي يحصل فيها دود القز مع أن القز من زين أهل الدنيا وبه غالباً شهرة أربابها وافتخارهم.
{ذَاتِ قَرَارٍ} (خداوند قرار يعني مقري منبسط وسهل كه برو آرام توان كرفت) وقيل : ذات ثمار
86
وزروع فإن ساكنيها يستقرون فيها لأجلها.
(6/61)
قال الراغب قرّ في المكان يقر قراراً إذا ثبت ثبوتاً خامداً وأصله من القر وهو البرد لأجل أن البرد يقتضي السكون والحر يقتضي الحركة {وَمَعِينٍ} وماء معين ظاهر جار فعيل من معن الماء إذا جرى وقيل : من العين والميم زائدة ويسمى الماء الجاري معيناً لظهوره وكونه مدركاً بالعيون وصف ماء تلك الربوة بذلك للإيذان بكونه جامعاً لفنون المنافع من الشرب وسقي ما يسقى من الحيوان والنبات بغير كلفة والتنزه بمنظره الحسن المعجب ولولا أن يكون الماء الجاري لكان السرور الأوفر فائتاً وطيب المكان مفقوداً ولأمر ما جاء الله بذكر الجنات مشفوعاً بذكر الماء الجاري من تحتها مسوقين على قران واحد ومن أحاديث "المقاصد الحسنة" : "ثلاث يجلون البصر النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري وإلى الوجه الحسن" أي مما يحل النظر إليه فإن النظر إلى الأمرد الصبيح ممنوع.
قال الشيخ سعدي في حق من يديم النظر إلى النقاش عند نظر إلى النقش.
راطفل يكروزه هوشش نبرد
كه درصنع ديدن ه بالغ ه خرد
محقق همي بيند اندر إبل
كه در خوب رويان ين وكل
وهما علمان لبلدتين من بلاد الترك يكثر فيهما المحابيب.
وفي "التأويلات النجمية" : قوله : {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّه ءَايَةً} يشير به إلى عيسى الروح الذي تولد من أمر كن بلا أب من عالم الأسباب وهو أعظم آية من آيات الله المخلوقة التي تدل على ذات الله ومعرفته لأنه خليفة الله وروح منه.
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ} أي : ربوة القالب فإنه مأوى الروح ومأوى الأمر بالأوامر والنواهي.
{ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} هو منزلهما ودار قرارهما يعني ما دام القالب يكون مأوى الروح ومقره ، يكون ماأوى الأمر ومقره بأن لا تسقط عنه التكاليف وأما المعين فهو عين الحكمة الجارية من القلب على اللسان انتهى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 86
اللهم يا معين اجعلنا من أهل المعين.
يا اأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَـاتِ} خطاب لجميع الرسل لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة بل على معنى أن كل رسول منهم خوطب به في زمانه ونودي ووصى ليعلم السامع أن إباحة الطيبات للرسل شرع قديم وأن أمراً نودي له جميع الأنبياء ووصوا به حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه أي وقلنا لكل رسول كل من الطيبات واعمل صالحاً فعبر عن تلك الأوامر المتعدد المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع عند الحكاية إجمالاً للإيجاز.
وقال بعضهم إنه خطاب لرسول الله وحده على دأب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجمع للتعظيم وفيه إبانة لفضله وقيامه مقام الكل في حيازة كمالاتهم.
وقد جمع الرحمن فيك لمعاجزا
آنكه خوبان همه دارند توتنها داري
والطيبات ما يستطاب ويستلذ من مباحات المآكل والفواكه.
{وَاعْمَلُوا صَـالِحًا} أي عملاً صالحاً فإنه المقصود منكم والنافع عند ربكم وهذا الأمر للوجوب بخلاف الأول وفيه رد وهدم لما قال بعض المبيحين من أن العبد إذا بلغ غاية المحبة وصفا قلبه واختار الإيمان على الكفر من غير نفاق سقط عنه الأعمال الصالحة من العبادات الظاهرة وتكون عبادته التفكر ، وهذا كفر وضلال فإن أكمل الناس في المحبة والإيمان هم الرسل خصوصاً حبيب الله مع
87
أن التكاليف بالأعمال الصالحة والعبادات في حقهم أتم وأكمل.
{إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال الظاهرة والباطنة {عَلِيمٌ} فأجازيكم عليه.
وفي الآية دلالة على بطلان ما عليه الرهابنة من رفض الطيبات يعني على تقدير اعتقادهم بأن ليس في دينهم أكل الطيبات.
واعلم أن تأخير ذكر العمل الصالح يدل على أن تكون نتيجته أكل الحلال.
وفي "المثنوي".
علم وحكمت زايد ازلقمه حلال
عشق ورقت آيد ازلقمه جلال
ون زلقمه توحسد بيني ودام
جهل وغفلت زايد آنرا دان حرام
هي كندم كاري وجو بردهد
ديدة اسبي كه كرة خر دهد
لقمه تخمست وبرش انديشها
لقمه بحر وكوهرش انديشها
زايد ازلقمة حلال اندر دهان
ميل خدمت عزم رفتن آن جهان
قال الراغب : أصل الطيب ما تستلذه الحواس والنفس والطعام الطيب في الشرع ما كان متناولاً من حيث ما يجوز وبقدر ما يجوز من المكان الذي يجوز فإنه متى كان كذلك كان طيباً عاجلاً وآجلاً لا يستوخم وإلا فإنه وإن كان طيباً عاجلاً لم يطب آجلاً ، وفي الحديث : "أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً" : قال صاحب "روضة الأخبار".
جزء : 6 رقم الصفحة : 86
فرموده لقمه كه دراصل نباشد حلال
زونقتد مرد مكر درضلال
قطرة باران توون صاف نيست
كوهر درياي توشفاف نيسث
(6/62)
وكان عيسى عليه السلام يأكل من غزل أمه وكان رزق نبينا عليه السلام من الغنائم وهو أطيب الطيبات روي : عن أخت شداد أنها بعثت إلى رسول الله بقدح من لبن في شدة الحر عند حظره وهو صائم فرده إليها وقال : من أين لك هذا فقالت : من شاة لي ثم رده وقال من أين هذه الشاة فقالت اشتريتها بمالي فأخذه ثم إنها جاءته وقالت يا رسول الله لم رددته فقال : بذلك أمرت الرسل أن لا يأكلوا إلا طيباً ولا يعملوا إلا صالحاً".
قال الإمام الغزالي رحمه الله : إذا كان ظاهر الإنسان الصلاح والستر فلا حرج عليك في قبول صلاته وصدقته ولا يلزمك البحث بأن تقول قد فسد الزمان فإن هذا سوء ظن بذلك الرجل المسلم بل حسن الظن بالمسلمين مأمور به.
قال أبو سليمان الداراني رحمه الله : لأن أصوم النهار وأفطر الليل على لقمة حلال أحب إلى من قيام الليل وصوم النهار وحرام على شمس التوحيد أن تحل قلب عبد في جوفه لقمة حرام ثم إن أكل الطيبات وإن رخص فيه لكنه قد يترك قطعاً للطبيعة عن الشهوات.
قال أبو الفرج بن الجوزي ذكر القلب في المباحات يحدث له ظلمة فكيف تدبير الحرام إذا غير المسك الماء منع الوضوء به فكيف ولوغ الكلب ولذا قال بعض الكبار من اعتاد بالمباحات حرم لذة المناجاة اللهم اجعلنا من أهل التوجه والمناجاة.
{وَإِنَّ هَـاذِهِ} أي : ملة الإسلام والتوحيد وأشير إليها بهذه للتنبيه على كمال ظهور أمرها في الصحة والسداد وانتظامها بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة {أُمَّتُكُمْ} أي : ملتكم وشريعتكم أيها الرسل.
قال القرطبي الأمة هنا الدين ومنه إنا وجدنا آباءنا على أمة أي على دين مجتمع.
{أُمَّةً وَاحِدَةً} حال من هذه أي ملة وشريعة متحدة في أصول الشرائع التي لا تتبدل بتبدل الأعصار وأما الاختلاف
88
في الفروع فلا يسمى اختلافاً في الدين فالحائض والطاهر من النساء دينهما واحد وإن افترق تكليفهما.
وقيل : هذه إشارة إلى الأمم المؤمنة للرسل والمعنى أن هذه جماعتكم واحدة متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة ولا يلائمه قوله تعالى : من غير أن يكون لي شريك في الربوبية {فَاتَّقُونِ} أي : في شق العصا ومخالفة الكلمة والضمير للرسل والأمم جميعاً على أن الأمر في حق الرسل للتهييج والإلهاب وفي حق الأمم للتحذير والإيجاب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 86
وفي "التفسير الكبير" : فيه تنبيه على أن دين الجميع واحد فيما يتصل بمعرفة الله تعالى واتقاء معاصيه.
{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ} أي جعلوا أمر دينهم مع اتحاده قطعاً متفرقة وأدياناً مختلفة {زُبُرًا} حال من أمرهم ، أي قطعاً جمع زبور بمعنى الفرقة.
وبالفارسية : (ارها يعني كروه كروه شدتد واختلاف كردند).
{كُلُّ حِزْب} أي جماعة من أولئك المتحزبين {بِمَا لَدَيْهِمْ} من الدين الذي اختاروه {فَرِحُونَ} معجبون معتقدون أنه الحق.
قال بعض الكبار : كيف يفرح العبد بما لديه وليس يعلم ما سبق له في محتوم العلم ولا ينبغي للعارفين أن يفرحوا بما دون الله من العرش إلى الثرى بل العارف الصادق إذا استغرق في بحار المعرفة فهمومه أكثر من فرحه لما يشاهد من القصور في الإدراك.
قال الشيخ سعدي : (عاكفان كعبة جلالش بتقصير عبادت معتر فندكه ما عبدناك حق عبادتك وواصفان حلية جمالش بتحير منسوب كه ما عرفناك حق معرفتك :
كركسي وصف اوز من رسد
بي دل ازبي نشان ه كويد باز
عاشقان كشتكان معشوقند
برنيايد زكشتكان آواز
{فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ} شبه ما هم فيه من الجهالة بالماء الذي يغمر القامة ويسترها لأنهم مغمورون فيها لاعبون بها.
قال الراغب : أصل الغمر إزالة أثر الشيء ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر مسيله غمر وغامر والغمرة معظم الماء الساترة لمقرها وجعل مثلاً للجهالة التي تغمر صاحبها والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أي اتركهم يعني الكفار المتفرقة على حالهم ولا تشغل قلبك بهم وبتفرقهم.
{حَتَّى حِينٍ} هو حين قتلهم أو موتهم على الكفر أو عذابهم فهو وعيد لهم بعذاب الدنيا والآخرة وتسلية لرسول الله ونهى له عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره.
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ} الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وما موصولة ، أي أيظن الكفرة أن الذي نعطيهم إياه ونجعله مدداً لهم {مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} بيان للموصول وتخصيص البنين لشدة افتخارهم بهم.
{نُسَارِعُ} به {لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ} فيما فيه خيرهم وإكرامهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 86
(6/63)
قال الكاشفي : (يعني كمان ميبرندكه إمداد ما ايشانرا بمال وفرزند مسارعتست ازما براى ايشان درنيكوبي وأعمال ايشانرا استحقاق آن هست ما اداش آن با ايشان نيكوبي كنيم) {بَلْ} (نه نين است كه مي ندارند بلكه) {لا يَشْعُرُونَ} (نميدانندكه اين امداد استدراجست نه مسارعت در خير) فهو عطف على مقدر أي كلا لا نفعل ذلك بل هم لا يشعرون بشيء أصلاً كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور ليتأملوا ويعرفوا أن ذلك الإمداد استدراج واستجرار إلى زيادة الإثم
89
وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ـ ـ روي ـ ـ في الخبر : إن الله تعالى أوحى إلى نبي من الأنبياء أيفرح عبدي أن أبسط له في الدنيا فهو أبعد له مني أيجزع عبدي المؤمن أن أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني ثم قال أيحسبون أن ما نمدهم" إلخ.
قال بعض الكبار : إن الله تعالى امتحن الممتحنين بزينة الدنيا ولذتها وجاهها ومالها وخيراتها فاستلذوها واحتجبوا بها عن مشاهدة الرحمن وظنوا أنهم نالوا جميع الدرجات وأنهم مقبولون حين أعطوا هذه الفانيات ولم يعلموا أنها استدراج لا منهاج.
قال عبد العزيز المكي : من تزين بزينة فانية فتلك الزينة تكون وبالاً عليه إلا من تزين بما يبقى من الطاعات والموافقات والمجاهدات ، فإن الأنفس فانية والأموال عواري والأولاد فتنة فمن تسارع في جمعها وحظها وتعلق قلبه بها قطع عن الخيرات أجمع وما عبد الله بطاعة أفضل من مخالفة النفس والتقلل من الدنيا وقطع القلب عنها لأن المسارعة في الخيرات هو اجتناب الشرور وأول الشرور حب الدنيا لأنها مزرعة الشيطان فمن طلبها وعمرها فهو حزبه وعبده وشر من الشيطان من يعين الشيطان على عمارة داره.
ومن كلمات سلطان ولد :
بكذار جهان راكه جهان آن تونيست
وين دم كه همي زنى بفرمان تونيست
كرمال جهان جمع كنى شاد مشو
ورتكيه بجان كنى جان آن تونيست
قال الشيخ سعدي قدس سره :
بر مرد هشيار دنيا خسست
كه هر مدتي جاي ديكر كسست
برفتند هركس درود آنه كشت
نماند بجزنام نيكو وزشت
{إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} أي من خوف عذابه حذرون والخشية خوف يشوبه تعظيم والإشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه وقد سبق تحقيقه في سورة الأنبياء وعن الحسن أن المؤمن جمع إحساناً وخشية والكافر جمع إساءة وأمنا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 86
هركه ترسد مرورا أيمن كنتد
{وَالَّذِينَ هُم بآيات رَبِّهِمْ} المنصوبة في الآفاق والمنزلة على الإطلاق.
{يُؤْمِنُونَ} يصدقون مدلولها ولا يكذبونها بقول وفعل.
{وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} غيره شركاً جلياً ولا خفياً ولذلك عبر عن الإيمان بالآيات.
قال الجنيد قدس سره من فتش سره فرأى فيه شيئاً أعظم من ربه أو أجل منه فقد أشرك به أو جعل له مثلاً.
وفي "التأويلات النجمية" : ومن أعظم الشرك ملاحظة الخلق في الرد والقبول ، وهي الاستبشار بمدحهم والانكسار بذمهم وأيضاً ملاحظة الأسباب فلا ينبغي أن يتوهم أن حصول الشفاء من شرب الدواء والشبع من أكل الطعام فإذا جاء اليقين بحيث ارتفع التوهم أي توهم أن الشيء من الحدثان لا من التقدير فحينئذ يتقي أمن الشرك : قال الجامي قدس سره :
جيب خاص است كه كن كهر اخلاص است
نيست ابن در ثمين در بغل هر دغلي
جزء : 6 رقم الصفحة : 86
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا} أي : يعطون ما أعطوه من الزكوات والصدقات وتوسلوا به إلى الله تعالى من الخيرات والمبرات وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار والماضي على التحقق
90
{وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} حال من فاعل يؤتون أي والحال أن قلوبهم خائفة أشد الخوف.
قال الراغب : الوجل استشعار الخوف {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أي : من أن رجوعهم إليه تعالى على أن مناط الوجل أن لا يقبل منهم ذلك وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به حينئذ لا مجرد رجوعهم إليه تعالى والموصولات الأربعة عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر في حيز صلاتها من الأوصاف الأربعة لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة كأنه قيل : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وبآيات ربهم يؤمنون إلخ وإنما كرر الموصول إيذاناً باستقلال كل واحدة من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حيالها وتتزيلا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها.
قال بعض الكبار : وجل العارف من طاعته أكثر من وجله من مخالفته لأن المخالفة تمحى بالتوبة والطاعة تطلب بتصحيحها والإخلاص والصدق فيها فإذا كان فاعل الطاعات خائفاً مضطرباً فكيف لا يخاف غيره قال الشيخ سعدي قدس سره :
دران روزكز فعل رسند وقول
أولو العزم راتن بلرزد زهول
بجايي كه دهشت خورد أنبياء
توعذر كنه راه داري بيا
(6/64)
{أولئك} المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة خاصة دون غيرهم.
{يُسَـارِعُونَ} (مي شتابند) {فِى الْخَيْرَاتِ} أي : في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة كما قال تعالى : {فَـاَاتَـاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخِرَةِ} (آل عمران : 148) {وَوَهَبْنَا لَه إِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـابَ} (العنكبوت : 37) لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها فيكون أثبت لهم ما نفى عن الكفار.
جزء : 6 رقم الصفحة : 90
قال في "الإرشاد" : ايثار كلمة في على كلمة إلى للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها بطريق المسارعة كما في قوله تعالى : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} (آل عمران : 133) ألخ {وَهُمْ لَهَا سَـابِقُونَ} أي : إياها سابقون متقدمون واللام لتقوية عمل اسم الفاعل أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا.
قال بعض الكبار : بالمسارعات إلى الخيرات تبتغى درجة السابقين ويطلب مكارم الواصلين لا بالدواعي والإهمال وتضييع الأوقات من أراد الوصول إلى المقامات من غير آداب ورياضات ومجاهدات فقد خاب وخسر وحرم الوصول إليها.
وفي "التأويلات النجمية" : {أولئك يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ} إلخ ، أي : هم المتوجهون إلى الله المعرضون عما سواه المسارعون بقدم الصدق والسعي الجميل على حسب ما سبقت لهم من الله الحسنى {وَهُمْ لَهَا سَـابِقُونَ} على قدر سبق العناية انتهى.
يعني بقدر سبق العناية يسبق العبد على طريق الهداية فلكل سالك حظوة ولذا قال بعض الكبار : جنة النعيم لأصحاب العلوم وجنة الفردوس لأصحاب الفهوم وجنة المأوى لأصحاب التقوى وجنة عدن للقائمين بالوزن وجنة الخلد للمقيمين على الودّ وجنة المقامة لأهل الكرامة وليس في مقدور البشر مراقبة الله تعالى في السر والعلن مع الأنفاس فإن ذلك من خصائص الملأ الأعلى وأما رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانت له هذه الرتبة لكونه مسرعاً في جميع أحواله فلا يوجد إلا في واجب أو مندوب أو مباح فهذا هو السبق الأعلى والمسارعة العليا حيث
91
لا قدم فوقه نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المسارعين إلى الخيرات ومراقبي الأنفاس مع الله في جميع الحالات كما قال {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَآاـاِمُونَ} (المعارج : 23).
{وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا} من النفوس {إِلا وُسْعَهَا} قدر طاقتها فقول لا إله إلا الله والعمل بما يترتب عليه من الأحكام من قبيل ما هو الوسع ،
قال مقاتل : من لم يستطع القيام فليصل قاعداً ومن لم يستطع القعود فليومىء إيماء.
قال الحريري : لم يكلف الله العباد معرفته على قدره وإنما كلفهم على أقدارهم ولو كلفهم على قدره لما عرفوه لأنه لا يعرفه على الحقيقة أحد سواه.
قال الجامي :
جزء : 6 رقم الصفحة : 90
عمري خرد وشمه هاشمها كشاد
تابر كمال كنه إله افكند نكاه
ليكن كشيد عاقبتش در دو ديده نيل
شكل ألف كه حرف نخست است إزاله
{وَلَدَيْنَا} عندنا {كِتَابٌ} صحائف أعمال قد أثبت فيها أعمال كل أحد على ما هي عليه {يَنطِقُ بِالْحَقِّ} بالصدق لا يوجد فيه ما يخالف الواقع ، أي يظهر الحق ويبينه للناظر كما يبينه النطق ويظهر للسامع فينظر هناك أعمالهم ويترتب عليها أجزيتها إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وبالفارسية : (ونزد ما هست نامة أعمال هركس كه سخن كويد براستي وكواهي دهد بركردار هركس).
{وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} في الجزاء بنقص ثواب أو بزيادة عذاب بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلفوها ونطقت بها صحائفها بالحق.
{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مِّنْ هَـاذَا} أي بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة أي ساترة لها من هذا الذي بين في القرآن من أن لديه كتاباً ينطق بالحق ويظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد فيجزون بها.
{وَلَهُمْ أَعْمَـالٌ} خبيثة كثيرة {مِّن دُونِ ذَالِكَ} الذي ذكر من كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما سيأتي من طعنهم في القرآن.
{هُمْ لَهَا عَـامِلُونَ} معتادون فعلها.
{حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم} غاية لأعمالهم المذكورة ومبتدأ لما بعدها من مضمون الشرطية أي لا يزالون يعملون أعمالهم إلى حيث إذا أخذنا متنعميهم ورؤساءهم {بِالْعَذَابِ} الأخروي إذ هو الذي يفاجئون عنده الجؤار فيجابون بالرد والإقناط وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جوار فالضمير في قوله : {حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا} راجع إلى المترفين أي فاجؤوا الصراخ بالاستغاثة أي يرفعون أصواتهم بها ويتضرعون في طلب النجاة فإن أصل الجؤار دفع الصوت بالتضرع وجأر الرجل إلى الله تضرع بالدعاء.
(6/65)
قال الراغب : جأر إذا أفرط في الدعاء والتضرع تشبيهاً بجؤار الوحشيات كالظباء ونحوها وتخصيص المترفين بأخذ العذاب ومفاجأة الجؤار مع عمومه لغيرهم أيضاً لغاية ظهور انعكاس حالهم وأيضاً إذا كان لقاؤهم هذه الحالة الفظيعة ثابتاً واقعاً فما ظنك بحال الأصاغر والخدم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 90
وقال بعضهم : المراد بالمترفين المعذبين أبو جهل وأصحابه الذين قتلوا ببدر والذين هم يجأرون أهل مكة فيكون الضمير راجعاً إلى ما رجع إليه ضمير مترفيهم وهم الكفرة مطلقاً.
{لا تَجْـاَرُوا الْيَوْمَ} على إضمار القول أي فيقال لهم وتخصيص اليوم بالذكر وهو يوم القيامة لتهويله والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار.
{إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ} أي لا يلحقكم من جهتنا نصرة تنجيكم مما دهمكم.
{قَدْ كَانَتْ ءَايَـاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ} في الدنيا
92
لتنتفعوا بها {فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ تَنكِصُونَ} الأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل ورجع على عقبه إذا انثنى راجعاً والنكوص الرجوع القهقرى أي معرضون عن سماعها أشد الإعراض فضلاً عن تصديقها والعمل بها.
{مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي حال كونكم مكذبين بكتابي الذي عبر عنه بآياتي على تضمين الاستكبار معنى التكذيب {سَـامِرًا} حال بعد حال وهو اسم جمع كالحاضر.
قال الراغب : قيل : معناه سماراً فوضع الواحد موضع الجمع وقيل بل السامر الليل المظلم والسمر سواد الليل ومنه قيل : للحديث بالليل سمر وسمر فلان إذا تحدث ليلاً وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل ويسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً.
{تَهْجُرُونَ} حال أخرى من الهجر بالفتح بمعنى الهذيان أو الترك أي تهذون في شأن القرآن وتتركونه وفيه ذم لمن يسمر في غير طاعة الله تعالى وكان عليه السلام يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها.
قال القرطبي : اتفق على كراهية الحديث بعدها لأن الصلوات حد كفرت خطايا الإنسان فينام على سلامة وقد ختم الحفظة صحيفته بالعبادة فإن سمر بعد ذلك فقد لغا وجعل خاتمتها اللغو والباطل.
وكان عمر رضي الله عنه لا يدع سامراً بعد العشاء ويقول : ارجعوا فعل الله يرزقكم صلاة أوتهجداً.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله السمر على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون في مذاكرة العلم فهو أفضل من النوم ويلحق به كل ما فيه خير وصلاح للناس فإنه كان سمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد العشاء في بيت أبي بكر رضي الله عنه ليلاً في الأمر الذي يكون من أمر المسلمين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 90
والثاني : أن يكون في أساطير الأولين والأحاديث الكذب والسخرية والضحك فهو مكروه.
والثالث : أن يتكلموا للمؤانسة ويجتنبوا الكذب وقول الباطل فلا بأس به والكف عنه أفضل للنهي الوارد فيه وإذا فعلوا ذلك ينبغي أن يكون رجوعهم إلى ذكر الله والتسبيح والاستغفار حتى يكون رجوعهم بالخير وكان عليه السلام إذا أراد القيام عن مجلسه قال سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك ثم يقول علمنيهن جبريل.
قال في "روضة الأخبار" : من قال ذلك قبل أن يقوم من مجلسه كفر الله ما كان في مجلسه ذلك كذا في الحديث انتهى.
وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : "لا سمر إلا لمسافر أو لمصل" ومعنى ذلك أن المسافر يحتاج إلى ما يدفع عنه النوم للمشي فأبيح له ذلك وإن لم يكن فيه قربة وطاعة والمصلي إذا سمر ثم صلى يكون نومه على الصلاة وختم سمره بالطاعة.
فعلى العاقل أن يجتنب عن الفضول وعن كل ما يفضي إلى البعد عن حريم القبول وبقي عمره من تضيع الأوقات في اكتساب ما هو من الآفات.
قال الحافظ :
ما قصة سكندر وداراً بخوانده ايم
از ما يجز حكايت مهر ووفامرس
وقال بعضهم :
جزياد دوست هره كنم جمله ضايعست
جز سر شوق هره بكويم بطالتست
جزء : 6 رقم الصفحة : 90
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر أي
93
أفعل الكفار ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر فلم يتدبروا القرآن ليعرفوا بما فيه من إعجاز النظم وصحة المدلول والإخبار عن الغيب أنه الحق من ربهم فيؤمنوا به فضلاً عما فعلوا في شأنه من القبائح والتدبر إحضار القلب للفهم.
قال الراغب : التدبر التفكر في دبر الأمور {أَمْ جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ الاوَّلِينَ} أم منقطعة مقدرة ببل والهمزة قيل : للإضراب والانتقال عن التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بآخر والهمزة لإنكار الواقع أي بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين حتى استبعدوه فوقعوا في الكفر والضلال يعني أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل سنة قديمة له تعالى لا يكاد يتسنى إنكارها وأن مجيء القرآن على طريقته فمن أين ينكرونه؟
(6/66)
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} إضراب وانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بوجه آخر والهمزة لإنكار الوقوع أيضاً أي بل ألم يعرفوه عليه السلام بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق وكمال العلم مع عدم التعلم من أحد إلى غير ذلك من صفة الأنبياء.
{فَهُمْ لَه مُنكِرُونَ} أي : جاهدون بنبوته فحيث انتفى عدم معرفتهم بشأنه عليه السلام ظهر بطلان إنكارهم لأنه مترتب عليه.
{أَمْ يَقُولُونَ بِه جِنَّةُ} انتقال إلى توبيخ آخر والهمزة لإنكار الواقع أي بل أيقولون به جنون.
وبالفارسية (ياميكويند درو ديوكيست) مع أنه أرجح الناس عقلاً وأثقبهم ذهناً وأتقنهم رأياً وأوفرهم رزانة.
{بَلْ جَآءَهُم بِالْحَقِّ} أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول بل جاءهم الرسول بالصدق الثابت الذي لا ميل عنه ولا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 93
قال الكاشفي : (يعني إسلام يا سخن راست كه قرآنست).
{وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ} من حيث هو حق أي حق كان لا لهذا الحق فقط كما ينبىء عنه الإظهار في موقع الإضمار.
{كَـارِهُونَ} لما في جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج وزاغوا عن الطريق الانهج وتخصيص أكثرهم بهذا الوصف لا يقتضي إلا عدم كراهة الباقين لكل حق من الحقوق وذلك لا ينافي كراهتهم لهذا الحق المبين.
يقول الفقير : لعل وجه التخصيص أن أكثر القوم وهم الباقون على الكفر كارهون للحق ولذا أصروا وأقلهم وهم المختارون للإيمان غير كارهين ولذا أقروا فإن الحكمة الإلهية جارية على أن قوم كل نبي أكثرهم معاند كما قال تعالى : {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاوَّلِينَ} (الصافات : 71) قال الحافظ :
كوهر اك ببايدكه شود قابل فيض
ورنه هرسنك وكلي لؤلؤ ومرجان نشود
فالأقل وهم المستعدون كالجواهر النفيسة والأزهار الطيبة والأكثر وهم غير المستعدين كالأحجار الخسيسة والنباتات اليابسة.
واعلم أن الكفار كرهوا الحق المحبوب المرغوب طبعاً وعقلاً ولو تركوا الطبع والعقل واتبعوا الشرع وأحبوه لكان خيراً لهم في الدنيا والآخرة.
إن قلت هل يعتد في الآخرة بما يفعل الإنسان في الدنيا من الطاعة كرهاً؟.
قلت : لا فإن الله تعالى ينظر إلى السرائر ولا يرضى إلا الأخلاص ولهذا قال عليه السلام : "إنما الأعمال بالنيات" وقال : "أخلص يكفك القليل من العمل".
عبادت باخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زبى مغز وست
اكرجز بحق ميرود جاده ات
در آتش فشانند سجاده ات
94
ومن لطائف المولى الجامي :
تهيست سبحة زاهد زكوهر اخلاص
هزار بار من آثرا شمرداه ام يك يك
ودلت الآية على أن ما هو مكروه عند الإنسان لا يلزم أن يكون مكرهاً عند الرحمن والله تعالى لا يحمل العباد إلا على نعيم الابد وقد علم الحق تعالى قلة نهوض العباد إلى معاملته التي لا مصلحة لهم في الدارين إلا بها فأوجب عليهم وجود طاعته ورتب عليها وجود ثوابه وعقوبته فساقهم إليها بسلاسل الإيجاب إذ ليس عندهم من المروءة ما يردهم إليه بلا علة هذا حال أكثر الخلق بخلاف أهل المروءة والصفا وذوي المحبة والوفا الذين لم يزدهم التكليف إلا شرفاً في أفعالهم وزيادة في نوالهم ولو لم يكن وجوب لقاموا للحق بحق العبودية ورعوا ما يجب أن يراعى من حرمة الربوبية حتى أن منهم من يطلب لدخول الجنة فيأبى ذلك طلباً للقيام بالخدمة فتوضع في أعناقهم السلاسل من الذهب فيدخلون بها الجنة قيل : ولهذا يشير عليه السلام بقوله : "عجب ربكم من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل" وفي الحديث إشارة أيضاً إلى أن بعض الكراهة قد يؤول إلى المحبة ألا ترى إلى أحوال بعض الأسارى فإنهم يدخلون دار الإسلام كرهاً ثم يهديهم الله تعالى فيؤمنون طوعاً فيساقون إلى الجنة بالسلاسل فالعبرة في كل شيء للخاتمة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 93
قال بعضهم : من طالع الثواب والعقاب فاسلم رغبة ورهبة فهو إنما أسلم كرهاً ومن طالع المثيب والمعاقب لا الثواب والعقاب فأسلم معرفة ومحبة فهو إنما أسلم طوعاً وهو الذي يعتد به عند أهل الله تعالى.
فعلى العاقل أن يتدبر القرآن فيخلص الإيمان ويصل إلى العرفان والإيقان بل إلى المشاهدة والعيان والله تعالى أرسل رسوله بالحق فماذا بعد الحق إلا الضلال.
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ} الذي كرهوه ومن جملته ما جاء به عليه السلام من القرآن {أَهْوَآءَهُمْ} مشتهيات الكفرة بأن جاء القرآن موافقاً لمراداتهم فجعل موافقته اتباعاً على التوسع والمجاز.
{لَفَسَدَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ وَمَن فِيهِنَّ} من الملائكة والإنس والجن وخرجت عن الصلاح والانتظام بالكلية لأن مناط النظام قوام العالم ليس إلا الحق الذي من جملته الإسلام والتوحيد والعدل ونحو ذلك.
(6/67)
قال بعضهم : لولا أن الله أمر بمخالفة النفوس ومباينتها لاتبع الخلق أهواءهم وشهواتهم ولو فعلوا ذلك لضلوا عن طريق العبودية وتركوا أوامر الله تعالى وأعرضوا عن طاعته ولزموا مخالفته والهوى يهوي بمتابعيه إلى الهاوية.
{بَلْ أَتَيْنَـاهُم بِذِكْرِهِمْ} انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق الذي يقوم به العالم إلى تشنيعهم بالأعراض عما جبل عليه كل نفس من الرغبة فيما فيه خيرها والمراد بالذكر القرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} (الزخرف : 44) أي شرف لك ولقومك والمعنى بل آتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال.
وفي "التأويلات النجمية" : {بَلْ أَتَيْنَـاهُم} بما فيه لهم صلاح في الحال وذكر في المال {فَهُمْ} بسوء اختيارهم {عَن ذِكْرِهِم} عن صلاح حالهم وشرف مآلهم.
وفي "الإرشاد" : أي فخرهم وشرفهم خاصة {مُعْرِضُونَ} لا عن غير ذلك مما لا يوجب الإقبال عليه والاعتناء به.
{أَمْ تَسْـاَلُهُمْ} انتقال من توبيخهم بما ذكر من قولهم أو يقولون به جنة
95
إلى التوبيخ بوجه آخر كأنه قيل : أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة.
{خَرْجًا} أي : جعلاً وأجر فلأجل ذلك لا يؤمنون بك.
{فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} تعليل لنفي السؤال المستفاد من الإنكار أي لا تسألهم ذلك فإن رزق ربك في الدنيا وثوابه في العقبى خير لك من ذلك لسعته ودوامه ففيه استغناء لك عن عطائهم والخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله إياه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 93
قال في "تفسير المناسبات" : وكأنه سماه خراجاً إشارة إلى أنه أوجب رزق كل أحد على نفسه بوعد لا خلف فيه {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي خير من أعطى عوضاً على عمل لأن ما يعطيه لا ينقطع ولا يتكدر وهو تقدير لخيرية خراجه تعالى.
وفي "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى أن العلماء بالله الراسخين في العلم لا يدنسون وجوه قلوبهم الناضرة بدنس الاطماع الفاسدة والصالحة الدنيوية والأخروية فيما يعاملون الله في دعوة الخلق إلى الله بالله .
زيان ميكند مرد تفسير دان
كه علم وهنر ميفر وشدبنان
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في "الفتوحات المكية" : مذهبنا أن للواعظ أخذ الأجرة على وعظه الناس وهو من أحل ما يأكله وإن كان ترك ذلك أفضل وإيضاح ذلك أن مقام الدعوة إلى الله يقتضي الإجارة فإنه ما من نبي دعا إلى الله إلا قال : إن أجري إلا على الله فأثبت الأجر على الدعاء ولكن اختار أن يأخذه من الله لا من المخلوق انتهى.
{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} تشهد العقول السلمية باستقامة لا عوج فيه يوجب اتهامهم لك {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} وصفوا بذلك تشنيعاً لهم بما هم عليه من الانهماك في الدنيا وزعمهم أن لا حياة إلا الحياة الدنيا.
{عَنِ الصِّرَاطِ} المستقيم الذي تدعوهم إليه.
{لَنَـاكِبُونَ} مائلون عادلون عنه فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أقوى الدواعي إلى طلب الحق وسلوك سبيله وليس لهم إيمان وخوف حتى يطلبوا الحق ويسلكوا سبيله ففي الوصف بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بعلة الحكم أيضاً كالتشنيع المذكور.
قال أبو بكر الوراق : من لم يهتم لأمر معاده ومنقلبه وما يظهر عليه في الملأ الأعلى والمسند الأعظم فهو ضال عن طريقته غير متبع لرشده وأحسن منه حالاً من لم يهتم لما جرى له في السابقة.
ثم في الآيات إخبار أن الكفار متعنتون محجوجون من كل وجه في ترك الاتباع والاستماع إلى رسول الله عليه السلام.
قال الشيخ سعدي قدس سره.
كسى رامه ندار درسر بود
مندار هركز كه حق بشنود
زعلمش ملال آيد ازوعظ ننك
شقايق بباران نرويد زسنك
جزء : 6 رقم الصفحة : 93
قيل : لما انصرف هارون الرشيد من الحج أقام بالكوفة أياماً فلما خرج وقف بهلول المجنون على طريقة وناداه بأعلى صوته يا هارون ثلاثاً فقال هارون تعجباً : من الذي يناديني فقيل له : بهلول المجنون فوقف هارون وأمر برفع الستر وكان يكلم الناس وراء الستر فقال له : أتعرفني قال : نعم أعرفك فقال : من أنا ، قال : أنت الذي لو ظلم أحد في المشرق وأنت في المغرب سألك الله
96
(6/68)
تعالى عن ذلك يوم القيامة فبكى هارون من تأثير كلامه وقال : كيف ترى حالي قال ؛ أعرضه على كتاب الله وهي {إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} (الانفطار : 13 ـ ـ 14) قال : أين أعمالنا قال : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة : 27) قال : وأين قرابتنا من رسول الله قال : {فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ وَلا يَتَسَآءَلُونَ} (المؤمنون : 101) قال : وأين شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم إيانا قال : {يَوْمَـاـاِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَـاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ وَرَضِىَ لَه قَوْلا} (طه : 109) قال هارون : هل لك حاجة قال : نعم أن تغفر لي ذنوبي وتدخلني الجنة قال : ليس هذا بيدي ولكن بلغنا أن عليك ديناً فنقضيه عنك قال : الدين لا يقضى بدين أدِّ أموال الناس إليهم قال هارون : أنأمر لك برزق يردّ عليك إلى أن تموت قال : نحن عبد الله تعالى أترى يذكرك وينساني فقبل نصحه ومضى إلى طريقه وأشار بهلول في قوله الأخير إلى مضمون قوله تعالى : {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} لأن ما ورد من حيث لا يحتسب خير مما ورد من جهة معينة.
قال الحافظ قدس سره :
كنج زر كرنبود كنج قناعت باقيست
آنكه آن داد بشاهان بكدايان ابن داد
قال الشيخ سعدي قدس سره :
نيرزد عسل جان من زخم نيش
قناعت نكوتر بدوشاب خويش
اكر ادشاهت اكر ينه دوز
و خفتند كردد شب هردو روز
جزء : 6 رقم الصفحة : 93
{وَلَوْ رَحِمْنَـاهُمْ} روي أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة عن أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز وهو شيء يتخذونه من الوبر والدم.
قال الكاشفي : (وأهل مكة بحوردن مرده ومردار ميتلاً شدند) جاء أبو سفيان إلى رسول الله في المدينة فقال : أنشدك الله والرحم أي أسألك بالله وبحرمة الرحم والقرابة ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال بلى : فقال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع أن يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله هذه الآية {وَكَشَفْنَا} أزلنا عنهم {مَا بِهِم} (آنه برايشان واقع است) {مِّن ضُرٍّ} من سوء الحال يعني القحط والجدب الذي غلب عليهم وأصابهم {لَّلَجُّوا} اللجاج التمادي في الخصومة والعناد في تعاطي الفعل المزجور عنه وتمادى تناهى من المدى وهو الغاية والمعنى لتمادوا {فِى طُغْيَـانِهِمْ} الطغيان مجاوزة الحد في الشيء وكل مجاوز حده في العصيان طاغ أي في إفراطهم في الكفر والاستكبار ، وعداوة الرسول والمؤمنين يعني لارتدوا إلى ما كانوا عليه ولذهب عنهم هذا التملق وقد كان ذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 97
{وَلَوْ رَحِمْنَـاهُمْ} روي أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة عن أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز وهو شيء يتخذونه من الوبر والدم.
قال الكاشفي : (وأهل مكة بحوردن مرده ومردار ميتلاً شدند) جاء أبو سفيان إلى رسول الله في المدينة فقال : أنشدك الله والرحم أي أسألك بالله وبحرمة الرحم والقرابة ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال بلى : فقال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع أن يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله هذه الآية {وَكَشَفْنَا} أزلنا عنهم {مَا بِهِم} (آنه برايشان واقع است) {مِّن ضُرٍّ} من سوء الحال يعني القحط والجدب الذي غلب عليهم وأصابهم {لَّلَجُّوا} اللجاج التمادي في الخصومة والعناد في تعاطي الفعل المزجور عنه وتمادى تناهى من المدى وهو الغاية والمعنى لتمادوا {فِى طُغْيَـانِهِمْ} الطغيان مجاوزة الحد في الشيء وكل مجاوز حده في العصيان طاغ أي في إفراطهم في الكفر والاستكبار ، وعداوة الرسول والمؤمنين يعني لارتدوا إلى ما كانوا عليه ولذهب عنهم هذا التملق وقد كان ذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 97
ستيزندكى كار ديوو ددست
ستيزندكى دشمني باخوداست
{يَعْمَهُونَ} العمه التردد في الأمر من التحير أي عامهين عن الهدى مترددين في الضلالة لا يدرون أين يتوجهون كمن يضل عن الطريق في الفلاة لا رأي له ولا دراية بالطريق.
قال ابن عطاء الرحمة من الله على الأرواح المشاهدة ورحمته على الأسرار المراقبة ورحمته على القلوب المعرفة ورحمته على الأبدان آثار الجذبة عليها على سبيل السنة.
وقال أبو بكر بن طاهر كشف الضر هو الخلاص من أماني النفس وطول الأمل وطلب الرياسة والعلو وحب الدنيا
97
وهذا كله مما يضر بالمؤمن.
وقال الواسطي : للعلم طغيان وهو التفاخر به وللمال طغيان وهو البخل وللعمل والعبادة طغيان وهو الرياء والسمعة وللنفس طغيان وهو اتباع شهواتها.
{وَلَقَدْ أَخَذْنَـاهُم بِالْعَذَابِ} اللام جواب قسم محذوف أي وبالله لقد أخذناهم أي أهل مكة بالعذاب الدنيوي وهو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر.
(6/69)
وفي "التأويلات النجمية" : أذقناهم مقدمات العذاب دون شدائده تنبيهاً لهم {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع لربهم ومضوا على العتو والاستكبار والاستكانة الخضوع والذلة والتضرع إظهار الضراعة أي الضعف والذلة ووزن استكان استفعل من الكون لأن الخاضع ينتقل من كون إلى كون كما قيل : استحال إذا انتقل من حال إلى حال أو افتعل من السكون أشبعت فتحة عينه وصيغة المضارع في وما يتضرعون لرعاية الفواصل.
وفي "الإرشاد" : هو اعتراض مقرر لمضمون ما قبله : أي وليس من عادتهم التضرع إليه تعالى : {حَتَّى إِذَآ} (تاون) {فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} هو عذاب الآخرة.
{إِذَا هُمْ} (ناكاه ايشان).
{فِيهِ} (دران عذاب) {مُبْلِسُونَ} متحيرون آيسون من كل خير أي محناهم بكل محنة من القتل والأسر والجوع وغير ذلك فما رؤي منهم انقياد للحق وتوجه إلى الإسلام وأما ما أظهره أبو سفيان فليس من الاستكانة له تعالى والتضرع إليه في شيء وإنما هو نوع قنوع إلى أن يتم غرضه فحاله كما قيل : إذا جاع ضغا وإذا شبع طغا وأكثرهم مستمرون على ذلك إلى أن يروا عذاب الآخرة فحينئذٍ يبلسون كقوله تعالى : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} (الروم : 12) وقوله تعالى : {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} .
جزء : 6 رقم الصفحة : 97
قال عكرمة : هو باب من أبواب جهنم عليه من الخزنة أربعمائة ألف سود وجوههم كالحة أنبابهم قد قلعت الرحمة من قلوبهم إذا بلغوه فتحه الله عليهم نسأل الله العافية من ذلك.
قال وهب بن منبه : كان يسرج في بيت المقدس ألف قنديل فكان يخرج من طور سيناء زيت مثل عنق البعير صاف يجري حتى ينصب في القناديل من غير أن تمسه الأيدي وكانت تنحدر نار من السماء بيضاء تسرج بها القناديل وكان القربان والسرج من ابني هارون شبر وشبير فأمر أن لا يسرجا بنار الدنيا فاستعجلا يوماً ، فأسرجا بنار الدنيا فوقعت النار فأكلت ابني هارون فصرخ الصارخ إلى موسى عليه السلام فجاء يدعو ويقول : يا رب إن ابني هارون قد عملت مكانهما مني فأوحى الله إليه يا ابن عمران هكذا افعل بأوليائي إذا عصوني فكيف بأعدائي.
وخرج على سهل الصعلوكي من مستوقد حمام يهودي في طمر أسود من دخانه فقال : ألستم ترون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فقال سهل على البداهة إذا صرت إلى عذاب الله كانت هذه جنتك وإذا صرت إلى نعيم الله كانت هذه سجني فتعجبوا من كلامه فعلم منه أن عذاب الآخرة ليس كعذاب الدنيا ومن عرف حقيقة الحال يقع في خوف المآل قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لجبريل : "ما لي لم أر ميكائيل ضاحكاً قط" قال : "ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار".
واعلم أن المجاهدات والرياضات عذاب للنفس والطبيعة لإذابة جوهرهما من حيث الهوى والشهوات وإرجاعهما إلى الفطرة الأصلية لكن لا بد مع ذلك من التضرع والبكاء وتعفير الوجوه بالتراب لأنه بالاعتماد على الكسب يصعب طريق الوصول وبالافتقار والذلة
98
ينفتح باب القبول.
جز خضوع وبندكي واضطرار
اندرين حضرت ندارد اعتبار
وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره كابدت العبادة ثلاثين سنة فرأيت قائلاً يقول لي : يا أبا يزيد خزائنه مملوءة من العبادة إن أردت الوصول إليه فعليك بالذلة والافتقار فعلم منه أن العذاب لا ينقطع إلا بإفراد العبوديةتعالى والتواضع على وجه ليس فيه شائبة أنانية أصلاً نسأل الله سبحانه أن يكشف عنا ظلمة النفس وينورنا بنور الأنس والقدس إنه المسؤول في كل أمل والمأمول من كل عمل.
{وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ} خلق {لَكُمُ} لمنافعكم {السَّمْعَ} وهي قوة في الأذن بها تدرك الأصوات والفعل يقال له السمع أيضاً ويعبر تارة بالسمع عن الأذن وبالفارسية.
(كوش).
{وَالابْصَـارَ} جمع بصر يقال للجارحة الناظرة وللقوة فيها.
وبالفارسية : (ديده) {وَالافْـاِدَةَ} جمع فؤاد : وبالفارسية (دل).
جزء : 6 رقم الصفحة : 97
قال الراغب : هو كالقلب لكن يقال : فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤد ، أي التوقد يقال : فأدت اللحم شويته ولحم فئيد مشوي وخص هذه الثلاثة بالذكر لأن أكثر المنافع الدينية والدنيوية متعلق بها {قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ} ما صلة لتأكيد القلة أي شكراً قليلاً تشكرون هذه النعم الجليلة لأن العمدة في الشكر استعمالها فيما خلقت لأجله وأنتم تخلون بها إخلالاً عظيماً.
وفي "العيون" : لم تشكروه لا قليلاً ولا كثيراً.
يقول الفقير : وهذا لأن القلة ربما تستعمل في العدم وهو موافق لحال الكفار.
ثم في الآية إشارة إلى معاني ثلاثة.
إحداها : إظهار إنعامه العظيم وأفضاله الجسيم بهذه النعم الجليلة من السمع والأبصار والأفئدة.
وثانيها : مطالبة العباد بالشكر على هذه النعم.
(6/70)
وثالثها : الشكاية من العباد إذ الشاكر منهم قليل كما قال تعالى : {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} (سبأ : 13) وشكر هذه النعم استعمالها في طاعة المنعم وعبوديته فشكر السمع حفظه عن استماع المنهيات وأن لا يسمع إلاوبالله وعن الله.
كذركاه قرآن وندست كوش
به بختان وباطل شنيدن مكوش
وشكر البصر حفظه عن النظر إلى المحرمات وأن ينظر بنظر العبرةوبالله وإلى الله.
دوشم ازي صنع باري نكوست
زعيب برادر فروكيرو دوست
وشكر القلب تصفيته عن رين الأخلاق الذميمة وقطع تعلقه عن الكونين فلا يشهد غير الله ولا يحب إلا الله.
ترابكوهر دل كرده اند اما نتدار
زدزدا مانت حق رانكاه دارو ومخسب
{وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الأرْضِ} خلقكم وبثكم فيها بالتناسل يقال : ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم {وَإِلَيْهِ} تعالى لا إلى غيره {تُحْشَرُونَ} تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم فما لكم لا تؤمنون ولا تشكرون.
{وَهُوَ الَّذِى يُحْى وَيُمِيتُ} من غير أن يشاركه في ذلك شيء من الأشياء أي يعطي الحياة النطف والتراب والبيض والموتى يوم القيامة ويأخذ الحياة من الأحياء ولم يقل أحيا وأمات كما قال : أنشأكم وذرأكم ولكن جاء على لفظ المضارع ليدل على أن الإحياء والإمانة عادته.
{وَلَهُ} خاصة {وَهُوَ الَّذِى يُحْىِ} أي
99
هو المؤثر في تعاقبهما لا الشمس أو في اختلافهما ازدياداً وانتقاصاً {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي : أتفعلون عن تلك الآيات فلا تعقلون بالنظر والتأمل أن الكل منا وأن قدرتنا تعم الممكنات وأن البعث من جملتها.
{بَلْ قَالُوا} عطف على مضمر يقتضيه المقام ، أي لم يعقلوا بل قالوا أي : كفار مكة.
{مِثْلَ مَا قَالَ الاوَّلُونَ} أي : كما قال من قبلهم من الكفار ثم فسر هذا القبول المبهم بقوله :
جزء : 6 رقم الصفحة : 97
{قَالُوا أَءِذَا مِتْنَا} (اياون بميريم) {وَكُنَّا تُرَابًا} (وباشيم خاك) {وَعِظَـامًا} (واستخواني خاكي كهنة) {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (أياما برانكيخته شدكان شويم استفهام برسبيل انكاراست يعني ون كرديم حشر وبعث كونه بماراه يابد) استبعدوا ولم يتأملوا أنهم كانوا قبل ذلك أيضاً تراباً فخلقوا والعامل في إذا ما دل عليه لمبعوثون وهو نبعث لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها.
{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا هَـاذَا} أي البعث وهو مفعول ثان لوعدنا {مِن قَبْلُ} متعلق بالفعل من حيث اسناده إلى آبائهم لا إليهم أي وعد آباؤنا من قبل محمد فلم يروا له حقيقة.
يعني (مارا ويدران مارا بوعدة حشر ونشر تخويف كردهاند وأين وعده راست نشد) {إِنْ هَـاذَآ} ما هذا {إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} أكاذيبهم التي سطروها من غير أن يكون لها حقيقة جمع أسطورة لأنه يستعمل فيما يتلهى به كالأعاجيب والأضاحيك.
وفيه إشارة إلى أن الناس كلهم أهل تقليد من المتقدمين والمتأخرين إلا من هداه الله بنور الإيمان إلى التصديق بالتحقيق فإن المتأخرين ههنا قلدوا آباءهم المتقدمين في تكذيب الأنبياء والجحود وإنكار البعث قال الجامي قدس سره :
خواهي بصوت كعبة تحقيق ره بري
بي بربي مقلد كم كرده ره مرو
{قُل لِّمَنِ الارْضُ وَمَن فِيهَآ} من المخلوقات تغليباً للعقلاء على غيرهم {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} شيئاً ما فأخبروني به فإن ذلك كاف في الجواب وفيه من المبالغة في وضوح الأمر في تجهيلهم ما لا يخفى.
{سَيَقُولُونَ} لأن بديهة العقل تضطرهم إلى الاعتراف بأنه تعالى خالقها {قُلْ} عند اعترافهم بذلك تبكيتاً لهم.
{أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي تقولون ذلك فلا تتذكرون أن من فطر الأرض وما فيها ابتداء قادر على إعادتها ثانياً فإن البدء ليس بأهون من الإعادة بل الأمر بالعكس في قياس العقول.
جزء : 6 رقم الصفحة : 97
{قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ترقى في الأمر بالسؤال من الأدنى والأصغر إلى الأعلى والأكبر ، فإن السموات والعرش أعظم من الأرض ولا يلزم منه أن يكون من في السموات أجل ممن في الأرض حتى تكون الملائكة أفضل من جنس البشر كما لا يخفى {سَيَقُولُونَ} باللام نظراً إلى معنى السؤال ، فإن قولك من ربه ولمن هو في معنى واحد يعني إذا قلت من رب هذا فمعناه لمن هذا فالجواب لفلان.
{قُلْ} توبيخاً لهم {أَفَلا تَتَّقُونَ} أي أتعملون ذلك فلا تتقون عذابه بعد العمل بموجب العلم حيث تكفرون به وتنكرون البعث وتثبتون له شريكاً في الربوبية قدم التذكر على التقوى لأنهم بالتذكر يصلون إلى المعرفة وبعد أن عرفوه علموا أنه يجب عليهم اتقاء مخالفته.
{قُلْ مَنا بِيَدِهِ} اليد في الأصل اسم موضوع للجارحة من المنكب إلى أطراف الأصابع وهو العضو المركب من لحم وعظم وعصب وكل من هذه الثلاثة جسم مخصوص بصفة مخصوصة
100
(6/71)
والله تعالى متعال عن الأجسام وعن مشابهتها فلما تعذرت وجب الحمل على التجوز عن معنى معقول هو القدرة وبه نفسر قوله عليه السلام : "أن الله خمر طينة آدم بيده" أي : بقدرته الباهرة فإن العضو المركب منها محال على الله ليس كمثله شيء لأنه يلزم تركبه وتحيزه وذلك أمارة الحدوث المنافي للأزلية والقدم وكذلك الأصبعان في قوله عليه السلام : "إن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" فإن أهل الحق على أن الأصبعين وكذا اليدان في قوله : {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} (ص : 75) مجازان عن القدرة فإنه شائع أي خلقت بقدرة كاملة ولم يرد بقدرتين {مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ} مما ذكر ومما يذكر أي ملكه التام فإن الملكوت الملك والتاء للمبالغة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 100
قال الراغب : الملكوت مختص بملك الله تعالى.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن لكل شيء ملكوتاً وهو روحه من عالم الملكوت الذي هو قائم به يسبح الله تعالى به كقوله : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} وروح ذلك بيد الله انتهى.
يقول الفقير : وهو الموافق لما قبل الآية فإنه تعالى لما بين أنه يهب كل جسم وجرم بين أن بيده روح ذلك الجسم والجرم.
{وَهُوَ يُجِيرُ} أي : يغيث غيره إذا شاء.
{وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} أي : ولا يغاث أحد عليه أي لا يمنع أحد منه بالنصر عليه وتعديته بعلى لتضمين معنى النصرة.
وفي "التأويلات النجمية" : وهو يجير الأشياء من الهلاك بالقيومية ولا يجار عليه أي لا مانع له ممن أراد هلاكه.
{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ذلك فأجيبوني.
{سَيَقُولُونَ} أي : ملكوت كل شيء وهو الذي يجير ولا يجار عليه {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي : فمن أين تخدعون وتصرفون عن الرشد مع علمكم به ما أنتم عليه من الغي فإن من لا يكون مسحوراً مختلاً عقله لا يكون كذلك والخادع هو الشيطان والهوى.
أي كه ي نفس وهوى ميروى
ره اينست خطا ميروى
راه روان زان ره ديكر روند
س توبدين راه را ميروى
منزل مقصود ازان جانبست
س توازين سو بكجاميروى
{بَلْ أَتَيْنَـاهُم بِالْحَقِّ} من التوحيد والوعد بالبعث.
{وَإِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ} فيما قالوا من الشرك وإنكار البعث بين أنهم أصروا على جحودهم وأقاموا على عتوهم ونبوهم بعد أن أزيحت العلل فلات حين عذر وليس المساهلة موجب بقاء وقد انتقم الله منهم فإنه يمهل ولا يهمل.
قال سقراط : أهل الدنيا كسطور في صحيفة كلما نشر بعضها طوى بعضها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة فقد مضى ستة آلاف سنة وليأتين عليها مئون من سنين ليس عليها موحدين يعني عند آخر الزمان فكل من السعيد والشقي لا يبقى على وجه الدهر فيموت ثم يبعث فيجازى وفي "المثنوي" :
خاك را ونطفه را ومضغه را
يش شم ما همي دارد خدا
كز كجا آوردمت أي بدنيت
كه ازان آيد همي خفريقيت
تو بدان عاشق بدي در دورآن
جزء : 6 رقم الصفحة : 100
منكر أين فضل بودي آن زمان
أين كرم ون دفع آن انكارتست
كه ميان خاك ميكردي نخست
حجت انكار شد انشار تو
از دوا بهتر شد أين بميار تو
101
خاك را تصوير اين كار از كجا
نطفه را خصمي وإنكار از كجا
ون دران دم بي دل وبي سربدي
فكرت وإنكار را منكر بدي
از جمادى ونكه إنكارت برست
هم أزين إنكار حشرت شد درست
س مثال تو و آن حلقه زنيست
كزدرونش خواجه كويد خواجه نيست
حلقه زن زين نيست دريابدكه هست
س زحلقه برندارد هي دست
س هم انكارت مبين ميكند
كزجماداو حشر صد فن ميكند
ند صنعت رفت از انكارتا
آب وكل إنكار زاد از هل أتى
آب وكل ميكفت خود انكارنيست
بانك ميزد بيخبر كاخبار نيست
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ} كما يقول النصارى والقائلون أن الملائكة بنات الله لأنه لم يجانس أحداً ولم يماثله حتى يكون من جنسه وشبهه صاحبة فيتوالدا.
{وَمَا كَانَ مَعَه مِنْ إِلَـاهٍ} يشاركه في الألوهية كما يقول عبدة الأصنام وغيرهم والآية حجة على من يقول : خالق النور غير خالق الظلمة.
{إِذَآ} (آن هنكام) وهو يدخل على جواب وجزاء وهو {لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاها بِمَا خَلَقَ} ولم يتقدمه شرط لكن قوله : {وَمَا كَانَ مَعَه مِنْ إِلَـاهٍ} يدل على شرط محذوف تقديره ولو كان معه آلهة لانفرد كل إله بما خلقه واستبدّ به دون الإله الآخر وأمتاز ملكه عن ملك الآخر.
وبالفارسية : (ببرد خداي آنراكه آفريده بود وردآن مستقل ومستبد باشد س مخلوقات ديكر ومشاهده ميرودكه ميان هي مخلوقات علامت تميز نيست س ثابت شدكه با وهي خداي نيست وحده لا شريك له.
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن اتخاذ الولد لا يصح كاتخاذ الشريك والأمران جميعاً داخلان في حد الاستحالة لأن الولد والشريك يوجب المساواة في القدر والصمدية تتقدس عن جواز أن يكون له مثل أو جنس ولو تصورنا جوازه إذاً لذهب كل إله بما خلق فكل أمر نيط باثنين فقد انتفى عن النظام وصحة الترتيب.
بروحدتش صحيفة لا ريب حجتست
(6/72)
اينك نوشته ازشهد الله بران كواه
{وَلَعَلا} لغلب {بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} كما هو الجاري فيما بين ملوك الدنيا فلم يكن بيده وحده ملكوت كل شيء وهو باطل لا يقول به عاقل قط.
جزء : 6 رقم الصفحة : 100
قال الكاشفي : (اكر باوخدايي بودي ونانه شد مخلوق خودرا خداكردي وملك آواز ملك أين ممتاز شدى هر آيينه طرح نزاع وحرب ميان ايشان بديد آمدي نانه ازحال ملوك دنيا معلومست وبإجماع واستقرا معلوم شدكه اين تجارب وتنازع واقع نيست س اورا شريك نبود).
قال في "الأسئلة المقحمة" : {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي لغلب منهما القوى على الضعيف وهو دليل على أنه لو كان إلهان لوقع التمانع بالعلم والقدرة فإنه إذا أراد أحدهما إحياء زيد والآخر إفناءه استوت قدرتهما بمنع كل واحد منهما فعل صاحبه ومهما ارتفع مراد أحدهما غلب صاحبه بالقدرة ونظيره حبل يتجاذبه اثنان فإذا استويا في القدرة بقيا متجاذبين فإن غلب أحدهما بالجذب لم يبق لفعل الآخر أثر فهو معنى الآية {سُبْحَـانَ اللَّهِ} نزهوه تنزيهاً.
وقال
102
الكاشفي : (اكست خداي تعالى).
وفي "بحر العلوم" : تنزيه أو تعجيب {عَمَّا يَصِفُونَ} يصفونه ويضيفونه إليه من الأولاد والشركاء.
{عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} بالجر على أنه بدل من الجلالة أي عالم السر والعلانية.
وبالفارسية : (وشيده وآشكار).
وفي "التأويلات النجمية" : عالم الملك والملكوت والأرواح والأجساد انتهى.
ثم إن الغيب بالنسبة إلينا لا بالنسبة إليه تعالى فهو عالم به وبالشهادة على سواء وهو دليل آخر على انتفاء الشريك بناء على توافقهم في تفرده تعالى بذلك ولذلك رتب عليه بالفاء قوله تعالى : {فَتَعَـالَى} الله وتنزه {عَمَّا يُشْرِكُونَ} به مما لا يعلم شيئاً من الغيب ولا يتكامل عليه بالشهادة فإن تفرده بذلك موجب لتعاليه عن أن يكون له شريك.
قال الراغب : شرك الإنسان في الدين ضربان أحدهما الشرك العظيم وهو إثبات شريكتعالى يقال : أشرك فلان بالله وذلك أعظم كفر ، والثاني الشرك الصغير وهو مراعاة غير الله معه في بعض الأمور وذلك كالرياء والنفاق ، وفي الحديث : "والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا".
مرايي هركسي معبود سازد
مرايي را ازان كفتند مشرك
قال الشيخ سعدي قدس سره :
منه آب زرجان من بر شيز
كه صراف دانا نكيرد بيز
قال يحيى بن معاذ : إن للتوحيد نوراً وللشرك ناراً وإن نور التوحيد أحرق سيئات الموحدين كما أن نار الشرك أحرقت حسنات المشركين روي : أن قائلاً قال : يا رسول الله فبم النجاة غداً قال : "أن لا تخادع الله" قال : وكيف نخادع الله؟ قال : "أن لا تعمل بما أمرك الله وتريد به غير وجه الله".
جزء : 6 رقم الصفحة : 100
زعمرو أي سر شم أجرت مدار
و درخانة زيد باشي بكار
والعمدة في هذا الباب التوحيد فإنه كما يتخلص من الشرك الأكبر الجلي بالتوحيد كذلك يتخلص من الشرك الأصغر به فينبغي أن يشتغل به ويجتهد قدر الاستطاعة لينال على درجات أهل الإيمان والتوحيد من الصديقين ولكن برعاية الشريعة النبوية والاجتناب عن الصفات الذميمة للنفس حتى يتخلق بأخلاق الله نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المنقطعين عما سواه والعاملين باللهفي الله.
{قُل رَّبِّ} (أي روردكار من) {إِمَّا} أصله إن ما وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط كالنون في قوله : {تُرِيَنِّى} أي : إن كان لا بد من أن تريني وبالفارسية.
(اكر نمايي مرا) {مَا يُوعَدُونَ} أي : المشركون من العذاب الدنيوي المستأصل والوعد يكون في الخير والشر يقال : وعدته بنفع وضر.
{رَبِّ} يا رب {فَلا تَجْعَلْنِى فِى الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} أي قريناً لهم في العذاب وأخرجني من بين أيديهم سالماً والمراد بالظلم الشرك وفيه إيذان بكمال فظاعة ما وعدوه من العذاب وكونه بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد يمكن أن يحيق به ورد لإنكارهم إياه واستعجالهم به على طريقة الاستهزاء وهذا يدل على أن البلاء ربما يعم أهل الولاء وأن للحق أن يفعل ولو عذب البر لم يكن ذلك منه ظلماً ولا قبيحاً {وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ} من العذاب.
{لَقَـادِرُونَ}
103
ولكنا نؤجره لعلمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمنون أو لأنا لانعذبهم وأنت فيهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 100
{ادْفَعْ بِالَّتِى} بالطريقة التي {هِىَ أَحْسَنُ} أي أحسن طرق الدفع من الحلم والصفح {السَّيِّئَةَ} التي تأتيك منهم من الأذى والمكروه وهو مفعول ادفع والسيئة الفعلة القبيحة وهو ضد الحسنة.
قال بعضهم : استعمل معهم ما جعلناك عليه من الأخلاق والشفقة والرحمة فإنك أعظم خطراً من أن يؤثر فيك ما يظهرونه من أنواع المخالفات.
وفي "التأويلات النجمية" : يعني مكافأة السيئة جائزة لكن العفو عنها أحسن ويقال ادفع بالوفاء الجفاء ويقال : الأحسن ما أشار إليه القلب بالمعافاة والسيئة ما تدعو إليه النفس للمكافأة.
(6/73)
ويقال : (دفع كن ظلمت خلائق را بنور حقائق يا خظوظ خودرا بحقوق خداطي كن تيه حوادث را بقدم سلوك در طريق معرفت.
وطي كشت تيه حوادث ازآنجا
بملك قدم ران بيك حمله محمل
دران قلزم نور شو غوطة زن
فروشوي ازخويشتن ظلمت ظل
بكى خوان يكي دان يكي كويكي جو
سوى الله والله زوراست وباطل
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} بما يصفونك به على خلاف ما أنت عليه كالسحر والشعر والجنون والوصف ذكر الشيء بحليته ونعته قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً وفيه وعيد لهم بالجزاء والعقوبة وتسلية لرسول الله وإرشاد له إلى تفويض أمره إليه تعالى.
{وَقُل رَّبِّ} يا رب {أَعُوذُ بِكَ} العوذ الالتجاء إلى الغير والتعلق به.
{مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَـاطِينِ} أي وساوسهم المغوية على خلاف ما أمرت به من المحاسن التي من حملتها دفع السيئة بالحسنة وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض أي معلم الدواب ونحو الهمز الأز في قوله {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} .
جزء : 6 رقم الصفحة : 104
قال الراغب : الهمز كالعصر يقال : همزت الشيء في كفي ومنه الهمز في الحروف انتهى شبه حثهم للناس على المعاصي بهمز الرائض الدواب على الإسراع أو الوثب والجمع للمرات أو لتنوع الوساوس أو لتعدد المضاف إليه.
{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} أصله يحضرونني فحذفت إحدى النونين ثم حذفت ياء المتكلم اكتفاء بالكسرة ، أي من أن يحضروني ويحوموا حولي في حال من الأحوال صلاة أو تلاوة أو عند الموت أو غير ذلك.
قال الحسن : كان عليه السلام يقول عند استفتاح الصلاة : "لا إله إلا الله ثلاثاً الله أكبر ثلاثاً اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين من همزها ونفثها ونفخها وأعوذ بك رب أن يحضرون" يعني بالهمز الجنون وبالنفث الشعر وبالنفخ الكبر روي : أنه اشتكى بعضهم أرقا فقال عليه السلام : "إذا أردت النوم فقل : أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون" وكلمات الله كتبه المنزلة على أنبيائه أو صفات الله كالعزة والقدرة وصفها بالتمام لعرائها عن النقص والانقصام.
قال بعضهم هذا مقام من بقي له التفات إلى غير الله فأما من توغل في بحر التوحيد بحيث لا يرى في الوجود إلا الله لم يستعذ إلا بالله ولم يلتجىء إلا إلى الله والنبي عليه السلام لما ترقى عن هذا المقام قال : "أعوذ بك منك" وكان عليه السلام إذا دخل الخلاء قال : "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" أي : من ذكور الجن وإناثهم مما اتصف بالخباثة وأجمعت الأمة على عصمة النبي عليه السلام فإن قرينه من الجن قد أسلم
104
أو أنه قد نزع منه مغمز الشيطان فالمراد من الاستعاذة تحذير غيره من شر الشيطان ثم إن الشيطان يوسوس في صدور الناس فيغوي كل أحد من الرجال والنساء ويوقع الأشرار في البدع والأهواء ، وفي الحديث : "صنفان من أهل النار لم أرهما" يعني : في عصره عليه السلام لطهارة ذلك العصر بل حدثا بعده "قوم معهم سياط" يعني : أحدهما في أيديهم سياط جمع سوط تسمى تلك السياط في ديار العرب بالمقارع جمع مقرعة وهي جلدة طرفها مشدود عرضها كعرض الأصبع الوسطى يضربون بها السارقين عراة قيل : هم الطوافون على أبواب الظلمة كالكلاب يطردون الناس عنها بالضرب والسباب "كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء" يعني ثانيهما : نساء "كاسيات" يعني : في الحقيقة "عاريات" يعني : في المعنء لأنهن يلبسن ثياباً رقاقاً تصف ما تحتها أو معناه عاريات من لباس التقوى وهن اللاتي يلقين ملاحفهن من ورائهن فتنكشف صدورهن كنساء زماننا أو معناه كاسيات بنعم الله عاريات عن الشكر يعني أن نعيم الدنيا لا ينفع في الآخرة إذا خلا عن العمل الصالح وهذا غير مختص بالنساء "مميلات" أي قلوب الرجال إلى الفساد بهن أو مميلات أكتافهن وأكفالهن كما تفعل الراقصات أو مميلات مقانعهن عن رؤوسهن لتظهر وجوههن "مائلات" إلى الرجال أو معناه متبخترات في مشيهن "رؤوسهن كأسنمة البخت" يعني : يعظمن رؤوسهن بالخمر والقلنسوة حتى تشبه أسنمة البخت أو معناه ينظرن إلى الرجال برفع رؤسهن "المائلة" لأن أعلى السنام يميل لكثرة شحمه "لا يدخلن ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" أي : من مسيرة أربعين عاماً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 104
(6/74)
{حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} حتى التي يبتدأ بها الكلام دخلت على الجملة الاسمية وهي مع ذلك غاية لما قبلها متعلقة بيصفون أي يستمرون على سوء الذكر حتى إذا جاء أحدهم كافراً ، أي أحد كان الموت الذي لا مرد له وظهرت له أحوال الآخرة {قَالَ} تحسراً على ما فرط فيه من الإيمان والعمل.
{رَبِّ} يا رب {ارْجِعُونِ} ردني إلى الدنيا والواو لتعظيم المخاطب لأن العرب تخاطب الواحد الجليل الشأن بلفظ الجماعة وفيه رد على من يقول الجمع للتعظيم في غير المتكلم إنما ورد في كلام المولدين ثم إنه يقول له إلى أي شيء تذهب إلى جمع المال أو غرس الغراس أو بناء البنيان أو شق الأنهار فيقول : {لَعَلِّى أَعْمَلُ صَـالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} أي : في الإيمان الذي تركته أي لعلي أعمل في الإيمان الذي آتي به البتة عملاً صالحاً فلم ينظم الإيمان في سلك الرجاء كسائر الأعمال الصالحة بأن يقول لعلي أو من فأعمل إلخ للإشعار بأنه أمر مقرر الوقوع غني عن الإخبار بوقوعه فضلاً عن كونه مرجو الوقوع.
وقال في "الجلالين" : {لَعَلِّى أَعْمَلُ صَـالِحًا} أي أشهد بالتوحيد {فِيمَا تَرَكْتُ} حين كنت في الدنيا انتهى.
قال بعضهم : الخطاب في ارجعون لملك الموت وأعوانه وذكر الرب للقسم كما في "الكبير" واستعان بالله أولاً ثم بهم كما في "الأسئلة المقحمة" وكما قال الكاشفي : (أمام ثعلبي باجمعي مفسران برانندكه خطاب با ملك الموت وأعوان أوست أول بكلمة رب استعانة مي نمايند بخداي وبكلمة ارجعون رجوع مي نمايند بملائكة).
ويدل عليه قوله عليه السلام : "إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا : أنرجعك إلى الدنيا فيقول : إلى دار الهموم والأحزان
105
بل قدوماً إلى الله تعالى وأما الكافر فيقول : ارجعون" وقيل : أريد بقوله : فيما تركت فيما قصرت فتدخل فيه العبادات البدنية والمالية والحقوق.
قال في "الكبير" : وهو أقرب كأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه.
يقول الفقير فالمراد بالعمل الصالح هو العمل المبني على الإيمان لأنه وإن كان عمل عملاً في صورة الصالح لكنه كان فاسداً في الحقيقة حيث أحبطه الكفر فلما شاهد بطلانه رجا أن يرجع إلى الدنيا فيؤمن ويعمل عملاً صالحاً صورة وحقيقة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 104
وقال القرطبي : سؤال الرجعة غير مختص بالكافر أي بل يعم المؤمن المقصر.
قال في "حقائق البقلي" : بين الله سبحانه أن من كان ساقطاً عن مراتب الطاعات لم يصل إلى الدرجات ومن كان محروماً من المراقبات في البدايات كان محجوباً عن المشاهدات والمعاينات في النهايات وأن أهل الدعاوى المزخرفات والترهات تمنوا في وقت النزع أن لم تمض عليهم أوقاتهم بالغفلة عن الطاعات ولم يشتغلوا بالدعاوى المخالفات والمحالات فأقبل على طاعة مولاك واجتنب الدعاوى واطلاق القول في الأحوال فإن ذلك فتنة عظيمة هلك في ذلك طائفة من المريدين وما فزع أحد إلى تصحيح المعاملات إلا أداه بركة ذلك إلى قرب الرب ومقام الأمن ولا ترك أحد هذه الطريقة إلا تعطل وفسد ووقع في الخوف العظيم وتمنى حين لا ينفع التمني.
قال الحافظ :
كاري كنيم ورنه خجالت بر آمرد
روزي كه رخت جان بجهان دكر كشيم
وقال الخجندي :
علم وتقوى سر بسر دعويست ومعنى ديكرست
مرد معنى ديكر وميدان دعوى ديكرست
{كَلا} ردع عن طلب الرجعة واستبعاد لها أي لا يرد إلى الدنيا أبداً.
{إِنَّهَا} أي قوله رب ارجعون.
{كَلِمَةٌ} الكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضه مع بعض {هُوَ} أي ذلك الأحد {قَآاـاِلُهَا} عند الموت لا محالة لتسلط الحزن عليه ولا يجاب لها.
{وَمِن وَرَآاـاِهِم} فعال ولامه همزة عند سيبويه وأبي على الفارسي وياء عند العامة وهو من ظروف المكان بمعنى خلف وأمام أي من الأضداد.
والمعنى أمام ذلك الأحد والجمع باعتبار المعنى لأنه في حكم كلهم كما أن الأفراد في قال وما يليه باعتبار اللفظ.
{بَرْزَخٌ} حائل بينهم وبين الرجعة وهو القبر.
وفي "التأويلات النجمية" : وهو ما بين الموت إلى البعث ، أي بين الدنيا والآخرة وهو غير البرزخ الذي بين عالم الأرواح المثالي وبين هذه النشأة العنصرية.
{إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يوم القيامة وهو إقناط كلي من الرجعة إلى الدنيا لما علم أن لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا وأما الرجعة حينئذٍ فإلى الحياة الأخروية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 104
(6/75)
{فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ} لقيام الساعة وهي النفخة الثانية التي عندها البعث والنشور والنفخ نفخ الريح في الشيء والصور مثل قرن ينفخ فيه فيجعل الله ذلك سبباً لعود الأرواح إلى أجسادها.
{فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} تنفعهم لزوال التراحم والتعاطف من فرط واستيلاء الدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه أو لا أنساب يفتخرون بها والنسب القرابة بين اثنين فصاعداً أي اشتراك من جهة أحد الأبوين وذلك ضربان نسب بالطول كالاشتراك بين الآباء والأبناء ونسب بالعرض كالنسب بين الإخوة وبني الأعمام {يَوْمَـاـاِذٍ} كما بينهم اليوم {وَلا يَتَسَآءَلُونَ} أي لا يسأل بعضهم
106
بعضاً فلا يقول له من أنت ومن أي قبيلة ونسب أنت ونحو ذلك لاشتغال كل منهم بنفسه لشدة الهول فلا يتعارفون ولا يتساءلون كما أنه إذا عظم الأمر في الدنيا لم يتعرف الوالد لولده ولا يناقضه قوله تعالى : {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} (الصافات : 50) لأن عدم التساؤل عند ابتداء النفخة الثانية قبل المحاسبة والتساؤل بعد ذلك وأيضاً يوم القيامة يوم طويل فيه خمسون موطناً كل موطن ألف سنة ففي موطن يشتد عليهم الهول والفزع بحيث يشغلهم عن التساؤل والتعارف فلا يفطنون لذلك وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون وتتعارفون.
وعن الشعبي : قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله أما نتعارف يوم القيامة أسمع الله يقول : {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ وَلا يَتَسَآءَلُونَ} فقال عليه السلام : "ثلاثة مواطن تذهل فيها كل نفس حين يرمى إلى كل إنسان كتابه عند الموازين وعلى جسر جهنم" قال ابن مسعود رضي الله عنه : يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي منادٍ ألا إن هذا فلان ابن فلان فمن كان له عليه حق فليأت إلى حقه فيفرح العبد يومئذٍ أن يثبت له حق على والده وولده أو زوجته وأخيه فلا أنساب بينهم يومئذٍ.
وعن قتادة لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه أن يثبت له عليه شيء ثم تلا {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} الآية (عبس : 34).
قال محمد بن علي الترمذي قدس سره : الأنساب كلها منقطعة إلا من كانت نسبته صحيحة في عبودية ربه فإن تلك نسبة لا تنقطع إبداً وتلك النسبة المفتخر بها لا نسبة الأجناس من الآباء والأمهات والأولاد.
جزء : 6 رقم الصفحة : 104
قال الأصمعي : كنت أطوف بالكعبة في ليلة مقمرة فسمعت صوتاً حزيناً فتبعت الصوت فإذا أنا بشاب حسن ظريف تعلق بأستار الكعبة وهو يقول : نامت العيون وغارت النجوم وأنت الملك الحي القيوم وقد غلقت الملوك أبوابها وأقامت عليها حرسها وحجابها وبابك مفتوح للسائلين فها أنا سائلك ببابك مذنباً فقيراً مسكيناً أسيراً جئت أنتظر رحمتك يا أرحم الراحمين ثم أنشأ يقول :
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم
يا كاشف الضر والبلوى مع القسم
قد نام وفدي حول البيت وانتبهوا
وأنت يا حي يا قيوم لم تنم
أدعوك ربي ومولاي ومستندي
فارحم بكائي بحق البيت والحرم
أنت الغفور فجد لي منك مغفرة
أو اعف عني يا ذا الجود والنعم
إن كان عفوك لا يرجوه ذو جرم
فمن يجود على العاصين بالكرم
ثم رفع رأسه نحو السماء وهو ينادي : يا إلهي وسيدي مولاي إن أطعتك فلك المنة علي وإن عصيتك فبجهلي فلك الحجة علي اللهم فبإظهار منتك علي وإثبات حجتك لديّ ارحمني وأغفر ذنوبي ولا تحرمني رؤية جدي قرة عيني وحبيبك وصفيك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلّم ثم أنشأ يقول :
ألا أيها المأمول في كل شدة
إليك شكوت الضر فارحم شكايتي
ألا يا رجائي أنت كاشف كربتي
فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي
فزادي قليل ما أراه مبلغي
على الزاد أبكي أم لبعد مسافتي
107
أتيت بأعمال قباح رديئة
وما في الورى خلق جني كجنايتي
فكان يكرر هذه الأبيات حتى سقط على الأرض مغشياً عليه فدنوت منه فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فوضعت رأسه في حجري وبكيت لبكائه بكاءً شديداً شفقة عليه فقطر من دموعي على وجهه فأفاق من غشيته وفتح عينه وقال : من الذي شغلني عن ذكر مولاي فقلت أنا الأصمعي يا سيدي ما هذا البكاء وما هذا الجزع وأنت من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة أليس الله يقول : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب : 33) قال : فاستوى جالساً وقال يا أصمعي هيهات إن الله تعالى خلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبداً حبشياً وخلق النار لمن عصاه وإن كان ملكاً قرشياً أما سمعت قوله تعالى : {فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ وَلا يَتَسَآءَلُونَ} .
جزء : 6 رقم الصفحة : 104
(6/76)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن نفخة العناية الربوبية إذا نفخت في صور القلب قامت القيامة وانقطعت الأسباب فلا يلتفت أحد إلى أحد من أنسابه لا إلى أهل ولا إلى ولد لاشتغاله بطلب الحق تعالى واستغراقه في بحر المحبة فلا يسأل بعضهم بعضاً عما تركوا من أسباب الدنيا ولا عن أحوال أهاليهم وأخدانهم وأوطانهم وإذا فارقوها كان لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن في طلب الحق يغنيه عن مطالبة الغير.
{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} موزونات حسناته من العقائد والأعمال أي فمن كان له عقائد صحيحة وأعمال صالحة يكون لها وزن وقدر عند الله فهو جمع موزون بمعنى العمل الذي لا وزن وخطر عند الله وباقي الكلام في هذا المقام سبق في تفسير سورة الأعراف.
{فأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مهروب ولما كان حرف من يصلح للواحد والجمع وحد على اللفظ وجمع على المعنى.
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي ومن لم يكن له من العقائد والأعمال ماله وزن وقدر عند الله تعالى وهم الكفار لقوله تعالى : {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَزْنًا} (الكهف : 105) {فأولئك الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} ضيعوها بتضييع زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها.
والخسر والخسران انتقاص رأس المال كما في "المفردات".
قال الكاشفي (س كروه آنندكه زيان كرده اند ازنفسهاي يعني سرماية عمر بباد غفلت برداند واستعدادات حصول كمال بطلب آرزوهاي نفس ومتابعت شهوات ضايع ساختند) {فِى جَهَنَّمَ خَـالِدُونَ} بدل من صلة أو خبر ثان لأولئك.
قال في "التأويلات النجمية" : الإنسان كالبيضة المستعدة لقبول تصرف ولاية الدجاجة وخروج الفروخ منها فما لم تتصرف فيها الدجاجة يكون استعدادها باقياً فإذا تصرف الدجاجة فيها فتغيرت عن حالها إلى حال الفروخية ثم انقطع تصرف الدجاجة عنها تفسد البيضة فلا ينفعها التصرف بعد ذلك لفساد الاستعداد ولهذا قالوا مرتد الطريقة شر من مرتد الشريعة وهذا معنى قوله : {فِى جَهَنَّمَ خَـالِدُونَ} أي في جهنم أنفسهم فلا يخرجون بالفروخية وليس من سنة الله إصلاح الاستعداد بعد إفساده.
قال الجامي :
آنراكه زمين كشد درون ون قارون
جزء : 6 رقم الصفحة : 104
ني موسيش آورد برون هارون
فاسد شده راز روز كار وارون
لا يمكن أن يصلحه العطارون
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} تحرقها يقال : لفحته النار بحرها أحرقته كما في "القاموس" واللفح
108
كالنفح إلا أنه أشد تأثيراً كما في "الإرشاد" وغيره وتخصيص الوجوه بذلك لأنها أشرف الأعضاء وأعظم ما يصان منها فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار وهو السر في تقديمها على الفاعل.
{وَهُمْ فِيهَا كَـالِحُونَ} من شدة الاحتراق.
والكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان كما ترى الرؤوس المشوية.
وعن مالك بن دينار كان سبب توبة عتبة الغلام أنه مر في السوق برأس أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن ، وفي الحديث : "تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته" انتهى.
فيقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً وتذكيراً لما به استحقوا ما ابتلوا به من العذاب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 104
{أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ} في الدنيا {فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} حينئذٍ.
{قَالُوا} يا {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا} أي ملكتنا {شِقْوَتُنَا} التي اقترفناها بسوء اختيارنا فصارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة.
قال القرطبي : وأحسن ما قيل في معناه غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا فسمى اللذات والأهواء شقوة لأنهما تؤديان إليها.
قال أبو تراب : الشقوة حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق.
{وَكُنَّا} بسبب ذلك {قَوْمًا ضَآلِّينَ} عن الحق ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب وسائر المعاصي.
{رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـالِمُونَ} متجاوزون الحد في الظلم لأنفسنا.
{قَالَ} تعالى بطريق القهر : {اخْسَـاُوا فِيهَا} اسكتوا في النار سكوت هوان فإنها ليست مقام سؤال وانزجروا انزجار الكلاب إذا زجرت من خسأت الكلب إذا زجرته مستهيناً به فخسأ ، أي انزجر.
{وَلا تُكَلِّمُونِ} أي : باستدعاء الإخراج من النار والرجع إلى الدنيا فإنه لا يكون أبداً.
{إِنَّهُ} تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي إن الشأن.
{كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى} وهم المؤمنون.
{يَقُولُونَ} في الدنيا {رَبَّنَآ ءَامَنَّا} صدقنا بك وبجميع ما جاء من عندك.
{فَاغْفِرْ لَنَا} {وَارْحَمْنَا} وأنعم علينا بنعمك التي من جملتها الفوز بالجنة والنجاة من النار.
{وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} لأن رحمتك منبع كل رحمة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 110
(6/77)
{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} مهزواً بهم أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم : ربنا إلخ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين بقولهم : ربنا آمنا إلخ وتتشاغلون {حَتَّى أَنسَوْكُمْ} أي : الاستهزاء بهم فإن أنفسهم ليست سبب الإنساء.
{ذِكْرِى} أي ذكركم إياي والخوف مني والعمل بطاعتي من فرط أشتغالكم باستهزائهم.
{وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} وذلك غاية الاستهزاء.
وقال مقاتل : نزلت في بلال وعمار وسلمان وصهيب وأمثالهم من فقراء الصحابة كان كفار قريش كأبي جهل وعتبة وأبي بن خلف وأضرابهم يستهزئون بهم وبأسلامهم ويؤذونهم.
{إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} بسبب صبرهم على أذيتهم والصبر حبس النفس عن الشهوات.
{أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآاـاِزُونَ} ثاني مفعولي الجزاء أي جزيتهم فوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به.
وفي "التأويلات النجمية" : وفيه من اللطائف أن أهل السعادة كما ينتفعون بمعاملاتهم الصالحة مع الله من الله ينتفعون بإنكار منكريهم واستخفاف مستهزئيهم وأن أهل الشقاوة كما يخسرون بمعاملاتهم الفاسدة مع أنفسهم يخسرون باستهزائهم وإنكارهم على الناصحين المرشدين {قَالَ} الله تعالى تذكيراً لما لبثوا فيما سألوا الرجوع إليه من الدنيا بعد التنبيه على استحالته بقوله {اخْسَـاُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} .
{كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأرْضِ} التي تدعون أن ترجعوا إليها يقال لبث بالمكان أقام به ملازماً له.
{عَدَدَ سِنِينَ} تمييز لكم {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} استقصاراً لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى دخولهم في النار أو لأنها كانت أيام السرور قصار أو لأنها منقضية والمنقضي كالمعدوم.
هردم ازعمر كرامي هست كنج بي بدل
ميرود كنجي نين هر لحظه برباد آه آه
{قَالُوا لَبِثْنَا} أي الذين يعلمون عد أيامها إن أردت تحقيقها فإنا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكرها وإحصائها.
وفي "التأويلات النجمية" : فاسأل العادين يعني الذين يعدّون أنفاسنا وأيامنا وليالينا من الملائكة الموكلين علينا.
{قَالَ} الله تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 110
{أَنِ} ما {لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} تصديقاً لهم في تقليلهم لسني لبثهم في الدنيا وقليلاً صفة مصدر محذوف أي لبثاً قليلاً أو زمان محذوف أي زماناً قليلاً {لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} لعلمتم يومئذٍ قلة لبثكم فيها كما علمتم اليوم.
وفي "بحر العلوم" : أي لو كنتم تعلمون مقدار لبثكم من الطول لما أجبتم بهذه المدة فعلى العاقل أن يتدارك حاله ويصلح أعماله قبل أن تنفد الأنفاس وينهدم الأساس قيل :
ألا إنما الدنيا كظل سحابة
أظلتك يوماً ثم عنك اضمحلت
فلا تك فرحاناً بها حين أقبلت
ولاتك جزعاناً بها حين ولت
قال أردشير بن بابك بن ساسان وهو أول ملك من آل ساسان : لا تركنن إلى الدنيا فإنها لا تبقى على أحد ولا تتركها فإن الآخرة لا تنال إلا بها.
قال العلامة الزمخشري استغنم تنفس الأجل وإمكان العمل واقطع ذكر المعاذير والعلل فإنك في أجل محدود وعمر غير ممدود قال الشيخ سعدي قدس سره :
كنون وقت تخمست اكر روري
كر اميد وار أي كه خرمن بري
بشهر قيامت مرو تنكدست
كه وجهي ندارد بغفلت نشست
غنيمت شمر أين كرامي نفس
كه ي مرغ قيمت ندارد قفس
مكن عمر ضايع بافسوس وحيف
كه فرصت عزيز بزست والوقت سيف
قال بعض الكبار : لو علمت أن ما فات من عمرك لا عوض له لم يصح منك غفلة ولا إهمال ولكنت تأخذ بالعزم والحزم بحيث تبادر الأوقات وتراقب الحالات خوف الفوات عاملاً على قول القائل :
السباق السباق قولاً وفعلاً
حذر النفس حسرة المسبوق
وما حصل من عمرك إذا علمت أن لا قيمة له كنت تستغرق أوقاتك في شكر الحاصل وتحصيل الواصل فقد قال علي رضي الله عنه بقية عمر المرء مالها ثمن يدرك به منها ما فات ويحيي ما مات ، وفي الحديث : "ما من ساعة تأتي على العبد لا يذكر الله فيها إلا كانت عليه حسرة يوم القيامة".
واعلم أن العباد على قسمين في أعمارهم فرب عمر اتسعت آماده وقلّت أمداده كأعمار بعض بني إسرائيل إذ كان الواحد منهم يعيش الألف ونحوها ولم يحصل على شيء مما يحصل لهذا الأمة مع قصر أعمارها ورب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده كعمر من فتح عليه من هذه
110
الأمة فوصل إلى عناية الله بلمحة فمن بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمان ما لا يدخل تحت العبارة فالخذلان كل الخذلان أن تتفرع من الشواغل ثم لا تتوجه إليه بصدق النية حتى يفتح عليك بما لا تصل الهمم إليه وأن تقل عوائقك ثم لا ترحل إليه عن عوالم نفسك والاستئناس بيومك وأمسك فقد جاء خصلتان مغبون فيهما كثير من الناس والفراع ومعناه أن الصحيح ينبغي أن يكون مشغولاً بدين أو دنياً فهو مغبون فيهما.
جزء : 6 رقم الصفحة : 110
(6/78)
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا} الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للعطف على مقدر.
والحسبان بالكسر الظن وعبثاً حال من نون العظمة بمعنى عابثين وهو ما ليس لفاعله غرض صحيح أو ارتكاب أمر غير معلوم الفائدة.
والمعنى أغفلتم وظننتم من فرط غفلتكم أنا خلقناكم بغير حكمة.
{وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} عطف على أنما خلقناكم أي وحسبتم عدم رجوعكم إلينا يعني أن المصلحة من خلقكم الأمر بالعمل ثم البعث للجزاء ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه.
قال الترمذي : إن الله خلق الخلق ليعبدوه فيثيبهم على العبادة ويعاقبهم على تركها فإن عبدوه فإنهم عبيد أحرار كرام من رق الدنيا ملوك في دار السلام وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أباق سقاط لئام وغداً أعداء في السجون بين أطباق النيران.
وفي "التأويلات النجمية" : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا} بلا معنى ينفعكم أو يضركم حتى عشتم كما يعيش البهائم فما تقربتم إلينا بالأعمال الصالحات للتقرب وحسبتم {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} باللطف والقهر.
فالرجوع باللطف بأن يموت بالموت الاختياري قبل الموت الاضطراري وهو بأن ترجعوا من أسفل سافلين الطبيعة على قدمي الشريعة والطريقة إلى أعلى عليين عالم الحقيقة.
والرجوع بالقهر بأن ترجعوا بعد الموت الاضطراري فتقادون إلى النار بسلاسل تعلقاتكم بشهوات الدنيا وزينتها وأغلال صفاتكم الذميمة.
وعن بهلول قال : كنت يوماً في بعض شوارع البصرة فإذا بصبيان يلعبون بالجوز واللوز وإذا أنا بصبي ينظر إليهم ويبكي فقلت : هذا صبي يتحسر على ما في أيدي الصبيان ولا شيء معه فيلعب به فقلت أي بني ما يبكيك أشتري لك من الجوز واللوز ما تلعب به مع الصبيان فرفع بصره إليّ وقال : يا قليل العقل ما للعب خلقنا فقلت : أي بني فلماذا خلقنا فقال : للعلم والعبادة فقلت من أين لك ذلك بارك الله فيك قال : من قول الله تعالى : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} قلت له : بني أراك حكيماً فعظني وأوجز فأنشأ يقول :
أرى الدنيا تجهز بانطلاق
مشمرة على قدم وساق
فلا الدنيا بباقية لحي
ولا حي على الدنيا بباق
جزء : 6 رقم الصفحة : 110
كأن الموت والحدثان فيها
إلى نفس الفتى فرسا سباق
فيا مغرور بالدنيا رويداً
ومنها خذ لنفسك بالوثاق
ثم رمق السماء بعينيه وأشار إليها بكفيه ودموعه تنحدر على خديه وهو يقول :
يا من إليه المبتهل
يا من عليه المتكل
يا من إذا ما آمل
يرجوه لم يخط الأمل
قال : فلما أتم كلامه خر مغشياً عليه فرفعت رأسه إلى حجري ونفضت التراب عن وجهه بكمي فلما أفاق قلت : له أي بني ما نزل بك وأنت صبي صغير لم يكتب عليك ذنب قال إليك عني
111
يا بهلول أني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار فلا تقد إلا بالصغار وإني أخشى أن أكون من صغار حطب جهنم قال : فسألت عنه فقالوا ذاك من أولاد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم قلت قد عجبت من أن تكون هذه الثمرة إلا من تلك الشجرة نفعنا الله به وبآبائه.
قال الشيخ أبو بكر الواسطي : (روزي أين آيت مي خواند فرمودكه ني ني خلق بعبث نيا فريد بلكه خواست كه هتىء وى آشكارا شود واز مصنوعات وي بصفات كماليه أوراه برند.
وكفته اند شمارا ببازي نيافريده ايم بلكه براي ظهور نور محمد عليه السلام آفريده ايم ودر ازل مقررشده بودكه آن كوهر تابان از صدق جنس أنس بيرون آيد س أواصلت وشما همه فرع أوييد :
هفت ونه واركه رداختند
خاص بي موكب أو ساختند
أوست شه وآدميان جمله خيل
أصل وي وجملة عالم طفيل
دربحر الحقائق كفته كه شمارا براي آن آفريدم تابر من سود كنيدنه بجهت آنكه من برشما سودكنم كما قال تعالى : "خلقت الخلق ليربحوا علي لا لأربح عليهم" وكويند ملائكة را آفريد تامنظر قدرت باشند وآدميانرا خلق كرد تامخزن جوهر محبت باشنده.
در بعضي كتب سماوي هست كه أي فرزند آدم همه اشيا براي شما آفريدم وشمارا براي خودسر "كنت كنزاً مخفياً" اينجا ظهور تمام دارد) كما أشار إليه المولوي قدس الله سره في "المثنوي" :
أي ظهور تو بكلى نور نور
كنج مخفي ازتو آمد در ظهور
كنج مخفي بود زر اك كرد
خاك را تابان تر از أفلاك كرد
كنج مخفي بدزري وش كرد
خاك را سلطان باطلس وش كرد
خويش تشناخت مسكين آدمي
از فزوني آمد وشد دركمي
خويشتن آدمي ارزان فروخت
بود اطلس خويش را بردلق دوخت
أي غلامت عقل تدبيرات هوش
ون نيني خويش را ارزان فروش
جزء : 6 رقم الصفحة : 110
{فَتَعَـالَى اللَّهُ} ارتفع بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله وعن خلو أفعاله عن الحكم والمصالح والغايات الجليلة {الْمَلِكُ الْحَقُّ} الذي يحق له الملك على الإطلاق إيجاداً وإعداماً بدأ وإعادة وإحياء وإماتة وعقاباً وإثابة وكل ما سواه مملوك له مقهور تحت ملكه العظيم.
(6/79)
قال الإمام الغزالي رحمه الله : الملك هو الذي يستغني في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل موجود ويحتاج إليه كل موجود.
وفي "المفردات" : الحق موجد الشيء بسبب ما يقتضيه الحكمة.
وفي "التأويلات النجمية" : ذاته وصفاته حق وقوله صدق ولا يتوجه لمخلوق عليه حق وما يفعل من إحسانه بعباده فليس شيء منها بمستحق.
{لا إله إِلا هُوَ} فإن كل ما عداه عبيده {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فكيف بما هو تحته ومحاط به من الموجودات كائناً ما كان وإنما وصف العرش بالكريم لأنه مقسم فيض كرم الحق ورحمته منه تنقسم آثار رحمته وكرمه إلى ذرات المخلوقات {وَمَنْ} (هركه) {يَدْعُ} يعبد {مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءَاخَرَ} إفراداً أو اشتراكاً {لا بُرْهَانَ لَه بِهِ} أي بدعائه معه ذلك.
وبالفارسية : (هي حجتي نيست بررستنده رابيرستش آن اله) وهو صفة لازمة لها كقوله {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} (الأنعام : 38) إذ لا يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان إذ الباطل ليس له برهان جيء بها للتأكيد وبناء الحكم عليها تنبيهاً على
112
أن الدين بما لا دليل عليه باطل فكيف بما شهدت بداهة العقول بخلافه {فَإِنَّمَا حِسَابُه عِندَ رَبِّهِ} فهو مجازي له على قدر ما يستحقه جواب يدع {إِنَّه لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أي : الشأن لا ينجو من كفر من سوء الحساب والعذاب.
{وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالاستغفار والاسترحام إيذاناً بأنهما من أهم الأمور الدينية حيث أمر به من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكيف بمن عداه كما قال في "التأويلات النجمية" : الخطاب مع محمد عليه السلام يشير إلى أنه مع كمال محبوبيته وغاية خصوصيته ورتبة نبوته ورسالته محتاج إلى مغفرته ورحمته فكيف بمن دونه وبمن يدعو مع الله إلهاً آخر أي فلا بد لأمته من الاقتداء به في هذا الدعاء {وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} يشير إلى أنه يحتمل تغير كل راحم بأن يسخط على مرحومه فيعذبه بعد أن يرحمه وأن الله جل ثناؤه إذا رحم عبده لم يسخط عليه إبداً لأن رحمته أزلية لا تحتمل التغير.
جزء : 6 رقم الصفحة : 112
وفي "حقائق البقلي" : اغفر تقصيري في معرفتك وارحمني بكشف زيادة المقام في مشاهدتك وأنت خير الراحمين إذ كل الرحمة في الكونين قطرة مستفادة من بحار رحمتك القديمة.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه مرّ بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه {أَفَحَسِبْتُمْ} حتى ختم السورة فبرىء بإذن الله فقال عليه السلام : "ما قرأت في أذنه" فأخبره فقال : "والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقناً قرأها على جبل لزال" روي أن أول هذه السورة وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع آيات من آخرها فقد نجا وأفلح.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي يسمع عنده دوي كدوي النحل فمكثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يده وقال : "اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وأرضنا" ثم قال : "لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة" ثم قرأ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حتى ختم العشر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 112(6/80)
سورة النور
وهي مدنية اثنتان أو أربع وستون آية
قال القرطبي : مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر كتب عمر رضي الله عنه إلى الكوفة علموا نساءكم سورة النور وقالت عائشة رضي الله عنها : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا "تنزلوهن" أي : النساء "في الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور والغزل".
جزء : 6 رقم الصفحة : 112
(سورة) سورة القرآن طائفة منه محيطة بما فيها من الآيات والكلمات والعلوم والمعارف مأخوذة من سورة المدينة وهو حائطها المشتمل عليها وهي خبر مبتدأ محذوف ، أي هذه سورة وإنما أشير إليها مع عدم سبق ذكرها لأنها باعتبار كونها في شرف الذكر في حكم الحاضر المشاهد والتنكير مفيد للفخامة من حيث الذات كما أن قوله تعالى : {أَنزَلْنَاهَا} مفيد لها من حيث الصفة أي أنزلناها من عالم القدس بواسطة جبريل.
{وَفَرَضْنَاهَا} أي : أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً فإن أصل الفرض قطع الشيء الصلب والتأثير فيه كقطع
113
الحديد والفرض كالإيجاب لكن الإيجاب يقال اعتباراً بوقوعه وثباته والفرض بقطع الحكم فيه كما في "المفردات".
{وَأَنزَلْنَا فِيهَآ} أي : في تضاعيف السورة.
{ءَايَات} هي الآيات التي نيطت بها الأحكام المفروضة كما هو الظاهر لا مجموع الآيات.
{بَيِّنَاتٍ} واضحات دلالاتها على أحكامها وتكرير أنزلنا مع استلزام إنزال السورة لانزالها لإبراز كمال العناية بشأنها.
{لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (شايدكه شماند ذيريد واز محارم رهيزيد) وهو بحذف إحدى التاءين أي تتذكرونها فتعملون بموجبها عند وقوع الحوادث الداعية إلى إجراء أحكامها وفيه إيذان بأن حقها أن تكون على ذكر منهم بحيث متى مست الحاجة إليها استحضروها.
قال بعضهم لو لم يكن من آيات هذه السورة إلا براءة الصديقة بنت الصديق حبيبة الله لكان كثيراً فكيف وقد جمعت من الأحكام والبراهين ما لم يجمعها غيرها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 113
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى} شروع في تفصيل ما ذكر من الآيات البينات وبيان أحكامها والزنى وطء المرأة من غير عقد شرعي وقد يقصر وإذا مد يصح أن يكون مصدر المفاعلة والنسبة إليه زنوي كذا في "المفردات" والزانية هي المرأة المطاوعة للزنى الممكنة منه كما ينبىء عنه الصيغة لا المزينة كرهاً وتقديمها على الزاني لما أن زنى النساء من إماء العرب كان فاشياً في ذلك الزمان أو لأنها الأصل في الفعل لكون الداعية فيها أوفر والشهوة أكثر ولولا تمكينها منه لم يقع ورفعها على الابتداء والخبر قوله : {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِا ئَةَ جَلْدَةٍ} والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذ اللام بمعنى الموصول والتقدير التي زنت والذي زنى.
والجلد ضرب الجلد بالكسر وهو قشر البدن يقال : جلده نحو بطنه وظهره إذا ضرب وظهره أو معنى جلده ضربه بالجلد نحو عصاه إذا ضربه بالعصا ومائة نصب على المصدر.
والمعنى بالفارسية : (س بزنيد أي أهل بلد وأحكام هربكي را ازان هردو صد تازيانه) وكان هذا عاماً في المحصن وغيره وقد نسخ في حق المحصن قطعاً ويكفينا في حق الناسخ القطع بأنه عليه السلام قد رجم ماعزاً وغيره فيكون من باب نسخ الكتاب بالسنة المشهورة فحد المحصن هو الرجم وحد غير المحصن هو الجلد.
وشرائط الإحصان في باب الرجم ست عند أبي حنيفة : الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والنكاح الصحيح والدخول فلا إحصان عند فقد واحدة منها وفي باب القذف الأربع الأول والعفة فمعنى قولهم رجم محصن أي مسلم حر عاقل بالغ متزوج وذو دخول ومعنى قولهم قذف محصناً أي مسلماً حراً عاقلاً بالغاً عفيفاً وإذا فقدت واحدة منها فلا إحصان.
{وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ} رحمة ورقة.
وفي "البحر" : الرأفة أرق الرحمة.
وبالفارسية : (مهرباني كردن) وتنكيرها للتقليل أي لا يأخذكم بهما شيء من الرأفة قليل من هذه الحقيقة.
وبالفارسية : (وفرانكير شمارا باين روزنا كننده مهرباني).
{فِى دِينِ اللَّهِ} في طاعته وإقامة حده فتعطلوه أو تسامحوا فيه بعدم الإيجاع ضرباً والتكميل حداً وذلك أن المضروب يفعل أثناء الضرب أفعالاً غريبة ويتضرع ويستغيث ويسترحم وربما يغشى عليه فيرأف به الإمام أو الضارب أو بعض الحاضرين لا سيما إذا كان أحب الناس إليه كالولد والأخ مثلاً فلا يستوفي حد الله وحقه ولا يكمل جلد مائة بل ينقصه بترك شيء أو يخفف الضرب
114
فنهاهم الله عن ذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 114
وفيه تنبيه على أن الله تعالى إذا أوجب أمراً قبح استعمال الرحمة فيه وفي الحديث : "يؤتى بوالٍ نقص من حد سوطاً فيقال : لم نقصت فيقول : رحمة لعبادك فيقال له : أنت أرحم مني انطلقوا به إلى النار ويؤتى بمن زاد سوطاً فيقال لم زدت فيقول : لينهوا عن معاصيك فيقال له أنت أحكم مني فيؤمر به إلى النار".
قال في "الأسئلة المقحمة" أن الله نهى عن الرأفة والرحمة وعلى هذا إن وجدنا واحداً بقلبه إشفاق على أخيه المسلم حيث وقع في المعصية يؤاخذ بها ، والجواب أنه لم يرد الرأفة الجبلية والرحمة الغريزية فإنها لا تدخل تحت التكليف وإنما أراد بذلك الرأفة التي تمنع عن إقامة حدود الله وتفضى إلى تعطيل أحكام الشرع فهي منهي عنها.
قال في "بحر العلوم" : وفيه دلالة على أن المخاطبين يجب عليهم أن يجتهدوا في حد الزنى ولا يخففوا الضرب بل يوجعوها ضرباً وكذلك حد القذف عند الزهري لا حد الشرب وعن قتادة يخفف في حد الشرب والقدف ويجتهد في حد الزنى.
{إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} من باب التهييج والتهاب الغضبولدينه فإن الإيمان بهما يقتضي الجد في طاعته والاجتهاد في إجراء الأحكام.(6/81)
قال الجنيد رحمه الله : الشفقة على المخالفين كالإعراض عن الموافقين وذكر اليوم الآخر لتذكر ما فيه من العقاب في مقابلة المسامحة والتعطيل وإنما سمي يوم القيامة اليوم الآخر لأنه لا يكون بعده ليل فيصير كله بمنزلة يوم واحد وقد قيل أنه تجتمع الأنوار كلها وتصير في الجنة يوماً واحداً وتجتمع الظلمات كلها وتصير في النار ليلة واحدة.
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآاـاِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} الشهود الحضور والعذاب الإيجاع الشديد.
قال بعضهم : التعذيب إكثار الضرب بعذبة السوط أي طرفه وقيل غير ذلك وفي تسميته عذاباً دليل على أنه عقوبة ويجوز أن يسمي عذاباً لأنه ألم مانع من المعاودة كما سمى نكالاً أي عقاباً يردع عن المعاودة والطائفة فرقة يمكن أن تكون حافة حول الشيء وحلقة من الطوف والمراد به جمع يحصل به التشهير والزجر وقوله : من المؤمنين لأن الفاسقين من صلحاء قومه أخجل وظاهر الأمر الوجوب لكن الفقهاء قالوا بالاستحباب ، والمعنى لتحضره زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر مما ينكل التعذيب.
وبالفارسية : (وبايد كه حاضر شونددر وقت عذاب آن دوتن يعني درزمان أقامت برايشان كروهي ازمؤمنان تاتشهير ايشان حاصل وآن تفضيح مانع كردد ازمعاودت بأمثال آن عمل) فحد غير المحصن جلد مائة وسطاً بسوط لا ثمرة له ويجلد الرجل قائماً وينزع عنه ثيابه إلا إزاره ويفرق على بدنه إلا رأسه ووجهه وفرجه وتجلد المرأة قاعدة لا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو وجاز الحفر لها لا له ولا يجمع بين جلد ورجم ولا بين جلد ونفي إلا سياسة ويرجم مريض زنى ولا يجلد حتى يبرأ وحامل زنت ترجم حين وضعت وتجلد بعد النفاس وللعبد نصفها ولا يحده سيده إلا بإذن الإمام خلافاً للشافعي وفي الحديت : "إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة".
جزء : 6 رقم الصفحة : 114
واعلم أن الزنى حرام وكبيرة روي حذيفة رضي الله عنه ، عنه عليه السلام : "يا معشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة.
أما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر.
وأما التي في الآخرة فسخط الله وسوء الحساب وعذاب النار" ومن الزنى
115
زنى النظر والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس : وفي "المثنوي" :
أين نظر ازدور ون تيراست وسم
عشقت افزون ميكند صبر توكم
وفي "التأويلات النجمية" : قوله : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى} يشير إلى النفس إذا زنت وزناها بأن استسلمت لتصرفات الشيطان والدنيا فيها بما نهاها الله عنه وإلى الروح إذا زنى وزناه تصرفه في الدنيا وشهواتها مما نهاه الله عنه.
{فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِا ئَةَ جَلْدَةٍ} من الجوع وترك الشهوات والمرادات تزكية لهما.
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِا ئَةَ جَلْدَةٍا وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ} يعني : إذا ادعيتم محبة الله فابغضوا مخالفي أمره ولا ترجموا أنفسكم وأرواحكم على مخالفة الله فإنهم يظلمون أنفسهم بجهلهم بحالهم وأن رحمتكم عليهم في ترك تزكيتهم وتأديبهم كترك الولد علاج ولده المريض شفقة عليه لينهكه المرض فأدبوهما {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِا وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآاـاِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} يشير إلى شهود أهل الصحبة وأن يزكي النفس ويؤدب الروح بمشهد شيخ وأصل كامل ليحفظه من طرفي الإفراط والتفريط ويهديه إلى صراط مستقيم هو صراط يسلكه فيه.
قطع أين مرحله بي همر هي خضر مكن
ظلماً تست بترس از خطر كمراهي
{الزَّانِى لا يَنكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَآ إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} النكاح إنما ورد في القرآن بمعنى العقد أي التزوج لا الوطء.
قال الراغب أصل النكاح للعقد ثم استعير للجماع ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد لأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشاً ما يستفظعونه لما يستحسنونه انتهى.
وهذا حكم مؤسس على الغالب المعتاد جيء به لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنى بهن يعني الغالب أن المائل إلى الزنى والتقحب لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في نكاح فاسقة من شكله أو مشركة والمسافحة لا يرغب في نكاحها الصلحاء وينفرون عنها وإنما يرغب فيها فاسق مثلها أو مشرك فإن المشاكلة سبب الائتلاف والاجتماع كما أن المخالفة سبب الوحشة والافتراق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 114
(6/82)
وقدم الزاني في هذه الآية لأن الرجل أصل في النكاح من حيث أنه هو الطالب ومنه تبدأ الخطبة ولأن الآية نزلت في فقراء المهاجرين الذين رغبوا في نكاح موسرات كانت بالمدينة من بقايا المشركين لينفقن عليهن من أكسابهن على عادة الجاهلية كما قال الكاشفي : (بايا از يهود بامشر كان مدينة در بيوت نواخير نشسته هريك برد رخانة خود رايتي نصب كردندي ومردم رايخود دعوت نموده أجرت كرفتندي ضعفة مهاجرين كه مسكني وعشرتي تداشتند وازتنك ريشان مي كذرانيدند داعية كردندكه ايشانرا بنكاح درآ ورده كه وكراين نفس ازايشان كرفته برعادت أهل جاهليت معاش كذرانند) فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك فنفروا عنه ببيان أنه أفعال من الزناة وخصائص المشركين كأنه قيل : الزاني لا يرغب إلا في نكاح إحداهما والزانية لا يرغب في نكاحها إلا أحدهما فلا تحوموا حوله كيلا تنتظموا في سلكهما أو تتسموا بسمتهما فإيراد الجملة الأولى مع أن إمناط التنفير هي الثانية لتأكيد العلاقة بين الجانبين مبالغة في الزجر والتنفير لا مجرد الإشراك وإنما تعرّض
116
لها في الأولى إشباعاً في التنفير عن الزانية بنظمها في سلك المشركة.
{وَحُرِّمَ ذَالِكَ} أي نكاح الزاني : {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} لما فيه من التشبيه بالفسقة والتعرض للتهمة والتسبب بسوء المقالة والطعن في النسب وغير ذلك من المفاسد لا يكاد يليق بأحد من الأداني والأرازل فضلاً عن المؤمنين ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة في الزجر والحكم إما مخصوص بسبب النزول أو منسوخ بقوله تعالى : {وَأَنكِحُوا الايَـامَى مِنكُمْ} (النور : 32) فإنه متناول للمسافحات ويؤيده ما روى أنه عليه السلام سئل عن ذلك فقال : "أو له سفاح وآخره نكاح" والحرام لا يحرم الحال.
وفي الآية إشارة إلى الحذر عن أخدان السوء والحث عن مخالطة أهل الصحبة والأخدان في الله تعالى فإن الطبع من الطبع يسرق والمقارنة مؤثرة والأمراض سارية وفي الحديث : "لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فهو منهم وليس منا" أي : لا تسكنوا مع المشركين في المسكن الواحد ولا تجتمعوا معهم في المجلس الواحد حتى لا يسري إليكم أخلاقهم وسيرهم القبيحة بحكم المقارنة وللناس أشكال يطير بشكله.
همه مرغان كند باجنس رواز
كبوتر با كبوتر باز با باز
جزء : 6 رقم الصفحة : 114
وكل مساكن مثله كما قال قائلهم :
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه
فإن القرين بالمقارن يقتدي
فأما أهل الفساد فالفساد يجمعهم وإن تناءت ديارهم وأما أهل السداد فالسداد يجمعهم وإن تباعد مزارهم.
قال الكاشفي : (جنسيت علت ضمست ومشاكله سبب الفت :
هركس مناسب كهر خود كرفت يار
بلبل بباغ رفت وزغن سوى خارزار
وحرم محافظة أخدان السوء على المؤمنين لئلا يؤثر فيهم فساد حالهم وسوء أخلاقهم.
ومن بلاغات الزمخشري : لا ترش لمجالستك إلا أهل مجانستك أي لا ترض أن تكون جليس أحد من غير جنسك فإنه العذاب الشديد ليس إلا.
فقال بعضهم : الممينة موجودة في المؤمنات أيضاً ولكن علة الضم الجنسية فعلى العاقل أن يصون نفسه بقدر الإمكان فإن الله غيور ينبغي أن يخاف منه كل آن.
جزء : 6 رقم الصفحة : 114
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَـاتِ} الرمي يقال في الأعيان كالسهم والحجر ويقال في المقال كناية عن الشتم كالقذف فإنه في الأصل الرمي بالحجارة ونحوها مطلقاً.
قال في "الإرشاد" في التعبير عن التفوه بما قالوا في حقهن بالرمي المنبىء عن صلابة الآلة وإيلام المرمى وبعده إيذان بشدة تأثيره فيهن والمحصنات العفائف وهو بالفتح يقال إذا تصور حصنها من نفسها وبالكسر يقال إذا تصور حصنها من غيرها والحصن في الأصل معروف ثم تجوز به في كل تحرز ومنه درع حصينة لكونها حصناً للبدن وفرس حصان لكونه حصناً لراكبه وامرأة حصان للعفيفة والمعنى والذين يقذفون العفائف بالزنى بدليل ذكر المحصنات عقيب الزواني وتخصيص المحصنات لشيوع الرمي فيهن وإلا فقذف الذكر والأنثى سواء في الحكم الآتي والمراد المحصنات الأجنبيات لأن رمي الأزواج أي النساء الداخلات تحت نكاح الرامين حكمه سيأتي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 117
وأجمعوا على أن شروط إحصان القذف خمسة الحرية والبلوغ والعقل والإسلام
117
(6/83)
والعفة من الزنى حتى أن من زنى مرة في أول بلوغه ثم تاب وحسنت حاله فقذفه شخص لا حد عليه والقذف بالزنى أن يقول العاقل لمحصنة : يا زانية يا ابن الزاني يا ابن الزانية يا ولد الزنى أو لست لأبيك يا ابن فلان في غضب والقذف بغيره أن يقول : يا فاسق يا شارب الخمر يا آكل الربا ويا خبيث يا نصراني يا يهودي يا مجوسي فيوجب التعزير كقذف غير المحصن وأكثر التعزير تسعة وثلاثون سوطاً وأقله ثلاثة لأن التعزيز ينبغي أن لا يبلغ أقل الحد أربعين وهي حد العبيد في القذف بالزنى والشرب وأما أبو يوسف فاعتبر حد الأحرار وهو ثمانون سوطاً ونقص منها سوطاً في رواية وخمسة في رواية وقال الإمام أن يعزر إلى المائة والفرق بين التعزير والحد أن الحد مقدر والتعزير مفوض إلى رأي الإمام وأن الحد يندرىء بالشبهات دونه وأن الحد لا يجب على الصبي والتعزير شرع والحد يطلق على الذمي إن كان مقدراً والتعزير لا يطلق عليه لأن التعزير شرع للتطهير والكافر ليس من أهل التطهير وإنما سمي في حق أهل الذمة إذا كان غير مقدر عقوبة وأن التقادم يسقط الحد دون التعزير وأن التعزير حق العبد كسائر حقوقه ويجوز فيه الإبراء والعفو والشهادة على الشهادة ويجري فيه اليمين ولا يجوز شيء منها في الحد {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} يشهدون عليهن بما رموهن به ولا يقبل فيه شهادة النساء كما في سائر الحدود وفي كلمة ثم إشعار بجواز تأخيره الإتيان بالشهود وفي كلمة لم إشارة إلى العجز عن الإتيان بهم ولا بد من اجتماع الشهود عند الأداء عند أبي حنيفة رحمه الله أي الواجب أن يحضروا في مجلس واحد وإن جاؤوا متفرقين كانوا قذفة وفي قوله : بأربعة شهداء دلالة على أنهم إن شهدوا ثلاثة يجب حدهم لعدم النصاب وكذا إن شهدوا عمياناً أو محدودين في قذف أو أحدهم محدود أو عبد لعدم أهلية الشهادة.
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَـانِينَ جَلْدَةً} انتصاب ثمانين كانتصاب المصادر ونصب جلدة على التمييز أي اضربوا كل واحد من الرامين ثمانين ضربة إن كان القاذف حراً وأربعين إن كان عبداً لظهور كذبهم وافترائهم بعجزهم عن الإتيان بالشهداء.
وبالفارسية : (س بزنيد ايشانرا عشتاد تازيانه) وإن كان المقذوف زانياً عزر القاذف ولم يحد إلا أن يكون المقذوف مشهوراً بما قذف به فلا حد ولا تعزير حينئذ ويجلد القاذف كما يجلد الزاني إلا أنه لا ينزع عنه من الثياب إلا ما ينزع عن المرأة من الحشو والفرو والقاذفة أيضاً في كيفية الجلد مثل الزانية وضرب التعزير أشد ثم للزنى ثم للشرب ثم للقذف لأن سبب حده محتمل للصدق والكذب وإنما عوقب صيانة للأعراض.
وبالفارسية : (حد قذف ازحد زنى وحد شرب اخص است زيراكه حد زنى بقرآن ثابت شده وثبوت حد شرب يقول صحابه أست وسبب حد قذف محتمل است مر صدق رائي) وإن كان نفس الحد ثابتاً بالنص وإنما يحد بطلب المقذوف المحصن لأن فيه حقه من حيث دفع العار عنه ولا بد أن يكون الطلب بالقول حتى لو قذف الأخرس وطلبه بالإشارة لا يجب الحد وكون المقذوف غائباً عن مجلس القاذف حال القذف أو حاضراً سواء فاحفظه ويجوز للمقذوف أن يعفو عن حد القذف قبل أن يشهد ويثبت الحد والإمام أيضاً ويحسن منه أن يحمل المقذوف على كظم الغيظ ويقول له أعرض عن هذا ودعه لوجه الله قبل ثبوت الحد فإذا ثبت لم يكن
118
جزء : 6 رقم الصفحة : 117
لواحد منهما أن يعفو لأنه خالص حق الله ولهذا لم يصح أن يصالح عنه بمال وإذا تاب القاذف قبل أن يثبت الحد سقط وإذا قذف الصبي أو المجنون امرأته أو أجنبياً فلا حد عليهما ولا لعان لا في الحال ولا إذا بلغ أو أفاق ولكن يعذران تأديباً ولو قذف شخصاً مراراً فإن أراد زنية واحدة وجب حد واحد وإن أراد زنيات مختلفة كقوله : زنيت بزيد وبعمرو لتعدد اللفظ كما في "الكبير" {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَـادَةً} عطف على اجلدوا داخل في حكمه تتمة له لما فيه من معنى الزجر لأنه مؤلم للقلب كما أن الجلد مؤلم للبدن وقد أذى المقذوف بلسانه فعوقب بإهدار منافعه جزاء وفاقاً واللام في لهم متعلقة بمحذوف هو حال من شهادة قدمت عليها لكونها نكرة وفائدتها تخصيص الرد بشهادتهم الناشئة عن أهليتهم الثابتة لهم عند الرمي وهو السر في قبول شهادة الكافر المحدود في القذف بعد التوبة والإسلام لأنها ليست ناشئة عن أهليته السابقة بل أهليته حدثت له بعد إسلامه فلا يتناول الرد والمعنى لا تقبلوا من القاذفين شهادة من الشهادات حال كونها حاصلة لهم عند القذف.
{أَبَدًا} أي مدة حياتهم وإن تابوا وأصلحوا.
{وأولئك هُمُ} لا غيرهم {الْفَـاسِقُونَ} الكاملون في الفسق والخروج عن الطاعة والتجاوز عن الحدود كأنهم هم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم من الفسقة.
قال في "الكبير" : يفيد أن القذف من الكبائر لأن الفسق لا يقع إلا على صاحبها.(6/84)