{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} أي اذكر للناس يا أفضل المخلوق وقت قول موسى لقومه ، وهم بنو إسرائيل والمراد بتذكير الأوقات تذكير ما وقع فيها من الحوادث المفصلة ، إذ هي محيطة بذلك فإذا ذكرت ذكر ما فيها كأنه مشهد معاين اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجيكم من آل فرعون أي إنعامه عليكم وقت إنجائه إياكم من فرعون وأتباعه وأهل دينه وهم القبط يسومونكم سوء العذاب استئناف لبيان انجائهم أو حال من آل فرعون.
قال
398
في تهذيب المصادر (السوم : شانيدن عذاب وخواري) قال الله تعالى : يسومونكم سوء العذاب انتهى.
وفي بحر العلوم من سام السلعة إذا طلبها والمعنى.
يذيقونكم أو يبغونكم شدة العذاب ويريدونكم عليه ، والسوء مصدر ساء يسوء وهو اسم جامع للآفات كما في التبيان والمراد جنس العذاب السيء أو استعبادهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة والاستهانة بهم وغير ذلك مما لا يحصر ويذبحون أبناءكم المولودين من عطف الخاص على العام كأن التذبيح لشدته وفظاعته وخروجه عن مرتبة العذاب المعتاد جنس آخر ولو جاء بحذف الواو كما في البقرة والأعراف لكان تفسيراً للعذاب وبياناً له ، وإنما فعلوا لأن فرعون رأى في المنام أن ناراً أقبلت من نحو بيت المقدس فأحرقت بيوت القبط دون بيوت بني إسرائيل فخوفه الكهنة وقالوا له إنه سيولد منهم ولد يكون على يده هلاكك وزوال ملكك فشمر عن ساق الاجتهاد وحسر عن ذراع العناد وأراد أن يدفع القضاء وظهوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
صعوه كه باعقاب سازد جنك
دهد از خون خود رش را رنك
ويستحيون نساءكم أي يبقون نساءكم وبناتكم في الحياة للاسترقاق والاستخدام وكانوا يفردون النساء عن الازواج ، وذلك من أعظم المضار والابتلاء ؛ إذ الهلاك أسهل من هذا.
وفي ذلكم أي فيما ذكر من أفعالهم الفظيعة.
بلاء من ربكم عظيم أي محنة عظيمة لا تطاق.
فإن قلت : كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 398
قلت : أقدار الله إياهم وإمهالهم حتى فعلوا ما فعلوا ابتلاء من الله ويجوز أن يكون المشار إليه الانجاء من ذلك ، والبلاء الابتلاء بالنعمة كما قال تعالى : ونبلونكم بالشر والخير فتنة}(الأنبياء : 35) والله تعالى يبلو عباده بالشر ليصبروا فيكون محنة وبالخير ليشكروا فيكون نعمة.
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} من جملة مقال موسى لقومه معطوف على نعمة أي اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن وتأذن بمعنى آذان أي علم أعلاماً بليغاً لا يبقى معه شائبة شبهة أصلاً ، لما في صيغة التفعل من معنى التكلف المحمول في حقه تعالى على غايته التي هي الكمال.
وقال الخليل : تأذن لكذا أوجب الفعل على نفسه.
والمعنى أوجب ربكم على نفسه لئن شكرتم اللام لام التوطئة وهي التي تدخل على الشرط ، تقدم القسم لفظاً أو تقديراً لتؤذن أن الجواب له لا للشرط وهو مفعول تأذن على أنه أجرى مجرى قال ، لأنه ضرب من القول أو مقول قول محذوف.
والمعنى وإذ تأذن ربكم فقال لئن شكرتم يا بني إسرائيل نعمة الانجاء وإهلاك العدو وغير ذلك وقابلتموها بالثبات على الإيمان والعمل الصالح لأزيدنكم نعمة إلى نعمة ولا ضاعفن لكم ما آتيتكم واللام ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً.
قال الكاشفي : (شيخ عبد الرحمن سلمى قدس سره از أبو علي جرجاني قدس سره اكر شكر كنيد بر نعمت اسلام زيادة كنم آنرا بايمان واكر ساس داري كنيد برايمان افزون كردانم باحسان واكر بران شكر كوييد زيادة ازم آنرا بمعرفت واكر بر آن شاكر باشيد برسانم بمقام وصلت واكر آنرا شكر كوييد بالأبرم بدرجه قربت وبشكران نعمت در آرم بخلوتكاه أنس ومشاهده وازين كلام حقائق اعلام معلوم ميشود كه شكر مرقات ترقى ومعراج تصاعد بر در جاتست).
وفي المثنوى :
399
شكر نعمت نعمتت افزون كند
كس زيان بر شكر كفتى ون كند
شكر باشد دفع علتهاى دل
سود دارد شاكر از سوداي دل
وقال في التأويلات : النجمية لئن شكرتم التوفيق لأزيدنكم في التقرب إليّ ولئن شكرتم التقرب إليّ لأزيدنكم في تقربي إليكم ولئن شكرتم تقربي إليكم لأزيدنكم في المحبة ولئن شكرتم المحبة لازيدنكم في محبتي لكم ولئن شكرتم محبتي لازيدنكم في الجذبة إليّ ولئن شكرتم الجذبة لأزيدنكم في البقاء ولئن شكرتم البقاء لأزيدنكم في الوحدة ولئن شكرتم الوحدة لأزيدنكم في الصبر على الشكر والشكر على الصبر والصبر على الصبر والشكر على الشكر لتكونوا صبارا شكوراً ولئن كفرتم أي لم تشكروا نعمتي وقابلتموها بالنسيان والكفران أي لأعذبنكم فيكون قوله إن عذابي لشديد تعليلاً للجواب المحذوف أو فعسى يصيبكم منه ما يصيبكم ومن عادة الكرام التصريح بالوعد والتعريض بالوعيد فما ظنك بأكرم الأكرمين حيث لم يقل إن عذابي لكم ونظيره قوله تعالى : نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 398(4/264)
قال سعدي المفتي : ثم المعهود في القرآن أنه إذا ذكر الخير أسنده إلى ذاته تعالى وتقدس وإذا ذكر العذاب بعده عدل عن نسبته إليه وقد جاء التركيب هنا على ذلك أيضاً فقال في الأول لأزيدنكم وفي الثاني إن عذابي لشديد ولم يأت التركيب لأعذبنكم انتهى.
ثم إن شدة العذاب في الدنيا بسلب النعم وفي العقبى بعذاب جهنم.
وفي التأويلات النجمية : إن عذاب مفارقتي بترك مواصلتي لشديد فإن فوات نعيم الدنيا والآخرة شديد على النفوس وفوات نعيم المواصلات أشد على القلوب والأرواح.
قال في بحر العلوم لقد كفروا نعمه حيث اتخذوا العجل وبدلوا القول فعذبهم بالقتل والطاعون.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : قال من رزق ستاً لم يحرم ستاً ، من رزق الشكر ، لم يحرم الزيادة لقوله تعالى : لئن شكرتم لأزيدنكم ومن رزق الصبر لم يحرم الثواب لقوله تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}(الزمر : 10).
قال الموفى الجامي :
اكر زسهم حوادث مصيبتي رسدت
درين نشمين حرمان كه موطن خطرست
مكن بدست جزع خرقه صبوري اك
كه فوت اجر مصيبت مصيبت دكرست
ومن رزق التوبة لم يحرم القبول لقوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (الشورى : 25) ومن رزق الاستغفار لم يحرم المغفرة لقوله تعالى : {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّه كَانَ غَفَّارًا} (نوح : 10) من رزق الدعاء لم يحرم الإجابة لقوله تعالى : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر : 60) وذلك لأن الله تعالى لا يمكن العبد من الدعاء إلا لإجابته ومن رزق النفقة لم يحرم الخلف لقوله تعالى : {وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} (سيأ : 39).
وفي "المثنوى" :
كفت يغمبر كه دائم بهر ند
دو فرشته خوش منادى مى كنند
كاي خدايا منفقانرا سير دار
هر درمشانرا عوض ده صد هزار
اي خايا ممسكانرا در جهان
تومده إلا زيان اندر زيان
فعلى العاقل أن يشكر النعمة ويرجو من الله الملك القادر الخالق الرزاق أن لا يفتر القلب واللسان واليد من الفكر والذكر والانفاق.
ولقد ترك بلعم بن باعورا شكر نعمة الإسلام
400
والإيمان فعوقب بالحرمان ونعوذ بالله من الخذلان اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين والمطيعين الصابرين القانعين إنك أنت المعين في كل حين آمين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 398
{وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا} نعمه تعالى ولم تشكروها.
أنتم يا بني إسرائيل ومن في الأرض من الثقلين جميعاً حال من المعطوف والمعطوف عليه.
فإن الله تعليل للجواب المحذوف ، أي إن تكفروا لم يرجع وباله إلا عليكم فإن الله لغنى عن شكركم وشكر غيركم حميد محمود في ذاته وصفاته وأفعاله لا تفاوت له بإيمان أحد ولا كفره.
قال الكاشفي : (ذرت مخلوقات بنعمت او ناطق والسنه جميع اشيا بتسبيح وحمداو جارى)
بذكرش جمله ذرات كويا
همه اورا زروى شوق جويا
قال السعدي قدس سره :
بذكرش هر.
ه بيني درخروشست
دلى داند درين معنى كه كوشست
نه بلبل بركلش تسبيح خوانيست
كه هر خارى بتوحيدش زبانيست
ألم يأتكم من كلام موسى ، استفهم عن انتفاء الإتيان على سبيل الإنكار فأفاد إثبات الإتيان وإيجابه فكأنه قيل أتاكم.
نبؤا الذين من قبلكم أي أخبارهم قوم نوح اغرقوا بالطوفان حيث كفروا ولم يشكروا نعم الله ، وقوم نوح بدل من الموصول وعاد أهلكوا بالريح معطوف على قوم نوح.
وثمود أهلكوا بالصيحة والذين من بعدهم من بعد هؤلاء المذكورين من قوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات وغير ذلك ، وهو عطف على قوم نوح وما عطف عليه لا يعلمهم إلا الله اعتراض أي لا يعلم عدد تلك الأمم لكثرهم ولا يحيط بذواتهم وصفاتهم وأسمائهم وسائر ما يتعلق بهم إلا الله تعالى فإنه انقطعت أخبارهم وعفت آثارهم وكان مالك بن أنس يكره أن ينسب الإنسان نفسه أباً أباً إلى آدم وكذا في حق النبي عليه السلام لأن أولئك الآباء لا يعلم أحد إلا الله وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية قال كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد.
وقال في التبيان النسابون وإن نسبوا إلى آدم فلا يدعون إحصاء جميع الأمم انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا أي قرناً لا يعرفون ، وقيل أربعون ، وقيل سبعة وثلاثون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 401
وفي النهر : لأبي حيان إن إبراهيم عليه السلام هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا عليه السلام.
قال في إنسان العيون : كان عدنان في زمن موسى عليه السلام وهو النسب المجمع عليه لنبينا عليه السلام وفيما قبله إلى آدم اختلاف ، سبب الاختلاف فيما بين عدنان وآدم أن قدماء العرب لم يكونوا أصحاب كتب يرجعون إليها وإنما كانوا يرجعون إلى حفظ بعضهم من بعض.(4/265)
والجمهور على أن العرب قسمان قحطانية وعدنانية ، والقحطانية شعبان سبأ وحضرموت والعدنانية شعبان ربيعة ومضر وأما قضاعة فمختلف فيها فبعضهم ينسبونها إلى قحطان وبعضهم إلى عدنان ثم إن الشيخ عليا السمرقندي رحمه الله قال في تفسيره الموسوم ببحر العلوم لقائل أن يقول يشكل بالآية قول النبي إن الله تعالى قد رفع إلي الدنيا فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة كما أنظر إلى كفي هذه جلياً جلاها الله لنبيه كما جلاها للنبيين قبل لدلالته صريحاً على أن جميع الكوائن إلى يوم القيامة
401
مجلى ومكشوف كشفا تاماً للأنبياء عليهم السلام والحديث مسطور في معجم الطبراني والفردوس.
يقول الفقير : إن الله تعالى أعلم حبيبه عليه السلام ليلة المعراج جميع ما كان وما سيكون وهو لا ينافي الحصر في الآية ، لقوله تعالى في آية أخرى فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول}(الجن : 26 ـ ـ 27) يعني به جنابه عليه السلام ولئن سلم فالذي علمه إنما هو كليات الأمور لا جزئياتها وكلياتها جميعاً ومن ذلك المقام وما أدري ما يفعل بي ولا بكم فصح الحصر والله أعلم فاعرف هذه الجملة {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم} ملتبسين بالبينات وقال الكاشفي (آوردند) فالباء للتعدية أي بالمعجزات الواضحة التي لا شبهة في حقيتها فبين كل رسول لأمته طريق الحق وهو استيناف لبيان نبأهم فردوا أيديهم في أفواههم أي أشاروا بها إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم إنا كفرنا بما أرسلتم به ، أي هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق أوردوا أيديهم في أفواه أنفسهم إشارة بذلك إلى الرسل إن انكفوا عن مثل هذا الكلام فإنكم كذبة ففي بمعنى على كما في الكواشي.
وقال قتادة : كذبوا الرسل وردوا ما جاؤوا به يقال رددت قول فلان في فيه أي كذبته وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به على زعمكم من الكتب والرسالة.
قال المولى أبو السعود رحمه الله : هي البينات التي أظهروها حجة على رسالاتهم ومرادهم بالكفر بها الكفر بدلالتها على صحة رسالاتهم وإنا لفي شك عظيم مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله والتوحيد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 401
قال سعدي المفتي : المراد أما المؤمن به أو صحة الإيمان إذ لا معنى لشكهم في نفس الإيمان.
فإن قلت : الشك ينافي الجزم بالكفر بقولهم إنا كفرنا.
قلت : متعلق الكفر هو الكتب والشرائع التي أرسلوا بها ومتعلق الشك هو ما يدعونهم إليه من التوحيد مثلاً والشك في الثاني لا ينافي القطع في الأول.
مريب موقع في الريبة وهي قلق النفس وعدم اطمئنانها بالشيء ، وهي علامة الشر والسعادة (يعني كماني كه نفس را مضطرب ميسازد ودلرارا آم نمى دهد وعقل را شوريده كرداند) وهو صفة توكيدية لشك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 401
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ} استئناف بياني ، أي قالوا منكرين عليهم ومتعجبين من مقالتهم الحمقاء أفي الله شك أي : أفي شأنه سبحانه من وجوده ووحدته ووجوب الإيمان به وحده شك ما ، وهو أظهر من كل ظاهر حتى تكونوا من قبله في شك مريب أي لا شك في الله ، أدخلت همزة الانكار على الظرف لأن الكلام في المشكوك فيه لا في الشك إنما ندعوكم إلى الله وهو لا يحتمل الشك لكثرة الأدلة وظهور دلالتها عليه وأشاروا إلى ذلك بقوله فاطر السموات والأرض صفة للاسم الجليل أي مبدعهما وما فيهما من المصنوعات فهما تدلان على كون فاطر فطرهما فإن كينونتهما بلا كون مكون واجب الكون محال لأنه يؤدي إلى التسلسل والتسلسل محال وذلك المكون هو الله تعالى (روزى امام أعظم رحمه الله در مسجد نشسته بود جماعتي اززنادقه در آمدند وقصد هلاك او كردند امام كفت يك سؤال را جواب دهيد بعد ازان تيغ ظلم را آب دهيد كفتند مسئله يست كفت من سفينه ديدم ربار كران برروى دريا روان نانكه هي ملاحى محافظت نميكرد كفتند اين محالست زيراكه كشتى بي ملاح بريك نسق رفتن محال باشد كفت سبحان الله سر جمله افلاك وكواكب ونظام عالم علوي وسفلي از سيريك سفينه عجب تراست همه ساكت كشتند وأكثر مسلمان
402
شدند) يدعوكم إلى طاعته بالرسل والكتب ليغفر لكم من ذنوبكم أي : بعضها وهو ما عدا المظالم وحقوق العباد مما بينهم وبينه تعالى فإن الإسلام يجبه أي يقطعه ومنع سيبويه زيادة من في الإيجاب وأجازه أبو عبيدة.(4/266)
وفي التأويلات النجمية : يدعوكم من المكونات إلى المكون لا لحاجته إليكم بل لحاجتكم إليه ليغفر لكم بصفة الغفارية من ذنوبكم التي أصابتكم من حجب ظلمات خلقية السموات والأرض فاحتجبتم بها عنه ويؤخركم إلى أجل مسمى إلى وقت سماه الله وجعله آخر أعماركم يبلغكموه إن آمنتم وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت فهو مثل قوله عليه السلام الصدقة تزيد في العمر فلا يدل على تعدد الأجل كما هو مذهب أهل الاعتزال قالوا للرسل وهو استئناف بياني إن أنتم أي ما أنتم في الصورة والهيئات.
إلا بشر آدميون مثلنا من غير فضل يؤهلكم لما تدعون من النبوة فلم تخصون بالنبوة دوننا ، ولو شاء الله أن يرسل إلى البشر رسلاً لأرسل من جنس أفضل منهم وهم الملائكة على زعمهم من حيث عدم التدنس بالشهوات وما يتبعها تريدون بدعوى النبوة أن تصدونا تصرفونا بتخصيص العبادة بالله عما كان يعبد آباؤنا أي عن عبادة ما استمر آباؤنا على عبادته وهو الأصنام من غير شيء يوجبه وإن لم يكن الأمر كما قلنا بل كنتم رسلاً من جهة الله كما تدعونه فائتونا (س بياريد) بسلطان مبين ببرهان ظاهر على صدقكم وفضلكم واستحقاقكم لتلك الرتبة حتى نترك ما لم نزل نعبده أبا عن جد ، كأنهم لم يعتبروا ما جاءت به رسلهم من الحجج والبينات واقترحوا عليهم آية أخرى تعنتا ولجاجاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 402
قالت لهم رسلهم زاد لفظ لهم لاختصاص الكلام بهم حيث أريد الزامهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوع الشك في الله فإن ذلك عام وإن اختص بهم ما يعقبه أي قالوا لهم معترفين بالبشرية ومشيرين إلى منة الله عليهم.
إن ما نحن إلا بشر مثلكم كما تقولون لا ننكره ولكن الله يمن ينعم بالنبوة والوحي على من يشاء من عباده وفيه دلالة على أن النبوة عطائية كالسلطنة ، لا كسبية كالولاية والوزارة وما كان وما صح وما استقام لنا أن نأتيكم بسلطان أي بحجة من الحجج فضلاً عن السلطان المبين بشيء من الأشياء ، وسبب من الأسباب.
إلا بإذن الله فإنه أمر يتعلق بمشيئة الله إن شاء كان وإلا فلا تلخيصه إنما نحن عبيد مربوبون.
ناتواني وعجز لازم ماست
قدرت واختار ازان خداست
كارهارا بحكم راست كند
اوتوانست هره خواست كند
وعلى الله دون ما عداه مطلقاً فليتوكل المؤمنون وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله فليتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 402
{وَمَا لَنَآ} أي : أيُّ عذر ثبت لنا أن لا نتوكل على الله أي في أن لا نتوكل عليه وقد هدينا سبلنا أي والحال أنه أرشد كلاً منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له وأوجب عليه سلوكه في الدين وهو موجب للتوكل ومستدع له.
قال في التأويلات : وهي الإيمان والمعرفة والمحبة فإنها سبل الوصول ومقاماته انتهى وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب الاضطراب القادح في التوكل قالوا على سبيل التوكيد
403
القسمي مظهرين لكمال العزيمة ولنصبرن على ما آذيتمونا في أبداننا وأعراضنا أو بالتكذيب ورد الدعوة والإعراض عن الله والعناد واقتراح الآيات وغير ذلك مما لا خير فيه وهو جواب قسم محذوف وعلى الله خاصة فليتوكل المتوكلون أي فليثبت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل المسبب عن الإيمان فالأول لإحداث التوكل والثاني للثبات عليه فلا تكرار.
والتوكل تفويض الأمر إلى من يملك الأمور كلها وقالوا المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية الله فعلى هذا إذا وقع الإنسان في شدة ثم سأل غيره خلاصه لم يخرج من حد التوكل لأنه لم يحاول دفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله.
وفي التأويلات النجمية للتوكل مقامات ، فتوكل المبتدىء قطع النظر عن الأسباب في طلب المرام ثقة بالمسبب وتوكل المتوسط قطع تعلق الأسباب بالمسبب وتوكل المنتهي قطع التعلق بما سوى الله للاعتصام بالله انتهى.
قال القشيري رحمه الله : وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد حقق لنا ما سبق به الضمان من وجوه الإحسان وكفاية ما أظلنا من الامتحان ولنصبرن على ما آذيتمونا والصبر على البلاء يهون على رؤية المبلى وأنشدوا في معناه.
مر ما مر بي لأجلك حلو
وعذابي لأجل حبك عذب
قال الحافظ :
اكر بلطف بخواني مزيد الطافست
وكر بقهر براني درون ما صافست
قيل لما قدم الحلاج لتقطع يده فقطعت يده اليمنى أولاً ضحك ، ثم قطعت اليسرى فضحك ضحكاً بليغاً ، فخاف أن يصفر وجهه من نزف الدم فاكب بوجهه على الدم السائل ولطخ وجهه وبدنه وأنشأ يقول :
جزء : 4 رقم الصفحة : 403
الله يعلم أن الروح قد تلفت
شوقاً إليك ولكني أمنيها
ونظرة منك يا سؤلي ويا أملي
أشهر إليّ من الدنيا وما فيها
يا قوم إني غريب في دياركمو
سلمت روحى إليكم فاحكموا فيها
لم أسلم النفس للأسقام تتلفها
إلا لعلمي بأن الوصل يحييها
نفس المحب على الآلام صابرة
لعل مسقما يوماً يداويها(4/267)
ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : يا مولاي إني غريب في عبادك وذكرك أغرب مني والغريب يألف الغريب ثم ناداه رجل : قال يا شيخ ما العشق؟ قال : ظهره ما ترى وباطنه دق عن الورى.
ومن لطائف هذه الآية الكريمة ما روى المستغفري عن أبي ذر رفعه إذا آذاك البرغوت فخذ قدحاً من ماء وأقرأ عليه سبع مرات وما لنا ألا نتوكل على الله الآية ثم قل إن كنتم مؤمنين فكفوا شركم وأذاكم عنا ثم رشه حول فراشك فإنك تبيت آمنا من شرهم.
ولابن أبي الدنيا في التوكل له ، أن عامل أفريقية كتب إلى عمر بن عبد العزيز يشكو إليه الهوام والعقارب فكتب إليه وما على أحدكم إذا أمسى وأصبح أن يقول وما لنا أن لا نتوكل على الله الآية.
قال زرعة بن عبد الله : أحد رواته وينفع من البراغيث كذا في المقاصد الحسنة.
قال بعض العارفين : إن مما أخذ الله على الكلب إذا قرىء عليه وكلبهم باسط ذرعيه بالوصيد لم يؤذ ومما أخذ الله على
404
العقرب أنه إذا قرىء عليها سلام على نوح في العالمين لم تؤذ ومما أخذ الله على البراغيث وما لنا أن لا نتوكل على الله الآية ومن أراد الأمن من شرها فليأخذ ماء ويقرأ عليه هذه الآية سبع مرات ثم ليقل سبع مرات إن كنتم آمنتم بالله فكفوا شركم عنا أيتها البراغيث ويرشه حول مرقده.
غنيمت شمارند مردان دعا
كه وشن بود يش تيربلا
وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا من مدينتنا وديارنا أو لتعودن في ملتنا عاد بمعنى صار والظرف خبر أي لتصيرن في أهل ملتنا فإن الرسل لم يكونوا في ملتهم قط إلا أنهم لما لم يظهروا المخالفة لهم قبل الاصطفاء اعتقدوا أنهم على ملتهم فقالوا ما قالوا على سبيل التوهم أو بمعنى رجع والظرف صلة والخطاب لكل رسول ومن آمن به فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد أي لتدخلن في ديننا وترجعن إلى ملتنا وهذا كله تعزية للنبي عليه السلام ليصبر على أذى المشركين كما صبر من قبله من الرسل فأوحى إليهم أي : إلى الرسل ربهم مالك أمرهم عند تناهي كفر الكفرة بحيث انقطع الرجاء عن إيمانهم ، وقال : لنهلكن الظالمين أي المشركين فإن الشرك لظلم عظيم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 403
{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الارْضَ} أي أرض الظالمين وديارهم من بعدهم أي من بعد إهلاكهم عقوبة لهم على قولهم لنخرجنكم من أرضنا وفي الحديث من آذى جاره ورثه الله داره قال الزمخشري في الكشاف ولقد عاينت هذه في مدة قريبة كان لي خال يظلمه غظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه فمات ذلك العظيم وملكني الله ضيعته فنظرت يوماً إلى أبناء خالي يترددون فيها ويدخلون في داره ويخرجون ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله : من آذى جاره ورثه الله داره وحدثتهم وسجدنا شكر الله تعالى.
قال السعدي قدس سره :
تحمل كن أي ناتوان از قوى
كه روزى تواناتر ازوى شوى
لب خشك مظلوم ركو بخند
كه دندان ظالم بخواهند كند
ذلك إشارة إلى الموجب به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم أي ذلك الأمر والوعد محقق ثابت لمن خاف الخوف غم يلحق لتوقع المكروه مقامي موقفي وهو موقف الحساب لأنه موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة يقومون ثلاثمائة عام لا يؤذن لهم فيقعدون أما المؤمنون فيهوّن عليهم كما يهوّن عليهم الصلاة المكتوبة ولهم كراسي يجلسون عليها ويظلل عليهم الغمام ويكون يوم القيامة عليهم ساعة من نهار.
قال في التأويلات لنجمية العوام يخافون دخول النار والمقام فيها والخواص يخافون فوات المقام في الجنة لأنها دار المقامة ، وأخص الخواص يخافون فوات مقام الوصول وخاف وعيد بحذف الياء اكتفاء بالكسرة أي وعيدي بالعذاب وعقابي.
والمعنى أن ذلك حق لمن جمع بين الخوفين أي للمتقين كقوله : والعاقبة للمتقين}(الأعراف : 138).
{وَاسْتَفْتَحُوا} معطوف على فأوحى والضمير للرسل أي استنصروا الله وسألوه الفتح والنصرة على أعدائهم أو للكفار وخاب كل جبار عنيد أي فنصروا عند استفتاحهم وظفروا بما سألوا وأفلحوا وخسر وهلك عند نزول
405
العذاب قومهم المعاندون فالخيبة بمعنى مطلق الحرمان دون الحرمان من المطلوب وإن كان الاستفتاح من الكفرة فهي بمعنى الحرمان من المطلوب غب الطلب وهو أوقع حيث لم يحصل ما توقعوه لأنفسهم إلا لأعدائهم وهذا كمال الخيبة التي عدم نيل المطلوب وإنما قيل وخاب كل جبار عنيد ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالتجبر والعناد لا أن بعضهم ليسوا كذلك وأنه لم تصبهم الخيبة والجبار الذي يجبر الخلق على مراده والمتكبر عن طاعة الله والمتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله.
والعنيد بمعنى المعاند الذي يأبى أن يقول لا إله إلا الله أو المجانب للحق المعادي لأهله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 405
وقال الكاشفي : (نوميد ماند وبى بهره كشت از خلاص هر كرد نكشى كه ستيزنده شود بحق يا معرض از طاعت او).(4/268)
قال الإمام الدميري في حياة الحيوان : حكى الماوردي في كتاب أدب الدنيا والدين أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك تفاءل يوماً في المصحف فخرج قوله تعالى : واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد فمزق المصحف وأنشأ يقول :
أتوعد كل جبار عنيد
فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر
فقل يا رب مزقني الوليد
فلم يلبث أياماً حتى قتل شرّ قتلة وصلب رأسه على قصره ثم على سور بلده انتهى.
قال في إنسان العيون : مروان كان سبباً لقتل عثمان رضي الله عنه وعبد الملك ابنه كان سبباً لقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ووقع من الوليد بن يزيد بن عبد الملك الأمور الفظيعة انتهى.
يقول الفقير : رأى رسول الله بني أمية في صورة القردة فلعنهم فقال : ويل لبني أمية ثلاث مرات ولم يجيء منهم الخير والصلاح إلا من أقل القليل وانتقلت دولتهم بمعاونة أبي مسلم الخراساني إلى آل العباس وقد رآهم رسول الله يتعاورون منبره فسره ذلك وتفصيله في كتاب السير والتواريخ.
من ورائه جهنم هذا وصف حال كل جبار عنيد وهو في الدنيا أي بين يديه وقدامه فإنه معد لجهنم واقف على شفيرها في الدنيا مبعوث إليها في الآخرة أو من وراء حياته وهو ما بعد الموت فيكون وراء بمعنى خلف كما قال الكاشفي : (ازس او دورخست يعني در روز حشر رجوع أو بدان خواهد بود) وحقيقته ما تواري عنك واحتجب واستتر فليس من الأضداد بل هو موضع لا مرعام يصدق على كل من الضدين.
وقال المطرزي : في الوراء فعال ولامه همزة عند سيبويه وأبي علي الفارسي ، وياء عند العامة وهو من ظروف المكان بمعنى خلف وقدام وقد يستعار للزمان.
ويسقى عطف على مقدر جواباً عن سؤال سائل كأنه قيل فماذا يكون إذن ، فقيل يلقى فيها ويسقى من ماء مخصوص لا كالمياه المعهودة صديد هو القيح المختلط بالدم أو ما يسيل من أجساد أهل النار وفروج الزناة وهو عطف بيان لماء أبهم أولاً ثم بين بالصديد تعظيماً وتهويلاً لأمره وتخصيصه بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشد أنواعه أو صفة عند من لا يجيز عطف البيان في النكرات وهم البصريون فإطلاق الماء عليه لكونه بدله في جهنم ويجوز أن يكون الكلام من قبيل زيد أسد فالماء على حقيقته كما قال أبو الليث ويقال ماء كهيئة الصديد وفي الحديث : من فارق الدنيا وهو سكران دخل القبر سكران وبعث من قبره سكران وأمر به إلى النار سكران فيها عين
406
يجري منها القيح والدم هو طعامهم وشرابهم ما دامت السماوات والأرض.
جزء : 4 رقم الصفحة : 405
{يَتَجَرَّعُهُ} استئناف بياني كأنه قيل فماذا يفعل به فقيل يتجرعه وفي التفعل تكلف ومعنى التكلف أن الفاعل يتعانى ذلك الفعل ليحصل بمعاناته كتشجع ، إذ معناه استعمل الشجاعة وكلف نفسه إياها لتحصل فالمعنى.
لغلبتة العطش واستيلاء الحرارة عليه يتكلف جرعه مرة بعد أخرى لا بمرة واحدة لمرارته وحرارته ورائحته المنتنة.
ولا يكاد يسيغه أي لا يقارب أن يسيغه ويبتلعه فضلاً عن الإساغة بل يغص به فيشربه باللتيا والتي ، جرعة غب جرعة ، فيطول عذابه تارة بالحرارة والعطش ، وأخرى بشربه على تلك الحال فإن السوغ انحدار الشراب في الحلق بسهولة وقبول نفس ، ونفيه لا يوجب نفي ما ذكر جميعاً وفي الحديث : إنه يقرب إليه فيتكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شرب قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره ويأتيه الموت أي : أسبابه من الشدائد والآلام من كل مكان ويحيط به من الجهات الست فالمراد بالمكان الجهة أو من كل مكان من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجله وهذا تفظيع لما يصيبه من الألم أي لو كان ثمة موت لكان واحد منها مهلكاً وما هو بميت أي والحال أنه ليس بميت حقيقة فيستريح ومن ورائه من بين يديه أي بعد الصديد.
وقال الكاشفي : (ودرس اوست باوجود نين محنتى كه) عذاب غليظ لا يعرف كنهه أي يستقبل كل وقت عذاباً أشد وأشق مما كان قبله ففيه رفع ما يتوهم من الخفة بحسب الاعتبار كما في عذاب الدنيا.
وعن الفضيل هو قطع الأنفاس وحبسها على الأجساد ولذا جاء الصلب أشد أنواع العذاب نعوذ بالله.
واستثنى من شدة العذاب عما النبي عليه السلام أبو لهب وأبو طالب.
أما أبو لهب فكان له جارية يقال لها ثويبة وهي أول من أرضعته عليه السلام بعد إرضاع أمه له فبشرته بولادته عليه السلام وقالت له أشعرت أن آمنة ولدت ولداً وفي لفظ غلاماً لأخيك عبد الله ، فأعتقها أبو لهب وقال أنت حرة ، فجوزي بتخفيف العذاب عنه يوم الاثنين بأن يسقى ماء في جهنم في تلك الليلة أي ليلة الاثنين في مثل النقرة التي بين السبابة والإبهام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 407
وفي المواهب رؤى أبو لهب بعد موته في المنام فقيل له ما حالك؟ قال في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين وامص من بين اصبعي هاتين ماء وأشار برأس أصبعيه وأن ذلك باعتاقي لثويبة عند ما بشرتني بولادة النبي بإرضاعها له كذا في إنسان العيون.(4/269)
وأما أبو طالب ، فقال العباس رضي الله عنه : قلت يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك قال : نعم هو في ضحضاح من النار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار وفي الحديث : إن الكافر يخفف عنه العذاب بالشفاعة لعل هذا يكون مخصوصاً بأبي طالب كما في شرح المشارق لأبي الملك.
قال في إنسان العيون قبول شفاعته عليه السلام في عمه أبي طالب عدّ من خصائصه عليه السلام فلا يشكل بقوله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين}(المدثر : 48) وفي الحديث : "إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب وأخ لي كان في الجاهلية" يعني أخاه من الرضاعة من حليمة ويجوز أن يكون ذكر شفاعته لأبويه كان قبل إحيائهما وإيمانهما به وكذا لأخيه فإنه كان قبل أن يسلم وقد صح أن حليمة وأولادها أسلموا انتهى ، الكل في "الإنسان" وفي الحديث : "يقال لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفدي به؟ فيقول نعم
407
فيقال أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً فما أردت أن لا تشرك بي شيئاً" كما في "المصابيح".
{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} أي : صفتهم وحالهم العجيبة الشأن التي هي كالمثل في الغرابة وهو مبتدأ خبره قوله تعالى أعمالهم كرماد كقولك صفة زيد عرضه مهتوك وماله منهوب أو خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم مثلهم ، وقوله أعمالهم جملة مستأنفة مبنية على سؤال من يقول كيف مثلهم فقيل أعمالهم كرماد اشتدت به الريح الاشتداد هنا بمعنى العدو والباء للتعدية أي حملته وأسرعت في الذهاب به.
وقال الكاشفي : (همو حا كستريست كه سخت بكذر دبروباد) في يوم عاصف ريحه أي شديد قوي فحذفت الريح ووصف اليوم بالعصوف مجازاً كقولك يوم ماطر وليلة ساكنة وإنما السكون لريحها.
لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا في الدنيا من أعمال الخير على شيء ما أي لا يرون له أثراً من ثواب وتخفيف عذاب كما لا يرون أثراً من الرماد المطير في الريح ذلك أي : ما دل عليه التمثيل دلالة واضحة من ضلالهم.
يعني كفرهم وأعمالهم المبنية عليه وعلى التفاخر والرياء مع حسبانهم محسنين وهو جهل مركب وداء عضال حيث زين لهم سوء أعمالهم فلا يستغفرون منها ولا يتوبون بخلاف عصاة المؤمنين ولذا قال هو الضلال البعيد صاحبه عن طريق الحق والصواب بمراحل أو عن نيل الثواب فأسند البعد الذي هو من أحوال الضال إلى الضلال الذي هو فعله مجازاً مبالغة ، شبه الله صنائع الكفار من الصدقة وصلة الرحم وعتق الرقاب وفك الأسير وإغاثة الملهوفين وعقر الإبل للأضياف ونحو ذلك مما هو من باب المكارم في حبوطها وذهابها هباء منثوراً لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاصف (يعني مانند توده خاكسرست كه بادسخت بران وزد بهوا برده در أطراف را كنده سازد وهي كس برجمع آن قادر نبود وازان نفع نكيرد) فكما لا ينتفع بذلك الرماد المطير كذلك لا ينتفع بالأعمال المقرونة بالكفر والشرك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 407
ففيه رد أعمال الكفار وأعمال أهل البدع والأهواء لاعتقادهم السوء فدل على أن الأعمال مبنية على الإيمان وهو على الاخلاص.
(كرنباشد نبيت خالص ه حاصل از عمل).
روى الطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه أي أخا أبي جهل بن هشام أتى البني يوم حجة الوداع فقال يا رسول الله إنك تحث على صلة الرحم والإحسان إلى الجار وإيواء اليتيم وإطعام الضيف وإطعام المسكين وكل هذا مما يفعله هشام يعني والده فما ظنك به يا رسول الله فقال عليه السلام : كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله فهو جذوة من النار وقد وجدت عمي أبا طالب في طمطام من النار فأخرجه الله لمكانه منى وإحسانه إليّ فجعله في ضحضاح من النار أي : مقدار ما يغطي قدميه وهذا مخصوص بأبي طالب كما سبق حكى أن عبد الله بن جدعان وهو ابن عم عائشة رضي الله عنها كان في ابتداء أمره صعلوكاً وكان مع ذلك شريراً فاتكاً يجنى الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته فخرج هائماً في شعاب مكة يتمنى الموت فرأى شقاً في جبل فلما قرب منه حمل عليه ثعبان عظيم له عينان تتقدان كالسراجين فلما تأخر انساب أي رجع عنه فلا زال كذلك حتى غلب على ظنه أن هذا مصنوع فقرب منه وأمسك بيده فإذا هو من
408
ذهب وعيناه ياقوتتان فكسره ثم دخل المحل الذي كان هذا الثعبان على بابه فوجد فيه رجالاً من الملوك ووجد في ذلك المحل أموالاً كثيرة من الذهب والفضة وجواهر كثيرة من الياقوت واللؤلؤ والزبرجد فأخذ منه ما أخذ ثم اعلم ذلك الشق بعلامة وصار ينقل منه شيئاً فشيئاً ووجد في ذلك الكنز لوحامن رخام فيه أنا نفيلة بن جرهم بن قحطان بن هود نبي الله عشت خمسمائة عام وقطعت غور الأرض ظاهرها وباطنها في طلب الثروة والمجد والملك فلم يكن ذلك منجياً من الموت.
جهان أي سر ملك جاود نيست
زدنيا وفاداري اميد نيست
نه بر باد رفتى سحركاه وشام(4/270)
سرير سليمان عليه السلام
بآخر نديدي كه برباد رفت
خنك آنكه بادانش وداد رفت
ثم بعث عبد الله بن جدعان إلى أبيه بالمال الذي دفعه في جناياته ووصل عشيرته كلهم فسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس ويفعل المعروف ، وكانت جفنته يأكل منها الراكب على البعير وسقط فيها صبي فغرق أي مات قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ينفعه ذلك يوم القيامة فقال لا لأنه لم يقل يوماً يا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين أي لم يكن مسلماً لأنه ممن أدرك البعثة ولم يؤمن كما في إنسان العيون روى لما أتى عليه السلام بسبايا طيّ وقعت جارية في السبى فقالت : يا محمد إن رأيت أن تخلى عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني بنت سيد قومي وإن أبي كان يحمي الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة قط إني بنت حاتم طي فقال لها رسول الله : يا جارية هذه صفة المؤمنين حقاً ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه وقال : خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق وإن الله يحب مكارم الأخلاق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 407
قال في أنيس الوحدة : وجليس الخلوة قيل لما عرج النبي عليه السلام اطلع على النار فرأى حظيرة فيها رجل لا تمسه النار فقال عليه السلام ما بال هذا الرجل في هذه الحظيرة لا تمسه النار فقال جبريل عليه السلام هذا حاتم طي صرف الله عنه عذاب جهنم بسخائه وجوده.
قال السعدي :
كنون بركف دست نه هره هست
كه فردا بدندان كزى شت دست
مكردان غرب ازدرت بي نصيب
مباداكه كردى بدرها غريب
نه خواهنده بر در ديكران
بشكران خواهنده از درمران
ريشان كن امروز كنجينه ست
كه فردا كليدش نه دردست تست
جزء : 4 رقم الصفحة : 407
{أَلَمْ تَرَ} خطاب لرسول الله والمراد أمته بدليل يذهبكم والأمة أمة الدعوة والرؤية رؤية القلب.
وفي التأويلات النجمية يخاطب روح النبي فإن أول ما خلق الله روحه ثم خلق السماوات والأرض وروحه ناظر مشاهد خلقتها ، أي : ألم تعلم أو لم تنظر والاستفهام للتقرير أي قدر رأيت أن الله خلق السموات والأرض قال في بحر العلوم آثار فعل الله بالسموات والأرض وسعة الأخبار به متواترة فقامت لك مقام المشاهدة.
بالحق ملتبسة بالحكمة البالغة والوجه الصحيح الذي ينبغي أن يخلق عليه لا باطلاً ولا عبثاً.
إن يشأ
409
يذهبكم يعدمكم بالكلية أيها الناس ويأت بخلق جديد أي يخلق بدلكم خلقاً آخر من جنسكم آدميين أو من غيره خيراً منكم وأطوع .
وفي التأويلات النجمية3 أن يشأ يذهبم أيها الناس المستعد لقبول فيض اللطف والقهر ويأتي بخلق جديد مستعد لقبول فيض لطفه وقهره من غير الإنسان انتهى.
رتب قدرته على ذلك على خلق السماوات والأرض على هذا النمط البديع إرشاداً إلى طريق الاستدلال فإن من قدر على خلق مثل هاتيك الأجرام العظيمة كان على تبديل خلق آخر بهم أقدر ولذلك قال :
وما ذلك أي إذهابكم والإتيان بخلق جديد مكانكم على الله بعزيز بمتعذر أو متعسر ، بل هو هين عليه يسير فإنه قادر لذاته على جميع الممكنات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
كار اكر مشكل اكر آسانست
همه درقدرت او يكسانست
ومن هذا شأنه حقيق بأن يؤمن به ويعبد ويرجى ثوابه ويخشى عقابه.
والآية تدل على كمال قدرته تعالى وصبوريته حيث لا يؤاخذ العصاة على العجلة.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي موسى لا أحد اصبر على أذى سمعه من الله إنه يشرك به ويجعل له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم ثم إن تأخير العقوبة يتضمن لحكم منها رجوع التائب وانقطاع حجة المصر.
فعلى العاقل أن يخشى الله تعالى على كل حال فإنه ذو القهر والكبرياء والجلال.
وعن جعفر الطيار رضي الله عنه قال : كنت مع النبي في طريق فاشتد علي العطش فعلمه النبي عليه السلام وكان حذاءنا جبل فقال عليه السلام : بلغ مني السلام إلى هذا الجبل وقل له يسقيك إن كان فيه ماء قال : فذهبت إليه وقلت السلام عليك أيها الجبل فقال الجبل بنطق لبيك يا رسول رسول الله فعرضت القصة فقال بلغ سلامي إلى رسول الله قل له منذ سمعت قوله تعالى : فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة}(البقرة : 24) بكيت بخوف أن أكون من الحجارة التي هي وقود النار بحيث لم يبق في ماء ، ثم إن هذا التهديد في الآية إنما نشأ من الكفر والمعصية ولو كان مكانهما الإيمان والطاعة لحصل التبشير وكل منهما جار إلى يوم القيامة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 409(4/271)
وعن إسماعيل المحاملي قال رأيت في المنام كأني على فضاء من الأرض انظر شرق الأرض وغربها وكأن شخصاً نزل من السماء فبسط يمينه وشماله إلى أطراف الأرض فجمع بكلتا يديه شيئاً من وجه الأرض ثم ضمهما إلى صدره وارتفع إلى السماء ثم نزل كذلك وفعل كالأول ثم نزل في المرة الثالثة وبسط يديه وهم بأن يجمع شيئاً ثم ترك وأرسل يديه ولم يأخذ.
وهمّ بالصعود فقال ألا تسألني فقلت بلى من أنت قال أنا ملك أرسلني الله في المرة الأولى أن أخذ الخير والبركة عن وجه الأرض فأخذت ، وفي الثانية أن أخذ الشفقة والرحمة ، فأخذت وفي الثالثة أن آخذ الإيمان فنوديت أن محمداً يشفع إليّ وإني قد شفعته فلا أسلب الإيمان من أمته فاترك فتركت فصعد إلى السماء ويداه مرسلتان كذا في "زهرة الرياض" وعند قرب القيامة يسلب الله الإيمان والقرآن فيبقى الناس في صورة الآدميين دون سيرتهم ثم يذهبهم الله جميعاً ويظهر أن العزة والملكتعالى.
قال الجامي :
باغير او اضافت شاهى بود نانك
بريك دو وب اره ز شطرنج نام شاه
جزء : 4 رقم الصفحة : 409
[إبراهيم : 48-68]{وَبَرَزُوا} أي : بزر الموتى من قبورهم يوم القيامة إلى أرض المحشر أي يظهرون
410
ويخرجون عند النفحة الثانية حين تنتهي مدة لبثهم في بطن الأرض ، قال الله تعالى : ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون}(الزمر : 68) وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوعه [الكهف : 12-47]{لامْرِ اللَّهِ} ومحاسبته فاللام تعليلية ، وصلة برزوا محذوفة أي برزوا من القبور الموتى جميعاً أي جميعهم من المؤمنين والكافرين ، كما في تفسير الكاشفي أو القادة والاتباع اجتمعوا للحشر والحساب وهذا كقوله وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً}(الكهف : 47) كما في "تفسير أبي الليث" {فَقَالَ الضُّعَفَاؤُا} الاتباع والعوام جمع ضعيف والضعف خلاف القوة ، وقد يكون في النفس وفي البدن وفي الحال وفي الرأي والمناسب للمقام هو الأخير فإنه لو كان في رأيهم قوة لما اتبعوهم في تكذيب الرسل والإعراض عن نصائحهم.
يقول الفقير في هذه الشرطية نظر لأنه ربما يكون الرجل قوة رأى وجودة فكر مع إنه لا يستقل به لكونه ضعيف الحال خائفاً من سطوة المتغلبة من أهل الكفر والضلال فالأولى أن يكون الضعيف بمعنى المستذل المقهور كما في قوله تعالى : والمستضعفين}(النساء : 75) {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} أي لرؤسائهم المستكبرين الخارجين عن طاعة الله إنا كنا في الدنيا لكم تبعاً جمع تابع كخدم جمع خادم وهو المستنّ بآثار من يتبعه أي تابعين في تكذيب الرسل والأعراض عن نصائحهم مطيعين لكم فيما أمرتمونا به.
فهل أنتم (س هي هستيد شما) مغنون دافعون عنا من عذاب الله من شيء من الأولى للبيان واقعة موقع الحال قدمت على صاحبها لكونه نكرة والثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله والفاء للدلالة على سببية الاتباع للأغناء ، والمراد التوبيخ والعتاب لأنهم كانوا يعلمون أنهم لا يغنون عنهم شيئاً مما هم فيه قالوا أي المستكبرون جواباً عن معاتبة الاتباع واعتذارا عما فعلوا بهم يا قوم لو هدينا الله إلى الإيمان ووفقنا له لهديناكم ولكن ضللنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترنا لأنفسنا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 410
وقال الكاشفي : (اكر خداي تعالى نمودى طريق نجات را از عذاب هر آيينه ما نيز شمرا راه مينموديم بدان أما طرق خلاصي مسدود است وشفاعت ما درين دركاه مردود).
وفي التأويلات النجمية قالوا يعني أهل البدع للمتقلدة لو هدينا الله إلى طريق أهل السنة والجماعة وهو الطريق إلى الله وقربته لهديناكم إليه وفيه إشارة إلى أن الهداية والضلالة من نتائج لطف الله وقهره ليس إلى أحد من ذلك شيء فمن شاء جعله مظهراً لصفات لطفه ومن شاء جعله مظهراً لصفات قهره.
قال الحافظ :
درين من نكنم سر زنش بخودرويى
نانكه رورشم ميدهند ميرويم
سواء علينا أجزعنا في طلب النجاة من ورطة الهلاك والعذاب والجزع عدم الصبر على البلاء.
أم صبرنا على ما لقينا انتظاراً للرحمة أي مستو علينا الجزع والصبر في عدم الانجاء ففيه إقناط الضعفاء ، والهمزة وأم لتأكيد لتسوية ونحوه اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم ولما كان عتاب الاتباع من باب الجزع ذيلوا جوابهم ببيان أن لا جدوى في ذلك فقالوا ما لنا من محيص من منجى ومهرب من العذاب.
وبالفارسية (كريز كاهى وناهى)
411
من الحيص وهو العدول على جهة الفرار يقال حاص الحمار إذا عدل بالفرار.
وفي التأويلات : ما لنا من محيص من مخلص للنجاة لأنه ضاع منا آلة النجاة وأوانها ويجوز أن يكون قوله سواء علينا كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً ويؤيده أنهم يقولون تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم فيقولون تعالوا نصبر أي رجاء أن يرحمهم الله بصبرهم على العذاب كما رحم المؤمنين بصبرهم على الطاعات فيصبرون كذلك فلا ينفعهم (يعني ازهي يك فائده نمى رسد) فعند ذلك يقولون ذلك.
قال السعدي قدس سره :(4/272)
فراشو و بيني در صلح باز
كه ناكه درتوبه كردد فراز
تويش از عقوبت در عفو كوب
كه سودى ندار دفغان زير وب
كنون كردبايد عمل را حساب
نه روزي كه منشور كردد كتاب
جزء : 4 رقم الصفحة : 410
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ} الذي أضل الضعفاء والمستكبرين لما قضي الأمر أي أحكم وفرغ منه وهو الحساب ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أو أمر أهل السعادة بالسعادة وأمر أهل الشقاوة بالشقاوة.
قال الكاشفي : (تمامت دوز خيان مجتمع شده زبان ملامت بر إبليس دراز كنند إبليس برمنبر آتشين برآيد وكويد باشقياء أنس كه اي ملامت كنندكان) إن الله وعدكم وعد الحق (وعده راست ودرست كه حشر وجزا خواهد بود) فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم أي وعد الباطل وهو أن لا بعث ولا حساب ، ولئن كان ، فالأصنام شفعاؤكم ولم يصرح ببطلانه لما دل عليه قوله فاخلفتكم أي موعدي على حذف المفعول الثاني أي نقضته والإخلاف حقيقة هو عدم انجاز من يقدر على إنجاز وعده وليس الشيطان كذلك فقوله أخلفتكم يكون مجازاً جعل تبين خلف وعده كالإخلاف منه كأنه كان قادراً على إنجازه وأني له ذلك (يعني امروز ظاهر شدكه من دروغ كفته بودم) وما كان لي عليكم من سلطان أي تسلط وقهر فالجئكم إلى الكفر والمعاصي.
قال في بحر لعلوم لقائل أن يقول : قول الشيطان هذا مخالف لقوله الله إنما سلطانه على الذين يتولونه فما حكم قول الشيطن أحق هو أم باطل على أنه لا طائل تحته في النطق بالباطل في ذلك المقام انتهى.
يقول الفقير : جوابه أن نفي السلطان بمعنى القهر والغلبة لا ينافي إثباته بمعنى الدعوة والتزيين فالشيطان ليس له سلطان بالمعنى الأول على المؤمنين والكافرين جميعاً وله ذلك بالمعنى الثاني على الكفار فقط كما دل عليه قوله تعالى : إنما سلطانه على الذين يتولونه}(النحل : 100) وأما المؤمنون وهم أولياء الله فيتولون الله بالطاعة فهم خارجون عن دائرة الاتباع بوسوسته إذ هو يجري في عالم الصفات وهو عالم الأفعال ، وأما عالم الذات فيخلص للمؤمن فأني للشيطان سبيل إليه ، ولو كان لآمن فافهم هداك الله [إبراهيم : 22-60]{إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ} إلا دعائي إياكم إلى طاعتي بوسوسة وتزيين وهو ليس من جنس السلطان والولاية في الحقيقة فاستجبتم لي اجبتم لي طوعاً واختياراً فلا تلوموني فيما وعدتكم بالباطل لأني خلقت لهذا ، ولأني عدو مبين لكم وقد حذركم الله عداوتي كما قال لا تعبدوا الشيطان}(يس : 60) لا يفتننكم الشيطان ومن تجرد للعداوة لا يلام إذا دعا إلى أمر قبيح {وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ} يعني باختياركم المعصية وحبكم لها صدقتموني فيما كذبتكم
412
وكذبتم الله فيما صدقكم ، وذلك لأن مقالي كان ملائماً لهوى أنفسكم وكلام الحق مخالف لهواها ومر على مزاق النفوس ، أي فأنتم أحق باللوم مني ما أنا بمصرخكم بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب وما أنتم بمصرخي مما أنا فيه يعني لا ينجي بعضنا بعضاً من عذاب الله والاصراخ الاغاثة ، والمصرخ بالفارسية (فرياد رس) وإنما تعرض لذلك مع إنه لم يكن في حيز الاحتمال مبالغة في بيان عدم إصراخه إياهم وإيذاناً بأنه أيضا مبتلى بمثل ما ابتلوا به ومحتاج إلى الإصراخ فكيف من إصراخ الغير إني كفرت اليوم بما أشركتمون باشراككم إياي الله في الطاعة.
وبالفارسية : (بانه شريك مى كرديدمرا باخداي تعالى درفرمان بردارى) من قبل أي قبل هذا اليوم أي في الدنيا بمعنى تبرأت منه واستنكرته (يعني بيزاز شدم از شرك شما).
جزء : 4 رقم الصفحة : 412
قال في الإرشاد يعني أن إشراككم لي بالله هو الذي يعصمكم في نصرتي لكم بأن كان لكم على حق حيث جعلتموني معبوداً ، وكنت أودّ ذلك وأرغب فيه فاليوم كفرت بذلك ولم أحمده ولم أقبله منكم بل تبرأت منه ومنكم فلم يبقى بيني وبينكم علاقة إن الظالمين لهم عذاب أليم تتمة كلامه أو ابتداء كلام من الله تعالى ، والظالمون هم الشيطان ومتبعوه من الإنس لأن الشيطان وضع الدعوة إلى الباطل في غير موضعها ، وإنهم وضعوا الاتباع في غير موضعه وفي حكاية أمثاله لطف للسامعين وإيقاظ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم.
هركه نقص خويش راديد وشناخت
اندر استكمال خودده اسب تاخت
هركه آخر بين تر او مسعود تر
هركه آخور بين تر او مبعود تر
ثم أخبر عن حال المؤمنين ومآلهم بقوله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 412(4/273)
{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح والمدخلون هم الملائكة.
جنات (در بهشتهاى كونا كون كه) تجري من تحتها الأنهار (ميرود اززير درختان جويها) خالدين فيها (درحالتى كه جاويدان باشندران) بإذن ربهم متعلق بادخل أي بأمره أو بتوفيقه وهدايته وفيه إشارة إلى أن الإنسان إذا خلى وطبه لا يؤمن ولا يعمل الصالحات ، والجنات ، إن لم تكن العناية لا يبقى أحد في جنة القلب ساعة كما لم يبق آدم في الجنة خالداً كما في التأويلات النجمية تحيتهم فيها سلام التحية دعاء بالتعمير وإضافتها إلى الضمير من إضافة المصدر إلى المفعول أي تحييهم الملائكة في الجنات بالسلام من الآفات أو يحيي المؤمنون بعضهم بعضاً بالسلام والسلام تحية المؤمنين في الدنيا أيضاً.
وأصله صدر من أبينا آدم عليه السلام على ما روى وهب بن منبه أن آدم لما رأى ضياء نور نبينا سأل الله عنه فقال هو نور النبي العربي محمد من أولادك ، فالأنبياء كلهم تحت لوائه فاشتاق آدم إلى رؤيته فظهر نور النبي عليه السلام في أنملة مسبحة آدم فسلم عليه فرد الله سلامه من قبل النبي عليه السلام فمن هنا بقي السلام سنة لصدوره عن آدم وبقى رده فريضة لكونه عن الله تعالى.
ونظيره ركعات الوتر فإنه عليه السلام لما أم الأنبياء في بيت المقدس أوصاه موسى عليه السلام أن يصلي له ركعة عند سدرة المنتهى قال الله تعالى : فلا تكن في مرية من لقائه}(السجدة : 23) أي لقاء موسى ليلة المعراج فلما صلى ركعة ضم إليها
413
ركعة أخرى لنفسه فلما صلاهما أوحى الله تعالى إليه أن صل ركعة أخرى ، فلذلك صار وتداً كالمغرب فلما قام إليها ليصليها غشاه الله بالرحمة والنور فانحل يداه بلا اختيار منه فلذلك كان رفع اليد سنة وإليه أشار النبي عليه السلام بقوله : "إن الله زادكم صلاة ألا وهي الوتر" ، وقيل لما صلى الركعة الثانية وقام إلى الثالثة رأى والديه في النار ففزع وانحل يداه ثم جمع قلبه فكبر وقال : "اللهم أنا نستعينك" الخ كما في "التقدمة شرح المقدمة" فما صلاه عليه السلام لنفسه صار سنة وما صلاه لموسى صار واجباً وما صلاهتعالى صار فريضة ، ولما كان أصل هذه الصلاة وصية موسى أطلق عليها الواجب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 413
وقال الفقهاء : يقول في الوتر نويت صلاة الوتر للاختلاف في وجوبه.
{أَلَمْ تَرَ} ألم تشاهد بنور النبوة يا محمد كما في التأويلات النجمية.
وقال الكاشفي : (آيا نديدي ونداسنتى أي بنده بينا وداناكه براي تفهيم شما) كيف ضرب الله مثلاً بين شبها ووضعه في موضعه اللائق به وكيف في محل النصب بضرب لا بألم تر لما في كيف من معنى الاستفهام فلا يتقدم عليه عامله.
كلمة طيبة منصوب بمضمر والجملة تفسير لقوله ضرب الله مثلاً كقولك.
شرف الأمير زيداً كساه حلة وحمله على فرس أي جعل كلمة طيبة وهي كلمة التوحيد أي شهادة أن لا إله إلا الله ويدخل فيها كل كلمة حسنة كالقرآن والتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة إلى الإسلام ونحوها مما أعرب عن حق أو دعا إلى صلاح كشجرة طيبة أي حكم بأنها مثلها لا أنه تعالى صيرها مثلها قال عليه السلام : مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمر لا ريح لها وطعمها حلو ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل النمافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر والحنظل بالفارسية (هندوانه أبو جهل) ثم إن النخلة أكرم الأشجار على الله فإنها خلقت من فضلة طينة آدم وولدت تحتها مريم كما ورد في أحاديث المقاصد الحسنة ولذا جاء ثمرتها أحلى وأطيب من سائر الثمار.
أصلها ثابت أي : أسفلها ذاهب بعروقه في الأرض متمكن فيها وفرعها أي : أعلاها ورأسها في السماء في جهة العلو.
جزء : 4 رقم الصفحة : 413
{تُؤْتِى أُكُلَهَا} تعطي ثمرها كل حين وقته الله لإ ثمارها وهي السنة الكاملة ؛ لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة ومدة اطلاعها إلى وقت صرامها ستة أشهر.
وقال بعضهم : كل حين أي ينتفع بها على الأحيان كلها ، لأن ثمر النخل يؤكل أبداً ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاء : وفي كل ساعة إما تمراً أو رطباً أو بسراً كذلك عمل المؤمن يصعد أول النهار وآخره لا ينقطع أبداً كصعود هذه الشجرة ولا يكون في كلمة الإخلاص زيادة ولا نقصان لكن يكون لها مدد وهو التوفيق بالطاعات في الأوقات كما يحصل النماء لهذه الشجرة بالتربية بإذن ربها بإرادة خالقها وتيسيره وتكوينه ويضرب الله الأمثال للناس (وميراند خداي تعالى مثلها را يعني بيان ميكند براي مردمان).
لعلهم يتذكرون يتفطنون بضرب الأمثال لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير فإنه تصوير للمعاني بصور المحسوسات.
وفي الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال وهي في كلام الأنبياء والعلماء والحكماء كثيرة لا تحصى.(4/274)
جزء : 4 رقم الصفحة : 413
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} هي كلمة الكفر ويدخل
414
فيها كل كلمة قبيحة من الدعاء إلى الكفر وتكذيب الحق ونحوهما كشجرة خبيثة كمثل شجرة خبيثة أي صفتها كصفتها وهي الحنظل ويدخل فيها كل ما لا يطيب ثمرها من الكسوب وهو نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض ، ويقال له اللبلاب ، والعشقة والثوم قد يقال إنها من النجم لا الشجر والظاهر إنه من باب المشاكلة.
قال في التبيان وخبثها غاية مرورتها ومضرتها وكل ما خرج عن اعتداله فهو خبيث.
وقال الشيخ الغزالي رحمه الله : شبه العقل بشجرة طيبة والهوى بشجرة خبيثة فقال : ألم تر كيف إلخ انتهى.
فالنفس الخبيثة الأمارة كالشجرة الخبيثة تتولد منها الكلمة الخبيثة وهي كلمة تتولد من خباثة النفس الخبيثة الظالمة لنفسها بسوء اعتقادها في ذات الله وصفاته ، أو باكتساب المعاصي والظالمة لغيرها بالتعرض لعرضه أو ماله.
اجتثت الجث القطع باسئصال أي اقتلعت جثتها وأخذت بالكلية.
من فوق الأرض لكون عروقها قريبة منها.
مالها من قرار استقرار عليها.
يقال قر الشيء قراراً نحو ثبت ثباتاً.
قال الكاشفي : (نيست اورا ثبات واستحكام يعني نه بيخ دارد برزمين ونه شاخ درهوا)
نه بيخى كه آن باشد اورا مدار
نه شاخى كه كردد بدان سايه دار
كيا هيست افتاده بر روى خاك
ريشان وبى حاصل وخورناك
(حق سبحانه وتعالى تشبيه كرد درخت ايما نراكه أصل آن در دل مؤمن ثابتست وأعمال أو بجانب أعلاي عليين مرتفع وثواب أو در هر زمان بدو واصل بدرخت خرماكه بيخ أو مستقراست درمنبت أو وفرع متوجه بجانب علو ونفع أو در هر وقت دهنده بخلق وتمثيل نموده كلمه كفر وعبادت أصنام راكه دردل كافر مقلد بجهت عدم حجت وبرهان بران ثباتي ندارد وعملي كه نيز بمقصد قبول رسد ازو صادر نبميشود بشجره حنظل كه نه اصل اورا قراريست ونه فرع اورا اعتباري)
نهال سايه ورى شرع ميوه دارد
نان لطيف كه برهي شاخسارى نيست
درخت زندقه شاخيست خشك وبى سايه
جزء : 4 رقم الصفحة : 414
كه يش هيكسش هي اعتباري نيست
وفي الكواشي قالوا : شبه الإيمان بالشجرة لأن الشجرة لا بد لها من أصل ثابت وفرع قائم ورأس عال فكذا الايمان لا بد له من تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالأبدان.
وقال أبو الليث : المعرفة في قلب المؤمن العارف ثابتة بل هي أثبت من الشجرة في الأرض لأن الشجرة تقطع ومعرفة العارف لا يقدر أحد أن يخرجها من قلبه إلا المعرف الذي عرفه.
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت هو كلمة التوحيد لأنها راسخة في قلب المؤمن كما قال الكاشفي (قول ثابت كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله اسكت كه خداي تعالى بران ثابت ميدارد مؤمنانرا).
في الحيوة الدنيا أي : قبل الموت فإذا ابتلوا ثبتوا ولم يرجعوا عن دينهم ولو عذبوا أنواع العذاب كمن تقدمنا من الأنبياء والصالحين ، مثل زكريا ويحيى وجرجيس وشمعون والذين قتلهم أصحاب الأخدود والذين مشطت لحومهم بأمشاط الحديد.
قال سعدي المفتي : روى أن جرجيس كان من الحواريين علمه الله الاسم الذي يحيي به الموتى وكان بأرض الموصل جبار يعبد الصنم فدعاه جرجيس إلى عبادة الله وحده فأمر به فشد جلاه ويداه ودعا بأمشاط من الحديد فشرح بها
415
صدره ويديه ثم صب عليه ماء الملح فصبره الله تعالى ثم دعا بمسامير من حديد فسمر بها عينيه وأذنيه فصبره الله تعالى عليه ثم دعا بحوض من نحاس فأوقد تحته حتى أبيض ثم القي فيه فجعله الله برداً وسلاماً ثم قطع أعضاءه إرباً إرباً فأحياه الله تعالى ودعاهم إلى الله تعالى ولم يؤمن الملك فأهلكه الله مع قومه بأن قلب المدينة عليهم وجعل عاليها سافلها.
وشمعون كان من زهاد النصارى وكان شجاعا يحارب عبدة الأصنام من الروم ويدعوهم إلى الدين الحق ، وكان يكسر بنفسه جنوداً مجندة واحتال عليه ملك الروم بأنواع من الحيل ولم يقدر عليه إلى أن خدع امرأته بمواعيد فسألته في وقت خلوة كيف يغلب عليه ، فقال أن أشد بشعري في غير حال الطهارة فإني حينئذٍ لم أقدر على الحل فأحاطوا به في منامه وشدوه كذلك والقوه من قصر الملك فهلك.
وفي نفائس المجالس عمدوا إلى قتله بالأذية فدعا الله تعالى أن ينجيه من الأعداء فأنجاه الله تعالى فأخذ عمود البيت وخرّ عليهم السقف فهلكوا.
وفي الآخرة أي : يثبتهم في القبر عند سؤال منكر ونكير وفي سائر المواطن والقبر من الآخرة فإنه أول منزل من منازل الآخرة.
ويضل الله الظالمين أي يخلق الله في الكفرة والمشركين الضلال فلا يهديهم إلى الجواب بالصواب كما ضلوا في الدنيا ويفعل الله ما يشاء من تثبت أي خلق ثبات في بعض واضلال أي خلق ضلال في آخرين من غير اعتراض عليه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 414(4/275)
وفي التأويلات النجمية يمكنهم في مقام الإيمان بملازمة كلمة لا إله إلا الله والسير في حقائقها في مدة بقائهم في الدنيا وبعد مفارقة البدن ، يعني أن سير أصحاب الأعمال ينقطع عند مفارقة الروح عن البدن وسير أرباب الأحوال يثبت بتثبيت الله أرواحهم بأنوار الذكر وسيرهم في ملكوت السموات والأرض بل طيرهم في عالم الجبروت بأجنحة أنوار الذكر وهي جناحا النفي والإثبات فإن نفيهم بالله عما سواه وإثباتهم بالله في الله لا ينقطع أبد الآباد.
والآية : دليل على حقية سؤال القبر وعلى تنعيم المؤمنين في القبر فإن تثبيت الله عبده في القبر بالقول الثابت هو النعمة كل النعمة.
قال الفقيه أبو الليث قد تكلم العلماء في عذاب القبر.
قال بعضهم يجعل الروح في جسده كما كان في الدنيا ويجلس أي يأتيه ملكان أسودان أزرقان فظان غليظان أعينهما كالبرق الخاطف وأصواتها كالرعد القاصف معهما مرزبة فيقعدان الميت ويسألانه فيقولان له من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول المؤمن الله ربي والإسلام ديني ومحمد نبي فذلك هو الثبات وأما الكافر والمنافق فيقول لا أدري فيضرب بتلك المرزبة فيصيح صيحة يسمعها ما بين الخافقين إلا الجن والأنس.
وقال بعضهم : يكون الروح بين جسده وكفنه.
وقال بعضهم : يدخل الروح في جسده إلى صدره وفي كل ذلك قد جاءت الآثار والصحيح أن يقر الإنسان بعذاب القبر ولا يشغل بكيفيته.
وفي أسئلة الحكم : الأرواح بعد الموت ليس لها نعيم ولا عذاب حسي جسماني لكن ذلك نعيم أو عذاب معنوي حتى تبعث أجسادها فترد إليها فتنعم عند ذلك حساً ومعنى.
ألا ترى إلى بشر الحافي رحمه الله لما رؤى في النوم قيل ما فعل الله بك قال غفر لي وأباح لي نصف الجنة يعني روحه منعمة بالجنة فإذا حشر ودخل الجنة ببدنه يكمل النعيم بالنصف الآخر ، وهل عذاب القبر دائم أو ينقطع؟ فالجواب نوع دائم بدليل قوله تعالى :
416
النار يعرضون عليها غدواً وعشيا}(غافر : 46) ونوع منقطع وهو بعض العصاة الذين خفت جرائمهم فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار أو ثواب بحج أو قراءة تصل إليه من بعض أقاربه أو غيرهم كما في "الفتح القريب" وفي الحديث : "اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرّد إلى أرذل العمل وأعوذ بك من فتنة الدجال وأعوذ بك من عذاب القبر" ، وكان صلى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال : "استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبت فإنه الآن يسال" ـ ـ وروى ـ ـ أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما دفن ولده إبراهيم وقف على قبره فقال : "يا بني القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب إناوإنا إليه راجعون يا بني قل الله ربي والإسلام ديني ورسول الله أبي" فبكت الصحابة منهم عمر رضي الله عنه حتى ارتفع صوته فالتفت إليه رسول الله فقال : "ما يبكيك يا عمر" فقال : يا رسول الله هذا ولدك وما بلغ الحلم ولا جرى عليه القلم ويحتاج إلى تلقين مثلك يلقنه التوحيد في مثل هذا الوقت ، فما حال عمر وقد بلغ الحلم وجرى عليه القلم وليس له ملقن مثلك فبكى النبي عليه السلام وبكت الصحابة معه فنزل جبريل بقوله تعالى : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا} بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة فتلا النبي عليه السلام الآية فطابت الأنفس وسكنت القلوب وشكروا الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 414
وقال بعضهم : الأنبياء والصبيان والملائكة لا يسألون وقد اختص نبينا بسؤال أمته عنه بخلاف بقية الأنبياء وما ذاك إلا أن الأنبياء قبل نبينا كان الواحد منهم إذا أتى أمته وأبوا عليه اعتزلهم وعوجلوا بالعذاب ، وأما نبينا عليه السلام فبعث رحمة بتأخير العذاب ولما أعطاه الله السيف دخل في دينه قوم مخافة من السيف فقيض الله فتاني القبر ليستخرجا بالسؤال ما كان في نفس الميت فيثبت المسلم ويزل المنافق.
وفي بعض الآثار : يتكرر السؤال في المجلس الواحد ثلاث مرات وفي بعضها أن المؤمن يسأل سبعة أيام والمنافق أربعين يوماً.
ولا يسأل من مات يوم الجمعة وليلته من المؤمنين.
وكذا في رجب وشعبان ورمضان وهو بعد العيد في مشيئته الله تعالى لكن الله تعالى هو أكرم الأكرمين فالظن على أنه لا يؤمر بالسؤال كما في الواقعات المحمودية.
وفي كلام الحافظ السيوطي لم يثبت في التلقين حديث صحيح أو حسن بل حديثه ضعيف باتفاق جمهور المحدثين والحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال.
فعلى العاقل أن يموت قبل أن يموت ويحيي بالحياة الطيبة وذلك بظهور سر الحياة له بتربية مرشد كامل كما قال في المثنوى :
هين كه اسرافيل وقتند اوليا
مرده را زيشن حياتست ونما
جانهى مرده اندر كورتن
برجهد زآوازشان اندر كفن
كويداين آواز زآواها جداست
زنده كردن كار آواز خداست
ما بمرديم وبكلى كاستيم
بان حق آمد همه بر خاستيم
مطلق ان آواز خودازشه بود
كره از حلقوم عبد الله بود
كفت اورامن زبان وشم تو(4/276)
من حواس ومن رضا وخشم تو
روكه بي يسمع وبي يبصر توئى
سر توئى ه جاي صاحب سر توئى
417
ون شدى من كانأزوله
حق ترا باشدكه كان الله له
كه توئى كويم ترا كاهى منم
هره كوئى آفتاب روشنم
هركجا تابم زمشكات دمى
حل شد آنجا مشكلات عالمي
ظلمتي راكافتا بش برنداشت
ازدم ما كردد آن ظلمت و اشت
وكما أن لأنفاس الأولياء بركة ويمنا للأحياء فكذا للأموات حين التلقين فإنه فرق بين تلقين الغافل الجاهل وبين تلقين المتيقظ العالم بالله نسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياكم على الحق المبين إلى أن يأتي اليقين ويجعلنا من الصديقين الذين يتمكنون في مقام الأمن عند خوف أهل التلوين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 414
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} من رؤية البصر وهو تعجب لرسول الله أي هل رأيت عجباً مثل هؤلاء.
بدلوا غيروا نعمة الله على حذف المضاف.
أي شكر نعمته كفراً بأن وضعوه مكانه أو بدلوا نفس النعمة كفراً فإنهم لما كفروها سلبت منهم فصاروا تاركين لها محصلين الكفر بدلها كأهل مكة خلقهم الله تعالى وأسكنهم حرمه وجعلهم قوّام بيته ووسع عليهم أبواب رزقه وشرفهم بمحمد فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين وأسروا وقتلوا يوم بدر فصاروا أذلاء مسلوبي النعمة.
وعن عمر وعلي رضي الله عنهما هم الأفجران من قريش بنوا المغيرة وبنوا أمية أما بنوا المغيرة فكفيتموهم يوم بدر وأما بنوا أمية فمتعوا إلى حين كأنهما يتأولان ما سيتلى من قوله تعالى : قل تمتعوا الآية وأحلوا أنزلوا قومهم بإرشادهم إياهم إلى طريقة الشرك والضلال وعدم التعرض لحلولهم لدلالة الإحلال عليه إذ هو فرعه كقوله تعالى : يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار}(هود : 98) وأسند الإحلال وهو فعل الله إلى أكابرهم لأن سببه كفرهم وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر {دَارَ الْبَوَارِ} أي : الهلاك.
جهنم عطف بيان لها يصلونها حال منها أي داخلين فيها مقاسين لحرها يقال صلى النار صليا قاسي حرها كتصلاها وبئس القرار أي : بئس المقر جهنم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 417
{وَجَعَلُوا} عطف على أحلوا داخل معه في حكم التعجب أي جعلوا في اعتقادهم الباطل وزعمهم الفاسد.
الفرد الأحد الذي لا شريك له في الأرض ولا في السماء.
أنداداً أشباهاً في التسمية حيث سموا الأصنام آلهة أو في العبادة.
ليضلوا قومهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا عن سبيله القويم الذي هو التوحيد ويوقعوهم في ورطة الكفر والضلال وليس الاضلال غرضاً حقيقياً لهم من اتخاذ الأنداد ، ولكن لما كان نتيجة له كما كان الإكرام في قولك جئتك لتكرمني نتيجة المجيء شبه بالغرض وأدخل اللام عليه بطريق الاستعارة التبيعة ونسب الاضلال الذي هو فعل الله إليهم ؛ لأنهم سبب الضلالة حيث يأمرون بها ويدعون إليها.
قل تهديداً لأولئك الضالين المضلين تمتعوا انتفعوا بما أنتم عليه من الشهوات التي من جملتها كفران النعم العظام ، واستتباع الناس في عبادة الأصنام.
وبالفارسية : (بكذارانيد عمرهاى خود با زروها وعبادت بتان).
فإن مصيركم يوم القيامة إلى النار ليس إلا فلا بد لكم من تعاطي ما يوجب ذلك أو يقتضيه من أحوالكم والمصير مصدر صار التامة بمعنى رجع وخبر إن هو قوله إلى النار.
دلت الآيتان على أمور :
الأول : أن الكفران سبب لزوال النعمة بالكلية كما أن الشكر سبب لزيادتها.
418
شكر نعمت تعمتت افزون كند
كفر نعمت از كفت بيرون كند
وفي حديث المعراج : إن الله شكا من أمتي شكايات ، الأولى : إني لم أكلفهم عمل الغد وهم يطلبون مني رزق الغد ، والثانية : إني لا أدفع أرزاقهم إلى غيرهم وهم يدفعون عملهم إلى غيري ، والثالثة : إنهم يأكلون رزقي ويشكرون غيري ويخونون معي ويصالحون خلقي.
والرابعة أن العزة لي وأنا المعز وهم يطلبون العزة من سواي ، والخامسة : أني خلقت النار لكل كافرٍ وهم يجتهدون أن يوقعوا أنفسهم فيها.
والثاني : أن القرين السوء يجرّ المرء إلى النار ويحله دار البوار فينبغي للمؤمن المخلص السني أن يجتنب عن صحبة أهل الكفر والنفاق والبدعة حتى لا يسرق طبعه من اعتقادهم السوء وعملهم السيء ولهم كثرة في هذا الزمان وأكثرهم في زي المتصوفة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 418
أي فغان ازيارنا جنس أي فغان
همنشين نيك جوييد أي مهان
والثالث : أن جهنم دار القرار للأشرار وشدة حرها مما لا يوصف.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي قال : إن أهون أهل النار عذاباً رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلى منهما دماغه كما يغلى المرجل بالقمقم والأخمص بفتح الهمزة هو المتجافي من الرجل أي من بطنها عن الأرض والغليان شدة اضطراب الماء ونحوه على النار لشدة إيقادها.
والمرجل بكسر الميم وفتح الجيم قدر معروف سواء كان من حديد أو نحاس أو حجارة أو خزف هذا هو الأصح.
وقيل هو القدر من النحاس خاصة.(4/277)
وفي الآية : إشارة إلى نعمة ألوهية وخالقية ورازقية عليهم بدلوها بالكفر والانكار والجحود وأحلوا أرواحهم وقلوبهم ونفوسهم وأبدانهم دار الهلاك وأنزلوا أبدانهم جهنم يصلونها وبئس القرار وهي غاية البعد عن الحضرة ، والحرمان عن الجنان وانزلوا نفوسهم الدركات وقلوبهم العمى والصمم والجهل وأرواحهم العلوية أسفل سافلين الطبيعة بتبديل نعم الأخلاق الملكية الحميدة بالأخلاق الشيطانية السبعية الذميمة ، وجعلواأنداداً من الهوى والدنيا وشهواتها ليضلوا الناس بالاستتباع عن طلب الحق تعالى والسير إليه على أقدام الشريعة والطريقة الموصل إلى الحقيقة قل تمتعوا بالشهوات الدنيا ونعيمها فإن مصيركم نار جهنم للأبدان ونار الحرمان للنفوس ونار الحسرة للقلوب ونار القطيعة للأرواح كما في التأويلات النجمية.
قل لعبادي الذي آمنوا قال بعض الحكماء : شرف الله عباده بهذه الياء وهي خير لهم من الدنيا وما فيها لأن فيها إضافة إلى نفسه والاضافة تدل على العتق لأن رجلاً لو قال لعبده يا ابن أو ولد لا يعتق ولو قال يا بني أو ولدي يعتق بالاضافة إلى نفسه كذلك إذا أضاف العباد إلى نفسه فيه دليل أن يعتقهم من النار ولا شرف فوق العبودية.
قال الجامي :
كسوت خواجكى وخلعت شاهى ه كند
هركرا غاشيه بند كيت بر دوشست
وكان سلطان العارفين أبو يزيد البسطامي قدس سره يقول : الخلق يفرون من الحساب وأنا أطلبه فإن الله تعالى لو قال لي أثناء الحساب عبدي لكفاني شرفا ، والمقول هنا محذوف دل عليه الجواب أي قل لهم أقيموا وانفقوا يقيموا الصلوة وينفقوا مما رزقناهم أي يداوموا على ذلك.
وبالفارسية (بكو أي محمد يعني أمركن مربند كان مراكه ايمان
419
آورده اندبرين وجه كه نماز كزاريد ونفقه كنيد تا يشان بامرتونماز كزارند ونفقه دهند از آنه عطاداده با يشان ازاوموال) ويجوز أن يكون المقول يقيموا وينفقوا على أن يكونا بمعنى الأمر وإنما أخرجا عن صورة الخبر للدلالة على التحقق بمضمونهما والمسارعة إلى العمل بهما.
جزء : 4 رقم الصفحة : 418
فإن قيل : لو كان كذلك لبقي إعرابه بالنون.
قلنا : يجوز أن يبني على حذف النون لما كان بمعنى الأمر.
سراً وعلانية منتصبان على المصدر من الأمر المقدر أي أنفقوا إنفاق سر وعلانية ، أو على الحال أي ذوي سر وعلانية بمعنى مسرين ومعلنين أو على الظرف أي وقتي سر وعلانية.
والأحب في الإنفاق إخفاء المتطوع وإعلان الواجب وكذا الصلوات والمراد حث المؤمنين على الشكر لنعم الله تعالى بالعبادة البدنية والمالية وترك التمتع بمتاع الدنيا والركون إليها كما هو صنيع الكفرة.
من قبل أن يأتي قال في الإرشاد : الظاهر أن من متعلقة بأنفقوا يوم وهو يوم القيامة لا بيع فيه فيبتاع المقصر ما يتلافي تقصيره به وتخصيص البيع بالذكر لاستلزام نفيه نفي الشراء ولا خلال ولا مخالة فيشفع له خليل والمراد المخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس فلا يخالف قوله تعالى : الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}(الزخرف : 67) لأن الواقع فيما بينهم المخالةأو من قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا انتفاع في بمبايعة ولا مخالة وإنما ينتفع فيه بالطاعة التي من جملتها إقامة الصلاة والانفاق لوجه الله تعالى ، وادخار المال وترك إنفاقه إنما يقع غالباً للتجارات والمهاداة فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت.
وفي الآية إشارة إلى الأعمال الباطنة القلبية كالإيمان وإلى الأعمال الظاهرة القالبية كإقامة الصلاة والانفاق.
قال أبو سعيد الخراساني قدس سره : خزائن الله في السماء وخزائنه في الأرض القلوب لأنه تعالى خلق قلب المؤمن بيت خزائنه ، ثم أرسل ريحاً فهبت فيه فكنسته من الكفر والشرك والنفاق والغش ثم أنشأ سحابة فأمطرت فيه ثم أنبت شجرة فأثمرت الرضى والمحبة والشكر والصفوة والإخلاص والطاعة ثم طاب الظاهر بحسب طيب الباطن.
وعن مكحول الشامي رحمه الله : إذا تصدق المؤمن بصدقة ورضي عنه ربه تقول جهنم يا رب ائذن لي بالسجود شكراً لك فقد اعتقت أحداً من أمة محمد من عذابي ببركة صدقته لأني استحيي من محمد أن أعذب أمته مع أن طاعتك واجبة عليّ.
قال المولى الجامي :
هره دارى ون شكوفه برفشان زيراكه سنك
بهرميوه ميخور دهردم زدست سفله شاخ(4/278)
والإشارة : {قُل لِّعِبَادِىَ} لا عباد الهوى.
الذين آمنوا بنور العناية وعرفوا قدر نعمة الوهيتي ولم يبدلوها كفراً يقيموا الصلوة ليلازموا عتبة العبودية ويديموا العكوف على بساط القربة ويثبتوا في المناجاة والمكالمة.
وينفقوا على الطالبين المريدين مما زرقناهم سراً من أسرار الألوهية وعلانية من أحكام العبودية في طريق الربوبية من قبل أن يأتي يوم وهو يوم مفارقة الأرواح عن الأبدان.
لا بيع فيه أي لا يقدر على الانفاق بطريق طلب المعاوضة ولا خلال أي : ولا بطريق المخالة من غير طلب العوض لأن آلة الانفاق خرجت من يده وبطل استعداد دعوة الخلق إلى الحق وتربيتهم بالتسليك والتزكية والتهذيب والتأديب كما في التأويلات النجمية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 418
{اللَّهِ} مبتدأ خبره الذي خلق السموات
420
وما فيها من الأجرام العلوية والأرض وما فيها من أنواع المخلوقات وقدم السماوات لأنها بمنزلة الذكر من الأنثى وانزل من السماء أي من السحاب فإن كل ما علاك سماء أو من الفلك فإن المطر منه يبتدىء إلى السحاب ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه ظواهر النصوص.
يقول الفقير : هو الأرجح عندي ؛ لأن الله تعالى زاد بيان نعمه على عباده فبين أولاً خلق السماوات والأرض ثم أشار إلى ما فيها من كليات المنافع لكنه قدم وأخر كتأخير تسخير الشمس والقمر ليدل على أن كلا من هذه النعم نعمة على حدة ، ولو أريد السحاب لم يوجد التقابل التام وأياً ما كان فمن ابتدائية.
ماء أي نوعاً منه وهو المطر فأخرج به أي بسبب ذلك الماء الذي أودع فيه القوة الفاعلية ، كما أنه أودع في الأرض القوة القابلية من الثمرات من أنواع الثمرات رزقاً لكم تعيشون به وهو بمعنى المروق شامل للمطعوم والملبوس مفعول لأخرج ومن للتبيين حال منه ولكم صفة كقولك أنفقت من الدراهم ألفاً أو للتبعيض بدليل قوله تعالى : فأخرجنا به ثمرات}(فاطر : 27) كأنه قيل انزل من السماء بعض الماء فاخرج به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم إذ لم ينزل من السماء كل الماء ولا أخرج بالمطر كل الثمار ولا جعل كل الرزق ثمرا وكان أحب الفواكه إلى نبينا عليه السلام الرطب والبطيخ ، وكان يأكل البطيخ بالرطب ويقول "يكسر حر هذا ببرد هذا وبرد هذا بِحَرِ هذا" فإن الرطب حار رطب والبطيخ بارد رطب كما في "شرح المصابيح" وفي الحديث : "من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" قوله : تصبح ، أي : أكل وقت الصباح قبل أن يأكل شيئاً آخر وعجوة عطف بيان لسبع تمرات وهي ضرب من أجود التمر في المدينة يضرب إلى السواد يحتمل أن يكون هذه الخاصية في ذلك النوع من التمر ويحتمل أن يكون بدعائه له حين قالوا أحرق بطوننا تمر المدينة ، وفي الحديث : "كلوا التمر على الريق فإنه يقتل الديدان في البطن" وكان عليه السلام يأخذ عنقود العنب بيده اليسرى ويتناول حبة حبة بيده اليمنى كذا في "الطب النبوي" وفي البطيخ والرمان قطرة من ماء الجنة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 420
وروى عن علي كلوا الرمان فليس منه حبة تقع في المعدة إلا أنارت القلب وأخرست الشيطان أربعين يوماً.
وقال جعفر بن محمد ريح الملائكة ريح الورد وريح الأنبياء ريح السفر جل وريح الحور ريح الآس : {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ} بأن أقدركم على صنعتها واستعمالها بما ألهمكم كيفية ذلك لتجرى أي الفلك لأنه جمع فلك في البحر (دردريا) بأمره بإرادته إلى حيث توجهتم وانطوى في تسخير الفلك تسخير البخار وتسخير الرياح.
قال في شرح حزب البحر : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص صف لي البحر فقال يا أمير المؤمنين مخلوق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود.
وفي أنوار المشارق يجوز ركوب البحر للرجال والنساء عند غلبة السلامة كذا قال الجمهور.
وكره ركوبه للنساء لأن الستر فيه لا يمكنهن غالباً ، ولا غض البصر عن المتصرفين فيه ولا يؤمن انكشاف عوراتهن في تصرفهن لا سيما فيما صغر من السفن مع ضرورتهن إلى قضاء الحاجة بحضرة الرجال.
وسخر لكم الأنهار أي المياه العظيمة الجارية في الأنهار العظام وتسخيرها جعلها معدة لانتفاع الناس حيث يتخذون منها جداول يسقون بها زروعهم وجنانهم وما أشبه
421
ذلك.
قال في بحر العلوم اللام فيها للجنس أو للعهد أشير بها إلى خمسة أنهار سيحون نهر الهند وجيحون نهر بلخ ودجلة والفرات نهري العراق والنيل نهر مصر أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وسخرها للناس وجعل فيها منافع لهم في أصناف معاشهم وسائر الأنهار تبع لها وكأنها أصولها.
وسخر لكم الشمس والقمر حال كونهما دائبين قال في تهذيب المصادر الدأب (دائم شدن) فالمعنى دائمين متصلين في سيرهما لا ينقطعان إلى يوم القيامة.(4/279)
وقال في القاموس دأب في عمله كمنع دأبا ويحرك ودؤوبا بالضم جدّ وتعب.
فالمعنى مجدين في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات وإصلاحهما يصلحان الأرض والأبدان والنبات لا يفتران أصلاً ويفضل الشمس على القمر لأن الشمس معدن الأنوار الفلكية من البدور والنجوم وأصلها في النورانية وأن أنوارهم مقتبسة من نور الشمس على قدر تقابلهم وصفوة إجرامهم.
وسخر لكم الليل والنهار يتعاقبان بالزيادة والنقصان والإضاءة والإظلام والحركة والسكون فيهما أي لمعاشكم ومنامكم ولعقد الثمار وانضاجها.
واختلفوا في الليل والنهار أيهما أفضل.
قال بعضهم قدم الليل على النهار لأن الليل لخدمة المولى والنهار لخدمة الخلق ومعارج الأنبياء عليهم السلام كانت بالليل ولذا قال الامام النيسابوري الليل أفضل من النهار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 420
يقول الفقير : الليل محل السكون ففيه سر الذات وله المرتبة العليا والنهار محل الحركة ففيه سر الصفات ، وله الفضيلة العظمى وأول المراتب وآخرها السكون كما أشار إليه قوله تعالى في الحديث القدسي : كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فالخلق يقتضى الحركة المعنوية وما كان قبل الحركة والخلق إلا سكون محض وذات بحت فافهم.
وسيد الأيام يوم الجمعة وإذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة تضاعف الحج لسبعين حجة على غيره وبهذا ظهر فضل يوم الجمعة على يوم عرفة.
وأفضل الليالي ليلة المولد المحمدي لولاه ما نزل القرآن ولا نعتت ليلة القدر وهو الأصح.
وآتيكم من كل ما سألتموه أي : أعطاكم مصلحة لكم بعض جميع ما سألتموه فإن الموجود من كل صنف بعض ما قدره الله وهذا كقوله تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء}(الإسراء : 18) فمن للتبعيض أو كل ما سألتموه على أن من للبيان وكلمة كل للتكثير ، كقولك : فلان يعلم كل شيء وأتاه كل الناس وعليه قوله تعالى : {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ} (الأنعام : 44).
قال الكاشفي : (وبداد شمارا أزهر ه خواستيد يعني آنه محتاج إليه شمابود خواسته وناخواسته بشما رزاني داشت) {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ} بسؤال وبغيره.
لا تحصوها لا تطيقوا حصرها وعدها ولو إجمالاً لكثرتها وعدم نهايتها.
وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة وأصل الإحصاء أن الحساب كان أذا بلغ عقداً معيناً من عقود الأعداد وضعت له حصاة ليحفظ بها ثم استؤنف العدد.
والمعنى لا توجد له غاية فتوضع له حصاة والنعم على قسمين نعمة المنافع لصحة البدن والأمن والعافية والتلذذ بالمطاعم والمشارب والملابس والمناكح والأموال والأولاد ونعمة دفع المضار من الأمراض والشدائد والفقر والبلاء ، وأجل النعم استواء الخلقة وإلهام المعرفة (سلمى قدس سره فرمودكه مراد ازين نعمت حضرت
422
يعمبر ما سلت كه سفر بزر كر وواسطه نزديكترميان حق وخلق اوست وفي نفس الأمر حصر صفات كمال وشرح أنوار جمال اواز دائره تصور وتخيل بيرون وازاندزه تأمل وتفرك افزونست)
بر ذروه معارج قدر رفيع تو
نى عقل راه يابد ونى فهم ى رد
إن الإنسان لظلوم لبليغ في الظلم يظلم النعمة باغفال شكرها أو بوضعها في غير موضعها أو يظلم نفسه بتعريضها للحرمان.
كفار شديد الكفران لها ، أو ظلوم في الشدة يشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع.
واللام في الإنسان للجنس ومصداق الحكم بالظلم والكفران بعض من وجد فيه من أفراده كما في الإرشاد روى أنه شكا بعض الفقراء إلى واحد من السلف فقره وأظهر شدة اهتمامه به فقال أيسرّك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم ، فقال لا فقال أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألف درهم فقال : لا فقال أيسرّك جعل الله أنك مجنون ولك عشرة آلاف قال : لا ، فقال أما تستحيي إنك تشكو مولاك وعندك عروض بأربعين ألف.
جزء : 4 رقم الصفحة : 420
ودخل ابن السماك على بعض الخلفاء وفي يده كوز ماء وهو يشربه ، فقال : عظني فقال لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشان فهل كنت تعطيه؟ قال نعم قال ولو لم تعط إلا بملكك كله فهل كنت تتركه؟ قال : نعم ، فقال لا ، تفرح بملك لا يساوي شربة ماء وإن نعمة على العبد في شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلها بل كل نفس لا يستوي بملك الأرض كلها فلو أخذ لحظة حتى انقطع الهواء عنه مات ولو حبس في بيت حمام فيه هواء حار أو في بئر فيه هواء ثقيل برطوبة الماء مات غماً ففي كل ذرة من بدنه نعم لا تحصى.
نعمت حق شمار وشكر كذار
نعتش را اكره نيست شمار
شكر باشد كليد كنج مزيد
كنج خوهى منه ز دست كليد(4/280)
والإشارة الله الذي خلق السموات سموات القلوب والأرض أرض النفوس وانزل من السماء من سماء القلوب ماء ماء الحكمة فاخرج به من الثمرات من ثمرات الطاعات رزقاً لأرواحكم فإن الطاعات غذاء الأرواح كما أن الطعام غذاء الأبدان وسخر لكم الفلك فلك الشريعة لتجري في البحر في بحر الطريقة بأمره بأمر الحق لا بأمر الهوى والطبع لأن استعمال فلك الشريعة إذا كان بأمر الهوى والطبع سريعاً ينكسر ويغرق ولا يبلغ ساحل الحقيقة إلا بأمر أولي الأمر وملاحيه وهو الشيخ الواصل الكامل المكمل كما قال تعالى : اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم وقال النبي عليه السلام : من أطاع أميري فقد أطاعني ومن أطاعني فقد أطاع الله وكم من سفن لأرباب الطلب لما شرعت في هذا البحر بالطبع انكسرت بنكباء الأهواء وتلاطم أمواج الغرة وانقطعت دون ساحلها وسخر لكم الأنهار أنهار العلوم اللدنية وسخر لكم الشمس شمس الكشوف والقمر قمر المشاهدات دائبين بالكشف والمشاهدة وسخر لكم الليل ليل البشرية والنهار نهار الروحانية وتسخير هذه الأشياء عبارة عن جعلها سبباً لاستكمال استعداد الانسان في قبول الفيض الإلهي المختص به من بين سائر المخلوقات وفي قوله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 420
وآتيكم
423
من كل ما سألتموه إشارة إلى أنه تعالى أعطى الإنسان في الأزل حسن استعداد استدعى منه لقبول الفيض الإلهي وهو قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}(التين : 4) ثم للابتلاء رده إلى أسفل سافلين ثم آتاه من كل ما سأله من الأسباب التي تخرجه من أسفل سافلين وتصعده إلى أعلى عليين ، فإذا امعنت النظر في هذه الآيات رأيت أن العالم بما فيه خلق تبعاً لوجود الإنسان وسبباً لكماليته كما أن الشجرة خلقت تبعاً لوجود الثمرة وسبباً لكماليتها فالإنسان البالغ الكامل الواصل ثمرة شجرة المكونات فافهم جداً {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ} لأن نعمته على الإنسان قسمان قسم يتعلق بالمخلوقات كلها وقد بينا أنها خلقت لاستكمال الإنسان وهذه النعمة لا يحصى عدها لأن فوائدها عائدة إلى الإنسان إلى الأبد وهي غير متناهية فلا يحصى عدها وقسم يتعلق بعواطف الوهيته وعوارف ربوبيته فهي أيضاً غير متناهية إن الإنسان لظلوم لنفسه بأن يفسد هذا الاستعداد الكامل بالاعراض عن الحق والاقبال على الباطل.
كفار لأنعم الله إذ لم يعرف قدرها ولم يشكر لها وجعلها نقمة لنفسه بعد ما كانت نعمة من ربه كما في التأويلات النجمية وإذ قال إبراهيم واذكر وقت قول إبراهيم في مناجاته أي بعد الفراغ من بناء البيت رب اجعل هذا البلد (اين شهر مكه را) آمنا أهله بحيث لا يخاف فيه من المخاوف والمكاره كالقتل والغارة والأمراض المنفرة من البرص والجذام ونحوهما فإسناد الأمن إلى البلد مجاز لوقوع الأمن فيه وإنما الآمن في الحقيقة أهل البلد واجنبني وبني يقال جنبه كنصره وأجنبته وجنبته أي أبعدته.
والمعنى بعدني وإياهم أن نعبد الأصنام واجعلنا منه في جانب بعيد ، أي ثبتنا على ما كنا عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام.
قال بعضهم : رأى القوم يعبدون الأصنام فخاف على بنيه فدعا.
يقول الفقير : الجمهور على أن العرب من عهد إبراهيم استمرت على دينه من رفض عبادة الأصنام إلى زمن عمرو بن لحي كبير خزاعة فهو أول من غير دين إبراهيم وشرع للعرب الضلالات وهو أول من نصب الأوثان في الكعبة وعبدها ، وأمر الناس بعبادتها وقد كان أكثر الناس في الأرض المقدسة عبدة الأصنام وكان إبراهيم يعرفه فخاف سرايته إلى كل بلد فيه واحد من أولاده فدعا فعصم أولاده الصلبية من ذلك ، وهي المرادة من قوله : وبنى فإنه لم يعبد أحد منهم الصنم لا هي وأحفاده وجميع ذريته وذلك لأن قريشاً مع كونهم من أولاد إسماعيل عبادتهم الأصنام مشهورة وأما قوله تعالى في حم الزخرف : وجعلها كلمة باقية في عقبه}(الزخرف : 28) فالصحيح أن هذا لا يستلزم تباعد جميع الأحفاد عن عبادة الأصنام بل يكفي في بقاء كلمة التوحيد في عقبه أن لا ينقرض قرن ولا ينقضى زمان إلا وفي ذريته من هو من أهل التوحيد قلوا أو كثروا إلى زمان نبينا صلى الله عليه وسلّم وقد اشتهر في كتب السير أن بعض آحاد العرب لم يعبد الصنم قط ويدل عليه قوله عليه السلام : "لا تسبوا مضر فإنه كان على ملة إبراهيم" هذا مالاح لي من التحقيق ومن الله التوفيق.
وإنما جمع الأصنام ليشتمل على كل صنم عبد من دون الله لأن الجمع المعرف باللام يشمل كل واحد من الأفراد كالمفرد باتفاق جمهور أئمة التفسير والأصول والنحو ، أي واجنبنا أن نعبد أحداً مما سمى بالصنم كما في "بحر العلوم"
424
وخصصها الامام الغزالي بالحجرين أي الذهب والفضة إذ رتبة النبوة أجل من أن يخشى فيها أن تعتقد الإلهية في شيء من الحجارة فاستعاذ إبراهيم من الاغترار بمتاع الدنيا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 420(4/281)
يقول الفقير : الظاهر أن الامام الغزالي خصص الحجرين بالذكر بناء على أنهما أعظم ما يضل الناس وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلّم طلاب الدراهم والدنانير بعبدة الحجارة فقال : "تعس عبد الدراهم تعس عبد الدنانير" وإلا فكل ما هو من قبيل الهوى فهو صنم ألا ترى إلى قوله تعالى : {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَه هَوَااهُ} (الجاثية : 23) ولذا قال في "التأويلات النجمية".
صنم النفس الدنيا.
وصنم القلب العقبى.
وصنم الروح الدرجات العلى.
وصنم السر عرفان القربات.
وصنم الخفي الركون إلى المكاشفات والمشاهدات وأنواع الكرامات فلا بد من الفناء عن الكل.
سالك اك رو نخوانندش
آنكه ازما سوى منزه نيست
قال شيخي وسندي روّح الله روحه في بعض المجالس ، معي أهل الدنيا كثير وأهل العقبى قليل ، وأهل المولى أقل من القليل وذلك كالسلاطين والملوك فإنهم بالنسبة إلى الوزراء أقل وهم بالنسبة إلى سائر أرباب الجاه كذلك ، وهم بالنسبة إلى الرعية كذلك فالرعايا كثيرون وأقل منهم أرباب الجاه وأقل منهم الوزراء وأقل منهم السلاطين فلا بد من ترك الأصنام مطلقاً وأعظم الحجب والأصنام الوجود المعبر عنه بالفارسية.
هستى بودو جود مغربي لات ومنات أو بود
نيست بتى و بود او درهمه سو منات تو
وفي الآية : دليل على أن عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحقيقة العصمة أن لا يخلق الله تعالى في العبد ذنباً مع بقاء قدرته واختياره ولهذا قال الشيخ أبو منصور : العصمة لا تزيل المحنة أي التكليف فينبغي للمؤمن أن لا يأمن على إيمانه وينبغي أن يكون متضرعاً إلى الله ليثبته على الإيمان كما سأل إبراهيم لنفسه ولبنيه الثبات على الإيمان ـ ـ وروى ـ ـ عن يحيى بن معاذ أنه كان يقول : اللهم أن جميع سروري بهذا الايمان وأخاف أن تنزعه مني فما دام هذا الخوف معي رجوت أن لا تنزعه مني.
جزء : 4 رقم الصفحة : 420
[يوسف : 33-51]{رَبِّ إِنَّهُنَّ} (اي رورد كار من) أي : الأصنام أضللن كثيراً من الناس ولذلك سألت منك أن تعصمني وبني من إضلالهن ، واستعذت بك منه ، يقول : بهن ضل كثير من الناس ، فكان الأصنام سبباً لضلالتهم فنسب الاضلال إليهن وإن لم يكن منهن عمل في الحقيقة كقوله تعالى : وغرتهم الحيوة الدنيا}(الأنعام : 70) أي اغتروا بسببها وقال بعضهم كان الاضلال منهن لأن الشياطين كانت تدخل أجواف الأصنام وتتكلم ـ ـ كما حكى ـ ـ أن واحداً من الشياطين دخل جوف صنم أبي جهل فأخذ يتحرك ويتكلم في حق النبي عليه السلام كلمات قبيحة فأمر الله واحداً من الجن فقتل ذلك الشيطان ثم لما كان الغد واجتمع الناس حول ذلك الصنم أخذ يتحرك ويقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وأنا صنم لا ينفع ولا يضر ويل لمن عبدني من دون الله فلما سمعوا ذلك قام أبو جهل وكسر صنمه وقال إن محمداً سحر الأصنام.
قال الكمال الخجندي قدس سره :
بشكن بت غرور كه دردين عاشقان
يك بت كه بشكنند به ازصد عبادتست
{فَمَن تَبِعَنِى} (هركس كه) منهم فيما ادعوا إليه من التوحيد وملة الإسلام فإنه مني
425
من تبعيضية فالكلام على التشبيه أي كبعضي في عدم الانفكاك عني ، وكذلك قوله : من غشنا فليس منا أي ليس بعض المؤمنين على أن الغش ليس من أفعالهم وأوصافهم ومن عصاني أي لم يتبعني فإنه في مقابلة تبعني كتفسير الكفر في مقابلة الشكر بترك الشكر.
فإنك غفور رحيم قادر على أن تغفر له وترحمه ابتداء وبعد توبته.
وفي دليل على أن كل ذنب فللَّه تعالى أن يغفره حتى الشرك إلا أن الوعيد فرق بينه وبين غيره فالشرك لا يغفر بدليل السمع وهو قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به}(النساء : 116) وإن جاز غفرانه عقلاً فإن العقاب حقه تعالى فيحسن إسقاطه مع أن فيه نفعاً للعبد من غير ضرر لأحد وهو مذهب الأشعري.
جزء : 4 رقم الصفحة : 425
وفي "التأويلات النجمية" قد حفظ الأدب فيما قال ومن عصاني وما قال ومن عصاك لأنه بعصيان الله لا يستحق المغفرة والرحمة والإشارة فيه أن من عصاني لعلي لا أغفر له ولا أرحم عليه فإن المكافاة في الطبيعة واجبة ولكن من عصاني فتغفر له وترحم عليه فيكون من غاية كرمك وعواطف إحسانك فإنك غفور رحيم وفي الحديث : "ينادي مناد من تحت العرش يوم القيامة يا أمة محمد أمّا ما كان لي من قبلكم فقد وهبت لكم" (يعني كناهى كه درميان من وشماست بخشيدم) "وبقيت التبعات فتواهبوها وادخلوا الجنة برحمتي" والتبعات جمع تبعة بكسر الباء ما اتبع به من الحق.
وذكر أن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله قال إلهي إن كان ثوابك للمطيعين فرحمتك للمذنبين إني وإن كنت لست بمطيع فارجو ثوابك وأنا من المذنبين فارجو رحمتك.
نصيب ماست بهشت اي خداشناش برو
كه مستحق كرامت كنا هكارانند(4/282)
[البقرة : 201-37]{رَبَّنَا} (اي رورد كارما) والجمع لأن الآية متعلقة بذريته فالتعرض لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخل في القبول إني أسكنت من ذريتي أي بعض ذريتي وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن اسكانه متضمن لإسكانهم.
بواد غير ذي زرع}(الزمر : 28) هو وادي مكة فإنها حجرية لا تنبت أي لا يكون فيها شيء من زرع قط كقوله تعالى : {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج وما فيه إلا الاستقامة لا غير.
وفي تفسير الشيخ لأنها : واد بين جبلين لم يكن بها ماء ولا حرث.
وفي بحر العلوم وأما في زماننا فقد رزق الله أهله ماء جارياً عند بيتك المحرم ظرف لاسكنت كقولك صليت بمكة عند الركن وهو الكعبة والاضافة للتشريف وسمى محرماً لأنه عظيم الحرمة حرم الله التعرض له بسوء يوم خلق السماوات والأرض وحرم فيه القتال والاصطياد ، وأن يدخل فيه أحد بغير إحرام ومنع عنه الطوفان فلم يستول عليه ولذلك سمى عتيقاً لأنه أعتق منه.
وفي التأويلات النجمية عند بيتك المحرم وهو القلب المحرم أن يكون بيتاً لغير الله كما قال : لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن.
آنكه ترا كوهر كنجينه ساخت
كعبه جان در حرم سينه ساخت
ربنا كرر النداء لإظهار كمال العناية بما بعده ليقيموا الصلوة اللام لام كي متعلقة باسكنت أي ما اسكنتهم بهذا الوادي البلقع الخالي من كل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم لدلالة قوله : بواد غير ذي زرع على أنه لا غرض له دنيوي في إسكانهم عند
426
البيت المحرم وتخصيص الصلاة بالذكر من بين سائر شعائر الدين لفضلها ولأن بيت الله لا يسعه إلا الصلاة وما في معناه وهي الأصل في إصلاح النفس وكان قريش يمتنعون عن ذلك لزيادة كبرهم فاجعل أفئدة من الناس جمع فؤاد وهي القلوب ومن للتبعيض تهوي إليهم تسرع إليهم شوقاً وتطير نحوهم محبة ، يقال هوى يهوى من باب ضرب هوياً وهوياً سقط من علو إلى سفل سرعة.
وأيضاً صعد وارتفع كما في كتب اللغة ، وأما ما يكون من باب علم فهو بمعنى أحب يقال هوية هوى فهو هو أحبه وتعديته بإلى لتضمنه معنى الشوق والنزوع.
والمعنى بالفارسية (س نكردان دلهاى بعضي از مردمان راكه بكشش محبت بشتابند بسوى ايشان) أي : إسماعيل وذريته وهم المؤمنون ولو قال أفئدة الناس بدون من التبعيضة لازدحمت عليهم فارس والروم والترك والهند.
جزء : 4 رقم الصفحة : 425
آنراكه نان جمال باشد
كردل ببرد حلال باشد
وآنكس كه براننان جمالى
عاشق نشود وبال باشد
قال المولى الجامي قدس سره :
رو بحرم نه كه بران خوش حريم
هست سيه بوش نكارى مقيم
قبله خوبان عرب روى او
سجده شوخان عجم سوى او
وارزقهم أي ذريتي الذين أسكنتهم هناك أو مع من ينحاز إليهم من الناس وإنما لم يخص الدعاء بالمؤمنين ، كما في قوله : وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر اكتفاء بذكر إقامة الصلاة : من الثمرات من أنواعها بأن يجعل بقرب منه قرى يحصل فيها ذلك أو يجبي إليه من الأقطار البعيدة وقد حصل كلاهما حتى إنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد روى عن ابن عباس أن الطائف وهي على ثلاث مراحل من مكة كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم بهذه الدعوة رفعها الله ووضعها رزقاً للحرم لعلهم يشكرون تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء سائر مراسم العبودية.
يقول الفقير : اختلف العلماء في أن هذا الدعاء بعد بناء البيت أو قبل أول ما قدم مكة ويؤيد الأول قوله : رب اجعل هذا البلد فإن الظاهر إن الإشارة حسية وقوله : عند بيتك المحرم وقوله : الحمدالذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق}(إيراهيم : 39) فإن إسحاق لم يكن موجوداً قبل البناء.
وقال بعضهم : الإشارة في هذا البلد إلى الموجود في الذهن قبل تحقق البلدية فإن الله لما أبان موضعه صحت إشارته إليه والمسؤول توجيه القلوب إلى الذرية للمساكنة معهم لا توجيهها إلى البيت للحج فقط وإلا لقيل تهوي إليه وهو عين الدعاء بالبلدية.
يقول الفقير : فيه نظر لأنه لم لا يجوز أن يكون المعنى على حذف المضاف أي تهوي إلى موضعهم الشريف للحج وقد أشار إليه في التيسير حيث قال عند قوله : {تَهْوِى إِلَيْهِمْ} حبب هذا البيت إلى عبادك ليأتوه فيحجوه.
قال في الإرشاد : تسميته إذ ذاك بيتاً ولم يكن له بناء وإنما كان نشزاً أي مكاناً مرتفعاً تأتيه السيول فتأخذ ذات اليمين وذات الشمال باعتبار ما كان من قبل فإن تعدد بناء الكعبة المعظمة مما لا ريب فيه وإنما الاختلاف في كمية عدده ، كما قال الكاشفي عند
427
قوله : بيتك المحرم (مراد موضع خانه ضراح است كه درزمان آدم بوده واكرنه بوقت دعاء إبراهيم خانه نبوده والضراح كغراب البيت المعمول في السماء الرابعة كما في القاموس.
جزء : 4 رقم الصفحة : 425(4/283)
ويؤيد هذا ما روى أن إبراهيم عليه السلام كان يسكن في أرض الشام وكانت لزوجته سارة جارية اسمها هاجر فوهبتها من إبراهيم ، فلما ولدت له إسماعيل غارت سارة وحلفته أن يخرجهما من أرض الشام إلى موضع ليس فيه ماء ولا عمارة فتأمل إبراهيم في ذلك ، كما قال الكاشفي (خليل متأمل شد وجبرائيل وحى آوردكه هره ساره ميكويد نان كن س إبراهيم ببراقي نشسته وهاجر وإسماعيل را سوار كرده باندك زماني ازشام بزمين حرم آمد) فلما أخرجهما إلى أرض مكة جاء بها وبابنها وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ولم يكن بمكة يومئذٍ أحد وليس بها ماء ووضع عندها جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم عاد متوجهاً إلى الشام فتبعته أم إسماعيل ، وجعلت تقول له إلى من تكلنا في هذا البلقع؟ وهو لا يرد عليها جواباً حتى قالت : الله أمرك بهذا بأن تسكني وولدي في هذا البلقع فقال إبراهيم نعم قالت : إذا لا يضيعنا فرضيت ورجعت إلى ابنها ومضى إبراهيم حتى إذا استوى على ثنية كداء وهو كسماء جبل بأعلى مكة أقبل على الوادي ، أي استقبل بوجهه نحو البيت ورفع يديه فقال : ربنا إني اسكنت الآية وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتأكل التمر وتشرب الماء فنفد التمر والماء فعطشت هي وابنها فجعل يتلبط فذهبت عنه لئلا تراه على تلك الحالة فصعدت الصفا تنظر لترى أحداً فلم تر ، ثم نزلت أسفل الوادي ورفعت طرف درعها ثم سعت سعى الإنسان المجهود حتى أتت المروة وقامت عليها ونظرت لترى أحداً فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث أي حفر بجناحه حتى ظهر الماء.
قال الكاشفي : (شمه زمزم بركف جبريل يا باثر قدم إسماعيل بديد آمد) فجعلت تحوضه بيدها وتغرف من الماء لسقائها وهو يفور بعد ما تغرف قال : رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال : لو لم تغرف من الماء لكانت عيناً معيناً أي جارية ظاهرة على وجه الأرض فشربت وأرضعت ولدها فقال الملك لا تخافوا الضيعة فإن ههنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيغ أهله كما في تفسير الشيخ.
قال في الإرشاد : وأول آثار هذه الدعوة ما روى أنه مرت رفقة من جرهم تريد الشام وهم قبيلة من اليمن فرأوا الطير تحوم على الجبل فقالوا لا طير إلا على الماء فقصدوا إسماعيل وهاجر فرأوهما وعندهما عين ماء ، فقالوا : أشركينا في مائك نشركك في الباننا ففعلت وكانوا معها إلى أن شب إسماعيل وماتت هاجر فتزوج اسماعيل منهم كما هو المشهور.
جزء : 4 رقم الصفحة : 425
قال الكاشفي : (قبيله جرهم آنجا داعيه أقامت نمودند وروز بروز شوق مردم بران جانب درتزايدست.
وفي التأويلات النجمية قوله : إني أسكنت الآية يشير إلى محمد فإنه كان من ذريته وكان في صلب اسماعيل فتوسل بمحمد إلى الله تعالى في إعانة هاجر وإسماعيل يعني أن ضيعت إسماعيل ليهلك فقد ضيعت محمداً وأهلكته.
428
بيشتر از آمدن زربكان
سكه توبود بعالم عيان
جزء : 4 رقم الصفحة : 425
{رَبَّنَا} (اي رورد كارما) {إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ} من الحاجات وغيرها ومقصده إن إظهار هذه الحاجات ليس لكونها غير معلومة لك بل إنما هو لإظهار العبودية والافتقار إلى رحمتك والاستعجال لنيل أياديك.
جز خضوع وبندكى واضطرار
اندرين حضرت ندارد اعتبار
وما يخفي دائماً إذ لا ماضي ولا مستقبل ولا حال بالنسبة إلى الله تعالى على الله علام الغيوب من للاستغراق شيء ما في الأرض ولا في السماء لأنه العالم بعلم ذاتي تستوي نسبته إلى كل معلوم.
آنه يدا وآنه نهانست
همه بادانش تو يكسانست
لا عارضي ولا كسبي ليختص بمعلوم دون معلوم كعلم البشر والملك ، تلخيصه لا يخفى عليك شيء ما في مكان فافعل بنا ما هو مصلحتنا فالظرف متعلق بيخفى أو شيء ما كائن فيهما على أنه صفة لشيء.
الحمدالذي وهب لي على الكبر على ههنا معنى مع وهو في موقع الحال أي وهب لي وأنا كبير آيس من الولد قيد الهبة بحال الكبر استعظاماً للنعمة وإظهاراً لشكرها ؛ لأن زمان الكبر زمان العقم إسماعيل سمى إسماعيل لأن إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولداً ، ويقول : اسمع يا أيل وأيل هو الله فلما رزق به سماه به كما في معالم التنزيل.
وقال في إنسان العيون معناه بالعبرانية مطيع الله روى أنه ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة.
وإسحاق اسمه بالعبرانية الضحاك كما في إنسان العيون روى أنه ولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة وإسماعيل يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة.
إن ربي ومالك أمري ، لسميع الدعاء أي : لمجيبه من قولهم سمع الملك كلامه إذا اعتد به وفيه إشعار بأنه دعا ربه وسأل منه الولد كما قال : رب هب لي من الصالحين}(الصافات : 100) فأجابه ووهب له سؤله حين ما وقع اليأس منه ليكون من أجل النعم وأجلاها.(4/284)
[إبراهيم : 40-28]{رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلَواةِ} معدّلاً لها من أقمت العود إذا قومته ، أو مواظباً عليها من قامت السوق إذا نفقت أي راجت ، أو مؤدياً لها والاستمرار يستفاد من العدول من الفعل إلى الاسم حيث لم يقل اجعلني أقيم الصلاة.
ومن ذريتي أي وبعض ذريتي عطف على المنصوب في اجعلني وإنما بعض لعلمه بإعلام الله تعالى واستقرار عادته في الأمم الماضية أن يكون في ذريته كفار وهو يخالف قوله : وجعلها كلمة باقية في عقبه}(الزخرف : 28) والإشارة إلى إقامة الصلاة إلى إدامة العروج فإن الصلاة معراج المؤمن وبه يشير إلى دوام السير في الله بالله.
{رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} واستجب دعائي هذا المتعلق باجعلني وجعل بعض ذريتي مقيمي الصلاة ثانتين على ذلك مجتنبين عن عبادة الأصنام ولذلك جيء بضمير الجماعة ربنا اغفر لي أي مافرط مني من ترك الأولى في باب الدين وغير ذلك مما لا يسلم منه البشر ولوالدي وهذا الاستغفار منه إنما كان قبل تبين الأمر له عليه السلام.
يعني (قبل ازنهى بوده وهنوز يأس ازايمان ايشان نداشت).
جزء : 4 رقم الصفحة : 429
قال في الكواشي : استغفر لأبويه وهما حيان طمعاً في هدايتهما أو أن أمه أسلمت فأراد أسلام أبيه وذلك أنهم
429
صرحوا بأن أمه كانت مؤمنة ولذا قرأ بعضهم : ولوالدتي وقال الحافظ السيوطي يستنبط من قول إبراهيم.
رب اغفر لي ولوالدي وكان ذلك بعد موت عمه بمدة طويلة إن المذكور في القرآن بالكفر والتبري من الاستغفار له أي في قوله وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له إنه عدوتبرأ منه}(التوبة : 114) هو عمه لا أبوه الحقيقي والعرب تسمى العم أبا كما تسمى الخالة أمّا.
قال في "حياة الحيوان" : في الحديث : يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم ألم أقل لك لا تعص؟ فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول : إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي أن يكون في النار فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ والذيخ بكسر الذال ذكر الضباع الكثيرة الشعر فيؤخذ بقوائمه ويلقى في النار والحكمة في كونه مسخ ضبعا دون غيره من الحيوان أن الضبع لما كان يغفل عما يجب التيقظ له وصف بالحمق ، فلما لم يقبل آزر النصيحة من أشفق الناس عليه وقبل خديعة عدوه الشيطان أشبه الضبع الموصوفة بالحمق لأن الصياد إذا أراد أن يصيدها رمى في حجرها بحجر فتحسبه شيئاً تصيده فتخرج لتأخذه فتصاد عند ذلك ، ولأن آزر لو مسخ كلباً أو خنزيراً كان فيه تشويه لخلقه فأراد الله إكرام إبراهيم بجعل أبيه على هيئة متوسطة.
قال في "المحكم" : يقال ذيخته أي ذللته فلما خفض إبراهيم له جناح الذل من الرحمة لم يحضر بصفة الذل يوم القيامة.
انتهى كلام الامام الدميري في "حياة الحيوان" : {الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً} من ذريته وغيرهم واكتفى بذكر مغفرة المؤمنين دون مغفرة المؤمنات لأنهن تبع لهم في الأحكام وللإيذان باشتراك الكل في الدعاء بالمغفرة جيء بضمير الجماعة ، وفي الحديث : من عمم بدعائه المؤمنين والمؤمنات استجيب له فمن السنة أن لا يختص نفسه بالدعاء.
قال في الأسرار المحمدية : اعلم إنه يكره للامام تخصيص نفسه بالدعاء بأن يذكر ما يذكر على صيغة الأفراد لا على صيغة الجمع.
قال رسول الله : لا يؤم عبد قوماً فيخص نفسه بالدعاء دونهم فإن فعل فقد خانهم رواه ثوبان بل الأولى أيضاً إن كان منفرداً أن يأتي بصيغة الجمع فينوي نفسه وآباءه وأمهاته وأولاده وأخوانه وأصدقاءه المؤمنين الصالحين فيعممهم بالدعاء وينالهم بركة دعائه وينال الداعي بركات هممهم وتوجههم بأرواحهم إليه روى عن السلف بل عن النبي أن يصيبه بعدد كل مؤمن ومؤمنة ذكره حسنة ، يعني أن نواه بقلبه حين دعائه فهكذا افهم واعمل في جميع دعواتك انتهى كلام الأسرار.
يوم يقوم الحساب أي يثبت ويتحقق محاسبة أعمال المكلفين على وجه العدل استعير له من ثبوت القائم على الرجل بالاستقامة ومنه قامت الحرب على ساق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 429
وفي التأويلات ربنا اغفر لي أي : استرني وامحني بصفة مغفرتك لئلا أرى وجودي فإنه حجاب بيني وبينك.
خمير مايه هر نيك وبد تويى جامي
خلاص از همه مي بايدت زخود بكريز
ولوالدي أي : ولمن كان سبب وجودي من آبائي العلوي وأمهاتي السفلي لكيلا يحجبوني وعن رؤيتك.
للمؤمنين يوم يقوم الحساب وهو يوم كان في حساب الله في الأزل يقوم
430
لكمالية كل نفس أو نقصانيته انتهى.
يقول الفقير : دعا إبراهيم عليه السلام بالمغفرة وقيدها بيوم القيامة لأن يوم القيامة آخر الأيام والخلاص فيه من المحاسبة والمناقشة يؤدّي إلى نجاة الأبد والفوز بالدرجات لأنه ليس بعد التخلية بالمعجمة إلا التحلية بالمهملة فقدّم الأهم والأصل ولشدة هذا اليوم.(4/285)
قال الفضيل بن عياض رحمه الله : إني لا أغبط ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا عبداً صالحاً أليس هؤلاء يعاينون القيامة وأهوالها وإنما أغبط من لم يخلق لأنه لا يرى أهوال القيامة وشدائدها.
قال أبو بكر الواسطي رحمه الله : الدول ثلاث دولة في الحياة ودولة عند الموت ودولة يوم القيامة.
فأما دولة الحياة فبان يعيش في طاعة الله ، ودولة الموت بأن تخرج روحه مع شهادة أن لا إله إلا الله ، وأما دولة النشر ، فحين يخرج من قبره فيأتيه البشير بالجنة جعلنا الله وإياكم من أهل هذه الدولة الثلاث التي لا دولة فوقها في نظر أهل السعادة والعناية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 429
{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} الحسبان بالكسر بمعنى الظن والغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور ، والظالمون أهل مكة وغيرهم من كل أهل شرك وظلم ، وهو خطاب لرسول الله والمراد تثبيته على ما كان عليه من عدم حسبانه تعالى ، كذلك نحو قوله تعالى : ولا تكونن من المشركين}(يونس : 105) مع ما فيه من الإيذان لكونه واجب الاحتراز عنه في الغاية حتى نهى من لا يمكن تعاطيه.
والمعنى دم على ما كنت عليه من عدم حسبانه تعالى غافلاً عن أعمالهم ولا تحزن بتأخير ما يستوجبونه من العذاب الأليم {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} ليوم تعليل للنهي ، أي لا يؤخر عذابهم إلا لأجل يوم هائل.
تشخص فيه الأبصار ترتفع فيه أبصار أهل الموقف أي تبقى أعينهم مفتوحة لا تتحرك أجفانهم من هول ما يرونه ، يعني : أن تأخيره للتشديد والتغليظ لا للغفلة عن أعمالهم ولا لإهمالهم ، يقال شخص بصر فلان ، كمنع وأشخصه صاحبه إذا فتح عينيه ولم يطرف بجفنيه.
مهطعين حال مقدرة من مفعول يؤخرهم ، أي : مسرعين إلى الداعي مقبلين عليه بالخوف والذل والخشوع كإسراع الأسير والخائف.
وبالفارسية.
(بشتابند بسوى إسرافيل كه ايشانرا بعرصه محشر خواند) يقال اهطع البعير في السير إذا أسرع.
مقنعي رؤوسهم أي : رافعيها مع إدامة النظر من غير التفات إلى شيء.
قال في تهذيب المصادر : الاقناع أن يرفع رأسه ويقبل بطرفه إلى ما بين يديه.
وعن الحسن وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد لا يرتد إليهم طرفهم لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم حسب ما يرجع إليهم كل لحظة بل تبقى أعينهم مفتوحة لا تطرف أي لا تضم.
وفي الكواشي : أصل الطرف تحريك الجفون في النظر ثم سميت العين طرفاً مجازاً ، والمعنى أنهم لا يلتفتون ولا ينظرون مواقع أقدامهم لما بهم انتهى.
وأفئدتهم قلوبهم هواء خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهش كأنها نفس الهواء الخالي عن كل شاغل.
وفي الكواشي : تلخيصه ، الأبصار شاخصة والرؤوس مقنعة ، والقلوب فارغة زائلة لهول ذلك اليوم ثبتك الله وإيانا فيه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 431
والآية تسلية لرسول الله وتعزية للمظلوم وتهديد للظالم.
قال أحمد بن حضرويه : لو أذن لي في الشفاعة ما بدأت إلا بظالمي قيل له وكيف؟ قال : لأني نلت به ما لم أنله بوالدي قيل : وما ذاك قال تعزية الله في قوله : ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون.
وفي المثنوى :
431
آن يكى واعظ و بر تخت آمدى
قاطعان راه را داعي شدي
دست برمى داشت يا رب رحم ران
بربدان ومفسدان وطاغيان
برهمه تسخر كنان اهل خير
برهمه كافر دلان واهل دير
او نكردي آن دعا براصفيا
مى نكردي جز خبيثا نرا دعا
مرورا كفتند كين معهود نيست
دعوت اهل ضلالت جود نيست
كفت نيكويى ازينها ديده ام
من دعاشان زين سبب بكزيده ام
كفت نيكويى ازينها ديده ام
من دعاشان زين سبب بكزيده ام
خبث وظلم وجور ندان ساختند
كه مرا ازشر بخير انداختند
هر كهى كه رو بدنيا كرد مى
من ازيشان زخم وضربت خوردمى
كردمى از زخم آن جانب ناه
باز آوردندمى كر كان براه
ون سبب ساز صلاح من شدند
س دعاشان برمنست اي هوشمند
وفي الكواشي : واستدل بعضهم على قيام الساعة بموت المظلوم مظلوماً قالوا وجد على جدار الصخرة :
نامت عيونك والمظلوم منتبه
يدعو عليك وعين الله لم تنم
قال السعدي قدس سره :
نخفتست مظلوم ازآهش بترس
زدود دل صبحكاهش بترس
نترسى كه اك اندروني شبى
بر آرد سوز جكر يا ربي
نمى ترسى ازكرك ناقص خرد
كه روزي لنكيت برهم درد
والإشارة : ولا تحسبن الله غافلاً أي في الأزل عما يعمل الظالمون اليوم ، يعني : كل عمل يعمله الظالمون لم يكن الله غافلاً عنه في الأزل بل كل ذلك كان بقضائه وقدره وإرادته مبنياً على حكمته البالغة جعل سعادة أهل السعادة وشقاوة أهل الشقاوة مودعة في أعمالهم والأعمال مودعة في أعمارهم ليبلغ كل واحد من الفرقتين على قدمي أعمالهم الشرعية والطبيعية إلى منزل من منازل السعداء ومنزل من منازل الأشقياء يوم القيامة فلذا أخر الظالمين ليزدادوا إثماً يبلغهم منازل الأشقياء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 431(4/286)
{وَأَنذِرِ النَّاسَ} أي خوفهم جميعاً يا محمد يوم يأتيهم العذاب أي من يوم القيامة أو من يوم موتهم فإنه أول أيام عذابهم حيث يعذبون بالسكرات ، وهذا الإنذار للكفرة أصالة وللمؤمنين تبعية وإن لم يكونوا معذبين.
فيقول الذين ظلموا منهم بالشرك والتكذيب.
ربنا أخرنا ردنا إلى الدنيا وأمهلنا.
إلى أجل قريب إلى أمد وحدّ من الزمان قريب قال سعدي المفتي لعل في النظم تضميناً ، والتقدير ردنا إلى ذي أجل قريب أي قليل وهو الدنيا مؤخراً عذابنا.
وقال الكاشفي : (عذاب مارا تأخيركن ومارا بدنيا فرست ومهلت ده تامدتي نزديك او) آخ آجالنا وأبقنا مقدار ما نؤمن بك ونجيب دعوتك.
نجب دعوتك جواب للأمر أي الدعوة إليك وإلى توحيدك.
ونتبع الرسل فيما جاؤنا به ، أي نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة الدعوة واتباع الرسل.
أو لم تكونوا أقسمتم من قبل على إضمار القول عطفاً على فيقول ، أي : فيقال لهم توبيخاً وتبكيتا
432
ألم تؤخروا في الدنيا ولم تكونوا أقسمتم ، أي حلفتم إذ ذاك بألسنتكم تكبراً وغروراً.
ما لكم من زوال مما أنتم عليه من التمتع جواب للقسم أو بألسنة الحال حيث بنيتم شديداً وأملتم بعيداً ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال عن هذه الحال.
وفيه إشعار بامتداد زمان التأخير وما لكم من زوال من هذه الدار إلى دار أخرى للجزاء فالأول مبني على إنكار الموت والثاني على إنكار البعث.
وفي التأويلات النجمية يشير به إلى التناسخية فإنهم يزعمون أن لا زوال لهم ولا للدنيا بأن واحداً منهم إذا مات انتقل روحه إلى قالب آخر فأراد بهذا الجواب أن لو رجعناكم إلى الدنيا لتحقق عندكم مذهب التناسخ ، وما أقسمتم من قبل على أنه ما لكم من زوال.
قال في التعريفات التناسخ عبارة عن تعلق الروح بالبدن بعد المفارقة من بدن آخر من غير تخلل زمان بين التعلقين للتعشق الذاتي بين الروح والجسد.
وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي كعاد وثمود غير محدثين لأنفسكم بما لقوا من العذاب بسبب ما اكتسبوا من السيئات.
وتبين لكم بمشاهدة الآثار وتواتر الأخبار.
كيف فعلنا بهم من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد وليس الجملة فاعلاً لتبين لأن الاستفهام له صدر الكلام ولأن كيف لا يكون إلا ظرفاً أو خبراً أوحالاً بل فاعله ما دلت هي عليه دلالة واضحة أي فعلنا العجيب بهم.
وضربنا لكم الأمثال أي بينا لكم في القرآن العظيم صفات ما فعلوا وما فعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كأمثال المضروبة لكل ظالم لتعتبروا بها وتقيسوا أعمالهم على أعمالكم ومآلكم على مآلهم وتنتقلوا من حلول العذاب العاجل إلى حلول العذاب الآجل فترتدعدوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي يعني أنكم سمعتم هذا كله في الدنيا فلم تعتبروا فلو رجعتم بعد هذا اليوم لا ينفعكم الموعظة أيضاً.
وفي المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 432
قصه آن آبكيرست اي عنود
كه دراوسه ماهى اشكرف بود
ند صيادى سوى آن آبكير
بركذشتند وبديدند آن ضمير
س شتابيدند تادام آورند
ماهيان واقف شدند وهو شمند
آنكه عاقل بود عزم راه كرد
عزم راه مشكل ناخواه كرد
كفت با ينها ندارم مشورت
كه يقين شستم كنند از مقدرت
مهر زاد وبود برجانشان تند
كاهلى وحمقشان برمن زند
مشورت را زنده بايد نكو
كه ترا زنده كندآن زنده كو
ازدم حب الوطن بكذر مأيست
كه وطن آن سوست جان اين سوى نيست
كفت آن ماهى زيرك ره كنم
دل زرأى ومشورتشان بركنم
نيست وقت مشورت هين راه كن
ون على توآه اندر اه كن
شب رونهان روى كن ون عسى
سوى دريا عزم كن زين آبكير
محرم آن آه كميابست وبس
بحرجو وترك اين كرداب كير
سينه را اساخت مى رفت آن حذور
از مقم باخطر تابحر نور
433
همو آهو كزى اوسك بود
مى دود تادر تنش يكرك بود
خواب خركوش وسك اندرى خطاست
خواب خوددر شم ترسنده كجاست
رنجها بسيار ديد وعاقبت
رفت آخر سوى أمن وعافيت
خويشتن افكند در درياي رف
كه نيابد حد آن را هي طرف
س و صيادان بياوردند دام
نيم عاقل را ازان شدتلخ كام
كفت آه من فوت كردم فرصه را
ون نكشتم همره آن رهنما
بركذشته حسرت آوردن خطاست
باز نايد رفته ياد آن هباست
كفت ماهى دكر وقت بلا
ونكه ماند از سايه عاقل جدا
كوسوى دريا شد وازغم عتيق
فوت شد از من نان نيكو رفيق
ليك زان ننديشم وبرخود زنم
خويشتن را اين زمان مرده كنم
س بر آرم اشكم خود برزبر
شت زيرم مى روم بر آب بر
مى روم برى نانكه خس رود
نى بسباحي نانكه كس رود
مرده كردم خويش وبسارم بآب
مرك يش ازمرك امنست وعذاب
همنان مردوشكم بالافكند
آب مي بردش نشيب وكه بلند
هريكى زان قاصدان غصبه بس برد
كه دريغا ماهى بهتر بمرد
س كرفتش يك صياد ارجمند
س روتف كرد وبرخا كش فكند
غلط وغلطان رفت نهان اندر آب
ماند آن أحمق همي كرد اضطراب
دام فاكندند اندر دام ماند
احمقى اورا دران آتش فشاند
برسر آتش بيشت تابه
با حماقت كشته او همخوابه
او همي كفت از شكنجه وزبلا
همو جان كافرن قالوا بلى
باز مي كفتي كه اكر اين بارمن(4/287)
جزء : 4 رقم الصفحة : 432
وارهم زين محنت كردن شكن
من نسازم جز بدر يايى وطن
آبكيريرا نسازم من سكن
آن ندامت از نتيجه رنج بود
نى زعقل روشن ون كنج بود
مى كند او نوبه ويرخرد
بانك لو ردوا لعادوا مي زند
فينبغي للمؤمن أن يكثر ذكر الموت فإنه لاغنية للمؤمن عن ست خصال.
أولاها : علم يدله على الأخرة ، والثانية : رفيق يعينه على طاعة الله ويمنعه عن معصية الله ، والثالثة : معرفة عدوه والحذر منه.
والرابعة : عبرة يعتبر بها ، والخامسة : إنصاف الخلق لكيلا تكون له يوم القيامة خصماء.
والسادسة الاستعداد للموت قبل نزوله لكيلا يكون مفتضحاً يوم القيامة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 432
{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} أي فعلنا بالذين ظلموا ما فعلنا والحال إنهم قد مكروا في إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم العظيم الذي استفرغوا في عمله المجهود وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدر عليه غيرهم والمكر الخديعة.
وعند الله مكرهم أي : جزاء مكرهم الذي فعلوه.
434
وإن وصلية كان مكرهم في العظم والشدة لتزول منه الجبال مسوى لإزالة الجبال عن مقارّها معداً لذلك.
قال في الإرشاد : أي وإن كان مكرهم في غاية المتانة والشدة وعبر عن ذلك بكونه مسوى ومعداً لذلك لكونه مثلاً في ذلك.
فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله بتعذيب الظالمين ونصر المؤمنين ، وأصله مخلف رسله وعده وقدم المفعول الثاني إعلاماً بأن لا يخلف وعده أحداً فكيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته والوعد عبارة عن الإخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها.
والمعنى دم على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافنا رسلنا وعدنا.
إن الله عزيز غالب لا يماكر قادر لا يدافع.
ذو انتقام لأوليائه من أعدائه.
قال في القاموس : انتقم منه عاقبه.
(ودر معالم از مرتضى علي رضي الله عنه نقل ميكندكه اين آيت در قصه نمرود جباراست كه ون سلامت إبراهيم از آتش مشاهده كرد كفت بزرك خدايى دارد إبراهيم كه اورا از آتش رهانيد من خواهم كه برآسمان روم وأورا به بينم أشراف مملكت كفتندكه آسمان بغايت مرتفع است وبدو رفتن باآساني ميسر نشود نمرود نشنيد وفرمود تاصرحي سازند درسه سال بايت بلندكه ارتفاع آن نجهزار كزبود ودو فرسخ عرض آن بود وون برانجا رفت آسمانرا همنان ديدكه در زمين ميديد روز ديكر آن بنا بنهاد وبادى مهيب بوزيد وآن بنارا از بيخ وبنياد بكند وون آن صرح از اي در آمد وخلق بسيار هلاك شد نمرود خشم كرفت وكفت برآسمان روم وبا خداي إبراهيم كه مناره مرا بيفكند جنك كنم س هار كركس رورش داد تاقوت تمام كرتند وصندوقي هار كوشه ساخت ودو دريكي فوقاني وديكري تحتاني در راست كرد بر هار طرف أو هار نيزه كه زير وبالا تونستي شد تعبيه نمود س كركسانرا كرسنه داستند وهار مردار برسر نيزها كرده أطراف صندق را برتن كركسان بستند ايشان از غايات جوع ميل ببالا كرده جانب مردار راوز نمودند وصندوق راكه نمرود بايك تن در آنجا بود بهوا بعد ازشبانروزي نمرود در فوقاني كشاده آسمانرا برهمان حال ديدكه برزمين ميديد رفيق ر كفت تادر تحتاني بكشاد كفت بنكر تاه مي بيني آنكس نكاه كرد وجواب دادكه غير آب يزى ديكر نمى بينم بعد از شبا نروزي ديكركه باب فوقاني بكشاد همان حال بودكه روز سابق مشهده نمود ورفيق كه باب تحتاني بكشود بجزدود وتاريكي يزى مشود نبود نمرود بترسيدي) فنودي أيها الطاغي اين تريد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 434
قال عكرمة : كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب فرمى بسهم فعاد إليه السهم متلطخاً بدم سمكة قذفت نفسها من بحر في الهواء وقيل طائر أصابه السهم فقال كفيت شغل إله السماء ثم أمر نمرود صاحبه أن يصوب الخشبات وينكس اللحم ففعل فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال هفيف التابوت والنسور ففزعت فظنت أنه قد حدث حادث في السماء وأن الساعة قد قامت فكادت تزول عن أماكنها وهو المراد من مكرهم.
يقال إن نمرود أول من تجبر وقهر وسن سنن السوء ، وأول من لبس التاج فأهلكه الله ببعوضة دخلت في خياشيمه فعذب بها أربعين يوما ثم مات.
435
سوى او خضمي كه تير انداخته
شته كارش كفايت ساخته
وفي المثنوى :
اي خنك انراكه ذلت نفسه
وأي آن كزسر كشى شد ون كه او
بندكى او به از سلطاني است
كه انا خيردم شيطاني است
فرق بين وبركزين تواي جليس
بندكى آدم از كبر بليس
أيها المؤمنون : أين الأنبياء والمرسلون؟ وأين الأولياء المقربون؟ وأين الملوك الماضية والجبارون المتكبرون ما لكم لا تنظرون إليهم ولا تعتبرون فاجتهدوا في الطاعات إن كنتم تعقلون واتقوا يوم ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 434(4/288)
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ غَيْرَ الارْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} أي اذكر يوم تبدل هذه الأرض المعروفة أرضاً أخرى غير معروفة وتبدل السموات غير السموات ويكون الحشر وقت التبديل عند الظلمة دون الجسر ، أو يكون الناس على صراط كما روى عن عائشة رضي الله عنها قالت لرسول الله يا رسول الله هل تذكرون أهاليكم يوم القيامة؟ قال : أما عند مواطن ثلاثة فلا عند الصراط والكتاب والميزان قالت قلت يا رسول الله يوم تبدل الأرض غير الأرض أين الناس يومئذٍ؟ قال : سألتني عن شيء ما سألني أحد قبلك الناس يومئذٍ على الصراط والتبديل قد يكون في الذات كما بدلت الدراهم دنانير وقد يكون في الصفات كما في قولك بدلت الحلقة خاتماً إذا أذبتها وغيرت شكلها والآية تحتملهما.
نقل القرطبي عن صاحب الإفصاح أن الأرض والسماء تبدلان مرتين المرة الأولى تبدل صفتهما فقط ، وذلك قبل نفخة الصعق ، فتتناثر كواكبها وتخسف الشمس والقمر ، أي يذهب نورهما ويكون مرة كالدهان ومرة كالمهل ، وتكشف الأرض وتسير جبالها في الجو كالسحاب وتسوي أوديتها وتقطع أشجارها وتجعل قاعاً صفصفاً أي بقعة مستوية والمرة الثانية تبدل ذاتهما وذلك إذا وقفوا في المحشر فتبدل الأرض بأرض من فضة لم يقع عليها معصية وهي الساهرة والسماء تكون من ذهب كما جاء عن علي رضي الله عنه.
والإشارة : تبدل أرض البشرية بأرض القلوب فتضمحل ظلماتها بأنوار القلوب وتبدل سموات الأسرار بسموات الأرواح فإن شموس الأرواح إذا تجلت لكواكب الأسرار انمحت أنوار كواكبها بسطوة أشعة شموسها بل تبدل أرض الوجود المجازي عند إشراق تجلى أنوار الربوبية بحقائق أنوار الوجود الحقيقي كما قال : وأشرقت الأرض بنور ربها}(الزمر : 69) [إبراهيم : 48-39]{وَبَرَزُوا} أي خرج الخلائق من قبورهمالواحد القهار أي لمحاسبته ومجازاته وتوصيفه بالوصفين للدلالة على أن الأمر في غاية الصعوبة كقوله : لمن الملك اليومالواحد القهار}(غافر : 16) فإن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار.
يقول الفقير : سمعت شيخي وسندي قدس سره وهو يقول في هذه الآية هذا ترتيب أنيق فإن الذات الأحدية تدفع بوحدتها الكثرة ويقهرها الآثار فيضمحل الكل فلا يبقى سواه تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 436
قال في "المفاتيح" : القهار هو الذي لا موجود إلا وهو مقهور تحت قدرته مسخر لقضائه عاجز في قبضته.
وقيل هو الذي أذل الجبابرة وقصم ظهورهم بالإهلاك.
{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَااِذٍ} أي : يوم هم بارزون مقرنين حال من المجرمين قرن بعضهم مع بعض بحسب مشاركتهم
436
في العقائد الفاسدة أو قرنوا مع الشياطين الذين أغووهم أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالاغلال في الأصفاد متعلق بمقرنين أي يقرنون في الأصفاد وهي القيود كما في القاموس جمع صفد محركة وأصله الشد يقال صفدته إذا شددته شداً وثيقاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 436
{سَرَابِيلُهُم} أي : قمصانهم جمع سربال من قطران هو عصارة الأبهل والأرز ونحوهما.
قال في التفاسير : هو ما يتحلب من الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربي فيحرق الجرب بحدته وقد تصل حرارته إلى الجوف وهو أسود منتن يسرع فيه اشتعال النار يطلي به جلود أهل النار يعود طلاؤه لهم كالسرابيل ليجتمع عليهم الألوان الأربعة من العذاب لذع القطران وحرقته وإسراع النار في جلودهم واللون الموحش ونتن الريح على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين فإنه ورد وإن ناركم هذه جزء من سبعين جزأ من نار جهنم وقس عليها القطران ونعوذ بالله من عذابه كله في الدنيا والآخرة وما بينهما.
وقال في التبيان : القطران في الآخرة ما يسيل من أبدان أهل النار.
وعن يعقوب من قطرآن والقطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره وتغشى وجوههم النار أي تعلوها وتحيط بها النار التي تمس جلدهم المسربل بالقطران لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق ولم يستعملوا في تدبره مشاعرهم وحواسهم التي خلقت فيها لأجله كما تطلع على أفئدهم لأنها فارغة عن المعرفة مملوءة بالجهالات.
وفي بحر لعلوم : الوجه يعبر به عن الجملة والذات مجازاً وهو أبلغ من الحقيقة أي وتشملهم النار وتلبسهم لأن خطاياهم شملتهم من كل جانب فجوزوا على قدرها حتى الاصرار والاستمرار.
ليجزى الله متعلق بمضمر ، أي : يفعل بهم ، وذلك ليجزى كل نفس مجرمة ما كسبت من أنواع الكفر والمعاصي جزاء موافقاً لعملها.
إن الله سريع الحساب إذ لا يشغله حساب عن حساب فيتمه في أعجل ما يكون من الزمان فيوفى الجزاء بحسبه أو سريع المجيء يأتي عن قريب.(4/289)
وفي التأويلات وترى المجرمين وهم أرواح أجرموا إذا تبعوا النفوس ووافقوها في طلب الشهوات والإعراض عن الحق يومئذٍ ، أي : يوم التجلي مقيدين في النفوس بقيود صفاتها الذميمة الحيوانية ولا يستطيعون للبروز والخروجسرابيلهم من قطران المعاصي وظلمات النفوس وهم محجوبون بها عن الله وتغشى وجوههم نار الحسرة والقطيعة والحرمان ، ليجزي الله كل نفس ، أي : كل روح بما كسبت من صحبة النفس وموافقتها إن الله سريع الحساب ، أي : يحاسب الأرواح بالسرعة في الدنيا ويجزيهم بما كسبوا في متابعة النفوس من العمى والصمم والجهل والغفلة والبعد وغير ذلك من الآفات قبل يوم القيامة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 437
هذا القرآن بما فيه من فنون العظات والقوارع بلاغ للناس كفاية لهم في الموعظة والتذكير.
قال في القاموس : البلاغ كسحاب الكفاية ولينذروا به عطف على مقدر واللام متعلقة بالبلاغ أي كفاية لهم في أن ينصحوا وينذروا به.
وفي التأويلات : أي لينتبهوا بهذا البلاغ قبل المفارقة عن الأبدان فينتفعوا به فإن الانتباه.
بالموت لا ينفع.
وليعلموا بالتأمل فيما فيه من الآيات إنما هو إله واحد (آنكه اوست خداي يكتا) أي : لا شريك له فيعبدوه ولا يعبدوا الها غيره من الدنيا والهوى والشيطان وما يعبدون من دون الله.
وليذكر
437
أولوا الألباب أي لتذكروا ما كانوا يعملون من قبل من التوحيد وغيره من شؤون الله ومعاملته مع عباده فيرتدعوا عما يرديهم من الصفات التي يتصف بها الكفار ويتدرعوا بما يحصنهم من العقائد الحقة والأعمال الصالحة.
قال البيضاوي اعلم أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية ، والحكمة في إنزال الكتب تكميل الرسل للناس واستكمال القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد واستصلاح القوة العملية التي هو التدرع بلباس التقوى.
قال في بحر العلوم : وليذكر أولوا الألباب أي وليتعظ ذووا العقول فيختاروا الله ويتقوه في المحافظة على أوامره ونواهيه وبذلك وصى جميع أولى الألباب من الأولين والآخرين قال الله تعالى : ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}(النساء : 131) ويكفيهم ذلك عظة أن اتعظوا ، والعقول في ذلك متفاوتة فيجزى كل أحد منهم على قدر عقله قال النبي صلى الله عليه وسلّم "إن في الجنة مدينة من نور لم ينظر إليها ملك مقرب ولا نبي مرسل جميع ما فيها من القصور والغرف والأزواج والخدام من النور أعدها الله للعاقلين فإذا ميز الله أهل الجنة من أهل النار ميز أهل العقل فجعلهم في تلك المدينة فيجزى كل قوم على قدر عقولهم فيتفاوتون في الدرجات كما بين مشارق الأرض ومغاربها بألف ضعف".
يقول الفقير : أشير بالعقلاء ههنا إلى من اختاروا الله على غيره وإن كانوا متفاوتين في مراتبهم بحسب تفاوت عقولهم وعلومهم بالله وهم المرادون فيما ورد "أكثر أهل الجنة البله" والعقلاء في عليين فالأبله وهو من اختار الجنة ونعيمها دون من اختار الله وقربه في المرتبة فإنه العابد بالمعاملات الشرعية وهذا العارف بالأسرار الإلهية والعارف فوق العابد ألا ترى أن مقامه من نور ومقام العابد من الجوهر والنور فوق الجوهر في اللطافة.
قال الكمال الخجندي :
جزء : 4 رقم الصفحة : 437
نيست ما راغم طوبى وتمناى بهشت
شيوه مردم نا اهل بودهمت ست
وقال المولى الجامي :
يا من ملكوت كل شيء بيده
طوبى لمن ارتضاك ذخره الغده
اين س كه دلم جز توندارد كامى
توخواه بده كام دلم خوا مده
438
جزء : 4 رقم الصفحة : 437(4/290)
تفسير سورة الحجر
وهي مكية وآيها تسع وتسعون كما في التفاسير الشريفة
جزء : 4 رقم الصفحة : 438
{الرَ} اسم للسورة وعليه الجمهور أي هذه السورة مسماة بالر.
وقال الكاشفي : علما را در حروف مقطعة أقاويل بسيارست جمعي بر آنندكه مطلقاً درباب آن سخن كفتن سلوك سبيل جرأتست.
ودر ينابيع آورده كه فارقو را از معنى اين حروف رسيدند فرمودند اكردورى سخن كويم متكلف باشم وحق تعالى يغمبر خودرا فرموده كه بكو وما أنا من المتكلفين) يقول الفقير : إنما عد حضرة الفاروق رضي الله عنه المقال فيه من باب التكلف لا من قبيل ما يعرف بالذوق الصحيح والمشرب الشافي ، واللسان قاصر عن إفادة ما هو كذلك على حقيقته لأنه ظرف الحروف والألفاظ لا ظرف المعاني والحقائق ولا مجال له لكونه منتهياً مقيداً أن يسع فيه ما لا نهاية له.
وفيه إشعار بأن الكلام فيه ممكن في الجملة ، وأما قول من قال : إن هذه الحروف من أسرار استأثر الله بعلمها ففي حق القاصرين عن فهم حقائق القرآن والخالين عن ذوق هذا الشأن وعلم عالم المشاهدة والعيان ، وإلا فالذي استأثر الله بعلمه إنما هي الممتنعات وهي ما لم يشم رائحة الوجود بل بقى في غيب العلم المكنون بخلاف هذه الحروف فإنها ظهرت في عالم العين ، وما هو كذلك لا بد وأن يتعلق به علم الأكملين لكونه من مقدوراتهم فالفرق بين علم الخالق والمخلوق أن علم الخالق عام شامل بخلاف علم المخلوق فافهم هداك الله (وبعضي كويند هر حرفي اشارت باسميست نانه در الر الف اشارت باسم الله است ولام باسم جبريل ورا باسم خضرت رسول الله اين كلام ازخداي تعالى بواسطه جبريل برسول رسيده) تلك السورة العظيمة الشأن.
آيات الكتاب الكامل الحقيق باختصاص اسم الكتاب على الإطلاق على ما يدل عليه اللام أي بعض من جميع القرآن أو من جميع المنزل إذ ذاك أو آيات اللوح المحفوظ وقرآن عظيم الشأن مبين مظهر لما في تضاعيفه من الحكم والمصالح أو لسبيل الرشد والغي أو فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام فهو من أبان المتعدي ويمكن أن يجعل من اللازم ، الظاهر أمره في الإعجاز ، أو الواضحة معانيه للمتدبرين ، أو البين للذين أنزل عليهم لأنه بلغتهم وأساليبهم ، وعطف القرآن على الكتاب من عطف إحدى الصفتين على الأخرى أي الكلام الجامع بين التكابية والقرآنية.
وفي : التأويلات النجمية يشير بكلمة تلك إلى قوله : الر أي كل حرف
439
من هذه الحروف حرف من آية من آيات الكتاب و هي قرآن مبين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 439
فالألف إشارة إلى آية الله لا إله إلا هو الحي القيوم}(البقرة : 255).
واللام إشارة إلى آية {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِا يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} (الفتح : 14).
والراء إشارة إلى آية {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ} (الأعراف : 23) فالله تعالى اقسم بهذه الآيات الثلاث بإشارة هذه الحروف الثلاثة ثم اقسم بجميع القرآن بقوله : {وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ} .
ربما رب ههنا للتكثير كما في مغني اللبيب.
والمعنى بالفارسية أي بساوقت كه يود يتمنى في الآخرة الذين كفروا بالقرآن وبكونه من عند الله لو كانوا مسلمين يعني في الدنيا مستسلمين لأحكام الله تعالى وأوامره ونواهيه ومفعول يود محذوف لدلالة لو كانوا مسلمين عليه أي يودون الإسلام على أن لو للتمني حكاية لودادتهم فلا تقتضي جواباً ، وإنما جيء بها على لفظ الغيبة نظراً إلى أنهم مخبر عنهم ولو نظر إلى الحكاية لقيل لو كنا مسلمين ، وأما من جعل لو الواقعة بعد فعل يفهم منه معنى التمني حرفاً مصدرية فمفعول يود عنده لو كانوا مسلمين ، على أن يكون الجملة في تأويل المفرد ، وفي الحديث : إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة ، قال الكفار ، لمن في النار من أهل القبلة : ألستم مسلمين؟ فقالوا : بلى قالوا فما أغنى عنكم إسلامكم؟ وأنتم معنا في النار؟ قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيغضب الله لهم يفضل رحمته فيأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار فيخرجون منها فحينئذٍ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين وفي الحديث : لا يزال الرب يرحم ويشفع إليه حتى يقول من كان من المسلمين فليدخل الجنة فعند ذلك يتمنون الإسلام أي : يتمنونه أشد التمني ويودونه أشد الودادة وإلا فنفس الودادة ليست بمختصة بوقت دون وقت بل هي مستمرة في كل آن يمر عليهم قبل دخول النار وبعده كما يدل عليه رب التكثيرية.
وقال بعضهم : ربما يود الذين فسقوا لو كانوا مطيعين وربما يود الذين كسلوا لو كانوا مجتهدين وربما يود الذين غفلوا لو كانوا ذاكرين.
اكر مرده مسكين زبان داشتى
بفرياد وزاري فغان داشتى
كه اي زنده ون هست امكان كفت
لب از ذكر ون مرده برهم مخفت
ومارا بغفلت بشد روز كار
توبارى دمي ند فرصت شمار
وقال عبد الله بن المبارك : ما خرج أحد من الدنيا من مؤمن وكافر إلا على ندامة وملامة لنفسه ، فالكافر لما يرى من سوء ما يجازي به ، والمؤمن لرؤية تقصيره في القيام بموجب الخدمة وترك الحرمة وشكر النعمة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 439
وقال ابن العرجي : الكفران هنا كفران النعمة ومعناه ربما يود الذين جهلوا نعم الله عندهم وعليهم أن لو كانوا شاكرين عارفين برؤية الفضل والمنة.
يقول الفقير : عبارة الكفر وإن كانت شاملة لكفر الوحدة وكفر النعمة لكن الآية نص في الأول ولا مزاحمة في باب المعاني الثواني التي هي من قبيل الإشارات القرآنية والمدلولات المحتملة فعليك العمل بالكل فإنه سلوك لخير السبل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 439
{ذَرْهُمْ} أي دع الكفار يا محمد عن النهي عما هم عليه بالتذكرة والنصيحة لا سبيل إلى ارعوائهم عن ذلك.
والآية منسوخة بآية القتال كما في بحر العلوم.(4/291)
قال الكاشفي : (امر تهوين وتحقيراست يعني كافران دره حسابند دست ازيشان بدار تا در دنيا) يأكلوا كالأنعام ويتمتعوا بدنياهم وشهواتها والمراد
440
دوامهم على ذلك لا إحداثه فإنهم كانوا كذلك ، وهما أمران بتقدير اللام لدلالة ذرهم عليه أو جواب أمر على التجوز لأن الأمر بالترك يتضمن الأمر بهما أي دعهم وبالغ في تخليتهم وشأنهم بل مرهم بتعاطي ما يتعاطون ويلههم أي : يشغلهم عن اتباعك أو عن الاستعداد للمعاد.
الأمل التوقع لطول الأعمار وبلوغ الأوطار واستقامة الأحوال وأن لا يلقوا في العاقبة والمآل إلا خيراً.
قال الصائب :
درسر اين غافلان طول امل دانى كه يست
اشيان كردست مارى دركبوتر خانه
قال في بحر العلوم : إن الأمل رحمة لهذا الأمة لولاه لتعطل كثير من الأمور وانقطع أغلب أسباب العيش والحياة ، قال رسول الله : إنما الأمل رحمة الله لأمتي لولا الأمل ما أرضعت أم ولدا ولا غرس غارس شجراً رواه أنس ، والحكمة لا تقتضي اتفاق الكل على الإخلاص والإقبال الكلي على الله فإن ذلك مما يخل بأمر المعاش ، ولذلك قيل : لولا الحمقى لخربت الدنيا.
قال بعضهم : لو كان الناس كلهم عقلاء لما أكلنا رطباً ولا شربنا ماء بارداً يعني أن العقلاء لا يقدمون على صعود النخيل لاجتناء الرطب ، ولا على حفر الآبار لاستنباط الماء البارد كما في اليواقيت.
قال في شرح الطريقة : الأمل إرادة الحياة للوقت ، للتراخي بالحكم ، والجزم ، أعني بلا استثناء ولا شرط صلاح ، وهو مذموم في الشرع جداً ، وغوائله أربع الكسل في الطاعة وتأخيرها وتسويف التوبة وتركها وقسوة القلب بعد ذكر الموت والحرص على جمع الدنيا والاشتغال بها عن الآخرة فسوف يعلمون سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه وهو وعيد لهم.
قال في التأويلات النجمية : قوله : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل تهديد لنفس ذاقت حلاوة الإسلام ثم عادت إلى طبعها الميشوم واستحلت مشاربها من نعيم الدنيا واستحسنت زخارفها فيهددها بأكل شهوات الدنيا والتمتع بنعيمها ثم قال : فسوف يعلمون ما خسروا من أنواع السعادات والكرامات والدرجات والقربات وما فات منهم من الأحوال السنية والمقامات العلية وما أورثتهم الدنيا الدنية من البعد من الله والمقت وعذاب نار القطيعة والحرمان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 440
وما أهلكنا شروع في بيان سر تأخير عذابهم إلى يوم القيامة وعدم نظمهم في سلك الأمم الدارجة في تعجيل العذاب أي : وما أهلكنا.
من قرية من القرى بالخسف بها وبأهلها كما فعل ببعضها أو باخلائها عن أهلها غب إهلاكهم كما فعل بآخرين إلا ولها في ذلك الشأن كتاب أي : أجل مقدر مكتوب في اللوح المحفوظ واجب المراعاة بحيث لا يمكن تبديله لوقوعه حسب الحكمة المقتضية له.
معلوم لا ينسى ولا يغفل حتى يتصور التخلف عنه بالتقدم والتأخر.
فكتاب مبتدأ خبره الظرف والجملة حال من قرية فإنها لعمومها ، لا سيما بعد تأكده بكلمة من في حكم الموصوفة كما أشير إليه ، والمعنى وما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا حال أن بكون لها كتاب أي أجل مؤقت لهلكها قد كتبناه لانهلكها قبل بلوغه ، معلوم لا يغفل عنه حتى تمكن مخالفته بالتقدم والتأخر ، أو صفة للقرية.
المقدرة التي هي بدل من المذكورة على المختار فيكون بمنزلة كونه صفة للمذكورة أي وما اهلكنا قرية من القرى إلا قرية لها كتاب معلوم ، وتوسيط الواو بينهما وإن كان القياس عدمه للإيذان
441
بكمال الالتصاق بينهما من حيث أن الواو شأنها الجمع والربط.
ما تسبق ما نافية من زائدة أمة من الأمم الهالكة وغيرهم أجلها المكتوب في كتابها أي لا يجيء هلاكها قبل مجيء كتابها وما يستأخرون أي وما يتأخرون عنه ، وإنما حذف لأنه معلوم ولرعاية الفواصل ، وصيغة الاستفعال للاشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له ، وأما تأنيث ضمير أمة في أجلها وتذكيره في يستأخرون فللحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى.
وفي التأويلات النجمية : ما تسبق من أمة أجلها حتى يظهر منها ما هو سبب هلاكها وتستوفي نفسها من الحظوظ ما يبطل الحقوق.
وما يستأخرون لحظة بعد استيفاء أسباب الهلاك والعذاب.
قال السعدي :
طريقي بدست آر وصلحي بجوى
شفيعي برانكيز وعذري بكوى
كه يك لحظه صورت نه بنددامان
و يمانه رشد بدور زمان
فعلى العاقل أن يجتهد في تزكية النفس الأمارة ، وإزالة صفاتها المتمردة ومن المعلوم أن الدنيا كالقرية الصغيرة والآخرة كالبلدة الكبيرة ولم يسلم من الآفات إلا من توجه إلى السواد الأعظم فإنه ما من لكل نفس فلو مات عند الطريق فقد وقع أجره على الله ، ولو تأخر واجتهد في عمارة قرية الجسد واشتغل بالدنيا وأسبابها هلك مع الهالكين ، وإذا كان لكل نفس أجل لا تموت إلا عند حلوله وهو مجهول فلا بد من التهيء في كل زمان وذكر الموت كل حين وآن وقصر الأمل وإصلاح العمل ودفع الكسل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 440(4/292)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : إنه اشترى أسامة بن زيد من زيد بن ثابت وليدة بمائة دينار إلى شهر فسمعت رسول الله يقول : ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر إن أسامة لطويل الأمل ، والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي إلا ظننت أن شفري لا يلتقيان حتى يقبض الله روحي ولا رفعت طرفي فظننت إني واضعه حتى اقبض ، ولا لقمت لقمة إلا ظننت إني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت ثم قال يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى والذي نفسي بيده إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين أي : لا تقتدرون على اعجاز الله عن إتيان ما توعدون به من الموت والحشر والحساب وغيرها من أحوال القيامة وأهوالها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 440
{وَقَالُوا} أي : مشركوا مكة وكفار العرب لغاية تماديهم في العتو والغي.
وفي بعض التفاسير نزلت في عبد الله بن أمية يا أيها الذي نزل عليه الذكر نادوا به النبي عليه السلام على وجه ألتهكم ، ولذا جننوه بقولهم : إنك لمجنون إذ لا يجتمع اعتقاد نزول الذكر عليه ونسبة الجنون إليه.
والمعنى : إنك لتقول قول المجانين حين تدعى أن الله نزل عليك الذكر أي القرآن.
وقال الكاشفي : (بدرستى توديوانه كه مارا از نقد بنسيه مي خواني) وجواب هذه الآية قوله تعالى في سورة القلم ما أنت بنعمة ربك بمجنون}(القلم : 2) أي : ما أنت بمجنون حال كونك منعماً عليك بالنبوة وكمال العقل.
يقول الفقير : الجنون من أوصاف النقصان يجب تبرئة ساحة الأنبياء وكمل الأولياء منه وعد نسبته إليهم من الجنون ، إذ لا سفه أشد من نسبة النقصان وسخافة العقل والاذعان إلى المراجيح الرزان ، ولا عقل من العقول إلا وهو مستفيض من العقل الأول الذي هو الروح المحمدي ، والعاقل بالعقل المعادي مجنون عند العاقل بالعقل المعاشي وبالعكس ، ولا يكون مجنوناً بالجنون المقبول إلا بعد دخول دائرة العشق.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر.
442
جننا مثل مجنون بليلى
شغفنا حب جيران بسلمى
يعني جننا من الأزل إلى الأبد بجنون عشق المعشوق الوجه الحق وحب المحبوب الجمال المطلق كما جن مجنون بجنون عشق المعشوق ليلى الخلق ، وحب المحبوب الجمال المقيد.
قال الصائب :
روزن عالم غيبست دل اهل جنون
من وآن شهركه ديوانه فراوان باشد
{لَّوْ مَا} حرف تحضيض بمعنى هلا وبالفارسية (را) تأتينا (نمى آرى) فالباء للتعدية في قوله بالملائكة يشهدون بصحة نبوتك ويعضدونك في الأنذار كقوله تعالى : لولا انزل إليه ملك فيكون معه نذيرا}(الفرقان : 7) يعني : (اكر راست مى كويي كه يغمبرى فرشتكانرا حاضركن تا بحضور ما كواهى دهند برسالت تو) أو يعاقبوننا على التكذيب كما أتت الأمم المكذبة لرسلهم.
{إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في دعواك فإن قدرة الله على ذلك مما لا ريب فيه وكذا احتياجك إليه في تمشية أمرك فقال الله تعالى في جوابهم :
جزء : 4 رقم الصفحة : 442
ما ننزل الملائكة إلا بالحق أي : ملتبساً بالوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به مما تقتضيه الحكمة وتجري به السنة الإلهية والذي اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم هم ، ومنزلتهم في الحقارة والهوان منزلتهم ، مما لا يكاد يدخل تحت الصحة والحكمة أصلاً ، فإن ذلك من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يفتح على غير الأنبياء العظام ، من أفراد كمل المؤمنين ، فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللئام ، وإنما الذي يدخل في حقهم تحت الحكمة في الجملة هو التنزيل للتعذيب والاستئصال كما فعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا بالمرة وما كانوا إذن منظرين إذن جواب وجزاء لشرط مقدر وهي مركبة من إذ وهو اسم بمعنى الحين ثم ضم إليه إن فصار أذان ثم استثقلوا الهمزة فحذفوها فمجيء لفظة إن دليل على إضمار فعل بعدها والتقدير وما كانوا إذ إن كان ما طلبوه منظرين والأنظار التأخير.
والمعنى ولو نزلنا الملائكة ما كانوا امؤخرين بعد نزولهم طرفة عين كدأب سائر الأمم المكذبة المستهزئة ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلم القضاء بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لتعلق العلم الإرادة بازديادهم عذاباً وبإيمان بعض ذراريهم.
وفي تفسير الكاشفي ما ننزل الملائكة إلا بالحق مكر بوحي نازل بعذاب.
يعني ملك رابصورت أصلي وقتى توانند ديدكه بجهت عذاب نازل شوند نانه قوم مود جبريل رادر زمان صيحه ديدند يابوقت مرك نانه همه كس مي بينند وما كانوا إذن ونباشند آن هنكام كه ملائكه را بدين صورت فرستيم منظرين از مهلت داد كان يعني في الحال معذب شوند).
جزء : 4 رقم الصفحة : 442
{إِنَّا نَحْنُ} لعظم شأننا وعلو جنابنا ونحن ليست بفصل لأنها بين اسمين وإنما هي مبتدأ كما في الكواشي نزلنا الذكر ذلك الذكر الذي أنكروه وأنكروا نزوله عليك ونسبوك بذلك إلى الجنون وعموا منزله حيث بنوا الفعل للمفعول إيماء إلى أنه أمر لا مصدر له وفعل لا فاعل له.(4/293)
قال الكاشفي : (وذكر بمعنى شرف نيز مى آيد يعني اين كتاب موجب شرف خوانند كانست) يعني في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : بل أتيناهم بذكرهم}(المؤمنون : 71) أي : بما فيه شرفهم وعزهم وهو الكتاب {وَإِنَّا لَه لَحَافِظُونَ} في كل وقت من كل ما لا يليق به كالطعن فيه والمجادلة في حقيته والتكذيب له والاستهزاء به ، والتحريف والتبديل
443
والزيادة والنقصان ونحوها ، وأما الكتب المتقدمة فلما لم يتول حفظها واستحفظها الناس تطرق إليها الخلل.
وفي التبيان أو حافظون له من الشياطين من وساوسهم وتخاليطهم.
يعني (شيطان نتواندكه درويزى از باطل بيفزايد يا يزى از حق كم كند).
قال في بحر العلوم : حفظه إياه بالصرفة على معنى أن الناس كانوا قادرين على تحريفه ونقصانه كما حرفوا التوراة والإنجيل لكن الله صرفهم عن ذلك أو بحفظ العلماء وتصنيفهم الكتب التي صنفوها في شرح الفاظه ومعانيه ككتب التفسير والقراآت وغير ذلك.
وفي المثنوى :
مصطفى را وعده كرد الطاف حق
كر بميرى تونميرد اين سبق
من كتاب معجزت را رافعم
بيش وكم كن را زقرآن مانعم
من ترا اندر دو عالم حافظم
طاعنا نرا از حديثت دافعم
كس نتاند بيش وكم كردن درو
تو به ازمن حافظي ديكر مجو
رونقت را روز روز افزون كنم
نام توبر زر و بر نقره زنم
منبر ومحراب سازم بهرتو
در محبت قهر من شد قهرتو
ا كرانت شهرها كيرند وجاه
دين توكيرد زماهى تابماه
تا قيامت باقيش داريم ما
تومترس ازنسخ دين اي مصطفى
وعن أبي هريرة قال رسول الله : إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ذكره أبو داود في سننه.
وفيما ذكر إشارة إلى أن القرآن العظيم ما دام بين الناس لا يخلو وجه الأرض عن المهرة من العلماء والقراء والحفاظ روي أنه يرفع القرآن في آخر الزمان من المصاحف فيصبح الناس فإذا الورق أبيض يلوح ليس فيه حرف ثم ينسخ القرآن من القلوب فلا يذكر منه كلمة ثم يرجع الناس إلى الأشعار والأغاني وأخبار الجاهلية كما في فصل الخطاب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 443
فعلى العاقل التمسك بالقرآن وحفظه نظما ومعنى فإن النجاة فيه ، وفي الحديث : من استظهر القرآن خفف عن والديه العذاب وإن كانا مشركين ، وفي حديث آخر اقرأوا القرآن واستظهروه فإن الله لا يعذب قلباً وعى القرآن وفي حديث آخر لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقى في النار ما احترق أي من جعله الله حافظاً للقرآن لا يحترق.
وسئل الفرزدق لِمَ يهجوك جرير بالقيد فقال : قال لي أبي يوماً : تعال فذهبت أثره حتى جئنا إلى بادية فرأينا من بعيد شخصاً يجلس تحت شجرة مشغولاً بالعبادة ، فغير أبي أو ضاعة فمشى على مسكنة وذلة ، فلما قرب منه خلع نعليه وسلم بالخضوع والخشوع عليه وهو لم يلتفت إليه ثم تضرع ثانياً فرفع رأسه ورد سلامه ثم خاطبه أبي بالتواضع إليه ، وقال : إن هذا ابني وله قصائد من نفسه ، فقال مرة : قل لابنك تعلم القرآن واحفظه قال ثم رجعنا من عنده فبكيت ، فقال أبي : لِمَ تبكي يا بني ونور عيني؟ قلت : لِمَ لا أبكي وقد التفت إلى شخص وأنت من فضلاء الدهر وفصحائه وهو لم يلتفت إليك أصلاً؟ قال : اسكت هو أمير علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قلت : الآن هو أمرني بحفظ القرآن ، فقال : نعم فعهدت أن أحفظه وقيدت قدميّ بالأدهم حتى حفظته ثم أطلقت فانظر إلى اهتمامه وحفظه.
درقيامت نرسد شعر بفرياد كسى
كه سراسر سخنش حكمت يونان كردد
كما قال مولانا سيف الدين المناري : وكان من كبار العلماء رأيت لبعضهم كلمات في الدنيا عالية ثم رأيته حال الرحلة عن الدنيا في اية الضعف والتشويش وقد ذهب عنه التحقيقات والمعارف في ذلك الوقت فإن الأمر الحاصل بالتعمل والتكلف كيف يستقر حال الهرم والأمراض
444
وضعف الطبيعة سيما حال مفارقة الروح.
قيل : اشتغل الامام زفر رحمه الله في آخر عمره بتعليم القرآن وتلاوته سنتين ثم مات ورآه بعض شيوخ عصره في منامه فقال لولا سنتان لهلك زفر.
قال الكاشفي : (وكويند ضمير عائد بحضرت رسالت است يعني نكهبان وييم از مضرت اعدا) كما قال تعالى : والله يعصمك من الناس.
كر جمله جهانم خصم كردند
نترسم ون نكهدارم توباشى
زشادى درهمه حالم نكنجم
اكريك لحظه غمخوارم توباشى
والإشارة : إنا نحن نزلنا الذكر}(المجادلة : 22) في قلوب المؤمنين وهو قول لا إله إلا الله نظيره قوله تعالى : {أولئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَانَ} (الفتح : 4) وقوله : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} فالمنافق يقول لا إله إلا الله ولكن لم ينزله الله في قلبه ولم يحصل فيه الإيمان وإنا له لحافظون أي في قلوب المؤمنين ولو لم يحفظ الله الذكر والإيمان في قلوب المؤمن لما قدر المؤمن على حفظه لأنه ناسٍ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 443(4/294)
ولقد أرسلنا أي رسلاً وإنما لم يذكر لدلالة ما بعده عليه من قبلك متعلق بأرسلنا.
في شيع الأولين أي : فرقهم وأحزابهم جمع شيعة وهي الفرقة المتفقة على طريقة ومذهب ، سموا بذلك لأن بعضهم يشايع بعضاً ويتابعه ، من شايعه إذا تبعه ومنه الشيعة وهم الذين شايعوا علياً وقالوا إنه الامام بعد رسول الله ، واعتقدوا أن الامامة لا تخرج عنه وعن أولاده وإضافته إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفة عند الفراء ، والأصل في الشيع الأولين ومن حذف الموصوف عند البصريين أي في شيع الأمم الأولين ، ومعنى إرسالهم فيهم جعل كل منهم رسولاً فيما بين طائفة منهم ليتابعوه في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين.
وما يأتيهم من رسول أي ما أتى شيعة من تلك الشيع رسول خاص بها.
إلا كانوا به يستهزئون كما يفعله هؤلاء الكفرة وفيه تسلية لرسول الله بأن هذه عادة الجهال مع الأنبياء ، والجملة في محل النصب على أنها حال مقدرة من ضمير مفعول في يأتيهم إذا كان المراد بالاتيان حدوثه ، أو في محل الرفع على أنها صفة لرسول فإن محله الرفع على الفاعلية أي إلا رسول كانوا به يستهزئون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 443
{كَذَالِكَ} أي : كإدخالنا الاستهزاء في قلوب الأولين.
نسلكه أي : ندخل الاستهزاء ، والسلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط أي الأبرة والرمح في المطعون.
في قلوب المجرمين على معنى أنه يخلقه ويزينه في قلوبهم والمراد بالمجرمين مشركوا مكة ومن شايعهم في الاستهزاء والتكذيب.
لا يؤمنون به أي بالذكر وهو بيان للجملة السابقة واختار المولى أبو السعود رحمه الله أن يكون ذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام السابق من إلقاء الوحي مقروناً بالاستهزاء ، وأن يعود ضمير نسلكه وبه إلى الذكر على أن يكون لا يؤمنون به حالاً من ضمير نسلكه ، والمعنى أي مثل ذلك المسلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين
445
برسلهم وبما جاؤوا به من الكتب ، نسلك الذكر في قلوب أهل مكة أو جنس المجرمين حال كونه مكذباً غير مؤمن به ، لأنهم كانوا يسمعون القرآن بقراءة النبي فيدخل في قلوبهم ، ومع ذلك لا يؤمنون لعدم استعدادهم لقبول الحق لكونهم من أهل الخذلان.
قال السعدي قدس سره :
كسى را كه ندار در سر بود
مندار هر كزكه حق بشنود
زعلمش ملال آيد ازوعظ ننك
شقائق بباران نرويد ز سنك
قال سعدي المفتي : مكذباً أي حال الإلقاء من غير توقف كقوله تعالى : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}(البقرة : 89) أي : في ذلك الزمان من غير توقف وتفكر فلا حاجة إلى جعلها حالاً مقدرة أي كما فعله الطيبي.
وفي "التأويلات النجمية" [الحجر : 12-155]{كَذَالِكَ نَسْلُكُهُ} أي : الكفر في قلوب المجرمين لا يؤمنون به بواسطة جرمهم فإن بالجرم يسلك الكفر في القلوب كما يسلك الإيمان بالعمل الصالح في القلوب نظيره بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً}(النساء : 155) {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الاوَّلِينَ} أي : قد مضت طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حين فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاء ، يعني : (هركه از ايشان هلاك شده بترك قبول حق وتكذيب رسل بوده) وفيه وعيد لأهل مكة على استهزائهم وتكذيبهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 445
نه هر كز شنيدم درين عمر خويش
كه بدمردار نيكى آمد به بيش
ولو فتحنا عليهم أي على هؤلاء المقترحين المعاندين الذين يقولون لو ما تأتينا بالملائكة بابا من السماء أي باباً ما لا باباً من أبوابها المعهودة ، كما قيل ويسرنا لهم الرقى والصعود إليه فظلوا.
قال في بحر العلوم الظلول بمعنى الصيرورة كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة بمعناها أي فصاروا فيه أي : في ذلك الباب يعرجون يصعدون بآلة أو بغيرها ويرون ما فيها من العجائب عياناً أو فظل الملائكة يصعدون وهم يشاهدونهم ، ويقال ظل يعمل كذا إذا علمه بالنهار دون الليل ، فالمعنى فظل الملائكة الذين اقترحوا إتيانهم يعرجون في ذلك الباب وهم يروه عياناً ، مستوضحين طول نهارهم كما قال الكاشفي : (س باشند همه روزفر شتكان در نظر ايشان دران بر بالاميروند وازان در زير مى آيند).
لقالوا لغاية عنادهم وتشكيكهم في الحق إنما سكرت أبصارنا أي سدت من باب الاحساس.
يعني (اين صورت در خارج وجود ندارد).
قال في القاموس : قوله تعالى : سكرت أبصارنا أي حبست عن النظر وحيرت أو غطيت وغشيت.(4/295)
وفي تهذيب المصادر : السكر (بند بستن) كما قال الكاشفي (جزين نيست كه بربسته اند شمهاى مارا و خيره ساخته) بل نحن قوم مسحورون}(القمر : 2) قد سحرنا محمد كما قالوه عند ظهور سائر الآيات الباهرة كما قال تعالى حكاية عنهم {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} تلخيصه لو أوتوا بما طلبوا لكذبوا لتماديهم في الجحود والعناد وتناهيهم في ذلك كما في الكواشي.
وفي كلمتي الحصر والاضراب دلالة على أنهم يبتون القول بذلك وأن ما يرونه لا حقيقة له وإنما هو أمر خيل إليهم بنوع من السحر ، قالوا : كلمة إنما تفيد الحصر في المذكور آخراً فيكون الحصر في الأبصار لا في التسكير فكأنهم قالوا سكرت أبصارنا لا عقولنا فنحن وإن
446
نتخايل بأبصارنا هذه الأشياء لكنا نعلم بعقولنا أن الحال بخلاقه ، ثم قالوا : بل نحن كأنهم اضربوا عن الحصر في الأبصار وقالوا بل جاوز ذلك إلى عقولنا بسحر سحره لنا.
أي رسول ما تو جادوا نيستى
آننانكه هي مجنون نيستى
واعلم أن السحر من خرق العادة ، وخرق العادة قد يصدر من الأولياء فيسمى كرامة ، وقد يصدر من أصحاب النفوس القوية من أصل الفطرة وإن لم يكونوا أولياء وهم على قسمين : إما خير بالطبع أو شرير ، والأول : إن وصل إلى مقام الولاية فهو وليّ وإن لم يصل فهو من الصلحاء المؤمنين والمصلحين ، والثاني : خبيث ساحر ولكل منهما التصرّف في العالم الشهادي بحسب مساعدة الأسباب المهيأة لهم فإن ساعدتهم الأسباب الخارجية استولوا على أهل العالم كالفراعنة من السحرة وإن لم تساعدهم ليس لهم ذلك إلا بقدر قوّة اشتغالهم بأسبابهم الخاصة والسحر لا بقاء له بخلاف المعجزة كالقرآن فإنه باق على وجه كل زمان والسحر يمكن معارضته بخلافها ولا يظهر السحر إلا على يد فاسق ، وكذا الكهانة والضرب بالرمل والحصى ونحو ذلك والضرب بالحصى هو الذي يفعله النساء ويقال له الطرق وقيل الخط في الرمل وأخذ العوض عليه حرام كما في فتح القريب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 445
قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في كتاب اختلاف الأئمة السحر رقى وعزائم وعقد تؤثر في الأبدان والقلوب فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه وله حقيقة عند الأئمة الثلاثة.
وقال الإمام أبو حنيفة : لا حقيقة له ولا تأثير له في الجسم وبه قال جعفر الاسترابادي من الشافعية وتعلمه حرام بالإجماع ، وكذا تعلم الكهانة والشعبذة والتنجيم والضرب بالشعير وأما المعزم الذي يعزم على المصروع ويزعم أنه يجمع الجن وإنها تطيعه فذكره أصحابنا في السحرة روى عن الإمام أحمد أنه توقف فيه ، وسئل سعيد بن المسيب عن الرجل الذي يؤخذ عن امرأته ويلتمس من يداويه فقال إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع فإن استطعت أن تنفع أخاك فافعل انتهى ما في اختلاف الأئمة باختصار ، وكون السحر إشراكاً مبنى على اعتقاد التأثير منه دون الله والتطير والتكهن والسحر على اعتقاد التأثير كفر ، وكذا الذي تطير له أو تكهن له أو سحر له إن اعتقد ذلك وصدقه كفر وإلا فحرام وليس بكفر ، فعلى الأول معنى قوله عليه السلام : ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له أنه كافر وعلى الثاني ليس من أهل سنتنا وعامل طريقتنا ومستحق شفاعتنا ، وأما تعليق التعويذ وهو الدعاء المجرب أو الآية المجربة أو بعض أسماء الله تعالى لدفع البلاء فلا بأس ، ولكن ينزعه عند الخلاء والقربان إلى النساء كذا في التتارخانية ، وعند البعض يجوز عدم النزع إذا كان مستوراً بشيء والأولى النزع كذا في شرح الكردي على الطريقة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 445
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا} الجعل هنا بمعنى الخلق والابداع.
والمعنى : بالفارسية (وبدرستى كه ما آفرديم ويدا كرديم).
في السماء متعلق بجعلنا.
بروجاً قصوراً ينزلها السيارات السبع في السموات السبع كما أشار إليها في نصاب الصبيان على الترتيب بقوله :
هفت كوكب هست كيتى را
كاه ازيشان مدار وكاه خلل
قمرست وعطارد وزهره
شمس ومريخ ومشترى وزحل
447
وهي البروج الاثنا عشر المشهورة المختلفة الهيئات والخواص وأسماؤها : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت.
وقد بسطنا القول في البروج والمنازل في أوائل سورة يونس فليراجع ثمة ، وإنما سميت البروج التي هي القصور المرفوعة لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها ، واشتقاق البرج من التبرج لظهورها.(4/296)
وفي شرح التقويم : البرج في اللغة الحصن وغاية الحصن المنع عن الدخول والوصول إلى ما فيه ويقسم دور الفلك ويسمى كل قسم منها برجا طول كل واحد ثلاثون درجة وعرضه مائة وثمانون من القطب إلى القطب وكل ما يقع في كل قسم يكون في ذلك البرج ولما كانت هذه الأقسام المتوهمة في الفلك كالموانع عن تصرفات أشخاص العالم السفلي فيما فيها من الأنجم وغيرها كما أشير إليه في الكتاب الإلهي بقوله : وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً}(الأنبياء : 32) اعتبر المناسبة وسميت بالبروج {وَزَيَّنَّاهَا} أي السماء بتلك البروج المختلفة الاشكال والكواكب سيارات كانت أو ثوابت وسميت السيارة لسرعة حركاتها وسميت الثابتة بالثوابت إما لثبات أوضاعها أبداً وإما لقلة حركاتها الثابتة وغاية بطئها ، فإن السماويات ليست بساكنة وحركات الثوابت على رأي أكثر المتأخرين درجة واحدة في ست وستين سنة شمسية وثمان وستين سنة قمرية فيتم برجا في ألفي سنة ودورة في أربعة وعشرين ألف سنة وتسمى الثوابت بالكواكب البيابانية إذ يهتدى بها في الفلاة وهي البيابان بالعجمية ، والكواكب الثابتة بأجمعها على الفلك الثامن وهو الكرسي وفوقه الفلك الأطلس أي فلك الأفلاك وهو العرش ، سمى بالأطلس لخلوه عن الكواكب تشبيهاً له بالثوب الأطلس الخالي عن النقش ثم حركة الأفلاك بالإرادة وحركة الكواكب بالعرض إذ كل منها مركوز في الفلك كالكرة المنغمسة في الماء والكواكب التي أدركها الحكماء بإرصادهم ألف وتسعة وعشرون فمنها سيارة ومنها ثوابت والكل مما أدركوا وما لم يدركوا زينة السماء كما أن في الأرض زينة لها للناظرين لكل من ينظر إليها فمعنى التزيين ظاهر ، أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بذلك على قدرة مقدرها وحكمة مدبرها فتزيينها ترتيبها على نظام بديع مستتبع للآثار الحسنة ، وتخصيصهم لأنهم هم المنفعون بها وأما غيرهم فنظرهم كلا نظر.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 4 رقم الصفحة : 447
دوشم از ى صنع بارى نكوست
زعيب برادر فرو كير و دوست
غبار هوا شم عقلت بدوخت
سموم هوا كشت عمرت بسوخت
بكن سرمه غفلت از شم اك
كهفردا شوى سرمه در شم خاك
وحفظناها أي السماء من كل شيطان رجيم مرمى بالنجوم فلا يقدر أن يصعد إليها ويوسوس في أهلها ويتصرف في أهلها ويقف على أحوالها ، فيلاحظ في الكلام معنى الإضافة إذ الحفظ لا يكون من ذات الشيطان ، وفي كلمة كل ههنا دلالة على أن اللام في الشيطان الرجيم في الاستعاذة لاستغراق الجنس كما في بحر العلوم.
وقال بعضهم : هل المراد في الاستعاذة كل شيطان أو القرين فقط الظاهر إنه في حقنا القرين قال الله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين}(الزخرف : 36) وفي حق رسول الله صلى الله عليه وسلّم إبليس ، أما نحن فلان
448
الإنسان لا يؤذيه من الشياطين إلا ما قرن به وما بعد فلا يضر شيئاً.
والعاقل لا يستعيذ مما لا يؤذيه وأما الرسول عليه السلام فلأنه لما قيل له ولا أنت يا رسول الله قال : "ولا أنا ولكن الله تعالى أعانني عليه حتى أسلم فلا يأمرني إلا بخير" فإذا كان قرينه عليه السلام قد أسلم فلا يستعيذ منه فالاستعاذة حينئذٍ من غيره وغيره يتعين أن يكون إبليس أو أكابر جنوده لأنه قد ورد في الحديث : "أن عرش إبليس على البحر الأخضر وجنوده حوله وأقربهم إليه أشدهم بأساً ويسأل كلا منهم عن عمله وإغوائه ولا يمشي هو إلا في الأمور العظام" والظاهر أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أهم المهمات عنده فلا يؤثر به غيره من ذريته.(4/297)
يقول الفقير إنما يستعيذ عليه السلام من الشيطان امتثالاً للأمر الإلهي لا غير ، إذ لا تسلط له على أفراد أمته المخلصين بالفتح فضلاً عن التسلط عليه وهو آيس من وسوسته صلى الله عليه وسلّم لأنه يحترق من نوره عليه السلام فلا يقرب منه ، وأما قوله تعالى : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (الأعراف : 200) ففرض وتقدير وتشريع وكذا قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف : 201) لا يدل على وقوع المس في حق كل متق ، بل يكفي وجوده في حق بعض أفراد الأمة في الجملة ولئن سلم كما يدل عليه قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّه لا إله إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الحج : 52) أي إذا قرأ وناجي ألقى الوسوسة في قراءته ومناجاته فهو يعلم أنه عليه السلام لا يعمل بمقتضى وسوسته ، لأنه نفسه أخرج المخلصين بالفتح من أن يتعرض لهم أغواء أو يؤثر فيهم وسوسة ، ولا مانع من الاستعاذة من كل شيطن سواء كان مؤذياً أم لا ، إذ عداوته القديمة لبني آدم مصححة لها ، ومن نصب نفسه للعداوة فأولاده تابعة له في ذلك وقد ذكروا أن لوسوسته اليوم في قلوب جميع أهل الدنيا حالة واحدة وهو كقبض عزرائيل عليه السلام الأرواح من بني آدم وهي في مواضع مختلف وهو في مكان واحد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 447
{إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} محله النصب على أنه استثناء متصل ، لأن المسترق من جنس الشيطان الرجيم أي إن فسر الحفظ بمنع الشياطين عن التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة أو منقطع أي ولكن من استرق السمع أن فسر ذلك بالمنع عن دخولها أو التصرف فيها والاستراق افتعال وبالفارسية : (بدزديدن) والمسترق المستمع مختفياً كما في القاموس والسمع بمعنى المسموع كما قال الكاشفي (بدزدد سخنى مسموع) واستراق السمع اختلاسه سراً شبه به خطفتهم اليسيرة من قطاع السموات لما بينهم من المناسبة في الجوهر.
فاتبعه أي : تبعه ولحقه وبالفارسية (س از ى در آيدش وبدو رسد وبسوزدش) قال ابن الكمال : الفرق قائم بين تبعه واتبعه يقال اتبعه اتباعاً إذا طلب الثاني اللحوق بالأول وتبعه تبعاً إذا مر به ومضى معه شهاب لهب محرق وهي شعلة نار ساطعة مبين ظاهر أمره للمبصرين ومما يجب التنبه له أن هذا حكاية فعل قبل النبي وأن الشياطين كانت تسترق في بعض الأحوال قبل أن يبعثه الله فلما بعث رسول الله كثر الرجم وزاد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الأنس والجن ومنع الاستراق رأساً وبالكلية.
مهى بر آمد وبازار تيركى بشكست
كلى شكفت وهيا هوى خار آخرشد
449
ويعضده ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السموات فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات ولما ولد محمد عليه السلام منعوا من السموات كلها بالشهب ، وما يوجد اليوم من أخبار الجن على ألسنة المخلوقين إنما هو خبر منهم عما يرونه في الأرض مما لا نراه نحن كسرقة سارق أو خبية في مكان خفي ، ونحو ذلك ، وإن أخبروا بما سيكون كان كذباً كما في آكام المرجان.
وفي الحديث : إن الملائكة تنزل إلى العنان فتذكر الأمر الذي قضى في السماء فيسترق الشيطان السمع فيوحيه إلى الكهان فيكذبون مائة كذبة من عند أنفسهم.
وفي بعض التفاسير إن الشياطين كانوا يركب بعضهم بعضاً إلى السماء الدنيا أو كان الشيطان المارد يصعد ويكون الآخر أسفل منه فإذا سمع قال للذي هو أسفل منه قد كان من الأمر كذا وكذا فيهرب الأسفل لأخبار الكهنة ويرمى المستمع بالشهاب فهم لا يرمون بالكواكب نفسها لأنها قارة بالفلك على حالها وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار والنار ثابتة كاملة لا تنقص فمنهم من يحرق وجهه وجبينه ويده وحيث يشاء الله ومنهم من يخبل أي يفسد عقله حتى لا يعود إلى الاستماع من السماء فيصير غولاً فيضل الناس في البوادي ويغتالهم أي يهلكهم ويأخذهم من حيث لم يدروا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 447
قال ابن الأثير في النهاية : الغول أحدالغيلان وهي جنس من الجن والشيطان ، وكانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تترا أي للناس فتتلون تلونا في صور شتى تضلهم عن الطريق وتهلكهم انتهى.
وفيه إشارة إلى أن وجود الغول لا ينكر ، بل المنكر تشكلهم بأشكال مختلفة وإهلاكهم بني آدم وهو مخالف لما سبق آنفاً من التفاسير اللهم إلا أن يراد أن ذلك قبل بعثة النبي عليه السلام وقد أبطله عليه السلام بقوله : لا غول ولكن السعالي أي : لا يستطيع الغول أن يضل أحداً فلا معنى للزعم المذكور.
والسعالى بالسين المفتوحة والعين المهملة سحرة الجن جمع سعلاة بالكسر ولكن في الجن سحرة تتلبس وتتخيل لهم.
قال في أنوار المشارق : والذي ذهب إليه المحققون أن الغول شيء يخوف به ولا وجود له كما قال الشاعر :
الجود والغول والعنقاء ثالثة(4/298)
أسماء أشياء لم توجد ولم تكن
وتزعم العرب أنه إذ انفرد رجل في الصحراء ظهرت له في خلقة إنسان ورجلاها رجلاً حمار انتهى.
وأما قول صاحب المثنوى قدس سره :
ذكر حق كن بانك غولاً نرا بسوز
شم نركس را ازين كركس بدوز
فيشير إلى الشياطين الخبيثة المفسدة بل إلى كل مضل للطالب عن طريق الحق على سبيل التشبيه وفائدة الذكر كونه دافعاً لوساوسه لأنه إذا ذكر الله خنس الشيطان أي تأخر ، ولعل المراد والله أعلم أن الجن ليس لهم دماغ كأدمغة بني آدم فلا تحمل لهم على استماع الصوت الجهوري الشديد فالذاكر إذا رفع صوته بالذكر طرد عن نفسه الشيطان وأحرقه بنور ذكره وأفسد عقله بشدة صوته وشهاب نفسه المؤثر.
ذكر أبو بكر الرازي أن التكبير جهرا في غير أيام التشريق لا يسن إلا بإزاء العدو واللصوق تهييباً لهم انتهى.
يقول الفقير : لما كان أعدى العدو هي النفس وأشد اللصوص والسراق هو الشيطان اعتاد الصوفية بجهر الذكر في كل زمان ومكان تهييباً لهما وطرداً لوسوستهما والقاآتهما.
والعاقل لا يستريب فيه أصلاً
450
ولا يصيخ إلى قول المنكر رأساً.
وقال محمد بن طلحة في العقد الفريد : قد اختار الحكماء للسلطان جهارة الصوت في كلامه ليكون أهيب لسامعيه وأوقع في قلوبهم انتهى.
وفيه إشارة إلى أن الروح مع القوى والأعضاء كالسلطان مع الاتباع والرعايا فما هو ملتزم في الآفاق ملتزم في الأنفس إلى أن ترتفع الحاجة والضرورة بأن أوقع المكالمة مع الندماء لكون المقام مقام الانبساط وقس عليه حال أهل الشهود والوصول إلى الله والحصول عنده بحيث ما غابوا لحظة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 447
{وَالارْضَ} نصب على الحذف على شريطة التفسير.
مددناها بسطناها ومهدناها للكسنى.
وبالفارسية (وزمين را باز كشيدم برروى آب ازز يرخانه كعبه) عن أبي هريرة رضي الله عنه خلقت الكعبة أي موضعها قبل الأرض بالفي سنة كانت حشفة على الماء عليها ملكان يسبحان الله فلما أراد الله أن يخلق الأرض دحاها منها أي بسطها فجعلها في وسط الأرض.
وفي بعض الآثار : أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السموات والأرض كان عرشه على الماء أي العذب ، فلما اضطرب العرش كتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن ، فلما أراد أن يخلق السموات والأرض أرسل الريح على ذلك الماء فتموج فعلاه دخان فخلق من ذلك الدخان السموات ، ثم أزال ذلك الماء عن موضع الكعبة فيبس.
وفي لفظ أرسل على الماء ريحاً هفافة فصفقت الريح الماء أي ضرب بعضه بعضاً فأبرز عنه خشفة بالخاء المعجمة وهي حجارة يبست بالأرض في موضع البيت كأنها قبة وبسط الحق سبحانه من ذلك الموضع جميع الأرض طولها وعرضها وهي أصل الأرض وسرتها أي وسط الأرض المعمورة المسكونة وأما وسط الأرض عامرها وخرابها فقبة الأرض وهو مكان معتدل فيه الأزمان في الحر والبرد ومستوفية الليل والنهار أبداً.
واعلم أن من الأمكنة الأرضية ما يلحق بعالم الجنان كمكة والمدينة وبيت المقدس والمساجد والبقاع للعبودية ، خصوصاً ما بين قبر النبي عليه السلام ومنبره روضة من رياض الجنة ومن دخله وزاره بالاعتقاد الخالص والنية الصادقة كان آمناً من المكاره والمخاوف في الدنيا والآخرة.
اين ه زمين است كه عرش برين
رشك برد باهمه رفعت بدين
ونكه نيم محرم ديوار تو
مى نكرم بردر وديوار تو
آنكه شرف يافت بديدار تو
جان ه بود تاكند ايثار تو
جزء : 4 رقم الصفحة : 451
وألقينا فيها رواسي أي : جبالاً ثوابت ، لولا هي لمارت ، فلم يستقر له أحد على ظهرها يقال رسارسوا ورسوّا ثبت كأرسى ، شبه الجبال الرواسي استحقاراً لها واستقلالاً لعددها وإن كانت خلقاً عظيماً بحصيات قبضهن قابض بيده فنبذهن وما هو إلا تصوير لعظمته وتمثيل لقدرته وإن كان فعل عظيم يتحير فيه الأذهان فهو هين عليه.
والمعنى وجعلنا في الأرض رواسي بقدرتنا الباهرة وحكمتنا البالغة وذلك بأن قال لها كوني فكانت ، فأصبحت الأرض وقد أرسيت بالجبال بعد أن كانت تمور موراً ، فلم يدر أحد مم خلقت ، وعدد الجبال سوى التلول ستة آلاف وستمائة وثلاثة وسبعون على ما في زهرة الرياض وأول جبل نصب على وجه الأرض أبو قبيس وهو جبل بمكة وأفضل الجبال على ما قاله السيوطي أحد بضمتين وهو جبل بالمدينة لقوله
451(4/299)
عليه السلام : أحد يحبنا ونحبه وكان مهبط آدم عليه السلام بأرض الهند بجبل عال يراه البحريون من مسافة أيام وفيه أثر قدم آدم مغموسة في الحجر ويرى على هذا الجبل كل ليلة كهيئة البرق من غير سحاب ولا بد له في كل يوم من مطر يغسل قدمي أدم وذروة هذا الجبل أقرب ذري جبال الأرض إلى السماء كما في إنسان العيون ويضاف هذا الجبل إلى سرنديب وهو بلد بالهند والجبال خزائن الله في أرضه لمنافع عباده وإنها بمنزلة الرجال في الأكوان يقال للرجل الكامل جبل حكى أن بعض الأولياء رأى مناماً في الليلة التي ألك فيها رجال بغداد على يد هولاكوخان إن جبال العراقين ذهبت من وجه الأرض بهبوب الرياح المظلمة على بغداد فوصل الخبر أن هولاكوخان قد دخل مدينة بغداد في تلك اليلة وقتل من الأولياء والعلماء والصلحاء والأمراء وسائر الناس ما لا يحصى عدداً.
سركشته بودخواه ولى خواه نبي
دروادي ما أدري ما يفعل بي
وفي التأويلات النجمية : والأرض مددناها أي : أن أرض البشرية تميد كنفس الحيوانات إلى أن أرساها الله بجبال العقل وصفات القلب.
كشتى بي لنكر آمد مردشر
كه زباد كنمى يابد حذر
لنكر عقلست عاقل را امان
لنكرى دربوزه كن از عاقلان
وأنبتنا فيها أي في الأرض لأن الفواكه الجبلية غير منتفع بها في الأكثر أو لأن الأرض تعمها فإنها لما ألقيت فيها صارت منها من كل شيء موزون بميزان الحكمة ذاتا وصفة ومقداراً أي مستحسن مناسب من قولهم كلام موزون.
يعني (برويانيديم اززمين يزهاى نيكو مشتمل بر منافع كليه از اشجار ومزروعات باآنكه وزن كنند وبه يمانند).
جزء : 4 رقم الصفحة : 451
وجعلنا لكم فيها معايش بالياء التصريحية لأنه من العيش فالياء أصلية فوجب تصريحاً وهو جمع معيشة أي ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرها مما يتعلق به البقاء ومن لستم له برازقين (روزى دهند كان) وهو عطف على معايش كأنه قيل جعلنا لكم معايش وجعلنا لكم من لستم له برازقيه من العيال والمماليك والخدم والدواب وما أشبهها على طريقة التغليب ، وذكرهم بهذا العنوان لرد حسبانهم إنهم يكفون مؤوناتهم ، ولتحقيق أن الله تعالى هو الذي يرزقهم وإياكم ، أو عطف على محل لكم وهو النصب كأنه قيل وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين فيكون من عطف الجار والمجرور على الجار والمجرور وإن من شيء أي : ما من شيء من الأشياء الممكنة إلا عندنا يعني (درتحت فرماننا) خزائنه جمع خزانة بمنى المخزن وهي ما يحفظ فيه نفائس الأموال لا غير ، غلب في العرف على ما للملوك والسلاطين من خزائن أرزاق الناس شبهت مقدوراته تعالى في كونها مستورة عن علوم العالمين ومصونة من وصول أيديهم مع كمال افتقارهم إليها ورغبتهم فيها وكونها مهيأة متأتية لا يجاده وتكوينه بحيث متى تعلقت الإرادة بوجودها وجدت بلا تأخير بنفائس الأموال المخزونة في الخزائن السلطانية فذكر الخزائن على طريقة الاستعارة التخييلية.
يقول الفقير : سمعت من حضرة شيخي وسندي قدس سره أن الإشارة بالخزائن إلى الأعيان الثابتة فلا يفيض شيء إلا من
452
الأعيان الثابتة وعلم الله تابع المعلوم وما يقتضيه من الأحوال فما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وما ننزله أي ما نوجد وما نكون شيئاً من تلك الأشياء ملتبساً بشي من الأشياء إلا بقدر معلوم أي إلا ملتبساً بمقدار معين يقتضيه الحكمة ويستدعيه المشيئة التابعة لها.
وفي الكواشي : وما نوجده مع كثرته وتمكننا منه إلا بحد محسوب على قدر المصلحة.
وبالفارسية (مكر باندازه دانسته شده كه نه كم ازان شايدونه زياده بران بايد) وحيث كان إنشاء ذلك بطريق التفضل من العالم العلوي إلى العالم السفلي كما في قوله تعالى : وانزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج}(الزمر : 6) وكان ذلك بطريق التدريج عبر عنه بالتنزيل.
وفي "تفسير أبي الليث" {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآااِنُهُ} أي مفاتيح رزقه ويقال خزائن المطر وما ننزله أي المطر إلا بقدر معلوم يعني بكيل ووزن معروف.
قال ابن عباس رضي الله عنها : يعني : يعلمه الخزان إلا يوم الطوفان الذي اغرق الله فيه قوم نوح فإنه طغى على خزائنه وكثر فلم يحفظوا ما خرج منه يومئذٍ أربعين يوماً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 451
وفي بحر العلوم وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والانعام بأضعاف ما وجد ، وما نعطيه إلا بمقدار فعلم أن ذلك خير لهم وأقرب إلى جمع شملهم أو بتقدير علمنا ، أنهم يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في لأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير.(4/300)
وفي التأويلات النجمية : إن لكل شيء خزائن مختلفة مناسبة له كما لو قدرنا شيئاً من الأجسام فله خزانة لصورته وخزانة لاسمه وخزانة لمعناه وخزانة للونه وخزانة لرائحته وخزانة لطعمه وخزانة لطبه وخزانة لخواصه وخزانة لأحواله المختلفة الدائرة عليه بمرور الأيام وخزانة لنفعه وضره وخزانة لظلمته ونوره وخزانة لملكوته وغير ذلك وهو خزانة لطف الله وقهره وما من شيء إلا وفيه لطف الله وقهره مخزون وقلوب العباد خزائن صفات الله تعالى بأجمعها وما ننزل شيئاً مما في خزائنه إلا بقدر ما هو معلومنا في الأزل لحكمتنا البالغة المقتضية لإ يجاده وإنزاله وأرسلنا الرياح لواقح حال مقدرة جمع ريح لاقح إذا أتت بسحاب ماطر من لقحت الناقة تلقح حبلت والقحها الفحل إذا أحبلها وحملها الماء فكان الريح حملت الماء وحملته السحاب فشبهت الريح التي تجيء بالخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه بالعقيم ما لا يكون كذلك.
وقال أبو عبيدة : لواقح بمعنى ملاقح جمع ملقحة لأنها تلقح السحاب والأشجار بأن تقويها وتنميها إلى أن يخرج ثمرها وقيل بأن تجري الماء فيها حتى تهتز وتخرج الزهر.
قالوا الرياح للخير والريح للشر لقوله عليه السلام : اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً وأما قوله تعالى : وجرين بهم بريح طيبة}(يونس : 22) فقد جاء فيه الريح المفردة بمعنى الخير والنفع باعتبار قيدها لا باعتبار إطلاقها.
قال محمد بن علي ـ ـ رضي الله عنه ـ ـ ما هبت ريح ليلاً ولا نهاراً إلا قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقعد وقال : "اللهم إن كان بك اليوم سخط على أحد من خلقك بعثتها تعذيباً له فلا تهلكنا في الهالكين وإن كنت بعثتها رحمة فبارك لنا فيها" فإذا قطرت قطرة قال "رب لك الحمد ذهب السخظط ونزلت الرحمة".
قال مطرف رحمه الله لو حبست الريح عن الناس لانتن ما بين السماء والأرض {فَأَنزَلْنَا} بعدما أنشأنا بتلك الرياح سحاباً ماطراً من
453
السماء من جانب العلو فإن كل ما علاك سماء وهو ظاهر هناك لا الفلك ماء أي بعض الماء كما يفيده التنكير فإنه معلوم عند الناس علماً يقينياً أنه لم ينزل من السماء الماء كله بل قدر ما يصلون به إلى المنفعة ويسلمون معه من المضرة فأسقينا كموه أي جعلنا المطر لكم سقيا تشربونه وتسقونه المواشي والضياع.
وبالفارسية (س بخوار انيديم شمارا آن آب وتصرف داديم دران) وسقى وأسقى واحد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 451
قال في الإرشاد هو أبلغ من سقيناكموه لما فيه من الدلالة على جعل الماء معداً لهم يرتفقون به متى شاؤوا وهى أطول كلمة في القرآن وحروفها أحد عشر وحروف انلزمكموها عشرة وما أنتم له أي للمطر المنزل بخازنين أي نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب وإنزاله وما أنتم على ذلك بقادرين ، وقيل ما أنتم بخازنين له بعدما أنزلناه في الغدران والآبار والعيون بل نحن نخزن في هذه المخازن ونحفظ فيها لنجعلها سقيا لكم مع أن طبيعة الماء تقتضي الغور وهو بالفارسية (فروشدن آب درزمين امام ماتريدي در تأويلات فرموده كه نيستند شمامر خدايرا خزينه داران يعني خزاين او دردست شمانيست زآنه شما خزينه نهيد همه ازان اوست).
وإنا لنحن نحيي بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها وتقديم الضمير للحصر وهو إما تأكيد للأول أو مبتدأ خبره الفعل والجملة خبر لأنا ولا يجوز كونه ضمير الفصل لأنه يقع بين الاسمين ونميت بإعدامها وإزالتها عنها وقد يعم الإحياء والإماتة لما يشمل الحيوان والنبات والله تعالى يحيي الأرض بالمطر أيام الربيع ويميتها أيام الخريف ويحيي بالإيمان ويميت بالكفر (در لطائف قشيري مذكوراست كه زندكى ميدهيم دلهارا بأنوار مشاهده ومي ميرانيم نفوس را درنار مجاهده يا زنده مي سازيم بمواقت طاعات ومرده مي كردانيم بمتابعت شهوات).
ومن مقالات حضرة الشيخ الأكبر لولده صدر الدين القنوى قدس الله سرهما وكم قتلت وأحييت من الأولاد والأصحاب مات من مات وقتل من قتل ولم يحصل له ما حصل لك وهو شهود تجلي الذات الدائم الأبدي الذي لا حجاب بعده ولا مستقر للكمل دونه فقال صدر الدين يا سيدي الحمدعلى اختصاصي بهذه الفضيلة اعلم أنك تحيي وتميت وتفصيله في شرح الفصوص.(4/301)
قال الامام الغزالي رحمه الله : معنى المحيي والمميت الموجد ولكن الوجود إذا كان هو الحياة سمى فعله إحياء وإذا كان هو الموت سمى فعله إماتة ولا خالق للموت والحياة إلا الله فمرجع هذين الاسمين إلى صفات الفعل ونحن الوارثون قيل للباقي وارث الميت لأنه يبقى بعد فنائه.
فالمعنى ونحن الباقون بعد فناء الخلق جميعاً ، المالكون للملك عند انقضاء زمان الملك المجازي ، الحاكمون في الكل أولاً وآخراً وليس لهم إلا التصرف الصوري والملك المجازي ، وفيه تنبيه على أن المتأخر ليس بوارث للمتقدم كما يتراأى من ظاهر الحال والمكاشفون المشاهدون المعاينون يرون الأمر الآن على ما هو عليه من العدم فإن قيامة العارفين دائمة فهم سامعون الآن من الله تعالى من غير حرف ولا صوت نداء لمن الملك اليوم موقنون بأن الملكالواحد القهار في كل يوم وفي كل ساعة وفي كل لحظة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 451
وفي التأويلات النجمية وإنا لنحن نحيي قلوب أوليائنا بأنوار جمالنا ونميت نفوسهم بسطوة نظرات جلالنا ونحن الوارثون بعدا إفناء وجودهم ليبقوا ببقائنا.
وفي المثنوى :
454
شه آمد از حديقه وزكياه
وز سليمان كشته شه داد خواه
كاي سليمان معدلت مي كسترى
بر شياطين وآدمي زاد ورى
مشكلات هر ضعيفي از تو حل
شه باشد در ضعيفي خود مثل
داد ده مارا ارين غم كن جدا
دست كيراي دست تو دست خدا
س سليمان كفت اي انصاف وجو
داد وانصاف ازكه ميخوهى بكو
كيست آن ظالم كه ازباد بروت
ظلم كرست وخرا شيده است روت
كفت شه داده من ازدست باد
كو دودست ظلم مارا بركشاد
بانك زدآن شه كه اي باد صبا
شه افغان كرد از ظلمت بيا
هين مقابل شو توبا خصم وبكو
اسخ خصم وبكن دفع عدو
با ون بشنيد آمد تيز تيز
شه بكرفت آن زمان راه كريز
س سليمان كفت اي شه كجا
باش تابر هردورانم من قضا
كفت اي شه مرك من ازبود اوست
خود سياه اين روز من ازدوداوست
او ون آمد من كجا يابم قرار
كو بر آرد ازنهاد من دمار
همنين جوياي دركاه خدا
ون حدا آمد شود جوينده لا
كره آن وصلت بقا اندر بقاست
ليك زا اول أن بقا اندر فناست
سايهايى كه بود جوياي نور
نيست كردد ون كند نورش ظهور
عقل كي ماند و باشد سرده او
كل شيء هالك إلا وجهه
هالك آمد يش وجهش هست ونيست
هست اندر نيستى خود طرفه ايست
جزء : 4 رقم الصفحة : 451
{وَلَقَدْ} علمنا المستقدمين منكم استقدم بمعنى تقدم أي من تقدم منكم ولادة وموتاً يعني الأولين من زمان آدم إلى هذا الوقت ولقد علمنا المستأخرين استأخر بمعنى تأخر أي من تأخر منكم ولادة وموتاً يعني الآخرين إلى يوم القيامة أو من تقدم في الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة ومن تأخر في ذلك لا يخفى علينا شيء من أحوالكم.
وإن ربك هو لا غير يحشرهم أي يجمع المتقدمين والمتأخرين يوم القيامة للجزاء ، وهو القادر على ذلك والمتولى له لا غير فهو رد لمنكري البعث.
إنه حكيم بالغ الحكمة متقن في أفعاله فإنها عبارة عن العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي وهي صفة من صفاته تعالى لا من صفات المخلوقين ، وما يسمونه الفلاسفة الحكمة هي المعقولات وهي من نتائج العقل والعقل من صفات المخلوقين فكما لا يجوز أن يقالالعاقل لا يجوز للمخلوق الحكيم إلا بالمجاز لمن آتاه الله الحكمة كما في التأويلات النجمية عليم وسع علمه كل شيء ولعل تقديم صفة الحكمة للإيذان باقتضائها للحشر والجزاء.
وقال الامام الواحدي في أسباب النزول : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت تصلى خلف النبي عليه السلام امرأة حسناء في آخر النساء فكان بعضهم يتقدم في الصف الأول ليراها وكان بعضهم في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطه فنزلت.
وقيل : كانت النساء يخرجن إلى الجماعة فيقفن خلف الرجال فربما
455(4/302)
كان من الرجال من في قلبه ريبة يتأخر إلى آخر صف الرجال ومن النساء من في قلبها ريبة تتقدم إلى أول صف النساء لتقرب من الرجال فنزلت ، وفي الحديث : خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها قال في فتح القريب هذا ليس على عمومه بل محمول على ما إذا اختلطن بالرجال فإذا صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال ومن صلى منهن في جانب بعيد عن الرجال فأول صفوفهن خير لزوال العلة والمراد بشر الصفوف في الرجال والنساء كونها أقل ثواباً وفضلاً وأبعدها عن مطلوب الشرع وخيرها بعكسه.
وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن عن مخالطة الرجال ورؤيتهن وتعلق القلب بهن عند رؤية حركاتهن وسماع كلامهن ونحو ذلك ، وذم أول صفوفهن لعكس ذلك والصف الأول الممدوح الذي وردت الأحاديث بفضله والحث عليه هو الذي يلي الإمام ، سواء كان صاحبه على بعد من الإمام أو قرب وسواء تخلله مقصورة أو منبراً وأعمدة ونحوها أم لا هذا هو الصحيح وقيل الصف الأول هو المتصل من طرف المسجد إلى طرفه لا تتخله مقصورة ونحوها فإن تخلل الذي يلي الامام شيء فليس بأول بل الأول ما لم يتخلله شيء وإن تأخر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 455
وقيل الصف الأول عبارة عن مجيء الانسان إلى المسجد أولاً وإن صلى في صف متأخر وعن أنس رضي الله عنه حض رسول الله على الصف الأول في الصلاة فازدحم الناس عليه وكان بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد فقالوا نبيع دورنا ونشتري دوراً قريبة من المسجد فانزل الله تعالى هذه الآية يعني إنما يؤجرون بالنية وفي الحديث : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة.
قال في فتح القريب الدار البعيدة لمن يقدر على المشي أفضل وهذا في حق من هو متفرغ لذلك ولا يفوته بكثرة خطاه أو مشيه إلى المسجد مهم من مهمات الدين فإن كان يفوته ذلك كالاشتغال بالعلم والتعلم والتعليم ونحو ذلك من فروض الكفاية فالدار القريبة في حقه أفضل وكذا الضعيف عن المشي ونحوه.
فإن قيل روى الإمام أحمد في مسنده أن النبي قال : فضل البيت القريب من المسجد على البعيد منه كفضل المجاهد على القاعد عن الجهاد.
فالجواب أن هذا في نفس البقعة وذاك في الفعل فالبعيد داراً مشيه أكثر وثوابه أعظم والبيت القريب أفضل من البيت البعيد ولهذا قيل في قوله : الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس إن شؤم الدار أن تكون بعيدة عن المسجد لا يسمع ساكنها الأذان.
قال العلماء : ينبغي أن يستثنى من أفضلية الأبعد الإمام ، فإن النبي عليه السلام والأئمة بعده لم تتباعد عن المسجد لطلب الأجر.
واختلف فيمن قربت داره من المسجد هل الأفضل له أن يصلي فيه ، أو يذهب إلى الأبعد فقالت طائفة الصلاة في لأبعد أفضل عملاً بظاهر الأحاديث وقيل الصلاة في الأقرب أفضل لما روى الدارقطني أن النبي قال : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ولإ حياء حق المسجد ولماله من الجوار فإن كان في جواره مسجد ليس فيه جماعة وبصلاته فيه تحصل الجماعة كان فعلها في مسجد الجوار أفضل على المذهب ، لما في ذلك من عمارة المسجد وإحيائه بالجماعة ، أما لو كان
456
إذا صلى في المسجد الجوار صلى وحده فالبعيد أفضل ولو كان إذا صلى في بيته صلى جماعة وإذا صلى في المسجد صلى وحده ففي بيته أفضل.
قال بعضهم : جار المسجد أربعون داراً من كل جانب ، وقيل جار المسجد من سمع النداء ويقال : أراد بالآية المصلين في أول الوقت والمؤخرين إلى آخره وفي الحديث : أول الوقت رضوان الله ووسط الوقت رحمة الله وآخر الوقت عفو الله تعالى قال في شرح كتاب الشهاب للقضاعي عند قوله عليه السلام : نوروا بالفجر فإنه أعظم للأجر (كفت نماز بامداد بروشنايي كنيدكه مزد بزر كتراباشد يعني بآخر وقت واين مذهب أبو حنيفة رحمه الله باشدكه نماز بآخر وقت فاضلتر باشد يعني كه وجوب متأكد ترباشد كه بفوات نزديكتر باشد ومذهب امام شافعي رحمه الله كفت اول الوقت رضوان الله وآخر الوقت عفو الله وعفو نباشد إلا ازكناه س معلوم كشت كه اول وقت فاضلتر باشد) قال أبو محمد النيسابوري المراد بآخر الوقت بعد خروجه لأن العفو يقتضي ذلك لأنه لا يكون إلا عن ذنب ، فالمراد بأول الوقت عنده جميع الوقت كما قال في أسئلة الحكم لوقت وقتان ، وقت الأداء ووقت القضاء فوقت الأداء هو أول الوقت المرضى عند الله ووقت القضاء هو الوقت المرخص فيه وآخر الوقت هو القضاء وهو عفو الله عمن قضى الصلاة خارج وقتها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 455
فإن قيل : ما معنى أول الوقت رضوان الله؟.(4/303)
والجواب : أن أول الوقت بمنزلة المفتاح ، فإذا حصل وعرف قدره فقد استعد لرضى الله تعالى لأن العبرة للفاتح والخاتم فإذا حصل المفتاح حصل الختم وينبغي أن يشتغل بأسباب الصلاة عند دخول الوقت ، أو يقدم ما يمكن تقديمه من الأسباب قبل دخول الوقت ويشرع في الصلاة إذا دخل الوقت لتنطبق الصلاة على أول الوقت ، ويستحب التأخير في مسائل ، منها الإبراد بالظهر.
ومنها فقد الماء أول الوقت وكان ذا ثقة من وجوده آخر الوقت ، ومنها إذا كان بحضرة طعام تتوق نفسه إليه ، ومنها إذا كان يتحقق الجماعة آخر الوقت ، ومنها إذا كان بمواضع منهى عنها كمواضع المكس والأسواق والربا ومن أعظم مواضع الربا الصاغة فإنه يحرم دخولها بغير حاجة لغلبة الربا فيها.
قال في شرح المهذب : فإذا تيقنت بهذا المذكور فعليك بالإقدام على الطاعات والمسارعة إلى العبادات حتى لا يظفر بك النفس والشيطان في جميع الحالات ، واحذر من التسويف ولعلك لا تنال ما أملت من عمر وزمان.
وفي المثنوى :
صوفى ابن الوقت باشد اي رفيق
نيست فردا كفتن از شرط طريق
ولقد خلقنا الإنسان أي هذا النوع بأن خلقنا أصله وأول فرد من أفراده خلقاً بديعاً منطوياً على خلق سائر أفراده انطواء إجمالياً من صلصال من طين يابس غير مطبوخ يصلصل أي يصوّت عند نقره وإذا طبخ ، أي : مسته النار فهو فخار.
من حمأ أي كان ذلك الصلصال من طين تغير وأسود بطول مجاورة الماء مسنون صفة حمأ أي منتن.
وبالفارسية (بوي كرفته بواسطه بسيار بودن در آب ون لايى كه درنك حوض وجوى باشد) أو مصور من سنة الوجه وهي صورته أو مصبوب من سن الماء صبه أي مفرغ على هيئة الإنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب كالرصاص والنحاس ونحوهما كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصوّر من ذلك تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صوت ثم غيره إلى جوهر آخر
457
فتبارك الله أحسن الخالقين.
قال الكاشفي : (صاحب تبيان كفته كه حق سبحانه وتعالى آدم را ازخاك آفريد بران وجه كه آب برخاك بارانيد تاكل شد ومدتي بكذشت تاحمأ كشت س آنرا تصوير كرد مسنون بمعنى مصوراست آنكه بكذاشت تاخشك شد وبمرتبه صلصال رسيد) وكان بين خلقه ونفخ روحه أربع جمع من الأخرة وخلق بعد العصر يوم الجمعة والظاهر أنه خلق في جنة من جنات الدنيا بغربيها وعليه أكابر أهل الله تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 455
{وَالْجَآنَّ} أبا الجن.
قال في الروضة : إبليس وهو أبو الجن والجان اسم جمع للجن كما في القاموس وسمي بذلك لأنه يجن أي يستتر ، ويجوز أن يراد به الجنس كما هو الظاهر من الإنسان لأن تشعب الجنس لما كان من فرد واحد مخلوق من مادة واحدة كان الجنس بأسره مخلوقاً منها خلقناه من قبل من قبل خلق الإنسان من نار السموم من نار الشديد الحر فإن السموم في اللغة الريح الحارة ، والريح الحارة فيها نار.
والفرق بين السموم والحرور أن السموم تكون غالباً بالنهار والحرور الريح الحارة بالليل ، وقد تكون بالنهار كما في القاموس.
وقيل سميت سموماً لأنها بلطفها تنفذ في مسام البدن وهي ثقبه كالفم والمنخر والأذن ، وقيل نار السموم نار لا دخان لها والصواعق تكون منها ، وهي نار بين السماء والحجاب فإذا أحدث الله أمراً خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت فالهدة التي تسمعون خرق ذلك ، وقدم خلق الإنسان على الجان مع أنه خلق قبله تعظيماً لشأنه وإظهاراً لفضله وكان بين خلق آدم والجن ستون ألف سنة.
واتفق أهل العلم من أهل التحقيق إن عالم الملك مقدم خلقة على عالم الجان وعالم الجان مقدم على عالم الإنسان وانتقل ملك الدنيا إلى آدم ليحصل له الاعتبار بالسابقين ويظهر له الفضل على الكل بتأخيره عن جميع المخلوقات لأنه كالخاتم على الباب وهو خاتم المخلوقات ونتيجة الكائنات ونسخة الكليات من المحسوسات والمعقولات وبه تم كمال الوجود لتحقيقه بوصفي الجمال والجلال واللطف والقهر بخلاف الملك فإنه مخلوق على جناح واحد وهو اللطف.
قال المولى الجامي :
ملاتك را ه سود از حسن طاعت
و فيض عشق بر آدم فروريخت
ولم يكن قبل آدم خلق من التراب فخلق آدم منه ليكون عبداً خضوعاً وضوعاً ذلولاً مائلاً إلى السجود لأنه مقام العبودية الكاملة فكل جنس يميل إلى جنسه ولهذا تواضع آدمواستكبر إبليس عن التواضع فأبى وعلا وتكبر فمال إلى جنسه لأنه خلق من نار.
قال أهل الحكمة : لا شك أن الله تعالى قادر خلق آدم ابتداء على هيئة خاصة من مادة خاصة وإنما خلقه من تراب ثم من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار إما لمحض المشيئة الإلهية التي هي محض الحكمة الجامعة إو لما فيه من دلالة الملائكة ومصلحتهم ومصلحة الخلق لأن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 458
وإذ قال ربك أي : اذكر يا محمد وقت قوله تعالى للملائكة (بجهت خلافت زمين).(4/304)
يقول الفقير : إن في هؤلاء الملائكة اختلافاً شديداً والحق ما ذهب إليه أكابر أهل الله تعالى من أن المقول لهم القول الآتي والساجدين لآدم عليه السلام هم الذين تنزلوا من مرتبة الأرواح إلى مرتبة الأجسام فدخل فيهم جبريل ونحوه من أكابر الملائكة وأصاغرهم سماوية كانت أو أرضية لأن كلهم ملتبسون
458
بملابس الجسمانية اللطيفة فاللام لاستغراق الجنس وأما المراد بالعالين في قوله تعالى : استكبرت أم كنت من العالين}(ص : 75) الملائكة المهيمون الذين بقوا في عالم الأرواح واستغرقوا في نور شهود الحق وليس لهم شعور بنفوسهم فضلاً عن آدم وغيره وهم خير من هذا النوع الإنساني في شرف الحال لا في الجمعية والكمال ، والإنسان فوق الملائكة الأرضية والسماوية في رتبة الفضيلة والكمال بل في شرف الحال أيضاً لأنهم كلهم عنصريون مخلوقون بيد واحدة فليس لهم شرف حاله ولا رتبة كماله.
قال الحافظ :
فرشه عشق نداندكه يست قصه مخوان
بخوان جام وكلابي بخاك آدم ريز
{إِنِّى خَالِقُ} فيما سيأتي البتة كما يدل عليه التعبير باسم الفاعل الدال على التحقيق بشراً قال في القاموس البشر محركة الإنسان ذكراً أو أنثى واحداً أو جمعاً وقد يثنى ويجمع اأشارا وظاهر جلد الإنسان من صلصال متعلق بخالق أو صفة لبشرا أي بشراً كائناً من صلصال كائن من حمأ مسنون تقدم تفسيره شاورهم الله تعالى بصورة الامتحان ليمييز الطيب أي الملك من الخبيث أي إبليس فسلم الملك وهلك إبليس ولذلك قيل عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان.
وقيل : أخبرهم سبحانه بتكوين آدم قبل أن يخلقه ليوطنوا أنفسهم على فناء الدنيا وزوال ملكوتها كما قال تعالى لآدم اسكن أنت وزوجك الجنة}(البقرة : 35) والسكنى لا تكون إلا على وجه العارية ليوطن نفسه على الخروج من الجنة.
قال الصائب :
مهياي فنارا از علائق نيست راويي
نيند يشد زخاك آنكس كه دا من دركمردارد
وإنما خلق الله آدم بعد جميع المخلوقات ليكون خاتم المخلوقات كسيد المرسلين خاتم الأنبياء فظهر فيه شرف الختم فهو بمنزلة خاتم الملك على باب الكنز الخاص.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أي صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية ونفخت فيه من روحي النفخ إجراء الريح إلى تجويف جسم صالح لامساكها والامتلاء بها وهو كناية عن إيجاد الحياة ولا نفخ ثمة ولا منفوخ بل ليس عند الحقيقة إلالقاء الموجد اسم فاعل بالموجد اسم مفعول وسريان هويته إليه وظهور صفته وفعله فيه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 458
قال الشيخ عز الدين : النفخ عبارة عما اشعل نور الروح في المحل القابل فالنفخ سبب الاشعال وصورة النفخ في حق الله تعالى محال ، والمسبب غير محال فعبر عن نتيجة النفخ بالنفخ وهو الاشعال ، وأما السبب الذي اشتعل به نور الروح فهو صفة في الفاعل ، وصفة في المحل القابل أما صفة الفاعل فالجود الذي هو ينبوع الوجود وهو فياض بذاته على كل موجود حقيقة وجوده ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة ومثالها فيضان نور الشمس على كل قابل الاستنارة عند ارتفاع الحجاب بينهما والقابل هو الملونات دون الهواء الذي لا تلون له وأما صفة المحل القابل فالاستواء والاعتدال الحاصل في التسوية كما قال تعالى : فإذا سويته ومثال صفة القابل صقالة المرآة فإن المرآة قبل صقالتها لا تقبل الصورة وإن كانت محاذية لها فإذا صقلت حدثت صورة من ذي الصورة المحاذية لها فكذلك إذا حصل الاستواء في النطفة حدث فيها الروح.
آن صفاي آينه وصفت دلست
صورت بي منتهاراً قابلست
459
أهل صيقل رسته اندازبوورنك
هر دمى بينند خوبى بي درنك
وإنما أضاف النفخ إلى ذاته لأنه تعالى باشر تسويته وتعديله فخلقه وسواه وعدله بيديه المقدستين ثم نفخ بذاته دون واسطة فيه من روحه الإضافي وهو نفسه الرحماني الذي يقال له الوجود الظلي المشار إليه بقوله : ألم تر إلى ربك كيف مد الظل}(الفرقان : 45) نفخاً استلزم لكونه نفخاً بالذات فيما بوشرت تسويته باليدين معرفة الأسماء كلها جمالية لطفية كانت أو جلالية قهرية.
قال الشيخ عز الدين : الروح منزهة عن الجهة والمكان وفي قوتها العلم بجميع الأشياء والاطلاع عليها وهذه مناسبة ومضاهاة ليست لغيره من الجسمانيات فلذلك اختصت بالإضافة إلى الله تعالى.
قال الامام الجلدكي في "كتاب الإنسان" : من كتاب البرهان : جوهر الإنسان حقيقة واحدة في الفطرة الأولى ذات قوى كثيرة وهو المسمى عند الصوفية روحاً وقلباً وعند الحكيم نفساً ناطقة فإذا تعلق بالبدن انتشرت قواه واختفى نوره وحصل له مراتب كثيرة وعند احتجابه بغواشي النشأة واستحالته بالأمور الطبيعية يسمى نفساً ، وعند تجرده وظهور نوره يسمى عقلاً ، وعند إقباله على الحق ورجوعه إلى العالم القدسي ومشاهدته يسمى روحاً وباعتبار اطلاعه ومعرفته للحق وصفاته وأسمائه جمعاً وتفصيلاً يسمى قلباً وباعتبار إدراكه للجزئيات فقط واتصافه بالملكات والهيئات التي هي مصادر الأفعال يسمى نفساً انتهى كلامه.(4/305)
جزء : 4 رقم الصفحة : 458
يقول الفقير : ذهب جمع من أهل السنة والجماعة منهم الغزالي والامام الرازي وفاقاً للحكماء والصوفية إلى أن الروح أثر مجرد غير حال بالبدن يتعلق به تعلق العاشق بالمعشوق يدبر أمره على وجه لا يعلمه إلا الله تعالى ، وتحقيق المقام أن الروح سلطاني وحيواني فالأول من عالم الأمر ويقال له المفارق أيضاً لمفارقته عن البدن وتعلقه به تعلق التدبير والتصرف وهو لايغني بخراب هذا البدن وإنما يفنى تصرفه في الأعضاء ومحل تعينه هو القلب الصنوبري والقلب من عالم الملكوت.
قال في "التعريفات" الروح الأعظم هو الروح الإنساني مظهر الذات الإلهية من حيث ربوبيتها والثاني من عالم الخلق ويقال له القلب والعقل والنفس أيضاً وهو سار في جميع أعضاء البدن كما قال في "التعريفات" الروح الحيواني جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني وينتشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن وأقوى مظاهره الدم ومحل تعينه هو الدماغ ، وهو أثر الروح السلطاني ومبدأ الأفعال والحركات ، وهو بمنزلة الصفة من الذات فكما أن الأفعال الإلهية تبتني على اجتماع الذات بالصفة كذلك الأفعال تتفرع على اجتماع الروح السلطاني بالروح الحيواني ، وكما أن الصفات الإلهية الكمالية كانت في بطن غيب الذات الأحدية قبل وجود هذه الأفعال والآثار ، كذلك هذا الروح الحيواني كان بالقوة في باطن الروح السلطاني قبل تعلقه بهذا البدن.
قال حضرة شيخي قدس سره : في بعض تحريراته : غيب السر وهو السر الأخفى أي سر السر مظهر الوجود المطلق عن جميع التعينات السلبية والإيجابية بالإطلاق الذاتي الأصلي الحقيقي الوجودي لا بالإطلاق الإضافي النسبي الوهمي الاعتباري ، والسر مظهر التعين الأول الذاتي الأحدي الجمعي والروح السلطاني مظهر التعين الثاني الصفاتي الواحد الفرقي ، والروح الحيواني مظهر التعين الثالث الفعلي ولا حجاب إلا جهالة النفس بنفسها
460
وغفلتها عنها فلو ارتفعت جهالتها وغفلتها لشاهدت الأمر وعاينته كما تشاهد الشمس في وسط السماء وتعاينها ، اللهم ارفع الحجب عن القلوب حتى تنفتح أبواب الغيوب انتهى بعبارته.
قال الله تعالى في بعض كتبه المنزلة : اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك وقال عليه الصلاة والسلام : "اعرفكم بنفسه أعرفكم بربه" ومن فضل الله تعالى على الإنسان أن علمه طريق معرفته بأن جمع في شخصه مع صغر حجمه من العجائب ما يكاد يوازي عجائب كل العالم حتى كأنه نسخة مختصرة من هيئة العالم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 458
آدمي يست برزخى جامع
صورت خلق وحق درو واقع
متصل با دقائق جبروت
مشتمل بر حقائق ملكوت
ليتوسل الإنسان بالتفكر فيها إلى العلم بالله الذي هو أجل العلوم وأشرف المعارف.
ومعنى الآية فإذا كملت استعداده وجعلت فيه الروح حتى جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي وصار حساساً متنفساً.
{فَقَعُوا لَهُ} أمر من وقع يقع وفيه دليل على أنه ليس المأمور به مجرد الانحناء كما قيل أي : أسقطوا له ساجدين امتثالاً لأمر الله تعالى وتحية لآدم وتعظيماً وتكريماً له واسجدواعلى أنه عليه السلام بمنزلة القبلة حيث ظهر فيه تعاجيب آثار قدرته وحكمته.
يقول الفقير : لي رؤيا صادقة في هذا المقام وهي أني رأيت حضرة شيخي وسندي روح الله روحه في المنام في غاية من الانبساط فسألته عن بعض ما يتعلق بالموت فقال كنت على الطهارة الكاملة إلى آخر النفس فلما قبض روحي دخلت فجا يجري فيه عين ماء فتوضأت منه لأنه وقع الحدث بالنزع ثم عرج بي إلى السماء ثم رجعت إلى جنازتي فصليت علي مع الحاضرين فقلت له هل يبقى العقل والإدراك الذي في هذه النشأة الدنيوية على حاله؟ قال : نعم ثم أخذ بيدي وهو متبسم فقال لي مرتين كن معتقداً لي كأنه أظهر السرور من حسن اعتقادي له فاستيقظت ففي هذه الرؤيا أمور.
منها أن الوضوء ينتقض عند النزع وعليه بني مشروعية الغسل في الأصح والمؤمن الكامل طاهر في حياته ومماته فلا يتنجس والحدث غير التنجس ولو سلم فهو بالنسبة إلى الناقص.
والحاصل إنه يغسل الكامل غسل الناقص ، لأنه على غير وضوء بحسب الظاهر ولأنه في هذه النشأة الدنيوية تابع للناقص فيما يتعلق بالأمور الظاهرة ، ومنها بيان بقاء العقل والإدراك على حاله لأن العقل والإيمان والولاية ونحوها من صفات الروح وهو لا يتغير بالموت ، ومنها أن الروح الكامل يشهد جنازته فيكون أسوة للناس في الصلاة فصلاته على نفسه إشارة إلى أن الكامل هو الساجد والمسجود له في مرتبة الحقيقة فعبادته له لا لغيره فافهم جداً ، وصلاة الناس عليه إشارة إلى سجود الملائكة لآدم ولهذا شرعت صلاة الجنازة مطلقاً تحقيقاً لهذا السر العظيم ولا ينافيه كونها دعاء وثناء في مرتبة الشريعة إذ لكل مرتبة حد بحسب الوقوف عنده.
(4/306)
قال في التأويلات النجمية : فإذا سويته تسوية تجعله قابلاً لنفختي وللروح المضاف إليّ ونفخت فيه من روحي يشير بتشريف هذه الإضافة إلى اختصاص الروح بأعلى المرتب من الملكوت الأعلى وكمال قربه إلى الله كما قال : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}(ق : 16) وإلى اختصاصه بقبول النفخة فإنه تشرف بهذا
461
التشريف وخص به من سائر المخلوقات {فَقَعُوا لَه سَـاجِدِينَ} وذلك لأن الروح لما أرسل من أعلى مراتب القرب بنفخة الحق تعالى إلى أسفل سافلين القالب كان عبوره على الروحانيات والملائكة المقربين وهم خلقوا من نور فاندرجت أنوار صفاتهم في نور صفاته ، كما تندرج أنوار الكواكب في نور الشمس ثم عبر عن الجن والشياطين فاتخذ زبدة خواص صفاتهم ثم عبر على الحيوانات فاستفاد منهم الحواس والقوى ثم تعلق بالقالب المخلوق بيد الله المخمر فيه لطف الله وقهره المستعد لقبول التجلى فلما خلق الله آدم وتجلى فيه قال لأهل الخطاب وهم الملائكة فقعوا له ساجدين لاستحقاق كماله في الخلقة وشرفه بالعلم وقابليته للتجلي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 458
{فَسَجَدَ الملائكة} أي : فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد له الملائكة كلهم بحيث لم يشذ منهم أحد أرضياً كان أو سماوياً أجمعون بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد بل سجدوا مجتمعين.
يقول الفقير : هذا في الحقيقة تعظيم للنور المنطبع في مرآة آدم عليه السلام وهو النور المحمدي والحقيقة الأحمدية ولله در الحافظ في قوله :
ملك در سجده آدم زمين بوس تونيت كرد
كه در حسن تولطفي يافت بيش ازطور انساني
قوله : أجمعون تأكيد بعد تأكيد لكنه لوحظ فيه معنى الجمع والمعية بحسب الوضع كما تلاحظ المعاني الأصلية في الكنى ، إذ لا ينافي إقامته مقام كل في إفادة معنى الإحاطة إفادة معنى زائد يقصد ضمناً وتبعاً ، فإذا فهمت الإحاطة من لفظ آخر لم يكن بدّ من مراعاة الأصل صونا للكلام عن الإلغاء ولا ريب في أن السجود معاً أكمل أصناف السجود فيحمل عليه.
قال في بحر العلوم قالوا : هو نظير المفسر فإن قوله فسجد الملائكة ظاهر في سجود جميع الملائكة لأن الجمع المعرف باللام ظاهر في العموم يتناول كل واحد من الأفراد كالمفرد لكنه يحتمل التخصيص وإرادة البعض كما في قوله : وإذ قالت الملائكة يا مريم}(آل عمران : 42) أي جبريل فبقوله كلهم انقطع ذلك الاحتمال وصار نصاً لازدياد وضوحه على الأول ولكنه يحتمل التأويل والحمل على التفرق فبقوله أجمعون انسد ذلك الاحتمال وصار مفسراً لانقطاع الاحتمال عن اللفظ بالكلية.
فإن قلت : قد استثنى إبليس فيكون محتملاً للتخصيص.
قلت : الاستثناء ليس بتخصيص.
{إِلا إِبْلِيسَ} إبلس يئس وتحير ومنه إبليس أو هو أعجمي انتهى.
وعلى الثاني ليس فيه اشتقاق ، وهو الأصح عند الجمهور والاستثناء متصل لأنه الأصل لأنه كان جنياً مفرداً مستوراً فيما بين الملائكة فأمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله فسجد الملائكة تغليب الذكر على الأنثى ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلاً ونظيره قولك رأيتهم إلا هنداً ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال الله لجماعة من الملائكة اسجدوا لآدم فلم يفعلوا فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ثم قال لجماعة أخرى اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس.
جزء : 4 رقم الصفحة : 462
يقول الفقير : فيه إشكالان الأول إن عبادة الملائكة طبيعية فلا يتصور منهم التردد فضلاً عن الامتناع عن الامتثال للأمر الإلهي لا سيما أن إبليس لو شاهد تلك الحال لبادر إلى الامتثال خوفاً من سطوة الجلال اللهم إلا أن لا يكون بحضوره والثاني أن التأكيدين أفادا المعية والاجتماع وذلك بالنظر إلى جميع الملائكة وفيما ذكره تفريق لطائفة عن أخرى أبى أن يكون مع الساجدين أبى الشيء
462
يأباه ويأبيه إباء وإباءة كرهه وأبيته إياه كما في القاموس وهو جواب قائل قال لم لم يسجد أي عدم سجوده لم يكن من تردده بل من إبائه واستكباره ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً فيتصل به ما بعده أي لكن إبليس أبى أن يكون معهم في السجود لآدم.
وفيه دلالة على كمال ركاكة رأيه حيث ادمج في معصية واحدة ثلاث معاص ، مخالفة الأمر والاستكبار مع تحقير آدم ومفارقة الجماعة والإباء عن الانتظام في سلك أولئك المقربين الكرام.
(4/307)
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : في روح القدس إعلم أنه لا شيء أنكى على إبليس من آدم في جميع أحواله في صلاته من سجوده لأنها خطيئته فكثرة السجود وتطويله يحزن الشيطان وليس الإنسان بمعصوم من إبليس في صلاته إلا في سجوده لأنه حينئذٍ يتذكر الشيطان معصيته فيحزن فيشتغل بنفسه عنه ولهذا قال رسول الله : إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار فالعبد في سجوده معصوم من الشيطان غير معصوم من النفس فخواطر السجود إما ربانية أو ملكية أو نفسية وليس للشيطان عليه من سبيل فإذا أقام من سجوده غابت تلك الصفة عن إبليس فزال حزنه فاشتغل به.
وفي المثنوى :
آدمي را دشمن نهان بسيست
آدمى باحذر عاقل كسيست
خلق نهان زشتشان وخوبشان
مى زند بردل بهر دم كوبشان
بهر غسل اردر روى درجويبار
بر تو آسيبى زند در آب خار
كره نهان خار درآبست ست
ونكه دو تومى خلد دانى كه هست
خار خارو حيلها ووسوسه
از هزاران كس بوديك كسه
باش تاخسهاى تو مبدل شود
تا بيني شان ومشكل حل شود
قال استئناف مبني على سؤال من قال فماذا قال تعالى عند ذلك فقيل قال الله يا إبليس ما لك أي أي سبب لك أن لا تكون في أن لا تكون مع الساجدين لآدم مع أنهم ومنزلتهم في الشرف منزلتهم ، وما كان التوبيخ عند وقوعه لمجرد تخلفه عنهم بل لكل من المعاصي الثلاث المذكورة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 462
قال إبليس وهو أيضاً استئناف بياني.
لم أكن لا سجد اللام لتأكيد النفي أي ينافي حالي ولا يستقيم مني أن أسجد.
لبشر أي : جسم كثيف وأنا جوهر روحاني خلقته من صلصال (از كل خشك) من حمأ مسنون (ازلاى سياه بوي ناك) وقد تقدم تفسيره.
يعني : (اورا از اخس عناصر آفريدي كه خاكست ومرا ازاشرف آن كه آتش است س روحانى لطيف را فرمان جسمانى كثيف بردواورا سجده كند إبليس نظر بظاهر آدم داشت واز باطن أو غافل بود صورتش را ويرنه ديد ندانست كه كنج أسرار دران خرابه مدفونست.
كجست درين خانه كه در كون نكنجد
اين كنج خراب از ى آن كنج نهانست
في الجملة هرآنكس كه درين خانه رهى يافت
سلطان زمين است وسليمان زمانست
وفي التأويلات النجمية : فسجد الملائكة كلهم أجمعون لما فيهم من خصوصية انقياد النورية
463
واختصاص العلم بقبول النصح إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين لاختصاصه بالتمرد وتمرد النارية والجهل الذي هو مركوز فيه ولحسبانه أنه عالم إذ قال له ربه يا إبليس مالك أن لا تكون مع الساجدين أي ما حجتك في الامتناع عن السجود قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون أي حجتي أنك خلقتني من نار وهي جوهر لطيف نوراني علوي وخلقته من طين وهو كثيف ظلماني سفلي فأنا خير منه بهذا الدليل فأشار بهذا الاستدلال إلى أن آدم لا ينبغي أن يسجد له لفضله عليه ، ومن غاية جهالته وسخافة عقله يشم من نتن كلامه أن الله أخطأ فيما أمره وأمر الملائكة من السجود لآدم وحسب الله جعل استحقاق آدم لسجود الملائكة في بشرية آدم وخلقته من الطين وهو بمعزل عما جعل الله استحقاقه للسجود في سر الخلافة المودعة في روحه المشرف بشرف الإضافة إلى حضرته المختص باختصاص نفخته المتعلم للأسماء كلها المستعد لتجلى جماله وجلاله فيه ، ومن ههنا قيل لإبليس إنه أعور لأنه كان بصيراً بإحدى عينيه التي يشاهد بها بشرية آدم وما أودع فيها من الصفات الذميمة الحيوانية السبعية المذمومة المتولدة منها الفساد وسفك الدماء وإنه كان أعمى بإحدى عينيه التي يشهد بها سر الخلافة المودع في روحانيته وما كرم به من علم الأسماء والنفخة الخاصة وشرف الإضافة إلى نفسه وغير ذلك من الاصطفاء والاجتباء.
قال حضرة شيخي وسندي في بعض تحريراته : الأرض وحقائق الأرض في الطمأنينة والإحسان بالوجود لذلك لا يزال ساكناً وسكوناً وساكتاً وسكوتاً لفوزه بوجود مطلوبه فكان أعلى مرتبة العلو في عين السفل وقام بالرضى المتعين من قلب الأرض فمقامه رضى وحاله تسليم ودينه إسلام انتهى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 462
ويشير إلى سر كلام حضرة الشيخ قول من قال :
ارس را دربيابان جوش باشد
بدريا ون رسد خاموش باشد
وقول الصائب أيضاً :
عاشقا نرا تافنا ازشادى وم اره نيست
سيل را ست وبلندى هست تادريا شدن
جزء : 4 رقم الصفحة : 462
[المائدة : 115-97]{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا} أمر إهانة وإبعاد كما في قوله تعالى : {قَالَ فَاذْهَبْ} (طه : 97) والضمير للجنة وخروجه منها لا ينافي دخولها بطريق الوسوسة وكذا يستلزم خروجه من السموات أيضاً ومن زمرة الملائكة المقربين ومن الخلقة التي كان عليها وهي الصورة الملكية وصفاتها كما هو شأن المطرودين المغضوبين وقد كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته فاسود بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسناً وأظلم بعد ما كان نورانياً.
(4/308)
قال أبو القاسم : الأنصاري إن الله باين بين الملائكة والجن والإنس في الصور والاشكال فإن قلب الله تعالى الملك إلى بنية الإنسان ظاهراً وباطناً خرج عن كونه ملكاً ، وقس عليه غيره {فَإِنَّكَ} رحيم من الرجم بالحجر أي الرمي به وهو كناية عن الطرد لأن من يطرد يرجم بالحجارة على أثره أي مطرود من رحمة الله ومن كل خير وكرامة ، أو من الرجم بالشهب وهو كناية عن كونه شيطاناً أي من الشياطين الذين يرجمون بالشهب وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته فإن من عارض النص بالقياس فهو رجيم معلون.
وإن عليك اللعنة الإبعاد عن الرحمة وحيث كان من جهة الله
464
تعالى وإن كان جارياً على ألسنة العباد وقيل في سورة ص وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين إلى يوم الجزاء والعقوبة وفيه إشعار بتأخير عقابه وجزائه إليه وأن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست جزاء لفعله وإنما يتحقق ذلك يومئذٍ وحد اللعن بيوم الدين لأن عله اللعنة فيالدنيا فإذا كان يوم الدين اقترن له باللعنة عذاب ينسى عنده اللعنة.
وفي التبيان : هذا بيان للتأبيد لا للتوقيت كقوله : ما دامت السموات}(هود : 108) في التأبيد ويؤيده وقوع اللعن في ذلك اليوم كما قال تعالى : {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُا بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ} (الأعراف : 44) وهو لعن مقارن بالعذاب الأليم نسأل الله الفوز والعاقبة ، وإنما حكم عليه باللعنة لاستحقاقه لذلك بحسب الفطرة وفي الأزل فكانت غداءه إلى أبد الآباد.
وفي "المثنوى" :
جزء : 4 رقم الصفحة : 464
كر جهان باغى راز نعمت شود
قسم مور ومار هم خاكى بود
كرم سركين درمين آن حدث
در جهان نقلي نداند جز خبث
وفيه إشارة إلى أن إبليس النفس مأمور بسجود آدم الروح ومن دأبه وطبعه الإباء عن طاعة الله تعالى والاستكبار عن خليفة الله والامتناع عن سجوده وذلك في بدء خلقتهما على فطرة الله التي فطر الناس عليها فلما أمر إبليس بسجوده وأبى قال : {فَاخْرُجْ مِنْهَا} أي : من فطرة الله المستعدة لقبول الكفر والإيمان فإنك رجيم مطرود عن جوارنا لأنك قبلت الكفر دون الإيمان وإن عليك اللعنة وهي من نتائج صفات القهر أي مقهوراً مبعداً عن مقام عبادنا المقبولين إلى يوم الدين أي إلى أن نولج ليل الدين في نهار الدين ، وتطلع شمس شواهدنا من مشرق الروح وتصير أرض النفوس مشرقة بأنوار الشواهد ، فتكون مطمئنة بها متبدلة صفاتها الذميمة الحيوانية المظلمة بأخلاق الروحانية الحميدة النورانية المستحقة لخطاب ارجعي كما في التأويلات النجمية قال إبليس عليه ما يستحق رب (اي روردكار) فانظرني الفاء متعلقة بمحذوف دل عليه فاخرج منها فإنك رجيم أي إذا جعلتني رجيماً فامهلني واخرني إلى يوم يبعثون أي آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم ، والبعث إحياء الميت كالنشر واراد بذلك أن يجد لأغوائهم ويأخذ منهم ثاره وينجو من الموت إذ لا موت بعد يوم البعث فأجابه إلى الأول دون الثاني ، كما قال تعالى :
قال الله تعالى فإنك من المنظرين أي : من جملة الذين أخرت آجالهم أزلاً ودل على أن ثمة منظرين غير إبليس وهم الملائكة فإنهم ليسوا بذكور ولا إناث ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون إلى آخر الزمان وأما الشياطين فذكور وإناث يتوالدون ولا يموتون بل يخلدون كما خلد إبليس ، وأما الجن فيتوالدون وفيهم ذكور وإناث ويموتون.
بلغ الحجاج بن يوسف أن بأرض الصين مكاناً إذا أخطأوا فيه الطريق سمعوا صوتاً يقول : هلموا إلى الطريق ولا يرون أحداً فبعث ناساً وأمرهم أن يتخاطؤوا الطريق عمداً ، فإذا قالوا لكم هلموا إلى الطريق فاحملوا عليهم فانظروا ما هم ففعلوا ذلك قال فدعوهم فقالوا هلموا إلى الطريق فحملوا عليهم ، فقالوا : إنكم لن ترونا فقلت منذ كم أنتم ههنا قالوا ما نحصي السنين غير أن الصين خربت ثماني مرات وعمرت ثماني مرات ونحن ههنا ، والصين موضع بالكوفة ، ومملكة بالمشرق منها الأواني الصينية وبلدة بأقصى الهند.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إن إبليس إذا مرت عليه الدهور وحصل له الهرم عاد ابن ثلاثين سنة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 464
ويقال : إن الخضر عليه السلام يجدده
465
الله تعالى في بدنه في كل مائة وعشرين سنة فيعود شاباً وهو من المنظرين ، كما في الأخبار الصحيحة وهذه المخاطبة وإن لم تكن بواسطة لكن لا تدل على علو منصب إبليس ؛ لأن خطاب الله تعالى له على سبيل الإهانة والإذلال كما في التفاسير.
وقال بعضهم : الصحيح أنه لا يجوز أن يكون كلمه كفاحاً أي شفاهاً ومواجهة وإنما كلمه على لسان ملك ، لأن كلام الباري لمن كلمه رحمة ورضى وتكرّم وإجلال ، ألا ترى أن موسى عليه السلام فضل بذلك على سائر الأنبياء ما عدا الخليل ومحمداً عليهما السلام وجميع الآي الواردة محمولة على أنه أرسل إليه بملك يقول له.
فإن قلت : أليس رسالته إليه أيضاً تشريفاً.
(4/309)
قيل : مجرد الإرسال ليس بتشريف وإنما يكون لإقامة الحجة بدلالة أن موسى عليه السلام أرسل إلى فرعون وهامان ولم يقصد إكرامهما وتشريفهما كذا في آكام المرجان.
إلى يوم الوقت المعلوم أي : المعين عند الله تعالى لا يتقدم ولا يتأخر وهو وقت موت الخلق عند النفخة الأولى ثم لا يبقى بعد ذلك حي إلا الله تعالى أربعين سنة إلى النفخة الثانية.
همه تخت وملكي ذيرد زوال
بجز ملك فرمان ده لا يزال
قال الكاشفي يعني : (زمان فناء خلق بنفخه أول كه نفخه صعقه كويند ه قول جمهور آنست كه نفخه اول نفخه موت باشد ونفخه ثاني نفخه أحياء وميان دو نفخه بقول اشهر هل سال خواهد بود س إبليس هل سال مرده باشد س انكيخته شود).
قال في السيرة الحلبية هذه النفخة التي هي نفخة الصعق مسبوقة بنفخة الفزع التي يفزع بها أهل السموات والأرض فتكون الأرض ، كالسفينة في البحر تضربها الأمواج ، وتسير الجبال كسير السحاب وتنشق السماء وتكسف الشمس ويخسف القمر.
وعن وهب أن اليوم المعلوم الذي أنظر إليه إبليس هو يوم بدر قتلته الملائكة في ذلك اليوم.
وقيل وقت طلوع الشمس من مغربها بدليل قول النبي عليه السلام : إذا طلعت الشمس من مغربها خر إبليس ساجداً ينادي ويجهر إليه مرني أن أسجد لمن شئت فيجتمع ذرياته فيقولون يا سيدنا ما هذا التضرع فيقول إنما سألت ربي أن ينظرني إلى الوقت المعلوم وهذا الوقت المعلوم ثم تخرج دابة الأرض من صدع في الصفا فأول خطوة تضعها بأنطاكية فيأتي إبليس فتلطمه وتقتله بوطئها والقول الأول أشهر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 464
قال أحنف بن قيس : قدمت المدينة أريد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، فإذا أنا بحلقة عظيمة وكعب الأحبار فيها يحدث الناس ويقول لما حضر آدم عليه السلام الوفاة قال : يا رب سيشمت بي عدوي إبليس إذا رآني ميتاً وهو منظر إلى يوم القيامة ، فأجيب أن يا آدم إنك سترد إلى الجنة ويؤخر اللعين إلى النظرة ليذوق ألم الموت بعدد الأولين والآخرين ثم قال لملك الموت صف كيف تذيقه الموت؟ فلما وصفه ، قال : يا رب حسبي فضج الناس وقالوا يا أبا إسحاق كيف ذلك فأبى فألحوا فقال : يقول الله تعالى لملك الموت عقيب النفخة الأولى قد جعلت فيك قوة أهل السموات السبع وأهل الأرضين السبع وإني البستك اليوم أثواب السخط والغضب كلها فانزل بغضبي وسطوتي على رجيمي إبليس ، فأذقه الموت واحمل عليه مرارة الأولين والآخرين من الثقلين أضعافاً مضاعفة ، وليكن معك من الزبانية سبعون
466
الفا قد امتلأوا غيظاً وغضباً وليكن مع كل منهم سلسلة من سلاسل جهنم وغل من أغلالها وانزع روحه المنتن بسبعين ألف كلاب من كلاليبها وناد مالكاً ليفتح أبواب النيران ، فينزل ملك الموت بصورة لو نظر إليها أهل السموات والأرضين لماتوا بغتة من هو لها فينتهي إلى إبليس فيقول قف لي يا خبيث لأذيقنك الموت كم من عمر أدركت وقرون أضللت؟ وهذا هو الوقت المعلوم ، قال فيهرب اللعين إلى المشرق فإذا هو بملك الموت بين عينيه فيهرب إلى المغرب فإذا هو بين عينيه فيغوص البحار فتتنزه عنه البحار فلا تقبله فلا يزال يهرب في الأرض ولا محيص له ولا ملاذ ثم يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدم عليه السلام ويتمرغ في التراب من المشرق إلى المغرب ، ومن المغرب إلى المشرق حتى إذا كان في الموضع الذي اهبط فيه آدم عليه السلام ، وقد نصبت له الزبانية الكلاليب وصارت الأرض كالجمرة احتوشته الزبانية وطعنوه بالكلاليب ويبقى في النزع والعذاب إلى حيث شاء الله تعالى.
هركسى آن درود عاقبت كاركه كشت
ويقال لآدم وحواء عليهما السلام اطلعا اليوم إلى عدوكما كيف يذوق الموت فيطلعان فينظران إلى ما هو فيه من شدة العذاب فيقولان ربنا أتممت علينا نعمتك.
شكر خداكه هره طلب كردم ازخدا
بر منتهاى همت خود كامران شدم
قال في أسئلة الحكم إنما استجاب الله دعاءه بإنظاره إلى يوم الدين مكافاة له بعبادته التي مضت في السماء وعلى وجه الأرض ليعلم أنه لا يضيع أجر العاملين فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره إما في الدنيا معجلاً مثوبته وأما في الآخرة في حق المؤمن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 464
وقال في موضع آخر : أهلك الله تعالى أعداء سائر الأنبياء كفرعون ونمرود وشداد وأبقى عدو آدم الصفي وهو إبليس وذريته لأن إبليس لم يكن عدو آدم فحسب إنما كان عدو الله فأمهله وأبقاه إلى آخر الدهر استدراجاً من حيث لا يعلم ليتحمل من الأوزار ما لا يتحمله غيره من الأشرار والكفار فأنظره إلى يوم القرار ليحصل به الاعتبار لذوي الأبصار بأن أطول الأعمار في هذه الدار لرئيس الكفار وقائد زمرة الفجار وأساء الأدب ودعا لنفسه بالبقاء والكبرياء والفراعنة لم يدعوا بالبقاء لأنفسهم وما أصروا على الاستكبار في جميع أعمارهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 464
(4/310)
[الحجر : 54-176]{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} (اي رورد كار من) الباء للقسم وما مصدرية والجواب لأزينن لهم أي : أقسم بأغوائك إياي لأزيينن لهم أي لذرية آدم المعاصي والشهوات واللذات فالمفعول محذوف.
والأغواء (بي راه كردن) يقال غوى غواية ضل.
والتزيين (بياراستن).
في الأرض أي في الدنيا التي هي دار الغرور كما في قوله تعالى : أخلد إلى الأرض}(الأعراف : 176) لأن الأرض محل متاعها ودارها.
وفي "التبيان" : أزين لهم المقام في الأرض كي يطمئنوا إليها وإقسامه بعزة الله المفسرة بسلطانه وقهره كما في قوله : {فَبِعِزَّتِكَ} لا ينافي إقسامه بهذا فإنه فرع من فروعها وأثر من آثارها فلعله اقسم بهما جميعاً فحكى تارة قسمه بصفة فعل وهو الأغواء وأخرى بصفة ذاته وهي العزة.
قال الكاشفي : (برخى برانندكه دربما اغويتني باسببي است يعني سبب آنكه مراكمراه كردى من بيارايم معاصي رابشم مردمان) وجعله سعدى المفتى أوى لأن جعل الأغواء مقسماً به غير متعارف
467
إذ الإيمان مبنية على العرف (هره بعرف مردمان آنرا سوكند توان كفت يمين است وإلا لا).
يقول الفقير حفظه الله القدير : سمعت من حضرة شيخي وسندي روح الله روحه آن آدم عليه السلام كاشف عن شأنه الذاتي فسلك طريق الأدب حيث قال ربنا ظلمنا أنفسنا}(الأعراف : 23) وأما إبليس فلم يكن له ذلك ولذلك قال : {بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} حيث أسند الأغواء إلى الله تعالى إذ تلك الغواية كانت ثابتة في عينه العلمية وشأنه الغيبي فاقتضت الظهور في هذا العالم ، فأظهرها الله تعالى ومن المحال أن يظهر الله تعالى ما ليس بثابت ولا مقدر ، وقولهم السعادة الأزلية والعناية الرحمانية من طريق الأدب وإلا فأحوال كل شيء تظهر لا محالة فاسمع واحفظ وصن.
قال الحافظ :
ير ما كفت خطا بر قلم صنع نرفت
آفرين بر نظر اك خطا وشش بود
ولأغوينهم أجمعين ولأحملنهم أجمعين على الغواية والضلالة.
إلا عبادك منهم المخلصين الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من شوائب الشرك الجلي والخفي ، فلا يعمل فيهم كيدي فإنهم أهل التوحيد الحقيقي على بصيرة من أمرهم ويقظة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 467
وفي التأويلات النجمية : أخلصتهم من حبس الوجود بجذبات الألطاف وأفنيتهم عنهم بهويتك.
ومما كتب لي حضرة شيخي وسندي قدس سره في بعض مكاتيبه الشريفة : أن الصادق والمخلص بالكسر من باب واحد وهو التخلص من شوائب الصفات النفسانية مطلقاً والصديق والمخلص بالفتح من باب واحد وهو التخلص أيضاً من شوائب الغيرية ، والثاني أوسع فلكا وأكثر إحاطة فاجتهد في اللحوق بأصحاب الثاني حتى تأمن من جميع الأغيار والأكدار وكفاك في شرف الصدق أن اللعين ما رضى لنفسه الكذب حتى استثنى المخلصين.
قال الحافظ :
طريق صدق بياموز از آب صافي دل
براستى طلب ازاد كي وسرو من
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول : قال إبليس لربه عز وجل بعزتك وجلالك لا أبرح أغوى بني آدم ما دامت الأرواح فيهم ، فقال الله تعالى وعزتي وجلالي لا أزال اغفر لهم ما استغفروني وفي الحديث : لما لعن إبليس قال فبعزتك لا أفارق قلب ابن آدم حتى يموت قال قيل له وعزتي لا أحظر عنه التوبة حتى يغرغر بالموت وإنما خلق الله إبليس ليميز به العدو من الحبيب ، والشقي من السعيد ، فخلق الله الأنبياء ليقتدى بهم السعداء ، وخلق إبليس ليقتدى به الأشقياء ، ويظهر الفرق بينهما فإبليس دلال وسمسار على النار ، والخلاف وبضاعته الدنيا ولما عرضها على الكافرين قيل : ما ثمنها؟ قال ترك الدين فاشتروها بالدين ، وتركها الزاهدون واعرضوا عنها ، والراغبون فيها لم يجدوا في قلوبهم ترك الدين ولا الدنيا فقالوا له أعطنا مذاقة منها حتى ننظر ما هي فقال إبليس أعطوني رهناً فأعطوه سمعهم وأبصارهم ولذا يحب أرباب الدنيا استماع أخبارها ومسارها ومشاهدة زينتها لأن سمعهم وبصرهم رهن عند إبليس فأعطاهم المذاقة بعد قبض الرهن فلم يسمعوا من الزهاد عيب الدنيا ولم يبصروا قبائحها بل استحسنوا زخرفها ومتاعها فلذلك قيل حبك الشيء يعمى ويصم.
ودخل قوم على أبي مدين فشكوا وسوسة الشيطان فقال : قد خرج من عندي الساعة وشكا منكم وقال قل : لأصحابك يتركوا دنياي حتى اترك لهم دينهم ومتى تعرضوا لمتاعي
468
الدنيا اتشبث بمتاعهم الآخرة.
قال أحمد بن حنبل رحمه الله أعداؤك أربعة الدنيا وسلاحها لقاء الخلق وسجنها العزلة.
جامى بملك ومال وهر سفله دل مبند
كنج فراغ وكنج قناعت ترا بس است
والشيطان وسلاحه الشبع وسجنه الجوع
جوع باشد غذاي أهل صفا
محنت وابتلاي أهل هوا
جزء : 4 رقم الصفحة : 467
والنفس وسلاحها النوم وسجنها السهر.
نركس اندر خواب غفلت يافت بلبل صدوصال
خفته تابينا بود دولت به بيداران رسد
والهوى وسلاحه الكلام وسجنه الصمت.
اكر بسيار دانى ادنكى كوى
يكى را صد مكو صدرا يكى كوى
(4/311)
قال الله تعالى لإبليس هذا أي : تخلص المخلصين من إغوائك.
صراط (راهيست كه حق است) عليّ (برمن رعايت آن) أي كالحق الذي يجب مراعاته في تأكد ثبوته وتحقق وقوعه إذ لا يجب على الله شيء عند أهل السنة مستقيم لا عوج فيه ولا انحراف عنه.
ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى الإخلاص على معنى أنه طريق يؤدي إلى الوصول إلي من غير اعوجاج وضلال فإيثار حرف الاستعلاء على حرف الانتهاء لتأكيد الاستقامة والشهادة باستعلاء من ثبت عليه فهو أدل على التمكين من الوصول وهو تمثيل إذ لا استعلاء لشيء على الله تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 467
{إِنَّ عِبَادِى} وهم المشار إليهم بالمخلصين الجديرون بالإضافة إلى جنابه تعالى لخلوصهم في الإيمان وسلامتهم من إضافة الوجود إلى أنفسهم وحريتهم عما سوى الله تعالى ليس لك عليهم على قلوبهم سلطان تسلط وتصرف بالأغواء.
قال في الأسئلة قيل للشيطان ما حالك مع أبي مدين؟ قال كمثل رجل يبول في البحر المحيط يريد أن يلوثه هل أسفه منه ، أو كمثل رجل يريد أن يطفىء أنوار الشمس بنفسه هل ترى أجهل منه.
وقيل لبعضهم : كيف مجاهدتك للشيطان؟ قال ما الشيطان نحن قوم صرفنا هممنا إلى الله تعالى فكفانا من دونه وفي معناه أنشد.
تسترت عن دهري بظل جنابه
فعيني ترى دهري وليس يرانيا
فلو تسأل الأيم ما اسمي ما درت
واين مكاني ما عرفن مكانيا
إلا من اتبعك من الغاوين (مكر آنكس كه متابعت تو كند ازكمراهان كه توبد ومسلط توانى شد).
وفيه إشارة إلى أن إغواءه للغاوين ليس بطريق السلطان بمعنى القهر والجبر بل بطريق اتباعهم له بسوء اختيارهم فيتسلط عليهم بالوسوسة والتزيين.
فإن قلت : إن الله تعالى لم يمنع إبليس عن النبي .
قلت : سلطه عليه ثم عصمه منه ولذا أسلم شيطانه على يديه وأخذه مرة وجعل رداءه في عنقه حتى استعاذ منه فهو كمثل الفراش يريد أن يطفىء نور السراج فيحرق نفسه.
قال علي رضي الله عنه : الفرق بين صلاتنا وصلاة أهل الكتاب وسوسة الشيطان لأنه فرغ من عمل الكفار لأنهم وافقوه يقول إذا كفر أحد إني بريىء منك والمؤمن يخالفه والمحاربة تكون مع المخالفة قال رسول الله : إن الشيطان يوسوس
469
لكم ما لو تكلمتم به لكفرتم فعليكم بقراءة قل هو الله أحد.
قال حضرة شيخي وسندي روح الله روحه وعباد الرحمن العلماء الصلحاء الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}(الفرقان : 63) وهم الذين قال الله تعالى في حقهم {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} والعلماء الفسقاء الجهلاء الذين يمشون على الأرض كبراً وتعظماً وإذا خاطبهم العالمون قالوا كلاماً شنيعاً وملاماً قبيحاً وهم الذين قال الله في حقهم إلا من اتبعك من الغاوين فاتقوا الله يا أولي الألباب من العلم الخبيث الذي مال إلهي الخبيثون إذ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات واطلبوا يا ذوي القلوب العلم الطيب الذي قصد إليه الطيبون إذ الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك هم الراشدون المهديون لعلكم تفلحون في الدنيا والآخرة بالعلم النافع والعمل الصالح وأنفع جميع العلوم النافعة هو العلم الإليه الحاصل بالتجلي الإلهي والفيض الرحماني والإلهام الرباني المؤيد بالكتاب الإلهي والحديث النبوي ، ولا يحصل ذلك العلم بهذا التجلى والفيض والإلهام إلا عند إصلاح الطبيعة بالشريعة وتزكية النفس بالطريقة وتخلية القلب وتحلية الفؤاد بالمعرفة وتجلية الروح وتصفية السر بالحقيقة بأكمل التوحيد وأشمل التجريد وأفضل التفريد من جميع ما سوى الله ، حتى لا يبقى في الطلب والقصد والتوجه والمحبة شيء مما سواه من السلفات الفانية ففروا إلى الله من جميع ما سوى الله سبق المفردون السابقون السابقون أولئك المقربون انتهى كلام الشيخ في اللائحات البرقيات.
قال الجامي :
جزء : 4 رقم الصفحة : 469
از عالم صورت كه همه نقش خيالست
ره سوى حقيقت نبري در ه خيالي
وإن جهنم معرب فارسي الأصل ، يقال : ركية جهنام ، أي : بعيدة الغور وكأنه في الفرس (ه نم) وفي تفسير الفاتحة للفناري سميت جهنم لبعد قعرها يقال بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر وقعرها خمس وسبعون مائة من السنين وهي أعظم المخلوقات وهي سجن الله في الآخرة لموعدهم مكان الوعد للمتبعين أي مصيرهم أجمعين تأكيد للضمير والعامل الإضافة يعني الاختصاص لا اسم مكان فإنه لا يعمل.
لها سبعة أبواب يدخلون منها كل باب فوق باب على قدر الطبقات لكل طبقة باب لكل باب من تلك الأبواب المنفتح على طبقة من الطبقات ، وقوله : منهم أي من الاتباع حال من قوله جزء مقسوم ضرب معين مفرز من غيره حسبما يقتضيه استعداده فللطبقة الأولى وهي العليا العصاة من المسلمين.
(4/312)
وعن الشيخ الأكبر قدس سره : الأطهر أنه قال : تبقى جهنم خالية ومراده الطبقة العالية فإنها مقر عصاة المؤمنين ولا ريب أن من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان أي من معرفة الله تعالى فإنه لا يبقى مخلداً فتبقى جهنم خالية ، وأما الطبقات السافلة فأهلها مخلدة.
يقول الفقير : لكلامه محمل آخر عندي معلوم عند القوم لا يصح كشفه وللطبقة الثانية اليهود ، وللثالثة النصارى ، وللرابعة الصابئون.
وللخامسة المجوس ، وللسادسة المشركون ، وللسابعة المنافقون.
واختلف الروايات في ترتيب طبقات النار ، وفي الأكثر جهنم أولها وفيما بعدها اختلاف أيضاً كما في حواشي سعدى لبى المفتي.
وسميت جهنم لما سبق.
ولظى لشدة إيقادها.
والحطمة لأنها تحطم.
والسعير لتوقدها.
وسقر لشدة الالتهاب.
والجحيم لعمقها.
والهاوية لهويها وتسفلها.
وفي بحر العلوم أعلم أنه لا يتعين
470
لتلك الأبواب السبعة إلا من عصى الله تعالى بالأعضاء السبعة العين والأذن واللسان والبطن والفرج والرجل والأولى في الترتيب ما في الفتوحات أن كونها سبعة أبواب بحسب أعضاء التكليف وهي السمع والبصر واللسان واليدان والقدمان والفرج والبطن فالأعضاء السبعة مراتب أبواب النار فاحفظها كلها من كل ما نهاه الله وحرمه وإلا يصير ما كان لك عليك وتنقلب النعمة عقوبة.
هفت در دوز خند در تن تو
ساخته نقششان درو در بند
هين كه دردست تست قفل امروز
در هر هفت محكم اندر بند
وفي التأويلات النجمية : وإن جهنم البعد والاحتراق من الفراق لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب من الحصر والشرة والحقد والحسد والغضب والشهوة والكبر لكل باب من الأرواح المتبعين لإبليس النفس المتصفين بصفاتها جزؤ مقسوم بحسب الاتصاف بصفاتها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 469
وقيل خلق الله تعالى للنار سبعة أبواب دركات بعضها تحت بعض.
وللجنة ثمانية أبواب درجات بعضها فوق بعض لأن الجنة فضل والزيادة في الفضل والثواب كرم وفي العذاب جور.
وقيل الأذان سبع كلمات والإقامة ثمان فمن أذن وأقام غلقت عنه أبواب النيران وفتحت له أبواب الجنة الثمانية.
واعلم أن أشد الخلق عذاباً في النار إبليس الذي سن الشرك وكل مخالفة وعامة عذابه بما يناقض ما هو الغالب عليه في أصل خلقته ، وهي النار فيعذب غالباً بما في جهنم من الزمهرير.
جزء : 4 رقم الصفحة : 469
إن المتقين الاتقاء على ثلاثة أوجه اتقاء عن محارم الله بأوامر الله ، واتقاء عن الدنيا وشهواتها بالآخرة ودرجاتها واتقاء عما سوى الله تعالى بالله وصفته والأول تقوى العوام والثاني تقوى الخواص والثالث تقوى الأخص في جنات وعيون مستقرون فيها لكل واحد منهم جنة وعين على ما تقتضي قاعدة مقابلة الجمع بالجمع والاستغراق هو المجموعي أو لكل منهم عدة منهما على أن يكون الألف واللام للاستغراق الأفرادي.
قال الكاشفي يعني : (باغهاكه درن شمها روان بود از شير وخمر وانكبين وآب).
يقول الفقير : جعل ما يستقرون فيه في الآخرة كأنهم مستقرون فيه في الدنيا لشدة أخذهم بالأسباب المؤدية إليه ونظيره في حق أهل النار إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً}(النساء : 20).
{ادْخُلُوهَا} أي يقال لهم من ألسنة الملائكة عند وصولهم إلى الباب وعند توجههم من جنة إلى جنة ادخلوا أيها المتقون تلك الجنات ملتبسين بسلام أي حال كونكم سالمين من كل مخوف أو مسلماً عليكم يسلم الله تعالى عليكم والسلام من الله هو الجذبة الإلهية كما في التأويلات النجمية.
آمنين من الآفات حال أخرى.
وفي التأويلات : آمنين من الموانع للدخول والخروج بعد الوصول وفيه إشارة إلى أن السير في الله لا يمكن إلا بالله وجذباته ، كما كان حال النبي ليلة المعراج حين تأخر عنه جبريل في سدرة المنتهى.
نان كرم در تيه قربت براند
كه درسدره جبريل ازو باز ماند
ونفى عنه الرفرف في مقام قاب قوسين ، وما وصل إلى مقام أو أدنى وهو كمال القرب إلا بجذبة أدن مني فبسلام الله سلم من موانع الدخول والخروج بعد الوصول.
ونزعنا (وبيرون
471
كشيم) ما في صدورهم (آنه درسينهاى بهشتيان باشد) من غلٍ أي : حقد كامن في القلب بسبب عداوة كانت منهم في الدنيا.
عن علي رضي الله عنه : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم.
وفيه إشارة إلى أن غل أوصاف البشرية من أمارية النفس وصفتها الذميمة لا ينتزع من النفوس إلا بنزع الله تعالى إياه ومن لم ينزع عنه الغل لم يأمن من الخروج بعد الدخول كما كان حال آدم عليه السلام لما أدخل الجنة قبل تزكية النفس ونزع صفاتها عنها أخرج منها بالغل الذي كان من نتائجه ، وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه ونزع عنه الغل بالتوبة وهداه إلى الجنة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 471
(4/313)
يقول الفقير : انتزاع الغل إما أن يكون في الدنيا وذلك بتزكية النفس عن الأوصاف القبيحة وتخلية القلب عن سفساف الأخلاق وهو للكاملين وأما أن يكون في الآخرة وهو للناقصين جعلنا الله وإياكم من المتصافين إخواناً حال من الضمير في جنات.
قال الكاشفي : (در آيند ببهشت در حالتى كه برادران باشند يكديكريرا يعني درمهر بني ودوستارى) وزاد في هذه السورة أخوانا لأنها نزلت في أصحاب رسول الله عليه السلام وما سواها علم في المؤمنين.
يقول الفقير : فهم إذا كانوا إخوانا يعني على المصافاة لم يبق بينهم التحاسد لا في الدنيا على العلوم والمعارف ولا في الآخرة على درجات الجنة ومراتب القرب.
على سرر (برادران نشسته برتختها از زرمكلل بجواهر.
متقابلين رويها بيكديكر آورده اند بهشتيان قفاي يكديرك نمى بينند) قال مجاهد تدور بهم الأسرة حيث ما أرادوا فهم متقابلون في جميع أحوالهم يرى بعضهم بعضاً وذلك من نتائج مصافاتهم في الدنيا.
لا يمسهم (نميرسد ايشانرا) فيها (دربهشت) نصب (رنجى ومشقتى كه آن سراي تنعم وراحتست) أي شيء منه إذ التنكير للتقليل لا غير.
قال في الإرشاد أي تعب بأن لا يكون لهم فيها ما يوجبه من الكد في تحصيل ما لا بد لهم منه لحصول كل ما يريدونه من غير مزاولة عمل أصلاً أو بأن لا يعتريهم ذلك وإن باشروا الحركات العنيفة لكمال قوتهم وما هم منها بمخرجين أبد الآباد لأن تمام النعمة بالخلود.
وفي التأويلات النجمية لا يمسهم فيها نصب من الحسد لبعضهم على درجات بعض وأهل كل درجة مقيمون في تلك الدرجة لا خروج لهم منها إلى درجة تحتها ولا فوقها وهم راضون بذلك لأن غل الحسد منزوع منهم.
اك وصافى شو وازاه طبيعت بدر آي
كه صفايي ندهد آب تراب آلوده
وفي الحديث أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ، ولا يتمخطون ولا يتغوطون آنيتهم فيها الذهب ، وأمشاطهم من الذهب والفضة ، ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك لكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض في قلوبهم على قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشياً) رواه البخاري.
قال فتح القريب أي : يسبحون الله بقدر البكرة والعشى فأوقات الجنة من الأيام والساعات تقديرات فإن ذلك إنما يجيء من اختلاف الليل والنهار وسير الشمس والقمر وليس في الجنة شيء من ذلك.
قال القرطبي : هذا التسبيح ليس عن تكليف وإلزام لأن الجنة ليست بمحل التكليف وإنما هي محل
472
جزاء وإنما هو عن تيسير وإلهام كما قال في الرواية الأخرى يلهمون التسبيح والتحميد والتكبير كما يلهمون النفس ووجه التشبيه أن نفس الإنسان لا بد له منه ولا كلفة عليه ولا مشقة في فعله وسر ذلك أن قلوبهم قد تنورت بمعرفته وأبصارهم قد تمتعت برؤيته وقد غمرتهم سوابغ نعمه وامتلأت أفئدتهم بمحبته ومخالته فألسنتهم ملازمة ذكره ورهينة شكره فمن أحب شيئاً أكثر ذكره.
جزء : 4 رقم الصفحة : 471
{نَبِّئْ عِبَادِى} (آورده اندكه روزى حضرت يغمبر صلى الله عليه وسلم درباب بنى شيبة بمسجد الحرام در آمد جمعي از صحابه را ديدكه مى خندند فرمودكه مالي أراكم تضحكون يست كه شمارا خندان مي بينم صحابه رايحه عتابي ازين سخن استشمام نمودند وآن حضرت در كذشت وهنوز بحجره نار سيده بازكشت وكفت جبرائيل آمد ويام آوردكه رابند كان مرانا اميد سازى) نبىء عبادي أي أعلم عبادي وأخبرهم أني أي باني أنا وحدي فهو لقصر المسند على المسند إليه الغفور (من آمر زنده ام كسى راكه آمر زش طلبد) الرحيم (وبخشنده ام بركسى كه توبه كند) أي لا يستر عليهم ولا يمحو ما كان منهم لا ينعم عليهم بالجنة إلا أنا وحدي ولا يقدر على ذلك غيري.
وإن عذابي (وبآنكه عذاب من برعاصي كه ازتوبه واستغفار منحرفست) هو العذاب الأليم هو مثل أنا المذكور أي وأخبرهم بأن ليس عذابي إلا العذاب الأليم وفي توصيف ذاته بالغفران والرحمة دون التعذيب حيث لم يقل على وجه المقابلة وإني المعذب المؤلم إيذان بأنهما مما يقتضيهما الذات وأن العذاب إنما يتحقق بما يوجبه من خارج وترجيح وعد اللطف وتأكيد صفة العفو.
كره جرم من ازعدد بيش است
سبقت رحمتي ازان يش است
ه عجب كر عذاب ننمايد
بركنه يشكان ببخشايد
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن المختصين بعبوديته هم الأحرار عن رق عبودية ما سواه من الهوى والدنيا والعقبى وهم مظاهر صفات لطفه ورحمته والعذاب لمن يكون عبد الهوى والدنيا وما سوى الله وإنه مظهر صفات قهره وعزته.
(4/314)
وفيه إشارة أخرى إلى سير السائرين وطيران الطائرين في هواء العبودية وفضاء الربونية إنما يكون على قدمي الخوف والرجاء وبجناحي الأنس والهيبة معتدلاً فيهما من غير زيادة إحداهما على الأخرى وفي الروضة لقي يحيى عيسى عليهما السلام فتبسم عيسى على وجه يحيى فقال مالي أراك لاهياً كأنك آمن؟ فقال : مالي أراك عابساً كأنك آيس؟ فقالا لا نبرح حتى ينزل علينا الوحي فأوحى الله تعالى أحبكما إليّ أحسنكما ظناً بي ، وروى أحبكما إلى الطلق البسام ولم يزل زكريا عليه السلام يرى ولده يحيى مغموماً باكياً مشغولاً بنفسه فقال يا رب طلبت ولداً انتفع به قال طلبته ولياً والولي لا يكون إلا هكذا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 473
قال مسروق : إن المخافة قبل الرجاء فإن الله تعالى خلق جنة وناراً فلن تخلصوا إلى الجنة حتى تمروا بالنار.
يقول الفقير : الذي ينبغي أن يقدمه العبد هو الخوف لأنه الأصل وفيه تخلية القلب من الأماني الفاسد ولا ينافيه كون متعلق الرجاء هو السابق وهو رحمة الله الواسعة فإنها الأصل وهو بالنسبة إلى صفات الله ولذا جاء في الحديث : لو يعلم العبد قدر رحمة الله
473
ما تورع عن حرام ولو يعلم العبد قدر عقوبة الله لبخع نفسه أي أهلكها في عبادة الله تعالى ولما أقدم على ذنب.
واعلم أن أسباب المغفرة كثيرة أعظمها العشق والمحبة فإن الله تعالى إنما خلق الأنس والجن للعبادة الموصلة إلى المعرفة الإلهية والجذبة الربانية.
قال الحافظ :
هرند غرق بحر كناهم زشش جهت
كر آشناى عشق شوم غرق رحمتم
وأسباب العذاب أيضاً كثيرة أعظمها الجهل بالله تعالى وصفاته.
فعلى العاقل أن يجتهد في طريق العشق والمحبة والمعرفة إلى أن يصل إلى المراد ويستريح من تعب الطلب والاجتهاد فإن الواصل إلى المنزل مستريح.
وقد قيل الصوفي من لا مذهب له ، وأما من بقي في الطريق فهو في أصبعي الرحمن لا يزال يتقلب من حال إلى حال ومن أمن إلى خوف وبالعكس إلى أن تنقطع الاضافات وعند ذلك يعتدل حاله ويستقيم ميزان علمه وعمله فيعبد الله تعالى إلى أن يأتيه اليقين وهو الموت ونبئهم وأخبر أمتك يا محمد عن ضيف إبراهيم يستوي فيه القليل والكثير أي أضيافه وهو جبريل مع أحد عشر ملكاً على صورة الغلمان الوضاء وجوههم جعلهم ضيفاً ، لأنهم كانوا في صورة الضيف أو لكونهم ضيفاً في حسبان إبراهيم عليه السلام.
إذ دخلوا عليه ظرف لضيف فإنه مصدر في الأصل.
فقالوا عند دخولهم عليه سلاماً أي : نسلم سلاماً قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذٍ ، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة.
قال إبراهيم إنا منكم وجلون خائفون فإن الوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه وإنما قاله عليه السلام حين امتنعوا من أكل ما قربه إليهم من العجل الحنيذ ، لما إن المعتاد عندهم أنه إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجيء بخير لا عند ابتداء دخولهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 473
{قَالُوا} أي الملائكة لا توجل لا تخف يا إبراهيم إنا نبشرك استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل فإن المبشر به لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن كيف لا؟ وهو بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زماناً طويلاً.
والبشارة هو الأخبار بما يظهر سرور المخبر به.
والمعنى بالفارسية (بدرستى ترامده ميدهيم) بغلام (به بشرى اسحاق نام) عليم أي إذا بلغ.
يعني (وقتى كه بلوغ رسد علم نبوت بوي خواهد رسيد).
قال أبشرتموني (آيا بشارت ميدهيد مرا) على أن مسنى الكبر وأثر فيّ والاستفهام للتعجب والاستبعاد عادة وعلى بمعنى مع أي مع مس الكبر بأن يولد لي أي أن الولادة أمر مستنكر عادة مع الكبر وأمر عجيب من بين هرمين وهو حال أي أبشرتموني كبيراً أو بمعنى بعد أي بعدما أصابني الكبر والهرم فبم تبشرون هي ما الاستفهامية دخلها معنى التعجب كأنه قيل فبأي أعجوبة تبشرون.
وفي التفسير الفارسي (س به نوع مده ميدهيد مرا) وهو بفتح النون مع التخفيف ؛ لأنها نون الجماعة وقرىء بكسر النون مع التخفيف لأن أصله تبشروني حذفت الياء وأقيم الكسر مقامها.
قالوا بشرناك بالحق أي بما يكون لا محالة فلا تكن من القانطين من الآيسين من ذلك ، فإن الله تعالى قادر على أن يخلق بشراً بغير أبوين ، فكيف من شيخ فإن وعجوز عاقر ، وكان مقصده عليه السلام استعظام نعمته تعالى عليه في مضمن التعجب العادي المبني على سنة الله المسلوكة
474
فيما بين عباده لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته تعالى كما ينبىء عنه قوله تعالى بطريق الحكاية من القانطين دون من الممترين ونحوه.
(4/315)
قال ومن يقنط استفهام إنكاري أي لا يقنط من رحمة ربه (از بخشش آفريده كارخود) إلا الضالون أي : المخطئون طريق المعرفة والصواب فلا يعرفون سعة رحمته وكمال علمه وقدرته كما قال يعقوب عليه السلام لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}(يوسف : 87) ومراده نفي القنوط عن نفسه على أبلغ وجه أي ليس بي قنوط من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاة حالي لفيضان تلك النعمة الجليلة علي.
وفيه إشارة إلى أن بشارته بغلام عليم مع كبره وكبر امرأته بشارة للطالب الصادق وإنه وإن كان مسناً قد ضعف جسمه وقواه ، وعجز عن جهاد النفس ومكابدتها واستعمالها في مباشرة الطاعات والأعمال البدنية ويؤئسه الشيطان من نيل درجات القرب لأن أسباب تحصيل الكمال قد تناهت ومعظمها العمر والشباب ، ولهذا قال المشايخ : الصوفي بعد الأربعين بارد فلا يقنط من رحمة ربه ويتقرب إليه بأعمال القلبية ليتقرب إليه ربه بأصناف الطاف الربوبية وجذبات أعطافه فيخرج من صلب روحه ورحم قلبه غلاماً عليماً بالعلوم اللدنية والرسوم الدينية ، وهو واعظ الله الذي في قلب كل مؤمن وقد اشتغل أفراد كالقفال والقدوري بعد كبرهم ففاقوا على علمهم وراقوا بمنظرهم ولطف الله تعالى واصل على كل حال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 474
قال في "شرح الحكم" من استغرب أن ينقذه الله من شهوته التي أعتقلته عن الخيرات وأن يخرجه من وجود غفلته التي شملته في جميع الحالات فقد استعجز القدرة الإلهية والله تعالى يقول : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا} فأبان سبحانه أن قدرته شاملة صالحة لكل شيء وهذا من الأشياء وإن أردت الاستعانة على تقوية رجائك في ذلك فانظر لحال من كان مثلك ثم أنقذه الله وخصه بعنايته كإبراهيم بن أدهم والفضيل ابن عياض وابن المبارك وذي النون ومالك بن دينار وغيرهم من مجرمي البداية.
تا سقاهم ربهم آيد جواب
تشنه باش والله أعلم بالصواب
قال في تاج العروس : من قصر عمره فليذكر بالأذكار الجامعة مثل سبحان الله عدد خلقه ونحو ذلك والمراد بقصر العمر أن يكون رجوعه إلى الله في معترك المنايا ونحوها من الأمراض المخوفة والأعراض المهولة.
دع التكاسل تغنم قد جرى مثل
كه زاد راهروان ستيست والاكى
جزء : 4 رقم الصفحة : 474
{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} أي : أمركم وشأنكم الخطر لعل إبراهيم عليه السلام علم بالقرائن أن مجيء الملائكة ليس لمجرد البشارة ، بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا فكأنه قال إن لم يكن شأنكم مجرد البشارة فماذا هو؟
قالوا أي الملائكة إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين مصرين على إجرامهم متناهين في آثامهم وهم قوم لوط.
إلا آل لوط استثناء متصل من الضمير في مجرمين ، أي إلى قوم أجرموا جميعاً إلا آل لوط يريد أهله المؤمنين فالقوم والإرسال شاملان للمجرمين وغيرهم.
والمعنى إنا أرسلنا إلى قوم أجرم كلهم إلا آل لوط لنهلك الأولين وننجى الآخرين ، واكتفى بنجاة الآل لأنهم إذا نجوا وهم تابعون فالمتبوع وهو لوط أولى بذلك ولوط بن هاران بن تارخ وهو ابن أخي إبراهيم
475
الخليل ، كان قد آمن به وهاجر معه إلى الشام بعد نجاته من النار ، واختتن لوط مع إبراهيم وهو ابن ثلاث وخمسين وإبراهيم ابن ثمانين أو مائة وعشرين فنزل إبراهيم فلسطين ، وهي البلاد التي بين الشام ومصر منها الرملة وغزة وعسقلان وغيرها ونزل لوط الأردنّ ، وهي كورة بالشام فأرسل الله لوطاً إلى أهل سدوم بالدال وكانت تعمل الخبائث فأرسل الله إليهم ملائكة للإهلاك.
إنا لمنجوهم أجمعين أي مما يصيب القوم من العذاب وهو قلب مدائنهم.
إلا امرأته استثناء من الضمير واسمها واهلة.
قدرنا حكمنا وقضينا إنها لمن الغابرين الباقين مع الكفرة لتهلك معهم وأسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم وهو فعل الله تعالى لما لهم من القرب والاختصاص كما يقول خاصة الملك أمرنا بكذا والآمر هو الملك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 475
{فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ} أي : الملائكة ، قال لوط إنكم قوم منكرون غرباء لا يعرفون أو ليس عليكم زي السفر ولا أنتم من أهل الحضر فأخاف أن تطرقوني بشر.
قالوا ما جئناك بما تنكرنا لأجله.
بل جئناك (بلكه آمده ايم بتو) بما كانوا فيه يمترون أي : بما فيه سرورك وتشفيك من عدوك ، وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله فيمترون في وقوعه ، أي يشكون ويكذبونك جهلاً وعناداً.
وأتيناك (آورده ايم بتو) بالحق بالمتيقن الذي لا مجال فيه للامتراء والشك وهو عذابهم.
وإنا لصادقون في الأخبار بنزوله بهم.
فأسر بأهلك فاذهب بهم من السرى وهو السير في الليل.
(4/316)
قال الكاشفي : (س برون بر ازشهر اهل خودرا بشب) بقطع من الليل في طائفة من الليل أي بعض منه.
وبالفارسية (در اره كه ازشب بكذرد) واتبع أدبارهم جمع دبر وهو من كل شيء عقبه ، ومؤخره ، أي : وكن على أثرهم لتسوقهم وتسرع بهم وتطلع على أحوالهم فلا تفرط منهم التفاتة استحياء منك ولا غيرها من الهفوات.
قال في برهان القرآن : لأنه إذا ساقهم وكان من ورائهم علم بنجاتهم ولا يخفى عليه حالهم ولا يلتفت منكم أي : منك ومنهم أحد فيرى ما وراءه من الهول فلا يطيقه أو جعل الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف ، لأن من يلتفت لا بد له من أدنى وقفة ولم يقل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ، كما في هود اكتفاء بما قبله وهو قوله إلا امرأته وامضوا (وبرويد) حيث تؤمرون حيث أمركم الله بالمضي إليه وهو الشام أو مصر أو زغر وهي قرية بالشام.
قال الكاشفي : (شهرستان نجم است اهل آن هلاك نخواهندشد).
جزء : 4 رقم الصفحة : 475
[الحجر : 66-81]{وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ} وأوحينا إلى لوط مقتضياً مبتوتاً ذلك الأمر مبهم يفسره أن دابر هؤلاء المجرمين أي آخرهم مقطوع (بريده وبركنده است) أي مهلك يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد مصبحين حال من هؤلاء ، أي : وقت دخولهم في الصبح وهو تعين وقت هلاكهم كما قال الله تعالى : إن موعدهم الصبح}(هود : 81) وتلخيصه أوحينا إليه أنهم يهلكون جميعاً وقت الصبح فكان كذلك.
وفي الآيات إشارات :
الأولى أن لا عبرة بالنسب والقرابة والصحبة بل بالعلم النافع والعمل الصالح ألا ترى أن الله استثنى امرأة لوط فجعلها في الهالكين ولم تنفعها الزوجية بينها وبين لوط كما لم تنفع الأبوة والبنوة بين نوح وابنه كنعان ولله در من قال :
476
بابدان يا ركشت همسر لوط
خاندان نبوتش كم شد
وذلك أنها صحبت لوطاً صورة لا سيرة وصحبت الكفرة صورة وسيرة فلم تنفعها الصورة.
بي اند ناس صورت ونسناس سيرتان
خلقي كه آدم اند بخلق وكرم كم اند
والنسناس حيوان بحري صورته كصورة الإنسان وقيل غير ذلك.
والثانية : أن الشك من صفات الكفرة كما أن اليقين من صفات المؤمنين.
وفي "المثنوى" :
افت وخيزان ميرود مرغ كمان
با يكى ر بر اميد آشيان
ون زظن وارست علمش رونمود
شد دور آن مرغ رها را كشود
والثالثة : أن سالك طريق الحق ينبغي أن لا يلتفت إلى شيء سوى الله تعالى لأنه المقصد الأقصى والمطلب الأعلى بل يمضي إلى حيث أمر وهو عالم الحقيقة ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يلتفت إلى يمينه ويساره ليلة المعراج بل توجه إلى مقام قاب قوسين وهو عالم الصفات ثم إلى مقام أو أدنى وهو عالم الذات ولم يعقه عائق أصلاً ، وهكذا شأن من له علو همة من المهاجرين من بلد إلى بلد ومن مقام إلى مقام.
قال المولى الجامي قدس سره :
نشان عشق ه رسى زهر نشان بكسل
كه تا اسير نشاني به بي نشان نرسى
نسأل الله العصمة من الوقوف في موطن النفس والوصول إلى حضيرة القدس والأنس.
{وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ} (ون زن لوط مهمانان نيكورورا ديد خبر بقوم فرستاد) وجاء أهل سدوم التي ضرب بقاضيها المثل في الجور منزل لوط ومدائن قوم لوط كانت أربعا وقيل سبعاً وأعظمها سدوم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 476
وفي درياق الذنوب لابن الجوزي : كانت خمسين قرية يستبشرون الاستبشار (شاد شدن) أي مظهرين السرور بأنه نزل بلوط عدّة من المرد في غاية الحسن والجمال قصدا إلى ارتكاب الفاحشة.
قال لوط لهم لما قصدوا أضيافه إن هؤلاء ضيفي إطلاق الضيف على الملائكة بحسب اعتقاده عليه السلام لكونهم في زي الضيف فلا تفضحون (س مرا رسواى مكنيد درنزد ايشان) بان تتعرضوا لهم بسوء فيعلموا أنه ليس لي قدر وحرمة أو لا تفضحون بفضيحة ضيفي فإن من أهين ضيفه أو جاره فقد أهين كما أن الإكرام كذلك.
يقال فضحه كمنعه كشف مساويه وأظهر من أمره ما يلزمه العار.
واتقوا الله في مباشرتكم لما يسوءني أو في ركوب الفاحشة واحفظوا ما أمركم به ونهاكم عنه ولا تخزون ولا تذلوني ولا تهينوني بالتعرض لمن أجرتهم بمثل تلك الفعلة القبيحة.
وبالفارسية (ومرا خار وخجل مسازيد يش مهمانان) من الخزي وهو الهوان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 476
{قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَـالَمِينَ} (از حمايت عالميان يعني غريبان كه فاحشه ايشان مخصوص بغربا بوده).
قال في الإرشاد الهمزة للانكار والواو للعطف على مقدر أي ألم نقدم إليك ولم ننهك عن التعرض لهم بمنعهم عنا وكانوا يتعرضون لكل واحد من الغرباء بالسوء ، وكان عليه السلام يمنعهم عن ذلك بقدر وسعه ، وهم ينهونه عن أن يجير أحد أو يوعدونه بقولهم لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين ، ولما رآهم لا يقلعون عما هم عليه.
قال هؤلاء بناتي أي بنات قومي فازوجهن إياكم أو تزوجوهن ففي الكلام حذف وإنما جعل بنات
477
(4/317)
قومه كبناته فإن كل نبي أبو أمته من حيث الشفقة والتربية رجالهم بنوه ونساؤهم بناته ، أو أراد بناته الصلبية أي فتزوجوهن ولا تتعرضوا للأضياف وقد كانوا من قبل يطلبونهن ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعية المناكحة بين المسلمات والكفار فإن نكاح المؤمنات من الكفار كان جائزاً فأراد أن يقي أضيافه ببناته كرماً وحمية.
وقيل : كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه ايثا وزعورا إن كنتم فاعلين قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم فإن الله تعالى خلق النساء للرجال لا الرجال للرجال.
وفي الآيات فوائد :
الأولى : أن إكرام الضيف ورعاية الغرباء من أخلاق الأنبياء والأولياء وهو من أسباب الذكر الجميل.
قال الحافظ :
تيمار غريبان سبب ذكر جميلست
جانا مكراين قاعده در شهر شمانيست
وقال السعدي قدس سره :
غريب آشنا باش وسياح دوست
كه سيح جلاب نام نكوست
وفي الحديث : من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وقرى الضيف دخل الجنة كما في الترغيب.
والثانية : أنه لا بد لكل مؤمن متق أن يسد باب الشر بكل ما أمكن له من الوجوه ألا ترى أن لوطاً عليه السلام لما لم يجد مجالاً لدفع الخبيثين عرض عليهم بناته بطريق النكاح وإن كانوا غير أكفاء دفعاً للفساد.
والثالثة : أن محل التمتع هي النساء لا الرجال ، كما قالوا ضرر النظر في الأمرد أشد لامتناع الوصول في الشرع لأنه لا يحل الاستمتاع بالأمرد أبداً.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 4 رقم الصفحة : 477
خرابت كند شاهد خانه كن
برو خانه آباد كردان بزن
نشايد هوس باختن باكلى
كه هر بامدادش بود بلبلى
مكن بد بفرزند مردم نكاه
كه فرزند خويشت برآيد تباه
ر اطفل يكروزه هوشش نبرد
كه در صنع ديدن ه بالغ ه خرد
محقق همي بيند از آب وكل
كه در خو برويان ين وكل
لعمرك قسم من الله تعالى بحياة النبي وهو المشهور وعليه الجمهور والعمر بالفتح والضم واحد وهو البقاء إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف ، لأن الحلف كثير الدور على ألسنتهم ولذلك حذفوا الخبر وتقديره لعمرك قسمي كما حذفوا الفعل في قولهم : تالله إنهم أي : قوم لوط لفي سكرتهم غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ الذي هم عليه والصواب الذي يشار به إليهم من ترك البنين إلى البنات.
يعمهون يتحيرون ويتمارون ، فكيف يسمعون النصح.
قال في القاموس : العمه التردد في الضلال والتحير في منازعة أو طريق أو أن لا يعرف الحجة عمه كجعل وفرح عمها وعموها وعموهة وعمهانا فهو عمه وعامه انتهى.
ويعمهون حال من الضمير في الجار والمجرور كما في بحر العلوم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما خلق الله تعالى نفساً أكرم على الله من محمد وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره.
وفي التأويلات النجمية هذه مرتبة
478
ما نالها أحد من العالمين إلا سيد المرسلين وخاتم النبيين عليه الصلاة والسلام من الأزل إلى الأبد وهو أنه تعالى أقسم بحياته فانياً عن نفسه باقياً بربه كما قال تعالى : إنك ميت}(الزمر : 30) أي ميت عنك حي بنا وهو مختص بها المقام المحمود انتهى.
ون نبي ازهستى خود سر بتافت
فرق اكش از لمرك تاج يافت
داشت از حق زندكى دربندكى
شد لعمرك جلوه آن زندكى
واعلم أن الله تعالى قد أقسم بنفسه في القرآن في سبعة مواضع والباقي من القسم القرآني قسم بمخلوقاته كقوله : {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} .
{وَالصَّـافَّـاتِ} .
{وَالشَّمْسَ} .
{وَالضُّحَى} ونحوها.
فإن قلت : ما الحكمة في معنى القسم من الله تعالى؟ فإن كان لأجل المؤمن فالمؤمن يصدق بمجرد الأخبار من غير قسم وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده.
قلت : إن القرآن نزل بلغة العرب ومن عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمراً.
فإن قلت : ما الحكمة في أن الله تعالى قد أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 477
قلت في ذلك وجوه :
أحدها : أنه على حذف مضاف أي ورب التين ورب الشمس وواهب العمر.
والثاني : أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون.
والثالث : أن الإقسام إنما يكون بما يعظم المقسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل فهو يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلا بالله وهذا كالنهي عن الامتنان قال الله تعالى : بل الله يمن عليكم}(الحجرات : 17) وعن تزكية النفس ومدحها وقد مدح الله تعالى نفسه وقد أقسم الله تعالى بالنبي عليه الصلاة والسلام في قوله : [الحجر : 72-1]{لَعَمْرُكَ} ليعرف الناس عظمته عند الله ومكانته عند الله ومكانته لديه فالقسم إما لفضيلة أو لمنفعة كقوله : والتين والزيتون}(التين : 1) وكان الحلف بالآباء معتاداً في الجاهلية فلما جاء الله تعالى بالإسلام نهاهم الرسول عليه السلام عن الحلف بغير الله تعالى.
واختلف في الحلف بمخلوق والمشهور عند المالكية كراهيته وعند الحنابلة حرام.
(4/318)
وقال النووي : هو عند أصحابنا مكروه وليس بحرام قيد العراقي ذلك في شرح الترمذي بالحلف بغير اللات والعزى وملة الإسلام فأما الحلف بنحو هذا فحرام والحكمة في النهي عن الحلف بغير الله تعالى أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به ، وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالى لا يضاهي بها غيرها وقسمه تعالى بما شاء من مخلوقاته تنبيه على شرف المحلوف به فهو سبحانه ليس فوقه عظيم يحلف به فتارة يحلف بنفسه وتارة بمخلوقاته كما في "الفتح القريب".
ويمكن أن يكون المراد بقولهم لعمري وأمثاله ذكر صورة القسم لتأكيد مضمون الكلام وترويجه فقط لأنه أقوى من سائر المؤكدات وأسلم من التأكيد بالقسم بالله تعالى لوجوب البر به وليس الغرض اليمين الشرعي وتشبيه غير الله تعالى به في التعظيم وذكر صورة القسم على هذا الوجه لا بأس به كما قال عليه السلام : "قد أفلح وأبيه" كذا في "الفروق".
{فَأَخَذَتْهُمُ} أي قوم لوط الصيحة أي : صيحة جبريل عليه السلام.
مشرقين أي حال كونهم داخلين في وقت شروق الشمس وهو بالفارسية (بر آمدن خرشيد) وكان ابتداء العذاب حين أصبحوا ، كما قال : إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين وتمامه حين أشرقوا لأن جبريل قلع الأرضين بهم
479
ورفعها إلى السماء ثم هوى بها نحو الأرض ثم صاح بهم صيحة عظيمة فالجمع بين مصبحين ومشرقين باعتبار الابتداء والانتهاء فمقطوع على حقيقة فإن دلالة اسمي الفاعل والمفعول على الحال ، وحال القطع هو حال المباشرة لا حال انقضائه ، لأنه مجاز حينئذٍ ، وذلك أن تقول مقطوع بمعنى بقطع عن قريب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 477
{فَجَعَلْنَا عَـالِيَهَا سَافِلَهَا} (زبرآن شهر ستانهارا) زير آن يعني زيروبر كردانيم آنرا) وذلك بأن رفعناها إلى قريب من السماء على جناح جبريل ثم قلبناها عليهم فصارت منقلبة بهم.
وقوله عاليها مفعول أول لجعلنا وسافلها مفعول ثان له وهو أدخل في الهول والفظاعة من العكس.
وأمطرنا عليهم في تضاعيف ذلك قبل تمام الانقلاب.
حجارة كائنة من سجيل من طين متحجر عليه اسم من يرمى به فهلكوا بالخسف والحجارة.
قال في القاموس السجيل كسكيت حجارة كالمدر معرب (سنك كل) أو كان طبخت بنار جهنم وكتب فيها أسماء القوم أو قوله تعالى : من سجيل أي : من سجل مما كتب لهم إنهم يعذبون بها قال تعالى : وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم}(المطففين : 8 ـ ـ 9) والسجيل بمعنى السجين.
قال الأزهري هذا أحسن ما مر عندي وأبينها انتهى.
وفي "الكواشي" : وأمطرنا على شذاذهم ، أي : على من غاب عن تلك البلاد.
{إِنَّ فِي ذَالِكَ} أي فيما ذكر من القصة من تعرض قوم لوط لضيف إبراهيم طمعاً فيهم وقلب المدينة على من فيها وأمطار الحجارة عليها وعلى من غاب منهم.
لآيات لعلامات يستدل بها على حقيقة الحق ويعتبر للمتوسمين أي : المتفكرين المتفرسين الذين يبسطون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء وباطنه بسمته ، وبالفارسية (مرخدا وندان فراست راكه بزيركى درنكرند وحقيقت ايشان بسمات آن بشناسند) يقال توسمت في فلان كذا ، أي : عرفت وسمة فيه أي أثره وعلامته وتوسم الشيء تيره وتفرسه.
وإنها (وبدرستى كه آن شهر ستانهاى مؤتفكه) لبسبيل مقيم أي طريق ثابت يسلكه الناس ويرون آثار تلك البلاد بين مكة والشام لم تندرس بعد فاتعظوا بآثارهم يا قريش إذا أذهبتم إلى الشام لأنها في طريقكم.
إن في ذلك أي في كون آثار تلك القرى بمرآى من الناس يشاهدونها في ذهابهم وإيابهم.
لآية عظيمة للمؤمنين بالله ورسوله فإنهم الذين يعرفون أن ما حاق بهم من العذاب الذي ترك ديارهم بلاقع إنما حاق بهم لسوء صنيعهم وأما غيرهم فيحملون ذلك على الاتفاق أو الأوضاع الفلكية ، وإفراد الآية بعد جمعها فيما سبق لما أن المشاهد ههنا بقية الآثار لا كل القصة كما فيما سلف.
جزء : 4 رقم الصفحة : 480
وقال في برهان القرآن : ما جاء في القرآن من الآيات فلجمع الدلائل ، وما جاء من الآية فلوحدانية المدلول عليه فلما ذكر عقيبه المؤمنين وهم مقرون بوحدانية الله تعالى وحد الآية انتهى.
وفي الآيات فائدتان :
الأولى : مدح الفراسة وهي الإصابة في النظر وفي الحديث : إن كان فيما مضى قلبكم من الأمم محدثون المحدث بفتح الدال المشددة هو الذي يلقى في نفسه شيء فيخبر به فراسة ويكون كما قال وكأنه حدثه الملأ الأعلى وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء فإنه إن كان في أمتي هذه فإنه عمر بن الخطاب لم يرد النبي عليه السلام بقوله إن كان في أمتي التردد في ذلك لأن أمته أفضل الأمم وإذا وجد في غيرها محدثون ففيها أولى بل أراد بها التأكيد لفضل عمر كما يقال أن يكن لي صديق فهو فلان يريد بذلك اختصاصه
480
(4/319)
بكمال الصداقة لا نفي سائر الأصدقاء وفي الحديث : اتقوا فراسة العلماء لا يشهدوا عليكم بشهادة فيكبكم الله بها يوم القيامة على مناخركم في النار فوالله إنه لحق يقذفه الله في قلوبهم ويجعله على أبصارهم وعنه عليه السلام : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين كذا في بحر العلوم (آورده اندكه خواجه بزركوار قطب الأخيار خواجه عبد الخالق عجدواني قدس سره روزي درمعرفت سخن مي كفت ناكاه جواني در آمد بصورت زاهدان خرقه در بر وسجاده بركتف دركوشه بنشست وبدع اززماني برخاست وكفت حضرت رسالت فرموده كه اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله سراين حديث يست حضرت خواجه فرمودندكه سراين حديث آنست كه زنار ببرى وايمان آرى جوان كفت نعوذ با كه در من زنار باشد خواجه بخادم كفت خزقه ازسر جوان بركش زنارى بديد آمد جوان في الحال زنار ببريد وايمان آورد وحضرت خواجه فرمودندكه اي ياران بياييد تابر موافقت اين نوعهدكه زنار ظهر بريد زنارهاى باطن را قطع كنيم خروش از مجلسيان بر آمد ودر قدم خواجه افتادند تجديد توبه كردند.
توبه ون باشد شيمان آمدن
بر در حق نو مسلمان آمدن
عام را توبه زكار بد بود
خاص را توبه زديد خود بود
والفائدة الثانية : أن في إهلاك الأمم الماضية وإنجاء المؤمنين منهم إيقاظاً وانتباهاً ووعداً ووعيداً وتأديباً لهذه الأمة المعتبرين فاعتبروا بأحوالهم واجتنبوا عن أفعالهم وابكوا فهذه ديار الظالمين ومصارعهم.
وكان يحيى بن زكريا عليه السلام يبكي حتى رق خده وبدت أضراسه هذا وقد كان على الجادة فكيف بمن حاد إخواني الدنيا سموم قاتله والنفوس عن مكايدها غافله كم من دار دارت عليها دوائر النعم فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس وفقنا الله وإياكم للهدى وعصمنا من أسباب الجهل والردى ، وسلمنا من شر النفوس فإنها شر العدى وجعلنا من المنتفعين بوعظ القرآن والمعتبرين بآيات الفرقان ما دام هذا الروح في البدن وقام في المقام والوطن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 480
{وَإِن كَانَ} إن مخففة من أن وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف واللام هي الفارقة بينها وبين النافية أي وإن الشأن كان أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب عليه السلام.
والأيكة الشجر الملتف المتكاثف وكانت عامة شجرهم المقل.
قال في القاموس : المقل المكي ثمر شجر الدوم وكانوا يسكنونها فبعثه الله إليهم كما بعثه إلى أهل مدين فكذبوه.
وقال بعضهم : مدين وأيكة واحد لأن الأيكة كانت عند مدين وهذا أصح كما في تفسير أبي الليث.
قال الجوهري : من قرأ أصحاب الأيكة فهي الغيضة ومن قرأ ليكة فهي اسم القرية لظالمين متجاوزين عن الحد.
فانتقمنا منهم (س انتقام كشيديم از ايشان بعذاب يوم الظلة).
قال في التبيان أهلك الله أهل مدين بالصيحة وأهل الأيكة بالنار وذلك أن الله أرسل عليهم حراً شديداً سبعة أيام فخرجوا ليستظلوا بالشجر من شدة الحر فجاءت ريح سموم بنار فأحرقتهم.
وفي بعض التفاسير : بعث الله سحابة فالتجأوا إليها يلتمسون الروح فبعث الله عليهم منها ناراً فأحرقتهم فهو عذاب يوم الظلة ونعم ما قيل والشر إذا جاء
481
من حيث لا يحتسب كان أغم وإنهما يعني : سدوم التي هي أعظم مدائن قوم لوط والأيكة.
لبإمام مبين لبطريق واضح.
وبالفارسية (برراهى روشن وهويداست كه مردم ميكذرند ومي بينند) والامام اسم ما يؤنم به قال الله تعالى : إني جاعلك للناس إماماً}(البقرة : 124) أي : يؤتم ويقتدى بك ويسمى به الكتاب أيضاً لأنه يؤتم بما أحصاه الكتاب قال الله تعالى : {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ} (الإسراء : 71) أي : بكتابهم وقال : {وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} (يس : 22) يعني : في اللوح المحفوظ وهو الكتاب ويسمى الطريق إماماً ؛ لأن المسافر يأتم به ويستدل به ويسمى مطمر البناء إماماً وهو الزيج أي الخيط الذي يكون مع البنائين.
(معرب زه).
قال أبو الفرج بن الجوزي : كان قوم شعيب مع كفرهم يبخسون المكايل والموازين فدعاهم إلى التوحيد ونهاهم عن التطفيف ـ ـ روى ـ ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مر برجل يبيع طعاماً فسأله كيف يبيع فأخبره فأوحى الله إليه أن أدخل يدك فيه فإذا هو مبلول فقال عليه الصلاة والسلام : "ليس منا من غش".
جزء : 4 رقم الصفحة : 481
قال في "القاموس" غشه لم يمحضه النصح أو أظهر خلاف ما أضمر والمغشوش الغير الخالص والاسم الغش بالكسر.
وفي "تهذيب المصادر" الغش.
(خيانت كردن).
واشتقاقه من الغشش وهو الماء الكدر.
وفي "الفتح القريب" : أصله ، أي : الغش من اللبن المغشوش وهو المخلوط بالماء تدليساً.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بطعام وقد حسنه صاحبه فادخل يده فيه فإذا هو طعام رديء فقال : "بع هذا على حدة وهذا على حدة فمن غشنا فليس منا".
(4/320)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أن رجلاً كان يبيع الخمر في سفينة له ومعه قرد في السفينة وكان يشوب الخمر بالماء فأخذ القرد الكيس فصعد الذروة وفتح الكيس فجعل يأخذ ديناراً فيلقيه في السفينة وديناراً في البحر حتى جعله نصفين وفي الحديث : "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة" وفي الحديث : "ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرؤ مم أخذ المال من حلال أو من حرام" يا ابن آدم عينك مطلقة في الحرام ولسانك مطلق في الآثام وجسدك يتعب في كسب الحطام تيقظ يا مسكين مضى عمرك وأنت في غفلتك فأين الدليل على سلامتك.
عليك بالقصد لا تطلب مكاثرة
فالقصد أفضل شيء أنت طالبه
فالمرؤ يفرح بالدنيا وبهجتها
ولا يفكر ما كانت عواقبه
حتى إذا ذهبت عنه وفارقها
تبين الغبن فاشتدت مصائبه
قال السعدي قدس سره :
قناعت كن أي نفس براند كي
كه سلطان ودرويش بيني يكى
مبر طاعت نفس شهوت رست
كه هرساعتش قبله ديكرست
{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَـابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} الحجر بكسر الحاء اسم لأرض ثمود قوم صالح عليه السلام بين المدينة والشام عند وادي القرى ، كانوا يسكنونها وكانوا عرباً ، وكان صالح عليه السلام من أفضلهم نسباً فبعثه الله إليهم رسولاً وهو شاب فدعاهم حتى شمط ولم يتبعه إلا قليل مستضعفون.
482
كوى توفيق وسلامت درميان افكنده اند
كس بميدان درنمى آيد سوار انراه شد
فكذب أصحاب الحجر ، أي : ثمود المرسلين أي صالحاً فإن من كذب واحداً من الأنبياء فقد كذب الجميع لاتفاقهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار ، ونظيره قولهم فلان يلبس الثياب ويركب الدواب وماله إلا ثوب ودابة.
يقول الفقير : كما لا اختلاف بين الأنبياء في أصول الشرائع كذلك لا اختلاف بين الأولياء في أصول الحقائق بل وقد تتحد العبارات أيضاً إذ الكل آخذون من مشرب واحد مكاشفون عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ومن فرق بنيهم كان مكذباً للكل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 481
بي خبر كازاراين آزار اوست
آب اين خم متصل بآب وست
وآتيناهم أي ثمود آياتنا هي الناقة كان فيها آيات كما قال الكاشفي (خروج ناقة ازسنك معجزه ايست مشتمل بربسيارى از غرائب ون بزركى خلقت كه هركز شترى بعظمت او نبوده وزادن بعد از خروج يعني ولادتها مثلها في العظم في الحال وبسيارى شيركه همه ثمودرا افي بود وبر سراه آمدن آب در روز نوبت او وخوردن تمام آب را بيك نوبت).
قال في الفتح القريب : لما طال دعاؤه اقترحوا أن يخرج لهم الناقة آية فكان من أمرها وأمرهم ما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز.
فكانوا عنها أي : عن تلك الآيات معرضين أعراضاً كلياً بل كانوا معارضين لها حيث فعلوا بالناقة ما فعلوا ، والإعراض (روى بكردانيد ازيز) وكان عقر الناقة وقسم لحمها يوم الأربعاء.
قال ابن الجوزي : لا بالناقة اعتبروا ولا بتعويضهم اللبن شكروا عتوا عن المنعم وبطروا وعموا عن الكرم ، فما نظروا وكلما رأوا آية من الآيات كفروا الطبع الخبيث لا يتغير والمقدر عليه ضلالة لا يزول.
قال الحافظ :
بآب زمزم وكوثر سفيد نتوان كرد
كليم بخت كسى راكه بافتند سياه
وكانوا ينحتون النحت بالفارسي (بتراشيدن) من الجبال جمع جبل.
وبالفارسية (كوه).
قال في القاموس : الجبل محركة كل وتد للأرض عظم وطال فإن انفرد فاكمة أوقنة بيوتاً جمع بيت وهي اسم مبني مسقف مدخله من جانب واحد بنى للبيتوتة سواء كان حيطانه أربعة أو ثلاثة والدار تطلق على العرصة المجردة بلا ملاحظة البناء معها.
آمنين من الانهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها فهو حال مقدرة ، أو من العذاب والحوادث لفرط غفلتهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 481
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} أي صيحة جبريل فإنه صاح فيهم صيحة واحدة فهلكوا جميعاً.
وقيل : أتتهم من السماء صيحة فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم ، وفي سورة الأعراف فأخذتهم الرجفة}(الأعراف : 78) أي الزلزلة ولعلها لوازم الصيحة المستتبعة لتموج الهواء تموجاً شديداً يفضي إليها فهي مجاز عنها [الحجر : 66-38]{مُّصْبِحِينَ} حال من الضمير المنصوب أي داخلين في وقت الصبح في اليوم الرابع وهو يوم الأحد ، والصبح يطلق على زمان ممتد إلى الضحوة وأول يوم من الثلاثة اصفرت وجوه القوم وفي الثاني احمرت وفي الثالث اسودت فلما كملت الثلاثة صح استعدادهم للفساد والهلاك فكان اصفرار وجوه الأشقياء في موازنة أسفار وجوه السعداء قال تعالى : وجوه
483
يومئذٍ مسفرة}(عبس : 38) ثم جاء في موازنة الاحمرار قوله تعالى في السعداء {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} فإن الضحك من الأسباب المولدة لاحمرار الوجوه فالضحك في السعداء احمرار الوجنات ثم جعل في موازنة تغيير بشرة الأشقياء بالسواد قوله تعالى : مستبشرة وهو ما أثره السرور في بشرتهم كما أثر السواد في بشرة الأشقياء.
(4/321)
فما أغنى عنهم أي لم يدفع عنهم ما نزل بهم يقال ما يغنى عنك هذا أي ما يجدي عنك وما ينفعك ما كانوا يكسبون من بناء البيوت الوثيقة والأموال الوافرة والعدد المتكاثرة روى أن صالحاً عليه السلام انتقل بعد هلاك قومه إلى الشام بمن أسلم معه فنزلوا رملة فلسطين ثم انتقل إلى مكة فتوفى بها وهو ابن ثمان وخمسين سنة وكان أقام في قومه عشرين سنة.
وعن جابر رضي الله عنه ، مررنا مع رسول الله على الحجر فقال لنا لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذراً أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء ثم زجر رسول الله راحلته فأسرع حتى خلفها ، وكان هذا في غزوة تبوك خشي على أصحابه رضي الله عنهم أن يجتازوا على تلك الديار غير متعظين بما أصاب أهل تلك الديار فنبه عليه الصلاة والسلام على أن الإنسان لا ينبغي له السكنى في أماكن الظلمة ، مخافة أن يصيبهم بلاء فيصاب به أو تسرق طباعه من طباعهم ، ولو كانت خالية منهم ، لأن آثارهم مذكرة بأحوالهم وربما أورثت قسوة وجبروتا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 483
يقول الفقير : إذا كان لا ينبغي للمؤمن السكنى في أماكن الظلمة لا ينبغي له أداء الصلاة فيها ولا الحركة إليها بلا ضرورة قوية فإن الله تعالى خلق الأماكن على التفاوت كما خلق الأزمان كذلك وشان التقوى العزيمة دون الرخصة ، والمرؤ إذا أطلق أعضاءه الظاهرة أطلق قواه الباطنة وفيه اختلال الحال وميل القلب إلى ما سوى الله المتعال ولن يكون عارفاً إلا بالتوجه إلى الحضرة العلياء.
ذو النون المصري قدس سره (ميكويد روزي در أثناء سفر بدر شهري رسيدم خواستم كه دراندرون شهر روم ردر آن شهر كوشكى ديدم وجويي روان بنزديك جوى رفتم وطهارت كردم ون شم بربام كوشك افتاد كنيزكى ديدم ايستاده درغايت حسن وجمال ون نظر أو بمن افتاد كفت أي ون النون ون ترا ازدور ديدم نداشتم كه مجنوني وون طهارت كردى تصور كردم كه عالمي وون از طهارت فارغ شدى ويش آمدي نداشتم كه عارفي اكنون محقق شدم كه نه مجنوني ونه عالمي ونه عارفي فتم را كفت اكر ديونه بودي طهارت نكردي واكر عالم بودي نظر بخانه بيكانه ونا محرم نكردى واكر عارف بودي دل تو بما سوى الله مائل نبودي.
قال الخجندي :
سالك اك رو نخوانندش
آنكه از ما سوى منزه نيست
آستين كوتهى ه سودانرا
كه زدنياش دست كوته نيست
جزء : 4 رقم الصفحة : 483
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ} أي بين جنسي السموات والأرضين ولو أراد بين أجزاء المذكور لقال بينهن.
وفيه إشارة إلى أن أصل السموات واحدة عند بعضهم ثم قسمت كذا في الكواشي إلا بالحق أي إلا خلقا ملتبساً بالحق والحكمة لا باطلاً وعبثاً أو للحق والباء توضع موضع اللام يعني لينظر عبادي إليهما فيعتبروا.
484
دو شم ازى صنع بارى نكوست
زعيب برادر فرو كير ودوست
در معرفت ديده آدميست
كه بكشوده بر آسمان وزميست
وإن الساعة أي القيامة لتوقعها كل ساعة كما في المدارك.
وقال ابن ملك : هي اسم لوقت تقوم فيه القيامة سمى بها لأنها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم.
وقال ابن الشيخ : سميت الساعة ساعة لسعيها إلى جانب الوقوع ومسافتها الأنفاس.
لآتية لكائنة لا محالة ، كما قيل : (كره قيامت دير آمد ولى مي آمد) أي فينتقم الله لك يا محمد فيها من أعدائك وهم المكذبون ويجازيك على حسناتك وإياهم على سيئاتهم فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا ليجزى كل محسن بإحسانه وكل مسيء بإساءته فاصفح الصفح الجميل يقال صفح عنه عفا ، وصفح أعرض وترك ، أي فاعرض عن المكذبين إعراضاً جميلاً وتحميل أذيتهم ولا تعجل بالانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم.
قال الكاشفي يعني : (عفوكن حق نفس خودرا ودر صدد مكافات مباش).
إن ربك الذي يبلغك إلى غاية الكمال هو الخلاق لك ولهم ولسائر الموجودات على الإطلاق.
قال الكاشفي : (اوست آفريننده خلائق وأفلاك نظم خالق أفلاك وأنجم ب علا مردم وديو ورى ومرغ را).
خالق دريا ودشت وكوه وتيه
ملكت او بي حد وأوبى شبيه
نقش اوكردست ونقاش من أوست
غير اكر دعوى كندا وظلم جوست
العليم (دانا بأهل وفاق ونفاق).
وفي الإرشاد : بأحوالك وأحوالهم بتفاصيلها فلا يخفى عليه شيء مما جرى بينك وبينهم فهو حقيق بأن تكل جميع الأمور إليه ليحكم بينهم.
وفي الآية أمر بالمخالفة بالخلق الحسن وكان أحسن الناس خلقاً وأرجح الناس حلماً وأعظم الناس عفواً وأسخى الناس كفا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 484
قال الفضيل : الفتوة الصفح عن عثرات الأخوان.
وكان زين العابدين عظيم التجاوز والصفح والعفو حتى أنه سبه رجل فتغافل عنه فقال له إياك أعني فقال وعنك أعرض أشار إلى آية خذا العفو وائمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.
(4/322)
ولما ضرب جعفر بن سليمان العباسي والى المدينة مالكاً رضي الله عنه ونال منه وحمل مغشيا وأفاق قال أشهدكم أني جعلت ضاربي في حل ثم سئل فقال خفت أن أموت وألقى النبي واستحيي منه أن يدخل بعض آله النار بسببي.
ولما قدم المنصور المدينة ناداه ليقتص له من جعفر فقال أعوذ بالله والله ما ارتفع منها سوط إلا وقد جعلته في حل لقرابته من رسول الله .
قيل : الحلم ملح الأخلاق.
وكانت عائشة رضي الله عنها تبكي على جارية فقيل لها في ذلك فقالت أبكي حسرة على ما فاتني من تحمل السفه منها والحلم عن سوء خلقها فإنها سيئة الخلق.
والإشارة وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق أي إلا مظهر الآيات الحق بالحق لأرباب الحق المكاشفين بصفات الحق فإنه لا شعور للسموات والأرض وما بينهما من غير الإنسان بأنها مظهر لآيت الحق وإنما الشعور بذلك للإنسان الكامل كما قال : إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب}(آل عمران : 190) وهم الذين خلص لب أخلاقهم الربانية من قشر صفاتهم الإنسانية وفيه معنى آخر {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ} أي سموات الأرواح
485
والأرض أي أرض الأشباح وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار والخفيات إلا بالحق أي إلا لمظهر الحق ومظهره الإنسان فإنه مخصوص به من بين سائر المخلوقات والمكونات لأنه بجميع مبانيه الظاهرة ومعانيه الباطنة مرآة لذات الحق تعالى وصفاته فهو مظهره عند التزكية والتصفية ومظهره عند التخلية والتحلية لشعوره بذلك كما كان حال من صقل مرآته عن صدأ أنانيته وتجلى بشهود هويته عند تجلى ربوبيته بالحق فقال أنا الحق ومن قال بعد فناء أنانيته عند بقاء السبحانية سبحاني ما أعظم شأني.
وفي قوله : وإن الساعة لآتية إشارة إلى أن قيامة العشق لآتية لنفوس الطالبين الصادقين من أصحاب الرياضات في مكابدة النفس ومجاهدتها لأن الطلب والصدق والاجتهاد من نتائج عشق القلب وإنه سيتعدى إلى النفس لكثرة الاجتهاد في رياضتها فتموت عن صفاتها في قيامة العشق ومن مات فقد قامت قيامته فاصفح الصفح الجميل يا أيها الطالب الصادق عن النفس المرتاضة بأن تواسيها وتدارسها ولا تحمل عليها إصراً ولا تحملها ما لا طاقة لها به فإن في قيامة العشق يحصل من تزكية العشق في لحظة واحدة ما لا يحصل بالمجاهدة في سنين كثيرة لأن العشق جذبة الحق وقال : جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين إن ربك هو الخلاق العليم يشير بالخلاق وهو للمبالغة إلى إنه تعالى خالق لصور المخلوقات ومعانيها وحقائقها العليم بمن خلقه مستعداً لمظهرية ذاته وصفاته ومظهريتهما له شعوره بهما كذا في التأويلات النجمية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 484
[الحجر : 87-23]{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ} قال الحسين بن الفضل : إن سبع قوافل وافت من بصري واذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد بمكة فيها أنواع من البزوأ فاويه الطيب والجوهر وأمتعة البحر فقالت المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فانزل الله هذه الآية وقال قد أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع القوافل ويدل على صحة هذا قوله تعالى على أثرها.
لا تمدن عينيك الآية كما في أسباب النزول للامام الواحدي (ودرتيسير آورده كه هفت كاروان قريش دريكروز بمكه در آمدند بامطاعم بسيار وملابس بيشمار ودر خاطر مبارك حضرت خطور فرمودكه مؤمنان راكرسنه وبرهنه كذارانند ومشركانرا اين همه مال باشد) فقال الله تعالى : ولقد آتيناك يا محمد سبعاً هي الفاتحة لأنها مائة وثلاثة وعشرون حرفاً وخمس وعشرون كلمة وسبع آيات بالاتفاق غير إن منهم من عد أنعمت عليهم دون التسمية ومنهم من عكس.
من المثاني وهي القرآن ومن للتبعيض كما قال تعالى في سورة الزمر الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني}(الزمر : 23) جمع مثنى لأنه ثنى فيه أي كرر في القرآن الوعد والوعيد والأمر والنهي والثواب والعقاب والقصص كما في "الكواشي" [الحجر : 87-30]{وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ} (وديكر داديم ترا قرآن عظيم كه نزد ما قدر او بزرك وثواب أو بسيارت) وهو من عطف الكل على البعض وهو السبع ويجوز أن يكون من للبيان فالسبع هي المثاني كقوله : فاجتنبوا الرجس من الأوثان}(الحج : 30) يعني : اجتنبوا الأوثان وتسمية الفاتحة مثاني لتكرر قراءتها في الصلاة ولأنها تثنى بما يقرأ بعدها في الصلاة من السورة والآيات لأن نصفها ثناء العبد لربه ونصفها عطاء الرب للعبد ويؤيد هذا الوجه قوله عليه السلام لأبي سعيد لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قال ما هي قال : "الحمد لله
486
رب العالمين وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" وهذا يدل على جواز إطلاق القرآن على بعضه.
قال في "فتح القريب" : عطف القرآن على السبع المثاني ليس من باب عطف الشيء على نفسه وإنما هو من باب ذكر الشيء بوصفين أحدهما معطوف على الآخر أي هي الجامعة لهذين الوصفين.
(4/323)
جزء : 4 رقم الصفحة : 486
يقول الفقير : لما كانت الفاتحة أعظم أبعاض القرآن من حيث اشتمالها على حقائقه صح اطلاق الكل عليها وأما كونها مثاني فباعتبار تكرر كل آية منها في كل ركعة ولا يبعد كل البعد أن يقال أن تسميتها بالمثاني باعتبار كونها من أوصاف القرآن والجزؤ إذا كان كأنه الكل صح اتصافه بما اتصف به الكل.
{لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أي : نظر عينيك ومد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه أي ولا تطمح ببصرك طموح راغب ولا تدم نظركد إلى ما متعنا به من زخارف الدنيا وزينتها ومحاسنها وزهرتها إعجاباً به وتمنيا أن يكون لك مثله.
أزواجاً منهم أصنافاً من الكفرة كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام فإن ما في الدنيا من أصناف الأموال والذخائر بالنسبة إلى ما أوتيته من النبوة والقرآن والفضائل والكمالات مستحقر لا يعبأ به فإن ما أوتيته كمال مطلوب بالذات مفض إلى دوام اللذت يعني قد أعطيت النعمة العظمى.
يش درياي قدر حرمت تو
نه محيط فلك حبابي نيست
داري آن سلطنت كه در نظرت
ملك كونين در حسابي نيست
فاستغنِ بما أعطيت ولا تلتفت إلى متاع الدنيا ومنه الحديث : ليس منا من لم يتغن بالقرآن ذكر الحافظ لهذا الحديث أربعة أوجه : أحدها أن المراد بالتغني رفع الصوت.
والثاني : الاستغناء بالقرآن عن غيره من كتاب آخر ونحوه لفضله كما قال أبو بكر رضي الله عنه من أوتى القرآن فرأى أن أحداً أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً.
والثالث : تغريد الصوت بحيث لا يخل بالمعنى فاختار رسول الله أن يترك العرب التغنى بالأشعار بقراءة القرآن على الصفة التي كانوا يعتادونها في قراءة الأشعار.
والرابع : تحسين الصوت وتطييبه بالقراءة من غير تغريد الصوت ولا تحزن عليهم أي على الكفرة حيث لم يؤمنوا ولم ينتظموا في سلك اتباعك ليتقوى بهم ضعفاء المسلمين لأن مقدوري عليهم الكفر.
وقال الكاشفي : (واندوه مخور برياران خودبه بي نوايي ودرويشى) واخفض جناحك للمؤمنين وتواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وارفق بهم وطب نفساً عن إيمان الأغنياء مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحط.
قال في تهذيب المصادر : الخفض (فرو بردن) وهو ضد الرفع قال الله تعالى : خافضة رافعة}(الواقعة : 3) أي ترفع قوماً إلى الجنة وتخفض قوماً إلى النار (ودر كشف الأسرار كفته كه خفض جناح كنايتست از خوش خويى ومقرراست كه خلعت خلق عظيم جزبر بالاي آن حضرت نيامده).
جزء : 4 رقم الصفحة : 486
ذات ترا وصف نكو خوييست
خوى توسرمايه نيكوييست
روز ازل دوخته حكيم قديم
برقد تو خلعت خلق عظيم
جزء : 4 رقم الصفحة : 486
{وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} أي المنذر المظهر لنزول عذاب الله وحلوله.
وقال في إنسان
487
العيون ذكر في سبب نزول قوله تعالى : ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم أن عيرا لأبي جهل قدمت من الشام بمال عظيم وهي سبع قوافل ورسول الله وأصحابه ينظرون إليها وأكثر أصحابه بهم عرى وجوع فخطر ببال النبي عليه السلام شيء لحاجة أصحابه فنزلت ، أي : أعطيناك سبعاً من المثاني مكان سبع قوافل فلا تنظر لما أعطيناه لأبي جهل وهو متاع الدنيا الدنية ولا تحزن على أصحابك واخفض جناحك لهم فإن تواضعك لهم أطيب لقلوبهم من ظفرهم بما يحب من أسباب الدنيا.
ففي زوائد الجامع الصغير لو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان والقرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات.
وفي لفظ فاتحة الكتاب شفاء من كل داء ذكر في خواص القرآن إنه إذا كتبت الفاتحة في إناء طاهر ومحيت بماء طاهر وغسل وجه المريض بها عوفى بإذن الله تعالى ، وإذا كتبت بمسك في إناء زجاج ومحيت بماء الورد وشرب ذلك الماء البليد الذهن الذي لا يحفظ سبعة أيام زالت بلادته وحفظ ما يسمع.
(4/324)
والإشارة قال الله تعالى لنبيه وهو الإنسان الكامل.
ولقد آتيناك سبعاً هي سبع صفات ذاتيةتبارك وتعالى السمع والبصر والكلام والحياة والعلم والإرادة والقدرة من المثاني أي من خصوصية المثاني وهي المظهرية ، والمظهرية لذاته وصفاته مختصة بالإنسان ، فإن غير الإنسان لم توجد له المظهرية ولو كان ملكاً ، ومن ههنا يكشف سر من أسرار وعلم آدم الأسماء كلها فمنها أسماء صفات الله وذاته ، لأن آدم كان مظهرها ومظهرها وكان الملك مظهر بعض صفاته ولم يكن مظهراً ولذا قال تعالى : ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}(البقرة : 31) فلما لم يكونوا مظهرها وكانوا مظهر بعضها {قَالُوا سُبْحَـانَكَ لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ} (البقرة : 32) ولهذا السر اسجد الله الملائكة لآدم عليه السلام [الحجر : 87-4]{وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ} أي : حقائقه القائمة بذاته تعالى وخلقاً من أخلاقه القديمة بأن جعل القرآن العظيم خلقه العظيم كما قال تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم}(القلم : 4) ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلّم قالت كان خلقه القرآن وفي قوله : {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} إلى ما متعنا به أزواجاً منهم إشارة إلى أن الله تعالى إذا أنعم على عبده ونبيه بهذه المقامات الكريمة والنعم العظيمة يكون من نتائجها أن لا يمد عينيه لا عين الجسماني ولا عين الروحاني إلى ما متع الله به أزواجاً من الدنيا والآخرة منهم أي من أهلها ولا تحزن عليهم أي : على ما فاته من مشاركتهم فيها كما كان حالة رسول الله ليلة المعراج إذ يغشى السدرة ما يغشى من نعيم الدارين ما زاغ البصر برؤيتها وما طغى بالميل إليها ثم قال : واخفض جناحك للمؤمنين في هذا المقام قياماً بأداء تشكر نعم الله وتواضعا له لنزيدك بهما في النعمة والرفعة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 487
وفيه معنى آخر واخفض بعد وصولك إلى مقام المحبوبية جناحك لمن اتبعك من المؤمنين لتبلغهم على جناح همتك العالية إلى مقام المحبوبية يدل على هذا التأويل قوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}(آل عمران : 31) كما في "التأويلات النجمية".
{كَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} هو من قول الله تعالى لا من قول الرسول عليه الصلاة والسلام متعلق بقوله ولقد آتيناك لأنه بمعنى أنزلنا أي أنزلنا عليك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم
488
إنزالاً مماثلاً لإنزال الكتابين على اليهود والنصارى المقتسمين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 487
{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ} المنزل عليك يا محمد عضين أجزاء.
وبالفارسية (اره اره يعني بخش كردند قرآنرا) والموصول مع صلته صفة مبينة لكيفية اقتسامهم أي قسموا القرآن إلى حق وباطل حيث قالوا عناداًو عدوانا بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهم وهذا المعنى مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والغرض بيان المماثلة بين الايتاءين لا بين متعلقيهما كما في الصلوات الخليلية فإن التشبيه فيها ليس لكون رحمة الله الفائضة على إبراهيم وآله أتم وأكمل مما فاض على النبي عليه الصلاة والسلام وإنما ذلك للتقدم في الوجود فليس في التشبيه إشعار بأفضلية المشبه به من المشبه فضلاً عن إيهام أفضلية ما تعلق به الأول مما تعلق به الثاني فإنه عليه الصلاة والسلام أوتي ما لم يؤت أحد قبله ولا بعد مثله.
وعضين جمع عضة هي الفرقة والقطعة أصلها عضوة فعلة من عضى الشاة تعضية إذا جعلها أعضاء ، وإنما جمعت جمع السلامة جبراً للمحذوف وهو الواو كسنين وعزين والتعبير عن تجزية القرآن بالتعضية التي هي تفريق الأعضاء من ذي الروح المستلزم لإزالة حياته وإبطال اسمه دون مطلق التجزئة والتفريق اللذين يوجدان فيما لا يضره التبعيض من المثليات للتنصيص على كمال قبح ما فعلوه بالقرآن العظيم هذا.
وقد قال بعضهم : المقتسمون اثنا عشر أو ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام موسم الحج فاقتسموا عقاب مكة وطرقها وقعدوا على أبوابها فإذا جاء الحاج قال واحد منهم لا تغتروا بهذا الرجل فإنه مجنون وقال آخر كاهن وآخر عرّاف وآخر شاعر وآخر ساحر فثبط كل واحد منهم الناس عن اتباعه عليه الصلاة والسلام ووقعوا فيه عندهم فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات وعلى هذا فيكون الموصول مفعولاً أولاً لأنذر الذي تضمنه النذير أي أنذر لمعضين الذين يجزؤون القرآن إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين مثل ما أنزلنا على المقتسمين أي سننزل على أن يجعل المتوقع كالواقع وهو من الاعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان وهذا المعنى هو الأظهر ذكره ابن إسحاق كذا في التكملة لابن عساكر.
(4/325)
فوربك لنسألنهم أجمعين أي لنسألن يوم القيامة أصناف الكفرة من المقتسمين وغيرهم سؤال توبيخ وتقريع بأن يقال لم فعلتم وقوله تعالى : فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه أنس ولا جان}(الرحمن : 39) أي : لا يسألون أي شيء فعلتم ليعلم ذلك من جهتهم لأن سؤال الاستعلام محال على الملك العلام ويجوز أن يكون السؤال مجازاً عن المجازاة لأنه سببها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 489
{عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من قول وفعل وترك.
وقال في بحر العلوم فإن قلت : قد ناقض هذا قوله : فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه أنس ولا جان}(الرحمن : 39) قلت إن يوم القيامة يوم ويل مقدار خمسين ألف سنة ففيه أزمان وأحوال مختلفة في بعضها لا يسألون ولا يتكلمون كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : "تمكثون الف عام في الظلمة يوم القيامة لا تتكلمون" وفيها بعضها يسألون ويتساءلون قال الله تعالى : {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} (الطور : 5) وفي بعضها يتخاصمون.
وقال كثير من العلماء : يسألهم عن لا إله إلا الله وهي كلمة النجاة وهي كلمة الله العليا لو وضعت في كفة والسموات والأرضون السبع في كفة لرجحت بهن من قالها مرة غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر.
قال المغربي :
489
اكره آيينه داري از براي رخش
ولى ه سودكه دارى هميشه آينه تار
بيا بصيقل توحيد زآينه بردار
غبار شرك كه تا ك كردد از نكار
وفي "التأويلات النجمية" : كان النبي عليه الصلاة والسلام مأموراً بإظهار مقامه وهو النبوة وبتعريف نفسه أنه نذير للكافرين كما أنه بشير للمؤمنين وأنه لما أمر بالرحمة والشفقة ولين الجانب للمؤمنين بقوله : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} إظهاراً للعطف أمر بالتهديد والوعيد والإنذار بالعذاب للكافرين إظهاراً للقهر بقوله : وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين أي ننزل عليكم العذاب كما أنزلنا على المقتسمين وهم الذين اقتسموا قهر الله المنزل على أنفسهم بالأعمال الطبيعية غير الشرعية فإنها مظهر قهر الله وخزانته كما أن الأعمال الشرعية مظهر لطف الله وخزانته فمن قرع باب خزانة اللطف أكرم به وأنعم به عليه ومن دق باب خزانة القهر أهين به وعذب ، ثم أخبر عن أعمالهم التي اقتسموا قهر الله بها على أنفسهم بقوله : الذين جعلوا القرآن عضين أي جزؤوه أجزاء في الاستعمال فقوم قرأه وداموا على تلاوة ليقال لهم القراء وبه يأكلون ، وقوم حفظوه بالقراآت ليقال لهم الحافظ وبه يأكلون ، وقوم حصلوا تفسيره وتأويله طلباً للشهرة وإظهاراً للفضل ليأكلوا به ، وقوم استخرجوا معانيه واستنبطوا فقهه وبه يأكلون وقوم شرعوا في قصصه وإخباره ومواعظه وحكمه وبه يأكلون وقوم أولوه على وفق مذاهبهم وفسروه بآرائهم فكفروا لذلك ، ثم قال فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون إنما عملوه بالله وفي الله ولله أو بالطبع في متابعة النفس للمنافع الدنيوية نظيره قوله ليسأل الصادقين عن صدقهم}(الأحزاب : 8) انتهى ما في "التأويلات".
جزء : 4 رقم الصفحة : 489
قوله عن صدقهم أي عنده تعالى لا عندهم كذا فسره الجنيد قدس سره وهو معنى لطيف عميق فإن الصدق والإسلام عند الخلق سهل ولكن عند الحق صعب فنسأل الله تعالى أن يجعل إسلامنا وصدقاً حقيقياً مقبولاً لا اعتبارياً مردوداً.
وعن أبي القاسم الفقيه أنه قال : أجمع العلماء على ثلاث خصال أنها إذا صحت ففيها النجاة ولا يتم بعضها إلا ببعض ، الإسلام الخالص عن الظلمة ، وطيب الغذاء ، والصدقفي الأعمال.
قال في "درياق الذنوب" : وكان عمر بن عبد العزيز يخاف مع العدل ولا يأمن العدول رؤي في المنام بعد موته باثنتي عشرة سنة فقال الآن تخلصت من حسابي فاعتبر من هذا يا من أكب على الأذى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 489
فاصدع بما تؤمر ما موصولة والعائد محذوف أي فاجهر بما تؤمر به من الشرائع أي تكلم به جهاراً وأظهره ، وبالفارسية (س آشكارا كن وبظاهر قيام نماى بآنه فرستاده اند ازاوامر ونواهي) يقال صدع بالحجة إذاتكلم بها جهاراً من الصديع وهو الفجر أي الصبح ، أو فاصدع فافرق بين الحق والباطل واكشف الحق وأبنه من غيره من الصدع في الزجاجة وهو الإبانة كما قال في القاموس الصدع الشق في شيء صلب ثم قال وقوله تعالى : فاصدع بما تؤمر أي شق جماعاتهم بالتوحيد.
وفي تفسير أبي الليث كان رسول الله عليه السلام قبل نزول هذه الآية مستخفياً لا يظهر شيئاً مما نزل الله تعالى حتى نزل فاصدع بما تؤمر.
يقول الفقير : كان عليه الصلاة والسلام مأموراً بإظهار ما كان من قبيل الشرائع والأحكام لا ما كان من قبيل المعارف
490
والحقائق فإنه كان مأموراً بإخفائه إلا لأهله من خواص الأمة وقد توارثه العلماء بالله إلى هذا الآن كا قال المولى الجامي :
رسيد جان بلب ودم نمى توانم زد
كه سر عشق همي ترسم آشكار شود
(4/326)
وأما ما صدر من بعضهم من دعوى المأمورية في إظهار بعض الأمور الباعثة على تفرق الناس واختلافهم في الدين فمن الجهل بالمراتب ، وعدم التميز بين ما كان ملكياً ورحمانياً ، وبين ما كان نفساناً وشيطانياً فإن الطريق والمسلك والمطلب عزيز المنال والله الهادي إلى حقيقة الحال.
نكته عرفان مجو از خاطر آلودكان
جوهر مقصود را دلهاي اك آمد صدف
واعرض عن المشركين أي لا تلتفت إلى ما يقولون ولا تبال بهم ولا تقصد الانتقام منهم.
فإن قلت : قد دعا النبي عليه الصلاة والسلام على بعض الكفار فاستجيب له كما روى أنه مر بالحكم بن العاص فجعل الحكم يغمز به عليه السلام فرآه فقال : اللهم اجعل به وزغاً فرجف وارتعش مكانه والوزغ الارتعاش وهذا لا ينافي ما هو عليه من الحلم والاغضاء على ما يكره.
قلت : ظهر له في ذلك إذن من الله تعالى ففعل ما فعل وهكذا جميع أفعاله وأقواله فإن الوارث الكامل لا يصدر منه إلا ما فيه إذن الله تعالى فما ظنك بأكمل الخلق علماً وعملاً وحالاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 490
إنا كفيناك المستهزئين بقمعهم واهلاكهم ، قال الكاشفي : (بدرستى كه ما كافيت كرديم ازتوشر استهزا كنندكان) الذين يجعلون مع الله (آنانكه ميزنند وشريك ميكنند باخداي حق) إلها آخر (خداي ديكر باطل) يعني الأصنام وغيرها والموصول منصوب بأنه صفة المستهزئين ووصفهم بذلك تسلية لرسول الله وتهويناً للخطب عليه بإعلامه أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام بل اجترأوا على العظيمة التي هي الإشراك الله سبحانه.
فسوف يعلمون (س زود بدانند عاقبت كارو بينند مكافات كردار خودرا) فهو عبارة عن الوعيد وسوف ولعل وعسى في وعد الملوك ووعيدهم يدل على صدق الأمر وجده ولا مجال للشك بعده فعلى هذا جرى وعد الله ووعيده والجمهور على أنها نزلت في خمسة نفر ذوي شأن وخطر ، كانوا يبالغون في إيذاء رسول الله والاستهزاء به فأهلكهم الله في يوم واحد وكان اهلاكهم قبل بدر منهم العاص بن وائل السهمي والد عمرو بن العاص رضي الله عنه ، كان يخلج خلف رسول الله بأنفه وفمه يسخر به فخرج في يوم مطير على راحلة مع ابنين له فنزل شعباً من تلك الشعاب فلما وضع قدمه على الأرض قال لدغت فطلبوا فلم يجدوا شيئاً فانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير فمات مكانه ، ومنهم الحارث بن القيس بن العطيلة أكل حوتاً مالحاً فأصابه عطش شديد فلم يزل يشرب الماء حتى انقد أي انشق بطنه فمات في مكانه ، ومنهم الأسود بن المطلب بن الحارث خرج مع غلام له فأتاه جبريل وهو قاعد إلى أصل شجرة فجعل ينطح أي يضرب جبريل رأسه على الشجرة وكان يستغيث بغلامه فقال غلامه لا أرى أحداً يصنع بك شيئاً غير نفسك فمات مكانه وكان هو وأصحابه يتغامزون بالنبي وأصحابه ويصفرون إذا رأوه ، ومنهم أسود بن عبد يغوث خرج
491
من أهله فأصابه السموم فاسود حتى صار كالفحم وأتى أهله فلم يعرفوه فاغلقوا دونه الباب ولم يدخلوه دارهم حتى مات.
قال في إنسان العيون : هو أي الأسود هذا ابن خال النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاء بالصحابة قد جاءكم ملوك الأرض الذين يدنون كسرى وقيصر وذلك لأن ثياب الصحابة كانت رثة وعيشهم خشنا ، ومنهم الوليد بن المغيرة والد خالد رضي الله عنه وعم أبي جهل خرج يتبختر في مشيته حتى وقف على رجل يعمل السهام فتعلق سهم في ثوبه فلم ينقلب لينحيه تعاظماً ، فأخذ طرف ردائه ليجعله على كتفه فأصاب السهم أكحله فقطعه ثم لم ينقطع عنه الدم حتى مات.
جزء : 4 رقم الصفحة : 490
(4/327)
وقال الكاشفي في تفسيره : (آورده اندكه نج تن از اشراف قريش در ايذاء وآزارسيد عالم بسيار كوشيدندى وهرجاه ويرا ديدندى بفسوس واستهزاء يش آمدندى روزى آن حضرت در مسجد حرام نشسته بودبا جبرائيل اين نج تن بر آمدند وبدستور معهود سخنان كفته بطواف حرم مشغول شدند جبرائيل فرمود يا رسول الله مرا فرموده اندكه شر ايشانرا كفايت كنم س اشارت كرد بساق وليد بن مغيرة وبكف اى عاص بن وائل وبه بيني حارث بن قيس وبروي أسود ب عبد يغوث وبشم أسود بن مطلب وهو ن ازيشان دراندك زماني هلاك شدند وليد بدكان تير تراشى بكذشت ويكانى دردا من او آويخت ازروى عظمت سر زير نكردكه از جامه باز كند آن يكان ساق ويرا مجروح ساخت ورك شرياني ازان بريده كشت وبدوزخ رفت وخارى در كف اى عاصم خليده ايش ورم كردوبدان بمرد واز بيني حارث خون وقبح روان شدوجان بداد وأسود روى خودرا بخاك وخاشاك ميزد تاهلاك شد وشم أسود بن مطلب نابيناشد از غضب سربر زمين زدتاجانش بر آمد) وحينئذٍ يكون معنى كفاية هذا له عليه الصلاة والسلام أنه لم يسع ولم يتكلف في تحصيل ذلك كما في إنسان العيون وهؤلاء هم المرادون بقوله إنا كفيناك المستهزئين وإن كان المستهزئون غير منحصرين فيهم فقد جاء أن أبا جهل وأبا لهب وعقبة والحكم بن العاص ونحوهم كانوا مستهزئين برسول الله في أكثر الأوقات بكل ما أمكن لهم من طرح القذر على بابه والغمز ونحوهما.
وفي المثنوى :
آن دهان ككردواز تسخر بخواند
مر محمد را دهانش كبماند
باز آمد كاى محمد عفو كن
اي ترا الطاف وعلم من لدن
من تر افسوس مي كردم زجهل
من بدم افسوس رامنسوب واهل
ون خدا خواهدكه رده كس درد
ميلش اندر طعنه اكان برد
ورخدا خواهدكه وشد عيب كس
كم زند درعيب معيوبان نفس
وفي التأويلات إنا كفيناك المستهزئين الذين يستعملون الشريعة بالطبيعة للخليقة ويرائون أنهميعملون استهزاء بدين الله ، الله يستهزىء بهم إلى قوله وما كانوا مهتدين ؛ لأنهم الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر وهو الخلق والهوى والدنيا في استعمال الشريعة بالطبيعة فسوف يعلمون حين يجازيهم الله بما يعملون لمن عملوا كما قيل :
492
سوف ترى إذا انجلى الغبار
أفرس تحتك ام حمار
جزء : 4 رقم الصفحة : 490
ولقد نعلم أنك يضيق صدرك (تنك ميشود سينه تر) بما يقولون (بآنه كافران ميكويند) من كلمات الشرك والطعن في القرآن والاستهزاء بك وبه : يعني (دشوارمى آيد ترا كفتار كفار) وادخل قد توكيداً لعلمه بما هو عليه من ضيق الصدر بما يقولون ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعد والوعيد لهم.
ذكر ابن الحاجب أنهم نقلوا قد إذا دخلت على المضارع من التقليل إلى التحقيق كما أن ربما في المضارع نقلت من التقليل إلى التحقيق.
فسبح بحمد ربك فافزع إليه تعالى والتجىء فيما نابك أي نزل بك من ضيق الصدر والحرج ، بالتسبيح والتقديس ملتبساً بحمده.
قال الكاشفي (س تسبيح كن تسبيحي مقترن بحمد رورد كارتو يعني بكوسبحان الله والحمد ) واعلم أن سبحان الله كلمة مشتملة على سلب النقص والعيب عن ذات الله وصفاته فما كان من أسمائه سلباً فهو مندرج تحت هذه الكلمة كالقدوس وهو الطاهر من كل عيب والسلام وهو الذي سلم من كل آفة والحمدكلمة مشتملة على إثبات ضروب الكمال لذاته وصفاته تعالى فما كان من أسمائه متضمناً للإثبات كالعليم والقدير والسميع والبصير ونحوها فهو مندرج تحتها فنفينا بسبحان الله كل عيب عقلناه وكل نقص فهمناه وأثبتنا بالحمد كل كمال عرفناه وكل جلال أدركناه وكن من الساجدين أي المصلين يكفك ويكشف الغم عنك روى أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة أي لجأ.
وفي بحر العلوم وكن من الذين يكثرون السجود له لأن المراد بالساجدين الكاملون في السجود المبالغون فيه وذلك ما يكون إلا بإكثاره.
يقول الفقير : كثرة السجود في الظاهر باعثة لدوام التوجه إلى الله وهو المطلوب هذا باعتبار الابتداء وأما باعتبار الانتهاء فالذي وصل إلى دوام الحضور يجد في نفسه تطبيق حاله بالظاهر فلا يزال يسجد شكراً آناء الليل وأطراف النهار لا تعب ولا كلفة ويجد في صلاته ذوقاً لا يجده حين فراغه منها.
ليلة ذوق سجده يش خدا
خوشتر آيد ازدوصد دولت ترا
قال الكاشفي : (صاحب كشف الأسرار آورده كه ازتنكد لىء توآكاهيم وآنه بتومير سدا زغصه بيكانكان خبر داريم توبحضور دلبنماز درآى كه ميدن مشاهده است وبامشاهده دوست بار بلا كشيدن آسان باشد.
يكى از يران طريقت كفته كه درباز ار بغداد ديدم كه يكى راصد تازيانه زدند آهى نكرد ازوى رسيدم كه اي جوانمردان همه زخم خوردى ونناليدى كفت آرى شيخا معذورم داركه معشوقم در برا بر بود وميديدكه مرا براى أو ميزنند از نظاره وى بالم زحم شعور نداشتم)
جزء : 4 رقم الصفحة : 493
توتيغ ميزن وبكذار تا من بيدل
نظاره كنم آن هره نكارين را
قال في شرح الحكم ما تجده القلوب من الهموم والأحزان يعني عند فقدان مرادها وتشويش معتادها فلأجل ما منعت من وجود العيان إذ لو عاينت جمال الفاعل جمل عليها ألم البعد كما اتفق في قصة النسوة اللاتي قطعن أيديهن ويحكى أن شاباً ضرب تسعة وتسعين سوطاً ما صاح ولا استغاث ولا تأوه فلما ضرب الواحدة التي كملت بها المائة صاح واستغاث فتبعه الشبلي
493
قدس سره فسأله عن أمره فقال إن العين التي ضربت من أجلها كانت تنظر إلى في التسعة والتسعين وفي الواحدة حجبت عني وقد قال الشبلي من عرف الله لا يكون عليه غم أبداً.
واعبد ربك دم على ما أنت عليه من عبادته تعالى حتى يأتيك اليقين أي : الموت فإنه متيقن اللحوق بكل حي مخلوق ويزول بنزوله كل شك وإسناد الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجه إلى الحي طالب للوصول إليه.
والمعنى دم على العبادة ما دمت حياً من غير اخلال بها لحظة كقوله : وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً}(مريم : 31) ووقت العبادة بالموت لئلا يتوهم أن لها نهاية دون الموت فإذا مات انقطع عنه عمله وبقى ثوابه ، وهذا بالنسبة إلى مرتبة الشريعة.
وأما الحقيقة فباقية في كل موطن إذ هي حال القلب والقلب من الملكوت ولا يعرض الفناء والانقطاع لأحوال الملكوت نسأل الله الوصول إليه والاعتماد في كل شيء عليه ، وفي الحديث : "ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكن من التاجرين ولكن أوحى إليّ أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين".
وفي "التأويلات النجمية"{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} إنك يضيق صدرك من ضيق البشرية وغاية الشفقة وكمال الغيرة بما يقولون من أقوال الأخيار ويعملون عمل الأشرار فسبح بحمد ربك أنك لست منهم وكن من الساجدينسجدة الشكر واعبد ربك بالإخلاص حتى يأتيك اليقين أي إلى الأبد وذلك أن حقيقة اليقين المعرفة ولا نهاية لمقامات المعرفة فكما أن الواصل إلى مقام من مقامات المعرفة يأتيه يقين بذلك المقام في المعرفة كذلك يأتيه شك بمعرفة مقام آخر في المعرفة فيحتاج إلى يقين آخر في إزالة هذا الشك إلى ما لا يتناهى فثبت أن اليقين ههنا إشارة إلى الأبد انتهى كلامه.
قال في العوارف منازل طريق الوصول لا تقطع أبد الآباد في عمر الآخرة الأبدي فكيف في العمر القصير الدنيوي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 493
اي برادر بي نهايت در كهيست
هر كاكه ميرسى بالله مائست
قيل : اليقين اسم ورسم وعلم وعين وحق فالاسم والرسم للعوام والعلم علم اليقين للأولياء وعين اليقين لخواص الأولياء وحق اليقين للأنبياء وحقيقة حق اليقين اختص بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
494
جزء : 4 رقم الصفحة : 493(4/328)
سورة النحل
وهي مكية إلا من {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} إلى آخرها وهي مائة وثمان وعشرون آية
جزء : 4 رقم الصفحة : 494
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} روي أن كفار قريش كانوا يستبطئون نزول العذاب الموعود لهم سخرية بالنبي عليه السلام وتكذيباً للوعد ويقولون إن صح ما يقولون من مجيىء العذاب فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا منه فنزلت.
وأمر الله هو العذاب الموعود لأن تحققه منوط بحكمه النافذ وقضائه الغالب وإتيانه عبارة عن دنوه واقترابه على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع وقد وقع يوم بدر.
والمعنى دنا واقترب ما وعدتم به أيها الكفرة {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} أي : أمر الله ووقوعه إذ لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم منه واستعجالهم وإن كان بطريق الاستهزاء لكنه حمل على الحقيقة ونهوا عنه بضرب من التهكم والاستعجال طلب الشيء قبل حينه {سُبْحَانَهُ} (اكست خداي) {وَتَعَالَى} (وبر ترست) {عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي : تبرأ وتقدس بذاته عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم بوجه من الوجوه ولما كان المنزه للذات الجليلة هو نفس الذات آل التنزيه إلى معنى التبري.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما أنزل الله تعالى {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} (القمر : 41) قال الكفار بعضهم لبعض : إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا : ما نرى شيئاً فأنزل {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} (الأنبياء : 1) الآية فاشفقوا وانتظروا قرب الساعة فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فأنزل الله تعالى {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} فوثب النبي عليه السلام قائماً مخافة الساعة وحذر الناس من قيامها ورفع الناس رؤوسهم فنزل {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} أي :
2(5/1)
لا تطلبوا الأمر قبل حينه فاطمأنوا وجلس النبي عليه السلام بعد قيامه وليس في هذه الرواية استعجال المؤمنين بل خوفهم وظنهم ثم إن الاستعجال بها لا يوصف به المؤمنون قال الله تعالى : {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} (الشورى : 18) بل الظاهر أنهم لما سمعوا أول الآية اضطربوا لظن أنه وقع ثم لما سمعوا خطاب الكفار بقوله فلا تستعجلوه اطمأنوا كما في "حواشي" سعدى المفتي.
ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلّم "بعثت أنا والساعة كهاتين" يعني : إصبعيه المسبحة والوسطى معناه أن ما بيني وبين الساعة بالنسبة إلى ما مضى من الزمان مقدار فضل الوسطى على المسبحة شبه القرب الزماني بالقرب المساحي لتصوير غاية قرب الساعة وفي حديث آخر : "مثلي ومثل الساعة كفرسي رهان".
قال في "القاموس" : كفرسي رهان يضرب للاثنين يستبقان إلى غاية فيستويان وهذا التشبيه في الابتداء لأن الغاية تجلي عن السابق لا محالة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 2
والإشارة إلى أن قوله تعالى : {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} كلام قديم كان الله في الأزل به متكلماً والمخاطبون به بعد في العدم محبوسون وهم طبقات ثلاث منهم الغافلون والعاقلون والعاشقون فكان الخطاب مع الغافلين بالعتاب إذا كانوا مشتاقين إلى الدنيا وزخارفها ولذاتها وشهواتها وهم أصحاب النفوس :
نفس اكره زير كست وخردة دان
قبله اش دنياست اورا مرده دان
والخطاب مع العاقلين بوعد الثواب إذ كانوا مشتاقين إلى الطاعات والعبادات والأعمال الصالحات التي تبلغهم إلى الجنة ونعيمها الباقية وهم أرباب العقول :
نصيب ماست بهشت أي خداشناس برو
كه مستحق كرامت كنا هكارانند
والخطاب مع العاشقين بوصلة رب الأرباب إذ كانوا مشتاقين إلى مشاهدة جمال ذي الجلال :
ه سود ازروزن جنت اكر شيرين معاذ الله
ذكوى خود درى در روضة فرهاد نكشايد
فاستعجل أرواح كل طبقة منهم للخروج من العدم إلى الوجود لنيل المقصود وطلب المفقود فتكلم الله في الأزل بقوله : {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} أي : سيأتي أمر الله للخروج من العدم لإصابة ما كتب لكل طبقة منكم في القسمة الأزلية {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} فإنه لا يفوتكم يدل عليه قوله تعالى : {وَءَاتَـاـاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} (إبراهيم : 34) أي : في العدم وهو يسمع خفيات أسراركم ويبصر خفيات سرائركم المعدومة.
{سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي : هو منزه في ذاته ومتعال في صفاته أن يكون له شريك يعمل عمله أو شبيه يكون بدله :
قهار بي منازع وغفار بي ملال
ديان بي معادن وسلطان بي ساه
باغير أو أضافت شاهي بود نانك
بريك دو وب اره زشطرنج تام شاه
{يُنَزِّلُ} الله تعالى {الْمَلَائكَةُ} أي : جبريل لأن الواحد يسمى بالجمع إذا كان رئيساً تعظيماً لشأنه ورفعاً لقدره أو هو ومن معه من حفظة الوحي كما قال السهيلي في كتاب "التعريف والإعلام" {يُنَزِّلُ الملائكة} يعني ملائكة الوحي وهم جبريل وقال الملائكة بالجمع لأنه قد ينزل بالوحي مع غيره.
جزء : 5 رقم الصفحة : 2
ـ وروي ـ عن عامر الشعبي بإسناد صحيح قال : وكل إسرافيل بمحمد صلى الله عليه وسلّم ثلاث.
3(5/2)
سنين وكان يأتيه بالكلمة والكلمتين ثم نزل عليه جبريل بالقرآن والحكمة فى توكيل اسرافيل به انه الموكل بالصور الذى فيه هلاك الخلق وقيام الساعة ونبوته صلى الله عليه وسلم مؤذنة بقرب الساعة وانقطاع الوحى وفى صحيح مسلم انه نزل عليه بسورة الحمد اى فاتحة الكتاب ملك لم ينزل بها جبريل كما قال بعضهم وهو بشيع.
وذكرابن ابى حيثمة خالد بن سنان العبسى وذكر نبوته وانه وكل به من الملائكة مالك خازن النار وكان من اعلام نبوته ان نار يقال لها نار الحدثان كانت تخرج على الناس من مغارة فتأكلهم والزرع والضرع ولا يستطيعون ردها فردها خالد بن سنان بعصاه حتى رجعت هاربة منه الى المارة التي خرجت منها فلم تخرج بعد وفى الحديث وكان نبيا ضيعه قومه يعنى خالد بن سنان اى ضيعوا وصية نبيهم حيث لم يبلغوه مراده من اخبار احوال القبر وقوله عليه السلام انى اولى الناس بعيسى بن مريم فانه ليس بينى وبينه نبى اى نبى داع للخلق الى الله وشرع وسبق تفصيل اقصة فى سورة المائدة عنه قوله تعالى يا اأَهْلَ الْكِتَـابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا} الآية فلنظر هناك.
وذلك ان ملكا يقال له زياقيل كان ينزل على ذى الرنين وذلك الملك هو الذى يوطى الارض يوم القيامة ويقبضها فتقع اقدام الخلائق كلهم بالساهرة فيما ذكره بعض اهل العلم وهذا مشاكل لتوكيله بذى القرنين الذى قطع مشارق الارض ومغاربها كما ان قصة خالج بن سنان وتسخير النار له مشاكلة لحال الملك الموكل به كذا فى كتاب التعريف واسئلة الحكم {بِالرُّوحِ} اى بالوحى الذى من جملته القرآن على نهج الاستعارة فانه يحيى القلوب الميتة بالجهل او يقوم فى الدين مقام الروح فى الجسد يعنى ان الروح استعارة تحقيقية عن الوحى ووجه التسمية احد هذين الوجهين والقرينة ابدال ان انذروا من الروح وقال بعضهم الباء يمعنى مع اى ينزل الملائكة مع جبريل قال الكاشفي [درتبيان ميكويد كه هيج ملكى فرونيايد الا كه روح با اوست ورقيب بروجنانجه بر آدميان حفظه مبياشند] {مِنْ أَمْرِهِ} بيان للروح الذي اريد به الوحى فانه امر بالخير وبعث عليه وايضا هو من عالم الامر المقابل لعالم الخلق وان كان جبريل من عالم الخلق او هو متعلق بينزل ومن للسببية كالباء مثلها فى قوله تعالى
جزء : 5 رقم الصفحة : 2
{مِّمَّا خَطِياـاَـاتِهِمْ} اى ينزلهم بالروح بسبب امره واجل ارادته {عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} ان ينزلهم به عليهم لاختصاصهم بصفات تؤهلهم لذلك {أَنْ أَنذِرُوا} يدل من الروح اى ينزلهم ملتبسين بان انذروا اى بهذا القول والمخاطبون به الانبياء الذين نزلت الملائكة عليهم والآمر هو الله والملائكة نقلة للامر كما يشعر به الباء فى المبدل منه وان مخففة من الثقيلة وضمير الشأن الذى هو اسمها محذوف اى ينزلهم ملتبسين بان الشأن اقول لكم انذروا والانذار الاعلام خلا أنه مختص باعلام المحذور من نذر بالشئ كفرح علمه فحذره وانذره بالامر انذارا اعلمه وحذره وخوفه فى ابلاغه كذا فى القاموس اى اعملوا الناس ايها الانبياء {أَنَّهُ} اى الشأن {لا إله إِلا أَنَا} [كن نيست خداى مستحق عبادت مكر من كه آفريننده وروزى دهنده همه ام] وانباؤه عن المحذور ليس لذاته بل من حيث اتصاف المنذرين بما يضاده من الاشراك وذلك كاف في كون اعلامه انذارا كما قال سعدى المتفى فى حواشيه التخويف بلا اله الا انا من حيث انهم كانوا يثبتون له تعالى ما لا يليق لذاته الكريمة من الشركاء
4
مرا بندكي كن كه دارا منم
توا از بندكاني ومولامنم
وفي الآية دلالة على أن الملائكة وسائط بين الله وبين رسله وأنبيائه في إبلاغ كتبه ورسالاته وأنهم أينزلون بالوحي على بعضهم دفعة في وقت واحد كما نزلوا بالتوراة والإنجيل والزبور على موسى وعيسى وداود والدال عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو وينزل من أنزل وعلى بعضهم منجماً موزعاً على حسب المصالح وكفاء الحوادث كما نزلوا بالقرآن منجماً في عشرين سنة أو في ثلاث وعشرين على ما يدل عليه قراءة الباقين لأن في التنزيل دلالة على التدرج والتكثر والإنزال بشموله التدريجي والدفعي أعم منه وأنه ليس ذلك النزول بالوحي جملة واحدة أو متفرقاً إلا بأمر الله وعلى ما يراه خيراً وصواباً وأن النبوة موهبة الله ورحمته يختص بها من يشاء من عباده وأن المقصود الأصلي في ذلك إعلامهم الناس بتوحيد الله تعالى وتقواه في جميع ما أمر به ونهى عنه والأول هو منتهى كمال القوة العلمية والثاني هو أقصى كمالات القوة العلمية.
قال في "بحر العلوم" واتقاء الله باجتناب الكفر والمعاصي وسائر القبائح يشمل رعاية حقوقها بين الناس.
جزء : 5 رقم الصفحة : 2
(5/3)
والإشارة {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} أي : بالوحي وبما يحيي القلوب من المواهب الربانية من أمره أي : من أمر الله وأمره على وجوه منها ما يرد على الجوارح بتكاليف الشريعة ومنها ما يرد على النفوس بتزكيتها بالطريقة ومنها ما يرد على الأرواح بملازمة الحضرة للمكاشفات ومنها ما يرد على الخفيات بتجل الصفات لإفناء الذوات {عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} من الأنبياء والأولياء {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّه لا إله إِلا أَنَا} أي : اعلموا أوصاف وجودكم يبذلها في أنانيتي أن لا إله إلا أنا {فَاتَّقُونِ} أي : فاتقوا عن أنانيتكم بأنانيتي كذا في "التأويلات النجمية".
قال شيخي وسندي روحه الله روحه في بعض تحريراته المتقى إما أن يتقي بنفسه عن الحق سبحانه وإما بالحق عن نفسه والأول هو الاتقاء بإسناد النقائص إلى نفسه عن إسنادها إلى الحق سبحانه فيجعل نفسه وقايةتعالى والثاني هو الاتقاء بإسناد الكمالات إلى الحق سبحانه عن إسنادها إلى نفسه فيجعل الحق سبحانه وقاية لنفسه والعدم نقصان والوجود كمال فاتقوا الله حق تقاته بأن تضيفوا العدم إلى أنفسكم مطلقاً ولا تضيفوا الوجود إليها أصلاً وتضيفوا الوجود إلى الله مطلقاً ولا تضيفوا العدم إليه أصلاً فإن الله تعالى موجود دائماً أزلاً وأبداً سرمداً لا يجوز في حقه العدم أصلاً ونفوسكم من حيث هي هي معدومة دائماً وأزلاً وأبداً وسرمداً لا يجوز في حقها الوجود أصلاً وطريان الوجود عليها من حيث فيضان الجود الوجودي عليها من الحق تعالى لا يوجب وجودها أصلاً من حيث هي هي عند هذا الطريان على عدمها الأصلي من حيث هي دائماً مطلقاً فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا واطيعوا انتهى كلام الشيخ.
كر تويى جملة در فضاي وجود
هم خود انصاف ده بكو حق كو
در همه اوست يش شم شهود
يست نداري هستيء من وتو
اك كن جامي ازغبار دويى
لوح خاطر كه حق يكيست نه دو
5
جزء : 5 رقم الصفحة : 2
{خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} أي : الأجرام العلوية والآثار السفلية.
يقال قبل أن يخلق الله الأرض كان موضع الأرض كله ماء فاجتمع الزبد في موضع الكعبة فصارت ربوة حمراء كهيئة التل وكان ذلك يوم الأحد ثم ارتفع بخار الماء كهيئة الدخان حتى انتهى إلى موضع السماء وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام كما بين المشرق والمغرب فجعل الله درة خضراء فخلق منها السماء فلما كان يوم الاثنين خلق الشمس والقمر والنجوم ثم بسط الأرض من تحت الربوة {بِالْحَقِّ} أي : بالحكمة والمصلحة لا بالباطل والعبث ونعم ما قيل :
إنما الكون خيال
وهو حق في الحقيقة
ويقال : جعل الله الأرواح العلوية والأشباح السفلية مظاهر أفاعيله فهو الفاعل فيما يظهر على الأرواح والأشباح {تَعَـالَى} وتقدس.
وبالفارسية (بر ترست خداي تعالى وبزركثر) {عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن شركة ما يشركونه به من الباطل الذي لا يبدىء ولا يعيد فينبغي للسالك أن يوحد الله تعالى ذاتاً وصفة وفعلاً فإن الله تعالى هو الفاعل خلق حجاب الوسائط لا بالوسائط بل بالذات فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً وهو ما أريد به وجه الله ولا يشرك بعبادة ربه أحداً وقيل للمرائي مشرك :
مرايى هركسي معبود سازد
مرايى را ازان كفتند مشرك
{خَلَقَ الانسَـانَ} أي : بني آدم لا غير لأن أبويهم لم يخلقا من النطفة بل خلق آدم من التراب وحواء من الضلع الأيسر منه {مِن نُّطْفَةٍ} قال في "القاموس" : النطفة ماء الرجل.
والمعنى بالفارسية (از آب منى كه جماديست بي حس وحركت وفهم وهيولائي كه وضع وشكل نذيرد س اورافهم وعقل داد) {فَإِذَا هُوَ} (س آنكاه او) أي : الإنسان بعد الخلق وأتى بالفاء إشارة إلى سرعة نسيانهم ابتداء خلقهم {خَصِيمٌ} بليغ الخصومة شديد الجدل {مُّبِينٌ} أي : مظهر للحجة أو ظاهر لا شبهة في زيادة خصومته وجدله يعني : (مناظره ميكند وميخواهدكه سخن خودرا بحجت ثابت سازد).
قال في "التكملة" : الظاهر أن الآية على العموم وقد حكى المهدوي أن المراد به أبي بن خلف الجمحي فإنه أتى النبي صلى الله عليه وسلّم بعظم رميم فقال : يا محمد أترى الله تعالى أي : أتظن أن الله يحيى هذا بعد ما قد رمّ فنزلت ومثلها الآية التي في آخر سورة يس وفيه نزلت يعني : (او در اول جمادي بوده وما اورا حس ونطق داديم اكنون باما مجادلة ميكند را استدلال نمي كند بابداء بر عاده كه هركه برابداء قادر بود هر آيينه برين نيز قدرت دارد).
جزء : 5 رقم الصفحة : 6
(5/4)
وفي "التأويلات النجمية" أي : جعل الإنسان من نطفة ميتة لا فعل لها ولا علم بوجودها فإذا أعطيت العلم والقدرة صارت خصماً لخالقها مبيناً وجودها مع وجود الحق وادعت الشركة معه في الوجود والأفاعيل انتهى.
والآية وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتمادي في كفران النعمة قالوا : خلق الله تعالى جوهر الإنسان من تراب أولاً ثم من نطفة ثانياً وهم ما ازدادوا إلا تكبراً ومالهم والكبر بعد أن خلقوا من نطفة نجسة في قول عامة العلماء :
نه در ابتدا بودي آب منى
اكر مردى از سر بدركن منى
وفي "إنسان العيون" : أن فضلاته صلى الله عليه وسلّم طاهرة انتهى.
وهو من خصائصه عليه السلام كما صرحوا به في كتب السير وحكم النطفة أسهل من الفضلات لأنها أخف منها.
ـ يحكى ـ أن بعض
6
أهل الرياضة المحققين من أهل التوحيد الحقاني كان يشم من فضلاتهم رائحة المسك وذلك ليس ببعيد لصفوة باطنهم وسريان آثار حالهم إلى جميع أعضائهم وأجزائهم فهم من النطفة صورة ومن النور معنى وليس غيرهم مثلهم لأن معناهم ظهر في صورة الوجود فغابوا من الغيبة ووصلوا إلى عالم الشهود بخلاف غيرهم من أرباب الغفلة فإن أنت تطمع في الوصول إلى ما وصلوا أو الحصول عند ما حصلوا فعليك بإخلاص العمل وترك المراء والجدل فإن حقيقة التوحيد لا تحصل للخصم العنيد بل هي منه بمكان بعيد.
{وَالانْعَـامَ} جمع نعم وقد يسكن عينه وهي الإبل والبقر والغنم والمعز وهي الأجناس الأربعة المسماة بالأزواج الثمانية اعتباراً للذكر والأنثى لأن ذكر كل واحد من هذه الأنواع زوج بأنثاه وأنثاه زوج بذكره فيكون مجموع الأزواج ثمانية بهذا الاعتبار من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين فالخيل والبغال والحمير خارجة من الأنعام وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل وانتصابها بمضمر يفسره قوله تعالى : {خَلَقَهَا لَكُمْ} ولمنافعكم ومصالحكم يا بني آدم وكذا سائر المخلوقات فإنها خلقت لمصالح العباد ومنافعهم لا له يدل عليه قوله تعالى : {خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا} (البقرة : 29) وقوله : سش
{سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ} (الجاثية : 13) وأما الإنسان فقد خلق له تعالى كما قال : {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} (طه : 41) فالإنسان مرآة صفات الله تعالى ومجلى أسمائه الحسنى {فِيهَا دِفْءٌ} (در ايشان وستست كرم كننده يعني جامعها ازشم وموي كه سرما بازدارد).
والدفىء نقيض حدة البرد أي : بمعنى السخونة والحرارة ثم سمى به كل ما يدفأ به أي : يسخن به من لباس معمول من صوف الغنم أو وبر الإبل أو شعر المعز هذا وأما الفرو فلا بأس به بعد الدباغة من أي : صنف كان وقد عد الإمام الشافعي رحمه الله لبس جلد السباع مكروهاً وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم جبة فنك يلبسها في الأعياد والفنك بالتحريك دابة فروتها أطيب أنواع الفراء وأشرفها وأعدلها صالح لجميع الأمزجة المعتدلة كما في "القاموس" ثم أن أسباب التسخين إنما تلزم للعامة وقد اشتهر أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يصطل بالنار وكذا بعض الخواص فإن حرارة باطنهم تغني عن الحرارة الظاهرة ، قال الصائب :
جزء : 5 رقم الصفحة : 6
جمعي كه شت كرم بعشق ازل نيند
ناز سمور ومنت سنجاب ميكشند
{وَمَنَـافِعُ} نسلها ودرها وركوبها والحراثة بها وثمنها وأجرتها {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} من للتبعيض أي : تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم وغير ذلك بخلاف الغدة والقبل والدبر والذكر والخصيتين والمرارة والمثانة ونخاع الصلب والعظم والدم فإنها حرام.
وتقديم الظرف لرعاية الفاصلة أو لأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معائشهم وأما الأكل من غيرها من الطيور وصيد البر والبحر فعلى وجه التداوي أو التفكه والتلذذ فيكون القصر إضافياً بالنسبة إلى سائر الحيوانات حتى لا ينتقض بمثل الخبز ونحوه من المأكولات المعتادة.
{وَلَكُمْ فِيهَا} مع ما فصل من أنواع المنافع الضرورية {جَمَالٌ} أي : زينة في أعين الناس ووجاهة عندهم {حِينَ تُرِيحُونَ} تردونها من مراعيها إلى مراحها ومباركها بالعشي أي : في آخر النهار من أراح الإبل إذا ردها إلى المراح بضم الميم وهو موضع إراحة الإبل والبقر والغنم.
والإراحة بالفارسية (شبانكاه باز آوردن اشتر وكوسفند) {وَحِينَ تَسْرَحُونَ}
7
(5/5)
ترسلونها بالغداة أي : في أول النهار في المرعى وتخرجونها من حظائرها إلى مسارحها من سرح الراعي الإبل إذا رعاها وأرسلها في المرعى.
قال في "تهذيب المصادر" والسروح (براهشتن) وسرح لازم ومتعد يقال : سرحت الماشية وسرحت الماشية انتهى.
وتعيين الوقتين لأن الرعاة إذا أراحوا بالعشي وسرحوها بالغداة تزينت الافنية بها أي : ما اتسع من أمام الدار كما في "القاموس" وتجاوب الثغاء والرغاء الأول صوت الشاة والمعز والثاني ذوات الخف فيجل بكسر الجيم أي : يعظم أهلها في أعين الناظرين ويكسبون الجاه والحرمة عند الناس وأما عند كونها في المراعي فينقطع إضافتها الحسية إلى أربابها وعند كونها في الحظائر لا يراها راء ولا ينظر إليها ناظر وقدم الإراحة على السرح وإن كانت بعده لأن الجمال فيها أظهر إذ هي حضور بعد غيبة وإقبال بعد إدبار على أحسن ما يكون ملأى البطون مرتفعة الضلوع حافلة الضروع.
قال في "القاموس" : الجمال الحسن في الخلق والخلق وتجمل تزيين وجمله زينه وفي الحديث : "جمال الرجل فصاحة لسانه" وفي حديث آخر "الجمال صواب المقال والكمال حسن الفعال".
جزء : 5 رقم الصفحة : 6
بهايم خموشند وكويا بشر
را كنده كوى ازبهايم بتر
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} جمع ثقل بفتح الثاء والقاف وهو متاع المسافر وحشمه أي : تحمل أمتعتكم وأحمالكم.
{إِلَى بَلَدٍ} بعيد أياً ما كان فيدخل فيه إخراج أهل مكة متاجرهم إلى اليمن ومصر والشام {لَّمْ تَكُونُوا بَـالِغِيهِ} واصلين إليه بأنفسكم مجردين عن الأثقال لولا الإبل أي : لو لم تخلق الإبل فرضاً.
{إِلا بِشِقِّ الانفُسِ} فضلاً عن استصحابها معكم أي : عن أن تحملوها على ظهوركم إليه.
والشق بالكسر والفتح الكلفة والمشقة وهو استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي : لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلا بشق الأنفس {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} عظيم الرأفة بكم وعظيم الأنعام عليكم حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل واأنعمها عليكم لانتفاعكم وتيسير الأمر عليكم.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان في بعض مغازيه فبينما هم يسيرون إذ أخذوا فرخ طائر أي : ولده فأقبل أحد أبويه حتى سقط في أيدي الذين أخذوا الفرخ فقال عليه الصلاة والسلام : "ألا تعجبون لهذا الطير أخذ فرخه فأقبل حتى سقط في أيديكم واللهأرحم بعباده من هذا الطائر بفرخه".
فروماند كانرا برحمت قريب
تضرع كنانرا بدعوت مجيب
وفي الآية إشارة إلى أن في خلق الحيوانات انتفاعاً للإنسان فإنهم ينتفعون بها حين اطلاعهم على صفتها الحيوانية الذميمة بالصفات الملكية الحميدة احترازاً عن الاحتباس في حيزها واجتناباً عن شبهها بقوله : {أولئك كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} (الأعراف : 179) وهذه الصفات الحيوانية إنما خلقت فيهم لتحمل أثقال أرواحهم إلى بلد عالم الجبروت ولذا ورد "نفسك مطيتك فارفق بها".
واعلم أن الله تعالى منّ على عباده بخلق الإبل والبقر والغنم والمعز وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إبل يركبها وهي الناقة القصوى أي المقطوع طرف إذنها والجدعاء أي : المقطوعة الأنف أو مقطوعة الأذن كلها والعضباء أي : المشقوقة الأذن.
قال بعضهم : وهذه ألقاب ولم يكن بتلك شيء من ذلك والعضباء هي التي كانت لا تسبق فسبقت فشق ذلك على المسلمين فقال رسول الله صلى الله
8
عليه وسلّم "إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه" وهي التي لم تأكل بعد وفاة رسول الله ولم تشرب حتى ماتت وجاء أن ابنته فاطمة رضي الله عنها تحشر عليها.
قال السعدي : (حلم شتر نانكه معلومست اكر طفلي مهارش كيرد وصد فرسنك ببرد كردن ازمتابعت او نيد اما اكردرره هو لناك يش آيدكه موجب هلاك باشد وطفل بناداني خواهدكه آن جايكه بروده زمام از كفش بكسلاند وديكر مطاوعت نكندكه هنكام درشتي ملاطفت مذموم است وكفته اندكه دشمن بملاطفت دوست نكردد بلكه طمع زياده كند) :
جزء : 5 رقم الصفحة : 6
كسى كه لطف كند باتوخاك ايش باش
وكر خلاف كنددردو شمش آكن خاك
سخن بلطف وكرم بادرشت كوى مكوى
كه زنك خوردده نكردد بنرم سوهان اك
قال في "حياة الحيوان" : وإذا أحرق وبر الجمل ذر على الدم السائل قطعه وقراده يربط في كم العاشق فيزول عشقه ولحمه يزيد في الباءة أي : الجماع.
والبقر من بقر إذا شق لأنها تشق الأرض بالحراثة.
وقيل لمحمد بن الحسين بن علي رضي الله عنهم : الباقر لأنه شق العلم ودخل فيه مدخلاً بليغاً وإذا أردت أن ترى عجباً فادفن جرة في الأرض إلى حلقها وقد طلى باطنها بشحم البقر فإن البراغيث كلها تجتمع إليها وإذا بخر البيت بشحمه مع الزرنيخ أذهب الهوام خصوصاً العقارب ولم ينقل إنه صلى الله عليه وسلّم ملك شيئاً منها أي : من البقر للقنية فلا ينافي أنه ضحى عن نسائه بالبقر كما في "إنسان العيون".
(5/6)
يقال : ثلاث لا يفلحون : بائع البشر ، وقاطع الشجر ، وذابح البقر والمراد القصاب المعتاد لذلك وفي الحديث : "عليكم بألبان البقر وأسمانها وإياكم ولحومها فإن ألبانها وأسمانها دواء وشفاء ولحومها داء".
قال الإمام السخاوي : قد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام ضحى عن نسائه بالبقر ، قال الحليمي : هذا ليبس الحجاز ويبوسة لحم البقر ورطوبة لبنها وسمنها فكأنه يرى اختصاص ذلك وهذا التأويل مستحسن وإلا فالنبي عليه السلام لا يتقرب إلى الله تعالى بالداء فهو إنما قال ذلك في البقر لتلك اليبوسة وجواب آخر أنه عليه السلام ضحى بالبقر لبيان الجواز أو لعدم تيسر غيره انتهى كلام السخاوي وفي الحديث "صوفها رياش وسمنها معاش" يعني الغنم الرياش اللباس الفاخر يعني أن ما على ظهرها سبب الرياش ومادتها وما في بطنها سبب المعاش وهو الحياة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأغنياء باتخاذ الغنم وأمر الفقراء باتخاذ الدجاج وقال : "الدجاج غنم فقراء أمتي والجمعة حج فقرائها" وعند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله بهلاك القرى وجاء "اتخذوا الغنم فإنها بركة" قال في "حياة الحيوان" : جعل الله البركة في نوع الغنم وهي تلد في العام مرة ويؤكل منها ما شاء الله ويمتلىء منها جوف الأرض بخلاف السباع فإنها تلد ستاً وسبعاً ولا يرى منها إلا واحدة في أطراف الأرض وكان له صلى الله عليه وسلّم مائة من الغنم وسبعة أعنز كانت ترعاها أم أيمن رضي الله عنها وكان له عليه السلام شاة يختص بشرب لبنها وماتت له عليه الصلاة والسلام شاة فقال : "ما فعلتم باهابها" قالوا : إنها ميتة قال : "دباغها طهورها" قال الإمام الدميري : كبد الكبش إذا أحرقت طرية ودلك بها الأسنان بيضتها وقرن الكبش إذا دفن تحت شجرة يكثر حملها وإذ انحملت المرأة بصوف النعجة قطعت الحبل وإذا غطى الإناء بصوف الضأن الأبيض وفيه
9
عسل لا يقربه النمل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 6
{وَالْخَيْلَ} عطف على الأنعام أي : خلق الله الخيل وهو اسم جنس للفرس لا واحد له من لفظه كالإبل.
والخيل نوعان : عتيق وهجين والفرق بينهما أن عظم البرذون أعظم من عظم الفرس وعظم الفرس أصلب وأنقل والبرذون أجمل من الفرس والفرس أسرع منه والعتيق بمنزلة الغزال والبرذون بمنزلة الشاة فالعتيق ما أبواه عربيان سمى بذلك لعتقه من العيوب وسلامته من الطعن فيه بالأمور المنقصة.
وسميت الكعبة بالبيت العتيق لسلامتها من عيب الرق لأنه لم يملكها مالك قط.
والهجين الذي أبوه عربي وأمه عجمية.
وخلق الله الخيل من ريح الجنوب وكان خلقها قبل آدم عليه السلام لأن الدواب خلقت يوم الخميس وآدم خلق يوم الجمعة بعد العصر والذكر من الخيل خلق قبل الأنثى لشرفه كآدم وحواء.
وأول من ركب الخيل إسماعيل عليه السلام وكانت وحوشاً ولذلك قيل لها العراب وفي الحديث : "اركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسماعيل" وقد سبق قصة انقيادها لإسماعيل في سورة البقرة عند قوله تعالى : {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِامُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَـاعِيلُ} (البقرة : 127) الآية وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن شيء أحب إليه بعد النساء من الخيل وفي الحديث : "لما أراد ذو القرنين أن يسلك في الظلمة إلى عين الحياة سأل أي : الدواب في الليل ابصر فقالوا : الخيل فقال : أي الخيل أبصر فقالوا : الإناث قال : فأي الإناث أبصر فقالوا : البكارة فجمع من عسكره ستة آلاف فرس كذلك" وكان له صلى الله عليه وسلّم سبعة أفراس.
الماء وانصبابه لشدة جريه.
والثاني : المرتجز سمي به لحسن صهيله مأخوذ من الرجز الذي هو ضرب من الشعر.
والثالث : اللحيف كامير اوزبير كأنه يلحف الأرض بذنبه لطوله أي : يغطيها وقيل : هو بالخاء المعجمة كامير وزبير.
والرابع : اللزاز مأخوذ من لاززته أي : لاصقته فكأنه يلحق بالمطلوب لسرعته.
والخامس : الورد وهو ما بين الكميت والأشقر الكميت كزبير الذي خالط حمرته قنوء وقنأ قنوأ شدت حمرته والأشقر من الدواب الأحمر في مغرة حمرة يحمر منها العرف والذنب ومن الناس من تعلو بياضه حمرة.
والسادس : الطرف بكسر الطاء المهملة وإسكان الراء وبالفاء الكريم الجيد من الخيل.
والسابع : السبحة بفتح السين المهملة وإسكان الموحدة وفتح الحاء المهملة أي : سريع الجري وفي الحديث : "ما من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ويقول : رب إنك سخرتني لابن آدم وجعلت رزقي في يده اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده" وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الفرس يقول : إذا التقت الفئتان سبوح قدوس رب الملائكة والروح ولذلك قيل : رب بهيمة خير من راكبها وكان له في الغنيمة سهمان وعن النبي عليه السلام : "لا يعطى إلا لفرس واحد" عربياً كان أو غيره لأن الله تعالى قال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 6
(5/7)
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} (الأنفال : 60) ولم يفرق بين العربي وغيره ويقال : إن الفرس لا طحال له وهو مثل لسرعته وحركته كما يقال للبعير لا مرارة له أي : لا جسارة له والفرس يرى المنامات كبني آدم وزبله إذا دخن به أخرج الولد من البطن.
قال الحافظ شرف الدين الدمياطي في كتاب الخيل : إذا ربط الفرس العتيق في بيت لم يدخله الشيطان وأما الفرس الذي فيه شؤم فهو الذي لا يغزى عليه ولا يستعمل في مصلحة حميدة ولا يركبه صالح وفي الحديث "من نقى شعيراً لفرسه ثم جاء به حتى يعلق عليه
10
كتب الله له بكل شعيرة حسنة" قال موسى للخضر أي : الدواب أحب إليك؟ قال : الفرس والحمار والبعير لأن الفرس مركب أولي العزم من الرسل والبعير مركب هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام والحمار مركب عيسى والعزير عليهما السلام فكيف لا أحب شيئاً أحياه الله بعد موته قبل الحشر.
{وَالْبِغَالَ} جمع بغل وهو مركب من الفرس والحمار ويقال أول من استنتجها قارون وله صبر الحمار وقوة الفرس وهو مركب الملوك في أسفارهم ومعبرة الصعاليك في قضاء أوطارهم.
وعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أن البغال كانت تتناسل وكانت أسرع الدواب في نقل الحطب لنار إبراهيم خليل الرحمن فدعا عليها فقطع الله نسلها وهذه الرواية تستدعي أن يكون استنتاجها قبل قارون لأن إبراهيم مقدم على موسى بأزمنة كثيرة وإذا بخر البيت بحافر البغل الذكر هرب منه الفأر وسائر الهوام كما في حياة الحيوان.
وكان له صلى الله عليه وسلّم بغال ست.
منها بغلة شهباء يقال لها دلدل أهداها إليه المقوقس والي مصر من قبل هرقل والدلدل في الأصل القنفذ وقيل ذكر القنافذ وقيل عظيمها وكان عليه الصلاة والسلام يركبها في المدينة وفي الأسفار وعاشت حتى ذهبت أسنانها فكان يدق لها الشعير وعميت وقاتل علي رضي الله عنه عليها مع الخوارج بعد أن ركبها عثمان رضي الله عنه وركبها بعد علي رضي الله عنه ابنه الحسن ثم الحسين ثم محمد بن الحنفية رضي الله عنهم.
يقول الفقير : إنما ركبوها وقد كانت مركبه عليه الصلاة والسلام طلباً للنصرة والظفر فالظاهر أنهم لم يركبوها في غير الوقايع لأن من آداب التابع أن لا يلبس ثياب متبوعه ولا يركب دابته ولا يقعد في مكانه ولا ينكح امرأته.
ومنها بغلة يقال لها فضة.
ومنها الايلية.
وبغلة أهداها إليه كسرى.
وأخرى من دومة الجندل.
وأخرى من عند النجاشي.
{وَالْحَمِيرَ} جمع حمار وكان له صلى الله عليه وسلّم من الحمر اثنان : يعفور وعفير والعفرة الغبرة.
وفي كتاب "التعريف والأعلام" أن اسم حماره عليه الصلاة والسلام عفير ويقال له يعفور.
جزء : 5 رقم الصفحة : 6
ـ روي ـ أن يعفوراً وجده صلى الله عليه وسلّم بخيبر وأنه تكلم فقال : اسمي زياد بن شهاب وكان في آبائي ستون حماراً كلهم ركبهم نبي وأنت نبي الله فلا يركبني أحد بعدك فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألقى الحمار نفسه في بئر جزعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فمات وذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرسله إذا كانت له حاجة إلى أحد من أصحابه فيأتي الحمار حتى يضرب برأسه باب الصحاب فيخرج إليه فيعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام يريده فينطلق مع الحمار إليه والحمالا من أذل خلق الله تعالى كما قال الشاعر :
ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الاذلان عير الحيّ والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته
وذا يشبح فلا يرثي له أحد
أي : لا يصبر على ظلم يراد به في حقه إلا الأذلان اللذان هما في غاية الذل ولفظ البيت خبر والمعنى نهي عن الصبر على الظلم وتحذير وتنفير للسامعين عنه وفي الحديث "من لبس الصوف وحلب الشاة وركب الأتن فليس في جوفه شيء من الكبر" والاتن جمع اتان وهي الحمارة {لِتَرْكَبُوهَا} تعليل بمعظم منافعها وإلا فالانتفاع بها بالحمل أيضاً مما لا ريب في تحققه {وَزِينَةً} انتصابها عن المفعول له عطفاً على محل لتركبوها وتجريده عن اللام لكونه فعلاً لفاعل الفعل المعلل به
11
(5/8)
دون الأول فإن الركوب فعل الراكب وهو المخلوق والزينة فعل الزائن وهو الخالق أو مصدر لفعل محدوف أي : وتتزينوا بها زينة وقد احتج به أبو حنيفة رحمه الله تعالى على حرمة أكل لحم الخيل لأنه علل خلقها للركوب والزينة ولم يذكر الأكل بعدما ذكره في الأنعام ومنفعة الأكل أقوى.
والآية سيقت لبيان النعمة ولا يليق بالحكيم أن يذكر في موضع المنة أدنى النعمتين ويترك أعلاهما كذا في "المدارك" ، وفي الحمر الأهلية خلاف مالك.
وفي الخيل خلاف أبي يوسف ومحمد والشافعي كما في "بحر العلوم" والتفصيل في كتاب الذبائح من الكتب الفقهية.
{وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} من أنواع المخلوقات من الحشرات والهوام والطيور وحيوانات البحر ومخلوقات ما وراء جبل قاف وفي الحديث "أن الله تعالى خلق ألف أمة ستمائة منها في البحر وأربعمائة في البر" ومن أنواع السمك ما لا يدرك الطرف أولها وآخرها وما لا يدركها الطرف لصغرها" وفي الحديث : "إن الله خلق أرضاً بيضاء مثل الدنيا ثلاثين مرة محشوة خلقاً من خلق الله لا يعلمون أن الله تعالى يعصى طرفة عين" قالوا : يا رسول الله أمن ولد آدم هم؟ قال : "لا يعلمون أن الله خلق آدم" قالوا : فأين إبليس منهم قال : "لا يعلمون أن الله خلق إبليس" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} كما في "البستان" وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن عن يمين العرش نهراً من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة يدخل فيه جبريل كل سحر فيغتسل فيزداد نوراً إلى نور وجمالاً إلى جمال وعظماً إلى عظم ثم ينتفض فيخلق الله من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك فيدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور وسبعون ألف ملك الكعبة لا يعودون إليه إلى يوم القيامة كما في "الإرشاد" وفي الحديث : "إذا ملئت جهنم تقول الجنة ملأت جهنم بالجبابرة والملوك والفراعنة ولم تملأني إلا من ضعفاء خلقك فينشىء الله خلقاً عند ذلك فيدخلهم الجنة فطوبى لهم من خلق لم يذوقوا موتاً ولم يروا سوءاً بأعينهم" كما في "بحر العلوم".
جزء : 5 رقم الصفحة : 6
واعلم أن الله تعالى قال : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} (الإسراء : 85) وكيف يحصر من كان قليل العلم مخلوقات الله الغير المحصورة التي هي مظاهر كلماته التامة وأسمائه العامة فالأولى السكوت وقد أظهر الأنبياء عليهم السلام العجز مع سعة علومهم وإحاطة قلوبهم فما ظنك في حق أفراد الأمة :
در محفلي كه خورشيد اندر شمار ذره است
خودرا بزرك ديدن شرط أدب نباشد
وفي "التأويلات النجمية" : {وَيَخْلُقُ} فيكم بعد رجوعكم بالجذبة إلى مستقركم {مَا لا تَعْلَمُونَ} قبل الرجوع إليه وهو قبول فيض نور الله تعالى بلا واسطة انتهى.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الاطهر سكت النبي عليه السلام عن الاستخلاف إذ في أمته من يأخذ الأمر عن ربه فيكون بباطنه خليفة الله وبظاهره خليفة رسول الله فهو تابع ومتبوع وسامع ومسموع ومع ذلك فهو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك والموحى إلى الرسول والمعدن الذي يأخذ منه الرسول وقد نبه سبحانه على ذلك بقوله : {أَدْعُوا إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى} بيد أنّ الرسول قابل للزيادة في ظاهر الأحكام والخليفة الولي ليس كذلك ناقص عن رتبة النبوة انتهى فانظر إلى استعداد كامل هذه الأمة كيف أخذوا الفيض من الله بلا واسطة نسأل الله تعالى
12
أن يملأ قلوبنا بمحبتهم واعتقادهم ويوفقنا لأعمالهم ورشادهم ويحشرنا معهم وتحت لوائهم ويدخلنا الجنة ونحن من رفقائهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 6
(5/9)
{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} القصد مصدر بمعنى الفاعل يقال سبيل قصد وقاصد أي : مستقيم على نهج إسناد حال سالكه إليه كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه والمراد بالسبيل الطريق بدليل إضافة القصد إليه أي حق عليه سبحانه بموجب رحمته ووعده المحتوم لا واجب إذ لا يجب عليه شيء من بيان الطريق المستقيم الموصل لمن يسلكه إلى الحق الذي هو التوحيد بنصب الأدلة وإرسال وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه {وَمِنْهَا} في محل الرفع على الابتداء إما باعتبار مضمونه وإما بتقدير الموصوف أي بعض السبيل أو بعض من السبيل فإنها تذكر وتؤنث.
قال ابن الكمال : الفرق بين الطريق والصراط والسبيل أنها متساوية في التذكير والتأنيث أما في المعنى فبينها فرق لطيف وهو أن الطريق كل ما يطرقه طارق معتاداً كان أو غير معتاد والسبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك والصراط من السبيل ما لا التواء فيه أي : لا إعوجاج بل يكون على سبيل القصد فهو أخص.
{جَآئِرٌ} أي : مائل عن الحق منحرف عنه لا يوصل سالكه إليه وهو طريق الضلال التي لا يكاد يحصى عددها المندرج كلها تحت الجائر كاليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر ملل الكفر وأهل الأهواء والبدع ومن هذا علم أن قصد السبيل هو دين الإسلام والسنة والجماعة جعلنا الله وإياكم على قصد السبيل وحسن الاعتقاد والعمل وحفظنا وإياكم من الجائر والزيغ والزلل.
قال مرجع طريقة الجلوتية بالجيم أعني حضرة الشيخ محمود هدايى الاسكداري قدس سره : رأيت صور أعلام أهل الأديان في مبشرتي ليلة الاثنين والعشرين من جماد الآخرة لسنة اثنتي عشرة وألف وهي هذه ـ ـ ـ ـ ـ هذا علم أهل الإيمان وصورة استمدادهم من الحق تعالى بالتوجه إلى العلو اقتداء بمن قال في حقه المولى الأعلى ما زاغ البصر وما طغى 88 ـ ـ ـ ـ هذا علم النصارى وصورة انحرافهم عن الحق 88 ـ ـ ـ ـ هذا علم اليهود وصورة انحرافهم عن الحق اكتفاء بالقلب انتهى
جزء : 5 رقم الصفحة : 13
{وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاـاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي : ولو شاء الله أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد هداية موصلة إليه البتة مستلزمة لاهتدائكم أجمعين لفعل ذلك ولكن لم يشأ لأن مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها ولا حكمة في تلك المشيئة لما أن مدار التكليف والثواب والعقاب إنما هو ا لاختيار الجزئي الذي يترتب عليه الأعمال التي بها نيط الجزاء.
وقال أبو الليث في "تفسيره" : لو علم الله أن الخلق كلهم أهل للتوحيد لهداهم انتهى.
يقول الفقير : هو معنى لطيف مبني على أن العلم تابع للمعلوم فلا يظهر من الأحوال إلا ما أعطته الأعيان إلى العلم الإلهي كالإيمان والكفر والطاعة والعصيان والنقصان والكمال فمن كان مقتضى ذاته الإيمان والطاعة والكمال وكان أهلاً لها في عالم عينه الثابتة أعطاها للعلم فشاء الله هدايته في هذه النشأة بحكمته ومن كان مقتضى استعداده خلاف لم يشأ الله هدايته حين النزول إلى مرتبة وجوده العنصري وإلا لزم التغير في علم الله تعالى وهو محال وفي الحديث "إنما أنا رسول وليس إليّ شيء من الهداية ولو كانت الهداية إليّ لآمن كل من الأرض وإنما إبليس مزين وليس له من الضلالة شيء ولو كانت الضلالة إليه لأضل كل من في الأرض ولكن الله يضل من يشاء" كذا في "تلقيح الأذقان" قال الحافظ :
13
مكن بشم حقارت ملامت من مست
كه نيست معصيت وزهد بي مشيت او
وقال :
درين من نكنم سرزنش بخود رويي
نانكه رورشم مى دهند ومي رويم
وقال :
رضا بداده بده وزجبين كره بكشاي
كه برمن وتو در اختيار نكشادست
فعليك بترك القيل والقال ورفض الاعتزال والجدال فإن الرضى والتسليم سبب القبول وخلافه يؤدي إلى غصب الحبيب المقبول.
جزء : 5 رقم الصفحة : 13
(5/10)
ـ يحكى ـ عن حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر أنه قال أقمت بمدينة قرطبة بمشهد فأراني الله أعيان رسله عليهم السلام من لدن آدم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فخاطبني منهم هود عليه السلام وأخبرني في سبب جمعيتهم وهو أنهم اجتمعوا شفعاء للحلاج إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وذلك أنه كان قد أساء الأدب بأن قال في حياته الدنيوية : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم همته دون منصبه قيل له ولم ذلك قال : لأن الله تعالى قال : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى : 5) وكان من حقه لا يرضى إلا أن يقبل الله تعالى شفاعته في كل كافر ومؤمن لكنه ما قال : ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" فلما صدر منه هذا القول جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في واقعة وقال له : يا منصور أنت الذي أنكرت علي الشفاعة؟ فقال : يا رسول الله قد كان ذلك فقال : ألم تسمع أنني حكيت عن ربي عز وجل "إذا أحببت عبداً كنت له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً" فقال : بلى يا رسول الله فقال : أولم تعلم أني حبيب الله؟ قال : بلى يا رسول الله قال : فإذا كنت حبيب الله كان هو لساني القائل فإذا هو الشافع والمشفوع إليه وأنا عدم في وجوده فأي عتاب عليّ يا منصور؟ فقال : يا رسول الله أنا تائب من قولي هذا فما كفارة ذنبي؟ قال : قرب نفسكقرباناً فاقتل نفسك بسيف شريعتي فكان من أمره ما كان ثم قال هود عليه السلام : وهو من حيث فارق الدنيا محجوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم والآن هذه الجمعية لأجل الشفاعة له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم انتهى.
يقول الفقير سامحه الله القدير في هذه القصة أمران أحدهما عظم شأن الحلاج قدس سره بدلالة عظم شأن الشفاعة والثاني أنه قتل في بغداد في آخر سنة ثلاثمائة وتسع ومات حضرة الشيخ الأكبر بالشام سنة ثمان وثلاثين وستمائة فبينهما من المدة ثلاثمائة وتسع وعشرون سنة والظاهر والله أعلم أن روح الحلاج كان محجوباً عن روح رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثر من ثلاثمائة سنة تقريباً وذلك بسبب كلمة صدرت منه على خلاف الأدب فإن من كان على بساط القرب والحضور ينبغي أن يراعي الأدب في كل أمر من الأمور فما ظنك بمن جاوز حد الشريعة ورخص نظم القرآن ومعانيه اللطيفة وعمل بالخيالات والأوهام فليس أولئك إلا كالأنعام نسأل الله العافية والعفو والأنعام.
جزء : 5 رقم الصفحة : 13
{هُوَ الَّذِى أَنزَلَ} بقدرته القاهرة {مِنَ السَّمَآءِ} إلى السحاب ومنه إلى الأرض {مَآءً} نوعاً منه وهو المطر.
وفي "بحر العلوم" تنكيره للتبعيض إلى بعض الماء فإنه لم ينزل من السماء الماء كله {لَّكُم مِّنْهُ} أي : من ذلك الماء المنزل {شَرَابٌ} أي : ما تشربونه والظرف الأول وهو لكم خبر مقدم لشراب والثاني حال منه ومن تبعيضية.
{وَمِنْهُ شَجَرٌ}
14
من ابتدائية أي : ومنه وبسببه يحصل شجر ترعاه المواشي والمراد به ما ينبت من الأرض سواء كان له ساق أو لا وفي حديث عكرمة "لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت" يعني : الكلأ وهو بالقصر ما رعته الدواب من الرطب واليابس وإنما كان ثمنه سحتاً لما في حديث آخر "الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار" أي : في اصطلائها وضوئها لا أن الجمر كما في المراد بالماء ماء الأنهار والآبار لا الماء المحرز في الظروف والحيلة فيه أن يستأجر موضعاً من الأرض ليضرب فيه فسطاطاً أو ليجعله حظيره لغنمه فتصح الإجارة ويبيح صاحب المرعى الانتفاع له بالرعي فيحصل مقصودهما كذا في "الكافي" ويجوز بيع الأوراق على الشجرة لا بيع الثمرة قبل ظهورها والحيلة في ذلك بيعها مع الأوراق أول ما تخرج من وردها فيجوز البيع في الثمر تبعاً للبيع في الأوراق كما في "أنوار المشارق".
{فِيهِ تُسِيمُونَ} الاسامة بالفارسية (بيرون هشتن رمه برا) يقال : سامت الماشية رعت وأسامها صاحبها من السومة بالضم وهي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض أي : ترعون مواشيكم قدم الشجر لحصوله بغير صنع من البشر ثم استأنف أخباراً عن منافع الماء فقال : لمن قال هل له منفعة غير ذلك.
{يُنابِتُ} الله تعالى {لَكُمُ} لمصالحكم ومنافعكم {بِهِ} أي : بما أنزل من السماء {الزَّرْعَ} الذي هو أصل الأغذية وعمود المعاش.
قال الكاشفي (مراد حبوب غاذيه است كه زراعت ميكنند).
قال في "بحر العلوم" : الزرع كل ما استنبت بالبذر مسمى بالمصدر وجمعه زروع.
قال كعب الأحبار لما أهبط الله تعالى آدم جاء ميكائيل بشيء من حب الحنطة وقال هذا رزقك ورزق أولادك قم فاضرب الأرض وابذر البذر قال : ولم يزل الحب من عهد آدم إلى زمن إدريس كبيضة النعام فلما كفر الناس نقص إلى بيضة الدجاجة ثم إلى بيضة الحمامة ثم إلى قدر البندقة ثم إلى قدر الحمصة ثم إلى المقدار المحسوس إلا أن يقال أن البوم لا يأكل الحنطة ولا يشرب الماء أما الأول فلان آدم عصى بالحنطة ربه وأما الثاني فلأن قوم نوح أهلكوا بالماء {وَالزَّيْتُونَ} الذي هو إدام من وجه وفاكهة من وجه.
(5/11)
جزء : 5 رقم الصفحة : 13
وقال الكاشفي يعني (درخت زيتون را).
قال في "إنسان العيون" : شجرة الزيتون تعمر ثلاثة آلاف سنة وكان زاده صلى الله عليه وسلّم وقت تخليه بغار حراء بالمد والقصر الكعك والزيت وجاء "ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة" وهي الزيتون وقيل لها مباركة لأنها لا تكاد تنبت إلا في شريف البقاع التي بورك فيها كأرض بيت المقدس.
{وَالنَّخِيلَ} (وخرما بنانرا) والنخيل والنخل بمعنى واحد وهو اسم جمع والواحدة نخلة كالثمرة والثمر وفي الحديث : "أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضل طينة آدم وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم ابنة عمران فاطعموا نساءكم الولد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر" كما في "المقاصد الحسنة" {وَالاعْنَـابِ} (وتا كهارا) جمع الأعناب للإشارة إلى ما فيها من الاشتمال على الأصناف المختلفة.
وفيه إشارة إلى أن تسمية العنب كرماً لم يكن بوضع الواضع ولكنه كان من الجاهلية كأنهم قصدوا به الاشتقاق من الكرم لكون الخمر المتخذة منه تحث على الكرم والسخاء فنهى النبي عليه السلام عن أن يسموه بالاسم الذي وضعه الجاهلية وأمرهم بالتسمية اللغوية بوضع الواضع حيث قال : "لا تقولوا الكرم ولكن قولوا العنب والحبلة" ثم بين قبح تلك الاستعارة
15
بقوله : "إنما الكرم قلب المؤمن" يعني : أن ما ظنوه من السخاء والكرم فإنما هو من قلب المؤمن لا من الخمر إذ أكثر تصرفات السكران عن غلبة من عقله فلا يعتبر ذلك العطاء كرماً ولا سخاء إذ هو في تلك الحالة كصبي لا يعقل السخاء ويؤثر بماله سرفاً وتبذيراً فكما لا يحمل ذلك على الكرم فكذا إعطاء السكران كذا في "أبكار الأفكار".
وخصص هذه الأنواع المعدودة بالذكر للإشعار بفضلها وشرفها ثم عمم فقال : {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} من تبعضية أي : بعض كلها لأنه لم يخرج بالمطر جميع الثمرات وإنما يكون في الجنة أي : لم يقل كل الثمرات لأن كلها لا تكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض من كلها للتذكرة ولعل المراد ومن كل الثمرات التي يحتملها هذه النشأة الدنيوية وترى بها وهي الثمرات المتعارفة عند الناس بأنواعها وأصنافها فتكون كلمة من صلة كما في قوله تعالى : {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} (الأحقاف : 31) على رأي الكوفية وهو اللائح.
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي : في إنزال الماء وإنبات ما فصل {لايَةً} عظيمة دالة على تفرده تعالى بالألوهية لاشتماله على كمال العلم والقدرة والحكمة {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فإن من تفكر في أن الحبة والنواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض وينشق أعلاها إن كانت منتكسة في الوقوع ويخرج منه ساق فينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخوص والطبائع وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد المواد واستواء نسبة الطبائع السفلية والتأثيرات العلوية بالنسبة إلى الكل علم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال فضلاً عن أن يشاركه أخس الأشياء في صفاته التي هي الألوهية واستحقاق العبادة تعالى عن ذلك علواً كبيراً :
جزء : 5 رقم الصفحة : 13
روضه جانبخش جانها آفريد
بغة كون ومكانها آفريد
كرد ازهر شاخها كل برك وبار
جلوه او نقش ديكر آشكار
والتفكر تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب قالوا : الذكر طريق والفكر وسيلة المعرفة التي هي أعظم الطاعات.
قال بعضهم : الذكر أفضل للعامة لما في الفكر لهم من خوف الوقوع في الأباطيل وتمكن الشبه عندهم كما يعرض ذلك لكثير من العوام في زماننا والفكر أفضل لأرباب العلم عند التمكن من الفكر المستقيم فإنهم كلما عرضت لهم شبهة تطلبوا دليلاً يزيلها فكان الفكر لهم أفضل من الذكر إذا لم يتمكنوا من حصول الفكر البليغ مع الذكر وإليه أشار عليه السلام بقوله : "تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة".
ـ روي ـ أن عثمان رضي الله عنه ختم القرآن في ركعة الوتر لتمكنه من التدبر والتفكر ولم يبح ذلك لمن لم يتمكن من تدبره ومعرفة فقهه وأجل له مدة يتمكن فيها من ذلك كالثلاثة والسبعة.
والإشارة في الآية {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} الفيض {لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ} المحبة لقلوبكم {وَمِنْهُ شَجَرٌ} قوى البشرية ودواعيها فيه ترعون مواشي نفوسكم ينبت لغذاء أرواحكم به زرع الطاعات وزيتون الصدق ونخيل الأخلاق الحميدة وأعناب الواردات الربانية ومن كل ثمرات المعقولات والمشاهدات والمكاشفات والمكالمات والأحوال كلها {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
16
بنظر العقل في هذه الصنائع الحكمية.
(5/12)
{وَسَخَّرَ لَكُمُ} أي : لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها {وَسَخَّرَ لَكُمُ} يتعاقبان خلفة كما قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} (الفرقان : 62) قال بعضهم : الليل ذكر كآدم والنهار أنثى كحواء والليل من الجنة والنهار من النار ومن ثمة كان الإنس بالليل أكثر.
{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} تسخرا في سيرهما وإنارتهما أصالة وخلافة وإصلاحهما لما نيط بهما صلاحه كل ذلك لمصالحكم ومنافعكم ، قال السعدي :
ابر وباد ومه وخوشيد وفلك در كارند
تاتو نانى بكف آرى وبغفك تخورى
همه از بهر نو سركشته وفرمان بردار
جزء : 5 رقم الصفحة : 13
شرط إنصاف نباشد كه توفرمان نبرى
والتسخير بالفارسية (رام كردانيدن) وليس المراد بتسخير هذه لهم تمكنهم من تصريفها كيف شاءوا كما في قوله تعالى : {سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا} (الزخرف : 13) ونظائره بل هو تصريفه تعالى لها حسبما يترتب عليه منافعهم ومصالحهم لا أن ذلك تسخير لهم وتصرف من قبلهم حسب إرادتهم {وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتُا بِأَمْرِهِ} مبتدأ وخبر أي : سائر النجوم في حركاتها وأوضاعها من التثليث والتربيع ونحوهما مسخرات أي : مذللاتخلقها ودبرها كيف شاء أو لما خلقن له بأمره أي : بإرادته ومشيئته وحيث لم يكن عود منافع النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من ا لملوين والقمرين لم ينسب تسخيرها إليهم بأداة الاختصاص بل ذكر على وجه يفيد كونها تحت ملكوته تعالى من غير دلالة على شيء آخر ولذلك عدل عن الجملة الفعلية الدالة على الحدوث إلى الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار.
وقرىء بنصب النجوم على تقدير وجعل النجوم مسخرات بأمره أو على أنه معطوف على المنصوبات المتقدمة ومسخرات حال من الكل والعامل ما في سخر من معنى نفع أي : نفعكم بها حال كونها مسخراتأو لما خلقن له بإيجاده وتقديره {إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي : فيما ذكر من التسخير المتعلق بما ذكر مجملاً ومفصلاً {لايَـاتٍ} باهرة متكاثرة {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يفتحون عقولهم للنظر والاستدلال ويعتبرون وحيث كانت هذه الآثار العلوية متعددة ودلالة ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية أظهر جميع الآيات علقت بمجرد العقل من غير حاجة إلى التأمل.
قال أهل العلم العقل جوهر مضيىء خلقه الله في الدماغ وجعل نوره في القلب يدرك الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة وهو للقلب بمنزلة الروح للجسد فكل قلب لا عقل له فهو ميت وهو بمنزلة قلب البهائم وسئل النبي صلى الله عليه وسلّم من أحسن الناس عقلاً قال : "المسارع إلى مرضاة الله تعالى والمجتنب عن محارم الله تعالى" قالوا : أخف حلماً من العصفور قال حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه :
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم
جسم البغال وأحلام العصافير
جزء : 5 رقم الصفحة : 13
{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ} عطف على قوله والنجوم رفعاً ونصباً على أنه مفعول لجعل المقدر أي : وما خلق {فِى الأرْضِ} من حيوان ونبات حال كونه {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُه} أي : أصنافه فإن اختلافها غالباً يكون باختلاف اللون سخرتعالى أو لما خلق به من الخواص والأحوال والكيفيات أو جعل ذلك مختلف الأصناف لتتمتعوا من ذلك بأي صنف شئتم.
وفي "بحر العلوم" :
17
{مُخْتَلِفًا أَلْوَانُه} هيآته من خضرة وبياض وحمرة وسواد وغير ذلك.
وفي أكثر التفاسير وما ذرأ معطوف على الليل والنهار أي : وسخر لكم ما خلق لأجلكم وتعقب بأن ذكر الخلق لهم مغن عن ذكر التسخير واعتذر بأن الأول لا يستلزم الثاني لزوماً عقلياً لجواز كون ما خلق لهم عزيز المرام صعب المنال {إِنَّ فِى ذَالِكَ} الذي ذكر من التسخيرات ونحوها {لايَةً} دالة على أن من هذا شأنه واحد لا شريك له {لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} فإن ذلك غير محتاج إلا إلى تذكر ما عسى يغفل عنه من العلوم الضرورية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 17
(5/13)
والإشارة {وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ} ليل البشرية {وَالنَّهَارَ} نهار الروحانية {وَالشَّمْسَ} شمس الروح {وَالْقَمَرَ} قمر القلب {وَالنُّجُومُ} نجوم القوى والحواس الخمس {مُسَخَّرَاتُا بِأَمْرِهِ} وهو خطاب وتسخيرها استعمالها على وفق الشريعة وقانون الطريقة بمعالجة طبيب حاذق البصرية والولاية كامل التصرف في الهداية مخصوص بالعناية {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ} لشاهدات {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بشواهد الحق من غير التفكر بل بالمعاينات {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ} وما خلق لمصالحكم {فِى الأرْضِ} في أرض جبلتكم من الاستعدادات {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُه} منها ملكية ومنها شيطانية ومنها حيوانية {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} عبور أرواحهم على هذه العوالم المختلفة وتلونها في كل عالم بلون ذلك العالم من عوالم الملكية والشيطانية والحيوانية إلى أن ردت إلى أسفل سافلين القالب كذا في "التأويلات النجمية" ، فعلى العاقل أن يتخلص من قيد الغفلة ويربط نفسه بسلسلة أهل التذكر ، قال محمد بن فضل : ذكر اللسان كفارات ودرجات وذكر القلب زلفى وقربات والتذكر من شأن القلب والقلب أمير الجسد وأسير الحق وفي الحديث : "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات" وفي هذه إشارة إلى الأسباب التي هي حجاب بين القلب وبين الملكوت وأصحاب القلوب من الانس ثلاثة صنف كالبهائم قال الله تعالى : {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف : 179) وصنف أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين وصنف في ظل الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله كذا في "الخالصة" ، قال السعدي قدس سره :
ترا ديده درسر نهادند وكوش
دهن جاى كفتار ودل جاى هوش
مكر باز داني نشيب از فراز
نكويى كه اين كونهست بادراز
يعني : أن الله تعالى خلق كل عضو من الأعضاء بالحكمة فاستعملوها فيما خلقت له.
جزء : 5 رقم الصفحة : 17
{وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ} قال في "القاموس" : البحر الماء الكثير أو الملح فقط والجمع أبحر وبحور وبحار انتهى.
وفي "الكواشي" سخر البحر العذب والملح أي : جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والغوص والاصطياد.
قال بعضهم : هذه البحور على وجه الأرض ماء السماء النازل وقت الطوفان فإن الله تعالى أمر الأرض بعد هلاك القوم فابتلعت ماءها وبقي ماء السماء لم تبتلعه الأرض وأما البحر المحيط فغير ذلك بل هو جزر على الأرض حين خلق الله الأرض من زبده.
ويجوز ركوب البحر بشرط علم السباحة وعدم دوران الرأس وإلا فقد ألقى نفسه إلى التهلكة وأقدم على ترك الفرائض وذلك للرجال والنساء كما قاله الجمهور وكره ركوبه للنساء لأن حالهن على الستر وذا متعسر في السفينة غالباً لا سيما في الزورق وهي السفينة الصغيرة {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ}
18
أي : من العذب والملح كما في "الحواشي" {لَحْمًا طَرِيًّا} من الطراوة فلا يهمز وهو بالفارسية (تازه) والمراد السمك والتعبير عنه باللحم مع كونه حيواناً للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل كما في "الإرشاد" وللإيذان بعدم احتياجه للذبح كسائر الحيوانات غير الجراد كما هو اللائح وصفه بالطراوة إرشاداً لأن يتناول طرياً فإن أكله قديداً أضر ما يكون كما هو المقرر عند الأطباء وفيه بيان لكمال قدرته حيث خلقه عذباً طرياً في ماء زعاق وهو كغراب الماء المر الغليظ لا يطاق شربه ومن إطلاق اللحم عليه ذهب مالك والثوري إلى أن من حلف لا يأكل اللحم حنث بأكله والجواب أن مبنى الإيمان العرف ولا ريب في أنه لا يفهم من اللحم عند الإطلاق ألا ترى أن الله تعالى سمى الكافر دابة حيث قال : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (الأنفال : 55) ولا يحنث بركوبه من حلف لا يركب دابة.
وفي "حياة الحيوان" المذهب المفتي به حل الجميع من الحيوانات التي في البحر إلا السرطان والضفدع والتمساح سواء كان على صورة كلب أو خنزير أم لا وفي الحديث "أكل السمك يذهب بالجسد" كما في "بحر العلوم" والسمك يستنشق الماء كما يستنشق بنو آدم وحيوان البر الهوءا إلا أن حيوان البر يستنشق الهواء بالأنوف ويصل بذلك إلى قصبة الرئة والسمك يشتنشق باصداغه فيقوم له الماء في تولد الروح الحيواني في قلبه مقام الهواء في إقامة الحياة ولم نستغن نحن وما أشبهنا من الحيوان عنه لأن عالم السماء والأرض دون عالم الهواء ونحن من عالم الأرض ونسم البرّ لو مرّ على السمك ساعة لهلك ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 17
ما هيانرا بحر نكذارد برون
خا كيانرا بحر نكذارد درون
أصل ما هي آب وحيوان ازكلست
حيله وتدبير اينجا باطلست
(5/14)
{وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ} أي : من البحر الملح {حِلْيَةً} الحلية الزينة من ذهب أو فضة والمراد بها في الآية اللؤلؤ والحجر الأحمر الذي يقال له المرجان {تَلْبَسُونَهَا} تتزين بها نساؤكم وإنما أسند إليهم لكونهن منهم ولبسهن لأجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم {وَتَرَى الْفُلْكَ} أي : لو حضرت أيها المخاطب لرأيت السفن {مَوَاخِرَ فِيهِ} جواري في البحر مقبلة ومدبرة ومعترضة بريح واحدة بحيزومها من المخر وهو شق الماء يقال مخرت السفينة كمنع جرت وشقت الماء بجآجئها جمع جؤجؤ بالضم وهو صدر السفينة.
وقال الفراء المخرصوت جرى الفلك بالرياح {وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} عطف على تستخرجوا أي : لتطلبوا من سعة رزقه بركوبها للتجارة فإن تجارته اربح من تجارة البر وإليه أشار حضرة سعدى بقوله :
سود دريانيك بودى كرنبودى بيم موج
صحبت كل خوش يدي كرنيستى تشويش خار
وفي الحديث "من ركب البحر في ارتجاجه ففرق برئت منه الذمة" وارتجاجه هيجانه من الموج وهو الحركة الشديدة ومعناه أن لكل أحد من الله عهداً وذمة بالحفظ فإذا ألقى نفسه إلى التهلكة فقد انقطع عنه عهد الله فلندور السلامة حين الموج الشديد لم يجز ركوبه وعصى فاعله {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي : تعرفون حقوق نعمه الجليلة فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد ولعل مستعار لمعنى الإرادة كما في "بحر العلوم" ولعل تخصيصه يتعقيب الشكر لأنه أقوى في باب الإنعام من حيث إنه جعل المهالك سبباً للانتفاع وتحصيل المعاش.
قال صاحب "كشف الأسرار"
19
(آورده اندكه حق سبحانه وتعالى ازروى ظاهر درياها آفريد ون قلزم وعمان ومحيط وجزائر وبراى عبور بران كشتيها مقرّر فرموده واز روى باطن در نفس آدمي درياها بديد كرده ون درياهاى شغل وغم وحرص وغفلت وتفرقه وبراى عبور ازان كشتيها تعيين نموده.
هركه دركشتى توكل نشيند ازدرياى شغل بساحل فراغت رسد.
وهركه در كشتى رضا درآيد ازبحر غم بساحل فرح رسد.
وهركه دركشتى قناعت جاى كند از درياى حرص بساحل زهد آيد وهركه دركشتى ذكر نشيند ازدرياى غفلت بساحل آكاهى رسد.
وهركه بشكتى توحيد در آيد از درياى تفرقه بساحل آكاهى رسد.
وهركه بكشتى توحيد در آيد از درياى تفرقه بساحل جمعت رسد وبحقيقت تفرقه دربقاست وجمعيت درفنا باوجود آن در مملكت تفرقه وبيخودان در مرتبة جمع) :
جزء : 5 رقم الصفحة : 17
بحساب خودى قلم دركش
درره بيخودى علم بركش
تا بجاروب "لا" نرو بى راه
كى رسى در حريم الا الله
والاشارة وهو الذي سخر لكم بحر العلوم لتأكلوا منه الفوائد الغيبية والمواهب السنية وتستخرجوا من بحر العلوم جواهر المعاني ودرر الحقائق حلية لقلوبكم تلبس بها أرواحكم النور والبهاء وترى سفائن الشرائع والمذاهب جاريات في بحر العلوم وتلتبتغوا من فضله وهو الأسرار الخفيات عن الملائكة المقربين والعلكم تشكرون هذه النعم الجسيمة والعطيات العظيمة التي اختصكم بها عن العالمين كما في "التأويلات النجمية".
{وَأَلْقَى} الله تعالى بقدرته القاهرة {فِى الأرْضِ} هي كروية الشكل محلها وسط العالم وسميت بالأرض لأنها تأرض أي : تأكل أجساد بني آدم {رَوَاسِىَ} أي : جبالاً ثوابت من غير سبب ولا ظهير كأنها حصيات قبضهن قابض بيده فنبذهن في الأرض فهو تصوير لعظمته وتمثيل لقدرته وأن كل عسير فهو عليه يسير أي : وجعل فيها رواسي بأن قال لها : كوني فكانت فأصبحت الأرض وقد أرسيت بالجبال بعد أن كانت تمور موراً فلم يدر أحد مم خلقت من رسا الشيء إذا نبت جمع راسية والتاء للتأنيث على أنها صفة جبال {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} مفعول له والميد الحركة والميل يقال ما ديميد ميداً تحرك ومنه سميت المائدة.
والمعنى كراهة أن تميل بكم وتضطرب.
وبالفارسية (تاميلى نكند بشمازمين يعني متحرك ومضطرب نكردد وشمارا نيكودارد) وقد خلق الله الأرض مضطربة لكونها على الماء ثم أرساها بالجبال وهي ستة آلاف وستمائة وثلاثة وسبعون جبلاً سوى التلول على جريان عادته في جعل الأشياء منوطة بالأسباب فالأرض بلا جبال كاللحم بلا عظام فكما أن وجود الحيوان وجسده إنما يستمسك بالعظم فكذا الأرض إنما تقوم بالرواسي ألا ترى أن سطيحا الكاهن لم يكن في بدنه عظم سوى القفا لكونه من ماء المرأتين وكان لا يستمسك وإنما يخرج في السنة مرة ملفوفاً في خرقة أو موضوعاً على صحيفة من فضة {وَأَنْهَـارًا} جمع نهر ويحرك مجرى الماء أي : وجعل فيها أنهاراً لأن في ألقى معنى الجعل إذ الالقاء جعل مخصوص وذلك مثل الفرات نهر الكوفة ودجلة نهر بغداد وجيحون نهر بلخ وجيحان نهر اذنه في بلاد الأرمن وسيحون نهر الهند وسيحان نهر المصيصة والنيل نهر مصر وغيرها من الأنهار الجارية في أقطار الأرض {وَسُبُلا} وطرقاً مختلفة جمع سبيل وهو الطريق وما وضح
20
(5/15)
يعني (بديد كرديم در زمين راهها از هر موضعي بموضعي) {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إرادة أن تهتدوا بها إلى مقاصدكم ومنازلكم.
قال بعضهم خذوا الطريق ولو دارت واسكنوا المدن ولو جارت وتزوجوا البكر ولو بارت أي : ولو كانت البكر بورا أي : فاسدة هالكة لا خير فيها :
جزء : 5 رقم الصفحة : 17
زن نوكن اي دوست هر نوبهار
كه تقويم ارين نيايد بكار
{وَعَلَـامَـاتٍ} أي : وجعل فيها معالم يستدل بها السابلة وهي القوم المختلفة على الطريق بالنهار من جبل وسهل ومياه وأشجار وريح كما قال الإمام : رأيت جماعة يشمون التراب وبواسطة ذلك الشم يتعرفون الطرقات {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} بالليل في البراري والبحار حيث لا علامة غيره ولعل الضمير لقريش فإنهم كانوا كثيري التردد للتجارة مشهورين بالاهتداء بالنجوم في أسفارهم وصرف النظم عن سنن الخطاب وتقديم النجم وإقحام الضمير للتخصيص كأنه قيل وبالنجم خصوصاً هؤلاء يهتدون فالاعتبار بذلك ألزم لهم والشكر عليه أوجب عليهم والمراد بالنجم الجنس أو هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي وذلك لأنها تعلم بها الجهات ليلاً لأنها دائرة حول القطب الشمالي فهي لا تغيب والقطب في وسط بنات نعش الصغرى والجدي هو النجم المفرد الذي في طرفها والفرقدان هما النجمان اللذان في الطرف الآخر وهما من النعس والجدي من البنات ويقرب من بنات نعش الصغرى بنات نعش الكبرى وهي سبعة أيضاً أربعة نعش وثلاث بنات وبازاء الأوسط من البنات السهى وهو كوكب خفي صغير كانت الصحابة رضي الله عنهم تمتحن فيه أبصارهم كذا في "التكملة" لابن عسكر.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : تعلموا من النجوم ما تهتدون به في طرقكم وقبلتكم ثم كفوا وتعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم قيل : أول من نظر في النجوم والحساب إدريس النبي عليه السلام.
قال بعض السلف : العلوم أربعة : الفقه للأديان والطب للأبدان والنجوم للأزمان والنحو للسان وأما قوله عليه السلام : "من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر" أي : تعلم قطعة منه فقد قال الحافظ : المنهي عنه من علم النجوم هو ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية من مستقبل الزمان كمجيىء المطر ووقوع الثلج وهبوب الريح وتغير الأسعار ونحو ذلك ويزعمون أنهم يدركون هذا بسير الكواكب واقترانها وافتراقها وظهورها في بعض الأزمان دون بعض وهذا علم استأثر الله به لا يعلمه أحد غيره كما حكي أنه لما وقع قران الكواكب السبعة في دقيقة من الدرجة الثالثة من الميزان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة حكم المنجمون بخراب الربع المسكون من الرياح وكان وقت البيدر ولم يتحرك ريح ولم يقدر الدهاقين على رفع الحبوب ولذا استوصى تلميذ من شيخه بعد التكميل عند افتراقه فقال : إن أردت أن لا تحزن أبداً فلا تصحب منجماً وإن أردت أن تبقي لذة فمك فلا تصحب طبيباً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 17
قال الشيخ : (منجمي بخانه خود در آمد مرد بيكانه را ديد بازن او بهم نشته دشنام داد وسقط كفت وفتنه وآشوب بر خاست صاحب دلى برين حال واقف شد وكفت) :
تو بر اوج فلك ه دانى يست
و ندانى كه درسراى تو كيست
فأما ما يدرك من طريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعرف به الزوال وجهة القبلة وكم مضى وكم بقي فإنه غير داخل في النهي انتهى كلام الحافظ مع زيادة.
يقول الفقير أصحاب النظر والاستدلال
21
محتاجون إلى معرفة شيء من علم النجوم والحكمة والهيئة والهندسة ونحوها مما يساعده ظاهر الشرع الشريف إذ هو أدخل في التفكر وقد قال تعالى : {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (آل عمران : 191) ولا يمكن صرف التفكر إلى المجهول المطلق فلا بد من معلومية الأمر ولو بوجه ما وهذا القدر خارج عن الطعن والجرح كما قال السيد الشريف النظر في النجوم ليستدل بها على توحيد الله تعالى وكمال قدرته من أعظم الطاعات وأما أرباب الشهود والعيان فطريقهم الذكر وبه يصلون إلى مطالعة أنوار الملك والملكوت ومكاشفة أسرار الجبروت واللاهوت فيشاهدون في الأنفس والآفاق ما غاب عن العيون ويعاينون في الظاهر والباطن ما تحير فيه الحكماء والمنجمون ثم إن الاهتداء إما بنجوم عالم الآفاق وهو للسائرين من أرض إلى أرض وإما بنجوم عالم الأنفس وهو للمهاجرين من حال إلى حال وفي الحديث "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وهذا الاقتداء والاهتداء مستمر باق إلى آخر الزمان بحسب التوارث في كل عصر فلا بد من الدليل وهو صاحب البصيرة والولاية كامل التصرف في الهداية المخصوص بالعناية ، قال الحافظ :
بكوى عشق منه بى دليل راه قدم
كه من بخويش نمودم صد اهتمام ونشد
(5/16)
وفي "التأويلات النجمية" : وألقى في أرض البشرية جبال الوقار والسكينة لئلا تميل بكم صفات البشرية عن جادة الشريعة والطريقة وأنهاراً من ماء الحكمة وطريق الهداية لعلكم تهتدون إلى الله تعالى وعلامات من الشواهد والكشوف وبنجم الهداية من الله يهتدون إلى الله وهو جذبة العناية يخرجكم بها من ظلمات وجودكم المجازي إلى نور الوجود الحقيقي انتهى.
قال الشيخ أبو القاسم الخزيمي الغراري في "كتاب الأسئلة المقحمة في الأجوبة المفحمة" : قوله تعالى : {وَأَلْقَى فِى الأرْضِ} إلى قوله : {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} فيه دليل أنه تعالى أراد من الكل الاهتداء والشكر وأن كل من لا يهتدي فليس ذلك بإرادته تعالى والجواب المراد به أن يذكرهم النعم التي يستحق عليها الشكر في قوله تعالى : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} إلى قوله : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ} ثم بين تعالى أن هذه النعم كلها توجب الشكر والهداية ثم يختص بها من يشاء كما قال تعالى : {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاـاكُمْ أَجْمَعِينَ} .
جزء : 5 رقم الصفحة : 17
{أَفَمَن يَخْلُقُ} هذه المصنوعات العظيمة وهو الله تعالى.
وبالفارسية (آيا كسى كه مرا آفريند اين همه مخلوقات راكه مذكور شد) {كَمَن لا يَخْلُقُ} كمن لا يقدر على شيء أصلاً وهو الأصنام ومن للعقلاء لأنهم سموها آلهة فأجريت مجرى العقلاء أو لأنه قابله بالخالق وجعله معه كقوله تعالى : {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِه وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ} والهمزة للإنكار أي : أبعد ظهور دلائل التوحيد تتصور المشابهة والمشاركة يعني : (خالق رابا مخلوق هي مشابهتي نيست س عاجزرا شريك قادر ساختن غايت عناد ونهايت جهلست) واختير تشبيه الخالق بغير الخالق مع اقتضاء المقام بظاهره عكس ذلك مراعاة لحق سبق الملكة على العدم {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي : لا تلاحظون فلا تذكرون ذلك فتعرفون فساد ما أنتم عليه يا أهل مكة فإنه بوضوحه بحيث لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر وهو بالفارسية (ياد كردن).
جزء : 5 رقم الصفحة : 17
{وَإِن تَعُدُّوا} العد بالفارسية (شمردن).
22
{فَكُلُوا مِمَّا} الفائضة عليكم مما لم يذكر {لا تُحْصُوهَآ} لا تطيقوا حصرها وضبط عددها ولو إجمالاً فضلاً عن القيام بشكرها يقال أحصاه أي : عده كما في "القاموس" ، وأصله أن الحساب كان إذا بلغ عقداً وضعت له حصاة ثم استؤنف العدد.
والمعنى لا توجد له غاية فتوضع له حصاة :
عطاييست هرمو ازو برتنم
كونه بهر موى شكرى كنم
{إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ} ستور يتجاوز عن تقصيركم في شكرها {رَّحِيمٌ} عظيم الرحمة والنعمة لا يقطعها عنكم مع استحقاقكم للقطع والحرمان بسبب ما أنتم عليه من العصيان ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها وتقديم وصف المغفرة على نعت الرحمة لتقدم التخلية على التحلية.
قال ابن عطاء : إن لك نفساً وقلباً وروحاً وعقلاً ومحبة وديناً ودنيا وطاعة ومعصية وابتداء وانتهاء وحينا وأصلاً وفصلاً فنعمة النفس الطاعات والإحسان والنفس فيهما تتقلب ونعمة القلب اليقين والإيمان وهو فيهما يتقلب ونعمة الروح الخوف والرجاء وهو فيهما يتقلب ونعمة العقل الحكمة والبيان وهو فيهما يتقلب ونعمة المعرفة الذكر والقرآن وهي فيهما تتقلب ونعمة المحبة الالفة والمواصلة والأمن من الهجران.
وهي فيها تتقلب وهذا تفسير قوله : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ} انتهى.
واعلم أنه لو صرف جميع عمر الإنسان إلى الأعمال الصالحة وإقامة الشكر لما كافأ نعمة الوجود فضلاً عن سائر النعم :
لو عشت ألف عام
في سجدة لربي
شكر الفضل يوم
جزء : 5 رقم الصفحة : 22
لم أقض بالتمام
والعام ألف شهر
والشهر ألف يوم
واليوم ألف حين
والحين ألف عام
قال الشيخ سعدي قدس سره :
عذر تقصير خدمت آوردم
كه ندارم بطاعت استظهار
عاصيان ازكناه توبه كنند
عارفان ازعبادت استغفار
المراد رؤية العمل لا ترك العمل وينبغي للعبد أن يكون تحت طاعة المولى لا تحت طاعة النفس والشيطان فإن المطيع والعاصي لا يستويان.
ـ حكي ـ أن عابداً من بني إسرائيل عبد الله تعالى سبعين سنة فأراد الله أن يظهره على الملائكة فأرسل إليه ملكاً يخبره أنه مع تلك العبادة لا يليق بالجنة فقال العابد : نحن خلقنا للعبادة فينبغي أن نعبد خالقنا امتثالاً لأمره فرجع الملك فقال : إلهي أنت تعلم بما قال : فقال الله تعالى : إذا لم يعرض عن عبادتنا فنحن مع الكرم لا نعرض عنه اشهدوا أني قد غفرت له فللعبد أن يكون قصده مراعاة الأمر وإخراج النفس عن البين وهو حجاب عظيم للوصول إلى الحقيقة وعلى تقدير الزلة فالمسارعة إلى الاستغفار فإنه نعم المطهر من درن الذنوب والأوزار.
(5/17)
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} ما تضمرون من العقائد والأعمال {وَمَا تُعْلِنُونَ} أي : تظهرونه منهما أي يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سركم وعلنكم فحقه أن يتقي ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه.
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} أي : والآلهة الذين يعبدهم الكفار والدعاء بمعنى العبادة في القرآن كثير
23
{مِن دُونِ اللَّهِ} نصب على الحال أي : متجاوزين الله فإن معنى دون أدنى مكان من الشيء ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتب ثم اتسع فيه فاستعمل في كل من تجاوز حداً إلى حد وتخطى حكماً إلى حكم {لا يَخْلُقُونَ شَيْـاًا} من الأشياء أصلاً أي : ليس من شأنهم ذلك لأنهم عجزة {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي : شأنهم ومقتضى ذاتهم المخلوقية لأنها ذوات ممكنة مفتقرة في ماهيتها ووجوداتها إلى الموجد.
قال في "القاموس" : الخالق في صفاته المبدع للشيء المخترع على غير مثال سبق.
{أَمْوَاتٌ} جمع ميت خبر ثان للموصول أي : جمادات لا حياة فيها وبالفارسية (وايشان باوجو ، مخلوقيت مردكانند) ولم يقل موات لأنهم صوروا على شكل من تحله الروح.
قال في "القاموس" : الموات كغراب وكسحاب ما لا روح فيه وأرض لا مالك لها {غَيْرُ أَحْيَآءٍ} جمع حي ضد الميت أي : غير قابلين للحياة كالنطفة والبيضة فهي أموات على الإطلاق {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} الشعور (بدانستن) يقال : شعر به كنصر وكرم شعراً وشعوراً علم به وفطن له وعقله.
وأيان مركب من أي : التي للاستفهام وآن بمعنى الزمان فلذلك كان بمعنى متى أي سؤالاً عن الزمان كما كان اين سؤالاً عن المكان فلما ركبا وجعلا اسماً واحداً بنيا على الفتح كبعلبك وبعث الموتى نشرهم أي : إحياؤهم كما في "القاموس" والمعنى ما يعلم أولئك الآلهة متى يبعث عبدتهم من القبور.
وفيه إيذان بأن معرفة وقت البعث مما لا بد منه في الألوهية وتعريض بأنهم كما لا بد لهم من الموت لا بد لهم من البعث وهم منكرون لذلك وهو اللائح.
جزء : 5 رقم الصفحة : 22
{إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} (يكتا ويكانه است) لا تشاركه شيء في شيء.
{فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} وأحوالها من البعث والجزاء وغير ذلك والإيمان في اللغة التصديق بالقلب وفي الشريعة هو الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان ، قال السهيلي في كتاب "الأمالي" : الفرق بين التصديق والإيمان أن التصديق لا بد أن يكون في مقابلة خبر والإيمان قد يكون في مقابلة خبر صادق وقد يكون عن فكر ونظر فإذا نظرت في الصنعة وعرفت بها الصانع آمنت ولم تكن مصدقاً بخبر إذ لا خبر هناك فإذا جاء الخبر بما آمنت به وأقررت صدقت الخبر وأيضاً أن التصديق قد يكون بالقلب وأنت ساكت تقول : سمعت الحديث فصدقته والإيمان لا بد من اجتماع اللفظ مع العقد فيه لغة وشرعاً انتهى {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} للوحدانية متصفة بالنكارة لا بالمعرفة.
{وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} أي : وهم قوم لا يزال الاستكبار عن اعتراف الوحدانية والتعظيم عن قبول الحق دأبهم كما في الإنكار سجيتهم.
{لا جَرَمَ} (هر آيينه راست است) {إِنَّ اللَّهَ} (آنكه خداى تعالى) {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} من إنكار قلوبهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} من استكبارهم.
لا جرم للتحقيق والتأكيد بمنزلة حقاً.
قال أبو البقاء : في لا جرم أربعة أقوال : أحدها : أن لا رد لكلام ماض أي : ليس الأمر كما زعموا.
وجرم فعل بمعنى كسب وفاعله مضمر فيه وأن ما بعده في موضع النصب على المفعول به.
والقول الثاني : أن لا جرم كلمتان ركبتا وصار معناهما حقاً وما بعدها في موضع رفع بأنه فاعل لحق.
والثالث أن المعنى لا محالة فيكون ما بعدها في موضع رفع أيضاً وقيل في موضع نصب أو جر.
والرابع : أن التقدير لا منع {أَنَّهُ} أي : الله تعالى {لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} عن التوحيد
24
أي : جنس المستكبرين سواء كانوا مشركين أو مؤمنين.
والاستكبار رفع النفس فوق قدرها وجحود الحق والفرق بين المتكبر والمستكبر أن التكبر عام لإظهار الكبر الحق كما في أوصاف الحق تعالى فإنه جاء في أسمائه الحسنى الجبار المتكبر وفي قوله عليه السلام : "التكبر على المتكبر صدقة" ولإظهار الكبر الباطل كما في قوله تعالى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 22
(5/18)
{سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَـاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الأعراف : 146) والاستكبار إظهار الكبر باطلاً كما في قوله تعالى في حق إبليس {اسْتَكْبَرَ} ومنه ما في هذا المقام.
وفي "العوارف" : الكبر ظن الإنسان أنه أكبر من غيره والتكبر إظهاره ذلك وفي الحديث : "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان".
قال الخطابي فيه تأويلان : أحدهما أن المراد كبر الكفر ألا ترى أنه قابله في نقيضه بالإيمان والآخر أنه تعالى إذا أراد أن يدخله الجنة نزع ما في قلبه من الكبر حتى يدخلها بلا كبر.
قال في "فتح القريب" : هذان "التأويلان فيهما بعد فإن الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف وهو الارتفاع على الناس وإحقارهم ودفع الحق وقيل : لا يدخلها دون مجازاة إن جازاه وقيل : لا يدخلها مع المتقين أول وهلة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "قال الله تعالى : يا بني آدم خلقتكم من التراب ومصيركم إلى التراب فلا تتكبروا على عبادي في حسب ولا مال فتكونوا عليّ أهون من الذر وإنما تجزون يوم القيامة بأعمالكم لا بأحسابكم وإن المتكبرين في الدنيا أجعلهم يوم القيامة مثل الذر يطأهم الناس كما كانت البهائم تطأه في الدنيا".
ـ وحكي ـ أنه افتخر رجلان عند موسى عليه السلام بالنسب والحسب فقال أحدهما : أنا فلان ابن فلان حتى عدّ تسعة فأوحى الله تعالى إليه قل له هم في النار وأنت عاشرهم وأنشد بعضهم :
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً
فكم تحتها قوم همو منك أرفع
فإن كنت في عز وحرز ورفعة
فكم مات من قوم همو منك أمنع
فعليك بالتواضع وعدم الفخر على واحد فإن التواضع باب من أبواب الجنة والفخر باب من أبواب النار واللازم فتح أبواب الجنان وسد أبواب النيران وتحصيل الفقر المعنوي الذي ليس الفخر في الحقيقة إلا به فإنه لا يليق بالمرء بدولة المعنى ورياسة الحال وسلطنة المقام إلا بتحلية ذاته بحلية التواضع وزينة الفناء ، قال الحافظ :
تاج شاهي طلبي كوهر ذاتي بنماي
ورخوداز كوهر جمشيدو فريدون باشي
اللهم اجعلنا من أهل التواضع لا من أرباب التملق واجعلنا من أصحاب التحقق بعد التخلق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 22
{وَإِذَا قِيلَ لَهُم} عن السعدي اجتمعت قريش فقالوا : إن محمداً رجل حلو اللسان إذا كلم رجلاً ذهب بقلبه فانظروا أناساً من أشرافكم فابعثوهم في كل طريق مكة على رأس ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده ردوه عنه فخرج ناس منهم من كل طريق فكان إذا جاء وافد من القوم ينظر ما يقول محمد فنزل بهم قالوا له : هو رجل كذاب ما يتبعه إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه وأما أشياخ قومه وأخيارهم فهم مفارقوه فيرجعه أحدهم وإذا كان الوافد ممن هداه الله يقول : بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل فانظر ما يقول فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ما يقول لهم فيقولون خيراً فذلك
25
قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُم} أي : لهؤلاء المشركين المستكبرين المقتسمين من قبل الوفود أو وفود الحاج في الموسم {مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ} ماذا منصوب بأنزل بمعنى أي شيء أنزل ربكم على محمد {قَالُوا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} عدلوا عن الجواب فقالوا : هذا أساطير الأولين على أن يكون خبر مبتدأ محذوف لأنهم أنكروا إنزال القرآن بخلاف قوله : {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} كما يجيىء ويجوز أن يكون ماذا مرفوعاً بالابتداء أي : ما الذي أنزله ربكم قالوا أساطير الأولين أي : ما تدعون نزوله أحاديث الأمم السالفة وأباطيلهم وليس من الإنزال في شيء يعني : (هي نفر ستاده وآنه آدمي خواند أساطير الأولين است) قال في "القاموس" : الأساطير الأحاديث لا نظام لها جمع أسطار وأسطير بكسرهما وأسطور وبالهاء في الكل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 25
(5/19)
{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ} (بار كناهان خودرا) واللام للعاقبة إذ لم يكن داعيهم إلى ذلك القول حمل الأوزار ولكن الاضلال غير أن ذلك لما كان نتيجة قولهم وثمرته شبه بالداعي الذي لأجله يفعل الفاعل الفعل كما في "بحر العلوم".
وقال في "الإرشاد" اللام للتعليل في نفس الأمر من غير أن يكون غرض أي : قالوا ما قالوا ليحملوا أوزارهم الخاصة بهم وهي أوزار ضلالهم أي تحتم حمل الأوزار عليهم على تقدير التقليل.
والأوزار جمع وزر وهو الثقل والحمل الثقيل {كَامِلَةً} لم يكفر منها شيء بنكبة أصابتهم في الدنيا كما يكفر بها أوزار المؤمنين فإن ذنوبهم تكفر عنهم من الصلاة إلى الصلاة ومن رمضان إلى رمضان ومن الحج إلى الحج وتكفر بالشدائد والمصائب أي : المكروهات من الآلام والإسقام والقحط حتى خدش العود وعثرة القدم.
{يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} ظرف ليحملوا {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم} أي : وبعض أوزار من ضل بإضلالهم وهو وزر الإضلال والتسبيب للضلال لأنهما شريكان هذا يضله وهذا يطاوعه فيتحاملان الوزر وفي الحديث : "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" ، وفي "المثنوي" :
هركه بنهد سنت بد اي فتى
تادر افتد بعداو خلق ازعمى
جمع كردد بروى آن جمله بزه
كوسرى بوده است وايشان دم غزه
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال من الفاعل أي : يضلونهم غير عالمين بأن ما يدعون إليه طريق الضلال وبما يستحقونه من العذاب الشديد في مقابلة الإضلال أو من المفعول أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضلال وفائدة التقييد بها الإشعار بأن مكرهم لا يروج عند ذوي لب وإنما يتبعهم الأغبياء والجهلة والتنبيه على أن جهلهم ذلك لا يكون عذراً إذ كان يجب عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين المحقق الحقيق بالاتباع وبين المبطل.
شم باز وكوش باز ودام يش
سوى دامى مى رد بار خويش
{أَلا سَآءَ مَا يَزِرُونَ} ساء في حكم بئس والضمير الذي فيه يجب أن يكون مبهماً يفسره ما يزرون والمخصوص بالذم محذوف أي : بئس شيئاً يزرونه أي : يحملونه فعلهم.
وبالفارسية (بدانيد كه بدكاريست آن باري كه ايشان مي كشند).
واعلم أنه لا يحمل أحد وزر أحد إذ كل نفس تحمل ما كسبت هي لا ما كسبت غيرها إذ ليس ذلك من مقتضى الحكمة الإلهية
26
وأما حمل وزر الاضلال فهو حمل وزر نفسه لأنه مضاف إليه لا إلى غيره.
فعلى العاقل أن يتجنب من الضلال والإضلال في مرتبة الشريعة والحقيقة فمن حمل القرآن على الأساطير ودعا الناس إلى القول بها فقد ضل وأضل وكذا من حمل إشارات القرآن على الأباطيل لا على الحقائق فإنه ضل بالإنكار وأضل طلاب الحق عن طريق الإقرار فحمل حجاب الضلال وحجاب الإضلال وكلما تكاثف الحجب وتضاعف الأستار بعد المرء عن درك الحق ورؤية الآثار والمراد بالإشارات الصحيحة المشهود لحقيتها بالكتاب والسنة وهي الإشارات الملهمة إلى أهل الوصول لا الإشارات التي تدعيها الملاحدة وجهلة المتصوفة مما يوافق هواهم فإنها ليست من الإشارات في شيء كما قال في "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 25
بر هوا تأويل قرآن ميكنى
ست وك شد از تو معنى سنى
آن مكس بر برك كاه وبول خر
همو كشتيبان همى افراشت سر
كفت من دريا وكشتى خواند عام
مدتى در فثكر آن مى مانده ام
اينك اين دريا واين كشتى ومن
مرد كشتيبان واهل ورأى زن
بر سر دريا همى راند او عمد
مى نمودش آن قدر بيرون زحد
صاحب تأويل باطل ون مكس
وهم او بول خر وتصوير خس
كرمكس تأويل بكذارد براى
آن مكس را بخت كرداند هماى
{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} المكر الخديعة يعني قد مكر أهل مكة كما مكر الذين من قبلهم وصار المكر سبباً لهلاكهم لا لهلاك غيرهم لأن من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً.
قال في "المدارك" : الجمهور على أن المراد نمرود بن كنعان حين بنى الصرح ببابل وكان قصراً عظيماً طوله خمسة آلاف ذراع وعرضه فرسخان ليقاتل عليه من في السماء بزعمه ويطلع على إله إبراهيم عليه السلام.
{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَـانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} البنيان البناء والجمع أبنية والقواعد جمع قاعدة وقواعد البيت أساسه أو أساطينه أي : قصد الله تخريب بنائهم من جهة أصوله وأساسه وأتاه أمره وحكمه وبأسه أو من جهة الأساطين التي بنوا عليها بأن ضعفت.
{فَخَرَّ} أي : سقط {عَلَيْهِمُ السَّقْفُ} أي : سقف بنائهم.
{مِن فَوْقِهِمْ} يعني : (اول بام بر ايشان فرود آمد س ديوارها) إذ لا يتصور البناء بعد هدم القواعد وجاء بفوقهم وعليهم للإيذان بأنهم كانوا تحته فإن العرب لا تقول سقط علينا البيت وليسوا تحته.
(5/20)
ـ روي ـ أنه هبت عليه ريح هائلة فألقت رأسه في البحر وخر الباقي عليهم ولما سقط الصرح تبلبلت الألسن من الفزع يومئذٍ : يعني : (بهم بر آمد وسخن ايشان مختلف كشت هو قومى بزبانى سخن كفتن آغاز كردند وهي يك زبان آن ديكر ندانست) فتكلموا ثلاثة وسبعين لساناً فلذلك سميت ببابل وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية {وَأَتَـاـاهُمُ الْعَذَابُ} أي : الهلاك بالريح {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} بإتيانه منه بل يتوقعون إتيان مقابله مما يريدون ويشتهون.
والمعنى أن هؤلاء الماكرين القائلين للقرآن العظيم أساطير الأولين سيأتيهم في الدنيا من العذاب مثل ما أتاهم وهم لا يحتسبون (دمياطي آورده كه مراد ازين عذاب بعوضه است كه بر لشكر نمرود مسلط شد.
در لباب
27
فرموده كه خداى تعالى نمرودرا مبتلا كردانيد به شه كه در بينى اورفته بود ودر دماغ وى جاى كرفته وبزرك شد وهار صد سال درانجا بماند ودرين مدت يوسته مطرقه برسراو ميزدند تا في الجمله آرام يافت.
)
جزء : 5 رقم الصفحة : 25
شيخ فريد الدين عطار قدس سره در منطق الطير آورده :
نيم شه برسر دشمن كماشت
درسراو ارصد سالش بداشت
ون دهد حكمش ضعيفى رامدد
سبلت خصم قوى را بركند
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} أي : هذا العذاب جزاؤهم في الدنيا ويوم القيامة {يُخْزِيهِمْ} (رسواى كرداند ايشانرا) أي : يذل أولئك المفترين والمكارين الذين من قبلهم جميعاً بعذاب الخزي على رؤوس الإشهاد وأصل الخزي ذل يستحيى منه وثم لتفاوت ما بين الجزاءين {وَيَقُولُ} لهم تفضيحاً وتوبيخاً فهو إلى آخره بيان للإخزاء {أَيْنَ شُرَكَآءِىَ} بزعمكم {الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَـاقُّونَ} أصله تشاققون أي : تخاصمون الأنبياء والمؤمنين {فِيهِمْ} أي : في شأنهم بأنهم شركاء أحقاء حين بينوا لكم بطلانها.
والمراد بالاستفهام استحضارها للشفاعة أو المدافعة على طريق الاستهزاء والتبكيت والاستفسار عن مكانهم لا يوجب غيبتهم حقيقة بل يكفي في ذلك عدم حضورهم بالعنوان الذي كانوا يزعمون أنهم متصفون به من عنوان الإلهية فليس هناك شركاء ولا أماكنها {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} من أهل الموقف وهم الأنبياء والمؤمنون الذين أوتوا علماً بدلائل التوحيد وكانوا يدعونهم في الدنيا إلى التوحيد فيجادلونهم ويتكبرون عليهم أي : يقولون توبيخاً لهم وإظهاراً للشماتة بهم.
{إِنَّ الْخِزْىَ} أي : الفضيحة والذل والهوان وبالفارسية (خواري ورسوايى) {الْيَوْمَ} متعلق بالخزي وإيراده للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك في عزة وشقاق {وَالسُّواءَ} أي : العذاب {عَلَى الْكَـافِرِينَ} بالله تعالى وبآياته ورسله وهو قصر للجنس الادعائي كأن ما يكون من الذل وهو العذاب لعصاة المؤمنين لعدم بقائه ليس من ذلك الجنس.
جزء : 5 رقم الصفحة : 25
{الَّذِينَ تَتَوَفَّـاـاهُمُ الملائكة} في محل الجر على أنه نعت للكافرين وفائدة تخصيص الخزي والسوء بمن استمر كفره إلى حين الموت دون من آمن منهم ولو في آخر عمره أي : على الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن تتوفاهم الملائكة أي : يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه.
{ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} أي : حال كونهم مستمرين على الكفر والاستكبار فإنه ظلم منهم على أنفسهم وأي ظلم حيث عرضوها للعذاب المخلد بوضعها بالاستكبار على الملك الجبار غير موضعها وبدلوا فطرة الله تبديلاً {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} عطف على قوله تعالى : {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ} والسلم بالتحريك الاستسلام أي : فيلقون الاستسلام والانقياد في الآخرة حين عاينوا العذاب ويتركون المشاقة وينزلون عما كانوا عليه في الدنيا من التكبر والعلو وشدة الشكيمة قائلين {مَا كُنَّا نَعْمَلُ} في الدنيا {مِن سُواء} أي : من شرك قالوه منكرين لصدوره عنهم قصداً لتخليص نفوسهم من العذاب {بَلَى} رد عليهم من قبل أولى العلم وإثبات لما نفوه أي : بلى كنتم تعملون ما تعملون {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فهو يجازيكم عليه وهذا أوانه فلا يفيد إنكاركم وكذبكم على أنفسكم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 28
{فَادْخُلُوا} الفاء للتعقيب {أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} أي : كل صنف بابه المعدّ له {خَـالِدِينَ فِيهَا} أن أريد بالدخول حدوثه فالحال مقدّرة
28
(5/21)
وإن أريد مطلق الكون فيها فمقارنة {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} الفاء عطف على فاء التعقيب واللام للتأكيد تجري مجرى القسم والمثوى المنزل والمقام والمخصوص بالذم محذوف وهو جهنم ، والمعنى بالفارسية : (س هر آينه بد مقامي وبد آرامكاهيست متكبرانرا جهنم) وذكرهم بعنوان الكبر للإشعار بعليته لثوآئهم فيها أي : إقامتهم والمراد المتكبر عن التوحيد أو كل متكبر من المشركين والمسلمين.
قال حضرة الشيخ على السمرقندي قدس سره في تفسيره المسمى "بحر العلوم" التكبر ينقسم على ثلاثة أقسام.
التكبر على الله وهو أخبث أنواع الكبر وأقبحها وما منشأه إلا الجهل المحض.
ثم التكبر على الرسل من تعزز النفس وترفعها عن الانقياد لبشر مثل سائر الناس وهذا كالتكبر على الله تعالى في القيامة واستحقاق العذاب السرمدي.
والثالث التكبر على العباد وهو بأن يستعظم نفسه ويستحقر غيره فيأبى عن الانقياد لهم ويدعوه إلى الرفع عليهم فيزدريهم ويستصغرهم ويستنكف عن مساواتهم وهو أيضاً قبيح وصاحبه جاهل كبير يستأهل سخطاً عظيماً لو لم يتب وإن كان دون الأولين للدخول تحت عموم قوله : {مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} وأيضاً من تكبر على أحد من عباد الله فقد نازع الله في ردائه وفي صفة من صفاته.
قال أبو صالح حمدان بن أحمد القصار رحمة الله عليه : من ظن أن نفسه خير من نفس فرعون فقد أظهر الكبر ، وفي "المثنوي" :
آنه در فرعون بوداندر توهست
ليك ازدرهات محبوس هست
آتشت را هيزم فرعون نيست
زانكه ون فرعون اوراعون نيست
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال : إني آمركما باثنين وأنهاكما عن اثنين آمركما بلا اله إلا الله فلو أن السموات السبع والأرضين السبع وضعن في كفة ولا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن ولو أن السموات السبع والأرضين السبع حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله وآمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل نبي بها يرزق الخلق وأنهاكما عن الكفر والكبر".
{وَقِيلَ} :
جزء : 5 رقم الصفحة : 28
ـ روي ـ أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام موسم الحج من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا جاء الوافد كفه المقتسمون الذين اقتسموا طرق مكة وأمروه بالانصراف وقالوا : إن لم تلقه كان خيراً لك فإنه ساحر كاهن كذاب مجنون فيقول : أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه فيلقي أصحاب النبي عليه السلام فيخبرونه بصدقه فذلك قوله وقيل أي : من طرف الوافدين {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} عن الكفر والشرك وهم المؤمنون المخلصون {مَّاذَآ} أي : أي شيء فهو مفعول قوله : {أَنزَلَ رَبُّكُمْ} على محمد {قَالُوا} في جوابه أنزل {خَيْرًا} وفي تطبيق الجواب بالسؤال إشارة إلى أن الإنزال واقع وأنه نبي حق.
قال الكاشفي : (مراد ازخير قر آنست كه جامع جميع خيرات ومستجمع مجموع حسنات وبركات اوست ونيكوهاي ديني ودنياي وخوبيهاي صوري ومعنوي ناشى ازو).
{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا} أعمالهم وقالوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله فإنه أحسن الحسنات وهو كلام مستأنف جيىء به لمدح المتقين.
{فِى هَـاذِهِ} الدار {الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي : مثوبة حسنة مكافأة فيها بإحسانهم وهي عصمة
29
الدماء والأموال واستحقاق المدح والثناء والظفر على الأعداء وفتح أبواب المكاشفات والمشاهدات الذي من أوتيه فقد فاز بالقدح المعلى.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن من أحسن أعماله بالصالحات وأخلاقه بالحميدات وأحواله بالانقلاب عن الخلق إلى الخلق فله حسنة من الله وهو أن ينزله منازل الواصلين الكاملين في الدنيا {وَلَدَارُ الاخِرَةِ} أي : ولثوابهم فيها {خَيْرٌ} مما أوتوا في الدنيا من المثوبة أو دار الآخرة خير من الدنيا على الإطلاق فإن الآخرة كالجوهر والدنيا كالخزف وقيمة الجوهر أرفع من قيمة الخزف بل لا مناسبة بينهما أصلاً {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (وتيكو سرابيست مرر هيز كارانرا سراي آخرت).
قال الحسن دار المتقين الدنيا لأنهم منها يتزودون للآخرة.
يقول الفقير فيه مدح للدنيا باعتبار أنها متاع بلاغ فإنها باعتبار أنها متاع الغرور مذمومة كما قال في "المثنوي".
جزء : 5 رقم الصفحة : 28
يست دنيا ازخدا غافل شدن
تى قماش ونقر وميزان وزن
مال راكز بهر دين باشى حمول
نعم مال صالح خواندش ورسول
آب در كشتى هلاك كشتى است
آب اندر زير كشتى يشتى است
ونكه مال وملك را ازدل براند
زان سليمان خويش جز مسكين نخواند
كوزه يلاليته اندر آب رفت
از دل رباد فوق آب رفت
باد درويشي ودر باطن بود
بر سر آب جهان ساكن بود
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن للأتقياء الواصلين داراً غير دار الدنيا ودار الآخرة فدارهم مقعد الصدق في مقام العندية ونعم الدار.
(5/22)
{جَنَّـاتُ عَدْنٍ} عدن علم أي : لهم بساتين عدن حال كونهم {يَدْخُلُونَهَا} حال كونها {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} أي : من تحت منازلها الأنهار الأربعة على أن يكون المنبع فيها بشهادة من {لَهُمُ} خبر مقدم {فِيهَا} أي : في تلك الجنات حال من المبتدأ المؤخر وهو قوله : {مَا يَشَآءُونَ} ويحبون من أنواع المشتهيات.
قال البيضاوي في تقديم الظرف تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة.
يقول الفقير إن قلت هل يجوز للمرء أن يشتهي في الجنة اللواطة؟ وقد ذهب إليه من لا وقوف له على جلية الحال فالجواب أن الاشتهاء المذكور مخالف لحكمة الرب الغفور ولو جاز هو لجاز نكاح الأمهات فيها على تقدير الاشتهاء وأنه مما لا يستريب عاقل في بطلانه ألا ترى أن الذكور وكذا الزنى واللواطة والكذب ونحوها كان حراماً مؤبداً في الدنيا في جميع الأديان لكونه مما لا تقتضي الحكمة حله بخلاف الخمر ونحوها ولذا كانت هي أحد الأنهار الجارية فيها فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن لا يستطيب ما استخبثته الطباع السليمة.
قال الكاشفي : (ودر جواب كسى كه كويد شايد بهشتى خواهد كه بدرجات أنبيا ومنازل أوليا ومراتب شهدا برسد وكفته اند دربهشت غيظ وحسدكه موجب تمناها باشد نيست با آنكه هريك ازبهشتيان بآنه دارند راضى اند).
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن من الأتقياء من مشيئته الجنة ونعيمها ومن مشيئته العبور على الجنة والخروج إلى مقعد الصدق في مقام العندية فلهم ما يختارون من الجنة ومقعد الصدق {كَذَالِكَ} أي : مثل ذلك الجزاء الأوفى
30
{يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} أي : كل من يتقي عن الشرك والمعاصي.
جزء : 5 رقم الصفحة : 28
{الَّذِينَ تَتَوَفَّـاـاهُمُ الملائكة} نعت للمتقين أي : يقبض ملك الموت وأعوانه أرواحهم حال كونهم {طَيِّبِينَ} أي : طاهرين عن دنس الظلام لأنفسهم بتبديل فطرة الله.
وفائدته الإيذان بأن ملاك الأمر في التقوى هو الطهارة عما ذكر إلى وقت توفيهم.
ففيه حث للمؤمنين على ذلك ولغيرهم على تحصيله.
وقيل : طيبين بفيض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى جناب القدس جعلنا الله وإياكم منهم ، وفي "المثنوي" :
همنين باد أجل باعارفان
نرم وخوش همون نسيم يوسفان
وفي "التأويلات النجمية" أي : طيبي الأعمال عن دنس الشهوات والمخالفات.
وطيبي الأخلاق عن المذمومات الملوثة بالطبعيات دون الشرعيات.
وطيبي الأحوال عن وصمة ملاحظات الكونين {يَقُولُونَ} حال من الملائكة أي : قائلين لهم على وجه التعظيم والتبشير.
{سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ} لا يخيفكم بعد مكروه.
قال القرطبي : إذا استدعيت نفس المؤمن جاءه ملك الموت فقال : السلام عليك يا ولي الله الله يقرئك السلام وبشره بالجنة.
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} أي : جنات عدن فإنها معدة لكم فاللام للعهد والمراد دخولهم لها في وقته كما قال الكاشفي : (بعد ازسلام كويند فرداكه مبعوث شويد در آييد دربهشت كه براى شما آماده است) والقبر روضة من رياض الجنة ومقدمة لنعيمها ومن دخله على حسن الحال والأعمال فكأنه دخل جنته ووجد نعيماً لا يزول ولا يزال.
{بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بسبب ثباتكم على التقوى والطاعة والعمل وإن لم يكن موجباً للجنة لأن الدخول فيها محض فضل من الله إلا أن الباء دلت على أن الدرجات إنما تنال بالأعمال وصدق الأحوال فإن المراد من دخول الجنة إنما هو اقتسام المنازل بحسب الأعمال (وكفته اند) زرع يومك حصاد غدك :
بكوش امروز تا تخمى باشى
كه فردا بر جوى قادر نباشي
كر اينجا كشت كردن را نورزى
دران خرمن به از ارزن نيرزى
جزء : 5 رقم الصفحة : 28
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن دخول الجنة للأتقياء جزاء لإصلاح أعمالهم والعبور عليها جزاء لإصلاح أخلاقهم والخروج إلى مقعد الصدق جزاء لإصلاح أحوالهم فلكل متق مقام بحسب معاملته مع الله تعالى وفي الحديث : "عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة : النبيون والصديقون والشهداء يقول الله تعالى طوبى لمن دخلك".
قال في "بحر العلوم" المراد بالصديق كل من آمن بالله ورسله ولم يفرق بين أحد منهم بدليل قوله تعالى : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه أولئك هُمُ الصِّدِّيقُونَ} (الحديد : 19) ويدل عليه أيضاً الآية التي نحن فيها كما لا يخفى ويعضده قول النبي عليه السلام "الله تعالى بنى جنات عدن بيد قدرته وجعل ملاطها المسك وترابها وحصباءها اللؤلؤ لبنة من ذهب ولبنة من فضة وغرس غرسها بيد قدرته وقال لها : تكلمي قالت : قد أفلح المؤمنون فقال : طوبى لك منزل الملوك" وفي قولها : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون : 1) تنبيه على أن سكانها أهل الإيمان بالله ورسله انتهى.
يقول الفقير : لا شك أن أهل الإيمان كلهم يدخلون الجنة لكن بحسب تفاوت درجاتهم في مراتب
31
(5/23)
الإيمان تتفاوت منازلهم الجنانية فالفردوس وعدن للخواص ومن يلحق بهم وغيرهما للعوام وكمال الإيمان إنما يحصل بمكاشفة أسرار الملكوت ومشاهدة أنوار الجبروت وصاحبه الصديق الأكبر والدليل على ما قلنا قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} (الكهف : 107) فإنهم قد قالوا في التفسير إن أهلها هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وهو الوصف الزائد على مطلق الإيمان ولذا وعدوا بتلك الجنان إذ من كان أرفع مرتبة في الدنيا بحسب العلوم النافعة والأخلاق الفاضلة كان أعلى درجة في الجنة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 28
{هَلْ يَنظُرُونَ} (أيا انتظار ميبرند كفار مكه) أي ما ينتظرون {إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة} أي : ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم بالعذاب لمواظبتهم على الأسباب الموجبة له المؤدية إليه فكأنهم يقصدون إتيانه ويترصدون لوروده.
{أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي : العذاب الدنيوي وقد أتى يوم بدر {كَذَالِكَ} مثل فعل هؤلاء من الشرك والظلم والتكذيب والاستهزاء {فَعَلَ الَّذِينَ} خلوا {مِن قَبْلِهِمْ} من الإثم {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بما سيتلى من عذابهم {وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر والمعاصي المؤدية إليه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 32
{فَأَصَابَهُمْ} عطف على قوله فعل الذين من قبلهم.
والمعنى بالفارسية (رسيد ايشانرا بحكم عدل) {سَيِّـاَاتُ مَا عَمِلُوا} أي : أجزية أعمالهم السيئة على طريقة تسمية المسبب باسم سببه إيذاناً بفظاعته لا على حذف المضاف فإنه يوهم أن لهم أعمالاً غير سيآتهم.
{وَحَاقَ بِهِم} أي : أحاط بهم ونزل من الحيق الذي هو إحاطة الشر كما في "القاموس" الحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله {مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} من العذاب الموعود.
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي : أهل مكة {لَوْ شَآءَ اللَّهُ} عدم عبادتنا لشيء غيره {مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ} (بجز خداي تعالى) {مِن دُونِه مِن شَىْءٍ نَّحْنُ} الذين نقتدي بهم في ديننا {وَلا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ} (يجز خداي تعالى) {مِن شَىْءٍ} يعني : تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
ومذهب أهل السنة أن الكفر والمعاصي وسائر أفعال العباد بمشيئة الله وخلقه والكفار وإن قالوا الشرك وغيره بمشيئة الله لكنهم يستدلون بذلك على إباحة تحريم الحلال وسائر ما يرتكبون من المعاصي ويزعمون أن الشرك والمعاصي إذا كانت بمشيئة الله تعالى ليست معصية ولا عليها عذاب فهذا كلام حق أريد به الباطل فصار باطلاً.
وفي "المدارك" هذا الكلام صدر منهم استهزاء ولو قالوه اعتقاداً لكان صواباً انتهى (حسين بن فضل كفته كه اكر كفار اين سخن از روى تعظيم وإجلال ومعرفت الهى كفتندى حق سبحانه وتعالى ايشانرا بدان عيب نكردى) ، قال الحافظ :
درين من نكتم سرزنش بخود رويى
نانكه رورشم ميدهند ميرويم
وقال :
نقش مستورى ورندى نه بدست من وتست
آنه سلطان ازل كفت بكن آن كردم
يقول الفقير : فرق بين الجاهل الغافل المحجوب وبين العارف المتيقظ الواصل إلى المطلوب والأدب إسناد المقابح إلى النفس والمحاسن إلى الله تعالى فإنه توحيد أي توحيد {كَذَالِكَ} أي مثل ذلك الفعل الشنيع {فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم أي : أشركوا بالله وحرموا
32
حله وعصوا رسله وجادلوهم بالباطل حين نبهوهم على الخطأ وهدوهم إلى الحق {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ} (س هست برفر ستاد كان يعني نيست برايشان) {إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ} أي : ليست وظيفتهم إلا تبليغ الرسالة تبليغاً واضحاً واطلاع الخلق على بطلان الشرك وقبحه لا الجاءهم إلى قبول الحق وتنفيذ قولهم عليهم شاءوا أو أبوا.
جزء : 5 رقم الصفحة : 32
(5/24)
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم.
وبالفارسية (درميان هركر وهى).
{رَّسُولا} خاصاً بهم كما بعثناك {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أن مفسرة لبعثنا أي : قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله وحده.
{وَاجْتَنِبُوا الطَّـاغُوتَ} هو الشيطان وكل ما يدعوا إلى الضلال وذلك لإلزام الحجة وقطع المعذرة مع علمه أن منهم من لا يأتمر بالأوامر ولا يؤمن.
والطاغوت فعلوت من الطغيان كالجبروت والملكوت من الجبر والملك وأصله طغيوت فقدم اللام على العين وتاؤه زائدة دون التأنيث.
{فَمِنْهُم} أي : من تلك الأمم والفاء فصيحة أي : فبلغوا ما بعثوا به من الأمر بعبادة الله وحده واجتناب الطاغوت فتفرقوا فمنهم.
{مَّنْ هَدَى اللَّهُ} خلق فيه الاهتداء إلى الحق الذي هو عبادته واجتناب الطاغوت بعد صرف قدرتهم واختيارهم الجزئي إلى تحصيله.
{وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَـالَةُ} (كمر اهى بسبب خذلان الهى) أي : وجبت وثبتت إلى حين الموت لعناده وإصراره عليها وعدم صرف قدرته فلم يخلق فيه الاهتداء ولم يرد أن يطهر قلبه {فَسِيرُوا} سافروا يا معشر قريش إذ الكلام معهم {فِى الارْضِ فَانظُرُوا} في أكنافها وفي الفاء الموضوعة للتعقيب إشارة إلى وجوب المبادرة إلى النظر والاستدلال المؤديين إلى الإقلاع عن الضلال {كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} من عاد وثمود ومن سار بسيرتهم ممن حقت عليه الضلالة لعلكم تعتبرون حين تشاهدون من منازلهم وديارهم آثار الهلاك والعذاب {إِن تَحْرِصْ} يا محمد {عَلَى هُدَاـاهُمْ} أي : إن تطلب هداية قريش بجهدك.
وبالفارسية (اكرسخت كوشى وحرص ورزى) {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَن يُضِلُّ} أي : فاعلم أن الله لا يخلق الهداية جبراً وقهراً فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره.
{وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ} من ينصرهم برفع العذاب عنهم وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد إلى الآحاد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 32
واعلم أن سرّ بعثة الأنبياء عليهم السلام إلى الخلق أن يأمروهم بعبادة الله واجتناب طاغوت الهوى وما يعبدون من دون الله ويعلموهم كيفية العبادة الخالصة من الشوائب وكيفية الاجتناب عما سوى الله ليصلوا بهذين القدمين إلى حضرة الجلال كما قال بعضهم خطوتان وقد حصلت.
فالخطوة الأولى عبادة الله بالتوحيد وهو التوجه إلى الله تعالى بالكلية طلباً وشوقاً ومحبة.
والثانية الخروج عما سوى الله بالكلية صدقاً واجتهاداً بليغاً لينالوا ما نال من قال لربه ـ كلى بكلك مشغول فقال كلي لكلك مبذول ـ كما في "التأويلات النجمية".
فعلى العاقل أن يجتهد في طريق العبودية وهي رفض المشيئة لأن العبد لا مشيئة له لأنه لا يملك ضراً ولا نفعاً.
ـ وحكي ـ أن إبراهيم بن أدهم رحمه الله اشترى عبداً فقال له : أي شيء تأكل؟ قال : ما تطعمني؟ قال : أي شيء تعمل؟ قال : ما تستعملني قال : أي شيء لك إرادة؟ قال : وأين تبقى إرادة العبد في جنب إرادة سيده ثم راجع إبراهيم نفسه وقال : يا مسكين ما كنتفي عمرك ساعة مثل ما كان هذا لك في هذه الحالة؟ إن قلت الطاعة
33
راجحة أم ترك المخالفات.
قلت : الاحتماء غالب على المعالجة بالأدوية كما يفعله أهل الهند فإنهم يداوون مرضاهم بترك الأكل أياماً.
وقد قال أبو القاسم : لا تطلبوا الآخرة بالبذل والإيثار واطلبوا بالترك والكف.
وهذا عكس ما عليه أهل الزمان فإن عبادهم يأتون ما أمكن لهم من الطاعات وهم غرقى في بحر المخالفات إذ ليس لهم مبالاة في باب التروك فلو أنهم اقتصروا على الفرائض والواجبات واجتهدوا في باب الكف عن الرزائل والمخالفات لكان خيراً لهم ولذا قال في "المثنوي" :
بهر اين بعض صحابه از رسول
ملتمس بودند مكر نفس غول
كوه آميزدز أغراض نهان
در عبادتها ودر اخلاص جان
فضل طاعت را نجستندى ازو
عيب ظاهر را نجستندى كه كو
هو بمو و ذره ذرء مكر نفس
مى شناسيدند ون كل از كرفس
نسأل الله تعالى أن يهدينا إلى حق اليقين ويعصمنا من أعمال من قال في حقهم ومالهم من ناصرين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 32
(5/25)
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} الأقسام (سو كند خوردن) والقسم محركة اليمين بالله.
والمعنى بالفارسية (سوكند خوردند بخداى تعالى) عن أبي العالية كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا يعني : (دراثناء مكالمه كفت بدان خداى كه بعد ازمرك بلقاء او اميد وارم) فقال المشرك : إنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت (أي كفت تواميد وارى كه بعد ازمرك زنده شوى مسلمان كفت آرى آن كافر بايمان غلاظ وشدادكه دركيش او مقرر بود سوكند يا دكردكه هيكس بعد ازمرك زنده نشود) فانزل الله تعالى هذه الآية {جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ} (سخترين سوكند ايشان يعني جهد كردند در تغليظ سوكند).
يقال جهد الرجل في كذا كمنع جد فيه وبالغ واجتهد.
قال في "القاموس" وقوله تعالى : {جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ} أي : بالغوا في اليمين واجتهدوا انتهى.
مصدر في موقع الحال أي : جاهدين في أيمانهم أي : حلفوا بالله مبالغين في أيمانهم حتى بلغوا غاية شدتها ووكادتها.
وفي تفسير أبي الليث كل من حلفت بالله فهو جهد اليمين لأنهم كانوا يحلفون بالأصنام وبآبائهم ويسمون اليمين بالله جهد أيمانهم {لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ} مقسم عليه {بَلَى} إثبات لما بعد النفي أي بلى يبعثهم {وَعْدًا} أي : وعد بذلك وعداً ثابتاً {عَلَيْهِ} إنجازه لامتناع الخلف في وعد الله تعالى {حَقًّا} أي : حق حقاً {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أنهم يبعثون والقول بعدمه لجهلهم بشؤون الله تعالى من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال وبما يجوز عليه وما لا يجوز وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه.
{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} عبارة عن إظهار ما كان مبهماً قبل ذلك أي : يبعث الله كل من يموت مؤمناً كان أو كافراً ليبين لهم الشأن {الَّذِى يَخْتَلِفُونَ} مع المؤمنين {فِيهِ} من الحق المنتظم للبعث والجزاء وجميع ما خالفوه مما جاء به الشرع المبين والمؤمنون وإن كانوا عالمين بذلك عند معاينة حقيقة الحال يتضح الأمر فيصل علمهم إلى مرتبة عين اليقين لأنه يحصل لهم مشاهدة الأحوال كما هي ومعاينتها بصورة الحقيقية.
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله تعالى بالإشراك وإنكار البعث
34
وتكذيب وعده الحق عندما خرجوا من قبورهم {أَنَّهُمْ كَانُوا كَـاذِبِينَ} في قولهم لا يبعث الله من يموت ونحوه وهو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث المقتضى له من حيث الحكمة وهو التمييز بين الحق والباطل والمحق والمبطل بالثواب والعقاب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 32
{إِنَّمَآ} ما كافة {قَوْلُنَا} مبتدأ {لِشَىْءٍ} أي : أي شيء كان مما عز وهان متعلق بقولنا على أن اللام للتبليغ كهى في قولنا قلت له قم فقام.
فإن قلت فيه دليل على أن المعدوم شيء لأنه سماه قبل كونه.
قلت : التعبير عنه بذلك باعتبار وجوده عند تعلق مشيئته تعالى لا أنه كان شيئاً قبل ذلك.
وفي "التأويلات النجمية" : في الآية دلالة على أن المعدوم الذي في علم الله إيجاده قبل إيجاده بخلاف المعدوم الذي في علم الله عدمه أبداً {إِذَآ أَرَدْنَـاهُ} ظرف لقولنا أي وقت إرادتنا لوجوده {أَن نَّقُولَ لَه كُن} خبر للمبتدأ أي : أحدث لأنه من كان التامة بمعنى الحدوث التام {فَيَكُونُ} عطف على مقدر أي فنقول ذلك فيكون أو جواب لشرط محذوف أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون ويحدث عقيب ذلك وهذا الكلام مجاز عن سرعة الإيجاد وسهولته على الله وتمثيل الغائب وهو تأثير قدرته في المراد بالشاهد وهو أمر المطاع للمطيع في حصول المأمور به من غير امتناع وتوقف ولا افتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة وليس هناك قول ولا مقول له ولا آمر ولا مأمور حتى يقال إنه يلزم أحد المحالين إما خطاب المعدوم أو تحصيل الحاصل.
والمعنى أن إيجاد كل مقدور على الله بهذه السهولة فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من بعض المقدورات :
آنكه يش ازوجود جان بخشد
هم تواند كه بعد ازان بخشد
ون در آورد ازعدم بوجود
ه عجب بازاكر كند موجود
(5/26)
وذهب فخر الإسلام وغيره إلى أن حقيقة الكلام مرادة بأن أجرى الله سنته في تكوين الأشياء أن يكوّنها بهذه الكلمة إذ لم يمتنع تكوينها بغيرها.
والمعنى يقول له أحدث فيحدث عقيب هذا القول لكن المراد هو الكلام النفسي المنزه عن الحروف والأصوات لا الكلام اللفظي المركب منهما لأنه حادث يستحيل قيامه بذاته تعالى.
يقول الفقير : أفادني شيخي وسندي روح الله روحه في قوله عليه السلام : "إن الله فرد يحب الفرد" إن مقام الفردية يقتضي التثليث فهو ذات وصفة وفعل وأمر الإيجاد يبني على ذلك وإليه الإشارة بقوله تعالى : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} فهو ذات وإرادة وقول والقول مقلوبه بعد الإعلال اللقا فليس عند الحقيقة هناك قول وإنما هو لقاء الموجد اسم فاعل بالموجد اسم مفعول وسريان هويته إليه وظهور صفته وفعله فيه فافهم هذه الدقيقة.
قال الروح ينزل بالمطر وله تعين في كل نشأة بما يناسب حاله فعند تمام الخلقة في الرحم ينفخ الله تعالى الروح وهو عبارة عن تعين الروح وظهوره كظهور النار من غير إيقاد ولكن عبر عنه بالنفخ تفخيماً لأن العقل قاصر عن دركه ولذا قال العلماء : لا يبحث عن ذات الباري تعالى وكيفية تعلق القدرة بالمعدومات وكيفية العذاب بعد الموت.
جزء : 5 رقم الصفحة : 32
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ} أي : في شأن الله ورضاه وفي حقه والتمكين من طاعته ولوجهه {مِنْا بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} هم الذين ظلمهم أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأخرجوهم من ديارهم فهاجروا إلى الحبشة ثم إلى المدنية فجمعوا بين الهجرتين
35
لا المهاجرون مطلقاً فإن السورة مكية.
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رأى ما نزل بالمسلمين من توالي الأذى عليهم من كفار قريش قال لهم : "تفرقوا في الأرض فإن الله سيجمعكم" قالوا : إلى أين نذهب؟ قال : "اخرجوا إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً عظيماً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه" فهاجر إليها ناس ذو عدد قال بعضهم كانوا فوق ثمانين مخافة الفتنة فراراً إلى الله تعالى بدينهم منهم من هاجر إلى الله بأهله كعثمان بن عفان رضي الله عنه هاجر ومعه زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلّم وكان أول خارج ومنهم من هاجر بنفسه وفي الحديث "من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب له الجنة وكان رفيق أبيه خليل الله إبراهيم ونبيه محمد عليهما السلام" {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} لننزلنهم {فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي : مباءة حسنة وهي المدينة المنورة حيث آواهم أهلها ونصروهم.
يقال بوأه منزلاً أنزله والمباءة المنزل فهي منصوبة على الظرفية أو على أنها مفعول ثان إن كان لنبوئنهم في معنى لنعطينهم {وَلاجْرُ الاخِرَةِ} المعد لهم في مقابلة الهجرة {أَكْبَرُ} مما يعجل لهم في الدنيا.
في "المدارك" الوقف لازم عليه لأن جواب قوله {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} محذوف والضمير للكفار أي : لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم في الدين ويجوز أن يعود إلى المؤمنين المهاجرين فإنهم لو علموا علم المشاهدة لازدادوا في المجاهدة والصبر وأحبوا الموت وليس الخبر كالمعاينة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 32
{الَّذِينَ} أي : المهاجرون هم الذين {صَبَرُوا} على مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤوسهم.
ـ روي ـ أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما توجه مهاجراً إلى المدينة وقف ونظر إلى مكة وبكى وقال : "والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله تعالى وأكرمها على الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت" قال الهمام :
مشتاب ساربان كه مرا ى دركلست
در كردنم زحلقه زلفش سلاسلست
تعجيل ميكنى تو وايم نمى رود
بيرون شدن منزل أصحاب مشكلشت
ون عاقبت زصحبت ياران بريدنيست
يوند باكسى نكند هركه عاقلست
وكذا صبروا على مفارقة الأهل والشدائد من أذية الكفار وبذل الأرواح ونحو ذلك.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ} خاصة {يَتَوَكَّلُونَ} منقطعين إليه معرضين عما سواه مفوضين إليه الأمر كله والمعنى على المضي والتعبير بصيغة المضارع لاستحضار صورة توكلهم البديعة.
(5/27)
والإشارة {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ} بالأبدان عما نهى الله عنه بالشريعة وهاجروا بالله بالقلوب عن الحظوظ الأخروية برعاية الطريقة وهاجروا إلى الله بالأرواح عن مقامات القربة ورؤية الكرامات بجذبات الحقيقة بل هاجروا عن الوجود المجازي مستهلكاً في بحر الوجود الحقيقي حتى لم يبق لهم في الوجود سوى الله من بعدما ردوا إلى أسفل السافلين لننزلنهم على أقرب القرب في حال حياتهم ولأجر الآخرة أي : بعد الخروج من الدنيا والخلاص من حبس أوصاف البشرية وتلوثها بها أكبر أي : أعظم وأجل وأصفى وأهنى وأمرى مما كان لهم من حسنات الدنيا لو كانوا
36
يعلمون قدره ويؤدون شكره الذين صبروا على الائتمار بالأوامر وعلى الانتهاء عن النواهي بل صبروا على المجاهدات والمكابدات لنيل المشاهدات والمواصلات {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} صبروا بالله في طلبه وتوكلوا على الله في وجدانه فبالصبر ساروا وبالتوكل طاروا ثم في الله حاروا حيرة لا نهاية لها إلى الأبد كما في "التأويلات النجمية".
جزء : 5 رقم الصفحة : 36
اعلم أن من توكل على الله وانقطع إليه كفاه الله كل مؤونه ومن انقطع إلى الدنيا وأهلها لا يتم أمره فإن أهل الدنيا لا تقدر على النفع وإيصال الخير ما لم يرد الله.
قال أبو سعيد الخراز قدس سره أقمنا بمكة ثلاثة أيام لم نأكل شيئاً وكان بحذائنا فقير معه ركوة مغطاة بحشيش وربما أراه يأكل خبزاً حواري فقلت له : نحن ضيفك فقال : نعم فلما كان وقت العشاء مسح يده على سارية فناولني درهمين فاشترينا خبزاً فقلت : بم وصلت إلى ذلك فقال : يا أبا سعيد بحرف واحد تخرج قدر الخلق من قلبك تصل إلى حاجتك.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا} وذلك أن مشركي قريش لما بلغهم النبي صلى الله عليه وسلّم الرسالة ودعاهم إلى عبادة الله تعالى أنكروا ذلك وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً ولو أراد أن يبعث إلينا رسولاً لبعث من الملائكة الذين عنده فنزل قوله تعالى وما أرسلنا {مِن قَبْلِكَ} أي : الأمم الماضية {إِلا رِجَالا} آدميين لا ملكاً وقوله تعالى : {جَاعِلِ الملائكة رُسُلا} (فاطر : 1) أي : إلى الملائكة أو إلى الأنبياء ولا امرأة إذ مبني حالها على الستر والنبوة تقتضي الظهور ولا صبياً ونبوة عيسى في المهد لا تنافيه إذ الرسالة أخص.
قال ابن الجوزي اشتراط الأربعين في حق الأنبياء ليس بشيء.
{نُّوحِى إِلَيْهِمْ} على ألسنة الملائكة في الأغلب وأكثر الأمر وفيه إشارة إلى أن الرسالة والنبوة والولاية لا تسكن إلا في قلوب الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا يبيع عن ذكر الله :
نه هركس سزاوار باشد بصدر
كرامت بفضلست ورتبت بقدر
{فسْـاَلُوا} أي : فإن شككتم في ذلك فاسألوا يا معشر قريش {أَهْلَ الذِّكْرِ} علماء أهل الكتاب ليخبروكم أن الله تعالى لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشراً وكانوا يشاورونهم في بعض الأمور ولذلك أحالهم إلى هؤلاء للإلزام {إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ذلك.
وفي الآية إشارة إلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم.
وسئل الإمام الغزالي رحمه الله : من أين حصل لك الإحاطة بالعلوم أصولها وفروعها فتلا هذه الآية أي : أفاد أن ذلك العلم الكلي إنما حصل باستعلام المجهول من العلماء وترك العار وقد ورد (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها) يعني ينبغي للمؤمن أن يطلب الحكمة كما يطلب ضالته.
جزء : 5 رقم الصفحة : 36
{بِالْبَيِّنَـاتِ وَالزُّبُرِ} بالمعجزات والكتب والباء متعلقة بمقدر وقع جواباً عن سؤال من قال بم أرسلوا فقيل : أرسلوا بالبينات والزبر.
والبينات جمع بينة وهي الواضحة.
والزبر جمع زبور وهو الكتاب بمعنى المزبور أي : المكتوب {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ} أي : القرآن إنما سمي به لأنه تذكير وتنبيه للغافلين.
يعني أنه سبب الذكر فاطلق عليه المسبب {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} كافة العرب والعجم {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب حسب أعمالهم الموجبة لذلك على وجه التفصيل بياناً شافياً كما ينبىء عنه صيغة التفعيل في الفعلين
37
{وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} التفكر تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب أي وإاردة أن يجيلوا فيه أفكارهم فيتنبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترزوا عما يؤدي إلى مثل ما أصاب الأولين من العذاب.(5/28)
وفي "التأويلات النجمية" : ولعلهم أي : وفي إنزال الذكر إليك حكمة أخرى وهي لعل الناس يتفكرون فيما يسمعون من بيان القرآن والأحكام منك على أنك أمي ما قرأت الكتب المنزلة ولا تعلمت العلوم وإنما تبين لهم من نور الذكر فيلازمون الذكر ويواظبون عليه ليصلوا إلى مقام المذكورين في متابعتك ورعاية سنتك.
ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلّم عن جلاء القلب قال : "ذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة عليّ" ولا شك أن خير الأذكار كلمة التوحيد.
قال إبراهيم الخواص رحمه الله : دواء القلب خمسة : قراءة القرآن بالتدبر ، وخلاء البطن ، وقيام الليل ، والتضرع إلى الله عند السحر ، ومجالسة الصالحين.
وفي "أبكار الأفكار" أفضل الذكر قراءة القرآن فإنها أفضل من الدعوة الغير المأثورة.
وأما المأثورة فقيل : إنها أفضل منها وقيل : القراءة أفضل انتهى.
وفي "نفائس المجالس" مما يجب فيه التدبر والتذكر قوله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} (التوبة : 34) فالله تعالى أمر المؤمنين بالإيمان أي : بتكرار عقد القلب وتجديده كما ورد "جددوا إيمانكم بقول لا إله إلا الله".
قال بعض الكبار : قد علم بحديث التجديد أن الإيمان يقبل البلى وذلك بزوال الحب وتجديده بالتوحيد وكلمة التوحيد مركبة من النفي والإثبات فبنفي ما سوى المعبود وإثبات ما هو المقصود يصل الموحد إلى كمال الشهود وحصول ذلك بنور التلقين والكينونة التامة مع الصادقين كما قال تعالى : {وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} (التوبة : 119) والكينونة صورية وهي بملازمة أهل الصدق ومجالستهم ومعنوية وهي باتخاذ الأسرار وتحصيل المناسبة المعنوية فلا بد من الارتباط بواحد من الصادقين :
جزء : 5 رقم الصفحة : 36
زمن أي دوست اين يك ندبذير
برو فتراك صاحب دولتي كير
كه قطره تاصدف را درنيايد
نكردد كوهر وروشن نتابد
واعلم أن التبيين حق أهل الدعوة والإرشاد إذ ليس عليهم إلا البلاغ المبين والعمل بموجب الدعوة على العباد إذ ليس عليهم إلا قبول ما جاء من طرف النبي الأمين فإذا قبلوا ذلك ورجعوا في المشكلات إليه أو إلى وارث من ورثته الكمل علموا ما لم يعلموا ووصلوا إلى كمال العلم والعمل وحصلوا عند المقصود من نزول القرآن فطوبى لهم فلهم درجات الجنان ورؤية المنام.
{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّـاَاتِ} هم أهل مكة الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلّم وراموا صدّ أصحابه عن الإيمان واحتالوا في إبطال الإسلام والفاء عطف على مقدر والإنكار موجه إلى المعطوفين معاً.
والسيآت نعت لمصدر محذوف ، أي : ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا المكرات السيآت التي قصت عنهم أو مفعول به لمكروا على تضمينه معنى فعلوا أي : فعلوا السيآت وعملوا الكفر والمعاصي {أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الارْضَ} مفعول لأمن أي أن يغوّر بهم الأرض حتى يدخلوا فيها إلى الأرض السفلى كما فعل بقارون وأصحابه.
وبالفارسية (ازآنكه فرو برد خداى تعالى ايشاترا درزمين) ذكر الحافظ أن الكركي لا يطأ الأرض بقدميه بل بأحدهما فإذا وطئها لم يعتمد عليها خوفاً أن تخسف الأرض فإذا لم يأمن الطير من الخسف فما بال
38
الإنسان العاقل يمشي على الأرض وهو غافل {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} بإتيانه أي : في حال غفلتهم.
ديدى آن قهقه كبك خرامان حافظ
كه زسر نه شاهين قضا غافل بود
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ} التقلب (بركشتن) وفي "القاموس" تقلب في الأمور تصرف كيف شاء انتهى.
أي : في حالتي تقلبهم في مسايرتهم ومتاجرهم وأسباب دنياهم.
وقال سعدى المفتي : الظاهر أن المراد من قوله أو يأتيهم الخ حال نومهم وسكونهم ولا يلزم أن يكون من جانب السماء ومن الثانية إتيانه حال يقظتهم وتصرفهم كقوله تعالى : {فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَـاتًا أَوْ هُمْ قَآاـاِلُونَ} (الأعراف : 7) {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} بناجين من عذاب الله القهار سابقين قضاءه بالهرب والفرار على ما يوهمه التقلب والسير في الديار وفي الحديث : "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" أي : ليمهل ويطول عمره حتى يكثر منه الظلم ثم يأخذه أخذاً شديداً فإذا أخذه لم يتركه ولم يخلصه أحد من الله وفي الحديث تسلية للمظلوم ووعيد للظالم لئلا يغتر بإمهاله ، قال الشيخ سعدى قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 36
مها زور مندى مكن بر كهان
كه بريك نمط مى نماند جهان
نمى ترسى اى كرك ناقص خرد
كه روزى لنكيت برهم درد
(5/29)
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} قال في "القاموس" تخوف الشيء تنقصه ومنه أو يأخذهم على تخوف انتهى.
ولقي رجل أعرابياً فقال : يا فلان ما فعل دينك فقال : تخوفته يعني تنقصته كما في تفسير أبي الليث.
والمعنى أو يأخذهم على أن ينقصهم شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا ولا يهلكهم في حالة واحدة فيكون المراد مما قبلها عذاب الاستئصال ومنها الأخذ شيئاً فشيئاً والمراد بذكر الأحوال الثلاث بيان قدرة الله تعالى على إهلاكهم بأي وجه كان لا الحصر فيها {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُافٌ رَّحِيمٌ} حيث لا يعاجلكم بالعقوبة ويحلم عنكم مع استحقاقكم لها والمعنى أنه إذا لم يأخذكم مع ما فيه فإنما رأفته تقيكم ورحمته تحميكم.
وفي "التأويلات النجمية" رؤف بالعباد إذ أعطاهم حسن الاستعداد رحيم عليهم عند إفساد استعدادهم بالمعاصي بأن لا يأخذهم في الحال ويتوب عليهم في المآل ويقبل توبتهم بالفضل والنوال ومن المعاصي التقلب من أعمال الدنيا إلى أعمال الآخرة بالرياء أو من أعمال الآخرة إلى أعمال الدنيا بالهوى وعذابه الرد من حرم القبول والرجع من درجات الوصول.
فعلى العاقل التيقظ في الأمور وترك السيآت والشرور فإنه لا يشعر من أين يأتي العذاب من قبل الأعمال الدنيوية أو من قبل الأعمال الأخروية ومن جهل المريد بنفسه وبحق ربه أن يسيىء الأدب بإظهار دعوى مثلاً فتؤخر لعقوبة عنه إمهالاً له فيظنه أهمالاف فيقول : لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد وأوجب الإبعاد اعتباراً بظاهر الأمر وما ذلك إلا لفقد نور بصيرته أو ضعف نورها وإلا فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر حتى ربما ظن أنه متوفر في عين تقصير ولو لم يكن من قطع المدد إلا منع المزيد لكان قطعاً لأن من لم يكن في زيادة فهو في نقصان.
قال بعضهم : الزم الأدب ظاهراً وباطناً فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهراً ولا أساء أحد الأدب في الباطن إلا عوقب باطناً من ضيع الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب ومردود من حيث
39
يظن القبول.
وقال رويم لابن خفيف : اجعل عملك ملحاً وأدبك دقيقاً ، وفي "المثنوي" :
ازخدا جوييم توفيق وأدب
بي أدب محروم كشت از لطف رب
بي أدب تنهانه خودرا داشت بد
جزء : 5 رقم الصفحة : 36
بلكه آتش درهمه آفاق زد
هركه نامردى كنددر راه دوست
رهزن مردان شدونا مرد اوست
اللهم اجعلنا من المتأدبين بآداب حبيبك وأصحابك إلى يوم السؤال وجوابه {أَوَلَمْ يَرَوْا} الهمزة للإنكار وهي داخلة في الحقيقة على النفي وإنكار النفي نفى له ونفى النفي إثبات.
والرؤية هي البصرية المؤدية إلى التفكر والضمير لكفار مكة أي : ألم ينظروا ولم يروا {إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ} أي : قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما لهم لم يتفكروا فيه ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه {مِن شَىْءٍ} بيان لما الموصولة أي : من كل شيء {يَتَفَيَّؤُا ظِلَـالُهُ} أي : ترجع شيئاً فشيئاً من جانب إلى جانب وتدور من موضع إلى موضع حسبما تقتضيه إرادة الخالق فإن التفيىء مطاوع الافاءة.
قال في "تهذيب المصادر" : التفيىء (باز آدن سايه بعد از انتصاف النهار) ولا يكون التفيىء إلا بالعشي قال الله تعالى : {يَتَفَيَّؤُا ظِلَـالُهُ} انتهى.
والظلال جمع الظل وهو بالفارسية (سايه) والجملة صفة لشيء.
قال في "الإرشاد" : ولعل المراد بالموصول الجمادات من الجبال والأشجار والأحجار التي لا يظهر لظلالها أثر سوى التفيىء بارتفاع الشمس وانحدارها وأما الحيوان فظله يتحرك بتحركه.
وفي "التبيان" يريد به الشجر والنبات وكل جسم قائم له ظل {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَآاـاِلِ} متعلق بيتفيىء.
والشمائل جمع شمال.
بالجر ضد اليمين وبالفتح الريح التي مهبها بين مطلع الشمس وبنات نعش أو من مطلع النعش إلى مسقط النسر الطائر كما في "القاموس" أي : ألم يروا الأشياء التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها أي : عن جانبي كل واحد منها وشقيه.
وفي "التبيان" أي في أول النهار عن اليمين وفي آخره عن الشمال يعني من جانب إلى جانب إذا كنت متوجهاً إلى القبلة استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء وتوحيد اليمين وجمع الشمائل لأن مذهب العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن يلغي واحد ويكتفي باأحدهما كقوله تعالى : {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَـارِهِمْ} (البقرة : 7) وقوله تعالى : {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} (البقرة : 57) كذا في "الأسئلة المقحمة".
جزء : 5 رقم الصفحة : 36
(5/30)
والإشارة أن المخلوقات على نوعين.
منها ما خلق من شيء كعالم الخلق وهو عالم الأجسام.
ومنها ما خلق من غير شيء كعالم الأمر وهو عالم الأرواح كما قال تعالى : {خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـاًا} (مريم : 9) يعني خلقت روحك من قبل خلق جسدك ومنه قوله عليه السلام "إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام" كذا في "التأويلات النجمية" {سُجَّدًا} أي : حال كون تلك الظلال ساجديندائرين على مراد الله في الامتداد والتقلص وغيرهما غير ممتنعة عليه فيما سخرها له في التفيىء {وَهُمْ دَاخِرُونَ} يقال : دخر كمنع وفرح دخوراً ودخراً صغر وذل وادخره كما في "القاموس" وهو حال من الضمير في ظلاله والجمع باعتبار المعنى إذ المراد ظلال كل شيء وإيراد صيغة الخاصة بالعقلاء لأن الدخور من خصائصهم أو لأن من جملة ذلك من يعقل
40
فغلب.
والمعنى ترجع الظلال من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارها منقادة لما قدر لها من التفيىء والحال أن أصحابها من الأجرام داخرة أي : صاغرة منقادة لحكمه تعالى ووصفها بالدخور مغن عن وصف ظلالها به وبعدما بين سجود الظلال من الأجرام السفلية الثابتة في أحيازها ودخورها له سبحانه شرع في بيان سجود المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أم لا فقيل : {يَسْجُدُ} أي : له تعالى وحده ويخضع وينقاد لا لشيء غيره استقلالاً واشتراكاً فالقصر ينتظم القلب والإفراد {مَا فِي السَّمَـاوَاتِ} من العلويات قاطبة ودخل فيه الشمس والقمر والنجوم {وَمَا فِى الأرْضِ} كائناً ما كان {مِن دَآبَّةٍ} بيان لما في الأرض فإن قوله تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} يدل على اختصاص الدابة بما في الأرض لأن ما في السماء لا يخلق بطريق التولد وليس لهم دبيب بل لهم أجنحة يطيرون بها.
يقول الفقير : الظاهر أن الطيران لا ينافي الدبيب وقد نقل أن في السماء خلقاً يدبون ودبيبه لا يستلزم كونه مخلوقاً من الماء المعهود إذ من الماء كل شيء حي فيكون من دابة بياناً لما في السماء والأرض وما عام للعقلاء وغيرهم.
وفي "الأسئلة المقحمة" أن ما لا يعقل أكثر عدداً ممن يعقل فغلب جانب ما لا يعقل لأنه أكثر عدداً {والملائكة} عطف على ما في السموات عطف جبريل على الملائكة تعظيماً وإجلالاً {وَهُمْ} أي : والحال أن الملائكة مع علو شأنهم {لا يَسْتَكْبِرُونَ} لا يتعظمون عن عبادته والسجود له بل يتذللون فكل شيء بين يدي صانعه ساجد بسجود يلائم حاله كما أن كل شيء يسبح بحمده تسبيحاً يلائم حاله فتسبيح بعضهم بلسان القال وتسبيح بعضهم بلسان الحال والله يعلم لسان حالهم كما يعلم لسان قالهم ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 36
ون مسبح كرده هر يزرا
ذات بي تمييز وباتمييز را
هر يكى تسبيح بر نوع دكر
كويد او ازحال آن اين بى خبر
آدمي منكر ز تسبيح جماد
وان جماد اندر عبادت او ستاد
واعلم أن الله تعالى أعطى لكل شيء من أصناف المخلوقات من الحيوانات إلى الجمادات سمعاً وبصراً ولساناً وفهماً به يسمع كلام الحق ويبصر شواهد الحق ويكلم الحق ويفهم إشارة الحق كما أخبر الله تعالى عن حال السموات والأرض وهما في العدم أعطاهما سمعاً به سمعتا قوله ائتيا طوعاً أو كرهاً وأعطاهما فهما به فهمتا كلامه وأعطاهما لساناً به قالتا أتينا طائعين فكل شيء يسبح الله بذلك اللسان ويسجد له بذلك الطوع.
فمن هذا اللسان الملكوتي معجزة النبي عليه السلام كانت الحصى تسبح في يده.
وكذلك الأحجار الثلاثة كلمت داود عليه السلام واوّبت الجبال معه ولما قال الله تعالى : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء : 44) فلا يبعد أن يسجدكل شيء وإن لم نفقه سجوده.
قال الكاشفي : (درين آيت سجده بايد كرد واين سجده سوم است از سجدهاى قرآني.
وحضرت شيخ قدس سره در فتوحات اين را سجود عالم بالا وادنا خوانده كه در مقام دلت خوف حق را سجده مى كنند س بنده بايدكه درين محل بدين صفت موسوم شود خودرا بزمره ساجدان كنجايش دهد) {يَخَافُونَ رَبَّهُم} أي : مالك أمرهم والجملة حال من الضمير في لا يستكبرون.
{مِن فَوْقِهِمْ} أي :
41
يخافونه تعالى خوف هيبة وإجلال وهو فوقهم بالقهر لقوله تعالى : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (الأنعام : 18) فهو حال من ربهم.
قال في "التبيان" عند قوله : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} يعني الغالب عباده وفوق صلته انتهى.
أو يخافون أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم فهو متعلق بيخافون.(5/31)
قال في "التأويلات النجمية" : معنى {يَخَافُونَ رَبَّهُم} أي : يأتيهم العذاب {مِن فَوْقِهِمْ} إن عصوه {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي : ما يأمرهم الخالق من الطاعات والتدبيرات من غير تثاقل عنه وتوان فيه وفيه أن الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي والوعد والوعيد وبين الخوف والرجاء وفي الحديث "إنملائكة في السماء السابعة سجد منذ خلقهم الله إلى يوم القيامة ترعد فرائصهم من مخافة الله فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا ما عبدناك حق عبادك" كذا في "تفسير أبي الليث".
جزء : 5 رقم الصفحة : 36
ويقال من لسان الإشارة أن الأمطار والمياه دموع الملائكة والأرض فهم يخافون الله تعالى بقدر ما وسعهم من معرفة جلاله فما بال الإنسان يمشي آمناً ضاحكاً مع سوء حاله والله الهادي.
جزء : 5 رقم الصفحة : 36
{وَقَالَ اللَّهُ} لجميع المكلفين {لا تَتَّخِذُوا إِلَـاهَيْنِ اثْنَيْنِ} تأكيد {إِنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} لا شريك له ولا شبيه :
از همه در صفات ذات خدا
ليس شيء كمثله أبداً
{فَإِيَّـايَ} لا غيري {فَارْهَبُونِ} .
خافون {وَلَهُ الدِّينُ} أي : الطاعة والانقياد من كل شيء من السموات والأرض وما بينهما {وَاصِبًا} حال من الدين أي : واجباً ثابتاً لا زوال له لأنه الاله وحده الواجب أن يرهب منه يقال وصب يصب وصوباً أي : دام وثبت.
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر أي : أبعد العلم بما ذكر من التوحيد واختصاص الكل به خلقاً وملكاً غير الله تطيعون فتتقون.
{وَمَا بِكُم} أي : أيُّ شيء يلابسكم ويصاحبكم {مِّن نِّعْمَةٍ} أي : نعمة كانت كالغني وصحة الجسم والخصب ونحوها {فَمِنَ اللَّهِ} فهي من قبل الله فما شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط باعتبار الاخبار دون الحصول فإن ملابسة النعمة بهم سبب للأخبار بأنها منه تعالى لا لحصولها منه {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} أي : الفقر والبلاء في جسدكم والقحط ونحوها مساساً يسيراً.
{وَمَا بِكُم} تتضرعون في كشفه لا إلى غيره.
والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 42
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا} (ناكاه) {فَرِيقٌ مِّنكُم} وهم كفاركم {بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} .
{لِيَكْفُرُوا} بعبادة غيره {لِيَكْفُرُوا بِمَآ} من نعمة الكشف عنهم كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة ففي اللام استعارة تبعية وقوله ليكفروا من الكفران وقيل اللام لام العاقبة {فَتَمَتَّعُوا} بقية آجالكم أي : فعيشوا وانتفعوا بمتاع الحياة الدنيا أياماً قليلة وهو أمر تهديد {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب.
وفي الآيات إشارات : منها أن أكثر الخلق اتخذوا مع الله إلهاً آخر وهو الهوى وهو ما يميل إليه الطبع وتهواه النفس بمجرد الاشتهاء من غير سند مقبول ودليل معقول قال تعالى : {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} فلهذا قال : {إِلَـاهَيْنِ} وما قال آلهة لأنه ما عبد إلهاً آخر إلا بالهوى ولذلك قال صلى الله عليه وسلّم "ما عُبِدَ إله
42
أبغض على الله من الهوى" فقال : {إِنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} أي : الذي خلق الهوى وسائر الآلهة {فَإِيَّـايَ فَارْهَبُونِ} فإني أنا الذي يستحق أن يرغب إليه ويرهب منه لا الهوى والآلهة فإنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر.
وعن بعضهم قال : انكسرت بنا السفينة وبقيت أنا وامرأتي على لوح وقد ولدت في تلك الحالة صبية فصاحت بي وقالت : يقتلني العطش فقلت : هوذا يرى حالنا فرفعت رأسي فإذا رجل في الهواء جالس وفي يده سلسلة من ذهب فيها كوز من ياقوت أحمر فقال : هاك اشربا فأخذت الكوز وشربنا منه فإذا هو أطيب رائحة من المسك وأبرد من الثلج وأحلى من العسل فقلت : من أنت؟ يرحمك الله فقال : عبد لمولاك فقلت : بم وصلت إلى هذا؟ قال : تركت الهوى لمرضاته فاجلسني على الهواء ثم غاب عني فلم أره رضي الله عنه.
ومن الإشارات أن كاشف الضر هو الله تعالى فمن أراد كشفه عن الأسباب لا عن المسبب فقد أشرك ألا ترى أن وكيل السلطان إذا قضى لك حاجة فأنت وإن كنت شاكراً لفعله ولكن إنما تدعو في الحقيقة للسلطان حيث قلد العمل لمثل هذا فحاجتك إنما قضيت في الحقيقة من قبل السلطان من حيث أن فعل هذا خلف حجاب الأسباب لا بالأسباب فافهم.
ومنها أن الكفران سبب لزوال النعمة ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 42
باشد آن كفران نعمت در مثال
كه كنى با محسن خود توجدال
كه نمى آيد مرا اين نيكوئى
من بر نجم زين ه رنجه ميشوى
لطف كن اين نيكو ئى رادور كن
من نخواهم عاقبت رنجور كن
نسأل الله العصمة من الكفار وعذابه.
(5/32)
{وَيَجْعَلُونَ} أي : كفار مكة {لِمَا لا يَعْلَمُونَ} أي : للأصنام التي لا يعلم الكفار حقيقتها وقدرها الخسيس ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله تعالى {نَصِيبًا} (بهره) {مِّمَّا رَزَقْنَـاهُمْ} من الزرع والأنعام وغيرهما تقرباً إليها فقالوا : هذابزعمهم وهذا لشركائنا وهو مذكور في الأنعام ويحتمل أن يعود ضمير لا يعلمون إلى الأصنام وصيغة جميع العقلاء لكون ما عبارة عن آلهتهم التي وصفوها بصفات العقلاء أي : الأشياء التي غير موصوفة بالعلم ولا تشعر أجعلوا لها نصيباً وحظاً في أنعامهم وزروعهم أم لا {وَيَجْعَلُونَ لِمَا} سؤال توبيخ وتقريع {عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} في الدنيا بأنها آلهة حقيقة بأن يتقرب إليها.
وفيه إشارة إلى أن أصحاب النفوس والأهواء يجعلون مما رزقهم الله من الطاعات نصيباً بالرياء لمن لا علم لهم بأحوالهم ليحسنوا في حقهم ظناً ويكتسبوا عندهم منزلة وهم غافلون فارغون عن توهمهم وافترائهم في نفوسهم عليهم :
بروى ريا خرقه سهلست دوخت
كرش باخدا درتوانى فروخت
هم خزاعة وكنانة كانوا يقولون الملائكة بنات الله (وسخن بعضى از كفار اين بود كه حق تعالى باجن مصاهرت كرد وملائكة متولد شد نعوذ بالله) {سُبْحَـانَهُ} (اكست خداى از قول ايشان كه ميكويند خداى تعالى دختران دارد) {وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} من البنين أي : يختارون لأنفسهم الأولاد الذكور ما مرفوعة المحل على أنها مبتدأ والظرف المقدم خبره والجملة حالية ثم وصف كراهتهم البنات لأنفسهم فقال :
43
جزء : 5 رقم الصفحة : 42
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالانثَى} البشارة بمعنى الأخبار على الوضع الأصلي والمضاف مقدر أي : أخبر بولادتها (يعني : ون كسى را از كافران خبر دهندكه ترا دخترى متولد شده).
{ظَلَّ وَجْهُهُ} أي : صار من الظلول بمعنى الصيرورة كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة بمعناها أو هو بمعناه يقال ظل يفعل كذا إذا فعله نهاراً أي : دام النهار كله لأن أكثر الوضع يتفق بالليل ويتأخر أخبار المولود إلى النهار وخصوصاً بالأنثى فيظل نهاره {مُسْوَدًّا} (سياه ازاندوه وغم وشرمندكى درميان قوم) واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام والتشوير وهو بالفارسية (خجل كردن) يقال شوربه فعل به فعلاً يستحيى منه فتشور {وَهُوَ كَظِيمٌ} مملوء غضباً على المرأة لأجل ولادتها الأنثى.
ومن هنا أخذ المعبرون من رأى أو رؤي له أن وجهه أسود فإن امرأته تلد أنثى.
{يَتَوَارَى} يستخفى {مِنَ الْقَوْمِ} (از كروه آشنايان وخويشان).
{مِن سُواءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} أي : من أجل سوء المبشر به ومن أجل تعييرهم والتعبير عنها بما "سقاطها عن درجة العقلاء.
{أَيُمْسِكُهُ} التذكير باعتبار ما أي متردداً في أمره ومحدثاً نفسه في شأنه أيمسك ذلك المولود ويتركه.
{عَلَى هُونٍ} ذل وهوان للعمل والاستقاء والخدمة فهو حال من المفعول أي : يمسكها مهانة ذليلة ويحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أي : يمسكها مع رضاه بهوان نفسه.
{أَمْ يَدُسُّهُ} يخفيه {فِى التُّرَابِ} بالوأد يعني : (زنده در كور كند ناه بنو تميم وبنو مضر ميكردند) ولقد بلغ بهم المقت إلى أن يهجر بعضهم البيت الذي فيه المرأة إذا ولدت أنثى {أَلا سَآءَ} (بدانيدكه بدست).
{مَا يَحْكُمُونَ} (آنه حكم ميكنند مشركان يعني دخترانرا كه يش ايشان قدر وحرمت نداند بخداى نسبت ميدهند) ويختارون لأنفسهم البنين فمدار الخطأ جعلهم ذلكمع إبائهم إياه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 44
{لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} ممن ذكرت قبائحهم {مَثَلُ السَّوْءِ} صفة السوء الذي هو كالمثل في القبح وهي الحاجة إلى الولد ليقوم مقامهم عند موتهم وإيثار الذكور للاستظهار بهم وودأ البنات لدفع العار وخشية الإملاق مع احتياجهم إليهن طلب النكاح المنادى كل ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ المنفور.
{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاعْلَى} أي : الصفة العجيبة الشأن التي هي مثل في العلو مطلقاً وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والوجود الواسع والنزاهة عن صفات المخلوقين.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} المتفرد بكمال القدرة لا سيما على مؤاخذتهم {الْحَكِيمُ} الذي يفعل كل ما يفعل بمقتضى الحكمة البالغة ومن حكمته أن خلق الذكور والإناث.
فعلى العاقل أن يستسلم لأمر الله تعالى وينقاد لحكمه فإن كل ظهور إنما هو منه تعالى وبإرادته والله تعالى إذا أراد شيئاً فليس للعبد أن يريد خلافه فإنه لا يكون أبداً ، قال الحافظ :
بدردوصاف ترا نيست حكم دم دركش
كه هره ساقىء ما كرد عين الطافست
(5/33)
وفي "الشرعة" : ويزداد فرحاً بالبنات مخالفة لأهل الجاهلية وفي الحديث "من بركة المرأة تبكيرها بالبنات" أي : يكون أول ولدها بنتاً ألم تسمع قوله تعالى : {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} (الشورى : 49) حيث بدأ بالاناث وفي الحديث "من ابتلى من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار" والابتلاء هو الامتحان لكن أكثر استعمال الابتلاء في المحن والبنات قد تعد
44
منها لأن غالب هوى الخلق في الذكور.
وفسر بعض شراح المصابيح الإحسان إليهن بالتزويج بالاكفاء لكن الاوجه أن يعمم.
قال بعض الفقهاء : لا يزوج بنته معتزلياً فإن اختلاف الاعتقاد بين السنى والبدعى كاختلاف الدين وشأن التقوى الاحتراز عن صحبة غير المجانس ومصاهرته :
آن يكى را صحبت اخيار يار
لا جرم شد هلوى فجار جار
وقال صلى الله عليه وسلّم "سألت الله أن فرزقني ولداً بلا مؤونة فلازقني البنات" وقال : "لا تكرهوا البنات فإني أبو البنات".
ومن لطائف "الروضة" سأل الحجاج بعض جلسائه عن أرق الصوت عندهم فقال أحدهم : ما سمعت صوتاً أرق من صوت قارىء حسن الصوت يقرأ كتاب الله في جوف الليل قال ذلك الحسن وقال آخر ما سمت صوتاً أعجب من أن أترك امرأتي ما خضا وأتوجه إلى المسجد بكيراً فيأتيني آت فيبشرني بغلام فقال : واحسناه فقال شعبة بن علقمة التميمي لا والله ما سمعت قط أعجب إلي من أن أكون جائعاً فاسمع خفخفة الخوان فقال الحجاج أبيتم يا بني تميم إلا الزاد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 44
أيها المحبوس في رهن الطعام
سوف تنجو إن تحملت الفطام
ون ملك تسبيح حق راكن غذا
تارهى همون ملائك از اذى
جزء : 5 رقم الصفحة : 44
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ} فاعل هنا بمعنى فعل {النَّاسَ} أي : الكفار {بِظُلْمِهِم} بكفرهم ومعاصيهم {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} أي : على الأرض المدلول عليها بالناس وبقوله : {مِن دَآبَّةٍ} لأنها ما يدب على الأرض والعرب تقول : فلان أفضل من عليها وفلان أرم من تحتها فيردون الكناية إلى الأرض والسماء من غير سبق ذكر لظهور الأمر بين يدي كل متكلم وسامع ومن هذا القبيل قولهم والذي شقهن خمساً من واحدة يعني الأصابع من اليد ولم يقل على ظهرها احترازاً عن الجمع بين الظاءين في كلام واحد وهو لو وجوابه فإنه ثقيل في كلام العرب.
والمعنى ما ترك على وجه الأرض من دابة قط بل أهلكها بالكلية بشؤم ظلم الظالمين كقوله تعالى : {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً} (الأنفال : 25) فهلاك الدواب بآجالها وهلاك الناس عقوبة.
وعن أبي هريرة أنه سمع رجلاً يقول : أن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال : بلى والله حتى أن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : لو عذب الله الخلائق بذنوب بني آدم لأصاب العذاب جميع الخلائق حتى الجعلان في جحرها ولأمسكت السماء عن الأمطار ولكن آخرهم بالعفو والفضل.
يقول الفقير : إن أثر الظلم ضار صورة ومعنى وذلك أن أحداً إذا أحرق بيته يسري ذلك إلى بيوت المحلة بل البلدة ويحترق بسببه الدواب والهوام.
بي أدب تنهانه خودرا داشت بد
جزء : 5 رقم الصفحة : 45
بلكه آتش درهمه آفاق زد
{وَلَـاكِنَّ} لا يؤاخذهم بذلك بل {يُؤَخِّرُهُمْ} يمهلهم بحلمه {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً} أي : معين لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا ويتناسلوا أو يكثر عذابهم {فَإِذَا جَآءَ} (س ون بيايد) {أَجَلُهُمْ} المسمى {لا يَسْتَـاَخِرُونَ} عن ذلك الأجل أي : لا يتأخرون.
وصيغة الاستفعال للاشعار بعجزهم عنه مع طلبهم له :
45
كه يك لحظه صورت نبندد امان
و يمانه رشد بدور زمان
{سَاعَةً} أقصر وقت وهي مثل في قلة المدة {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} أي : لا يتقدمون وإنما تعرض لذكره مع أنه لا يتصور الاستقدام عند مجيىء الأجل مبالغة في عدم الاستيخار بنظمه في سلك ما يمتنع.
(5/34)
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَـاتِ سُبْحَـانَه وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} أي : يثبتون له سبحانه وينسبون إليه في زعمهم {مَا يَكْرَهُونَ} لأنفسهم من البنات ومن الشرك في الرياسة مع ذلك {تَصِفُ} تقول {أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} مفعول تصف وهو {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} بدل الكل من الكذب أي : العاقبة الحسنى عند الله وهي الجنة إن كان البعث حقاً كقوله تعالى : {وَلَـاـاِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَه لَلْحُسْنَى} (فصلت : 50) فلا ينافي قولهم لا يبعث الله من يموت فإنه يكفي في صحته الفرض والتقدير.
وعن بعضهم أنه قال لرجل من الأغنياء : كيف تكون يوم القيامة إذا قال الله هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة وإذا قال ما دفع إليّ فيؤتى بالكسر والخرق وما لا مؤونة له أما تستحي من ذلك الموقف وقرأ هذه الآية {لا جَرَمَ} رد لكلامهم ذلك وإثبات لنقيضه وهو مصدر بمعنى حقاً.
وبالفارسية (حق نين است كه فردا قيامت) {أَنَّ لَهُمُ} مكان ما أملوا من الحسنى {النَّارَ} التي ليس وراءها عذاب وهي علم في السوء {وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ} أي : مقدمون إلى النار معجلون إليها من أفرطته إذا قدمته في طلب الماء أو منسيون متركون في النار من أفرطت فلاناً خلفي إذا خلفته ونسيته خلفك ثم سلى رسوله عما يناله من جهالات الكفرة ليصبر على أذاهم فقال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 45
{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ} أي : رسلاً إلى من تقدمك من الأمم فدعوهم إلى الحق فلم يجيبوا إلى ذلك.
{فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ} القبيحة من الكفر والتكذيب بالرسل فعكفوا عليها مصرين.
{فَهُوَ} أي الشيطان {وَلِيُّهُمُ} أي : قرينهم وبئس القرين {الْيَوْمَ} أي : يوم زين لهم الشيطان أعمالهم فيه على طريقة حكاية الحال الماضية أو في الدنيا تولى إضلالهم بالغرور فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا ويوم القيامة وهو عاجز عن نصر نفسه فكيف ينصر غيره فهذه حكاية حال آتية أي : في حال كونهم معذبين في النار والولي بمعنى الناصر.
يقول الفقير الظاهر أن المراد باليوم يوم النبي صلى الله عليه وسلّم وعصره وبالضمير في وليهم أعقابهم وأنسابهم من الكفرة المعاصرين والله أعلم.
{وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} هو عذاب النار.
{وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} أي : القرآن لعلة من العلل {إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ} أي : للناس {الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ} من التوحيد وأحوال المعاد والحلال والحرام والمراد بالمختلفين المؤمنون والكافرون كما في "الكواشي" {وَهُدًى وَرَحْمَةً} معطوفان على محل لتبين وانتصابهما لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب بخلاف التبيين فإنه فعل المخاطب لا فعل المنزل أي : وللهداية من الضلالة والرحمة من العذاب {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وتخصيصهم لأنهم المنتفعون بالقرآن.
قال سهل بن عبد الله : لا يتصل أحد بالله حتى يتصل بالقرآن ولا يتصل بالقرآن حتى يتصل بالرسول ولا يتصل بالرسول حتى يتصل بالأركان التي قام بها الإسلام.
ـ وحكي ـ عن مالك بن دينار أنه قال : يا حملة القرآن ماذا زرع القرآن
46
في قلوبكم فإن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض.
وعن علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "إنها ستكون فتنة" قلت : ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : "كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما كان بعدكم وحكم ما بينكم وهو العلم وهو الفصل وليس بالهزل لا تشبع منها لعلماء وهو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه فقد هدى إلى صراط مستقيم".
ثم إن تبيين أحكام القرآن للعامة وحقائقه للخاصة ، إنما هو لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بالأصالة والاستقلال ولورثته بعده قرناً بعد قرن بالفرعية ، والتبعية.
فعلماء الظواهر يخلصون الناس من الاختلاف فيما يتعلق بالظواهر بالبيان الصريح.
وعلماء البواطن يخلصونهم من الاختلاف فيما يتعلق بالبواطن بالكشف الصحيح ولكل منهم مشرب لا يخيب وارده وهم أساطير الدين وسلاطين المسلمين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 45
واعلم أن الاتعاظ بالمواعظ القرآنية يدخل العبد في السعادة الباقية ويخلصه من الحظوظ النفسانية.
ـ حكي ـ أن إبراهيم بن أدهم سر ذات يوم بمملكته ونعمته ثم نام فرأى رجلاً أعطاه كتاباً فإذا فيه مكتوب لا تؤثر الفاني على الباقي ولا تغتر بملكك فإن الذي أنت فيه جسيم لولا أنه عديم فسارع إلى أمر الله فإنه يقول : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} (آل عمران : 133) فانتبه فزعاً وقال : هذا تنبيه من الله تعالى وموعظة وهدى ورحمة فتاب إلى الله واشتغل بالطاعة ، قال المولى الجامي قدس سره :
(5/35)
هركه دل برعشوة كيتى نهاد
بر حذر باش از غرور وجهل او
دامن أو كير كزهمت فشاند
آستين بردنبى وبر اهل او
شرفنا الله وإياكم بالعصمة عن الهوى وبالتمسك بأسباب الهدى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 45
{وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ} إلى السحاب ومنه إلى الأرض {مَآءً} نوعاً خاصاً من الماء وهو المطر {فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ} أي : أنبت بسبب المطر في الأرض أنواع النباتات {بَعْدَ مَوْتِهَآ} أي : بعد يبسها شبه تهيج القوى النامية في الأرض وإحداث نضارتها بأنواع النباتات بالإحياء وهو إعطاء الحياة وهي صفة تقتضي الحس والحركة وشبه يبوستها بعد نضارتها بالموت بعد الحياة وما يفيده الفاء من التعقيب العادي لا ينافيه ما بين المعطوفين من المهلة {إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي : في إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض الميتة به {لايَةً} دالة على وحدته تعالى وعلمه وقدرته وحكمته إذ الأصنام وغيرها لا تقدر على شيء {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} هذا التذكير ونظائره سماع تفكر وتدبر فكأن من ليس كذلك أصم لا يسمع ، وفي "المثنوي" :
ون سليمان سوى مرغان سبا
يك صفيرى كرد آن جمله را
جزمكر مرغى كه بدبى جان ور
ياو ماهى كنك بداز اصل كر
تى غلط كفتم كه كركر سرنهد
يش وحى كبريا سمعش دهد
وقال بعضهم :
جزء : 5 رقم الصفحة : 47
{وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} قرآناً هو سبب حياة المؤمنين فأحيى به قلوب الميتة بالجهل {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} القرآن يسمع بسمع يسمع به كلام الله من الله فإن الله تعالى متكلم بكلام أزلي أبداً ولا يسمع كلامه إلا من أكرمه الله بسمع يسمع كلامه كقوله تعالى :
47
ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم والحق تعالى تارة يتلو عليك الكتاب من الكبير الخارج وتارة يتلو عليك من نفسك فاسمع وتأهب لخطاب مولاك إليك في أي مقام كنت وتحفظ من الوقر والصمم فالصمم آفة تمنعك عن إدراك تلاوته عليك من الكتاب الكبير وهو الكتاب المعبر عنه بالفرقان والوقر آفة تمنعك من إدراك تلاوته عليك من نفسك المختصرة وهو الكتاب المعبر عنه بالقرآن إذ الإنسان محل الجمع لما تفرق في العالم الكبير وعلامة السامعين المتحققين في سماعهم انقيادهم إلى كل عمل مقرب إلى الله تعالى من جهة سماعه أعني من التكليف المتوجه على الأذن من أمر أو نهي كسماعه للعلم والذكر والثناء على الحق تعالى والموعظة الحسنة والقول الحسن.
ومن علامته أيضاً التصامم عن سماع الغيبة والبهتان والسوء من القول والخوض في آية الله والرفث والجدال وسماع القينات وكل محرم حجر الشارع عليك سماعه قال الله تعالى : {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَـاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا} فالكافر الخائض والمنافق الجليس له المستمع لخوضه كذلك من جالس الصديقين والعارفين في مجالسهم المطهرة وأنديتهم المقدسة فإنه شريك لهم في كل خير ينالون من الله تعالى وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام فيهم : "إنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم" فالمرؤ مع من جالس في الدنيا بالطاعة والأدب الشرعي وفي الآخرة بالمعاينة والقرب المشهدي نسأل الله تعالى أن يجعلنا مع الصلحاء في الدنيا والآخرة إنه الفياض الوهاب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 47
(5/36)
{وَإِنَّ لَكُمْ} أيها الناس {فِى الانْعَـامِ} جمع نعم بالتحريك وهي الأنواع الأربعة التي هي الإبل والبقر والضأن والمعز.
والمعنى بالفارسية : (در وجود هار ايان) {لَعِبْرَةً} دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم كأنه قيل : كيف العبرة؟ فقيل : {نُّسْقِيكُم} (مى آشامانيم شمارا) قال الزجاج سقيته وأسقيته بمعنى واحد.
وفي "الأسئلة المقحمة" يقال : أسقيته إذا جعلت له سقياً دائماً وسقيته إذا أعطيته شربه {مِّمَّا فِى بُطُونِهِ} من للتبعيض لأن اللبن بعض ما في بطونه والضمير يعود إلى بعض الأنعام وهو الإناث لأن اللبن لا يكون للكل أو إلى المذكور أي : في بطون ما ذكرنا قاله الكسائي.
والمعنى بالفارسية (بعضى از آنه كه در شكمهاى ذوات ألبانست ازجنس نعم) {مِنا بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا} من ابتدائية متعلقة بنسقيكم لأن بين الفرث والدم مبدأ الإسقاء والفرث فضالة العلف في الكرش وثفله والكرش للحيوان بمنزلة المعدة للإنسان {خَالِصًا} صافياً ليس عليه لون الدم ولا رائحة الفرث {سَآاـاِغًا} بالفارسية (كوارنده) {لِّلشَّـارِبِينَ} أي : سهل المرور في حلقهم قيل : لم يغص أحد باللبن قط وليس في الطعام والشراب أنفع منه ألا يرى إلى قوله عليه السلام : "إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل : اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه وإذا شرب لبناً فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإني لا أعلم شيئاً أنفع في الطعام والشراب منه".
قال في "الكواشي" : المعنى خلق الله اللبن في مكان وسط بين الفرث والدم وذلك أن الكرش إذا طبخت العلف صار أسفله فرثاً وأوسطه لبناً خالصاً لا يشوبه شيء وإعلاء دماً وبينه وبينهما حاجز من قدرة الله لا يختلط أحدهما بالآخر بلون ولا طعم ولا رائحة مع شدة الاتصال ثم تسلط الكبد على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها فتجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث في الكرش ثم ينحدر ، فإن قلت أن اللبن
48
والدم لا يتوالدان في الكرش إذ البهائم إذا ذبحت لم يوجد في كرشها لبن ولا دم.
قلت : المراد كان أسفله مادة الفرث وأوسطه مادة اللبن وأعلاه مادة الدم فالمنحدر إلى الضروع مادة اللبن لا مادة الدم وقول بعضهم : إن الدم ينحدر إلى الضروع فيصير لبناً ببرودة الضرع بدليل أن الضرع إذا كانت فيه آفة يخرج منه الدم مكان اللبن مدفوع بأنه يجوز أن يتلون اللبن بلون الدم بسبب الآفة وهو اللائح بالبال ومن بلاغات الزمخشري.
جزء : 5 رقم الصفحة : 47
كما يحدث بين الخبيثين ابن لا يؤبن
الفرث والدم يخرج منهما اللبن
أي : كما أن اللبن الطيب الطاهر يخرج من بين الخبيثين اللذين هما الفرث والدم بحيث لا يشوبه شيء من أوصافهما مع كمال الإتصال والاكتناف كذلك يخرج الابن الطيب الطاهر الذي لا يعاب بشيء أصلاً من بين الأبوين الخبيثين بحيث لا يوجد فيه شيء من أوصافهما الخبيثة :
مى زغوره شود شكر ازنى
عسل ازنحل حاصلست بقى
مكوزنهار اصل عود وبست
به بين دودش ه مستثنى وخوبست
ـ وسئل ـ شقيق عن الإخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم (در قوت القلوب فرموده كه تمامى نعمت بخلوص لبن است يعني اكر دروى يكى از وصفين فرث ودم باشد تمام نعمت نبود وطبع اورا قبول نكند همنين معامله بندكان باحق بايدكه خالص بود اكر بشوب فرث رياودم هوا آميخته كردد از خلوص دور واز نظر قبول مهجور خواهد بود زيرا كه ريا در عمل شرك خفيست وصفاى عمل بسبب شوب هوا منتفى در ريا نظر بردم است ودر هوا برغرض خود وبر هروجه عمل خالي از آلود كى نيست) :
طاعت آلوده نيايد بكار
مشك جكر سوده نيايد بكار
هركه ز آلود كى افتاد اك
يش نظرها نبود تا بناك
وفي الآية إشارة إلى اعتبار العاقل فيما سقاه الله مما في بطون أنعام النفوس فإنها كالأنعام من بين فرث الخواطر الشيطاني ودم الخواطر النفساني لبناً خالصاً من الإلهام الرباني جائز الأهل هذا الشرب على الصراط المستقيم من غير تلعثم كذا في "التأويلات النجمية".
(5/37)
{وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاعْنَـابِ} (ومى آشامانيم شمارا از كونه ميوهاوى درختان خرما ودرختان انكورها) ونسقيكم أيها الناس من عصيرها ونطعمكم ثم بين كنه الاسقاء والإطعام وكشفه بقوله : {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ} أي : من عصيرها {سَكَرًا} قال في "القاموس" : السكر محركة الخمر ونبيذ يتخذ من التمر.
فالآية سابقة على تحريم الخمر دالة على كراهتها حيث قوبل السكر بالرزق الحسن ومقابل الحسن لا يكون حسناً {وَرِزْقًا حَسَنًا} كالتمر والدبس والزبيب والرب والخل وفي الحديث "خير خلكم خل خمركم".
قال في "الروضة" خطب المأمون بمرو فسعل الناس فنادى بهم ألا من كان له سعال فليتداوى بشرب خل الخمر ففعلوا فانقطع سعالهم.
قال بعضهم : انظر إلى الأخبار عن نعمة اللبن ونعمة السكر والرزق الحسن لما كان اللبن لا يحتاج إلى معالجة من الناس أخبر عن نفسه بقوله : {نُّسْقِيكُم} ولما كان السكر والرزق الحسن يحتاج إلى معالجة قال : {تَتَّخِذُونَ} فأخبر عنهم باتخاذهم منه السكر والرزق الحسن {إِنَّ فِى ذَالِكَ}
49
الإسقاء {لايَةً} باهرة {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولهم في الآيات بالنظر والتأمل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 47
وفي "التأويلات النجمية" : ومن ثمرات نخيل الطاعات وأعناب المجاهدات تتخذون من ثمرات الطاعات والمجاهدات وهي المكاشفات والمشاهدات ووقائع أرباب الطلب وأحوالهم العجيبة سكراً ورزقاً حسناً السكر ما يجعل منها شرب النفس فتسكر النفس فتارة تميل عن الحق والصراط المستقيم ميلان السكران وتارة تظهر رعوناتها بالأفعال والأقوال رياء وسمعة وشهرة والرزق الحسن ما يكون منها شرب القلب والروح فيزداد منه الشوق والمحبة والصدق والطلب كما قال بعضهم :
شربت الحب كأساً بعد كأس
فما نفد الشراب وما رويت
وقالو :
سقاني شربة أحيى فؤادي
بكأس الحب من بحر الوداد
إن في ذلك الاعتبار لدلالة لقوم يدركون بالعقل إشارات الحق ويفهمونها انتهى ما في "التأويلات".
قال أهل التحقيق : العقل شجرة ثمرها العلم والحلم فشرف الثمر دال على شرف المثمر وصاحب العقل في قومه كالنبي في أمته.
قال بعض العلماء : قسم العقل بألفي جزء : ألف للأنبياء والرسل والملائكة وتسعمائة وتسعة وتسعون جزء لمحمد صلى الله عليه وسلّم ومن الواحد أربعة دوانق للعلماء ودانق لعامة الرجال ونصف دانق للنساء ونصف لأهل القرى والرساتيق.
والدانق بفتح النون وكسرها سدس الدرهم.
قال حكيم العمر في الدنيا قليل والحسرة في الآخرة طويلة والعبد بعمل نفسه في الآخرة إما عزيز وإما ذليل.
فعلى كل عاقل واجب أن يجتهد في إصلاح نفسه قبل أن يأتيه اليقين ويأخذ إشارة من كل رطب ويابس وغث وسمين ويصحو من سكر الغفلة والهوى ويشرب من مشرب التيقظ والهدى ، وفي "المثنوي" :
عقل جزؤى را وزير خود مكير
عقل كل را ساز اي سلطان وزير
كين هوار حرص وحالى بين بود
عقل را انديشه يوم الدين بود
جزء : 5 رقم الصفحة : 47
{وَأَوْحَى رَبُّكَ} يا محمد {إِلَى النَّحْلِ} هو ذباب العسل وزنبوره أي : ألهمها وقذف في قلوبها وعلمها بوجه لا يعلمه إلا هو مثل قوله : {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} (الزلزلة : 5) والوحي يقع على كل تنبيه خفي والله تعالى ألهم كل حيوان أن يلتمس منافعه ويجنتب مضاره وقد ألهم الله الغراب أن يبحث في الأرض ليرى قابيل كيف يواري سوءة أخيه هابيل ، كما في "المثنوي" :
س بنكال اززمين انكيخت كرد
زود زاغ مرده را در كور كرد
دفن كردش س بوشيدش بخاك
زاغ از الهام حق يد علمناك
جزء : 5 رقم الصفحة : 50
قال الزجاج : سميت نحلاً لأن الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج منها إذ النحلة العطية وكفاها شرفاً قول الله تعالى : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} وكل ذباب في النار إلا ذباب العسل.
قال في عجائب المخلوقات : يقال ليوم عيد الفطر يوم الرحمة وفيه أوحى ربك إلى النحل صنعة العسل.
قال في "حياة الحيوان" : يحرم أكل النحل وإن كان العسل حلالاً كالآدمية لبنها حلال ولحمها حرام ويكره قتلها وأما بيعها في الكوارة فصحيح إن يشاهد جميعها وإلا فهو
50
(5/38)
بيع غائب فإن باعها وهي ظاهرة.
ففي "التتمة" يصح.
وفي "التهذيب" عكسه.
وقال أبو حنيفة : لا يصح بيع النحل كالزنبور وسائر الحشرات ويجوز بيع دود القز من الذي يصنع به {أَنِ اتَّخِذِى} لنفسك أي : بأن اتخذي فإن مصدرية وصيغة التأنيث لأن النحل يذكر ويؤنث {مِّنَ الْجِبَالِ} (ازشكاف كوهها) "بيوتاً" (خانه هاى مسدس) أي : مساكن تأوى إليها وسمي ما تبنيه لتعسل فيه بيتاً تشبيهاً ببناء الإنسان لما في بيوته المسدسة المتساوية بلا بركار ومسطر من الحذاقة وحسن الصنعة التي لا يقوى عليها حذاق المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة واختارت المسدس لأنه أوسع من المثلث والمربع والمخمس ولا يبقى بينها فرج خالية كما تبقى بين المدورات وما سواها من المضلعات ومن للتبعيض لأنها لا تبنى في كل جبل وكذا قوله : {وَمِنَ الشَّجَرِ} لأنها لا تبنى في كل شجر.
والمعنى بالفارسية (وازميان درختان نيز خانه كيريد يعنى در بعضى شجر جاى كنيد در جانب كوه وفتى كه مالكى وصاحبي نداشته باشد) وكذا في قوله : {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} لأنها لا تبنى في كل ما يعرشه الناس أي : يرفعه من الأماكن لتعسل فيها وهذا إذا كان لملاك.
وقال بعضهم ومما يعرشون من كرم أو سقف أو جدران أو غير ذلك ولما كان أهم شيء للحيوان بعد الراحة من هم المقيل إلا كل تنى به ولما كان عاماً في كل ثمر ذكره بحرف التراخي إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسره لها فقال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 50
{ثُمَّ كُلِى} وأشار إلى كثرة الرزق بقوله : {مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} فهو للتكثير كقوله تعالى : {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} (النمل : 23) أو من كل الثمرات المشتهاة عندك من حلوها وحامضها ومرها وغير ذلك فهو عام مخصوص بالعادة {فَاسْلُكِى} جواب شرط محذوف أي : فإذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فادخلي.
{سُبُلَ رَبِّكِ} في الجبال وفي خلال الشجر أي : طرق ربك التي ألهمك وعرفك الرجوع فيها إلى مكانك من الخلية بعد بعدك عنها حال كون السبل {ذُلُلا} جمع ذلول أي : موطأة للسلوك مسهلة وذلك أنها إذا أجدب عليها ما حولها سافرت إلى المواضع البعيدة في طلب النجعة ثم ترجع إلى بيوتها من غير التباس وانحراف وأشار باسم الرب إلى أنه لولا عظيم إحسانه في تربيتها لما أهتدت إلى ذلك وهذا كما يقال في القطا وهو طائر معروف يضرب به المثل في الهداية ويقال : "ادهى من قطاة" وذلك أنه يترك فراخه ثم يطلب الماء من مسيرة عشرة أيام وأكثر فيرده فيما بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ثم يرجع فلا يخطى لا صادراً ولا وارداً أي : ذهاباً وإياباً كذا في "شرح الشفاء" ثم اتبعه نتيجة ذلك جواباً لمن قال ماذا يكون من هذا كله فقال : {يَخْرُجُ مِنا بُطُونِهَا} أي : بطون النحل بالقيىء {شَرَابٌ} أي : عسل لأنه مشروب وذلك أن النحل تأكل الأجزاء اللطيفة الطلية الحلوة الواقعة على أوراق الأشجار والأزهار وتمص من الثمرات الرطبة والأشياء العطرة ثم تقيىء في بيوتها ادخاراً للشتاء فينعقد عسلاً بإذن الله تعالى وإلى هذا أشار ظهير الفاريابي بقوله :
بدان طمع كه دهن خوش كنى زغايت حرص
نشسته مترصد كه في كند زنبور
وأما قول علي رضي الله عنه في تحقير الدنيا أشرف الناس ابن آدم فيها لعاب دودة وأشرف
51
شرابه رجيع نحلة فوارد على طريق القبيح وإن كان العسل في نفسه مما يستلذ ويستطاب على أن إطلاق الرجيع عليه إنما هو لكونه مما يحويه البطن.
وفي "حياة الحيوان" قد جمع الله تعالى في النحلة السم والعسل دليلاً على كمال قدرته وأخرج منها العسل ممزوجاً بالشمع وكذلك عمل المؤمن ممزوج بالخوف والرجاء وهي تأكل من كل شجر ولا يخرج منها إلا حلو إذ لا يغيرها اختلاف مآكلها والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 50
اين كه كرمناست وبالاميرود
وحيش از زنبور كى كمتر بود
ونكه اوحى الرب إلى النحل آمدست
خانة وحيش راز حلوا شدست
او بنور وحى حق عز وجل
كرد عالم را راز شمع وعسل
(5/39)
وللعسل أسماء كثيرة.
منها الحافظ الأمين لأنه يحفظ ما يودع فيه فيحفظ الميت أبداً واللحم ثلاثة أشهر والفاكهة ستة أشهر وكل ما أسرع إليه الفساد إذا وضع في العسل طالت مدة مقامه وكان عليه السلام يحب الحلواء والعسل.
قال العلماء : المراد بالحلواء ههنا كل حلو وذكر العسل بعدها تنبيهاً على شرفه ومزيته وهو من باب ذكر الخاص بعد العام وفيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة لا سيما إذا حصل إنفاق وفي الحديث "أول نعمة ترفع من الأرض العسل".
وقال علي رضي الله عنه : إنما الدنيا ستة أشياء : مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب ومنكوح ومشموم.
فأشرف المطعومات العسل وهو مذقة ذباب.
وأشرف المشروبات الماء يستوي فيه البر والفاجر.
وأشرف الملبوسات الحرير وهو نسج دودة.
وأشرف المركوبات الفرس وعليه يقتل الرجال.
وأشرف المشمومات المسك وهو دم حيوان.
وأشرف المنكوحات المرأة وهي مبال في مبال {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} من أبيض وأخضر وأصفر وأسود بسبب اختلاف سن النحل فالأبيض يلقيه شباب النحل والأصفر كهولها والأحمر شيبها وقد يكون الاختلاف بسبب اختلاف لون النور.
قال حكيم يونان لتلامذته كونوا كالنحل في الخلايا وهي بيوتها قالوا : وكيف النحل في خلاياها؟ قال : إنها لا تترك عندها بطالاً إلا نفته واقصته عن الخلية لأنه يضيق المكان ويفنى العسل وإنما يعمل النشيط لا الكسل.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما مثل المؤمن كالنحلة تأكل طيباً وتصنع طيباً ووجه المشابهة بينهما حذق النحل وفطنته وقلة أذاه ومنفعته وتنزهه عن الأقذار وطيب أكله وأنه لا يأكل من كسب غيره وطاعته وأن للنحل آفات تقطعه عن عمله منها الظلمة والغيم والريح والدخان والماء والنار وكذلك المؤمن له آفات تغيره عن عمله ظلمة الغفلة وغيم الشك وريح الفتنة ودخان الحرام وماء السفه ونار الجوى {فِيهِ} أي : في الشراب وهو العسل {شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ} أي : شفاء الأوجاع التي يعرف شفاؤها منه يعني أنه من جملة الأشفية المشهورة النافعة لأمراض الناس وليس المراد أنه شفاء لكل مرض كما قال في "حياة الحيوان" ، قوله : {فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ} لا يقتضي العموم لكل علة وفي كل إنسان لأنه نكرة في سياق الإثبات بل المراد أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في حال دون حال وكان ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم يحملانه على العموم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 50
قال البيضاوي : {فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ} إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر
52
الأمراض إذ قلما يكون معجون إلا والعسل جزؤ منه وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأشربة والأدوية إلا العسل.
ـ روي ـ أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : إن أخي قد اشتكى بطنه فقال : "اسقه عسلاً" فسقاه عسلاً فما زاده إلا استطلاقاً فعاد إلى النبي عليه الصلاة والسلام فذكر له ذلك فقال : "اسقه عسلاً" فسقاه ثانياً فما زاده إلا استطلاقاً ثم رجع فقال : يا رسول الله سقيته فما نفع فقال : "اذهب فاسقه عسلاً فقد صدق الله وكذب بطن أخيك" فسقاه فشفاه الله فبرىء كأنما انشط من عقال وفي الحديث "إن الله جعل الشفاء في أربعة الحبة السوداء والحجامة والعسل وماء السماء" وجاء رجل إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وشكا له سوء الحفظ فقال : أترجع إلى أهل قال : نعم فقال : قل لها تعطيك من مهرها درهمين عن طيب نفس فاشتر بهما لبناً وعسلاً واشربهما مع شربة من ماء المطر على الريق ترزق حفظاً.
فسئل الحسن بن الفضل عن هذا فقال : أخذه من قوله تعالى : {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَـارَكًا} (ق : 9) وفي اللبن {خَالِصًا سَآاـاِغًا لِّلشَّـارِبِينَ} (النحل : 66) وفي العسل {فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ} (النحل : 69) وفي المهر {فَكُلُوهُ هَنِياـاًا مَّرِياـاًا} (النساء : 4) فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهنيىء والمريء والخالص السائغ فلا عجب أن ينفع.
(5/40)
ـ وروي ـ عن عوف بن مالك أنه مرض فقال : ائتوني بماء فإن الله تعالى قال : {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُورًا} ثم قال : ائتوني بعسل وقرأ الآية ثم قال : ائتوني بزيت من شجرة مباركة فخلط الجميع ثم شربه فشفى ، وكان بعضهم يكتحل بالعسل ويتداوى به من كل سقم وإذا خلط العسل الذي لم يصبه ماء ولا نار ولا دخان بشيء من المسك واكتحل به نفع من نزول الماء في العين والتلطخ به يقتل القمل.
والمطبوخ منه نافع للسموم ولعقه علاج لعضة الكلب.
قال إمام الأولياء محمد بن علي الترمذي قدس سره : إنما كان العسل شفاء للناس لأن النحل ذلتمطيعة وأكلت من كل الثمرات حلوها ومرها محبوبها ومكروهها تاركة لشهواتها فلما ذلت لأمر الله صار هذا الأكل كلهفصار ذلك شفاء للاسقام.
فكذلك إذا ذل العبدمطيعاً وترك هواه صار كلامه شفاء للقلوب السقيمة انتهى.
وفي العسل ثلاثة أشياء : الشفاء والحلاوة واللين.
وكذلك المؤمن قال الله تعالى : {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر : 23) ويخرج من الشاب خلاف ما خرج من الكهل والشيخ كذلك حال المقتصد والسابق.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه العسل شفاء من كل داء أي : في الأبدان والقرآن شفاء لما في الصدور فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل :
جزء : 5 رقم الصفحة : 50
ريح اكر بسيار شد كى غم خورم
ون شفاوى جان بيمارم تويى
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي : في أمر نحل العسل {لايَةً} حجة ظاهرة دالة على القدرة الربانية {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي : للذين تفكروا فعلموا أن النحلة على صغر جسمها وضعف خلقتها لا تهتدي لصنعة العسل بنفسها فإن ذلك بصانع صنعها خالف بينها وبين غيرها من الحشرات الطائرة فاستدل بذلك على خالق واحد قادر لا شريك له ولا شبيه.
قال الكاشفي : {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (مركر وهى راكه تفكر كنند در اختصاص بصنايع دقيقه وأمور رقيقه وهر آينه اينها بوجود نكيرد الا ز الهام توانايى ودانايى كه ندين حكمت درجانورى ضعيف وديعت نهد انقيادي دارند كه ازراه فرمان منحرف نشوند امانتي كه مبوه تلخ
53
خورند وعسل شيرين بازدهند ورعى كه جز اك واكيزه نخورند طاعتى كه هركز خلاف فرمان نكنند تمكنى كه فرسنكها بروندوباز با وطن خود رجوع نمايند طهارتي كه هركز برقازورات ننشينند وازان نخورند وصناعتى كه اكر همه بنايان عالم جمع شوند همو هانهاى مسدس ايشان نتوانند ساخت س همنانه ازعسل ايشان شفاى الم ظاهر حاصل شود ازتفكر احوال ايشان شفاء مرض باطن كه جهلست دست دهد) :
فكر دلرانيك وهم نمكين كند
كام جانرا ون عسل شيرين كند
شربت فكر اربكام جان رسد
اشنىء آن بماند تا ابد
قال القشيري رحمه الله : إن الله تعالى أجرى سنته أن يخفي كل عزيز في شيء حقير جعل الابريسم في الدود وهو أصغر الحيوانات وأضعفها والعسل في النحل وهو أضعف الطيور وجعل الدر في الصدف وهو اوحش حيوان من حيوانات البحر وأودع الذهب والفضة والفيروزج في الحجر وكذلك أودع المعرفة والمحبة في قلوب المؤمنين وفيهم من يخطىء وفيهم من يعصي ومنهم من يعرف ومنهم من يجعل أمره :
كسى راكه نزديك ظنت بداوست
ندانى كه صاحب ولايت هم اوست
جزء : 5 رقم الصفحة : 50
(5/41)
قال في "التأويلات النجمية" : في الآية إشارة إلى أن تصرف كل حيوان في الأشياء مع كثرتها واختلاف أنواعها إنما هو بتعريف الله تعالى إياه وإلهامه على قانون حكمته وإرادته القديمة لا من طبعه وهواه.
وإنما خص النحل بالوحي وهو الإلهام والرشد من بين سائر الحيوانات لأنها أشبه شيء بالإنسان لا سيما بأهل السلوك فإن من دأبهم وهجيراهم أن يتخذوا من الجبال بيوتاً اعتزالاً عن الخلق وتبتلاً إلى الله تعالى كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلّم حيث كان يتحنث إلى حراء أسبوعاً وأسبوعين وشهزاً وأن من شأنهم النظافة في الموضع والملبوس والمأكول كذلك النحل من نظافتها تضع ما في بطنها على الحجر الصافي أو على خشب نظيف لئلا يخالطه طين أو تراب ولا تقعد على جيفة ولا على نجاسة احترازاً عن التلوث كما يحترز الإنسان عنه وثمرات البدن الأعمال الصالحة وثمرات النفوس الرياضات والمجاهدات ومخالفات الهوى وثمرات القلوب ترك الدنيا وطلب العقبى والتوجه إلى حضرة المولى وثمرات الأسرار شواهد الحق والتطلع على الغيوب والتقرب إلى الله فهذه كلها أغذية الأرواح والله تعالى قال للنحل {كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقال مثله للسالكين {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَـاتِ وَاعْمَلُوا صَـالِحًا} (المؤمنون : 51) {وَاللَّهُ} المحيط بكل شيء علماً وقدرة {خَلَقَكُمْ} أوجدكم وأخرجكم من العدم إلى الوجود.
وبالفارسية (ازظلمت آبادنا بود بصحراى انوار وجود آورد) {ثُمَّ يَتَوَفَّـاكُمْ} أي : يقبض أرواحكم على اختلاف الأسنان صبياناً وشباناً وكهولاً فلا يقدر الصغير على أن يؤخر ولا الكبير على أن يقدم فمنكم من يموت حال قوته {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ} قبل توفيه أي : يعاد {إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أخسه وأحقره وهوا لهرم والخرف الذي يعود فيه كهيئته الأولى في أوان طفوليته ضعيف البنية ناقص القوة والعقل قليل الفهم وليس له حد معلوم في الحقيقة لأنه رب ابن ستين انتهى إلى أرذل
54
العمر ورب ابن مائة لم يرد إليه.
وقال قتادة : إذا بلغ تسعين سنة يتعطل عن العمل والتصرف والاكتساب والحج والغزو ونحوها ولذا دعا محمد بن علي الواسطي لنفسه فقال :
يا رب لا تحيني إلى زمن
جزء : 5 رقم الصفحة : 50
أكون فيه كلا على أحد
خذ بيدي قبل أن أقول لمن
ألقاه عند القيام خذ بيدي
وسأل الحجاج شيخاً كيف طعمك؟ قال : إذا أكلت ثقلت وإذا تركت ضعفت فقال : كيف نومك؟ قال : أنام في المجمع وأسهر في المهجع فقال : كيف قيامك وقعودك؟ قال : إذا قعدت تباعدت عني الأرض وإذا قمت لزمتني فقال : كيف مشيك؟ قال : تعقلني الشعرة وتعثرني البعرة {لِكَىْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في سوء الفهم والنسيان وأن يعلم شيئاً ثم يسرع في نسيانه فلا يعلمه إن سئل عنه فمؤدى الكلام لينسى ما يعلم وهو يستلزم أن لا يعلم زيادة علم على علمه لأنه إذا كان حاله بحيث ينسى ما علم فكيف يزيد علمه واللام في لكي هي لام كي دخلت على كي للتأكيد وهي متعلقة بيرد.
وقال بعضهم : اللام جارة وكي حرف مصدري كأن وشيئاً مفعول لا يعلم.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ} بمقادير أعماركم.
قال الكاشفي : (داناست وجهل بردانايى او طارى نشود).
{قَدِيرٌ} (تواناست وعجز برتوانايى اوراه نيايد) أي : قدير على كل شيء يميت الشاب النشيط ويبقى الهرم الفاني ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
اى بسا است تيزروكه بماند
كه خرلنك جان بمنزل برد
س كه درخاك تن درستانرا
دفن كردند وزخم خورده نمرد
(5/42)
وفيه تنبيه على أن تفاوت الآجال ليس إلا بتقدير قادر حكيم ركب أبنيتهم وعدّل أمزجتهم على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لما بلغ التفاوت هذا المبلغ.
قالوا : أسنان الإنسان سبعة أطوار : طور الطفولية إلى سبع سنين.
ثم الصبي إلى أربع عشرة سنة.
ثم الشباب إلى اثنتين وثلاثين سنة ، ثم الكهولة ، ثم الهرم إلى منتهى العمر.
وفي "الإرشاد" : ضبطوا مراتب العمر في أربع : الأولى سن النشو والنماء ، والثانية سن الوقوف وهي سن الشباب ، والثالثة سن الإنحطاط القليل وهي سن الكهولة ، والرابعة سن الانحطاط الكثير وهي سن الشيخوخة ولا عمر أسوأ حالاً من عمر الهرم الذي يشبه الطفل في نقصان العقل والقوة وعند إخلاله لا يوجد له شفاء ولا يمنعه دواء وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعو "أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات".
قال بعضهم : حكم الهرم إنما يظهر في حق الكافر لأن المسلم يزداد عقله لصلاحه في طول عمره كرامة له وفي الحديث "من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر" وكذا من يتدبره ويعمل به كما في "تفسير العيون".
يقول الفقير : لا شك أنا الجنون والعته ونحوهما من صفات النقصان فالله تعالى لا يبتلي كامل الإنسان أنبياء وأولياء فالمراد بقولهم : إن العلماء لا يعرض لهم العته وإن بلغوا إلى أرذل العمر علماء الآخرة والعلماء بالله لا مطلق العلماء كما لا يخفى إذ قد شاهدنا من علماء زماننا من صار حاله إلى حال الطفولية ثم إن أرذل العمر وإن كان أشد الأزمان وأصعبها لكنه أوان المغفرة ورفعة الدرجة وفي الحديث : "إذا بلغ المرء ثمانين سنة أثبتت حسناته ومحيت سيآته وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله
55
ذنبه ما تقدم منه وما تأخر وكان أسير الله في الأرض وشفيعاً لأهل بيته يوم القيامة".
جزء : 5 رقم الصفحة : 50
ـ روي ـ أن رجلاً قال للنبي عليه الصلاة والسلام : أصابني فقر فقال : "لعلك مشيت أمام شيخ" وأول من شاب من ولد آدم إبراهيم عليها لسلام فقال : يا رب ما هذا؟ قال : هذا نوري فقال : رب زدني من نورك ووقارك وكان الرجل في القرون الأولى لا يحتلم حتى يأتي عليه ثمانون سنة.
وعن وهب أن أصغر من مات من ولد آدم ابن مائتي سنة.
قال بعض المشايخ : هذه الأمة وإن كانت أعمارهم قصاراً قليلة لكن أمدادهم كثيرة وهم ينالون في زمن قصير ما ناله الأقدمون في مدة طويلة من المرتبة وهذا فضل من الله تعالى.
قال حكيم : إن خير نصفي عمر الرجل آخره يذهب جهله ويثوب حلمه ويجتمع رأيه وشرّ نصفي عمر المرأة آخره يسوء خلقها ويحد لسانها ويعقم رحمها وفي الحديث "خير شبابكم من تشبه بكهولكم وشر كهولكم من تشبه بشبابكم".
يقول الفقير : هذا يشمل التشبه بأنواعه في الأقوال والأحوال والأفعال والقيام والقعود واللباس ونحوها فالصوفي شيخ في المعنى لأن مراده الفناء عن الأوصاف كلها فينبغي له أن يلبس لباس الكهول وإن كان شاباً وفي الحديث : "من أتى عليه أربعون سنة ثم لم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار".
قال يحيى بن معاذ رحمه الله : مقدار عمرك في جنب عيش الآخرة كنفس واحد فإذا ضيعت نفسك فخسرت الأبد إنك لمن الخاسرين.
وفي الآية إشارة إلى الفناء والبقاء فالمتوفى هو الفاني عن إثبات وجوده والمردود هو الباقي بوجود موجد وجوده وقوله : {لِكَىْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} أي : ليكون عاقبة أمره أن لا يعلم بعد فناء علمه شيئاً بعلمه بل يعلم بربه الأشياء كما هي كما في "التأويلات النجمية".
{وَاللَّهُ} تعالى وحده {فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الرِّزْقِ} أي : جعلكم متفاوتين فيه فمنكم غني ومنكم فقير ومنكم مالك ومنكم مملوك.
والرزق ما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان من المطعومات والمشروبات.
وفيه تنبيه على أن غنى المكثر ليس من كياسته ووفور عقله وكثرة سعيه ولا فقر المقل من بلادته ونقصان عقله وقلة سعيه بل من الله تعالى ليس إلا :
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً
قال الحافظ :
سكندر را نمى بخشند آبى
بزور وزر ميسر نيست اين كار
قال ابن الشيخ : وهذا التفاوت غير مختص بالمال بل هو واقع في الذكاء والبلادة والرشد والدناءة والحسن والقباحة والصحة والسقامة وغير ذلك :
جزء : 5 رقم الصفحة : 50
كنج زر كرنبود كنج قناعت باقيست
آنكه آن داد بشاهان بكدايان اين داد
وفي "التأويلات النجمية" : فضل الله الأرواح على القلوب في رزق المكاشفات والمشاهدات بعد الفناء والرد إلى البقاء.
وفضل القلوب على النفوس في رزق الزهد والورع والتقوى والصدق واليقين والإيمان والتوكل والتسليم والرضى.
وفضل النفوس على الأبدان في رزق التزكية ومقاساة شدائد المجاهدات والصبر على المصائب والبلايا وحمل أعباء الشريعة بإشارات الطريقة وتبديل الأخلاق الذميمة بالحميدة وفضل أبدان المؤمنين على أبدان الكافرين في رزق
56
(5/43)
الأعمال التي هي أركان الشريعة وقراءة القرآن والذكر باللسان مشرفة بإخلاص بالجنان {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} أي : فليس الموالي الذين فضلوا في الرزق على المماليك {بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ} أي : بمعطى رزقهم الذي رزقهم إياه أصله رادين سقط النون للإضافة {عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} على مماليكهم {فِيهِ} في الرزق {سَوَآءٌ} في الفاء دلالة على ترتب التساوي على الرد أي : لا يردون عليهم رداً مستتبعاً للتساوي في التصرف والتشارك في التدبير وإنما يردون عليهم منه شيئاً يسيراً والحاصل أنهم لا يجعلون ما رزقناهم من الأموال وغيرها شركة بينهم وبين مماليكهم بحيث لا يرضون بمساواة مماليكهم لأنفسهم وهم أمثالهم في البشرية والمخلوقية فما بالهم كيف جعلوا مماليكه تعالى ومخلوقه شركاء له مع كمال علوه فأين التراب ورب الأرباب.
وهذا كما ترى مثل ضرب لكمال قباحة ما فعله المشركون تقريعاً عليهم وكانوا يقولون في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك.
{أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} الفاء للعطف على مقدر وهي داخلة في المعنى على الفعل والجحود الإنكار والباء لتضمينه معنى الكفر والمعنى أبعد علمهم بأن الرازق هو الله تعالى يشركون به فيجحدون نعمته فإن الإشراك يقتضي أن يضيفوا نعم الله الفائضة عليهم إلى شركائهم وينكروا كونها من عند الله تعالى فالله تعالى يدعو عباده بهذه الآية إلى التوحيد ونفى الشرك حتى يتخلصوا من الشرك والظلمات ويتشرفوا بالتوحيد الخالص والأنوار العاليات.
فعلى العبد الطاعة والسعي إلى تحصيل الرضوان والعرفان وإنما الرزق على المولى الكريم المنان.
ومن الكلمات التي نقلها كعب الأحبار عن التوراة "يا ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب وقسمت رزقك فلا تتعب وفي أكثر منه لا تطمع ومن أقل منه لا تجزع فإن أنت رضيت بما قسمته لك أرحت قلبك وبدنك وكنت عندي محموداً وإن كنت لم ترض به وعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البر ولا ينالك منها إلا ما قسمته لك وكنت عندي مذموماً.
يا ابن آدم خلقت لك السموات والأرضين.
ولم أعي بخلقهن أيعييني رغيف أسوقه إليك من غير تعب.
يا ابن آدم أنا لك محب فبحبي عليك كن لي محباً.
يا ابن آم لا تطالبني برزق غد كما لا أطالبك بعمل غد فإني لم أنس من عصاني فكيف من أطاعني".
جزء : 5 رقم الصفحة : 50
واعلم أن عباد الله في باب الرزق على وجوه : منهم من جعل رزقه في الطلب فمن جعل رزقه في الطلب فعليه بكسب الحلال الطيب كعمل اليد مثلاً ، ومنهم من جعل رزقه في القناعة وهي في اللغة الرضى بالقسمة وفي اصطلاح أهل الحقيقة هي السكون عند عدم المألوفات ، ومنهم من جعل رزقه في التوكل وهو الثقة بما عند الله واليأس مما في أيدي الناس ، ومنهم من جعل رزقه في المشاهدة والمجاهدة كما قال صلى الله عليه وسلّم "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" وهو إشارة إلى المشاهدة وقال : "جعل رزقي تحت ظل رمحي" وهو إشارة إلى المجاهدة فعلى العاقل المجاهدة والعبادةتعالى خالصاً لا لأجل تنعم النفس في الجنة والخلاص من النار فإنها معلولة والمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب ولذا قال في "المثنوي" :
هشت جنت هفت دوزخ يش من
هست يدا هموبت يش وثن
57
جزء : 5 رقم الصفحة : 50
{وَاللَّهُ} تعالى وحده {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسكم {أَزْوَاجًا} نساء لتأنسوا بها وتقيموا بذلك جميع مصالحكم ويكون أولادكم أمثالكم.
ومن هنا أخذ بعض العلماء أنه يمتنع أن يتزوج المرؤ امرأة من الجن إذ لا مجانسة بينهما فلا مناكحة وأكثرهم على إمكانه ويدل عليه أن أحد أبوي بلقيس كان جنياً.
قال ابن الكلبي كان أبوها من عظماء الملوك فتزوج امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن فولدت له بلقيس وفيه حكايات أخر في "آكام المرجان".
فإن قيل : غلبة عنصر النار في الجن تمنع من أن تتكون النطفة الإنسانية في رحم الجنية لما فيها من الرطوبات فتضمحل ثمة لشدة الحرارة النيرانية وقس عليه نكاح الجنى الإنسية.
قلت : إنهم وإن خلقوا من نار فليسوا بباقين على عنصرهم الناري بل قداستحالوا عنه بالأكل والشرب والتوالد والتناسل كما استحال بنو آدم عن عنصرهم الترابي بذلك على أن الذي خلق من نار هو أبو الجن كما خلق آدم أبو الإنس من تراب وأما كل واحد من الجن غير أبيهم فليس مخلوقاً من النار كما أن كل واحد من بني آدم ليس مخلوقاً من تراب.
وذكروا أيضاً جواز المناكحة بين الإنسان وإنسان الماء كما قال في "حياة الحيوان" أن في بحر الشام في بعض الأوقات من شكله شكل إنسان وله لحية بيضاء يسمونه شيخ البحر فإذا رآه الناس استبشروا بالخصب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 58
(5/44)
ـ وحكي ـ أن بعض الملوك حمل إليه إنسان ماء فأراد الملك أن يعرف حاله فزوجه امرأة فأتاه منها ولد يفهم كلام أبويه فقيل للولد ما يقول أبوك : قال : يقول أذناب الحيوان كلها في أسفلها فما بال هؤلاء أذنابهم في وجوههم.
وذكروا أيضاً بنات الماء ومناكحة الإنسان إياهن وتولد الأولاد منهن {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم} أي : جعل لكل منكم من زوجه لا من زوج غيره {بَنِينَ} (فرزندان) {وَحَفَدَةً} جمع حافد وهو الذي يسرع في الخدمة والطاعة ومنه قول القانت : وإليك نسعى ونحفد أي : جعل لكم خدماً يسرعون في خدمتكم وطاعتكم ويعينونكم كأولاد الأولاد ونحوهم.
يقول الفقير : حمل الحفدة على البنات كما فعله البعض بناء على أنهن يخدمنه في البيوت أتم خدمة ضعيف لأن الخطاب لكون السورة مكية مع المشركين وهم كانوا تسودّ وجوههم حين الاخبار بالبنات فلا يناسب مقام الامتنان حملها عليهن {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ} من اللذائذ كالعسل ونحوه ومن للتبعيض لأن كل الطيبات في الجنة وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها.
يقول الفقير المقصود الطيبات المنفهمة بحسب العرف وهي طيبات البلدة والناحية والإقليم لا الطيبات المشتملة عليها الدنيا والجنة فكل الطيبات مرزوق بها العباد {أَفَبِالْبَـاطِلِ يُؤْمِنُونَ} الفاء في المعنى داخلة على الفعل وهي للعطف على مقدر أي : أيكفرون بالله الذي شأنه هذا فيؤمنون بالباطل وهو أن الأصنام تنفعهم وأن البحائر ونحوها حرام {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ} حيث يضيفونها إلى الأصنام أو المراد بالباطل الأصنام وما يفضي إلى الشرك وبنعمة الله الإسلام والقرآن وما فيه من التوحيد والأحكام.
والباطل عند أهل الحقيقة قسمان : باطل حقيقي وهو ما لا تحقق ولا وجود ولا ثبوت له بأن لم يقع التجلي الإلهي في عالمه أصلاً وقسم باطل مجازي وهو التعينات الموجودة كلها أما بطلانه فلكونه عدماً في نفسه "ألا كل شيء ما خلا الله باطل" وأما مجازيته فلكونه مجلى ومرآة للوجود الإضافي والحق المجازي والمؤمن بالباطل مطلقاً كافر بالله تعالى.
58
سالك اك رو نخوانندش
آنكه از ما سوى منزه نيست
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ شَيْـاًا} الرزق مصدر وشيئاً نصب على المفعولية منه والمراد من الموصول الآلهة أي : ما لا يقدر على أن يرزق منهم شيئاً لا من السموات مطراً ولا من الأرض نباتاً {وَلا يَسْتَطِيعُونَ} أن يملكوه إذ لا استطاعة لهم أصلاً لأنهم جماد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 58
{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الامْثَالَ} أي : فلا تشبهوا الله بشيء من خلقه وتشركوا به فإن ضرب المثل تشبيه حال بحال وقصة بقصة والله تعالى واحد حقيقي لا شبه له أزلاً وأبداً.
در تصور ذات اورا كنج كو
تادر آيد در تصور مثل او
قال في "الإرشاد" أي : لا تشبهوا بشأنه تعالى شأناً من الشؤون واللام مثلها في قوله تعالى : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ} (التحريم : 10) {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} (التحريم : 11) لا مثلها في قوله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا أَصْحَـابَ الْقَرْيَةِ} (يس : 13) ونظائره {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} كنه ما تفعلون وعظمه وهو معاقبكم عليه بما يوازيه في العظم {وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ذلك ولو علمتموه لما جرأتم عليه فالله تعالى هو العالم بالخطأ والصواب ومن خطأ الإنسان عبادته الدنيا والهوى وطلب المقاصد من المخلوقين وجعلهم أمثال الله وليس في الوجود مؤثر إلا الله تعالى فهو المقصود ومنه الوصول إليه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "إن الله احتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار وأن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم" وذلك لأن الله تعالى ليس له زمان ولا مكان وإن كان الزمان والمكان مملوءين من نوره فأهل السماء والأرض في طلبه سواء.
وقال موسى عليه السلام : أين أجدك يا رب؟ قال : يا موسى إذا قصدت إليّ فقد وصلت إليّ أشار تعالى إلى أن القاصد واصل بغير زمان ومكان وإنما الكلام في القصد الوجداني الجمعي والميل الكلي لأن من طلب وجدّ وجد ومن قرع الباب ولجّ ولج والباب هو باب القلب فإن منه يدخل المرؤ بيت المعرفة الإلهية ثم يصل إلى صدر المشاهدة الربانية فيحصل الإنس والحضور والذوق والصفاء ويرتفع الهيبة والحيرة والوحشة والغفلة والكدر والجفاء اللهم اجعلنا من الواصلين آمين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 59
(5/45)
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} ضرب المثل تشبيه حال بحال وقصة بقصة أي : ذكر وأورد شيئاً يستدل به على تباين الحال بين جنابه وبين ما أشركوا به وليس المراد حكاية ضرب الماضي بل المراد إنشاؤه بما ذكر عقيبه {عَبْدًا مَّمْلُوكًا} بدل من مثلاً وتفسير له والمثل في الحقيقة حالته العارضة له من المملوكية والعجز التام وبحسبها ضرب نفسه مثلاً ووصفه بالمملوكية ليخرج عنها الحر لاشتراكهما في كونهما عبداًتعالى {لا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} وصفه بعدم القدرة لتمييزه عن المكاتب والمأذون اللذين لهما تصرف في الجملة {وَمَن رَّزَقْنَـاهُ} من موصوفة معطوفة على عبداً كأنه قيل وحراً رزقناه بطريق الملك ليطابق عبداً {مِنَّا} من جانبنا الكبير المتعال {رِزْقًا حَسَنًا} حلالاً طيباً أو مستحسناً عند الله مرضياً.
قال الكاشفي : (روزى نيكو يعني بسيار وبي مزاحم كه درو تصرف تواند كرد) {فَهُوَ} (س اين مرزوق) {يُنفِقُ مِنْهُ} أي : من ذلك الرزق الحسن {سِرًّا وَجَهْرًا} أي : حال السر والجهر وقدم السر على الجهر للإيذان بفضله عليه.
قال الكاشفي : (نهان وآشكارا يعني هر نوع كه ميخواهد خرج ميكند وازكس نميترسد) {هَلْ يَسْتَوُانَ} جمع الضمير للإيذان بأن المراد مما ذكر من اتصف
59
بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لافردان متعينان منهما.
والمعنى بالفارسية : (آيا برابرند يعني مساوى نباشدن بندكان بي اختيار باخواجكان صاحب اقتدار س ون مملوك عاجز بامالك قادر متصرف برابر نيست س بتان كه اعجز مخلوقاتند شريك قادر على الاطلاق كونه توانند بود) :
را تو بنور لا يزالي
از شرك وشريك هردو خالي
آن بنده كه عاجزست ومحتاج
كى راه برد بصاحب تاج
ما للتراب ورب الأرباب (صاحب كشف المحجوب آورده كه روزى بخلوت شيخ أبو العباس شيباني در آمدم ويرا ديدم كه اين آيت ميخواندو ميكريست ونعره مى زدنداشتم كه ازدنيا بخواهد رفت كفتم أي شيخ اين ه حالستست فرمودكه يازده سال ميكذرد تاورد من اينجار سيده است وازينجادر نميتوانم كذشت آرى حدوث درقدم نميتواندر سيدو ممكن ازكنه واجب خبر نتواندداد) :
جزء : 5 رقم الصفحة : 59
نيست باهست ون زند هلو
قطره بابحر ون كند دعوى
{الْحَمْدُ} اعتراض أي : كل الحمدتعالى لأنه معطي جميع النعم وإن ظهرت على أيدي بعض الوسائط وليس شيء من الحمد للأصنام لعدم استحقاقها إياه فضلاً عن العباد {بَلْ أَكْثَرُهُمْ} (بلكه اكثر مشركان.
يعني همه ايشان) {لا يَعْلَمُونَ} ذلك فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها.
وفي "الإرشاد" نفي العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لا يعلمون بموجبه عناداً كقوله تعالى : {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَـافِرُونَ} (النحل : 83) {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على أوضح وجه وأظهره {رَّجُلَيْنِ} .
قال في "الكواشي" : تقديره مثلاً مثل رجلين فمثلاً الأول مفعول والثاني بدل منه أو بيان فحذف الثاني وأقيم مقامه رجلين.
{أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} وهو من ولد أخرس ولا بد أن يكون أصم كما قال الكاشفي : (وبى شبهه كنك مادر زاد نشود) {لا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره بحدس أو فراسة لقلة فهمه وسوء إدراكه {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَـاهُ} ثقل وعيال على من يعوله ويلي أمره وهذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته على شيء مطلقاً {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ} أي حيث يرسله مولاه في أمره وكفاية مهم وهو بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح مولاه ولو كانت مصلحة يسيرة {لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} (باز نيامد به نيكويى يعني كارى نسازد وكفايتي نكند لا يفهم ولا يفهم) {هَلْ يَسْتَوِى هُوَ} (آيا برابر باشد اين ابكم) مع ما فيه من الأوصاف المذكورة {وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} أي : من هو منطيق فهم ذو رأي : وكفاية ورشد ينفع الناس يحثهم على العدل الجامع لجميع الفضائل والمكارم وهذا كسحبان وباقل فإن سحبان كان رجلاً فصيحاً بليغاً متكلماً بحيث لا يقطع الكلام ولو سرده يوماً وليلة ولا يكرر ولو اقتضى الحال فبعبارة أخرى ولا يتنحنح وان باقلاً كان رجلاً اشترى ظبياً بأحد عشر درهماً فسئل عن شرائه ففتح كفيه وأخرج لسانه يشير إلى ثمنه فانفلت الظبي فضرب به المثل في العي
جزء : 5 رقم الصفحة : 59
{وَهُوَ} في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام للخاص والعام {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (برراهى راستست وسيرتى درست وطريقه
60
(5/46)
سنديده كه بهر مطلب كه توجه نمايد زود بمقصد ومقصود رسد س نانكه بجاهل مساوى اين كامل فاضل نيست س بتان بي اعتبار را مساوات باحضرت روردكار جل شانه نباشد).
وقال الإمام السهيلي في كتاب "التعريف والإعلام فيما أبهم من القرآن" : أن الأبكم هو أبو جهل واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
والذي يأمره بالعدل عمار بن ياسر العنسي وعنس بالنون حي من مدلج وكان حليفاً لبني مخزوم رهطاً أبي جهل وكان أبو جهل يعذبه على الإسلام ويعذب أمه سمية وكانت مولاة لأبي جهل وقال لها ذات يوم : إنما آمنت بمحمد لأنك تحبينه لجماله ثم طعنها بالرمح في فيها فماتت فكانت أول شهيدة في الإسلام.
وفي الآية إشارة إلى أن النفس الأمارة لا تقدر على شيء من الخير لأن من شأنها متابعة هواها ومخالفة مولاها وأن الروح من شأنه أن يأمر النفس بطاعة الله وحسن عبوديته كما أن النفس تأمر الروح بمعاصي الله وعبودية هواها فالتوفيق في جانب الروح وأعداء المؤمن ثلاثة : النفس ، والشيطان ، والدنيا ، فحارب النفس بالمخالفة وحارب الشيطان بالذكر وحارب الدنيا بالقناعة.
وعن حكيم نفسك لصك فاحفظها وهي عدوك فجاهدها كذا في "الخالصة".
{وَلِلَّهِ} تعالى خاصة لا لأحد غيره استقلالاً ولا إشراكاً وكان كفار قريش يستعجلون وقوع القيامة استهزاء فأنزل الله تعالى هذه الآية {غَيْبَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي : علم ما غاب فيهما عن العباد.
قال في "الإرشاد" : فيه إشعار بأن علمه سبحانه حضوري فإن تحقق الغيوب في أنفسها علم بالنسبة إليه تعالى ولذلك لم يقل ولله علم غيب السموات والأرض {وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ} الساعة اسم لوقت تقوم فيه القيامة سمي بها لأنها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم أي : وما شأن قيام القيامة التي هي من الغيوب في سرعة المجيىء {إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} اللمح النظر بسرعة أي : كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها.
يعني : (آوردن خداي تعالى مر قيامت را آسانترست ازآنكه شما ديده برهم زنيد) {أَوْ هُوَ} أي : بل أمرها فيما ذكر من السرعة والسهولة {أَقْرَبُ} من لمح البصر وأسرع زماناً.
قال الكاشفي : (أقرب نزديكتراست ه لمح بصر دو فعل است وضع جفن ورفع آن وإيقاع قيامت باحياء موتى يك فعل س ممكن است ووقوع آن در نصف زمان اين حركت) وأوليست للشك بل للتخيير أي : تخيير المخاطبين بين أن يشبهوا أمر قيامها بلمح البصر وأن يقولوا هو أقرب وإنما ضرب به المثل لأنه لا يعرف زمان أقل منه {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق لأن بعض المقدورات.
يعني : (تواند احياء خلائق دفعة نانه قادراست برا حياء ايشان بر سبيل تدريج س از ابتداء ظهور ايشان خبر داد تا ز مبدأ وبر معاد استدلال كنند).
جزء : 5 رقم الصفحة : 59
واعلم أنهم قالوا : (كره قيامت دير آمد ولى مى آمد) يعني هوداننٍ عند الله تعالى وإن كان بعيداً عندنا فلا بد من التهيىء له.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلّم متى الساعة؟ قال عليه السلام : "ما أعددت لها؟" قال : لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله فقال : "أنت مع من أحببت" وشرط كون المرء مع من أحب أن يشترك معه في الدين ويتحد ومن مقتضاه إتيان المأمورات وترك المحظورات فإن المحبة الكاملة لا تحصل إلا به فمن خالف أمر الله تعالى وأمر نبيه فقد فارقهما فكيف يحبهما مع البينونة؟ قال الشيخ سعدي قدس سره :
61
نظر دوست نادر كند سوى تو
ودر روى دشمن بودروى تو
ندانى كه كمتر نهد دوست اي
وبيندكه دشمن بود درسراى
ثم اعلم أن رجوع النفس إلى ربها يكون بإماتتها عن أوصافها وأحيائها بصفات الله والإماتة تكون بتجلي صفة الجلال والاحياء يتجلى صفة الجمال فإذا تجلى الله لعبد لا يبقى له زمان ولا مكان إذ هو فان عن وجوده باق ببقاء الحق إن الله على كل شيء من المواهب التي يعزبها أولياءه قدير وإن لم يفهم الأغبياء بعقولهم كيفية تلك المعارف والكمالات بل العقلاء بعقولهم السليمة بمعزل من إدراك تلك الحقائق وذلك لأنها خارجة عن طور العقل.
سيل ضعيف واصل دريا نميشود†
والتجليات ثلاثة : الأول : التجلي العلمي وأهله من أصحاب البرازخ لا يصح أن يكون مرشداً إلا تقليداً.
والثاني : التجلي العيني.
والثالث : التجلي الحقي وأهلهما من أرباب اليقين والوصول من شأنهم إرشاد الناس في جميع المراتب أي : في مرتبة الطبيعة والنفس والقلب والروح والطريقة والمعرفة والحقيقة وهم أهل البصيرة الذين أشير إليهم في قوله تعالى : {قُلْ هَـاذِه سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى} (يوسف : 108) فعليك بالاقتداء بهم دون غيرهم.
فإن قلت ما الفرق بين أهل التجلي الثاني والثالث؟ قلت إنهما بعد اشتراكهما في أن كلاً منهما قطب إرشاد يتميز الثالث بالقطبية الكبرى التي هي أعلى المناصب.
(5/47)
جزء : 5 رقم الصفحة : 59
{وَاللَّهُ} تعالى وحده {أَخْرَجَكُم مِّنا بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ} جمع الأم زيدت الهاء فيها كما زيدت في الإهراق من أراق {لا تَعْلَمُونَ شَيْـاًا} أي : حال كونكم غير عالمين شيئاً أصلاً من أمور الدنيا والآخرة ولا مما كانت أرواحكم تعلم في عالم الأرواح ولا مما كانت ذراتكم تعلم من فهم خطاب ربكم إذ قال : ألست بربكم ولا مما علمت إذ قالت بالجواب بلى ولا مما تعلم الحيوانات حين ولادتها من طلب غذائها ومعرفة أمها والرجوع إليها والاهتداء إلى ضروعها وطريق تحصيل اللبن منها ومشيها خلفها وغير ذلك مما تعلم الحيوانات وتهتدي إليه ولا يعلم الطفل منه شيئاً ولا يتهدى إليه قال الشيخ سعدي قدس سره :
مر غك از بيضه برون آيدوروزى طلبد
آدمي به ندارد خبر وعقل وتميز
جزء : 5 رقم الصفحة : 62
{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ} قدمه على البصر لما أنه طريق تلقى الوحي ولذا ابتلي بعض الأنبياء بالعمى دون الصمم أو لأن إدراكه أقدم من إدراك البصر ألا ترى أن الوليد يتأخر انفتاح عينيه عن السمع وإفراده باعتبار كونه مصدراً في الأصل {وَالابْصَـارَ} جمع بصر وهي محركة حس العين {وَالافْـاِدَةَ} جمع فؤاد وهو وسط القلب وهو من القلب كالقلب من الصدر وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة.
قال في "بحر العلوم" : استعملت في هذه الآية وفي سائر آيات وردت فيها في الكثرة لأن الخطاب في جعل لكم وأنشأ لكم عام.
والمعنى جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء وتدركون بأفئدتكم وتنتبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرر الإحساس فيحصل لكم علوم بديعية تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلوم الكسبية.
62
واعلم أن قوله : {وَجَعَلَ} عطف على أخرجكم وليس فيه دلالة على تأخر الجعل المذكور عند الإخراج لما أن مدلول الواو هو الجمع مطلقاً لا الترتيب على أن أثر ذلك الجعل لا يظهر قبل الإخراج كما في "الإرشاد".
والتحقيق أنتعالى صفات سبعاً مرتبة وهي الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام وإذا قلب الكلام يصير كمالاً فآخر الكمال الكلام كما أن أول الكمال الكلام لأن أول التعينات الإلهية هي الهوية الذاتية وآخرها الكلام مطلقاً وعلى هذا يدور الأمر في المظهر الإنساني ألا ترى أن أول ما يبدو في الجنين حس السمع ثم البصر ثم الكلام ولذا حرم تزوج الحبلى من النكاح اتفاقاً ومن الزنى اختلافاً لما قال عليه السلام : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر لا يسقين ماءه زرع غيره".
فإن قيل فم الرحم منسد بالحبل فكيف يوجد سقي الزرع.
قلنا قد جاء في الخبر "إن سمع الحمل وبصره يزداد حده بالوطىء" فظهر أن آخر ما يظهر بعد الولادة هو الكلام ومقتضى مقام الامتنان أن هذه القوى إنما تظهر آثارها بعد الإخراج من بطون الأمهات وهذا لا ينافي حصولها قبله بالقوة القريبة من الفعل {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إرادة أن تشكروا هذه الآلات وشكرها استعمالها فيما خلقت لأجله من استماع كلام الله وأحاديث رسول الله وحكم أوليائه وما ليس فيه ارتكاب منهي ومن النظر إلى آيات الله والاستدلال بها على وجوده ووحدته وعلمه وقدرته فمن استعملها في غير ما خلقت له فقد كفر جلائل نعم الله تعالى وخان في أماناته ، قال الشيخ السعدي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 62
كذر كاه قرآن وندس كوش
به بهتان وباطل شنيدن مكوش
دوشم ازى صنع بارى نكوست
زعيب برادر فرو كيرو دوست
وقال الصائب :
ترابكو هردل كرده اند امانتدار
زدزد امانت حق را نكاهدار مخسب
وفي "التأويلات النجمية" : {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَ} لأجسادكم كما جعل للحيوانات لتسمعوا بها وتبصروا وتفهموا ما يسمع الحيوان ويبصر ويفهم وجعل لأرواحكم سمعاً تسمعون به ما تسمع الملائكة وبصراً تبصرون به ما تبصر الملائكة وفؤاداً تفهمون به ما تفهم الملائكة وجعل لأسراركم سمعاً تسمعون بالله وبصراً تبصرون بالله وفؤاداً تعرفون بالله وهذه الحواس مستفادة من قوله تعالى : "كنت له سمعاً وبصراً ولساناً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق" {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} بهذه الآلات نعم الله وأداء شكر نعم الله باستعمالها وصرفها في طلب الله وترك الالتفات إلى النعم بل للمنعم.
وفي الآية إشارة أخرى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم أي : من العدم وهو الأم الحقيقي لا تعلمون شيئاً قبل أن يعلمكم الله أسماء كل شيء وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة حين خاطبكم بقوله : ألست بربكم فتجلى لكم بروبوبيته فبنور سمعه أعطاكم لساناً تجيبونه بقولكم بلى لعلكم تشكرون فلا تسمعون بهذا السمع إلا كلامه ولا تبصرون بهذا البصر إلا جماله ولا تحبون بهذا الفؤاد إلا ذاته ولا تكلمون بهذا اللسان إلا معه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 62
(5/48)
{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} تقرير لمن ينظر إليهن وتعجيب من شأنهن.
والطير جمع طائر أي : ألم ينظروا
63
إليها ليستدلوا بها على قدرة الله تعالى {مُسَخَّرَاتُ} مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المساعدة له.
وفيه مبالغة من حيث أن التسخير جعل الشيء منقاداً للآخر يتصرف فيه كيف يشاء كتسخير البحر والفلك والدواب للإنسان والواقع هنا تسخير الهواء للطير لتطير فيه كيف تشاء فكان مقتضى طبيعة الطير السقوط فسخرها الله للطيران.
وفيه تنبيه على أن الطيران ليس بمقتضى طبع الطير بل ذلك بتسخير الله تعالى وكذا إحراق النار وإهلاك البرد ليسا بذاتهما بل بتأثير الله تعالى وعلى هذا {فِى جَوِّ السَّمَآءِ} في الهواء غير متباعد من الأرض وإضافته إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر.
قال في "القاموس" الجو الهواء {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الجو عن السقوط حين قبض أجنحتهن وبسطها ووقوفهن {إِلا اللَّهُ} بقدرته الواسعة وتدبيره لهن من الريوش الكبار والصغار فإن ثقل جسدها ورقة قوام الهواء يقتضيان سقوطها ولا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها تمسكها والهواء للطائر كالماء للسابح فهو يقبض يديه ويبسطها ولا يغرق مع ثقل جسده ورقة الماء وأعجب من ذلك وأدل فيه على القدرة الباهرة تعشيش بعض الطير في الهواء.
ومن أخبار الرشيد أنه خرج يوماً للصيد فأرسل بازاً أشهب فلم يزل يعلو حتى غاب في الهواء ثم رجع بعد اليأس منه ومعه سمكة فأحضر الرشيد العلماء وسألهم عن ذلك فقال مقاتل : يا أمير المؤمنين روينا عن جدك ابن عباس رضي الله عنهما أن الهواء معمور بأمم مختلفة الخلق فيه دواب بيض تفرخ فيه شيئاً على هيئة السمك لها أجنحة ليست بذات ريش فأجاز مقاتلاً على ذلك وأكرمه.
ومن ذلك الطير الأبابيل التي رمت أصحاب الفيل بحجارة من سجيل وهي الطير السود على هيئة الخطاطيف.
ومن ذلك ما يقال له بالفارسية (هما) فإنه من سكان الهواء يبيض ويفرخ فيه وليس له رجل وهو في جثة العقعق إلا أنه سكري اللون ويوجد جسده بعد وفاته في صحارى الهند.
ومن عجائب الطيور الرخ بالضم وهو طير في جزائر الصين يكون جناحه الواحد عشرة آلاف باع.
قال في "القاموس" : هو طائر كبير يحمل الكركدان انتهى.
وكان وصل إلى المغرب رجل من التجار ممن سافر في بحر الصين وألقتهم الريح إلى جزيرة عظيمة فخرج إليها أهل السفينة ليأخذوا الماء والحطب فرأوا قبة عظيمة أعلى من مائة ذراع لها لمعان وبريق فعجبوا منها فلما دنوا منها إذا هي بيضة الرخ فجعلوا يضربونها بالخشب والفؤوس والحجارة حتى انشقت عن فرخ كأنه جبل فتعلقوا بريش جناحه فجروه فنفض جناحه فبقيت هذه الريشة معهم خرج أصلها من جناحه ولم يكمل بعد خلقه فقتلوه وحملوا ما قدروا عليه من لحمه فلما طلعت الشمس إذ الرخ قد أقبل في الهواء كالسحابة العظيمة في رجله قطعة حجر كالبيت العظيم أكبر من السفينة فلما حاذى السفينة ألقى ذلك الحجر بسرعة فوقع الحجر في البحر وسبقت السفينة ونجاهم الله تعالى بفضله ورحمته كذا في "حياة الحيوان".
جزء : 5 رقم الصفحة : 62
{إِنَّ فِى ذَالِكَ} الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها خلقة يمكن معها الطيران بأن جعل لها أجنحة خفيفة وأذناباً كذلك وخلق الجوّ بحيث يمكن الطيران فيه وإمساكها في الهواء على خلاف طباعها {لايَـاتٍ} (نشانها ظاهرست) {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي : من شأنهم أن يؤمنوا وإنما
64
خص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به حيث يطيرون في هواء المعرفة بجناح التفكر فيما ذكر ويصلون إلى وكر الكرامة.
فكر ازين خانه فرازت كشد
سوى سرا رده رازت كشد
وفي "المثنوي" :
كر بينى ميل خود سوى سبا
ر دولت بركشا همون هما
ورببيني ميل خود سوى زمين
نوحه ميكن هي منشين ازحنين
وفي الحديث : "كونوا في الدنيا أضيافاً واتخذوا المساجد بيوتاً وعودوا قلوبكم الرقة وأكثروا من التفكر والبكاء ولا يختلفن بكم الأهواء".
وعن محمد عبد الله أنه قال : الفكرة على خمسة أوجه : فكرة في آيات الله يتولد منها المعرفة.
وفكرة في آلاء الله ونعمائه يتولد منها المحبة.
وفكرة في وعد الله وثوابه يتولد منها الرغبة.
وفكرة في وعد الله وعقابه يتولد منها الرهبة.
وفكرة في جفاء النفوس بجنب إحسان الله إليها يتولد منها الحياء والندم.
وفي الآية إشارة إلى أن طير الأرواح مسخرة في جو سماء القلوب لا يمسكهن إلا الله لأن الأرواح علويات وإنما سكونها في سفل الأجساد بتسخير الله إياها كقوله : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (الحجر : 429) وقوله : {ثُمَّ رَدَدْنَـاهُ أَسْفَلَ سَـافِلِينَ} (التين : 5) وهذا كسلطان نزل في خراب بحسب الاقتضاء وإلا فشأنه أعلى من ذلك وجاهه أرفع منه كما لا يخفى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 62
(5/49)
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنا بُيُوتِكُمْ} المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدر وهو تبيين لذلك المجعول المبهم في الجملة {سَكَنًا} فعل بمعنى مفعول أي : موضعاً تسكنون فيه وقت إقامتكم.
وبالفارسية (آرامكاهى).
قال في "الكواشي" : كل ما يسكن إليه أو فيه سكن بمعنى مسكن.
وفي "الواقعات المحمودية" للسلوك شروط ثلاثة : الزمان ، والمكان ، والأخوان.
أما الأولان فلأنه لا بد من خلو الزمان عن الفترة وكذا المكان.
وأما الأخوان فلتدارك حوائج السالك لئلا يتقيد بها فلا بد من الشرائط المذكورة لدوام السلوك واستمراره من غير انقطاع انتهى.
والظاهر أن المكان أقدم للسلوك ثم الزمان ثم الإخوان ثم صفاء الخاطر.
وفي "الأسرار المحمدية" : الغرض في المسكن دفع المطر والبرد وأقل الدرجات فيه معلوم وما زاد عليه فهو من الفضول والاقتصار على الأقل والأدنى يمكن في الديار الحارة أما في البلاد الباردة في غلبة البرد ونفوذه من الجدران الضعيفة حتى كاد يهلك أو قمرض فالبناء بالطين وأحكامه لا يخرجه عن حد الزاهدين وكذا في أيام الصيف عند اشتداد الحر واستضرار أولاده بالبيت الشتوي السفلي لعدم نفوذ الهواء البارد فيه ومن البراغيث في الليل والمزعجات عن النوم وأنواع الحشرات فيه فلا يجوز حملهم على الزهد بأن يتركهم على هذه الحال بل عليه أن يبنى لهم صيفياً علوياً لما روينا عن النبي عليه الصلاة والسلام : "من بنى بنياناً في غير ظلم ولا اعتداء أو غرس غراساً في غير ظلم ولا اعتداء كان له أجراً جارياً ما انتفع به أحد من خلق الرحمن" انتهى.
وكتب بهلول على حائط من حيطان قصر عظيم بناه أخوه الخليفة هارون الرشيد يا هارون رفعت الطين ووضعت الدين رفعت الجص ووضعت النص إن كان من مالك فقد أسرفت إن الله لا يحب المسرفين وإن كان من مال غيرك ظلمت إن الله لا يحب الظالمين {وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الانْعَـامِ} (از وست هار ايان) جمع نعم بالفتح وهو مخصوص بالأنواع الأربعة التي هي الإبل والبقر والغنم والمعز {بُيُوتًا}
65
أخر مغايرة لبيوتكم المعهودة وهي الخيام والقباب والأخبية والفساطيط من الأنطاع والأدم.
{تَسْتَخِفُّونَهَا} تجدونها خفيفة يخف عليكم نقضها وحملها ونقلها {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ}
جزء : 5 رقم الصفحة : 62
أي : وقت ترحلكم وسفركم {وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} وقت نزولكم في الضرب والبناء.
{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ} جمع صوف ووبر وشعر والكنايات راجعة إلى الأنعام أي : وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز {أَثَـاثًا} أي : متاع البيت مما يلبس ويفرش {وَمَتَـاعًا} أي : شيئاً يمتع به بفنون التمتع {إِلَى حِينٍ} إلى مدة من الزمان فإنها لصلابتها تبقى مدة مديدة.
قال الجاحظ : اتفقوا على أن الضأن أفضل من المعز بدليل الأضحية ويفضل المعز على الضأن لغزارة اللبن وثخانة الجلد وما نقص من ألية المعز يزيد في شحمه ولذلك قالوا زيادة المعز في بطنه ولما خلق الله جلد الضأن رقيقاً غزر صوفه ولما خلق الله جلد المعز ثخيناً قل شعره كذا في "حياة الحيوان" فالله تعالى خلق هذه الأنعام للانتفاع بجلودها ولحومها وأصوافها وأوبارها وأشعارها ولا يجوز الانتفاع بشحوم الميتة.
وعن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول عام الفتح وهو بمكة : "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلي بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال : "لا هو حرام" والاستصباح (راغ فراكرفتن) وكما أن هذه الحيوانات وما يتبعها ينتفع بها الإنسان في سفره وحضره فكذا القوى الحيوانية والحواس الخمس ينتفع بها السالك في السير إلى الله فإنها مطية وفي وقت الوقفة للاستراحة والتربية فإنها مما لا بد منه لكونها من الأسباب المعينة ، قال الكمالي الخجندي :
باكرم روى واقف اين راه نين كفت
آهسته كه اين ره بدويدن نتوان يافت
جزء : 5 رقم الصفحة : 62
(5/50)
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ} من غير صنع من قبلكم {ظِلَـالا} جمع ظل وهو ما يستظل به أي : أشياء تستظلون بها من الحر كالغمام والشجر والجبل وغيرها امتنّ سبحانه بذلك لما أن تلك الديار غالبة الحرارة {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَـانًا} (وششها) جمع كن وهو ما يستكن فيه أي : مواضع تستكنون فيها من الكهوف والغيران والسروب.
قال عطاء : إنما أنزل القرآن على قدر معرفتهم ألا ترى أنه تعالى قال : {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَـانًا} وما جعل من السهولة أعظم منه ولكنهم كانوا أصحاب جبال {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} جمع سربال وهو كل ما يلبس أي : جعل لكم ثياباً من القطن والكتان والصوف وغيرها {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (نكاه ميدارد شمارا ازضرر كرما) ولم يذكر البرد لدلالته عليه لأنه نقيضه أو لأن وقايته هي الأهم عندهم لكون البرد يسيراً محتملاً بخلاف الديار الرومية فإنها غالبة البرودة ولذا قيل : الحر يؤذي الرجل والبرد يقتله.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره برد الربيع غير مضر لكن هذا في ديار العرب فإن في برد تلك الديار اعتدالاً بخلاف ديارنا وفي الحديث "اغتنموا برد الربيع فإنه يعمل بأبدانكم كما يعمل بأشجاركم واجتنبوا برد الخريف فإنه يعمل بأبدانكم كما يعمل بأشجاركم" ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 66
آن خزان نزد خدا نفس وهواست
عقل وجان عين بهارست وبقاست
66
مر ترا عقلست جزؤى درنهان
كامل العقلي بجو اندر جهان
جزؤ تو از كل اوكلى شود
عقل كل بر نفس ون غلى شود
س بتأويل اين بود كانفاس اك
ون بهارست وحيات برك تاك
از حديث اوليا ترم ودرشت
تن موشان زانكه دينت راست شت
كرم كويد سرد كويد خوش بكير
تاز كرم وسرد بجهى وازسعير
كرم وسردش نوبهار زند كيست
ماية صدق ويقين بند كيست
زانكه زان بستان جانها زنده است
زين جواهر بحردل آكنده است
{وَسَرَابِيلَ} ودروعاً من الحديد {تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} أي : البأس والألم الذي يصل إلى بعضكم من بعض في الحرب من الضرب والطعن.
والبأس الشدة في الحرب والقتل والجراحة كما في "التبيان" وأول من عمل الدرع داود عليه السلام فإن الله تعالى ألان له الحديد كالشمع كما قال : {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (سبأ : 10) وصحب لقمان داود شهوراً وكان يسرد الدرع فلم يسأله عنها فلما أتمه لبسها وقال : نعم لبس الحرب أنت.
و لقمان ديد كاندر دست داود
همى آهن بمعجز مود كردد
نه رسيدش ه ميسازى كه دانست
كه بى ر سيدنش معلوم كردد
{كَذَالِكَ} كإتمام هذه النعم التي تقدمت {يُتِمُّ نِعْمَتَه عَلَيْكُمْ} يا معشر قريش {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} الإسلام ههنا بمعنى الاستسلام والانقياد وضع موضع سببه وهو تنظرون وتتفكرون أي إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرة والباطنة والأنفسية والآفاقية فتعرفوا حق منعهما فتؤمنوا به وحده وتذروا ما كنتم به تشركون وتنقادوا لأمره.
{فَإِن تَوَلَّوْا} فعل ماض أي : فإن أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا منك ما ألقى إليهم من البينات والعبر والعظات وفي صيغة التفعل إشارة إلى أن الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على الله والإعراض لا يكون إلا بنوع تكلف ومعالجة {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ} أي : فلا قصور من جهتك لأن وظيفتك هي البلاغ الموضح أو الواضح وقد فعلته بما لا مزيد عليه فهو من باب وضع السبب موضع المسبب عكس لعلكم تسلمون ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 66
ما نصيحت بجاى خود كرديم
روزكارى درين بسر برديم
كر نيايد بكوش رغبت كس
بر رسولان يام باشد وبس
وقال :
بكوى آنه دانى سخن سودمند
وكر هي كس را نيايد سند
كه فردا شيما بر آرد خروش
كه اوخ راحق نكردم بكوش
{يَعْرِفُونَ} أي : بعض المشركين {فَكُلُوا مِمَّا} المعدودة في هذه السورة ويعترفون أنها من الله {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} بأفعالهم حيث يعبدون غير منعمها أو بقولهم أنها بشفاعة آلهتنا أو بسبب كذا ومعنى ثم استبعاد الإنكار بعد حصول المعرفة {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَـافِرُونَ} أي : المنكرون بقلوبهم غير المعترفين بما ذكر.
وفي "التأويلات النجمية" :
67
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ} بتعريفك {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَـافِرُونَ} بك وبنعمة الله إظهاراً للقهر فمن وصل إليه النعمة من يد أحد فلا بد من الشكر فإنه الواسطة وإلا فقد تعرض لحرمان كثير من النعم الإلهية.
و بيابى تو نعمتي درند
خرد باشد و نقطه موهوم
شكر آن يافته فرو مكذار
كه زنا يافتة شوى محروم
قال السري السقطي قدس سره : الشكر على ثلاثة أوجه : شكر القلب ، وشكر البدن ، وشكر اللسان.
فشكر القلب أن يعرف العبد أن النعم كلها من الله تعالى.
وشكر البدن أن لا يستعمل جارحة من جوارحه إلا في طاعة الله.
وشكر اللسان دوام حمد الله.
(5/51)
ـ وروي ـ أن عيسى عليه السلام مرّ بغني فأخذ بيده فذهب به إلى فقير فقال : هذا أخوك في الإسلام وقد فضلك الله عليه بالسعة فاشكرعلى ذلك ثم أخذ بيد الفقير فذهب به إلى مريض فقال : إن كنت فقيراً فلست بمريض ما كنت تصنع لو كنت فقيراً مريضاً فاشكرثم ذهب بالمريض إلى كافر فقال : ما كنت تصنع لو كنت فقيراً مريضاً كافراً فاشكرفهداهم إلى الشكر بطريق المشاهدة ومقابلة حالهم بحال من سواهم ونبههم من الغفلة ليقبلوا على الشكر ويحترزوا عن الكفران.
واعلم أن الكفر بالله أشد من الكفر بنعمة الله لأن الأول لا يفارق الثاني بخلاف العكس لأن بعض الكفرة قد يكفر بنعمة الله ولا يكفر بالله فيجمع بين الإيمان بالله والكفر بنعمته ولذا قال الله تعالى عبارة {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلا وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف : 106) وكنى إشارة عن أنه ما يؤمن أقلهم بالله إلا وهم موحدون وهم المؤمنون حقاً وصدقاً فأولئك هم المخلصون المفلحون.
جزء : 5 رقم الصفحة : 66
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ} أي : اذكر يا أفضل الرسل يوم نحشر وهو يوم القيامة {مِن كُلِّ أُمَّةٍ} (ازميان هر كروهى) {شَهِيدًا} نبياً يشهد لهم بالإيمان والطاعة وعليهم بالكفر والعصيان {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} في الاعتذار إذ لا عذر لهم.
والعذر في الأصل تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه بأن يقول لم أفعل أو فعلت لأجل كذا أو فعلت ولا أعود ، وثم للدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع عن الاعتذار المنبىء عن الإقناط الكلي وهو عندما يقال لهم اخسأوا فيها ولا تكلمون أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام فهي للتراخي الرتبى {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يسترضون أي : لا يقال لهم ارضوا ربكم ولا يطلب منهم ما يوجب العتبى وهي الرضى وذلك لأن الرضى إنما يكون بالإيمان والعمل الصالح والآخرة دار الجزاء لا دار العمل والتكليف والدنيا مزرعة الآخرة فكل بذر فسد في الأرض وبطل استعداده لقبول التربية ولم يتم أمر نباته إذا حصد وحصل في البيدر لا يفيده أسباب التربية لتغيير أحواله فالأرواح بذور في أرض الأشباح ومربيها ومنبتها وثمرها أعمال الشريعة بشرط الإيمان ومفسدها ومبطلها ومغيرها عن أحوالها الكفر وأعمال الطبيعة والموت حصادها والقيامة بيدرها ، قال الحافظ :
كارى كنيم ورنه خجالت بر آورد
روزيكه رخت جان بجهان دكر كشيم
{وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} كفروا {الْعَذَابِ} الذي يستوجبونه بظلمهم وهو عذاب جهنم صاحوا وطلبوا من مالك تخفيف العذاب {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} ذلك العذاب بعد الدخول {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} أي : لا يمهلون قبله ليستريحوا (أي زمانى ايشانرا مهلت تدهند
68
وبى عذاب نكذارند) فكل من وضع الكفر وأعمال الطبيعة موضع الإيمان وأعمال الشريعة فلا يخفف عنه أثقال الأخلاق الذميمة ولا يؤخر لتبديل مذمومها بمحمودها.
{وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَآءَهُمْ} أوثانهم التي عبدوها {قَالُوا رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ شُرَكَآؤُنَا} أي : آلهتنا التي جعلناها شركاء {الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِن دُونِكَ} أي : نعبدهم متجاوزين عبادتك وهو اعتراف بأنهم كانوا مخطئين في ذلك والتماس بتوزيع العذاب بينهم {فَأَلْقَوُا} أي : شركاؤهم {إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} يقال : ألقيت إلى فلان كذا أي : قلت أي أنطقهم الله تعالى فأجابوهم بالتكذيب وقالوا لهم : {إِنَّكُمْ} أيها المشركون {لَكَـاذِبُونَ} في ادعائكم أننا شركاءإذ ما أمرناكم بعبادتنا وكنا مشغولين بتسبيح الله وطاعته فارغين عنكم وعن أحوالكم كما قال تعالى : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} .
جزء : 5 رقم الصفحة : 66
{وَأَلْقَوْا} أي : المشركون {إِلَى اللَّهِ يَوْمَـاـاِذٍ السَّلَمَ} الاستسلام والانقياد لحكمه بعد الاستكبار عنه في الدنيا :
ون كار ز دست رفت فرياد ه سود
{وَضَلَّ عَنْهُم} أي : ضاع وبطل {مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من أنشركاء وأنهم ينصروهم ويشفعون لهم وذلك حين كذبوهم وتبرأوا منهم.
(5/52)
{الَّذِينَ كَفَرُوا} في أنفسهم {وَصَدُّوا} غيرهم {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر {زِدْنَـاهُمْ عَذَابًا} لصدهم {فَوْقَ الْعَذَابِ} أي : كانوا يستحقونه بكفرهم.
والمعنى بالفارسية (بيفزابيم ايشانرا عذابى بر عذابى) {بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} أي : زدنا عذابهم بسبب استمرارهم على الإفساد وهو الصد المذكور.
قال ابن جبير في زيادة عذابهم هي عقارب أمثال البغال وحيات أمثال البخت تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حميتها أربعين خريفاً ويقال : يسألون الله تعالى ألف سنة المطر ليسكن ما بهم من شدة الحر فيظهر لهم سحابة فيظنون أنها تمطر فجعلت السحابة تمطر عليهم بالحياة والعقارب فيشتد ألمهم لأنه إذا جاء الشر من حيث يؤمل الخير كان أغم.
وقال ابن عباس ومقاتل خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار تسيل من تحت العرش يعذبون بها ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار ، يعني : (نج جوى ازروى كداخته بطرف ايشان روان كردد وبسرجوى ازان معذب شوند در مقدار ساعات شبى ازشبهاى دنيا وبدو جوى ديكر درمت اندازه روزى ازروزهاى اين جهان).
يقول الفقير لعل سر هذا العدد أن أركان الإسلام خمسة لا سيما أن الصلوات الخمس في تطهير الباطن كالأنهار الخمسة الجارية لتطهر الظاهر فلما أضاعوا هذه الأركان وما أقاموها بدل الله بها خمسة أنهار من الصفر المذاب ليعذبوا بها ولكل عمل جزاء وفاق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 69
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ} تكرير لما سبق تثنية للتهديد.
{فِى كُلِّ أُمَّةٍ} (ويادكن اي محمد روزيرا كه برانكيزانيم درميان هركروهى) {شَهِيدًا عَلَيْهِم} أي : نبياً {مِّنْ أَنفُسِهِمْ} من جنسهم قطعاً لمعذرتهم لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم ولوط عليه السلام لما تأهل فيهم وسكن فيما بينهم كان منهم وفي قوله عليهم إشعار بأن شهادة أنبيائهم على الأمم تكون بمحضر منهم {وَجِئْنَا بِكَ} (وبياريم ترا يا محمد) {شَهِيدًا عَلَى هَـاؤُلاءِ} الأمم وشهدائهم كقوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةا بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـاؤُلاءِ شَهِيدًا} (النساء : 41)
69
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} الكامل في الكتابية الحقيق بأن يخص به اسم الجنس وهو القرآن العظيم {تِبْيَـانًا} بياناً بليغاً {لِّكُلِّ شَىْءٍ} يتعلق بأمور الدين ومن ذلك أحوال الأمم مع أنبيائهم.
فإن قلت كيف هذا ومعلوم أن أكثر الأحكام غير مبنية في القرآن ولذلك اختلف العلماء فيها إلى قيام الساعة؟ قلت كونه تبياناً لكل شيء من أمور الدين باعتبار أن فيه نصاً على بعضها وإحالة لبعضها على السنة حيث أمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلّم وطاعته وقيل فيه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} وحثاً على الإجماع وقد رضي رسول الله لأمته باتباع أصحابه حيث قال : "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وقد اجتهدوا وقاسوا ووطأوا طرق الاجتهاد فكانت السنة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب ولم يضر ما في البعض من الخفاء في كونه تبياناً فإن المبالغة باعتبار الكمية دون الكيفية {وَهُدًى} وكاملاً في الهداية من الضلالة {وَرَحْمَةً} للعالمين فإن حرمان الكفرة من مغانم آثاره من تفريطهم لا من جهة الكتاب {وَبُشْرَى} وبشارة بالجنة {لِلْمُسْلِمِينَ} خاصة.
وفيه إشارة إلى أن في الكتاب بيان كل شيء يحتاج إليه السالك في أثناء السلوك والسير إلى الله إلى أن يصل إلى أقصى مقام الكمال المقدر للإنسان وهذا الكتاب هاد يهدي إلى الله عباده برحمته وبشارة لمن أسلم وجههوتابع النبي صلى الله عليه وسلّم بالوصول إلى مقام الكمال وحضرة الجلال وكما أن المنزل عليه هو الرسول والبيان من لسانه يؤخذ لا من لسان غيره فكذا الملهم عليه هو وارث الرسول والإرشاد من تربية غيره فمن أسلم أي : استسلم وانقاد لتربية الوسائط ولم يتحرك بشيء من عند نفسه كالميت على يد الغسال فقد هدى إلى طريق التطهر عن الادناس النفسانية ووصل إلى درجات العارفين ، قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 69
من بسر منزل عنقاً نه بخود بردم راه
قطع اين مرحله بامرغ سليمان كردم
واعلم أن القرآن كاف لأهل الشريعة والحقيقة فمن مشى على ما صرح به وأشار فقد أمن من العثار ومن خرج عن العمل به واتبع نفسه وهواه فقد بعد عن الله وأسخط مولاه قال سهل بن عبد الله : أصول الدين على ركنين التمسك بكتاب الله والاقتداء بسنة رسول الله.
وعن أبي يزيد قدس سره ستة أشياء حصن الأعضاء السبعة : استعمال العلم ، وحسن الأدب ، ومحاسبة النفس ، وحفظ اللسان ، وكثرة العبادة ، ومتابعة السنة.
وقال جنيد البغدادي قدس سره : مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة.
وقال علي رضي الله عنه : الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلّم
(5/53)
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ} في القرآن {بِالْعَدْلِ} بأن لا تظلموا أنفسكم وغيركم ولا تجوروا أي : بالتسوية في الحقوق فيما بينكم وترك الظلم وإيصال كل حق إلى ذي حقه أو يأمر بمراعاة التوسط بين الأمور اعتقاداً كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك والقول بالكسب المتوسط بين الجبر والقدر وكذا القول بأن الله لا يؤاخذ عبده المؤمن بشيء من الذنوب مساهلة عظيمة والقول بأنه يخلده في النار بالمعاصي تشديد عظيم والعدل مذهب أهل السنة وعملاً كالتعبد بأداء الفرائض والواجبات المتوسطة بين البطالة والترهب وخلقاً كالجود المتوسط بين البخل والتبذير والشجاعة المتوسطة بين
70
التهور والجبن والواجب معرفة الوسط في كل شيء فإن القصد ممدوح والإفراط والتفريط مذمومان وقال صلى الله عليه وسلّم لمن سأله مستشيراً في الترهب وصيام الدهر وقيام الليل كله بعد زجره إياه "إن لنفسك عليك حقاً ولزوجك عليك حقاً ولزورك عليك حقاً فصم وافطر وقم ونم" ولما رأى صلى الله عليه وسلّم عمر رضي الله عنه يقرأ رافعاً صوته فسأله فقال : أوقظ الوسنان واطرد الشيطان قال عليه السلام : "اخفض من صوتك قليلاً" وأتى أبا بكر رضي الله عنه فوجده يقرأ خافضاً صوته فسأله فقال : قد أسمعت من ناجيت فقال عليه السلام له : "ارفع من صوتك قليلاً" ومثله الإمام فإنه لا يجهر فوق حاجة الناس ولا يخافت خافضاً صوته بحيث يشتبه عليهم تلاوته فيراعى بين ذلك حداً وسطاً وإلا فهو مسيىء.
وفي "التأويلات النجمية" : العدل صرف ما أعطاك الله من الآلات الجسمانية والروحانية ومن الأموال الدنيوية ومن شرائع الدين وأعماله في طلب الله والسير منك به إليه لأن صرفه في طلب غيره ظلم ، قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 69
فداى دوست نكرديم عمر ومال دريغ
كه كار عشق زما اين قدر نمى آيد
{وَالاحْسَانِ} وأن تحسنوا الأعمال مطلقاً لقوله عليه السلام : "إن الله كتب الإحسان في كل شيء".
وعن فضيل أنه قال : لو أحسن الرجل الإحسان كله وكان له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين.
ـ وروى ـ أن امرأة عذبت في هرة حبستها ولم تطعمها إلى أن ماتت.
وامرأة رحمها الله وغفر لها بسبب أن سقت كلباً عطشاً بخفها.
ـ وحكي ـ أن حضرة الشيخ الشبلي رحمه الله مر في بعض طرق بغداد بهرّة ترعد من برد الهواء فأخذها وجعلها في كمه رحمة لها فكان ذلك سبب قبوله عند الله ووصوله إلى درجة الولاية ويدخل فيه العفو عن الجرائم والإحسان إلى من أساء :
هركه سنكت دهد ثمر بخشش
والصبر على الأوامر والنواهي وأداء النوافل فإن الفرض لا بد من أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب وفي الحديث : "حسنوا نوافلكم فبها تكمل فرائضكم" وفي المرفوع "النافلة هدية المؤمن إلى ربه فليحسن أحدكم هديته وليطيبها" كما في "المقاصد الحسنة".
وأيضاً الإحسان هو المشاهدة كما قال عليه السلام : "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وإن لم تكن تراه فإنه يراك" وليست المشاهدة رؤية الصانع بالبصر وهو ظاهر بل المراد بها حالة تحصل عند الرسوخ في كمال الإعراض عما سوى الله وتمام توجهه إلى حضرته بحيث لا يكون في لسانه وقلبه وهمه غير الله وسميت هذه الحالة المشاهدة لمشاهدة البصيرة إياه تعالى كما أشار إليها بعض العارفين بقوله :
خيالك في عيني وذكرك في فمي
وحبك في قلبي فأين تغيب
كذا في "الرسالة الرومية".
وفي "التأويلات النجمية" : الإحسان أن تحسن إلى الخلق بما أعطاك الله وأراك سبل الرشاد فترشدهم وتسلك بهم طريق الحق للوصول أو الوصال يدل عليه قوله تعالى : {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} انتهى.
وأيضاً العدل الإعراض عما سوى الله والإحسان الإقبال على الله {وَإِيتَآىاِ ذِى الْقُرْبَى} القربى بمعنى القرابة أي : أعطاه الأقارب ما يحتاجون إليه من المال والدعاء بالخير وهو داخل في الإحسان وإنما أفرد بالذكر إظهاراً لجلالة صلة الرحم
71
وتنبيهاً على فضيلتها كقوله تعالى : {تَنَزَّلُ الملائكة وَالرُّوحُ} والرحم عام في كل رحم محرماً كان أو غير محرم وارثاً كان أو غير وارث من أولاد الأعمام والعمات والأخوال والخالات وغير ذلك وقطع الرحم حرام موجب لسخط الله وانقطاع ملائكة الرحمة عن بيت القاطع والصلة واجبة باعثة على كثرة الرزق وزيادة العمر سريعة التأثير ومعناها التفقد بالزيارة والإهداء والإعانة بالقول والفعل وعدم النسيان وأقله التسليم وإرسال السلام أو المكتوب ولا توقيت فيها في الشرع بل العبرة بالعرف والعادة كما في "شرح الطريقة".
قال الكاشفي : (در فصول عبد الوهاب فرموده كه عدل توحيد است ومحبت خداى وإحسان دوستي حضرت بيغمبر وفرستادن صلوات برو وايتاء ذي القربى محبت أهل بيت است) ودعاء أصحابه رضي الله عنهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 69
(5/54)
وفي "التأويلات النجمية" : أقرب القربى إليك نفسك فصلة رحمها أن تنجيها من المهالك وترجع بها إلى مالك الممالك {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ} عن الذنوب المفرطة في القبح قولاً وفعلاً كالكذب والبهتان والاستهانة بالشريعة والزنى واللواطة ونحوها.
وفي "التأويلات" : هي ما يحجبك عن الله ويقطعك عنه أياماً كان من مال أو ولد أو نحوهما فإنه لا أقبح من الانقطاع عن الله ومثله أسبابه فإن ما يجر إلى الأقبح أقبح والعياذ بالله تعالى {وَالْمُنْكَرِ} وعما تنكره النفوس الزاكية السليمة ولا ترتضيه كما في "بحر العلوم" أو هو الشرك أو مما لا يعرف في شريعة ولا سنة أو الإصرار عن الذنب أو ما أسخط الله تعالى.
وفي "التأويلات" : ما ينكر به عليك من إضلال أهل الحق وإغوائهم وإحداث البدع وإثارة الفتن كما في أهالي هذا الزمان خصوصاً متصوفهم {وَالْبَغْىِ} والظلم والاستيلاء على الناس والتطاول عليهم بلا سبب وتحبس عيوبهم وغيبتهم والطعن عليهم والتجاوز من الحق إلى الباطل ونحو ذلك.
وفي "التأويلات" : هو ما ثار من سورة صفات نفسك فيصيب الخلق منك ما يضرهم ويؤذيهم (وآثرا بقوت رياضت ببايد شكست تا قواعد سلوك درستى يابد زيرا بحكم اعدى عدوك بدترين دشمن نفس است) :
اين سك نفس شوم ويد كاره
كه دراغوش تست همواره
بدترين قاصديست جان ترا
مى خورد مغز استخوان ترا
بيشتر كوترا ببندد جست
محكمش بندكن كه دشمن تست
(
جزء : 5 رقم الصفحة : 69
در لطائف التقرير در تفسير اين آيت آورده كه استقامت مالك بسه يزبود واضطراب اين بسه يز منهى عنه وهريك ازينها ثمرة س ثمرة عدل نصر تست ونتيجة إحسان ثنا ومدحست وفائدة صلة رحم انس والفت اما نتيجة فحشاء فساددين وثمرة منكر برانكيحتن اعدا وحاصل بغى محروم ماندن ازمتمنى) {يَعِظُكُمْ} (ند ميدهد خداى تعالى شمارا) يعني بأمر هذه المستحسنات ونهى هذه المستقبحات {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} طلباً لأن تتعظوا فتأتمروا بالأمر وتنتهوا بالنهي.
وقد أمر الله تعالى في هذه الآية بثلاثة أشياء ونهى عن ثلاثة أشياء وجمع في هذه الأشياء الستة علم الأولين والآخرين وجميع الخصال المحمودة والمذمومة ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه هي أجمع آية في القرآن للخير والشر ولذا يقرأها كل خطيب على المنبر في آخر كل خطبة لتكون عظة جامعة لكل مأمور ومنهى كما في "المدارك"
72
وحين أسقطت من الخطب لعنة اللاعنين لعلى أمير المؤمنين رضي الله عنه أقيمت هذه الآية مقامها كما في "بحر العلوم".
وقال الإمام السيوطي في "كتاب الوسائل إلى معرفة الأوائل" : أول من قرأ في آخر الخطبة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ} إلخ عمر بن عبد العزيز ولزمها الخطباء إلى عصرنا هذا تولى عمر الخلافة سنة تسع وتسعين ومدة خلافته سنتان وخمسة أشهر وكان صاحب المائة الأولى بالإجماع.
وكان صلى الله عليه وسلّم يقرأ "ق" أي : في آخر الخطبة.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ إذا الشمس كورت إلى قوله ما أحضرت.
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقرأ آخر سورة النساء يستفتونك الآية.
وكان علي ابن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ الكافرون والإخلاص ذكر ذلك ابن الصلاح.
يقول الفقير انظر إن كلاً منهم اختار ما يناسب الحال والمقام بحسب اختلاف الزمان وإلا لكفى لهم الاقتداء بالنبي عليه السلام في تلاوة سورة "ق" ومنه يعرف استحباب الترضية والتصلية فإنها كانت بحسب المصلحة المقتضية لها وهي رد الروافض ومن يتبعهم في البغض ولا شك أن مثل ذلك من مهمات الدين فليس هذا بمنكر وإنما المنكر ترجيعات المؤذنين ولحون الأئمة والخطباء بحيث يحرفون الكلم عن مواضعه رعاية للنغمات والمقامات الموسيقية نعم قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره إذا كان الذكر بنغمة لذيذة فله في النفس أثر كما للصورة الحسنة في النظر.
وأول من قرأ في الخطبة إن الله وملائكته يصلون على النبي الآية ، المهدي العباسي وعليه العمل في هذا الزمان أي : في الخطب المطولة وأما في الخطب المختصرة لبعض العارفين فليس ذلك فيه لكن المؤذن يقرأه عند خروج الخطيب.
والأحوط في هذا الزمان أن يقرأ عنده ما اختاره حضرة الشيخ وفا قدس سره وهو عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إذا قلت لصاحبك انصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت" فاستمعوا وأنصتوا رحمكم الله وذلك لأن أكثر المؤذنين اعتادوا في الآية المذكورة ما يخرجها عن القرآنية من اللحن الفاحش ولنبك على غربة الدين ووحشة أهل اليقين وظهور البدع بين المسلمين
جزء : 5 رقم الصفحة : 69
(5/55)
{وَأَوْفُوا} أي : استمروا على الإيفاء وهو بالفارسية (وفا كردن) قال الكاشفي : (نزول آيت درشان جمعيست كه باحضرت رسالت صلى الله عليه وسلّم درمكه عهد بستند وغلبه قريش وضعف مسلمانان مشاهده كرده جزع واضطراب درايشان بديد آمد شيطان خواست كه ايشانرا بفريبد تانقض عهد يغمبر كنند حق سبحانه وتعالى بدين آيت ايشانرا ثابت قدم كردانيد وفرموده كه وفاكنيد) {بِعَهْدِ اللَّهِ} وهو البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم على الإسلام فإنها مبايعةتعالى لقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح : 10) لأن الرسول فان في الله باق بالله وفي الحديث "الحجر الأسود يمين الله في أرضه فمن لم يدرك بيعة رسول الله فمسح الحجر فقد بايع الله ورسوله" والمبايعة من جهة الرسول هو الوعد بالثواب ومن جهة الآخر التزام طاعته وسميت المعاهدة مبايعة تشبيهاً بالمعاوضة المالية ثم هو عام لكل عهد يلتزمه الإنسان باختياره لأن خصوص السبب لا ينافي عموم الحكم {إِذَا عَـاهَدتُّمْ} إذا عاقدتم وواثقتم والعهد العقد والميثاق {وَلا تَنقُضُوا الايْمَـانَ} التي تحلفون بها عند المعاهدة أي : لا تحنثوا في الحلف {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}
73
حسبما هو المعهود في أثناء العهود أي : توثيقها بذكر الله وتشديدها باسمه كما في "بحر العلوم".
وقال سعدي المفتى : الظاهر أن المراد بالأيمان الأشياء المحلوف عليها كما في قوله عليه السلام : "من حلف على يمين" الخ لأنه لو كان المراد باليمين ذكر اسم الله فهو غير التأكيد لا المؤكد فتأمل {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} شاهداً رقيباً فإن الكفيل من يراعي لحال المكفول به محافظة عليه {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} من نقض الإيمان والعهود فيجازيكم على ذلك.
واعلم أن الوفاء تأدية ما أوجبت على نفسك إما بالقبول أو بالنذر.
وعن بعض المتكلمين إذا رأيتم الرجل أعطي من الكرامات حتى يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه في حفظ الحدود والوفاء بالعهود ومتابعة الشريعة.
قيل لحكيم أي : شيء أعمل حتى أموت مسلماً؟ قال : لا تصحب مع الله إلا بالموافقة ولا مع الخلق إلا بالمناصحة ولا مع النفس إلا بالمخالفة ولا مع الشيطان إلا بالعداوة ولا مع الدين إلا بالوفاء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 69
وفي "التأويلات النجمية" : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} بائتمار أوامر الله وانتهاء نواهيه {إِذَا عَـاهَدتُّمْ} مع الله يوم الميثاق {وَلا تَنقُضُوا الايْمَـانَ} مع الله {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وهو إشهادكم على أنفسكم وقولكم بلى شهدنا {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} بجزاء وفائكم وهو تكفل منكم بالوفاء بما عهد معكم على الجزاء كما قال {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة : 40) وتفصيل الوفاء من الله والعبد ما شرح النبي صلى الله عليه وسلّم في حديث معاذ رضي الله عنه فقال : "هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس" قال : قلت : الله أعلم ورسوله قال : "حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" أي : يطلبوه بالعبادة ولا يطلبوا معه غيره ثم قال : "أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك" قال : قلت : الله ورسوله اعلم قال : "فإن حق الناس على الله أن لا يعذبهم" يعني بعذاب الفراق والقطيعة بل يشرفهم بالوجدان والوصال كما قال : "ألا من طلبني وجدني" وفي "المثنوي" :
ما درين دهليز قاضيّ قضا
بهر دعوي ألستيم وبلىون بلى كفتيم آنرا ز امتحان
فعل وقول ما شهوداست وبيان
ازه دردهليز قاضي تن زديم
نى كه ما بهر كواهى آمديم
تاكه تدهى آن كواهى اى شهيد
توازين دهليزكي خواهي رهيد
فعل وقول آمد كواهان ضمير
هردو يدايى كند سر ستيرجرعه برخاك وفا آنكس كه ريخت
كى تواند صيد دولت زوكريختس يمبر كفت بهر اين طريق
باوفاتر ازعمل نبود رفيقكربود نيكى ابد يارت شود
وربود بد در لحد مارت شود
{وَلا تَكُونُوا} أيها المؤمنون في نقض العهد {كَالَّتِى} كالمرأة التي {نَقَضَتْ} النقض في البناء والحبل وغيره ضد الإبرام كما في "القاموس".
وبالفارسية (شكستن يمان وشم بازكردن يارسمان) {غَزْلَهَا} الغزل (ريسمان رستن) وهو ههنا مصدر بمعنى المغزول أي : ما غزلته من صوف وغيره {مِنا بَعْدِ قُوَّةٍ} متعلق بنقضت أي : من بعد إبرام ذلك الغزل وأحكامه فجعلته {أَنكَـاثًا} حال من غزلها جمع نكث بمعنى المنكوث وهو كل ما ينكث فتله أي : يحل
74
(5/56)
غزلاً كان أو حبلاً.
والمعنى طاقات نكثت فتلها والمراد تقبيح حال النقض بتشبيه حال الناقض بمثل هذه المرأة المعتوهة من غير تعيين إذ لا يلزم في التشبيه أن يكون للمشبه به وجود في الخارج.
وقال الكلبي ومقاتل هي ريطة بنت سعد بن تيم القرشية المكية وكانت خرقاء موسوسة اتخذت مغزلاً قدر ذراع وسنارة مثل أصبع وهي بالكسر الحديدة في رأس المغزل وفلكة عظيمة على قدرها فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى نصف النهار تأمرهن بنقض جميع ما غزلن.
قال الكاشفي : (حق سبحانه وتعالى تشبيه ميفرمايد شكستن عهد را به اره كردن رسن وميفر ما يدكه نانه آن زن حمقا رسن تاب داده خودرا ضايع ميكند مردم عاقل بايدكه هر رشته خودبسر انكشت نقض اره نكند تابحكم {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة : 40) جزاء وفابيايد) :
جزء : 5 رقم الصفحة : 69
كرت هوا ست كه دلدار نكسلد يمان
نكاه دار سر رشته تا نكهدارد
{تَتَّخِذُونَ أَيْمَـانَكُمْ دَخَا بَيْنَكُمْ} حال من الضمير في لا تكونوا أي : مشابهين بامرأة شأنها هذا حال كونكم متخذين أيمانكم مفسدة ودخلاً بينكم وأصل الدخل ما يدخل في الشيء ولم يكن منه {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ} أي : بسبب أن تكون جماعة قريش {هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أزيد عدد وأوفر مالاً من جماعة المؤمنين وهذا نهي لمن يحالف قوماً فإن وجد أيسر منهم وأكثر ترك من حالف وذهب إليه.
ومحل هي أربى من أمة نصب خبر كان.
وفي "المدارك" هي أربى مبتدأ وخبر في موضع الرفع صفة لأمة وأمة فاعل يكون وهي تامة {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} أي : بأن تكون أمة هي أربى من أمة أي : يعاملكم بذلك معاملة من يختبركم لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال والظبي وإن كان واحداً فهو خير من قطيع الخنزير والسواد الأعظم هو الواحد على الحق ويقال : سمي الدجال دجالاً لأنه يغطي الأرض بكثرة جموعه ولا يلزم منه كونه على الحق وأفضل من في الأرض يومئذٍ لأن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأموال بل إلى القلوب والأعمال فإذا كانت للناس قلوب وأعمال صالحة يكونون مقبولين مطلقاً سواء كانت لهم صور حسنة وأموال فاخرة أم لا وإلا فلا ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
ره راست بايد نه بالاى راسكه كافرهم ازروى
صورت وماست
{وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في الدنيا إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب وهو إنذار وتخويف من مخالفة ملة الإسلام ودين الحق فإنها مؤدية إلى العذاب الأبدي.
{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ} مشيئة قسر وإلجاء.
{لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} متفقة على الإسلام {وَلَـاكِنَّ} لا يشاء ذلك لكونه مزاحماً لقضية الحكمة بل {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} إضلاله أي : يخلق فيه الضلال حسبما يصرف اختياره الجزئي إليه {وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ} هدايته حسبما يصرف اختياره إلى تحصيلها فالإضلال والهداية مبنيان على الاختيار.
وفيه سر عظيم لا يعرفه إلا الأخيار بالله {لَتُسْـاَلُنَّ} جميعاً يوم القيامة سؤال تبكيت ومجازاة لا سؤال تفهم {عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الوفاء والنقض ونحوهما فتجزون به.
جزء : 5 رقم الصفحة : 69
واعلم أن العهود مواطنها لكثيرة ومن العهود
75
الحقة ما يجري بين المريدين الصادقين والشيوخ الكاملين من البيعة وهي لازمة حتى يلقوا الله تعالى.
(5/57)
وفي الآية إشارة إلى المريد الذي تعلق بذيل إرادة صاحب ولاية من المشايخ وعاهده على صدق الطلب والثبات عليه عند مقاساة شدائد المجاهدات والتصبر على مخالفات النفس والهوى وملازمات الصحبة والإنقياد للخدمة والتحمل على الإخوان وحفظ الأدب معهم ففي أثناء تحمل هذه المشاق تسأم نفسه وتضعف عن حمل هذه الأثقال فينقض عهده ويفسخ عزمه ويرجع قهقري ثم يتخد ما كان أسباب طلب الله من الإرادة والمجاهدة ولبس الخرقة وملازمة الصحبة والخدمة والفتوحات التي فتح الله له في أثناء الطلب والسير آلات طلب الدنيا وأدوات تحصيل شهوات نفسه بالتصنع والمرآة والسمعة ابتلاء من الله إظهاراً للعزة إذا عظمت النفس وشهواتها في نظر النفس وأعرضت عن الله في طلبها فمثل هذا حسبه جهنم البعد والقطعية.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده قد سره هنا رجل ابن ابن المولى جلال يقال له ديوانه لبى يأكل ويشرب ويشتغل بالشهوات ويزعم أن له نظراً إلى الحقيقة من المظاهر حفظنا الله تعالى من الإلحاد ففي حالة الاحتضار استغفر وقال : يا حسرتا لم أعرف الطريق ويرجى أن يعفى لسبق ندامته وكان له كشوف سفلية وقطع بخطوة واحدة سبعين خطوة وأكثر ولكن الكشوف السفلية مثلها مما كان في مرتبة الطبيعة غير مقبولة بل هي من الشيطان وعوام الناس يعدون أصحاب أمثال هذه الكشوف الشيطانية الأقطاب بل الغوث الأعظم لكونهم على الجهل الجمادي لا يميزون بين الخير والشر ولصعوبة هذا الأمر قال المولى الجامي قدس سره في بعض رباعياته :
در مسجد وخانقه بسى كرديدم
بس شيخ ومريدرا كه ابوسيدم
نه يكساعت از هستى خود رستم
نه آنكه زخويش رسته باشد ديدم
اللهم اعصمنا من الدعوى واجعلنا من أهل التقوى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 69
{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَـانَكُمْ دَخَا بَيْنَكُمْ} مكراً وغدراً {فَتَزِلَّ} (بلغزد) نصب في جواب النهي {قَدَمُ} أي : أقدامكم أيها المؤمنون عن محجة الحق {بَعْدَ ثُبُوتِهَا} عليها ورسوخها فيها بالإيمان وإفراد القدم وتنكيرها للإيذان بأن زلل قدم واحدة أيّ قدم كانت عزت أو هانت محذور عظيم فكيف بأقدام كثيرة {وَتَذُوقُوا السُّواءَ} أي : العذاب الدنيوي {بِمَا صَدَدتُّمْ} بصدودكم وخروجكم أو بصدكم ومنعكم غيركم {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} الذي ينتظم الوفاء بالعهود والإيمان فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره {وَلَكُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ عَظِيمٌ} شديد.
{وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} أي : لا تأخذوا بمقابلة عهده تعالى وبيعة رسوله {ثَمَنًا قَلِيلا} أي : لا تستبدلوا بها عوضاً يسيراً وهو ما كانت قريش يعدون ضعفة المسلمين ويشترطون لهم على الارتداد من حطام الدنيا {إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ} من النصر والتغنيم في الدنيا والثواب في الآخرة {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} مما يعدونكم {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي : إن كنتم من أهل العلم والتمييز.
جزء : 5 رقم الصفحة : 76
{مَا عِندَكُمْ} من أعراض الدنيا وإن كثرت {يَنفَدُ} يفنى وينقضي {وَمَا عِندَ اللَّهِ} من أنواع رحمة المخزونة {بَاقٍ} لا نفاد له وهو حجة على الجهمية لأنهم يقولون بأن نعيم الجنة يتناهى وينقطع {وَلَنَجْزِيَنَّ}
76
(5/58)
أي : والله لنعطين {الَّذِينَ صَبَرُوا} على أذية المشركين ومشاق الإسلام التي من جملتها الوفاء بالعهود والفقر {أَجْرَهُم} الخاص بهم بمقابلة صبرهم على الأمور المذكورة وهو مفعول ثان لنجزين {بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي : لنجزينهم بما كانوا يعملونه من الصبر المذكور وإنما أضيف إليه الأحسن للاشعار بكمال حسنه كما في قوله تعالى : {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخِرَةِ} (آل عمران : 148) فقد علم من الآيات أن للوفاء بالعهد والثبات على الإيمان والصبر على المشاق ثمرات دنيوية وأخروية.
فعلى العاقل أن لا ينقض المعاهدة التي بينه بين الله وكذا بين العلماء العاملين والصلحاء الكاملين.
وعن بعض أهل العلم كنت بالمصيصة فإذا برجلين يتكلمان في الخلوة مع الله تعالى فلما أرادا أن ينصرفا قال أحدهما للآخر : تعال نجعل لهذا العلم ثمرة ولا يكون حجة علينا فقال له أعزم على ما شئت فقال : أن لا آكل ما لمخلوق فيه صنع قال : فتبعتهما وقلت : أنا معكما فقالا : على الشرط قلت : على أي شرط شرطتما فصعدا جبل لكام ودلاني على كهف وقالا : تعبد فيه فدخلت فيه وجعل كل واحد يأتيني بما قسم الله تعالى وبقيت مدة ثم قلت : إلى متى أقيم ههنا أنا أسير إلى طرطوس وآكل من الحلال وأعلم الناس العلم واقرىء الناس فخرجت ودخلت طرطوس وأقمت بها سنة فإذا أنا برجل منهما قد وقف عليّ وقال : يا فلان خنت في عهدك ونقضت الميثاق ألا إنك لو صبرت كما صبرنا لوهب لك ما وهب لنا قلت : ما الذي وهب لكما؟ قال : ثلاثة أشياء : طي الأرض من المشرق إلى المغرب بقدم واحد والمشي على الماء والحجبة إذا شئنا ثم احتجب عني ففي هذه الحكاية ما يغني العاقل عن التصريح فانظر إلى ذلك العالم كيف اختار ما عند الناس فحرم مما عند الله من الكرامات والكفالات وذلك أن نقض العهد بسبب عرض دنيوي في صورة أمر ديني فإن التعليم وأقراء الناس وإن كان من الأمور الأخروية ألا أنه لا بد لطالب الحق حين تخليه وانقطاعه من التجرد عن كل اسم ورسم وصورة ، فإن قيل :
جزء : 5 رقم الصفحة : 76
منصب تعليم نوع شهوتيست
وما يعقل هذا المقام إلا العالمون وفي "المثنوي" :
كرنبودى امتحان هربدى
هر مخنث دروغا رستم بدى
خود مخنث را زره بوشيده كير
ون به بيند زحم كردد ون اسير
ونعم ما قيل وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان فمن زل عند الامتحان فقد افتضح وذاق وجع القطيعة والفراق وماله من خلاق ومن ثبت وصبر وافتكر العاقبة ظفر بالمراد وجوزى جزاء لا يعلمه إلا رب العباد فإنه أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
{مِّنْ} (هركه) {عَمِلَ} (بكند) {صَـالِحًا} أي : عملاً صالحاً أي : عمل كان وهو ما كان لوجه الله تعالى ورضاه ليس فيه هوى ولا رياء والفرق بينهما أن الهوى بالنسبة إلى النفس والرياء بالنسبة إلى الخلق {مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} أي : حال كون ذلك العامل من رجل أو امرأة بينه بالنوعين ليعمهما الوعد الآتي ولا يتوهم التخصيص بالذكور بناء على كثرة استعمال لفظ من فيهم وأن الإناث لا يدخلن في أكثر الأحكام والمحاورات إلا بطريق التغليب أو التبعية {وَهُوَ} أي : والحال أن ذلك العامل.
77
{مُؤْمِنٌ} قيده به إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب وإنما المتوقع عليها تخفيف العذاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم "إن الله تعالى يأمر بالكافر السخي إلى جهنم فيقول لمالك خازن جهنم عذبه وخفف عنه العذاب على قدر سخائه الذي كان في دار الدنيا" كما في "تفسير السمرقندي" ويؤيده ما قيل أنه لما عرج النبي صلى الله عليه وسلّم اطلع على النار فرأى حظيرة فيها رجل لا تمسه النار فقال جبرائيل عليه السلام : هذا حاتم طي صرف الله عنه عذاب جهنم بسخائه وجوده كما في "أنيس الوحدة".
{فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَواةً طَيِّبَةً} في الدنيا يعيش عيشاً طيباً لأنه إن كان موسراً فظاهر وإن كان معسراً فيطيب عيشه بالقناعة والرضى بالقسمة وتوقع الأجر العظيم في الآخرة كالصائم يطيب نهاره بملاحظة نعيم ليله بخلاف الفاجر فإنه إن كان معسراً فظاهر وإن كان موسراً فلا يدعه الحرص وخوف الفوت أن يتهنأ بعيشه {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي : ولنعطينهم في الآخرة أجرهم الخاص بهم بما كانوا يعملون من الصالحات وإنما أضيف إليه الأحسن للإشعار بكمال حسنه كما سبق في حق الصابرين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 76
(5/59)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير بالذكر إلى القلب وبالأنثى إلى النفس فالعمل الصالح من النفس استعمال الشريعة بتقوى الله وصدقه على وفق الطريقة تزكية عن صفاتها الذميمة وأفعالها الطبيعية والعمل الصالح من القلب حسن توجهه إلى الله بالكلية لطلب الله والإعراض عما سواه تصفية للتحلية بصفات الله والتخلق بأخلاقه وبقوله : {فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَواةً طَيِّبَةً} يشير إلى إحياء كل واحد منهما بالحياة الطيبة على قدر صلاحية عمله وحسن استعداد في قبولها فإحياء النفس بالحياة الطيبة أن تصير مزكاة عن صفاتها متحلية بأخلاق القلب الروحاني مطمئنة بذكر الله راجعة إلى ربها راضية مرضية وإحياء القلب بالحياة الطيبة أن يصير متخلقاً بأخلاق الله ويكون فانياً عن أنانيته بهويته حياً بحياته طيباً عن دنس الإثنينية ولوث الحدوث فإن الله طيب عن هذه الأوصاف فلا يقبل إلا طيباً.
ثم اعلم أن صلاحية أعمال العباد إنما تكون على قدر صدقهم في المعاملات وحسن استعدادهم في قبول الفيض الإلهي فيكون طيب حياتهم باحياء الله إياهم بحسب ذلك ولنجزينهم في الآخرة أجر كل طائفة منهم بأوفر ما كانوا يظنون أن يجازيهم الله على أعمالهم بيانه قوله : {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَـاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء : 40) وعن بعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال لما مات أحمد : رأيته في المنام وهو يمشي ويتبختر في مشيه فقلت له : يا أخي أي : مشية هذه؟ قال : مشية الخدام في دار السلام فقلت له : ما فعل الله بك قال : غفر لي وألبسني نعلين من ذهب وقال : هذا جزاء قولك القرآن كلام الله المنزل غير مخلوق وقال : يا أحمد قم حيث شئت فدخلت الجنة فإذا سفيان الثوري رحمه الله له جناحان أخضران يطير بهما من نخلة إلى نخلة وهو يقرأ هذه الآية {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه وَأَوْرَثَنَا الارْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُا فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ} (الزمر : 74) فقلت له : أي شيء خبر عبد الواحد الوراق رحمه الله قال : تركته في بحر من النور يراد به الملك الغفور فقلت : ما فعل بشر بن الحارث رحمه الله فقال : بخ بخ ومن مثل بشر تركته بين يدي الجليل والجليل سبحانه مقبل عليه وهو يقول كل يا من لم يأكل واشرب
78
يا من لم يشرب وتنعم يا من لم يتنعم.
وقال بعض الأخيار : رأيت الشيخ أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي رحمه الله في المنام بعد وفاته وعليه ثياب بيض وعلى رأسه تاج فقلت له : ما هذا البياض؟ فقال : شرف الطاعة قلت : والتاج قال عز العلم فعلم من هذا المذكور أن من عمل صالحاً لا بد أن يصل إليه جزاء عمله وأن الجزاء من جنس العمل وأنه يختلف بحسب اختلاف حال العامل.
فعلى العاقل المبادرة إلى الأعمال الصالحة والصبر على مشاق الطاعات إلى أن يجيىء وعد الله تعالى قال الحافظ :
صبركن حافظ بسختى روزوشب
عاقبت روزى بيابى كام را
جزء : 5 رقم الصفحة : 76
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ} أي : أردت قراءته عبر عن الإرادة بالقراءة على طريقة إطلاق اسم المسبب على السبب إيذاناً بأن المراد هي الإرادة المتصلة بالقراءة {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي : فاسأله تعالى أن يعيذك ويحفظك {مِنَ الشَّيْطَـانِ} البعيد عن الخير {الرَّجِيمِ} المرجوم بالطرد واللعن أي : من وساوسه وخطراته كيلا يوسوسك عند القرآن فإن ناصية كل مخلوق بيده أو قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو المختار من الروايات الأربع عشرة الواردة في ألفاظ الاستعاذة كما في تفسير خواجه ارسا قدس سره.
{أَنَّهُ} أي : الشيطان أو الشان {لَيْسَ لَه سُلْطَـانٌ} تسلط وولاية {عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} على أولياء الله المؤمنين به والمتوكلين عليه فإن وسوسته لا توثر فيهم لما أمر القارىء بأن يسأل الله تعالى أن يعيذه من وساوسه وتوهم منه أن له تسلطاً وولاية على إغواء بني آدم كلهم بين الله تعالى أن لا تسلط له على المؤمنين المتوكلين فقوله إنه الخ في معرض التعليل للأمر باللاستعاذة وإشارة إلى أن مجرد القول لا ينفع بل لا بد لمن أراد أن لا يكون للشيطان سبيل عليه أن يجمع بين الإيمان والتوكل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 79
(5/60)
{إِنَّمَا سُلْطَـانُهُ} أي : تسلطه وغلبته بدعوته المستتبعة للاستجابة لا سلطانه بالقسر والإلجاء فإنه منتف عن الفريقين لقوله تعالى حكاية عنه {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى} (إبراهيم : 22) وقد أفصح عنه قوله تعالى : {عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} أي : يتخذونه ولياً ويستجيبون دعوته ويطيعونه فإن المقسور بمعزل عن ذلك كذا في "الإرشاد" وهو جواب عما قال السمرقندي في تفسيره من أن في بناء الكلام على الحصر والاختصاص رداً للشيطان في قوله للكفرة في جهنم {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ} (إبراهيم : 22) وتكذيباً له انتهى {وَالَّذِينَ هُم بِهِ} سبحانه وتعالى {مُشْرِكُونَ} مثبتون الشريك في الألوهية أو بسبب الشيطان إذ هو الذي حملهم على الإشراك بالله.
قال في "التأويلات النجمية" : الخطاب في هذه الآية مع الأمة وإن خص النبي صلى الله عليه وسلّم لأن الشيطان كان يفر من ظل عمر رضي الله عنه وهو أحد تابعيه فكيف يقدر على أن يدور إليه سيما أسلم شيطانه على يده صلى الله عليه وسلّم يدل عليه قوله : {إِنَّه لَيْسَ لَه سُلْطَـانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يعني سلطان نور الإيمان والتوكل غالب على سلطان وسوسة الشيطان فإذا كان هذا حال الأمة مع الشيطان فكيف يكون حال النبوة معه فثبت أن المراد بالخطاب الأمة وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلّم به لتعتبر الأمة وتتنبه أن مثل النبي صلى الله عليه وسلّم مهما
79
يكن مأموراً بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فتكون الأمة بها أولى وأحق.
قال بعضهم : المراد كل شيطان أو القرين فقط الظاهر أنه في حقنا القرين قال الله تعالى : {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـانِ نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا فَهُوَ لَه قَرِينٌ} (الزخرف : 36) وفي حق رسول الله صلى الله عليه وسلّم إبليس أما نحن فلأن الإنسان لا يؤذيه من الشياطين إلا ما قرن به وما بعد فلا يضره شيئاً والعاقل لا يستعيذ ممن لا يؤذيه وأما الرسول صلى الله عليه وسلّم فإن قرينه لما أسلم تعين أن يكون الاستعاذة من إبليس أو أكابر جنوده وتخصيص الاستعاذة بالله عند قراءة القرآن من الشيطان الرجيم لمعان وفوائد أولها كي يتذكر القارىء واقعة الشيطان ويتفكر في أمره أنه إنما صار شيطاناً رجيماً بعد أن كان ملكاً كريماً لأنه فسق عن أمر ربه وخالفه وأبى أن يسجد لآدم واستكبر وكان من الكافرين أي : فصار من الكافرين فيتنبه بذلك عند قراءة القرآن ويصفي نيته قبل القراءة على أن يأتمر بما أمره الله في القرآن وينتهي عما نهاه عنه احترازاً عن المخالفة فإن فيها الطرد واللعن والرجم والفسق والكفر وأنها مظنة للخلود في النار وثانيها لأن العبد لا يخلو من حديث النفس وهواجسها ومن إلقاء الشيطان ووساوسه وقلبه لا بد يتشوش بذلك فلا يجد حلاوة كلام الله فأمر بالاستعاذة وتزكيته للنفس عن هواجسها وتصفيته للقلب عن وساوس الشيطان ليتجلى بنور القرآن فإن التجلية تكون بعد التزكية والتصفية وثالثها لأن في كل كلمة من كلمات القرآنتعالى إشارات ومعاني وحقائق لا يفهمها إلا قلب مطهر عن تلوثات الهواجس والوساوس معطر بطيب أنفاس الحق وذلك مودع في الاستعاذة بالله فأمر بها لحصول الفهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 79
(5/61)
ـ وروى ـ جبير بن مطعم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي فقال : "الله أكبر كبيراً والحمدكثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه" قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : نفخه الكبر ونفثه الشعر وهمزه الموتة يعني الجنون.
وفي قوله : {إِنَّه لَيْسَ لَه سُلْطَـانٌ} الآية إشارة إلى أن تصرف الشيطان وقدرته بالإغواء والاضلال على الإنسان إنما ينقطع بقدر نور الإيمان وقوة التوكل فمهما يكمل الإيمان والتوكل يكون المؤمن زاهداً عن الدنيا راغباً في الآخرة متبتلاً إلى الله تعالى فلا يبقى للشيطان عليه سلطان في إضلاله وإغوائه ولكن يؤول أمره إلى الوسوسة وفيها صلاح المؤمن فإن إبريز إخلاص قلبه عن غش صفات نفسه لا يتخلص إلا بنار وسوسة الشيطان لأنه يطلع على بقايا صفات نفسه بما تكون الوسوسة من جنسه فيزيد في الرياضة ومجاهدة النفس وملازمة الذكر فبها تنقص وتنمحي بقية صفات النفس ويزداد نور الإيمان وقوة التوكل وقربة الحق وقبوله.
وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "إن إبليس قال : يا رب قلت في كتابك إن عبادي ليس لك عليهم سلطان فمن هم؟ فقال تعالى : من كان نور وجهه من عرشي وطينه من طين إبراهيم ومحمد عليهما السلام وقلبه خزينتي قال إبليس فمن هم؟ فقال تعالى : من كان نادماً على ذنبه وخائفاً من خاتمته فنور وجهه من نور عرشي ومن كان يطعم الطعام ويرحم العباد فطينه من طينهما ومن كان راضياً بحكمي مسارعاً إلى ابتغاء مرضاتي فقلبه خزينتي".
وفي الخبر : "إذا لعن المؤمن
80
شيطاناً يقول : لعنت لعيناً وإذا قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يقول قصم ظهري لأنه يحيل إلى القادر".
وفي الخبر "من استعاذ بالله في اليوم عشر مرات من الشيطان وكل الله به ملكاً يرد عنه الشياطين" ، قال الحافظ :
درراه عشق وسوسه اهرمن بسيست
هش دار وكوش دل بيام سروش كن
واعلم أن الاستعاذة واجبة على كل من شرع في قراءة القرآن سواء بدأ من أوائل السور أو من أجزائها مطلقاً وإن أراد به افتتاح الكتب أو الدرس كما يقرأ التلميذ على الأستاذ لا يتعوذ كذا في "أنوار المشارق" والوجوب مذهب الجمهور كما في "الإرشاد" ، وقال الفناري في تفسير الفاتحة والاستعاذة غير واجبة عند الجمهور والأمر في فاستعذ للندب انتهى.
وقال الكاشفي في تفسيره : (وأمر باستعاذة قبل از قراءت بقول جمهور أمر استحبابست وباختيار جمعي از كبرا برسبيل ايجاب.
در تفسير قرطبي قولي هست كه استعاذه برحضرت رسول الله صلى الله عليه وسلّم تنها فرض بوده بوقت قراءت واقتداء امت برو برسبيل سنت است) انتهى.
والتعوذ في الصلاة ينبغي أن يكون واجباً لظاهر الأمر إلا أن السلف أجمعوا على سنته كما في "الكاشفي".
قال القرطبي أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله يتعوذان في الركعة الأولى في الصلاة ويريان قراءة الصلاة كلها قراءة واحدة كما في "حواشي" سعدى المفتي.
والغرض نفي الوسوسة في التلاوة فشرع لافتتاح القراءة.
قال جعفر الصادق رضي الله عنه : إن التعوذ تطهير الفم عن الكذب والغيبة والبهتان تعظيماً لقراءة القرآن :
جزء : 5 رقم الصفحة : 79
زبان آمد ازبهر شكر وساس
بغيبت نكرداندش حق شناس
{وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ} قال سلطان المفسرين ترجمان القرآن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا نزلت عليه آية فيها شدة أخذ الناس بها وعملوا ما شاء الله أن يعملوا فيشق ذلك عليهم فينسخ الله هذه الشدة ويأتيهم بما هو ألين منهما وأهون عليهم رحمة من الله تعالى فيقول لهم كفار قريش : إن محمداً يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً ويأتيهم بما هو أهون عليهم وما هو إلا مفتر يقوله من تلقاء نفسه.
والمعنى : إذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلاً منها بأن نسخناها {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} جملة معترضة بين الشرط وجوابه وهو قالوا لتوبيخ الكفرة على قولهم والتنبيه على فساد سندهم أي : اعلم بما ينزل أولاً وآخراً من الأحكام والشرائع التي هي مصالح ورب شيء يكون مصلحة في وقت يكون مفسدة في وقت آخر فينسخه ويثبت مكانه ما يكون مصلحة لخلقه {قَالُوا} أي : الكفرة {إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَر} على الله متقول من عند نفسك {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أن الله أمر بأشياء نظراً لصلاح عباده وأقلهم يعلم الحكمة في النسخ ولكن ينكر عناداً.
{قُلْ} رداً عليهم {نَزَّلَهُ} أي : القرآن المدلول عليه بالآية {رُوحُ الْقُدُسِ} أي : الروح المقدس المطهر من الأدناس البشرية وهو جبريل عليه السلام وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر كإضافة حاتم إلى الجود حيث قيل حاتم الجود للمبالغة في ذلك الوصف كأنه طبع منه فالمراد الروح
81
(5/62)
المقدس وحاتم الجواد وفي صيغة التفعيل في الموضعين إشعار بأن التدريج في الإنزال مما يقتضيه الحكمة البالغة {مِن رَّبِّكَ} من سيدك ومتولى أمرك {بِالْحَقِّ} في موقع الحال أي : نزله ملتبساً بالحق الثابت الموافق للحكمة المقتضية له بحيث لا يفارقها إنشاء ونسخاً وفيه دلالة على أن النسخ حق {لِيُثَبِّتَ} الله تعالى أو جبريل مجازاً {الَّذِينَ ءَامَنُوا} على الإيمان بأنه كلامه فإنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح اللائقة بالحال رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم على أن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب {وَهُدًى} من الضلالة {وَبُشْرَى} بالجنة {لِلْمُسْلِمِينَ} المنقادين لحكمه تعالى وهما معطوفان على محل ليثبت والتقدير تثبيتاً لهم وهداية وبشارة.
وفيه تعريض بحصول أضداد الأمور المذكورة لمن سواهم من الكفار.
جزء : 5 رقم الصفحة : 79
قال في "التأويلات النجمية" : إن الله تعالى هو الطبيب والقرآن هو الدواء يعالج به من مرض القلوب كقوله تعالى : {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ} (يونس : 57) كما أن الطبيب يداوي المريض كل وقت بنوع من الأدوية على حسب المزاج والعلة لإزالتها ويبدل الأشربة والمعاجين بنوع آخر وهو أعلم بالمعالجة من غيره وكذلك الله عز وجل يعالج قلوب العباد بتبديل آية وإنزال آية مكانها والله أعلم بما ينزل ويعالج به العبد فالذين لا يعلمون قوانين الأمراض والمعالجات يحملون ذلك على الافتراء وفي التنزيل والتبديل تثبيت الإيمان في قلوب المؤمنين بإزالة أمراض الشكوك عن قلوبهم فإن القرآن شفاء وهدى لصحة الدين وسلامة القلوب وبشارة للمسلمين الذين استسلموا للطبيب والمعالجة لصحة دينهم وكان الصحابة رضي الله عنهم يكتفون ببعض السور القرآنية ويشتغلون في العمل بها فإن المقصود من القرآن العمل به.
ـ روي ـ أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقال : علمني مما علمك الله فدفعه إلى رجل يعلمه القرآن فعلمه {إِذَا زُلْزِلَتِ الارْضُ} حتى بلغ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة : 7 ـ 8) فقال الرجل : حسبي فأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم بذلك فقال : "دعوه فقد فقه الرجل" ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
علم ندانكه بيشتر خواني
ون عمل درتونيست ناداني
نه محقق بود نه دانشمند
ار ايى بروكتابى ند
آن تهى مغزراه علم وخبر
كه بروهيزم است ويا دفتر
وقال : (عالم نا رهيز كار كوريست شعله دار.
بى فائده هركه عمر درياخت يزى تخريدوزر بينداخت) أي : أشاع المال ولم يكن على شيء نسأل الله التوفيق للتقوى والعمل بالقرآن في كل مكان وزمان.
جزء : 5 رقم الصفحة : 79
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ} ادخل قد توكيداً لعلمه بما يقولون ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعد والوعيد لهم.
ذكر ابن الحاجب أنهم نقلوا قد إذا دخلت على المضارع من التقليل إلى التحقيق كما أن ربما في المضارع نقلت من التقليل إلى التحقيق.
{أَنَّهُمْ} أي : كفار مكة {يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ} أي : القرآن {بُشِّرَ} .
قال الإمام الواحدي في "أسباب النزول" عن عبيد بن مسلمة قال : كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر اسم أحدهما يسار
82
والآخر جبر وكانا صيقلين (يعني شمشير هارا صيقل زدندى) فكانا يقرآن كتاباً لهم بلسانهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمر بهما ويسمع قراءتهما فكان المشركون يقولون يتعلم منهما فأنزل الله تعالى هذه الآية وأكذبهم فالمراد بالبشر ذانك الغلامان {لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ} مبتدأ وخبر وكذا ما بعده لإبطال طعنهم.
والإلحاد الإمالة من ألحد القبر إذا مال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه ثم استعير لكل إمالة عن الاستقامة فقالوا : ألحد فلان في قوله وألحد في دينه ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها ولم يمله عن دين إلى دين والأعجمي هو الذي لا يفصح وإن كان عربياً والعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً.
والمعنى لغة الرجل الذي يميلون إليه القول عن الاستقامة ويشيرون إليه أنه يعلم محمداً أعجمية غير بينة {وَهَـاذَا} القرآن الكريم {لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ} ذو بيان وفصاحة فكيف يصدر عن أعجم.
يعني أن القرآن معجز بنظمه كما أنه معجز بمعناه لاشتماله على الأخبار عن الغيب فإن زعمتم أن بشراً يعلمه معناه فكيف يعلمه هذا النظم الذي أعجز جميع أهل الدنيا.
(5/63)
وفي "التأويلات النجمية" : الأعجمي هو الذي لا يفهم من كلام الله تعالى ما أودع الله فيه من الأسرار والإشارات والمعاني والحقائق فإنه لا يحصل ذلك إلا لمن رزقه الله فهما يفهم به واللسان العربي هو الذي يسره الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلّم وبين له معانيه وحقائقه كما قال تعالى : {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـاهُ بِلِسَانِكَ} (مريم : 97) وقال : {فَإِذَا قَرَأْنَـاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَه * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة : 18 ـ 19) فالعربي المبين هو الذي أعطاه الله قلباً فهيماً ولساناً مبيناً فافهم جداً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 79
{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بآيات اللَّهِ} أي : لا يصدقون أنها من عند الله بل يقولون فيها ما يقولون يسمونها تارة افتراء وأخرى أساطير معلمة من البشر {لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} إلى سبيل النجاة هداية موصلة إلى المطلوب لما علم أنهم لا يستحقون ذلك لسوء حالهم {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} (عذابي دردناك بجهت كفر ايشان بقرآن ونسبت افتراء بحضرت يغمبر صلى الله عليه وسلّم وحال آنكه مفترى ايشانند).
{إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ} التصريح بالكذب للمبالغة في بيان قبحه والفرق بين الافتراء والكذب أن الافتراء هو افتعال الكذب من قول نفسه والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه وفاعل يفترى هو قوله : {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِ} رد لقولهم إنما أنت مفتر يعني إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يترقب عقاباً عليه ليرتدع عنه وأما من يؤمن بها ويخاف ما نطقت به من العقاب فلا يمكن أن يصدر عنه افتراء البتة.
قال في "التأويلات النجمية" : وجه الاستدلال أن الافتراء من صفات النفس الأمارة بالسوء وهي نفس الكافر الذي لا يؤمن بآيات الله فإن نفس المؤمن مأمورة لوامة ملهمة من عند الله مطمئنة بذكر الله ناظرة بنور الله مؤمنة بآيات الله لأن الآيات لا ترى إلا بنور الله كما قال صلى الله عليه وسلّم "المؤمن ينظر بنور الله" فإذا كان من شأن المؤمن أن لا يفتري الكذب إذ هو ينظر بنور الله فكيف يكون من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يفتري الكذب وهو نور من الله ينظر بالله {وَأُولَئكَ} الموصوفون بما ذكر من عدم الإيمان بآيات الله {هُمُ الْكَـاذِبُونَ} على الحقيقة لا على الزعم بخلاف رسول الله صلى الله
83
عليه وسلّم فإن حاله على العكس أو الكاملون في الكذب إذ لا كذب أعظم من تكذيب آياته والطعن فيها بأمثال هاتيك الأباطيل.
فاللام للجنس والحقيقة ويدعى قصر الجنس في المشار إليهم مبالغة في كمالهم في الكذب وعدم الاعتداد بكذب غيرهم.
قال في "الإرشاد" : السر في ذلك أن الكذب الساذج الذي هو عبارة عن الأخبار بعدم وقوع ما هو واقع في نفس الأمر بخلق الله تعالى أو بوقوع ما لم يقع كذلك مدافعةتعالى في فعله فقط والتكذيب مدافعة له سبحانه في فعله وقوله المنبىء عنه معاً انتهى.
قيل للنبي صلى الله عليه وسلّم المؤمن؟ يزني قال : "قد يكون ذلك" قيل : المؤمن يسرق؟ قال : "قد يكون ذلك" قيل : المؤمن يكذب؟ قال : "لا" ويكفي في قبح الكذب أن الشيطان استثنى العباد المخلصين من أهل الإغواء ولم يكذب فإنه يعلم أن وسوسته لا تؤثر فيهم.
قال أرستطاليس : فضل الناطق على الأخرس بالنطق وزين النطق الصدق والأخرس والصامت خير من الكاذب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 79
بهائم خموشند وكويا بشر
را كنده كوى از بهائم بتر
وقد قالوا : النجاة في الصدق كما أن الهلاك في الكذب ـ خطب الحجاج ـ يوماً فأطال فقام رجل وقال : الصلاة الصلاة الوقت يمضي ولا ينتظرك يا أمير الحبشة فقال قومه : إنه مجنون قال إن أقر بجنته فقيل له فقال : معاذ الله أن أقول ابتلاني وقد عافاني فبلغه فعفا عنه لصدقه فصار الصدق سبباً للنجاة اللهم اجعلنا من الصادقين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 79(5/64)
{مَن كَفَرَ بِاللَّهِ} أي : تلفظ بكلمة الكفر {مِنا بَعْدِ إِيمَـاـنِهِ} به تعالى كابن حنظل وطعمة ومقيس وأمثالهم ومن موصولة ومحلها الرفع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة الخبر الآتي عليه وهو قوله : {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} وقدره الكاشفي بقوله : (در معرض غضب رباني باشد) لكنه جعل من شرطية كما يدل عليه تعبيره بقوله : (هركه كافر شود بخداي تعالى ازس ايمان خويش ومرتد كردد) ويجوز أن يكون الخبر الآتي خبراً لهما معاً {إِلا مَنْ} (مكر كسى كه) {أُكْرِهَ} اجبر على ذلك التلفظ بأمر يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه وهو استثناء متصل من حكم الغضب والعذاب لأن الكفر لغة يعم القول والعقد كالإيمان أي : لا من كفر بإكراه وقيل منقطع لأن الكفر اعتقاد والإكراه على القول دون الاعتقاد.
والمعنى لكن المكره على الكفر باللسان {وَقَلْبُه مُطْمَـاـاِنُّا بِالايمَـانِ} (ارميده باشد) بالإيمان حال من المستثنى أي : والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته وفيه دليل على أن الإيمان المنجي المعتبر عند الله هو التصديق بالقلب {وَلَـاكِن مَّن} لم يكن كذلك بل {شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي : اعتقده وطاب به نفساً.
وبالفارسية (وليكن هركس كه كشايد بكفر سينه را) {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} عظيم {مِّنَ اللَّهِ} في الحديث "إن غضب الله هو النار" {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} العذاب والعقاب الإيجاع الشديد وتقديم الظرف فيهما للاختصاص والدلالة على أنهم أحقاء بغضب الله وعذابه العظيم لاختصاصهم بعظم الجرم وهو الارتداد.
قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت الآية في عمار رضي الله عنه وذلك أن كفار قريش أخذوه وأبويه ياسر وسمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم ليرتدوا فأبى أبواه فربطوا سمية بين بعيرين ووجيء أي : ضرب بحربة في قبلها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال والتعشق بهم
84
جزء : 5 رقم الصفحة : 84
فقتلوها وقتلوا ياسراً وهما أول قتيلين في الإسلام وأما عمار فكان ضعيف البدن فلم يطق لعذابهم فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه وهو سب النبي صلى الله عليه وسلّم وذكر الأصنام بخير فقالوا : يا رسول الله إن عماراً كفر فقال عليه الصلاة والسلام : "كلا إن عماراً ملىء إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه" فأتى عمار رسول الله وهو يبكي فجعل رسول الله يمسح عينيه وقال : "مالك إن عادوا لك فعدلهم بما قلت" وهو دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه الملجيء وإن كان الأفضل أن يجتنب عنه ويصبر على الأذى والقتل كما فعله أبواه كما روى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد؟ قال رسول الله قال : فما تقول فيّ؟ قال : فأنت أيضاً فخلاه وقال للآخر : ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله قال : فما تقول فيّ؟ قال : أنا أصم فأعاد ثلاثاً فأعاد جوابه فقتله فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : أما الأول فقد أخذ برخصة الله وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له ، وفي الحديث : "أفضل الجهاد كلمة العدل عند سلطان جائر" وإنما كان أفضل الجهاد لأن من جاهد العدو كان متردداً بين خوف ورجاء ولا يدري هل يغلب أو يغلب وصاحب السلطان مقهور في يده فهو إذا قال الحق وأمره بالمعروف فقد تعرض للتلف فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف كذا في "أبكار الأفكار في مشكل الأخبار".
{ذَالِكَ} الكفر بعد الإيمان {بِأَنَّهُمُ} أي : بسبب أنهم {اسْتَحَبُّوا} (دوست داشتند وبركزيدند) فتعدية الاستحباب بعلى لتضمنه معنى الإيثار {الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} (زندكانى دنيارا) {عَلَى الاخِرَةِ} (بر نعيم آخرت) {وَأَنَّ اللَّهَ} (وديكر بجهت آنست كه خداى تعالى) {لا يَهْدِى} إلى الإيمان وإلى ما يوجب الثبات عليه هداية قسر والجاء {الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ} في علمه المحيط فلا يعصمهم من الزيغ وما يؤدي إليه من الغضب والعذاب العظيم ولولا أحد الأمرين إما إيثار الحياة الدنيا على الآخرة وإما عدم هداية الله سبحانه للكافرين هداية قسر بأن آثروا الآخرة على الحياة الدنيا أو بأن هداهمتعالى هداية قسر لما كان ذلك لكن الثاني مخالف للحكمة والأول مما لا يدخل تحت الوقوع وإليه أشير بقوله تعالى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 84
{أولئك} الموصوفون بما ذكر من القبائح {الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ} (مهر نهاد خداي تعالى) {عَلَى قُلُوبِهِمْ} (بر دلهاى ايشان تا قول حق درنيا فتند) {وَسَمْعِهِمْ} (وبركوشهاى ايشان تاسخن حق نسنوند) {وَأَبْصَـارِهِمْ} (وبر ديدهاى ايشان تا آثار قدرت حق نديدند) {وَأُولَئكَ هُمُ الْغَـافِلُونَ} أي : الكاملون في الغفلة أعظم من الغفلة عن تدبر العواقب.(5/65)
{لا جَرَمَ أَنَّهُمْ} (حقاً كه دران هي شك نيست كه ايشان) {فِى الاخِرَةِ هُمُ الْخَـاسِرُونَ} إذا ضيعوا أعمارهم وصرفوها إلى العذاب المخلد.
وبالفارسية (دران سراى ديكر ايشانند زيان زدكان ه سرمايه عمر ضايع كرده دربازار دينى سودى بدست نياوردند ومفلس وار در شهر قيامت جزدست تهى ودل رحسرت وندامت نخواهد بود) ، قال الشيخ سعدى :
قيامت كه بازار مينو نهند
منازل بأعمال نيكو دهند
بضاعت بندان آنكه آرى برى
اكر مفلسي شرمسارى برى
85
كه بازار ندانكه آكنده تر
تهى دست رادل را كنده تر
كسى راكه حسن عمل بيشتر
بدركاه حق منزلت يشتر
قال في "التأويلات النجمية" : يعني أهل الغفلة في الدنيا هم أهل الخسارة في الآخرة.
وفيه إشارة أخرى وهي أن التغافل بالأعضاء عن العبودية تورث خسران القلوب عن مواهب الربوبية انتهى.
قال بعض الأكابر ولا حجاب إلا جهالة النفس بنفسها وغفلتها عنها فلو ارتفعت جهالتها وغفلتها لشاهدت الأمر وعاينته كما تشاهد الشمس في وسط السماء وتعاينها.
قال وهب بن منبه خلق ابن آدم ذا غفلة ولولا ذلك ما هنىء عيشه ، وفي "المثنوي" :
استن اين عالم اى جان غفلتست
هو شيارى اين جهانرا آفتست
هو شارى زان جهانست وو آن
غالب آمد ست كردد اين جهان
هو شيارى آفتاب وحرص يخ
هو شيارى آب واين عالم وسخ
اللهم اجعلنا من أهل اليقظة والانتباه ولا تجعلنا ممن اتخذ الهه هواه وشرفنا بمقامات المكاشفين العارفين وأوصلنا إلى حقيقة اليقين والتحقيق والتمكين إنك أنت النصير والمعين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 84
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ} .
قال قتادة : ذكر لنا أنه لما أنزل الله تعالى أن أهل مكة لا يقبل منهم الإسلام حتى يهاجروا كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة فلما جاءهم ذلك خرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزل : {الاـما * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت : 2) فكتبوا بها إليهم فتبايعوا بينهم على أن يخرجوا فإن لحقهم المشركون من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله فأدركهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله تعالى هذه الآية كذا في "أسباب النزول" للواحدي.
وثم للدلالة على تباعد رتبة حالهم عن رتبة حالهم التي يفيدها الاستثناء من مجرد الخروج عن حكم الغضب والعذاب بطريق الإشارة لا عن رتبة حال الكفرة كذا في "الإرشاد" {لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} إلى دار الإسلام وهم عمار وصهيب وخباب وسالم وبلال ونحوهم.
واللام متعلقة بالخبر وهو الغفور على نية التأخير وإن الثانية تأكيد للأولى لطول الكلام {مِنا بَعْدِ مَا فُتِنُوا} أي : عذبوا على الارتداد وأكرهوا على تلفظ كلمة الكفر فتلفظوا بما يرضيهم أي : الكفرة مع اطمئنان قلوبهم {ثُمَّ جَـاهَدُوا} في سبيل الله {وَصَبَرُوا} على مشاق الجهاد {إِنَّ رَبَّكَ مِنا بَعْدِهَا} من بعد المهاجرة والجهاد والصبر {لَغَفُورٌ} بما فعلوا من قبل أي : لستور عليهم محاء لما صدر منهم {رَّحِيمٌ} منعم عليهم من بعد بالجنة جزاء على تلك الأفعال الحميدة والخصال المرضية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 86
واعلم أن المهاجرة مفاعلة من الهجرة وهي الانتقال من أرض إلى أرض والمجاهدة مفاعلة من الجهد وهو استفراغ الوسع وبذلك المجهود.
قال في "التعريفات" : المجاهدة في اللغة المحاربة وفي الشرع محاربة النفس الأمارة بالسوء بتحميلها ما يشق عليها مما هو مطلوب في الشرع انتهى.
وكل من المهاجرة الصورية والمعنوية وكذا المجاهدة مقبولة مرضية اذ من كان في أرض لا يقيم فيها شعائر دينه وأهلها ظالمون فهاجر منها لدينه ولو شبرا وجبت له الجنة ومن فارق موطن النفس والمألوفات وحارب الأعداء الباطنة وجبت له القربة ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء.
وعن عمر بن الفارض
86
قدس سره أنه حضر جنازة رجل من أولياء الله تعالى قال : فلما صلينا عليه امتلأ الجو بطيور خضر فجاء طير كبير فابتلعه ثم طار فتعجبت فقال لي رجل كان قد نزل من السماء وحضر الصلاة لا تتعجب فإن أرواح الشهداء في حواصل الطيور خضر ترعى في الجنة أولئك شهداء السيوف وأما شهداء المحبة فأجسادهم أرواح إذ آثار الأرواح اللطيفة تسري إلى الأجساد فتحصل اللطافة لها أيضاً ولذا لا تبلى أجساد الكمل ولا بد لمن أراد أن يصل إلى هذه الرتبة ويحيى حياة أبدية من أن يميت نفسه الأمارة ويزكيها عن سفساف الأخلاق ورذائل الأوصاف كالكبر والعجب والرياء والغضب والحسد وحب المال وحب الجاه يقال إن الدركات السبع للنار بمقابلة هذه الصفات السبع للنفس فالخلاص من هذه الصفات سبب الخلاص من تلك الدركات ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
ترا شهوت وكبر وحرص وحسد
و خون درركندو وجان درجسد
كر اين دشمنان تقويت يافتند
سراز حكم ورأى توبر تافتند
تو بر كره توسنى در كمر
نكر تانيد ز حكم توسر
اكر الهنك از كفت در كسيخت
تن خويشتن كشت وخون توريخت
(5/66)
ثم إن الله تعالى غفور من حيث الأفعال يتجلى لأهل التزكية من مرتبة توحيد الأفعال وغفور من حيث الصفات يتجلى لهم من مرتبة توحيد الصفات وغفور من حيث الذات يتجلى لهم من مرتبة توحيد الذات فيستر أفعالهم وصفاتهم وذواتهم وينعم عليهم بآثار أفعاله وأنوار صفاته وأسرار ذاته فيتخلصون من الفاني ويصلون إلى الباقي ويجدون ثمرات المجاهدات وهي المشاهدات ونتائج المفارقات وهي المواصلات وعواقب المعاقبات وهي التنعم في الجنات العاليات والاستراحة الدائمة في مقامات القربات اللهم اعنا على سلوك سبيل الهجرة والصبر والجهاد واحفظنا من فتنة أهل البغي والفساد إنك أنت الأهل للإعانة والإمداد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 86
{يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ} منصوب باذكر والمراد يوم القيامة {تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا} أضاف النفس إلى النفس لأنه يقال لعين الشيء نفسه ولنقيضه غيره والنفس جملة الشيء أيضاً فالنفس الأولى بمعنى الجملة والثانية بمعنى العين والذات.
والمعنى أذكر يا محمد ويا كل من يصلح للخطاب يوم يأتي كل إنسان يجادل ويخاصم عن ذاته يسعى في خلاصه بالاعتذار كقولهم هؤلاء أضلونا وما كان مشركين لا يهمه شان غيره فيقول نفسي نفسي وذلك حين زفرت جهنم زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه حتى خليل الرحمن عليه السلام وقال رب نفسي أي : أريد نجاة نفسي.
قال أحمد الدورقي مات رجل من جيراننا شاب فرأيته في الليل وقد شاب فقلت : ما قصتك قال دفن بشر المريسي في مقبرتنا فزفرت جهنم زفرة شاب منها كل من في المقبرة وبشر أخذ الفقه عن أبي يوسف القاضي إلا أنه اشتغل بالكلام وقال بخلق القرآن وأضل خلقاً كثيراً ببغداد في زمن المأمون وقطعه عبد العزيز الكتاني وبالجملة كان بشر من جملة شياطين الانس حتى نصبه الشيطان خليفة لمن في بغداد إذ فعل بالخلق ما فعله الشيطان من الإضلال ، قال الحافظ :
دام سختست مكر لطف خداي شود
ورنه آدم نبرد صرفه زشيطان رجيم
87
وقال :
سزدم وابر بهمن كه درين من بكريم
طرب آشيان بلبل بنكر كه زاغ دارد
جزء : 5 رقم الصفحة : 86
قال في "التأويلات النجمية" : {كُلُّ نَفْسٍ} على قدر بقاء وجودها {تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا} إما دفعاً لمضارها أو جذباً لمنافعها حتى الأنبياء عليهم السلام يقولون نفسي نفسي إلا محمداً صلى الله عليه وسلّم فإنه فان عن نفسه باق بربه فإنه يقول أمتي أمتي لأنه المغفور من ذنب وجوده المتقدم في الدنيا والمتأخر في الآخرة بما فتح له ليلة المعراج إذ واجهه بخطاب السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ففنى عن وجوده بالسلام وبقي بوجوده بالرحمة وكان رحمة مهداة أرسل ببركاته إلى الناس كافة ولكنه رفع المنزلة من تلك الضيافة خاصة لخواص متابعيه كما قال السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين يعني الذين صلحوا لبذل الوجود في طلب المقصود ونيل الجود فما بقي لهم مجادلة عن نفوسهم مع الخلق والخالق كما قال بعضهم كل الناس يقولون غداً نفسي نفسي وأنا أقول ربي ربي {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} برة أو فاجرة أي : تعطي وافياً كاملاً وبالفارسية (تمام داده شود هر نفس را) {مَّا عَمِلَتْ} أي : جزاء ما عملت بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب إشعاراً بكمال الإتصال بين الأجزية والأعمال وإيثار الإظهار على الإضمار للإيذان باختلاف وقتي المجادلة والتوفية وإن كانتا في يوم واحد {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} لا ينقصون أجورهم ولا يعاقبون بغير موجب ولا يزاد في عقابهم على ذنوبهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد يقول الروح يا رب لم يكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها ويقول : الجسد خلقتني كالخشب ليست لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي قال : فيضرب لهما مثلاً مثل أعمى ومقعد دخلاً حائطاً وفيه ثمار فالأعمى لا يبصر الثمار والمقعد لا ينالها فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر فعليهما العذاب كذا في "تفسير السمرقندي" وفيه إشارة إلى أن كل نفس عملت سوأ توفي العذاب بنار الجحيم ونار القطعية وكل نفس عملت خيراً توفي الثواب من نعيم الجنان ولقاء الرحمن فلا يعذب أهل النعيم ولا يثاب أهل الجحيم كذا في "التأويلات النجمية".
جزء : 5 رقم الصفحة : 86
(5/67)
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً} أي : قصة أهل قرية كانت في قرى الأولين وهي أيلة كما في الكواشي وهي بلد بين ينبع ومصر وضرب المثل صنعه واعتماله ولذا قال الكاشفي في تفسيره (ويدا كرد خدا مثلي) ولا يتعدى إلا إلى مفعول واحد وإنما عدي إلى اثنين لتضمينه معنى الجعل وتأخير قرية مع كونها مفعولاً أولا لئلا يحول المفعول الثاني بينها وبين صفتها وما يترتب عليها إذ التأخير عن الكل مخل بتجاذب أطراف النظم وتجاوبها.
والمعنى جعل أهلها مثلاً لأهل مكة خاصة أو لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة ففعلوا ما فعلوا فبدل الله بنعمتهم نقمة ودخل فيهم أهل مكة دخولاً أولياً {كَانَتْ ءَامِنَةً} ذات أمن من كل مخوف.
قال الكاشفي : (أيمن از نزول قياصره وقصه جبابره) {مُّطْمَـاـاِنَّةً} (ارميده واهل آن آسوده).
قال في الكواشي لا ينتقلون عنها إلى غيرها لحسنها {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} أقوات أهلها صفة ثانية لقرية وتغير سبكها عن الصفة الأولى لما أن إتيان رزقها متجدد وكونها
88
آمنة مطمئنة ثابت مستمر {رَغَدًا} واسعاً {مِّن كُلِّ مَكَانٍ} من نواحيها من البر والبحر {فَكَفَرَتْ} أي : كفر أهلها {بِأَنْعُمِ اللَّهِ} أي : بنعمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وادرع والمراد بها نعمة الرزق والأمن المستمر وإيثار جمع القلة للإيذان بأن كفران نعمة قليلة حيث أوجب هذا العذاب فما ظنك بكفران نعم كثيرة.
ـ روي ـ أن أهل أيلة كانوا يستنجون بالخبز كما في الكواشي.
يقول الفقير : الخبز هو الأصل بين النعم الإلهية ولذا أمر آدم عليه السلام الذي هو أصل البشر بالحراثة فمن كفر به فقد كفر بجميع النعم وتعرض لزوالها وكذا الاعتقاد الصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة هو الأساس المبني عليه قبول الأعمال الصالحة فمن أفسد اعتقاده فقد أفسد دينه وتعرض لسخط الله تعالى :
بآب زمزم اكرشست خرقه زاهد شهر
ه سود ازان وندارد طهارت ازلي
والمقصود طهارة الوجود والقلب عن لوث الآنية والتعلق بغير الله تعالى {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} أي : أذاق أهلها.
وبالفارسية (س بشانيد خداى تعالى اهل آنرا) واصل الذوق بالفم ثم يستعار فيوضع موضع الابتلاء والاختبار كما في "تفسير أبي الليث" {لِبَاسَ الْجُوعِ} حتى أكلوا ما تغوطوه لأن الجزاء من جنس العمل.
قال في "الأسئلة المقحمة في الأجوبة المقحمة" كيف سمي الجوع لباساً قيل لأنه يظهر من الهزال وشحوب اللون وضيق الحال ما هو كاللباس {وَالْخَوْفِ} .
قال في "الإرشاد" شبه أثر الجوع والخوف وضرهما المحيط بهم باللباس الغاشي للابس فاستعير له اسمه وأوقع عليه الإذاقة المستعارة لمطلق الإيصال المنبئة عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراك الملامسة والذائقة على نهج التجريد فإنها لشيوع استعمالها في ذلك وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} فيما قبل من الكفران ثم بين أن ما فعلوه من كفران النعم لم يكن مزاحمة منهم لقضية العقل فقط بل كان ذلك معارضة لحجة الله على الخلق أيضاً فقال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 86
{وَلَقَدْ جَآءَهُمْ} أي : أهل تلك القرية {رَسُولٌ مِّنْهُمْ} أي : من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة وأنذرهم سوء عاقبة الكفران {فَكَذَّبُوهُ} في رسالته {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} المستأصل غب ما ذاقوا نبذة من ذلك {وَهُمْ ظَـالِمُونَ} حال كونهم ظالمين بالكفران والتكذيب حيث جعلوا الأول موضع الشكر والثاني موضع التصديق وترتيب العذاب على التكذيب جرى على سنة الله تعالى كما قال.
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء : 15).
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هذا المثل لأهل مكة فإنهم كانوا في حرم آمن ويتخطف الناس من حولهم وما يمر ببالهم طيف من الخوف وكانت تجبي إليه ثمرات كل شيء ولقد جاءهم رسول منهم فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأصابهم بدعائه صلى الله عليه وسلّم بقوله : "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" ما أصابهم من القحط والجدب حتى أكلوا الجيف والكلاب الميتة والجلود والعظام المحرقة والعلهز وهو الوبر والدم أي : يخلط الدم بأوبار الإبل ويشوي على النار وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدخان من الجوع وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد الهجرة حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وعيرهم وقوافلهم
89
فوقعوا في خوف عظيم من أهل الإسلام حتى تركوا سفر الشام والتردد إليه ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 89
(5/68)
وفي الآية إشارة إلى أن النفس الأمارة بالسوء إذا كفرت في قرية شخص الإنسان بنعم الطاعات والتوفيق واتبعت هواها وتمتعت بشهواتها ابتليت بانقطاع ميرة الحق وأكل جيفة الدنيا وميتة المستلذات وخوف العذاب بسوء صنيعها فلا بد للسالك أن يقتفي أثر رسول الخاطر الروحاني المؤيد بالإلهام الرباني ويترك الاقتداء بالنفس والشيطان فإنهما يجران إلى الأخلاق الذميمة المستتبعة للآثار القبيحة وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلّم لإتمام الأخلاق الحميدة على وفق الشريعة كما قال : "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" والمكارم : جمع مكرمة كالمصالح جمع مصلحة وإضافته إلى الأخلاق من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف أي : بعثت لأتمم الأخلاق الكريمة والشيم الحسنة وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كل واحد منهم مبعوث بسر وحكمة إلهية راجعة إلى تكميل البشر وتحسين أخلاقهم ونبينا عليه السلام مبعوث لتتميم تلك الأخلاق الكريمة وتكميلها على وجه التفصيل ولهذا جاء بشرع جامع لجميع جهات الحسن وهذا سر قوله : "لا نبي بعدي" فمن ادعى نبياً بعده جهل بقدره وقدر علماء أمته كما لا يخفى.
{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي : وإذ قد استبان لكم يا أهل مكة حال من كفر بأنعم الله وكذب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتي أولاً وآخراً فانتهوا عما أنتم عليه من كفران النعم وتكذيب الرسول كيلا يحل بكم مثل ما أحل بهم واعرفوا حق نعم الله وأطيعوا رسوله في أمره ونهيه وكلوا من رزق الله من الحرث والأنعام وغيرهما حال كونه {حَلَـالا طَيِّبًا} أي : لذيذاً تستطيبه النفوس وذروا ما تفترون من تحريم البحائر ونحوها فحلالاً حال من ما رزقكم الله ويجوز أن يكون مفعول كلوا.
وفيه إشارة إلى أن أنوار الشريعة وأسرار الحقيقة رزق معنوي للعاشق الصادق وما قبلته الشريعة والحقيقة فهو حلال طيب وما ردته فهو حرام خبيث ولذا قيل :
علم دين فقهست وتفسير وحديث
هركه خواند غيرازين كردد خبيث
أي : العلم المقبول النافع هذه العلوم وما شهدت هي له بالقبول من الظواهر والبواطن {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ} واعرفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران والفاء في المعنى داخلة على الأمر بالشكر وإنما دخلت على الأمر بالأكل لكون الأكل ذريعة إلى الشكر فكأنه قيل فاشكروا نعمة الله غب أكلها حلالاً طيباً {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي : تطيعون وتريدون رضاه أن تستحلوا ما أحل الله وتحرموا ما حرم الله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 89
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} أي : أكلها وهي ما لم تلحقه الذكاة.
وبالفارسية (مردار) فاللحم القديد المجلوب إلى الروم من أفلاق حرام لأنهم إنما يضربون رأس البقر بالمقمعة ولا يذكون {وَالدَّمَ} المسفوح أي : المصبوب من العروق وأما المختلط باللحم فمعفو والأولى غسله {وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي : رفع الصوت للصنم به وذلك قول أهل الجاهلية باللات والعزى أي : إنما حرم هذه الأشياء دون ما تزعمون حرمته من البحائر والسوائب ونحوهما وتنحصر المحرمات فيها إلا ما ضمه إليها دليل كالسباع والحمر الأهلية.
ـ روي ـ أنه عليه السلام "نهى عن أكل ذي مخلب من
90
الطيور وكل ذي ناب من السباع".
ـ وروى ـ خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه عليه السلام "نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمير".
وفيه حجة لأبي حنيفة على صاحبيه في تحليلهما أكل لحوم الخيل وما روياه عن جابر رضي الله عنه أنه قال : "نهى النبي عليه السلام عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحم الخيل" معارض لحديث خالد والترجيح للمحرم كذا في "حواشي" الفاضل سنان لبي.
والإشارة إلى الميتة جيفة الدنيا والحيوان هي الدار الآخرة ولو لم يكن للآخرة حياة لكانت جيفة (جيفة را براي مرد كيش جيفة كويند نى براي بوي زشت وصورت قبيحة) فارعف ، وفي "المثنوي" :
آن جهان ون ذره ذره زنده اند
نكته دانند وسخن كوينده اند
در جهان مرده شان آرام نيست
كين علف جز لائق أنعام نيست
هركرا كلشن بود بزم وطن
كى خورد او باده اندر كولخن
جاى روح اك عليين بود
كرم باشد كش وطن سركين بود
وإن الدم شهوات الدنيا.
ولحم الخنزير الغيبة والحسد والظلم.
وما أهل لغير الله به مباشرة كل عمل مباح لاوللتقرب إليه بل لهوى النفس وطلب حظوظها كما في "التأويلات النجمية" {فَمَنِ اضْطُرَّ} الاضطرار الاحتياج إلى الشيء واضطره إليه أحوجه وألجأه فاضطر بضم الطاء والضرورة الحاجة.
قال الكاشفي (ضلى هركه بياره شود ومحتاج كردد بخوردن يكى از محرمات) فتناول شيئاً من ذلك حال كونه {غَيْرَ بَاغٍ} أي : على مضطر آخر بالاستئثار عليه فإن هلاك الآخر ليس بأولى من هلاكه فهو حال من فعل مقدر كما أشير إليه.
والباغي من البغي يقال بغي عليه بغياً علا وظلم {وَلا عَادٍ} أي : متجاوز قدر الضرورة وسد الجوع يقال عدا الأمر وعنه جاوزه {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي : لا يؤاخذه بذلك فأقيم سببه مقامه.
(5/69)
جزء : 5 رقم الصفحة : 89
قال في "التأويلات النجمية" : {فَمَنِ اضْطُرَّ} إلى نوع منها مثل طلب القوت بالكسب الحلال والتأهل للتوالد والتناسل والاختلاط مع الخلق للمناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من أبواب البر غير معرض عن طلب الحق ولا مجاوز عن حد الطريقة {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لما اضطروا إليه {رَّحِيمٌ} على الطالبين بأن يبلغهم مقاصهم.
واعلم أن مواضع الضرورة مستثناة ولذا قال في "التهذيب" يجوز للعليل شرب البول والدم للتداوي إذا أخبره طبيب مسلم أن شفاءه فيه ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه.
وأجاز بعضهم استشارة أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله كما في "إنسان العيون" والأولى التجنب عنه لأن المؤمن ولي الله والكافر عدو الله ولا خير لولي من عدو الله فلا بد للمريض من المراجعة إلى المجانس وأهل الوقوف والتجربة ، قال الصائب :
زبى دردان علاج دردخود جستن بآن ماند
كه خار از ابرون آردكسى بانيش عقربها
وفي "الأشباه" : يرخص للمريض التداوي بالنجاسات وبالخمر على أحد القولين واختار قاضيخان عدمه وإساغة اللقمة بها إذا غص اتفاقاً وإباحة النظر للطبيب حتى للعورة والسوءتين انتهى.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله يستحب للرجل أن يعرف من الطب مقدار ما يمتنع به عما يضر ببدنه انتهى.
ـ وروي ـ عن علي كرم الله وجهه أنه قال لحم البقر داء ولبنها شفاء وسمنها
91
دواء وقد صح عن النبي عليه السلام أنه ضحى عن نسائه بالبقر.
قال الحليمي هذا ليبس الحجاز ويبوسة لحم البقر ورطوبة لبنها وسمنها فكأنه يرى اختصاص ذلك به وهذا التأويل مستحسن وإلا فالنبي عليه السلام لا يتقرب إلى الله تعالى بالداء فهو إنما قال ذلك في البقر كما قال : "عليكم بألبان البقر وسمنانها وإياكم ولحومها فإن ألبانها وسمنانها دواء وشفاء ولحومها داء" لتلك اليبوسة.
وجواب آخر أنه ضحى بالبقر لبيان الجواز ولعدم تيسر غيره كذا في "المقاصد الحسنة" للإمام السخاوي.
{وَلا تَقُولُوا} يا أهل مكة {لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ} ما موصولة واللام صلة لا تقولوا مثل ما في قوله تعالى : {وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتُ} (البقرة : 154) أي : لا تقولوا في شأن ما تصف ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا من غير ترتيب ذلك الوصف على ملاحظة وفكر فضلاً عن استناده إلى وحي أو قياس مبني عليه {الْكَذِبَ} ينتصب بلا تقولوا "هذا حلال وهذا حرام" بدل منه ، فالمعنى لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لما تصفه ألسنتكم بالحل والحرمة فقدم عليه كونه كذباً وأبذل منه هذا حلال وهذا حرام مبالغة واللام صلة مثل ما يقال لا تقل للنبيذ أنه حرام أي : في شأنه وذلك لاختصاص القول بأنه في شأنه.
وفيه إيماء إلى أن ذلك مجرد وصف باللسان لا حكم عليه عقد كذا في "حواشي" سعدي المفتي.
ويقال في الآية تنبيه للقضاة والمفتين كيلا يقولوا قولاً بغير حجة وبيان كما في "تفسير أبي الليث".
{لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فإن مدار الحل والحرمة ليس إلا أمر الله فالحكم بالحل والحرمة إسناد للتحليل والتحريم إلى الله من غير أن يكون ذلك منه.
واللام لام العاقبة لا الغرض لأن الافتراء لم يكن غرضاً لهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 89
وفي الآية إشارة إلى ما تقولت النفوس بالحسبان والغرور أنا قد بلغنا إلى مقام يكون علينا بعض المحرمات الشرعية حلالاً وبعض المحللات حراماً فيفترون على الله الكذب أنه أعطانا هذا المقام كما هو من عادة أهل الإباحة كذا في "التأويلات النجمية" {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في أمر من الأمور {لا يُفْلِحُونَ} لا يفوزون بمطالبهم التي ارتكبوا الافتراء للفوز بها.
{مَتَـاعٌ قَلِيلٌ} خبر مبتدأ محذوف أي : منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة تنقطع عن قريب {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يكتنه كنهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 89
(5/70)
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا} يعني : على اليهود خاصة دون غيرهم من الأولين والآخرين {حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} أي : بقوله : {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍا وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ} (الأنعام : 146) الآية {مِن قَبْلُ} أي : من قبل نزول الآية فهو متعلق بقصصنا أو من قبل التحريم على هذه الأمة فهو متعلق بحرمنا وهو تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا {وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ} بذلك التحريم {وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه حسبما نعى عليهم في قوله تعالى : {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (النساء : 160) الآية ولقد القمهم الحجر قوله تعالى :
92
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِّبَنِى إسرائيل إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِه مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاـاةُا قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاـاةِ فَاتْلُوهَآ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} (آل عمران : 93).
جزء : 5 رقم الصفحة : 92
ـ روي ـ أنه صلى الله عليه وسلّم لما قال لهم ذلك بهتوا ولم يجرأوا أن يخرجوا التوراة كيف وقد بين فيها أن تحريم ما حرم عليهم من الطيبات لظلمهم وبغيهم عقوبة وتشديداً أوضح بيان.
وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم من التحريم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّواءَ بِجَهَـالَةٍ} (بسبب غفلت وناداني وعدم تفكر در عواقب أمور).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كل من يعمل سوأ فهو جاهل وإن كان يعلم أن ركوبه سيئة.
والسوء يحتمل الافتراء على الله وغيره.
واللام متعلقة بالخبر وهو لغفور وإن الثانية تكرير على سبيل التأكيد لطول الكلام ووقوع الفصل كما مر في قوله تعالى : {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} (النحل : 110) الآية {ثُمَّ تَابُوا مِنا بَعْدِ ذَالِكَ} أي : من بعدما عملوا السوء والتصريح به مع دلالة ثم عليه للتأكيد والمبالغة {وَأَصْلَحُوا} أعمالهم أو دخلوا في الصلاح {إِنَّ رَبَّكَ مِنا بَعْدِهَا} من بعد التوبة كقوله : {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة : 8) في أن الضمير عائد إلى مصدر الفعل.
قال سعدي المفتي لم يذكر الإصلاح لأنه تكميل التوبة فإنها الندم على المعصية من حيث أنها معصية مع عزم أن لا يعود فعدم العود والإصلاح تحقيق لذلك العزم {لَغَفُورٌ} لذلك السوء أي : ستور له محاء {رَّحِيمٌ} يثبت على طاعته تركاً وفعلاً وتكرير قوله تعالى إن ربك لتأكيد الوعد وإظهار كمال العناية بإنجازه.
فعلى العاقل أن يرجع عن الإعراض عن الله ويقبل عليه بصدق الطلب وإخلاص العمل والتوبة بمنزلة الصابون فكما أن الصابون يزيل الأوساخ الظاهرة فكذلك التوبة تزيل الأوساخ الباطنة يعني الذنوب وفي "المثنوي" :
كرسيه كردى تونامه عمر خويش
توبه كن زانها كه كردستى تويش
عمر اكر بكذشت بيخش اين دم است
آب توبه اش ده اكر اوبى من است
بيخ عمرت را بده آب حيات
تا درخت عمر كردد باثبات
جمله ماضيها ازين نيكو شوند
زهر ارينه ازاين كردد وقند
واعلم أن توبة العوام من السيآت وتوبة الخواص من الزلات والغفلات وتوبة الأكابر من رؤية الحسنات والالتفات إلى الطاعات لا تركها والعبد إذا رجع عن السيئة وأصلح عمله أصلح الله شأنه وأفضل الأعمال خلاف هوى النفس والذكر بلا إله إلا الله وفي الحديث "إنعموداً من ياقوت أحمر رأسه تحت العرش وأسفله على ظهر الحوت في الأرض السفلى فإذا قال العبد لا إله إلا الله محمد رسول الله عن نية صادقة اهتز العرش فتحرك الحوت والعمود فيقول الله تعالى : اسكن يا عرشي فيقول العرش : كيف أسكن وأنت لا تغفر لقائلها فيقول الله تعالى : اشهدوا يا سكان سمواتي أني قد غفرت لقائلها الذنوب صغيرها وكبيرها سرها وعلانيتها ، فبذكر الله تعالى يتخلص العبد من الذنوب وبه تحصل تزكية النفس وتصفية القلوب".
جزء : 5 رقم الصفحة : 92
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} على حدة لحيازته من الفضائل البشرية ما لا يكاد يوجد إلا متفرقاً في أمة جمة كما قيل :
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
جانا تويكانه ولى ذات توهست
مجموعه آثار كمالات همه
93
(5/71)
وفي الحديث "حسين سبط من الأسباط" كما في "المصابيح" بمعنى أنه من الأمم يقوم وحده مقامها أو بمعنى أنه يتشعب منه الفروع الكثيرة إذ السادات من نسل زين العابدين بن الحسين رضي الله عنهما.
فلا دلالة في الحديث على نبوة الحسين كما ادعاه بعض المفترين في زماننا هذا نعوذ بالله ومن قال بعد نبينا نبي يكفر كما في "بحر الكلام".
ويقال أمة بمعنى مأموم أي : يؤمه الناس ويقصدونه ليأخذوا منه الخير ومعلم الخير إمام في الدين وهو عليه السلام رئيس أهل التوحيد وقدوة أصحاب التحقيق جادل أهل الشرك وألقمهم الحجر ببينات باهرة وأبطل مذاهبهم بالبراهين القاطعة {قَانِتًا} مطيعاً له قائماً بأمره {حَنِيفًا} مائلاً عن كل دين باطل إلى الدين الحق {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في أمر من أمور دينهم أصلاً وفرعاً.
وفيه رد على كفار قريش في قولهم نحن على ملة أبينا إبراهيم.
{شَاكِرًا لانْعُمِهِ} جمع نعمة صفة ثالثة لأمة.
ـ روي ـ أنه كان لا يأكل إلا مع ضيف ولم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداءه فجاءه فوج من الملائكة في زي البشر فقدم لهم الطعام فخيلوا إليه أن بهم جذاماً فقال : الآن وجبت مؤاكلتكم شكراًعلى أن عافاني وابتلاكم ويقال أنه أراد الضيافة لأمة محمد ثم دعا الله لأجلها وقال : إني عاجز وأنت قادر على كل شيء فجاء جبريل فأتى بكف من كافور الجنة فأخذ إبراهيم فصعد إلى جبل أبي قبيس ونثره فأوصله الله إلى جميع أقطار الدنيا فحيثما سقطت ذرة من ذراته كان معدن الملح فصار الملح ضيافة إبراهيم عليه السلام ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
خور ووش بخشاي وراحت رسان
نكه مى ه داري زبهر كسان
غم شادماني نماند وليك
جزاي عمل ماند ونام نيك
جزء : 5 رقم الصفحة : 92
اختاره للنبوة {وَهَدَاـاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} موصل إليه وهو ملة الإسلام المشتمل على التسليم وقد أوتي تسليماً أي : تسليم وآتيناه في الدنيا حسنة حالة حسنة من الذكر الجميل والثناء فيما بين الناس قاطبة والأولاد الأبرار والعمر الطويل في السعة والطاعة وأن حضرة الرسالة صلى الله عليه وسلّم من نسله وأن الصلاة عليه مقرونة بصلاة النبي عليه كما يقول المصلى من هذه الأمة كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم {وَإِنَّه فِى الاخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ} أصحاب الدرجات العالية في الجنة وهم الأنبياء عليهم السلام فالمراد الكاملون في الصلاح والواصلون إلى غاية الكمال {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} مع علو طبقتك وسمو رتبتك وما في ثم من التراخي في الرتبة للتنبيه على أن أجل ما أوتي إبراهيم اتباع الرسول ملته {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} الملة اسم لما شرعه الله لعباده على لسان الأنبياء من أمللت الكتاب إذا مليته وهي الدين بعينه لكن باعتبار الطاعة له والمراد بملته الإسلام المعبر عنه بالصراط المستقيم {حَنِيفًا} حال من المضاف إليه لما أن المضاف لشدة اتصاله به جرى منه مجرى البعض فعد بذلك من قبيل رأيت وجه هند قائمة {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بل كان قدوة الموحدين وهو تكرير لما سبق لزيادة تأكيد وتقرير لنزاهته عما هم عليه من عقد وعمل.
قال العلماء المأمور به الاتباع في الأصول دون الفروع المتبدلة بتبدل الأعصار واتباعه له بسبب كونه مبعوثاً بعده وإلا فهو أكرم الأولين والآخرين على الله.
94
تواصل وباقي طفيل تواند
تو شاهى ومجموع خيل تواند
وكان صلى الله عليه وسلّم على دين قومه قبل النبوة أي : على ما بقي فيهم من إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في حجهم ومناسكهم وبيوعهم وأساليبهم وأما التوحيد فإنهم كانوا قد بدلوه والنبي عليه السلام لم يكن إلا عليه.
(5/72)
قال في "التأويلات النجمية" : لما سلك النبي صلى الله عليه وسلّم طريق متابعته واسلم وجههليذهب إلى الله كما ذهب إبراهيم وقال : إني ذاهب إلى ربي نودي في سره إن إبراهيم كان خليلنا وأنت حبيبنا فالفرق بينكما أن الخليل لو كان ذاهباً يمشي بنفسه فالحبيب يكون راكباً أسري به فلما بلغ سدرة المنتهى وجد مقام الخليل عندها فقيل له إن السدرة مقام الخليل لو رضيت بها لنزينها لك إذ يغشى السدرة ما يغشى ولعلو همته الحبيبية ما زاغ البصر بالنظر إليها وما طغى باتخاذ المنزل عندها ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى وهو مقام الحبيب فبقي مع بلا هو في خلوة لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب وهو جبريل ولا نبي مرسل وهو هويته عليه السلام لما جاوز حد المتابعة صار متبوعاً فإن كان صلى الله عليه وسلّم في الدنيا محتاجاً إلى متابعة الخليل فالخليل يكون في الآخرة محتاجاً إلى شفاعته كما قال : "الناس محتاجون إلى شفاعتي يوم القيامة حتى إبراهيم" انتهى ما في "التأويلات".
ثم الآية تدل على شرف المتابعة فإن الحبيب مع شرفه العظيم إذا كان مأموراً بالمتابعة فما ظنك بغيره من أفراد الأمة ففي المتابعة وصحبة الأخيار والصلحاء شرف وسعادة عظمى ألا يرى أن عشرة من الحيوانات من أهل الجنة بشرف القرين كناقة صالح وكبش إسماعيل ونملة سليمان وكلب أصحاب الكهف ولله در من قال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 92
سك أصحاب كهف روزى ند
ى مردم كرفت ومردم شد
وعن النبي عليه السلام "أن رجلاً يبقى متحيراً من الإفلاس فيقول الله : يا عبدي أتعرف العبد الفلاني أو العارف الفلاني فيقول : نعم فيقول الله : فاذهب فإني قد وهبتك له".
وعن الشيخ بهاء الدين أن خادم الشيخ أبي يزيد البسطامي قدس سره كان رجلاً مغربياً فجرى الحديث عنده في سؤال منكر ونكير فقال المغربي : والله إن يسألاني لأقولن لهما فقالوا له : ومن يعلم ذلك؟ فقال : اقعدوا على قبري حتى تسمعوني فلما انتقل المغربي جلسوا على قبره فسمعوا المسألة وسمعوه يقول : أتسألونني وقد حملت فروة أبي يزيد على عنقي فمضوا وتركوه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 92
{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ} أي : فرض تعظيم يوم السبت والتخلي فيه للعبادة وترك الصد فيه فتعدية جعل بعلى لتضمينه معنى فرض والسبت يوم من أيام الأسبوع بمعنى القطع والراحة فسمي به لانقطاع الأيام عنده إذ هو آخر أيام الأسبوع وفيه فرغ الله من خلق السموات والأرض أو لأن اليهود يستريحون فيه من الأشغال الدنيوية ويقال اسبتت اليهود إذا عظمت سبتها وكان اليهود يدعون أن السبت من شعائر الإسلام وأن إبراهيم كان محافظاً عليه أي : ليس السبت من شعائر إبراهيم وشعائر ملته التي أمرت يا محمد باتباعها حتى يكون بينه صلى الله عليه وسلّم وبين بعض المشركين علاقة في الجملة وإنما شرع ذلك لبني إسرائيل بعد مدة طويلة.
قال الكاشفي : (در زاد المسير آورده كه آن روز حضرت موسى عليه السلام يكى را ديدكه متاعى را برداشته بجايى ميبرد بفرمود تا كردنش بزدند وتنش را در محلى
95
بيفكند ندكه مرغان مردار خوار هل روز اجزا واحشاى اومى خوردند) وذلك الهتك حِرمة شريعته بمثل ذلك العمل :
كرا شرع فتوى دهد برهلاك
الا تاندارى ز كشتنش باك
{عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} منشأ الاختلاف هو الطرف المخالف للحق وذلك أن موسى عليه السلام أمر اليهود أن يجعلوا في الأسبوع يوماً واحداً للعبادة وأن يكون ذلك يوم الجمعة فأبوا عليه وقالوا : نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة فأذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه فأطاع أمر الله تعالى الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون وأما غيرهم فلم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله قردة دون أولئك المطيعين.
يقول الفقير : أما الفرقة الموافقة فنجوا لانقيادهم لأمر الله تعالى وفناء باطنهم عن الإرادة التي لم تنبعث من الله تعالى وأما الفرقة المخالفة فهلكوا لمخالفتهم لأمر الله تعالى وبقائهم بنفوسهم الأمارة ولا شك أن من أجبر وفق ومن تحرك بإرادته وكل إلى نفسه {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي : بين الفريقين المختلفين فيه {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي : يفصل ما بينهما من الاختلاف فيجازي الموافق بالثواب والمخالف بالعقاب وفيه إيماء إلى أن ما وقع في الدنيا من مسخ أحد الفريقين وإنجاء الآخر بالنسبة إلى ما سيقع في الآخرة شيء لا يعتد به وفي الحديث : "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة أوتينا من بعدهم" يعني : يوم الجمعة فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فلنا اليوم ولليهود غداً وللنصارى بعد غد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 95
(5/73)
وفي الآية إشارة إلى أن الاختلاف فيما أرشد الله به الناس إلى الصراط المستقيم من الأوامر والنواهي لاستحلال بعضها وتحريم بعضها ابتداعاً منهم على وفق الطبع والهوى وإن كان التشديد فيه على أنفسهم يكون وبالاً عليهم وضلالاً عن الصراط المستقيم.
فالواجب على العباد في العبادات والطاعات والمجاهدات وطلب الحق الاتباع وترك الابتداع كما قال صلى الله عليه وسلّم "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وعضواً عليها بالنواجد وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة فضلالة".
وجاء رجل للشيخ أبي محمد عبد السلام بن بشيش قدس سره فقال : يا سيدي وظف عليّ وظائف وأوراداً فغضب الشيخ وقال أرسول أنا فأوجب الواجبات الفرائض معلومة والمعاصي مشهورة فكن للفرائض حافظاً وللمعاصي رافضاً واحفظ قلبك من إرادة الدنيا واقنع من ذلك كله بما قسم لك فإذا خرج لك مخرج الرضى فكنفيه شاكراً وإذا خرج لك مخرج السخط فكن عليه صابراً وفي قوله تعالى : {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} الآية إشارة إلى أن الله تعالى يحكم بعدله بين أهل السنة وأهل البدع فيقول هؤلاء في الجنة بفضلي ولا أبالي وهؤلاء من النار بعدلي ولا أبالي وأهل البدعة ثنثان وسبعون فرقة من أهل الظواهر وإحدى عشرة فرقة من أهل البواطن كلهم على خلاف الحق من حيث الاعتقاد وكلهم في النار والفرقة الناجية من المتصوفة وغيرهم هم الموافقون للكتاب والسنة عقداً وعملاً نسأل الله تعالى أن يحفظنا من الزيغ والضلال ولا بد من أخ ناصح في الدين كامل في طريق اليقين مرشد إلى الحق المتين قال الحافظ قدس سره :
96
قطع اين مرحله بى همر هى خضر مكن
ظلماً تست بترس از خطر كمراهى
{ادْعُ} الناس يا أفضل الرسل من سبيل الشيطان {إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} وهو الإسلام الموصل إلى الجنة والزلفى.
قال حضرة الشيخ العطار قدس سره :
نور او ون اصل موجودات بود
ذات أو ون معطىء هر ذات بود
واجب آمد دعوت هر دوجهانش
دعوت ذرات يدا ونهانش
جزء : 5 رقم الصفحة : 95
واعلم أن كل عين من الأعيان الموجودة مستند إلى اسم من الأسماء اللإلهية واصل من طريق ذلك الاسم إلى الله الذي له أحدية جميع الأسماء.
لا يقال فما فائدة الدعوة حينئذٍ؟ لأنا نقول الدعوة من المضل إلى الهادي ومن الجائر إلى العدل {بِالْحِكْمَةِ} بالحجة القطعية المفيدة للعقائد الحقة المزيحة لشبهة من دعى إليها فهي لدعوة خواص الأمة الطالبين للحقائق {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} أي : الدلائل الإقناعية والحكايات النافعة فهي لدعوة عوامهم.
يقال وعظه يعظه وعظاً وعظة وموعظة ذكره ما يلين قلبه من الثواب والعقاب فاتعظ كما في "القاموس" {وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} أي : ناظر معانديهم بالطريقة التي هي أحسن طرق المناظرة والمجادلة من الرفق واللين واختيار الوجه الأيسر واستعمال المقدمات المشهورة تسكيناً لشغبهم وإطفاء للهبهم كما فعله الخليل عليه السلام.
والآية دليل على أن المناظرة والمجادلة في العلم جائزة إذا قصد بها إظهار الحق.
قال الشيخ السمرقندي في تفسيره في هذه الآية تنبيه على المدعو إلى الحق فرق ثلاث.
فإن المدعو إلى الله بالحكمة قوم وهم الخواص.
والموعظة قوم وهم العوام.
وبالمجادلة قوم وهم أهل الجدال وهم طائفة ذووا كياسة تميزوا بها عن العوام ولكنها ناقصة مدنسة بصفات رديئة من خبث وعناد وتعصب ولجاج وتقليد ضال تمنعهم عن إدراك الحق وتهلكهم فإن الكياسة الناقصة شر من البلاهة بكثير ألم تسمع أن أكثر أهل الجنة البله فليستعمل كل منها مع يناسبها فإنه لو استعمل الحكمة للعوام لم يفد شيئاً حيث لم يفهموها لسوء بلادتهم وعدم فطنتهم.
نكته كفتن يش كفهمان زحكمت بي كمان
جوهري نداز جواهر ريختن يش خراست
وفي المثنوي :
كي توان باشيعه كفتن از عمر
كى توان بربط زدن دريش كر
وإن استعمل الجدال مع أهل الحكمة تنفروا منه تنفر الرجل من الإرضاع بلبن الطفل.
وفي "التأويلات النجمية" قوله : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} إشارة إلى أن دعاء العوام إلى سبيل ربك وهو الجنة بالحكمة وهو الخوف والرجاء لأنهم يدعون ربهم خوفاً من النار وطمعاً في الجنة والموعظة الحسنة هي الرفق والمداراة ولين الكلام والتعريض دون التصريح وفي الخلا دون الملا فإن النصح على الملا تقريع :
جزء : 5 رقم الصفحة : 95
كر نصيحت كنى بخلوت كن
كه جز اين شيوه نصيحت نيست
هو نصيحت كه بر ملا باشد
آن نصيحت بجز فضيحت نيست
ودعاء الخواص إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وهي أن تحبب الله إليهم وتوفر دواعيهم في الطلب وترشدهم وتهديهم إلى صراط الله وتسلكهم فيه وتكون لهم دليلاً وسراجاً منيراً إلى أن يصلوا في متابعتك وتزكيتك إياهم إلى مراتب المقربين {وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} لكل
97
(5/74)
طائفة منها فجادل أهل النفاق وغلظ عليهم وجادل أهل الوفاق باللطف والرحمة واخفض جناحك للمؤمنين واعف عنهم واستغفر لهم.
وقال حضرة شيخي وسندي روح الله روحه في كتابه المسمى "باللائحات البرقيات" بالحكمة أي : بالبصيرة على رعاية المناسبة في مقتضيات الأحوال والمقامات بالتليين والتخفيف والتعريض في مقاماتها والتغليظ والتشديد والتصريح في مقاماتها ونحو ذلك من المناسبات الحكمية الجالبة للمصالح والسالبة للمفاسد والموعظة الحسنة أي : المتضمنة للحسنات والمشتملة على الترغيبات والمتناولة للترهيبات والجالبة للقلوب إلى المحبوبات والسالبة للنفوس عن المقبوحات وغير ذلك مما يختص ويليق بالموعظة الحسنة التي هي الموعظة بالحق والعلم الكامل والعقل والتام لا الموعظة بالنفس والجهل والحمق فإن تلك الموعظة إنما هي بالبصيرة الشاملة الصحيحة وهذه الموعظة إنما هي بالغفلة العامة الفاسدة وفي الحقيقة الموعظة الحسنة هي الموعظة الجامعة لجوامع الكلم وجادلهم بالتي أي : بالمجادلة التي هي أحسن وهي المجادلة الحقانية التي تكون بالرفق واللين والصفح والعفو والسمع والكلام بقدر العقول والنظر إلى عواقب الأمور والصبر والتأني والتحمل والحلم وغير ذلك من خواص المجادلة التي هي أحسن مثل كون المراد منها إظهار الحق وبيان الصدق لمن خالف الحق والصدق بكمال الإعراض عن جميع الأغراض والإعراض وتمام الترحم للمخالفين المعاندين الضالين عن سبيل الحق والصدق والجاهلين الغافلين السائرين إلى سبيل الباطل والكذب وما سوى ذلك من الخواص واللوازم {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} (بآنكس كه كمراه شد ازراء حق كه اسلامست) وأعرض عن قبول الحق بعدما عاين من الحكم والمواعظ والعبر {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} بذلك أي : ما عليك إلا ما ذكر من الدعوة والتبليغ والمجادلة بالأحسن وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فلا عليك بل الله أعلم بالضالين والمهتدين فيجازي كلاً منهم بما يستحقه فكأنه قيل : إن ربك أعلم بهم فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل والنصيحة اليسيرة ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل وكأنك تضرب منه في حديد بارد ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 95
توان اك كردن زنك آينه
وليكن نيايد زسنك آينه
وقال الحافظ :
كوهر اك ببايدكه شود قابل فيض
ورنه هرسنك وكلي لؤلؤ ومرجان نشود
واعلم أن الناس ثلاثة أصناف : صنف مقطوع بحسن خاتمتهم مطلقاً كالأنبياء عليهم السلام والعشرة المبشرة ، وصنف مقطوع بسوء عاقبتهم كأبي جهل وقارون وهامان وفرعون وغيرهم ممن قطع بسوء خاتمتهم مطلقاً.
وصنف مشكوك في حسن خاتمتهم وسوء خاتمتهم مطلقاً كعامة المؤمنين الأبرار وكافة الكافرين الفجار فإن الأبرار كانوا ممدوحين في ظاهر الشريعة من جهة العقائد والأعمال في الحال والفجار كانوا مذمومين في ظاهر الشريعة من تلك الجهة في الحال لكن أمرهم في المآل مفوض إلى الله تعالى والله يعلم المفسد من المصلح ويميز بينهما في الآخرة والعاقبة فكم من ولي في الظاهر يعود عدو الله وولياً للشيطان نعوذ بالله
98
لكون ضلاله ذاتياً قد تداخله الاهتداء العارضي فاستترت ظلمته بصورة نور الاهتداء كاستتار ظلمة الليل بنور النهار عند إيلاج الليل في النهار وكم من عدو في الظاهر يعود ولياًوعدواً للشيطان لكون اهتدائه أصلياً قد تداخله الضلال العارضي فاستتر نوره بظلمة الضلال العارضي كاستتار نور النهار بظلمة الليل عند إيلاج النهار في الليل فكما لا ينفع الأول الاهتداء العارضي ويكون غايته إلى الهلاك كذلك لا يضر هذا الثاني الضلال العارضي ويكون خاتمته إلى النجاة.
وعن أبي إسحاق ـ رحمه الله تعالى ـ قال : كان رجل يكثر الجلوس إلينا ونصف وجهه مغطى فقلت له : إنك تكثر الجلوس إلينا ونصف وجهك مغطى اطلعني على هذا قال وتعطيني الأمان قلت : نعم قال : كنت نباشا فدفنت امرأة فأتيت قبرها فنبشت حتى وصلت إلى اللبن فرفعت اللبن ثم ضربت بيدي إلى الرداء ثم ضربت بيدي إلى اللفافة فمددتها فجعلت تمدها هي فقلت : أتراها تغلبني فجثيت على ركبتي فجردت اللفافة فرفعت يدها فلطمتني وكشف وجهه فإذا أثر خمس أصابع في وجهه فقلت له ثم مه قال ثم رددت عليها لفافتها وإزارها ثم ردت التراب وجعلت على نفسي أن لا أنبش ما عشت قال : فكتبت بذلك إلى الأوزاعي فكتب إليّ الأوزاعي ويحك اسأله عمن مات من أهل التوحيد ووجهه إلى القبلة فسألته عن ذلك فقال أكثرهم حول وجهه عن القبلة فكتبت بذلك إلى الأوزاعي فكتب إلي إناوإنا إليه راجعون ثلاث مرات أما من حول وجهه عن القبلة فإنه مات على غير السنة أي : على غير ملة الإسلام وذلك لأن ترك العمل بالكتاب والسنة والإصرار على المعاصي يجر كثير من العصاة إلى الموت على الكفر والعياذ بالله ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 95
عروسي بود نوبت ما تمت
كرت نيك روزى بودى خاتمت
(5/75)
نسأل الله سبحانه أن يحفظ نور إيماننا وشمع اعتقادنا من صرصر الزوال ويثبت أقدامنا بالقول الثابت في جميع الأوقات وعلى كل حال.
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} أي : أردتم المعاقبة على طريقة قول الطبيب للمحمي إن أكلت فكل قليلاً {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} أي : بمثل ما فعل بكم وقد عبر عنه بالعقاب على طريقة إطلاق اسم المسبب على السبب نحو كما تدين تدان أي : كما تفعل تجازي سمي الفعل المجازي عليه باسم الجزاء على الطريقة المذكورة أو على نهج المشاكلة والمزاوجة يعني تسمية الأذى الابتدائي معاقبة من باب المشاكلة وإلا فإنها في وضعها الأصل تستدعي أن تكون عقيب فعل نعم العرف جار على إطلاقها على ما يعذب به أحد وإن لم يكن جزاء فعل كما في "حواشي" سعدى المفتي.
قال القرطبي أطبق جمهور أهل التفسير أن هذا الآية مدنية نزلت في شأن سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذلك أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد بقروا بطونهم وجدعوا أنوفهم وآذانهم وقطعوا مذاكيرهم ما بقي أحد غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب لأن أباه عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوه لذلك ولما انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول الله عليه الصلاة والسلام فرأى منظراً ساءه رأى حمزة قد شق بطنه واصطلم أنفه وجدعت أذناه ولم ير شيئاً كان أوجع لقلبه منه فقال : "رحمة الله عليك كنت وصولاً
99
للرحم فعالاً للخير لولا أن تحزن النساء أو يكون سنة بعدي لتركتك حتى يبعثك الله من بطون السباع والطير أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلنّ بسبعين مكانك" وقال المؤمنون : إن أظهرنا الله عليهم لنزيدن على صنعهم ولنمثلن مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ولنفعلن ثم دعا عليه السلام ببردته فغطى بها وجه حمزة فخرجت رجلاه فجعل على رجليه شيئاً من الإذخر ثم قدمه فكبر عليه عشراً ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه حتى صلى عليه سبعين صلاة وكان القتلى سبعين.
وفي "التبيان" صلى النبي عليه السلام على عمه حمزة سبعين تكبيرة أو صلاة انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 95
ـ روي ـ أن أبا بكر رضي الله عنه صلى على فاطمة رضي الله عنها وكبر أربعاً ، وهذا أحد ما استدل به فقهاء الحنفية على تكبيرات الجنازة أربع كما في "أنوار المشارق".
قال في "أسباب النزول" ما حاصله : أن حمزة رضي الله عنه قتله وحشى الحبشي وكان غلاماً لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر فلما سارت قريش إلى أحد قال له جبير إن قتلت حمزة عم محمد لعمي طعيمة فأنت عتيق فأخذ الوحشي حربته فقذفه بها وكانت لا تخطىء حربة الحبشة حين قذفوا فكان ما كان ثم أسلم الوحشي وقال له صلى الله عليه وسلّم "هل تستطيع أن تغيب عني وجهك" وذلك أنه عليه السلام كرهه لقتله حمزة فخرج فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم وخرج الناس إلى مسيلمة الكذاب قال الوحشي لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافىء به حمزة فخرج مع الناس فوفقه الله لقتله.
ثم إن القتلى لما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية فكفر عليه السلام عن يمينه وكفه عما أراده والأمر وإن دل على إباحة المماثلة في المثلة من غير تجاوز لكن في تقييده بقوله : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} حث على العفو تعريضاً.
قال في "بحر العلوم" لا خلاف في تحريم المثلة وقد وردت الأخبار بالنهي عنها حتى الكلب العقور {وَلَـاـاِن صَبَرْتُمْ} أي : عن المعاقبة بالمثل وعفوتم وهو تصريح بما علم تعريضاً {لَهُوَ} أي : لصبركم هذا {خَيْرٌ} لكم من الانتصار بالمعاقبة أي : العفو خير للعافين من الانتقام وإنما قيل : {لِّلصَّـابِرِينَ} مدحاً لهم وثناء عليهم بالصبر وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلّم "بل نصبر يا رب".
قال في "الخلاصة" : رجل قال لآخر يا خبيث هل يقول له بلى أنت الأحسن أن يكف عنه ولا يجيب ولو رفع الأمر إلى القاضي ليؤدبه يجوز ومع هذا لو أجاب لا بأس به.
وفي "مجمع الفتاوى" لو قال لغيره يا خبيث فجازاه بمثله جاز لأنه انتصار بعد الظلم وذلك مأذون فيه قال الله تعالى : {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِه فأولئك مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} (الشورى : 41) والعفو أفضل قال الله تعالى : {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُه عَلَى اللَّهِ} (الشورى : 40) وإن كانت تلك الكلمة موجبة للحد لا ينبغي أن يجيبه بمثله تحرزاً عن إيجاب الحد على نفسه.
وفي تنوير الأبصار للإمام التمر تاشي ضرب غيره بغير حق وضرب المضروب يعزران ويبدأ بإقامة التعزير بالبادي انتهى.
ثم أمر به صلى الله عليه وسلّم صريحاً لأنه أولى الناس بعزائم الأمور لزيادة علمه بشؤونه تعالى ووفور وثوقه بل فقيل :
جزء : 5 رقم الصفحة : 95
(5/76)
{وَاصْبِرْ} على ما أصابك من جهتهم من فنون الآلام والأذية وعاينت من إعراضهم عن الحق بالكلية وصبره عليه السلام مستتبع لاقتداء الأمة كقول من قال لابن عباس رضي الله عنهما عند التعزية اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الرأس
100
{وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} بتوفيق الله وإعانته لك على الصبر لأن الصبر من صفات الله ولا يقدر أحد أن يتصف بصفاته أي : إلا به بأن يتحلى بتلك الصفة.
قال جعفر الصادق رضي الله عنه أمر الله أنبياءه بالصبر وجعل الحظ الأعلى منه للنبي صلى الله عليه وسلّم حيث جعل صبره بالله لا بنفسه وقال : {وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي : على الكافرين بوقوع اليأس من إيمانهم بك ومتابعتهم لك نحو {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (المائدة : 18) {وَلا تَكُ} أصله لا تكن حذفت النون تخفيفاً لكثرة استعماله بخلاف لم يصن ولم يخن ونحوهما ومعنى كثرة الاستعمال أنهم يعبرون بكان ويكون عن كل الأفعال فيقولون كان زيد يقول وكان زيد يجلس فإن وصلت بساكن ردت النون وتحركت نحو {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَه قَرِينًا} الآية {فِى ضَيْقٍ} أي : لا تكن في ضيق صدر من مكرهم فهو من الكلام المقلوب الذي يسجع عليه عند أمن الالتباس لأن الضيق وصف فهو يكون في الإنسان ولا يكون الإنسان فيه.
وفيه لطيفة أخرى وهي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط به من جميع الجوانب {مِّمَّا يَمْكُرُونَ} أي : من مكرهم بك فيما يستقبل فأول نهي عن التأثم بمطلوب من قبلهم فات والثاني عن التأثم بمحذور من جهتهم آتتٍ.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا} اجتنبوا المعاصي ومعنى المعية الولاية والفضل {وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} في أعمالهم ويقال مع الذين اتقوا مكافاة المسيىء والذين هم محسنون إلى من يعادي إليهم فالإحسان على الوجه الأول بمعنى جعل الشيء جميلاً حسناً وعلى الثاني ضد الإساءة وفي الحديث : "إن للمحسن ثلاث علامات يبادر في طاعة الله ويجتنب محارم الله ويحسن إلى من أساء إليه".
جزء : 5 رقم الصفحة : 95
ز احسان خاطر مردم شود شاد
بتقوى خانه دين كردد آباد
بسوى اين صفتها كر شتابى
رضاي خلق وخالف هر دويابى
قال ممشاد الدينوري : رأيت ملكاً من الملائكة يقول لي : كل من كان مع الله فهو هالك إلا رجل واحد قلت : من هو؟ قال : من كان الله معه وهو قوله : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} وذلك لأن المقصود كينونة المحبوب مع المحب إذ هو يشعر بالرضى والإقبال وأما كينونة المحب مع المحبوب فقد تحصل مع سخط المحبوب وإدباره.
وعن هرم بن حيان أنه قيل له حين احتضر أوص فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي أوصيكم بخواتيم سورة : النحل أي من {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} إلى آخرها.
يقول الفقير سامحه الله القدير جمع شيخي وسندي روح الله روحه أصحابه قبل وفاته بيوم فقال : اعلموا أيها الأصحاب أنه لا مال لي حتى أوصى به ولكني على مذهب أهل السنة والجماعة شريعة وطريقة ومعرفة وحقيقة فاعرفوني هكذا واشهدوا لي بهذا في الدنيا والآخرة فهذا وصيتي وأشار حضرة الشيخ بهذا إلى أنه لا زيغ ولا إلحاد في اعتقاده وفي طريقه أصلاً فإنهم قالوا : إن أهل التصوف تفرقت على اثنتي عشرة فرقة فواحدة منهم سنيون وهم الذين أثنى عليهم العلماء والبواقي بدعيون.
ويعلم السني بشاهدين.
أحدهما ظاهر والآخر باطن فالظاهر استحكام الشريعة والباطن السلوك على البصيرة واليقظة والعلم لا على العمى والغفلة والجهل فمن عمل بخواتيم هذه السورة واتصف
101
بحقيقة العفو والصبر والحلم والإنشراح في المنشط والمكره وترك الحزن والغم على الفائت والآتي.
وبالتقوى على مراتبها وبالإحسان بأنواعه فقد جعل لنفسه علامة الولاية والمعية والإيمان الكامل وحسن الخاتمة وخير العاقبة اللهم احفظنا من الميل إلى السوى والغير واختم عواقبنا بالخير يا رب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 95(5/77)
سورة الإسراء
وهي مائة وإحدى عشرة آية مكية.
قال في "الكواشي" : إلا من {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} إلى {نَصِيرًا} أو فيها من المدني من {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ} {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ} {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ} والتي تليها انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 101
{سُبْحَانَ} اسم بمعنى التسبيح الذي هو التنزيه ومتضمن معنى التعجب وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره اسبح الله عن صفات المخلوقين سبحاناً بمعنى تسبيحاً ثم نزل منزلة الفعل فناب منابه كقولهم معاذ الله وغفرانك غير ذلك.
وقيل هو مصدر كغفران بمعنى التنزه وتصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عما ذكره بعده وهو لا ينافي التعجب.
قال في "التأويلات النجمية" : كلمة سبحان للتعجب بها يشير إلى أعجب أمر من أموره تعالى جرى بينه وبين حبيبه.
وفي "الأسئلة الحكم" أما اقتران الإسراء بالتسبيح ليتقي بذلك ذو العقل وصاحب الوهم ومن يحكم عليه خياله من أهل التشبيه والتجسيم مما يخيله في حق الخالق من الجهة والجسد والحد والمكان.
وإنما تعجب بعروجه دون نزوله عليه السلام لأنه لما عرج كان مقصده الحق تعالى ولما نزل كان مقصد الخلق والمقصود من التعجب التعجب بعروجه.
وأيضاً أن عروجه أعجب من نزوله لأن عروج الكثيف إلى العلو من العجائب {الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ} .
قال الكاشفي : (اكى وبى عيبي آنرا كه بجهت كرامت ببرد بنده خودرا كه محمد است صلى الله عليه وسلّم الإسراء السير بالليل خاصة كالسرى يقال اسري وسري أي : سار ليلاً ومنه السرية لواحدة السرايا لأنها تسري في خفية وأسرى به أي : سيره ليلاً.
قال النضر : سقط السؤال والاعتراضات على المعراج بقوله : أسرى دون سار ونظيره قوله عليه السلام : "حبب إلى من دنياكم ثلاث" حيث لم يقل أحببت.
وإنما قال بعبده دون بنبيه لئلا يتوهم فيه نبوة وألوهة كما توهموا في عيسى
102
ابن مريم عليهما السلام بانسلاخه عن الأكوان وعروجه بجسم إلى الملأ الأعلى مناقضاً للعادات البشرية وأطوارها.
وأدخل الباء للمناسبة بين العبودية التي هي الذلة والتواضع وبين الباء التي هي حرف الخفض والكسر فإن كل ذليل منكسر.
وفيه إشارة إلى شرف مقام العبودية حتى قال الإمام في تفسيره : إن العبودية أفضل من الرسالة لأن بالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق فهي مقام الجمع وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق فهي مقام الفرق والعبودية أن يكل أموره إلى سيده فيكون هو المتكفل بإصلاح مهامه والرسالة التكفل بمهام الأمة وشتان ما بينهما.
قال الشيخ الأكبر قدس سره : إن معراجه عليه السلام أربع وثلاثون مرة واحدة بجسده والباقي بروحه رؤياً رآها أي : قبل النبوة وبعدها وكان الإسراء الذي حصل له قبل أن يوحى إليه توطئة له وتيسيراً عليه كما كان بدأ نبوته الرؤيا الصادقة والذي يدل على أنه عليه السلام عرج مرة بروحه وجسده معاً قوله أسرى بعبده فإن العبد اسم للروح والجسد جميعاً وأيضاً أن البراق الذي هو من جنس الدواب إنما يحمل الأجساد وأيضاً لو كان بالروح حال النوم أو حال الفناء أو الإنسلاخ لما استبعده المنكرون إذ المتهيئون من جميع الملل يحصل لهم مثل ذلك ويتعارفونه بينهم.
قال الكاشفي : (آنانكه درين قصه ثقل جسدرا مانع دانند ازصعود ارباب بدعت اند ومنكر قدرت).
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
آنكه سرشت تنش ازجان بود
سير وعروجش بتن آسان بود
وقد ذكروا أن جبريل عليه السلام أخذ طينة النبي صلى الله عليه وسلّم فعجنها بمياه الجنة وغسلها من كل كثافة وكدورة فكأن جسده الطاهر كان من العالم العلوي كروحه الشريف.
فإن قلت ففيمَ أسري به؟ قلت : قال صلى الله عليه وسلّم "أسري بي في قفص من لؤلؤ فراشه من ذهب" كما في "بحر العلوم".
{لَيْلا} نصب على الظرف وهو تأكيد إذ الإسراء في لسان العرب لا يكون إلا ليلاً حتى لا يتخيل أنه كان نهاراً ولا يظن أنه حصل بروحه أو لإفادة تقليل مدة الإسراء في جزء من الليل لما في التنكير من الدلالة على البعضية من حيث الإفراد فإن قولك سرت ليلاً كما يفيد بعضية زمان سيرك من الليالي يفيد بعضيته من فرد واحد منها بخلاف ما إذا قلت : سرت الليل فإنه يفيد استيعاب السير له جميعاً فيكون معياراً للسير لا ظرفاً له وهي ليلة سبع وعشرين من رجب ليلة الإثنين وعليه عمل الناس قالوا : إنه عليه السلام ولد يوم الاثنين وبعث يوم الاثنين وأسري به ليلة الاثنين وخرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين ومات يوم الاثنين ولعل سره أن يوم الاثنين إشارة إلى التعين الثاني الذي هو مبدأ الفياضية ونظيره الباء كما أن الباء من الحروف الهجائية له التعين الثاني فكذا يوم الاثنين فكان الألف ويوم الأحد بمنزلة تعين الذات والباء ويوم الاثنين أي : تعينهما بمنزلة تعين الصفات فافهم وفي وصف هذه الليلة ، قال المولى الجامي قدس سره :
ز قدر او متالى ليلة القدر
ز نور او براتى ليلة البدر
سواد طره اش خجلت ده حور
بياض غره اش نور على نور
نسيمش جعد سنبل شانه كرده
هوايش اشك شبنم دانه كرده
103
بمسمار ثوابت رخ سيار
به بسته در جهان درهاى ادبار
طرب راون سخن خندان امولب
كر يزان روز محنت زو شباشب(5/78)
فإن قلت فلِمَ جُعِل المعراج ليلاً ولم يجعل نهاراً؟ حتى يكون إشكال وطعن.
قلت : ليظهر تصديق من صدق وتكذيب من كذب.
وأيضاً أن الليل محل الخلوة بالحبيب فالليل حظ الفراش والوصال والنهار حظ اللباس والفراق والليل مظهر البطون والنهار مظهر الظهور والليل راحة والراحة من الجنة والنهار تعب والتعب من النار وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة ، يعني : (درسال دوازدهم از مبعث بوده) {مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أصح الروايات على أن الإسراء كان من بيت أم هانىء بنت أبي طالب وكان بيتها من الحرم والحرم كله مسجد.
قالوا حدود الحرم من جهة المدينة على ثلاثة أميال ومن طريق العراق على سبعة أميال ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال ومن طريق الطائف على سبعة أميال ومن طريق جدة على عشرة أميال والمواقيت الخمسة التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلّم وعينها للإحرام فناء للحرم وهو فناء للمسجد الحرام وهو فناء للبيت شرفه الله تعالى فالبيت إشارة إلى الذات الإلهية والمسجد الحرام إلى الصفات والحرم إلى الأفعال وخارج المواقيت إلى الآثار ومن قصد مكة سواء كان للزيارة وغيرها لا يحل له التجاوز من هذه الأفنية غير محرم تعظيماً لها وقس عليه دخول المساجد وحضور المشايخ أصحاب القلوب للصلاة والزيارة فإنه لا بد من أدب الظاهر والباطن في كل منهما.
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
ـ ذكروا ـ أن الحجر الأسود أخرج من الجنة وله ضوء فكل موضع بلغ ضوءه كان حرماً.
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لما أهبط آدم إلى الأرض خر ساجداً معتذراً فأرسل الله تعالى جبريل بعد أربعين سنة يعلمه بقبول توبته فشكا إلى الله تعالى ما فاته من الطواف بالعرش فأهبط الله له البيت المعمور وكان ياقوتة حمراء فأضاء ما بين المشرق والمغرب فنفرت من ذلك النور الجن والشياطين وفزعوا وتفرقوا في الجو ينظرونه فلما رأوه أي : النور من جانب مكة أقبلوا يريدون الاقتراب إليه فأرسل الله تعالى ملائكته فقاموا حوالي الحرم في مكان الاعلام اليوم ومنعوهم فمن ثمة تسمى الحرم بالحرم.
{إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَا} أي : بيت المقدس وسمي بالأقصى أي : الأبعد لأنه لم يكن حينئذٍ وراءه مسجد فهو أبعد المساجد من مكة وكان بينهما أكثر من مسيرة شهر.
قال بعض العارفين : أشار بالمسجد الحرام إلى مقام القلب المحرم أن يطوف به مشركوا القوى البدنية الحيوانية وترتكب فيه فواحشها وخطاياها وتحجه غير القوى الحيوانية من الصفات البهيمية والسبعية.
وأشار بالمسجد الأقصى إلى مقام الروح الأبعد من العالم الجسماني لشهود تجليات الذات.
قال في "هدية المهديين" : معراج النبي عليه السلام إلى المسجد الأقصى ثابت بالكتاب وهو في اليقظة وبالجسد بإجماع القرن الثاني ثم إلى السماء بالخبر المشهور ثم إلى الجنة أو العرش أو إلى طواف العالم بخبر الواحد انتهى.
قال الكاشفي : (رفتن آن حضرت ازمكه ببيت المقدس بنص قرآن ثابتست ومنكر آن كافر وعروج برآسمانها ووصول بمرتبه قربت بأحاديث صححه مشهوره كه قريبست بحد تواتر ثابت كشث وهركه إنكار آن كند ضال ومبتدع باشد).
104
شاهد معراج نبي وافرست
وآنكه مقرنيست بدين كافرست
دستكه سلطنت اين وصال
نيست به امزدى خيل خيال
عقل ه داند ه مقامست اين
عشق شناست كه ه دامست اين
{الَّذِى بَـارَكْنَا حَوْلَهُ} (آن مسجدى كه بركت كرديم بركرد او) ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي والملائكة ومتعبد الأنبياء من لدن موسى عليه السلام ومحفوف بالأنهار والأشجار المثمرة فدمشق والأردنّ فلسطين من المدائن التي حوله {لِنُرِيَه مِنْ ءَايَـاتِنَآ} غاية للإسراء وإشارة إلى أن الحكمة في الإسراء به إراءة آيات مخصوصة بذاته تعالى التي ما شرف بإراءتها أحداً من الأولين والآخرين إلا سيد المرسلين وخاتم النبيين فإنه تبارك وتعالى أرى خليله عليه السلام وهو أعز الخلق عليه بعد حبيبه الملكوت كما قال : {وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الأنعام : 75) وأرى حبيبه آيات ربوبيته الكبرى كما قال : {لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (النجم : 18) ليكون من المحبين المحبوبين فمن تبعضية لأن ما أراه الله تعالى في تلك الليلة إنما هو بعض آياته العظمى وإضافة الآيات إلى نفسه على سبيل التعظيم لها لأن المضاف إلى العظيم عظيم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
(5/79)
وسقط الاعتراض بأن الله تعالى أرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وأرى نبينا عليه السلام بعض آياته فيلزم أن يكون معراج إبراهيم أفضل.
وحاصل الجواب أنه يجوز أن يكون بعض الآيات المضافة إلى الله تعالى أعظم وأشرف من ملكوت السموات والأرض كلها كما قال تعالى : {لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (النجم : 18) ، قالوا في التفاسير هي ذهابه في بعض الليل مسيرة شهر ومشاهدته بيت المقدس وتمثل الأنبياء له ووقوفه على مقاماتهم العلية ونحوها.
قال في : "أسئلة الحكم" أما الآيات الكبرى : فمنها في الآفاق ما ذكره عليه السلام من النجوم والسموات والمعارج العلى والرفرف الأدنى وصرير الأقلام وشهود الألواح وما غشي الله سدرة المنتهى من الأنوار وانتهاء الأرواح والعلوم والأعمال إليها ومقام قاب قوسين من آيات الآفاق.
ومنها آيات الأنفس كما قال سبحانه {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} وقوله : {أَوْ أَدْنَى} (النجم : 9) من آيات الأنفس وهو مقام المحبة والاختصاص بالهو {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِه مَآ أَوْحَى} (النجم : 1) مقام المسامرة وهو الهوّ غيب الغيب وأيده {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم : 11) والفؤاد قلب القلب وللقلب رؤية وللفؤاد رؤية فرؤية القلب يدركها العمى كما قال تعالى : {وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} (الحج : 46) والفؤاد لا يعمى لأنه لا يعرف الكون وماله تعلق إلا بسيده فإن العبد هنا عبد من جميع الوجوه منزه مطلق التنزيه في عبوديته فما نقل عبده من مكان إلى مكان إلا ليريه من آياته التي غابت عنه كأنه تعالى قال : ما أسريت به إلا لرؤية الآيات لا إليّ فإني لا يحدني مكان ولا يقيدني زمان ونسبة الأمكنة والأزمنة إلي نسبة واحدة وأنا الذي وسعني قلب عبدي فكيف أسري به إليّ وأنا عنده ومعه أينما كان نزولاً وعروجاً واستواء {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ} لأقواله صلى الله عليه وسلّم بلا أذن كما يتكلم من غير آلة الكلام وهو اللسان ويعلم من غير أداة العلم وهو القلب {الْبَصِيرُ} بأفعاله بلا بصر حسبما يؤذن به القصر فيكرمه ويقربه بحسب ذلك.
وفيه إيماء إلى أن الإسراء المذكور ليس إلا لتكرمته ورفع منزلته وإلا فالإحاطة بأقواله وأفعاله حاصلة من غير حاجة
105
إلى التقريب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
وفي "التأويلات" وفي قوله : {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلّم هو السميع الذي قال الله : "كنت له سمعاً فبي يسمع وبي يبصر" فتحقيقه لنريه من آياتنا المخصوصة بجمالنا وجلالنا إنه هو السميع بسمعنا البصير ببصرنا فإنه لا يسمع كلامنا إلا بسمعنا ولا يبصر جمالنا إلا ببصرنا.
ودر مكتب بي نساني رسيد
كويم كه آنجا ه ديد وشنيد
ورق در نوشتند وكم شد سبق
شنيدن بحق بود وديدن بحق
ـ (وتفصيل القصة أنه عليه السلام بات ليلة الاثنين ليلة السابع والعشرين من رجب كما سبق في بيت أم هاني بنت أبي طالب واسمها على الأشهر فاختة أسلمت يوم الفتح وهرب زوجها جبيرة إلى نجران ومات بها على كفره واضطجع عليه السلام هناك بعد أن صلى الركعتين اللتين كان يصليهما وقت العشاء ونام ففرج عن سقف بيتها ونزل جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام ومع كل واحد منهم سبعون ألف ملك وأيقظه جبريل بجناحه كما قال المولى الجامي :
درين شب آن راغ شم بينش
سزاى آفرين از آفرينش
و دولت شد زبد خواهان نهانى
سوى دولت سراى امهانى
به هلوتكيه بر مهد زمين كرد
زمين را مهد جان نازنين كرد
دلش بيدار شمش درشكر خواب
نديده شم بخت اين خواب در خواب
در آمد ناكهان ناموس اكبر
سبك رو ترازين طاوس اخضر
برو ماليد ركاى خواجه بر خيز
كه امشب خوابت آمد دولت انكيز
برون بر يكزمان زين خوابكه رخت
توبخت عالمي بيخواب به بخت
قال عليه السلام : فقمت إلى جبريل فقلت : أخي جبريل ما لك؟ فقال : يا محمد إن ربي تعالى بعثني إليك أمرني أن آتيه بك في هذه الليلة بكرامة لم يكرم بها أحد قبلك ولا يكرم بها أحد بعدك فإنك تريد أن تكلم ربك وتنظر إليه وترى في هذه الليلة من عجائب ربك وعظمته وقدرته قال عليه السلام : فتوضأت وصليت ركعتين وشق جبريل صدره الشريف من الموضع المنخفض بين الترقوتين إلى أسفل بطنه أي : أشار إلى ذلك فانشق فلم يكن الشق بآلة ولم يسل دم ولم يجد له عليه السلام ألماً لأنه من خرق العادة وظهور المعجزات فجاء بطست من ماء زمزم واستخرج قلبه عليه السلام فغسل ثلاث مرات ونزع ما كان فيه من أذى.
وفيه إشارة إلى فضل زمزم على المياه كلها جنانية أو غيرها ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء إيماناً وحكمة فافرغ فيه لأن المعاني تمثل بالأجسام كالعلم بصورة اللبن ووضعت فيه السكنة ثم أعاد القلب إلى مكانه والتأم صدره الشريف فكانوا يرون أثراً كأثر المخيط في صدره وهو أثر مرور يد جبريل.
ووقع له عليه السلام شق الصدر ثلاث مرات :
(5/80)
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
والمرة الأولى : حين كان في بني سعد وهو ابن خمس سنين على ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وأخرج في هذه المرة العلقة السوداء من القلب التي هي حظ الشيطان ومحل غمزه أي : محل ما يلقيه من الأمور التي لا تنبغي فلم يكن
106
للشيطان في قلب النبي عليه السلام حظ وكذا لم يكن لقلبه الطاهر ميل إلى لعب الصبيان ونحوه وهو مما اختص به دون الأنبياء عليهم السلام إذ لم يكن لهم شرح الصدر على هذا الأسلوب وللورثة الكمل حظ من هذا المعنى فإنه يخرج من بعضهم الدم الأسود بالقيىء في حال اليقظة ومن بعضهم حال الفناء والانسلاخ والأول أتم لأنه يزول القلب بالكلية فينشط للعبادات كالعادات وجاء جبريل في هذه المرة بخاتم من نور يحار الناظرون دونه فختم به قلبه عليه السلام لحفظ ما فيه وختم أيضاً بين كتفيه بخاتم النبوة أي الذي هو علامة على النبوة وكان حوله خيلان فيها شعرات سود مائلة إلى الحضرة وكان كالتفاحة أو كبيض الحمامة أو كزر الحجلة وهو طائر على قدر الحمامة كالقطاة أحمر المنقار والرجلين ويسمى دجاج البر وزرها بيضتها.
قال الترمذي والصواب حجلة السرير واحدة الحجال وزرها الذي يدخل في عروتها كما في حياة الحيوان} مكتوب عليه "لا إله إلا الله محمد رسول الله" أو "محمد نبي أمين" أو غير ذلك.
والتوفيق بين الروايات بتنوع الحظوظ بحسب الحالات والتجليات أو بالنسبة إلى أنظار الناظرين.
قال الإمام الدميري : إن بعض الأولياء سأل الله تعالى أن يريه كيف يأتي الشيطان ويوسوس فأراه الحق هيكل الإنسان في صورة بلور وبين كتفيه شامة سوداء كالعش والوكر فجاء الخناس يتحسس من جميع جوانبه وهو في صورة خنزير له خرطوم كخرطوم الفيل فجاء من بين الكتفين فأدخل خرطومه قبل قلبه فوسوس إليه فذكر الله تعالى فخنس وراءه ولذلك سمي بالخناس لأنه ينكص على عقبيه مهما حصل نور الذكر في القلب ولهذا السر الإلهي كان عليه السلام يحتجم بين كتفيه ويأمر بذلك ووصاه جبريل بذلك لتضعيف مادة الشيطان وتضييق مرصده لأنه يجري وسوسته مجرى الدم ولذلك كان خاتم النبوة بين كتفيه إشارة إلى عصمته من وسوسته لقوله : "أعانني الله عليه فأسلم" أي : بالختم الإلهي أيده به وخصه وشرفه وفضله بالعصمة الكلية فأسلم قرينه وما أسلم قرين آدم فوسوس إليه لذلك.
ـ والمرة الثانية : ـ عند مجيىء الوحي في بلوغه سن أربعين ليحصل له التحمل لأعباء الرسالة.
ـ والمرة الثالثة : ـ ليلة الإسراء وهو ابن ثنتين وخمسين ليتسع قلبه لحفظ الأسرار الإلهية والكلمات الربانية وجاء جبريل هذه الليلة بدابة بيضاء ومن ثمة قيل لها البراق بضم الموحدة لشدة بريقها أو لسرعتها فهي كالبرق الذي يلمع في الغيم كما قال المولى الجامي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
سيج راه عرشت كردم اينك
براقى برق سير آوردم اينك
جهنده برزمين خوش بادايى
رنده درهوا فرخ همايى
و عقل كل سوى أفلاك كردى
و فكر هندسه كيتى نوردى
نه دست كس عنان أو بسوده
نه از ايى ركابش كشته سوده
وهي دابة فوق الحمار دون البغل.
قال صاحب "المنتقى" : الحكمة في كونه على هيئة بغل ولم يكن على هيئة فرس التنبيه على أن الركوب في سلم وأمن لا في خوف وحرب أو لإظهار الآية في الإسراع العجيب في دابة لا يوصف شكلها بالإسراع فإنه كان يضع خطوه عند أقصى طرفه ويؤخذ من هذا أنه أخذ من الأرض إلى السماء في خطوة لأن بصر من في الأرض يقع على السماء
107
(5/81)
وإلى السموات السبع في سبع خطوات لأن بصر من يكون في السماء يقع على السماء التي فوقها وبه يرد على من استبعد من المتكلمين إحضار عرش بلقيس في لحظة واحدة.
وقال في "الربيع" : الأبرار خد البراق كخد الإنسان وقوائمها كقوائم البعير وعرفها كعرف الفرس وعليها سرج من لؤلؤة بيضاء وركابان من زبرجد أخضر وعليه لجام من ياقوت أحمر يتلألأ نوراً.
قال في "إنسان العيون" : لا ذكر ولا أنثى ومن لا يوصف بوصف المذكر والمؤنث فهو حقيقة ثالثة ويكون خارجاً من قوله تعالى : {وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} كما خرجت الملائكة من ذلك فإنهم ليسوا ذكوراً ولا إناثاً.
قال عليه السلام : "فما رأيت دابة أحسن منها وإني لمشتاق إليها من حسنها فقلت : يا جبريل ما هذه الدابة؟ فقال : هذا البراق فاركب عليه حتى تمضي إلى دعوة ربك فأخذ جبريل بلجامها وميكائيل بركابها وإسرافيل من خلفها فقصدت إلى أن أركبها فجمحت الدابة وأبت فوضع جبريل يده على وركها وقال لها : أما تستحيين مما فعلت فوالله ما ركبك أحد أكرم على الله من محمد فرشحت عرقاً من الحياء".
قال ابن دحية : لم يركب البراق أحد قبله عليه السلام ووافقه الإمام النووي فقول جبريل ما ركبك لا ينافيه لأن السالبة تصدق بنفي الموضوع.
فقالت : يا جبريل لم استصعب منه إلا ليضمن أن يشفع لي يوم القيامة لأنه أكرم الخلائق على الله فضمن لها ذلك.
قالوا : الورد الأبيض خلق من عرق جبريل والأصفر من عرق البراق.
وعن أنس رضي الله عنه رفعه "لما عرج بي إلى السماء بكت الأرض من بعدي فنبت الأصفر من نباتها فلما رجعت قطر عرقي على الأرض فنبت ورد أحمر ألا من أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد الأحمر".
قال أبو الفرج النهرواني : هذا الخبر يسير من كثير مما أكرم الله تعالى به نبيه عليه السلام ودل على فضله ورفيع منزلته كما في "المقاصد الحسنة".
يقول الفقير : هذا لا يستلزم أن لا يكون قبل هذا ورد أحمر وأبيض وأصفر إذ ذلك من باب الكرامة ونظير ذلك أن حواء عليها السلام حين أهبطت إلى الأرض بكت فما وقع من قطرات دموعها في البحر صار لؤلؤاً وهذا لا يستلزم أن لا يكون قبل هذا در في البحر وقس عليه الملح فإن إبراهيم عليه السلام أتى بكف من كافور الجنة فذراه فحيثما وقع ذرة منه في أطراف العالم انقلب مملحة وكان قبل هذا ملح لكن لا بهذه المثابة.
قال عليه السلام : "فركبتها" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
ازان دولت سرا ون خواجه دين
خرامان شد بعزم خانه زين
شد از سبوحيان كردون صداده
كه سبحان الذي أسرى بعبده
واختلفوا هل ركبها جبريل معه.
قال صاحب المنتقى : الظاهر عندي أنه لم يركب لأنه عليه السلام مخصوص بشرف الإسراء فانطلق البراق يهوي به يضع حافره حيث أدرك طرفه حتى بلغ أرضاً فقال له جبريل : انزل فصل ههنا ففعل ثم ركب فقال له جبريل : أتدري أين صليت؟ قال : "لا" قال : صليت بمدين وهي قرية تلقاء غزة عند شجرة موسى سميت باسم مدين بن موسى لما نزلها فانطلق البراق يهوي به فقال له جبريل : انزل فصل ففعل ثم ركب فقال له : أتدري أين صليت؟ قال : "لا" قال : صليت ببيت لحم وهي قرية تلقاء بيت المقدس حيث ولد عيسى عليه السلام وبينا هو صلى الله عليه وسلّم على البراق إذ رأى عفريتاً من الجن يطلبه بشعلة من نار
108
كلما التفت رآه فقال له جبريل : ألا أعلمك كلمات تقولهن إذا أنت قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه؟ فقال عليه السلام : "بلى" فقال جبريل : قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات اللاتي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن فقال عليه السلام : "ذلك" فانكب لفيه وطفئت شعلته.
ورآى صلى الله عليه وسلّم حال المجاهدين في سبيل الله أي : كشف له عن حالهم في دار الجزاء بضرب مثال.
فرأى قوماً يزرعون ويحصدون من ساعته وكلما حصدوا عاد كما كان فقال : "يا جبرائيل ما هذا؟" قال : هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من خير فهو يخلفه والمراد تكرير الجزاء لهم.
ونادى مناد عن يمينه يا محمد انظرني أسألك فلم يجبه فقال : "ما هذا يا جبريل؟" فقال : هذا داعي اليهود أما أنك لو أجبته لتهودت أمتك أي : لتمسكوا بالتوراة والمراد غالب الأمة.
ونادى مناد عن يساره كذلك فلم يجبه فقال : "ما هذا يا جبريل؟" فقال : هذا داعي النصارى أما أنك لو أجبته لتنصرت أمتك أي : لتمسكوا بالإنجيل.
وكشف له عليه السلام عن حال الدنيا بضرب مثال فرأى امرأة حاسرة عن ذراعيها لأن ذلك شأن المقتنص لغيره وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى ومعلوم أن النوع الواحد من الزينة يجلب القلوب إليه فكيف بوجود سائر أنواع الزينة ، قال الحافظ :
خوش عروسيست جهان ازسر صورت ليكن
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
هركه يوست بدو عمر خودش كابين داد
وقال :
(5/82)
از ره مرو بعشوه ديني كه اين عجوز
مكاره مى نشيند ومحتاله مى رود
فقالت : يا محمد انظرني أسألك فلم يلتفت إليها فقال : "من هذا يا جبريل" فقال : تلك الدنيا أما أنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
ورأى صلى الله عليه وسلّم على جانب الطريق عجوزاً فقالت : يا محمد انظرني فلم يلتفت إليها فقال : "من هذه يا جبريل؟" فقال : إنه لم يبق شيء من عمر الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز.
وفي كلام بعضهم قد يقال لها شابة وعجوز بمعنى يتعلق بذاتها وبمعنى يتعلق بغيرها.
الأول وهو أنها من أول وجود هذا النوع الإنساني إلى أيام إبراهيم عليه السلام تسمى الدنيا شابة وفيما بعد ذلك إلى بعثة نبينا عليه السلام كهلة ومن بعد ذلك إلى يوم القيامة تسمى عجوزاً وهذا بالنسبة إلى القرن الإنساني وإلا فقد خلق آدم عليه السلام والدنيا عجوز ذهب شبابها ونضارتها كما ورد في بعض الأخبار.
فإن قلت : الشباب ومقابله إنما يكون في الحيوان.
قلت : الغرض من ذلك التمثيل.
وكشف له عليه السلام عن حال من يقبل الأمانة مع عجزه عن حفظها بضرب مثال فأتى على رجل جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال : "ما هذا يا جبريل؟" قال : هذا الرجل من أمتك يكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ويريد أن يتحمل عليها.
قيل : "اتقوا الواوات" أي : اتقوا مدلولات الكلمات التي أولها واو كالولاية والوزارة والوصاية والوكالة والوديعة.
وكشف له عن حال من ترك الصلاة المفروضة في دار الجزاء فأتى على قوم ترضخ رؤوسهم كلما رضخت عادت كما كانت فقال :
109
"يا جبريل من هؤلاء؟" قال : هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة أي : المفروضة عليهم.
وكشف له عن حال من يترك الزكاة الواجبة عليه فأتى على قوم على إقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع وهو اليابس من الشوك والزقوم ثمر شجر مر له زفرة قيل : إنه لا يعرف شجره في الدنيا وإنما هو شجر في النار وهي المذكورة في قوله تعالى : {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ} (الصافات : 64) ويأكلون رضف جهنم أي : حجارتها المحماة التي تكون بها فقال : "من هؤلاء يا جبريل" قال : هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم المفروضة عليهم.
وكشف له عن حال الزناة بضرب مثل فأتى على قوم من بين أيديهم لحم نضيج في قدور ولحم نيىء أيضاً في قدور خبيث فجعلوا يأكلون من ذلك النيىء الخبيث ويدعون النضيج الطيب فقال : "ما هذا يا جبريل" قال : هذا الرجل من أمتك يكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيباً فتأتى رجلاً خبيثاً فتبيت عنده حتى تصبح.
وكشف له عن حال من يقطع الطريق بضرب مثال فأتى عليه السلام على خشبة لا يمر بها ثوب ولا شيء إلا خرقته فقال : "من هذه يا جبريل" قال : هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه وتلا
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
{وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} (الأعراف : 86).
وفيه إشارة إلى الزناة المعنوية وقطاع الطريق عن أهل الطلب وهم الدجاجلة والأئمة المضلة في صورة السادة القادة الأجلة فإنهم يفسدون أرحام الاستعدادات والاعتقادات بما يلقون فيها من نطف خلاف الحق ويصرفون المقلدين عن طريق التحقيق ويقطعون عليهم خير الطريق فأولئك يحشرون مع الزناة والقطاع.
وكشف له عن حال من يأكل الربا أي : حالته التي يكون عليها في دار الجزاء فرأى رجلاً يسبح في نهر من دم يلقم الحجارة فقال : "من هذا" فقال : آكل الربا.
وكشف له عن حال من يعظ ولا يتعظ فأتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت فقال : "من هؤلاء يا جبريل" فقال : هؤلاء خطباء الفتنة خطباء أمتك يقولون ما لا يفعلون :
ازمن بكوى عالم تفسير كوى را
كردر عمل نكوشى تونادان مفسرى
يار درخت علم ندانم بجز عمل
باعلم اكر عمل نكنى شاخ بى برى
وكشف له عن حال المغتابين للناس فمر على قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقال : "من هؤلاء يا جبريل" فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم.
وكشف له عن حال من يتكلم بالفحش بضرب مثال فأتى على حجر يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث يخرج فلا يستطيع فقال : "من هذا يا جبريل" فقال : هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها.
وكشف له عن حال من أحوال الجنة فأتى على واد فوجده طيباً بارداً ريحه ريح المسك وسمع صوتاً فقال : "يا جبريل ما هذا" قال : هذا صوت الجنة تقول يا رب ائتني ما وعدتني.
وكشف له عن حال من أحوال النار فأتى على واد فسمع صوتاً منكراً ووجد ريحاً خبيثة فقال : "ما هذا يا جبريل" قال : صوت جهنم تقول يا رب ائتني ما وعدتني ، وفي المثنوى :
110
ذره ذره كاندرين ارض وسماست
جنس خود راهريكى ون كهرباستمعده نانرا مى كشد تا مستقر
مى كشد مر آب را تف جكر
(5/83)
شم جذاب بتان راين كويهاست
مغز جويان ازكلستان بوبهاست
ومر عليه السلام على شخص متنحياً عن الطريق يقول : هلم يا محمد قال جبريل : سر يا محمد قال عليه السلام : "من هذا" قال : عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه :
آدمى را دشمن نهان بسيست
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
آدمى با حذر عاقل كسيست ومر عليه السلام على موسى وهو يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر وهو يقول برفع صوته أكرمته وفضلته فقال : "من هذا يا جبريل" قال : هذا موسى بن عمران عليه السلام قال : "ومن يعاتب" قال له : يعاتب ربه فيك.
والعتاب مخاطبة فيها إدلال والظاهر أنه عليه السلام نزل عند قبره فصلى ركعتين.
ومر عليه السلام على شجرة تحتها شيخ وعياله فقال : "من هذا يا جبريل" قال : هذا أبوك إبراهيم عليه السلام فسلم عليه فرد عليه السلام فقال : من هذا الذي معك يا جبريل؟ قال : هذا ابنك محمد صلى الله عليه وسلّم قال : مرحباً بالنبي العربي الأمي ودعا له بالبركة وكان قبر إبراهيم تحت تلك الشجرة فنزل عليه السلام وصلى هناك ركعتين ثم ركب وسار حتى أتى الوادي الذي في بيت المقدس فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابي وهي النمارق أي : الوسائد فقيل : يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال : "مثل الحممة" أي : الفحمة ومضى عليه السلام حتى انتهى إلى إيليا من أرض الشام وهو بالكسر مدينة القدس واستقبله من الملائكة جم غفير لا يحصى عددهم فدخلها من الباب اليماني الذي فيه مثل الشمس والقمر ثم انتهى إلى بيت المقدس وكان بباب المسجد حجر فأدخل جبريل يده فيه فخرقه فكان كهيئة الحلقة وربط به البراق.
وفي حديث أبي سفيان رضي الله عنه قبل إسلامه أنه قال لقيصر يحط من قدره صلى الله عليه وسلّم ألا أخبرك أيها الملك عنه خبراً تعلم منه أنه يكذب؟ فقال : وما هو؟ قال : إنه يزعم أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا في ليلة واحدة فقال بطريق : أنا أعرف تلك الليلة فقال له قيصر : ما أعلمك بها قال : إني كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير واحد وهو الباب الفلاني غلبني فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني فلم يفد فقالوا إن البناء نزل عليه فاتركوه إلى غد حتى يأتي بعض النجارين فيصلحه فتركه مفتوحاً فلم أصبحت غدوت فإذا الحجر الذي من زاوية الباب مثقوب وإذا فيه أثر مربط الدابة ولم أجد بالباب ما يمنعه من الإغلاق فعلمت أنه إنما امتنع لأجل ما كنت أجده في العلم القديم أن نبياً يصعد من بيت المقدس إلى السماء وعند ذلك قلت لأصحابي : ما حبس هذا الباب الليلة إلا لهذا الأمر.
ولا يخفى أن عدم انغلاق الباب إنما كان ليكون آية وإلا فجبريل لا يمنعه باب مغلق ولا غيره وكذا خرق المربط وربط البراق وإلا فالبراق لا يحتاج إلى الربط كسائر الدواب الدنيوية فإن الله تعالى قد سخره لحبيبه عليه السلام.
ولما استوى عليه السلام على الحجر المذكور قال جبريل : يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين قال : "نعم" قال جبريل : فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن فسلم عليه السلام عليهن فرددن
111
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
(5/84)
عليه السلام فقال : من أنتن قلن خيرات حسان نساء قوم أبرار نقوا فلم يدرنوا وأقاموا فلم يظعنوا وخلدوا فلم يموتوا ثم دخل عليه السلام المسجد ونزلت الملائكة وأحيى الله له آدم ومن دونه من الأنبياء من سمي الله ومن لم يسم حتى لم يشذ منهم أحد فرآهم في صورة مثالية كهيئتهم الجسدانية إلا عيسى وإدريس والخضر والياس فإنه رآهم بأجسادهم الدنيوية لكونهم من زمرة الاحياء كما هو الظاهر فسلموا عليه وهنأوه بما أعطاه الله تعالى من الكرامة وقالوا : الحمدالذي جعلك خاتم الأنبياء فنعم النبي أنت ونعم الأخ أنت وأمتك خير الأمم ثم قال جبريل : تقدم يا محمد وصل بإخوانك من الأنبياء ركعتين فصلى بهم ركعتين وكان خلف ظهره إبراهيم وعن يمينه إسماعيل وعن يساره إسحاق عليهم السلام وكانوا سبعة صفوف ثلاثة صفوف من الأنبياء المرسلين وأربعة من سائر الأنبياء.
قال في "إنسان العيون" : والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن هذه الصلاة كانت من النفل المطلق ولا يضر وقوع الجماعة فيها انتهى.
وفي "منية المفتي" أيضاً إمامة النبي عليه السلام ليلة المعراج لأرواح الأنبياء وكانت في النافلة انتهى.
قال عليه السلام : "لما وصلت إلى بيت المقدس وصليت فيه ركعتين" أي : إماماً بالأنبياء والملائكة "أخذني العطش أشد ما أخذني فأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر فأخذت الذي فيه اللبن وكان ذلك بتوفيق ربي فشربته إلا قليلاً منه وتركت الخمر فقال جبريل : أصبت الفطرة يا محمد" لأن فطرته هي الملائمة للعلم والحلم والحكمة "أما أنك لو شربت الخمر لغوت أمتك كلها ولو شربت اللبن كله لما ضل أحد من أمتك بعدك فقلت : يا جبريل أردد عليّ اللبن حتى أشربه كله فقال جبريل : قضي الأمر ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم".
قال بعضهم : إنه لم يختلف أحد أنه عرج به صلى الله عليه وسلّم من عند القبة التي يقال لها قبة المعراج عن يمين الصخرة وقد جاء "صخرة بيت المقدس من صخور الجنة" وفيها أثر قدم النبي عليه السلام.
قال أبي بن كعب : ما من ماء عذب إلا وينبع من تحت صخرة بيت المقدس ثم يتفرق في الأرض وهذه الصخرة من عجائب الله فإنها صخرة شعثاء في وسط المسجد الأقصى قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ومن تحتها المغارة التي انفصلت من كل جهة فهي معلقة بين السماء والأرض.
قال الإمام أبو بكر بن العربي في شرح الموطأ امتنعت لهيبتها أن أدخل من تحتها لأني كنت أخاف أن تسقط عليّ بالذنوب ثم بعد مدة دخلتها فرأيت العجب العجاب تمشي في جوانبها من كل جهة فتراها منفصلة عن الأرض لا يتصل بها من الأرض شيء ولا بعض شيء وبعض الجهات أشد انفصالاً من بعض.
قال بعضهم : بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً وباب السماء الذي يقال له : مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس أي : ولهذا أسري به عليه السلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليحصل العروج مستوياً من غير تعويج.
يقول الفقير رقاه الله القدير إلى معرفة سر المعراج المنير : لعل وجه الإسراء إلى بيت المقدس هو التبرك بقدمه الشريفة لكون مدينة القدس ومسجدها متعبد كثير من الأنبياء ومدفنهم لا لأنه يحصل العروج مستوياً فإن ذلك من باب قياس الغائب على الشاهد وتقدير الملكوت بالملك إذ الأرواح الطيبة وألطفها
112
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
(5/85)
النبي عليه السلام بجسمه وروحه لا حائل لهم واعتبار الاستواء والتعويج من باب التكلف الذي لا يناسب حال المعراج.
وقد ثبت أن عيسى عليه السلام سينزل إلى المنارة البيضاء الدمشقية ولم يعهد أنها حيال باب السماء فالجواب العقلي لا يتمشى ههنا.
قال في "ربيع الأبرار" "ثم قال لي جبريل : قم يا محمد فقمت فإذا بسلم من ذهب قوائمه من فضة مركب من اللؤلؤ والياقوت يتلألأ نوره وإذا أسفله على صخرة بيت المقدس ورأسه في السماء فقيل لي : يا محمد اصعد فصعدت".
وفي "إنسان العيون" : عرج إلى السماء من الصخرة على المعراج لا على البراق.
والمعراج بكسر الميم وفتحها الذي تعرج أرواح بني آدم فيه وهو سلم له مرقاة من ذهب وهذا المعراج لم تر الخلائق أحسن منه أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحاً إلى السماء أي : بعد خروج روحه فإن ذلك عجبه بالمعراج الذي نصب لروحه لتعرج عليه وذلك شامل للمؤمن والكافر إلا أن المؤمن يفتح لروحه باب السماء دون الكافر فترد بعد عروجها تحسراً وندامة وتبكيتاً له وذلك المعراج أتى به من جنة الفردوس وأنه منضد باللؤلؤ أي : جعل فيه اللؤلؤ بعضه على بعض عن يمينه ملائكة ويساره ملائكة فصعد صلى الله عليه وسلّم ومعه جبريل.
وفي كلام بعض المشايخ أن المراد بالمعراج صورة الجذب والانجذاب وتمثيل الصعود وإلا فالآلة لا تتمشى هناك إذ لا يقاس السير الملكوتي على السير الملكي والظاهر أن عالم الملكوت مشتمل على ما هو صورة ومعنى والصورة هناك تابعة للمعنى كحال صاحب السير والإسراء فإنه لو لم يكن جسده تابعاً لروحه لتعذر العروج فلصورته صورة ولمعناه معنى وكل منهما خلاف ما تتصوره الأوهام وهو اللائح بالبال والحمدالملك المتعال.
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
واعلم أن المعدن والنبات والحيوان مركبات تسمى بالمواليد الثلاثة آباؤها الأثيريات أي : الإجرام الأثيرية التي هي الأفلاك بما فيها من الأجرام النيرة وأمهاتها العنصريات والعناصر أربعة الأرض والماء والهواء والنار فالأرض ثقيل على الإطلاق والماء ثقيل بالإضافة إلى الهواء والنار وهو محيط بأكثر الأرض والهواء خفيف مضاف إلى الثقلين يطلب العلو وهو محيط بكرة الأرض والماء والنار خفيف على إطلاق يحيط بكرة الهواء والنبي صلى الله عليه وسلّم جاوز هذه العناصر ليلة المعراج بالحركة القسرية والحركة القسرية غير منكورة عندنا وعند المحيلين لهذا الإسراء الجسماني فإنا نأخذ الحجر وطبعه النزول فنرمي به في الهواء فصعوده في الهواء بخلاف طبعه وبطبعه أما قولنا بخلاف طبعه فإن طبعه يقتضي الحركة نحو المركز فصعوده في الهواء عرضي بالحركة القسرية وهي الرمي به علواً وأما قولنا وبطبعه فإنه على طبيعة يقبل بها الحركة القسرية ولو لم يكن ذلك في طبعه لما انفعل لها ولا قبلها وكذلك اختراقه عليه السلام الفلك الأثيري وهو نار والجسم الإنساني مهيأ مستعد لقبول الاحتراق ثم إن المانع من الاحتراق أمور يسلمها الخصم فتلك الأمور كانت الحجب التي خلقها الله سبحانه في جسم المسري به فلم يكن عنده استعداد الانفعال للحرق كبعض الأجسام المطلية بما يمنعها من الاحتراق بالنار أو أمر آخر وهو أن الطريق الذي اخترقه ليس النار فيه إلا محمولة في جسم لطيف ذلك الجسم هو المحرق بالنار فسلب عنه النار وحل به ضدها كنار إبراهيم عليه السلام قال عليه السلام : "انتهيت إلى بحر أخضر عظيم أعظم
113
ما يكون من البحار فقلت : يا جبرائيل ما هذا البحر؟ فقال : يا محمد هذا بحر في الهواء لا شيء من فوقه يتعلق به ولا شيء من تحته يقر فيه ولا يدري قعره وعظمته إلا الله تعالى ولولا أن هذا البحر كان حائلاً لاحترق ما في الدنيا من حر الشمس" ثم قال : "ثم انتهيت إلى السماء الدنيا واسمها رقيع فأخذ جبريل بعضدي وضرب بإبهامه وقال : افتح الباب" وإنما استفتح لكون إنسان معه ولو انفرد لما طلب الفتح ولكون مجيئه على خلاف ما كانوا يعرفونه قبل : "قال الحارس : من أنت؟ قال : جبريل قال : ومن معك فإنه رأى شخصاً معه لم يعرفه قال : محمد قال : أوقد بعث محمد قال : نعم" وذلك لجواز أن يعرف ولادته عليه السلام ويخفى عليه بعثته قال : "الحمدففتح لنا الباب ودخلنا فلما نظر إلي قال : مرحباً بك يا محمد ولنعم المجيىء مجيئك فقلت : يا جبريل من هذا؟ قال : إسماعيل خازن السماء الدنيا وهو ينتظر قدومك فادن وسلم عليه فدنوت وسلمت فرد عليّ السلام وهنأني فلما صرت إليه قال : أبشر يا محمد فإن الخير كله فيك وفي أمتك فحمد الله على ذلك" وهذا الملك لم يهبط إلى الأرض قط إلا مع ملك الموت لما نزل لقبض روحه الشريفة "تحت يده سبعون ألف ملك تحت يد كل ملك سبعون ألف ملك قال : وإذا جنوده قائمون صفوفاً ولهم زجل بالتسبيح يقولون سبوحاً سبوحاً لرب الملائكة والروح قدوساً قدوساً لرب الأرباب سبحان العظيم الأعظم وكان قراءتهم سورة الملك فرأيت فيها كهيئة عثمان بن عفان فقلت : بم بلغت إلى هنا قال : بصلاة الليل" :
(5/86)
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
هركج سعادت كه خدا داد بحافظ
ازيمن دعاى شب وورد سحرى بود
قال : "ثم انتهيت إلى آدم فإذا هو كهيئة يوم خلقه الله تعالى" أي : على غاية من الحسن والجمال "وكان تسبيحه سبحان الجليل الأجل سبحان الواسع الغنى سبحان الله العظيم وبحمده فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب اجعلوها في عليين وتعرض عليه أرواح ذريته الكفار فيقول روح خبيثة ونفس خبيثة خرجت من جسد خبيث اجعلوها في سجين".
فإن قلت أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء فكيف تعرض عليه وهو في السماء.
قلت : المراد بعض أرواح ذريته الكفار يقع نظره عليها وهي دون السماء لأنها شفافة.
فإن قلت : ما ذكر يقتضي أن يكون أرواح المؤمنين كلهم في عليين في السماء الرابعة وقد ثبت أن أرواح العصاة محبوسة بين السماء والأرض.
قلت : التحقيق أن مبدأ مراتب السعداء من السماء الدنيا على درجات متفاوتة إلى عليين ومبدأ مراتب الأشقياء من مقعر سماء الدنيا إلى منازل مختلفة إلى سجين تحت السابعة وهو مسكن إبليس وذريته فمراتب أرواح الكفار أنزل من مراتب أرواح عصاة المؤمنين تلتحق بعد التهذيب إلى مقارها العلوية قال عليه السلام : "فتقدمت إليه وسلمت عليه فقال : مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح" أي : لقيت رحباً وسعة وكان مقره فلك القمر لمناسبته في السرعة فإن القمر يسير في الشهر ما يسير الشمس في السنة من المنازل فناسب في سرعة حركاته حركاته الذهنية وانتقالاته الباطنية وموجب هذه الرؤية الخاصة أي : رؤيته عليه السلام لآدم في السماء الدنيا دون غيره من الأنبياء عليهم السلام مناسبة صفاتية أو فعلية أو حالية فلا تنافي أن يشارك
114
آدم في هذه السماء غيره من بعض الأنبياء وقس عليها الرؤية فيما فوقها من السموات كما سيجيىء.
قال في تفسير "المناسبات" في سورة النجم فأول ما رأى صلى الله عليه وسلّم من الأنبياء عليهم السلام آدم عليه السلام الذي كان في أمن الله وجواره فأخرجه إبليس عدوه منهما وهذه القصة تشبهها الحالة الأولى من أحوال النبي عليه السلام حين أخرجه أعداؤه من حرم الله وجوار بيته فأشبهت قصته في هذا قصة آدم مع أن آدم يعرض عليه ذريته البر والفاجر منهم فكان في السماء الدنيا بحيث يرى الفريقين لأن أرواح أهل الشقاء لا تلج في السماء ولا تفتح لهم أبوابها انتهى قال عليه السلام : "ورأيت رجالاً لهم مشافر كمشافر الإبل" أي : كشفاه الإبل "وفي أيديهم قطع من نار كالأفهار" أي الحجارة "التي كل واحد منها ملىء الكف يقذفونها في أفواههم تخرج من أدبارهم قلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : أكلة أموال اليتامى ظلماً" وهؤلاء لم يتقدم رؤيته لهم في الأرض ولعل المراد بالرجال الأشخاص أو خصوا بذلك لأنهم أولياء للأيتام غالباً "ثم رأيت رجالاً لهم بطون أمثال البيوت فيها حيات ترى من خارج البطون بطريق آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار لا يقدرون أن يتحولوا من مكانهم ذلك" أي : فتأطهم آل فرعون الموصوفون بما ذكر المقضتي لشدة وطئهم لهم والمهيومة التي أصابها الهيام وهو داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض ولا ترعى أو العطاش والهيام شدة العطش.
5
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
(5/87)
وفي رواية "كلما نهض أحدهم خر" أي : سقط "قلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء أكلة الربا" وتقدمت رؤيته عليه السلام لهم في الأرض لا بهذا الوصف بل أن الواحد منهم يسبح في نهر من دم يلقم الحجارة ولا مانع من اجتماع الوصفين لهم أي : فيخرجون من ذلك النهر ويلقون في طريق من ذكر وهكذا عذابهم دائماً "ثم رأيت أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد وأخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون قلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام" أي : من الأموال أعم مما قبله وهؤلاء لم يتقدم رؤيته لهم في الأرض "ثم رأيت نساء متعلقات بثديهن فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال ما ليس من أولادهن أي : بسبب زناهن" وفي رواية "أنه عليه السلام رأى في هذه السماء النيل والفرات" وذلك لأن منبعهما من تحت سدرة المنتهى ويمران في الجنة ويجاوزانها إلى السماء الدنيا فينصبان إلى الأرض من طرق العالم فيجريان.
وفي زيادة "الجامع الصغير" "إن النيل يخرج من الجنة ولو التمستم فيه حين يسيح لوجدتم فيه من ورقها" قال صلى الله عليه وسلّم "ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل قيل : ومن معك؟ قال : محمد قيل : أوقد بعث إليه؟ قال : نعم ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهم السلام" أي : شبيه أحدهما بصاحبه ثيابهما وشعرهما "ومعهما نفر من قومهما فرحبا بي ودعوا لي بخير" وكونهما ابن الخالة أي : أن أم كل خالة الآخر هو المشهور والتفصيل في آل عمران.
قال في "تفسير المناسبات" ثم رأى في الثانية عيسى ويحيى وهما الممتحنان باليهود أما عيسى فكذبته اليهود وآذته وهموا بقتله فرفعه الله وأما يحيى فقتلوه ، قال في "المثنوي" :
115
ون سفيها نراست اين كاروكيا
لازم آمد يقتلون الأنبياء
ورسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد انتقاله إلى المدنية صار إلى حالة ثانية من الامتحان وكانت محنته فيها باليهود وآذوه وظاهروا عليه وهموا بإلقاء الصخرة عليه ليقتلوه فنجاه الله كما نجى عيسى منهم ثم سموه في الشاة فلم تزل تلك الأكلة تعاده حتى قطعت أبهره كما قال عند الموت وهكذا فعلوا بابني الخالة عيسى ويحيى.
قوله تعاده يقال عادته اللسعة إذا أتته لعداد بالكسر أي : لوقت وفي الحديث : "ما زالت أكلة خيبر تعادني فهذا أوان قطعت أبهري" وهو عرق في الظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه وذلك أن يهودية أتت رسول الله بشاة مسمومة فأكل منها وأكل القوم فقال عليه السلام : "ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة" فمات بشر بن البراء منه فجيىء بها إلى رسول الله فسألها عن ذلك فقالت : أردت أن أقتلك فقال عليه السلام : "ما كان الله ليسلط على ذلك" أي : على قتلي.
قال الشيخ افتاده قدس سره : وإنما لم يؤثر السم فيه عليه السلام إلى الاحتضار لأن إرشاده عليه السلام وإن كان في عالم التنزل غير أن تنزله كان من مرتبة الروح وهي أعدل المراتب فلم يؤثر فيه إلى الاحتضار فلما احتضر تنزل إلى أدنى المراتب لأن الموت إنما يجري على البشرية فلما تنزل إلى تلك المرتبة أثر فيه "ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل : من هذا؟ قال جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل : أوقد بعث إليه؟ قال : نعم ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام ومعه نفر من قومه وإذا هو أعطى شطر الحسن" أي : نصف الحسن الذي أعطيه الناس غير نبينا عليه السلام وفي كلام بعضهم أعطى شطر الحسن الذي أوتيه نبينا عليه السلام وكان نبينا عليه السلام أملح وإن كان يوسف أبيض ، قال المولى الجامي :
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
دبير صنع نوشت است كرد عارض تو
بمشك ناب كه الحسن والملاحة لك
(5/88)
وذلك أن الحسن والملاحة من عالم الصفات ولم يحصل لغيره عليه السلام ما حصل له من تجليات الصفات على الكمال صورة ومعنى إذ هو أفضل من الكل فالتجلي له أكمل وهو اللائح بالبال قال عليه السلام : "فرحب بي ودعا لي بخير قال في "تفسير المناسبات" أما لقاؤه ليوسف عليه السلام في السماء فإنه يؤذن بحالة ثالثة تشبه حالة يوسف عليه السلام وذلك أن يوسف ظفر بإخوته بعدما أخرجوه من بين ظهرانيهم فصفح عنهم وقال : {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} (يوسف : 72) الآية وكذلك نبينا عليه السلام أسر يوم بدر جملة من أقاربه الذين أخرجوه فيهم عمه العباس وابن عمه عقيل فمنهم من أطلقه ومنهم من فداه ثم ظهر عليهم بعد ذلك عام الفتح فجمعهم فقال لهم : "أقول ما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم" "ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا؟ قال : جبريل قيل : ومن معك قال : محمد قيل : أوقد بعث إليه؟ قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس عليه السلام فرحب بي ودعا لي بخير" قال الله تعالى في حقه : "ورفعناه مكاناً علياً" أي : السماء الرابعة حال حياته على أحد الوجوه وكونه في الجنة كما في بعض الروايات لا ينافي وجوده في السماء المذكورة تلك الليلة.
قيل : رفع إلى السماء من مصر بعد أن خرج منها ودار الأرض كلها وعاد إليها ودعا الخلائق إلى الله تعالى باثنتين وسبعين لغة خاطب كل قوم بلغتهم
116
وعلمهم العلوم وهو أول من استخرج علم النجوم أي : علم الحوادث التي تكون في الأرض باقتران الكواكب وهو علم صحيح لا يخطىء في نفسه وإنما الناظر في ذلك هو الذي يخطىء لعدم استيفائه النظر.
قال في "المناسبات" ثم لقاؤه لإدريس عليه السلام في السماء الرابعة وهو المكان الذي سماه الله مكاناً علياً وإدريس أول من آتاه الله الخط بالقلم فكان ذلك موذناً بحالة رابعة وهو شأنه صلى الله عليه وسلّم حتى أخاف الملوك وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته حتى قال أبو سفيان وهو عند ملك الروم حين جاء كتاب النبي عليه السلام ورأى ما رأى من خوف هرقل لقد أمر أمر ابن أبي كبشه حين أصبح يخافه ملك ابن أبي الأصفر وكتب بالقلم إلى جميع ملوك الأرض فمنهم من اتبعه على دينه كالنجاشي وملك عمان ومنهم من هادن وأهدى إليه وأتحفه المقوقس ومنهم من تعصى عليه فاظفره الله به وهذا مقام عليّ وخط بالقلم على نحو ما أوتي إدريس عليه السلام : "ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل قيل من هذا؟ قال : جبريل قيل : ومن معك؟ قال : محمد قيل : أوقد بعث إليه؟ قال : نعم ففتح لنا فإذا أنا بهارون عليه السلام ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء تكاد تضرب إلى سرته من طولها وحوله قوم من بني إسرائيل وهو يقص عليهم فرحب بي ودعا لي بخير" وكان هارون محبباً في قومه لأنه كان ألين إليهم من موسى لأن موسى كان فيه بعض الشدة عليهم ومن ثمة كان له منهم بعض الأذى.
قال في "المناسبات" : لقاؤه عليه السلام في السماء الخامسة لهارون المحبب في قومه يوذن بحب قريش وجميع العرب له بعد بغضهم فيه.
قال وهب بن منبه : وجدت في أحد وسبعين كتاباً أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلى الله عليه وسلّم إلا كحبة بين رمال الدنيا.
ومما يتفرع على العقل إقناء الفضائل واجتناب الرذائل وإصابة الرأي وجودة الفطنة وحسن السياسة والتدبير وقد بلغ من ذلك صلى الله عليه وسلّم الغاية التي لم يبلغها بشر سواه ومما لا يكاد يقضي منه العجب حسن تدبيره صلى الله عليه وسلّم للعرب الذين هم كالوحوش الشاردة كيف ساسهم واحتمل جفاءهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه واجتمعوا عليه واختاروه على أنفسهم وقاتلوا دون أهلهم وآباءهم وأبناءهم وهجروا في رضاه أوطانهم "ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل قيل : من هذا؟ قال : جبريل قيل : ومن معك؟ قال : محمد قيل : أوقد بعث إليه؟ قال : نعم ففتح لنا فإذا أنا بموسى عليه السلام فرحب بي ودعا لي بخير" وكان موسى رجلاً آدم طوالاً كثير الشعر مع صلابته لو كان عليه قميصان لنفذ الشعر منهما وكان إذا غضب يخرج شعر رأسه من قلنسوته وربما اشتعلت قلنسوته لشدة غضبه ولشدة غضبه لما فر الحجر بثوبه صار يضربه حتى ضربه ست ضربات أو سبعاً مع أنه لا إدراك له ووجه بأنه لما فر صار كالدابة والدابة إذا جمحت فصاحبها يؤديها بالضرب.
يقول الفقير : إنما فر الحجر لأن للجمادات حياة حقانية عند أهل الله تعالى وربما يظهر أثرها في الظاهر فتصير في حكم الاحياء من ذوي الروح وإليه الإشارة بهذه الأبيات "المثنوية" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
بادرا بى شم اكر بينش نداد
فرق ون مى كرد اندر قوم عاد
كرنبودى نيل را آن نور ديد
ازه قبطي را زسبطى مى كزيد
117
كرنه كوه وسنك باديدار شد
س را داودرا اويار شد
اين زمين را كرنبودى شم وجان
ازه قارون را فراخوردى نان
(5/89)
قال عليه السلام : "فلما جاوزت أي عن موسى بكى فقيل له : ما يبكيك؟ قال : أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي" أي بل ومن سائر الأمم لأن أهل الجنة من الأمم مائة وعشرون صفاً هذه الأمة منها ثمانون صفاً وسائر الأمم أربعون.
قال أبن الملك : إنما بكى موسى إشفاقاً على أمته حيث قصر عددها عن عدد أمة محمد لا حسداً عليه لأنه لا يليق به وأما قوله أن غلاماً بعث بعدي فلم يكن على سبيل التحقير بل على معنى تعظيم المنةتعالى لأن محمداً مع كونه غير طويل العمر في عبادة ربه خصه بهذه الفضيلة.
يقول الفقير : بكاء موسى عليه السلام هو المناسب لمقامه لأنه كان له غيرة غالبة ولذا لما مر عليه السلام عليه وهو يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر سمع منه وهو يقول برفع صوته أكرمته فضلته يخاطب ربه وعاتبه ادلالاً وهو لا يستلزم الحسد والتحقير لأن كمل أفراد الأمة مطهرون عن مثل هذا فكيف الأنبياء خصوصاً أولوا العزم منهم ومن البين أن أهل الجنة يرضون بما أوتوا من الدرجات على حسب استعداداتهم فلا يتمنى بعضهم مقام بعض لكونه خارجاً عن الحكمة فكذا الأنبياء الأولياء في مقاماتهم المعنوية وإلا لما استراحوا وهو مخل برتبتهم.
قال في "المناسبات" : ولقاؤه في السماء السادسة لموسى عليه السلام يوذن بحالة تشبه حالة موسى عليه السلام حين أمر بغزوة الشام وظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها وادخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد إهلاك عدوهم وكذلك غزا رسول الله صلى الله عليه وسلّم تبوك من أرض الشام وظهر على صاحب دومة الجندل حتى صالحه على الجزية بعد أن أتى به أسيراً وافتتح مكة ودخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه "ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل قيل : من هذا؟ قال : جبريل قيل : ومن معك؟ قال : محمد قيل : أوقد بعث إليه قال : نعم ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام قال : هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح".
قال الإمام التوربشتي أمر النبي عليه السلام بالتسليم على الأنبياء وإن كان أفضل لأنه كان عابراً عليهم وكان في حكم القائم وهم في حكم القعود والقائم يسلم على القاعد والمرئى كان أرواح الأنبياء مشكلة بصورهم التي كانوا عليها إلا عيسى فإنه مرئى بشخصه قال عليه السلام : "وإذا إبراهيم رجل أشمط جالس عند باب الجنة" أي في جهتها وإلا فالجنة فوق السماء السابعة "على كرسي مسنداً ظهره إلى البيت المعمور" وهو من عقيق محاذ للكعبة بحيث لو سقط سقط عليها "يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون الأنفاس الإنسانية يدخلون من الباب الواحد ويخرجون من الباب الآخر" فالدخول من باب مطالع الكواكب والخروج من باب مغاربها قال عليه السلام : "وإذا أنا بأمتي شطرين شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس وشطر عليهم ثياب رمدة فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمدة فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور" أي ركعتين والظاهر أنه ليس المراد بالشطر النصف
118
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
حتى يكون العصاة من أمته بقدر الطائعين منهم.
يقول الفقير المراد بالشطرين الفرقتان والفرقة التي عليهم ثياب بيض طائفة بالنسبة إلى الذين عليهم ثياب رمدة لأن الحكمة الإلهية اقتضت كون أهل العصيان والنفس أكثر من أهل الطاعة والتزكية إذ المقصود ظهور الإنسان الكامل وهو حاصل مع أن الواحد على الحق هو السواد الأعظم فيكون أهل الطاعة كالشطر بالنسبة إلى أهل العصيان نسأل الله تعالى أن يدخلنا بيت القلب مع الداخلين ويزيل أوساخ وجوداتنا بحرمة النبي الأمين.
قال السهيلي قد ثبت في الصحيح أن أطفال المؤمنين والكافرين في كفالة سيدنا إبراهيم عليه السلام وأن رسول الله قال لجبريل حين رآهم مع إبراهيم "من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء أولاد المؤمنين الذين يموتون صغاراً" قال له : "وأولاد الكافرين" قال : وأولاد الكافرين.
وقد روي في أطفال الكافرين أيضاً "أنهم خدم لأهل الجنة".
وجاء أن إبراهيم عليه السلام قال لرسول الله : "اقرىء أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأن غراسها سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر" كما قال المولى الجامي :
يادكن آنكه درشب اسرا
يا حبيب خدا خليل خدا
كفت كووى ازمن اى رسول كرام
امت خويش را زبعد سلام
كه بود اك وخوش زمين بهشت
ليك آنجا كسى درخت نكشت
خاك او اك وطيب افتاده
ليك هست از درختها ساده
غرس أشجار ان بسعى جميل
بسمله حمد له است س تهليل
هست تكبير نيز ازان اشجار
خوش كسى كش جزين نيايد كار
باغ جنات تحتها الأنهار
سبز وخرم شود ازان اشجار
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
(5/90)
قال عليه السلام : "واستقبلتني جارية لعساء وقد أعجبتني فقلت لها : يا جارية أنت لمن؟ قالت : لزيد بن حارثة" واللعس لون الشفة إذا كان تضرب إلى السواد قليلاً وذلك مستملح.
يقول الفقير زيد هذا هو الذي تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانت زينب تحت نكاحه فطلقها ليتزوجها رسول الله فلما آثر النبي عليه السلام بها أبدل الله مكانها زوجاً له من الحور مليحة جداً وجازاه بها فإن لكل فناء وترك مشروع أثراً معنوياً فما انتقص شيء في الظاهر إلا وقد انتقل في الباطن والآخرة باطن بالنسبة إلى الدنيا فمن ترك حظه فيها وجده في الآخرة أعلى منه وأوفر.
ورأى عليه السلام في السماء السابعة فوجاً من الملائكة نصف أبدانهم من النار ونصفها من الثلج فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج يطفىء النار وهم يقولون : اللهم كما ألفت بين النار والثلج فألف بين قلوب عبادك المؤمنين حمله بعض الأكابر على معنى أن نصف أجزائه ثلج ونصف أجزائه نار فامتزجا وحصل بينهما مزاج واحد والظاهر أن الأول أدل على القدرة فإن اجتماع الأضداد بالمعنى الذي ذكره موجود في أكثر المركبات.
قال في "المناسبات" : ثم لقاؤه في السماء السابعة إبراهيم عليه السلام لحكمتين إحداهما أنه رآه عند البيت المعمور مسنداً ظهره إليه والبيت المعمور حيال الكعبة
119
أي بازائها ومقابلتها وإليه تحج الملائكة كما أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة وأذن في الناس بالحج والحكمة الثانية أن آخر أحوال النبي عليه السلام حجه إلى البيت الحرام وحج معه ذلك العام نحو من سبعين ألفاً من المسلمين ورؤية إبراهيم عند أهل التأويل توذن بالحج لأنه الداعي إليه والرافع لقواعد الكعبة المحجوجة قال صلى الله عليه وسلّم "ثم ذهب بي" أي جبريل "إلى سدرة المنتهى" وهي شجرة فوق السماء السابعة في أقصى الجنة إليها ينتهي الملائكة بأعمال أهل الأرض من السعداء وإليها تنزل الأحكام العرشية والأنوار الرحمانية "وإذا أوراقها كآذان الفيلة" جمع الفيل أي في الشكل وهو الاستدارة لا في السعة إذ الواحدة منها تظل الخلق كما في بعض الروايات "وثمرها كالقلال" جمع قلة وهي الجرة العظيمة وهذه الشجرة هي الحد البرزخي بين الدارين فأغصانها نعيم لأهل الجنة وأصولها زقوم لأهل النار ولافنانها حنين بأنواع التسبيحات والتحميدات والترجيعات عجيبة الألحان تطرب لها الأرواح وتظهر عليها الأحوال وأم فيها رسول الله ملائكة السموات في الوتر فكان إمام الأنبياء في بيت المقدس وإمام الملائكة عند سدرة المنتهى فظهر بذلك فضله على أهل الأرض والسماء ويخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار نهران باطنان أي يبطنان ويغيبان في الجنة بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة وهما الكوثر ونهر الرحمة ونهران ظاهران أي يستمران ظاهرين بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة فيجاوزان الجنة وهما النيل نهر مصر والفرات نهر الكوفة.
قال بعضهم لولا دخول بحر النيل في الملح الذي يقال له البحر الأخضر قبل أن يصل إلى بحيرة الزنج لما قدر أحد على شربه لشدة حلاوته ومر الفرات في بعض السنين فوجد فيه رمان مثل البعير فيقال أنه رمان الجنة.
يقول الفقير لعله من البساتين التي يقال لها جنان الأرض إذ سقوط الثمار من أماكنها من الفساد غالباً وليس لثمار الجنة ذلك اللهم إلا أن يقال وجود ذلك الرمان في الفرات على تقدير أن يكون من رمان الجنة إنما هو ليكون آية لذوي الاستبصار ودخل عليه السلام الجنة فإذا فيها جنابذ أي قباب الدرّ وإذا ترابها المسك ورمانها كالدلاء وطيرها كالبخت وانتهى إلى الكوثر فإذا فيه آنية الذهب والفضة فشرب منه فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك وفي الحديث "ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل والذي نفس محمد بيده لا يقطف رجل ثمرة من الجنة فتصل إلى فيه حتى يبدل الله مكانها خيراً منها" وهذا القسم يرشد إلى أن ثمرة الجنة كلها حلوة تؤكل وأنها تكون على صورة ثمرة الدنيا المرة وغشى السدرة ما غشى من نور الحضرة الإلهية فصار لها من الحسن غير تلك الحالة التي كانت عليها فما أحد من خلق يستطيع أن ينعتها من حسنها لأن رؤية الحسن تدهش الرائي ورأى عليه السلام جبرائيل عند تلك السدرة على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق أي ما بين المشرق والمغرب يتناثر من أجنحته الدر والياقوت.
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
ـ ويروى ـ أن جبريل لما وصل إلى السدرة التي هي مقامه تأخر فلم يتجاوز فقال عليه السلام : "أفي مثل هذا المقام يترك الخليل خليله" فقال : لو تجاوزت لأحرقت بالنور.
وفي رواية لو دنوت أنملة لاحرقت ، قال الشيخ سعدى قدس سره :
120
نان كرم درنيه قربت براند
كه درسدره جبريل ازوباز ماند
بدو كفت سالار بيت الحرام
كه اى حامل وحى برتر خرام
و در دوستى مخلصم يا فتى
غنانم ز صحبت را تافتى
بكفتا فرا تر مجالم نماند
بماندم كه نيروى بالم نماند
اكريك سرموى بر تر رم
(5/91)
فروغ تجلى بوزد رم
فقال عليه السلام : "يا جبريل هل لك من حاجة إلى ربك قال : يا محمد سل الله لي أن أبسط جناحي على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه" قال عليه السلام : "ثم زج بي في النور فخرق بي سبعون ألف حجاب ليس فيها حجاب يشبه حجاباً غلظ كل حجاب خمسمائة عام وانقطع عني حس كل ملك فلحقني عند ذلك استيحاش فعند ذلك نادى مناد بلغة أبي بكر قف فإن ربك يصلي" أي يقول سبحاني سبحاني سبقت رحمتي على غضبي وجاء نداء من العلى الأعلى "ادن يا خير البرية ادن يا أحمد ادن يا محمد فادناني ربي حتى كنت كما قال ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى".
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
ـ وروي ـ أنه عليه السلام عرج من السماء السابعة إلى السدرة على جناح جبريل ثم منها على الرفرف وهو بساط عظيم.
قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني هو نظير المحفة عندنا ونادى جبريل من خلفه يا محمد إن الله يثني عليك فاسمع وأطع ولا يهولنك كلامه فبدأ عليه السلام بالثناء وهو قوله : "التحياتوالصلوات والطيبات" أي العبادات القولية والبدنية والمالية فقال تعالى : "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فعمم عليه السلام سلام الحق فقال : "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" فقال جبريل : "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" وتابعه جميع الملائكة.
قال بعض الكبار اخترق الأفلاك من غير أن تسكن عن تحريكها كاختراق الماء والهواء إلى أن وصل سدرة المنتهى فقعد على الرفرف فاخترق عوالم الأنوار إلى أن جاز موضع القدمين إلى العرش أي المستوى المفهوم من قوله : "الرحمن على العرش استوى" كل ذلك بجسمه فعاين محل الاستواء فلما فارق عالم التركيب والتدبير لم يبق له أنيس من جنسه فاستوحش من حيث مركبه فنودي بصوت أبي بكر : "قف يا محمد إن ربك يصلي" فسكن وتلا عليه عند ذلك "هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور" هذا لسان الأحباب وخطاب الأخلاء والأصحاب وهذا أول الأبواب المعنوية من هنا تقع في بحر الإشارات والمعاني وهو الإسراء البسيط فتقع المشاهدة بالبصر لا بالجارحة لأعيان الأرواح المهيمة التي لا مدخل لها في عالم الأجسام فترك الرفرف ومشاهدة الجسم وانسلخ من الرسم والاسم وسافر برفرف همته فحطت العين بساحل بحر العمى حيث لا حيث ولا أين فأدركت ما أدركت من خلف حجاب العزة الاحمى الذي لا يرتفع أبداً ثم عادت بلا مسافة إلى شهود عنها ثم إلى تركيب كونها المتروك بالمستوى مع الرفرف فقوله : "ثم دنا" إشارة إلى العروج والوصول وقوله : "فتدلى" إلى النزول والرجوع وقوله {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} بمنزلة النتيجة إشارة إلى الوصول إلى مرتبة الذات الواحدية أي عالم الصفات المشار إليه بقوله تعالى : {اللَّهُ الصَّمَدُ} وقوله تعالى : {أَوْ أَدْنَى} إشارة إلى مرتبة الذات الأحدية أي عالم الذات المشار إليه بقوله تعالى : {اللَّهُ أَحَدٌ} وكان المعراج في صورة الصعود والهبوط لأنه
121
وقع بالجسم والروح معاً وإلا فالملك والملكوت مندرج في الوجود الإنساني وكل تجل يحصل له إنما هو من الداخل لا من الخارج قال صلى الله عليه وسلّم "سألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده بين كتفيّ بلا تكييف ولا تحديد" أي يد قدرته سبحانه منزه عن الجارحة "فوجدت بردها فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني علوماً شتى فعلم أخذ علي كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري وعلم خيرني فيه وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي" وهي الإنس والجن وهذا التفصيل يدل على أن العلوم الشتى هذه العلوم الثلاثة كما يدل عليه الفاء وهي زائدة على علوم الأولين والآخرين فالعلم الأول من باب الحقيقة الصرفة والثاني من باب المعرفة والثالث من باب الشريعة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
ومن جملة ما أوحى في هذا الموطن من القرآن خواتيم سورة البقرة وبعض سورة والضحى وبعض الم نشرح لك وقوله تعالى : {هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَائكَتُه لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} (الأحزاب : 43) والوحي بلا واسطة يقتضي الخطاب فسمع عليه السلام كلام الحق من غير كيفية كما سمعه موسى عليه السلام من كل جانب ورآه :
كلام سرمدى بى نقل بشنيد
خداوند جهانرا بى جهت ديد
بديد آنه زحد ديدن برون بود
مرس اما ز كيفيت كه ون بود(5/92)
قال الإمام النووي الراجح عند أكثر العلماء أنه رأى ربه بعيني رأسه ، يقول الفقير : يعني بسره وروحه في صورة الجسم بأن كان كل جزء منه سمعاً واتحد البصر بالبصيرة فهي رؤية بهما معاً من غير تكييف فافهم فإنه جملة ما يتفصل.
فإن قلت : ما الفرق بين الأنبياء وبين نبينا عليه السلام في باب الرؤية فإنهم يرونه ويشاهدونه حال الانسلاخ الكلي.
قلت ما حصل لنبينا عليه السلام فوق الانسلاخ إذ الرؤية في صورة الانسلاخ إنما هي بالبصيرة فقط وأما رؤيته تعالى في الجنة فقيل لا يراه الملائكة وقيل يراه منهم جبريل خاصة مرة واحدة.
قال بعضهم وقياس عدم رؤية الملائكة عدم رؤية الجن له تعالى ورد ذلك.
يقول الفقير : لعل وجه الاختلاف عند الحقيقة أن الملائكة والجن على جناح واحد وهو الجمال والإنس على جناحين وهما الجمال والجلال المقول لهما الكمال فلا يرونه تعالى من مرتبة مؤمني الإنس وإنما يشاهدونه تعالى من مرتبة أنفسهم فافهم وأما أنه ليس لهم مشاهدة أصلاً فلا مساعدة له بوجه من الوجوه واتفق العلماء على جواز رؤية الله تعالى في المنام وصحتها أي وقوعها لأن ذلك المرئى أنما هو صفة من صفات الله تعالى.
ـ روي ـ عن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال : رأيت ربي في المنام فقلت له : كيف الطريق إليك؟ فقال : اترك نفسك ثم تعال.
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
ـ وروي ـ أن حمزة القارىء قرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره في المنام حتى إذا بلغ إلى قوله : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (الأنعام : 18) قال الله تعالى : قل يا حمزة وأنت القاهر ، يقول الفقير : سمعت من شيخي وسندي قدس سره أن شيخه عبد الله الشهير بذاكر زاده روح الله روحه أراد أن يستخلفه فامتنع عليه فرأى في تلك الليلة في المنام أن الله تعالى أعطاه المصحف وقال له خذ هذا وادع عبادي إليّ وكان من آثار هذا المنام أن الله تعالى وفقه لإحياء العلم والدعوة إلى الله في المراتب الأربع وزاد خلفاؤه على المائة والخمسين كلهم من أهل التفسير ولم يتيسر هذا المقام لغيره من مشايخ العصر قال عليه السلام :
122
"فرض الله عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة" قيل : كانت كل صلاة منها ركعتين ألا يرى أنه من قالعليّ صلاة يلزمه ركعتان ويخالفه ما قالوا : إنه عليه السلام كان يصلي كل يوم وليلة ما يبلغ إلى خمسين صلاة وفق ما فرض ليلة المعراج فالظاهر أن هذه الخمسين باعتبار الركعتان لأنه هو المضبوط عنه عليه السلام يعني كان يصلي في اليوم والليلة من الفرائض والنوافل خمسين ركعة وصرح بعضهم بأن المراد الخمسون وقتاً فالظاهر أن كل وقت كان مشتملاً على ركعتين لأن الصلاة في الأصل كانت ركعتين ركعتين ثم زيدت في الحضر وأقرت في السفر قال عليه السلام : "فنزلت إلى إبراهيم فلم يقل شيئاً ثم أتيت موسى" أي في الفلك السادس "فقال ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك وإني والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة" يعني مارستهم ولقيت الشدة فيما أردت فيهم من الطاعة قال عليه السلام : "فرجعت إلى ربي" يعني رجعت إلى الموضع الذي ناجيت ربي فيه وهو سدرة المنتهى "فخررت ساجداً فقلت : أي ربي خفف عن أمتي فحط عني خمساً فرجعت إلى موسى وأخبرته قال : إن أمتك لا تطيق ذلك قال : فلم أزل أرجع بين ربي وموسى ويحط خمساً خمساً حتى قال موسى : بم أمرت؟ قلت : أمرت بخمس صلوات كل يوم قال : ارجع فاسأله التخفيف فقلت : قد راجعت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم" يعني : فلا أرجع فإن رجعت كنت غير راض ولا مسلم ولكن أرضى بما قضي الله وأسلم أمري وأمرهم إلى الله "فلما جاوزت نادى منادٍ أمضيت فريضتي" يعني قال الله تعالى : يا محمد هي خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة كما قال :
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
(5/93)
{مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام : 160) والصلاة إنما تحصل بتوجه القلب والعمل الواحد في مرتبة القلب يقابل العشرة وقال : "من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم يكتب شيء فإن عملها كتبت سيئة واحدة"(1).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات وغسل البول من الثوب سبع مرات ولم يزل صلى الله عليه وسلّم يسأل ربه حتى جعلت الصلاة خمساً وغسل الجنابة مرة واحدة وغسل البول من الثوب مرة وفي الحديث "أكثروا من الصلاة على موسى فما رأيت أحداً من الأنبياء أحوط على أمتي منه" وجاء "كان موسى أشدهم عليّ حين مررت به وخيرهم عليّ حين رجعت فنعم الشفيع كان لكم موسى" وذلك فإنه كما تقدم لما جاوزه النبي عند الصعود بكى فنودي ما يبكيك؟ فقال : رب هذا غلام أي لأنه صلى الله عليه وسلّم كان حديث السن بالنسبة إلى موسى بعثته بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي ، فإن قلت هذا وقوع النسخ قبل البلاغ وقد اتفق أهل السنة والمعتزلة على منعه ، قلت : وقع بعد البلاغ بالنسبة إلى النبي عليه السلام لأنه كلف بذلك ثم نسخ فإذا نسخ في حقه نسخ في حق أمته لأن الأصل أن ما ثبت في حق كل نبي ثبت في حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية.
وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "رأيت ليلة أسري بي إلى السماء تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل مدائنكم هذه سبعين مرة مملوءة من الملائكة يسبحون الله ويقدسونه ويقولون في تسبيحهم اللهم اغفر لمن شهد الجمعة" أي صلاتها
123
"اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة" أي لصلاتها "ورأيت ليلة أسري بي مكتوباً على باب الجنة الصدقة بعشر أمثلها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة قال : لأن السائل يسأل وعنده شيء والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة" وبيان كون درهم القرض بثمانية عشر درهماً أن درهم القرض بدرهمين من دراهم الصدقة كما جاء في بعض الروايات ودرهم الصدقة بعشرة تصير الجملة عشرين ودرهم القرض يرجع للمقرض بدله بدرهمين من عشرين يتخلف ثمانية عشر "ورأيت رضوان خازن الجنة فلما رآني فرح بي ورحب بي وأدخلني الجنة وأراني فيها من العجائب ما وعد الله فيها لأوليائه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ورأيت فيها درجات أصحابي ورأيت فيها الأنهار والعيون وسمعت فيها صوتاً وهو يقول : آمنا برب العالمين فقلت : ما هذا الصوت يا رضوان؟ قال : هم سحرة فرعون وأزواجهم وسمعت آخر وهو يقول : لبيك اللهم فقلت : من هو قال : أرواح الحجاج وسمعت التكبير فقال هؤلاء الغزاة وسمعت التسبيح فقال هؤلاء الأنبياء ورأيت قصور الصالحين وعرضت عليّ النار وإن كانت في الأرض السابعة فإذا على بابها مكتوب وإن جهنم لموعدهم أجميعن" قال عليه السلام : "وأبصرت ملكاً لم يضحك في وجهي فقلت : يا أخي جبريل من هذا؟ قال : مالك خازن النار لم يضحك منذ خلقه الله ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك فقال له جبريل : يا مالك هذا محمد فسلم عليه فسلم عليّ وهنأني بما صرت إليه من الكرامة والشرف" وإنما بدأ خازن النار بالسلام عليه صلى الله عليه وسلّم ليزيل ما استشعر من الخوف منه ويشير إلى أنه ومن اتبعه من الصالحين سالمون من النار ناجون قال عليه السلام : "فسألته أن يعرض عليّ النار بدركاتها فعرضها عليّ بما فيها وإذا فيها غضب الله" أي نقمته "لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها وإذا قوم يأكلون الجيف فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ورأيت قوماً تنزع ألسنتهم من أقفيتهم فقلت : من هم؟ فقال : هم الذين يحلفون بالله كاذبين ورأيت جماعة من النساء علقن بشعورهن فقلت : من هن؟ قال : هن اللاتي لا يستترن من غير محارمهن ورأيت جماعة منهن لباسهن من القطران فقلت : من هن؟ قال : نائحات" جمع نائحة وهي الباكية على الميت مع عد أخلاقه ومحاسنه.
ودل حديث المعراج على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن لأن الإنسان إذا علم ثواباً مخلوقاً اجتهد في العبادة ليحصل ذلك الثواب وإذا علم عقاباً مخلوقاً اجتهد في اجتناب المعاصي لئلا يصيبه ذلك العقاب وقد صح أن الجنان قيعان وعمارتها بالأعمال كما دل عليه حديث الغراس فيما سبق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
واعلم أنه عليه السلام أسري به من مكة إلى بيت
124
(5/94)
المقدس على البراق ومن بيت المقدس إلى السماء الدنيا على المعراج ومنها إلى السماء السابعة على جناح الملائكة ومنها إلى السدرة على جناح جبريل ومنها إلى العرش على الرفرف والظاهر أن النزول كان على هذا الترتيب.
وقال بعض الأكابر من أهل الله أنه أسري به إلى السدرة على البراق وأياماً كان فلما نزل إلى السماء الدنيا نظر إلى أسفل منه فإذا هو بهرج ودخان وأصوات فقال : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم حتى لا ينظروا إلى العلامات ولا يتفكروا في ملكوت السموات ولولا ذلك لرأوا العجائب أي أدركوها ونزل عليه السلام إلى بيت المقدس وتوجه إلى مكة وهو على البراق حتى وصل إلى بيته الأشرف بالحرم المكي الأحمى بحجر الكعبة العظيمة أو إلى بيت أم هاني كما يدل عليه ما يجيىء من تقرير القصة وكان زمان ذهابه ومجيئه ثلاث ساعات أو أربع ساعات.
وفي كلام السبكي أن ذلك كان قدر لحظة ولا بدع لأن الله تعالى قد يطيل الزمن القصير كما يطوي الطويل لمن يشاء.
ـ روي ـ في مناقب الشيخ موسى السدراني من أكابر أصحاب الشيخ أبي مدين قدس الله سرهما أن له ورداً في اليوم والليلة سبعين ألف ختمة.
يقول الفقير : قال شيخي وسندي قدس سره في الكلام عليه : إن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة فيكون في كل اثنتي عشرة ساعة خمس وثلاثون ألف ختمة لأنه إما أن ينبسط إلى ثلاث وأربعين سنة وتسعة أشهر وأما إلى أكثر وعلى التقدير الأول يكون اليوم والليلة منبسطاً إلى سبع وثمانين سنة وستة أشهر فيكون في كل يوم وليلة من أيام السنين المنبسطة إليها ولياليها ختمتان ختمة في اليوم وختمة في الليلة كما هو العادة ويحتمل التوجيه بأقل من ذلك باعتبار سرعة القاري هذا فإنه صدق وقد كوشف لي هكذا وقد صدقته وقبلته وهذا سر عظيم انتهى كلام الشيخ ، وقد ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس أي عظمه وسعته ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفاً وستين مرة ثم أن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية وهي جزء من ستين جزأ من الدقيقة والدقيقة جزء من ستين جزأ من الدرجة وهي جزء من خمسة عشر جزأ من الساعة فإذا كانت هذه السرعة ممكنة للجماد فكيف لا يمكن لأفضل العباد إذا أراد رب البلاد والله تعالى قادر على جميع الممكنات فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة في جسد النبي عليه السلام أو فيما يحمله.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده أفندي قدس سره قد ذهب عليه السلام وجاء ولم يتم ماء إبريقه انصباباً ومن كان مؤمناً لا ينكر المعراج ولكن وقوع السير المذكور في مقدار ذلك الزمن اليسير يشكل عند العقل بحسب الظاهر وأما عند التحقيق فلا إشكال ألا يرى أن في الوجود الإنساني شيئاً لطيفاً أعني القلب يسير من المشرق إلى المغرب بل جميع العوالم في آن واحد وهو بديهي لا ينكره من له أدنى تمييز حتى البله والصبيان أفلا يجوز أن تحصل تلك اللطافة لوجود النبي صلى الله عليه وسلّم بقدرة الله تعالى فوقع ما وقع منه في الزمن اليسير :
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
راه زاندازه برون رفته
ى نتوان بردكه ون رفته
عقل درين واقعه حاشا كند
عقل نه حاشا كه تمنا كند
ـ روي ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رجع من ليلته قص القصة على أم هانىء وقال : "إني أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بذلك" فقالت : أنشدك الله أي بفتح الهمزة أي أسألك بالله ابن عم أي يا ابن عمي أن لا تحدث أي لا تحدث بهذا قريشاً فيكذبك من صدقك فلما كان الغداة تعلقت بردائه فضرب بيده على ردائه فانتزعه من يدها وانتهى إلى نفر من قريش في الحطيم هو ما بين باب الكعبة والحجر الأسود وأولئك النفر مطعم بن عدي وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة فقال : "إني صليت العشاء" أي أوقعت صلاة في ذلك الوقت "في هذا المسجد وصليت به الغداة" أي أوقعت صلاة في ذلك الوقت وإلا فصلاة العشاء لم تكن فرضت وكذا صلاة الغداة
125
(5/95)
التي هي الصبح لم تكن فرضت كما تقدم "وأتيت فيما بين ذلك بيت المقدس" وأخبرهم عما رأى في السماء من العجائب وأنه لقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى وجاء أنه لما دخل المسجد الحرام وعرف أن الناس يكذبونه وما أحب أن يكتم ما هو دليل على قدرة الله تعالى وما هو دليل على علو مقامه الباعث على اتباعه قعد حزيناً فمر به عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه عليه السلام فقال كالمستهزىء : هل كان من شيء؟ قال : "نعم أسري بي الليلة" قال : إلى أين؟ قال : "إلى بيت المقدس" قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال : "نعم" قال : أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟ قال : "نعم" قال : يا معشر كعب بن لؤي فانفضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما فقال : حدث قومك بما حدثتني به فقال : "إني أسري بي" قالوا : إلى أين؟ قال : "إلى بيت المقدس فنشر لي الأنبياء وصليت بهم وكلمتهم" فقال أبو جهل كالمستهزىء : صفهم لنا فقال عليه السلام : "أما عيسى ففوق الربعة دون الطويل" أي لا طويل ولا قصير "عريض الصدر جاعد الشعر" أي في شعره "تثنى وتكسر تعلوه صهبة" أي يعلو شعره شقرة "ظاهر الدم" أي يعلوه حمرة "كأنما خرج من ديماس" أي حمام وأصله الكنّ الذي يخرج منه الإنسان وهو عريان وأصله الظلمة يقال ليل دامس والحمام لفظ عربي.
وأول واضع له الجن وضعته لسليمان عليه السلام وقيل : الواضع بقراط الحكيم وقيل : شخص سابق على بقراط استفاده من رجل كان به تعقيد العصب فوقع في ماء حار في جب فسكن فصار يستعمله حتى برىء وفي الحديث "اتقوا بيتاً يقال له الحمام فمن دخله فليستتر" ولم يدخل عليه السلام الحمام ولم يكن ذلك في بلاد الحجاز وإنما كان في أرض العجم والشام "وأما موسى فضحم آدم" أي أسمر ومن ثمة كان خروج يده بيضاء مخالفاً لونها لسائر لون جسده آية "طويل كأنه من رجال شنوءة" وهي طائفة من اليمن أي ينسبون إلى سنوءة وهو عبد المطلب بن كعب من أولاد الأزد معروفون بالطول "كثير الشعر غائر العينين متراكم الأسنان متقلص الشفتين خارج اللثة" وهو اللحم الذي خارج الأسنان عابس "وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي خلقاً وخلقاً فضجوا" أي صاح قريش وعظموا ذلك وصار بعضهم يصفق وبعضهم يضع يده على رأسه متعجباً ومنكراً قالوا : نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعداً شهراً ومنحدراً شهراً أتزعم أنك أتيته في ليلة واحدة واللات والعزى لا نصدقك وارتد ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه أي أسرع أو مشى فقال : إن كان قد قال ذلك فلقد صدق قالوا : أتصدقه على ذلك؟ قال : إني أصدقه على أبعد من ذلك أي إن ذهب إلى بيت المقدس في ليلة واحدة أصدقه فإني أصدقه في خبر السماء في غدوة وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس وروحة وهي اسم للوقت من الزوال إلى الليل والمراد هنا أنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه فهذا أي مجيىء الخبر له من السماء بواسطة الملك أبعد مما تتعجبون منه فسمي الصديق وهو الكثير الصدق فهو للمبالغة وتسمية أبي بكر بسبب هذا الجواب الصدق بهذا الاسم للمبالغة في كيفية الصدق فإنه صدق كامل في مثل هذا المقام الذي كذب فيه أكثر الناس وكان علي رضي الله عنه يحلف بالله أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق أي فهي تسمية الله بالذات لا تسمية الخلق وكان فيهم من يعرف بيت المقدس
126
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
فاستنعتوه المسجد أي قالوا : يا محمد صف لنا بيت المقدس كم له من باب أرادوا بذلك إظهار كذبه عليه السلام لأنهم عرفوا أنه عليه السلام لم يره قال : "فكربت كرباً شديداً لم أكرب مثله قط لأنهم سألوني عن أشياء لم أثبتها وكنت دخلته ليلاً وخرجت منه ليلاً فقمت في الحجر فجلي الله لي بيت المقدس" أي كشفه لي أي بوجود صورته ومثاله في جناح جبريل أو برفع الحجاب بينه وبين بيت المقدس حتى رآه عليه السلام وهو في مكانه إذ كان يصل بصره إلى حيث يصل إليه قلبه أو بإعدامه هناك وإيجاده في مكة طرفة عين بحيث يتصل بعدمه وجوده على ما هو شأن الخلق الجديد ومنه زيارة الكعبة لبعض الأولياء كما قال في "المثنوي" :
هرنفس نو ميشود دنيا وما
بى خبر ارنوشدن اندر بقا
عمر همون جوى نونو مى رسد
مستمرى مى نمايد درجسد
آن زتيزى مستمر شكل آمده است
ون شرركس تيز جنبانى بدست
شاخ آتس را بجنبانى بساز
در نظر آتش نمايد بس دراز
اين درازى مدت ازتيزى صنع
مى نمايد سرعت انكيزى صنع
(5/96)
قال : "فطفقت" أي : جعلت أخبرهم عن آياته أي : علاماته وأنا أنظر إليه.
قال في "المواهب" ولم يسألوه عما رأى في السماء لأنه لا عهد لهم بذلك فقالوا : أما لنعت فقد أصاب فقالوا : ما آية ذلك يا محمد؟ أي ما العلامة الدالة على هذا الذي أخبرت به فإنا لم نسمع بمثل هذا قط أي : هل رأيت في مسراك وطريقك ما نستدل بوجوده على صدقك أي لأن وصفك لبيت المقدس يحتمل أن تكون حفظته عمن ذهب إليه فقال عليه السلام : "آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا" أي في الروحاء وهو محل قريب من المدينة أي بينه وبين المدينة ليلتان "قد أضلوا ناقة لهم" أي وأنا متوجه وذاهب "وانتهيت إلى رحالهم وإذا قدح ماء فشربت منه" فاسألوهم عن ذلك وشرب الماء للغير جائز لأنه كان عند العرب كاللبن مما يباح لكل مجتاز من أبناء السبيل قالوا : فأخبرنا عن عيرنا قال : "مررت بها في التنعيم" وهو محل قريب من مكة أي وأنا راجع إلى مكة فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها "وأنها تقدم مع طلوع الشمس يتقدمها جمل أورق" وهو ما بياضه إلى سواد "عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء" أي فيها بياض وسواد أي جوالق مخطط ببياض فابتدر القوم الثنية أي الجبل فقال قائل منهم هذه والله الشمس قد أشرقت فقال آخر هذه والله العير قد أقبلت يتقدمها جمل أورق كما قال محمد عليه الغرارتان فتاب المرتدون وأصر المشركون وقالوا إنه ساحر.
وجاء في بعض الروايات أن الشمس حبست له عليه السلام عن الطلوع حتى قدمت تلك العير وحبس الشمس وقوفها عن السير أي عن الحركة بالكلية وقيل بطؤ حركتها وقيل ردها إلى ورائها.
فإن قيل حبسها ورجوعها مشكل لأنها لو تخلفت أو ردت لاختلت الأفلاك وفسد النظام.
قلنا : حبسها وردها من باب المعجزات ولا مجال للقياس في خرق العادات.
وقد وقع حبس الشمس لبعض الأنبياء كداود وسليمان ويوشع وموسى عليهم السلام.
وأما عود الشمس بعد غروبها فقد وقع له صلى الله عليه وسلّم في خيبر فعن أسماء بنت عميش رضي الله تعالى عنها قالت : كان عليه السلام يوحى إليه ورأسه الشريفة في حجر علي
127
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
رضي الله عنه ولم يسر عنه حتى غربت الشمس وعلي لم يصل العصر فقال له رسول الله : "أصليت العصر" قال : لا فقال عليه السلام : "اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فأردد عليه الشمس" قالت أسماء فرأيتها طلعت بعدما غربت وهو من أجل أعلام النبوة فليحفظ.
وذكر أنه وقع لبعض الوعاظ ببغداد كان يعظ بعد العصر ثم أخذ في ذكر فضائل آل البيت فجاءت سحابة غطت الشمس فظن وظن الناس الحاضرون عنده أن الشمس غابت فأرادوا الانصراف فأشار إليهم أن لا يتحركوا ثم أدار وجهه إلى ناحية المغرب وقال :
لا تغربي يا شمس حتى ينتهي
مدحي لآل المصطفى ولنجله
إن كان للمولى وقوفك فليكن
هذا الوقوف لولده ولنسله
فطلعت الشمس فلا يحصى ما رمى عليه من الحلى والثياب وهو من الاتفاقات الغريبة كما حكي أن بعض الناس كان يهوى شاباً يلقب ببدر الدين فاتفق أنه توفي ليلة البدر فلما أقبل الليل وتكمل البدر لم يتمالك محبة رؤيته من شدة الحزن وأنشد يخاطب البدر :
شقيقك غيب في لحده
وتطلع يابدر من بعده
فهلا خسفت وكان الخسوف
لباس الحداد على فقده
فخسف القمر من ساعته فانظر إلى صدق المحبة وتأثيرها في القمر وصدق من قال أن المحبة مغناطيس القلوب ، قال الكمال الخجندي :
بشم اهل نظركم بود زروانه
دلى كه سوخته آتش محبت نيست
اللهم اجعلنا من أهل المحبة والوداد آمين وحين زالت الشمس من اليوم الذي يلي ليلة المعراج نزل جبريل وأم بالنبي عليه السلام ليعلمه أوقات الصلوات وهيئتها وأعداد ركعاتها ثم صيح بأصحابه "الصلاة جامعة" لأن الإقامة المعروفة للصلاة لم تشرع إلا بالمدينة فاجتمعوا فصلى النبي عليه السلام بالناس فسميت تلك الصلاة صلاة الظهر لأنها فعلت عند قيام الظهيرة أي شدة الحر أو عند نهاية ارتفاع الشمس فصلاته عليه السلام بالناس كانت بعد صلاته مع جبريل وأمه جبريل يومين يوماً في أول الوقت ويوماً في آخره وكان ذلك عند باب الكعبة مستقبلاً لصخرة الله ثم التفت جبريل وقال : يا محمد هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين وإنما لم تقع البداءة بالصبح مع أنها أول صلاة بعد ليلة الإسراء لأن الإتيان بها يتوقف على بيان الإتيان بالكيفية أي على بيان علم كيفيتها المعلق عليه الوجوب كأنه قيل : أوجبت حيث ما تبين كيفيته في وقته والصبح لم تبين كيفيتها في وقتها فلم تجب.
فإن قيل قول جبريل هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك يقتضي أن هذه الصلوات كانت مشروعة لكل واحد من الأنبياء قبله وليس كذلك لأنها من خصائص هذه الأمة.
قلنا معناه أن وقتك هذا المحدود الطرفين مثل وقت الأنبياء قبلك فإنه كان محدود الطرفين أو أن بعضهم صلى الفجر وبعضهم ما يليها وهو لا ينافي كون المجموع على هذه الكيفية من خصائص هذه الأمة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
(5/97)
ـ روي ـ أن أول من صلى الفجر آدم عليه السلام حين أهبط إلى الأرض من الجنة وأظلمت عليه الدنيا وجنّ الليل ولم يكن يرى قبل ذلك فخاف خوفاً شديداً فلما انشق
128
الفجر صلى ركعتين شكراًتعالى لحصول النجاة من ظلمة الليل ولرجوع النهار أو لما تيب عليه كان ذلك عند الفجر فصلى ركعتين شكراً لحصول التوبة وزوال المخالفة وطلوع النور التوفيق وغروب ظلمة المخالفة.
وأول من صلى بعد الزوال إبراهيم عليه السلام حين فدى ابنه عند الظهر صلى أربعاً شكراً لذهاب غم الولد ولنزول الفداء ولرضى الله حين نودي قد صدقت الرؤيا ولصبر ولده على أذى الذبح ومشقته.
وأول من صلى العصر يونس عليه السلام حين أنجاه من ظلمات أربع : الزلزلة ، والليل ، والماء ، وبطن الحوت.
وأول من صلى المغرب عيسى عليه السلام فالركعة الأولى لنفي الألوهية عن نفسه والثانية لنفيها عن والدته والثالثة لإثباتهاتعالى وقيل : غفر لداود عليه السلام عند الغروب فقام يصلي أربع ركعات فجهد أي تعب فجلس في الثالثة أي سلم فيها فصارت المغرب ثلاثاً.
وأول من صلى العشاء موسى عليه السلام حين خرج من مدين وضل الطريق وكان في غم المرأة وغم أخيه هارون وغم فرعون عدوه وغم أولاده فلما أنجاه الله من ذلك كله صلى أربعاً.
وأول من صلى الوتر نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال في "تفسير التيسير" أم رسول الله ملائكة السموات في الوتر فكان إمام الأنبياء في بيت المقدس وإمام الملائكة عند سدرة المنتهى فظهر ذلك فضله على أهل الأرض والسماء انتهى.
قال في "التقدمة شرح المقدمة" قيل لما قام إلى الثالثة رأى والديه في النار ففزع وانحل يداه ثم كبر وقنت واستغاث بالله من النار وأهلها وأتمها على ثلاث ركعات فصارت وتراً.
قيل : فرضت الصلوات الخمس في المعراج ركعتين ركعتين حتى المغرب ثم زيد في صلاة الحضر فأكملها أربعاً في الظهر أي في غير يوم الجمعة وأربعاً في العصر وثلاثاً في المغرب وأربعاً في العشاء وأقرت صلاة الصبح على ركعتين فعن عائشة رضي الله عنها فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتان أي في الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء فلما أقام رسول الله أي بعد شهر وقيل : وعشرة أيام من الهجرة زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر أي لم يزد عليها شيء لطول القراءة فيها وتركت صلاة المغرب فلم يزد عليها إلا ركعة فصارت ثلاثاً وقيل : فرضت الخمس في المعراج أربعاً إلا المغرب ففرضت ثلاثاً وإلا الصبح ففرضت ركعتين وإلا صلاة الجمعة ففرضت ركعتين ثم قصرت الأربع في السفر أي في السنة الرابعة من الهجرة وهو المناسب لقوله تعالى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلواةِ} (النساء : 101).
قال بعضهم والحكمة في جعل الصلاة في اليوم والليلة خمساً أن الحواس لما كانت خمساً والمعاصي تقع بوساطتها كانت كذلك لتكون ماحية لما يقع في اليوم والليلة من المعاصي أي بسبب تلك الحواس وقد أشار إلى ذلك النبي عليه السلام بقوله : "أرأيتم لو كان بباب أحدكم نهر يغتسل منه في اليوم والليلة خمس مرات أكان ذلك يبقى من درنه شيئاً" قالوا لا يا رسول الله قال : "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا".
وقال بعضهم : جعلها خمس صلوات إظهاراً لسر التضعيف قال تعالى : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام : 160) فالخمس عشر مرات خمسون وهي العدد الذي فرض ليلة المعراج قبل التخفيف.
وقيل لأن الكعبة بنيت من خمسة جبال طورسينا وطورزيتا والجودى
129
(5/98)
وحرا وأبو قبيس ولهذا السر جعل الطواف حول البيت الحرام بمنزلة الصلاة ولكن الصلاة أفضل من الطواف إلا في حق الحاج فإنه مختص بالمحل الشريف والصلاة بخلافه.
وقيل : جعلها خمساً شكراً للعناصر الأربعة وجمعيتها في نشأة الإنسان وقد جعل الله الصلاة على أربعة أركان القيام والركوع والقعود والسجود لتكون شكراً لهذه العناصر الأربعة ، أو لأن الخلق أربعة أصناف قائم مثل الأشجار وراكع مثل الأنعام وقاعد مثل الأحجار وساجد مثل الهوام فأراد أن يوافق الجميع في أحوالهم فيشاكل كل واحد من الخلق وجعل الله في أوضاع الصلاة جمعية العالم كلها وجعلت الصلاة مثنى وثلاث ورباع لتوافق أجنحة الملائكة فإنها جعلت أجنحة للشخص بها يطير إلى الله تعالى.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتادة قدس سره : صلاة الصبح في مقابلة الجسم والروح والأربع في المراتب الأربع أي الطبيعة والنفس والقلب والروح وصلاة المغرب كانت لعيسى ولذلك صارت ثلاثاً لأنه ليس له حظ الطبيعة.
وقال حضرة شيخي وسندي قدس الله سره في كتاب "اللائحات البرقيات" عند قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِا فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء : 12) إن الليل إشارة إلى مرتبة اللاتعين وهي مرتبة الجلال الاطلاقي الذاتي الحقيقي الوجودي لكمال الإطلاق الذاتي الحقيقي الوجودي والنهار إشارة إلى مرتبة التعين وهي مرتبة الجمال الإطلاقي الذاتي الحقيقي الوجودي لذلك الكمال المذكور نعته ثم صلاة الفجر من الصلوات الخمس المشتمل عليها الليل والنهار بركعتيها إشارة إلى الاثنينية والتمايز بين المرتبتين المذكورتين والركعة الأولى إشارة إلى مرتبة الجلال والركعة الثانية إشارة إلى مرتبة الجمال وأحدية مجموع الركعتين واجتماع الركعتين والتقاؤهما في ذلك المجموع إشارة إلى كمال واجتماع الجلال والجمال والتقائهما في ذلك الكمال ثم صلاة المغرب منها عكس صلاة الفجر ليظهر فيها ما بطن فيها من الأحدية الجامعة والركعة الأولى إشارة إلى الجلال والثانية إلى الجمال والثالثة إلى الكمال الجامع ومرتبة اللاتعين مرتبة القوة ومرتبة التعين مرتبة الفعل ولولا القوة لما تحقق الفعل والقوة إجمال والفعل تفصيل فلولا خزينة القوة لما ظهر كرم الفعل وجود الفضل ثم صلاة العشاء منها بركعاتها الأربع إشارة إلى التعينات الأربعة الذاتية والأسمائية والصفاتية والأفعالية في مرتبة اللاتعين والجلال بالقوة وصلاة الظهر منها بركعاتها الأربع إشارة إلى تلك التعينات الأربعة في مرتبة الجمال الإلهي بالفعل وصلاة العصر منها بركعاتها الأربع إشارة إليها في مرتبة الجمال الكوني بالفعل ثم الفرائض إشارة إلى الوجود الحقاني الإلهي المنبسط على الأكوان مطلقاً والواجبات إشارة إلى الوجودات الخلقية الكونية الأخصية والسنن إشارة إلى الوجودات الخلقية الكونية الخاصية والمستحبات إشارة إلى الوجودات الخلقية العامية ثم ساق حضرة الشيخ روح الله روحه في ذلك الكتاب كلاماً طويلاً من طلبه وجده ، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما هل تجد الصلوات الخمس في كتاب الله تعالى فقال : نعم وتلا قوله :
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
{فَسُبْحَـانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (الروم : 17 ـ 18) وأراد بحين تمسون المغرب والعشاء وبحين تصبحون الفجر وبعشيا العصر وبحين
130
تظهرون الظهر وإطلاق التسبيح بمعنى الصلاة جاء في قوله تعالى : {فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (الصافات : 143) ، قال القرطبي أي من المصلين ، وفي الكشاف عن ابن عباس رضي الله عنهما كل تسبيح في القرآن فهو صلاة والعمدة في الصلاة الطهارة الباطنة وحضور القلب ، وفي "المثنوي" :
روى ناشسته نبيند روى خور
لا صلاة كفت إلا بالطهور
وهو بالفتح مصدر بمعنى التطهير ومنه "مفتاح الصلاة الطهور" واسم لما يتطهر به كما في "المغرب" قال الحافظ :
طهارت ارنه بخون جكر كند عاشق
بقول مفتى عشقش درست نيست نماز
جزء : 5 رقم الصفحة : 102
{وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ} أي التوراة جملة واحدة بعدما أسريناه إلى الطور {وَجَعَلْنَـاهُ} أي ذلك الكتاب {هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ} هادياً لأولاد يعقوب يهتدون إلى الحق والصواب بما فيه من الأحكام والخطاب {أَلا تَتَّخِذُوا} أن مفسرة لما يتضمنه الكتاب من الأمر والنهي بمعنى أي كما في قوله كتبت إليه أن افعل كذا.
قال الكاشفي : (وكفيتم مرايشانرا كه آيافرا ميكيريد) {مِن دُونِى} (بجز ازمن) {وَكِيلا} (رور دكاريكه مهم خود بدو كذاريد) ، قوله من دوني بمعنى غيري أحد مفعولي لا تتخذوا ومن مزيدة.
(5/99)
{ذُرِّيَّةِ} أي : يا ذرية {مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} في السفينة أو نصب على الاختصاص بتقدير أعني يقال ذرأ خلق والشيء كثر ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين كما في "القاموس".
والمراد تأكيد الحمل على التوحيد بتذكير أنعامه عليهم في ضمن إنجاء آبائهم من الغرق في سفينة نوح.
قال في "الكواشي" : هذا منة على جميع الناس لأنهم كلهم من ذرية من أنجى في السفينة من الغرق.
والمعنى كانوا مؤمنين فكونوا مثلهم واقتفوا بآثار آبائكم.
قال الكاشفي : (مرادسامست كه ابراهيم عليه السلام جد بني إسرائيل است ازتسل اوبود يعني نعمت نجات از طوفان كه به يدرشما ارزاني داشتيم ياد كنيد وشكر كوبيد) {أَنَّهُ} أي نوحاً عليه السلام {كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} كثير الشكر في مجامع حالاته وكان إذا أكل قال : الحمدالذي أطعمني ولو شاء أجاعني وإذا شرب قال : الحمدالذي سقاني ولو شاء أظمأني وإذا اكتسى قال الحمدالذي كساني ولو شاء جردني وإذا تغوط قال الحمدالذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه.
ـ وروي ـ أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجاً آثره به وفيه إيذان بأن إنجاء من معه كان ببركة شكره عليه السلام وحث الذرية على الاقتداء به وزجر لهم عن الشرك الذي هو أعظم مراتب الكفران.
جزء : 5 رقم الصفحة : 131
وفي "التأويلات النجمية" : {إِنَّه كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} أي كان نوح عبداً شكوراً يرى الضراء نعمة منا كما يرى السراء نعمة منا فيشكرنا في الحالتين جميعاً فلما بالغ في الشكر سمي شكوراً فالله تعالى بالغ في ازدياد النعمة جزاء لمبالغته في الشكر حتى أنعم على ذرية من حملهم مع نوح وهم بنو إسرائيل بإيتاء التوراة الهادية إلى التوحيد المنجية من الشرك.
{وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ} يقال : قضي إليه أنهاه وأبلغه أي أعلمناهم وأوحينا إليهم وحياً جزماً وبيناً.
{فِى الْكِتَـابِ} في التوراة فإن الإنزال والوحي إلى موسى إنزال ووحي إليهم.
{لَتُفْسِدُنَّ فِى الأرْضِ} والله لتفسدن في أرض الشام وبيت المقدس {مَّرَّتَيْنِ} مصدر والعامل فيه من غير لفظه أي إفساداً بعد إفساد
131
إفسادتين : أولهما مخالفة حكم التوراة وقتل شعيا وحبس أرميا حين أنذرهم سخط الله وارميا بتشديد الياء مع ضم الهمزة على رواية الزمخشري وبضم الهمزة وكسرها مخففاً على رواية غيره.
وفي "القاموس" أرميا بالكسر نبي ، والثانية قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} ولتستكبرن عن طاعة الله تعالى (يعنى سركش خواهيد شد ازطاعت من) والعلو العتو على الله والجراءة.
قال الكاشفي : (درين قصه اختلاف بسيارست وهر مفسري نقلى كه بدور سيده ايراد نموده وقول أصح وأشهر در مختار القصص وسير وغير آن از كتبى كه در اخبار انبينا عليهم السلام نوشته اند نانست كه ون سلطنت بني إسرائيل درولايت شام بصديقه رسيده از اولاد سلما واو مردى ضعيف حال وارج بود ملوك اطراف طمع درولايت ايليه بسته متوجه آن صوب شدند اول سنجاريب ملك موصل بيامد ومتعاقب او سلما اشاه آذربايجان رسيد وهردوتلاش شهر بيت المقدس نموده بايكديكر محاربه آغازكردند آتش قتال ميان ايشان اشتعال ذيرفت ودرياى مبارزت ازصرصر مخاصمت بموج در آمد) :
سهداران سه درهم فكندند
صلاى مرك در عالم فكندند
زيكان عالمي را اله بكرفت
زخون روى زمين را لاله بكرفت
عاقبت سطوت هيبت الهى ظهور نموده هردولشكر ازيكديكر منهزم كشتند وغنايم ايشان بدست بني إسرائيل افتاد ديكر باره ادشاه روم وملك صقاليه وسلطان اندلس هريك بالشكر جرار كرار همه تيغ زن ونيزه كذار بردر بيت المقدس جمع شدند وون رتبه سلطنت شركت برنتابد ايشان نيز آغاز نزاع كرده بلشكر آرايى ونبرد آزمايى قيام واهتمام نمودند :
جزء : 5 رقم الصفحة : 131
در افتادند همون شير غران
بكرز وتيزه وشمشير بران
بني إسرائيل دعاي "اللهم اشتغل الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين غانمين" آغاز كردند ونكباي نكبت غبار ادبار برديده آن خا كساران اشيد هزيمت را غنيمت دانسته دلها برفرار قرار داده از يكديكر كريزان شدند :
نه جاى قرار ونه جاى ستيز
نهادند ناكام رو دركريز
(5/100)
أموال ايشان نيز به دست بني إسرائيليان افتاد وون غنيمت ن لشكر عظيم درحوزه تصرف در آوردند بحكم {إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى} (العلق : 6 ـ 7) سرتجبر از كريبان عصيان بر آورده ودست تغلب ازآستين طغيان بيرون كرده حكم توراترا برطرف نهادندهر ند ارميا يغمبر ايشانرا ند داد وكفت از آنه درتورات مقرر شده واين فساد أول است مكنيدوخودرا در معرض سخط الهي مياريد نشنيدند حق سبحانه وتعالى بخت نصر مجوسي راكه كاتب سنجاريب بورد وبعداز فوت او بحكم وصيت ملك بوى رسيدبرايشان كماشت تابيا مدوبا ايشان حرب كرده غالب شدو مسجدرا خراب كرد تورات را بسوخت وهفتاد هزار كسى را بني إسرائيل بنده كرفت واين عقوبت اول بود بعد ازان كورش همداني كه زنى ار بني إسرائيل خواسته بودازين حال خبر يافت مال بسياربر كرفت وسى هزار بنا وسائر عمله باخود آورد وسى سال بعمارت ولايت ايليه اشتغال
132
نمود تابحال اول بازآمد وديكر باره بني إسرائيل خوش وقت شدند وأموال وأولاد ايشان روى بازويادنها باز سوداى اين مخالفت ازنهارايشان سربرزد ويحيى معصوم را بقتل رسانيدند وقصد هلاك عيسى عليهما السلام (كردند عقوبت دوم دررسيد وطرطوس رومى برايشان غلبه كرد ديكر اره مسجد خراب كردواندو ختهاي ايشانرا بغارت بردند) كما قال تعالى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 131
{فَإِذَا جَآءَ} (س ون بيايد) {وَعْدُ أُولَـاهُمَا} أي : أولى كرتى إفساد أي حان وقت حلول العقاب الموعود {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ} لمؤاخذتكم بجناياتكم {عِبَادًا لَّنَآ} أكثر ما يقال عباد الله وعبيد الناس.
قال الكاشفي : (اضافت خلق است نه اضافت مدح ه مراد بخت نصر است بقول اصح) ، يقول الفقير المراد من الإضافة بيان كونهم مظاهر الاسم المذل المنتقم القهار كما يفيده مقام العظمة لا التشريف فإن الكافر ليس من أهله.
{أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} كقولهم ظل ظليل لأن البأس يتضمن الشدة أي ذوي قوة وبطش في الحروب (دمياطي كفت كه مهيب باشد آوازهاى ايشان ون رعد) وهم بخت نصر من مجوس بابل وهو بضم الباء أصله بوخت بمعنى ابن ونصر بفتح النون والصاد المشددة والراء المهملة اسم صنم وجد عنده بخت نصر ولم يعرف له اب ينسب إليه ، وقال بعضهم كان بخت نصر عاملاً على العراق لملك الأقاليم في ذلك الحين لهراست بن كى اجواد كان لهراست مشتغلاً بقتال الترك فوجه بخت نصر إلى بني إسرائيل في المرة الأولى {فَجَاسُوا} من الجوس وهو التردد خلال الدور والبيوت في الغارة أي ترددوا لطلبكم بالفساد {خِلَـالَ الدِّيَارِ} قال في "القاموس" : الخلل منفرج ما بين الشيئين ومن السحاب مخارج الماء كخلاله وخلال الدار أيضاً ما حوالي جدرها وما بين بيوتها انتهى.
قالوا : يجوز أن يكون مفرداً بمعنى الوسط أو جمع خلل بمعنى الأوساط مثل جبل وجبال.
والديار جمع دار وهو المحل يجمع البناء والعرصة.
والمعنى مشوا في وسط المنازل أو في أوساطها للقتل والأسر والغارة فقتلوا علماءهم وكبارهم وحرقوا التوراة وخربوا المسجد وسبوا منهم سبعين ألفاً وذلك من قبيل تولية بعض الظالمين بعضاً مما جرت به السنة الإلهية {وَكَانَ} وعد عقابهم {وَعْدًا مَّفْعُولا} وعداً لا بد أن يفعل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 133
{ثُمَّ رَدَدْنَا} أعدنا {لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} أي : الدولة والغلبة على الذين فعلوا بكم ما فعلوا بعد مائة سنة حين تبتم ورجعتم من الإفساد والعلو تلخيصه بعد ظفرهم بكم أظفرناكم بهم.
والكرة في الأصل المرة وعليهم متعلق بها لأنه يقال كر عليه أي عطف.
ـ حكي ـ أن كورش الهمذاني غزا أهل بابل فظهر عليهم وسكن الدار فتزوج امرأة من بني إسرائيل فطلبت من زوجها أن يرد قومها إلى أرضهم فردهم إلى أرضهم بيت المقدس فالكرة هي قتل بخت نصر واستنقاذ بني إسرائيل أساراهم ورجوع الملك إليهم فمكثوا فيها فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه ثم عادوا فعصوا الثانية {وَأَمْدَدْنَـاكُم بِأَمْوَالٍ} يقال أمد الجيش إذا قواه وكثره عدداً أي قويناكم بأموال كثيرة بعدما نهبت أموالكم {وَبَنِينَ} بعدما سبيت أولادكم {وَجَعَلْنَـاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} عدداً مما كنتم أو من عدوكم وهو من ينفر مع الرجل من قومه.
{إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي إحسان الأعمال وإساءتها كلاهما مختص بكم لا يتعدى
133
(5/101)
ثوابها ووبالها إلى غيركم فاللام على أصلها وهو الاختصاص.
قال سعدي المفتي الأولى أن تكون للاستحقاق كما في قوله لهم عذاب في الدنيا.
قال في "تفسير النيسابوري" : قال أهل الإشارة إنه أعاد الإحسان ولم يذكر الإساءة إلا مرة ففيه دليل على أن جانب الرحمة أغلب ويجوز أن يترك تكريره استهجاناً {فَإِذَا جَآءَ} (س ون بيايد) {وَعْدُ الاخِرَةِ} أي حان وقت ما وعد من عقوبة المرة الآخرة من الإفسادين (دويست ودوسال) {لِيَسُـاُوا وُجُوهَكُمْ} يقال : ساءه مساءة فعل به ما يكره وهو متعلق بفعل حذف لدلالة ما سبق عليه أي بعثناهم ليجعلوا آثار المساءة والكآبة بادية في وجوهكم فأريد بالوجوه الحقيقية وآثار الأعراض النفسانية في القلب تظهر في الوجه.
وفي الكواشي وخصت الوجوه بالمساءة والمراد أهلها لأن أول ما يظهر من الحزن عليها {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} الأقصى ويخربوه {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ}
جزء : 5 رقم الصفحة : 133
وخربوه {وَلِيُتَبِّرُوا} أي ليهلكوا {مَا عَلَوْا} كل شيء علوه واستولوا عليه أو بمعنى مدة علوهم {تَتْبِيرًا} إهلاكاً فظيعاً لا يوصف والمراد بهم طرطوس الرومي وجنوده كما سبق.
وقال بعضهم : سلط الله عليهم الفرس فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه هردوس قال لواحد من عظماء جنوده : كنت حلفت بالهي إذا ظفرت بأهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى يسيل دماؤهم وسط عسكري فأمره أن يقتلهم فدخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم فوجد فيها دماً يغلي فسألهم عنه فقالوا : دم قربان لم يقبل منا فقال : ما صدقتموني فقتل على ذلك الدم سبعين ألفاً من رؤسائهم وغلمانهم وأزواجهم فلم يهدأ الدم ثم قال : إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحداً فقالوا : إنه دم نبي كان ينهانا ويخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه فقال : ما كان اسمه قالوا : يحيى بن زكريا قال : الآن صدقتموني لمثل هذا ينتقم ربكم منكم ، وكان قتل يحيى ملك من بني إسرائيل يقال له لاخت حمله على قتله امرأة اسمها اربيل وكانت قتلت سبعة من الأنبياء وقتل يحيى كان بعد رفع عيسى فلما رأى أنهم صدقوا خر ساجداً ثم قال : يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقي أحداً منهم فهدأ فرفع عنهم القتل وقال : آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره وقال لبني إسرائيل إن هردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره ولست أستطيع أن أعصيه قالوا : افعل ما أمرت فأمرهم أن يحفروا خندقاً ويذبحوا دوابهم حتى سال الدم في العسكر فلما رأى هردوس ذلك أرسل إليه أن أرفع عنهم القتل فسلب عنهم الملك والرياسة وضرب عليهم الذلة والمسكنة ثم انصرف إلى بابل وهي الوقعة الأخيرة النازلة على بني إسرائيل وبقي بيت المقدس خراباً إلى عهد خلافة عمر رضي الله عنه فعمره المسلمون بأمره.
قال الكاشفي : (حق سبحانه وتعالى درتوارت بعداز وعده اين دو عقوبت با ايشان كفته بود).
جزء : 5 رقم الصفحة : 133
{عَسَى رَبُّكُمْ} (شايد كه رورد كار شما يا بني إسرائيل) {أَن يَرْحَمَكُمْ} (آنكه رحمت كند برشما وباز شمارا منعم) أي بعد المرة الثانية أن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي فتابوا فرحمهم {وَإِنْ عُدتُّمْ} مرة ثالثة إلى المعاصي.
قال سعيد المفتي الأولى كما في الكشاف مرة ثانية إذ العود مرتان والأول بدء لا عود إلا
134
أن يقال أول المرات كونهم تحت أيدي القبط {عُدْنَا} إلى عقوبتكم ولقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بأن سلط عليهم الأكاسرة ففعلوا بهم ما فعلوا من ضرب الأتاوة ونحو ذلك أو عادوا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلّم وقصد قتله فعاد الله بتسليطه عليهم فقتل قريظة وأجلى بني النضير وقدر الجزية على الباقين فهم يعطونها عن يد وهم صاغرون وهم في عذاب من المؤمنين إلى يوم القيامة.
وفي "التأويلات النجمية"" : {وَإِنْ عُدتُّمْ} إلى الجهل {عُدْنَا} إلى العدل بل إلى الفضل ، وفي "المثنوي" :
ونكه بدكردى بترس ايمن مباش
زانكه تخمست وبروياند خداش
ند كاهى او بوشاند كه تا
آيد آخر زان شيمان تورا
بارها و شد ى اظهار فضل
باز كيرد از ى اظهار عدل
تاكه اين هردوصفت ظاهر شود
آن مبشر كردد اين منذر شود
{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـافِرِينَ حَصِيرًا} أي محبساً ومقراً يحصرون فيه لا يستطيعون الخروج منها أبد الآباد فهو فعيل بمعنى فاعل أي حاصرة لهم ومحيطة بهم وتذكيره إما لكونه بمعنى النسبة كلابن وتامر أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول أو بالنظر إلى لفظ جهنم إذ ليس فيه علامة التأنيث.
وعن الحسن حصيراً اي بساطا كما يبسط الحصير المرمول والحصير المنسوج وإنما سمي الحصير لأنه حصرت طاقاته بعضها فوق بعض.
جزء : 5 رقم الصفحة : 134
(5/102)
{عَسَى رَبُّكُمْ} (شايد كه رورد كار شما يا بني إسرائيل) {أَن يَرْحَمَكُمْ} (آنكه رحمت كند برشما وباز شمارا منعم) أي بعد المرة الثانية أن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي فتابوا فرحمهم {وَإِنْ عُدتُّمْ} مرة ثالثة إلى المعاصي.
قال سعيد المفتي الأولى كما في الكشاف مرة ثانية إذ العود مرتان والأول بدء لا عود إلا
134
أن يقال أول المرات كونهم تحت أيدي القبط {عُدْنَا} إلى عقوبتكم ولقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بأن سلط عليهم الأكاسرة ففعلوا بهم ما فعلوا من ضرب الأتاوة ونحو ذلك أو عادوا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلّم وقصد قتله فعاد الله بتسليطه عليهم فقتل قريظة وأجلى بني النضير وقدر الجزية على الباقين فهم يعطونها عن يد وهم صاغرون وهم في عذاب من المؤمنين إلى يوم القيامة.
وفي "التأويلات النجمية"" : {وَإِنْ عُدتُّمْ} إلى الجهل {عُدْنَا} إلى العدل بل إلى الفضل ، وفي "المثنوي" :
ونكه بدكردى بترس ايمن مباش
زانكه تخمست وبروياند خداش
ند كاهى او بوشاند كه تا
آيد آخر زان شيمان تورا
بارها و شد ى اظهار فضل
باز كيرد از ى اظهار عدل
تاكه اين هردوصفت ظاهر شود
آن مبشر كردد اين منذر شود
{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـافِرِينَ حَصِيرًا} أي محبساً ومقراً يحصرون فيه لا يستطيعون الخروج منها أبد الآباد فهو فعيل بمعنى فاعل أي حاصرة لهم ومحيطة بهم وتذكيره إما لكونه بمعنى النسبة كلابن وتامر أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول أو بالنظر إلى لفظ جهنم إذ ليس فيه علامة التأنيث.
وعن الحسن حصيراً اي بساطا كما يبسط الحصير المرمول والحصير المنسوج وإنما سمي الحصير لأنه حصرت طاقاته بعضها فوق بعض.
جزء : 5 رقم الصفحة : 134
واعلم أن جهنم عصمني الله وإياك منها من أعظم المخلوقات وهي سجن الله في الآخرة يسجن فيه المعطلة أي نفاة الصانع والمشركون والكافرون والمنافقون وأهل الكبائر من المؤمنين ثم يخرج بالشفاعة وبالامتنان الإلهي من جاء النص الإلهي فيه وأوجدها الله تعالى بطالع الثور ولذلك خلقها الله تعالى في صورة الجاموس وجميع ما يخلق فيها من الآلام التي يجدها الداخلون فيها فمن صفة الغضب الإلهي ولا يكون ذلك عند دخول الخلق فيها من الجن والإنس متى دخلوها وأما إذا لم يكن فيها أحد من أهلها فلا ألم فيها في نفسها ولا في نفس ملائكتها بل هي ومن فيها من زبانيتها في رحمة الله لمنغمسون ملتذون يسبحون الله لا يفترون.
فعلى العاقل أن يتباعد عن الأسباب المقربة إلى النار ويستعيذ بالله من حرها وبردها آناء الليل وأطراف النهار ويرجو رحمة الله تعالى وهي في التسليم والتلقي من النبوة والوقوف عند الكتاب والسنة عصمنا الله وإياكم من المخالفة والعصيان وشرفنا بالموافقة والطاعة كل حين وآن وجعلنا من المخلصين في بابه المقبلين على جنابه المحترزين عن عذابه وعقابه.
{إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ} الذي آتيناك يا محمد {يَهْدِى} الناس كافة لا فرقة مخصوصة منهم كدأب الكتاب الذي آتيناه موسى {لِلَّتِى} للطريقة التي {هِىَ أَقْوَمُ} أي أقوم الطرائق وأسدها وأصوبها أعني ملة الإسلام والتوحيد والمراد بهدايته لها كونه بحيث يهتدي إليها من يتمسك به لا تحصيل الاهتداء بالفعل فإنه مخصوص بالمؤمنين {وَيُبَشِّرُ} (مده ميدهيد) {الْمُؤْمِنِينَ} بما في تضاعيفه من الأحكام والشرائع {الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّـالِحَـاتِ} التي شرحت فيه {أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم بمقابلة تلك الأعمال {أَجْرًا كَبِيرًا} بحسب الذات وبحسب التضعيف عشر مرات فصاعداً.
قال الكاشفي : (مزدي بزرك يعني بهشت)
135
وذلك لأنه يستصغر عند الجنة ونعيمها الدنيا وما فيها.
{وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} وأحكامها المشروحة فيه من البعث والحساب والجزاء {أَعْتَدْنَا لَهُمْ} (آماده كرديم براى ايشان) أي فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة {عَذَابًا أَلِيمًا} وهو عذاب جهنم والجملة وعطوفة على جملة يبشر بإضمار يخبر ويجوز أن يكون معطوفاً على أن لهم أجراً كبيراً فالمعنى أنه يبشر المؤمنين ببشارتين ثوابهم وعقاب أعدائهم فإن المرء يستبشر ببلية عدوه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 134
يا وصال يار يا مرك عدو
بازىء رخ زين دو يك كارى كند
واعلم أن القرآن مظهر الاسم الهادي وهو كتاب الله الصامت والنبي عليه السلام كتاب الله الناطق وكذا ورثته الكمل بعده وأن الدلالة والإرشاد إنما تنفع المؤمنين العاملين بما فيه وهو لم يترك شيئاً من أمور الدين والدنيا الا وتكفل ببيانه إما إجمالاً أو تفصيلاً.
قال ابن مسعود رضي الله عنه إذا أردتم العلم فآثروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين.
(5/103)
ـ روي ـ أنه تفكر بعض العارفين في أنه هل في القرآن شيء يقوي قوله عليه السلام : "يخرج روح المؤمن من جسده كما يخرج الشعر من العجين" فختم القرآن بالتدبر فما وجده فرأى النبي صلى الله عليه وسلّم في منامه وقال : يا رسول الله قال الله تعالى : {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام : 59) فما وجدت معنى هذا الحديث في كتاب الله تعالى فقال عليه السلام : "اطلبه في سورة يوسف" فلما انتبه من نومه قرأها فوجده وهو قوله : {فَلَمَّا رَأَيْنَه أَكْبَرْنَه وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} (يوسف : 31) أي : لما رأين جمال يوسف عليه السلام اشتغلن به وما وجدن ألم القطع وكذلك المؤمن إذا رأى ملائكة الرحمة ورأى أنعامه في الجنة وما فيها من النعيم والحور والقصور اشتغل قلبه بها ولا يجد ألم الموت وانفهم من الحكاية أن القارىء ينبغي أن يقرأ القرآن بتدبر تام حتى يصل إلى كل مرام وقد نهى النبي عليه السلام أن يختم القرآن في أقل من ثلاث وقال : "لم يفقه" أي لم يكن فقيهاً في الدين "من قرأ القرآن في أقل من ثلاث" يعني : لا يقدر الرجل أن يتفكر ويتدبر في معنى القرآن في ليلة أو ليلتين لأنه يقرأ على العجلة حينئذٍ بل ينبغي أن يقرأ القرآن في ثلاث ليال أو أكثر حتى يقرأ عن طيب نفس ونشاطها ويتفرغ لتدبر معناه ولذا اختار بعضهم الختم في كل جمعة وبعضهم في كل شهر وبعضهم في كل سنة بحسب درجات التدبر والتفتيش ويغتنم الحضور للدعاء عند ختم القرآن فإنه يستجاب وفي الحديث : "من شهد خاتمة القرآن كان كمن شهد المغانم حين تقسم ومن شهد فاتحة القرآن كان كمن شهد فتحاً في سبيل الله" ففي الافتتاح عند الاختتام إحراز لهاتين الفضيلتين وإذلال للشيطان.
قال في "شرح الجزري" ينبغي أن يلح في الدعاء وأن يدعو بالأمور المهمة والكلمات الجامعة وأن يكون معظم ذلك أو كله في أمور الآخرة وأمور المسلمين وصلاح سلاطينهم وسائر ولاة أمورهم في توفيقهم للطاعات وعصمتهم من المخالفات وتعاونهم على البر والتقوى وقيامهم بالحق عليه وظهورهم على أعداء الدين وسائر المخالفين ومما يقول النبي عليه السلام عند ختم القرآن "اللهم ارحمني بالقرآن العظيم واجعله لي إماماً ونوراً وهدى ورحمة اللهم ذكرني منه ما نسيت وعلمني منه ما جهلت وارزقني تلاوته آناء الليل وأطراف النهار واجعله حجة لي يا رب العالمين" وكان أبو القاسم
136
جزء : 5 رقم الصفحة : 134
الشاطبي رحمه الله يدعو بهذا الدعاء عند ختم القرآن "اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك وأبناء إمائك ماض فينا حكمك عدل فينا قضاؤك نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو أنزلته في شيء من كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا وشفاء صدورنا وجلاء أحزاننا وهمومنا وسائقنا وقائدنا إليك وإلى جناتك جنات النعيم ودارك دار السلام مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين".
قال في "القنية" : لا بأس باجتماعهم على قراءة الإخلاص جهراً عند ختم القرآن ولو قرأ واحد واستمع الباقون فهو أولى انتهى.
وجه الأولوية أن الغرض الأهم من القراءة إنما هو تصحيح مبانيها لظهور معانيها ليعمل بما فيها وفي القراءة بصوت واحد يتشوش الخواطر مع أن بعض القارئين بالجمعية يأتي ببعض الكلمة والآخر ببعضها ويقع حذف الحرف والزيادة وتحريك الساكن وتسكين المحرك ومد القصر وقصر المد مراعاة للأصوات فيأثمون.
عشقت رسد بفرياد كرخود بسان حافظ
قرآن زبر بخواني در ار ده روايت
نسأل الله تعالى أن يوصلنا إلى حقائق القرآن وأسراره ويطلعنا على الحكم والمصالح في قصصه وأخباره ويجعلنا من أهل التحقيق إنه ولي التوفيق.
{وَيَدْعُ الانسَـانُ بِالشَّرِّ} ويدعو الله عند غضبه بالشر واللعن والهلاك على نفسه وأهله وخدمه وماله.
والمراد بالإنسان الجنس أسند إليه حال بعض أفراده أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه وحذفت واو يدع ويمح وسندع لفظاً كياء سوف يؤت الله ويناد المناد وما تغن النذر وصلاً لاجتماع الساكنين ووقفا وهي مرادة معنى حملاً للوقف على الوصل ولو وقف عليها اضطراراً لوقف بلا واو في ثلاثتها اتباعاً للإمام كما في الكواشي {دُعَآءَه بِالْخَيْرِ} مثل دعائه لهم بالخير والرزق والعافية والرحمة ويستجاب له فلو استجيب له إذا دعا باللعن كما يجاب له بالخير لهلك أو يدعوه بما يحسبه خيراً وهو شر في نفسه فينبغي أن يدعو بما هو خير عند الله تعالى لا بما يشتهيه {وَكَانَ الانسَـانُ} بحسب جبلته {عَجُولا} يسارع إلى طلب ما يخطر بباله ولا ينظر عاقبته ولا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه.
قال الكاشفي : (تعجيل دارد در انقلاب ازحالي بحالي نه درسرا تحمل دار دونه درضرا نه در كرما شكيباست ونه درسرما).
جزء : 5 رقم الصفحة : 134
(5/104)
واعلم أن الدعاء إما بلسان الحقيقة وأما باعتبار السيئة المفضية إلى الشر الموجبة له فالإنسان عجول قولاً وفعلاً يتمادى في الأعمال الموجبة للشر والعذاب وفي الحديث : "المؤمن وقاف والمنافق وثاب" قال آدم عليه السلام لأولاده : كل عمل تريدون أن تعملوا فقفوا له ساعة فإني لو وقفت ساعة لم يكن أصابني ما أصابني قال أعرابي : إياكم والعجلة فإن العرب تكنيها أم الندامات ، وفي "المثنوي" :
بيش سك ون لقمه نان افكنى
بوكندو انكه خورد اى مقتنى
اوببينى بوكند ما باخرد
هم ببو يئمش بعقل منتقد
قيل : العجلة من الشيطان إلا في ستة مواضع : أداء الصلاة إذا دخل الوقت ، ودفن الميت إذا حضر وتزويج البكر إذا أدركت وقضاء الدين إذا وجب وإطعام الضيف إذا نزل وتعجيل
137
التوبة إذا أذنب.
ثم شرع في بيان بعض الهداية التكوينية التي أخبر بها القرآن الهادي فقال :
{وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ} قدم الليل لأن فيه تظهر غرر الشهور أي : جعلناهما بسبب تعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر {ءَايَتَيْنِ} دالتين على وجود الصانع القدير ووحدته إذ لا بد لكل متغير من مغير وإنما قال وجعلنا الليل والنهار آيتين وقال في موضع آخر : {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّه ءَايَةً} (المؤمنون : 50) لأن الليل والنهار ضدان بخلاف عيسى ومريم وقيل لأن عيسى ومريم كانا في وقت واحد والشمس والقمر آيتان لأنهما في وقتين ولا سبيل إلى رؤيتهما معاً {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ} الفاء تفسيرية والإضافة بيانية كما في إضافة العدد إلى المعدود أي : فمحونا الآية التي هي الليل.
والمحو في الأصل إزالة الشيء الثابت والمراد هنا إبداعها ممحوة الضوء مطموسة كما في قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل أي : أنشأهما كذلك بقرينة أن محو الليل في مقابلة جعل النهار مضيئاً {وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ} أي : الآية التي هي النهار {مُبْصِرَةً} مضيئة تبصر فيها الأشياء وصفها بحال أهلها ويجوز أن تكون الإضافة في المحلين حقيقية فالمراد بآية الليل والنهار والقمر والشمس.
جزء : 5 رقم الصفحة : 134
ـ روي ـ أن الله تعالى خلق كلاً من نور القمر والشمس سبعين جزء ثم أمر جبريل فمسح بجناحه ثلاث مرات فمحا من القمر تسعة وستين جزأ فحولها إلى الشمس ليتميز الليل من النهار إذ كان في الزمن الأول لا يعرف الليل والنهار فالسواد الذي في القمر أثر المحو وهذا السواد في القمر بمنزلة الخال على الوجه الجميل ولما كان زمان الدولة العربية الأحمدية قمرياً ظهر عليه أثر السيادة على النجوم وهو السواد لأنه سيد الألوان كما ظهر على الحجر المكرم الذي خرج أبيض من الجنة أثر السيادة بمبايعة الأنبياء والأولياء عليهم السلام وجعل الله شهورنا قمرية لا شمسية تنبيهاً من الله للعارفين أن آياتهم ممحوّة من ظواهرهم مصروفة إلى بواطنهم فاختصوا من بين جميع الأمم الماضية بالتجليات الخاصة.
وقيل فيهم كتب في قلوبهم الإيمان مقابلة قوله فانسلخ منها قال تعالى : {لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ} (يس : 40) أي : في علو المرتبة والشرف.
قال : حضرت شيخي وسندي قدس سره في "كتاب البرقيات" بعد تفصيل بديع ثم لآية الليل مرتبة الفرعية والتبعية ولآية النهار مرتبة الأصلية والاستقلالية لأن نور القمر مستفاد من نور الشمس ثم سر محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة هو نفي الاستواء وإثبات الامتياز حتى يتعين حد المستفيد وطوره بأن يكون أنزل بحسب الضعف والنقصان وحد المفيد وطوره بأن يكون ارفع بحسب القوة والكمال ويرتبط كل منهما بالآخر من غير تعد وتجاوز عن حده وطوره بل عرف كل قدره ولزوم مقامه حتى يطرد النظام والانتظام ويستمر القيام والدوام من غير خلل واختلال ثم هذا السر إشارة إلى سر أن لمظاهر الجلال مرتبة التبعية والفرعية ولمظاهر الجمال مرتبة الاستقلالية والأصلية لأن الإمداد الواصل إلى مظاهر الجلال لقيامهم ودوامهم وبقائهم مستقاد من مظاهر الجمال ولذا قيل : لولا الصلحاء لهلك الطلحاء وحكمة محو أفكار مظاهر الجلال عن الإصابة إلى الأخطاء وجعل أفكار مظاهر الجمال مبصرة مصيبة هو نفي المساواة وإثبات المباينة بينهما حتى يتحقق رتبة الأصل
138
(5/105)
بالقوة والغلبة ورتبة الفرع بالضعف والعجز والذلة ويقوم النظام ويدوم الانتظام من غير أن يظهر التجاوز والتعدي من طرف مرتبة التبعية إلى رتبة الاستقلالية عند المقابلة والمقاومة بل يطرد الارتفاع والاعتلاء والاستيلاء على الوجه الأوفق والحد الأحق في طرف الأصالة ويستمر الأمر في نفسه إلى ما شاء الله خالق البرية ثم مرتبة القمر إشارة إلى المراتب الإلهية إلى مرتبة الربوبية ومرتبة الشمس إلى مرتبة الألوهية وفي المراتب الكونية الآفاقية مرتبة القمر إشارة إلى مرتبة الكرسي واللوح ومرتبة الشمس إشارة إلى مرتبة العرش والقلم وفي مراتب الكونية الأنفسية مرتبة القمر إشارة إلى مرتبة الروح ومرتبة الشمس إشارة إلى مرتبة السر وغير ذلك من الإشارات القرآنية
جزء : 5 رقم الصفحة : 134
{لِّتَبْتَغُوا} متعلق بقوله : وجعلنا آية النهار أي : لتطلبوا لأنفسكم في بياض النهار {فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ} أي : رزقاً وسماه فضلاً لأن إعطاء الرزق لا يجب على الله وإنما يفيضه بحكم الربوبية وفي التعبير عن الكسب بالابتغاء دلالة على أن ليس للعبد في تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب {وَلِتَعْلَمُوا} متعلق بكلا الفعلين أي : لتعلموا باختلاف الجديدين أو ميزهما ذاتاً من حيث الإظلام والإضاءة مع تعاقبهما وسائر أحوالهما {عَدَدَ السِّنِينَ} التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية {وَالْحِسَابَ} أي : الحساب المتعلق بما في ضمنها من الأوقات أي : الأشهر والليالي والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة ولولا ذلك لما علم أحد حسبان الأوقات ولتعطلت أمور كثيرة.
والحساب إحصاء ما له كمية منفصلة بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة فيها حد معين منه له اسم خاص وحكم مستقل والعد : إحصاؤه بمجرد تكرير أمثاله من غير أن يتحصل منه شيء كذلك فالسنة تتحصل بعدة شهور والشهر بعدة أيام واليوم بعدة ساعات.
والسنين جمع سنة وهي شمسية وقمرية فالسنة الشمسية مدة وصول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من ذلك البرج وذلك ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم والسنة القمرية اثنا عشر شهراً قمرياً ومدتها ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً وثلث يوم قالوا : إن أقر العنين أنه لم يصل أجله الحاكم سنة قمرية في الصحيح وبحسب فدية الصلاة بالسنة الشمسية أخذاً بالاحتياط من غير اعتبار ربع اليوم ففدية كل فرض من الحنطة خمسمائة درهم وعشرون درهماً وللوتر كذلك فيكون فدية كل صلاة يوم وليلة من الحنطة ثلاثة آلاف درهم ومائة وعشرين درهماً وفدية كل سنة شمسية مائة واثنان وأربعون كيلاً بكيل القسطنطينية وسبع أوقية ويكون قيمة هذا المقدار من الحنطة محسوبة بالحساب الجاري بين الناس في كل عهد وزمان {وَكُلَّ شَىْءٍ} تفتقرون إليه في المعاش والمعاد وهو منصوب بفعل يفسره قوله تعالى : {فَصَّلْنَـاهُ تَفْصِيلا} أي : بيناه في القرآن بياناً بليغاً لا التباس معه فأزحنا عللكم وما تركنا لكم حجة علينا فليتبع العاقل ما أدركه أي : لحقه علمه وليفوض ما جهله منه إلى العلم.
وفيه إشارة إلى أن العالم إذا تدبر في القرآن وقف على جميع المهمات وكان الصحابة رضي الله عنهم يكرهون أن يمضي يوم ولم ينظروا في مصحف لأن النظر إليه عبادة.
وفيه أيضاً وقوف على المرام فإن التدبر يؤدي إلى ظهور خفايا الكلام.
جزء : 5 رقم الصفحة : 134
ـ حكي ـ
139
أن الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة دخل على أبي حنيفة لتعلم الفقه قال : استظهرت القرآن يا بني قال : لا قال : استظهر أوّلاً فغاب سبعة أيام ثم رجع إلى أبي حنيفة فقال : ألم أقل لك استظهر قال : استظهرت.
قال الشافعي رضي الله عنه : بت عنده ليلة فصليت إلى الصبح واضطجع هو إلى الصبح فاستنكرت ذلك منه فقام وصلى ركعتي الفجر من غير توضىء فقلت له في ذلك فقال : أظننت أني نمت كلا استخرجت من كتاب الله نيفاً وألف مسألة فأنت عملت لنفسك وأنا عملت للأمة أو إنما اضطجعت لأن صفاء خاطري في تلك الحالة.
وهذه الصورة سرّ ما قال حضرت الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر سبب اضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي إليهم أن الوارد الإلهي الذي هو صفة القيومية إذا جاءهم اشتغل روح الإنسان عن تدبيره فلم يبق للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده فرجع إلى أصله وهو لصوقه بالأرض.
ثم إن في القرآن تفصيلاً لأهل العبارة وأهل الإشارة ، وفي "المثنوي" :
تو زقر آن اي سر ظاهر مبين
ديو آدم را نبيند غير طين
ظاهر قرآن و شخص آدميست
كه نقوشش ظاهر وجانش خفيست
جزء : 5 رقم الصفحة : 134
(5/106)
{وَكُلَّ إِنسَـانٍ} مكلف مؤمناً كان أو كافراً ذكراً أو أنثى عالماً أو أمياً سلطاناً أو رعية حراً أو عبداً {أَلْزَمْنَـاهُ} الإلزام (لازم كردن) {طَائرَهُ} أي : عمره الصادر عنه باختياره حسبما قدر له كأنه طار إليه من عش الغيب ووكر القدر {فِى عُنُقِهِ} تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط أي : ألزمناه عمله بحيث لا يفارقه أبداً بل يلزمه لزوم القلادة والغل للعنق لا ينفك عنه بحال.
كه هرنيك وبدى كان ازمن آيد
مرا نا كام غل در كردن آيد
قال في "الأسئلة المقحمة" : كيف خص العنق بإلزامه الطائر؟ الجواب لأن العنق موضع السمات والقلائد مما يزين أو يشين فينسبون الأشياء اللازمة إلى الأعناق يقال هذا في عنقي وفي عنقك انتهى.
وفي "حياة الحيوان" : أنهم قالوا تقلدها طوق الحمامة الهاء كناية عن الخصلة القبيحة أي : تقلد طوق الحمامة لأنها لا يزايلها ولا يفارقها كما لا يفارق الطوق الحمامة ومثل قوله تعالى : {وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَائرَه فِى عُنُقِهِ} أن عمله لازم له لزوم القلادة والغل لا ينفك عنه انتهى.
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى ما طار لكل إنسان في الأزل وقدر بالحكمة الأزلية والإرادة القديمة من السعادة والشقاوة وما يجري عليه من الأحكام المقدرة والأحوال التي جرى بها القلم من الخلق والخلق والرزق والأجل ومن صغائر الأعمال وكبائرها المكتوبة له وهو بعد في العدم وطائره ينتظر وجوده فلما أخرج كل إنسان رأسه من العدم إلى الوجود وقع طائره في عنقه ملازماً له في حياته ومماته حتى يخرج من قبره يوم القيامة وهو في عنقه وهو قوله : {وَنُخْرِجُ لَهُ} أي لكل إنسان {يَوْمُ الْقِيَـامَةِ} والبعث للحساب {كِتَـابًا} مسطوراً فيه عمله نقيراً وقطميراً وهو مفعول نخرج الإنسان أي : يجده ويراه {مَنشُورًا} مفتوحاً بعدما كان مطوياً صفتان لكتابان أو الأول صفة والثاني حال.
جزء : 5 رقم الصفحة : 140
قال الحسن : بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك.
فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك.
وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيآتك حتى
140
إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة.
يعني : (ون آدمي درسكرات افتد نامه عمل او در يند وون مبعوث كردند باز كشاده بدست وى ودهند).
{اقْرَأْ كِتَـابَكَ} على إرادة القول أي : يقال إقرأ كتابك ، عن قتادة يقرأ ذلك يوم من لم يكن في الدنيا قارئاً {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي : كفى نفسك والباء زائدة واليوم ظرف لكفى وحسيبا تمييز وعلى صلته لأنه بمعنى الحاسب وتذكيره مبني على تأويل النفس بالشخص.
يعني : (خود به بين كه ه كرده ومستحق ه نوع اداشتى) وفوض تعالى حساب العبد إليه لئلا ينسب إلى الظلم ولتجب الحجة عليه باعترافه.
قال الحسن : انصف من انصفك أنصف من جعلك حسيب نفسك (عمر رضي الله عنه كفته كه حاسبوا قبل أن تحاسبوا امروز دفتر اعمال خود در يش نه ودرنكركه ازنيك وبد ه كرده وون فرصت داري درتدارك أحوال خود كوش كه فردا مجال تلافى نخواهد بود.
دركشف الاسرار آورده كه درى سر خويش را كفت امروز هره بامردم كويى وهره از ايشان شنوى وهر عملى كه كنى بامن بكوى وحركات وسكنات خويش بر من عرض كن آن سر تا نماز شام تمام كردار يكروزه را باز كفت در روزى ديكر از سر همين حال درخواست سر كفت اي در زينهار هره خواهى از رنج وكلفت بكشم اين صورت بكذار كه طاقت ندارم در كفت من ترا درين كارمى بندم تابيدار وهشيار باشى وازموقف حساب غافل نشوى كه ترا طاقت يكروزه حساب دادن بادر نيست حساب همه عمر باحق تعالى ون خواهى داد) :
تو نمى دانى حساب روز وشام
س حساب عمر ون كويى تمام
زين عملهاى نه بر نهج صواب
نيست جز شرمندكى وقت حساب
جزء : 5 رقم الصفحة : 140(5/107)
{مَّنِ اهْتَدَى} (هركه راه يابد وبراه راست رود) أي : بهداية القرآن وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه {فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتد {وَمَن ضَلَّ} عن الطريقة التي يهديه إليها {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} فإنما وبال إضلاله عليها لا على من عداه ممن لم يباشره حتى يمكن مفارقة العمل من صاحبه.
وقال البيضاوي لا ينجي اهتداؤه غيره ولا يردى ضلاله سواه أي : في الآخرة وإلا ففي حكم الدنيا يتعدى نفع الاهتداء وضرر الضلال إلى الغير كما في "حواشي" سعدى المفتي {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
قال في "القاموس" الوزر بالكسر الإثم والثقل والحمل الثقيل انتهى أي : لا تحمل نفس حاملة للوزر أي : الاثم وزر نفس أخرى حتى يمكن تخلص النفس الثانية من وزرها ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم بل إنما تحمل كل منهما وزرها فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره وهذا تحقيق لمعنى قوله تعالى : {وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَائرَه فِى عُنُقِهِ} وأما ما يدل عليه قوله تعالى : {مَّن يَشْفَعْ شَفَـاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّه نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَـاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّه كِفْلٌ مِّنْهَا} (النساء : 85) وقوله تعالى : {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَـامَةِا وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} (النحل : 25) من حمل الغير وزر الغير وانتفاعه بحسنته وتضرره
141
بسيئته فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه وتضرر بسيئته فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له وإنما الذي يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته لا جزاء أصل الحسنة والسيئة وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال وقوله : {وَلا تَزِرُ} الخ تأكيد للجملة الثانية وإنما خص بها قطعاً للأطماع الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم والتبعة ما يترتب على الشيء من المضرة ويتفرع عليه من العقوبة.
وقال الكاشفي : (وليد بن مغيرة كافرانرا ميكفت متابعت من كنيد ومن كناهان شمارا بردارم حق سبحانه وتعالى ميفر ما يدكه هر نفسى بارخود خواهد برداشت نه بار ديكرى) هذا.
وقد قال بعضهم : المراد بالكتاب نفسه المنتقشة بآثار أعماله فإن كل عمل يصدر من الإنسان خيراً أو شراً يحدث منه في جوهر روحه أثر مخصوص إلا أن ذلك الأثر يخفي ما دام الروح متعلقاً بالبدن مشتغلاً بواردات الحواس والقوى فإذا انقطعت علاقته عن البدن قامت قيامته لأن النفس كانت ساكنة مستقرة في الجسد وعند ذلك قامت وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوي فيزول الغطاء وينكشف الأحوال ويظهر على لوح النفس نقش كل شيء عمله في مدة عمره وهذا معنى الكتابة والقراءة بحسب العقل وأنه لا ينافي ما ورد في النقل بل يؤيد هذا المعنى ما روى عن قتادة يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئاً ثم المراد بالقيامة على هذا التفصيل هي القيامة الصغرى لكن هذا الكلام أشبه بقواعد الفلسفة كما في "حواشي" سعدى المفتي.
يقول الفقير : لا يخفى أن الآخرة جامعة للصورة والمعنى فللإنسان صحيفتان صحيفة عمله التي هي الكتاب وصحيفة نفسه فكل منهما ناطق عن عمله وحاله كما قال في "التأويلات النجمية" : يجوز أن يكون هذا الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها نسخة نسخها الكرام الكاتبون بقلم أعماله في صحيفة أنفاسه من الكتاب الطائر الذي في عنقه ولهذا يقال له :
جزء : 5 رقم الصفحة : 140(5/108)
{اقْرَأْ كِتَـابَكَ} أي : كتابتك التي كتبتها {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} فإن نفسك مرقومة بقلم أعمالك إما برقوم السعادة أو برقوم الشقاوة من اهتدى إلى الأعمال الصالحة فإنما يهتدى لنفسه فيرقمها برقوم السعادة من ضل عنها بالأعمال الفاسدة فإنما يضل عليها فيرقمها برقوم الشقاوة {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي : لا يرقم راقم بقلم أوزاره نفس غيره {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} أي : وما صح وما استقام منا بل استحال في عادتنا المبنية على الحكم البالغة أن نعذب أحداً من أهل الضلال والأوزار اكتفاء بقضية العقل {حَتَّى نَبْعَثَ} إليهم {رَسُولا} يهديهم إلى الحق ويردعهم عن الضلال ويقيم الحجج ويمهد الشرائع قطعاً للمعذرة وإلزاماً للحجة.
وفيه دلالة على أن البعثة واجبة لا بمعنى الوجوب على الله بل بمعنى أن قضية الحكمة تقتضي ذلك لما فيه من المصالح والحكم والمراد بالعذاب المنفي هو العذاب الدنيوي وهو من مقدمات العذاب الأخروي فجوزوا على الكفر والمعاندة بالعذاب في الدارين وما بينهما أيضاً وهو البرزخ والبعث غاية لعدم صحة وقوعه في وقته المقدر له لا لعدم وقوعه مطلقاً كيف لا والأخروي لا يمكن وقوعه عقيب البعث والدنيوي أيضاً لا يحصل إلا بعد تحقق ما يوجبه من الفسق
142
والعصيان.
{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً} أي : وإذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك قرية بأن نعذب أهلها {أَمْرُنَآ} بالطاعة على لسان الرسول المبعوث إلى أهلها {مُتْرَفِيهَا} متنعميها وكبارها وملوكها.
والمترف كمكرم من أبطرته النعمة وسعة العيش والترفة بالضم النعمة والطعام الطيب وخصهم بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل لأنهم الأصول في الخطاب والباقي اتباع لهم {فَفَسَقُوا فِيهَا} أي : خرجوا عن الطاعة وتمردوا في تلك القرية {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} أي : ثبت وتحقق موجبه بحلول العذاب أثر ما ظهر فسقهم وطغيانهم.
قال الكاشفي : (س واجب شود براهل آن ده كلمه عذاب كه سبقت كرفته در حكم ازلى مستوجب عقوبت شدند) {فَدَمَّرْنَـاهَا} بتدمير أهلها وتخريب ديارها.
والتدمير الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء {تَدْمِيرًا} وقيل : الأمر مجاز من الحمل على الفسق والتسبب له بأن صب عليهم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 140
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ} كم مفعول أهلكنا ومن القرون تبيين لإبهام كم وتمييز له كما يميز العدد بالجنس أي : وكثيراً من القرون أهلكنا والقرن مدة من الزمان يخترم فيها المرؤ والأصح أنه مائة سنة لقوله عليه السلام لغلام : "عش قرناً" فعاش مائة والقرن كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم {مِنا بَعْدِ نُوحٍ} من بعد زمنه كعاد وثمود ومن بعدهم ولم يقل من بعد آدم لأن نوحاً أول نبي بالغ قومه في تكذيبه وقومه أول من حلت بهم العقوبة العظمى وهو الاستئصال بالطوفان {وَكَفَى بِرَبِّكَ} أي : كفى ربك {بِذُنُوبِ عِبَادِه خَبِيرَا بَصِيرًا} يحيط بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها وتقديم الخبير مع أنه مضاف إلى الغيب والأمور الباطنة والبصير مضاف إلى الأمور الظاهرة كالشهيد لتقدم متعلقه من الاعتقادات والنيات التي هي مبادي الأعمال الظاهرة.
وفيه إشارة إلى أن البعث والأمر وما يتلوهما من فسقهم ليس لتحصيل العلم بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصل قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزام الحجة من كل وجه.
وفي الآية تهديد لهذه الأمة لا سيما مشركي مكة لكي يطيعوا الله ورسوله ولا يعصوه فيصيبهم مثل ما أصابهم.
ـ روي ـ عن الشعبي أنه قال : خرج أسد وذئب وثعلب يتصيدون فاصطادوا حمار وحش وغزالاً وأرنباً فقال الأسد للذئب : اقسم فقال حمار الوحش للملك والغزال لي والأرنب للثعلب قال : فرفع الأسد يده وضرب رأس الذئب ضربة فإذا هو منجدل بين يدي الأسد ثم قال للثعلب : اقسم هذه بيننا فقال الحمار يتغدى به الملك والغزال يتعشى به والأرنب بين ذلك فقال الأسد : ويحك ما أقضاك من علمك هذا القضاء فقال القضاء الذي نزل برأس الذئب ولذلك قيل العاقل من وعظ بغيره :
مرد دركارها وكرد نظر
بهزه اعتبار ازان برداشت
جزء : 5 رقم الصفحة : 143
هره آن سود مند بود كرفت
هره ناسود مندبود كذاشت
وفي "التأويلات النجمية" {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} يشير إلى أن الأعمال الصالحة والفاسدة التي ترقم النفوس برقوم السعادة والشقاوة لا يكون لها أثر إلا بقبول دعوة الأنبياء أو بردها فإن السعادة والشقاوة مودعة في أوامر الشريعة ونواهيها {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً}
143
(5/109)
أي : من قرى النفوس {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} وهي النفوس الأمارة بالسوء {فَفَسَقُوا فِيهَا} أي : فخرجوا عن قيد الشريعة ومتابعة الأنبياء بمتابعة الهوى واستيفاء شهوات النفس {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} أي : فوجبت لها الشقاوة بمخالفة الشريعة {فَدَمَّرْنَـاهَا تَدْمِيرًا} بإبطال استعداد قبول السعادة إذ صارت النفس مرقومة برقوم الشقاوة الأبدية {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنا بَعْدِ نُوحٍ} أي : أبطلنا حسن استعدادهم لقبول السعادة برد دعوة الأنبياء عليهم السلام {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ} إذ لم يقبلوا دعوة الأنبياء {خَبِيرَا بَصِيرًا} فإنه المقدر في الأزل المدبر إلى الأبد أسباب سعادة عباده وأسباب شقاوتهم انتهى.
{مَن كَانَ} (هركه باشد از روى خساست همت) {يُرِيدُ} بأعماله {الْعَاجِلَةَ} الدار الدنيا فقط أي : ما فيها من فنون مطالبها وهم الكفرة والفسقة وأهل الرياء والنفاق والمهاجر للدنيا والمجاهد لمحض الغنيمة والذكر {عَجَّلْنَا لَه فِيهَا} أي : في تلك العاجلة {مَا نَشَآءُ} تعجيله له من نعيمها لا كل ما يريد فإن الحكمة لا تقتضي وصول كل واحد إلى جميع ما يهواه {لِمَن نُّرِيدُ} تعجيل ما نشاء له فإنها لا تقتضي وصول كل طالب إلى مرامه فإن الله تعالى يبتلي بعض العباد بالطلب من غير حصول المطلوب وبعضهم يبتلى به بحصول المطلوب المشروط به إما مقارناً لطلبه وإما بعده لأن وقت الطلب قد يفارق وقت حصول المطلوب فيحصل الطلب في وقت والمطلوب في وقت وبعضهم لا يبتلى بالطلب بل يصل إليه الفيض بلا طلب فالأول طلب ولا شيء.
والثاني طلب وشيء.
والثالث شيء ولا طلب قوله : {لِمَن نُّرِيدُ} بدل من الضمير في له بإعادة الجار بدل البعض فإنه راجع إلى الموصول المنبىء عن الكثرة {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ} مكان ما عجلنا له {جَهَنَّمَ} وما فيها من أصناف العذاب يدخلها وهو حال من الضمير المجرور {مَذْمُومًا} ملوماً لأن الذم اللوم وهو خلاف المدح والحمد يقال ذممته وهو ذميم غير حميد كما في "بحر العلوم" {مَّدْحُورًا} مطروداً من رحمة الله تعالى فإن الدحر الطرد والإبعاد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 143
{وَمِنْ} (هركه ازروى علو همت) {أَرَادَ} بالأعمال {الاخِرَةَ} الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} أي : السعي اللائق بها وهو الإتيان بما أمر والانتهاء عما نهى لا التقرب بما يخترعون بآرائهم وفائدة اللام اعتبار النية والإخلاص فإنها للاختصاص {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي : والحال أنه مؤمن إيماناً صحيحاً لا شرك معه ولا تكذيب فإنه العمدة فأولئك الجامعون الشرائط الثلاثة من إرادة الآخرة والسعي الجميل لها والإيمان {كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} مقبولاً عند الله تعالى بحسن القبول مثاباً عليه فإن شكر الله الثواب على الطاعة وفي تعليق المشكورية بالسعي دون قرينيه إشعار بأنه العمدة فيها.
اعلم أن الله تعالى خلق الإنسان مركباً من الدنيا والآخرة ولكل جزء منهما ميل وإرادة إلى كله ليتغذى منه ويتقوى ويتكمل به ففي جزئه الدنيوي وهو النفس طريق إلى دركات النيران وفي جزئه الأخروي وهو الروح طريق إلى درجات الجنان وخلق القلب من هذين الجزءين وله طريق إلى ما بين اصبعي الرحمن اصبع اللطف وأضبع القهر فمن يرد الله به أن يكون مظهر قهره أزاغ قلبه وحول وجهه إلى الدنيا فيريد العاجلة ويربي بها نفسه إلى أن تبلغه إلى دركات جهنم البعد ويصلى نار القطيعة ومن يرد الله به أن يكون مظهر لطفه أقام قلبه وحول وجهه إلى عالم العلو
144
فيريد الآخرة ويسعى لها سعيها وهو الطلب بالصدق وهو مؤمن بأن من طلبه وجده فأولئك كان سعيهم في الوجود مشكوراً من الموجد في الأزل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 143
{كَلا} منصوب بنمد أي : كل واحد من مريدي الدنيا ومريدي الآخرة {نُّمِدُّ} أي : نزيد مرة أخرى بحيث يكون الآنف مدداً للسالف لا نقطعه وما به الإمداد هو ما عجل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلة المشار إليها بمشكورية السعي {هَـاؤُلاءِ} بدل من كُلاً {وَهَـاؤُلاءِ} عطف عليه أي : نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم {مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ} أي : من معطاه الواسع الذي لا يتناهى له لأن العطاء اسم ما يعطي وهو متعلق بنمد ومغن عن ذكر ما به الإمداد ومنه على أن الإمداد المذكور ليس بطريق الاستيجاب بالسعي والعمل بل بمحض التفضل {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ} أي : دنيوياً وأخروياً {مَحْظُورًا} ممنوعاً عمن يريده من البر والفاجر بل هو فائض على البر في الدنيا والآخرة وعلى الفاجر في الدنيا فقط وإن وجد منه ما يقتضي الحظر وهو الفجور والكفر ، قال الشيخ سعدي :
اديم زمين سفره عام اوست
برين خوان يغماه دشمن ه دوست
س رده بيند عملهاى بد
هم اورده وشد بآلاى خود
وكر برجفا يشه بشتافتى
كى از دست قهرش امان يافتى
(5/110)
{انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} كيف في محل النصب بفضلنا على الحالية لا بانظر لأن الاستفهام يحجب أن يتقدم عليه عامله لاقتضائه صدر الكلام أي : انظر يا محمد بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعض الآدميين على بعض فيما أمددناهم من العطايا الدنيوية فمن وضيع ورفيع ومالك ومملوك وموسر وصعلوك تعرف بذلك مراتب العطايا الأخروية ودرجات تفاضل أهلها على طريقة الاستشهاد بحال الأدنى على حال الأعلى كما فصح عنه قوله تعالى : {وَلَلاخِرَةُ} أي : هي وما فيها {أَكْبَرَ} من الدنيا {دَرَجَـاتٌ} نصب على التمييز وهي جمع درجة بمعنى المرتبة والطبقة {وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} وذلك لأن التفاوت في الآخرة بالجنة ودرجاتها العالية لأن ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض.
جزء : 5 رقم الصفحة : 145
وفي "التأويلات النجمية" {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} من أهل الدنيا في النعمة والدولة وموافاة المرادت ليتحقق لك أنها من أمدادنا إياهم {وَلَلاخِرَةُ} أي : أهل الآخرة {أَكْبَرُ دَرَجَـاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} من أهل الدنيا لأن مراتب الدرجات الأخروية وفضائل أهلها باقية غير متناهية ونعمة الدنيا وفضائل أهلها فانية متناهية ، قال الحافظ :
في الجملة اعتماد مكن برثبات دهر
كين كار خانه ايست كه تغيير ميكنند
فعلى العاقل تحصيل الدرجات الأخروية الباقية.
وفي الحديث "أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب" أراد بذوي الألباب العلماء ألا يرى إلى قوله عليه السلام : "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم" وفي رواية "كفضل القمر على سائر الكواكب" وقد قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير قوله تعالى : {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـاتٍ} (المجادلة : 11) يرفع العالم فوق المؤمن بسبعمائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فبهذه الشواهد يتضح أن تفاوت درجات أهل الجنة بحسب تفاوت معارفهم الإلهية وعلومهم الحقيقة كما قال عليه السلام : "إن في الجنة مدينة من نور لم ينظر إليها ملك مقرب ولا نبي مرسل جميع ما فيها من القصور والغرف والأزواج
145
والخدم من النور أعدها الله للعاقلين فإذا ميز الله أهل النار ميز أهل العقل فجعلهم في تلك المدينة فيحزي كل قوم على قدر عقولهم فيتفاوتون في الدرجات كما بين المشارق والمغارب بألف ضعف" وعنه عليه السلام : "إن في الجنة درجة لا ينالها إلا أصحاب الهموم" يعني : في طلب الخير والمعيشة وقال عليه السلام : "إن في الجنة درجة لا ينالها إلا ثلاثة أقسام : عادل وذو رحم واصل وذو عيال صبور" فقال علي رضي الله عنه : ما صبر ذي العيال قال : "لا يمن على أهله ما ينفق عليهم".
ـ روي ـ أن عدة من الناس اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه فخرج الإذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال لسهيل بن عمرو : إنما أبينا من قبلنا فإنهم دعوا ودعينا يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ولئن حسدتموهم على باب عمر فما أعد الله لهم في الجنة أكثر.
وقرىء وأكثر تفضيلاً.
وفي قول بعضهم أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل وعنه عليه السلام : "بين المجاهد والقاعد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة" أي : عدوه وعنه عليه السلام : "تعلموا العلم فالله تعالى يبعث يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ثم سائر الخلق على درجاتهم" كما في "بحر العلوم" وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 145
علم را دور كما نرا يك راست
ناقص آمد ظن به برواز ابتراست
مرغ يك ر زود افتد سرنكون
بازبر رد دوكامى يافزون
افت وخيزان ميرد مرغ كمان
بايكى ر بر اميد آشيان
ون زظن وارست وعلمش رونمود
شد دوبر آن مرغ يك ربر كشود
بعد ازان يمشي سويا مستقيم
نى على وجه مكبا او سقيم
اللهم اجعلنا من أهل اليقين والتمكين.
{لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم والمراد أمته فإن بعضهم قالوا : الأصل في الأوامر هو وفي النواهي امته.
{فَتَقْعُدَ} بالنصب جواباً للنهي والقعود يمعنى الصيرورة وعبارة عن المكث أي : فتمكث في الناس كما تقول لمن سأل عن حال شخص قاعد في أسوأ حال ومعناه ماكث سواء كان قائماً أو جالساً وقد يراد القعود حقيقة لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائراً يتفكر أو عبر بغالب حاله وهو القعود {مَذْمُومًا مَّخْذُولا} خبران أو حالان أي : جامعاً على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين والخذلان من الله تعالى فإن الشريك عاجز عن النصرة.
وفيه إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة وإشارة إلى أن طالب الحق لا يطلب مع الله غيره من الدارين ونعمهما.
(5/111)
{وَقَضَى رَبُّكَ} أي : أمر كل مكلف أمراً مقطوعاً به فضمن قضى معنى أمر وجعل المضمن أصلاً والمضمن فيه قيداً له لأن المقضي يجب وقوعه ولم يقع من بعض المخاطبين التوحيد.
وفي "التأويلات النجمية" : وإنما قال ربك أراد به النبي لأنه مخصوص بالتربية أصالة والأمة تبع له في هذا الشأن وقوله : {وَقَضَى رَبُّكَ} أي : حكم وقدر في الأزل {أَن لا تَعْبُدُوا} أي : بأن لا تعبدوا على أن أن مصدورية ولا نافية {إِلَّا إِيَّاهُ} لأن العبادة غاية التعظيم فلا تحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا} أي : بأن تحسنوا بهما إحساناً لأنهما السبب
146
الظاهري للوجود والتعيش والله تعالى هو السبب الحقيقي فأخبر تعظيم السبب الحقيقي ثم اتبعه بتعظيم السبب الظاهري يعني الله تعالى قرن إحسان الوالدين بتوحيده لمناسبتهما لحضرة الألوهية والربوبية في سببيتهما لوجودك وتربيتهما إياك عاجزاً صغيراً وهما أول مظهر ظهر فيهما آثار صفات الله تعالى من الإيجاد والربوبية والرحمة والرأفة بالنسبة إليك ومع ذلك فهما محتاجان إلى قضاء حقوقهما والله غني عن ذلك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 145
فأهم الواجبات بعد التوحيد إحسانهما وفي الحديث : "بر الوالدين أفضل من الصلاة والصوم والحج والعمرة والجهاد في سبيل الله" ذكره الإمام {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلاهُمَا} (اكر برسد نزديك تو بزرك سالى وكبر سن يكى ازايشان ياهردو ايشان يعني بزنيد تاير شوند ومحتاج خدمت تو كردند) ، قوله : إما مركبة من أن الشرطية وما المزيدة لتأكيدها ولذلك حل الفعل نون التأكيد ومعنى عندك في كنفك وكفالتك وأحدهما فاعل للفعل وتوحيد ضمير الخطاب في عندك وفيما بعده مع أن ما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المراد فإن المقصود نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما ولو قوبل الجمع بالجمع أو بالتثنية لم يحصل هذا المراد ، قال في ي"الأسئلة المقحمة" : إن قلت كيف خص الله حال الكبر بالإحسان إلى الوالدين وهو واجب في حقهما على العموم والجواب أن هذا وقت الحاجة في الغالب وعند عدم الحاجة إجابتهما ندب وفي حالة الحاجة فرض انتهى {فَلا تَقُل لَّهُمَآ} أي : لواحد منهما حالتي الانفراد والاجتماع {أُفٍّ} هو صوت يدل على تضجر واسم للفعل الذي هو الضجر وقرىء بحركات الفاء فالتنوين على قصد التنكير كصه ومه وايه وغاق وتركه على قصد التعريف والكسر على أصل البناء إن بني على الكسر لالتقاء الساكنين وهما الفاآن والفتح على التخفيف والضم للاتباع كمنذ وهو بالشاذ.
والمعنى لا تتضجر بما تستقذر منهما وتستثقل من مؤونتهما وهو عام لكل أذى لكن خص بعضه بالذكر اعتناء بشأنه فقيل : {وَلا تَنْهَرْهُمَا} أي : لا تزجرهما بإغلاظ إذا كرهت منهما شيئاً {وَقُل لَّهُمَا} بدل التأفيف {قَوْلا كَرِيمًا} ذا كرم وهو القول الجميل الذي يقتضيه حسن الأدب ويستدعيه النزول على المروءة مثل أن تقول : يا أبتاه ويا أماه كدأب إبراهيم عليه السلام إذ قال لأبيه : يا أبت مع ما به من الكفر ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب وديدن الدعاء إلا أن يكون في غير وجههما كما قالوا ولا يرفع صوته فوق صوتهما ولا يجهر لهما بالكلام بل يكلمهما بالهمس والخضوع إلا لضرورة الصمم والإفهام ولا يسب والدي رجل فيسب ذلك الرجل والديه ولا ينظر إليهما بالغضب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 145
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} جناح الذل استعارة بالكناية جعل الذل والتواضع بمنزلة طائر فأثبت له الجناح تخييلاً أي : تواضع لهما ولين جانبك وذلك أن الطائر إذا قصد أن ينحط خفض جناحه وكسره وإذا قصد أن يطير رفعه فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلاً في التواضع ولين الجانب.
قال القاضي وأمره بخفضه مبالغة في إيجاب الذل وترشيحاً للاستعارة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كن مع الوالدين كالعبد المذنب الذليل الضعيف للسيد الفظ الغليظ أي : في التواضع والتملق {مِنَ الرَّحْمَةِ} من ابتدائية أو تعليلية أي : من فرط رحمتك عليهما
147
لافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما قالوا : ينظر إليهما بنظر المحبة والشفقة والترحم وفي الحديث "ما من ولد ينظر إلى الوالد وإلى والدته نظر مرحمة إلا كان له بها حجة وعمرة" قيل : وإن نظر في اليوم ألف مرة قال : "وإن نظر في اليوم مائة ألف" كما في "خالصة الحقائق" ويقبل رجل أمه تواضعاً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 147
(5/112)
ـ حكي ـ أن رجلاً جاء إلى الأستاذ أبي إسحق فقال : رأيت البارحة في المنام أن لحيتك مرصعة بالجواهر واليواقيت فقال : صدقت فإني البارحة مسحت لحيتي تحت قدم والدتي قبل أن نمت فهذا من ذاك ويباشر خدمتهما بيده ولا يفوضها إلى غيره لأنه ليس بعار للرجل أن يخدم معلمه وأبويه وسلطانه وضيفه ولا يؤمه للصلاة وإن كان أفقه منه أي : أعلم بالفقه من الأدب ولا يمشي أمامهما إلا أن يكون لإماطة الأذى عن الطريق ولا يتصدر عليهما في المجلس ولا يسبق عليهما في شيء أي : في الأكل والشرب والجلوس والكلام وغير ذلك.
قال الفقهاء : لا يذهب بأبيه إلى البيعة وإذا بعث إليه منها ليحمله فعل ولا يناوله الخمر ويأخذ الإناء منه إذا شربها.
وعن أبي يوسف إذا أمره أن يوقد تحت قدره وفيها لحم الخنزير أوقد كما في "بحر العلوم" ولا ينسب إلى غير والديه استنكافاً منهما فإنه يستوجب اللعنة قال عليه السلام : "فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً" أي : نافلة وفريضة كما في "الأسرار المحمدية".
قال في "القاموس" : الصرف في الحديث التوبة والغدل الفدية أو هو النافلة والعدل الفريضة أو بالعكس أو هو الوزن والعدل الكيل أو هو الاكتساب والعدل الفدية {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا} وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية ولا تكتف برحمتك الفانية وإن كانا كافرين لأن من الرحمة أن يهديهما إلى الإسلام.
قال الكاشفي : (حقيقت دعا رحمت ازولد درحق والدين آنست كه اكر مؤمن اند ايشانرا ببهشت رسان واكر كافراند راه نماى باسلام وايمان).
قال ابن عباس : ما زال إبراهيم عليه السلام يستغفر لأبيه حتى مات فلما تبين له أنه عدوتبرأ منه يعني ترك الدعاء ولم يستغفر له بعدما مات على الكفر كذا في "تفسير أبي الليث" وفي الحديث : "إذا ترك العبد الدعاء للوالدين ينقطع عنه الرزق في الدنيا" سئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت فقال : كل ذلك واصل إليه ولا شيء أنفع له من الاستغفار ولو كان شيء أفضل منه لأمرت به في الأبوين ويعضده قوله عليه السلام : "إن الله ليرفع درجة العبد في الجنة فيقول : يا رب أنى لي هذا؟ فيقول : باستغفار ولدك" وفي الحديث : "من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة كان باراً" قال الشيخ سعدي قدس سره :
سالها بر تو بكذردكه كذر
نكنى سوى تربت درت
تو بجاى دره كردى خير
تاهمان شم دارى ازسرت
{كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} الكاف في محل النصب على أنه نعت مصدر محذوف أي : رحمة مثل رحمتهما عليّ وتربيتهما وإرشادهما لي في حال صغري وفاء بوعدك للراحمين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 147
ـ روي ـ أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إن أبوي بلغا من الكبر أني ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما؟ قال : "لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك
148
وأنت تريد موتهما".
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ} بما في ضمائركم من قصد البر والتقوى وكأنه تهديد على أن يضمر لهما كراهة واستثقالاً {إِن تَكُونُوا صَـالِحِينَ} قاصدين الصلاح والبر دون العقوق والفساد {فَإِنَّهُ} تعالى {كَانَ لِلاوَّابِينَ} أي : الرجاعين إليه تعالى مهما فرط منهم مما لا يكاد يخلو عنه البشر {غَفُورًا} لما وقع منهم من نوع تقصير أو أذية فعلية أو قولية.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : أكثر العلماء على أن طاعة الوالدين واجبة في الشبهات ولم تجب في الحرام المحض لأن ترك الشبهة ورع ورضى الوالدين حتم أي : واجب.
قيل : إذا تعذر مراعاة حق الوالدين جميعاً بأن يتأذى أحدهما بمراعاة الآخر يرجح حق الأب فيما يرجع إلى التعظيم والاحترام لأن النسب منه ويرجع حق الأم فيما يرجع إلى الخدمة والإنعام حتى لو دخلا عليه يقوم للأب ولو سألا منه شيئاً يبدأ في الإعطاء بالأم كما في "منبع الآداب".
قال الفقهاء تقدم الأم على الأب في النفقة إذا لم يكن عند الولد إلا كفاية أحدهما لكثرة تعبها عليه وشفقتها وخدمتها ومعاناة المشاق في حمله ثم وضعه ثم إرضاعه ثم تربيته وخدمته ومعالجة أوساخه وتمريضه وغير ذلك كما في "فتح القريب" :
جنت سراى ما درانست
زير قد مات ما درانست
روزى بكن اي خداى مارا
يزى كه رضاي ما درانست
(5/113)
ـ وشكا ـ رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به فإذا شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال : إنه كان ضعيفاً وأنا قوي وفقيراً وأنا غني فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي واليوم أنا ضعيف وهو قوي وأنا فقير وهو غني ويبخل عليّ بماله فبكى عليه السلام فقال : "ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى" ثم قال للولد "أنت ومالك لأبيك" وفي الحديث : "رغم أنفه" فقيل : من يا رسول الله؟ قال : "من أدرك والداه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة" يعني بسبب برهما وإحسانهما : وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "لولا أني أخاف تغير الأحوال عليكم بعدي لأمرتكم أن تشهدوا لأربعة أصناف بالجنة : أولهما امرأة وهبت صداقها من زوجها لأجل الله تعالى وزوجها راضضٍ ، والثاني : ذو عيال كثير يجهد في المعيشة لأجلهم حتى يطعمهم الحلال ، والثالث التائب على أن لا يعود إليه أبداً كاللبن لا يعود إلى الثدي ، والرابع البار بوالديه" ويجب على الأبوين أن لا يحملا الولد على العقوق بسوء المعاملة والجفاء ويعيناه على البر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 147
ـ وحكي ـ عن بعض العرفاء أنه قال : إن لي ابناً منذ ثلاثين سنة ما أمرته بأمر مخافة أن يعصيني فيحق عليه العذاب.
يقول الفقير : فسد الزمان وتغير الإخوان ولنبككِ على أنفسنا من سوء الأخلاق وقد كانت الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وهم هم يبكون دماً من أخلاق النفس فما لنا لا نبكي ونحن منغمسون في بحر الخطايا والذنوب متورطون في بئر القبائح والعيوب لا إنصاف لنا في حق أنفسنا ولا في حق الغير ونعم ما قال الحافظ حكاية لهذا التغير الناشيء من النفس الأمارة بالسوء :
هي رحمى نه برادر به برادر دارد
هي شوقى نه دررا به سر مى بينم
دخترانرا همه جنكست وجدل بامادر
سرانرا همه بدخواه در مى بينم
149
جاهلان راهمه شربت زكلابست وعسل
قوت داناهمه از قوت جكر مى بينم
اسب تازى شده مجروح بزير الان
طوق زرين همه بركردن خر مى بينم
جزء : 5 رقم الصفحة : 147
{وَءَاتِ} يا أفضل المخلوق ويدخل فيه كل واحد من أمته {ذَا الْقُرْبَى} أي : القرابة وهم المحارم مطلقاً عند أبي حنيفة رحمه الله سواء كانت قرابتهم ولادية كالولد والوالدين أو غير ولادية كالاخوة والأخوات {حَقَّهُ} وهي النفقة أي : إذا كانوا فقراء.
اعلم أنه لا يجب على الفقير إلا نفقة أولاده الصغار الفقراء ونفقة زوجته غنية أو فقيرة مسلمة أو كافرة وأما الغني وهو صاحب النصاب الفاضل عن الحوائج الأصلية ذكراً كان أو أنثى فيجب عليه نفقة الأبوين ومن في حكمهما من الأجداد والجدات إذا كانوا فقراء سواء كانوا مسلمين أو كافرين وهذا إذا كانوا ذمة فإن كانوا حرباً لا يجب وإن كانوا مستأمنين.
ويجب نفقة كل ذي رحم محرم مما سوى الوالدين إن كان فقيراً صغيراً أو أنثى أو زمناً أو أعمى ولا يحسن الكسب لخرقه فإن كان قادراً عليه لا يجب اتفاقاً أو لكونه من الشرفاء والعظماء.
وتجب نفقة الأبوين مع القدرة على الكسب ترجيحاً لهما على سائر المحارم وطالب العلم إذا لم يقدر على الكسب لا تسقط نفقته على الأب كالزمن فإن نفقة البنت بالغة والابن زمناً بالغاً على الأب وإذا كان للفقير أب غني وابن غني فالنفقة على الأبوين ولا نفقة مع اختلاف الدين إلا بالزوجية كما سبق والولاد فنفقة الأصول الفقراء مسلمين أو لا على الفروع الأغنياء ونفقة الفروع الفقراء مسلمين أو لا على الأصول الأغنياء فلا تجب على النصراني نفقة أخيه المسلم ولا على المسلم نفقة أخيه النصراني لعدم الولاء بينهما ويعتبر في نفقة قرابة الولاد أصولاً وفروعاً الأقرب فالأقرب وفي نفقة ذي الرحم يعتبر كونه أهلاً للإرث ولا يجب النفقة لرحم ليس بمحرم اتفاقاً كأبناء العم بل حقهم صلتهم بالمودة والزيارة وحسن المعاشرة والموافقة والتفصيل في باب النفقة في الفروع فارجع إليه وفي الحديث : "البر والصلة يطيلان الأعمار ويعمران الديار ويكثران الأموال" وإن كان القوم فجاراً وإن البر والصلة ليخففان الحساب يوم القيامة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 150
(5/114)
وفي الآية إشارة إلى النفس فإنها من ذوي قربى القلب ولها حق كما قال عليه الصلاة والسلام : "إن لنفسك عليك حقاً" المعنى لا تبالغ في رياضة النفس وجهادها لئلا تسأم وتمل وتضعف عن حمل أعباء الشريعة وحقها رعايتها عن السرف في المأكول والملبوس والاثاث والمسكن وحفظها عن طرفي الإفراط والتفريط كما في "التأويلات النجمية" {وَالْمَسَـاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} أي : وآتهما حقهما مما كان مفترضاً بمكة بمنزلة الزكاة.
المسكين من لا شيء له والفقير من له شيء دون نصاب وقيل بالعكس.
وابن السبيل أي : الملازم لها هو من له مال لا معه وهو المسافر المنقطع عن ماله {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} بصرف المال إلى من سواهم ممن لا يستحقه فإن التبذير تفريق في غير موضعه وأما الإسراف الذي هو تجاوز الحد في صرفه فقد نهى عنه بقوله : {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} سعدي :
نه هركس سراوار باشد بمال
يكى مال خواهد يكى ك شمال
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَـاطِينِ} أي : أعوانهم في إهلاك أنفسهم ونظراءهم في كفران النعمة والعصيان كما قال {وَكَانَ الشَّيْطَـانُ لِرَبِّه كَفُورًا} مبالغاً في الكفر به لا يشكر نعمه بامتثال
150
أوامره ونواهيه وكان قريش ينحرون الإبل ويبذرون أموالهم في السمعة وسائر ما لا خير فيه من المناهي والملاهي (مجاهد فرموده كه اكر برابركوه زردر وجوه خير صرف كنند اسراف نباشدا كر جوى ياحبه در باطل خرج نمايند اسراف باشد) وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير ، سعدي :
كنون بركف دست نه هره هست
كه فردا بدندان كزى شت دست
{وَأَمَّآ} (واكر) {تُعْرِضَنَّ} (اعراض كنى) {عَنْهُمْ} أي : إن اعتراك أمر اضطرك إلى أن تعرض عن أولئك المستحقين من ذوي القربى وغيرهم {ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ} أي : لفقد رزق من ربك إقامة للمسبب مقام السبب فإن الفقد سبب للابتغاء {تَرْجُوهَا} من الله تعالى لتعطيهم والجملة صفة رحمة وكان عليه السلام إذا سئل شيئاً وليس عنده سكت حياء وأمر بالقول الجميل لئلا يعتريهم الوحشة بسكوته فقيل : {فَقُل لَّهُمْ قَوْلا مَّيْسُورًا} سهلاً ليناً وعدهم بوعد فيه يسر وراحة لهم وقيل القول الميسور الدعاء لهم بالميسور أي : اليسر فهو مصدر على مفعول أي : قل لهم أغناكم الله من فضله رزقنا الله وإياكم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 150
ـ روي ـ أن عيسى عليه السلام قال : من ردَّ سائلاً خائباً عن بابه لم تعبر الملائكة بيته سبعة أيام ومن مات فقيراً راضياً من الله بفقره لا يدخل الجنة أحد أغنى منه كذا في "الخالصة".
{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} (يدبسته بركردن خود واين كنايتست ازامساك) {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (ومكشاى دست خودرا همه كشادن يعني اسراف مكن).
قال أهل التفسير : هما تمثيلان لمنع الشحيح وإعطاء المسرف زجراً لهما عنهما وحملا على ما بينهما من الاقتصاد الذي هو بين التقتير والإسراف وهو الكرم والجود ، والمعنى ولا تمسك يدك عن النفقة في الحق كل الإمساك بحيث لا تقدر على مدها كمن يده مغلولة إلى عنقه فلا يقدر على إعطاء شيء ولا تجد كل الجود فتعطي جميع ما عندك ولا يبقى شيء منه كمن يبسط كفه كل البسط فلا يبقى شيء فيها {فَتَقْعُدَ} جواب للنهيين أي : فتصير {مَلُومًا} عند الله وعند الناس في الدارين وهو راجع لقوله : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ} {مَّحْسُورًا} نادماً أو منقطعاً بك لا شيء عندك وهو راجع إلى قوله : {وَلا تَبْسُطْهَا} :
مبند ازسر امساك دست در كردن
كه خصلتيست نكوهيده يش اهل بها
مكن بجانب إسراف نيز ندان ميل
كه هره هست بيكدم كنى زدست رها
ودر ميانه اين هر دوراه ندانى
تفاوتست كه از آفتاب تابسها
س اختيار وسط راست در جميع امور
بدان دليل كه خير الأمور أوسطها
وفي "الكواشي" : الصحيح أن هذا خطاب للنبي والمراد غيره لأنه أفسح الناس صدراً وكان لا يدخر شيئاً لغد انتهى وسيأتي تحقيق المقام.
قال الكاشفي : (در اسباب نزول آمده كه مسلمه بايهوديه كرو بستند ومضمون رهن آنكه حضرت رسالت ناه عليه السلام از موسى كليم عليه السلام سخى ترست وسخاوت موسى آن بودكه سائل را رد نميكرد بيزيكه ازوفاضل بوده يابسخن خوش اورا خوشنود ميساخت القصه ازجهت ازمايش شخصى دختر خودرا بجانب نبوتآب فرستاد دخترك آمد وكفت كه يا رسول الله ما در من از شمايراهن ميطلبد حضرت فرمود زمان تازمان برسد توساعتى ديكر بازا ئى دخترك بعد از زمانى باز آدكه مادر من آن يراهنى ميطلبدكه دربر
151
(5/115)
شماست حضرت بحجره درآمد ويراهن بيرون كرده بوى داد وخود برهنه بنشست بلال قامت صلاة كشيد وياران منتظر خروج آن حضرت بودند وآن حضرت بسبب برهنكى بيرون نمى آمد آيت آمدكه ولا تجعل الخ).
قال في "برهان القرآن" : فدخل وقت الصلاة ولم يخرج للصلاة حياء فدخل عليه أصحابه فرأوه على تلك الصفة فلاموه على ذلك فأنزل الله {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} مكشوفاً هذا هو الأظهر من تفسيره انتهى.
يقول الفقير : وذلك لأن أصحابه لاموه فصار ملوماً وبقي عرياناً فصار محسوراً أي : مكشوفاً لأن الحسر الكشف فعلى هذا كان الأنسب أن يراد القعود حقيقة ولم يرض في الإرشاد بهذه الرواية بناء على أن السورة مكية والقصة مدنية والعلم عند الله تعالى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 150
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} يوسعه على بعض ويضيقه على بعض آخرين بمشيئته التابعة للحكمة وبالفارسية (بدرستى كه روردكار توكشاده مى كرداند روزى را براى هركه خواهد وتنك مى سازد براى هركه ارادت واقتضاكند واين بسط وقبض ازمحض حكمت است وكس زهره اعتراض ندارد).
وفي "التأويلات النجمية" : يشير به إلى الخروج عن أوطان البشرية والطبيعية الإنسانية إلى قضاء العبودية بقدمي التوكل على الله وتفويض الأمور إليه فإن كان يبسط للنفس في بعض الأوقات ببعض المرادات ليفرش لها بساط البسط ويقدر عليها في بعض الأوقات متمناها ليضبط أحوالها بمجامع القبض فالأمور موكولة إلى حكمه البالغة وأحكامه الأزلية {إِنَّه كَانَ بِعِبَادِه خَبِيرَا بَصِيرًا} أي : يعلم سرهم وعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم قال الله تعالى : "وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغنى لو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر لو أغنيته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الصحة لو أسقمته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السقم لو أصححته لأفسده ذلك إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير" رواه أنس رضي الله عنه كما في "بحر العلوم" فيغني الله ويفقر ويبسط ويقبض ولو أغناهم جميعاً لطغوا ولو أفقرهم لنسوا فهلكوا وفي الحديث : "بادروا بالأعمال خمساً : غنى مطغياً وفقراً منسياً وهرماً مفنداً ومرضاً مفسداً وموتاً مجهزاً" فإذا كان الغنى لبعض مطغياً صرفه الله تعالى عمن علم ذلك منه وأفقره لأن الفقر علم منه أنه لا ينسيه بل يشغل لسانه بذكره وحمده وقلبه بالتوكل عليه والالتجاء إليه وإذا كان الفقر لبعضهم منسياً صرفه عمن علم ذلك منه ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 152
فقر ازين رو فخر آمد جاودان
كه بتقوى ماند دست نارسان
زان غنا وزان غنى مردود شد
از بلاى نفس ر حرص وغمان
فعلى العاقل التسليم لأمر الله تعالى والرضى بقضائه والصبر في موارد القبض والشكر في مواقع البسط والإنفاق مهما أمكن.
قال في "الأسرار المحمدية" : كان أويس القرني رحمه الله إذا أصبح أو أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والثياب ثم يقول : اللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذني به ومن مات عرياناً فلا تؤاخذني به.
وكان الحلاج رحمه الله يقول مخبراً عن حاله : إذا قعد الرجل عشرين يوماً جائعاً ثم فتح له طعام فعرف أن في البلد من هو أحوج إلى ذلك منه فأكله ولم يؤثر به ذلك المحتاج فقد سقط عن رتبته وهذا مقام عال بالنسبة إلى حال أويس ظاهراً
152
ولكن قال الشيخ الكامل محمد بن علي العربي قدس سره : اعلم أن قول أويس ينبه على مقامه الأعلى وقطبيته المثلى لأن ذلك القول معرب عن حال إمام الوقت فيعطي ما ملك ويتضرع هذا التضرع لمن استخلفه على عبيده بالرحمة لهم والشفقة عليهم والمكمل من سبقت رحمته غضبه كما أخبر الله سبحانه عن أكمل الخلفاء وسيد الأقطاب بقوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107) ولكن العارف إذا كان صاحب حال مثل الحلاج فرق بين نفسه ونفس غيره فعامل نفسه بالشدة والقهر والعذاب ونفس غيره بالإيثار والرحمة والشفقة.
(5/116)
وأما إذا كان صاحب مقام وتمكين وقوة بأن عرف الفرق بين الحال والمقام صارت نفسه عنه أجنبية وارتفع هو علوياً وبقيت مع أبناء جنسها سفلية فلزمه العطف عليها كما لزمه العطف على غيرها لأن أدب العارف من ذي الولاية أنه إذا خرج بصدقة ولقي أول مسكين يليق لدفع الصدقة إليه يدفعها إليه البتة فإذا تركه إلى مسكين آخر ولم يدفع للأول فقد انتقل من ربه إلى هوى نفسه فإنها مثل الرسالة لا يخص بالدعوة شخصاً دون شخص فأول من يلقاه يقوله قل لا إله إلا الله فالولي الكامل خليفة الرسول فإذا وهب الباري للولي رزقاً يعلم أنه مرسل به إلى عالم النفوس الحيوانية فينزل من سماء عقله إلى أرض النفوس ليؤدي إليهم ذلك القدر الذي وجه به فأول نفس تستقبله نفسه لا نفس غيره لأن نفوس الغير ليست متعلقة به فلا تعرفه.
وأما نفسه فمتعلقة به ملازمة بابه فلا يفتحه إلا عليها فتطلب أمانتها فيقدمها على غيرها بالإعطاء لأنها أول سائل وإلى هذا السر أشار الشارع صلى الله عليه وسلّم بقوله : "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" والأقربون أولى بالمعروف لتعلقهم بك ولزومهم بابك ولا تعلق للغير بك ولا له ملازمة نفسك وأهلك فلما تأخروا أخروا كسائر أسرار الله تعالى متى خرج من عند الحق على باب الرحمة فأي قلب وجد سائلاً متعرضاً دفع إليه حظه من الأسرار والحكم على قدر ما يراقبه من التعطش والجوع والذلة والافتقار وهم خاصة الله وعلى هذا المقام حرض الشارع بقوله : "تعرضوا لنفحات الله سبحانه" وهذا سر الحديث ومراد الشرع فمن تأخر أخر ومن نسي نسي فانظر الآن كم بين المنزلتين والمقامين ثم انظر أيضاً إلى هذا المقام على علوه وسموه كيف اشترك في الظاهر مع أحوال العامة فإنهم أول ما يجودون فعلى نفوسهم ثم إلى غيرها وإنما تصرفهم تحت حكم هذه الحقيقة وهم لا يشعرون وبعماهم عن هذه الأسرار ونزولهم إلى حضيض البهائم بحيث لا يعرفون مواقع أسرار العالم مع الله حرصوا على الإيثار ومدحوا به وهو مقام الحلاج الذي ذكر عنه وظننت أنه غاية في الترقي والعلو وهكذا فلتعزل الحقائق وتحاك حلل الدقائق أهـ.
كلام الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر والمسك الأذفر قدس سره الأطهر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 152
{وَلا تَقْتُلُوا} يا معشر العرب {أَوْلَـادُكُم} (فرزندان شما) {خَشْيَةَ إِمْلَـاقٍ} مخافة الفقر ولا لغير مخافته إلا أن الحال اقتضت ذلك يقال أملق : افتقر وقتلهم أولادهم وأدهم بناتهم مخافة الفقر أي : دفنها حية فنهاهم الله تعالى عنه وضمن لهم أرزاقهم فقال : {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} لا غيرنا (س غم روزى ايشان مخوريدكه هركرا اوجان دهد نان دهد) ، سعدي :
خداوند كارى كه عبدى خريد
بدارد فكيف آنكه عبد آفريد
153
ترانيست اين تكيه بر كردكار
كه مملوك را بر خداوند كار
قال هرم لاويس القرني رحمه الله : أين تأمرني أن أكون فأومأ إلى الشام فقال الهرم : كيف المعيشة بها قال أويس : أف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها العظة {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْـاًا كَبِيرًا} ذنباً عظيماً لما فيه من هدم بنيان الله وقطع النسل.
والخطىء كالإثم وزناً ومعنى من خطىء وقرىء خطا بفتحتين بالقصر والمد.
اعلم أن من أول هذه الآية إلى قوله تعالى : {مَلُومًا مَّدْحُورًا} عشر آيات وهو إشارة إلى تبديل عشر خصال مذمومة بعشر خصال محمودة.
أما المذمومات فأولها البخل ، وثانيها الأمل وهما في قوله تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـاقٍ} فإن البخل وطول الأمل حملهم على قتل أولادهم فدلهم على تبديلهما بالسخاء والتوكل بقوله : {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} .
ـ يحكى ـ أن يحيى بن زكريا عليهما السلام لقي إبليس في صورته فقال له : يا إبليس أخبرني بأحب الناس إليك وأبغض الناس إليك فقال : أحب الناس إلي المؤمن البخيل وأبغضهم إلي الفاسق السخي قال يحيى : وكيف ذلك؟ قال : لأن البخيل قد كفاني بخله والفاسق السخي أتخوف أن يطلع الله عليه في سخاه فيقبله ثم ولى وهو يقول : لولا أنك يحيى لم أخبرك.
قالوا : ولا ينبغي أن يلجىء أهل بيته على الزهد بل يدعوهم إليه فإن أجابوا وإلا تركهم ووسع عليهم في دنياهم من غير خروج عن حد الاعتدال وفعل بنفسه ما شاء.
{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَىا} بالقصر وإتيان المقدمات من القبلة والغمزة والنظر الشهوة فضلاً عن أن تباشروه.
وقرىء بالمد لغتان أو مصدر زانى زناء كقاتل قتالاً كما في "الكواشي" {أَنَّهُ} أي : الزنى {كَانَ فَاحِشَةً} فعلة ظاهرة القبح متجاوزة الحد وهو كالقتل فإن فيه تضييع الأنساب فإن من لم يثبت نسبه ميت حكماً {وَسَآءَ سَبِيلا} أي : بئس طريق الزنى لأنه يجر صاحبه إلى النار وهو طريق أيضاً إلى قطع الأنساب وتهيج الفتن وفي الحديث : "إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإذا انقطع رجع إلى الإيمان".
جزء : 5 رقم الصفحة : 152
(5/117)
ـ وروي ـ عن بعض الصحابة رضي الله عنه أنه قال : "إياكم والزنى فإن فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة.
فأما التي في الدنيا فنقصان الرزق يعني : تذهب البركة من الرزق ويصير محروماً من الخير ونقصان العمر والبغض في قلوب الناس فإنه يذهب بالبهاء.
وأما الثلاث التي في الآخرة فغضب الرب وشدة الحساب والدخول في النار" وفي الخبر : "العينان تزنيان واليدان تزنيان" ، وفي "المثنوي" :
مرغ زان دانه نظر خوش ميكند
دانه هم از دور راهش مى زند
اين نظر ازدور ون تيرست وسم
عشقت افزون مى شود صبرتوكم
واعلم أن غلبة الشهوة.
تورث الزنى فالشهوة هي الثالثة من العشر المذمومة فتبدلها الله تعالى بالعفة حين نهاهم عن الزنية.
ـ حكي ـ أنه كان بالبصرة رجل معروف بالمسكي لأنه كان يفوح منه رائحة المسك فسئل عنه فقال : كنت من أحسن الناس وجهاً وكان لي حياء فقيل لأبي : لو أجلسته في السوق لانبسط مع الناس فأجلسني في حانوت بزاز فجاءت عجوز فطلبت متاعاً فأخرجت لها ما طلبت فقالت : لو توجهت معي لثمنه فمضيت معها حتى أدخلتني في قصر عظيم
154
فيه قبة عظيمة عليها سرير فإذا فيه جارية على فرش مذهبة فجذبتني إلى صدرها فقلت : الله فقالت : لا بأس فقلت : إني حاقب ودخلت الخلاء وتغوطت ومسحت به وجهي وبدني فقيل : إنه مجنون فخلصت ورأيت الليلة رجلاً قال لي : أين أنت من يوسف بن يعقوب ثم قال : أتعرفني قلت : لا قال : أنا جبريل ثم مسح يده على وجهي وبدني فمن ذلك الوقت يفوح المسك علي من رائحة جبريل عليه السلام وذلك ببركة العفة والتقوى.
ولقي إبليس موسى عليه السلام فقال : يا موسى اذكرني حين تغضب فإن وجهي في قلبك وعيني في عينك وأجري منك مجرى الدم واذكرني حين تلقي الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف فاذكره ولده وزوجته وأهله حتى يولي وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم فإني رسولها إليك ورسولك إليها كما في "آكام المرجان".
جزء : 5 رقم الصفحة : 152
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ} قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فدخل فيه الذمي والمعاهد.
{إِلا بِالْحَقِّ} استثناء مفرغ أي : لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق أي : بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان وزنى بعد إحصان وقتل نفس معصومة عمداً {وَمِنْ} (هركه) {قُتِلَ مَظْلُومًا} غير مرتكب واحدة من هذه الثلاث {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} لمن يلي أمره بعد وفاته من الوارث أو السلطان عند عدمه إذ هو ولي من لا ولي له {سُلْطَـانًا} تسلطاً واستيلاء على القاتل إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية {فَلا يُسْرِف} أي : الولي {فِّى الْقَتْلِ} أي : في أمر القتل بأن يجاوز الحد المشروع بأن يزيد عليه المثلة أو بأن يقتل غير القاتل من أقاربه وكانوا يقتلون غير القاتل إذا لم يكن القتل بواء أي سواء يقال فلان بواء لدم فلان أي سواء.
قال الكاشفي : (درجاهليت ون كسى كشته شدى وارث قاتل اورا نكشتى بلكه قصد مهتر قبيله قاتل كردى) أو بأن يقتل الاثنين مكان الواحد كعادة الجاهلية كان إذا قتل منهم شريف لا يرضون بالقاتل بل بأن يقتلوا معه جماعة من أقاربه أو بأن يقتل القاتل في مادة الدية {أَنَّهُ} أي : الولي {كَانَ مَنصُورًا} ينصره الشرع والسلطان يعني أن الله ينصره بأن أوجب له القصاص والدية وأمر الحكام بإعانته في الاستيفاء أو الهاء للمقتول ونصره قتل قاتله وحصول الأجل له.
فإن قلت : ما توبة القاتل عمداً؟ قلت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "توبة القاتل عمداً في ثلاث إما أن يقتل وإما أن يعفى عنه وإما أن يؤخذ منه الدية أي : هذه الخصال فعل به فهي توبته" رواه أنس رضي الله عنه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 152
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} فضلاً عن أن تتصرفوا فيه {إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} إلا بالخصلة والطريقة التي هي أحسن الخصال والطرائق وهي حفظه واستثماره.
يعني : (معامله كنيدكه اصل مايه براى وى بما ندو ربح او بوصله معاش او نشيند) {حَتَّى} غاية لجواز التصرف على الوجه الأحسن المدلول عليه بالاستثناء.
{يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قوته وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين واحد جاء على بناء الجمع كآنك ولا نظير لهما كما في "القاموس".
وقال في "بحر العلوم" : بلوغ الأشد بالإدراك وقيل إن يؤنس منه الرشد مع أن يكون بالغاً وآخره ثلاث وثلاثون سنة انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 155
{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} سواء جرى بينكم وبين ربكم أو بينكم وبين غيركم من الناس والإيفاء بالعهد والوفاء به هو القيام بمقتضاه بالمحافظة عليه ولا يكاد يستعمل إلا بالباء فرقاً بينه وبين الإيفاء
155
(5/118)
الحسي كإيفاء الكيل والوزن {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْـاُولا} مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به فمسئولا من سألته الشيء أو كان مسئولا عنه على أن يكون من سألته عن الشيء فيكون من باب الحذف والإيصال فإن جعل الضمير بعد انقلابه مرفوعاً مستكناً في اسم المفعول كقوله تعالى : {وَذَالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} (هود : 103) أي : مشهود فيه.
وفي "الكواشي" أو يسأل حقيقة توبيخاً لناكثيه كسؤال الموءودة لم قتلت توبيخاً لقاتلها فيكون تمثيلاً أي : جعل العهد متمثلاً على هيئة من يتوجه السؤال إليه كما تجعل الحسنات أجساماً نورانية والسيآت أجساماً ظلمانية فتوزن كما في "حواش" سعدي المفتي {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} أي : أتموه ولا تخسروه {إِذَا كِلْتُمْ} وقت كيلكم للمشترين وتقييد الأمر بذلك لأن التطفيف هناك وأما وقت الاكتيال على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعديل قال تعالى : {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} (المطففين : 2) {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ} وهو القرسطون أي : القبان وهو معرب كبان بمعنى الميزان العظيم أو هو كل ما يوزن به من موازين العدل صغيراً كان أو كبيراً.
قال بعضهم : هو معرب رومي ولا يقدح ذلك في عربية القرآن لانتظام المعربات في سلك الكلم العربية.
وقال في "بحر العلوم" : والجمهور على أنه عربي مأخوذ من القسط وهو العدل وهو الأصح فإن كان من القسط وجعلت العين مكررة فوزنه فعلاس وإلا فهو رباعي على وزن فعلال {الْمُسْتَقِيمَ} أي : العدل السوي ولعل الاكتفاء باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن لما أنه عند استقامته لا يتصور الجور غالباً بخلاف الكيل فإن كثيراً ما يقع التطفيف مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاء بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءه لا يتصور بدون تعديل المكيال وقد أمر بتقويمه أيضاً في قوله تعالى : {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} {ذَالِكَ} أي : إيفاء الكيل والوزن السوي {خَيْرٌ} لكم في الدنيا إذ هو أمانة توجب الرغبة في معاملته والذكر الجميل {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} عاقبة تفعيل من آل إذا رجع والمراد ما يؤول إليه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 155
إعلم أن رابع الخصال العشر المذمومة الغضب وهي في قوله تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} فإن استيلاء الغضب يورث القتل بغير الحق فبدله بالحلم في قوله : {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا} وفي الحديث : "قرب الخلائق من عرش الرحمن يوم القيامة المؤمن الذي قتل مظلوماً رأسه عن يمينه وقاتله عن شماله وأوداجه تشخب دماً فيقول : رب سل هذا لِمَ قتلني فبم حال بيني وبين صلواتي فيقول الله تعست ويذهب به إلى النار".
قال أنوشروان : أربع قبائح وهي في أربعة أقبح البخل في الملوك والكذب في القضاة والحدة في العلماء أي : شدة الغضب والوقاحة في النساء وهي قلة الحياء قيل الحلم حجاب الآفات.
وخامسها : الإسراف فإن الإفراط في كل شيء يورث الإسراف فبدله بالقوام في قوله : {فَلا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِا إِنَّه كَانَ مَنصُورًا} وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : مر رسول الله بسعد وهو يتوضأ فقال : "ما هذا السرف يا سعد" قال : أفي الوضوء سرف؟ قال : "نعم وإن كنت على نهر جار".
وسادسها : الحرص وهو في قوله : {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} فإن التصرف في مال اليتيم من الحرص فبدله بالقناعة في قوله : {إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} قيل لحكيم : ما بال الشيخ أحرص على الدنيا من الشاب؟ قال : لأنه ذاق من طعم الدنيا ما لم يذقه الشاب ، قال الصائب :
ريشه نخل كهن سال ازجوان افزونترست
بيشتر دلبستكى باشد بدنيا ير را
156
وعن الثوري رحمه الله : من باع الحرص بالقناعة فقد ظدر بالغنى.
وسابعها : نقض العهد فبدله بالوفاء به بقوله : {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِا إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْـاُولا} (سلمى رورده كه خدا يرا عهد هست بر جوارح آدمي بملازمت آداب وبرنفس او باداء فرائض وبردل او بخوف وخشيت وبرجان او بآنكه از مقام قرب دور نشود وبر سر او بآنكه مشاهده ما سوى نكند وازهر عهدي خواهند رسيد) :
تاكسى از عهده آن عهد ون آيد برون†
ولا شك أن إخوان الزمان ليس وفاء لا بحقوق الله تعالى ولا بحقوق الناس ، حافظ :
وفا مجوى زكس ورسخن نمى شنوى
بهره ز طالب سيمرغ وكيميا ميباش
جزء : 5 رقم الصفحة : 155
(5/119)
وثامنها : الخيانة فبدلها بالأمانة بقوله : {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} الآية.
واحتضر رجل فإذا هو يقول : جبلين من نار جبلين من نار فسئل أهله عن عمله فقالوا : كان له مكيالان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أتى رسول الله التجار فقال : "يا معشر التجار إن الله باعثكم يوم القيامة فجاراً إلا من صدق ووصل وأدى الأمانة" وفي "نوابغ الكلم" الأمين آمن والخائن حائن وهو من الحين بمعنى الهلاك ولله در القائل :
امين مجوى ومكو باكسى امانت عشق
درين زمانه مكر جبرائيل امين باشد
{وَلا تَقْفُ} أي : لا تتبع من قفا أثره يقفو تبعه ومنه سميت القافية قافية {مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ} أي : لا تكن في اتباع ما لا علم لك به من قول أو فعل كمن يتبع مسلكاً لا يدري أنه يوصله إلى مقصده.
قال الزمخشري وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح لأن ذلك نوع من العلم فقد أقام الشرع غالب الظن مقام العلم وأمر بالعمل به انتهى.
يعني أن الاعتقاد الراجح في حكم الاعتقاد الجازم للإجماع على وجوب العمل بالشهادة والاجتهاد في القبلة ونحو ذلك فلا دليل في الآية على من منع اتباع الظن والعمل بالقياس كالظاهرية {إِنَّ السَّمْعَ} (بدرستى كه كوش) {وَالْبَصَرَ} (وشم) {وَالْفُؤَادَ} (ودل) {كُلُّ أُولَئكَ} أي : كل واحد من هذه الجوارح فأجراها مجرى العقلاء لما كانت مسئولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها {كَانَ عَنْهُ} عن نفسه وعما فعل به صاحبه {مَّسْـاُولا} (رسيده شده يعني از ايشان خواهند رسيدكه صاحب شما باشما ه معامله كرده از سمع سؤال كنند ه شنيدى واز شم رسندكه ه ديدى ورا ديدى واز دل رسندكه ه دانستى ورا دانستى).
قال في "بحر العلوم" : اعلم أن المراد بالنهي عن اتباع كل ما فيه جهل مما يتعلق بالسمع والبصر والقلب كأنه تعالى قال : لا تسمع كل ما لا يجوز سماعه ولا تبصر كل ما لا يجوز إبصاره ولا تعزم على كل ما لا يجوز لك العزم عليه لأن كل واحد منها يسأله الله تعالى ويجازيه ولم يذكر اللسان مع أنه من أعظمها لأن السمع يدل عليه لأن ما يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم وتلك الحصائد من قبل المسموعات اللازمة للسمع.
وفي الآية دلالة على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية كما قال تعالى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 155
{وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (البقرة : 225) أي : بما كسبت مما يدخل تحت الاختيار من خبائث أعمال القلب من حيث الدنيا ومن الرياء والعجب والحسد والكبر والنفاق
157
مثلاً وأما ما لا يدخل تحت الاختيار فلا يؤاخذ به ألا ترى إلى قوله عليه السلام : "عفى عن أمتي ما حدثت بها نفوسها".
قال في "الأشباه والنظائر" حديث النفس لا يؤاخذ به ما لم يتكلم أو يعمل به كما في حديث مسلم وحاصل ما قالوه : إن الذي يقع في النفس من قصد المعصية على خمس مراتب : الهاجس وهو ما يلقى فيها ثم جريانه فيها وهوالخاطر ثم حديث النفس وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا ثم الهم وهو ترجيح قصد العمل ثم العزم وهو قوة ذلك القصد والجزم به فالهاجس لا يؤاخذ به إجماعاً لأنه ليس من فعله وإنما هو شيء أورد عليه لا قدرة له على رده ولا صنع والخاطر الذي بعده كان قادراً على دفعه بصرف الهاجس أول وروده ولكن هو وما بعده من حديث النفس مرفوعان بالحديث الصحيح وإذا ارتفع حديث النفس ارتفع ما قبله بالأولى.
وقال بعض الكبار : جميع الخواطر معفوة إلا بمكة المكرمة ولهذا اختار عبد الله بن عباس رضي الله عنهما السكنى بالطائف احتياطاً لنفسه ثم هذه الثلاث لو كانت في الحسنات لم يكتب له بها أجر لعدم القصد وأما الهم فقد بين في الحديث الصحيح : "إن الهم بالحسنة يكتب حسنة والهم بالسيئة لا يكتب عليه سيئة وينتظر فإن تركهاتعالى كتب حسنة وإن فعلها كتب سيئة واحدة" والأصح في معناه أنه يكتب عليه الفعل وحده وهو معنى قوله واحدة وأن الهم مرفوع وأما العزم فالمحققون على أنه يؤاخذ به ومنهم من جعله من الهم المرفوع.
وفي "البزازية" : من كتاب الكراهية هم بمعصية لا يأثم إن لم يصمم عزمه عليه وإن عزم يأثم إثم العزم لا إثم العمل بالجوارح إلا أن يكون أمراً يتم بمجرد العزم كالكفر.
واعلم أن قوله تعالى : {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ} إشارة إلى تاسع الخصال العشر وهو الظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه باستعمال الجوارح والأعضاء على خلاف ما أمر به فبدله بالعدل بقوله : {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْـاُولا} فظلم السمع استعماله في استماع الغيبة واللغو والرفث والبهتان والقذف ولملاهي والفواحش وعدله استعماله في استماع القرآن والأخبار والعلوم والحكم والمواعظ والنصيحة والمعروف وقول الحق :
جزء : 5 رقم الصفحة : 155
كذركاه قرآن وندست كوش
به بهتان وباطل شنيدن مكوش(5/120)
وظلم البصر النظر إلى المحرمات والشهوات وإلى من فوقه في دنياه وإلى من دونه في دينه وإلى متاع الدنيا وزينتها وزخارفها وعدله النظر في القرآن والعلوم وإلى وجه العلماء والصلحاء وإلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها وإلى الأشياء بنظر الاعتبار وإلى من دونه في دنياه وإلى من فوقه في دينه :
دوشم از ى صنع بارى نكوست
نه عيب برا در فرو كيرو دوست
وقد ثبت عن علي رضي الله عنه أنه ما نظر إلى عورته وسوأته منذ ما تعلق نظره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بناء على أن الابصار الناظرة لوجهه عليه السلام لا يليق لها أن تنظر إلى السوأة فاعتبر وتأدب.
ونظيره ما قال عثمان رضي الله عنه ما كذبت منذ أسلمت وما مسست فرجي باليمين منذ بايعت النبي عليه السلام ولا أكلت الكراث ونحوه منذ قرآت القرآن وظلم الفؤاد قبول الحقد والحسد والعداوة وحب الدنيا والتعلق بما سوى الله تعالى وعدله تصفيته
158
عن هذه الأوصاف الذميمة وتحليته بتبديل هذه الصفات والتخلق بأخلاق الله تعالى :
ياى بيفشان از آيينه كرد
كه صيقل نكيرد و زنكار خورد
{وَلا تَمْشِ فِى الأرْضِ} التقييد لزيادة التقرير {مَرَحًا} ذا مرح فهو مصدر وقع موقع الحال بمعنى التكبر والتبختر.
قال الكاشفي : (مرحا رفتن خداوند تكبر يعني مرام نانكه متكبران خرامند) والمراد النهي عن المشي بالتكبر والتعظم {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الارْضَ} لن تجعل فيها خرقاً ونقباً بشدة وطأتك.
{وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا} بتطاولك فالمراد به هو الطول المتكلف الذي يتكلفه المختال وهو تهكم بالمتكبر وتعليل للنهي بأن التكبر حماقة مجردة ولن ينال الإنسان بكبره وتعظمه شيئاً من الفائدة وهو أي : الكبر عاشر الخصال العشر فإن المشية بالخيلاء من الكبر فبدله بالتواضع بقوله : {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ} الآية :
زخاك آفريدت خداوند ياك
س اي بنده افتادكى كن وخاك
وفي الحديث "من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان".
وجود تو شهريست رنيك وبد
تو سلطان ودستور دانا خرد
هما ناكه دونان كردن فراز
درين شهر كبرست وسودا وآز
جزء : 5 رقم الصفحة : 155
و سلطان عنايت كند بابدان
كجا ماند آسايش بخردان
وعن أبي هريرة أنه قال : "ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلّم كأنما الشمس تجري في وجهه وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله كأنما الأرض تطوي له إنا نجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث".
{كُلُّ ذَالِكَ} إشارة إلى ما ذكر من الخصال الخمس والعشرين من قوله تعالى : {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} فهو نهي عن اعتقاد أن مع الله الهاً آخر وهو أولاها والثانية والثالثة قوله : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} فهو أمر بعبادة الله ونهى عن عبادة غيره والبواقي ظاهرة بعد الأوامر والنواهي {كَانَ سَيِّئُهُ} يعني المنهى عنه وهو أربع عشرة خصلة فإن المأمور به حسن وهو إحدى عشرة ثلاث مستترة وثمان ظاهرة كما في "بحر العلوم" {عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} المراد به المبغوض المقابل للمرضي لا ما يقابل المراد لقيام القاطع على أن الحوادث كلها واقعة بإرادته تعالى.
فاندفع تمسك المعتزلة بالآية على مذهبهم في أن القبائح لا تتعلق بها الإرادة وإلا لاجتمع الضدان الإرادة والكراهة ووصف ذلك بمتعلق الكراهة مع أن البعض من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الانتهاء عن ذلك ولذا كان المكروه عند أهل التقوى كالحرام في لزوم الاحتراز ومن لم يعرفه تعدى إلى دائرة الإباحية فتدبر وتحفظ وتأدب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 155
{ذَالِكَ} أي : الذي تقدم من التكاليف المفصلة {مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ} أي : بعض منه أو من جنسه حال كونه {مِنَ الْحِكْمَةِ} التي هي علم الشرائع ومعرفة الحق لذاته وهو مقصود الحكمة النظرية وعمدتها والخير للعمل به وهي الحكمة العلمية أو من الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} الخطاب للرسول والمراد غيرة ممن يتصور منه صدور المنهي عنه وتكريره للتنبيه بأن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه فإن من لا قصد له بطل عمله ومن قصد بفعله أو تركه
159
(5/121)
غيره ضاع سعيه وانه رأس كل حكمة وملاكها ومن عدمه لم ينفعه علومه وحكمه وان بدّ فيها اساطين الحكماء وحك بيافوخه عنان السماء وما اغنت عن الفلاسفة اسفار الحكم وهم عن دين الله اضل من النعم وقد رتب عليه ما هو عائدة الاشراك فى الدنيا حيث قيل {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولا} ورتب عليه ههنا نتيجته فى العقبى فقيل {فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا} تلوم نفسك وتذمك وتلومك الناس والملائكة {مَّدْحُورًا} مطرودا مبعدا من رحمة الله ومن كل خير وهو تمثيل فانه تعالى شبه من اشرك بالله استحقارا له بخشبة يأخذها آخذ فى كفه فيطرحها فى التنور فالتوحيد اصل الحسنات والشرك اصل السيآت.
قال اهل التحقيق ان كلمة لا اله الا الله اذا قالها الكافر تنفى ظلمة الكفر وتثبت فى قلبه نور التوحيد واذا قالها المؤمن تنفى عنه ظلمة النفس وتثبت فى قلبه نور الوحدانية وان من قالها فى كل يوم الف مرة فبكل مرة تنفى عنه شيأ لم تنفعه المرة الاولى ومقام العلم بالله لا ينتهى الى الابد قال تعالى
جزء : 5 رقم الصفحة : 159
{وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} اى برادر بى نهايت دركهيست
هركجا كه ميرسى بالله مأيست
قال يحيى بن معاذ رحمه الله ما طابت الدنيا الا بذكرك ولا الآخرة الا بعفوك ولا الجنة الا بلقائك وفى الحديث الدنيا ملعونة ملعون ما فيها الا ذكر الله وما والاه وعالم او متعلم والتوحيد اثبات الوحدة فاهله على الكمال من يفر من الكثرة الى الوحدة.
قال الشيخ ابو الحسن رحمه الله سمعت وصف ولىّ فى جبل فبت عند باب صومعته ليلة فسمعته يقول الهى ان بعض عبادك طلب منك تسخير الخلق فاعطيته مراده وانا اريد منك ان لا يحسنوا معاملتهم معى حتى لا التجئ الا الى حضرتك حققنا الله واياك بحقائق هذا المقام وشرفنا بالفرار كل لحظة الى جنابه العلام ومعنى الفرار ايثاره تعالى على ما سواه لان علو الهمة انما يظهر فيه - حكى - ان سلطانا كان يحب واحدا من وزرائه اكثر من غيره فحسدوه وطعنوا فيه فاراد السلطان ان يظهر حاله فى الحب فاضافهم فى دار مزينة بانواع الزينة ثم قال ليأخذ كل منكم ما اعجبه فى الدار فاخذ كل منهم ما اعجبه من الجواهر والمتاع واخذ الوزير المحسود السلطان وقال ما اعجبنى الا انت : قال الحافظ
كداى كوى توازهشت خلد مستغنيست
اسير عشق توازهر دوكون ازادست
يعنى ان العاشق الصاق لا يختار الا المعشوق ويصير حرا عن هوى غيره على كل حال.
جزء : 5 رقم الصفحة : 159
{أَفَأَصْفَـاـاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الملائكة إِنَـاثًا} خطاب للقائلين بان الملائكة بنات الله وكان المشركون يستنكفون من البنات فيختارون لانفسهم الذكور ومع ذلك ينسبون اليه تعالى الاناث فانكر الله ذلك منهم.
والاصفاء بالشئ جعله خالصا والهمزة للانكار والفاء للعطف على مقدر يفسره المذكور وعبر عن البنات بالاناث اظهارار لجهة خساستهن لان الانوثة اخس اوصاف الحيوان.
والمعنى افضلكم على جنابه فخصكم بافضل الاولاد على وجه الخلوص وآثر لذاته اخسها وادناها كما فى قوله تعالى {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الانثَى} اى هذا خلاف الحكمة وما عليه عقولكم وعادتكم فان العبيد لا يؤثرون بأجود الاشياء واصفاها من الشوب ويكون
160
أرداها وأدونها للسادات.
قال الكاشفي : (ايا بركزيد شمارا رورد كار شما به سران وفرا كرفت براى خودرا ازملائكه دختران اين خلاف آنست كه عادت شما بران جارى شده كه ازدختران ننك ميداريد وبه سران مى نازيد) {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ} بإضافة الولد إليه تعالى {قَوْلا عَظِيمًا} لا يجترىء عليه أحد حيث تجعلونه من قبيل الأجسام المتجانسة السريعة الزوال ثم تضيفون إليه ما تكرهون من أخس الأولاد وتفضلون عليه أنفسكم بالبنين ثم تصفون الملائكة الذين هم من أشرف الخلق بالأنوثة التي هي أخس أوصاف الحيوان.
قال في "التأويلات النجمية" : قوله تعالى :
(5/122)
الآية يشير إلى كمال ظلومية الإنسان وكمال جهوليته أما كمال ظلوميته فإنهم ظنوا بالله سبحانه أنه من جنس الحيوانات التي من خاصيتها التوالد وأما كمال جهوليته فإنهم لم يعلموا أن الحاجة إلى التوالد لبقاء الجنس فإن الله تعالى باق أبدي لا يحتاج إلى التوالد لبقاء الجنس ولم يعلموا أن الله منزه عن الجنس وليست الملائكة من جنسه فإنه خالق أزلي أبدي وأما الملائكة فهم المخلوقون ومن كمال الظلومية والجهولية أنهم حسبوا أن الله تعالى إنما أصفاهم بالبنين واختار لنفسه البنات لجهله بشرف البنين على البنات فلهذا قال تعالى : {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا} أي : قولاً ينبىء عن عظيم أمر ظلوميتكم وجهوليتكم {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} هذا المعنى وكررناه وبيناه.
قال الكاشفي : (وبدرستى كردانيديم ومكرر ساختيم برآيت خودرا ازولد) {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى} على وجوه من التصريف في مواضع منه {لِّيَذْكُرُوا} أي : ليذكروا ما فيه ويقفوا على بطلان ما يقولونه {وَمَا يَزِيدُهُمْ} أي : والحال أنه ما يزيدهم ذلك التصريف البالغ {إِلا نُفُورًا} عن الحق وإعراضاً عنه.
قال الكاشفي : (مكر رميدن ازحق ودورشدن).
جزء : 5 رقم الصفحة : 160
{قُلْ} في إظهار بطلان ذلك من جهة أخرى {لَّوْ كَانَ مَعَهُ} تعالى {كَمَا يَقُولُونَ إِذًا} أي : المشركون قاطبة والكاف في محل النصب على أنها وقعت صفة لمصدر محذوف أي : كوناً مشابهاً لما يقولون والمراد بالمشابهة الموافقة والمطابقة {إِذَآ} {ابْتَغَوْا} أي : طلبت تلك الآلهة {إِلَى ذِى الْعَرْشِ} (بسوى خداوند عرش) أي : إلى من له الملك والربوبية على الإطلاق {سَبِيلا} بالمغالبة والممانعة أي : ليغالبوه ويقهروه ويدفعوا عن أنفسهم العيب والعجز كما هو ديدن الملوك بعضهم مع بعض يشير إلى أن الآلهة لا يخلو أمرهم من أنهم كانوا أكبر منه أو كانوا أمثاله أو كانوا أدون منه فإن كانوا أكبر منه طلبوا طريقاً إلى إزعاج صاحب العرش ونزع الملك قهراً وغلبة ليكون لهم الملك لا له كما هو المعتاد من الملوك.
فالآية إشارة إلى برهان التمانع على تصويرها قياساً استثنائياً استثنى فيه نقيض التالي وإن كانوا أمثاله لم يرضوا بأن يكون الملك واحداً مثلهم وهم جماعة معزولون عن الملك فايضاً نازعوه في الملك وإن كانوا أدون منه فالناقص لا يصلح للإلهية إذاً لابتغوا إلى ذي العرش الكامل في الإلهية سبيلاً للخدمة والعبودية والقربة فالآية إشارة إلى قياس اقتراني تصويره لو فرض معه آلهة لتقربوا إليه بالطاعة وكل من تقربوا إليه بها لا يكونون آلهة فما فرض آلهة لا يكون آلهة فلو مستعمل لمجرد الشرط لا للامتناع والمراد بالآلهة ما هو من أولى العلم كعيسى وعزير والملائكة كذا في "التأويلات النجمية" مع مزج من "حواشي" سعدي
161
المفتي.
{سُبْحَـانَه} أي : تنزه بذاته تنزهاً حقيقاً به {وَتَعَـالَى} متباعداً {عَمَّا يَقُولُونَ} من أن معه آلهة وأن له بنات.
قال في "بحر العلوم" : هو تنزيه وتعجيب من قولهم أي ما أبعد من له الملك والربوبية وما أعلاه عما يقولون {عَلَوْا} واقع موقع تعالياً كقوله تعالى : {وَاللَّهُ أَنابَتَكُم مِّنَ الارْضِ نَبَاتًا} (نوح : 17) أي : إنباتاً {كَبِيرًا} لا غاية وراءه كيف لا وأنه سبحانه في أقصى غايات الوجود وهو الوجود الذاتي وما يقولون من أن له تعالى شركاء وأولاداً في أبعد مراتب العدم أعني الامتناع.
جزء : 5 رقم الصفحة : 160
واعلم أن الله أحد في ذاته وواحد في صفاته والشرك إنما يجيىء من التوهم فكما أن للمشركين آلهة بحسب توهمهم فكذا لضعفاء المؤمنين بحسب جهلهم وغفلتهم كما قال الدينوري في قوله تعالى : {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ} (إبراهيم : 35) منهم من صنمه نفسه قال تعالى : {أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} (الفرقان : 43) ومنهم من صنمه زوجته في المحبة والإطاعة ومنهم من صنمه تجارته بأن اتكل عليها حتى ترك طاعة الله لأجلها.
ـ حكي ـ أن مالك بن دينار رحمه الله كان إذا قرأ في الصلاة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة : 5) غشي عليه فسئل فقال : نقول إياك نعبد ونعبد أنفسنا أي : بإطاعة الهوى ونقول : إياك نستعين ونرجع إلى أبواب غيره :
اي تو بنده اين جهان محبوس جان
ند كويى خويش راخواجه جهانخدمت ديكر كنى هر صبح وشام
وانكهى كويى كه من حق لا غلامبنده حق در درش باشد مقيم
با خلوص واعتقاد مستقيم
(5/123)
فعلى العاقل أن يكرر ذكر التوحيد ويجدد العهد الذي بينه وبين ذي العرش المجيد فإنه سبب المغفرة والترقي إلى درجات الأبرار والمقربين كما لا يخفى على أرباب اليقين.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما لما خلق الله العرش وهو أعظم مخلوق اضطرب أربعة وعشرين ألف عام فأظهر الله أربعة وعشرين حرفاً وهو قول : "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فسكن أربعة وعشرين ألف عام حتى خلق الله أول خلق وأمره بالتوحيد فقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله فاضطرب العرش فقال الله اسكن فقال : كيف اسكن وأنت لا تغفر لقائلها فقال تعالى : أسكن فإني آليت على نفسي قبل أن خلقتك بألفي عام أن لا أجريها على لسان عبد إلا غفرت له" نسأل الله العفو والغفران.
جزء : 5 رقم الصفحة : 160
{أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ وَمَن فِيهِنَّ} التسبيح تنزيه الحق وتبعيده عن نقائص الإمكان والحدوث وتسبيح السموات والأرض بلسان الحال الدال علي وجود الخالق وقدرته وحكمته وتسبيح من فيهن من الملائكة والجن والإنس بلسان القال الناطق بما يسمع منهم على أن المراد بالتسبيح معنى منتظم لما ينطق به لسان المقال ولسان الحال بطريق عموم المجاز وهو الاشتمال على ما يدل على التنزيه فإنه مشترك بين اللفظ الدال عليه وبين مثل الحدوث والإمكان الدال على تنزيه الله تعالى عن لوازم الإمكان وتوابع الحدوث
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
{وَأَنْ} نافية أي : ما {مِن شَىْءٍ} من الأشياء حيواناً كان أو نباتاً يدل على الصانع وقدرته وحكمته فإنها تنطق بذلك.
قال الكاشفي : (تنزيه ميكند اورا ازسمات نقصان وستايش مينمايد بصفات كمال) {إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} الفقه عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه أي : لا تفهمون أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم التسبيح وهم وإن كانوا
162
(5/124)
إذا سئلوا عن خالق السموات والأرض قالوا الله إلا أنهم لما جعلوا معه آلهة مع إقرارهم فكأنهم لم ينظروا ولم يقروا لأن نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه فإذن لم يفهموا التسبيح ولم يستوضحوا الدلالة على الخالق {إِنَّه كَانَ حَلِيمًا} ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة مع أنتم عليه من الإعراض عن التدبر في الدلائل والانهماك في الإشراك.
والحلم تأخير مكافأة الظالم بالنسبة إلى الخالق والطمأنينة عند صورة الغضب بالنسبة إلى المخلوق {غَفُورًا} لمن تاب منكم ورجع إلى التوحيد هذا ما عليه الزمخشري والبيضاوي وأبو السعود ومن يليهم من أهل الظاهر وهم الذين لهم عين واحدة وسمع واحد.
وقال الشيخ علي السمرقندي قدس سره في "بحر العلوم" : ذهب السلف الصالح إلى أن التسبيح في الآية في المحلين محمول على حقيقته وهو الأصح فإنه إن كان كلام الجماد مسلماً فينبغي أن يكون تسبيحه أيضاً مسلماً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل على أن شهادة الجوارح والجلود مما نطق به القرآن الكريم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَه يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالاشْرَاقِ} (ص : 18) كان داود إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح.
وقال مجاهد : كل الأشياء تسبح الله حياً كان أو جماداً وتسبيحاً "سبحان الله وبحمده".
وعن المقداد بن معدي كرب أن التراب يسبح ما لم يبتل والخربزة تسبح ما لم ترفع من موضعها والورق ما دام على الشجر والماء ما دام جارياً والثوب ما دام جديداً فإذا اتسخ ترك التسبيح والوحش والطير إذا صاحت فإذا سكتت تركت التسبيح وفي الحديث : "ما اصطيد حوت في البحر ولا طائر يطير إلا بما يضيع من تسبيح الله" كما في "تفسير المدارك".
وقال النخعي : كل شيء من جماد وحيّ يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف.
وقال عكرمة : الشجرة تسبح والاسطوانة لا تسبح والشجر أو النبات إذا قطع يسبح ما دام رطباً.
قال في "الكواشي" : وهذا ممكن عقلاً وقدرة.
وذكر في جنائز "الخلاصة" يكره قطع الحطب والحشيش الرطب من القبر من غير حاجة أي : لأنه يسبح.
وفي "الملتقط" : مقبرة قديمة لم يبق من آثارها شيء ليس للناس أن ينتفعوا بها ولا بالبناء فيها ولا بإرسال الدابة في حشيشها.
قال في "فتح القريب" المجيب إذا حصلت البركة بتسبيح الجماد فالقرآن الذي هو أشرف الأذكار أولى بحصول البركة ولا سيما إذا كان من رجل صالح ولهذا استحب العلماء قراءة القرآن عند القبر.
وهل يغرس الريحان أو الجريد على باب منزل القبر أو على قافية اللحد؟ الجواب : أنه ورد في الحديث مطلقاً فيحصل المقصود بأي موضع غرس في القبر.
وكان عليه السلام يخطب مستنداً إلى جذع فصنع رجل منبراً ثلاث درجات وأراد النبي عليه السلام أن يقوم على المنبر فحنّ الجذع فرجع النبي عليه السلام إليه ووضع يده عليه وقال : "اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت وتكون كما كنت وإن شئت أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها وعيونها فيحسن نبتك وتثمر فيأكل أولياء الله من ثمرك" فاختار الجنة والدار الآخرة على الدنيا فلما قبض النبي عليه السلام رفع إلى مكان ففني وأكلته الأرضة وقيل : دفن كما قال في "المثنوي" :
163
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
استن حنانه از هجر رسول
ناله مى زد هموارباب عقول
كفت يغمبر ه خواهى اي ستون
كفت جانم ازفراقت كشت خون
مسندت من بودم از من تاختى
بر سر منبر تو مسند ساختى
كفت خواهيكه ترا تخلى كنند
شرقي وغربي زتو ميوه نند
يا در آن عالم ترا سروى كند
تا ترو بمانى بى كزند
كفت آن خواهم كه دائم شد بقاش
بشنو اي غافل كم ازوبى مباش
آن ستون را دفن كرداندر زمين
تاو مردم حشر كردد يوم دين
آنكه اورا نبود از اسرار داد
كى كند تصديق او ناله جماد
(5/125)
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جلس في مكان معه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فتناول النبي عليه السلام سبع حصيات فوضعن في كفه فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل ، ثم وضعهن فخرسن ثم تناولهن فوضعهن في يد أبي بكر فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل ثم وضعهن في يد عمر ثم في يد عثمان فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل.
وذكر عبد الله القرطبي أن داود عليه السلام قال : لأسبحن الله تعالى هذه الليلة تسبيحاً ما سبحه به أحد من خلقه فنادته ضفدع من ساقية في داره أتفخر على الله بتسبيحك وأن لي سبعين سنة ما جف لساني من ذكر الله وأن لي عشر ليال ما طعمت ولا شربت اشتغالاً بكلمتين فقال : وما هما؟ قالت : "يا مسبحاً بكل لسان ويا مذكوراً بكل مكان" فقال داود لنفسه وما عسى أن أقول أبلغ من هذا.
وذكر الشيخ أبو عمرو في سبب توبته أني كنت ليلة على ظهري متوجهاً إلى السماء فرأيت خمس حمامات : إحداهن تقول : سبحان من عنده خزائن كل شيء وما ينزله إلا بقدر معلوم.
والثاني تقول : سبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
والثالثة تقول : سبحان من بعث الأنبياء حجة على خلقه وفضل عليهم محمداً صلى الله عليه وسلّم والرابعة تقول : كل ما في الدنيا باطل إلا ما كانولرسوله.
والخامسة تقول : يا أهل الغفلة قوموا إلى ربكم رب كريم يعطي الجزيل ويغفر الذنب العظيم فلما سمعت ذلك ذهبت عني فلما جئت إليّ وجدت قلبي خالياً عن حب الدنيا فلما أصبحت سلكت طريقاً بنية أن أسلم نفسي إلى مرشد فلقيت شيخاً ذا هيبة ووقار فبعد التسليم أقسمت بالله أن يخبرني من هو؟ فقال : أنا الخضر وقد كنت عند الشيخ عبد القادر وهو سيد العارفين في الوقت فقال لي : يا أبا العباس إن رجلاً أصابه جذبة إلهية ونودي من فوق السماء مرحباً بك عبدي وعاهد الله على أن يسلم نفسه إلى شيخ فائتني به ثم قال لي الخضر : فعليك بملازمته ثم وجدت نفسي ببغداد فلقيت الشيخ عبد القادر فقال لي مرحباً بمن جذبه مولاه بألسنة الطير وجمع له كثيراً من الخير وبالجملة فالتسبيح غير ممتنع من الجمادات بل هو كائن من الكائنات لا ينكره إلا منكر خوارق العادات (درفتوحات مذكوراست كه اكر مراد ازين تسبيح آنست كه ايشان بلسان الحال كويند س درايراد ولكن لا تفقهون تسبيحهم فائده نباشد) يعني أن قوله ولكن الخ يحقق أن المراد هو حقيقة التسبيح لا الدلالة
164
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
على وحدانيته فالخطاب عند أهل الحقيقة في قوله : لا تفقهون عام للمسلمين والمشركين أي : لا تسمعون فلا تفقهون تسبيحهم لأنه ليس المقصود سماع اللفظ مجرداً بل التدبر فيه ليدرك ما أدى اللافظ فيسبح كما سبحه.
قال في "الكواشي" : {وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} لأنه ليس بلغتكم ويجوز أن يفهم تعالى بعض عباده تسبيح بعض الجمادات والعجماوات كداود وسليمان عليهما السلام.
يقول الفقير : هذا التعليل غير مناسب لعموم الآية لأن لغات ماله أصوات مختلفة لا تفقه وإن كانت مسموعة ومن الأشياء ما ليس له صوت مسموع وقد أثبت له أيضاً تسبيح فافقه (سلمى از ابو عثمان مغربي قدس سرهما نقل ميكندكه تمام مكونات باختلاف لغات تسبيح الهي ميكويند اما آنرانشنود وفهم نكند مكر عالم رباني كه كوش دل او كشاده بود) ونعم ما قال :
بذكرش هره بيني درخروشت
دلى داند درين معنى كه كوشست
نه بلبل بركلش تسبيح خوانست
كه هر خارى بتسبيحش زبانست
(5/126)
وفي "الخصائص الصغرى" وخص عليه السلام بتسليم الحجر وبكلام الشجر وبشهادتها له صلى الله عليه وسلّم بالنبوة وإجابتها دعوته.
قال السهيلي : يحتمل أن يكون نطق الحجر كلاماً مقروناً بحياة وعلم ويحتمل أن يكون صوتاً مجرداً غير مقترن بحياة.
وقال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر أكثر العقلاء بل كلهم يقولون إن الجمادات لا تعقل فوقفوا عند بصرهم والأمر عندنا ليس كذلك فإذا جاءهم عن نبي أو ولي أن حجراً كلمه مثلاً يقولون خلق الله فيه العلم والحياة في ذلك الوقت والأمر عندنا كذلك بل سر الحياة سار في جميع العالم وقد ورد أن كل شيء سمع صوت المؤذن من رطب ويابس يشهد له ولا يشهد إلا من علم وقد أخذ الله بأبصار الإنس والجن عن إدراك حياة الجماد إلا من شاء الله كنحن وأضرابنا فإنا لا نحتاج إلى دليل في ذلك لكون الحق سبحانه قد كشف لنا عن حياتها عيناً وأسمعنا تسبيحها ونطقها وكذلك اندكاك الجبل لما وقع التجلي إنما كان ذلك منه لمعرفته بعظمة الله تعالى ولولا ما عنده من العظمة لماتد كدك (ودرباب ثان عشر از سفر ثاني فتوحات فرموده كه ما بكوش خود شنيديم كه سنكى بزبان قال : ذكر ملك متعال كفت وباما خطاب كرد ون مخاطبه عارفان وسخنان آرا نموده كه هر آدمى آنرا درنيابد).
وقال في كتاب "الطريقة" : له إذا رأيت هؤلاء العوالم مشتغلين بالذكر الذي أنت عليه فكشفك خيالي غير صحيح وإنما ذلك خيالك أقيم لك في الموجودات وإذا شهدت في هؤلاء تنوعات الأذكار فهو الكشف الصحيح.
قال بعض الكبار : كل معلوم حي لأنه يعطي العلم للعالم فكما أن نور الشمس ينور كل من يراه فكذلك الحي لذاته يحيى به كل من يراه فكل شيء به حي فالأشجار والجمادات لهن حياة عند أرباب الكشف وكلام يسمعه من كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد.
قال حضرة الشيخ افتاده قدس سره : إن السالك يسمع حركات الأفلاك في أثناء سلوكه وذلك بقوة رياضية وقال خليفته حضرة الهدائي قدس سره : خرجت للوضوء وقت التهجد فسمعت الماء الجاري يقول بهذا الوزن يا دائم يا دائم يا دائم يا دائم ونظائره كثيرة لا تحصى.
يقول الفقير : دعا حضرة شيخي
165
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
وسندي روح الله روحه بعض الصوفية للإفطار وكان وقتئذٍ لا يفطر إلا على الماء والخبز.
ثم لا يأكل إلا عشية الغد فقال : هذا الخبز له روح حقاني فظاهره يرجع إلى الجسد وروحه يرجع إلى الروح فيتقوى به الجسم والروح جميعاً ولكل موجود روح إما حيواني أو حقاني فجسد الميت له روح حقاني أي : غير روحه الذي فارقه ألا ترى أن الله تعالى لو أنطقه لنطق فنطقه بإنطاق الله تعالى إنما هو لأن له روحاً حقانياً وقد جاء أن كل شيء يسبح بحمده وما هو إلا بكون المسبح ذا روح ولو كان حجراً أو شجراً أو غير ذلك ، وفي "المثنوي" :
ون شما سوى جمادى مى رويد
محرم جان جمادان ون شويد
از جمادى عالم جانها يويد
غلغل اجزاى عالم بشنويد
فاش تسبيح جمادات آيدت
وسوسه تأويلها نر بايدت
ون ندارد جان تو قنديلها
بهر بينش كرده تأويلها
كه غرض تأويل ظاهر كى بود
دعوى ديدن حيال وغى بود
بلكه هر بيننده را ديدار آن
وقت عبرت ميكند تسبيح خوان
س واز تسبيح يادت مى دهد
آن دلالت همو كفتن مى بود
اين بود تأويل أهل اعتزال
واى آنكس كوندارد نور حال
ون زحس بيرون نيامد آدمى
باشد از تصوير غيبي أعجمي
وفي "التأويلات النجمية" : {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَـاوَاتُ السَّبْعُ وَالارْضُ وَمَن فِيهِنَّ} أي : ينزهه عما يقولون من كل نقيصة ذرات المكونات وأجزاء المخلوقات فمن له روح فبلسانه ولغته وهذا مما يفقه العقلاء وأما الجمادات فبلسان الملكوتي كما قال : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} أي : يحمده على نعمة الإيجاد والتربية {وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} لأنه ليس من جنس تسبيحكم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
(5/127)
واعلم أن الله أثبت لكل ذرة من ذرات الموجودات ملكوتاً بقوله : {فَسُبْحَـانَ الَّذِى بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ} (يس : 83) والملكوت باطن الكون وهو الآخرة والآخرة حيوان لا جماد لقوله تعالى : {وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ} (العنكبوت : 64) فثبت بهذا الدليل على أن لكل ذرة من ذرات الموجودات لساناً ملكوتياً ناطقاً بالتسبيح والحمد تنزيهاً لصانعه وبارئه وحمداً له على ما أولاه من نعمه وبهذا اللسان نطق الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلّم وبهذا تنطق الأرض يوم القيامة كما قال : {يَوْمَـاـاِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} وبهذا اللسان تشهد أجزاء الإنسان وأبعاضه يوم القيامة ويقولون : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ، وبهذا اللسان نطق السموات والأرض حين {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} (فصلت : 11) فافهم جداً واغتنم {إِنَّه كَانَ حَلِيمًا} في الأزل إذ أخرج من العدم من يتولد منه أن يتخذ مع الله آلهة أخرى {غَفُورًا} لمن تاب عن مثل هذه المقالات انتهى.
وقال القاشاني : اعلم أن لكل شيء خاصية لا يشاركه فيها غيره وكما لا يخصه دون ما عداه يشتاقه ويطلبه إذا لم يكن حاصلاً ويحفظه ويحبه إذا حصل فهو إظهار خاصيته وتوحده في تلك الخاصية ينزهه تعالى عن الشريك فكأنه يقول بلسان الحال أوحده على ما وحدني وإلا لم يكن متفرداً بها متوحداً فيها وبطلب كماله ينزهه عن صفات النقص كأنه يقول يا كامل كملني وبإظهار كماله بحمده ويقول أحمده على ما كملني حتى
166
أن الحيوان في طلب الرزق يقول : يا رزاق ارزقني وبوجود الرزق يقول : أحمده على ما رزقني وبإشفاقه على ولده يقول : أرأفني الرؤوف وأرحمني الرحيم فالسموات السبع تسبحه وتنزهه عن العجز والفناء وتحمده بالديمومية والعلو والتأثير والقدرة والبقاء والملك والربوبية وبأن كل يوم هو في شأن والأرض بالدوام والثبات والخلاقية والرزاقية وقبول الطاعة وأمثال ذلك والملائكة بالحياة والعلم والقدرة والمجردات منهم بالتنزه عن التعلق بالمادة والوجوب مع جميع ما ذكر منهم مع كونهم مسبحين إياه مقدسين له حامدين فإن كل ما يحمده بصفة كمالية ينزهه ويسبحه بمقابلها وكل مسبح عن نقصان يحمده بكمال يقابله فهم يسبحونه في عين التحميد ويحمدونه في عين التسبيح ولكون لا تفقهون تسبيحهم لقلة النظر والفكر في ملكوت الأشياء وعدم الإصغاء إليهم للغفلة وإنما يفقه من كان له قلب منور بنور التوحيد أو ألقى السمع وهو شهيد فإن القلب من عالم الملكوت فإذا تنور بنور التوحيد يفقه تسبيح الأشياء لأنه في عالمه أنه كان حليماً لا يعاجلكم بعقوبة ترك التسبيح في طلب كمالاتكم وإظهار خواصكم التي منها فهم تسبيح الأشياء وتوحيده كما وحدوه وغفوراً يغفر غفلاتكم وإهمالكم انتهى كلامه مع بعض تغييرات وزيادة والله الهادي إلى طريق حقيقة التسبيح والتوحيد لكل سالك مريد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ} (وون مى خوانى قرآنرا) {جَعَلْنَا بَيْنَكَ} (مى سازيم ومى آريم ميان تو) {وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} وهم كفار قريش وكانوا منكري البعث {حِجَابًا} يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة ويفهموا قدرك الجليل ولذلك اجترأوا على أن يقولوا إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً {مَّسْتُورًا} عن الحس بمعنى غير حسي مشاهد فمستور على موضوعه أو ذا ستر فصيغة مفعول للنسبة كقولهم سيل مفعم أي : ذو إفعام من أفعمت الإناء أي : ملأته هذا ما ذهب إليه المولى أبو السعود رحمه الله في هذه الآية.
وقال في "الكواشي" : كان المشركون يؤذون النبي صلى الله عليه وسلّم مصلياً وجاءت أم لهب بحجر لترضخه فزل انتهى فيكون معنى قوله : {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ} وإذا صليت عبر عن الصلاة بالقرآن لاشتمالها عليه كما عبر عن الخطبة به على بعض الأقوال في قوله تعالى : {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا} (الأعراف : 204) الآية فيلزم أن تحمل الآية على خصوص المادة فهم إذاً لم يروا الحجاب فلا يرون المحتجب به فيسلم من أذاهم ولم يكن كذلك دائماً كما يدل عليه القواطع.
وقال سعدي المفتي : لعل الأولى أن يحمل على ما روي أنها أنزلت في أبي سفيان والنضير وأبي جهل وأم جميل امرأة أبي لهب كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قرأ القرآن فحجب الله أبصارهم إذا قرأ وكانوا يمرون به ولا يرونه انتهى.
وهو ذهول عما بعد الآية في قوله تعالى : {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} كما يأتي مع ما فيه من الرواية وهو اللائح بالضمير في هذا المقام الخطير.
(5/128)
وفي الآية إشارة إلى أن من قرأ القرآن حق قراءته ارتقى إلى أعلى مراتب القرب كما جاء في الأثر : "إن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة فمن استوفى جميع آي القرآن استولى على أقصى درجة الجنة" واستيفاء جميع آي القرآن في الحقيقة هو التخلق بأخلاق القرآن فالقرآن من أخلاق الله وصفاته والمتخلق بأخلاقه
167
يكون متخلقاً بأخلاق الله وهذا يكون بعد العبور عن الحجب الظلمانية والنورانية تمكنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر فهو الذي جعل بينه وبين الذي لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً ولم يقل ساتراً لأن الججاب يستر الواصل عن المنقطع ولا يستر المنقطع عن الواصل فيكون الواصل بالحجاب مستوراً عن المنقطع كما في "التأويلات النجمية".
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
وفيه إشارة إلى أن من تحصن بكتابه فهو في حصن حصين والمضيع لوقته من تحصن بعلمه أو بنفسه فيكون هلاكه في موضع أمنه :
هركه او بيرون شد از حصن خدا
جان او آخر شد از جسمش جدا
مرد حق بين كى كندتكيه بغير
هر قضا ون از خدا آيد بسير
{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية كثيرة جمع كنان وهو الغطاء {أَن يَفْقَهُوهُ} مفعول له أي : كراهة أن يفهموا القرآن على كنهه ويعرفوا أنه من عند الله تعالى وهو على رأي الكوفيين ولا يرضاه البصريون لقلة حذف لا بالنسبة إلى حذف المضاف وهذا تمثيل لتجافي قلوبهم عن الحق ونبوها عن قبوله واعتقاده كأنها في غلف وأغطية تحول بينها وبينه وتمنع من نفوذه فيها كما في "بحر العلوم" يقول الفقير : ذلك التجافي والنبو إنما هو من تراكم الحجب المعنوية على القلب والفطرة الأصلية وإن كانت مقتضية للفقه والإدراك والخروج إلى نور العلم لكن ظلمة تلك الحجب مانعة عن ذلك فالكلام وإن كان وارداً في صورة التمثيل لكنه على حقيقته في نفس الأمر {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} صمماً ونقلاً مانعاً عن سماعه اللائق به وهو تمثيل لمج أسماعهم للحق ونبوها عن الإصغاء إليه كأن بها صمماً يمنع عن سماعه ولما كان القرآن معجزاً من حيث اللفظ والمعنى أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى حق فهمه وإدراك اللفظ حق إدراكه {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} أي : واحداً غير مشفوع به آلهتهم أي : إذا قلت لا إله إلا الله وهو مصدر وقع موقع الحال أصله تحده وحده بمعنى واحداً وحده أي : منفرداً فحذف الفعل الذي هو الحال وأقيم المصدر مقامه {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَـارِهِمْ} (باز كردند كافران بربشتهاى خود) اي هربوا ونفروا {نُفُورًا} هو مصدر كالقعود أو جمع نافر أي : أعرضوا ورجعوا حال كونهم نافرين والنفور (برميدن) كما في "التهذيب".
{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ} ملتبسين {بِهِ} من اللغو والاستخفاف والهزؤ بك وبالقرآن فمحل به حال كما تقول يستمعون بالهزؤ أي : هازئين فالباء للملابسة ويجوز أن تكون للسببية أي : بسببه ولأجله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
ـ ويروى ـ أنه كان يقوم عن يمينه صلى الله عليه وسلّم إذا قرأ رجلان من عبدالدار وعن يساره رجلان فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار.
{إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} ظرف لاعلم وفائدته تأكيد الوعيد بالاخبار بأنه كما يقع الاستماع المزبور منهم يتعلق به العلم لأن العلم يستفاد هناك من أحد وكذا قوله تعالى : {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} لكن لا من حيث تعلقه بما به الاستماع بل بما به التناجي المدلول عليه بسياق النظم.
والمعنى نحن أعلم بالذي يستمعون ملتبسين به مما لا خير فيه من الأمور المذكورة وبالذي يتناجون به فيما بينهم ونجوى مرفوع على الخبر بتقدير المضاد أي : ذووا نجوى {إِذْ يَقُولُ الظَّـالِمُونَ} بدل من اذهم ووضع الظالمون موضع المضمر للدلالة على أن هذا القول منهم ظلم وتجاوز عن الحد.
وفيه دليل على أن ما يتناجون به
168
غير ما يستمعون به أي : يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم {إِن تَتَّبِعُونَ} أي : ما تتبعون إن وجد منكم الاتباع فرضاً {إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا} أي : سحر فجنّ فمن ظلمهم وضعوا اسم المسحور موضع المبعوث.
(5/129)
{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الامْثَالَ} أي : مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون.
قال الكاشفي : (بزدند براى تو مثلها وترا توصيف كردند بمجنون وساحر وكاهن وشاعر) {فُضِّلُوا} في جميع ذلك عن منهاج المحاجة {فَلا يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلا} إلى طعن يمكن أن يقبله أحد فيتهافتون ويخطون كالمتحير في أمر لا يدري ما يصنع ويأتون بما لا يرتاب في بطلانه أحد أو فضلوا عن الحق والرشاد فلا يستطيعون سبيلاً إليه لأنهم بالغوا في الضلالة والإنكار وكانوا مستمعين بالهوى فيستمعون الأساطير والسحر والشعر ولو استمعوا بالله لاستمعوا كلام الله وصفاته ولانحراف مزاجهم وحصول المرض في قلوبهم كانوا يتنفرون عند استماع ذكر الواحد الأحد بالوحدانية والوحدة ولا يجدون حلاوة التوحد بل يجدون منه المرارة لسوء المزاج.
ومن هذا القبيل إكباب أهل الهوى في كل عصر على استماع القصص والأساطير معرضين عن كلام الله الملك العلي الكبير بل وأكثرهم لا يريد إلا المحادثة الدنيوية والمذاكرة العرفية والتعدي إلى أعراض الناس والاتباع إلى ما يوسوس به الوسواس الخناس والقدح في شأن أهل الحق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وقد ورد في التوراة أنه تعالى قال : يا عبدي أما تستحيى مني إذا يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرأه وتتدبره حرفاً حرفاً حتى لا يفوتك منه شيء وهذا كتابي أنزلته إليك انظره كم فصلت لك فيه من القول وكم كررت فيه عليك لتتأمل طوله وعرضه ثم أنت معرض عنه أو كنت أهون عليك من بعض إخوانك.
يا عبدي إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك وتصغى إلى حديثه بكل قلبك فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل في حديثه أومأت إليه إن كف وها أنا إذن مقبل عليك ومحدث لك وأنت معرض بقلبك عني أفجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك كذا في "الإحياء".
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
هركه تعظيم حق كند دائم
شود از دل بامراو قائم
{وَقَالُوا} أي : الكفرة المنكرون للبعث من أهل مكة نسوا بداية خلقهم أنهم خلقوا من تراب بل أنهم خلقوا من لا شيء كقوله تعالى : {خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـاًا} (مريم : 9) فقالوا على سبيل الإنكار والاستبعاد {أَءِذَا كُنَّا} (آيا آنهنكام كه شويم ما بعد ازمرك بمرور زمان) {عِظَـامًا} {عِظَـامًا} (استخوانها) {وَرُفَـاتًا} هو ما بولغ في دقه وتفتيته {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (آيابر انكيخته شد كان شويم) {خَلْقًا جَدِيدًا} نصب على المصدر من غير لفظه أو على الحالية على أن الخلق بمعنى المخلوق.
قوله إذا متمحضة للظرفية وهو الأظهر والعامل فيها ما دل عليه مبعوثون لا نفسه لأن ما بعد أن والهمزة واللام لا يعمل فيما قبلها وهو نبعث أو نعاد وهو المرجع للإنكار أي : حياتنا بعد الموت محال منكر لما بين غضاضة الحي ويبوسة الرميم من التنافي وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيصه به فإنهم منكرون للاحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له.
{قُلْ} جواباً لهم {كُونُوا حِجَارَةً}
169
(سنك) {أَوْ حَدِيدًا} (يا آهن).
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
(5/130)
{أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ} يعظم عندكم من قبول الحياة لكونه أبعد شيء منها فإنكم مبعوثون ومعادون لا محالة أي : فإن قدرته تعالى لا تقصر عن إحيائكم لاشتراك الأجسام في قبول الأعراض فكيف إذا كنتم عظاماً مرفوتة وقد كانت غضة موصوفة بالحياة قبل والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد والأمر وارد على التمثيل يعني في المثل (كرديد بتن خود سنك يا آهن) كما في تفسير الكاشفي.
وقال في "الكواشي" هو أمر تعجيز وتوبيخ لا أمر الزام.
وقال في "بحر العلوم" ليس الأمر ههنا على حقيقته بل على المجاز لأن المقصود إهانتهم وقلة المبالاة بهم لا طلب كونهم حجارة أو حديداً لعدم قدرتهم على ذلك وما يكبر في صدورهم السموات والجبال.
والجمهور على أنه الموت إذ ليس في النفس شيء أكبر من الموت أي : لو كنتم الموت بعينه لأميتكم ولأبعثكم {فَسَيَقُولُونَ} (س زود باشدكه كويند) {مِنْ} (كيست كه) {يُعِيدُنَا} يبعثنا بعد الموت.
يعني (زنده سازد مارا س ازمرك) وقد نسوا مبدئهم فلزمهم نسيان معيدهم {قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ} أي : يعيدكم القادر العظيم الذي اخترعكم وأنشأكم {أَوَّلَ مَرَّةٍ} من غير مثال وكنتم تراباً ما شم رائحة الحياة فهو المبدىء والمعيد.
يعني : (س آنكه خاك را تواندجان داد در بدايت هم خاك را زنده تواند ساخت در نهايت) {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} انغض حرك أي : سيحرّكونها نحوك تعجباً وإنكاراً {وَيَقُولُونَ} استهزاء {مَتَى هُوَ} أي : ما ذكرت من الإعادة فهو سؤال عن وقت البعث بعد تعيين الباعث {قُلْ} لهم {عَسَى أَن يَكُونَ} ذلك {قَرِيبًا} فإن كل آت قريب أو لأنه مضى أكثر الزمان وبقي أقله.
قال في "بحر العلوم" أي : هو قريب لأن عسى في الأصل للطمع والإشفاق من الله تعالى واجب يعني أنه قرب وقته فقد قرب ما يكون فيه من الحساب والعقاب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} من الأجداث كما دعاكم من العدم {فَتَسْتَجِيبُونَ} منها استجابة الأحياء أي : اذكروا يوم يبعثكم فتنبعثون وقد استعير لهما الدعاء والإجابة إيذاناً بكمال سهولة التأتي.
وقال أبو حيان والظاهر أن الدعاء حقيقة أي : يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال : {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} (ق : 41) ومعنى فتستجيبون توافقون الداعي فيما دعاكم إليه كما قال الكاشفي : (بخواند شمارا اسرافيل در نفخه اخيره بجهت قيام ازقبور س شما اجابت كنيد اسرافيل را).
وقال بعضهم : المقصود منها الإحضار للمحاسبة والجزاء.
يقول الفقير : لا يخفى أن الدعوى متعددة فدعاء البعث والنشر ودعاء الحشر كما قال تعالى : {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} (القمر : 8) أي : مسرعين ودعاء الكتاب كما قال تعالى : {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةًا كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَـابِهَا الْيَوْمَ} (الجاثية : 28) والمراد في هذا المقام هو الدعوة الأولى لأن الكلام في البعث {بِحَمْدِهِ} حال من فاعل تستجيبون أي : حامدينتعالى على قدرته على البعث كما قال سعيد بن جبير أنهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك فيقدسونه ويحمدونه حين لا ينفعهم ذلك.
وفي "الكواشي" "بحمده" أي : بإرادته وأمره كما قال الكاشفي : (در تفسير بصائر حمدرا بمعنى أمر داشت نانه درآيت فسبح بحمد ربك أي : صل بأمره س معنى آيت نين بودكه خداى شمارا بخواند بامر او واجابت كنيد اورا) {وَتَظُنُّونَ}
170
عندما تروه من الأمور الهائلة {إِن لَّبِثْتُمْ} أي : ما لبثتم في القبور أو في الدنيا {إِلا قَلِيلا} بالنسبة إلى لبثكم بعد الإحياء إلى الأبد.
فإن قيل : كل أحد يستقصر مدة حياته في الدنيا ولو عمر أطول الأعمار.
قلنا ذلك الاستقصار مع العلم بمدة العمر لطويل أمله وفي القيامة يذهل عن تلك المدة لشدة الهول.
قال الكاشفي : (يعني زندكى خودرا دردنيا اندك شمريد نسبت بآن س بايدكه خردمند آكاه نيز حياة دنيارا درجنب زندكى عقبى اندك شمرد واين اندك فانى را دركار آن بسيار باقى صرف كند تادران يوز بعذا بحسرت وندامت درنماند).
قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
بديني توانى كه عقبى خرى
بخرجان من ورنه حسرت خورى
كسى كوى دولت زدنيا ببرد
كه باخود نصيبي بعقبى ببرد
فلا بد من الاستعداد ليوم القيامة بالأعمال الصالحة والاجتناب عن المعاصي فإنه عما قريب يصير العلم عيناً.
(5/131)
واعلم أنك إذا مت فقد قامت قيامتك لأن الإنسان إذا مات فقد عاين أمر القيامة لأنه يرى الجنة والنار والملائكة ولا يقدر على عمل من الأعمال فصار بمنزلة من حضر يوم القيامة فختم على عمله بالموت فيقوم يوم القيامة على ما مات عليه فطوبى لمن كان خاتمته بخير.
قال أبو بكر الواسطي ـ رحمه الله ـ : الدولة ثلاث دولة في الحياة وهي أن يعيش في طاعة الله تعالى ، ودولة عند الموت وهي أن تخرج روحه بشهادة أن لا إله إلا الله ، ودولة يوم القيامة وهو أن يأتيه البشير بالجنة حين يخرج من قبره ولا ريب في أن العاصي ومنكر البعث يأتيه النذير بالنار فلا بد من الطاعة والإقرار فإن الله تعالى يحيي الأرض بعد موتها وهو دليل على النشور ، وفي "المثنوي" :
خاك را ونطفه را ومضغه را
يش شم ما همى دارد خدا
كز كجا آوردمت اي بدنيت
كه ازان آيد همني خفريقيت
توبدان عاشق بدى در دور آن
منكر اين فضل يودى آن زمان
اين كرم ون دفع آن انكارتست
كه ميان خاك مى كردى نخست
حجت انكار شد انشار تو
از دوابدتر ترشد اين بيمارتو
خاك را تصوير اين كار از كجا
نطفه را خصمى وانكار از كجا
ون دران دم بى دل وبى سربدى
فكرت وانكار را منكر بدى
از جمادى ونكه انكارت برست
هم ازين انكار حشرت شد درست
س مثال تووآن حلفه زنيست
كزدرونش خواجه كوبد خواجه نيست
حلقه زن زين نيست دريابدكه هست
س ز خلقه بر تدارد هي دست
س هم انكارت مبين ميكند
كز جماد او جشر صدفن ميكند
{وَقُلْ} يا محمد {لِّعِبَادِىَ} أي : المؤمنين {يَقُولُوا} أي : للمشركين عند محاورتهم معهم بني على حذف النون لما كان بمعنى الأمر كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك يا زيد على الضمة لما أشبه قبل وبعد {الَّتِى} أي : الكلمة التي {هِىَ أَحْسَنُ} ولا يخاشنوهم كقوله تعالى : {وَلا تُجَـادِلُوا أَهْلَ الْكِتَـابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (العنكبوت : 46).
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
قال في "التأويلات النجمية" : فيه إشارة
171
إلى أن اختصاص بعض العباد بتشريف الإضافة إلى نفسه يؤدي إلى تأثير نظر العناية فيهم فيخرج منهم القول الأحسن والفعل الأحسن والخلق الأحسن.
أما القول الأحسن فهو الدعاء إلى الله بلا إله إلا الله مخلصاً.
وأما الفعل الأحسن فهو ما كان على قانون الشريعة وآداب الطريقة متوجهاً إلى عالم الحقيقة.
وأما الخلق الأحسن فهو مع الله بأن يسلم وجههمحسناً في طلبه ومع الخلق بأن يحسن إليهم بلا طمع في الإحسان والشكر منهم ويتجاوز عن إساءتهم إليه ويعيش فيهم بالنصيحة يأمرهم بالمعروف بلا عنف وينهاهم عن المنكر بلا فضيحة {إِنَّ الشَّيْطَـانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يقال : نزغ بينهم أفسد وأغرى ووسوس أي : يفسد ويهيج الشر والمراء بينهم فلعل المخاشنة بهم تفضي إلى العناد وازدياد الفساد.
وفي "التأويلات {إِنَّ الشَّيْطَـانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} إذا لم يعيشوا بالنصيحة فينبغي لعقلاء كل زمان أن يكونوا في باب النصيحة مثل الأصحاب رضي الله عنهم بحيث أن حالهم ومعاملتهم مع أهالي زمانهم لا يتفاوت على حالهم لو كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلّم {إِنَّ الشَّيْطَـانَ كَانَ} قدماً {لِلانسَـانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} ظاهر العداوة لا يزيد صلاحهم أصلاً بل يريد هلاكهم وقد أبان عداوته لهم إذ أخرج أباهم من الجنة ونزع عنه لباس النور.
{رَبُّكُمْ} أيها المشركون {أَعْلَمُ بِكُمْ} منا {إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} بالتوفيق للإيمان {إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} بالإماتة على الكفر فهو تفسير للتي هي أحسن وما بينهما اعتراض أي : قولوا لهم هذه الكلمة وما يشاكلها ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه مما يهيجهم على الشر مع أن العاقبة مما لا يعلمه إلا الله فعسى يهديهم إلى الإيمان هذا ما ذهب إليه صاحب الكشاف وتبعه البيضاوي وأبو السعود رحمهما الله.
وقال الجمهور : المراد بالتي هي أحسن هي المحاورة الحسنة بحسب المعنى والرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم والتعذيب تسليطهم عليهم فيكون الخطاب في ربكم للمؤمنين.
وفي "التأويلات" : هو أعلم بمن جعله منكم مظهر صفة لطفه ورحمته فيرحمه ويخلصه من إضلال الشيطان وإغوائه وبمن جعله منكم مظهر صفة قهره وعذابه فيعذبه بإضلاله وإغوائه {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} موكولاً إليك يا محمد أمورهم ومفوضاً تجبرهم على الإيمان كما قال : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الامْرِ شَىْءٌ} (آل عمران : 128) وإنما أرسلناك بشيراً ونذيراً فدارهم ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال وترك المخاصمة وعنه عليه السلام : "إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض" ، حافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
اسايشى دوكيتى تفسير اين دوحرفست
بادوستان تلطف بادشمنان مدارا
(5/132)
كما قال بعضهم في عيش الإنسان الكامل : (باخدا بصدق.
وباخلق بانصاف.
وبانفس بقهر.
وبازير دستان بشفقت.
وبابزركان بحرمت.
وبادوستان بنصيحت.
وبادشمنان بمدارا.
وباعلما بتواضع.
وبادرويشان بسخا.
وباجاهلان بخاموشى).
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وتفاصيل أحوالهم الظاهرة والباطنة التي بها يستأهلون الاصطفاء والاجتباء فيختار منهم لنبوته وولايته من يستحقه وهو رد لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبياً وأن يكون العراة الجوع أصحابه كصهيب وبلال وخباب وغيرهم دون أن يكون ذلك في بعض الأكابر والصناديد وذكر من في السموات لإبطال قولهم : {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة} (الفرقان : 21) وذكر من في الأرض لرد قولهم :
172
{لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف : 31) أي : من إحدى القريتين مكة والطائف كالوليد بن المغيرة المخزومي وعروة بن مسعود الثقفي وقيل غيرهما.
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
وفي "التأويلات" : هو أعلم بمن جعل منهم مظهر صفة لطفه ومن جعل منهم مظهر صفة قهره في السموات كالملائكة وإبليس والأرض كالمؤمنين والكافرين {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّـانَ عَلَى بَعْضٍ} قال البيضاوي وتبعه أبو السعود أي : بالفضائل النفسانية والتبري من العلائق الجسمانية لا بكثرة الأموال والاتباع حتى داود فإنه شرفه بما أوحي إليه من الكتاب لا بما أوتي من الملك انتهى.
يقول الفقير : هذا صريح في أنهم متفاضلون في معنى التبري من العلائق الجسمانية وهو خطأ فإن تفاضلهم في ذلك إنما هو على من عداهم من أفراد الأمة لا على إخوانهم الأنبياء وتحقيقه أنه ليس فيهم العلائق الروحانية لمنافاتها الوصول إلى الله تعالى والأخذ من عالم القدس ولذا قالوا : باب العلم بالله لا ينفتح وفي القلب لمحة للعالم بأسره الملك والملكوت وأما العلائق الجسمانية كالملك وكثرة الأزواج والأولاد ونحو ذلك فهي وعدمها سواء بالنسبة إليهم فعيسى ويحيى عليهم السلام مع ما هما عليه من الزهد والتجرد لا فضيلة لهما في ذلك على داود وسليمان عليهما السلام مع ما هما عليه من الملك وكثرة الأزواج وإسناد العلاقة إليهم ولو صورة ليس من الأدب فالوجه أن التفضيل إنما هو بالكتاب والرسالة والخلة والتكليم والمعراج والرؤية والشفاعة ونحو ذلك كما قال تعالى : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍا مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ} (البقرة : 253) الآية والقرآن يفسر بعضه بعضاً.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر فضل سليمان عليه السلام بالظهور بمجموع الملك وعيسى بالكلام في المهد والتأييد بروح القدس وإحياء الموتى وخلق الطين طيراً بالإذن ونحو ذلك وموسى بالتكليم واليد والعصا وفرق البحر وانفجار الحجر ونحوها وفضل صالح بخروج ناقة من الحجر ونحوها وهود بالريح العقيم وإبراهيم بالنجاة من النار ونحو ذلك ويوسف بالجمال وتأويل الرؤيا ولما تفاضل استعدادهم لتمام التجلي من حيث النبوة تفاضلوا أيضاً فإنه ليس في الوجود إلا متغذ مرزوق وقد فضل الله بعض المرزوقين على بعض والرزق حسي للجسوم وعقلي للأرواح كالعلوم فأما من حيث ولايتهم الذاتية واستنادهم إلى الله تعالى فهم نفس واحدة فلا فاضل ولا مفضول ولذا قال عليه السلام : "لا تفضلوني بين الأنبياء" {وَءَاتَيْنَا دَاوُادَ زَبُورًا} تفضيلاً له كان زبور داود مائة وخمسين سورة ليس فيها حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود بل تمجيد وتحميد ودعاء نكر زبورا هنا وعرفه في الأنبياء حيث قال : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ} (الأنبياء : 105) لأنهما واحد كعباس والعباس.
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
وفي "التأويلات النجمية" : قوله : {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا} الآية يشير إلى أن الحكمة الأزلية اقتضت ارتفاع درجات المقبولين واتضاع دركات المردودين فإنهما مظاهر صفة اللطف والقهر ولكل واحد من اللطف والقهر نصيب منه حكمة بالغة في إظهار كمالات اللطف والقهر من الأزل إلى الأبد وفضلنا الأنبياء بعضهم على بعض بارتفاع المكان في القربة وقبول أثر نظر العناية على حسب سرايته في الأمة وخيريتها ألا ترى أنه عليه السلام لما كان أفضل الأنبياء كانت أمته خير الأمم وكتابه أفضل الكتب ففي قوله : {وَءَاتَيْنَا دَاوُادَ زَبُورًا} إشارة إلى أن فضل النبي صلى الله عليه وسلّم
173
على داود بقدر فضل القرآن على الزبور انتهى.
وقد نعت الله نبينا عليه السلام وأمته المرحومة في جميع الكتب المتقدمة.
أي وصف تو در كتاب موسى
وى نعت تو در زبور داود
مقصود تويى ز آفرينش
باقي بطفيل تست موجود
(5/133)
وفضله الله بكثرة الاتباع أيضاً كما قال عليه السلام : "أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها أمتي".
وفي "جامع الأصول" : عن الزهري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتذاكرون وهم ينتظرون خروجه فخرج حتى دنا منهم فسمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم : عجباً إن الله تعالى اتخذ من خلقه خليلاً اتخذ إبراهيم خليلاً وقال آخر ماذا بأعجب من كلام موسى كلمة تكليماً وقال آخر ماذا بأعجب من جعل عيسى كلمة الله وروحه فقال آخر : ماذا بأعجب من آدم اصطفاه الله عليهم فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أصحابه وقال : "قد سمعت كلامكم وأعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك وأن موسى نجى الله وهو كذلك وأن عيسى روح الله وكلمته وهو كذلك وأن آدم اصطفاه الله وهو كذلك ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله فأدخلها ومعي فقراء المهاجرين ولا فخر" وفي الحديث "إن الله اختارني على الأنبياء واختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار من أصحابي أربعاً : أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلياً" ـ رضي الله عنهم ـ كما في "بحر العلوم" ، قال المولى الجامي قدس سره :
خدا بر سروران سرداريش داد
ز خيل انبيا سا لا ريش داد
ى ديوار ايمان بود كارش
شد اورا ار ركن از ار يا رش
فكما أن البيت يقوم بالأركان الأربعة فكذا الذين يقوم بالخلفاء الأربعة ولذلك قال عليه السلام : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" لأنهم أصول بالنسبة إلى من عداهم من المؤمنين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 162
{قُلِ ادْعُوا} (بخوانيد اي مشركان مكه) {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنهم آلهة {مِن دُونِهِ} أي : متجاوزين الله تعالى كالملائكة والمسيح وأمه وعزير {فَلا يَمْلِكُونَ} فلا يستطيعون {كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ} إزالة نحو المرض والفقر والقحط {وَلا تَحْوِيلا} ولا تحويله ونقله منكم إلى غيركم من القبائل.
{أولئك الَّذِينَ يَدْعُونَ} أولئك مبتدأ صفته الذين وخبره يبتغون أي : أولئك الآلهة الذين يدعونهم المشركون من المذكورين {يَبْتَغُونَ} يطلبون لأنفسهم {إِلَى رَبِّهِمُ} ومالك أمورهم {الْوَسِيلَةَ} أي : القربة بالطاعة والعبادة.
قال الكاشفي : (وسيلتى ودست آويزى يعني تقرب ميكنند بطاعت وعبادت او بحضرت او جل جلاله) {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} بدل من واو يبتغون وأي موصولة أي : يبتغي من هو أقرب إلى الله منهم الوسيلة فكيف بمن دونه من غير الأقرب (يعني آنهاكه مقربان دذر كاهند از ملائكة وغير ايشان توسل ميكنند بحق سبحانه س غير مقرب خود بطريق اولى كه وجه توجه بدان حضرت آورد).
قال في "الكواشي" : أو أيهم استفهام مبتدأ خبره أقرب والجملة
174
نصب بيدعون.
والمعنى يطلبون القرب إليه تعالى لينظروا أي : معبوديهم أقرب إليه فيتوسلوا به تلخيصه آلهتهم أيضاً يطلبون القرب إليه تعالى {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} بالوسيلة {وَيَخَافُونَ عَذَابَه} بتركها كدأب سائر العباد فأين هم من كشف الضر فضلاً عن الإلهية {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} حقيقياً بأن يحذره كل أحد حتى الرسل والملائكة وإن لم يحذره العصاة لكمال غفلتهم بل يتعرضون له وتخصيصه بالتعليل لما أن المقام مقام التحذير من العذاب.
فعلى العاقل أن يترك الاعتذار ويحذر من بطش القهار.
عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال لعمر رضي الله عنه حين طعن يعني : (نيزه زده) يا أمير المؤمنين أسلمت حين كفر الناس وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين خذله الناس وتوفي رسول الله وهو عنك راض ولم يختلف عليك اثنان وقتلت شهيداً قال عمر رضي الله عنه : المغرور من غررتموه والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع أي : القيامة وما بعد الموت لأن المرء يطلع فيه على عمله ويلقى أموراً هائلة.
قال بعض الحكماء : الحزن يمنع الطعام والخوف يمنع الذنوب والرجاء يقوي على الطاعات وذكر الموت يزهد عن الفضول والخوف والرجاء إنما يكونان من الله تعالى لأن المعبود مفيض الخير والجود.
وأما الأنبياء وورثتهم الكمل فوسائط بين الله تعالى وبين الخلق ولا بد من طاعتهم من حيث نبوتهم ووراثتهم ومن التقرب إليهم لتحصيل الزلفى ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 174
از انس فرزند مالك آمده است
كه بمهمانى او شخصى شده است
او حكايت كرد كز بعد طعام
ديد انس دستار خوانرا زرد فام
ركن وآلوده كفت اي خادمه
اندر افكن در تنورش يكدمه
در تنور رز آتش در فكند
آن زمان دستار خوانرا هو شمند
جمله مهمانان دران حيران شدند
انتظار دور كندورى بدند
بعد يكساعت در آورد از تنور
اك واسيد وازان اوساخ دور
قوم كفتند اي صحابي عزيز
ون نه سوزيد ومنقى كشت نيز
(5/134)
كفت زانكه مصطفى دست ودهان
س بماليد اندرين دستار خوان
اي دل ترسنده از تار وعذاب
يا نان دست ولبى كن اقتراب
ون جمادى را نين تشريف داد
جان عاشق را ها خواهد كشاد
مر كلوخ كعبه را ون قبله كرد
خاك مردان باش اي جان درنبرد
جزء : 5 رقم الصفحة : 174
{وَأَنْ} نافية {مِنْ} استغراقية {قَرْيَةٌ} (ديهى وشهرى).
قال المولى أبو السعود رحمه الله : المراد بها القرية الكافرة أي : ما من قرية الكفار {إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} أي : مخربوها البتة بالخسف بها أو باهلاك أهلها بالكلية لما ارتكبوا من عظائم المعاصي الموجبة لذلك {قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} لأن الهلاك يومئذٍ غير مختص بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبة وإنما هو لانقضاء عمر الدنيا {أَوْ مُعَذِّبُوهَا} أي : معذبوا أهلها على الإسناد المجازي {عَذَابًا شَدِيدًا} بالقتل والقحط والزلازل ونحوها من البلايا الدنيوية والعقوبات الأخروية لأن التعذيب
175
مطلق عما قيد به الإهلاك من قبلية يوم القيامة وكثير من القرى العاصية قد أخرت عقوباتها إلى يوم القيامة هذا ما ذهب إليه المولى أبو السعود رحمه الله.
يقول الفقير : لا يخفى أن هذا التعميم لا يناسب سوق الآية وقيد القبلية معتبر في الشق الثاني أيضاً وهو لا ينافي العذاب الشديد الواقع بعد يوم القيامة حسبما أفصح عنه القاطع فالوجه حمل الإهلاك على الاستئصال والتعذيب على أنواع البلية التي هي أشد من الموت وعمم في "بحر العلوم" القرية يدل عليه إيراده قوله عليه السلام : "إن أمتي أمة مرحومة إنما جعل عذابها في القتل والزلازل والفتن" وقوله عليه السلام : "إن حظ أمتي من النار بلاها تحت الأرض" وقد قيل : الهلاك للقرى الصالحة والعذاب للطالحة قالوا : خراب مكة من الحبشة وخراب المدينة من الجوع وخراب البصرة من الغرق وخراب أيلة من العراق وخراب الجزيرة من الجبل وخراب الشام من الروم وخراب مصر من انقطاع النيل وخراب الاسكندرية من البربر وخراب الأندلس من الروم وخراب فارس من الزلازل وخراب أصفهان من الدجال وخراب نهاوند من الجبل وخراب خراسان من حوافر الخيل وخراب الري من الديلم وخراب الديلم من الأرمن وخراب الأرمن من الخزر وخراب الخزر من الترك وخراب الترك من الصواعق وخراب السند من الهند وخراب الهند من أهل السد يأجوج ومأجوج.
جزء : 5 رقم الصفحة : 175
ـ وروي ـ عن وهب بن منبه أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة وإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينية على يدي رجل من بني هاشم {كَانَ ذَالِكَ} الذي ذكر من الإهلاك والتعذيب {فِى الْكِتَـابِ} أي : اللوح المحفوظ {مَسْطُورًا} مكتوباً لم يغادر منه شيء إلا بين فيه كيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له وفي الحديث "أول شيء خلق الله القلم من نور فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين والقلم مسيرة خمسمائة عام واللوح مثله فقال للقلم أجر فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة برها وفاجرها رطبها ويابسها فصدقوا بما بلغكم عن الله من قدرته" وفي الحديث "أول ما خلق الله القلم بيده ثم خلق النون وهو الدواة ثم قال : اكتب فقال : وما أكتب؟ قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ثم ختم على فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة" رواه ابن عباس رضي الله عنهما.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ} أي : قرية قالب الإنسان {إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} بموت قلبه وروحه {قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} أي : قبل موت القالب فإن من مات فقد قامت قيامته {أَوْ مُعَذِّبُوهَا} بصب البلاء والمحن والأمراض والعلل والمصائب والنقص في الأموال والأنفس وأنواع الرياضات والمجاهدات ومخالفات الهوى بالاختيار والاضطرار {عَذَابًا شَدِيدًا} فإن الفطام من المألوفات شديد {كَانَ ذَالِكَ فِى الْكِتَـابِ مَسْطُورًا} من الأزل عزة وعظمة وكبرياء وجبروتاً فلا يصل السائر الصادق المحب إلى سرادقات جلاله شوقاً إلى جماله إلا بعد العبور على العقبة الكؤود {فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْعَقَبَةُ} (البلد : 11 ـ 12) فلما كان حال البلوغ إلى بيته قوله : {لَّمْ تَكُونُوا بَـالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الانفُسِ} (النحل : 7) فكيف يكون حال أهل الوصول إليه ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت" فلما لم يصل إحد إلى مقامه الذي وصل ما أوذي أحد في السير إلى الله والسير في الله
176
والسير بالله مثل ما أوذي صلى الله عليه وسلّم وإيذاء السائرين بإذاية وجودهم في السير ففي السير إلى الله ذوبان الأفعال وفي السير في الله ذوبان الصفات وفي السير بالله ذوبان الذات فافهم جداً ، سعدي :
جزء : 5 رقم الصفحة : 175
جفا نبرده ه دانى توقدر يار
تحصلي كام دل بتكاوى خوش ترست
حافظ :
(5/135)
مكن زغصه شكايت كه در طريق طلب
برا حتى نرسيد آنكه زحمتي نكشيت
وقال :
خام را طاقت روانه رسوخته نيست
ناز كانرا نرسد شيوه جان افشانى
اللهم اجعلنا من أهل الصبر على البلاء وارزقنا من غنائم أهل الولاء.
{وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالايَـاتِ} الباء مزيدة أي : وما صرفنا عن إرسال الآيات التي اقترحها قريش من إحياء الموتى وقلب الصفا ذهباً ورفع جبال مكة لتنبسط الأرض وتصلح للزراعة وإجراء الأنهار لتحصل الحدائق ونحو ذلك.
{إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الاوَّلُونَ} استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي : وما منعنا عن إرسالها شيء من الأشياء إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم في الطبع كعاد وثمود وأنها لو أرسلت لكذبوا تكذيب أولئك واستوجبوا الاستئصال على ما مضت به سنتنا وقد قضينا أن لا نستأصلهم لأن فيهم من يؤمن أو يلد من يؤمن ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة فقال : {وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ} وهو عطف على ما يفصح عنه النظم الكريم كأنه قيل : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون حيث آتيناهم ما اقترحوا من الآيات الباهرة فكذبوها وآتينا ثمود الناقة بسؤالهم {مُبْصِرَةً} بينة ذات أبصار على أن يكون للنسبة فالتاء للمبالغة وأسند إليها حال من يشاهدها مجازاً {فَظَلَمُوا بِهَا} فكفروا بها ظالمين أي : لم يكتفوا بمجرد الكفر بها بل فعلوا بها ما فعلوا من العقر وظلموا أنفسهم وعرضوها للهلاك بسبب عقرها ولعل تخصيصها بالذكر لما أن ثمود عرب مثلهم وأن لهم من العلم بحالهم ما لا مزيد عليه حيث يشاهدون آثار هلاكهم وروداً وصدوراً {وَمَا نُرْسِلُ بِالايَـاتِ} المقترحة {إِلا تَخْوِيفًا} من نزول العذاب المستأصل كالطليعة له فإن لم يخافوا نزل أو بغير المقترحة كالمعجزات وآثار القرآن إلا تخويفاً بعذاب الآخرة فإن أمر من بعثت إليهم مؤخر إلى يوم القيامة كرامة لك.
قيل : إن الرسول عليه السلام هو الأمان الأعظم ما عاش وما دامت سنته باقية فإذا أماتوها أماتهم الله وأهلكهم إذ لهذه الأمة نصيب من عذاب الدنيا بقدر حالهم وذلك في أواخر الزمان كما سبق في المجلس السابق.
ومنه الزلازل والمخاوف والطاعون فإنه زجر لأهل الفسق وتسلط الظلمة فإنه عذاب أي عذاب.
فينبغي للمؤمن أن يسارع إلى طريق التقوى وإحياء سنة خير الورى وفي الحديث "من أحيا سنتي فقد أحياني ومن أحياني فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة" وفي الحديث : "من حفظ سنتي أكرمه الله بأربع خصال : المحبة في قلوب البررة ، والهيبة في قلوب الفجرة ، والسعة في الرزق ، والثقة بالدين" كما أن الرسول عليه السلام أمان ما عاش فكذا وارثه الأكمل فإن اعتقاده واتباع طريقته كالإيمان بالرسول واتباع
177
شريعته إذ هو نائب عنه وخليفة له فالاقتران بأهل الصلاح والتقوى مما يرفع الله به العذاب وقد ورد في الحديث "إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أهل القبور" ذكره الكاشفي في "الرسالة العلية" وابن الكمال في الأربعين حديثاً والمراد بأهل القبور من مات بالاختيار قبل الموت بالاضطرار ، قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 175
مدد از خاطر رندان طلب اي دل ورنى
كار صعبست مباداكه خطايى بكنيم
واعلم أن المؤمن الصادق في إيمانه لا يعذبه الله في الآخرة لأن نبيه يكون فيهم يوم القيامة وما دام هو بين الأمة لا يعذبهم الله وتقول لهم جهنم جز يا مؤمن فإن نورك قد أطفأ ناري فإن دخل المجرمون النار فذلك بجهة الخلوص لا الخلود.
(5/136)
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ} واذكر إذ أوحينا إليك {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} أي : علماً وقدرة فهم في قبضته فامض لأمرك ولا تخف أحداً.
قال بعض الكبار : إحاطة الله سبحانه عند العارفين بالموجودات كلها عبارة عن تجليه بصور الموجودات فهو سبحانه بأحدية جميع أسمائه سار في الموجودات كلها ذاتاً وحياة وعلماً وقدرة إلى غير ذلك من الصفات والمراد بإحاطته تعالى هذه السراية ولا يعزب عنه ذرة في السموات والأرض وكل ما يعزب عنه يلتحق بالعدم وقالوا : هذه الإحاطة ليست كإحاطة الظرف بالمظروف ولا كإحاطة الكل بأجزاءه ولا كإحاطة الكلي بجزئياته بل كإحاطة الملزوم بلازمه فإن التعينات اللاحقة لذاته المطلقة إنما هي لوازم له بواسطة أو بغير واسطة وبشرط أو بغير شرط ولا تقدح كثرة اللوازم في وحدة الملزوم ولا تنافيها {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَـاكَ إِلا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} المراد بالرؤيا ما عاينه عليه السلام ليلة المعراج من عجائب الأرض والسماء والتعبير عن ذلك بالرؤيا إما لأنه لا فرق بينه وبين الرؤية كما في "الكواشي" الرؤيا تكون نوماً ويقظة كالرؤية أو لأنها وقعت بالليل وتقضت بالسرعة كأنها منام أو لأن الكفرة قالوا : لعلها رؤيا فتسميتها رؤيا على قول المكذبين.
قال في "الحواشي السعدية" قد يقال تسميتها رؤيا على وجه التشبيه والاستعارة لما فيها من الخوارق التي هي بالمنام أليق في مجاري العادات انتهى.
أي : وما جعلنا الرؤية التي أريناكها ليلة الإسراء عياناً مع كونها آية عظيمة حقيقة بأن لا يتلعثم في تصديقها أحد ممن له أدنى بصيرة إلا فتنة افتتن بها الناس حتى ارتد بعضهم {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ} عطف على الرؤيا والمراد بلعنها فيه لعن طاعمها على الإسناد المجازي أو إبعادها عن الرحمة فإن تلك الشجرة التي هي الزقوم تنبت في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة أي : وما جعلناها إلا فتنة لهم حيث أنكروا ذلك وقالوا : أن محمداً يزعم الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول : ينبت فيها الشجر ولقد ضلوا في ذلك ضلالاً بعيداً حيث كابروا قضية عقولهم فإنهم يرون النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد المحماة فلا يضرها ويشاهدون المناديل المتخذة من وبر السمندل تلقى في النار ولا تؤثر فيها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 175
قال الكاشفي : (وعجب ازيشان بودكه ازدرخت سبز آتش ميكر فتند كما قال تعالى : {جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا} (يس : 80) وهي فكر نمى كردندكه آتش در درخت وديعت نهد ه عجب كه درخت در آتش بروياند) وهو المرخ والعفار يوجدان في أغلب بوادي العرب يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما أخضران يقطر منهما الماء
178
فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فتنقدح النار بإذن الله تعالى {وَنُخَوِّفُهُمْ} بذلك وبنظائره من الآيات فإن الكل للتخويف {فَمَا يَزِيدُهُمْ} التخويف {إِلا طُغْيَـانًا كَبِيرًا} عتوا متجاوزاً عن الحد فلو أنا أرسلنا بما اقترحوه من الآيات لفعلوا بها ما فعلوا بنظائرها وفعل بهم ما فعل بأشياعهم وقد قضينا بتأخير العقوبة العامة لهذه الأمة إلى الطامة الكبرى.
وأوحى الله إلى عيسى عليه السلام كم من وجه مليح صبيح ولسان فصيح وبدن صحيح غدا بين طباق النيران يصيح فلا بدّ من الخوف فإن العارفين يخافون فما ظنك بغيرهم.
قال المزني : دخلت على الشافعي رحمه الله في مرضه الذي مات فيه فقلت له : كيف أصبحت يا أستاذي؟ قال : أصبحت عن الدنيا راحلاً ولإخواني مفارقاً ولعملي ملاقياً ولكأس المنية شارباً وعلى الله وارداً فما أدري أروحي إلى جنة أم إلى نار ثم أنا أقول :
ولم أدر أي الحالتين تنوبني
وأنك لا تدري متى أنت ميت
وفي "المثنوي" :
لا تخافوا هست نزل خائفان
هست درخور از براى خائفان
هركه ترسد مرورا ايمن كنند
مردل ترسنده را ساكن كنند
آنكه خوفش نيست ون كويى مترس
درس ه دهى نيست او محتاج درس
واعلم أن رؤية الآيات واستماعها تزيد المؤمنين إيماناً وتقويهم في باب اليقين لأن التربة الطيبة لا تغير الماء الزلال ولا تخرجه عن طبعه والخبيثة لا يحصل لها به نماء إذ لا يستعد ولا يستحق إلا العقم نسأل الله تعالى أن يفيض علينا سجال العلوم ويزيدنا في الفهوم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 175
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـائِكَةِ} أي : واذكر وقت قولنا للملائكة ما عدا الأرواح العالية وهم الملائكة المهيمة الذين لا شعور لهم بخلق آدم عليه السلام ولا بغيره لاستغراقهم في شهود الحق تعالى {اسْجُدُوا لادَمَ} تحية وتكريماً لماله من الفضائل المستوجبة لذلك.
(5/137)
قال في "التأويلات النجمية" : أن الله خلق آدم فتجلى فيه فكانت السجدة في الحقيقة للحق تعالى وكان آدم بمثابة الكعبة قبلة للسجود {فَسَجَدُوا} له من غير تلعثم أداء لحقه عليه السلام وامتثالاً للأمر فدل ائتمارهم بأوامر الحق والانتهاء عن نواهيه على السعادة الأزلية {إِلا إِبْلِيسَ} فإنه أبى واستكبر فدل المخالفة والاستكبار والإباء على الشقاوة الأزلية إذ الأبد مرآة الأزل يظهر فيها صورة الحال سعادة وشقاوة.
قال في "بحر العلوم" : استثنى إبليس من الملائكة وهو جنى لأنه قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه تغليب الرجال على المرأة في قولك : خرجوا إلا فلانة ثم استثنى الواحد منهم استثناء متصلاً {قَالَ} اعتراضاً وعجباً وتكبراً وإنكاراً عندما وبخه تعالى بقوله : {قَالَ يا اإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّـاجِدِينَ} (الحجر : 32) {ءَأَسْجُدُ} وأنا مخلوق من العنصر العالي وهو النار؟ قال الكاشفي : (أيا سجده كنم يعني نكنم) ولم يصح مني واستحال أن أسجد لأن الاستفهام المعني به الإنكار يكون بمعنى النفي {لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} نصب على نزع الخافض أي : من طين مثل واختار موسى قومه أي : من قومه فاستحق اللعن والطرد والبعد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 179
{قَالَ} إبليس بعدما لعن وطرد وأبعد إظهاراً للعداوة وإقداماً عل الحسد كما قال في "الإرشاد" وقال إبليس لكن لا عقيب كلامه
179
المحكي بل بعد الأنظار المترتب على الاستنظار المتفرع على الأمر بخروجه من بين الملأ الأعلى باللعن المؤبد وإنما لم يصرح اكتفاء بما ذكر في موضع آخر فإن توسيط قال بين كلامي اللعين للإيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل على غيره {قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ} الكاف حرف خطاب أي : ليس باسم حتى يكون في محل النصب على أنه مفعول رأيت بل هو حرف أكد به ضمير الفاعل المخاطب لتأكيد الإسناد فلا محل له من الإعراب وهذا مفعول أول والموصول صفته والثاني محذوف لدلالة الصفة عليه وأرأيت ههنا بمعنى أخبرني بأن يجعل العلم الذي هو سبب الاخبار مجازاً عن الأخبار وبأن يجعل الاستفهام مجازاً عن الأمر بجامع الطلب.
والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ بأن أمرتني بالسجود له لم كرمته عليّ وفضلته بالخلافة والسجود وأنا خير منه لأنه خلق من طين وخلقت من نار ، وفي "المثنوي" :
آنكه آدم را بدن ديد اورميد
وآنكه نور مؤتمن ديد او خميدتو زقر آن اى سر ظاهر مبين
ديو آدم را نه بيند جز كه طين {لَـاـاِنْ أَخَّرْتَنِ} حياً ، يعني : (مرك مرا تأخير كنى نانكه موعودست) {إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} يعني على صفة الإغواء والإضلال وهو كلام مبتدأ واللام موطئة وجوابه قوله : {لاحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} أي : لاستولين على أولاده ونسله استيلاء قوياً بالإغواء كما قال : {فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 82) يقال : احتنكه استولى عليه كما في "القاموس".
قال في "الإرشاد" من قولهم حنكت الدابة واحتنكتها إذا جعلت في حنكها الأسفل حبلاً تقودها به أو لاستأصلنهم بالإغواء.
يعني : (هر آينه ازبيخ بركنم فرزندان اورا باغوا ونان كنم كه بعذاب تو مستأصل شوند) من قولهم احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلاً.
قال في "الأسئلة المقحمة" : علم إبليس أن فيهم شهوات مركبة فهي سبب ميلهم عن الحق إلى الباطل قياساً على أبيهم حين مال إلى أكل الشجرة بشهوته انتهى وقيل غير ذلك {إِلا قَلِيلا} منهم وهم المخلصون الذين عصمهم الله تعالى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 179
{قَالَ} الله تعالى : {اذْهَبْ} على طريقتك السوء بالإغواء والإضلال.
وفي "بحر العلوم" ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيىء بل معناه امض لما قصدته أو طرد له وتخلية بينه وبين ما سولت له نفسه أو هو على وجه الإهانة والتهديد تقول لمن لا يقبل منك اذهب وكن على ما اخترت لنفسك.
قال الكاشفي : (امراهانت است وابعاد يعني اورا براند ازدركاه قرب وكفت درى مهم خودبرو) {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} على الضلالة.
قال الكاشفي : (هركه متابعت كندترا وفرمان توبرد) {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ} أي : جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب رعاية لحق المتبوعية {جَزَآءً مَّوْفُورًا} من وفر الشيء كمل أي : تجزون جزاء مكملاً فنصبه على المصدر بإضمار فعله.
قال الكاشفي : (جزايى تمام يعني عذابي بردوام).
{وَاسْتَفْزِزْ} أي : استخف وحرك ومنه استفزه الغضب استخفه والاستفزاز (سبك كردن).
وفي "بحر العلوم" : واستزل وحرك.
يعني : (ازجاى بجنبان وبلغزان) {مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم} من قدرت أن تستفزه من ذريته.
وقال الكاشفي (هركه را توانى لغزانيد ازايشان) {بِصَوْتِكَ} بوسوستك ودعائك إلى الشر والمعصية
180
(5/138)
وكل داع إلى معصية الله فهو من حزب إبليس وجنده.
(وأمام زاهدي ازابن عباس نقل ميكندكه هر آوازى كه نه در رضاى خداى تعالى ازدهان بيرون آيد آواز شيطانست).
وقال مجاهد بالغناء والمزامير فالمغنون والزامرون من جند إبليس وقد ورد في الخبر الوعيد على الزامر وفي الحديث "بعثت لكسر المزامير وقتل الخنازير" المزامير جمع مزمار وهو آلة معروفة يضرب بها ولعل المراد آلات الغناء كلها تغليباً والكسر ليس على حقيقته بل مبالغة عن النهي لقرينة.
فإن قلت الحديث المذكور صريح في قبح المزمار والظاهر من قوله عليه السلام حين سمع صوت الأشعري وهو يقرأ "لقد أوتي هذا من مزامير آل داود" خلافه.
قلت : ضرب المزامير مثلاً لحسن صوت داود عليه السلام وحلاوة نغمته كأن في حلقه مزامير بها والآل مقحم ومعناه الشخص كذا في "شرح الأربعين" حديثاً لابن كمال.
جزء : 5 رقم الصفحة : 179
وفي "التأويلات النجمية" : واستزل بتمويهات الفلاسفة وتشبيهات أهل الأهواء والبدع وخرافات الدهرية وطامات الإباحية وما يناسبها من مقالات أهل الطبيعة مخالفاً للشريعة {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} (وبرانكيزان برايشان بسواران ويادكان يعني ديواني كه معاون تواند دروسوسه واغوا همه را جمع كن در تسلط برايشان).
وفي "الكواشي" جلب واجلب واحد بمعنى الحث والصياح أي : صح عليهم بأعوانك وأنصارك من راكب وراجل من أهل الفساد والخيل الخيالة بتشديد الياء وهي أصحاب الخيول ومنه قوله عليه السلام : "يا خيل الله اركبي".
والرجل بالسكون بمعنى الراجل وهو من لم يكن له ظهر يركبه.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة أن خيلاً ورجلاً من الجن والإنس فما كان من راكب يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس وما كان من راجل يقاتل في معصية الله فهو من رجل إبليس ويجوز أن يكون استفزازه بصوته وإجلابه بخيله ورجله تمثيلاً لتسلطه على من غويه فكأنه مغواراً وقع على قوم فصوت بهم صوتاً يزعجهم من أماكنهم ويقلعهم عن مراكزهم وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم.
{وَشَارِكْهُمْ} (شركت ده بايشان) {فِى الامْوَالِ} بحملهم على كسبها أو جمعها من الحرام والتصرف فيها على ما لا ينبغي من الربا والإسراف ومنع الزكاة وغير ذلك {وَالاوْلْـادِ} بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة والوأد والإشراك كتسميتهم بعبد العزى وعبد الحارث وعبد الشمس وعبد الدار وغير ذلك.
والتضليل بالحمل على الأديان الزائغة والحرف الذميمة والأفعال القبيحة.
وقال في "التأويلات النجمية" : بتضييع زمانهم وإفساد استعدادهم في طلب الدنيا ورياستها متغافلين عن تهذيب نفوسهم وتزكيتها وتأديبها وتوقيها عن الصفات المذمومة وتحليتها بالصفات المحمودة وتعليمهم الفرائض والسنن والعلوم الدينية وتحريضهم على طلب الآخرة والدرجات العلى والنجاة من النار والدركات السفلى انتهى.
وعن جعفر بن محمد أن الشيطان يقعد على ذكر الرجل فإذا لم يقل باسم الله أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل وقد جعل الله له في كثير من الأشياء نصيباً وفي الحديث : "إن إبليس لما أنزل إلى الأرض قال : يا رب أنزلتني الأرض وجعلتني رجيماً فاجعل لي بيتاً قال : الحمام قال : فاجعل لي مجلساً قال : الأسواق ومجامع الطرق قال : فاجعل لي طعاماً
181
قال : ما لم يذكر اسم الله عليه قال : اجعل لي شراباً قال : كل مسكر قال : اجعل لي مؤذناً قال : المزامير قال : اجعل لي قرآناً قال : الشعر قال : اجعل لي كتاباً قال : الوشم قال : اجعل لي حديثاً قال : الكذب قال : اجعل لي رسلاً قال : الكهنة قال : اجعل لي مصائد قال : النساء" كما في "بحر العلوم" للسمرقندي {وَعَدَّهُمْ} المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة والإتكال على كرامة الآباء وتأخير التوبة بتطويل الأمل وإخبارهم أن لا جنة ولا نار ونحو ذلك {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـانُ} اللازم يحتمل العهد والجنس قال عليه السلام : "ما منكم من أحد إلا وله شيطان" {إِلا غُرُورًا} يعني : (خطارا در صورت ثواب مى آرايد) وهو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب.
قال في "بحر العلوم" : هذه الأوامر واردة على طريق التهديد كقوله للعصاة اعملوا ما شئتم وقيل على سبيل الخذلان والتخلية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 179
{إِنَّ عِبَادِى} الإضافة للتشريف وهم المخلصون وفيه أن من تبعه ليس منهم (امام قشيري فرموده كه بنده حق آنست كه دربند غير نباشد.
وشيخ عطار فرمايد) :
وتوردر بند صد يزى خدارا بنده ون باشى
كه تودر بند هر يزى كه باشى بنده آنى
{لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} أي : تسلط وقدرة على إغوائهم كما قال : {إِنَّه لَيْسَ لَه سُلْطَـانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل : 99) {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} لهم يتوكلون عليه ويستمدونه يا إبليس الخلاص من إغوائك.
(5/139)
قال في "التأويلات النجمية" : فيه إشارة إلى أن عباد الله هم الأحرار عن رق الكونين وتعلقات الكونين فلا يستعبدهم الشيطان ولا يقدر على أن تعلق بهم فيضلهم عن طريق الحق ويغويهم بما سواه عنه {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} لهم في ترتيب أسباب سعادتهم وتفويت أسباب شقاوتهم والحراسة من الشيطان والهداية إلى الرحمن.
يقول الفقير : لا يلزم من نفي التسلط أن لا يقصدهم الشيطان أصلاً فإن ذلك يرده قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائفٌ مِّنَ الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف : 201) فإن كلمة إذا تدل على التحقيق والوقوع ولكنهم محفوظون من الاتباع لكونهم مؤيدين من عند الله تعالى.
ـ حكي ـ أنه جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : يا محمد نحن نعبد بحضور القلب بلا وسواس الشيطان ونسمع من أصحابك أنهم يصلون بالوساوس فقال عليه السلام لأبي بكر رضي الله عنه : "أجبه" فقال : يا يهودي بيتان بيت مملوء بالذهب والفضة والدر والياقوت والأقمشة النفيسة وبيت خراب خال ليس فيه شيء من المذكورات أيقصد اللص إلى البيت المعمور المملوء من الأقمشة النفيسة أم يقصد إلى البيت الخراب فقال اليهودي يقصد إلى البيت المعمور المملوء بذلك فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : قلوبنا مملوء بالتوحيد والمعرفة والإيمان واليقين والتقوى والإحسان وغيرها من الفضائل وقلوبكم خالية عن هذه فلا يقصد الخناس إليها فأسلم اليهودي فظهر أن الشيطان قاصد ولكنه غير واصل إلى مراده فإن الله يحفظ أولياءه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 182
{رَبُّكُمْ} (رور دكار شما) وهو مبتدأ خبره قوله {الَّذِى} القادر الحكيم الذي {يُزْجِى} الإزجاء (راندن) يقال : زجاه وأزجاه ساقه أي : يسوق ويجري بقدرته الكاملة {لَكُمْ} لمنافعكم {الْفُلْكِ} أي : السفن {فِى الْبَحْرِ} (در دريا).
قال في "القاموس" البحر الماء الكثير {لِّتَبْتَغُوا} لتطلبوا {مِن فَضْلِهِ} من رزق هو فضل من قبله {إِنَّه كَانَ بِكُمْ} أزلاً وأبداً {رَّحِيمًا}
182
حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من أسبابه فالمراد الرحمة الدنيوية والنعمة العاجلة المنقسمة إلى الجليلة والحقيرة.
{وَإِذَا مَسَّكُمُ} (وون برسد شمارا) {الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ} خوف الغرق فيه {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ} أي : ذهب عن خواطركم كل من تدعون في حوادثكم وتستغيثون {إِلَّا إِيَّاهُ} تعالى وحده من غير أن يخطر ببالكم أحد منهم وتدعوه لكشفه استقلالاً أو اشتراكاً ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً أي : ضل كل من تدعونه وتعبدونه من الآلهة كالمسيح والملائكة وغيرهم من عونكم وغوثكم ولكن الله هو الذي ترجونه لصرف النوازل عنكم {فَلَمَّآ} (س آن هنكام كه) من الغرق وأوصلكم {إِلَى الْبَرِّ} (بسوى بيابان) {أَعْرَضْتُمْ} عن التوحيد وعدتم إلى عبادة الأوثان ونسيتم النعمة وكفرتم بها {وَكَانَ الانسَـانُ كَفُورًا} بليغ الكفران ولم يقل وكنتم كفوراً ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة.
{أَفَأَمِنتُمْ} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم من {أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} الذي هو مأمنكم كقارون وبكم في موضع الحال وجانب البر مفعول به أي : يقلبه الله وأنتم عليه ويجوز أن تكون الباء للسببية أي : يلقبه بسبب كونكم فيه.
قال سعدي المفتي أي : يقلب جانب البر الذي أنتم فيه فيحصل بخسفه إهلاككم وإلا فلا يلزم من خسف جانب البر بسببهم إهلاكهم.
وقال الكاشفي : (آيا ايمن شديدكه ازدريا بصحرا آمديد يعني ايمن مباشيد از آنكه فرو بردشمارا بكرانه از زمين يعني آنكه قادراست كه شمارا درآب فروبرد توانست برآنكه در خاك نهان كند).
قال في "القاموس" : خسف المكان يخسف خسوفاً ذهب في الأرض وخسف الله بفلان الأرض غيبه فيها لازم ومتعد.
وفي "التهذيب" الخسف (بزين فروبردن) قال الله تعالى : {فَخَسَفْنَا بِه وَبِدَارِهِ الارْضَ} (القصص : 81) {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ} من فوقكم {حَاصِبًا} ريحاً ترمي الحصباء وهي الحصى الصغار يرجمكم بها فيكون أشد عليكم من الغرق في البحر وقيل : أي يمطر عليكم حصباء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا} يحفظكم من ذلك ويصرفه عنكم فإنه لا رادّ لأمره الغالب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 182(5/140)
{أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ} في البحر بعد خروجكم إلى البر وسلامتكم {تَارَةً} مرة {أُخْرَى} بخلق دواعي تلجئكم إلى أن ترجعوا فتركبوه فإسناد الإعادة إليه تعالى مع أن العود إليه باختيارهم باعتبار خلق تلك الدواعي الملجئة.
وفيه إيماء إلى كمال شدة هول ما لاقوه في التارة الأولى بحيث لولا الإعادة لما عادوا وأوثرت كلمة في على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الانتهاء للدلالة على استقرارهم فيه {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ} وأنتم في البحر {قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ} وهي التي لا تمر بشيء إلا قصفته أي : كسرته وجعلته كالرميم وذكَّر قاصفاً لأنه ليس بإزائه ذكر فجرى مجرى حائض كما في "الكواشي".
{فَيُغْرِقَكُم} بعد كسر فلككم كما ينبىء عنه عنوان القصف {بِمَا كَفَرْتُمْ} بسبب إشراككم وكفرانكم لنعمة الإنجاء {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ} (بآن غرق كردن) {تَبِيعًا} مطالباً يتبعنا بانتصار أو صرف.
قال في "القاموس" : التبيع كامير التابع ومنه قوله تعالى : {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِه تَبِيعًا} أي : ثائراً ولا طالباً انتهى.
وفي الآيات إشارات :
منها : أن الشريعة
183
كالفلك في بحر الحقيقة إذ لو لم يكن هذا الفلك ما تيسر لأحد العبور على بحر الحقيقة والمقصود منه جذبة العناية إذ هي ليست بمكتسبة للخلق بل من قبيل الفضل فعلى من يريد النيل إلى هذه الجذبة أن يسير بقدمي العلم والعمل ، قال في "المثنوي" :
رهروراه طريقت اين بود
كاو بأحكام شريعت مى رود
ومنها : أن الإعراض عن الحق بالكفران يؤدي إلى الخسران.
قال الجنيد : لو أقبل صديق على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله.
قال أوحد المشايخ في وقته أبو عبد الله الشيرازي : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المنام وهو يقول : من عرف طريقاً إلى الله فسلكه ثم رجع عنه عذبه الله تعالى بعذاب لم يعذبه به أحداً من العالمين.
درين ره دائماً ثابت قدم باش
بروازرهزن غم بي الم باش
زبازار توجه رو مكردان
همه سودى كه خواهى اندرين دان
جزء : 5 رقم الصفحة : 182
ومنها : أن جميع الجوانب والجهات متساوية بالنسبة إلى قدرته تعالى وقهره سلطانه لا ملجأ ولا منجي منه إلا إليه فعلى العبد أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب حيث كان فإن الله كان متحلياً بجماله وجلاله في جميع الأينيات ولذا كان أهل اليقظة والحضور لا يفرقون بين أين وأين وبين حال وحال لمشاهدتهم إحاطة الله تعالى فإن الله تعالى لو شاء لأهلك من حيث لا يخطر بالبال ألا ترى أنه أهلك النمرود بالبعوض فكان البعوض بالنسبة إلى قدرته كالأسد ونحوه في الإهلاك وربما رأيت من غص بلقمة فمات فانظر في أن تلك اللقمة مع أنها من أسباب الحياة كانت من مبادى الممات فأماته الله من حيث يدري حياته فيه ولو أمعنت النظر لوجدت شؤون الله تعالى في هذا العالم عجيبة :
هركرا خواهد خدا آرد بنك
نيست كس را قوت بازوى جنك
جزء : 5 رقم الصفحة : 182
قال الله تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} التكريم والإكرام بمعنى والاسم منه الكرامة والمعنى : (بالفارسية وهر آيينه كرامى كرديم فرزندان آدم را).
قال المولى أبو السعود : بني آدم قاطبة تكريماً شاملاً لبرهم وفاجرهم.
وفي "التأويلات النجمية" : خصصناهم بكرامة تخرجهم من حيز الاشتراك وهي على ضربين جسدانية وروحانية فالكرامة الجسدانية عامة يستوي فيها المؤمن والكافر وهي تخمير طينته بيده أربعين صباحاً وتصويره في الرحم بنفسه وأنه تعالى صوره فأحسن صورته وسواه فعدله في أي : صورة ما شاء ركبه ومشاه سوياً على صراط مستقيم مستقيم القامة أخذاً بيديه آكلاً بأصابعه مزيناً باللحى والذوائب صانعاً بأنواع الحرف والكرامة الروحانية على ضربين خاصة وعامة فالعامة أيضاً يستوي فيها المؤمن والكافر وهي أن كرمه بنفخه فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها وكلمه قبل أن خلقه بقوله : ألست بربكم فاسمعه خطابه وأنطقه بجوابه بقوله : قالوا : بلى وعاهده على العبودية وأولده على الفطرة وأرسل إليه الرسل وأنزل عليه الكتب ودعاه إلى الحضرة ووعده الجنة وخوفه النار وأظهر له الآيات والدلالات والمعجزات والكرامة الروحانية الخاصة ما كرم به أنبياءه ورسله وأولياءه وعباده المؤمنين من النبوة والرسالة والولاية والإيمان والإسلام والهداية إلى الصراط المستقيم
184
(5/141)
وهو صراط الله والسير إلى الله وفي الله وبالله عند العبور على المقامات والترقي عن الناسوتية بجذبات اللاهوتية والتخلق بأخلاق الإلهية عند فناء الأنانية وبقاء الهوية (امام قشيري قدس سره فرموده كه مراد از بني آدم مؤناً نند ه كافرانرا بنص {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن مُّكْرِمٍ} (الحج : 18) از تكريم هي نصيبي نيست وتكريم مؤمنان بدانست كه ظاهر ايشانرا بتوفيق مجاهدات بياراست وباطن ايشانرا بتحقيق مشاهدات منورساخت) كما قال في "بحر العلوم" الظاهر عندنا تكريمهم بالإيمان والعمل الصالح بدليل قوله عليه السلام : "إن المؤمن يعرف في السماء كما يعرف الرجل أهله وولده وإنه أكرم على الله من ملك مقرب" انتهى (محمد بن كعب رضي الله عنه كفت كه كرامت آدميان بدانست كه حضرت محمد صلى الله عليه وسلّم ازايشانست).
جزء : 5 رقم الصفحة : 184
اي شرف دوده آدم بتو
روشنى ديده عالم بنو
كيست درين خانه كه خيل تونيست
كيست برين خوان كه طفيل تونيست
ازتو صلايى بالست آمده
نيست بمهمانىء هممت آمده
{وَحَمَلْنَـاهُمْ} (وبرداشتيم ايشانرا وسوار كرديم) {فِى الْبَرِّ} (دربيابان بر جهار ايان) {وَالْبَحْرِ} (ودردريا بكشتيها) من حملته إذا جعلت له ما يركبه وليس من المخلوقات شيء كذلك.
وفي "التأويلات النجمية" : أي : عبرناهم عن بر الجسمانية وبحر الروحانية إلى ساحل الربانية (ودر حقائق سلمى آمده كه كرامى ساختيم آدميانرا بمعرفت وتوحيد وبرداشتيم ايشانرا دربر نفس وبحر قلب وكفته اند بر آنست كه ظهور دارد از صفات وبحر آنه مستوراست از حقائق ذات) {وَرَزَقْنَـاهُم} (وروزى داديم ايشانرا) {مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ} من فنون النعم المستلذة مما يحصل بصنعهم وبغير صنعهم كالسمن والزبد والتمر والعسل وسائر الحلاوي.
وفي "التأويلات النجمية" : وهي المواهب التي طيبها من الحدوث فيطعم بها من يبيت عنده ويسقيه بها وهي طعام المشاهدات وشراب المكاشفات التي لم يذق منها الملائكة المقربون اطعم بها أخص عباده في أواني المعرفة وسقاهم بها في كأسات المحبة أفردهم بها عن العالمين ولهذا اسجد لهم الملائكة المقربين ، قال المولى الجامي قدس سره :
ملائك راه سوداز حسن طاعت
و فيض عشق بر آدم فروريخت
وقال الحافظ :
فرشته عشق نداندكه يست قصه مخوان
بخواه جام وكلابى بخاك آدم ريز
جزء : 5 رقم الصفحة : 184
{وَفَضَّلْنَـاهُمْ} (وافزونى داديم ايشانرا) أي : في العلوم والإدراكات بما ركبنا فيهم من القوى المدركة التي يتميز بها الحق من الباطل والحسن من القبيح {عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا} وهم ما عدا الملائكة عليهم السلام {تَفْضِيلا} عظيماً فحق عليهم أن يشكروا نعم الله ولا يكفروها ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحقة ويرفضوا ما هم عليه من الشرك الذي لا يقبله أحد ممن له أدنى تمييز فضلاً عمن فضل على من عدا الملأ الأعلى الذين هم العقول المحضة وإنما استثنى جنس الملائكة من هذا التفضيل لأن علومهم دائمة عارية عن الخطأ وليس فيه دلالة
185
(5/142)
على الأفضلية بالمعنى المتنازع فيه فإن المراد ههنا بيان التفضيل في أمر مشترك بين جميع أفراد البشر صالحها وطالحها ولا يمكن أن يكون ذلك هو الفضل في عظم الدرجة وزيادة القربة عند الله تعالى كما في "الإرشاد".
وقال في "بحر العلوم" : فيه دلالة على أن بني آدم فضلوا على كثير وفضل عليهم قليل وهو أبوهم آدم وأمهم حواء عليهما السلام لما فيهما من فضل الأصالة على من تفرع منهما من سائر الناس لا الملائكة المقربون كما زعم الكلبي وأبو بكر الباقلاني وحثالة المعتزلة وإلا يلزم التعارض بين الآيات وذلك أن الله أمر الملائكة كلهم بالسجود لآدم على وجه التعظيم والتكريم ومقتضى الحكمة الأمر للأدنى بالسجود للأعلى دون العكس وأيضاً قال : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) فيفهم منه كل أحد من أهل اللسان قصده تعالى إلى تفضيل آدم على الملائكة وبيان زيادة علمه واستحقاقه التعظيم والتكريم وقال : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَـالَمِينَ} (آل عمران : 33) والملائكة من جملة العالم فمحال أن تدل الآية التي نحن بصددها على ما زعموا من تفضيل الملك على البشر كلهم وأيضاً مما يدل على بطلان ما زعموا قول النبي صلى الله عليه وسلّم "إن الله فضل المرسلين على الملائكة المقربين لما بلغت السماء السابعة لقيني ملك من نور على سرير فسلمت عليه فرد على السلام فأوحى الله إليه سلم عليك صفيي ونبيي فلم تقم إليه وعزتي وجلالي تقومن فلا تقعدن إلى يوم القيامة" انتهى.
وفي "الأسئلة المقحمة" : المشهور من مذهب أهل الحق أن الأنبياء أفضل من الملائكة انتهى.
قال الكاشفي : (علمارا در تفضيل بشر مباحث دور ودرازاست آنكه جمهور أِل سنت برآنند كه بني آدم فاضل ترند از رسل ملائكة ورسل ملائكة افضلند از اولياى بني آدم وأولياي بني آدم شريفترند از اولياي ملائكة وصلحاي أهل ايمانرا أفضل است برعوام ملائكة وعوام ملائكة بهترند از فساق مؤمنات).
جزء : 5 رقم الصفحة : 184
وفي "التأويلات النجمية" : {وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} يعني على الملائكة لأنهم الخلق الكثير ممن خلق الله تعالى وفضل الإنسان الكامل على الملك بأنه خلق في أحسن تقويم وهو حسن استعداده في قبول فيض نور الله بلا واسطة وقد تفرد به الإنسان عن سائر المخلوقات كما قال تعالى : {إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ} (الأحزاب : 72) إلى قوله : {وَحَمَلَهَا الانسَـانُ} والأمانة هي نور الله كما صرح به في قوله : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (النور : ) إلى أن قال : {نُّورٌ عَلَى نُورٍا يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِه مَن يَشَآءُ} فافهم جداً واغتنم فإن هذا البيان أعز من الكبريت الأحمر وأغرب من عنقاء مغرب انتهى.
قال الكاشفي : (وعلى الجملة اين آيت دليل فضيلت وجامعيت انسانست كه از همه مخلوقات مرآت صافي هت انعكاسي صفات إلهي همه اوست وبس نانه از مضمون اين ابيات حقائق سمات فهم توان فرمود) :
آمد آيينه جمله كون ولي
همو آيينه نكرده جلى
به نمودند درو بوجه كمال
صورت ذو الجلال والإفضال
زانكه بوداين تفرق عددى
مانع از سر جامع واحدى
كشت آدم جلاى اين مرآت
شدعيان ذات او بجمله صفات
186
مظهري كشت كلي وجامع
سر ذات از صفات از لامع
شد تفاصيل كون را مجمل
بر مثال تعين اول
بوى اين دائره مكمل شد
آخر اين نقطع عين اول شد
{يَوْمَ نَدْعُوا} نصب بإضمار اذكر على أنه مفعول به {كُلَّ أُنَاس} (هر كروهى را از بني آدم) والاناس جمع الناس كما في "القاموس" {بِإِمَـامِهِمْ} أي : بمن ائتموا به من نبي فيقال يا أمة موسى ويا أمة عيسى ونحو ذلك أو مقدم في الدين فيقال : يا حنفي ويا شافعي ونحوهما أو كتاب فيقال : يا أهل القرآن ويا أهل الإنجيل وغيرهما أو دين فيقال يا مسلم ويا يهودي ويا نصراني ويا مجوسي وغير ذلك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 184
(5/143)
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى ما يتبعه كل قوم وهو إمامهم.
فقوم يتبعون الدنيا وزينتها وشهواتها فيدعون يا أهل الدنيا.
وقوم يتبعون الآخرة نعيمها ودرجاتها فيدعون يا أهل الآخرة.
وقوم يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلّم محبةوطلباً لقربته ومعرفته فيدعون يا أهل الله.
وقيل : الإمام جمع أم كخف وخفاف والحكمة في دعوتهم وأمهاتهم إجلال عيسى عليه السلام وتشريف الحسنين رضي الله عنهما إذ في نسبتهما إلى أمهما إظهار انتسابهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم نسباً بخلاف نسبتهما إلى أبيهما والستر على أولاد الزنى وينصره ما روي عن عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : "إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً منه على عباده" كما في "بحر العلوم" ويؤيده أيضاً حديث التلقين حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل يا فلان ابن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيب ثم يقول يا فلان ابن فلانة فإنه يستوي قاعداً ثم يقول : يا فلان ابن فلانة فإنه يقول أرشدك الله رحمك الله ولكن لا تشعرون فليقل اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلّم نبياً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه يقول : انطلق لا تقعد عند من لقن حجته فيكون حجيجه دونهما" فقال رجل : يا رسول الله فإن لم يعرف اسم أمه قال : "فلينسبه إلى حواء" ذكره الإمام السخاوي في "المقاصد الحسنة" وصححه بإسانيده وكذا الإمام القرطبي في "تذكرته" وفهم منه شيآن الأول استحباب القيام وقت التلقين والثاني أن المرء يدعى باسمه واسم أمه لا باسم أبيه ولكن جاء في أحاديث "المقاصد" "والمصابيح" أنه عليه السلام قال : "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم" ولعله لا يخالف ما سبق فإنه ورد ترغيباً في تحسين الأسماء وتغيير القبيح منها إذ كانوا يسمون بالأسماء القبيحة على عادة الجاهلية مثل المضطجع وأصرم وعاصية ونحوها وكان عليه السلام يغير القبيح إلى الحسن فغير أصرم وهو من الصرم بمعنى القطع إلى زرعة وهو بالضم والسكون قطعة من الزرع كأنه قال : لست مقطوعاً بل أنت منبت متصل بالأصل وغير المضطجع إلى المنبعث وعاصية إلى جميلة {فَمَنْ} (هر كه را) {أُوتِيَ} (داده شود) يومئذٍ من أولئك المدعوين {كِتَـابَهُ} صحيفة أعماله {بِيَمِينِهِ} وهم السعداء وفي إيتاء الكتاب من جانب اليمين تشريف لصاحبه وتبشير فأولئك الجمع باعتبار معنى من
187
{يَقْرَءُونَ كِتَـابَهُمْ} قراءة ظاهرة مسرورين ينتفعون بما فيه من الحسنات ولم يذكر الأشقياء وإن كانوا يقرأون كتبهم أيضاً لأنهم إذا قرأوا ما فيها لم يفصحوا به خوفاً وحياء وليس لهم شيء من الحسنات ينتفعون به {وَلا يُظْلَمُونَ} أي : لا ينقصون من أجور أعمالهم المرتسمة في كتبهم بل يؤتونها مضاعفة {فَتِيلا} أي : قدر فتيل وهو ما يفتل بين إصبعين من الوسخ أو القشرة التي في شق النواة أو أدنى شيء فإن الفتيل مثل في القلة والحقارة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 184
{وَمِنْ} (وهركه) أي : من المدعوين المذكورين {كَانَ فِى هَـاذِهِ} الدنيا {أَعْمَى} أعمى القلب لا يهتدي إلى رشده.
يعني : (دلش راه صواب نه بيند) {فَهُوَ فِى الاخِرَةِ أَعْمَى} لا يرى طريق النجاة لأن العمى الأول موجب للثاني فالكافر لا يهتدي إلى طريق الجنة والعاصي إلى ثواب المطيع والقاصر إلى مقامات الكاملين {وَأَضَلُّ سَبِيلا} من الأعمى في الدنيا لزوال الاستعداد وتعطل الأسباب والآلات وفقدان المهلة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 188
(5/144)
قال في "التأويلات النجمية" : : {فَمَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِيَمِينِهِ} فهو أهل السعادة من أصحاب اليمين وفيه إشارة إلى أن السابقين الذين هم أهل الله تعالى لا يأتون كتابهم كما لا يحاسبون حسابهم {فأولئك يَقْرَءُونَ كِتَـابَهُمْ} لأنهم أصحاب البصيرة والقراءة والدراية {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} في جزاء أعمالهم الصالحة وفيه إشارة إلى أن أهل الشقاوة الذين هم أصحاب الشمال لا يقرأون كتابهم لأنهم أصحاب العمي والجهالة {وَمَن كَانَ فِى هَـاذِه أَعْمَى} أي : في هذه القراءة والدراية بالبصيرة أعمى في الدنيا لقوله : {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الابْصَـارُ} (الحج : 46) الآية {فَهُوَ فِى الاخِرَةِ أَعْمَى} لأنه يوم تبلى السرائر تجعل الوجوه من السرائر فمن كان في سريرته أعمى ههنا يكون ثمة في صورته أعمى للمبالغة لأن عمى السريرة ههنا كان قابلاً للتدارك وقد خرج ثمة الأمر من التدارك فيكون أعمى عن رؤية الحق.
{وَأَضَلُّ سَبِيلا} في الوصول إليه لفساد الاستعداد وإعواز التدارك انتهى.
يقول الفقير : إن قلت هل يحصل الترقي والتيقظ لبعض الأفراد بعد الموت الصوري؟ قلت : إن السالك الصادق في طلبه إذا سافر من مقام طبيعته ونفسه فمات في الطريق أي : بالموت الاضطراري قبل أن يصل إلى مراده بالموت الاختياري فله نصيب من أجر الواصلين وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَمَن يَخْرُجْ مِنا بَيْتِه مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِه ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُه عَلَى اللَّهِ} (النساء : 100) كما قال بعض الكبار : من مات قبل الكمال فمراده يجيىء إليه كما أن من مات في طريق الكعبة يكتب له أجر حجين انتهى.
أشار إلى أن الله تعالى قادر على أن يكمله في عالم البرزخ بواسطة روح من الأرواح أو بالذات فيصير أمره بعد النقصان الموهوم إلى الكمال المعلوم وقد ثبت في الشرع أن الله تعالى يوكل ملكاً لبعض عباده في القبر فيقرئه القرآن ويعلمه أي : إن كان قد مات أثناء التعلم.
وأما غير السالك فلا يجد الترقي بعد الموت أي : بالنسبة إلى معرفة الحق إذ من المتفق شرعاً وعقلاً وكشفاً أن كل كمال لم يحصل للإنسان في هذه النشأة وهذه الدار فإنه لا يحصل له بعد الموت في الدار الآخرة كما في "الفكوك" فما يدل على عدم الترقي بعد الموت من قوله تعالى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 188
{وَمَن كَانَ فِى هَـاذِه أَعْمَى فَهُوَ فِى الاخِرَةِ أَعْمَى} إنما هو بالنسبة إلى معرفة الحق لا لمن لا معرفة له أصلاً فإنه إذا انكشف الغطاء ارتفع العمى بالنسبة إلى دار الآخرة ونعيمها وجحيمها والأحوال التي فيها
188
وأما قوله عليه السلام : "إذا مات ابن آدم انقطع عمله" فهو يدل على أن الأشياء التي يتوقف حصولها على الأعمال لا تحصل وما لا يتوقف عليها بل يحصل بفضل الله ورحمته فقد يحصل وذلك من مراتب الترقي كما في شرح "الفصوص" للمولى الجامي قدس سره فقوله تعالى : {لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى} (النجم : 39) ليس معناه أن ما يحصل للإنسان مقصور على سعيه بل معناه ليس للإنسان إلا ما يمكن أن يكون بسعيه فما يمكن أن يكون بسعيه فهو بسعيه والباقي فضل من الله تعالى كالسعي في مرتبة الملك.
وأما الملكوت فلا يمكن إلا بمحض فضل الله فلا مدخل فيه للسعي كما في "الواقعات المحمودية".
فعلى العاقل أن يسعى في تحصيل البصيرة قبل أن يخرج من الدنيا ويكون من الذين يشاهدون الله تعالى في كل مرآة من المرايا ، وفي "المثنوي" :
اين جهان ر آفتاب ونور ماه
او بهشته سرفرو برده باهكه اكر حقست كو آن روشنى
سربر آر ازاه بنكر اي دنى
جمله عالم شرق وغرب آن نور يافت
تاتودر اهى نخواهد برتوتافت
ه رها كن رو بايوان وكروم
كم ستيز ايتجا بدان كاللج شوم
اي بسابيدار شم وخفته دل
خوده بيند شم اهل آب وكلوانكه دل بيدار ودارد شم سر
كربخسبد بر كشايد صد بصر
كرتو اهل دل نه بيدار باش
طالب دل باش ودريكار باش
وردلت بيدارشدمى خسب خوش
نيست غائب ناظرت ازهفت وشش
كفت يغمبركه خسيد شم من
ليك كى خسبد دلم اندر وسن
شاه بيدارست حارس خفته كير
جان فداى خفتكان دل بصير
(5/145)
{وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً والأسلم ما في "تفسير الكواشي" من أن المشركين طلبوا من النبي عليه السلام أن يجعل آية رحمة مكان آية عذاب وبالعكس ويمس آلهتهم عنداستلام الحجر ويطرد الضعفاء والمساكين عنه ونحو ذلك وأطمعوه في إسلامهم قالوا : فمال إلى بعض ذلك فنزل وإن هي المخففة من المشددة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف واللام هي الفارقة بينها وبين النافية أي : أن الشأن قاربوا أن يوقعوك في الفتنة بالاستزلال ويخدعوك.
قال الكاشفي : (بكردانند ترا) {عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} من الأمر والنهي والوعد والوعيد {لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا} أي : لتختلق علينا {غَيْرُه} أي : غير الذي أوحينا إليك كما تقدم {وَإِذَآ} أي : ولو اتبعت أهواهم وفعلت ما طلبوا منك {اتَّخَذُوكَ خَلِيلا} أي : صديقاً وولياً وكنت لهم ولياً وخرجت من ولايتي.
جزء : 5 رقم الصفحة : 188
{وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَـاكَ} أي : ولولا تثبيتنا إياك على الحق وعصمتنا {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْـاًا قَلِيلا} من الركون الذي هو أدنى ميل فنصبه على المصدرية أي : لقاربت أن تميل إلى اتباع مرادهم شيئاً يسيراً من الميل اليسير لقوة خدعهم وشدة احتيالهم لكن أدركتك العصمة فمنعتك من أن تقرب من أدنى مراتب الركون إليهم فضلاً عن نفس الركون وهو صريح في أنه عليه السلام ما هم بإجابتهم مع قوة الداعي إليها ودليل على
189
أن العصمة بتوفيق الله وعنايته.
قال بعض الكبار : إنما سماه قليلاً لأن روحانية النبي عليه السلام كانت في أصل الخلقة غالبة على بشريته إذ لم يكن حينئذٍ لروحه شيء يحجب عن الله فالمعنى لولا التثبيت وقوة النبوة ونور الهداية وأثر نظر العناية لقد كدت تركن إلى أهل الأهواء هوى النفسانية لمنافع الإنسانية قدراً يسيراً لغلبة نور الروحانية وخمود نور البشرية.
{إِذَآ} لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركنة {لاذَقْنَـاكَ ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} أي : عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ضعف ما يعذب به في الدارين بمثل هذا الفعل غيرك لأن خطأ الخطير أخطر وكان أصل الكلام عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات بمعنى مضاعفاً ثم حذف الموصوف وأقيمت مقامه الصفة وهو الضعف ثم أضيفت إضافة موصوفها فقيل : ضعف الحياة وضعف الممات كما لو قيل لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات.
{ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} يدفع عنك العذاب.
(اما ثعلبي آورده كه بعد از هزول اين آيت بحضرت فرمود ، اللهم لا تكلني إلى نفسي ولو طرفة عين).
الهي برره خوددار مارا
دمى بانفس ما مكذار مارا
{وَإِن كَادُوا} أي : وإن الشأن قارب أهل مكة {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} يقال : استفزه أزعجه أي : ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم وينزعونك بسرعة وفسر بعضهم الاستفزاز بالاستزلال بالفارسية (بلغزانيد) {مِّنَ الأرْضِ} أي : الأرض التي أنت فيها وهي أرض مكة {لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} .
إن قلت أليس أخرجوه بشهادة قوله تعالى : {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ} (محمد : 13) وقوله عليه السلام حين خرج من مكة متوجهاً إلى المدينة : والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت.
قلت : لم يتحقق الإخراج بعد نزول هذه الآية ثم وقع بعده حيث هاجر عليه السلام بإذن الله تعالى وكانوا قد ضيقوه قبل الهجرة ليخرج كما قال الكاشفي : (أهل مكة در اخراج آنحضرت عليه الصلاة والسلام مشاورت كردند ورأى ايشان بران قرار كرفت كه دردشمني بحد افراط نمايندكه آنحضرت بضرورت بيرون بايد رفت اين آيت نازل شد) {وَإِذَآ} أي : ولئن أخرجت {لا يَلْبَثُونَ خِلَـافَكَ} أي : بعد إخراجك {إِلا قَلِيلا} أي : إلا زماناً قليلاً وقد كان كذلك فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته عليه السلام.
جزء : 5 رقم الصفحة : 188
{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} السنة العادة ونصبها على المصدرية أي : سن الله سنة وهي أن يهلك كل أمة أخرجت رسولهم من بين أظهرهم فالسنةتعالى وإضافتها إلى الرسل لأنها سنت لأجلهم على ما ينطق به قوله تعالى : {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا} أي : لعادتنا بإهلاك مخرجي الرسل من بينهم {تَحْوِيلا} أي : تغييراً وفيه إشارة إلى أن من سنة الله تعالى على قانون الحكمة القديمة البالغة في تربية الأنبياء والمرسلين أن يجعل لهم أعداء يبتليهم بهم في إخلاص إبريز جواهرهم الروحانية الربانية عن غش أوصافهم النفسانية الحيوانية وهذا الابتلاء لا يتبدل لأنه مبني على الحكمة والمصلحة والإرادة القديمة وما هو مبني عليها لا يتغير.
قال بعض الكبار : أهرب من خير الناس أكثر مما تهرب من شرهم فإن خيرهم يصيبك في قلبك وشرهم يصيبك في بدنك ولأن
190
(5/146)
تصاب في بدنك خير من أن تصاب في قلبك ولعدو ترجع به إلى مولاك خير من حبيب يشغلك عن مولاك وكل بلاء سوط من سياط الله تعالى يسوق إلى حقيقة التوحيد ويقطع أسباب العلاقات فهو لذة في صورة الم ، قال الحافظ :
بدرد وصاف تراحكم نيست دم دركش
كه هره ساقىء ما كرد عين الطافست
واعلم أن النبي عليه السلام لم يتحرك لا في ظاهره ولا في باطنه إلا بتحريك الله تعالى فإلقاء أهل الفتنة لا يؤثر في باطنه المنور بفكر ما وميل لكن الله تعالى أشار إلى لزوم التحفظ والاحتياط في جميع الأمور فإن للإنسان أعداء ظاهرة وباطنة والصابر لا يرى إلا خيراً وهو زوال الابتلاء وهلاك الأعداء كما قال تعالى : {وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلَـافَكَ إِلا قَلِيلا} وفي الحديث القدسي : "من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة" أي : من أغضب وآذى واحداً من أوليائي وهو المتقون حقيقة التقوى فقد بارزني بالمحاربة لأن الولي ينصر الله فيكون الله ناصره فمن عادى من كان الله ناصره فقد برز لمحاربة الله وظهر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 190
{أَقِمِ الصَّلَواةَ} أدمها {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي : وقت زوالها أو غروبها يقال : دلكت الشمس دلوكاً غربت أو اصفرت ومالت أو زالت عن كبد السماء كما في "القاموس".
{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ} إلى ظلمته وهو وقت صلاة العشاء الأخيرة والغاسق الليل إذا غاب الشفق والمراد إقامة كل صلاة في وقتها المعين لا إقامتها فيما بين الوقتين على الاستمرار {وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ} أي : صلاة الفجر بالنصب عطفاً على مفعول أقم أو على الإغراء أي : الزم وسميت قرآناً لأنه ركنها كما تسمى ركوعاً وسجوداً فالآية تدل على تفسير الدلوك بالزوال جامعة للصلوات الخمس {إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} يشهده ويحضره ملائكة الليل وملائكة النهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار.
يعني : (فرشتكان شب اورا مشاهده ميكنند ودر آخر ديوان أَمال شب ثبت مى نمايند وملائكة روز اورا مى بينند وافتتاح أعمال روز ثبت ميكنند) وفي وقت الصباح أيضاً شواهد القدرة على تبدل الظلمة بالضياء والنوم الذي هو أخو الموت بالانتباه.
{وَمِنَ الَّيْلِ} نصب على الظرفية أي : قم بعض الليل {فَتَهَجَّدْ بِهِ} أي : أزل والق الهجود وهو النوم فإن صيغة التفعل تجيىء للإزالة نحو تأثم أي : جانب الإثم وأزاله وبكون التهجد نوماً من الاضداد والضمير المجرور للقرآن من حيث هو لا بقيد إضافته إلى الفجر أو للبعض المفهوم من قوله {وَمِنَ الَّيْلِ} أي : تهجد في ذلك البعض على أن الباء بمعنى في {نَافِلَةً لَّكَ} النفل في الأصل بمعنى الزيادة أي : فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة بك دون الأمة كما روت عائشة رضي الله عنها "ثلاث علي فريضة وهي سنة لكم الوتر والسواك وقيام الليل" أو تطوعاً لزيادة الدرجات بخلاف تطوع الأمة فإنه لتكفير الذنوب وتدارك الخلل الواقع في فرائضهم كما قال قتادة ومجاهد أن الوجوب قد نسخ في حقه عليه السلام كما نسخ في حق الأمة فصارت الأمور المذكورة نافلة لأن الله تعالى قال : {نَافِلَةً لَّكَ} ولم يقل عليك وانتصاب نافلة على المصدرية بتقدير تنفل {عَسَى} في اللغة للطمع والطمع والاشفاق من الله كالواجب.
قال الكاشفي :
191
(شايد والبته نين بود) {أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ} من القبر فيقيمك {مَقَامًا مَّحْمُودًا} عندك وعند جميع الناس وهو مقام الشفاعة العامة لأهل المحشر يغبطه به الأولون والآخرون لأن كل من قصد من الأنبياء للشفاعة يحيد عنها ويحيل على غيره حتى يأتوا محمداً للشفاعة فيقول : أنا لها ثم يشفع فيشفع فيمن كان من أهلها (صاحب فتوحات آورده كه مقام محمود مقاميست مرجع جميع مقامات ومنظر تمام أسماء الهية وآن خاصه حضرت محمد است وباب شفاعت درين مقام كشاده ميشود).
جزء : 5 رقم الصفحة : 190
اي ذات تودردو كون مقصود وجود
نام تو محمد ومقامت محمود
(5/147)
والآية رد على المعتزلة المنكرين للشفاعة زعماً أنها تبليغ غير المستحق للثواب إلى درجة المستحقين للثواب وذلك ظلم ولم يعلموا أن المستحق للثواب والعقاب من جعله الله لذلك مستحقاً بفضله وعدله ولا واجب لأحد على الله بل هو يتصرف في عباده على حكم مراده فإن قالت المعتزلة : رويتم عن النبي عليه السلام : "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" فعلى هذا المستحق للشفاعة إنما هو من قتل النفس وزنى وشرب الخمر فإن أصحاب الكبائر هؤلاء وهذا إغراء ظاهر لخلق الله على مخالفة أوامره.
فالجواب أنه ليس فيه إغراء وإنما فيه أن صاحب الكبائر مع قربه من عذاب الله واستحقاقه عقوبته تستدركه شفاعتي وتنجيه عنايتي وينقذه أرحم الراحمين بحرمتي ومكانتي ففيه مدح الرسول صلى الله عليه وسلّم نفسه بماله عند الله تعالى من الدرجة الرفيعة والوسيلة فإذا كان حكم صاحب الكبائر هذا فكيف ظنك بصاحب الصغيرة ودعواهم بأن يكون ظلماً قلت : أليس خلقه الله وخلق له القدرة على ارتكاب الكبائر ومكنه منها ولم يكن ذلك إغراء منه على ارتكاب الكبائر كذلك في حق الرسول صلى الله عليه وسلّم كذا في "الأسئلة المقحمة".
وفي "المثنوي" :
كفت يغمبركه روز رستخيز
كى كذارم مجرمانرا اشك ريز
من شفيع عاصيان باشم بجان
تارهانم شان زاشكنجه كران
عاصيان وأهل كبائر رابجهد
وارهانم ازعتاب ونقض عهد
صالحان امتم خود فارغند
از شفاعتهاي من روز كزند
بلكه ايشانرا شفاعتها بود
كفت شان ون حكم نافذمي رود
ثم الآية ترغيب لصلاة التهجد وهي ثمان ركعات قالت عائشة رضي الله عنها : ما كان يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلّم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً" وقال الشيخ عبد الرحمن البسطامي قدس سره في "ترويح القلوب" : إذا دخل الثلث الأخير من الليل يقوم ويتوضأ ويصلي التهجد ثنتي عشرة ركعة يقرأ فيها بما شاء وأراد من حزبه وكان عليه الصلاة والسلام يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن انتهى وفي الحديث : "أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل".
دلابر خيز وطاعت كن كه طاعت به زهركارست
سعادت آنكسى داردكه وقت صبح بيدارست
خروسان در سحر كوينده قم يا أيها الغافل
تو ازمستى نمى دانى كسى داندكه هشيارست
192
وعن ابن عباس رضي الله عنهما :
جزء : 5 رقم الصفحة : 190
إذا كثر الطعام فحذروني
فإن القلب يفسده الطعام
إذا كثر المنام فنبهوني
فإن العمر ينقصه المنام
إذا كثر الكلام فسكتوني
فإن الدين يهدمه الكلام
إذا كثر المشيب فحرّكوني
فإن الشيب يتبعه الحمام
وفي الخبر : "إذا نام العبد عقد الشيطان على رأسه ثلاث عقد فإن قعد وذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة أخرى وإن صلى ركعتين انحلت العقد كلها فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح كسلان خبيث النفس" وليل القائم يتنور بنور عبادته كوجهه.
ـ يحكى ـ عن شاب عابد أنه قال : نمت عن وردي ليلة فرأيت كأنّ محرابي قد انشق وكأني بجوار قد خرجن من المحراب لم أر أحسن أوجهاً منهن وإذا واحدة فيهن شوهاء أي : قبيحة لم أر أقبح منها منظراً فقلت : لمن أنتن ولمن هذه؟ فقلن : نحن لياليك التي مضين وهذه ليلة نومك فلو مت في ليلتك هذه لكانت هذه حظك.
وكان بعض الصالحين يقوم الليل كله ويصلي صلاة الصبح بوضوء العشاء كأبي حنيفة رحمه الله ونحوه.
قال بعضهم : لأن أرى في بيتي شيطاناً أحب إلي من أن أرى وسادة فإنها تدعو إلى النوم.
وقال بعض العارفين إن الله يطلع على قلوب المستيقظين بالأسحار فيملأها نوراً فترد الفوائد على قلوبهم فتستنير ثم تنتشر من قلوبهم إلى قلوب الغافلين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 190
(5/148)
{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى} القبر {مُدْخَلَ صِدْقٍ} أي : إدخالاً مرضياً على طهارة وطيب من السيآت {وَأَخْرِجْنِى} منه عند البعث {مُخْرَجَ صِدْقٍ} أي : إخراجاً مرضياً ملقى بالكرامة آمناً من السخط يدل على هذا المعنى ذكره أثر البعث.
فالمدخل والمخرج مصدران بمعنى الإدخال والإخراج والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو حاتم الجود أي : إدخالاً يستأهل أن يسمي ادخالاً ولا يرى فيه ما يكره لأنه في مقابلة مدخل سوى ومخرج سوى وقيل المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة فيكون نزولها حين أمر بالهجرة ويدل عليه قوله تعالى : {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} وقيل : إدخاله في كل ما يلابسه من مكان أوامر وإخراجه منه ورجح الأكثرون هذا الوجه فالمعنى حيثما أدخلتني وأخرجتني فليكن بالصدق مني ولا تجعلني ذا وجهين فإن ذا الوجهين لا يجوز أن يكون أميناً {وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ} من خزائن نصرك ورحمتك {سُلْطَـانًا} برهاناً وقهراً {نَصِيرًا} ينصرني من أعداء الدين أو ملكاً وعزا ناصراً للإسلام مظهراً له على الكفر فأجيبت دعوته بقوله : والله يعصمك من الناس فإن حزب الله هم الغالبون ليظهره على الدين كله ليستخلفنهم في الأرض ووعده لينزعن ملك فارس والروم فيجعل له وعنه عليهالسلام أنه استعمل عتاب بن أسيد على أهل مكة وقال : "انطلق فقد استعملتك على أهل الله" وكان شديداً على المريب ليناً على المؤمن وقال : لا والله لا أعلم متخلفاً يتخلف من الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق فقال أهل مكة : يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابياً جافياً فقال عليه السلام : "إني رأيت فيما يرى النائم كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقلقها قلقاً شديداً حتى فتح له فدخلها" فأعز الله الإسلام لنصرته المسلمين على
193
من يريد ظلمهم فذلك السلطان النصير.
جزء : 5 رقم الصفحة : 193
{وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ} الإسلام والقرآن {وَزَهَقَ الْبَـاطِلُ} من زهق روحه إذا خرج أي : ذهب وهلك الشرك والشيطان :
ديو بكريزد ازان قوم كه قرآن خوانند†
إمام قشيري قدس سره (فرموده حق آنست كه براى خداى بود وباطل آنكه بغير او باشد صاحب تأويلات بر آنست كه حق وجود ثابت واجتست عز شانه كه ازلي وابديست وباطل وجود بشرىء امكاني كه قابل زوال وفناست وون اشعه لمعات وجود حقاني ظاهر كردد وجود موهوم ممكن درجنب آن متلاشى ومضمحل شود).
همه هره هستند ازان كمترند
كه باهستيش نام هستى برند
و سلطان عزت علم بركشد
جهان سربجيب عدم دركشد
{إِنَّ الْبَـاطِلَ} كائناً ما كان {كَانَ زَهُوقًا} أي : شانه أن يكون مضمحلاً غير ثابت.
عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه عليه السلام دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل ينكت بمخصرة كانت بيده في عين واحد واحد ويقول : "جاء الحق وزهق الباطل" فينكب لوجهه حتى ألقي جميعها وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من صفر فقال : "يا علي ارم به" فصعد فرمي به فكسره.
جزء : 5 رقم الصفحة : 193
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ} لما في الصدور من أدواء الريب وإسقام الأوهام {وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} به فإنهم ينتفعون به ومن بيانية قدمت على المبين اعتناء فإن كل القرآن في تقويم دين المؤمنين واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمرضى {وَلا يَزِيدُ الظَّـالِمِينَ إِلا خَسَارًا} أي : لا يزيد القرآن الكافرين المكذبين به الواضعين للأشياء في غير مواضعها مع كونه في نفسه شفاء من الأسقام إلا هلاكاً بكفرهم وتكذيبهم.
وفيه إيماء إلى أن ما بالمؤمنين من الشبه والشكوك المعترية لهم في أثناء الاهتداء والاسترشاد بمنزلة الأمراض وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك.
وفيه تعجيب من أمره حيث يكون مداراً للشفاء والهلاك كبعض المطر يكون درا وسما باستعداد المحل وعدم استعداده ، قال الحافظ :
كوهر اك ببايدكه شود قابل فيض
ورنه هرسنك وكلى لؤلؤ ومرجان نشود
جزء : 5 رقم الصفحة : 194
(5/149)
واعلم أن القرآن شفاء للمرض الجسماني أيضاً روي أنه مرض للأستاذ أبي القاسم القشيري قدس سره ولد مرضاً شديداً بحيث أيس منافشق ذلك على الأستاذ فرأى الحق سبحانه في المنام فشكا إليه فقال الحق تعالى : اجمع آيات الشفاء واقرأها عليها واكتبها في إناء واجعل فيه مشروباً واسقه إياه ففعل ذلك فعوفي الولد وآيات الشفاء في القرآن ست {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} (التوبة : 14) {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ} (يونس : 57) {فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ} (النحل : 69) {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء : 82) {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء : 80) {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَآءٌ} (فصلت : 44).
قال تاج الدين السبكي رحمه الله في طبقاته : ورأيت كثيراً من المشايخ يكتبون هذه الآيات للمريض ويسقاها في الإناء طلباً للعافية وقوله عليه السلام : "من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله" يشمل الاستشفاء به للمرض الجسماني والروحاني.
قال الشيخ التميمي رحمه الله في "خواص القرآن" : إذا كتبت الفاتحة
194
في إناء طاهر ومحيت بماء طاهر وغسل المريض وجهه عوفي بإذن الله فإذا شرب من هذا الماء من يجد في قلبه تقلباً أو شكاً أو رجيفاً أو خفقاناً يسكن بإذن الله وزال عنه ألمه وإذا كتبت بمسك في إناء زجاج ومحيت بماء ورد وشرب ذلك الماء البليد الذي لا يحفظ يشربه سبعة أيام زالت بلادته وحفظ ما يسمع.
فعلى العاقل أن يتمسك بالقرآن ويداوي به مرضه وقد ورد : "القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم أما داؤكم فذنوبكم وأما دواؤكم فالاستغفار" فلا بد من معرفة المرض أولاً فإنه ما دام لم يعرف نوعه لا تتيسر المعالجة وأهل القرآن هم الذين يعرفون ذلك فالسلوك بالوسيلة أولى.
{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا} (وون أنعام كنيم ما) {عَلَى الانسَـانِ} بالصحة والسعة {أَعْرَضَ} (روي بكرداند ازشكرما) {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا} (وبنفس خود دور شود وكرانه كيرد يعني تكبر وتعظم نمايد واز طريق حق برطرف كردد) فهو كناية عن الاستكبار والتعظم لأن نأي الجانب وتحويل الوجه من ديدن المستكبرين يقال : نأيته وعنه بعدت وكذا ناءٍ {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} من فقر أو مرض أو نازلة من النوازل وفي إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الأنعام إلى ضمير الجلالة إيذان بأن الخبر مراد بالذات والشر ليس كذلك {كَانَ يا ُوسًا} شديد اليأس من روح الله وفضله وهذا وصف للجنس باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذه الصفة ولا ينافيه قوله تعالى : {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} (فصلت : 51) ونظائره فإن ذلك شأن بعض منهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 194
{قُلْ كُلٌّ} من المؤمنين والكافرين {يَعْمَلُ} عمله {عَلَى شَاكِلَتِهِ} طريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة ، يعني : (هركس آن كندكه ازوسزد) :
هركسى آن كند كزوشايد†
من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تشعب منه.
قال في "القاموس" : الشاكلة الشكل والناحية والنية والطريقة والمذهب {فَرَبُّكُمْ} الذي برأكم على هذه الطبائع المختلفة {أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا} أسدّ طريقاً وأبين منهاجاً أي : يعلم المهتدي والضال فيجازي كلاً بعمله.
وفي الآية إشارة إلى أن الأعمال دلائل الأحوال ، وفي "المثنوي" :
درزمين كرنيشكر وروخودنيست
ترجمان هرزمين نبت ويست
فمن وجد نفسه في خير وطاعة وشكر فليحمد الله تعالى كثيراً ومن وجدها في شر وفسق وكفران ويأس فليرجع قبل أن يخرج الأمر في يده.
ـ روي ـ أن ملكاً صاحب زينة واسع المملكة كثير الخزينة اتخذ ضيافة وجمع أمراءه وأحضر ألوان الأطعمة والأشربة فلما أرادوا التناول إذا طرق رجل حلقة الباب بحيث تزلزل السرير فقال له الغلمان : ما هذا الحرص وسوء الأدب أيها الفقير اصبر حتى نأكل ونطعمك فقال : مالي حاجة إلى طعامكم وإنما أريد الملك فقالوا : مالك وللملك فطرق ثانياً أشد من الأول فقصدوا إليه بالسلاح فصاح صيحة وقال : مكانكم أنا ملك الموت جئت أقبض روح ملك دار الفناء فبطلت حواسهم وقواهم عن الحركة فاستمهل الملك فأبى فتأسف وقال : لعن الله المال فإنه غرني فاليوم خرجت صفر اليد وبقي نفعه للأعداء وحسابه وعذابه عليّ فأنطق الله المال فقال : لا تلعنني بل العن نفسك فإني كنت مسخراً لك وكنت مختاراً فالآن لم تترك الظلم لاعتيادك حتى تسب البريء والمذنب أنت
195
ففي هذه الحكاية أمور :
الأول : أن الله تعالى أنعم على هذا الملك بالملك والمال والجاه والجلال فأعرض عن شكرها ولم يقيدها به ، سعدي :
خردمند طبعان منت شناس
بدوزند نعمت بميخ ساس
والثاني : أنه مسه الموت فكان يؤساً من فضل الله حيث اشتغل باللعن والسب بدل التوبة والتوجه إلى الله تعالى والله تعالى يقبل توبة عبده ما لم يغرغر ، سعدي :
طريقي بدست آر وصلحى بجوى
شفيعي برا نكيز وعذري بكوى
كه يكلحظه صورت نبندد امان
ون يمانه رشد بدور زمان
(5/150)
جزء : 5 رقم الصفحة : 194
والثالث : أنه عمل على شاكلته فجوزي الشر إذ لم يكن له استعداد لغيره {وَيَسْـاَلُونَكَ} (آورده اندكه كفار عرب نضر بن حارث وأبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط را بمدينه فرستادند تا ازبهود يثرب استفسار حال حضرت يغمبر عليه السلام نمايند ون با يشان ملاقات كرده احوال باز كفتند يهود متعجب شد كفتند اي صناديد عرب ما دانسته ايم كه زمان ظهور يغمبرى نزديكست وازسخنان شما رائحه أحواله آن نبي استشمام ميتوان كرد شما بجهت آزمايش ازورسيدكه طواف مشرق ومغرب كه كرده وأحوال جوانان كه درزمان يشين كم شدند كونه است وروح يست اكرهرسه سؤال راجواب دهد يا هي كدام را جواب ندهد بدانيدكه او يغمبر نيست واكر دوراجواب دهد وازروح هي نكويد يغمبراست ايشان بمكه آمده مجلس ساختند وازان حضرت سؤال كردند آن دو سؤال را جواب داد ودر قصه روح اين ريت نازل شد) {وَيَسْـاَلُونَكَ} أي : اليهود {عَنِ الرُّوحِ} الذي هو روح البدن الإنساني ومبدأ حياته سألوه عن حقيقته فأجيبوا بقوله : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} أي : من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية التي لا يكاد يحوم حولها عقول البشر فالأمر واحد الأمور بمعنى الشأن والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي لاشتراك الكل فيه كذا في "الإرشاد".
وقال البيضاوي من الإبداعيات الكائنة بكن من غير مادة وتولد من أصل كأعضاء جسده انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 194
اعلم أن ما تعلق به الإيجاد ودخل تحت الوجود فإما أن يكون حصوله ووجوده لا من مادة ولا في مدة فهو المبدعات كالمجردات فهي موجودة من كل وجه بالفعل وليس لها حالة منتظرة الوجود وهي مظاهر للأسماء التي بحركة بعضها يتقدر الزمان وإما من مادة وفي مدة فهي المسميات المحدثات وهي العناصر والمركبات منها وإما في مدة لا من مادة فقيل لا وجود لهذا القسم لأن كل ما يتحصل في مدة لا بد وأن يكون من مادة إلا على قول من ذهب بحدوث النفس الناطقة عند حدوث البدن وهذه الأقسام الباقية مظاهر الأسماء المتغيرة الأحكام على الوجه الذي اطلع عليه أهل الله ذكره داوود القيصري قدس سره.
قال : حضرت شيخي وسندي روح الله روحه الطاهر في شرح تفسير الفاتحة للشيخ صدر الدين القنوي قدس سره الخلق عالم العين والكون والحدوث روحاً وجسماً والأمر عالم العلم والاله والوجوب وعالم الخلق تابع لعالم الأمر إذ هو أصله ومبدأه قل الروح من أمر ربي انتهى وسيجيىء غير هذا {وَمَآ أُوتِيتُم} أيها المؤمنون والكافرون كما في "تفسير الكواشي"
196
{مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} لا يمكن تعلقه بأمثال ذلك أي : إلا علماً قليلاً تستفيدونه من طرق الحواس فإن اكتساب العقل للمعارف النظرية إنما هو من الضروريات المستفادة من إحساس الجزئيات ولذلك قيل : من فقد حساً فقد علماً ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس ولا شيئاً من أحوال المعرفة لذاته وهو إشارة إلى أن الروح مما لم يمكن معرفة ذاته إلا بعوارض تميزه عما يلتبس به.
قال في "بحر العلوم" الخطاب في {وَمَآ أُوتِيتُم} عام ويؤيده ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما قال لهم ذلك قالوا : أنحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه فقال : "بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً" فقالوا : ما أعجب شأنك ساعة تقول ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وساعة تقول هذا فنزلت {وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنا بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـاتُ اللَّهِ} (لقمان : 27)وما قالوه باطل مردود فإن علم الحادث في جنب علم القديم قليل إذ علم العباد متناه وعلم الله لا نهاية له والمتناهي بالنسبة إلى غير المتناهي كقطرة بالإضافة إلى بحر عظيم لا غاية له.
قال بعض الكبار : علم الأولياء من علم الأنبياء بمنزلة قطرة من سبعة أبحر وعلم الأنبياء من علم نبينا محمد عليه السلام بهذه المثابة وعلم نبينا من علم الحق سبحانه بهذه المنزلة فالعلم الذي أوتيه العباد وإن كان كثيراً في نفسه لكنه قليل بالنسبة إلى علم الحق تعالى : (شيخ أبو مدين مغربي قدس سره فرمودكه اين اندكى كه خداى تعالى داده است از علم نه ازان ماست بلكه عاريتست نزديك ما وبسياري آن برسيده ايم س على الدوام جاهلاً نيم وجاهل را دعوى دانش نرسد) قال المولى الجامي :
جزء : 5 رقم الصفحة : 194
سبحانك لا علم لنا إلا ما
علمت وألهمت لنا الهاماً
(5/151)
قال في "الكواشي" : اختلفوا في الروح وماهيته ولم يأت أحد منهم على دعواه بدليل قطعي غير أنه شيء بمفارقته يموت الإنسان وبملازمته له يبقى انتهى.
يقول الفقير : الروح سلطاني وحيواني والأول من عالم الأمر ويقال له المفارق أيضاً لمفارقته عن البدن وتعلقه به تعلق التدبير والتصرف وهو لا يفنى بخراب هذا البدن وإنما يفنى تصرفه في أعضاء البدن ومحل تعينه هو القلب الصنوبري والقلب من عالم الملكوت والثاني من عالم الخلق ويقال له : القلب والعقل والنفس أيضاً وهو سار في جميع أعضاء البدن إلا أن سلطانه قوي في الدم فهو أقوى مظاهره ومحل تعينه هو الدماغ وهو إنما حدث بعد تعلق الروح السلطاني بهذا الهيكل المحسوس فهو من انعكاس أنوار الروح السلطاني وهو مبدأ الأفعال والحركات فإن الحياة أمر مغيب مستور في الحي لا يعلم إلا بآثاره كالحس والحركة والعلم والإرادة وغيرها ولولا هذا الروح ما صدر من الإنسان ما صدر من الآثار المختلفة لأنه بمنزلة الصفة من الذات فكما أن الأفعال الإلهية تبتني على اجتماع الذات بالصفة كذلك الأفعال الإنسانية تتفرع من اجتماع الروح السلطاني بالروح الحيواني وكما أن الصفات الإلهية الكمالية كانت في باطن غيب الذات الأحدية قبل وجود هذه الأفعال والآثار كذلك هذا الروح الحيواني كان بالقوة في باطن الروح السلطاني قبل تعلقه بهذا البدن فإذا عرفت هذا وقفت على معنى قوله عليه السلام : "أولياء الله لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار" لأن الانتقال كالانسلاخ حال الفناء التام.
وللروح خمسة أحوال :
حالة العدم : قال الله تعالى : {هَلْ أَتَى عَلَى الانسَـانِ} (الإنسان : 1) الآية.
وحالة الوجود في عالم الأرواح قال الله تعالى : "خلقت الأرواح
197
قبل الأجساد بألفي سنة".
وحالة التعلق : قال : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (الحجر : 29).
وحالة المفارقة : قال : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران : 185).
وحالة الإعادة : قال : {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاولَى} (طه : 21).
أما فائدة حالة العدم فلحصول المعرفة بحدوث نفس وقدم صانعه.
وأما فائدة حالة الوجود في عالم الأرواح فلمعرفة الله بالصفات الذاتية من القادرية والحياتية والعالمية والموجودية والسميعية والبصرية والمتكلمية والمريدية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 194
وأما فائدة تعلقه بالجسد فلاكتساب كمال المعرفة في عالم الغيب والشهادة من الجزئيات والكليات.
وأما فائدة نفخ الروح في البدن فلحصول المعرفة بالصفات الفعلية من الرزاقية والتوابية والغفارية والرحمانية والرحيمية والمنعمية والمحسنية والوهابية.
وأما فائدة حالة المفارقة فلدفع الخبائث التي حصلت للروح بصحبة الأجسام ولشرب الذوق في مقام العندية.
وأما فائدة حالة الإعادة فلحصول التنعمات الأخروية.
(5/152)
وفي "التأويلات النجمية" : إن الله تعالى خلق العوالم الكثيرة ففي بعض الروايات خلق ثلاثمائة وستين ألف عالم ولكنه جعلها محصورة في عالمين اثنين وهما الخلق والأمر كما قال تعالى : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ} (الأعراف : 54) فعبر عن عالم الدنيا وما يدرك بالحواس الخمس الظاهرة وهي : السمع ، والبصر ، والشم ، والذوق ، واللمس بالخلق وعبّر عن عالم الآخرة وهو ما يدرك بالحواس الخمس الباطنة وهي العقل والقلب والسر والروح والخفي بالأمر فعالم الأمر هو الأوليات العظائم التي خلقها الله تعالى للبقاء من الروح والعقل والقلم واللوح والعرش والكرسي والجنة والنار ويسمى عالم الأمر أمراً لأنه أوجده بأمر كن من لا شيء بلا واسطة شيء كقوله : {خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـاًا} (مريم : 1) ولما كان أمره قديماً فما كوّن بالأمر القديم وإن كان حادثاً كان باقياً وسمي عالم الخلق خلقاً لأنه أوجده بالوسائط من شيء كقوله : {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ} (الأعراف : 185) فلما أن الوسائط كانت مخلوقة من شيء مخلوق سماه خلقاً خلقه الله للفناء فتبين أن قوله : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} إنما هو لتعريف الروح معناه أنه من عالم الأمر والبقاء لا من عالم الخلق والفناء وأنه ليس للاستبهام كما ظن جماعة أن الله تعالى أبهم علم الروح على الخلق واستأثره لنفسه حتى قالوا : إن النبي عليه السلام لم يكن عالماً به جل منصب حبيب الله عن أن يكون جاهلاً بالروح مع أنه عالم بالله وقد منّ الله عليه بقوله : {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُا وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء : 113) احسبوا أن علم الروح مما لم يكن يعلمه ألم يخبر أن الله علمه ما لم يكن يعلم فأما سكوته عن جواب سؤال الروح وتوقفه انتظاراً للوحي حين سألته اليهود فقد كان لغموض يرى في معنى الجواب ودقة لا تفهمها اليهود لبلادة طباعهم وقساوة قلوبهم وفساد عقائدهم فإنه وما يعقلها إلا العالمون وهم أرباب السلوك والسائرون إلى الله فإنهم لما عبروا عن النفس وصفاتها ووصلوا إلى حريم القلب عرفوا النفس بنور القلب ولما عبروا بالسر عن القلب وصفاته ووصلوا إلى مقام السر عرفوا بعلم السر القلب وإذا عبروا عن السر ووصلوا إلى عالم الروح عرفوا بنور الروح السر وإذا عبروا عن عالم الروح ووصلوا إلى منزل الخفي عرفوا بشواهد الحق الروح وإذا عبروا عن منزل الخفي ووصلوا إلى ساحل بحر الحقيقة عرفوا بأنوار صفات مشاهدات الجميل الخفي وإذا فنوا بسطوات تجلي صفات الجلال عن أنانية الوجود ووصلوا إلى لجة
198
بحر الحقيقة كوشفوا بهوية الحق تعالى وإذا استغرقوا في بحر الهوية وأبقوا ببقاء الألوهية عرفوا الله بالله فإذا كان هذا حال الولي فكيف حال من يقول : علمت ما كان وما سيكون.
جزء : 5 رقم الصفحة : 194
(5/153)
واعلم أن الروح الإنساني وهو أول شيء تعلقت به القدرة جوهرة نورانية ولطيفة ربانية من عالم الأمر وعالم الأمر هو الملكوت الذي خلق من لا شيء وعالم الخلق هو الملك الذي خلق من شيء كقوله تعالى : {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الأعراف : 185) وما خلق الله من شيء والعالم عالمان يعبر عنهما بالدنيا والآخرة والملك والملكوت والشهادة والغيب والصورة والمعنى والخلق والأمر والظاهر والباطن والأجسام والأرواح ويراد بهما ظاهر الكون وباطنه فثبت بالآية أن الملكوت الذي هو باطن الكون خلق من لا شيء إذ ما عداه من الملك خلق من شيء وأما قوله صلى الله عليه وسلّم "أول ما خلق الله جوهرة" "وأول ما خلق الله روحي" "وأول ما خلق الله العقل.
وأول ما خلق الله القلم".
وقول بعض الكبراء من الأئمة : إن أول المخلوقات على الإطلاق ملك كروبي يسمى العقل وهو صاحب القلب وتسميته قلماً كتسمية صاحب السيف سيفاً كما قيل لخالد بن وليد رضي الله عنه سيف الله وهو أول لقب في الإسلام وقول الله تعالى : {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والملائكة صَفًّا} (النبأ : 38) وقد جاء في الخبر "إن الروح ملك يقوم صفاً" فلا يبعد أن يكون هذا الملك العظيم الذي هو أول المخلوقات هو الروح النبوي فإن المخلوق الأول مسمى واحد وله أسماء مختلفة فبحسب كل صفة فيه سمي باسم آخر ولا ريب أن أصل الكون كان النبي عليه السلام لقوله : "لولاك لما خلقت الكون" فهو أولى أن يكون أصلاً وما سواه أولى أن يكون تبعاً له لأنه كان بالروح بذر شجرة الموجودات فلما بلغ أشده وبلغ أربعين سنة كان بالجسم والروح ثمرة شجرة الموجودات وهي سدرة المنتهى فكما أن الثمرة تخرج من فرع الشجرة كان خروجه إلى قاب قوسين أو أدنى ولهذا قال : "نحن الآخرون السابقون" يعني : الآخرون بالخروج كالثمرة والسابقون بالخلق كالبذر فيلزم من ذلك أن يكون روحه صلى الله عليه وسلّم أول شيء تعلقت به القدرة وأن يكون هو المسمى بالأسماء المختلفة فباعتبار أنه كان درة صدف الموجودات سمي درة وجوهرة كما جاء في الخبر "أول ما خلق الله جوهرة" وفي رواية "درة فنظر إليها فذابت فخلق منها كذا وكذا" وباعتبار نورانيته سمي نوراً وباعتبار وفور عقله سمي عقلاً وباعتبار غلبات الصفات الملكية عليه سمي ملكاً وباعتبار أنه صاحب القلم سمي قلماً وكيف يظن به عليه السلام أنه لم يكن عارفاً بالروح والروح هو نفسه وقد قال : "من عرف نفسه فقد عرف ربه" والأرواح كلها خلقت من روح النبي صلى الله عليه وسلّم وأن روحها أصل الأرواح ولهذا سمي أمياً أي : أنه أم الأرواح فكما كان آدم عليه السلام أبا البشر كان النبي عليه السلام أبا الأرواح وأمها كما كان آدم أباً وحوا أمها وذلك أن الله تعالى لما خلق روح النبي عليه السلام كان الله ولم يكن معه شيء إلا روحه وما كان شيء آخر حتى ينسب روحه إليه أو يضاف إليه غير الله فلما كان روحه أول باكورة أثمرها الله تعالى بإيجاده من شجرة الوجود وأول شيء تعلقت به القدرة شرفه بتشريف إضافته إلى نفسه تعالى فسماه روحي كما سمي أول بيت من بيوت
199
جزء : 5 رقم الصفحة : 194
الله وضع للناس وشرفه بالإضافة إلى نفسه فقال له بيتي ثم حين أراد أن يخلق آدم سواه ونفخ فيه من روحه أي : من الروح المضاف إلى نفسه وهو روح النبي صلى الله عليه وسلّم كما قال : {فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (الحجر : 29) فكان روح آدم من روح النبي عليه السلام بهذا الدليل وكذلك أرواح أولاده لقوله تعالى : {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَه مِن سُلَـالَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاـاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} (السجدة : 8 ـ 9) وقال في عيسى ابن مريم عليه السلام : "ونفخنا فيه من روحنا" فكانت النفخة لجبريل وروحها من روح النبي عليه السلام المضاف إلى الحضرة وهذا أحد أسرار قوله : "آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة" ثم قوله تعالى : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} راجع إلى اليهود الذين سألوا النبي عليه السلام عن الروح يعني أنكم سألتموني وقد أجبتكم أنه من أمر ربي ولكنكم ما تفقهون كلامي لأني أخبركم عن عالم الآخرة وعن الغيب وأنتم أهل الدنيا والحس وعلمها قليل بالنسبة إلى الآخرة وعلمها فإنكم عن علمها غافلون كقوله تعالى : {يَعْلَمُونَ ظَـاهِرًا مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاخِرَةِ هُمْ غَـافِلُونَ} (الروم : 7) انتهى ما في "التأويلات" باختصار.(5/154)
{وَلَـاـاِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} اللام الأولى موطئة للقسم المحذوف والثانية لام الجواب وهذا الجواب ساد مسد جوابي القسم والشرط والمعنى والله إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من المصاحف والصدور فلم نترك منه أثراً وبقيت كما كنت لا تدري ما الكتاب وهذا الكلام وارد على سبيل الفرض والمحال يصح فرضه لغرض فكيف ما ليس بمحال {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ} بالقرآن أي : بعد ذهابه كما قال الكاشفي : (س نيابي تو براي خود بآن يعني نيابي بعد ازبردن آن) {عَلَيْنَا وَكِيلا} (وكيلي كه آنرا استرداد برما كند وبسينها ومصحفها باز آرد) وعلينا متعلق بوكيلاً.
{إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} إلا أن يرحمك ربك فيرد عليك كأن رحمته تتوكل عليك بالرد فالاستثناء متصل.
وقال الكاشفي : (ليكن رحمتست از روردكار توكه آنرا باقي ميكذارد ومحو نمى كند) فالاستثناء منقطع.
وفي "الكواشي" إلا رحمة مفعول له أي : حفظناه عليك للرحمة ثم قال : وهذا خطاب له عليه السلام والمراد غيره {إِنَّ فَضْلَه كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} بإرسالك وإنزال الكتاب عليك وإبقائه في حفظك.
قال الكاشفي : (بدرستى كه فضل اوست برتو بزرك كه تراسيد ولد آدم ساخته وختم يغمبران كردانيد ولواء حمد ومقام محمود بتوداد وقرآن بتو فرستاده درميان امت نوباقى ميكذارد ومحو نمى سازد).
جزء : 5 رقم الصفحة : 194
{قُلْ} للذين لا يعرفون جلالة قدر التنزيل بل يزعمون أنه من كلام البشر {لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ} أي : اتفقوا {عَلَى أَن يَأْتُوا} (بيارند) {بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ} في البلاغة وكمال المعنى وحسن النظم والاخبار عن الغيب وفهم العرب العرباء وأرباب البيان وأهل التحقيق وتخصيص الثقلين بالذكر لأن التحدي معهما لا مع الملائكة إذ المنكر لكونه من عند الله منهما لا من غيرهما وإلا فلا يقدر على إتيان مثله إلا الله تعالى وحده.
وفي "عين الحياة" لفظ الجن يتناول الملائكة وكل من لم يدركه حس البصر لأنهم مستورون عن البصر يقال جن بترسه إذا ستر به ولذا قيل للترس المجن.
وفي "بحر العلوم" ذكر الإنس والجن دون الملائكة إشارة إلى أن من شأن الثقلين
200
أن يجتمعوا على المحال بخلاف الملائكة إذ ليس من شأنهم ذلك {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} بكلام مماثل له في صفاته البديعة وهو جواب قسم محذوف دل عليه اللام الموطئة وساد مسد جزاء الشرط ولولاها لكان جواباً له بغير جزم لكون الشرط ماضياً.
قال في "التأويلات النجمية" : وإنما قال : لا يأتون بمثله لأنه ليس لكلام الله تعالى مثل إذ كلامه صفته وكما أنه ليس لذاته مثل فكذلك ليس لصفاته مثل لأنها قديمة قائمة بذاته تبارك وتعالى وصفات المخلوقات مخلوقة قابلة للتغيير والفناء {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} مظاهراً ومعاوناً في الإتيان بمثله أي : لم يكن بعضهم ظهيراً لبعض ولو كان إلخ.
جزء : 5 رقم الصفحة : 194
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي : بالله قد رددناه وكررناه بوجوه مختلفة توجب زيادة تقرير وبيان ووكادة رسوخ واطمئنان {لِلنَّاسِ فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ} المنعوت بالنعوت الفاضلة {مِن كُلِّ مَثَلٍ} من كل معنى بديع هو كالمثل في الغرابة والحسن واستجلاب النفس ليتلقوه بالقبول {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} جحوداً وإنكاراً للحق وإنما جاز الاستثناء من الموجب مع أنه لا يصح ضربت إلا زيداً لأنه متأول بالنفي مثل لم يرد ولم يرض وما قيل وما اختار.
وفي الآية فوائد :
منها : أن القرآن العظيم أجل النعم وأعظمها فوجب على كل عالم وحافظ أن يقوم بشكره ويحافظ على أداء حقوقه قبل أن يخرج الأمر من يده.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة وليصلين قوم ولا دين لهم وإن هذا القرآن تصبحون يوماً وما فيكم منه شيء فقال رجل : كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلم أبناءنا ويعلم أبناؤنا أبناءهم فقال يسري عليه ليلاً فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الرب تعالى : مالك؟ فيقول : يا رب أتلى ولا يعمل بي أتلى ولا يعمل بي وفي الحديث : "ثلاثة هم الغرباء في الدنيا القرآن في جوف الظالم والرجل الصالح في قوم سوء والمصحف في بيت لا يقرأ منه" ، قال الشيخ سعدي :
جزء : 5 رقم الصفحة : 201
علم ندانكه بيشتر خواني
ون عمل نيست ناداني
نه محقق بود نه دانشمند
ار ايى برو كتاب ند
آن تهى مغزراه علم وخبر
كه برو هيزمست ويا دفتر
وقال :
عالم اندرميان جاهل را
مثلى كفته اند صديقان
شاهدي درميان كورانست
مصحفي درسيان زنديقان
(5/155)
ومنها : أنه ليس في استعداد الإنسان ولا في مخلوق غيره أن يأتي بكلام جامع مثل كلام الله تعالى له عبارة في غاية الجزالة والفصاحة وإشارة في غاية الدقة والحذاقة ولطائف في غاية اللطف والنظافة وحقائق في غاية الحقية والنزاهة.
قال جعفر بن محمد الصادق ـ رضي الله عنهما ـ عبارة القرآن للعوام والإشارة للخواص واللطائف للأولياء والحقائق للأنبياء ، وفي "المثنوي" :
خوش بيان كرد آن حكيم غزنوى
بهر محجوبان مثال معنوي
201
كه زقر آن كرنه بيند غير قال
اين عجب نبود ز اصحاب ضلال
كز شعاع آفتاب ر زنور
غير كرمى مى نيابد شم كور
تو زقرآن اي سر ظاهر مبين
ديو آدم را نبيند جزكه طينظاهر قرآن و شخص آدميست
كه نقوشش ظاهر وجانش خفيست
اعلم أن القرآن غير مخلوق لأنه صفة الله تعالى وصفاته بأسرها أزلية غير مخلوقة.
قال أبو حنيفة رحمه الله : فمن قال إنها مخلوقة أو وقف فيها أو شك فيها فهو كافر بالله وما ذكر من الوجوه الدالة على حدوث اللفظ فهو غير المتنازع فيه عند الأشعرية والمنصورية أيضاً كمن قال بأن كلامه تعالى حرف وصوت يقومان بذاته ومع ذلك قديم وأعجب من هذا قولهم الجلد والعلاقة قديمان أيضاً.
وفي "الفتوحات المكية" : قدس الله سر مصدرها أن المفهوم من كون القرآن حروفاً أمران الأمر الواحد يسمى قولاً وكلاماً ولفظاً والأمر الآخر يسمى كتابة ورقماً وخطا والقرآن يخط فله حروف الرقم وينطق به فله حروف اللفظ فهل يرجع كونه حروفاً منطوقاً بها لكلام الله الذي هو صفته أو للمترجم عنه؟.
فاعلم أنه قد أخبرنا نبيه صلى الله عليه وسلّم أنه سبحانه يتجلى في يوم القيامة بصور مختلفة فيعرف وينكر فمن كان حقيقته تقبل التجلي لا يبعد أن يكون الكلام بالحروف المتلفظ بها المسماة كلاماً لبعض تلك الصور كما يليق بجلاله وكما تقول تجلى في صورة كما يليق بجلاله كذلك تقول تكلم بحرف وصوت كما يليق بجلاله وقال رضي الله عنه بعد كلام طويل فإذا تحققت ما قررناه يثبت أن كلام الله هو هذا المتلو المسموع المتلفظ به المسمى قرآناً توراة وزبوراً وإنجيلاً انتهى.
قال بعضهم : كلام الله عين المتكلم في رتبة ومعنى قائم به في أخرى كالكلام النفسي وأنه مركب من الحروف ومتعين بها في عالمي المثال والحس يحس بهما.
جزء : 5 رقم الصفحة : 201
ومنها : أن أكثر الناس لا يعرفون قدر النعم الإلهية ولا يتنبهون للتنبيهات الربانية فواحد من الألف للجنة وبعث الباقي إلى النار وهم الجهلاء الذين أعرضوا عن الحق وتعلمه ، وفي "المثنوي" :
ند كفتن باجهول خوابناك
تخم افكندن بوددر شوره خاكاك حمق وجهل نذيرد رفو
تخم حكمت كم دهش اي ندكو
{وَقَالُوا} قال الإمام الواحدي في "أسباب النزول" : روي عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عتبة وشيبة وأبا سفيان والنضر بن الحارث وأبا البختري والوليد بن المغيرة وأبا جهل وعبد الله ابن أبي أمية وأمية بن خلف ورؤساء قريش اجتمعوا عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أن أشراف قومك اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم سريعاً وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عتبهم حتى جلس إليهم فقالوا : يا محمد إنا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة وما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا تطلب به مالاً جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالاً وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا وإن كان هذا الرئيّ الذي
202
(5/156)
يأتيك قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجن الرئيّ بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ولا للشرف فيكم ولا للملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليّ كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم" قالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا فقد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلاداً ولا أقل مالاً ولا أشد عيشاً منا فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك فليسر عنّا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا أو يبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا ما مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولاً كما تقول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه أصبر لأمر الله" قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدقك وسله أن يجعل لك جنات وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة ويغنيك بها عما سواك فإنك تقوم في الأسواق وتلتمس المعاش فقال عليه السلام : "ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً" قالوا : سله أن يسقط علينا السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فقال عليه السلام : "ذلك إلى الله تعالى إن شاء فعل" وقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلاً وقام عبد الله ابن أبي أمية بن المغيرة المخزومي وهو ابن عاتكة بنت عبد المطلب ابن عمة النبي عليه السلام ثم أسلم بعد وحسن إسلامه فقال : لا أومن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً وترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتينا وتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أهله حزيناً لما فاته من متابعة قومه لما رأى من مباعدتهم عنه فأنزل الله تعالى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 201
{وَقَالُوا} أي : مشركوا مكة ورؤساؤهم {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} لن نعترف لك يا محمد بنبوتك ورسالتك {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا} (تا وقتى كه روان سازى براى ماء) {مِّنَ الأرْضِ} أرض مكة {يَنابُوعًا} (شمه ر آب هركز كم نكردد) فالينبوع العين الكثيرة الماء ينبع ماؤها ولا يغور ولا ينقطع.
{أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ} بستان يستر أشجاره ما تحتها من العرصة {مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ} (از درختان خرما وانكور يعني مشتمل بران درختان) وهما اسم جمع لنخلة وعنبة {فَتُفَجِّرَ الانْهَـارَ} أي : تجريها بقوة {خِلَـالَهَآ} (درميان آن بستانها) قال في "القاموس" خلال الدار ما حوالي جدورها وما بين بيوتها وخلال السحاب مخارج الماء {تَفْجِيرًا} كثيراً والمراد إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها أو إدامة إجرائها كما ينبىء عنه الفاء لا ابتداؤه.
{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} جمع كسفة كقطع وقطعة لفظاً ومعنى حال من السماء والكاف في كما في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف أي : إسقاطاً مماثلاً لما زعمت يعنون بذلك قوله تعالى : {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَآءِ} {أَوْ تَأْتِىَ} (يابيارى)
203
{بِاللَّهِ وَالْمَلَائكَةِ قَبِيلا} مقابلاً كالعشير والمعاشر كما قال الكاشفي : (در مقابله يعني عيان نمايى انتهى) أو كفيلاً يشهد بصحة ما تدعيه وهو حال من الجلالة وحال الملائكة محذوفة لدلالتها عليها أي : والملائكة قبيلاً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 201(5/157)
{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} من ذهب وأصله الزينة.
قال الكاشفي (خانه از زركه در انجا بنشيني واز درويشي يا زرهى) {أَوْ تَرْقَى} تصعد {فِى السَّمَآءِ} في معارجها فحذف المضاف يقال رقي في السلم وفي الدرجة كرضى رقياً أي : صعد وعلا صعوداً وعلواً {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} أي : لأجل رقيك فيها وحده أي : صعودك فاللام للتعليل أو لن نصدق رقيك فيها فاللام صلة {حَتَّى تُنَزِّلَ} منها {عَلَيْنَا كِتَـابًا} فيه تصديقك {نَّقْرَؤُهُ} نحن من غير أن يتلقى من قبلك وكانوا يقصدون بمثل هذه الإقتراحات اللج والعناد ولو كان مرادهم الاسترشاد لكفاهم ما شاهدوا من المعجزات {قُلْ} تعجباً من شدة شكيمتهم واقتراحهم وتنزيهاً لساحة السبحان {سُبْحَانَ رَبِّى} (اكست روردكار من از آنكه بروى تحكم كند كسى يا شريك أو شود در قدرت) {هَلْ كُنتُ} (آيا هست من) {اِلا بَشَرًا} لا ملكاً حتى يتصور مني الترقي في السماء ونحوه {رَسُولا} مأموراً من قبل ربي بتبليغ الرسالة من غير أن يكون لي خيرة في الأمر كسائر الرسل وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله على أيديهم حسبما يلائم حال قومهم ولم تكن الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله بشيء منها وقوله بشراً خبر كنت ورسولاً صفته وفيه إشارة إلى أنهم أرباب الحس الحيواني يطلبون الإعجاز من ظاهر المحسوسات مالهم بصيرة يبصرون بها شواهد الحق ودلائل النبوة وإعجاز عالم المعاني بالولاية الروحانية والقوة الربانية فيطلبون فيه تزكية النفوس وتصفية القلوب وتحلية الأرواح وتفجير ينابيع الحكمة من أرض القلوب لينبت منها تخيل المشاهدات وأعناب المكاشفات في جنات المواصلات.
فعلى السالك الصادق أن يطلب الوصول إلى عالم المعنى فإنه هو المطلب الأعلى ولن يصل إليه إلا بقدمي العلم والعمل والرجوع إلى حالة التراب بالتواضع قال عيسى عليه السلام : أين تنبت الحبة؟ قالوا : في الأرض فقال عيسى : كذلك الحكمة لا تنبت إلا في قلب مثل الأرض يشير إلى التواضع ورفع الكبر وإلى هذا الإشارة بقول سيد البشر صلى الله عليه وسلّم "ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" والينابيع لا تكون إلا في الأرض وهو موضع نبع الماء وهذا المقام إنما يحصل بترك الرياسة وهو بمعرفة النفس وعبوديتها فلا يجتمع العبودية والرياسة أبداً فإن واحداً لا يصير سلطاناً ورعية معاً وإلى هذا يشير المولى الجامي بقوله :
جزء : 5 رقم الصفحة : 201
بالباس فقر بايد خلعت شاهى درست
زشت باشد جامه نيمى اطلس ونيمى لاس
فانظر في هذه الآيات إلى سوء أدب المشركين بالاقتراحات المنقولة عنهم وإلى كمال الأدب المحمدي والفناء الأحمدي وترك الاعتراض.
ـ حكي ـ أن ليلى لما كسرت إناء قيس المجنون رقص ثلاثة أيام من الشوق فقيل : أيها المجنون كنت تظن أن ليلى تحبك فقد كسرت إناءك فضلاً عن المحبة فقال : إنما المجنون من لم يتفطن لهذا السر يعني : أن كسر الوعاء عبارة عن الإفناء فالطالب لا يصل إلى مقصوده إلا بعد إفناء وجوده.
خمير مايه هرنيك وبدتويى جامى
خلاص ازهمه مى بابدت زخود بكريز
204
فالعاقل يسعى في إفناء الوجود واستجلاب الشهود ويجهد في تطهير القلب عن الإدناس ولا يأنس بشيء سوى ذكر رب الناس.
وقال الإمام الغزالي رحمه الله : لا يبقى مع العبد عند الموت إلا ثلاث : صفات صفاء القلب أعني طهارته عن أدناس الدنيا وأنسه بذكر الله تعالى وحبهوصفاء القلب وطهارته لا يكون إلا بالمعرفة ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الذكر والفكر وهذه الصفات الثلاث هي المنجيات.
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} أي : قريشاً من {أَن يُؤْمِنُوا} بالقرآن وبالنبوة {إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى} وقت مجيىء الوحي ظرف لمنع أو يؤمنوا {إِلا أَن قَالُوا} إلا قولهم {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا} حال من {رَسُولا} منكرين أن يكون رسول الله من جنس البشر فالمانع هو الاعتقاد المستلزم لهذا القول.
{قُلْ} جواباً لشبهتهم {لَّوْ كَانَ} لو وجد واستقر {فِى الأرْضِ} بدل البشر {مَلَائكَةٌ يَمْشُونَ} على أقدامهم كما يمشي الناس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه {مُطْمَـاـاِنِّينَ} ساكنين فيها قارين {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا} حال من {رَسُولا} ليبين لهم ما يحتاجون إليه من أمور الدنيا والدين لأن الجنس إلى الجنس يميل ولما كان سكان الأرض بشراً وجب أن يكون رسولهم بشراً ليمكن الإفادة والاستفادة وهم جهلوا أن التجانس يورث التوانس والتخالف يوجب التنافر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 201
أو بشر فرمود وخودرا مثلكم
تا بجنس آيندوكم كر دندوكم
زانكه جنسيت عجائب جاذبيست
جاذب جنست هر جاطا البيست(5/158)
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ} وحده {شَهِيدًا} على أني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنكم كذبتم وعاندتم {بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} لم يقل بيننا تحقيقاً للمفارقة {إِنَّه كَانَ بِعِبَادِهِ} من الرسل والمرسل إليهم {خَبِيرَا بَصِيرًا} محيطاً بظواهر أحوالهم وبواطنها فيجازيهم على ذلك.
وفيه تسلية له عليه السلام وتهديد للكافرين.
وفي الآية إشارة إلى أن الجهلاء يستبعدون إرسال الإنسان الكامل من أبناء جنسهم ويحسبون أن الملائكة أعلى درجة منه مع ما جعله الله مسجوداً للملائكة وأودع فيه من سر الخلافة ولو كان الملك مستأهلاً للخلافة في الأرض لكان الله نزل رسولاً من الملائكة وهو شاهد بأنه مستعد للرسالة والخلافة والملك.
{وَمَن يَهْدِ اللَّهُ} ابتداء كلام ليس بداخل تحت الأمر أي : يخلق فيه الاهتداء إلى الحق.
قال الكاشفي : (وهر كراراه نمايد خداى تعالى يعني حكم كندبهدايت او وتوفيق) {فَهُوَ الْمُهْتَدِ} لا غير {وَمَن يُضْلِلِ} أي : يخلق فيه الضلال بسوء اختياره.
قال الكاشفي (وهركرا كمراه سازد يعني حكم فرمايد بضلالت او وفرو كذا رد اورا) {فَلَن تَجِدَ لَهُمْ} أشار بالتوحيد في جانب الهداية إلى وحدة طريق الحق وقلة سالكيه وبالجمع في جانب الضلال إلى تعدد سبل الباطل وكثرة أهله {أَوْلِيَآءَ} كائنين {مِن دُونِهِ} تعالى فهو في موقع الصفة ويجوز أن يكون حالاً كما في "بحر العلوم" أي : أنصاراً يهدونهم إلى طريق الحق ويدفعون عنهم الضلالة وفي الحديث : "إنما أنا رسول وليس إلي من الهداية شيء ولو كانت الهداية إليّ لآمن كل من في الأرض وإنما إبليس مزين وليس له من الضلالة شيء ولو كانت الضلالة إليه لأضل كل من في الأرض ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء" ، قال الحافظ :
205
مكن بشم حقارت نكاه برمن مست
كه نيست معصيت وزهد بى مشيت او
{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} كائنين {عَلَى وُجُوهِهِمْ} سحباً أو مشياً فإن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم {عُمْيًا} حال من ضمير وجوههم وهو جمع أعمى {وَبُكْمًا} جمع أبكم وهو الأخرس {وَصُمًّا} جمع أصم من الصمم محركة وهو انسداد الأذن وثقل السمع.
إن قيل ما وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (الفرقان : 13) وقوله : {وَرَءَا الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} وقوله : {تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا} ، قلت : قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : معنى الآية لا يرون ما يسرّهم ولا ينطقون بما يقبل منهم ولا يستمعون ما يلذ مسامعهم لما قد كانوا في الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبر ولا ينطقون بالحق ولا يستمعون.
وقال مقاتل : هذا إذا قيل لهم اخسأوا فيها ولا تكلمون فيصيرون بأجمعهم صماً بكماً عمياً نعوذ بالله من سخطه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 201
وفي "التأويلات النجمية" : {وَنَحْشُرُهُمْ} إلخ لأنهم كانوا يعيشون في الدنيا مكبين {عَلَى وُجُوهِهِمْ} في طلب السفليات في الدنيا وزخارفها وشهواتها {عُمْيًا} عن رؤية الحق {وَبُكْمًا} من قول الحق {وَصُمًّا} عن استماع الحق وذلك لعدم إصابة النور المرشوش على الأرواح {وَمَن كَانَ فِى هَـاذِه أَعْمَى} (الإسراء : 72) الآية وقال صلى الله عليه وسلّم "يموت الإنسان على ما عاش ويحشر على ما مات عليه" منزلهم ومسكنهم والمأوى كل مكان يأوي إليه شيء ليلاً كان أو نهاراً {جَهَنَّمَ} خبر مأواهم والجملة استئناف {كُلَّمَا خَبَتْ} يقال : خبت النار والحرب والحدة خبواً وخبّوا سكنت وطفئت كما في "القاموس" {زِدْنَـاهُمْ سَعِيرًا} (بيفزاييم براى ايشان آتش سوزان يابر افروزيم آتش را) أي : كلما سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق فيهم ما تتعلق به النار زدناهم توقداً بأن بدلناهم جلوداً غيرها فعادت ملتهبة ومسعرة.
فإن قلت قوله تعالى : {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَـاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} (النساء : 56) يدل على أن النار لا تتجاوز في تعذيبهم عن حد الإنضاج إلى حد الإحراق والإفناء.
قلت : النضج مجاز عن مطلب تأثير النار ثم ما ذكر من التجديد بعدا لإفناء عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الفناء بتكريرها مرة بعد أخرى ليروها بعد أخرى فيروها عياناً حيث لم يعلموها برهاناً كما يفصح عنه قوله :
جزء : 5 رقم الصفحة : 201
{ذَالِكَ} مبتدأ خبر قوله : {جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {كَفَرُوا بآياتنا} العقلية والنقلية الدالة على صحة الإعادة دلالة واضحة.
وفي "التأويلات" : كانوا في جهنم الحرص والشهوات كلما سكنت نار شهوة باستيفاء حظها زادوا سعيرها باشتغال طلب شهوة أخرى ولو كانوا مؤمنين بالحشر والنشر ما أكبوا على جهنم الحرص على الدنيا وشهواتها وما أعرضوا عن الآيات البينات التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام ، وفي "المثنوي" :
كوزه شم حريصان برنشد
تا صدف قانع نشد ردر نشد
(5/159)
{وَقَالُوا} منكرين أشد الإنكار {أَءِذَا كُنَّا عِظَـامًا} (آيا آن وقت كه كرديم استخوان) {وَرُفَـاتًا} الرفات الحطام وهو الفتات المكسر.
وقال مجاهد رفاتاً أي : تراباً {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} إما مصدر مؤكد من غير لفظه أي : لمبعوثون بعثاً جديداً وإما حال أي : مخلوقين مستأنفين وقد سبق تفسير هذه الآية في هذه السورة.
{أَوَلَمْ يَرَوْا} أي : ألم يتفكروا ولم يعلموا
206
{أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} من غير مادة مع عظمهم {قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} في الصغر على أن المثل مقحم والمراد بالخلق الإعادة.
قال الكاشفي : (مثل تعبير از نفس شيء كنند نانكه مثلك لا يفعل كذا اي أنت) {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ} عطف على أولم يروا فإنه في قوة قد رأوا والمعنى قد علموا أن من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس وجعل لهم ولبعثهم أجلاً محققاً لا ريب فيه هو يوم القيامة.
قال الكاشفي : (بدرستي كه خداى تعالى مقرر كرده است براى فناى ايشان مدتى كه هي شك نيست دران وآن زمان مركست يا بجهت اعاده ايشان أجلي نهاده كه قيامتست) {فَأَبَى الظَّـالِمُونَ} فامتنعوا من الانقياد للحق ولم يرضوا {إِلا كُفُورًا} جحوداً به.
جزء : 5 رقم الصفحة : 206
{قُلْ} (بكوكافرانرا) {لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآاـاِنا رَحْمَةِ رَبِّى} خزائن رزقه التي أفاضها على كافة الموجودات وأنتم مرتفع بفعل يفسره المذكور لا مبتدأ لأنها لا تدخل إلا على الفعل والأصل لو تملكون أنتم تملكون {إِذًآ لامْسَكْتُمْ} لبخلتم من قولك للبخيل ممسك فلا يقدر له مفعول {خَشْيَةَ الانفَاقِ} مخافة عاقبته وهو النفاد {وَكَانَ الانسَـانُ قَتُورًا} يقال قتر ضيق.
والمعنى كان ضيقاً مبالغاً في البخل لأن مبني أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه وملاحظة العوض فيما يبذل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لحي من الأنصار : "من سيدكم يا بني سلمة" قالوا الجد بن قيس على بخل فيه فقال عليه السلام : "وأي داء أدوى من البخل بل سيدكم عمرو بن الجموح" فالبخل والحرص من الصفات المذمومة فلا بد من تطهير النفس عنهما وتحليتها بالسخاء والقناعة وترك طول الأمل فإن الشيطان يستعبد البخيل ولو كان مطيعاً وينأى عن السخي ولو كان فاسقاً وجنس الإنسان وإن كان قتوراً مخلوقاً على القبض واليبوسة كالتراب إلا أن من أفراده خواص متخلقين بصفات الله تعالى ومتحققين بأسرار ذاته.
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في مدح النبي صلى الله عليه وسلّم
له راحة لو أن معشار جودها
على البركان البر أندى من البحر
الراحة الكف والمعشار بمعنى العشر.
ـ روي ـ أن زين العابدين رضي الله عنه لقيه رجل فسبه فثارت إليه العبيد والموالي فقال لهم زين العابدين : مهلاً على الرجل ثم أقبل عليه وقال ما ستر من أمرنا أكثر ألك حاجة نعينك عليها فاستحيى الرجل فألقى عليه خميصة كانت عليه وهي كساء أسود معلم وأمر بألف درهم فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسل ولا يتوهم مغرور أنهم كانوا أهل دنيا ينفقون منها الأموال إنما كانوا أهل سخاء ومروءة كانت تأتيهم الدنيا فيخرجونها في العاجل وفيهم يصدق قول القائل :
وهم ينفقون المال في أول الغنى
ويستأنفون الصبر في آخر الفقر
إذا نزل الحي الغريب تقارعوا
عليه فلم تدر المقل من المثرى
قال الشيخ سعدي قدس سره :
اكر كنج قارون بنك آورى
نماند مكر آنكه بخشى برى
بخيل توانكر بدينار وسيم
طلسمست بالاى كنجى مقيم
207
ازان سالها مى بماند زرش
جزء : 5 رقم الصفحة : 206
كه لرزد طلسمي نين بر سرش
بسنك أجل ناكهان بشكنند
بآسود كى كنج قسمت كنند
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَـاتٍ} معجزات {بَيِّنَـاتٍ} واضحات الدلالة على نبوته وصحة ما جاء به من عند الله وهي العصا واليد البيضاء والجراد والقمل والضفادع والدم والطوفان والسنون ونقص الثمرات {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى} أي : فقلنا له {إِذْ جَآءَهُمُ} سلهم يا موسى من فرعون وقل له ارسل معي بني إسرائيل أي : أولاد يعقوب.
وقال الكاشفي : (س برس اي محمد ز بني إسرائيل يعني ازعلماى ايشان همين آيات را تا صدق قول توبر مشركان ظاهر كردد) أي : ليظهر صدقك حين اختبروك عندهم على وفق ما أخبرتهم إذ جاءهم (ون آمد موسى برايشان كه ه كذشت ميان وى وفرعون).
(5/160)
وفي "التأويلات النجمية" : إذ جاءهم موسى بهذه الآيات هل رأوها واستدلوا بها وآمنوا كاهل الحق ممن جعلهم الله يهدون بأمره وكانوا بآياته يوقنون {فَقَالَ لَه فِرْعَوْنُ} قال في "الإرشاد" الفاء فصيحة أي : فأظهر عند فرعون ما آتيناه من الآيات البينات وبلغه ما أرسل به فقال له فرعون : {إِنِّى لاظُنُّكَ يا مُوسَى مَسْحُورًا} سحرت فتخبط عقلك ولذا تتكلم بمثل هذه الكلمات الغير المعقولة وهذا يشبه قوله : {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (الشعراء : 27) ويجوز أن يكون المسحور للنسبة بمعنى ذي السحر كما قال في "التأويلات النجمية" : لما كان فرعون من أهل الظن لا من أهل اليقين رآه بنظر الظن الكاذب ساحراً ورأى الآيات سحراً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 206
{قَالَ} موسى {لَقَدْ عَلِمْتَ} (بدرستي كه تو دانسته اي فرعون بدل خود اكره بزبان تلفظ نكنى).
وفي "التأويلات النجمية" : لو نظرت بنظر العقل لعلمت أنه {مَآ أَنزَلَ هَؤُلاءِ} يعني : الآيات التي أظهرها {إِلا رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} خالقهما ومدبهما {بَصَآاـاِرَ} حال من الآيات أي : بينات مكشوفات تبصرك صدقي ولكنك تعاند وتكابر.
وبالفارسية (آيتهاي روشن كه هريك دليلست برنبوت من).
وفي "التأويلات النجمية" : أي ترى بنور البصيرة والعقل انتهى.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : العلم ليس جالباً للسعادة إلا من حيث طرده الجهل فلا تحجب بعلمك فإن فرعون علم نبوة موسى وإبليس علم حال آدم واليهود علموا نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وعلى إخوانه وحرموا التوفيق للإيمان فأشقاهم زماناً ذلك الاستيقان قال تعالى : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (النمل : 14) قال الكمال الخجندي :
در علم محققان جدل نيست
از علم مراد جز عمل نيست
وقال الحافظ :
نه من زبى عملى درجهان ملولم وبس
ملالت علما هم ز علم بي عملست
{وَإِنِّى لاظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} مصروفاً على الخير مطبوعاً على الشر من قولهم ما ثبرك عن هذا أي : ما صرفك أو هالكاً فإن الثبور الهلاك.
وفي "التأويلات النجمية" أي : بلا بصيرة وعقل والظن ظنان : ظن كاذب ، وظن صادق ، وكان ظن فرعون كاذباً وظن موسى صادقاً.
{فَأَرَادَ} أي : فرعون من نتائج ظنه الكاذب {أَن يَسْتَفِزَّهُم} الاستفزاز الإزعاج.
والمعنى بالفارسية
208
(برانكيزد ودور كند موسى وقوم او) {مِّنَ الأرْضِ} أي : أرض مصر أو من وجه الأرض بالقتل والاستئصال {فَأَغْرَقْنَـاهُ} أي : فرعون {وَمَن مَّعَهُ} من القبط {جَمِيعًا} ونجينا موسى وقومه من نتائج ظنه الصادق.
قال في "الإرشاد" : فعكسنا عليه مكره واستفززناه وقومه بالإغراق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 208
{وَقُلْنَا مِنا بَعْدِهِ} أي : من بعد إغراق فرعون {لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ} أولاد يعقوب {اسْكُنُوا الارْضَ} التي أراد أن يستفزكم منها وهي أرض مصر إن صح أنهم دخلوها بعده أو الأرض مطلقاً {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاخِرَةِ} يعني قيامة الساعة {جِئْنَا بِكُمْ} (بياريم شما وايشانرا بحشر كاه) {لَفِيفًا} (جماعتي آميخته باهم س حكم كنيم ميان شما) تمييز سعداء وأشقياء.
واللفيف الجماعات من قبائل شتى قد لف بعضها ببعض.
قال في "القاموس" : {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} مجتمعين مختلطين من كل قبيلة انتهى.
وفي "التأويلات النجمية" : أي : يلتف الكافرون بالمؤمنين لعلهم ينجون بهم من العذاب فيخاطبون بقوله تعالى : {وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (يس : 59) ولا ينفعهم التلفف بل يقال لهم : {فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ} (الشورى : 7) انتهى.
يقول الفقير : وذلك لأن التلفف الصوري والارتباط الظاهري لا ينفع الكفار والمنافقين إذ لم يجمع بينهم وبين المؤمنين الاعتقاد الخالص والعمل الصالح فكانوا كمن انكسرت سفينتهم فتعلق من لا يحسن السباحة بالسباح فتعلقه هذا لا ينفعه إذ البحر عميق والساحل بعيد فكم من سباح لا ينجو فكيف غيره ، سعدي :
در آبى كه يدا نباشد كنار
غرور شناور نيايد بكار(5/161)
وفي الحديث "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" يعني : من أخره في الآخرة عمله السييء أو تفريطه في العمل الصالح لم ينفعه شرف النسب من جهة الدنيا ولم ينجبر به نقيصته فإن نسبه ينقطع هناك ألا ترى أن الغصن اليابس يقطع من الشجرة ليبوسته ورطوبة الباقي وغضارته إذ لا مناسبة بينه وبين الأغصان الغضة الطرية فهو وإن كان غصن تلك الشجرة متعلقاً بها منسوباً إليها لكنه ليبوسته حري بالقطع وإنما النسب المفيد هو نسبة التقوى ولذا قال عليه السلام : "كل تقي نقي آلي" وكل من لم يكن متصفاً بالتقوى والنقاوة فليس من آله كأبي لهب ونحوه وليس له طريق ينتهي إلى الله تعالى فيا حسرة قوم ظنوا الوصول مع تضييع الأصول وبذل النقد في الفضول وعرضت على بعض الأكابر عطية من الله تعالى بلا واسطة فقال : لا أقبلها إلا على يد محمد صلى الله عليه وسلّم يعني على الصراط السوي فجاءته من تم فقد ضوعفت فهذا شاهد بأن صحة الاتصال بالله إنما هي بصحة الاتصال بواسطة وهو الرسول صلى الله عليه وسلّم وأن الرسول وشريعته محك فتضرب المواهب والعطايا عليه فإن جاءت موافقة لما أمره قبلت وإلا ردت إذ يحتمل أن يكون ذلك من قبل الشيطان والنفس جاء ملبوساً بلباس الحق مزخرفاً فلا بد من التمييز وهو من أصعب الأمور فعليك أيها الأخ في الله بالثبات والوقار ولا يستفزك العدو حتى لا تقع في ورطة البوار ، قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 208
در راه عشق وسوسه اهر من بسيست
هش دار وكوش دل بيام سروش كن
والله المنجي والموفق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 208
{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} أي : وما أنزلنا القرآن إلا ملتبساً بالحق
209
المقتضى لإنزاله وما نزل إلا ملتبساف بالحق الذي اشتمل عليه فالمراد بالحق في كل من الموضعين معنى يغاير الآخر فلا يرد أن الثاني تأكيد للأول.
قال الكاشفي : (درتبيان آمده كه با بمعنى على است ومراد ازحق محمد صلى الله عليه وسلّم يعني وعلى محمد نزل.
درمدارك آورده احمد ابن أبي كجواري كفت محمد بن سماك بيمارشد قاروزه أو بطبيب ترسا مى برديم مردى نيكو روى وخوشبوى وجامه اكيزه وشيده بما رسيد وصورت حال رسيد بوى كفتيم فرمودكه سبحان الله در مهم دوست خداى تعالى از دشمن خداى استعانت مى كنيد باز كرديد وباين سماك بكوييدكه دست خود برموضع وجع بنه وبكوى {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} وازشم ما غائب شد باز كشتيم وقصه بعرض شيخ وسانيديم دست بران موضع نهاد واين كلمات بكفت في الحال شفا يافت وكفته اند آن كس خضر عليه السلام بود أثر حكمت اين كار طبيبان الهيست).
وفي "التأويلات النجمية" إنزال القرآن كان بالحق لا بالباطل وذلك لأنه تعالى لما خلق الأرواح المقدسة في أحسن تقويم ثم بالنفخة رده إلى أسفل سافلين وهو القالب الإنساني احتاجت الأرواح في الرجوع إلى أعلى عليين قرب الحق وجواره إلى حبل تعتصم به في الرجوع فأنزل الله القرآن وهو حبله المتين وقال : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} (آل عمران : 103) وبالحق نزل ليضل به أهل الشقاوة وبالرد والجحود والامتناع عن الاعتصام به ويبقى في الأسفل حكمة بالغة منه ويهدي به أهل السعادة بالقبول والإيمان والاعتصام به والتخلق بخلقه إلى أن يصل به إلى كمال قربه فيعتصم به كما قال : {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَـاـاكُمْ} (الحج : 78) {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا مُبَشِّرًا} للمطيع بالثواب {وَنَذِيرًا} للعاصي من العقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار.
جزء : 5 رقم الصفحة : 209
وفي "التأويلات النجمية" : {مُبَشِّرًا} لأهل السعادة بسعادة الوصول والعرفان عند التمسك بالقرآن {وَنَذِيرًا} لأهل الشقاوة بشقاوة البعد والحرمان والخلود في النيران عند الانفصام عن حبل القرآن وترك الاعتصام به (سلمى قدس سره فرموده كه مده دهنده آنراكه از ما روى بكرداند وبيم كننده آنراكه روى بما آورد يعني بدكارانرا بشارت دهد بسعت رحمت وكمال عفو ما تا روى بدركاه ما آرند) :
حافظاً رحمت او بهر كنهكارا نست
نا اميدى مكن اي دوست كه فاسق باشى
نيكانرا انذار كندا از أثر هيبت وجلال تابر أعمال خود اعتماد ننمايند :
زاهد غرور داشت سلامت نبرد راه
رنده ازره نياز بدار السلام رفت
{وَقُرْءَانًا} منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى : {فَرَقْنَـاهُ} نزلناه مفرقاً.
وبالفارسية (ورا كنده فرستاديم قر آنرا يعني آيت آيت وسوره سوره) {لِتَقْرَأَه عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} أي : مهل وتأن فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم {أَنزَلْنَـاهُ} في ثلاث وعشرين سنة {تَنزِيلا} على قانون الحكمة وحسب الحوادث وجوابات السائلين.
{قُلْ} للذين كفروا {بِه أَوْ} أي : بالقرآن {أَوْ لا تُؤْمِنُوا} فإن إيمانكم به لا يزيده كمالاً وامتناعكم عنه لا يورثه نقصاً :
حاجت مشاطه نيست روى دلارام را†
(5/162)
والأمر للتهديد كما في "تفسير الكاشفي" {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ} أي : العلماء الذين
210
قرأوا الكتب السالفة من قبل تنزيله وعرفوا حقيقة الوحي وإمارات النبوة وتمكنوا من التمييز بين الحق والباطل والمحق والمبطل نحو عبد الله بن سلام واتباعه من اليهود والنجاشي وأصحابه من النصارى {إِذَا يُتْلَى} أي : القرآن {عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاذْقَانِ} (بيفتند برزنخهاى خود) أي : يسقطون على وجوههم فاللام بمعنى على والأذقان الوجوه على سبيل التعبير عن الكل بالجزء مجازاً {سُجَّدًا} أي : حال كونهم ساجدين تعظيماً لأمر الله وهو تعليل لما يفهم من قوله آمنوا به أو لا تؤمنوا من عدم المبالاة بذلك أي : إن لم تؤمنوا فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم.
قال البيضاوي ذكر الذقن لأنه أول ما يلقى الأرض من وجه الساجد واللام فيه لاختصاص الخرور به.
قال سعدي المفتي في حواشيه فيه بحث فإنه ظاهر أن أول ما يلقى الأرض من وجه الساجد جبهته وأنفه إلا أن يقال إن طريق سجدتهم غير ما عرفناه انتهى.
يقول الفقير معنى اللقاء هنا كون الذقن أقرب شيء من الأرض من الأنف والجبهة حال السجدة إذ الأقرب إلى الأرض بالنسبة إلى حال الخرور الركبة ثم اليدان ثم الرأس وأقرب أجزاء الرأس الذقن والأقرب إلى السماء بالإضافة إلى حال الرفع الرأس وأقرب أجزاء الرأس الجبهة فافهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 209
{وَيَقُولُونَ} في سجودهم {سُبْحَـانَ رَبِّنَآ} (اكست رورد كارما) عما يفعل الكفرة من التكذيب أو عن خلفه وعده الذي في الكتب السالفة ببعث محمد وإنزال القرآن عليه {ءَانٍ} أي : أن الشأن {كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} كائناً لا محالة واقعاً البتة لأن الخلف نقص وهو محال على الله تعالى.
يقول الفقير : الظاهر أن المراد بالوعد وعد الآخرة كما يدل عليه سياق الآية من قصة موسى وفرعون وما قبلها من قصة قريش في إنكار البعث والله أعلم.
{وَيَخِرُّونَ لِلاذْقَانِ يَبْكُونَ} أي : حال كونهم باكين من خشية الله تعالى كرر الخرور للاذقان لاختلاف السبب فإن الأول لتعظيم أمر الله والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلّم "تضرعوا وابكوا فإن السموات والأرض والشمس القمر والنجوم يبكون من خشية الله" {وَيَزِيدُهُمْ} أي : القرآن بسماعهم {خُشُوعًا} كما يزيدهم علماً ويقيناً بالله والخشوع (فروتني) وتضرع.
واعلم أن التواضع والسجود من شأن الأرواح والبكاء والخشوع من شأن الأجساد وإنما أرسلت الأرواح إلى الأجساد لتحصيل هذه المنافع في العبودية.
قال الكاشفي : (اين سجده هارم است از سجدات قرآن وحضرت شيخ قدس سره اين را سجود العلماء خوانده وفرموده كه بحقيقت اين سجود متجليست زيرا كه خشوع از وقوع تجلى باشد بر ظاهر يابر هردو وون خبر دادكه خشوع ايشان زياده ميشود وخشوع نمى باشد الا از تجلى الهي س زيادتى خشوع دليل زيادتى تجلى باشد وبرآن تقدير اين سجود تجلى بود وساجد بايدكه ببركت اين سجده از فيض تجلى بهره مند وخضوع او بيفزايد) ما تجلى الله لشيء إلا خضع له :
لمعه نور تجلى از قدم
بر حدوث افتد فرو ريزدزهم
س خضوع اينجا زوال هستى است
وزبلندى موجب اين بستى است
211
فعليك ببذل الوجود وإفنائه فإنه تعالى إنما يتجلى لأهل الفناء نعم إن الفناء من التجلي كما دل عليه الخبر المذكور ، وفي "المثنوي" :
ون تجلى كرد أوصاف قديم
س بسوزد وصف محدث راكليم
جزء : 5 رقم الصفحة : 209
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـانَ} .
(5/163)
ـ روي ـ أن اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة فنزلت.
والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء والمراد بالله والرحمن الاسم لا المسمى واو للتخيير والمراد أنهما سيان في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود.
والمعنى سموا بهذا الاسم أو بهذا واذكروا إما هذا وإما هذا {أَيًّا مَّا تَدْعُوا} (هركدام را بخوانيد وبدان حق را خوانده باشيد) والتنوين عوض عن المضاف إليه وما صلة لتأكيد ما في أي من الإبهام أي أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم {فَلَهُ} أي : للمسمى لأن التسمية لمسمى هذين الاسمين وهو ذاته تعالى لا للاسم {الاسْمَآءُ الْحُسْنَى} وحسن جميع أسمائه يستدعى حسن ذينك الاسمين.
والحسنى تأنيث الأحسن لأن حكم الأسماء حكم المؤنث نحو الجماعة الحسنى وكونها حسنى لدلالتها على صفات الجلال والجمال.
قال في "بحر العلوم" معنى كونها أحسن الأسماء أنها مستقلة بمعاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والإلهية والأفعال التي هي النهاية في الحسن.
وقال بعضهم : نزلت هذه الآية حين سمع المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : يا الله يا رحمن فقالوا إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر فالمراد هو التسوية بين اللفظين بأنهما مطلقان على ذات واحدة وإن اختلف معناهما واعتبار إطلاقهما والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود أو للإباحة لأن الإباحة يجوز فيها الجمع بين الفعلين دون التخيير والله أعلم.
قال المولى الفناري رحمه الله : إن لاسم الجلالة اختصاصاً وضعياً واستعمالياً وللرحمن اختصاصاً استعمالياً وقولهم رحمن اليمامة مسيلمة تعنت في كفرهم كما لو سموه الله مثلاً انتهى.
وقال الإمام السهيلي رحمه الله في كتاب "التعريف والإعلام" : كان مسيلمة قديماً يتكذب ويتسمى بالرحمن وقد قيل إنه تسمى بالرحمن قبل مولد عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلّم ثم عَمَّرَ عمراً طويلاً إلى أن قتل باليمامة قتله وحشي في خلافة أبي بكر رضي الله عنه انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 212
ـ وروي ـ أن بعض الجبابرة سمي نفسه بلفظ الجلالة فصهر ما في بطنه من دبره وهلك من ساعته لأن هذا الاسم الجليل لا يليق إلا لجناب الحق تعالى ولهذا لم يشاركه فيه أحد كما قال تعالى : {هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا} (مريم : 65) أي : مشاركاً له في هذا الاسم وقال فرعون مصر للقبط أنا ربكم الأعلى ولم يقدر أن يقول أنا الله تعالى.
قال حضرة الهدائي قدس سره استمداد جميع الأسماء من الاسم الرحمن الذي هو مقام خاتم النبوة والشفاعة العامة وإليه ينتهي كل الأسماء واستمداده من اسم الذات فينبغي للسالك أن لا يقصر بالعبادة في مراتب بعض الأسماء حتى يصل إلى المسمى ويجمع جميع الأسماء ويكون فوق الكل ، وفي "المثنوي" :
دست شد بالاى دست اين تاكجا
تابيزدان كه اليه المنتهى
كان يكى درياست بى غور وكران
جمله درياها وسيلى يش ان
{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي : بقراءة صلاتك في المسجد الحرام بحيث تسمع المشركين فإن
212
ذلك يحملهم على سب القرآن ومن أنزله ومن جاء به واللغو فيه ففيه حذف المضاف لأن الجهر والمخافتة صفتان تعتقبان على الصوت لا غير والصلاة أفعال وأذكار أو هو من تسمية الجزء بالكل مجازاً {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أي : بقراءتها بحيث لا تسمع من خلفك من المؤمنين.
قال الكاشفي : (وآواز فرو مدار بآن) {وَابْتَغِ} اطلب {بَيْنَ ذَالِكَ} أي : بين الجهر والمخافتة على الوجه المذكور {سَبِيلا} أمراً وسطاً فإن خير الأمور أوساطها والتعبير عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون ويؤمه المقتدون فيوصلهم إلى المطلوب.
ـ روي ـ أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت ويقول : أناجي ربي وقد علم حاجتي وعمر رضي الله عنه يجهر بها ويقول : أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان فلما نزلت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يرفع قليلاً وعمر أن يخفض قليلاً.
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} لأن الولادة من صفات الأجسام لا غير وهو رد لليهود والنصارى وبني مدلج حيث قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً {وَلَمْ يَكُن لَّه شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ} في ملك العالم أي : الألوهية فإن الكل عبيده والعبد لا يصلح أن يكون شريكاً لسيده في ملكه وهو ورد للثنوية القائلين بتعدد الآلهة ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 212
واحد اندر ملك اورا يا رني
بند كانش را جز او سالا رني
نيست خلقش را دكركس مالكى
شركتش دعوى كند جزها لكى
(5/164)
{وَلَمْ يَكُن لَّه وَلِىٌّ مِّنَ الذُّلِّ} لم يوال أحداً من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته فإنه محال أنه يذل فيحتاج إلى أحد يتعزز به ويدفع عنه المذلة إذ له العزة كلها فليس له مذلة دلالة ولا له احتياج إلى ولي يدفع الذل عنه وهو رد للمجوس والصابئين في قولهم لولا أولياء الله لذل الله تعالى عن ذلك.
وفي "الأسئلة المقحمة" : كيف جعل عدم الولد علة استحقاق الحمد؟ الجواب أن هذا ليس بتعليل لوجوب الحمد إنما هو بيان من يقع له الحمد كما تقول الحمدالأول الآخر الحمدرب العالمين انتهى.
وفي "الكشاف" كيف رتب الحمد على نفي الولد والشريك والذل؟ أي : مع أنه لم يكن من الجميل الاختياري قلت : إن من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة فهو الذي يستحق جنس الحمد {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرَا} عظمه تعظيماً أو قل الله أكبر من الاتخاذ والشريك والولي.
وقال الكاشفي (يعني حق را بزركتر دان از وصف واصافان ومعرفت عارفان) :
فكرها عاجزست زاوصافش
عقلها هرزه ميزند لافش
عقل عقلست جان جانست او
آن كزو برترست آنست او
وكان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية وكان يسميها آية العزة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 212
قال في "التأويلات النجمية" : {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَانَ} يشير إلى أن الله اسم الذات والرحمن اسم الصفة {أَيًّا مَّا تَدْعُوا} أي : بأي اسم من اسم الذات والصفات تدعونه {فَلَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى} أي : كل اسم من أسمائه حسن فادعوه حسناً وهو أن تدعوه بالإخلاص {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي : بدعائك وعبادتك رياء وسمعة {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أي : ولا تخفها بالكلية عن نظر لئلا يحرموا
213
المتابعة والأسوة الحسنة {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَالِكَ سَبِيلا} وهو إظهار الفرائض بالجماعات في المساجد وإخفاء النوافل وحداناً في البيوت {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} فيكون كمال عنايته وعواطف إحسانه مخصوصاً بولده ويحرم عباده معه {وَلَمْ يَكُن لَّه شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ} فيكون مانعاً له من إصابة الخير إلى عباده وأوليائه {وَلَمْ يَكُن لَّه وَلِىٌّ مِّنَ الذُّلِّ} فيكون محتاجاً إليه فينعم عليه دون ما استغنى عنه بل أولياؤه الذين آمنوا وجاهدوا في الله حق جهاده وكبروا الله وعظموه بالمحبة والطلب والعبودية وهو معنى قوله : {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرَا} انتهى (علم الهدى فرموده كه حق سبحانه دوست نكيرد تابمدد ايشان ازدل بعز وسد بلكه دوست كيرد تا بلطف وى از حضيض مذلت تابا وج عزت ترقى كند) كما قال الله تعالى : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (البقرة : 257) وهذه الولاية عامة مشتركة بين جميع المؤمنين وترقيهم من الجهل إلى العلم وقال تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس : 62) وهذه الولاية خاصة بالواصلين إلى الله من أهل السلوك وترقيهم من العلم إلى العين ومن العين إلى الحق.
قال في "شرح الحكم العطائية" : إن عباد الله المخلصين قسمان : قوم أقامهم الحق لخدمته وهم العباد والزهاد وأهل الأعمال والأوراد وقوم خصهم بمحبته وهم أهل المحبة والوداد والصفاء واتباع المراد وكل في خدمته وتحت طاعته وحرمته إذ كلهم قاصد وجهه ومتوجه إليه قال الله تعالى : {كُلا نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ} (الإسراء : 20) وهذا عام في كل طريق وظاهر في كل فريق {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} فيحجر أو يحصر في نوع واحد أو صفة واحدة.
وقد قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه : الزاهد صيد الحق من الدنيا والعارف صيد الحق من الجنة.
وقال أبو يزيد البسطامي قدس سره : اطلع الله سبحانه إلى قلوب أوليائه فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة فشغلهم بالعبادة ، قال الحافظ :
درين من نكنم سرزنش بخودرويى
نانكه رورشم ميدهند ميرويم
جزء : 5 رقم الصفحة : 212(5/165)
سورة الكهف
وهي مائة وإحدى عشرة آية مكية وقيل إلا قوله {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} الآية"
جزء : 5 رقم الصفحة : 213
{الْحَمْدُ} اللام للاستحقاق أي : هو المستحق للمدح والثناء والشكر كله لأن كل وجود شيء نعمة من نعمه فلا منعم إلا هو.
قال القيصري رحمه الله الحمد قولي وفعلي وحالي أما القولي فحمد اللسان وثناؤه عليه بما أثنى به الحق على نفسه على لسان أنبيائه عليهم السلام وأما الفعلي فهو الإتيان بالأعمال البدنية من العبادات والخيرات ابتغاء لوجه الله تعالى وتوجهاً إلى جنابه الكريم لأن الحمد كما يجب على الإنسان باللسان كذلك يجب عليه بحسب مقابلة كل عضو بل على كل عضو كالشكر وعند كل حال من الأحوال كما قال النبي عليه السلام : "الحمدعلى كل حال" وذلك لا يمكن إلا باستعمال كل عضو فيما خلق لأجله على الوجه المشروع عبادة للحق تعالى وانقياداً لأمره لا طلباً لحظوظ النفس ومرضاتها وأما الحالي : فهو يكون بحسب الروح والقلب كالاتصاف بالكمالات العلمية والعملية والتخلق بالأخلاق الإلهية لأن الناس مأمورون بالتخلق
214
بلسان الأنبياء صلوات الله عليهم لتصير الكمالات ملكة نفوسهم وذواتهم وفي الحقيقة هذا حمد الحق نفسه في مقامه التفصيلي المسمى بالمظاهر من حيث عدم مغايرتها له وإما حمده ذاته في مقامه الجمعي الإلهي قولاً فهو ما نطق به في كتبه وصحفه من تعريفاته نفسه بالصفات الكمالية وفعلاً فهو إظهار كمالاته الجمالية والجلالية من غيبه إلى شهادته ومن باطنه إلى ظاهره ومن علمه إلى عينه في مجالي صفاته ومحال آيات أسمائه وحالاً فهو تجلياته في ذاته بالفيض الاقدس الأولى وظهور النور الأزلي فهو الحامد والمحمود جمعاً وتفصيلاً ، قال المولى الجامي :
آنجا كه كمال كبرياى تو بود
عالم نمى از بحر عطاى توبود
ما راه حد حمد وثناى توبود
هم حمد وثناى تو سزاى توبود
{الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ} محمد الذي يستأهل أن يكون عبداً مطلقاً حقيقياً حراً عن جميع ما سوى الله ولذا يقول : "أمتي أمتي" يوم يقول كل نبي نفسي نفسي وفيه إشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبداً للمرسل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام : {الْكِتَابُ} أي : القرآن الحقيق باسم الكتاب وهو في اللغة جمع الحروف ورتب استحقاق الحمد على إنزاله تنبيهاً على أنه من أعظم نعمائه إذ فيه سعادة الدارين {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ} أي : القرآن {عِوَجَا} (يزى ازكى) أي : شيئاً من العوج بنوع اختلال في النظم وتناف في المعنى أو عدول عن الحق إلى الباطل واختار حفص عن عاصم السكت على عوجاً وهو وقفة لطيفة من غير تنفس لئلا يتوهم أن ما بعده صفة له واختار السكت أيضاً على مرقدنا إذ لا يحسن القطع بالكلية بين مقوليهم ولا الوصل لئلا يتوهم أن هذا إشارة إلى مرقدنا فافهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 214
{قَيِّمًا} انتصابه بمضمر تقديره جعله قيماً أي : مستقيماً معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط وقيماً بالمصالح الدينية والدنيوية للعباد فيكون وصفاً له بالتكميل بعد وصفه بالكمال والقيم والقيوم والقيام بناء مبالغة للقائم.
قال الكاشفي : (در تأويلات آورده كه ضمير له راجع بعبداست ومعنى آنكه نداد بنده خودرا ميل بغير خود وكردانيد اورا مستقيم در جميع أحوال) {لِّيُنذِرَ} أي : أنزل لينذر الكتاب أو محمد بما فيه الذين كفروا {بَأْسًا} عذاباً {شَدِيدًا} صادراً {مِّن لَّدُنْهُ} من عنده تعالى نازلاً من قبله بمقابلة كفرهم وتكذيبهم وهو إما عذاب الاستئصال في الدنيا أو عذاب النار في العقبى أو كلاهما وإنما قال من لدنه لأنه هو المعذب دون الغير {وَيُبَشِّرَ} (مزده دهد) {الْمُؤْمِنِينَ} المصدقين {الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} أي : الأعمال الصالحة وهي ما كانت لوجه الله تعالى {أَنَّ لَهُمْ} أي : بأن لهم في مقابلة إيمانهم وأعمالهم المذكورة {أَجْرًا حَسَنًا} هو الجنة وما فيها من النعيم {مَّاكِثِينَ} حال من ضمير لهم {فِيهِ} أي : في ذلك الأجر {أَبَدًا} من غير انقطاع وانتهاء وتغير حال نصب على الظرفية لماكثين وتقديم الإنذار على التبشير لتقدم التخلية على التحلية.
{وَيُنذِرَ} أيضاً خاصاً {الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} كاليهود والنصارى وبني مدلج من كفار العرب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 214
{مَّا لَهُم بِهِ} أي : باتخاذه تعالى ولداً {مِنْ عِلْمٍ وَلا لابَآااِهِمْ} الذين قلدوهم في ذلك يعني لا يقتضي العلم أن يتخذ الله ولداً لاستحالته في نفسه وإنما قالوا بالجهل من غير فكر ونظر فيما يجوز على الله ويمتنع ومن علم مرفوع على
215(5/166)
الابتداء ومن مزيدة لتأكيد النفي {كَبُرَتْ} عظمت أي : نبت {كَلِمَةً} تمييز وتفسير للضمير المبهم الذهني في كبرت مثل ربه رجلاً {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} صفة للكلمة تفيد استعظام اجترائهم على التفوه بها والخارج بالذات هو الهواء الحامل لها يعني : إسناد الخروج إليها مع أن الخارج هو الهواء المتكيف بكيفية الصوت لملابسته بها.
قال القاضي : عظمت مقالتهم هذه في الكفر لما فيها من التشبيه والتشريك وإيهام احتياجه إلى ولد يعينه ويخلفه إلى غير ذلك من الزيغ.
وفي "التأويلات" : كبرت كلمة كفر وكذب قالوها عند الله تعالى وهي أكبر الكبائر إذ نسبوها إلى الله وكذبوا عليه وكذبوه {إِن يَقُولُونَ} أي : ما يقولون في هذا الشأن {إِلا كَذِبًا} إلا قولاً كذباً لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق.
{فَلَعَلَّكَ} (س تو مكر) {بَـاخِعٌ} مهلك {نَّفْسَكَ} .
قال في "التأويلات النجمية" : معناه نهي أي : لا تبخع نفسك كما يقال لعلك تريد أن تفعل كذا أي : لا تفعل كذا أو فكأنك كما قال تعالى في شأن عاد {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (الشعراء : 129).
قال في "القاموس" : بخع نفسه كمنع قتلها عما وبخع بالشاة بالغ في ذبحها حتى بلغ البخاع هذا أصله ثم استعمل في كل مبالغة فلعلك باخع نفسك أي : مهلكها مبالغاً فيها حرصاً على إسلامهم والبخاع ككتاب عرق في الصدر ويجزي في عظم الرقبة وهو غير النخاع بالنون فيما زعم الزمخشري انتهى {عَلَى ءَاثَـارِهِمْ} غماً ووجداً على فراقهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 215
قال الكاشفي : (بعد ازبركشتن ايشان از تو ياس از انكار ايشان ترا يعني كار برخود آسان كير وغم بردل بى غل منه) {إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَـاذَا الْحَدِيثِ} أي : القرآن.
إن قلت تسمية القرآن حديثاً دليل على حدوثه.
قلت : سماه حديثاً لأنه يحدث عند سماعهم له معناه ولأنه عائد إلى الحروف التي وقعت بها العبارة عن القرآن كما في "الأسئلة المقحمة".
قال في "الصحاح" : الحديث ضد القديم ويستعمل في قليل الكلام وكثيره {أَسَفًا} مفعول له لباخع والأسف أشد الحزن كما في "القاموس" : إذ لفرط الحزن والغضب والحسرة مثل حاله صلى الله عليه وسلّم في شدة الوجد على إعراض القوم عن الإيمان بالقرآن وكمال التحسر عليهم بحال من يتوقع منه إهلاك نفسه عند مفارقة أحبته تأسفاً على مفارقتهم وهذه غاية الرحمة والشفقة على الأمة وكمال القيام بأداء حقوق الرسالة والإقدام على العبودية فوق الطاقة وكان من دأبه صلى الله عليه وسلّم أن يبالغ في القيام بما أمر إلى حد أن ينهى عنه كما أنه صلى الله عليه وسلّم حين أمر بالإنفاق بالغ فيه إلى أن أعطى قميصه وقعد في البيت عرياناً فنهي عن ذلك بقوله : {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} (الإسراء : 29) فتكلم بعض الكبار في الحزن فقال : الحزن حلية الأدباء طوبى لمن كان شعاره الحزن ودثاره الحزن وبيته الحزن وطعامه الحزن وشرابه الحزن به يلتذ الصديقون والنبيون إذا أحب الله تعالى عبداً ألقى له نائحة في قلبه ومن لم يذق طعام الحزن لم يذق لذة العبادة على أنواعها ولا يغرنك ما تسمع من قول صديق متمكن أن الحزن مقام نازل فإن مراده أن الحزن تابع للمحزون مثل العلم مع المعلوم فيتضع باتضاعه ويرتفع بارتفاعه.
قال إبراهيم بن بشار : صحبت إبراهيم بن أدهم فرأيته طويل الحزن دائم الفكر واضعاً يده على رأسه كأنما أفرغت عليه الهموم إفراغاً.
وكان سفيان عند رابعة
216
فقال : واحزناه فقالت : قل واقلة حزناه فإنك لو كنت حزيناً ما هنأك العيش.
وعن داود عليه السلام قال : الهي أمرتني أن أطهر قلبي فبماذا أطهر؟ قال : يا داود بالهموم والغموم ، قال الحافظ :
روي زردست وآه درد آلود
عاشقانرا دواى رنجورى
اللهم منّ على قلبي بهمك.
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ} من الحيوان والنبات والمعدن {زِينَةً لَّهَا} ولأهلها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 215
قال في "التأويلات النجمية" : أي : زينا الدنيا وشهواتها للخلق ملاءمة لطباعهم وجعلناها محل ابتلاء {لِنَبْلُوَهُمْ} لنعاملهم معاملة من يختبر حتى يظهر {أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} في ترك الدنيا ومخالفة هوى نفسه طلباًومرضاته وأيهم أقبح عملاً في الإعراض عن الله وما عنده من الباقيات الصالحات والإقبال على الدنيا وما فيها من الفانيات الفاسدات.
قال في "الإرشاد" أي : استفهامية مرفوعة بالابتداء وأحسن خبرها وعملاً تمييز والجملة في محل النصب معلقة لفعل البلوى لما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته.
قال الكاشفي : (محققان برانندكى ما اى في ما على الأرض بمعنى من است ومراد انبيا يا علما يا حفظة قرآن كه زينت زمين ايشانند وجمعى كويند آرايش زمين برجال الله است ازان روى كه قيام عالم بوجود شريف ايشان بازبسته است) :
روى زمين بطلعت ايشان منور است
ون آسمان بزهره وخورشيد ومشترى
(5/167)
{وَإِنَّا لَجَـاعِلُونَ} فيما سيأتي عند تناهي عمر الدنيا {مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا} تراباً {جُرُزًا} لا نبات فيه وسنة جرز لا مطر فيها.
قال الكاشفي : (صعيداً جرزاً هامون وبى كياه يعني بآخر اين عمارتها را خراب خواهيم ساخت س دل برآن منهيد وبزينت نا يدار فريفته مشويد) :
جهان ازرنك وبوسازد اسيرت
ولي نزديك ارباب بصيرت
نه رنك دلكشش را اعتباريست
نه بوى دلفريبش را مداريست
قال بعض الكبار صعيداً جرزاً لا حاصل له إلا الندامة والغرامة فالناسك السالك والطالب الصادق والمحب المحق من يحرم على نفسه الدنيا وزينتها حرامها وحلالها وهي ما زين للناس كما قال : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} إلى قوله : {ذَالِكَ مَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} (آل عمران : 14) لأن مع حب الله لا يسوغ حب الدنيا وشهواتها بل حب الآخرة ودرجاتها.
ـ حكي ـ أنه كان لهارون الرشيد ولد في سن ست عشرة سنة فزهد في الدنيا واختار العباء على القباء فمر يوماً على الرشيد وحوله وزراؤه فقالوا : لقد فضح هذا الولد أمير المؤمنين بين الملوك بهذه الهيئة فدعاه هارون الرشيد وقال : يا بني لقد فضحتني بحالك فلم يجبه الولد ثم التفت فرأى طيراً على حائط فقال : أيها الطائر بحق خالقك إلا جئت على يدي فقعد الطائر على يده ثم قال : ارجع إلى مكانك فرجع ثم دعاه إلى يد أمير المؤمنين فلم يأت فقال لأبيه : بل أنت فضحتني بين الأولياء بحبك للدنيا وقد عزمت على مفارقتك ثم إنه خرج من بلده ولم يأخذ إلا خاتماً ومصحفاً ودخل البصرة وكان يعمل يوم السبت في الطين ولا يأخذ إلا درهماً ودانقاً للقوت قال أبو عامر البصري : استأجرته يوماً فعمل عمل عشرة وكان يأخذ كفاً من الطين ويضعه على الحائط ويركب الحجارة بعضها على بعض فقلت : هذا فعال الأولياء فإنهم معانون ثم طلبته يوماً فوجدته مريضاً في خربة فقال :
217
يا صاحبي لا تغترر بتنعم
جزء : 5 رقم الصفحة : 215
فالعمر ينفد والنعيم يزول
وإذا حملت إلى القبور جنازة
فاعلم بأنك بعدها محمول
ثم وصاني بالغسل والتكفين في جبته فقلت : يا حبيبي ولم لا أكفنك في الجديد فقال : الحي أحوج إلى الجديد من الميت يا أبا عامر الثياب تبلى والأعمال تبقى ثم ادفع هذا المصحف والخاتم إلى الرشيد وقل له : يقول لك ولدك الغريب لا تدومن على غفلتك قال أبو عامر فقضيت شأنه ودفعت المصحف والخاتم إلى الرشيد وحكيت ما جرى فبكى وقال : فيم استعملت قرة عيني وقطعة كبدي قلت : في الطين والحجارة قال : استعملته في ذلك وله اتصال برسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت : ما عرفته قال : ثم أنت غسلته قلت : نعم فقبل يدي وجعلها على صدره ثم زار قبره ثم رأيته في المنام على سرير عظيم في قبة عظيمة فسألته عن حاله فقال : صرت إلى رب راض أعطاني ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وآلى على ذاته ونفسه الشريفة أي : قال : بالله الذي خلقني لا يخرج عبد من الدنيا كخروجي إلا أكرمه مثل كرامتي.
نكه دار فرصت كه عالم دميست
دمى يش دانا به از عالميست
برفتندو هركس درود آنه كشت
نماند بجز نام نيكو وزشت
دل اندر دلارام دنيا مبند
كه ننشست باكسر كه دل برنكند
اللهم اجعلنا من المنقطعين إليك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 215
{أَمْ حَسِبْتَ} الخطاب للرسول الله صلى الله عليه وسلّم والمراد إنكار حسبان أمته وأم منقطعة مقدرة ببل التي هي للانتقال من حديث إلى حديث لا للإبطال وبهمزة الاستفهام عند الجمهور وببل وحدها عند غيرهم أي : بل أحسبت وظننت بمعنى ما كان ينبغي أن يحتسب ولم حسبت.
قال الكاشفي : (آلأرده انكه ون يهود قريش راسه سؤال در آمود ختندكه ازحضرت رسالت صلى الله عليه وسلّم رسيدند بايكديكر ميكفتندكه قصه جوانان بس عجبست عجب ازوى كه جواب آن داند حق سبحانه وتعالى آيت فرستادكه {أَمْ حَسِبْتَ} نه نانست كه ميكويند آيامى ندارى تو) {أَنَّ أَصْحَـابَ الْكَهْفِ} الكهف الغار الواسع في الجبل فإن لم يكن واسعاً فغار {وَالرَّقِيمِ} هو كلبهم بلغة الروم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 218
(5/168)
ـ يروى ـ عن الصاحب بن عباد أنه كان يتردد في معنى الرقيم وتبارك والمتاع ويدور على قبائل العرب فسمع امرأة تسأل أين المتاع ويجيب ابنها الصغير بقوله : الرقيم أخذ المتاع وتبارك الجبل فاستفسر عنها وعرف أن الرقيم هو الكلب وأن المتاع هو ما يبل بالماء فيمسح به وأن تبارك بمعنى صعد.
قال في "القاموس" : الرقيم كأمير قرية أصحاب الكهف أو جبلهم أو كلبهم أو الوادي أو الصحراء أو لوح رصاصي أو حجري نقش ورقم فيه نسبهم وأسماؤهم ودينهم ومم هربوا وجعل على باب الكهف فالرقيم عربي فعيل بمعنى مفعول.
قال الطبري : كان في بيت الملك رجلان مؤمنان اسم أحدهما يندروس والآخر روناس كتبا اسماءهم وقصتهم وأنسابهم في لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت من نحاس ثم جعلاه على فم الغار في البنيان وقالا : لعل الله أن يظهر عليهم قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة فتعلم أخبارهم {كَانُوا} في بقائهم على الحياة مدة طويلة من الدهر (يعني در خواب ماندن سيصدونه سال) {مِنْ ءَايَـاتِنَا} من بين
218
آياتنا ودلائل قدرتنا {عَجَبًا} أي : آية ذات عجب وضعا له موضع المضاف أو وصفا لذلك بالمصدر مبالغة والعجيب ما خرج عن حد أشكاله ونظائره وهو خبر لكانوا ومن آياتنا حال منه.
والمعنى أن قصتهم وإن كانت خارقة للعادات ليست بعجيبة بالنسبة إلى سائر الآيات فإنتعالى آيات عجيبة قصتهم عندها كالنزر الحقير.
قال الكاشفي : (يعني قصه ايشان بنسبت قدرت ما كه در آفرينش ارض وسما ظاهراست ندان عجيب وغريب نيست مراد از كهف غاريست جيرم نام واقع دركوه تباخلوس از حوالي شهر افسوس كه دار الملك دقيانوس بود آورده اندكه دقيانوس درزمان تسخير ممالك روم بشهر افسوس رسيد وآنجا مذبحى براى بتان كه معبودان او بودند ساخته أهل شهررا تكليف رستش ايشان كرد هركه سخن اوشنيد خلاص يافت وهركه تمرد نمود بقتل رسيد شش جوان نوسيده خدا رست از بزركان زادكان شهر كوشه كرفته بدعا ونياز مشغول كشتند واز حق سبحانه وتعالى در خواست نمودندكه ايشانرا ازفتنه آن جبار ايمن سازد القصه مهم ايشان بعرض دقيانوس رسيده وباحضار ايشان امر كرده تهديد بسيارنمود ايشان بر طريق توحيد رسوخ ورزيده مطلقاً فرمان أو قبول نكردند دقيانوس بفرمودتا حلى وحلل كه دربرداشتند ازايشان انتزاع كردند وكفت شما جوانيد وخرد سال وشمارا دوسه روزى مهلت دادم تادركار خود تأمل كنيد وببنيدكه مصلحت شمادر قبول قول منست يا دررد آن س ازان شهر متوجه موضعى ديكر شد وجوانان رفتن اورا غنيمت دانسته بايكدريكر درباب مهم خود مشاورت نمودندو أى همه بر فرار قرار يافت هريك ازخانه در قدرى مال بجهت زاد ونفقه بر داشته روى بكوهى كه نزديك شهر بود آوردند ودرراه شبانى بديشان رسيدو بدين ايشان در آمد ودرمرافقت موافقت نود سك شبان نيزبر عقب ايشان دويدن آغاز كردندان كه منع كردند ممتنع نشد وخداى اورا بسخن آلأردنا بزبان فصيح كفت از من مترسيدكه من دوستان خدايرا دوست ميدارم شمادر خواب رويد تا من شمارا اسبانى كنم اما ون نزديك كوه شدند شبان كفت من درين كوه غارى ميدانم كه بدان ناه مى توان كرفت س اتفاق روى بغار نهادند وحق سبحانه وتعالى ازرفتن ايشان بغار برين وجه خبر ميدهد).
جزء : 5 رقم الصفحة : 218
{إِذْ أَوَى} ظرف لعجباً أو مفعول لأذكر أي : اذكر حين صار وأتى وانضم والتجأ {الْفِتْيَةُ} يعني : فتية من أشراف الروم أكرههم دقيانوس على الشرك فأبوا وهربوا {إِلَى الْكَهْفِ} هو جيروم في جبلهم بنجلوس واتخذوه مأوى.
والفتية جمع الفتى وهو الشاب القوي الحدث ويستعار للملوك وإن كان شيخاً كالغلام وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي" وعن أبي يوسف من قال : أنا فتى فلان كان إقراراً منه بالرق {فَقَالُوا رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ} من خزائن رحمتك الخاصة المكنونة عن عيون أهل المعاداة فمن ابتدائية متعلقة بآتنا {رَحْمَةً} خاصة تستوجب المغفرة والرزق والأمن من الأعداء {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا} كلا الجارين متعلق بهيىء لاختلافهما في المعنى وأصل التهيئة إظهار هيئة الشيء وفي "الصحاح" هيأت الشيء أصلحته والإصلاح نقيض الإفساد وهو جعل الشيء على الحالة المستقيمة النافعة والإفساد هو الإخراج عن حد الاعتدال.
والمعنى أصلح ورتب وأتمم لنا من
219
أمرنا الذي هو مهاجرة الكفار والمثابرة على الطاعة {رَشَدًا} إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب واهتداء إليه.
(5/169)
{فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ} أي : حجاباً يمنع سماعها أي : أنمناهم على طريقة التمثيل المبني على تشبيه الإنامة الثقيلة المانعة عن وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها وتخصيص الآذان بالذكر مع اشتراك سائر المشاعر لها في الحجب عن الشعور عند النوم لما أنها المحتاجة إلى الحجب عادة إذ هي الطريقة للتيقظ غالباً لا سيما عند انفراد النائم واعتزاله عن الخلق والفاء في ضربنا كما في قوله فاستجبنا له بعد قوله إذ نادى فإن الضرب المذكور وما ترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال وغير ذلك ايتاء رحمة لدنية خافية عن أبصار المتمسكين بالأسباب العادية استجابة لدعواتهم {فِى الْكَهْفِ} ظرف مكان لضربنا {سِنِينَ} ظرف زمان له {عَدَدًا} أي : ذوات عدد هي ثلاثمائة وتسع سنين كما سيأتي ووصف السنين بذلك إما للتكثير وهو الأنسب بإظهار كمال القدرة أو للتقليل وهو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجباً من بين سائر الآيات العجيبة فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده تعالى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 218
{ثُمَّ بَعَثْنَـاهُمْ} أي : أيقظناهم من تلك النومة الثقيلة الشبيهة بالموت وفيه دليل على أن النوم أخو الموت في اللوازم من البعث وتعطيل الحياة والالتحاق بالجمادات {لِنَعْلَمَ} العلم هنا مجاز عن الاختبار بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب وليس من ضرورة الاختبار صدور الفعل المختبر به قطعاً بل قد يكون لإظهار عجزه عنه على سنن التكاليف التعجيزية كقوله تعالى : {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} (البقرة : 58) وهو المراد هنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} أي : الفريقين المختلفين في مدة لبثهم بالتقدير والتفويض كما سيأتي.
ـ وروي ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أحد الحزبين الفتية والآخر الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك وذلك لأن اللام للعهد ولا عهد لغيرهم وأي مبتدأ خبره قوله : {أَحْصَى} فعل ماض أي : ضبط {لِمَا لَبِثُوا} أي : للبثهم فما مصدرية {أَمَدًا} يقال ما أمدك أي : منتهى عمرك أي : غايته فيظهر لهم عجزهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم من حفظ أبدانهم وأديانهم فيزدادوا يقيناً بكمال قدرته وعلمه ويستبصروا به أمر البعث ويكون ذلك لطفاً لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفارهم.
والأمد بمعنى المدى كالغاية في قولهم ابتداء الغاية على طريق التجوز بغاية الشيء عنه فالمراد بالمدى المدة كما أن المراد بالغاية المسافة وهو مفعول لأحصى والجار والمجرور حال منه قدمت عليه لكونه نكرة فأحصى فعل ماض هنا وهو الصحيح لا أفعل تفضيل لأن المقصود بالاختيار إظهار عجز الكل عن الإحصاء رأساً لا إظهار أفضل الحزبين وتمييزه عن الأدنى مع تحقق أصل الإحصاء فيهما.
قال في "التأويلات النجمية" : {أَمْ حَسِبْتَ} إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أي : إنك إن حسبت {أَنْ} أحوال {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَـابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} أي : من آيات إحساننا مع العبد {عَجَبًا} فإن في أمتك من هو أعجب حالاً منهم وذلك أن فيهم أصحاب الخلوات الذين كهفهم الذي يأوون إليه بيت الخلوة ورقيمهم قلوبهم المرقومة برقم المحبة فهم محبي ومحبوبي وألواح قلوبهم مرقومة بالعلوم اللدنية ، قال الحافظ :
220
خاطرت كي رقم قيض ذيرد هيهات
جزء : 5 رقم الصفحة : 218
مكر ازنقش را كنده ورق ساده كنى
وإن كان أصحاب الكهف آووا إلى الكهف خوفاً من لقاء دقيانوس وفراراً فإنهم آووا إلى كهف الخلوة شوقاً إلى لقائي وفراراً إلي ، قال الحافظ :
شكر كمال حلاوت س از رياضت يافت
نخست درشكن تنك ازان مكان كيرد
وإن كان مرادهم من قولهم {رَبَّنَآ ءَاتِنَا} الآية النجاة من شر دقيانوس والخروج من الغار بالسلامة فمراد هؤلاء القوم النجاة من شر نفوسهم والخروج من ظلمات غار الوجود للوصول إلى أنوال جمالي وجلالي ، قال الحافظ :
مددى كر براغى نكند آتش طور
اره تيره شب وادى ايمن ه كنم
وبقوله : {فَضَرَبْنَا} الآية يشير إلى سد آذان ظاهر أصحاب الخلوة وآذان باطنهم لئلا يقرع مسامعهم كلام الخلق فتنقش ألواح قلوبهم به وكذلك ينعزل جميع حواسهم عن نقش قلوبهم ثم إنهم يمحون النقوش السابقة عن القلوب بملازمة استعمال كلمة الطلاسة وهي كلمة لا إله إلا الله حتى تصفو قلوبهم بنفي لا إله عما سوى الله وبإثبات إلا الله تتنور قلوبهم بنور الله وتنتقش بنور العلوم اللدنية إلى أن يتجلى تبارك وتعالى لقلوبهم بذاته وجميع صفاته فيفنيهم الله عنهم ويبقيهم به وهو سر قوله : {ثُمَّ بَعَثْنَـاهُمْ} أي : أحييناهم بنا {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} أي : حزب أصحاب الكهف وحزب أصحاب الخلوة أحصى أي : أخطأ وأصوب لما لبثوا في كهفهم وبيت خلوتهم أمداً غاية لبثهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 218
(5/170)
{نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} أي : نخبرك ونبين لك وقد مر اشتقاقه في مطلع سورة يوسف {نَبَأَهُم} أي : خبِّر أصحاب الكهف والرقيم {بِالْحَقِّ} صفة لمصدر محذوف أي : نقص قصاً ملتبساً بالحق والصدق.
وفيه إشارة إلى أن القصاص كثيراً يقصون بالباطل ويزيدون وينقصون ويغيرون القصة كل واحد يعمل برأيه موافقاً لطبعه وهواه وما يقص بالحق إلا الله تعالى : {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} (شبان) {بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَـاهُمْ} .
قال في "التكملة" : سبب إيمانهم أن حوارياً من حواريي عيسى عليه السلام أراد أن يدخل مدينتهم فقيل له : إن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إلا سجد له فامتنع من دخولها وأتى حماماً كان قريباً من تلك المدينة فآجر نفسه فيه فكان يعمل فيه فتعلق به فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم خبر السماء وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدقوه ثم هرب الحواري بسبب ابن الملك أراد دخول الحمام بامرأة فنهاه الحواري فانتهره فلما دخل مع المرأة ماتا في الحمام فطلبه الملك لما قيل له إنه قتل ابنك فهرب ثم قال الملك : من كان يصحبه؟ فسموا الفتية فهربوا إلى الكهف.
يقول الفقير : الظاهر أن إيمانهم كان بالإلهام الملكوتي والانجذاب اللاهوتي من غير دليل يدلهم على ذلك كما يشير إليه كلام "التأويلات" وسيأتي.
واختلف فيهم متى كانوا فروى بعض الناس أنهم كانوا قبل عيسى ابن مريم وأن عيسى أخبر قومه خبرهم وأن بعثهم من نومهم كان بعد رفع عيسى في الفترة بينه وبين محمد عليهما السلام.
وروي بعضهم أن أمرهم كان بعد عيسى وأنهم كانوا على دين عيسى.
قال الطبري وعليه أكثر العلماء {وَزِدْنَـاهُمْ} (وبيفزروديم ايشانرا) {هُدًى} بأن ثبتناهم على الدين الحق وأظهرنا لهم مكنونات محاسنه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 221
وفي "التأويلات النجمية" : سماهم باسم الفتوة لأنهم آمنوا
221
بالتحقيق لا بالتقليد وطلبوا الهداية من الله إلى الله بالله ولكنهم طلبوا الهداية في البداية بحسب نظرهم وقدر همتهم فالله تعالى على قضية {وَزِدْنَـاهُمْ هُدًى} أي : زدنا على متمناهم في الهداية فإنهم كانوا يتمنون أن يهديهم الله إلى الإيمان بالله وبما جاء به الأنبياء وبالبعث والنشور وإيماناً بالغيب فزاد الله على متمناهم في الهداية حين بعثهم من رقدتهم بعد ثلاثمائة وتسع سنين وما تغيرت أحوالهم وما بليت ثيابهم فصار الإيمان إيقاناً والغيب عيناً وعياناً.
ميوه باشد آخر از هار تو
كعبه باشد آخر اسفار تو
{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي : قويناهم حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والأوطان والنعيم والإخوان واجترأوا على الصدع بالحق من غير خوف وحذار والرد على دقيانوس الجبار وفي الحديث "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" وذلك لأن المجاهد متردد بين رجاء وخوف وأما صاحب السلطان فمتعرض للتلف فصار الخوف أغلب.
قال في "الأساس" : ربطت الدابة شددتها برباط والمربط الخيل ومن المجاز ربط الله على قلبه أي : صبره ولما كان الخوف والقلق يزعج القلوب عن مقارها كما قال الله تعالى : {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (الأحزاب : 10) قيل في مقابلته ربط قلبه إذا تمكن وثبت وهو تمثيل شبه تثبيت القلوب بالصبر بشد الدواب بالرباط {إِذْ قَامُوا} منصوب بربطنا والمراد بقيامهم انتصابهم لإظهار شعار الدين وقيل : المراد قيامهم بين يدي دقيانوس الجبار من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام فحينئذٍ يكون ما سيأتي من قوله تعالى : {هَؤُلاءِ} منقطعاً عما قبله صادراً عنهم بعد خروجهم من عنده.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} يعني : لئلا يلتفتوا إلى الدنيا وزخارفها وينقطعوا إلى الله بالكلية ولذلك ما اختاروا بعد البعث الحياة في الدنيا ورغبوا في أن يرجعوا إلى جوار الحق تعالى : {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} رب العالم ومالكه وخالقه والصنم جزؤ من العالم فهو مخلوق لا يصلح للعبادة {لَن نَّدْعُوَا} لن نعبد أبداً وبالفارسية (نخواهيم رستيد) {مِن دُونِه إِلَـاهًا} معبوداً آخر لا استقلالاً ولا اشتراكاً والعدول عن أن يقال رباً للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامهم آلهة {لَّقَدْ قُلْنَآ إِذًا} (آن هنكام كه ديكرى را رستيم) {شَطَطًا} قولاً ذا شطط أي : تجاوز عن الحد فهو نعت لمصدر محذوف بتقدير المضاف أو قولاً هو عين الشطط على أنه وصف بالمصدر مبالغة.
قال في "القاموس" شط في سلعته شططا محركة جاوز القدر والحد وتباعد عن الحق انتهى وحيث كانت العبادة مستلزمة للقول لما أنها لا تعرى عن الاعتراف بألوهية المعبود والتضرع إليه قيل لقد قلنا وإذا جواب وجزاء أي : لو دعونا من دونه إلهاً والله لقد قلنا قولاً خارجاً عن حد العقول مفرطاً في الظلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 221(5/171)
{هَؤُلاءِ} مبتدأ وفي التعبير باسم إشارة تحقير لهم {قَوْمُنَا} عطف بيان له.
يعني : (اين كروه كه كسان ما اند درنسب يعني جمعي از هل افسوس).
وقال في "التأويلات النجمية" إنما قالوا : {قَوْمُنَا} أي : كنا من جملتهم وبالضلالة في زمرتهم فأنعم الله علينا بالهداية والمعرفة وفرق بيننا وبينهم بالرعاية
222
والعناية وخلصنا من عبادة الهوى والدنيا وشهواتها {اتَّخَذُوا مِن دُونِه ءَالِهَةً} خبره وهو إخبار في معنى الإنكار أي : عبدوا الأصنام وجعلوها آلهة جهلاً منهم.
قال أبو حيان : اتخذوا هنا يحتمل أن يكون بمعنى عملوا لأنها أصنام هم نحتوها وأن يكون بمعنى صيروا.
وفي "المثنوي" :
يش وب ويش سنك نقشي كنند
اي بسا كولان كه سرهامى نهندديو الحاح غوايت ميكند
شيخ الحاح هدايت ميكند {لَّوْلا يَأْتُونَ} هلا يأتون.
وبالفارسية (رانمى آرندكه كافران) {عَلَيْهِم} على ألوهيتهم {بِسُلْطَـانا بَيِّنٍ} بحجة ظاهرة الدلالة على مدعاهم يعني يعبدون آلهة لم يتمسكوا في صحة عبادتها ببرهان سماوي من جهة الوحي والسمع ولا لهم فيها علم ضروري ولا دليل عقلي.
وفيه دليل على أن ما لا دليل عليه من الديانات مردود والآية إنكار وتعجيز وتبكيت لأن الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال {فَمَنْ أَظْلَمُ} (س كيست سمتكارتر) {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بنسبة الشريك إليه تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
والمعنى أنه أظلم من كل ظالم وعذابه أعظم من كل عذاب لأن الظلم موجب للعذاب فيكون الأعظم للأظلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 221
{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} الاعتزال بالفارسية (جداشدن) أي : فارقتموهم في الاعتقاد وأردتم الاعتزال الجسماني وهو خطاب بعضهم لبعض حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم.
قال الكاشفي : (قبل أزين كذشت كه دقيانوس بعد از معارضه ايشان مهلت دادوايشان فرار كردند يمليخا كه مهتر ايشان بود دراثناى طريق بايشان كفت) {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} عطف على الضمير المنصوب وما مصدرية أو موصولة أي : إذا اعتزلتموهم ومعبوديهم إلا الله أي : وعبادتهم إلا عبادة الله وعلى التقديرين فالاستثناء متصل على تقدير كونهم مشركين كأهل مكة ومنقطع على تقدير تمحضهم في عباد الأوثان {فَأْوُوا} التجئوا {إِلَى الْكَهْفِ} قال الفراء هو جواب إذ كما تقول إذ فعلت فافعل كذا وقيل هو دليل على جوابه أي : إذ اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقادياً فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانياً أو إذا أردتم اعتزالهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف.
وفيه إشارة إلى أن الاعتزال الاعتقادي يوجب الاعتزال الجسماني.
ومن ثم قال في "مجمع الفناوي" سئل الرستغفني عن المناكحة بين أهل السنة وبين أهل الاعتزال فقال : لا يجوز {يَنشُرْ لَكُمْ} يبسط لكم ويوسع عليكم {رَبُّكُمْ} مالك أمركم {مِّن رَّحْمَتِهِ} من تفضله وإنعامه في الدارين {وَيُهَيِّئْ لَكُم} يسهل لكم {مِّنْ أَمْرِكُم} الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين {مِّرْفَقًا} ما ترفقون وتنتفعون به وجزمهم بذلك لخلوص يقينهم عن شوب الشك وقوة وثوقهم.
وفي الحديث : "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة" وفي الآية : إشارة إلى أن التائب الصادق والطالب المحق من اعتزل عن قومه وترك أهل صحبته وقطع عن إخوان سوئه واعتقد أن لا يعبد إلا الله يعرض عما سوى الله مستعيناً بالله متوكلاً على الله فارّاً إلى الله من غير الله ، قال الحجندي :
وصل ميسر نشود جز بقطع
قطع نخست از همه ببريدنست
223
ثم يأوي إلى كهف الخلوة ، قال الجامي :
زابناى دهر وقت كسى خوش نميشود
خوش وقت آنكه معتكف كنج عزلتست
متمسكاً بذيل إرادة شيخ كامل مكمل واصل موصل ليربيه ويزيد في هدايته ويربط على قلبه بنور الولاية وقوة الرعاية كما كان حال أصحاب الكهف ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 221
كره شيرى ون روى ره بى دليل
خويش بيني در ضلالي وذليل
هين مر الا كه بارهاى شيخ
تابيني عون لشكرهاى شيخ(5/172)
ولكنهم كانوا مجذوبين من الله مربوبين بربهم وذلك من النوادر ولا حكم للنادر وإليه يشير قوله عليه السلام : "إن الله أدبني فأحسن تأديبي" وهذا من قدرة الله أن يهدي جماعة إلى الإيمان بلا واسطة رسول أو نبي ويجذبهم بجذبات العناية إلى مقامات القرب ومحل الأولياء بلا شيخ مرشد وهاد مرب ومن سنة الله أن يهدي عباده بالأنبياء والرسل وبخلافتهم ونيابتهم بالعلماء الراسخين والمشايخ المقتدين ففي قوله : {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} إشارة إلى الالتجاء بالخلوة والتمسك بالمشايخ المسلكين يعني لهذه الطريقة {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} أي : يخصصكم برحمة الخاصة المضافة إلى نفسه وهو أن يجذبهم بجذبات العناية ويدخلهم في عالم الصفات ليتخلقوا بأخلاقه ويتصفوا بصفاته كقوله تعالى : {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ} (الشورى : 8) وله رحمة عامة مشتركة بين المؤمن والكافر والجن والإنس والحيوان {وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} أي : ينشر لكم طريق الوصول والوصال كما في "التأويلات النجمية".
جزء : 5 رقم الصفحة : 221
{وَتَرَى الشَّمْسَ} يا محمد أو يا من يصلح للخطاب ويتأتى منه الرؤية وليس المراد به الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقاً بل الأنباء بكون الكهف بحيث لو رأيته ترى الشمس.
قال الكاشفي : (آورده اندكه جوانان اتفاق نموده بكوه در آمدند وشبان ايشانرا بغار در آورد وون درو قرار كرفتند حق سبحانه وتعالى خواب برايشان كماشت همانجا بخفتند دقيانوس بعد ازدوسه روزى بافوس باز آمده أحوال جوانان رسيد وون ازفرار ايشان خبر يافت آباء ايشانرا براحضار ايشان تكليف نمود كفتند اي ملك مبلغي أموال ما برده بدين كوه متحصن شدند دقيانوس باجمعى ازعقب ايشان برفت وايشانرا درون غار تكيه كرده يافت نداشت كه بيدارندكفت درغاررابسنك بر آريد تاهم آنجا بميرند س درغاررا استوار كردند ودومؤمن ازمقربان دقيانوس اسامى واحوال جوانرا برلوحى ازسنك نقش كرد ودر ديوار غار وضع كردند باميد آنكه شايد كسى روزى آنجارسد وازحوال ايشان خبر دار كردد).
يقول الفقير : فيكون ما ذكر في الآية من تزاور الشمس وقرضها طالعة وغاربة قبل أن سد دقيانوس باب الكهف إذ لا يتصور دخول شعاع الشمس من الباب المسدود حتى يحتاج إلى التزاور والقرض كما لا يخفى {إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ} أي : تتزاور وتتنحى وتميل بحذف إحدى التاءين من الزور بفتح الواو وهو الميل {عَن كَهْفِهِمْ} الذي آووا إليه فالإضافة لأدنى ملابسة {ذَاتَ الْيَمِينِ} أي : جهة ذات يمين الكهف عند توجه الداخل إلى قعره أي : جانبه الذي يلي المغرب فلا يقع عليهم شعاعها فيؤذيهم لأن الكهف كان جنوبياً أي : كانت ساحته داخلة في جانب الجنوب أو زوّرها الله عنهم وصرفها
224
على منهاج خرق العادة كرامة لهم وحقيقتها الجهة ذات اسم اليمين أي : الجهة المسماة باسم اليمين
جزء : 5 رقم الصفحة : 224
{وَإِذَا غَرَبَت} أي : تراها عند غروبها {تَّقْرِضُهُمْ} القرض القطع ومنه المقراض أي : تقطعهم ولا تقربهم {ذَاتَ الشِّمَالِ} أي : جهة ذات شمال الكهف أي : جانبه الذي يلي المشرق.
وفي "القاموس" تقرضهم ذات الشمال أي : تخلفهم شمالاً وتجاوزهم وتقطعهم وتتركهم على شمالها {وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ} الفجوة الفرجة وما اتسع من الأرض وساحة الدار وهي جملة حالية مبنية لكون ذات أمراً بديعاً أي : تراها تميل عنهم يميناً وشمالاً ولا تحوم حولهم في نهارهم كله مع أنهم في متسع من الأرض أي : في وسط معرض لإصابتها لولا أن صرفتها عنهم يد التقدير {ذَالِكَ} أي : ما صنع الله بهم من تزاور الشمس وقرضها حالتي الطلوع والغروب مع كونهم في موقع شعاعها {مِنْ ءَايَـاتِ اللَّهِ} العجيبة الدالة على كمال علمه وقدرته وحقية التوحيد وكرامة أهله عنده {مَنْ} (هركه) {يَهْدِ اللَّهُ} إلى الحق بالتوفيق له {فَهُوَ الْمُهْتَدِ} الذي أصاب الفلاح واهتدى إلى السعادة كلها فلن يقدر على إضلاله أحد والمراد إما الثناء عليهم بأنهم المهتدون أو التنبيه على أن أمثال هذه الآية كثيرة ولكن المنتفع بها من وفقه الله للاستبصار بها {وَمَن يُضْلِلْ} أي : يخلق فيه الضلالة لصرف اختياره إليها {فَلَن تَجِدَ لَهُ} أبداً وإن بالغت في التتبع والاستقصاء {وَلِيًّا} ناصراً {مُّرْشِدًا} يهديه إلى الفلاح لاستحالة وجوده في نفسه لا أنك لا تجده مع وجوده أو إمكانه.
(5/173)
{وَتَحْسَبُهُمْ} تظنهم والخطاب فيه كما في ترى {أَيْقَاظًا} متنبهين جمع يقظ بفتح القاف وكسرها وهو اليقظان ومدار الحسبان انفتاح عيونهم على هيئة الناظر {وَهُمْ رُقُودٌ} نيام جمع راقد مثل بكيا وجثيا في سورة مريم جمع باك وجاث والأصل بكوى وجثوى على وزن رقود (در كشف الأسرار آلأرده كه اين حال نموداركار جوانمردان طريقتست ون بظواهر ايشان درنكرى بيني كه جلوه كراند در ميدان أعمال وون سرائر ايشان دريابى بيني كه ازهمه فارغند در بوستان لطف ذو الجلال بباطن مست وبظاهر هشيار بمعنى بيكار وبصورت دركار).
جزء : 5 رقم الصفحة : 224
ظاهري با اين وآن درساخته
باطني از جمله وابرد اخته
{وَنُقَلِّبُهُمْ} في رقدتهم بأيدي الملائكة {ذَاتَ الْيَمِينِ} نصب على الظرفية أي : جهة تلي إيمانهم {وَذَاتَ الشِّمَالِ} أي : جهة تلي شمائلهم كيلا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم على طول الزمان قال أبو هريرة رضي الله عنه : كانت لهم تقلبتان في السنة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما تقلبة واحدة من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض لحومهم وذلك في يوم عاشوراء وتعجب منه الإمام وقال : إن الله قادر على حفظهم من غير تقليب وأجاب عنه سعدي المفتي بقوله : لا ريب في قدرة الله ولكن تعالى جعل لكل شيء سبباً في أغلب الأحوال انتهى.
قال بعض الكبار : الميل إلى اليمين عند النفي حين التلفظ بكلمة الشهادة وإلى اليسار عند الإثبات مأخوذ من هذه الآية الشريفة.
قال في "التأويلات النجمية" : فيه إشارة لطيفة وهي أن المريد الذي يربيه الله
225
بلا واسطة المشايخ يحتاج إلى أن يكون كالميت بين يدي الغسال مسلماً نفسه بالكلية إليه مدة ثلاثمائة سنة وتسع سنين حتى يبلغ مبلغ الرجال والمريد الذي يربيه الله بواسطة المشايخ لعله يبلغ مبلغ الرجال البالغين بخلوة أربعين يوماً أو خلوتين أو خلوات معدودة وذلك أن هؤلاء خلفاء الله بواسطة المشايخ وصورة لطفه كما أن الأشجار في الجبال تربى بلا واسطة فلا تثمر كما تثمر الأشجار في البساتين بواسطة الدهاقين وتربيتهم.
زمن اي دوست اين يك ندبذير
برو فتراك صاحب دولتي كير
كه قطره تا صدف را درنيايد
نكردد كوهر و روشن نتابد
{وَكَلْبُهُم} هو كلب راع قد تبعهم على دينهم واسمه قطمير {بَـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} حكاية حال ماضية ولذلك أعمل اسم الفاعل وعند الكسائي وهشام وأبي جعفر من البصريين يجوز إعماله مطلقاً والذراع من المرفق إلى رأس الأصبع الوسطى {بِالْوَصِيدِ} أي : بموضع الباب من الكهف.
قال في "القاموس" الوصيد الفناء والعتبة انتهى.
قال السدي الكهف لا يكون له عتبة ولا باب وإنما أراد أن الكلب منه موضع العتبة من البيت.
ـ روي ـ أنه يدخل الجنة مع المؤمنين على ما قال مقاتل عشرة من الحيوانات تدخل الجنة ناقة صالح وعجل إبراهيم وكبش إسماعيل وبقرة موسى وحوت يونس وحمار عزير ونملة سليمان وهدهد بلقيس وكلب أصحاب الكهف وناقة محمد صلى الله عليه وسلّم فكلهم يصيرون على صورة كبش ويدخلون الجنة ذكره في "مشكاة الأنوار" ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
جزء : 5 رقم الصفحة : 224
سك أصحاب كهف روزى ند
ى نيكان كرفت ومردم شد
يعني : (بامردمان داخل جنت شد درصورت كبش.
ودر تفسير إمام ثعلبي مذكوراست كه هركه درشبانروز بر حضرت نوح عليه السلام درود فرستد از كدم ضرري بوى نرسد وهركه اين كلمات {وَكَلْبُهُم بَـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} نوشته باخود دارد از سك متضرر نكردد).
قال في "حياة الحيوان" أكثر أهل التفسير على أن كلب أهل الكهف كان من جنس الكلاب.
ـ وروي ـ عن ابن جريج أنه قال : كان أسداً ويسمى الأسد كلباً لأن النبي عليه السلام دعا على عتبة ابن أبي لهب أن يسلط الله عليه كلباً من كلابه فأكله الأسد والكلب نوعان أهلي وسلوقي نسبة إلى سلوق وهي مدينة باليمن ينسب إليها الكلاب السلوقية فإنه يكون فيها كلاب طوال يصيدون بها.
ومن بلاغات الزمخشري السوقية والكلاب السلوقية سواء يعني أن السوقية لما فيهم من سوء الخلق ورداءة المعاملة والكلاب السلوقية متساويتان وكلا النوعين في الطبع سواء وفي طبعه الاحتلام وتحيض إناثه.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كلب أمين خير من صاحب خوان.
وكان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم وكان شديد المحبة لهم فخرج في بعض منتزهاته ومعه ندماؤه فتخلف منهم واحد فدخل على زوجته فأكلا وشربا ثم اضطجعا فوثب الكلب عليهما فقتلهما فلما رجع الحارث إلى منزله فوجدهما قتيلين عرف الأمر فأنشد يقول :
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني
ويحفظ عرسي والخليل يخون
فيا عجباً للخل تحليل حرمتي
ويا عجباً للكلب كيف يصون
وفي "عجائب المخلوقات" : أن شخصاً قتل شخصاً بأصفهان وألقاه في بئر وللمقتول كلب يرى ذلك فكان يأتي كل يوم إلى رأس البئر وينحى التراب عنها ويشير وإذا رأى القاتل نبح
226
(5/174)
عليه فلما تكرر منه ذلك حفروا الموضع فوجدوا القتيل ثم أخذوا الرجل فأقر فقتل به قال المولى الجامي في "ذم أبناء الزمان" :
در لباس دوستى سازند كار دشمنى
حسب الإمكان واجبست ازكيدايشان اجتناب
شكل ايشان شكل انسان فعل شان فعل سباع
هم ذئاب في ثياب أو ثياب في ذئاب
وعن الحسن البصري رحمه الله قال في الكلب عشر خصال ينبغي لكل مؤمن أن تكون فيه :
الأولى : أن يكون جائعاً فإنه من دأب الصالحين.
والثانية : أن لا يكون له مكان معروف وذلك من علامات المتوكلين.
والثالثة : أن لا ينام من الليل إلا قليلاً وذلك من علامات المحبين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 224
والرابعة : إذا مات لا يكون له ميراث وذلك من صفات المتزهدين.
والخامسة : أنه لا يترك صاحبه وإن ضربه وجفاه وذلك من علامات المريدين الصادقين.
والسادسة : أنه يرضى من الأرض بأدنى الأماكن وذلك من علامات المتواضعين.
والسابعة : إذا تغلب على مكانه تركه وانصرف إلى غيره وهذه من علامات الراضين.
والثامنة : إذا ضرب وطرد وجفى عليه وطرح له كسرة أجاب ولم يحقد على ما مضى وذلك من علامات الخاشعين.
والتاسعة : إذا حضر الأكل جلس بعيداً ينظر وهذه من خصال المساكين.
والعاشرة : أنه إذا رحل من مكان لا يلتفت إليه وهذه من علامات المحزونين كذا في "روض الرياحين" للإمام اليافعي رحمه الله {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} أي : لو عاينتهم وشاهدتهم وأصل الاطلاع الإشراف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ} أي : هربت {فِرَارًا} نصب على المصدرية من معنى ما قبله إذ التولية والفرار من واحد أي : وليت تولية أو فررت فراراً {وَلَمُلِئْتَ} (وهر آينه ركرده شوى) {مِنْهُمْ رُعْبًا} خوفاً يملأ الصدر ويرعبه وهو إما مفعول ثان أو تمييز وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة والهيئة كانت أعينهم مفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم.
قال الكاشفي : (مراد آنست كه كسى را طاقت ديدن ايشان نيست بجهت آنكه شمهاى ايشان كشاده است ومويها وناخونهاى ايشان دراز شده وايشان درمكان مظلم وموحش اند) وعن معاوية رضي الله عنه أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس رضي الله عنهما : ليس لك ذلك وقد منع الله من هو خير منك فقال : {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث ناساً وقال لهم : اذهبوا فانظروا ففعلوا فلما دخلوا الكهف جاءت ريح فأحرقتهم وقيل : فأخرجتهم.
فإن قيل : من أين يفهم المنع من الآية؟ قلنا : من حيث دلالتها على أنهم لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة لا يستطيع أحد أن ينظر إليهم نظر الاستقصاء وهذا الذي طلبه معاوية ولم يسمع لأنه ظن أن هذا المعنى وهو امتناع الاطلاع عليهم مختص بذلك الزمان الذي قبل بعثهم والإعثار عليهم وبناء المسجد فوقهم.
وأما ابن عباس رضي الله عنه فقد علم أن ذلك عام في جميع الأزمان كذا في "حواشي" سعدي المفتي.
يقول الفقير : لا شك أن عبارة الخطاب في لو اطلعت وما يليه لحضرة الرسالة وإشارته لكل من يصلح له من أمته فمعاوية داخل تحت إشارة هذا الخطاب فيكون التفتيش عنهم إذاً ضائعاً لا طائل تحته وذلك لأن مطالعة ما خرج عن حد أشكاله من الأمور العجيبة الخارقة لا تتيسر لكل نظر
227
ألا ترى أنه عليه السلام مع غلبة الملكية عليه لما رأى جبرائيل على صورته العجيبة وقد سد بأجنحته ما بين المشرق والمغرب خر مغشياً عليه مع أن في النظر إليهم ابتذالاً لهم بالنسبة إلى من ليس من أهله وقد جرت عادة الله تعالى على ستر المعاني في الدنيا والصور في البرزخ الذي هو مقدمة عالم الآخرة فكما لا يشاهد الروح وهو في البرزخ لكون حس الرائي حجاباً مانعاً كذلك الجسد الطاهر الطيب المقدس لكونه متصلاً بمقام الروح ولذا لا تأكله الأرض فافهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 224
ـ حكي ـ أن صوفياً رأى ولياً من أولياء الله تعالى راكباً لاسد وبيده حية بدل السوط فلما شاهده هلك من هيبة المقام.
خام را طاقة روانه ر سوخته نيست†
جزء : 5 رقم الصفحة : 224
{وَكَذَالِكَ} قال الكاشفي : (ون دقيانوس دذر غار برايشان استوار كرده باز كشت وبدار الملك باز آمدند كه زمانى را باداجل بناى حياتش درهم فكند وآن همه ملك ومال وجلال متلاشى كشت) :
دمى ند بشمرد ونايز شد
زمانه بخنديد كونيز شد
(5/175)
(وبعد ازو ند مالك ديكر برآن ممالك نظر كرد تا نوبت ملك صالح تندروس وكويند تندروسى رسيد واو مردى مؤمن وخداى ترس بود واكثر اهل زمان اورا در حشر جسد شبهه افتاد ومنكران شدند هرند ملك ايشانرا ند داد سود نكرد حق سبحانه وتعالى خواست كه دليل برحشر جسد برايشان نمايد اصحاب كهف را ازخواب بيدار كردنانه كفت) {وَكَذَالِكَ} أي : كما أنمناهم تلك الإنامة الطويلة وحفظنا أجسادهم وثيابهم من البلى والتحلل آية دالة على كمال قدرتنا {بَعَثْنَـاهُمْ} أي : أيقظناهم من النوم {لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} أي : ليسأل بعضهم بعضاً فيترتب عليه ما فصل من الحكم البالغة {قَالَ} استئناف لبيان تسألهم {قَآاـاِلٌ مِّنْهُمْ} هو رئيسهم مكشليينا.
وفي "بحر العلوم" : مكسلمينا {كَمْ} (ندوقت) {لَبِثْتُمْ} في منامكم لعله قال لما رأى من مخالفة حالهم لما هو المعتاد في الجملة {قَالُوا} أي : بعضهم {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قيل : إنما قالواه لما أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم آخر النهار فقالوا : لبثنا يوماً فلما رأوا أن الشمس لم تغرب بعد قالوا أو بعض يوم وكان ذلك بناء على الظن الغالب فلم ينسبوا إلى الكذب.
وقال الكاشفي : (ايشان بامداد بغار بر آمده بودند ون درنكر يستند آفتاب بوقت اشت رسيده ديدند قالوا لبثنا كفتند درنك كرديم اينجا يوماً روزى اكردى روز در خواب شده باشيم او بعض يا ره از روزا كردرين روز خفته باشم).
جزء : 5 رقم الصفحة : 228
يقول الفقير : هذا أولى مما قبله لأن قوله فابعثوا أحدكم بورقكم يدل على بقاء ما يسع فيه الذهاب والإياب من النهار بخلاف ما لو كان الوقت قبيل الغروب إذ يبعد البعث المذكور فيه لعدم إمكان العود عادة لمكان المسافة بين الكهف والمدينة {قَالُوا} أي : بعض آخر منهم بما سنح لهم من الأدلة أو بإلهام من الله.
وقال الكاشفي : (س ون ناخنان خودرا باليده ومويهاى سررا دراز يافتند كفتند بعضى ازايشان بعضى ديكريرا) {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} أي : أنتم لا تعلمون مدة لبثكم لأنها متطاولة ومقدارها مبهم وإنما يعلمها الله تعالى وبه يتحقق التحزب
228
إلى الحزبين المعهودين فيما سبق {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم} يمليخا {بِوَرِقِكُمْ هَـاذِه إِلَى الْمَدِينَةِ} قالوه إعراضاً عن التعمق في البحث لأنه ملتبس لا سبيل لهم إلى علمه وإقبالاً على ما يهمهم بحسب الحال كما ينبىء عنه الفاء والورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة ووصفها باسم الإشارة يشعر بأن القائل ناولها بعض أصحابه ليشتري بها قوت يومهم ذلك وحملهم لها دليل على أن التزود أي : أخذ الزاد لا ينافي التوكل على الله بل هو فعل الصالحين ودأب المنقطعين إلى الله دون المتوكلين على الإنفاقات والتوكل يكون بعد مباشرة الأسباب ، وفي "المثنوي" :
كرتوكل ميكنى دركار كن
كشت كن س تكيه بر جبار كنرمز الكاسب حبيب الله شنو
از توكل در سبب كاهل مشو وكونهم متوكلين علم من قولهم {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} والمدينة طرسوس وكان اسمها في الجاهلية افسوس.
قال في "القاموس" : طرسوس كحلزون بلد مخصب كان للأرمن ثم أعيد إلى الإسلام في عصرنا {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَآ} أي : أهلها على حذف المضاف كقوله : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82) {أَزْكَى طَعَامًا} أحل وأطيب وأكثر وأرخص طعاماً {فَلْيَأْتِكُم} (س بيارد بشما) {بِرِزْقٍ} بقوت وهو ما يقوم به بدن الإنسان {مِّنْهُ} أي : من ذلك الأزكى طعاماً.
قال الكاشفي : (در زمان ايشان در آن شهر كسان بودندكه ايمان خود مخفى مى داشتند غرض آن بودكه ذبيحه ايشان يدا كند) {وَلْيَتَلَطَّفْ} وليتكلف اللطف في المعاملة كيلا يغبن أو في الاستخفاء لئلا يعرف قال بعض المتقدمين حسبت القرآن بالحروف فوجدت النصف عند قوله في سورة الكهف : {وَلْيَتَلَطَّفْ} اللام الثاني في النصف الأول والطاء والفاء في النصف الثاني كما في "البستان".
{وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} من أهل المدينة فإنه يستدعي شيوع أخباركم أي : لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور بنا من غير قصد فسمي ذلك إشعاراً منه بهم لأنه سبب فيه فالنهي على الأول تأسيس وعلى الثاني تأكيد للأمر بالتلطف.
جزء : 5 رقم الصفحة : 228
(5/176)
{إِنَّهُمْ} أي : ليبالغ في التلطف وعدم الإشعار لأنهم {إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي : يطلعوا عليكم ويظفروا بكم والضمير للأهل المقدر في أيها {يَرْجُمُوكُمْ} يقتلوكم بالرجم وهو الرمي بالحجارة إن ثبتم على ما أنتم عليه وهو أخبث القتلة وكان من عادتهم {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ} أي : يصيروكم إلى ملة الكفر أو يدخلوكم فيها كرهاً من العود بمعنى الصيرورة كقوله تعالى : {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} (الأعراف : 88) وقيل : كانوا أولاً على دينهم فآمنوا.
يقول الفقير : هذا هو الصواب لقوله تعالى : {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ} وذلك لأنه لو لم يكن إيمانهم حادثاً لقيل أنهم فتية مؤمنون وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار الذي هو أشد شيء عندهم كراهة {وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا} أي : إن دخلتم فيها ولو بالكره والإلجاء لن تفوزوا بخير {أَبَدًا} لا في الدنيا ولا في الآخرة لأنكم وإن كرهتم ربما استدرجكم الشيطان بذلك إلى الإجابة حقيقة والاستمرار عليها.
وفي "التأويلات النجمية" : العجب كل العجب أنهم لما كانوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين في مقام عندية الحق خارجين من عنديتهم ما احتاجوا إلى طعام الدنيا وقد استغنوا
229
عن الغذاء الجسماني بما نالوا من الغذاء الروحاني كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلّم كان يواصل الأيام ويقول : "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" فلما رجعوا من عندية الحق إلى عندية نفوسهم قالوا : {فَابْعَثُوا} الخ ففي طلبهم أزكى طعاماً إشارة إلى أرباب الوصول وأصحاب المشاهدة لما شاهدوا ذلك الجمال والبهاء وذاقوا طعم الوصال وجدوا حلاوة الإنس وملاطفات الحبيب فإذا رجعوا إلى عالم النفوس تطالبهم الأرواح والقلوب بأغذيتهم الروحانية فيتعللون بمشاهدة كل جميل لأن كل جمال من جمال الله وكل بهاء من بهاء الله ويتوصلون بلطافة الأطعمة إلى تلك الملاطفات كما قالوا : {فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} أي : في الطعام {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} وفيه إشارة إلى الاحتراز عن شعور أهل الغفلة بأحوال أرباب المحبة فإن لهم في النهاية أحوالاً كأنها كفر عند أهل البداية كما قال أبو عثمان المغربي قدس سره إرفاق العارفين باللطف وإرفاق المريدين بالعنف {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} يعني : أهل الغفلة {يَرْجُمُوكُمْ} بالملامة فيما يشاهدون منكم يا أهل المعرفة من وسعة الولاية وقوتها واستحقاق التصرف في الكونين وانعدام تصرفهما فيكم فإنهم بمعزل عن بصيرة يشاهدون بها أحوالكم فمن قصر نظرهم يطعنون فيكم :
جزء : 5 رقم الصفحة : 228
عشق درهر دل كه سازد بهر دردت خانه
اول از سنك ملامت افكند بنياداو
{أَوْ} يريدون أن {يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ} وهي عبادة أصنام الهوى وطواغيت شهوات الدنيا وزينتها فإن رجعتم إليها فلن تفلحوا إذاً أبداً.
يقول الفقير : اعلم أنه لا يخلو الأعصار من مثل دقيانوس الجبار صورة ومعنى فمن أراد السلامة في بدنه ودينه وعمله واعتقاده وعرضه فليجدها في الوحدة والاعتزال عن الناس والإيواء إلى كهف البيت والذهول عن أحوال الناس صغيرهم وكبيرهم رفيعهم ووضيعهم كالنائم فإنه مسلوب الحس لا يدري ما الدنيا وما فيها لغموض العينين لا يفرق بين سواد وبياض وإن ادعى أحد أنه بحر لا يتغير فذلك غرور محض لأن عدم التغير لا يحصل إلا للمنتهي ففي الاختلاط ضرر كثير وهو كالرضاع يغير الطباع وغايته موافقة أهل الهوى طوعاً أو كرهاً نعوذ بالله من ذلك ونسأله الحفظ من الوقوع في المهالك ونرجو منه الفلاح الأبدي والخلاص السرمدي.
{وَكَذَالِكَ} .
قال الكاشفي : (يمليخاكه بعقل كامل موصوف بود وصيتها قبول نموده روى بشهر نهاد وبدروازه رسيد أوضاع رن را متغير ديد وون بشهر درآمد بازار ومحلات وأشكال وألوان مردم بر نمطى ديكر يافت حيرى بروى غلبه كرد آخر الأمر بدكان خباز آمد ودرمى از آنه همراه داشت بوى داد تادر عوض نان واى زوى ديد منقش بنام دقيانوس خيال بست كه اين مرد كنجى يافته آن زررا ببازارى ديكر بديكرى نمود بيك لحظه اين خبر دربازار منتشر شده بشحنه رسيد ويمليخارا طلبيدة تهديدى عظيم نمود وطلب باقي زرها كرد يمليخا كفت من كنجى نيافته ام دى روز اين زررا ازخانه در برداشته ام وأمر وزببازار آورده ام نام درش رسيدند وون كفت كسى از اهل شهر ندانست ويراتكذيب نمودند واو ازغايت دهشت كفت مرايش دقيانوس بريدكه او ازمهم من آكاهى دارد مردمان آغاز استهزا كردندكه دقيانوس
230
(5/177)
قريب سيصد ساله شدكه مرده است تو مارى افسوس ميكرى يمليخا كفت شما بامن سخريه ميكنيد ديروز ما جماعتى ازوى كريخته بكوه رفتيم وامروز مرا بشهر بطلب طعام فرستادند من بجزاين يزى ندانم القصه اورانزديك ملك آوردند وصورت حال تقرير كرد ملك باجماعتي از مقربان واشراف بلد روى بغار آوردند ويمليخا بغار در آمد ويارانرا ازصورت حال خبر داد وعلى الفور ملك برسيد وآن لوح كه بردر غار بود برخواندند واسامى واحوال ايشان معلوم كرد وباقوم بغار در آمده ايشانرا ديد بارويهاى تازه وجامهاى نو متحير شده برايشان سلام كرد جواب دادند حق سبحانه وتعالى ازين حال اخبار فرمود)
جزء : 5 رقم الصفحة : 228
{وَكَذَالِكَ} أي : كما أنمناهم وبعثناهم من تلك النومة لما في ذلك من إظهار القدرة الباهرة والحكمة البالغة وازدياد بصيرتهم ويقينهم {أَعْثَرْنَا} أي : أطلعنا الناس {عَلَيْهِم} أي : على أصحاب الكهف وأصله أن الغافل عن شيء ينظر إليه إذا عثر به فيعرفه فكان العثار سبب العلم به فأطلق اسم السبب عن المسبب.
قال في "تهذيب المصادر" الإعثار (بررسانيدن كسى را بر يزى) قال الله تعالى : {وَكَذَالِكَ أَعْثَرْنَا} والاطلاع (بر رسانيدن كسى برنهانى) العرب تقول : اطلع فلان على القوم ظهر لهم حتى رأوا واطلع عنهم غاب عنهم حتى لا يروه {لِيَعْلَمُوا} أي : الذين اطلعناهم على حالهم وهم قوم تندروس الذين أنكروا البعث {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} أي : وعده بالبعث للروح والجسد معاً {حَقٌّ} صدق لا خلف فيه لأن نومهم وانتباههم بعده كحال من يموت ثم يبعث إذ النوم أخو الموت {وَأَنَّ السَّاعَةَ} أي : القيامة التي هي عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعاً للحساب والجزاء {لا رَيْبَ فِيهَآ} لا شك في قيامها ولا شبهة في وقوعها فإن من شاهد أنه تعالى توفى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنة وأكثر حافظاً أبدانهم من التحلل والتفتت ثم أرسلها إليها علم يقيناً أنه تعالى يتوفى نفوس جميع الناس ويمسكها إلى أن يحشر أبدانها فيردها إليها للحساب والجزاء.
يش قدرت كارها دشوار نيست
عجزها باقوت حق كارنيست
يقول الفقير : هذا من لطف الله بالقوم وإرشاده إياهم بصورة النوم حيث أظهر هذه القدرة وبين الحق بوجه يقوم مقام بعث الرسول لمن هو من أهل اليقظة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 228
وفي "التأويلات النجمية" قوله : {وَكَذَالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} إشارة إلى أنا كما اطلعنا بعض منكري البعث والنشور بالأجساد على أحوال أصحاب الكهف ليعلموا ويتحقق لهم أن وعد الله بالبعث وإحياء الموتى حق وأن قيام الساعة لا ريب فيه إنا قادرون على إحياء بعض القلوب الميتة وإن وعد الله به بقوله : {فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَواةً طَيِّبَةً} (النحل : 97) وبقوله : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ} (الأنعام : 122) حق وإن قيام قلوب الصديقين المحبين لا ريب فيه انتهى (در تفسير امام ثعلبي مذكور است كه حضرت رسالت صلى الله عليه وسلّم را آرزوى آن شدكه أصحاب كهف رابه بيند جبريل آمدكه يا رسول الله توايشانرا درين دنيا نخواهى ديد اما ازاخيار أصحاب خود هاركس را بفرست تا ايشانرا بدين تو دعوت كنند آن حضرت فرمودكه كونه فرستم وكه را برفتن بفرمايم جبريل فرمود
231
(5/178)
رداى مبارك خود بكستران وصديق وفاروق ومرتضى وأبو درداء رضي الله عنهم بكوتا هريك بكوشه نشيند وبادراكه مسخر سليمان بود بطلب كه خداى تعالى اورا مطيع توكردانيد بفرماى تا ايشانرا برداشته بدان غار برد حضرت آننان كردوصحابه بدرغار سيدند سنكى بود برداشتند سك ايشان روشنى بانك دركفرت وحمله آورد واما ون شم وى ايشانرا ديددم جنبانيدن آغار نهاد وبسر اشارت كردكه در آييد ايشان در آمده كفتند السلام عليكم ورحمة الله وبركاته حق سبحانه أرواح بأجساد ايشاز بازآورد تابر خاستند وجواب سلام بازدادند صحابه كفتند نبي الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلّم شما سلام رسانيده ايشان كفتندوا السلام على محمد رسول الله س دعوت كردند ايشانرا بدين اسلام وايشان قبول نمودند وحضرت بغمبررا سلام رسانيدند باز در مضاجع خود تكيه كردند وبارديكر نزد خروج مهدي از اهل محمد عليه السلام زنده شوند ومهدي برايشان سلام كند وجواب دهند س بميرند ودرقيامت مبعوث كردند) {إِذْ يَتَنَـازَعُونَ} قال بعض أصحاب التفسير : هو متعلق باذكر المقدر ، يقول الفقير : هو الأظهر والأنسب لترتيب الفاء الآتية عليه فيكون كلاماً منفصلاً عما قبله والمتنازعون هم قوم تندروس {بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أي : تدبير أمر أصحاب الكهف حين توفاهم الله ثانياً بالموت كيف يخفون مكانهم وكيف يستر الطريق إليهم {فَقَالُوا} أي : بعض أهل المدينة {ابْنُوا عَلَيْهِم} أي : على باب كهفهم {بُنْيَـانًا} (ديوارى كه ازشم مردم وشيده شوند) يعني لا يعلم أحد تربتهم وتكون محفوظة من تطرق الناس كما حفظت تربة رسول الله بالحظيرة {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} بحالهم وشأنهم لا حاجة إلى علم الغير بمكانهم {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} من المسلمين وملكهم {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} أي : لنبنينَّ على باب كهفهم مسجداً يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 228
ـ روي ـ أنه لما اختلف قوم تندروس في البعث مقترحين وجاحدين دخل الملك بيته وأغلق بابه ولبس مسحاً جلس على رماد وسأل ربه أن يظهر الحق فألقى الله تعالى في نفس رجل من رعيانهم فهدم ما سد به دقيانوس باب الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه فعند ذلك بعثهم الله فلما انتشر خبرهم واطلع عليهم الملك وأهل المدينة مسلمهم وكافرهم كلموهم وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث ثم قالت الفتية للملك : نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وماتوا فألقى عليهم ثيابه وأمر فجعل لكل واحد تابوتاً من ذهب فرآهم في المنام كارهين للذهب فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجداً.
يقول الفقير : هذه حال أهل الفناء ولذا لم يقبل حضرة الشيخ صدر الدين القنوي قدس سره البناء على مرقده فعملوا من الألواح ثم أخذتها الصاعقة كأنه لم يقبل الغطاء وسببه ما سمعته من حضرة شيخي وسندي روح الله روحه وهو أنه قال إن الشيخ صدر الدين كان من أولاد الملوك كحضرة مولانا صاحب "المثنوي" وكان مولانا تاركاً للدنيا مطلقاً وصدر الدين متجملاً صورة حتى كان له خدام متزينون وله إبريق وطشت من فضة وتغير عليه شخص في ذلك فأشار حضرة الشيخ إلى الإبريق فأتى إلى حضرة الشيخ وقربه فتحير الحاضرون وتاب الشخص وقال يوماً لحضرة مولانا نعيش كالملوك ونضطجع
232
كالصعلوك فقال مولانا نعيش كالصعلوك ونضطجع كالملوك ولذا ترى تربة مولانا على الاحتشام العظيم دون مرقد صدر الدين رزقنا الله شفاعتهما ، قال المولى الجامي :
وصلش مجودر اطلس شاهى كه دوخت عشق
اين جامه برتنى كه نهان زير زنده بود
جزء : 5 رقم الصفحة : 228
(5/179)
{سَيَقُولُونَ} الضمائر في الأفعال الثلاثة للخائضين في قصتهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب والمسلمين لكن لا على وجه إسناد كل قوللٍ فيها إلى كلهم بل إلى بعضهم سألوا رسول الله فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم فنزلت إخباراً بما سيجري بينهم من اختلافهم في عددهم وأن المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم أي : سيقول اليهود هم أي : أصحاب الكهف {ثَلَـاثَةٌ} أي : ثلاثة أشخاص {رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} أي : جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم كلبهم {وَيَقُولُونَ} أي : النصارى وإنما لم يجىء بالسين اكتفاء بعطفه على ما هو فيه {خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمَا بِالْغَيْبِ} رمياً بالخبر الخفي عليهم وإتياناً به كقوله : {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} (سبأ : 53) أي : يأتون به أو ظناً بالغيب من قولهم رجماً بالظن إذا ظن وانتصابه على الحالية من الضمير في الفعلين معاً أي : راجمين أو على المصدر منهما فإن الرجم والقول واحد أي : يرجمون رجماً بالغيب {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} القائلون المسلمون بطرق التلقن من هذا الوحي وما فيه مما يرشدهم إلى ذلك من عدم نظم في سلك الرجم بالغيب وتغيير سبكه بزيادة الواو المفيدة لزيادة وكادة النسبة فيما بين طرفيها وذلك لأن الوحي مقدم على المقالة المذكورة على ما يدل عليه السنن {قُلِ} تحقيقاً للحق ورداً على الأولين {رَّبِّى أَعْلَمُ} قال سعدي المفتي أي : أقوى علماً وأزيد في الكيفية فإن مراتب اليقين متفاوتة في القوة ولا يجوز أن يكون التفضيل بالإضافة إلى الطائفتين الأوليين إذ لا شركة لهما في العلم
جزء : 5 رقم الصفحة : 233
{بِعِدَّتِهِم} بعددهم {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ} ما يعلمهم عدتهم إلا قليل من الناس قد وفقهم الله للاستشهاد بتلك الشواهد.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حين وقعت الواو وانقطعت العدة أي : لم يبق بعدها عدة عاد يعتد بها وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم قطعاً وجزماً وعليه مدار قوله أنا من ذلك القليل.
وعن علي رضي الله عنهم سبعة نفر أسماؤهم يمليخا ومكشليينا ومشليينا هؤلاء أصحاب يمين الملك وكان عن يساره مرنوش ودبرنوش وشازنوش وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره والسابع الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس واسمه كفشططيوش أو كفيشيططيوش.
قال الكاشفي : الأصح أنه مرطوش.
قال النيسابوري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب والهرب وإطفاء الحريق تكتب في خرقة ويرمى بها في وسط النار ولبكاء الطفل تكتب وتوضع تحت رأسه في المهد وللحرث تكتب على القرطاس وترفع على خشب منصوب في وسط الزرع وللضربان والحمى المثلثة والداع والغنى والجاه والدخول على السلاطين تشد على الفخذ اليمنى ولعسر الولادة تشد على فخذها اليسرى ولحفظ المال والركوب في البحر والنجاة من القتل {فَلا تُمَارِ} المماراة (ستيزه كردن) الفاء لتفريع النهي على ما قبله أي : إذ قد عرفت جهل أصحاب القولين الأولين فلا تجادلهم {فِيهِمْ} أي : في شأن أصحاب الكهف {إِلا مِرَآءً ظَـاهِرًا} إلا جدالاً ظاهراً غير متعمق فيه وهو أن تقص
233
عليهم ما في القرآن من غير تصريح بجهلهم وتفضيح لهم فإنه مما يخل بمكارم الأخلاق {وَلا تَسْتَفْتِ} (وفتوى مجوى يعني مرس) {فِيهِمْ} أي : في شأنهم {مِّنْهُمْ} أي : من الخائضين {أَحَدًا} فإن فيما قص عليك لمندوحة عن ذلك مع أنه لا علم لهم بذلك.
قال الكاشفي : (أهل تأويل را درباب أصحاب كهف سخن سياراست بعض كويند اين قصه نمود از أحوال بدلاء سبعة است كه هفت اقليم عالم بوجود ايشان قائمست وكهف خلو تخانه ايشان بود وكلب نفس حيوانية).
وعن الخضر عليه السلام أنه قال : ثلاثمائة هم الأولياء وسبعون هم النجباء وأربعون هم أوتاد الأرض وعشرة هم النقباء وسبعة هم العرفاء وثلاثة هم المختارون وواحد هو الغوث لم يبلغوا ما بلغوا بكثرة الصوم والصلاة والتخشع وحسن الحلية ولكن بلغوا بصدق الورع وحسن النية وسلامة الصدر والرحمة لجميع المسلمين اصطفاهم الله بعلمه واستخلصهم لنفسه وهم لا يسبون شيئاً ولا يلعنونه ولا يؤذون من تحتهم ولا يحقرونه ولا يحسدون من فوقهم أطيب الناس خبراً وألينهم عريكة وأسخاهم نفساً كذا في "روض الرياحين" للإمام اليافعي رحمه الله (ونزد جمعى اشارتست بروح وقلب وعقل فطرى ومعيش وقوت قدسيه وسر وخفى كه تعلق بكهف بدن دارد ودقيانوس نفس أماره است).
جزء : 5 رقم الصفحة : 233
كند مردرا نفس اماره خوار
اكر هو شمندى عزيزش مدار
مبرطاعت نفس شهوت رست
كه هرساعتش قبله ديكرست
(5/180)
{وَلا تَقُولَنَّ} نهي تأديب أي : لأجل شيء تعزم عليه {إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ} الشيء {غَدًا} أي : فيما يستقبل من الزمان مطلقاً فيدخل فيه الغد دخولاً أولياً فإنه نزل حين قالت اليهود لقريش سلوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فسألوه صلى الله عليه وسلّم فقال : "ائتوني غداً أخبركم" ولم يستثن أي : لم يقل إن شاء وتسميته استثناء لأنه يشبه الاستثناء في التخصيص فابطأ عليه الوحي أيام حتى شق عليه.
يعني : (غبار ملال بر مرآت دل بي غل آن حضرت نشست) وكذبته قريش وقالوا ودعه ربه وأبغضه.
{إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} استثناء مفرغ من النهي أي : لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا حال ملابسته بمشيئته تعالى على الوجه المعتاد وهو أن يقال إن شاء الله وفيه إشارة إلى أن الاختيار والمشيئةوأفعال العباد كلها مبنية على مشيئته كما قال : {وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} {وَاذْكُر رَّبَّكَ} أي : قل إن شاء الله {إِذَا نَسِيتَ} ثم تذكرته كما روى أنه عليه السلام لما نزل قال : "إن شاء الله" {وَقُلْ عَسَى} (شايدكه) {أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى} أي : يوفقني {لاقْرَبَ مِنْ هَـاذَا} أي : لشيء أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي {رَشَدًا} أي : إرشاداً للناس ودلالة على ذلك وقد فعل حيث أراه من البينات ما هو أعظم من ذلك وأبين كقصص الأنبياء المتباعدة أيامهم والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة.
قال سعدي المفتي : لما جعل اليهود الحكاية عن أصحاب الكهف دالة على نبوته هون الله أمرها وقال : {قُلْ عَسَى} الآية كما هون المحكي في مفتتح الكلام بقوله : {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَـابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} الآية انتهى.
وقال السمرقندي في "بحر العلوم" : والظاهر
234
أن يكون المعنى إذا نسيت شيئاً فاذكر ربك وذكر ربك عند نسيانه أن تقول عسى ربي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه رشداً وأدنى خيراً ومنفعة انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 233
قال الإمام في تفسيره : والسبب في أنه لا بد من ذكر هذا القول هو أن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل أن يجيىء الغد ولم يبعد أيضاً لو بقي حياً أن يعوقه من ذلك الفعل عائق فإذا لم يقل إن شاءصار كاذباً في ذلك الوعد والكذب منفر وذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام فلهذا السبب وجب عليه أن يقول : إن شاء الله حتى أنه بتقدير أن يتعذر عليه الوفاء بذلك الموعود لم يصر كاذباً فلم يحصل التنفير انتهى.
قال أبو الليث ـ رحمه الله ـ روي أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : قال سليمان بن داود عليهما السلام : "لأطوفن الليلة على مائة امرأة كل امرأة تأتي بغلام يقاتل في سبيل الله ونسي أن يقول إن شاء الله فلم تأتتِ واحدة منهن بشيء إلا امرأة بشق غلام" فقال النبي عليه السلام : "والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لولد له ذلك" وذلك أن من لم يعلق فعله بمشيئته تعالى فإن من سنته أن يجرى الأمر على خلاف مشيئته ليعلم أن لا مشيئة في الحقيقة إلاتعالى وفي الحديث : "إن من تمام إيمان العبد أن يستثني في كل حديثه" أي : سواء كان ذلك باللسان والقلب معاً أو بالقلب فقط فإن مجرد الاستثناء باللسان غير مفيد ، وفي "المثنوي" :
ترك استثناء مرادم قسوتيست
نى همين كفتن كه عارض حالتيست
اي بسا نا ورده استثنا بكفت
جان او باجان استثناست جفت
ومن لطائف "روضة الخطيب" أنه سئل رجل إلى أين؟ فقال : إلى الكناسة لأشتري حماراً فقيل : قل إن شاء الله فقال : لست أحتاج إلى الاستثناء فالدراهم في كمي والحمير في الكناسة فلم يبلغ الكناسة حتى سرقت دراهمه من كمه فرجع فقال رجل : من أين؟ قال : من الكناسة إن شاء الله سرقت دراهمي إن شاء الله.
(5/181)
واعلم أن ابن عباس رضي الله عنهما جوز الاستثناء المنفصل بالآية المذكورة وعامة الفقهاء على خلافه إذ لو صح ذلك لما تقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب في الإخبار عن الأمور المستقبلة.
قال القرطبي في تأويل الآية : هذا في تدارك التبرّي والتخلص منا لإثم وإما الاستثناء المغير للحكم فلا يكون إلا متصلاً انتهى.
قال في مناقب الإمام الأعظم روي أن محمد بن إسحاق صاحب المغازي كان يحسد أبا حنيفة لما روي من تفضيل المنصور أبي جعفر أبا حنيفة على سائر العلماء فقال محمد بن إسحاق عند أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور لأبي حنيفة ما تقول في رجل حلف وسكت ثم قال : إن شاء الله بعد ما فرغ من يمينه وسكت فقال أبو حنيفة : لا يعمل الاستثناء لأنه مقطوع وإنما ينفعه إذا كان متصلاً فقال محمد بن إسحاق : كيف لا ينفعه وقد قال جد أمير المؤمنين وهو عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه يعمل الاستثناء وإن كان بعد سنة لقوله تعالى : {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} فقال أمير المؤمنين : أهكذا قول جدي فقال : نعم فقال المنصور على وجه الغضب لأبي حنيفة : أتخالف جدي يا أبا حنيفة؟ فقال أبو حنيفة لقول ابن عباس تأويل يخرج على الصحة ثم قال لأمير المؤمنين : إن هذا وأصحابه لا يرونك أهلاً للخلافة لأنهم يبايعونك ثم يخرجون فيقولون
235
إن شاء الله ويخرجون من بيعتك ولا يكون في عنقهم حنث فقال أمير المؤمنين لأعوانه : خذوا هذا يعني محمد بن إسحاق فأخذوه وجعلوا رداءه في عنقه وحبسوه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 233
ملزم آمد محمد إسحاق
مبتلاً شد بنقيض إطلاق
وفيه تعظيم إمام الملة قائل الحق بغير العلة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 233
{وَلَبِثُوا} أي : الفتية وهو بيان لاجمال قوله : {فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} {فِى كَهْفِهِمْ} إحياء نياماً {ثَلَـاثَ مِا ئَةٍ سِنِينَ} عطف بيان لثلاثمائة لا تمييز وإلا لكان أقل مدة لبثهم عند الخليل ستمائة سنة لأن أقل الجمع عنده اثنان وعند غيره تسعمائة لأن أقله ثلاثة عندهم هذا على قراءة مائة بالتنوين وأما على قراءة الإضافة فأقيم الجمع مقام المفرد لأن حق المائة أن يضاف إلى المفرد وجه ذلك أن المفرد في ثلاثمائة درهم في المعنى جمع فحسن إضافته إلى لفظ الجمع كما في الأخسرين أعمالاً فإنه ميز بالجمع وحقه المفرد نظراً إلى مميزه {وَازْدَادُوا تِسْعًا} أي : تسع سنين وهو إشارة إلى أن ذلك الحساب على اعتقاد أهل الكتاب شمسي وأما عند العرب فهو قمري والقمري يزيد على الشمسي تسعاً لأن التفاوت بينهما في كل مائة سنة ثلاث سنين ولذلك قال وازدادوا تسعاً هو مفعول ازدادوا والسنة الشمسية مدة وصول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من ذلك البرج وذلك ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم والسنة القمرية اثنا عشر شهراً قمرياً ومدتها ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً وثلث يوم.
قال الكاشفي : (وبتحقيق سيصدسال شمسي سيصدونه سال قمري ودوماه نوازده روز باشد).
{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوْا} ، قال البغوي : إن الأمر في مدة لبثهم كما ذكرنا فإن نازعوك فيها فأجبهم و{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوْا} أي : بالزمان الذي لبثوا فيه لأن علم الخفيات مختص به ولذلك قال : {لَهُ} خاصة {غَيْبَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي : ما غاب عن أهل الأرض {أَبْصِرْ بِهِ} (ه بيناست خداى تعالى بهر موجودى) {وَأَسْمِعْ} (وه شنواست بهر مسموعي).
قال الشيخ في تفسيره الضمير في بهمحله رفع لكونه فاعلاً لفعل التعجب والباء زائدة والهمزة في الفعلين للصيرورة أصله بصر الله وسمع ثم غير إلى لفظ الأمر وليس بأمر إذ لا معنى للأمر هنا ومعناه ما أبصر الله بكل موجود وما أسمعه لكل مسموع وصيغة التعجب ليست على حقيقتها لاستحالته على الله بل للدلالة على أن شأن علمه بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين لا يحجبه شيء ولا يحول دونه حائل ولا يتفاوت بالنسبة إليه اللطيف والكثيف والصغير والكبير والخفي والجلي ولعل تقديم أمر إبصاره تعالى لما أن الذي نحن بصدده من قبيل المبصرات.
جزء : 5 رقم الصفحة : 236
قال في "التأويلات النجمية" : {أَبْصِرْ بِه وَأَسْمِعْ} أي : هو البصير بكل موجود وهو السميع بكل مسموع فبه أبصر وبه أسمع انتهى.
قال القيصري رحمه الله سمعه تعالى عبارة عن تجليه بعلمه المتعلق بحقيقة الكلام الذاتي في مقام جمع الجمع والأعياني في مقام الجمع والتفصيل ظاهراً وباطناً لا بطريق الشهود وبصره عبارة عن تجليه وتعلق علمه بالحقائق على طريق الشهود وكلامه عبارة عن التجلي الحاصل من تعلق الإرادة والقدرة لإظهار ما في الغيب وإيجاده قال تعالى : {إِنَّمَآ أَمْرُه إِذَآ أَرَادَ شَيْـاًا} (يس : 82) الآية {مَّا لَهُم} أي : لأهل السموات والأرض {مِن دُونِهِ}
236
(5/182)
تعالى {مِن وَلِىٍّ} يتولى أمرهم وينصرهم استقلالاً ومن الأولى متعلقة بولي على الحال والثانية للاستغراق كأنه قيل ما لهم من دونه ولي ما {وَلا يُشْرِكُ فِى حُكْمِه أَحَدًا} أي : لا يجعل الله تعالى أحداً من الموجودات العلوية والسفلية شريكاً لذاته العالية في قضائه الأزلي إلى الأبد لعزته وغناه.
قال الإمام المعنى أنه تعالى لما حكى أن لبثهم هو هذا المقدار فليس لأحد أن يقول بخلافه انتهى.
قال بعض الكبار هذه الأمور المدبرة المنزلة بين السموات والأرض الجارية الجادثة في الواقع الظاهرة على أيدي مظاهرها وأسبابها في الخارج في الليل والنهار هي الأمور المحكمة المحفوظة من تبديل غير الحق تعالى وتغييره لأنها المقادير التي قدرها ودبرها واحكم صنعها ولا قدرة لأحد غيره على محو ما أثبته وإثبات ما محاه {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} (الرعد : 39) وليس لغيره كائناً من كان غير التسليم والرضى إذ ليس بشريك له تعالى في حكمه وفي الحديث القدسي "قدرت المقادير ودبرت التدبير وأحكمت الصنع فمن رضي فله الرضى مني حتى يلقاني ومن سخط فله السخط مني حتى يلقاني" ، قال الحافظ :
رضا بداده بده وزجبين كره بكشاي
كه برمن وتو در اختيار نكشادست
وقال :
در دائره قسمت ما نطقه تسليميم
لطف آنه توانديشى حكم انه توفرمايى
يعني : ليس للعبد اعتراض على المولى في حكمه وأمره وإنما له التسليم والرضى وترك التدبير كما قال بعض الكبار عن لسان الحق تعالى يا مهموماً بنفسه كنت من كنت لو ألقيتها إلينا وأسقطت تدبيرها وتركت تدبيرك لها واكتفيت بتدبيرنا لها من غير منازعة في تدبيرنا لها لاسترحت جعلنا الله وإياكم هكذا بفضله وهذا مقال عال لم يصل إليه إلا أفراد الرجال الذين رفعوا منازعة النفس من البين ومشوا بالتسليم والرضى في كل أين يا رجل أين هم في هذا الزمان وكيف تبين حالهم للإنسان فاجتهد لعلك تظفر بواحد منهم حتى تكون ممن رضي الله عنهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 236
{وَاتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} أي : القرآن للتقرب إلى الله تعالى بتلاوته والعمل بموجبه والاطلاع على أسراره ولا تسمع لقولهم ائت بقرآن غير هذا أو بدله والفرق بين التلاوة والقراءة أن التلاوة قراءة القرآن متابعة كالدراسة والأوراد الموظفة والقراءة أعم لأنها جمع الحروف باللفظ لا اتباعها {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـاتِهِ} لا قادر على تبديله وتغييره غيره تعالى كقوله : {وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ} (النحل : 101) فهو عام مخصوص فافهم {وَلَن تَجِدَ} أبد الدهر وإن بالغت في الطلب {مِن دُونِهِ} تعالى {مُلْتَحَدًا} ملتجأ تعدل إليه عند نزول بلية.
وقال الشيخ في تفسيره ولن تجد من دون عذابه ملتجأ تلجأ إليه إن هممت بذلك التبديل فرضاً انتهى.
واعلم أن القرآن لا يتبدل أبداً ولا يتغير بالزيادة والنقصان سرمداً وكذا أحكامه لأنه محفوظ في الصدور بنظمه ومعانيه وإنما يتبدل أهله بتبدل الأعصار فيعود العلم والعمل إلى الجهل والترك نعوذ بالله تعالى.
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : مررت بحجر مكتوب عليه قلبني أنفعك فقلبته فإذا مكتوب عليه أنت بما تعلم لا تعمل فكيف تطلب ما لم تعلم.
كر همه علم عالمت باشد
بى عمل ومدعى وكذابى
237
ومن فرق المتصوفة المبتدعة قوم يسمون بالإلهامية يتركون طلب العلم والدرس ويقولون القرآن حجاب والأشعار قرآن الطريقة فيتركون القرآن ويتعلمون الأشعار فهلكوا بذلك قال الكمال الخجندي :
دل از شنيدن قرآن بكيردت همه وقت
و باطلان ز كلام حقت ملولى يست
قال إبراهيم الخواص : جلاء القلب ودواؤه خمسة : قراءة القرآن بالتدبر ، وإخلاء البطن ، وقيام الليل ، والتضرع إلى الله عند السحر ، ومجالسة الصالحين فمن اشتغل بشهوته وهواه عن هذه الأمور الشاقة بقي على مرضه الروحاني ولم يجد لنفسه ملتحداً سوى العذاب والهلاك فانظر يا مسيىء الأدب أن لا مرجع إلا إلى الله تعالى فكيف ترجع إليه بالأشعار التي اخترعتها أنت وأمثالك من أهل النفس والهوى بدل القرآن الذي أرسله الله إليك وأمر بالعمل به فما جوابك يوم يجثو المقربون على ركبهم من الهول كما قال الشيخ سعدي :
دران روز كز فعل رسند وقول
جزء : 5 رقم الصفحة : 236
اولو العزم را تن بلرزد زهول
بجايى كه دهشت خورد انبيا
توعذر كنه را ه دارى بيا
(5/183)
فالواجب أن تجثو في هذا اليوم بين يدي عالم لتعلم القرآن وكيفية العمل به ومعرفة طريق الوصول إلى حقائقه فإنه نسخة إلهية فيها علوم جميع الأنبياء والأولياء فمن أراد دخول الدار من شيخ وشاب فليأت من طرف الباب.
وعن علي رضي الله عنه : من قرآ القرآن وهو قائم في الصلاة كان له بكل حرف مائة حسنة ومن قرأ وهو جالس في الصلاة فله بكل حرف خمسون حسنة ومن قرأ وهو في غير الصلاة وهو على وضوء فخمس وعشرون حسنة ومن قرأ على غير وضوء فعشر حسنات.
قالوا : أفضل التلاوة على الوضوء والجلوس شطر القبلة وأن يكون غير متربع ولا متكىء ولا جالس جلسة متكبر ولكن نحو ما يجلس بين يدي من يهابه ويحتشم منه.
وفي "الأشباه" : استماع القرآن أثوب من تلاوته انتهى.
فما يفعل البعض في هذا الزمان من إخفاء آية الكرسي في بعض الجوامع والمجامع ليس على ما ينبغي وذلك لأن في القوم من هو أمي لا يحسن قراءة الآية المذكورة فاللائق أن يجهر بها المؤذن لينال المستمعون ثواب التلاوة بل أزيد وهو ظاهر على أرباب الإنصاف ولا يخرج عن هذا الحد إلا أصحاب الاعتساف.
جزء : 5 رقم الصفحة : 236
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} احبسها وثبتها مصاحبة {مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ} في أول النهار وآخره والمراد الدوام أي : مداومين على الدعاء في جميع الأوقات أو بالغداة لطلب التوفيق والتيسير والعشي لطلب عفو التقصير.
نزلت حين طلب رؤساء الكفار طرد فقراء المسلمين من مجالسه عليه السلام كصهيب وعمار وخباب وغيرهم وقالوا : اطرد هؤلاء الذين ريحهم ريح الصنان يعني : (اين شمينه وشان بي قدررا كه بوى خرقهاى ايشان مارا متأذى دارد از مجلس خود دورساز) حتى نجالسك فإن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء لأنهم قوم أرذلون كما قال قوم نوح {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ} (الشعراء : 111) فلم يأذن الله في طرد الفقراء لأجل أن يؤمن جمع من الكفار.
فإن قيل يرجع الأهم على المهم وطرد الفقراء يسقط حرمتهم وهو ضرر قليل وعدم طردهم يوجب بقاء الكفار على كفرهم وهو ضرر عظيم.
قلنا من ترك
238
الإيمان حذراً من مجالسة الفقراء لم يكن إيمانه إيماناً بل يكون نفاقاً قبيحاً يجب أن لا يلتفت إليه كذا في "تفسير الإمام".
يقول الفقير شان النبوة عظيم فلو طردهم لأجل أمر غير مقطوع كان ذنباً عظيماً بالنسبة إلى منصبه الجليل مع أن الطرد المذكور من ديدن الملوك والأكابر من أهل الظواهر وعظماء الدين يتحاشون عن مثل ذلك الوضع نظراً إلى البواطن والسرائر {يُرِيدُونَ} بدعائهم ذلك {وَجْهَهُ}
جزء : 5 رقم الصفحة : 238
(5/184)
تعالى حال من الضمير المستكن في يدعون أي : مريدين لرضاه لا شيء آخر من أعراض الدنيا فالوجه مجاز عن الرضى والمناسبة بينهما أن الرضى معلوم في الوجه وكذا السخط كما في "الحواشي الحسينية" على "التلويح".
{وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} أي : لا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم.
قال الكاشفي : (بايدكه نكذرد شمهاى توازايشان) من عدا الأمر وعنه جاوزه كما في "القاموس" فعيناك فاعل لا تعد وهذا نهى للعينين والمراد صاحبهما يعني نهيه عليه السلام عن الإزدراء بفقراء المسلمين لرثاثة زيهم طموحاً إلى زي الأغنياء.
وقال ذو النون رحمه الله خاطب الله نبيه عليه السلام وعاتبه وقال له : اصبر على من صبر علينا بنفسه وقلبه وروحه وهم الذين لا يفارقون محل الاختصاص من الحضرة بكرة وعشيا فمن لم يفارق حضرتنا فحق أن تصبر عليه فلا تفارقه وحق لمن لا تعدو عينهم عني طرفة عين أن لا ترفع نظرك عنهم وهذا جزاؤهم في العاجل {تُرِيدُ} يا محمد {زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} أي : تطلب مجالسة الأغنياء والأشراف وأهل الدنيا وهي حال من الكاف وفي إضافة الزينة إلى الحياة الدنيا تحقير لشأنها وتنفير عنها.
قال الكاشفي : (ببايد دانست كه آن حضرت را هر كزبدنيا وزينت آن ميل تبوده بلكه معنىء آيت اينست كه مكن عمل كسى مائل بزينت دنيا ه مائل بدنيا از فقر معرض وبراغنيا مقبل باشد).
وفي "زبدة التفاسير" : تريد حال صرف للاستقبال لا أنه حكم على النبي عليه السلام بإرادته زينة الدنيا وهو قد حذر عن الدنيا وزينتها ونهى عن صحبة الأغنياء كما قال : "لا تجالسوا الموتى" يعني الأغنياء {وَلا تُطِعْ} في تنحية الفقراء عن مجلسك {مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَه عَن ذِكْرِنَا} الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور أي : جعلت قلبه في فطرته الأولى غافلاً عن الذكر ومحتوماً عن التوحيد كرؤساء قريش {وَاتَّبَعَ هَوَاـاهُ} الهوى بالفارسية (آرزوى نفس) مصدر هويه إذا أحبه واشتهاه ثم سمي به المهوى المشتهى محموداً كان أو مذموماً ثم غلب على غير المحمود وقيل : فلان اتبع هواه إذا أريد ذمه ومنه فلان من أهل الهوى إذا زاغ عن السنة متعمداً وحاصله ميلان النفس إلى ما تشتهيه وتستلذه من غير داعية الشرع قالوا يجوز نسبة فعل العبد إلى نفسه من جهة كونه مقروناً بقدرته ومنه واتبع هواه وإلى الله من حيث كونه موجداً له ومنه أغفلنا {وَكَانَ أَمْرُه فُرُطًا} قال في "القاموس" : الفرط بضمتين الظلم والاعتداء والأمر المجاوز فيه عن الحد انتهى أي : متقدماً للحق والصواب نابذاً له وراء ظهره من قولهم فرس فرط أي : متقدم للخيل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 238
وفي "التأويلات" : {وَكَانَ أَمْرُهُ} في متابعة الهوى هلاكاً وخسراناً وفي الآية تنبيه على أن الباعث لهم إلى هذا الاستعداد إغفال قلوبهم عن ذكر الله وإشغالها بالباطل الفاني عن الحق الباقي وعلى أن العبرة والشرف بحلية النفس وصفاء القلب وطهارة
239
السرائر لا بزينة الجسد وحسن الصورة والظواهر ، قال الحافظ :
قلندران حقيقت به نيم جو نخرند
قباى اطلس آنكس كه ازهنر عاريست
وقال الجامي قدس سره :
ه غم منقصت صورت أهل معنى را
و جان زروم بود كوتن از حبش مى باش
وفي الحديث : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم بل إلى قلوبكم وأعمالكم" يعني : إذا كانت لكم قلوب وأعمال صالحة تكونون مقبولين مطلقاً سواء كانت لكم صور حسنة وأموال فاخرة أم لا وإلا فلا مطلقاً وكذا الحكم في الظاهر والباطن فافهم.
ـ روى ـ أن الله تعالى لما اتخذ إبراهيم خليلاً قالت الملائكة : يا رب أنه كيف يصلح للخلة وله شواغل من النفس والولد والمال والمرأة فقال تعالى : أنا لا أنظر إلى صورة عبدي وماله بل إلى قلبه وأعماله وليس لخليلي محبة لغيري فإن شئتم جربوه فجاءه جبريل وكان لإبراهيم عليه السلام اثنا عشر كلباً للصيد ولحفظ الغنم وطوق كل كلب من الذهب إيذاناً بخساسة الدنيا وحقارتها فسلم عليه جبريل فقال : لمن هذه؟ فقال : ولكن في يدي فقال تبيع واحداً منها؟ قال : اذكر الله وخذ ثلثها فقال سبوح قدوس رب الملائكة والروح فأعطى الثلث ثم قال اذكره ثانياً وخذ ثلاثها واذكر ثالثاً وخذ كلها برعاتها وكلابها ثم اذكره رابعاً وأنا أُقِرُّ لك بالرق فقال الله تعالى : كيف رأيت خليلي يا جبريل؟ قال : نعم العبد خليلك يا رب فقال إبراهيم لرعاة الغنم سوقوا الأغنام خلف صاحبي هذا فقال جبريل : لا حاجة لي إلى ذلك وأظهر نفسه فقال : أنا خليل الله لا أسترد هبتي فأوحى الله إلى إبراهيم أن يبيعها ويشتري بثمنها الضياع والعقار ويجعلها وقفاً فأوقاف الخليل وما يؤكل على مرقده الشريف من ثمنها.
واعلم أن قدر الأذكار لا يعرفه إلا الكبار ألا يرى أن الخليل كيف فدى نفسه بعد إعطاء الكل بشرف ذكر الله وتعظيمه فليسارع العشاق إلى ذكر القادر الخلاق فإن صيقل القلوب ذكر علام الغيوب ، قال الشيخ المغربي قدس سره :
اكره آينه دارى از براى رخش
(5/185)
ه سودا كره كه داري هميشه آينه نار
بيا بصيقل توحيد زآينه يزدا
جزء : 5 رقم الصفحة : 238
غبار شرك كه نا ك كردد از زنكار
قال أهل التحقيق إن كلمة التوحيد لا إله إلا الله إذا قالها الكافر تنفي عنه ظلمة الكفر وتثبت في قلبه نور التوحيد وإذا قالها المؤمن تنفي عنه ظلمة النفس وتثبت في قلبه نور الوحدانية وإن قالها في كل يوم ألف مرة فكل مرة تنفي عنه شيء لم تنفعه في المرة الأولى فإن مقام العلم بالله لا ينتهى إلى الأبد وفي الحديث : "جلوسك ساعة عند حلقة يذكرون الله خير من عبادة ألف سنة" كما في مجالس حضرة الهدايي قدس سره والذكر يوصل إلى حضور المذكور وشهوده في مقام النور قال جلال الدين الرومي قدس سره :
آدمي ديدست وباقي وستست
ديدآن ديديكه ديدى دوستست
اللهم اجعلنا من أهل النظر إلى نور جمالك ومن المشرفين بشرف وصالك.
{وَقُلِ} لأولئك الغافلين المتبعين هواهم {الْحَقُّ} ما يكون {مِن رَّبِّكُمْ} من جهة الله لا ما يقتضيه الهوى فإنه باطل أو هذا الذي أوحي إلي هو الحق كائناً من ربكم فقد جاء الحق وانزاحت
240
العلل فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم مما فيه النجاة والهلاك.
وفي "التأويلات النجمية" : {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ} في التبشير والإنذار وبيان السلوك لمسالك أرباب السعادة والاحتراز عن مهالك أصحاب الشقاوة {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن} من نفوس أهل السعادة {وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} من قلوب أهل الشقاوة.
قال في "الإرشاد" : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن} كسائر المؤمنين ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح لللتعليل {وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} لا أبالي بإيمان من آمن وكفر من كفر فلا أطرد المؤمنين المخلصين لهواكم لرجاء إيمانكم بعدما تبين الحق ووضح الأمر وهو تهديد ووعيد لا تخيير أراد أن الله تعالى لا ينفعه إيمانكم ولا يضره كفركم فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا فإن كفرتم فاعلموا أن الله يعذبكم وإن آمنتم فاعلموا أنه يثيبكم كما في "الأسئلة المقحمة"قال تعالى : {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ} أي : عن إيمانكم {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وإن تعلق به إرادته من بعضهم ولكن لا يرضى رحمة عليهم لاستضرارهم به {وَإِن تَشْكُرُوا} الله فتؤمنوا {يَرْضَهُ لَكُمْ} أي : الشكر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 238
قال في "بحر العلوم" : فمن شاء الإيمان فليصرف قدرته وإرادته إلى كسب الإيمان وهو أن يصدق بقلبه بجميع ما جاء من عند الله ومن شاء عدمه فليختره فإني لا أبالي بكليهما.
وفيه دلالة بينة على أن للعبد في إيمانه وكفره مشيئة واختياراً فهما فعلان يتحققان بخلق الله وفعل العبد معاً وكذا سائر أفعاله الاختيارية كالصلاة والصوم مثلاً فإن كل واحد منهما لا يحصل إلا بمجموع إيجاد الله وكسب العبد وهو الحق الواسط بين الجبر والقدرة ولولا ذلك لما ترتب استحقاق العباد على ذلك بقوله : {إِنَّآ أَعْتَدْنَا} هيأنا {لِلظَّـالِمِينَ} أي : لكل ظالم على نفسه بإرادة الكفر واختياره على الإيمان {نَارًا} عظيمة عجيبة {أَحَاطَ بِهِمْ} يحيط بهم وإيثار صيغة الماضي للدلالة على التحقق {سُرَادِقُهَا} أي : فسطاطها وهو الخيمة شبه به ما يحيط بهم من النار.
وفي "بحر العلوم" السرادق ما يدار حول الخيمة من شقق بلا سقف.
وعن أبي سعيد قال عليه السلام : "سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة" {وَإِن يَسْتَغِيثُوا} (واكرفرياد خواهى كنند ازتشنكى) {يُغَاثُوا} (فرياد رس شوند) {بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ} كالحديد المذاب وقيل غير ذلك والتفصيل في "القاموس" وعلى أسلوب قوله يعني في التهكم فاعتبوا بالصيلم أي : يجعل المهل لهم مكان الماء الذي طلبوه كما أن الشاعر جعل الصيلم لهم أي : الداهية مكان العتاب الذي يجري بين الأحبة {يَشْوِى} (بريان كند وبسوزد) {الْوُجُوهَ} إذا قدم ليشرب من فرط حرارته وعن النبي عليه السلام "هو كعكر الزيت" أي : درديه في الغلظة والسواد فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه {بِئْسَ الشَّرَابُ} ذلك الماء الموصوف لأن المقصود تسكين الحرارة وهذا يبلغ في الإحراق مبلغاً عظيماً {وَسَآءَتْ} النار {مُرْتَفَقًا} تمييز أي : متكأ ومنزلاً وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد وأنى ذلك في النار وإنما هو لمقابلة قوله : {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} .
وقال سعدي المفتي الاتكاء على المرفق كما يكون للاستراحة يكون للتحير والتحزن وانتفاء الأول هنا مسلم دون الثاني فلا تثبت المشاكلة انتهى.
يقول الفقير المتكأ يعني (تكيه كله) بالفارسية والاعتماد لا يراد حقيقته وإنما يراد المنزل فيجرد عن الاستراحة لكونه جهنم
241
(5/186)
نعوذ بالله منها.
فعلى المؤمن الاجتناب عن الظلم والمعاصي والإصرار عليهما على تقدير الذلة فالتدارك بالاستغفار والندامة والاشتغال بالتوحيد والأذكار وإلا فالسفر بعيد وحر النار شديد وماؤها مهل وصديد وقيدها حديد وفي الحديث "إن أدنى أهل النار عذاباً ينعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعله".
جزء : 5 رقم الصفحة : 238
ـ روي ـ عن مالك بن دينار أنه قال : مررت على صبي وهو يلعب بالتراب يضحك تارة ويبكي أخرى فأردت أن أسلم عليه فمنعتني نفسي فقلت : يا نفس كان النبي صلى الله عليه وسلّم يسلم على الصغار والكبار فسلمت فقال : وعليك السلام ورحمة الله يا مالك فقلت : ومن أين عرفتني؟ قال : ألفت روحي بروحك في عالم الملكوت فعرفني الحي الذي لا يموت فقلت : ما الفرق بين النفس والعقل؟ فقال : نفسك التي منعتك عن السلام وعقلك الذي حرضك عليه فقلت : لم تلعب بالتراب؟ فقال : لأنا خلقنا منه ونعود إليه فقلت : ولم الضحك والبكاء؟ قال : إذا ذكرت عذاب ربي أبكي وإذا ذكرت رحمته أضحك فقلت : يا ولدي أي : ذنب لك حتى تبكي أي : لأنك لست بمكلف؟ قال : لا تقل هذا فإني رأيت أمي لم توقد الحطب الكبار إلا بالصغار فعليك بالاعتبار ، وفي "المثنوي" :
نى ترا از روى ظاهر طاعتي
نى ترا درسر باطن نيتى
نى ترا شبها مناجات وقيام
نى ترا در روز رهيز وصيام
نى ترا حفظ زبان ز آزار كس
نى نظر كردن بعبرت يش وس
يش ه بود ياد مرك ونزع خويش
س ه باشد مردن ياران زيش
نى ترا بر ظلم توبه ر خروش
اي دغا كندم نماى جو فروش
ون ترازوى تو كج بود ودغا
راست ون جويى ترازوى جزا
ونكه اى ب بدى درغدروكاست
نامه ون آيد ترا دردست راست
ون جزا سايه است اى قد توخم
سايه تو كج فتد در يش هم
وعن يزيد الرقاشي أنه قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم متغير اللون قال النبي عليه السلام : "يا جبريل مالي أراك متغير اللون" فقال : يا محمد جئتك الساعة التي أمر الله فيها بمنافخ النار فقال صلى الله عليه وسلّم "صف لي جهنم" قال : يا محمد إن الله لما خلق جهنم جعلها سبع طبقات إن أهون طبقة منها فيها سبعون ألف ألف جبل من نار وفي كل جبل سبعون ألف ألف واد من نار وفي كل واد سبعون ألف ألف بيت من نار وفي كل بيت سبعون ألف ألف صندوق من نار وفي كل صندوق سبعون ألف ألف نوع من العذاب نعوذ بالله تعالى منه" كذا في "مشكاة الأنوار" وهذا غير محمول على المبالغة بل هو على حقيقته لأنه مقابل بنعيم الجنان فكل من العذاب والنعيم خارج عن دائرة العقل وليس للعاقل إلا التسليم والاحتراز عن موجبات العذاب الأليم.
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} جمعوا بين عمل القلب وعمل الأركان.
والصالحات جمع صالحة وهي في الأصل صفة ثم غلب استعمالها فيما حسنه الشرع من الأعمال فلم تحتج إلى موصوف ومثلها الحسنة فيما يتقرب به إلى الله تعالى {إِنَّا لا نُضِيعُ} (الإضاعة كم كردن) {أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} الأجر الجزاء على العمل وعملاً مفعول أحسن والتنوين للتقليل ووضع الظاهر موضع
242
الضمير للدلالة على أن الأجر إنما يستحق بالعمل دون العلم إذ به يستحق ارتفاع الدرجات والشرف والرتب كما في الحديث القدسي : "ادخلوا الجنة بفضلي واقتسموها بأعمالكم" وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قام أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم في حجة الوداع والنبي واقف بعرفات على ناقته العضباء فقال : إني رجل متعلم فخبرني عن قوله الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} الآية فقال عليه السلام : "يا أعرابي ما أنت منهم ببعيد وما هم عنك ببعيد هم هؤلاء الأربعة الذين هم وقوف معي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت في هؤلاء الأربعة" ذكره الإمام السهيلي في كتاب "التعريف والإعلام".
جزء : 5 رقم الصفحة : 238
(5/187)
{أولئك} المنعوتون بالنعت الجليل {لَهُمْ جَنَّـاتُ عَدْنٍ} .
قال الإمام العدن في اللغة : الإقامة فيجوز أن يكون المعنى أولئك لهم جنات إقامة كما يقال هذه دار إقامة ويجوز أن يكون العدن اسماً لموضع معين من الجنة وهو وسطها وأشرف مكان وقوله جنات لفظ جمع فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} (الرحمن : 46) ثم قال : {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} ويمكن أن يكون نصيب كل واحد من المكلفين جنة على حدة {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ} الأربعة من الخمر واللبن والعسل والماء العذب وذلك لأن أفضل البساتين في الدنيا البساتين التي تجري فيها الأنهار {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} أي : في تلك الجنات من حليت المرأة إذا لبست الحلي وهي ما تتحلى به من ذهب وفضة وغير ذلك من الجوهر والتحلية (يرايه بركردن).
قال الكاشفي : (يرايه بسته شوند دران بوستانها) {مِنْ أَسَاوِرَ} من ابتدائية وأساور جمع أسورة وهي جمع سواء بالفارسية (دستوان) {مِن ذَهَبٍ} من بيانية صفة لأساور وتنكيرها لتعظيم حسنها وتبعيده من الإحالة به.
قال في "بحر العلوم" وتنكير أساور للتكثير والتعظيم.
عن سعيد بن جبير يحلى كل واحد منهم ثلاثة أساور : واحد من ذهب وواحد من فضة وواحد من لؤلؤ وياقوت فهم يسورون بالأجناس الثلثة عن المعاقبة أو على الجمع كما تفعله نساء الدنيا ويجمعن بين أنواع الحلى.
قال بعض الكبار : أي يتزينون بأنواع الحلي من حقائق التوحيد الذاتي ومعاني التجليات العينية الأحدية فالذهبيات هي الذاتيات والفضيات هي الصفات النوريات كما قال : {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} (الإنسان : 21) {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} (جامهاى سيز) وذلك لأن الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة وأحبها إلى الله تعالى : {مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} ما رق من الديباج وما غلظ منه والديباج الثوب الذي سداه ولحمته ابريسم واستبرق ليس باستفعل من البرق كما زعمه بعض الناس بل معرب استبره جمع بين النوعين للدلالة على أن لبسهما مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 243
اعلم أن لباس أهل الدنيا إما لباس التحلي وإما لباس الستر فأما لباس التحلي فقال تعالى في صفته : {يُحَلَّوْنَ} الآية وأما لباس الستر فقال تعالى في صفته {وَيَلْبَسُونَ} الآية.
فإن قيل : ما السبب في أنه تعالى قال في الحلي يحلون على فعل ما لم يسم فاعله والمحلي هو الله أو الملائكة وقال في السندس والاستبرق ويلبسون بإسناد اللبس إليهم.
قلنا : يحتمل أن يكون اللبس إشارة إلى ما استوجبوه بعلمهم بمقتضى الوعد الإلهي وأن يكون الحلي إشارة إلى ما تفضل الله به عليهم تفضلاً زائداً على مقدار الوعد وأيضاً فيه إيذان بكرامتهم وبيان أن غيرهم يفعل بهم ذلك ويزينهم به بخلاف اللبس فإنه يتعاطاه بنفسه شريفاً وحقيراً
243
يقول الفقير : لا شك أن لباس الستر يلبسه المرء بنفسه ولو كان سلطاناً فلذا أسند إليه وأما لباس الزينة فغيره يزينه به عادة كما يشاهد في السلاطين والعرائس ولذا أسند إلى غيره على سبيل التعظيم والكرامة {مُّتَّكِـاِينَ فِيهَا عَلَى الارَآاـاِكِ} جمع أريكة : وهي السرير في الحجال ولا يسمى السرير وحده أريكة.
والحجال جمع حجلة وهي بيت يزين بالثياب للعروس وخص الاتكاء لأنه هيئة المتنعمين والملوك على أسرتهم.
قال ابن عطاء متكئين على أرائك الإنس في رياض القدس وميادين الرحمة فهم على بساتين الوصلة شاهدون عليكم في كل حال {نِعْمَ الثَّوَابُ} ذلك إشارة إلى جنات عدن ونعيمها والثواب جزاء الطاعة {وَحَسُنَتْ} أي : الأرائك {مُرْتَفَقًا} أي : متكأ ومنزلاً للاستراحة.
اعلم أنه لا كلام في حسن الجنة وصفة نعيمها وإنما الكلام في الاستعداد لها فالصالحات من الأعمال من الأسباب المعدة لها وهي ما كانت لوجه الله تعالى من الصوم والصلاة وسائر وجوه الخيرات ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
قيامت كه بازار مينو نهند
منازل باعمال نيكو نهند
كسى راكه حسن عمل بيشتر
بدركاه حق منزلت يشتر
بضاعت بندانكه آرى برى
اكر مفلسى شر مسار برى
كه بازار ندانكه آكنده تر
تهى دست را دل را كنده ثر
قال في "التأويلات النجمية" : إن لأهل الإيمان والأعمال جزاء يناسب صلاحية أعمالهم وحسنها فمنها أعمال تصلح للسير بها إلى الجنات وغرفها وهي الطاعات والعبادات البدنية بالنية الصالحة على وفق الشرع والمتابعة ومنها أعمال تصلح للسير إلى الله تعالى وهي الطاعات القلبية من الصدق في طلب الحق والإخلاص في التوحيد وترك الدنيا والإعراض عما سوى الله والإقبال على الله بالكلية والتمسك بذيل إرادة الشيخ الكامل الواصل المكمل الصالح ليسلكوا ولا يغتر بالأماني فإن من زرع الشعير لا يحصد حنطة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 243
(5/188)
ـ حكي ـ أن رجلاً ببلخ أمر عبده أن يزرع حنطة فزرع شعيراً فرآه وقت حصاده وسأله وقال : زرعت شعيراً على ظن أن ينبت حنطة فقال : يا أحمق هل رأيت أحداً زرع شعيراً فحصد حنطة فقال : العبد فكيف تعصى الله أنت وترجو رحمته.
هر كسى آن درود عاقبت كار كه كشت†
أما علمت أن الدنيا مزرعة الآخرة؟ قال : حضرة جلال الدين الرومي قدس سره :
جمله دانند اين اكرتو نكروى
هره مى كاريش روزى بدورى
فتاب الرجل وأعتق غلامه فمن أيقظه الله عن سنة الغفلة عرف الله وكان في تحصيل مرضاته ومرتبة العارف فوق مرتبة العابد والكرامات الكونية لا قدر لها.
وقد ثبت فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه على سائر الصحابة رضي الله عنهم حتى قيل في شأنه أن الله يتجلى لأهل الجنة عامة ولأبي بكر خاصة مع أنه لم ينقل عنه شيء من الخوارق وذلك التجلي إنما هو بكرامته العلمية التي أعطاها الله إياه وأحسن التحقيق بحقائقها ولأهلها جنة عاجلة قلبية في الدنيا.
جزء : 5 رقم الصفحة : 243
{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا رَّجُلَيْنِ} مفعولان لإضرب أولهما ثانيهما لأنه المحتاج إلى
244
التفصيل والبيان أي : اضرب يا محمد وبين للكافرين المتقلبين في نعم الله والمؤمنين المكابدين لمشاق الفقر مثلاً حال من رجلين مقدرين أو أخوين من بني إسرائيل.
قال في الجلالين : يريد ابني ملك كان في بني إسرائيل.
قال أبو حيان ويظهر من قوله : {فَقَالَ لِصَـاحِبِهِ} أنه ليس أخاه انتهى.
يقول الفقير : هذا ذهول عن عنوان الكلام إذ التعبير عنهما برجلين يصحح إطلاق الصاحب على الأخ وأيضاً أخذ الكافر بيد أخيه المسلم وإدخاله إياه جنته طائفاً به فيما يأتي مما ينادي على صحة ما ادعيناه إذ لا تنافي هذه الصحبة الأخوة وكل منهما من أخص الأوصاف قالوا : كان أحد الأخوين مؤمناً واسمه يهودا والآخر كافراً واسمه قطروس بضم القاف ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتقاسماها بينهما فاشترى الكافر أرضاً بألف دينار وبنى داراً بألف دينار وتزوج امرأة بألف واشترى خدماً ومتاعاً بألف فقال المؤمن : اللهم إن أخي اشترى أرضاً بألف دينار وأنا أشتري منك أرضاً في الجنة فتصدق به وإن أخي بنى داراً بألف دينار وأنا أشتري منك داراً في الجنة فتصدق به وإن أخي تزوج امرأة بألف وأنا أجعل ألفاً صداقاً للحور فتصدق به وإن أخي اشترى خدماً ومتاعاً بألف وأنا أشتري منك الولدان المخلدين بألف فتصدق ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فقام إليه فنظر إليه وقال : ما شأنك؟ قال : أصابتني حاجة فأتيت لتصيبني بخير فقال : وما فعلت بمالك وقد اقتسمنا مالاً وأخذت شطره فقص عليه القصص قال : إنك إذاً لمن المتصدقين بهذا اذهب فلا أعطينك شيئاً فطرده ووبخه على التصدق بماله {جَعَلْنَا لاحَدِهِمَا} وهو الكافر {جَنَّتَيْنِ} بستانين {مِنْ أَعْنَـابٍ} من كروم متنوعة فإطلاق الأعناب عليها مجازاً ويجوز أن يكون بتقدير المضاف أي أشجار أعناب {وَحَفَفْنَـاهُمَا بِنَخْلٍ} أي : جعلنا النخل محيطة بالجنتين ملفوفاً بها كرومهما وبالفارسية (يعني درختان خرما كردا كرد در آورديم) يقال : حفه القوم إذا طافوا به أي : استداروا وحففته بهم أي : جعلتهم حافين حوله وهو متعد إلى مفعول واحد فتزيده الباء مفعولاً ثانياً مثل غشيته وغشيته به {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا} وسطهما يعني (يدا كرديم ميان آن دوباغ) {زَرْعًا} ليكون كل منهما جامعاً للأقوات والفواكه متواصل العمارة على الشكل الحسن والترتيب الأنيق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 244
{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا} بثمرها وبلغ مبلغاً صالحاً للأكل وأفراد الضمير في آتت للحمل على لفظ المفرد.
قال الحريري ولا يثنى خبر كلا إلا بالحمل على المعنى أو لضرورة الشعر {وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ} لم تنقض من أكلها {شَيْـاًا} كما يعهد في سائر البساتين فإن الثمار تتم في عام واحد وتنقص في عام غالباً وكذا بعض الأشجار تأتي بالثمر في بعض الأعوام دون بعض {وَفَجَّرْنَا خِلَـالَهُمَا} وشققنا فيما بين كل من الجنتين وأخرجنا وأجرينا {نَهَرًا} على حدة ليدوم شربهما ونزيد بهاؤهما ولعل تأخير ذكر تفجير النهر عن ذكر إيتاء الأكل مع أن الترتيب الخارجي على العكس للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين ولو عكس لانفهم أن المجموع خصلة واحد بعضها مرتب على بعض فإن إيتاء الأكل متفرع على السقي عادة وفيه إيماء إلى أن إيتاء الأكل لا يتوقف على السقي كقوله تعالى : {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىاءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} (النور : 35) {وَكَانَ لَهُ} أي : لصاحب الجنتين {ثَمَرٌ} أنواع من المال غير
245
(5/189)
الجنتين من ثمر ماله الذي ذكر.
وقال الشيخ في تفسيره بفتحتين جمع ثمرة وهي المجني من الفاكهة وذكرها وإن كانت الجنة لا تخلو عنها إيذان بكثرة الحاصل له في الجنتين من الثمار وغيرها.
وقال الكاشفي : {وَكَانَ لَه ثَمَرٌ} (همه ميوه يعني از انكور خرما وميوهاى ديكر داشت واختصاص آنها بذكر غالبيت بوده) {فَقَالَ لِصَـاحِبِهِ} أخيه المؤمن {وَهُوَ} أي : والحال أن القائل {يُحَاوِرُهُ} يكلمه ويراجعه الكلام من حار إذا رجع.
قال الكاشفي : (واو مجادله مى كرد با او وسخن باز مى كردانيد انتهى) ولهذه المحاورة والمعية أطلق عليه الصاحب {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا} عن محمد بن الحسن ـ رحمه الله ـ : المال كله ما يتملكه الناس من دراهم أو دنانير أو ذهب أو فضة وحنطة أو خبز أو حيوان أو ثياب أو صلاح أو غير ذلك والمال العين هو المضروب {وَأَعَزُّ نَفَرًا} حشماً وأعواناً وأولاداً ذكوراً لأنهم الذي ينفرون معه دون الإناث والنفر بفتحتين من الثلاثة إلى العشرة من الرجال ولا يقال فيما فوق العشرة يقول الفقير : لاح لي ههنا إشكال وهو أنه إن حمل أفعل على حقيقته في التفضيل يلزم أن يكون الرجلان المذكوران مقدرين لا محققين أخوين لأنه على تقدير التحقيق يقتضي أن لا يكون لأحدهما مال أصلاً كما يفصح عنه البيان السابق وقد أثبت ههنا الأكثرية للكافر والأقلية للمؤمن وجوابه يستنبط من السؤال والله أعلم بحقيقة الحال.
جزء : 5 رقم الصفحة : 244
{وَدَخَلَ} صاحب الجنتين وهو قطروس {جَنَّتَهُ} بصاحبه يطوف به فيها ويعجبه منها ويفاخره بها وتوحيدها يعني : بعد التثنية لاتصال إحداهما بالأخرى وإما لأن الدخول يكون في واحدة فواحدة.
وقال الشيخ : افردها إرادة للروضة {وَهُوَ} أي : والحال أنه {ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} ضار لها يعجب بماله وكفره بالمبدأ والمعاد وهو أقبح الظلم كأنه قيل : فماذا قال إذ ذاك؟ {قَالَ مَآ أَظُنُّ} كثيراً ما يستعار الظن للعلم لأن الظن الغالب يداني العلم ويقوم مقامه في العادات والأحكام ومنه المظنة للعلم {أَن تَبِيدَ} تفنى وتهلك وتنعدم من باد إذا ذهب وانقطع {هَـاذِهِ} الجنة {أَبَدًا} الأبد الدهر وانتصابه على الظرف والمراد هنا المكث الطويل وهو مدة حياته لا الدوام المؤبد إذ لا يظنه عاقل لدلالة الحس والحدس على أن أحوال الدنيا ذاهبة باطلة فلطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بمهلته قال بمقابلة موعظة صاحبه وتذكيره بفناء جنته والاغترار بها وأمره بتحصيل الباقيات الصالحات.
{وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ} أي : القيامة التي هي عبارة عن وقت البعث {قَا ـاِمَةً} كائنة فيما سيأتي {وَلَـاـاِن رُّدِدتُّ} والله لئن رجعت {إِلَى رَبِّى} بالبعث على الفرض والتقدير كما زعمت فليس فيه دلالة على أنه كان عارفاً بربه مع أن العرفان لا ينافي الإشراك وكان كافراً مشركاً.
قال في "البرهان" قال تعالى : {وَلَـاـاِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى} (فصلت : 50) وفي حم {وَلَـاـاِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى} لأن الرد على الشيء يتضمن كراهة المردود ولما كان في الكهف تقديره ولئن رددت عن جنتي هذه التي أظن أن لا تبيد أبداً إلى ربي كان لفظ الرد الذي يتضمن الكراهة أولى وليس في حم ما يدل على كراهته فذكر بلفظ الرجع ليقع في كل سورة ما يليق بها {لاجِدَنَّ} يومئذٍ {خَيْرًا مِّنْهَا} من هذه الجنة {مُنقَلَبًا} تمييز أي : مرجعاً وعاقبة ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامته عليه سبحانه وهو معه أينما توجه
246
ولم يدر أن ذلك استدراج ، يعني : (مقتضاي استحقاق من رنست كه فردا بهشت بمن دهد نانه امروز اين باغ بمن داده) فقول من قال إنه كريم رحيم يعطيني في الآخرة خيراً مما أعطاني في الدنيا وهو مخالف لأوامره ونواهيه غاية الغرور بالله تعالى كما قال : يا اأَيُّهَا الانسَـانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الانفطار : 6) إلى قوله : {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} (الانفطار : 14) :
جزء : 5 رقم الصفحة : 246
آتشي خوش برفروزيم ازكرم
تانما ندجرم وزلت بيش وكم
(5/190)
{قَالَ لَه صَاحِبُهُ} أي : أخوه المؤمن وهو استئناف كما سبق {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أي : والحال أن القائل يخاطبه ويجادله : قال في "الإرشاد" وفائدة هذه الجملة الحالية التنبيه من الأمر الأول على أن ما يتلوه كلام معتنى بشأنه مسوق للمحاورة {أَكَفَرْتَ} حيث قلت : ما أظن الساعة قائمة فإنه شك في صفات الله وقدرته {بِالَّذِى خَلَقَكَ} أي : في ضمن خلق أصلك آدم عليه السلام {مِن تُرَابٍ} فإنه متضمن بخلقه منه إذ هو أنموذج مشتمل إجمالاً على جميع أفراد الجنس وهمزة الاستفهام للتقرير والإمكان بمعنى ما كان ينبغي أن تكفر ولم كفرت بمن أوجدك من تراب أولاً {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أي : من مني في رحم أمك ثانياً وهي مادتك القريبة {ثُمَّ سَوَّاـاكَ} جعلك معتدل الخلق والقامة حال كونك {رَجُلا} إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال.
قال في "القاموس" الرجل بضم الجيم وسكونها معروف أو إنما هو إذا احتلم وشب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 246
{لَّـاكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّى} أصله لكن أنا فحذفت الهمزة بنقل حركتها إلى نون لكن أو بدون نقل على خلاف القياس فتلاقت النونان فكان الإدغام أثبت جميع القراء ألفها في الوقف وحذوفها في الوصف غير ابن عامر فإنه أثبتها في الوصل أيضاً لتعويضها من الهمزة أو لاجراء الوصل مجرى الوقف وهو ضمير الشأن مبتدأ خبره الله ربي وتلك الجملة خبر أنا والعائد منها إليه ياء الضمير في ربي والاستدراك من قوله : أكفرت كأنه قال لأخيه : أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد فوقع لكن بين جملتين مختلفتين في النفي والإثبات {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا} فيه إيذان بأن كفره كان بطريق الإشراك.
{وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ} وهلا قلت عند دخول جنتك {مَا شَآءَ اللَّهُ} ما موصولة خبر مبتدأ محذوف أي : الأمر ما شاء الله واللام في الأمر للاستغراق والمراد تحضيضه على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها على حالها عامرة وإن شاء أفناها وجعلها خربة {لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} أي : هلا قلت ذلك اعترافاً بعجزك وبأن ما تيسر لك من عمارتها وتدبيرها إنما هو بمعونته تعالى وإقداره وفي الحديث : "من رأى شيئاً فأعجبه فقال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم تضره العين" وفي الحديث : "من رأى أحداً أعطي خيراً من أهل أو مال فقال عنده ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم ير فيه مكروهاً" وفسر النبي عليه السلام معنى لا حول ولا قوة إلا بالله فقال : "لا حول تحول عن معاصي الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بالله" وروي "أنها دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهمّ" {إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدًا} أصله أن ترني والرؤية إما بصرية بأقل حال وإما علمية فهو مفعول ثان والأول ياء المتكلم المحذوفة وأنا على التقديرين تأكيد للياء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 247
{فَعَسَى} لعل {رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ} أصله يؤتينني {خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ} هذه في الآخرة بسبب إيماني لأن الجنة الدنيوية فانية والأخروية باقية والجملة جواب الشرط {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} على جنتك في الدنيا {حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَآءِ} عذاباً يرميها
247
به من برد أو صاعقة أو نار.
قال في "القاموس" : الحسبان بالضم جمع حساب والعذاب والبلاء والشر والصاعقة.
يقول الفقير : إنما توقعه في حقه لعلمه بأن الكفران مؤد إلى الخسران وأن الإعجاب سلب للخراب كما قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد : 11) فكلامه هذا جواب عن قول صاحبه المنكر ما أظن أن تبيد هذه أبداً {فَتُصْبِحَ} الإصباح هنا بمعنى الصيرورة أي : تصير جنتك {صَعِيدًا زَلَقًا} مصدر أريد به المفعول مبالغة أي : أرضاً ملساء يزلق عليها بملاصقتها باستئصال نباتها وأشجارها وجوز القرطبي أن تكون زلقاً من زلق رأسه أي : حلقه والمراد أنه لا يبقى فيها نبات كالرأس المحلوق فزلقا بمعنى مزلوق أيضاً.
{أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا} أي : غائراً في الأرض ذاهباً لا تناله الأيدي ولا الدلاء فأطلق هذا المصدر مبالغة {فَلَن تَسْتَطِيعَ} تقدر إبداله {لَهُ} أي : للماء الغائر {طَلَبًا} فضلاً عن وجدانه ورده.
قال في الجلالين لا يبقى له أثر تطلبه به.
(5/191)
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} عطف على مقدر كأنه قيل فوقع بعض توقعه من المحذور وأهلك أمواله المعهودة التي هي جنتاه وما حوتاه مأخوذ من أحاط به العدو لأنه إذا أحاط به فقد غلبه واستولى عليه فيهلكه {فَأَصْبَحَ} صار {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} ظهراً لبطن تأسفاً وتحسراً كما هو عادة النادمين فإن النادم يضرب يديه واحدة على الأخرى.
قال في "بحر العلوم" تقليب الكفين وعض الكف والأنامل واليدين وأكل البنان وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الندم والحسرة لأنها من روادفها فتطلق الرادفة على المردوف فيرتقي الكلام به إلى الذروة العليا ويزيد الحسن بقبول السامع ولأنه في معنى الندم عدي تعديته بعلى كأنه قيل فأصبح يندم {عَلَى مَآ أَنفَقَ} (برآن يزى خرج نموده بود اول) {فِيهَآ} في عمارتها من المال ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 247
بر كذشته حسرت آوردن خطاست
باز نايد رفته ياد آن هباست
ولعل تخصيص الندم به دون ما هلك الآن من الجنة لما أنه إنما يكون على الأفعال الاختيارية يقول الفقير الظاهر أن الإنفاق إنما هو لتملكها فالتحسر على ماله مغن عن التحسر على الجنة لأنها بدله وهذا شائع في العرف كما يقول بعض النادمين قد صرفت لهذا كذا وكذا مالاً وقد آل عمره إلى الهلاك متحسراً على المال المصروف {وَهِىَ} أي : الجنة من الأعناب المحفوفة بنخل {خَاوِيَةٌ} خالية ساقطة يقال خوت الدار خويا تهدمت وخلت من أهلها {عَلَى عُرُوشِهَا} دعائمها المصنوعة للكروم سقطت عروشها على الأرض وسقط فوقها الكروم وتخصيص حالها بالذكر دون النخل والزرع لكونها العمدة قيل أرسل الله عليها ناراً فأحرقتها وغار ماؤها {وَيَقُولُ} عطف على يقلب يا لَيْتَنِى} (كاشكى من) {لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا} كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه إنما أتي من جهة الشرك فتمنى أنه كان موحداً غير مشرك حين لم ينفعه التمني ولما كان رغبته في الإيمان لطلب الدنيا لم يكن قوله هذا توبة وتوحيداً لخلوه عن الإخلاص.
قال ابن الشيخ في سورة الأنعام : الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة لكونه إيماناً وطاعة أما الرغبة فيه لطلب الثواب وللخوف من العقاب فغير مفيدة انتهى ، وفي "المثنوي" :
248
آن ندامت از نتيجه رنج بود
نى زعقل روشن ون كنج بود
ونكه شدرنج آن ندامت شد عدم
مى نيرزد خاك آن توبه ندم
ميكند او توبه ور خرد
بانك لو ردوا لعادوا ميزند
{وَلَمْ تَكُن لَّه فِئَةٌ} جماعة {يَنصُرُونَهُ} يقدرون على نصره بدفع الهلاك أو على رد المهلك والإتيان بمثله {مِن دُونِ اللَّهِ} فإنه القادر وحده على نصره بذلك لا غير لكنه لا ينصره لاستحقاقه الخذلان بكفره ومعاصيه {وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} ممتنعاً بقوته عن انتقامه سبحانه.
{هُنَالِكَ} أي : في ذلك المقام وتلك الحال (دروقت زوال نعمت) أي : النصرة له تعالى وحده لا يقدر عليها أحد وهو تقرير لقوله تعالى : {وَلَمْ تَكُن لَّه فِئَةٌ يَنصُرُونَه مِن دُونِ اللَّهِ} أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم كما نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمن وحقق ظنه وترك عدوه مخذولاً مقهوراً أو يؤيده قوله تعالى : {هُوَ} أي : الله تعالى {خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} بمعنى العاقبة أي : لأوليائه.
قال سعدي المفتي وعقبى يشمل العاقبة الدنيوية أيضاً كما لا يخفى.
قال في "الجلالين" : أفضل ثواباً ممن يرجى ثوابه وعاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره.
جزء : 5 رقم الصفحة : 247
واعلم أن هذه القصة مشتملة على فوائد كثيرة وأعظمها أن التوحيد وترك الدنيا سبب للنجاة في الدارين والشرك وحب الدنيا سبب للهلاك فيهما.
وعن وهب بن منبه أنه قال : جمع عالم من علماء بني إسرائيل سبعين صندوقاً من كتب العلم كل صندوق سبعون ذراعاً فأوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان أن قل لهذا العالم لا تنفعك هذه العلوم وإن جمعت أضعافاً مضاعفة ما دام معك ثلاث خصال : حب الدنيا ، ومرافقة الشيطان ، وإيذاء مسلم وذلك أن فرعون علم نبوة موسى عليه السلام ولكن منعه حب الدنيا والرياسة عن المتابعة فلم ينفعه علمه المجرد وكذا علم إبليس حال آدم عليه السلام واليهود حال نبينا صلى الله عليه وسلّم وما سعدوا بمجرد علمهم وما وجدوا خير عاقبة ولو عملوا بما وعظوا لنجوا وفي "المثنوي" :
كره ناصح را بود صد داعيه
ندرا اذنى ببايد واعيه
تو بصد تلطيف ندش مى دهى
او ز ندت ميكند هاو تهى
يك كس نا مستمع زاستيز ورد
صد كس كوينده را عاجز كند
ز أنبيا نا صح ترو وخوش لهجه تر
كى بود كه رفت دمشان در حجر
زانكه كوه وسنك دركار آمدند
مى نشد بدبخت را بكشاده بند
آننان دلها كه بدشان وما ومن
نتشان شد بل أشد قسوة
ألا يرى لم ينجع فيه وعظ أخيه المسلم لزيادة قسوة قلبه فآلت عاقبته إلى الندامة.
(5/192)
{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} أي : اذكر لقومك وبين ما يشبهها في زهرتها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يطمئنوا ولا يعكفوا عليها ولا يعرضوا عن الآخرة بالكلية {كَمَآءٍ} استئناف لبيان المثل أي : هي كماء {أَنزَلْنَـاهُ مِنَ السَّمَآءِ} (از سحاب يا از جانب سما) ليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء وحده بل بمجموع ما في حيز الأداة.
{فَاخْتَلَطَ بِه نَبَاتُ الأرْضِ} إلتف
249
وتكاثف بسببه حتى خالط بعضه بعضاً.
يعني : (قوت كرفت ونشو ونماى خود بكمال رسانيد وزمين بدو تازه وخرم شد) {فَأَصْبَحَ} فصار ذلك النبات الملتف أثر بهجته {هَشِيمًا} مهشوماً مكسوراً ليبسه من الهشم وهو كسر الشيء الرخو {تَذْرُوهُ الرِّيَـاحُ} تحمله وتفرقه يقال ذرت الريح الشيء وأذرته وذرته اطارته واذهبته وذرا هو بنفسه والحنطة نقاها في الريح كما في "القاموس".
وهذه الآية مختصرة من قوله : {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ} (يونس : 24) الآية.
قال الكاشفي : (همنين آدمى بزندكى وتازكى كه دارد خوش برآيد همنين كه نامه عمر ازعنفوان بايان رسد مقتضى أجل در آمده نهال نهاداورا بصر صرفنا خشك سازد وخر منهاى از وآرزورا بباد نيستى بر دهد) :
جزء : 5 رقم الصفحة : 247
بهار عمر بسى دلفريب ورنكينست
ولى ه سود كه دارد خزان مرك از ى
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ} من الإنشاء والإبقاء والإفناء وغير ذلك {مُّقْتَدِرًا} قادراً على الكمال لا يعجزه شيء.
فعلى العاقل أن لا يغتر بالحياة الدنيا فإنها فانية ولو طالت مدتها وزائلة ولو أعجبت زينتها ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
و شيبت در آمد بروى شباب
شبت روزشد ديده بركن زخواب
دريغاكه بكذشت عمر عزيز
بخواهد كذشت اين دمى ند نيز
فرو رفت جم را يكى نازنين
كفن كردون كرمش ابريشمين
بدخمه در آمد س از ند روز
كه بروى بكريد بزارى وسوز
و وشيده ديدش حرير كفن
بفكرت نين كفت باخو يشتن
من از كرم بركنده بودم بزور
بكندند ازو باز كرمان كور
در يغا كه بى ما بسى روز كار
برويد كل وبشكفد نو بهار
واعلم أن الذي أدركته العناية الأزلية بعد تعلق الروح بالجسد كتعلق الماء بالأرض فيبعث الله إليه دهقاناً من دهاقين الأولياء والأنبياء ومعه بذر الإيمان والتوحيد ليلقيه بيد الدعوة وتبليغ الرسالة في أرض نفسه فيقع منها في تربة طيبة وهي القلب كما ضرب الله تعالى مثلاً {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} (إبراهيم : 34) وكقوله : {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُه بِإِذْنِ رَبِّهِ} فينبت عن بذر التوحيد وهي كلمة لا إله إلا الله شجرة الإيمان بماء الشريعة فيعلو به الروح من أسفل سافلين الإنسانية إلى أعلى درجات الروحانية وأقرب منازل قربات الربانية كقوله تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر : 10) والله تعالى قادر على أن يخذله وينفيه في أسفل سافلين الجسمانية الحيوانية ليصير الروح العلوي كالأنعام بل هو أضل وعلى أن يجذبه بجذبات العناية إلى أعلى عليين مراتب القرب ليكون مسجوداً لملائكة المقربين ، قال المولى الجامي :
سالكان بى كشش دوست بجايى نرسند
سالها كره درين راء تك ووى كنند
نسأل الله تعالى أن يجذبنا بسلاسل محبته ويجعلنا من أهل طاعته وقربته.
قال وهب : رأيت في بعض الكتب الدنيا غنيمة الأكياس وغفلة الجهال فالأنبياء والأولياء صلوات الله عليهم كانوا في الدنيا ولم يلتفتوا إليها ولم يرغبوا فيها قالوا : ليس كل من دخل المحبس يكون محبوساً
250
فيه بل ربما دخله لإخراج المحبوس واستنقاذ المأسور فالنفوس النبوية ومن يتبعها إنما وردت إلى عالم الكون والفساد لاستنقاذ النفوس المحبوسة المأسورة فكما أن المحبوس إذا اتبع ذلك الداخل خرج ونجا فكذلك من اتبع الأنبياء في سننهم ومناهجهم خرج ونجا.
جزء : 5 رقم الصفحة : 247
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} الزينة مصدر في الأصل أطلق على المفعول مبالغة كأنهما نفس الزينة والمعنى أن ما يفتخر به الناس لا سيما رؤساء العرب من المال والبنين شيء يتزينون به في الحياة الدنيا ويفني عنهم عن قريب.
وبالفارسية : (مال وسران آرايش زندكانىء دنيا آمد ندتوشه راه معاد ه باندك زماني تلف وهدف زوال خواهد شد) وفي "المثنوي" :
همنين دنيا اكره خوش شكفت
بانك هم زد بيوفايىء خويش كفت
كون مى كويد بيامن خوش ى ام
وإن فسادش كفت رو من لا شي ام
اى زخوبى بهاران لب كزان
بنكر آن سردى وزردىء خزان
كودكى از حسن شد مولاى خلق
بعد فردا شد خرف رسواى خلق
{وَالْبَـاقِيَـاتُ الصَّـالِحَـاتُ} الباقيات اسم لأعمال الخير لا وصف ولذا لم يذكر الموصوف أي : أعمال الخير التي تبقى ثمراتها أبد الآباد من الصلاة والصوم وأعمال الحج وسبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر ونحو ذلك من الكلم الطيب.
(5/193)
ـ روي ـ أنه عليه السلام خرج على قومه فقال : "خذوا جنتكم" قالوا : يا رسول الله أمن عدو حضر قال : "لا بل من النار" قالوا : وما جنتنا من النار قال : "سبحان الله" إلى آخر الكلمات.
قال الكاشفي : (بعض علما برانندكه باقيات صالحات بنات است كه بحكم هن ستر من النار سبب خلاص والدين باشند) وفي الحديث : "من ابتلى" الابتلاء هو الامتحان لكن أكثر استعمال الابتلاء في المحن والبنات مما تعد منها لأن غالب هوى الخلق في الذكور "من هذه البنات بشيء" من بيانية مع مجرورها حال من شيء "فأحسن إليهن" فسر الشارح هنا الإحسان بالتزويج بالأكفاء لكن الأوجه أن يعمم الإحسان "كن له ستراً من النار" لأن احتياجهن إليه كان أكثر حال الصغر والكبر فمن يسترهن بالإحسان يجازي بالستر من النيران كما في "شرح المشارق" لابن الملك {خَيْرٌ} من الفانيات الفاسدات من المال والبنين {عِندَ رَبِّكَ} أي : في الآخرة {ثَوَابًا} عائدة تعود إلى صاحبها {وَخَيْرٌ أَمَلا} رجاء حيث ينال بها صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله في الدنيا وأما ما مر من المال والبنين فليس لصاحبه أمل يناله.
والآية تزهيد للمؤمنين في زينة الحياة الدنيا الفانية وتوبيخ للمفتخرين بها قال بعضهم : لا ينجو من زينة الحياة الدنيا إلا من كان باطنه مزيناً بأنوار المعرفة وضياء المحبة ولمعان الشوق وظاهره مزيناً بآداب الخدمة وشرف الهمة وعلو النفس وتغلب زينة باطنه زينة حب الدنيا شوقاً منه إلى ربه وتغلب زينة ظاهره زينة الدنيا لأن زينتها أزين.
وعن الضحاك عن النبي عليه السلام أنه قيل : يا رسول الله من أزهد الناس؟ قال : "من لم ينس القبر والبلى وترك فضول زينة الدنيا وآثر ما يبقى على ما يفنى ولم يعد من أيامه غداً وعد نفسه من الموتى" وفي الحديث : "قال الله تعالى : يفرح عبدي المؤمن إذا بسطت له شيئاً من الدنيا وذلك أبعد له مني ويحزن إذا اقترت عليه الدنيا وذلك أقرب له مني" ثم تلا عليه السلام هذه الآية {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِه مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِا بَل لا يَشْعُرُونَ} (المؤمنون : 55 ـ 56) إن ذلك فتنة لهم ، قال الشيخ سعدي :
جزء : 5 رقم الصفحة : 247
يكى ارسا سيرت وحق رست
فتادش يكى خشت زرين بدست
همه شب در انديشه كين كنج ومال
درو تازيم ره نيابد زوال
دكر قامت عجزم ازبهر خواست
نيايد بزكس دوتا كرد وراست
سرايى كنم اى بستش رخام
ردختان سقفش همه عود خام
يكى حجره خاص ازى دوستان
در حجره اندر سرا بوستان
بفرسودم ازرقعه بررقعه دوخت
تف ديكران شم ومغزم بسوخت
ديكر زير دستان برندم خورش
براخت دهم روح را رورش
بسختى بكشت اين نمد سترم
روم زين سس عبقرى كسترم
خيالش حزف كرد وكاليوه رنك
بمغزش فرو برده خرنك نك
فراغ مناجات وزارش نماند
خور وخواب وذكر ونمازش نماند
بصحرا در آمد سراز عشوه مست
كه جايى نبودش قرار نشست
يكى بر سركور كل ميسرشت
كه حاصل كند زان كل كور خشت
بانديشه لختى فرو رفت ير
كه اى نفس كوته نظر ندكير
ه ندى درين خشت زرين دلت
كه يك روز خشتى كنند از كلت
توغافل در انديشه سود ومال
كه سرمايه عمرشد ايمال
بكن سرمه غفلت از شم اك
كه فردا شوى سرمه در شم خاك
جزء : 5 رقم الصفحة : 247
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} أي : اذكر حين نقلعها من أماكنها وتسير في الجو على هيآتها أو تسير أجزاؤها بعد أن نجعلها هباء منبثاً والمراد بتذكيره تحذير المشركين مما فيه من الدواهي {وَتَرَى} يا محمد أوياكل من يصلح للرؤية {الارْضَ} جميع جوانبها {بَارِزَةً} ظاهرة ليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا نبات {وَحَشَرْنَـاهُمْ} جمعنا أهل الإيمان والكفر إلى الموقف من جانب {فَلَمْ نُغَادِرْ} لم نترك {مِّنْهُمْ أَحَدًا} تحت الأرض يقال غادره واغدره إذا تركه ومنه الغدر الذي هو ترك الوفاء والغدير ما غادره السيل وتركه في الأرض الغائرة.
{وَعُرِضُوا} أي : الخلائق يوم القيامة يعني المحشورين {عَلَى رَبِّكَ} على حكمه وحسابه {صَفًّا} مفرد منزل منزلة الجمع كقوله تعالى : {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا} (فاطر : 67) أي : أطفالاً والمعنى صفوفاً يقف بعضهم وراء بعض غير متفرقين ولا مختلطين شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان ليحكم فيهم بما أراد لا ليعرفهم {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا} أي : فيقال لهم ثمة لقد جئتمونا كائنين {كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة} حفاة عراة لا شيء من المال والولد.
وعن عائشة رضي الله عنها قلت : يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة؟ قال : "عراة حفاة" قلت : والنساء؟ قال : "نعم" قلت : يا رسول الله نستحيى قال : "يا عائشة الأمر أشد من ذلك لن يهمهم أن ينظر بعضهم إلى بعض".
جزء : 5 رقم الصفحة : 252
(5/194)
وفي "التأويلات" : {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} أي : صفاً صفاً من الأنبياء والأولياء والمؤمنين والكافرين والمنافقين ويقال لهم : {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة} في
252
خمسة صفوف : صف من الأنيباء ، وصف من الأولياء ، وصف من المؤمنين ، وصف من الكافرين ، وصف من المنافقين {بَلْ زَعَمْتُمْ} أيها الكافرون المنكرون للبعث والزعم الادعاء بالكذب {أَنْ} مخففة من الثقيلة {أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا} بل للخروج والانتقال من قصة إلى أخرى كلاهما للتوبيخ والتقريع أي : زعمتم في الدنيا أنه لن نجعل لكم أبداً وقتاً ننجز فيه ما وعدناه على ألسنة الأنبياء من البعث وما يتبعه.
والآية تشير إلى عزته تعالى وعظمته وإظهار شظية من صفة جلاله وقهره وآثار عدله لينتبه النائمون من نوم غفلتهم ويتأهب الغافلون بإسباب النجاة لذلك اليوم ويصلحوا أمر سريرتهم وعلانيتهم لخطاب الحق تعالى وجوابه إذ إليه المرجع والمآب والعرض على الله هو العرض الأكبر ليس كعرض على الملوك.
قال عتبة الخواص : بات عندي عتبة الغلام فبكى حتى غشي عليه فقلت : ما يبكيك؟ قال : ذكر العرض على الله قطع أوصال المحبين.
ـ حكي ـ أن سليمان بن عبد الملك وهو سابع خلفاء المروانية قال لأبي حازم : ما لنا نكره الآخرة؟ قال : لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة فتكرهون الانتقال من العمران إلى الخراب فقال : صدقت يا أبا حازم فيا ليت شعري ما لنا عند الله تعالى غداً قال : إن شئت تعلم ذلك ففي كتاب الله فقال : أين أجده؟ فقال في قوله : {إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} (الانفطار : 13 ـ 14) قال : فكيف يكون العرض على الله تعالى فقال : أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله مسروراً وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه محسوراً فبكي سليمان بكاء شديداً ، قال الشيخ سعدي قدس سره :
نر يزد خدا آب روى كسى
كه ريزد كناه آب شمش بسى
كر آيينه ازآه كردد سياه
شود روشن ريينه دل زآه
بترس ازكناهان خويش اين نفس
كه روز قيامت نترسى زكس
ليدى كند كربه در جاى اك
و زشتش نمايد بيوشد بخاك
تو آزادى ازنا سنديدها
جزء : 5 رقم الصفحة : 252
نترسى كه بروى فتد ديدها
بر انديش ازبنده ر كناه
كه از خواجه غائب شود ندكاه
اكرباز كردد بصدق ونياز
بز نجير وبندش نيار ندباز
ـ روي ـ عن الفضيل بن عياض رحمه الله أنه قال : إني لا أغبط ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا عبداً صالحاً أليس هؤلاء يعاينون القيامة وأهوالها وإنما أغبط من لم يخلق لأنه لا يرى أحوال القيامة وشدائدها وذلك لأن من عاين الأمر على ما هو عليه اشتد خوفه ولم ير لنفسه حالاً ولا مقاماً مع أن المرء لا يخلو عن أسباب منجية ومهلكة فأي الرجال المهذب.
ـ روي ـ أن عمر رضي الله عنه رؤى بعد موته بثنتي عشرة سنة وهو يمسح جبينه ويقول : كنت في الحساب إلى الآن وقد نوقشت في جدي سقط من جسر مكسور فانكسرت رجله على أني لم أجرم له ولم أصلح الجسر حتى سقط الجدي ولكن غفر الله لي وعفا عني بسبب عصفور اشتريته من صبي فأرسلته.
{وَوُضِعَ الْكِتَـابُ} عطف على عرضوا داخل تحت الأمور الهائلة التي أريد تذكيرها بتذكير وقتها وضع صحف الأعمال في إيمان أصحابها وشمائلها أو في الميزان {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ} قاطبة {مُشْفِقِينَ} خائفين
253
{مِمَّا فِيهِ} من الذنوب ومن ظهورها لأهل الموقف.
شد سيه ون نامهاى تعزيه
بر مصاصى متن نامه حاشيه
جمله فسق ومعصيت بد يكسرى
همو دار الحرب ر از كافرى
آننان نامه ليد ور وبال
در يمين نايد در آمد در شمال
خود همينجا نامه خودرا ببين
دست ب را شايد آن در يمين
ون نباشى راست مى دان كه بى
هست يدا نعره شير وكبى
كربى باحضرت اوراست باش
تا ببينى دست برد لطفها ش
{وَيَقُولُونَ} عند وقوفهم على تضاعيفه نقيراً وقطميراً تعجباً من شأنه يا وَيْلَتَنَا} منادين لهلكتهم التي هلكوا بها من بين الهلكات مستدعين لها ليهلكوا ولا يروا هول ما لاقوه فإن الويل والويلة الهلكة أي : يا هلكتنا احضري وتعالي فهذا أوانك {مَالِ هَـاذَا الْكِتَـابِ} .
قال البقاعي : رسم لام الجر وحده إشارة إلى أنهم صاروا من قوة الرعب وشدة الكرب يقفون على بعض الكلمة أي : أيّ شيء له حال كونه {لا يُغَادِرُ} لا يترك {صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} من الزلل تصدر عن جانيها يا وَيْلَتَنَا} حواها وضبطها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة.
وعن سعيد بن جبير : الصغيرة المسيس والكبيرة الزنا.
جزء : 5 رقم الصفحة : 252
(5/195)
وفي "التأويلات النجمية" : الصغيرة كل تصرف في شيء بالشهوة النفسانية وإن كان من المناجاة والكبيرة التصرف في الدنيا على حبها وإن كان من حلالها لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة انتهى.
وفي الحديث "إياكم ومحقرات الذنوب فإن محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى طبخوا أخبزتهم" وفي الحديث : "إياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجيىء يوم القيامة كأمثال الجبال وكفارتها الصدقة" {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا} في الدنيا من السيآت أو جزاء ما عملوا {حَاضِرًا} مثبتاً في كتابهم.
وفي "التأويلات" : لأنهم كتبوا صالح أعمالهم بقلم أفعالهم في صحائف قلوبهم وسوء أعمالهم في صحائف نفوسهم وقد يوجد عكس ما في هذه الصحائف على صفحات الأرواح نورانياً أو ظلمانياً {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} فيكتب ما لم يعمل من السيآت أو يزيد في عقابه الملائم لعمله فيكون إظهاراً لمعدلة القلم الأزلي.
وفي "التأويلات" : فإن كان النور غالباً على صفحة روحه فهو من أهل الجنة وإن كانت الظلمة غالبة عليها فهو هالك ومن لا يشوب نوره بالظلمة فهو من أهل الدرجات والقربات ومن أدركته الجذبات وبدلت سيآته بالحسنات وأخرج إلى النور الحقيقي من الظلمات فهو في مقعد صدق عند مليك مقتدر انتهى.
فعليك بالحسنات والكف عن السيآت فإن كل أحد يجد ثمرة شجرة أعماله.
عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت جالسة ذات يوم إذ جاءت امرأة قد سترت يدها في كمها فقالت عائشة : مالك لا تخرجين يدك من كمك؟ قالت : لا تسأليني يا أم المؤمنين إنه كان لي أبوان وكان أبي يحب الصدقة وأما أمي فكانت تبغض الصدقة فلم أرها تصدقت بشيء إلا قطعة شحم وثوباً خلقاً فلما ماتا رأيت في المنام قد قامت القيامة ورأيت أمي قائمة بين الخلق واضعة الخلقان على عورتها ورأيت الشحم بيدها وهي تلحسه وتنادي واعطشاه
254
ورأيت أبي على شفير الحوض وهو يسقي الماء ولم يكن عند أبي صدقة أحب إليه من سقي الماء فأخذت قدحاً من ماء فسقيت أمي فنوديت من فوق ألا من سقاها شلت يده فاستيقظت وقد شلت يدي ، قال الحافظ قدس سره :
دهقان سال خورده ه خوش كفت باسر
اى نور شم من بجز از كشته ندرى
جزء : 5 رقم الصفحة : 252
قال الشيخ سعدي قدس سره :
كنون وقت تخمست اكر رورى
كر اميدوارى كه خر من برى
بشهر قيامت مرو تنكدست
كه وجهى ندارد بغفلت نشست
مكن عمر ضايع بافسوس وحيف
كه فرصت عزيزست والوقت سيف
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ} أي : اذكر وقت قولنا لهم {اسْجُدُوا لادَمَ} سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة وكان ذلك مشروعاً في الأمم السالفة ثم نسخ بالسلام {فَسَجَدُوا} جميعاً غير الأرواح العالية امتثالاً للأمر وإنما لم يسجد الملائكة العالون لأنهم لم يؤمروا بالسجود وقد سبق في سورة الحجر {إِلا إِبْلِيسَ} فإنه لم يسجد بل أبى واستكبر وكأنه قيل ما باله لم يسجد فقيل : {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أي : كان أصله جنياً خلق من نار السموم ولم يكن من الملائكة وإنما صح الاستثناء المتصل لأنه أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله : {فَسَجَدُوا} ثم استثنى كما يستثني الواحد منهم استثناء متصلاً كقولك : خرجوا إلا فلانة لامرأة بين الرجال.
قال في كتاب "التكملة" قيل : إن المراد بقوله : {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أي : كان أول الجن لأن الجن منه كما أن آدم من الإنس لأنه أول الإنس.
وقيل : إنه كان بقايا قوم يقال لهم الجن كان الله تعالى قد خلقهم في الأرض قبل آدم فسفكوا الدماء وقاتلتهم الملائكة.
وقيل : إنه كان من قوم خلقهم الله وقال لهم : اسجدوا لآدم فأبوا فبعث الله عليهم ناراً أحرقتهم ثم خلق هؤلاء بعد ذلك فقال لهم : اسجدوا لآدم ففعلوا وأبى إبليس لأنه كان من بقية أولئك الخلق.
قال البغوي : كان اسمه عزازيل بالسريانية وبالعربية الحارث فلما عصى غير اسمه وصورته فقيل : إبليس لأنه أبلس من الرحمة أي : يئس والعياذ بالله تعالى {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي : خرج عن طاعته فالأمر على حقيقته جعل عدم امتثاله للأمر خروجاً عنه ويجوز أن يكون المراد المأمور به وهو السجود والفاء للسببية لا للعطف أي : كونه من الجن سبب فسقه ولو كان ملكاً لم يفسق عن أمر ربه لأن الملك معصوم دون الجن والإنس.
جزء : 5 رقم الصفحة : 255
قال في "التأويلات النجمية" : {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} وخلع قلادة التقليد عن عنقه ليعلم أن الأصيل لا يخطىء وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان كما أن البعرة تشابه المسك وتعارضه في الصورة فلما امتحنا بالنار تبين المقبول من المردود والمبغوض من المودود ، وقال الحافظ قدس سره :
خوش بود اكر محك تجربه آمد بميان
تا سيه روى شود هركه دروغش باشد(5/196)
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ} الهمزة للإنكار والتعجب والفاء للتعقيب أي : عقيب عملكم يا بني آدم بصدور الفسق عن إبليس تتخذونه {وَذُرِّيَّتَهُ} أي : أولاده واتباعه جعلوا ذريته مجازاً.
قال الكاشفي : (كويند بمعنى اتباع وتسميه ايشان بذريت ازقبيل مجاز بود واكثر برانند
255
كه از زذريت نيست) قال في "القاموس" : ذرأ كجعل خلق والشيء كثره ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين انتهى وسيأتي الكلام على هذا {أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى} فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي أي ذلك الاتخاذ منكر غاية الإنكار حقيق بأن يتعجب منه ومعنى الاستبدال منهم من قوله من دونه فإن معناه مجاوزين عني إليهم وهو عين الاستبدال {وَهُمْ} أي : والحال أن إبليس وذريته {لَكُمْ عَدُوُّ} أي : أعداء فحقهم أن تعادوهم لا أن توالوهم شبه بالمصادر للموازنة كالقبول {بِئْسَ لِلظَّـالِمِينَ بَدَلا} من الله إبليس وذريته تمييز.
{مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ} إشارة إلى غناه تعالى عن خلقه ونفي مشاركتهم في الألوهية أي : ما أحضرت إبليس وذريته {خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} لاعتضد بهم في خلقهما وأشاورهم في تدبير أمرهما حيث خلقتهما قبل خلقهم.
وفيه رد لمن يدعي أن الجن يعلمون الغيب لأنهم لم يحضروا خلق السموات والأرض حتى يطلعوا على مغيباتهم {وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} ولا أشهدت بعضهم خلق بعضهم كقوله تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} (النساء : 29) {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ} أي : الشياطين الذي يضلون الناس عن الدين والأصل متخذهم فوضع المظهر موضع المضمر ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالإضلال {عَضُدًا} أعواناً في شأن الخلق وفي شأن من شؤوني حتى يتوهم شركتهم في التولي بناء على الشركة في بعض أحكام الربوبية.
قال في "القاموس" : العضد الناصر والمعين وهم عضدي وأعضادي انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 255
اعلم أن الله تعالى منفرد في الألوهية والكل مخلوق له وقد خلق الملائكة والجن والإنس فباين بينهم في الصورة والأشكال والأحوال.
قال سعيد بن المسيب الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون والجن يتوالدون وفيهم ذكور وإناث ويموتون والشياطين ذكور وإناث يتوالدون ولا يموتون بل يخلدون في الدنيا كما خلد فيها إبليس وإبليس هو أبو الجن وقيل : إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض بيضة فتفلق البيضة عن جماعة من الشياطين : قال الإمام السهيلي في كتاب "التعريف والاعلام" سمي من ولد إبليس في الحديث الأقبص دهامة بن الأقبص وسمي منهم بلزون وهو الموكل بالأسواق وأمهم طرطبة ويقال : بل هي حاضنتهم ذكره النقاش باضت ثلاثين بيضة عشراً في المشرق وعشراً في المغرب وعشراً في وسط الأرض وأنه خرج من كل بيضة جنس من الشياطين كالعفاريت والغيلان والقطاربة والجان وأسماؤهم مختلفة وكلهم عدو لبني آدم بنص هذه الآية إلا من آمن منهم انتهى.
قال الكاشفي : (در تبيان آورده كه ون حق سبحانه وتعالى إبليس را برانداز هلوى او يكى مره است كنيت بدو يافته وديكر لا قيس موسوس صلوات و"ولهان" بالتحريك موسوس طهارتست يعني "الولهان شيطان يولع الناس بكثرة استعمال الماء ويضحكهم عند الوضوء" وإمام أحمد غزالي رحمه الله در اربعين آورده كه شيطان را ند فرزنداست وباتفاق زلنبور ازاولاد او صاحب اسواقست كه بدروغ وكم قروشى وخيانت وسوسه ميكند واعول صاحب ابواب زنانست يعني "صاحب الزنى الذي يأمر به ويزينه" وثبر صاحب مصائب كه بثبور ونوحه وشق جيوب ولطم خدود ودعوى الجاهلية ميفرمايد وميسوط صاحب اراجيفست
256
يعني : "صاحب الكذب الذي يسمع فيلقى الرجل فيخبر بالخبر فيذهب الرجل إلى القوم فيقول لهم : قد رأيت رجلاً أعرف وجهه ما أدري ما اسمه حدثني بكذا وكذا" وداسم باخورنده طعام كه بسم الله نكفته باشد شركت ميكند).
وفي آكام المرجان داسم هو الذي يدخل مع الرجل وأهله يريه العيب فيهم ويغضبه عليهم (ومدهيش موكل علما است كه ايشانرا براهواء مختلفه ميدارد).
ثم في الآيتين إشارات :
منها ما يتعلق بالله تعالى أراد أن يظهر صفة لطفه وصفة قهره وكمال قدرته وحكمته فأظهر صفة لطفه بآدم إذ خلقه من صلصال من حمأ مسنون وأمر ملائكته الذين خلقوا من النور بسجوده من كمال لطفه وجوده وأظهر صفة قهره بإبليس إذ أمره بسجوده لآدم بعد أن كان رئيس الملائكة ومقدمهم ومعلمهم وأشدهم اجتهاداً في العبادة حتى لم يبق في سبع السموات ولا في سبع الأرضين موضع شبر إلا وقد سجدتعالى عليه سجدة حتى امتلأ من العجب بنفسه حتى لم ير أحداً فأبى أن يسجد لآدم استكباراً وقال : أنا خير منه فلعنه الله وطرده إظهاراً للقهر وأظهر كمال قدرته وحكمته بأن بلغ من غاية القدرة والحكمة من خلق من قبضة تراب ظلماني كثيف سفلي إلى مرتبة يسجد له جميع الملائكة المقربين الذين خلقوا من نور علوي لطيف روحاني.
جزء : 5 رقم الصفحة : 255
(5/197)
ومنها ما يتعلق بآدم عليه السلام وهو أنه تعالى لما أراد أن يجعله خليفة في الأرض أودع في طينته عند تخميرها بيده أربعين صباحاً سر الخلافة وهو استعداد قبول الفيض الإلهي بلا واسطة وقد اختصه الله وذريته بهذه الكرامة بقوله : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} (الإسراء : 70) من بين سائر المخلوقات كما أخبر عليه السلام عن كشف قناع هذا السر بقوله : "إن الله خلق آدم فتجلى فيه" ولهذه الكرامة صار مسجوداً للملائكة المقربين ، قال الحافظ قدس سره :
فرشته عشق نداندكه يست قصه مخوان
بخواه جام وكلابى بخاك آدم ريز
ومنها ما يتعلق بالملائكة وهو أنهم لما خلقوا من النور الروحاني العلوي كان من طبعهم الانقياد لأوامر الله تعالى والطاعة والعبودية فلما أمروا بسجود آدم وامتحنوا به وذلك غاية الامتحان لأن السجود أعلى مراتب العبودية والتواضعفإذا امتحن أحد أن يسجد لغير الله فذلك غاية الامتحان للامتثال فلم يتلعثموا في ذلك وسجدوا لآدم بالطوع والرغبة من غير كره وإباء امتثالاً وانقياداً لأوامر الله كما قال : {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم : 6).
ومنها ما يتعلق بإبليس وهو أنه لما خلق للضلالة والغواية والإضلال والإغواء خلق من النار وطبعها الاستعلاء والاستكبار وإن نظمه الله في سلك الملائكة منذ خلقه وكساه كسوة الملائكة وهو قد تشبه بأفعالهم تقليداً لا تحقيقاً حتى عد من جملتهم وذكر في زمرتهم بل زاد عليهم في الاجتهاد والاعتباد بالاعتقاد فاتخذوه رئيساً ومعلماً لما رأوا منه اشتداده في الاجتهاد بالإراءة دون الإرادة فلما امتحن بسجود آدم في جملة الملائكة هبت نكباء النكبة وانخلع عنه كسوة أهل الرغبة والرهبة ليميز الله الخبيث من الطيب فطاشت عنه تلك المخادعات وتلاشت منه تلك المبادرات وعاد الميشوم إلى طبعه وقد تبين الرشد من غيه فسجد الملائكة وأبى إبليس واستكبر من غيه وظهر أنه كان من الجن وأنه طبع كافراً ، قال الحافظ قدس سره :
زاهد ايمن مشو از بازى غيرت زنهار
كه ره از صومه ثادير مغان اين همه نيست
257
ومنها أن في أولاد آدم من هو في صورة آدم لكنه في صفة إبليس وأنهم شياطين الإنس وإماراتهم أنهم يتخذون إبليس وذريته أولياء من دون الله فيطيعون الشيطان ولا يطيعون الرحمن ويتبعون ذرية الشيطان ولا يتبعون ذرية آدم من الأنبياء والأولياء ولا يفرقون بين الأولياء والأعداء فبجهلهم يظلمون على أنفسهم ويبدلون الله وهو وليهم بالشياطين وهم لهم عدو وأولياء الله تعالى هم الذين لا يبدلون الله تعالى بما سواه ويتخذون ما سواه عدواً كما قال إبراهيم خليل الله {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 77) لأنه رأى صحة الخلة مع الله في صحة العداوة مع ما سواه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 255
ومنها : أن إخباره تعالى بأنه ما أشهد الشياطين خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم دليل على أنه يشهد بعض أوليائه على ما لم يشهد أعداءه فيبصر بنوره الأزلي ابتداء تعلق قدرته ببعض الأشياء المعدومة وكيفية إخراجها من العدم إلى الوجود وأما قول أهل النظر لا يبحث عن كيفية وجود الباري تعالى وكيفية تعلق القدرة بالمعدومات وكيفية العذاب بعد الموت ونحو ذلك فلا ينافيه إذ المستبعد عند العقل الجزئي مستقرب عند الكشف الكلي وكلامنا مع أهل الكشف لا مع غيره ، قال الصائب :
سخن عشق باخرد كفتن
بررك مرده نيشتر زدنست
وفي "المثنوي" :
اى كه برد عقلي هديه با اله
عقل اينجا كمترست ازخاك راه
جزء : 5 رقم الصفحة : 255
{وَيَوْمَ يَقُولُ} أي : يوم يقول الله للكفار توبيخاً وتعجيزاً وهو يوم القيامة وقال بعضهم : يقول على ألسنة الملائكة : يقول الفقير : الأظهر هو الأول لأنه قد ثبت أن الله تعالى يتجلى يوم القيامة للخلق مسلمهم وكافرهم بصور شتى حتى يرونه بحسب ما اعتقدوه في هذه الدار فلا يبعد كلامه معهم أيضاً لأنه كلام بالعيب والتوبيخ لا بالرضى والتشريف كما كلم إبليس بعد اللعن والطرد على ما سبق في سورة الحجر ونحوها {نَادُوا شُرَكَآءِىَ} أضافهم إليه على زعمهم تهكماً بهم وتقريعاً لهم {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} ادعيتم أنهم شفعاؤكم ليشفعوا لكم والمراد بهم كل من عبد من دونه تعالى {فَدَعَوْهُمْ} أي : نادوهم للإعانة ذكر كيفية دعوتهم في آية أخرى {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا} (إبراهيم : 21) {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} فلم يغيثوهم أي : لم يدفعوا عنهم ضراً ولا أوصلوا إليهم نفعاً إذ لا إمكان لذلك فهو لا ينافي إجابتهم صورة ولفظاً كما قال حكاية عن الأصنام أنها تقول :
جزء : 5 رقم الصفحة : 258
(5/198)
{مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} (القصص : 63).
وفيه إشارة إلى أن امتثال أوامره ونواهيه ينفع العبد إذا كان في الدنيا قبل موته وبثمره في الآخرة فأما إذا كان في الآخرة فلا ينفعه الإيمان والأعمال فإن قوله : {نَادُوا شُرَكَآءِىَ} أمر من الله تعالى وقد امتثلوا أمره بقوله : {فَدَعَوْهُمْ} فلم ينفعهم الامتثال لأن الشركاء {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم} بين الداعين والمدعوين {مَّوْبِقًا} اسم مكان أو مصدر من وبق وبوقاً كوثب وثوباً أو وبق وبقا كفرح فرحاً إذا هلك مهلكاً يشتركون فيه وهو النار أو عداوة هي في الشدة نفس الهلاك.
وقال الفرآء : {وَجَعَلْنَا} تواصلكم في الدنيا هلاكاً في الآخرة فالبين على هذا القول التواصل كقوله تعالى : {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} (الأنعام : 94) على قراءة من قرأ بالرفع ومفعول
258
أول لجعلنا وعلى الوجه الأول مفعول ثان.
قال في "القاموس" : الموبق كمجلس المهلك وواد في جهنم وكل شيء حال بين الشيئين انتهى فالمعنى على الثاني بالفارسية (وادى ازوادهاى دوزخ يدا كنم ميان ايشان كه مهلكه عظيم باشد وهمه ايشانرا دران معذب سازيم).
يقول الفقير الظاهر أن المعنى على الثالث أي : جعلنا بينهم برزخاً يفصل أحدهما على الآخر فلا يشفع مثل الملائكة وعيسى وعزير وتبرأ غيرهم وهو لا ينافي الاجتماع.
والاشتراك في النار بمن قضي له الدخول كما لا يخفى.
{وَرَءَا الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} حين أمروا بالسوق إليها.
قال الكاشفي : (وبه بيند مشركان آتش دوزخ را از هل ساله را) {فَظَنُّوا} فأيقنوا {أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا} مخالطوها واقعون فيها فإن المخالطة إذا قويت سميت مواقعة.
قال الإمام : والأقرب أنهم يرون النار من بعيد فيظنون أنهم مواقعوها مع الرؤية من غير مهلة لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها كقوله تعالى : {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (الفرقان : 12) والمكان البعيد مسيرة خمسمائة سنة {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} انصرافاً أو مكاناً ينصرفون إليه.
قال الكاشفي : (مصرفا مكانى باز كردند بد آن يا كريز كاهى) لأنها أحاطت بهم من كل جانب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 258
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي : أقسم قسماً لقد كررنا وأدرنا على وجوه كثيرة من النظم {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَـاذَا} لمصلحتهم ومنفعتهم {مِن كُلِّ مَثَلٍ} كمثل الرجلين المذكورين ومثل الحياة الدنيا ليتذكروا ويتعظوا أو من كل معنى داع إلى الإيمان هو كالمثل في غرابته وحسنه.
قال الكاشفي : (ازهر مثل بران محتاجند از قصص كذشته كه سبب عبرت كردد ودلائل قدرت كامله كه موجب ازدياد بصيرت شود) :
حق تعالى بمحق فضل عميم
در كتاب كريم وحكم قديم
آنه مر جمله را بكار آيد
كفته است آننانكه مى آيد
{وَكَانَ الانسَـانُ} جنس الإنسان بحسب جبلته {أَكْثَرَ شَىءٍ جَدَلا} جدلاً تمييز أي : أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل كالجن والملك أي : جدله أكثر من جدل كل مجادل وهو ههنا شدة الخصومة بالباطل لاقتضاء خصوصية المقام وإلا فالجدل لا يلزم أن يكون بالباطل قال تعالى : {وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} وهو من الجدل الذي هو الفتل والمجادلة الملاواة لأن كلاً من المجادلين يلتوي على صاحبه وفي الحديث "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" رواه أبو أمامة كما في "تفسير أبي الليث".
قال في "التأويلات النجمية" من طبيعة الإنسان المجادلة والمخاصمة وبها يقطعون الطريق على أنفسهم.
فتارة مع الأنبياء يجادلون لا يقبلون بالنبوة والرسالة حتى يقاتلونهم.
وتارة يجادلون في الكتب المنزلة ويقولون ما أنزل الله على بشر من شيء.
وتارة يجادلون في محاكماتها.
وتارة يجادلون في متشابهاتها.
وتارة يجادلون في ناسمها ومنسوخها.
وتارة يجادلون في تفسيرها وتأويلها.
وتارة يجادلون في أسباب نزولها.
وتارة يجادلون في قراءتها.
وتارة يجادلون في قدمها وحدوثها على هذا حتى لم يفرغوا من المجادلة إلى المجاهدة ومن المخاصمة إلى المعاملة ومن المنازعة إلى المطاوعة ومن المناظرة إلى المواصلة فلهذا قال تعالى : {وَكَانَ الانسَـانُ أَكْثَرَ شَىءٍ جَدَلا} ومن هذا عالجهم بقوله : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام : 91) الآية ومن كلمات مولانا قدس سره :
259
ماراه ازين قصه كه كاو آمد وخر رفت
جزء : 5 رقم الصفحة : 258
اين وقت عزيزست ازين عربده بازآى
(5/199)
فعلى العاقل أن يشتغل بنفسه ويترك المراء والجدل فإن مرجعه هو النقيض والتمزيق للغير وهو من مقتضى السبعية وفي الحديث : "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقاً" فإذا لزم ترك الجدال وهو محق فكيف وهو مبطل أعاذنا الله تعالى وإياكم منه بفضله وجعلنا من المتكلمين بالخير والمعرضين عن لغو الغير قال تعالى : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان : 63) الآية وقال : {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلَـامًا} (الفرقان : 63).
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} أي : لم يمنع أهل مكة من {أَن يُؤْمِنُوا} بالله تعالى ويترك الشرك الذي هم عليه {إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى} وهو الرسول الكريم الداعي والقرآن العظيم الهادي من أن {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} من أنواع الذنوب {إِلا} انتظار {أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاوَّلِينَ} أي : سنة الله وعادته في الأمم الماضية وهو الاستئصال لما كان تعنتهم مفضياً إليه جعلوا كأنهم منتظرون له {أَوْ} انتظار أن {يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ} عذاب الآخرة حال كونه {قُبُلا} أنواعاً جمع قبيل أو عياناً لهم أي : معايناً.
وبالفارسية (روى باروى).
قال في "الجلالين" يعني القتل يوم بدر.
وقال في "الأسئلة المقحمة" : كيف وعدهم في هذه الآية بإحدى العقوبتين إن لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بمن لم يؤمنوا منهم الجواب إنما وعدهم بذلك إن تركوا الإيمان كلهم فقد آمن أكثرهم يوم فتح مكة.
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ} إلى الأمم ملتبسين بحال من الأحوال {إِلا مُبَشِّرِينَ} للمؤمنين والمطيعين بالثواب والدرجات {وَمُنذِرِينَ} للكافرين والعاصين بالعقاب والدركات فإن طريق الوصول إلى الأول والحذر عن الثاني مما لا يستقل به العقل فكان من لطف الله ورحمته أن أرسل الرسل لبيان ذلك.
يقول الفقير : إشارة إلى أن العلماء الذين هم بمنزلة أنبياء بني إسرائيل رحمة الله من الله تعالى أيضاً إذ ببيانهم يضمحل ظلم الشبه وينحل عقد الشكوك وبإرشادهم يحصل كمال الاهتداء ويتم أمر السلوك {وَيُجَـادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي : يجادلون الرسل المبشرين والمنذرين {بِالْبَـاطِلِ} (به بيهوده) حيث يقولون : ما أنتم إلا بشر مثلنا ولو شاء الله لأنزل ملائكة ويقترحون آيات بعد ظهور المعجزات تعنتاً {لِيُدْحِضُوا} ليزيلوا {بِهِ} بالجدال {الْحَقُّ} الذي مع الرسل عن مقره ومركزه ويبطلوه من ادحاض القدم وهو إزلاقها عن موطنها والدحض الزلق.
ومن بلاغات الزمخشري حجج الموحدين لا تدحض بشبه المشبه كيف يضع ما رفع إبراهيم أبرهه ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 258
هركه بر شمع خدا آرد فو
شمع كى ميرد بسوزد وزاو
{ذَالِكَ جَزَآؤُهُمْ} الدالة على الوحدة والقدرة ونحوهما {وَمَآ أُنْذِرُوا} خوفوا به من العذاب {هُزُوًا} سخرية يعني موضع استهزاء فيكون من باب الوصف بالمصدر مبالغة.
{وَمَنْ أَظْلَمُ} استفهام على سبيل التوبيخ أي : من أشد ظلماً {مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ} أي : وعظ بالقرآن الكريم {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} لم يتدبرها ولم يتفكرها {وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} من الكفر والمعاصي ولم يتفكر في عاقبتها ولم ينظر في أن المسيىء والمحسن لابدلهما من جزاء ولما كان الإنسان يباشر أكثر أعماله بيديه غلب الأعمال باليدين على الأعمال التي تباشر
260
بغيرهما حتى قيل في عمل القلب هو مما عملت يداك وحتى قيل لمن لا يدين له يداك.
قال بعضهم : أحق الناس تسمية بالظلم من يرى الآيات فلا يعتبر بها ويرى طريق الخير فيعرض عنها ويرى مواقع الشر فيتبعها ولا يجتنب عنها {إِنَّا جَعَلْنَا} إهمالهم كما في "تفسير الشيخ" {عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية جمع كنان وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم {أَن يَفْقَهُوهُ} كراهة أن يقفوا على كنه الآيات وتوحيد الضمير باعتبار القرآن جعلنا {وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا} ثقلاً وصمماً يمنعهم عن استماعه.
وفيه إشارة إلى أن أهل اللغو والهذيان لا يصيخون إلى القرآن ، قال الكمال الخجندي قدس سره :
دل از شنيدن قرآن بكير درهمه وقت
و باطلان ز كلام حقت ملولى يست
(5/200)
{وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى} أي : إلى طريق الفلاح وهو دين الإسلام {فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} أي : فلن يكون منهم اهتداء البتة مدة التكليف كلها لأنه محال منهم.
قال الكاشفي : (مراد جمعي اند از كفار مكه كه علم حق بعدم ايمان ايشان متعلق بود) وإن جواب عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلّم وجزاء للشرط أما كونه جواباً فلان قوله : {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} في معنى لا تدعهم إلى الهدى ثم نزل حرصه عليه السلام على إسلامهم منزلة قوله مالي لا أدعوهم فأجيب بقوله : {وَإِن تَدْعُهُمْ} الآية وأما كونه جزاء فلأنه على انتفاء الاهتداء لدعوة الرسول على معنى أنهم جعلوا ما هو سبب لوجود الاهتداء سبباً لانتفائه بالإعراض عن دعوته.
جزء : 5 رقم الصفحة : 258
{وَرَبُّكَ} مبتدأ خبره قوله {الْغَفُورُ} البليغ في المغفرة وهي صيانة العبد عما استحقه من العقاب للتجاوز عن ذنوبه من الغفر وهو إلباس الشيء ما يصونه من الدنس {ذُو الرَّحْمَةِ} الموصوف بالرحمة وهي الأنعام على الخلق خبر بعد خبر وإيراد المغفرة على صيغة المبالغة دون الرحمة للتنبيه على كثرة الذنوب وأن المغفرة ترك المضار وهو سبحانه قادر على ترك ما لا يتناهى من العذاب وأما الرحمة فهي فعل وإيجاد ولا يدخل تحت الوجود إلا ما يتناهى وتقديم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية {لَوْ يُؤَاخِذُهُم} لو يريد مؤاخذتهم {بِمَا كَسَبُوا} من الذنوب {لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} في الدنيا من غير إمهال لاستيجاب أعمالهم لذلك ولكنه لم يعجل ولم يؤاخذ بغتة {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} بالفارسية (زمان وعد) فهو اسم زمان والمراد يوم بدر أو يوم القيامة فيعذبون فيه و{لَّن يَجِدُوا} ألبتة حين مجيىء الموعد {مِن دُونِهِ} من غيره تعالى {مَوْاـاِلا} منجي وملجأ يقال وأل أي : نجا ووأل إليه أي : لجأ إليه وقيل من دون العذاب.
قال سعدي المفتي : هو أولى وفيه دلالة على أبلغ وجه على أن لا ملجأ لهم ولا منجى فإن من يكون ملجأه العذاب كيف يرى وجه الخلاص والنجاة انتهى.
ويجوز أن يكون المعنى لن يجدوا عند حلول الموعد موئلاً بالفارسية (ناهى وكريز كاهى) وهو اللائح والله أعلم.
{وَتِلْكَ الْقُرَى} أي : قرى عاد وثمود وأضرابهما وهي مبتدأ على تقدير المضاف أي : وأهل تلك القرى خبره قوله تعالى : {أَهْلَكْنَـاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} أي : وقت ظلمهم مثل ظلم أهل مكة بالتكذيب والجدال وأنواع المعاصي ولما إما حرف كما قال ابن عصفور وإما ظرف استعمل للتعليل وليس المراد به الوقت المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمان من ابتداء الظلم
261
إلى آخره {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم} أي : عيناً لهلاكهم لأن المهلك بفتح اللام وكسرها الهلاك {مَّوْعِدًا} ممتداً لا يتأخرون عنه (س را قريش عبرت نكيرند وازشرك ونافرمانى دست باز نمى دارند "السعيد من وعظ بغيره".
ورشيد الدين وطواط در ترجمه اين كلام سعادت فرموده) :
جزء : 5 رقم الصفحة : 261
نيكبخت آن كسى بودكه دلش
آنه نيكو تراست بذيرد
ديكرانرا وند داده شود
او ازان ند بهره بر كيرد
وفي الآيات إشارات :
منها : أن أسباب الهداية وإن اجتمعت بالكلية لا يهتدي بها الناس ولا يؤمنون إلا بجذبات العنايات كما قال عليه السلام : "لولا الله ما اهتدينا ولا تصدفنا ولا صلينا" قال المولى الجامي :
سالكان بى كشش دوست بجايى نرسند
سالها كره درين را تك ووى كنند
فالاهتداء بهداية الله تعالى وبالسيف كما قال عليه السلام : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" وكما قال : "أنا نبي السيف ونبي الملحمة".
ومنها أن أهل الباطل يرون الحق باطلاً والباطل حقاً وذلك من عمي قلوبهم وسخافة عقولهم فيجادلون الأنبياء جهلاً منهم وضلالة ويسعون في إبطال الحق وأما أهل الحق فينقادون للأنبياء والأولياء ويستسلمون لهم من غير عناد وجدال وذلك لأنهم ينظرون بنور الله فيرون الحق حقاً ويتبعونه ويرون الباطل باطلاً ويجتنبونه لا جرم أنهم يتخذون آيات الله جداً لا هزواً فيأتمرون بما أمروا به وينتهون عما نهوا عنه.
(5/201)
ومنها : أن رحمة الله تعالى في الدنيا تعم المؤمن والكافر لأنه لا يؤاخذهم بما كسبوا في الدنيا بقطع الرزق ونحوه وتخص يوم القيامة بالمؤمن والعذاب يخص الكافر كقوله تعالى : {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَـاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} أي : إنما أهلكنا أهل تلك القرى بعد أن كان من سنتنا أن تعم رحمتنا المؤمن والكافر في الدنيا لأنهم ضموا مع كفرهم الظلم ومن سنتنا أن لا نمهل الظالم ولا نهمله كما قال عليه السلام : "الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم" وقال تعالى : {وَكَذَالِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّـالِمِينَ بَعْضَا} وذلك لأن همم المظلومين المظطرين مؤثرة ودعاؤهم مستجاب قال عليه السلام : "اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" ومن هذا المقام يعرف سر قوله عليه السلام : "ولدت في زمن الملك العادل" فإن إطلاق العادل على أنوشروان بالنسبة إلى انتفاء الظلم الآفاقي عنه وقد كان في نفسه مجوسياً والشرك ظلم عظيم ، قال الشيخ سعدي :
مهازورمندى مكن بركهان
كه بريك نمط مى نماند جهان
ريشانى خاطر داد خواه
بر اندازد ازمملكت بادشاه
خنك روز محشرتن داد كر
كه در سايه عرش دارد مقر
جزء : 5 رقم الصفحة : 261
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى} :
ـ روي ـ أن موسى عليه السلام لما ظهر على مصر مع بني إسرائيل بعد هلاك القبط أمره الله أن يذكر قومه أنعام الله عليهم فخطب خطبة بليغة رقت بها القلوب وذرفت العيون فقال واحد من علماء بني إسرائيل : يا موسى من أعلم؟ قال : أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه تعالى فأوحى إليه بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر وكان في أيام
262
أفريدون الملك العادل العاقل قبل موسى وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى وهو قد بعث في أيام كشتاسف بن لهراسب كما قاله ابن الأثير في "تاريخه" فقال : يا رب أين أطلبه وكيف يتيسر لي الظفر به والاجتماع معه قال : اطلبه على ساحل البحر عند الصخرة وخذ حوتاً مملوحاً في مكتل يكون زاداً لك فحيث فقدته أي : غاب عنك فهو هناك فأخذ حوتاً فجعله في مكتل فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني.
والمعنى اذكر وقت قول موسى بن عمران لما فيه من العبرة وزعم أهل التوراة أن موسى هذا هو موسى بن ميشا بن يوسف النبي عليه السلام وأنه كان نبياً قبل موسى بن عمران لاستبعادهم أن يكون كليم الله المختص بالمعجزات الباهرة مبعوثاً للتعلم والاستفادة ممن هو دونه فلهذا لا يبعد عن العالم الكامل أن يجهل بعض الأشياء فالفاضل قد يكون مفضولاً من وجه بل المراد منه صاحب التوراة وإطلاق هذا الاسم يدل عليه لأنه لو أراد غيره لقيده كما يقال أبو حنيفة الدينوري تمييزاً عن أبي حنيفة الإمام وهو يوشع بن نون بن افراييم بن يوسف وهو ابن أخت موسى وكان من أكبر أصحابه ولم يزل معه إلى أن مات وخلفه في شريعته وكان من أعظم بني إسرائيل بعد موسى سمي فتاه إذ كان يخدمه ويتبعه ويتعلم منه ويسمى الخادم والتلميذ فتى وإن كان شيخاً وإليه يشير القول المشهور : "تعلم يا فتى فالجهل عار" وهو عبد حكمي كما قال شعبة : من كتبت عنه أربعة أحاديث فأنا عبده إلى أن أموت وقيل لعبده وإنما قال لفتاه تعليماً للأدب قال عليه السلام : "ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي" قال أبو يوسف : من قال أنا فتى فلان كان إقراراً منه بالرق.
يقول الفقير المشهور وهو الوجه الأول وتأبى جلالة هذا السفر إلا أن يكون الصاحب من أولي الخطر ونظيره أن نبينا صلى الله عليه وسلّم لما أراد الهجرة لم يرض برفاقته في سفره إلا الصديق رضي الله عنه لكونه أعز أصحابه وخليفته بعده كما أن يوشع صار خليفة موسى بعده
جزء : 5 رقم الصفحة : 262
(5/202)
{لا أَبْرَحُ} من برح الناقص كزال يزال أي : لا أزال أسير فحذف الخبر اعتماداً على قرينة الحال إذ كان ذلك عند التوجه إلى السفر ويدل عليه أيضاً ذكر السفر في قوله : {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا} فقول سعدي المفتي : لا دلالة في نظم القرآن على هذا ولعله علم من الأثر أو من أخبار المؤرخين ذهول عما بعد الآية {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} هو ملتقى بحر فارس والروم مما يلي المشرق وهو المكان الذي وعد الله موسى بلقاء الخضر فيه.
قال سعدي المفتي بحرا فارس والروم إنما يلتقيان في المحيط على ما سيجيء في سورة الرحمن أعني المحيط الغربي فإن الالتقاء هناك كما لا يخفى على من يعرف وضع البحار فالمراد بملتقاهما هنا موضع يقرب التقاؤهما فيه مما يلي المشرق ويعطي لما يقرب من الشيء حكم ذلك الشيء ويعبر به عنه انتهى.
وفيه إشارة : إلى أن موسى والخضر عليهما السلام بحران لكثرة علمهما أحدهما وهو موسى بحر الظاهر والباطن والغالب عليه الظاهر على الشريعة والآخر وهو الخضر بحرهما والغالب عليه الباطن أي : الحقيقة إذ تتفاوت الأنبياء عليهم اسلام بحسب غلبة الجمال أو الجلال على نشأتهم وسيأتي التحقيق إن شاء الله تعالى فملتقاهما إذا المكان الذي يتفق اجتماعهما فيه لا موضع معين {أَوْ أَمْضِىَ} من مضى في الأمر بمعنى نفذ وأمضاه أنفذه
263
{حُقُبًا} هو بضم القاف وسكونه ثمانون سنة.
والمعنى أسير زماناً طويلاً أتيقن معه فوات المطلب يعني حتى يقع إما بلوغ المجمع أو مضي الحقب.
وفي بعض التفاسير : أسيرُ دهراً طويلاً حتى أجد هذا العالم.
قال الكاشفي : (موسى فرمود كه مدام ميروم تابرسم بمنزل او ياميروم زمان دراز كه هشتاد سال باشد يعني بهي وجهي روى ازسفر نمى تابم تا اورا بيابم) :
دست از طلب ندارم تاكام من بر آيد†
وفي "المثنوي" :
كر كران وكر شتابنده بود
آنكه جو ينده است يا بنده بود
در طلب زن دائماً توهردو دست
كه طلب در راه نيكو رهبرست
قال الإمام في تفسيره : هذا إخبار من موسى بأنه وطن نفسه على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم في السفر لأجل طلب العلم وذلك تنبيه على أن المتعلم لو سار من المشرق إلى المغرب لطلب مسألة واحدة لحق له ذلك انتهى.
قال في "روضة الخطيب" رجل جاء من المدينة إلى مصر لحديث واحد ولذا لم يعد أحد كاملاً إلا بعد رحلته ولا وصل مقصده إلا بعد هجرته.
وقالوا : كل من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الاتباع ويكشف عن قلبه القناع فهو في هذا الشأن لقيط لا أب له دعى لا نسب له انتهى.
ومن كلام أبي يزيد البسطامي قدس سره : من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان ، وفي "المثنوي" :
جزء : 5 رقم الصفحة : 262
ير را بكزين كه بى ير اين سفر
هست بس رآفت وخوف وخطر
ون كرفتى ير هين تسليم شو
همو موسى زير حكم خضر رو
قال في "التأويلات النجمية" : في الآية إشارات :
منها : أن شرط المسافر أن يطلب الرفيق ثم يأخذ الطريق.
ومنها : أن من شرط الرفيقين أن يكون أحدهما أميراً والثاني مأموراً له ومتابعاً.
ومنها : أن يعلم الرفيق عزيمته ومقصده ويخبر عن مدة مكثه في سفره ليكون الرفيق واقفاً على أحواله فإن كان موافقاً له يرافقه في ذلك.
ومنها : أن من شرط الطالب الصادق أن يكون نيته في طلب شيخ يقتدي به أن لا يبرح حتى يبلغ مقصوده ويظفر به فإن طلب الشيخ طلب الحق تعالى على الحقيقة انتهى كلامه قدس سره.
{فَلَمَّا بَلَغَا} قال الكاشفي : (موسى عليه السلام فرمودكه اي يوشع توبامن موافقت نماى در طلب اين بنده صالح يوشع فرمود آرى من بتو موافقم ورفاقت تو مغتنم مى شمارم :
خوشست آوار كى آنرا كه همراهى نين باشد†
س يوشع عليه السلام تهى ندان وماهى برداشته باتفاق موسى روانه شد) والفاء فصيحة أي : فذهب موسى ويوشع يمشيان فلما بلغا {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} بينهما ظرف أضيف له اتساعاً فالمعنى مكاناً يكاد يلتقي وسط ما امتد من البحرين طولاً.
قال الكاشفي : (بمجمع كه ميان دو درياست آنجا برصحره بركنار شمه حيات بود نشستند موسى عليه السلام درخواب رفته بود ويوشع دران شمه وضو ساخت وقطره برآن ماهى بريان كيد في الحال زنده شد روى بدريا نهاد ويوشع متحيرشد وموسى ازخواب در آمده تفقد حال
264
(5/203)
يوشع وماهى ثنموده روى براه نهاد وازغايت تعجيل سفر) {نَسِيَا حُوتَهُمَا} الذي جعل فقدانه أمارة وجدان المطلوب أي : نسي موسى تذكر الحوت لصاحبه وصاحبه نسي الأخبار بأمره فلا يخالفه ما في حديث الصحيحين من إسناد النسيان إلى صاحبه.
وفي "الأسئلة المقحمة" : كانا جميعاً قد زوداه لسفرهما فجاز إضافة ذلك إليهما وإن كان الناسي أحدهما وهو يوشع يقال : خرج القوم وحملوا معهم الزاد وإنما حمله بعضهم {فَاتَّخَذَ} الحوت.
إن قلت كيف أتى بالفاء وذهاب الحوت مقدم على النسيان؟ قلت : الفاء فصيحة ولا يلزم أن يكون المعطوف عليه الذي يفصح عنه الفاء معطوفاً على نسيا بالفاء بل بالواو والتقدير وحيى الحوت فسقط في البحر فاتخذ {سَبِيلَهُ} أي : طريق الحوت {فِى الْبَحْرِ سَرَبًا} مفعول ثان لاتخذ وفي البحر حال منه أي : مسلكاً كالسرب وهو بيت في الأرض وثقب تحتها وهو خلاف النفق لأنه إذا لم يكن له منفذ يقال له سرب وإذا كان له منفذ يقال له نفق وذلك أن الله تعالى أمسك جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه وهو ما عقد من أعلى البناء وبقي ما تحته خالياً يعني أنه إنجاب الماء عن مسلك الحوت فصار كوة لم تلتئم هكذا فسر النبي صلى الله عليه وسلّم هذا المقام كما في حديث الصحيحين.
وبالفارسية (سربا مثل سردابه كه دران توان رفت هرجا كه ما هى بريان ميرفت آب بالاى أو مرتفع مى ايستاد در زمين خشك ميكشت) فلا وجه لقول بعض المفسرين كالقاضي ومن يتبعه سرباً أي : مسلكاً يسلك فيه ويذهب من قوله : {وَسَارِبُا بِالنَّهَارِ} وهو الذاهب على وجهه في الأرض.
جزء : 5 رقم الصفحة : 262
{فَلَمَّا جَاوَزَا} أي : مجمع البحرين الذي جعل موعداً للملاقاة أي : انطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان الغد ألقي على موسى الجوع ليتذكر الحوت ويرجع إلى مطلبه فعند ذلك {قَالَ لِفَتَـاـاهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا} ما نتغدى به وهو الحوت كما ينبىء عنه الجواب والغداء بالفتح هو ما يعد للأكل أول النهار والعشاء ما يعدله آخره {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـاذَا} أي : بالله لقد لقينا من هذا السفر الذي سرناه بعد مجاوزة مجمع البحرين {نَصَبًا} تعباً وإعياء.
قال النووي : إنما لحقه النَّصَب والجوع ليطلب موسى الغداء فيتذكر به يوشع الحوت وفي الحديث "لم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره به".
وفي "الأسئلة المقحمة" : كيف جاع موسى ونصب في سفرته هذه وحين خرج إلى الميقات ثلاثين يوماً لم يجع ولم ينصب قيل لأن هذا السفر كان سفر تأديب وطلب علم واحتمال مشقة وذلك السفر كان إلى الله تعالى انتهى والجملة في محل التعليل للأمر بإيتاء الغداء إما باعتبار النصب إنما يعتري بسبب الضعف الناشيء عن الجوع وإما باعتبار ما في أثناء التغدي من استراحة ما كما قال الكاشفي : (بيار طعام اشت مارا تا بخوريم كه كرسته شديم ودمى بر آساييم ون يوشع سفره يش آورد وقصه ما هي بيادش آمد).
جزء : 5 رقم الصفحة : 262
{قَالَ} فتاه {أَرَءَيْتَ} (خبردارى).
وقال ابن ملك هو يجيىء بمعنى أخبرني وهنا بمعنى التعجب ومفعوله محذوف وذلك المحذوف عامل في قوله : {إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ} يعني عجبت ما أصابني حين وصلنا إلى الصخرة ونزلنا عندها {فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ} أن أذكر لك أمره وما شاهدت منه من الأمور العجيبة ثم اعتذر بانساء الشيطان إياه لأنه لو ذكر ذلك لموسى ما جاوز ذلك المكان وما ناله النصب فقال :
265
(5/204)
{وَمَآ أَنسَـاـانِيهُ إِلا الشَّيْطَـانُ} بوسوسته الشاغلة عن ذلك {أَنْ أَذْكُرَهُ} بدل اشتمال من الضمير أي : وما أنساني أن أذكره لك {وَاتَّخَذَ سَبِيلَه فِى الْبَحْرِ} سبيلاً {عَجَبًا} وهو كون مسلكه كالطاق والسرب فعجباً ثاني مفعولي اتخذ والظرف حال من أولهما أو ثانيهما وهو بيان لطرف من أمر الحوت منبيء عن طرف آخر وما بينهما اعتراض قدم عليه للاعتناء بالاعتذار كأنه كقيل حيى واضطرب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجباً يعني : أن قوله وما {أَنسَـاـانِيهُ} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه سببه ما يجري مجرى العذر والعلة لوقوع ذلك النسيان.
قال الإمام : فإن قيل انقلاب السمكة المالحة حية حالة عجيبة جعل الله تعالى حصول هذه الحالة العجيبة دليلاً على الوصول إلى المطلوب فكيف يعقل حصول النسيان في هذا المعنى أجاب العلماء عنه بأن يوشع كان قد شاهد المعجزات الباهرة من موسى كثيراً فلم يبق لهذه المعجزة عنده وقع عظيم فجاز حصول النسيان وعندي فيه جواب آخر وهو أن موسى لما استعظم علم نفسه أزال الله تعالى عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيهاً لموسى على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله تعالى وحفظه على القلب الخاطر انتهى.
وقال بعضهم : لعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وانجذاب شراشره إلى جناب القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة وهي حياة السمكة المملوحة المأكول بعضها وقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه وإنما نسبه إلى الشيطان هضماً لنفسه أي : لمقتضى نفسه من الاغترار والافتخار بأمثاله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 265
وفي الآيات إشارات :
منها : أن الطالب الصادق إذا قصد خدمة شيخ كامل يسلكه طريق الحق يلزمه مرافقة رفيق التوفيق ومعه حوت قلبه الميت بالشهوات النفسانية المملح بملح حب الدنيا وزينتها ومجمع البحرين هو الولاية بين الطالب وبين الشيخ ولم يظفر المريد بصحبة الشيخ ما لم يصل إلى مجمع ولايته فافهم جدا وعند مجمع الولاية عين الحياة الحقيقية فبأول قطرة من تلك العين تقع على حوت قلب المريد يحيى ويتخذ سبيله في البحر عن الولاية سرباً.
ومنها : أن الله يحول بين المرء وقلبه فينسى المريد قلبه حين فقده وينسى القلب المريد إذا وجد الشيخ ، وفي "المثنوي" :
اي خنك آن مرده كزخودرسته شد
دروجود زنده يوشته شد
واى آن زنده كه بامرده نشست
مرده كشت وزنده كى ازوى رست
ومنها أن المريد لو تطرق إليه الملالة في أثناء السلوك وأصابت قلبه الكلالة وسولت له نفسه التجاوز عن خدمة الشيخ وترك صحبته حتى يظن أن لو سافر عن خدمته واشتغل بطاعة ربه وجاهد نفسه في طلب الحق تعالى لعله يصل مقصده ويحصل مقصوده بلا واسطة الشيخ والاقتداء به هيهات فإنه ظن فاسد ومتاع كاسد وأنه يضيع عمره ويتعب نفسه ويضل عن سبيل الرشاد ويبعد عن طريق السداد إلا إن أدركته العناية الأزلية التي هي الكفاية الأبدية وردت إليه صدق الإرادة ، وفي "المثنوي" :
آن رهى كه بارها تورفته
بى قلاوز اندرآن آشفته
س رهى راكه نرفتسنى توهي
هين مروتنها زرهبر سرم
266
هين مرالا كه بارهاى شيخ
تاببيني عون ولشكر هاى شيخ
ومنها : أن صحبة الشيخ المرشد غداء للمريد لاشتمالها على ما يجري مجرى الغداء للروح من الأقوال الطيبة والأفعال الحسنة ومتى جاوز صحبته أتعب نفسه بلا فائدة الوصول ونيل المقصود ولا يحمل على هذا إلا شيطان الخذلان فيلزم الرجوع والعود إلى ملازمة الخدمة في مرافقة رفيق التوفيق كما رجع موسى ويوشع عليهما السلام قال الله تعالى : يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} (التوبة : 119) أي : في صحبتهم ولا تكونوا مع الكاذبين ، وفي "المثنوي" :
هر طرف غولى همى خواند ترا
كاى برادرراه خواهى هين بيا
رهنمايم هم رهت باشم رفيق
من قولاوزم درين راه دقيق
نى قلاوزست ونى ره دانداو
يوسفا كم روسوى آن كرك خو
نسأل الله العصمة والتوفيق.
{قَالَ} موسى عليه السلام : {ذَالِكَ} الذي ذكرت من أمر الحوت {مَّآ} أي : الذي {كُنَّا نَبْغِ} أصله نبغي والضمير العائد إلى الوصول محذوف أي : نبغيه ونطلبه لكونه أمارة للفوز بالمرام من لقاء الخضر عليه السلام {فَارْتَدَّا} رجعا من ذلك الموضع وهو طرف نهر ينصب إلى البحر {عَلَى ءَاثَارِهِمَا} طريقهما الذي جاآ منه والآثار الإعلام جمع أثر وأثر وخرج في أثره وأثره أي : بعده وعقبه.
وبالفارسية : (برنشانهاى قدم خود) {قَصَصًا} مصدر فعل محذوف أي : يقصان قصصاً أي : يتبعان آثارهما اتباعاً ويتفحصان تفحصاً حتى أتيا الصخرة التي حيى الحوت عندها وسقط في البحر واتخذ سبيله سرباً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 265
(5/205)
{فَوَجَدَا عَبْدًا} التنكير للتفخيم {مِّنْ عِبَادِنَآ} الإضافة للتشريف وكان مسجى بثوب فسلم عليه موسى وعرفه نفسه وأفاد أنه جاء لأجل التعلم والاستفادة.
والجمهور على أنه الخضر بفتح الخاء المعجمة وكسر الضاد وهو لقبه وسبب تلقيبه بذلك ما جاء في الصحيح أنه عليه السلام قال : "إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء" الفروة وجه الأرض اليابسة وقيل النبات اليابس المجتمع والبيضاء الأرض الفارغة لا غرس فيها لأنها تكون بيضاء واهتزاز النبات تحركه وكنيته أبو العباس واسمه بليا بباء موحدة مفتوحة ثم لام ساكنة ثم مثناة تحت ابن ملكان بفتح الميم وإسكان اللام ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح.
قال أبو الليث : إنه عليه السلام ذكر قصة الخضر فقال : "كان ابن ملك من الملوك فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده فلم يقبل وهرب منه ولحق بجزائر البحر فلم يقدر عليه" وتفصيله على ما في كتاب "التعريف والإعلام" للإمام السهيلي وهو أن أباه كان ملكاً وأن أمه كانت بنت فارس واسمها إلهاً وإنها ولدته في مغارة وأنه ترك هنالك وشاة ترضعه في كل يوم من غنم رجل من القرية فأخذه الرجل فرباه فلما شب وطلب الملك أبوه كاتباً وجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التي نزلت على إبراهيم وشيث كان فيمن قدم عليه من الكتاب ابنه الخضر وهو لا يعرفه فلما استحسن خطه ومعرفته ونجابته سأله عن جلية أمره فعرف أنه ابنه فضمه لنفسه وولاه أمر الناس ثم إن الخضر فر من الملك وزهد في الدنيا وسار إلى أن
267
وجد عين الحياة فشرب منها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما الخضر ابن آدم لصلته ونسىء له في أجله حتى يكذب الدجال وفيه إشارة إلى أن لكل دجال في كل عصر مكذباً ومبطلاً لأمره ، قال الحافظ :
كجاست صوفى دجال فعل ملحد شكل
بكوبسوزكه مهدىء دين ناه رسيد
جزء : 5 رقم الصفحة : 265
وأخرج عن ابن عساكر : أن آدم لما حضره الموت أوصى بنيه أن يكون جسده الشريف معهم في غار فكان جسده في المغارة معهم فلما بعث الله نوحاً ضم ذلك الجسد في السفينة بوصية آدم فلما خرج منها قال لبنيه : إن آدم دعا بطول العمر لمن يدفنه من أولاده إلى يوم القيامة فذهب أولاده إلى الغار ليدفنوه وكان فيهم الخضر فكان هو الذي تولى دفن آدم فأنجز الله ما وعده فهو يحيي ما شاء الله له أن يحيي.
قال في "فتح القريب" : ومن أغرب ما قيل : إنه ابن آدم لصلبه وقيل أنه من الملائكة وهذا باطل ومن أعجب ما قيل : إنه ابن فرعون صاحب موسى كما في "تواريخ مصر" وقيل أنه ابن خالة ذي القرنين كان في سفره معه وشرب من ماء الحياة مد الله عمره إلى الوقت المعلوم ولا بعد فإنه كان من بني آدم من يعيش ثلاثة آلاف سنة أو أكثر وقيل : إنه ابن عاميل بن شمالخين بن ارما بن علقما بن عيصو بن إسحاق النبي وكان عاميل ملكاً.
والجمهور على أنه نبي غير مرسل وعند الصوفية المحققين ولي غير نبي واختلفوا في حياته والأكثر على أنه موجود بين أظهرنا وهذا متفق عليه عند الصوفية لأن حكاياتهم أنهم رأوه في المواضع الشريفة وكالموه أكثر من أن يحصى نقله الشيخ الأكبر في الفتوحات المكية وأبو طالب المكي في كتبه والحكيم الترمذي في نوادره وغير ذلك من المحققين من سادات الأمة الذين لا يتصور اجتماعهم على الكذب والافتراء بمجرد الأخبار النقلية حاشاهم عن ذلك وقد ثبت وجوده فلا يكون عدمه إلا بدليل ولا دليل على موته ولا نص فيه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا نقل أنه مات بأرض كذا في وقت كذا في زمن ملك من الملوك.
وفي "تفسير البغوي" : أربعة من الأنبياء أحياء إلى يوم البعث اثنان في الأرض وهما الخضر وإلياس أي : وإلياس في البر والخضر في البحر يجتمعان كل ليلة على ردم ذي القرنين يحرسانه وأكلهما الكرفس والكمأة واثنان في السماء إدريس وعيسى عليهما السلام.
وفي كتاب "التمهيد" لأبي عمر إمام الحديث في وقته أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين غسل وكفن سمعوا قائلاً يقول : السلام عليكم يا أهل البيت إن في الله خلفاً من كل هالك وعوضاً من كل تالف وعزاء من كل مصيبته فعليكم بالصبر فاصبروا واحتسبوا ثم دعا لهم ولا يرون شخصه فكانوا أي : الأصحاب وأهل البيت يرونه أنه الخضر.
وفي كتاب "الهواتف" أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقي الخضر وعلمه هذا الدعاء وذكر فيه ثواباً عظيماً ومغفرة ورحمة لمن قاله في أثر كل صلاة وهو "يا من لا يشغله سمع عن سمع ويا من لا تغلطه المسائل ويا من لا يتبرم من إلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة مغفرتك".
قال الهروي : إن الخضر قد جاء النبي عليه السلام مراراً وأما قوله عليه السلام : "لو كان حياً لزارني" فلا يمنع وقوع الزيارة بعده.
قال في فصل الخطاب : إن الخضر قد صحب النبي عليه السلام وروى عنه أحاديث.
268
جزء : 5 رقم الصفحة : 265
(5/206)
وفي "الخصائص الصغرى" : أن في غزوة تبوك اجتمع عليه السلام بالياس فعن أنس رضي الله عنه غزونا مع النبي عليه السلام حتى إذا كنا بفج الناقة عند الحجر سمعنا صوتاً يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة المغفور لها المستجاب لها فقال عليه السلام : "يا أنس انظر ما هذا الصوت" فدخلت الجبل فإذا رجل عليه ثياب بياض أبيض الرأس واللحية طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع فلما رآني قال : أنت رسول النبي عليه السلام؟ قلت : نعم قال : ارجع إليه وأقرئه السلام وقل له هذا أخوك الياس يريد أن يلقاك فرجعت إلى النبي عليه السلام فأخبرته فجاء عليه السلام يمشي وأنا معه حتى إذا كنا قريباً منه تقدم النبي وتأخرت أنا فتحدثا طويلاً فنزل عليهما من السماء شيء يشبه السفرة ودعواني فأكلت معهما قليلاً فإذا فيها كمأة ورمان وحوت وتمر وكرفس فلما أكلت قمت فتنحيت ثم جاءت سحابة فاحتملته فأنا أنظر إلى بياض ثيابه فيها تهوى به قبل الشام فقلت للنبي عليه السلام بأبي أنت وأمي هذا الطعام الذي أكلنا من السماء نزل عليه؟ قال عليه السلام : "سألته عنه فقال : يأتيني به جبرائيل في كل أربعين يوماً أكلة وفي كل حول شربة من ماء زمزم وربما رأيته على الجب يملأ بالدلو فيشرب وربما سقاني" والأكثر من المحدثين على وفاة الخضر سئل البخاري عن الخضر والياس هل هما في الأحياء؟ قال : كيف يكون ذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على وجه الأرض أحد" وقد قال الله تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} والجواب أن هذا الحكم جار على الأكثر ولا حكم للنادر الذي يعيش فوق المائة فقد عاش سلمان ومعدي كرب وأبو طفيل فوق المائة وكانوا موجودين في ذلك الزمان عند إخباره عليه السلام والمراد بالخلود هو التأبيد ولا شك أن حياة الخضر وغيره منقطعة عند الصعقة قبل القيامة فيمتنع الخلود.
وأما من قال من العلماء لا يجوز أن يكون الخضر باقياً لأنه لا نبي بعد نبينا فلا عبرة لكلامه لأنه لم يتنبأ بعده بل قبله كعيسى أبقاه الله لمعنى وحكمة إلى أن يرتفع القرآن من وجه الأرض.
وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في بعض كتبه أنه يظهر مع أصحاب الكهف في آخر الزمان عند ظهور المهدي ويستشهد ويكون من أفضل شهداء عساكر المهدي.
وفي آخر صحيح مسلم في أحاديث الدجال أنه يقتل رجلاً ثم يحيي قال إبراهيم بن سفيان صاحب مسلم يقال : إن هذا الرجل هو الخضر وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يلتقي الخضر والياس في كل عام في الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان على هذه الكلمات "بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله ما شاء الله ما كان من نعمة فمن الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله" من قالهن ثلاث مرات حين يصبح ويمسي آمنه الله من الحرق والغرق والسرق ومن الشيطان والحية والعقرب ، وزاد أحمد في الزهد أنهما يصومان رمضان في بيت المقدس.
وعن علي رضي الله عنه مسكن الخضر بيت المقدس فيما بين باب الرحمة إلى باب الأسباط.
قال القاشاني : الخضر كناية عن البسط والياس عن القبض وأما كون الخضر شخصاً إنساناً باقياً من زمان موسى إلى هذا العهد أو روحانياً يتمثل بصورته لمن يرشده فغير متحقق عندي بل قد يتمثل ويتخيل معناه له بالصفة الغالبة عليه ثم يضمحل وهو روح ذلك الشخص أو روح القدس انتهى.
يقول الفقير : تمثل
269
جزء : 5 رقم الصفحة : 265
(5/207)
الروح بالصفة الغالبة قد وقع لكثير من أهل السلوك ولكن ليس كل مرئي في اليقظة تمثلاً كما في المنام فقد يظهر المثال وقد يظهر حقيقته ولله في كل شيء حكمة بالغة {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَـاهُ} هي الوحي والنبوة كما يشعر به تنكير الرحمة واختصاصه بجناب الكبرياء.
قال الإمام مسلم : إن النبوة رحمة كما في قوله تعالى : {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} ونحوه ولكن لا يلزم أن تكون الرحمة نبوة فالرحمة هنا هي طول العمر على قول من ذهب إلى عدم نبوته {وَعَلَّمْنَـاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} خاصاً هو علم الغيوب والإخبار عنها بإذنه تعالى على ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما أو علم الباطن.
قال في "بحر العلوم" : إنما قال من لدنا مع أن العلوم كلها من لدنه لأن بعضها بواسطة تعليم الخلق فلا يسمى ذلك علماً لدنيا بل العلم اللدني هو الذي ينزله في القلب من غير واسطة أحد ولا سبب مألوف من خارج كما كان لعمر وعلي ولكثير من أولياء الله تعالى المرتاضين الذين فاقوا بالشوق والزهد على كل من سواهم كما قال سيد الأولين والآخرين عليه السلام : "نفس من أنفاس المشتاقين خير من عبادة الثقلين" وقال عليه السلام : "ركعتان من رجل زاهد قلبه خير وأحب إلى الله من عبادة المتعبدين إلى آخر الدهر" وقد صدق لكنه قليل كما قال : {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} (سبأ : 13) وقال : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الجاثية : 26) ومن هنا يتبين لك معرفة رفعة الصحابة رضي الله عنهم وعظمهم رتبة ومكاناً من الله فإنهم أئمة المشتاقين والزاهدين الشاكرين ونجوم لهم يهتدون بهم انتهى.
وفي "التأويلات النجمية" : {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ} أي : حراً من رق عبودية غيرنا من أحرارنا أي : ممن أحررناهم من رق عبودته الأغيار واصطفيناهم من الأخيار {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَـاهُ} يعني جعلناه قابلاً لفيض نور من أنوار صفاتنا بلا واسطة {وَعَلَّمْنَـاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} وهو علم معرفة ذاته وصفاته الذي لا يعلمه أحد إلا بتعليمه إياه.
واعلم أن كل علم يعلمه الله تعالى عباده ويمكن للعباد أن يتعلموا ذلك العلم من غير الله تعالى فإنه ليس من جملة العلم اللدني لأنه يمكن أن يتعلم من لدن غيره يدل عليه قوله : {وَعَلَّمْنَـاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} (الأنبياء : 80) فإن علم صنعة اللبوس مما علمه الله داود عليه السلام فلا يقال إنه العلم اللدني لأنه يحتمل أن يتعلم من غير الله تعالى فيكون من لدن ذلك الغير وأيضاً إن العلم اللدني ما يتعلق بلدن الله تعالى وهو علم معرفة ذاته وصفاته تعالى انتهى.
قال الجنيد قدس سره : العلم اللدني ما كان تحكماً على الأسرار بغير ظن فيه ولا خلاف لكنه مكاشفات الأنوار عن مكنونات المغيبات وذلك يقع للعبد إذا زم جوارحه عن جميع المخلوقات وأفنى حركاته عن كل الإرادات وكان شبحاً بين يدي الحق بلا تمن ولا مراد.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : باب الملكوت والمعارف من المحال أن ينفتح وفي القلب شهوة هذا الملكوت وأما باب العلم بالله تعالى من حيث المشاهدة فلا ينفتح وفي القلب لمحة للعالم بأسره الملك والملكوت (درفتوحات ازسلطان العارفين قدس سره نقل ميكندكه باجمعى دانشمندان مى كفته) أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت :
جزء : 5 رقم الصفحة : 265
كلشني كز نقل رويد يكدمست
كلشني كز عشق رويد خرمست
كلشني كز كل دمد كردد تباه
كلشني كز دل دمد وافرحتاه
270
علم ون بردل زند يارى شود
علم ون بر كل زند بارى شود
(5/208)
واعلم أن الصوفية سموا العلوم الحاصلة بسبب المكاشفات العلوم اللدنية وتفصيل الكلام أنا إذا أدركنا أمراً من الأمور وتصورنا حقيقة من الحقائق فإما أن نحكم عليه بحكم وهو التصديق أو لا نحكم وهو التصور وكل واحد من هذين القسمين فإما أن يكون ضرورياً حاصلاً من غير كسب وطلب وإما أن يكون كسبياً أما العلوم الضرورية فهي تحصل في النفس والعقل من غير كسب وطلب مثل تصورنا الألم واللذة والوجود والعدم ومثل تصديقنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الواحد نصف الإثنين وأما العلوم الكسبية فهي التي لا تكون حاصلة في جوهر النفس ابتداء بل لا بد من طريق يتوصل به إلى اكتساب تلك العلوم فإن كان التوصل إلى استعلام المجهولات بتركيب العلوم البديهية فهو طريق النظر وإن كان بتهيئة المحل وتصفيته عن الميل إلى ما سوى الله تعالى فهو طريق الكشف والكشف أنواع أعلاها أسرار ذاته تعالى وأنوار صفاته وآثار أفعاله وهو العلم الإلهي الشرعي المسمى في مشرب أهل الله علم الحقائق أي : العلم بالحق سبحانه وتعالى من حيث الإرتباط بينه وبين الخلق وانتشاء العالم منه بقدر الطاقة البشرية إذ منه ما ليس في الطاقة البشرية وهو ما وقع فيه الكمل في ورطة الحيرة وأقروا بالعجز عن حق المعرفة وهذا العلم الجليل بالنسبة إلى سائر العلوم كالشمس بالنسبة إلى الذرات وكالبحر إلى القطرات فعلوم أهل الله مبنية على الكشف والعيان وعلوم غيرهم من الخواطر الفكرية والأذهان وبداية طريقهم التقوى والعمل الصالح وبداية طريق غيرهم تحصيل الوظائف والمناصب وجمع الحطام الذي لا يدوم وقال المولى الجامي :
جان زاهد ساحل وهم وخيال
جان عارف غرقه بحر شهود
جزء : 5 رقم الصفحة : 265
قال حضرة شيخي وسندي روح الله روحه الطيب وقدس سره الزكي في كتاب "اللائحات البرقيات" المراد بالرحمة علم العبادة والدراسة والظاهر والشريعة ولذلك عبر عنه بالرحمة بناء على عمومه مثلها حيث قال : {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ} (الأعراف : 156) ولكون مقام هذا العلم الظاهري مقام القرب الصفاتي عبر عن مقامه بما يعبر به عن مقام هذا القرب الصفاتي من قوله تعالى : {مِّنْ عِندِنَا} أي : من مقام واحدية صفاتنا ومرتبة قربها والمراد بالعلم علم الإشارة والوراثة والباطن والحقيقة ولذلك عبر عنه بلفظ العلم بناء على التعبير بالمطلق على الفرد الكامل إذ العلم الباطني من العلم الظاهري بمنزلة الروح واللب من الجسد والقشر وبمنزلة المعنى من الصورة فلا جرم أن العلم الباطني من العلم الظاهري بمنزلة الفرد الكامل من الفرد الناقص والعلم الظاهري من العلم الباطني بمنزلة الفرد الناقص من الفرد الكامل والنقصان الموهوم المعتبر في العلم الظاهري بحسب الإضافة والنسبة إلى العلم الباطني باعتبار المقام الذي يوجب الامتياز بينهما من جهة الصورة لا يقدح في كماله الذاتي الحقيقي في عينه ونفسه كما أن الكمال المعتبر في العلم الباطني بحسب الإضافة والنسبة إلى العلم الظاهري باعتبار المقام الموجب للافتراق بينهما من جهة التعين لا يزيد في كماله الذاتي الحقيقي في نفسه وذاته بل كل منهما من حيث هو بالنظر
271
إلى ذاته مع قطع النظر إلى الإضافة والنسبة المعتبرة بينهما بحسب المقامات والتعلقات وغير ذلك كمال محض لا يتصور في واحد منهما نقصان أصلاً فكما أن الجهل والغفلة في أنفسهما محض نقصان حقيقي فكذلك العلم والمعرفة في أنفسهما محض كمال حقيقي وإنما الاعتبارات لئلا تبطل حقائق الأحكام ولذا قيل لولا الاعتبارات أي : الاضافات والنسب المعتبرة بين الأشياء لبطلت الحقائق ولما كان مقام هذا الباطن مقام القرب الذاتي عبر عن مقام ما يعبر به عن مقام القرب الذاتي من قوله : {مِن لَّدُنَّا} أي : من مقام أحدية ذاتنا ومرتبتها ولذا خص كبار الصوفية في اصطلاحاتهم لفظ العلم اللدني بهذا العلم الباطني الحاصل بمحض تعليم الله تعالى من لدنه بغير واسطة عبارة ولذلك قال بعضهم :
تعلمنا بلا حرف وصوت
قرأناه بلا سهو وفوت
يعني بطريق الفيض الإلهي والإلهام الرباني لا بطريق التعليم اللفظي والتدريس القولي ولكون مقام العلم الظاهري من مقام العلم الباطني بمنزلة الظاهر من الباطن حيث يتعلق العلم الظاهري بظواهر الشريعة وصورها والعلم الباطني بمنزلة الباب من البيت ومن أراد دخول البيت فليأت من باب وبيت العلم ومدينته هو النبي عليه السلام وباب هذا البيت والمدينة هو علي ـ رضي الله عنه ـ كمال قال عليه السلام : "أنا مدينة العلم وعليّ بابها".
جزء : 5 رقم الصفحة : 265
كرتشنه فيض حق بصدقى حافظ
سر شمه آن زساقى كوثر رس
(5/209)
واعلم أن التحقيق الحقيق في هذا المقام أن العلم المأمور موسى عليه السلام بتعلمه من الخضر هو العلم الباطني المتعلم بطريق الإشارة لا العلم الباطني المتعلم بطريق المكاشفة ولا العلم الظاهري المتعلم بطريق العبارة والدليل عليه إرسال الحق سبحانه موسى إلى عبده الخضر وعدم تعليمه بواسطة أمين الوحي جبرائيل وتعليم الخضر بطريق الإشارة بالأمور الثلاثة لكن لما كان الظاهر بالنظر إلى غلبة جانب علم الظاهر في وجود موسى أن يطلب تعلمه بطريق العبارة لا بطريق الإشارة وطريقه طريق الإشارة لا طريق العبارة قال : إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً من طريق التعلم بالإشارة لا بالعبارة والغالب عليك إنما هو طريق العبارة لا طريق الإشارة كما أن الغالب علي طريق الإشارة لا طريق العبارة ولكل وجهة هو موليها قل كل يعمل على شاكلته.
ثم إن الإمام الأعظم من الحسن البصري رحمهما الله تعالى بمنزلة موسى من الخضر عليهما السلام كما أن العكس بالعكس من جهة ما هو الغالب في نشأة كل منهما ولذلك أفاد الإمام الهمام العلم الظاهري غالباً وتقيد بترتيب أنوار الشريعة وأحكامها عبارة وصراحة وأفاد العلم الباطني نادراً وتعرض لأسرار الحقيقة ودقائقها إشارة وكناية بخلاف الحسن البصري فالإمام شمسي المشرب والحسن قمري المشرب ولذلك كان فلك الإمام أعظم وأوسع من فلك الحسن البصري وكان الإمام رحمة لأهل العموم عامة وكان الحسن البصري رحمة لأهل الخصوص خاصة والإمام مظهر اسم الرحمن والحسن مظهر اسم الرحيم ويدل على هذا كله انتشار مذهبه شرقاً وغرباً وهو من جميع المذاهب بمنزلة النبوة المحمدية والولاية العيسوية من جميع النبوات والولايات من جهة الخاتمية وحيث يختم به جميع المذاهب
272
الحقة كما ختم بالنبوة المحمدية جميع النبوات ويختم بالولاية العيسوية جميع الولايات ولكون مشربه ومذهبه شمسياً سمي سراج الأمة وكاشف الغمة ورافع الظلمة ودافع البدعة ومحيي الدين وحافظ الشريعة بالكتاب والسنة ولكون مشرب الحسن ومذهبه قمرياً أنار القلوب والنفوس والطبائع المظلمة بظلمة الغفلة والهوى بأنوار المعرفة وأسرار الحقيقة والهدى تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً وفي تقديم السراج على القمر المنير إشارة إلى تقديم رتبة الإمام على رتبة الحسن إذ هو مظهر اسم الأول والظاهر والحسن مظهر اسم الآخر والباطن والأولان مقدمان على الثانيين بتقديم إلهي في قوله تعالى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 265
{هُوَ الاوَّلُ وَالاخِرُ وَالظَّـاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (الحديد : 3) وهذا التفاوت إنما هو باعتبار ترتيب المراتب وأما في أصل الكمال وحقيقة الفضل فهم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها لسر يعرفه من يعرف ويغفل عنه من يغفل ورئيس أهل الذكر الصوفية الحنفية هو الإمام الأعظم الأكمل ورئيس أهل الذكر الصوفية الشافعية هو الإمام الشافعي الأفضل ورئيس أهل الذكر الصوفية الحنبلية هو الإمام الحنبلي التقي ورئيس أهل الذكر الصوفية المالكية هو الإمام مالك الزكي وهؤلاء الأئمة العظام كالخلفاء الأربعة كالنجوم بل كالأقمار بل كالشموس بأيهم اقتدى السالك اهتدى الحق المبين وهم لدين الحق كالأركان الأربعة للبيت وهم أيضاً من سائر الأقطاب والأولياء كالعرش والشمس من الأفلاك والنجوم وليس لغيرهم ممن بعدهم إلى يوم القيامة بدون الاقتداء بهم اهتداء إلى طريق الجنة والرؤية ومن اقتدى بهم في الشريعة والطريقة والحقيقة وعلم علومهم وعمل أعمالهم وتأدب بآدابهم على مذهب أيهم كان بحسب وسعه فلا شك أنه اقتفى أثر رسول الله عليه السلام ومن لم يقتد بهم في ذلك فلا شك أنه ضل عن أثر الرسول وخرج عن دائرة القبول هذا كله كلام حضرة شيخي وسندي مع اختصار.
وأما ما يلوح من كلمات بعض المشايخ من أن المجتهدين لم ينالوا العشق فله محامل ذكرنا بعضاً منها في كتابنا الموسوم "بتمام الفيض" والذي يظهر أنها كلمات صدرت حالة السكر والغلبات فلا اعتبار بها والأدب التام أن يمسك عنهم إلا بخير الكلام.
جزء : 5 رقم الصفحة : 265
(5/210)
{قَالَ لَه مُوسَى} استئناف مبني على سؤال نشأ من السياق كأنه قيل فماذا جرى بينهما من الكلام فقيل : قال له موسى أي : للخضر عليهما السلام : {هَلْ أَتَّبِعُكَ} أصحبك {عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ} على شرط أن تعلمن وهو في موضع الحال من الكاف وهو استئذان منه في اتباعه له على وجه التعليم ويكفيك دليلاً في شرف الاتباع {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} أي : علماً ذا رشد أرشد به في ديني والرشد إصابة الخير.
قال الكاشفي : (علمي كه مبني بررشد باشد) يعني : إصابة خير ولقد راعى في سوق الكلام غاية التواضع معه فينبغي للمرء أن يتواضع لمن هو أعلم منه.
قال الإمام والآية تدل على أن موسى راعى أنواع الأدب جعل نفسه تبعاً له فقال : {هَلْ أَتَّبِعُكَ} واستأذن في إثبات هذه التبعية وأقر على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم في قوله : {عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ} ومن في قوله : {مِمَّا عُلِّمْتَ} للتبعيض أي : لا أطلب مساواتك في العلوم وإنما أريد بعضاً من علومك كالفقير يطلب من الغني جزء من ماله وقوله : {مِمَّا عُلِّمْتَ} اعتراف بأنه أخذ
273
من الله وقوله : {رَشَدًا} طلب للإرشاد أي : ما لولاه لضل وهذا يدل على أنه طلب أن يعامله بمثل ما عامله الله به أي : ينعم بالتعليم كما أنعم الله عليه فإن البذل من الشكر ، قال الحافظ :
أي صاحب كرامت شكرانه سلامت
روزى تفقدى كن درويش بى نوارا
قال قتادة : لو كان أحد مكتفياً من العلم لاكتفى نجي الله موسى ولكنه قال : {هَلْ أَتَّبِعُكَ} الآية.
وقال الزجاج وفيما فعل موسى وهو من أجلة الأنبياء من طلب العلم والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته ولذا ورد "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد" ، وفي "المثنوي" :
خاتم ملك سليمانست علم
جمله عالم صورته وجانست علم
جزء : 5 رقم الصفحة : 273
قال العلماء ولا ينافي نبوة موسى وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من نبي آخر ما لا يتعلق له بأحكام شريعته من أسرار العلوم الخفية وقد أمر الله بأخذ العلم منه فلا دلالة له.
قال شيخي وسندي روح الله روحه تعليم موسى وتربيته بالخضر إنما هو من قبيل تعليم الأكمل وتربيته بالكامل لأنه تعالى قد يطلع الكامل على أسرار يخفيها عن الأكمل وإذا أراد أن يطلع الأكمل عليها أيضاً فقد يطلعه بالذات وقد يطلعه بواسطة الكامل ولا يلزم من توسط الكامل أن يكون أكمل من الأكمل أو مثله والكامل كامل مطلقاً والأكمل أكمل مطلقاً والرجحان للأكمل جداً ولا تسمع إلى غير ذلك مما يقول الضالون وقول الخضر لموسى عليه السلام يا موسى أنت على علم علمك الله وأنا على علم علمني الله إنما هو بناء على الامتياز المعتبر بينهما بحسب الغالب في نشأة كل منهما وإلا فالعلم الظاهر والباطن حاصلان في نشأة كل منهما انتهى وفهم منه جواب ما سبق من قوله إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك فإن المراد إثبات أعلميته في علم من العلوم الخاصة دون سائرها وقد انعقد الإجماع على أن نبينا عليه السلام أعلم الخلق وأفضلهم على الإطلاق وقد قال : "أنتم أعلم بأمور دنياكم".
وفي قصص الأنبياء بينما هما على ساحل البحر إذ أقبل طائر وغمس منقاره في البحر ثم أخرجه ومسحه على جناحه ثم طار نحو المشرق ثم أطار نحو المغرب ثم رجع وصاح فقال الخضر : يا موسى أتروي ما قال هذا الطائر؟ قال : لا قال : إنه يقول ما أوتي بنو آدم من العلم إلا بمقدار ما أخذت من هذا البحر بمنقاري.
ازعلم تونكته ايست عالم
زان دائره نقطه ايست آدم
وفي "التأويلات النجمية" : من آداب المريد الصادق بعد طلب الشيخ ووجدانه أن يستجيز منه في اتباعه وملازمة صحبته تواضعاً لنفسه وتعظيماً لشيخه بعد مفارقة أهاليه وأوطانه وترك مناصبه واتباعه وإخوانه وأخدانه كما كان حال موسى إذ قال للخضر : {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} بإرشاد الله لك أي : تعلمني طريق الاسترشاد من الله بلا واسطة جبريل والكتاب المنزل ومكالمة الحق تعالى فإن جميع ذلك كان حاصلاً له.
فإن قيل فهل مرتبة فوق هذه المراتب الثلاث؟ قلنا إن هذه المراتب وإن كانت عزيزة جليلة ولكن مجيىء جبريل يقتضي الواسطة وإنزال الكتاب يدل على البعد والمكالمة عن الإثنينية والرشد الحقيقي من الله للعبد هو أن يجعله قابلاً لفيض نور الله بلا واسطة وذلك يتجلى جماله وجلاله الذي كان مطلوب
274
موسى بقوله : {أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} (الأعراف : 143) فإن فيه رفع الإثنينية وإثبات الوحدة التي لا يسع العبد فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل.
ومنها أن المريد إذا استسعد بخدمة شيخ واصل ينبغي أن يخرج عما معه من الحسب والنسب والجاه والمنصب والفضائل والعلوم ويرى نفسه كأنه أعجمي لا يعرف الهر من البر أي : ما يهره مما يبره أو القط من الفار أو العقوق من اللطف أو الكراهية من الإكرام كما في "القاموس" ، قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 273
(5/211)
خاطرت كى رقم فيض ذيرد هيهات
مكر از نقش راكنده ورق ساده كنى
وينقاد لأوامره ونواهيه كما كان فإن كليم الله لم يمنعه النبوة والرسالة ومجيىء جبريل وإنزال التوراة ومكالمة الله واقتداء بني إسرائيل به أن يتبع الخضر ويتواضع له وترك أهاليه واتباعه وأشياعه وكل ما كان له من المناصب والمناقب وتمسك بذيل إرادته منقاد لأوامره ونواهيه.
{قَالَ} الخضر {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} نفى عنه استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد كأنه مما لا يصح ولا يستقيم والمراد نفي الصبر على ما يدل عليه قوله وكيف تصبر ويلزم من نفيها نفيه.
وفيه دليل على أن الاستطاعة مع الفعل (موسى كفت را صبر نتوانم كرد كفت بجهت آنكه تو يغمبرى وحكم تو بر ظاهر است شايدكه ازمن عملى صادر شود در ظاهر آن منكر وناشايسته نمايد وجه حكمت آنراندانى وبرآن صبر كردن نتوانى).
{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِه خُبْرًا} تمييز من خبر يخبر كنصر وعلم بمعنى عرف أي : لم يحط به خبرك أي : علمك وهو إيذان بأنه يتولى أموراً خفية منكرة الظواهر والرجل الصالح لا سيما صاحب الشريعة لا يصبر إذا رأى ذلك ويأخذ في الإنكار.
قال الإمام المتعلم قسمان منه من مارس العلوم ومنه من لم يمارسها والأول إذا وصل إلى من هو أكمل منه عسر عليه التعلم جداً لأنه إذا رأى شيئاً أو سمع كلاماً فربما أنكره وكان صواباً فهو لألفته بالقيل والقال يغتر بظاهره ولا يقف على سره وحقيقته فيقدم على النزاع ويثقل ذلك على الأستاذ وإذا تكرر منه الجدل حصلت النفرة وإليه أشار الخضر بقوله : {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} لأنك ألفت الكلام والإثبات والإبطال والاعتراض والاستدلال {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِه خُبْرًا} أي : لست تعلم حقائق الأشياء كما هي.
قال حضرة شيخي وسندي روح الله روحه في كتاب "اللائحات البرقيات" كل واحد من العلمين أي : الظاهر والباطن موجود في وجود كل من موسى والخضر عليهما السلام إلا أن الغالب في نشأة موسى هو العلم الظاهري كما يدل عليه رسالته وقوله للخضر {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} لأن المتعلم من المخلوق إنما هو العلم الظاهري المتعلم بالحرف والصوت لا العلم الباطني المتعلم من الله بلا حرف وصوت بل بذوق وكشف إلهي وإلقاء وإلهام سبحاني لأن جميع علوم الباطن إنما تحصل بالذوق والوجدان والشهود والعيان لا بالدليل والبرهان وهي ذوقيات لا نظريات فإنها ليست بطريق التأمل السابق ولا بسبيل التعلم اللاحق بترتيب المبادي والمقدمات وعلى اعتبار حصولها بطريق الانتقال بالواسطة لا بطريق الذوق بغير الواسطة والغالب في نشأة الخضر هو العلم الباطني كما يدل عليه ولايته ولو قيل بنبوته وقوله لموسى عليه السلام : {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِه خُبْرًا} يعني : بحسب غلبة جانب علم الظاهر وعلم الرسالة على جانب علم الباطن وعلم الولاية إذ الحكم للأغلب القاهر انتهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 273
وفي "التأويلات النجمية" : ومن الآداب أن يكون المريد ثابتاً في الإرادة بحيث لو يرده الشيخ كرات بعد مرات ولا يقبله امتحاناً له في صدق الإرادة يلازم عتبة بابه ويكون أقل من ذباب فإنه كلما ذب آب كما كان حال كليم الله فإنه كان الخضر يرده ويقول له : {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِه خُبْرًا} أي : كيف تصبر على فعل يخالف مذهبك ظاهراً ولم يطلعك الله على الحكمة في إتيانه باطناً ومذهبك أنك تحكم بالظاهر على ما أنزل الله عليك من علم الكتاب ومذهبي أن أحكم بالباطن على ما أمرني الله من العلم اللدني وقد كوشفت بحقائق الأشياء ودقائق الأمور في حكمة إجرائها وذلك أنه تعالى أفناني عني بهويته وأبقاني به بألوهيته فبه أبصر وبه أسمع وبه أنطق وبه آخذ وبه أعطي وبه أفعل وبه أعلم فإني لا أعلم ما لم يعلم وأنه يقول ستجدني.
جزء : 5 رقم الصفحة : 273
(5/212)
{قَالَ} موسى عليه السلام : {سَتَجِدُنِى} (زود باشدكه يابى مرا) {إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا} معك غير معترض عليك والصبر الحبس يقال صبرت نفسي على كذا أي : حبستها وتعليق الوعد بالمشيئة إما طلباً لتوفيقه في الصبر ومعونته أو تيمناً به أو علماً منه بشدة الأمر وصعوبته فإن الصبر من مثله عند مشاهدة الفساد شديد جداً لا يكون إلا بتأييد الله تعالى.
وقيل : إنما استثنى لأنه لم يكن على ثقة فيما التزم من الصبر وهذه عادة الصالحين.
ويقال إن أمزجة جميع الأنبياء البلغم إلا موسى فإن مزاجه كان المرة.
فإن قلت ما معنى قول موسى للخضر : {سَتَجِدُنِى} الآية ولم يصبر وقول إسماعيل عليه السلام : {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّـابِرِينَ} فصبر.
قال بعض العلماء لأن موسى جاء صحبة الخضر بصورة التعلم والمتعلم لا يصبر إذا رأى شيئاً حتى يفهمه بل يعترض على أستاذه كما هو دأب المتعلمين وإسماعيل لم يكن كذلك بل كان في معرض التسليم والتفويض إلى الله تعالى وكلاهما في مقامهما واقفان.
وقيل : كان في مقام الغيرة والحدة والذبيح في مقام الحكم والصبر.
قال بعض العارفين قال الذبيح من الصابرين أدخل نفسه في عداد الصابرين فدخل وموسى عليه السلام تفرد بنفسه وقال صابراً فخرج والتفويض من التفرد أسلم وأوفق لتحصيل المقام ووصول المرام.
{وَلا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا} عطف على صابراً أي : ستجدني صابراً وغير عاص أي : لا أخالفك في شيء ولا أترك أمرك فيما أمرتني به وفي عدم هذا الوجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبر وترك العصيان.
وفي "التأويلات النجمية" : ومن الآداب أن لا يكون معترضاً على أفعال الشيخ وأقواله وأحواله وجميع حركاته وسكناته معتقداً له في جميع حالاته وإن شاهد منه معاملة غير مرضية بنظر عقله وشرعه فلا ينكره بها ولا يسيء الظن فيه بل يحسن فيه الظن ويعتقد أنه مصيب في معاملاته مجتهد في آرائه وإنما الخطأ من قصور نظري وسخافة عقلي وقلة علمي.
{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى} صحبتني لأخذ العلم وهو أذن له في الاتباع بعد اللتيا والتي والفاء لتفريع الشرطية على ما مر من التزامه للصبر والطاعة {فَلا تَسْـاَلْنِي عَن شَىءٍ} تشاهده من أفعالي وتنكره مني في نفسك أي : لا تفاتحني بالسؤال عن حكمته فضلاً عن المناقشة والاعتراض {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} حتى
276
ابتدىء ببيانه.
وفيه إيذان بأن كل ما صدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة وهذا من آداب المتعلم مع العالم والتابع مع المتبوع.
جزء : 5 رقم الصفحة : 276
قال في "التأويلات النجمية" : ومن الآداب أن يسد على نفسه باب السؤال فلا يسأل الشيخ عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً إما بالقال وإما بالحال انتهى.
ـ روي ـ أن لقمان دخل على داود عليه السلام وهو يسرد دروعاً ولم يكن رآها قبل ذلك فتعجب منه فأراد أن يسأله عن ذلك فمنعته الحكمة فأمسك نفسه ولم يسأله فلما فرغ قام داود ولبسها ثم قال نعم الدرع للحرب.
وقيل : كان يتردد إليه سنة وهو يريد أن يسأل ذلك فلم يسأل.
قالت الحكماء إن كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب.
وعن بعض الكبار الصمت على قسمين : صمت باللسان عن الحديث بغير الله مع غير الله جملة وصمت بالقلب عن خاطر كوني البتة فمن صمت لسانه ولم يصمت قلبه خف وزره ومن صمت قلبه ولم يصمت لسانه فهو ناطق بلسان الحكمة ومن صمت لسانه وقلبه ظهر له سره وتجلى له ربه ومن لم يصمت لسانه وقلبه كان مسخرة للشيطان.
فعلى العاقل أن يجتهد حتى يسلم قلبه من الانقباض ولسانه من الاعتراض وينسى ما سوى الله تعالى ولا تلعب به الأفكار ويصبر عند مظان الصبر ويستسلم لأمر الله الملك الغفار فإن تعالى في كل شيء حكمة وفي كل تلف عوضاً ، وفي "المثنوي" :
لا نسلم واعتراض ازما برفت
ون عوض مى آيداز مفقودزفتونكه بى آتش مرا كرمى رسد
راضيم كر آتش مارا كشد
بى راغى ون دهد اوروشنى
كر راغت شدجه افغان ميكنى
دانه ر مغز باخاك دزم
خلوتى وصحبتي كرد ازكرمخويشتن درخاك كلى محو كرد
تانماندش رنك وبوى سرخ وزرد
از س آن محو قبض اونماند
بر كشاد وبست شد مركب براند
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الخلوة به والصحبة بالأهل والتسليم للأمر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 276
(5/213)
{فَانطَلَقَا} أي : ذهب موسى والخضر عليهما السلام على الساحل يطلبان السفينة وأما يوشع فقد صرفه موسى إلى بني إسرائيل.
وقال الكاشفي : (ويوشع رر عقب ايشان ميرفت).
يقول الفقير وهو الظاهر فإن تثنية الفعل إنما هي لأجل الانتقال من قصة موسى مع يوشع إلى قصته مع الخضر فكان يوشع تبعاً لهما فلم يذكر ويدل على هذا قوله عليه السلام : "مرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوا بغير نول" على ما في المشارق ولا مقتضى لرده إلى بني إسرائيل فإن هارون عليه السلام كان معهم والله أعلم.
{حَتَّى إِذَا رَكِبَا} دخلا {فِى السَّفِينَةِ} .
وقال في "الإرشاد" في سورة هود : معنى الركوب العلو على شيء له حركة إما إرادية أو قسرية كالسفينة والعجلة ونحوهما فإذا استعمل في الأول يوفر له حظ الأصل فيقال : ركبت الفرس وإن استعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال ركبت في السفينة.
وفي "الجلالين" : {حَتَّى إِذَا رَكِبَا} البحر {فِى السَّفِينَةِ} .
ـ روي ـ أنهما مرا بالسفينة فاستحملا ملاحيها فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول بفتح النون أي : بغير أجرة {خَرَقَهَا} ثقبها الخضر وشقها لما بلغوا اللج أي : معظم الماء حيث أخذ فأساً فقلع بغتة أي : على غفلة من القوم من ألواحها
277
لوحين مما يلي المساء فجعل موسى يسد الخرق بثيابه وأخذ الخضر قدحاً من زجاج ورقع به خرق السفينة أو سده بخرقة.
ـ روي ـ أنه لما خرق السفينة لم يدخلها الماء.
وقال الإمام في تفسيره والظاهر أنه خرق جدارها لتكون ظاهرة العيب ولا يتسارع إلى أهلها الغرق فعند ذلك {قَالَ} موسى منكراً عليه {أَخَرَقْتَهَا} يا خضر {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها وهم قد أحسنوا بنا حيث حملونا بغير أجرة وليس هذا جزاءهم فالام للعاقبة.
وقال سعدي المفتي ويجوز أن يحمل على التعليل بل هو الأنسب لمقام الإنكار {لَقَدْ جِئْتَ} أي : أتيت وفعلت {شَيْـاًا إِمْرًا} (يزى شكفت وشنيع وبر دل كران).
قال في "القاموس" أمر أمر منكر عجب.
ومن بلاغات الزمخشري كم أحدث بك الزمان أمراً أمراً كما لم يزل يضرب زيد عمراً أي : كما ثبت دوام هذه القصة.
قال في "الأسئلة المقحمة" كان من حق العلم الواجب عليه الإنكار بحكم الظاهر إلا أنه كان يلزم مع ذلك التوقف وقت قلب العادة ، قال الحافظ :
جزء : 5 رقم الصفحة : 277
مزن زون رادم كه بنده مقبل
قبول كردبجان هرسخن كه جانان كفت
{قَالَ} الخضر لموسى {أَلَمْ أَقُلْ} أي : قد قلت : {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} ما تقدر أن تصبر معي البتة وهو تذكير لما قاله من قبل متضمن للإنكار على عدم الوفاء بوعد.
{قَالَ} (كفت موسى كه آن سخن از خاطرم رفته بود) {لا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ} بنسياني وصيتك بعدم السؤال عن حكمة الأفعال قبل البيان فإنه لا مؤاخذة على الناسي كما ورد في صحيح البخاري "من أن الأول كان من موسى نسياناً والثاني فرطاً والثالث عمداً" {وَلا تُرْهِقْنِى} يقال رهقه كفرح غشيه وأرهقه إياه والإرهاق أن يحمل الإنسان على ما لا يطيقه وأرهقه عشراً كلفه إياه في "القاموس" أي : ولا تغشني ولا تكلفني ولا تحملني.
قال الكاشفي : (ودر مرسان مرا) {مِنْ أَمْرِى} وهو اتباعه إياه {عُسْرًا} (دشوارى) مفعول ثاني للإرهاق أي : لا تعسر على متابعتك ويسرها علىّ فإني أريد صحبتك ولا سبيل لي إليها إلا بالإغضاء والعفو وترك المناقشة.
بوش دامن عفوي بروى جرم مرا
مريزآب رخ بنده بدين ون ورا
وفي "التأويلات النجمية" : ومن آداب الشيخ وشرائطه في الشيخوخة أن لا يحرص على قبول المريد بل يمتحنه بأن يخبره عن دقة صراط الطلب وعزة المطلوب وعسرته وفي ذلك يكون له مبشراً ولا يكون منفراً فإن وجده صادقاً في دعواه وراغباً فيما يهواه معرضاً عما سواه يتقبله بقبول حسن ويكرم مثواه ويقبل عليه إقبال مولاه ويربيه تربية الأولاد ويؤدبه بآداب العباد.
ومنها أن يتغافل عن كثير من زلات المريد رحمة عليه ولا يؤاخذه بكل سهو أو خطأ أو نيسان عهد لضعف حاله إلا بما يؤدي إلى مخالفة أمر من أوامره أو مزاولة نهي من نواهيه أو يؤدي إلى إنكار واعتراض على بعض أفعاله وأقواله فإنه يؤاخذه به وينبهه عن ذلك فإن رجع عن ذلك واستغفر منه واعترف بذنبه وندم شرط معه أن لا يعود إلى أمثاله ويعتذر عما جرى عليه كما كان حال الكليم حيث قال :
278
{لا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا} أي : لا تضيق علي أمري فإني لا أطيق ذلك انتهى.
وفي الآية تصريح بأن النسيان يعتري الأنبياء عليهم السلام للإشعار بأن غيره تعالى معيوب غير معصوم ولكن العصيان يعفي غالباً فكيف بنسيان قارنه الاعتذار وقد قيل :
جزء : 5 رقم الصفحة : 277
أقبل معاذير من يأتيك معتذراً
إن برّ عندك فيما قال أو فجرا
(5/214)
ثم إن امتحان الله وامتحان أوليائه شديد فلا بد من الصبر والتسليم والرضى :
قفل زفتست وكشاينده خدا
دست در تسليم زن اندر رضا
قال الخجندي :
بجفا دوشدن ازتو نباشد محمود
هركجا اى ايازست سر محمودست
وعن الشيخ أبي عبد الله بن خفيف قدس سره قال : دخلت بغداد قاصداً الحج وفي رأسي نخوة الصوفية يعني حدة الإرادة وشدة المجاهدة وإطراح ما سوى الله قال : ولم آكل أربعين يوماً ولم أدخل على الجنيد وخرجت ولم أشرب وكنت على طهارتي فرأيت ظبياً في البرية على رأس بئر وهو يشرب وكنت عطشاناً فلما دنوت من البئر ولى الظبي وإذا الماء في أسفل البئر فمشيت وقلت : يا سيدي أمالي عندك محل هذا الظبي فسمعت من خلفي يقال : جربناك فلم تصبر ارجع فخذ الماء إن الظبي جاء بلا ركوة ولا حبل وأنت جئت ومعك الركوة والحبل فرجعت فإذا البئر ملآن فملأت ركوتي وكنت أشرب منها وأتطهر إلى المدينة ولم ينفذ الماء فلما رجعت من الحج دخلت الجامع فلما وقع بصر الجنيد قدس سره عليّ قال : لو صبرت لنبع الماء من تحت قدمك لو صبرت صبر ساعة اللهم اجعلنا من أهل العناية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 277
{فَانطَلَقَا} الفاء فصيحة والانطلاق الذهاب أي : فقبل الخضر عذر موسى عليه السلام فخرجا من السفينة فانطلقا {حَتَّى إِذَآ} (تاون) {لَقِيَا} في خارج قرية مرا بها {غُلَـامًا} (سرى را زيباروى وبلندقامت خضر اورا درس ديوارى يبرد) {فَقَتَلَهُ} عطف على الشرط بالفاء أي : فقتله عقيب اللقاء واسمه جيسور بالجيم أو حيسور بالحاء أو حينون قاله السهيلي ومعنى قتله أشار بأصابعه الثلاث الإبهام والسبابة والوسطة وقلع رأسه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله" كذا في الصحيحين برواية أبي بن كعب رضي الله عنه {قَالَ} موسى والجملة جزآء الشرط {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةَ} طاهرة من الذنوب لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث أي : الإثم والذنب وهو قول الأكثرين.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو زاكية والباقون زكية فعيلة للمبالغة في زكاتها وطهارتها وفرق بينهما أبو عمرو بأن الزاكية هي التي لم تذنب قط والزكية التي أذنبت ثم تابت {بِغَيْرِ نَفْسٍ} بغير قتل نفس محرمة يعني لم تقتل نفساً فيقتص منها.
قيل الصغير لا يقاد فالظاهر من الآية كبر الغلام وفيه أن الشرائع مختلفة فلعل الصغير يقاد في شريعته ويؤيد هذا الكلام ما نقل البيهقي في "كتاب المعرفة" أن الأحكام إنما صارت متعلقة بالبلوغ بعد الهجرة.
وقال الشيخ تقي الدين السبكي إنها إنما صارت متعلقة
279
بالبلوغ بعد أحد.
وقال في "إنسان العيون" : إنما صح إسلام علي رضي الله عنه مع أنهم أجمعوا على أنه لم يكن بلغ الحلم ومن ثم نقل عنه رضي الله عنه أنه قال :
سبقتكمو إلى الإسلام طرا
صغيراً ما بلغت أوان حلمي
جزء : 5 رقم الصفحة : 279
أي كان عمره ثماني سنين لأن الصبيان كانوا إذ ذاك مكلفين لأن القلم إنما رفع عن الصبي عام خيبر.
قال في "الإرشاد" : وتخصيص نفي هذا المبيح بالذكر من بين سار المبيحات من الكفر بعد الإيمان والزنى بعد الإحصان لأنه أقرب إلى الوقوع نظراً إلى حال الغلام وفي الحديث "إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً" ، فإن قلت : ما معنى هذا وقد قال عليه السلام : "كل مولود يولد على الفطرة" ، قلت : المراد بالفطرة استعداده لقبول الإسلام وذلك لا ينافي كونه شقياً في جبليته أو يراد بالفطرة قولهم بلى حين قال الله : "ألست بربكم" ، قال النووي لما كان أبواه مؤمنين كان هو مؤمناً أيضاً فيجب تأويله بأن معناه والله أعلم أن ذلك الغلام لو بلغ لكان كافراً {لَقَدْ جِئْتَ} فعلت {شَيْـاًا نُّكْرًا} منكراً أنكر من الأول لأن ذلك كان خرقاً يمكن تداركه بالسد وهذا لا سبيل إلى تداركه.
وقيل الأمر أعظم من النكر لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة.
قال جماعة من القراء نصف القرآن عند قوله تعالى : {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْـاًا نُّكْرًا} .
{قَالَ} الخضر : {أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} توبيخ لموسى على ترك الوصية وزيادة لك هنا لزيادة العتاب على تركها لأنه قد نقض العهد مرتين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 279
(5/215)