قال الحدادي : سمى الله النفاق مرضاً لأن الحيرة في القلب مرض القلب كما أن الوجع في البدن مرض البدن.
يقول الفقير كل منهما مؤد إلى الهلاك.
أما المرض الظاهر فإلى هلاك الجسم.
وأما المرض الباطن فإلى هلاك الروح فلا بد من معالجة كل منهما بحسب ما يليق به {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} أي : كفراً بها مضموماً إلى الكفر وعقائد باطلة وأخلاقاً ذميمة كذلك والفرق بين الرجس والنجس أن الرجس أكثر ما يستعمل فيما يستقذر عقلاً والنجس أكثر ما يستعمل فيما يستقذر طبعاً {وَمَاتُوا وَهُمْ كَـافِرُونَ} أي : واستحكم ذلك إلى أن يموتوا عليه بين الله تعالى أن بنزول سورة من السماء حصل للمؤمنين أمران زيادة الإيمان والاستبشار وحصل للمنافقين أمران مقابلان لهما زيادة الرجس والموت على الكفر ، وفي الحديث : "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" يعني : أن من آمن بالقرآن وعظم شأنه وعمل به يرفع الله درجته في الآخرة ويرزقه عزة وشرفاً ومن لم يؤمن به أو لم
540
يعمل به أو لم يعظم شأنه خذله الله في الدنيا والآخرة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
{أَوَلا يَرَوْنَ} الهمزة للإنكار والتوبيخ والواو للعطف على مقدر ، أي : لا ينظر المنافقون ولا يرون.
{أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلِّ عَامٍ} من الأعوام بالفارسية (در هر سالى) {مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} والمراد مجرد التكثير لا بيان الوقوع حسب العدد المزبور أي يبتلون بأصناف البليات من المرض والشدة وغير ذلك مما يذكر الذنوب والوقوف بين يدي رب العزة فيؤدي إلى الإيمان به تعالى {ثُمَّ لا يَتُوبُونَ} عطف على لا يرون داخل تحت الإنكار والتوبيخ {وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} والمعنى أو لا يرون افتتانهم الموجب لإيمانهم ثم لا يتوبون عما هم عليه من النفاق ولا هم يتذكرون بتلك الفتن الموجبة للتذكر والتوبة.
قال في "التأويلات النجمية" : هذه الفتنة موجبة لانتباه القلب الحي وقلوبهم ميتة والقلب الميت لا يرجع إلى الله ولا يؤثر فيه نصح الناصحين ، كما قال : {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} (النمل : 80) وقال : {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا} (يس : 70).
وفي "المثنوي" :
ورنكوئى عيب خود بارى خمش
از نمايش وازدغل خودرا مكشكرتو نقدى يا فتى مكشا دهان
هست درره سكنهاى امتحان
كفت يزدان از ولادت تابحين
يفتنون كل عام مرتين
امتحان بر امتحانست اي سر
هين بكمتر امتحان خود را محر
ماهيانرا بحر نكذارد برون
خاكيانرا بحر نكذارد درون {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} بيان لأحوالهم عند نزولها في محفل تبليغ الوحي كما أن الأول بيان لمقالاتهم وهم غائبون عنه {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} المراد بالنظر النظر المخصوص الدال على الطعن في تلك السورة والاستهزاء بها أي تغامزوزا بالعيون إنكاراً لها وسخرية {هَلْ يَرَاـاكُم مِّنْ أَحَدٍ} أي : قائلين هل يراكم من أحد من المسلمين لينصرفوا من المسجد والمجلس مظهرين أنهم لا يضطربون عند استماعها ويغلب عليهم الضحك فيفتضحون ، {ثُمَّ انصَرَفُوا} عطف على نظر بعضهم والتراخي باعتبار وجدان الفرقة والوقوف على عدم رؤية أحد من المؤمنين أي انصرفوا جميعاً عن محفل الوحي خوفاً من الافتضاح.
والمعنى يقول بعضهم لبعض هل يراكم من أحد من المؤمنين إن قمتم من مجلسكم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أن أحداً يراهم أقاموا فيه وثبتوا حتى يفرغ عليه السلام من خطبته ثم انصرفوا {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} أي : عن الإيمان حسب انصرافهم عن المجلس والجملة إخبارية أو دعائية {بِأَنَّهُمْ} أي : بسبب أنهم {قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} لسوء الفهم أو لعدم التدبر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
وفي "التأويلات النجمية" : ليس فقه القلب فاننٍ فقه القلب من أمارات حياة القلب وهو نور يهتدى به إلى الحق كما أن الجهل ظلمة يقيم عندها ولا يدري ماذا يفعل اللهم اجعلنا من المتدبرين والمتذكرين والمعتبرين.
قال بعض العلماء : أصحاب القلوب من الإنس ثلاثة أصناف.
صنف كالبهائم قال الله تعالى : {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف : 179).
وصنف أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين.
وصنف في ظل الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله.
وعن أبي بكر الوراق رحمه الله أنه قال للقلب ستة أشياء حياة وموت وصحة وسقم ويقظة
541
ونوم فحياته الهدى ونومه الضلالة وصحته الصفاء وعلته العلاقة ويقظته الذكر ونومه الغفلة وفي "المثنوي" :
هو صباحي ون سليمان آمدى
خاضع اندر مسجد اقصى شدىنوكياهى رسته ديدئى اندرو
س بكفتي نام ونفع خود بكو
كوه دراوئي وه تامت ه است
توزيان كه ونفعت بر كيست
س بكفتي هركيوءهى فعل ونام
كه من آنرا جانم واين را حمام
س سليمان ديد اندر كوشه
نو كياهى رسته همون خوشهكفت نامت يست بركوبي دهان
كفت خروبست اي شاه جهان
كفت اندر توه خاصيت بود
كفت من رستم مكان ويران شود
من كه حروبم خرا منزلم
(3/408)
هادم بنياداين آب وكلم
س سليمان آن زمان دانست زود
كه اجل آمد سفر خواهد نمود
كفت تا من هستم اين مسجد يقين
در خلل نايد زآفات زمين
س خراب مسجد ما بيكمان
نبود إلا بعد مرك ما بدان
مسجد ست اين دل كه شمش ساجدست
يا ربد خروب هرجا مسجد ست
يا ربد ون رست درتو مهراو
هين ازوبكر يزوكم كن كفت وكو
بركن از بيخش كه كر سر برزند
مرترا ومسجدت را بركند
{لَقَدْ جَآءَكُمْ} يحتمل أن يكون الخطاب للعرب والعجم جميعاً.
فالمعنى بالله قد جاءكم أيها الناس {رَّسُولٍ} أي : رسول عظيم الشان والرسول إنسان بعثه الله تعالى إلى الخلق لتبليغ الأحكام {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي : من جنسكم آدمي مثلكم لا من الملائكة ولا من غيرهم وذلك لئلا يتنفروا عنه ويمتنعوا من متابعته ويقولوا لا طاقة لنا بمتابعته لأنه ليس من جنسنا يؤيده قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (الكهف : 110) وقوله تعالى : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} (آل عمران : 164) إذ لفظ المؤمنين عام لكل مؤمن من كل صنف فيكون معنى من أنفسهم أي من جنسهم لأن الملك وكذا الجن لعدم جنسيته ولكونه غير مدرك بالحواس الخمس لا ينتفع به فاحتاج إلى واسطه جنسية ذي جهتين جهة التجرد لتمكن الاستفاضة من جانب القدس وجهه التعلق لتمكن الإفاضة إلى جانب الخلق وهو الرسول صلى الله عليه وسلّم ومنه يظهر أنه لكمال لطافته يمكن أن يستفيض منه الجن أيضاً لكونهم أجساماً لطفية ولذا دعاهم دعوة البشر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
مشعله افروزشب خاكيان
سمع سرا رده افلا كيان
ويحتمل أن يكون الخطاب للعرب خاصة.
فالمعنى بالله قد جاءكم أيتها العرب رسول عربي مثلكم وعلى لغتكم وذلك أقرب إلى الألفة وأبعد من اللجاجة وأسرع إلى فهم الحجة فإن الإرشاد لا يحصل إلا بمعرفة اللسان.
حكي أن أربعة نفر : عجمي وعربي وتركي ورومي وجدوا في طريق درهماً فاختلفوا فيه ولم يعرف ولم يفهم واحد منهم مراد الآخر فسأل منهم رجل
542
آخر يعرف الألسنة فقال للعربي أيش تريد وللعجمي (ه ميخواهى) مثلاً وعلم أن مراد الكل أن يأخذوا بذلك الدرهم عنباً فأخذ العارف الدرهم منهم واشترى لهم عنباً فارتفع الخلاف من بينهم.
(3/409)
وقرىء من أنفَسكم بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم من النفاسة وبالفارسية (عزيز شدن) وشيء نفيس أي خطير وذلك لأن محمداً صلى الله عليه وسلّم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب وفي كلاب يجتمع نسب أبيه وأمه لأن أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب وبنو هاشم أفضل القبائل إلى إسماعيل عليه السلام من جهة الخصال الحميدة وكلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر وأجمع النسابون على أن قريشاً إنما تفرقت عن فهر فهو جماع قريش وإنما سمي فهر قريشاً لأنه كان يقرش أي يفتش عن حاجة المحتاج فيسدها بماله وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن حوائجهم فيرفدونهم فسموا بذلك قريشاً والرفادة طعام الحاج أيام الموسم حتى يتفرقوا فإن قريشاً كانت على زمن قصي تخرج من أموالها في كل موسم شيئاً فتدفعه إلى قصي فيصنع به طعاماً للحاج يأكل منه من لم يكن له سعة ولا زاد حتى قام بها ولده عبد مناف ثم بعد عبد مناف ولده هاشم ثم بعد هاشم ولده عبد المطلب ثم ولده أبو طالب وقيل : ولده العباس ثم استمر ذلك إلى زمنه صلى الله عليه وسلّم وزمن الخلفاء بعده ثم استمر ذلك في الخلفاء إلى أن انقرضت الخلافة من بغداد ثم من مصر وعن أنس بن مالك رضي الله عنه : "حب قريش إيمان وبغضهم كفر" وفي الحديث : "عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً" وعن الإمام أحمد رحمه الله هذا العالم هو الشافعي لأنه لم ينتشر في طباق الأرض من علم علماء قريش من الصحابة وغيرهم ما انتشر من علم الإمام الشافعي ويجتمع نسبه مع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في عبد مناف وهو الجد التاسع للشافعي رحمه الله وفي الحديث : "أنا أنفسكم نسباً وصهراً وحسباً ليس في آبائي من لدن آدم سفاح كلها نكاح" وذلك لأنه لا يجيء من الزنى ولي فكيف نبي.
والإشارة فيه إلى نفاسة جوهره في أصل الخلقة لأنه أول جوهر خلقه الله تعالى وعن أبي هريرة أنه عليه السلام سأل جبريل عليه السلام فقال : "يا جبريل كم عمرك من السنين" فقال يا رسول الله لست أعلم غير أن في الحجاب الرابع نجماً يطلع في كل سبعين ألف سنة مرة رأيته اثنين وسبعين ألف مرة فقال عليه السلام : "يا جبريل وعزة ربي أنا ذلك الكوكب" ولما خلق الله آدم جعل نور حبيبه في ظهره فكان يلمع في جبينه ثم انتقل إلى ولده شيث الذي هو وصيه والثالث من ولده وكانت حواء تلد ذكراً وأنثى معاً ولم تلد ولداً منفرداً إلا شيث كرامة لهذا النور ثم انتقل إلى واحد بعد واحد من أولاده إلى أن وصل إلى عبد المطلب ثم إلى ابنه عبد الله ثم إلى آمنة وكان عليه السلام علة غائية لوجود كل كون فوجوده الشريف وعنصره اللطيف أفضل الموجودات الكونية وروحه المطهر أمثل الأرواح القدسية وقبيلته أفضل القبائل ولسانه خير الألسنة وكتابه خير الكتب الإلهية وآله وأصحابه خير الآل وخير الأصحاب وزمان ولادته خير الأزمان وروضته المنورة أعلى الأماكن مطلقاً والماء الذي نبع من أصابعه الشريفة أفضل المياه مطلقاً
543
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
ثم بعده الأفضل ماء زمزم لأنه غسل منه صدره عليه السلام ليلة المعراج ولو كان ماء أفضل منه يغسل به صدره عليه السلام.
ثم إن في قوله : {لَقَدْ جَآءَكُمْ} إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلّم هدية عظيمة من الله تعالى وتحفة جسيمة ولا يعرض عن هدية الله تعالى إلا الكافرون والمنافقون.
قال حضرة الشيخ العطار قدس سره :
خويشتن راخواجه عرصات كفت
إنما أنا رحمة مهداة كفت
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} العزيز الغالب الشديد وكلمة ما مصدرية والعنت الوقوع في أمر شاق وأشق الأمور دخول النار والجملة من الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر صفة رسول.
والمعنى شاق شديد عليه عنتكم أي ما يلحقكم من المشقة والألم بترك الإيمان فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع في العذاب وهذا من نتائج ما سلف من المجانسة.
قال الكاشفي : (وبعضي بر لفظ عزيز وقف كرده اند وآنرا صفة رسول دانند ومعنى عليه ما عنتم برين فرود آرندكه براوست آنه بكنيد ازكناه يعني اعتذار آن برويست در روز قيامت بشفاعت تدارك آن خواهد نمود ودرين معنى كفته اند) :
نماند بعصيان كسى دركرو
كه دارد نين سيدي يش رو
اكر دفترت ازكنه اك نيست
واو عذر خواهت بودباك نيست
{حَرِيصٌ عَلَيْكُم} أي : على إيمانكم وصلاح أحوالكم إذ من البين أنه عليه السلام ليس حريصاً على ذواتهم والحرص شدة الطلب للشيء مع اجتهاد فيه كما في "تفسير الحدادي".
{بِالْمُؤْمِنِينَ} متعلق بقوله {رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} قدم الأبلغ منهما وهو الرؤوف لأن الرأفة شدة الرحمة مع أن مقام المدح يقتضي الترقي من الفاضل إلى الأفضل محافظة على الفواصل وقدم بالمؤمنين على متعلقه وهو رؤوف ليفيد الاختصاص أي لا رأفة ولا رحمة إلا بالمؤمنين وأما الكفار فليس له عليهم رأفة ولا رحمة.
(3/410)
قال في "التأويلات النجمية" : {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} لتربيتهم في الدين المتين بالرفق كما قال عليه السلام : "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه بالرفق" وبالرحمة يعفو عنهم سيئاتهم كما أمره الله تعالى بقوله : {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} (المائدة : 13) وفي قوله : {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} في حق نبيه عليه السلام ، وفي قوله لنفسه تعالى : {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحج : 65) دقيقة لطيفة شريفة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما كان مخلوقاً كانت رأفته ورحمته مخلوقة فصارت مخصوصة بالمؤمنين لضعف الخلقة وإن الله تعالى لما كان خالقاً كانت رأفته ورحمته قديمة فكانت عامة للناس لقوة خالقيته كما قال : {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ} فمن تداركته الرأفة والرحمة الخالقية من الناس كان قابلاً للرأفة والرحمة النبوية ، لأنها كانت من نتائج الرأفة والرحمة الخالقية كما قال : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} (آل عمران : 159) انتهى كلام "التأويلات".
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
قال بعض الحكماء : إن الله تعالى خلق محمداً أي روحه وجعل له صورة روحانية كهيئته في الدنيا فجعل رأسه من البركة وعينيه من الحياء وأذنيه من العبرة ولسانه من الذكر وشفتيه من التسبيح ووجهه من الرضى وصدره من الإخلاص وقلبه من الرحمة وفؤاده من الشفقة وكفيه من السخاوة وشعره من نبات الجنة وريقه من عسل الجنة ألا ترى أنه تفل في بئر رومة في المدينة وكان ماؤها زعاقاً
544
فصار عذباً ولما أكمله بهذه الصفات أرسله إلى هذه الأمة.
روي أنه لما مات أبو طالب ونالت قريش من النبي عليه السلام ما لم تكن نالته منه في حياته خرج إلى الطائف وهو مكروب مشوش الخاطر مما لقي من قريش من قرابته وعترته خصوصاً من عمه أبي لهب وزوجته أم جميل حمالة الحطب من الهجو والسب والتكذيب يقولون له أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً فجعل أبو بكر يضرب هذا ويدفع هذا ويقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وكان خروجه في شوال سنة عشر من النبوة وحده وقيل : معه مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه يلتمس من ثقيف الإسلام رجاء أن يسلموا وأن يناصروه على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه وكان ثقيف أخواله عليه السلام فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى أشراف ثقيف وكانوا إخوة ثلاثة فجلس إليهم وكلمهم فيما جاءهم به فقال أحدهم هو يقطع ثياب الكعبة ولا يسرقها وقال آخر ما وجد الله أحداً يرسله غيرك وقال له الثالث والله لا أكلمك أبداً لئن كنت رسولاً من عند الله كما تقول لأنت أعظم خطراً أي قدراً من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك فقام عليه السلام من عندهم مأيوساً وقال لهم اكتموا عليّ وكره أن يبلغ قومه ذلك فيشتد أمرهم عليه وقالوا له عليه السلام اخرج من بلدنا وسلطوا عليه سفهاءهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له صفين على طريقه فلما مرّ عليه السلام بين الصفين دقوا رجليه بالحجارة حتى أدموهما وشجوا رأس زيد فلما خلص ورجلاه يسيلان دماً عمد إلى بستان فاستظل في شجرة كرم ودعا بقوله : "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إن لم يكن لك غضب عليّ فلا أبالي" ثم انطلق عليه السلام وهو مهموم حتى أتى بقرن الثعالب وهو ميقات أهل نجد أو اليمن وبينه وبين مكة يوم وليلة فأرسل الله تعالى جبريل ومعه ملك الجبال فقال إن شئت أطبقت على ثقيف هذين الجبلين فقال عليه السلام : "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئاً" وعند ذلك قال له عليه السلام ملك الجبالة أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم.
وفي "المثنوي" :
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
بندكان حق رحيم وبر دبار
خوى حق دارنددر اصلاح كارمهربان بى رشوتان يا رى كران
در مقام سخت ودر روز كران
اي سليمان درميان زاغ وباز
حلم حق شو باهمه مرغان بسازاي دوصد بلقيس حلمت رازبون
كه اهد قومي إنهم لا يعلمون
صد هزاران كيميا حق آفريد
كيميائي همو صبر آدم نديد نسأل الله سبحانه أن يلحقنا بأهل الحلم والكرم ويزكينا من سوء الأخلاق والشيم.
{فَإِن تَوَلَّوْا} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أي إن أعرضوا عن الإيمان بك وقبول نصحك ولم يتبعوك {فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ} كافيني فإنه يكفيك معرتهم أي المساءة التي تلحقك من قبلهم ويعينك عليهم.
وفيه إشارة إلى أن تبليغ الرسالة من النبي عليه السلام كان موجباً لقربه إلى الله وقبوله إياه فلما بلغ رسالته فقد حصل على القبول من الله وقربته إن قبلوا
545
وإن أعرضوا {لا إله إِلا هُوَ} كالدليل على ما قبله.
(3/411)
يقول الفقير أصلحه الله القدير هذه الكلمة الطيبة في حكم لا إله إلا الله لأن الضمير عائد إلى المذكور من لفظ الجلالة وكون هو ضميراً لا ينافي كونه اسماً لأن المضمرات من قبيل الأسماء فما اشتهر بين الصوفية السالكين من الذكر به بناء على كونه اسماً ولما كان وجود الكون موهوماً ووجود الحق محققاً معلوماً صح أن يشار به إلى الله تعالى سيما أطلق لعدم المزاحم في الحقيقة والذكر به مناسب للمبتدىء لكونه في حال الغيبة فإذا ترقى الترقي الكلي فلا يشار به أي بهو إلا إلى الهوية المطلقة نسأل الله التوفيق للوصول إلى مراتب التحقيق {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي : وثقت فلا أرجو ولا أخاف إلا منه والتوكل اعتماد القلب على الله وسكونه وعدم اضطرابه لتعلقه بالله تعالى {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (روردكار عرش بزرك مراد ملك عظيم است يا عرش كه قبله دعا ومطاف ملائكه باشداشارت بكمال درت وحفظ حق تعالى راست : يعني آن خدايى كه عرش رابدان همه عظمت كه هشت هزار ركن دارد وبروايتي سيصد هزار قاعده واز قاعدة تاقاعده سيصد هزار سال راه وهمه آن مملو ازخافات وصافات بقدرت كامله نكاه ميدار دقادرست كه مرانيزاز شر منافقان درناه آردكه حافظ بندكان وناصر سرافكند كان اوست) :
ازوخواه يا رى كه يا رى داه اوست
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
بدو التجاكن كه اينها ازوست
كسى راكه أو آورد در ناه
ه غم دارد از فتنه كينه خواه
قال الحدادي : رب العرب العظيم أي خالق السرير العظيم الذي هو أعظم من السموات والأرض وإنما خص العرش بذلك لأنه إذا كان رب العرش العظيم مع عظمته كان رب ما دونه في العظم.
وقيل : إنما خص العرش تشريفاً للعرض وتعظيماً لشأنه.
واعلم أن العناصر والأفلاك مرتبة فالأرض ثم الماء ثم الهواء ثم النار ثم فلك القمر ثم فلك عطارة ثم فلك الزهرة ثم فلك الشمس ثم فلك المريخ ثم فلك المشتري ثم فلك زحل ثم فلك الثوابت ثم فلك الأفلاك ويسمى الفلك الأعظم وهو محيط بجميع الأجسام من الفلكيات والعناصر ليس وراءه شيء لا خلاء ولا ملاء وكل محيط من الأفلاك والعناصر يماس المحاط الذي يليه في الترتيب المذكور لاستحالة الخلاء وجملة هذه الأجرام من الأفلاك والعناصر وما فيها يطلق عليها اسم العالم.
قال بعض أهل التحقيق : خلق الله العرش لإظهار شرف محمد صلى الله عليه وسلّم وهو قوله : {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (الإسراء : 79) وهو مقام تحت العرش ولأن العرش معدن كتاب الأبرار لقوله تعالى : {إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ} (المطففين : 18) وأيضاً العرش مرآة الملائكة يرون الآدميين وأحوالهم منه كي يشهدوا عليهم يوم القيامة فإن عالم المثال والتمثال في العرش كالأطلس في الكرسي.
قال حضرة شيخنا قدس سره في الرسالة العرفانية التي صنفها في سنة تسع وثمانين بعد الألف العرش العظيم هو الإنسان الكبير والعرش الكريم هو الإنسان الصغير فظاهر العرش العظيم والإنسان الكبير على التبدل والتغير وباطنهما على الدوام والثبات وباطن العرش الكريم والإنسان الصغير على التبدل والتغير وظاهرهما على الدوام والثبات انتهى إجمالاً.
يقول الفقير المباهي بالانتساب إلى ذلك السيد الخطير لعل مراده رضي الله عنه أن باطن
546
العرش العظيم هو العرش المحيط الذي يقال له الملكوت وظاهره ما تحته من الأجرام ويقال له عالم الكون والفساد فظاهر العرش لكونه عالم الكون والفساد على التبدل والتغير وباطنه وهو العرش نفسه على حاله بخلاف العرش الكريم الذي هو الإنسان فإن ظاهره من أول عمره إلى آخره على الثبات وباطنه على التغير لأن قلبه لا يخلو عن الأفكار والتقلبات والله تعالى رب العرش العظيم ورب العرش الكريم في الظاهر والباطن والأول والآخر هذا وقد ذكر في فضائل هاتين الآيتين اللتين إحداهما {لَقَدْ جَآءَكُمْ} الآية والأخرى {فَإِن تَوَلَّوْا} الآية.
روي أن أبا بكر بن مجاهد المقرى رحمه الله أتى إليه أبو بكر الشبلي قدس سره فدخل عليه في مسجده فقام إليه فتحدث أصحاب ابن مجاهد بحديثهما وقالوا أنت لم تقم لعلي بن عيسى الوزير وتقوم للشبلي فقال ألا أقوم لمن يعظمه رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في النوم فقال لي يا أبا بكر إذا كان في غد فسيدخل عليك رجل من أهل الجنة فإذا دخل فأكرمه قال ابن مجاهد فلما كان بعد ذلك بليلتين رأيت النبي عليه السلام فقال لي يا أبا بكر أكرمك الله كما أكرمت رجلاً من أهل الجنة قلت يا رسول الله بم استحق الشبلي هذا منك فقال هذا رجل يصلي خمس صلوات يذكرني أثر كل صلاة ويقرأ {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} إلى آخر السورة وذلك منذ ثمانين سنة أفلا أكرم من فعل هذا كذا في "عقد الدرر واللآلى".
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
(3/412)
وفيه أيضاً حكي عن بعض الصالحين أنه حصل له ضيق شديد فرأى النبي صلى الله عليه وسلّم في المنام فقال له يا فلان لا تغتم ولا تحزن إذا كان الغد ادخل على علي بن عيسى الوزير فأقرئه مني السلام وقل له بعلامة أنك صليت عليّ عند قبري أربعة آلاف مرة يدفع لك مائة دينار عيناً فلما أصبح ذهب إليه وقص عليه الرؤيا فاغرورقت عينا عليّ بن عيسى بالدموع وقال صدق الله ورسوله وصدقت أنت يا رجل هذا شيء ما كان علم به إلا الله ورسوله يا غلام هات الكيس فاحشره بين يديه فأخرج منه ثلاثمائة دينار وقال هذه المائة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهذه المائة الأخرى بشارة وهذه المائة الأخرى هدية لك فخرج الرجل من عنده ومعه ثلاثمائة دينار وقد زال همه وغمه ومنّ الله على الوزير المذكور فترك الوزارة وعلو الرياسة وظلم السلطنة وعظمة الجبابرة وذهب إلى مكة وجاور فيها ببركة ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم وتخصيصه بإرسال ذلك الرجل لما سبق له في علم الله تعالى بما يؤول أمره إليه من الخير وحسن الخاتمة :
خدايا بحق بني فاطمه
كه برقول ايمان كنم خاتمه
وعن أبيّ رضي الله عنه : "إن آخر ما نزل هاتان الآيتان".
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "ما نزل القرآن عليّ إلا آية آية وحرفاً حرفاً ما خلا سورة براءة وسورة قل هو الله أحد فإنهما أنزلتا عليّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة".
واعلم أن الأحاديث التي ذكرها صاحب "الكشاف" في أواخر السورة وتبعه القاضي البيضاوي والمولى أبو السعود رحمهم الله من أجلة المفسرين قد أكثر العلماء القول فيها فمن مثبت ومن ناف بناء على زعم وضعها كالإمام الصغاني وغيره واللائح لهذا العبد الفقير سامحه الله القدير أن تلك الأحاديث لا تخلو إما أن تكون صحيحة قوية أو سقيمة ضعيفة أو مكذوبة موضوعة فإن كانت صحيحة قوية فلا كلام
547
فيها وإن كانت ضعيفة الأسانيد فقد اتفق المحدثون على أن الحديث الضعيف يجوز العمل به في الترغيب والترهيب فقط كما في "الأذكار" للنووي و"إنسان العيون" لعلي بن برهان الدين الحلبي و"الأسرار المحمدية" لابن فخر الدين الرومي وغيرها وإن كانت موضوعة فقد ذكر الحاكم وغيره أن رجلاً من الزهاد انتدب في وضع الأحاديث في فضل القرآن وسوره فقيل له فلم فعلت هذا فقال رأيت الناس زهدوا في القرآن فأحببت أن أرغبهم فيه فقيل له إن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" أي : فليتخذ يقال تبوأ الدار اتخذها مباءة أي مسكناً ومنزلاً ولفظه أمر ومعناه خبر يعني فإن الله بوأه مقعده أي موضع قعوده منها فقال أنا ما كذبت عليه إنما كذبت له كما في شرح "الترغيب والترهيب" المسمى "بفتح القريب" أراد أن الكذب عليه يؤدي إلى هدم قواعد الإسلام وإفساد الشريعة والأحكام وليس كذلك الكذب له فإنه للحث على اتباع شريعته واقتفاء أثره في طريقته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب حرام فإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً وواجب إن كان ذلك المقصود واجباً فهذا ضابطه انتهى.
قال الشيخ سعدي :
خردمندان كفته اند دروغ
مصلحت آميزبه ازراست فتنه انكيز
وقال اللطيفي :
دروغى كه جان ودلت خوش كند
به ازراستى كان مشوش كند
وبالجملة المرء مخير في هذا الباب فإن شاء عمل بتلك الأحاديث بناء على حسن الظن بالأكابر حيث أثبتوها في كتبهم خصوصاً في صحف التفاسير الجليلة وظاهر أنهم لا يضعون حرفاً إلا بعد التصفح الكثير وإن شاء ترك العمل بها وحرم من منافع جمة ولا محاجة معه وربما يتفق المحدثون على صحة بعض الأحاديث ولا صحة له في نفس الأمر فإن الإنسان مركب من السهو والنسيان وحقيقة العلم عند الله الملك المنان ولذا قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر قد يظهر من الخليفة الآخذ الحكم من الله ما يخالف حديثاً ما في الحكم فيتخيل أنه من الاجتهاد وليس كذلك وإنما هذا الإمام لم يثبت عنده من جهة الكشف ذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولو ثبت الحكم به وإن كان طريق الإسناد العدل عن العدل فالعدل ليس بمعصوم من الوهم الذي هو مبدأ السهو والنسيان ولا من النقل على المعنى الذي هو مبدأ التأويلات والتحريفات فمثل هذا يقع من الخليفة اليوم انتهى فهذا كلام حق بلا مريه وليس وراء عبادان قريه.
(3/413)
بقى ههنا شيء وهو أن بعض المتقدمين جعل القرآن أثلاثاً فالثلث الأول ينتهي عند قوله في سورة التوبة {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (التوبة : 90) والثلث الثاني عند قوله في سورة العنكبوت {إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (العنكبوت : 46) وعند العامة الثلث الأول ينتهى عند قوله تعالى : {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (التوبة : 93) وهو منتهى الجزء العاشر ولعل الأول قول تحقيقي والثاني تقريبي والله أعلم بالصواب.
548
جزء : 3 رقم الصفحة : 521(3/414)
تفسير سورة يونس
مكية وهي مائة وتسع آيات بينات
جزء : 3 رقم الصفحة : 548
{وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام : 59) فوقع هذا الجواب عندهم في حيز القبول.
علم دريست نيك باقيمت
جهل درديست سخت بى درمان
وفي التأويلات : هذه الآيات المنزلة عليك آيات الكتاب الحكيم الذي وعدتك في الأزل وأورثته لك ولأمتك وقلت {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (فاطر : 32)فاختص هذا الكتاب بأن يكون حكيماً من سائر الكتب ، أي : حاكماً يحكم على الكتب كلها بتبديل الشرائع والنسخ ولا يحكم عليه كتاب أبداً واختص هذه الأمة بالاصطفاء من سائر الأمم وأورثهم هذا الكتاب ومعنى الوراثة أنه يكون باقياً في هذه الأمة يرثه بعضهم من بعض ولا ينسخه كتاب كما نسخ هو جميع الكتب
{أَكَانَ لِلنَّاسِ} (الزخرف : 31) : قال الحافظ قدس سره :
تاج شاهى طلبى كوهر ذاتى بنماى
در خود از كوهر جمشيد فريدون باى
وقال السعدي قدس سره :
هنر بايد وفضل ودين
كه كاه آيدوكه رودجاه ومال
قال في "التأويلات النجمية" : يشير إلى أنهم يتعجبون من إيحائنا إلى محمد عليه السلام لأنه كان رجلاً منهم ، وفيه رأينا رجوليته قبل الوحي وتبليغ الرسالة من بينهم ولهذا السر ما أوحى إلى امرأة بالنبوة قط انتهى ، والرجولية هي صدق اللسان ودفع الأذى عن الجيران والمواساة مع الإخوان هذا في الظاهر وأما في الحقيقة فالتنزه عن جميع ما سوى الله تعالى.
وفي حديث المعراج "إن الله تعالى نظر إلى قلوب الخلق فلم يجد أعشق من قلب محمد عليه السلام فلذا أكرمه"بالرؤية" فالعبرة لحال الباطن لا لحال الظاهر.
واعلم : أن حال الولاية كحال النبوة ولو رأيت أكثر أهل الولاية في كل قرن وعصر لوجدتهم ممن لا يعرف بجاه ، ومن عجب من ذلك ألقي في ورطة الإنكار وحجب بذلك الستر عن رؤية الأخيار يا اأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} (يونس : 2) {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنَّ لَهُمْ} أي : بأن لهم قدم صدق عند ربهم أي : أعمالاً صالحة سابقة قدموها ذخرا لآخرتهم ومنزلة رفيعة يقدمون عليها سميت قدما على طريق تسمية الشيء باسم آلته لأن السبق والقدوم يكون بالقدم كما سميت النعمة يداً ؛ لأنها تعطي باليد وإضافة قدم إلى الصدق من قبيل إضافة الموصوف إلى صفته للمبالغة في صدقها وتحققها كأنها في صدقها وتحققها مطبوعة منه وإذا قصد تبينها لا تبين إلا به.
جزء : 4 رقم الصفحة : 6
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قدم صدق شفاعة نبيهم لهم هو إمامهم إلى الجنة وهم بالأثر.
كفتى كنتم شفاعت عاصى عذر خواه
دل بر اميد آن كرم افتاد در كناه
قال الكافرون هم المتعجبون ، أي : كفار مكة مشيرين إلى رسول الله عليه السلام إن هذا لساحر مبين (جاد ويست آشكارا) ، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول أموراً خارقة للعادة معجزة إياهم عن المعارضة.
واعلم : أن الكفار سحرهم سحرة صفات فرعون النفس ولذا صاروا صما بكما عميا عن الحق فهم لا يعقلون الحق ولا يتبعون داعي الحق والنفس جبلت على حب الرياسة وطلب التقدم فلا ترضى أن تكون مرؤوسة تحت غيرها فاصلاحها إنما هو بالعبودية لتي هي ضد الرياسة والانقياد للمرشد.
وفي المثنوى :
همو استورى كه بكر يزد زبار
او سر خود كيرد اندر كوهسار
صاحبش از ى دوان كاى خيره سر
هر طرف كركيست اندر قصد خر
استخوانت را بخايد ون شكر
كه نبيني زندكانى را دكر
هين بمكريز از تصرف كردنم
وزكراني بار ون جانت منم
تو ستورى هم كه نفست غالبست
حكم الب را بود اي خود رست
مير آخر بود حق را مصطفا
بهر استوران نفس ر جفا
لا جرم اغلب بلا بر انبياست
كه راياضت دادن خامان بلاست
قال عيسى عليه السلام للحواريين : أين تنبت الحبة؟قالوا : في الأرض فقال : كذلك الحكمة
6
لا تنبت إلا في القلوب مثل الأرض يشير إلى التواضع وإلى هذه الإشارة يقول سيد البشر : من اخلصأربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه والينابيع لا تكون إلا في الأرض وهو موضع نبع الماء فظهر أن الكفار لما لم ينزلوا أنفسهم إلى مرتبة التواضع والعبودية.
ولم يقبلوا الأنذار بحسن النية ، حرموا من الورود إلى المنهل العذب الذي هو القرآن ، فبقوا عطشى الأكباد في زوايا الهجران ، وأين المتكبرون المتصعدون إلى جوّ هوأهم.
من الشرب من ينبوع الهدى الذي أجراه من لسان حبيبه مولاهم؟ وكما أن الكفار بالكفر الجلي ادعوا كون القرآن سحراً وأنكروا مثل ذلك الخارق لعاداتهم ، فكذا المشركون بالشرك الخفي أنكروا الكرامات المخالفة لمعاملاتهم.(4/1)
قال الأمام اليافعي رحمه الله : ثم أن كثيراً من المنكرين لو رأوا الأولياء والصالحين يطيرون في الهواء لقالوا هذا سحر وهؤلاء شياطين ولا شك أن من حرم التوفيق وكذب بالحق غيباً وحدساً كذب به عياناً وحساً فواعجبا كيف نسب السحر وفعل الشياطين إلى الأنبياء العظام والأولياء الكرام؟ نسأل الله العفو والعافية سراً وجهاراً ، وأن يحفظنا من العقائد الزائغة والأعمال الموجبة بوارا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 6
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قدم صدق شفاعة نبيهم لهم هو إمامهم إلى الجنة وهم بالأثر.
كفتى كنتم شفاعت عاصى عذر خواه
دل بر اميد آن كرم افتاد در كناه
قال الكافرون هم المتعجبون ، أي : كفار مكة مشيرين إلى رسول الله عليه السلام إن هذا لساحر مبين (جاد ويست آشكارا) ، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول أموراً خارقة للعادة معجزة إياهم عن المعارضة.
واعلم : أن الكفار سحرهم سحرة صفات فرعون النفس ولذا صاروا صما بكما عميا عن الحق فهم لا يعقلون الحق ولا يتبعون داعي الحق والنفس جبلت على حب الرياسة وطلب التقدم فلا ترضى أن تكون مرؤوسة تحت غيرها فاصلاحها إنما هو بالعبودية لتي هي ضد الرياسة والانقياد للمرشد.
وفي المثنوى :
همو استورى كه بكر يزد زبار
او سر خود كيرد اندر كوهسار
صاحبش از ى دوان كاى خيره سر
هر طرف كركيست اندر قصد خر
استخوانت را بخايد ون شكر
كه نبيني زندكانى را دكر
هين بمكريز از تصرف كردنم
وزكراني بار ون جانت منم
تو ستورى هم كه نفست غالبست
حكم الب را بود اي خود رست
مير آخر بود حق را مصطفا
بهر استوران نفس ر جفا
لا جرم اغلب بلا بر انبياست
كه راياضت دادن خامان بلاست
قال عيسى عليه السلام للحواريين : أين تنبت الحبة؟قالوا : في الأرض فقال : كذلك الحكمة
6
لا تنبت إلا في القلوب مثل الأرض يشير إلى التواضع وإلى هذه الإشارة يقول سيد البشر : من اخلصأربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه والينابيع لا تكون إلا في الأرض وهو موضع نبع الماء فظهر أن الكفار لما لم ينزلوا أنفسهم إلى مرتبة التواضع والعبودية.
ولم يقبلوا الأنذار بحسن النية ، حرموا من الورود إلى المنهل العذب الذي هو القرآن ، فبقوا عطشى الأكباد في زوايا الهجران ، وأين المتكبرون المتصعدون إلى جوّ هوأهم.
من الشرب من ينبوع الهدى الذي أجراه من لسان حبيبه مولاهم؟ وكما أن الكفار بالكفر الجلي ادعوا كون القرآن سحراً وأنكروا مثل ذلك الخارق لعاداتهم ، فكذا المشركون بالشرك الخفي أنكروا الكرامات المخالفة لمعاملاتهم.
قال الأمام اليافعي رحمه الله : ثم أن كثيراً من المنكرين لو رأوا الأولياء والصالحين يطيرون في الهواء لقالوا هذا سحر وهؤلاء شياطين ولا شك أن من حرم التوفيق وكذب بالحق غيباً وحدساً كذب به عياناً وحساً فواعجبا كيف نسب السحر وفعل الشياطين إلى الأنبياء العظام والأولياء الكرام؟ نسأل الله العفو والعافية سراً وجهاراً ، وأن يحفظنا من العقائد الزائغة والأعمال الموجبة بوارا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 6
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (الرحمن : 29) وهو الزمن الفرد الغير المنقسم وسمى يوماً لأن الشان يحدث فيه فبالآن تتقدر الدقائق وبالدقائق تتقدر الدرج وبالدرج تتقدر الساعات وبالساعات يتقدر اليوم فإذا انبسط الآن سمى اليوم وإذا انبسط اليوم سمى أسابيع وشهوراً وسنين أدواراً فيوم كالآن وهو أدنى ما يطلق عليه الزمان ومنه يمتد الكل ويوم كألف سنة وهو يوم الآخرة ويوم كخمسين ألف سنة وهو يوم القيامة ، أي : أدنى مقدار ستة أيام لأن اليوم عبارة عن زمان مقدر مبدأه طلوع الشمس ومنتهاه غروبها فكيف تكون حين لا شمس ولا نهار ولو شاء لخلقها في أقل من لحظة لكنه أشار إلى التأني في الأمور ، فلا يحسن التعجيل إلا في التوبة وقضاء الذين وقرى الضيف وتزويج البكر ودفن الميت والغسل من الجنابة.
وفي المثنوى :
مكر شيطانست تعجيل وشتاب
خوى رحمانست صبر واحتساب
با تأنى كشت موجود از خدا
تابشش روز اين زمين ورخها
ورنه قادر بود كز كن فيكون
صد زمين ورخ آوردى برون
اين تأتني از ى تعليم تست
طلب آهسته بايد بى شكست
7
وقد جاء في الصحيح : "إن الله خلق التربة" يعني : الأرض "يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل".
فإن قيل : القرآن يدل على أن خلق الأشياء في ستة أيام والحديث الصحيح المذكور على أنها سبعة.
فالجواب أن السموات والأرض وما بينهما خلق في ستة أيام وخلق آدم من الأرض فالأرض خلقت في ستة أيام وآدم كالفرع من بعضها كما في فتح القريب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 7
(4/2)
والحكمة في تأخير خلق آدم ليكون خليفة في الأرض لأن الأشياء قبله بمنزلة الرعية في مملكة الكون ولا يكون خليفة إلا بالجنود والرعية فتقدم الرعية على الخليفة تشريف وتكريم للخلافة.
واعلم : أن أول فلك دار بالزمان قلب الميزان وفيه حدثت الأيام دون الليل والنهار فكان أول حركته بالزمان وأما حدوث الليل والنهار فبحدوث الشمس في السماء الرابعة ودورانها على طريقة واحدة من الشرق إلى الغرب كذا في "عقلة المستوفز" وأول المخلوقات من الأيام هو يوم الأحد فالأحد فيه بمعنى الأول فلما أوجد الله الثاني سمى الاثنين لأنه ثاني يوم الأحد وأول الأيام التي خلق فيها الخلق السبت وآخر الأيام الستة إذا الخميس فالجمعة سابع والسبت بمعنى الراحة زعم اليهود إنه اليوم السابع الذي استراح فيه الحق من خلق السموات والأرض وما فيهن وكذبوا لقوله تعالى : {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} (ق : 38) أي : أعياء فيكون أول الأسبوع عندهم يوم الأحد وكذا عند النصارى ولذا اختاروه.
وقد سئل عليه السلام عن يوم السبت فقال : "يوم مكر وخديعة" لأن قريشاً مكرت فيه في دار الندوة ولا يقطع اللباس يوم السبت والأحد والثلاثاء.
قال حضرة الشيخ صدر الدين القنوى ـ ـ قدس سره ـ ـ الملابس إذا فصلت وخيطت في وقت رديء اتصل بها خواص رديئة وكذا الأمر في باب المآكل والمشارب وكذلك ما ورد التنبيه عليه في الشريعة من شؤم المرأة والفرس والدار وشهدت بصحته التجارب المكررة فإن لجميع هذه في بواطن أكثر الناس بل وفي ظواهرهم أيضاً خواص مضرة تتعدى من بدن المغتذى والمباشر والمصاحب إلى نفسه وأخلاقه وصفاته فيحدث بسببها للقلوب والأرواح تلويثات هي من أقسام النجاسات وقد نبهت الشريعة على كراهتها دون الحكم عليها بالحرمة.
وسئل حضرة مولانا قدس سره عما ورد "بارك الله في السبت والخميس" فقال : بركتهما لوقوعهما جارين ليوم الجمعة.
وسئل عليه السلام عن يوم الأحد فقال : "يوم غرس وعمارة" لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الدنيا وعمارتها وفي رواية "بنيت الجنة فيه وغرست".
وسئل عن يوم الاثنين فقال : "يوم سفر وتجارة" لأن فيه سافر شعيب فربح في تجارته.
وسئل عن يوم الثلاثاء فقال : "يوم دم" لأن فيه حاضت حواء وقتل ابن آدم أخاه وقتل فيه رجيس وزكريا ويحيى ولده وسحرة فرعون وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وبقرة بني إسرائيل ونهى النبي عليه السلام عن الحجامة يوم الثلاثاء أشد النهي وقال : "فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم" أي : لا ينقطع إذا احتجم أو فصد وربما يهلك الإنسان بعد انقطاع الدم "وفيه نزل إبليس إلى الأرض وفيه خلقت جهنم وفيه سلط الله ملك الموت على أرواح بني آدم وفيه
8
ابتلى أيوب".
جزء : 4 رقم الصفحة : 7
وقال بعضهم : ابتلى في يوم الأربعاء.
قيل كان الرسم في زمن أبي حنيفة رحمه الله إن يوم البطالة يوم السبت في القراءة لا يقرأ في يوم السبت ثم في زمن الخصاف كان متردداً بين الاثنين والثلاثاء ومات الخصاف ببغداد سنة إحدى وستين ومائتين.
يقول الفقير : ثم صار يوم البطالة يوم الثلاثاء والجمعة واستمر إلى يومنا هذا في أكثر البلاد.
وكان شيخي العلامة أبقاه الله بالسلامة يعد الدرس فيهما إفراطاً ويقول يعرض للإنسان من الاشتغال فتور وانقباض فلا بد من يوم البطالة ليصل نشاط وانبساط لئلا ينقطع الطالب عن تحصيل المطلوب ومن هنا أبيح ورخص التفرج والتبسط أحياناً ولو للسالك.
وسئل عن يوم الأربعاء قال : "يوم نحس" لأن فيه أغرق فرعون وقومه وأهلك فيه عاد وثمود وقوم صالح ونهى فيه عن قص الأظفار لأنه يورث البرص ، وكره بعضهم عيادة المريض يوم الأربعاء.
وفي "منهاج الحليمي" إن الدعاء مستجاب يوم الأربعاء بعد الزوال قبل وقت العصر لأنه عليه السلام استجيب له الدعاء على الأحزاب في ذلك اليوم في ذلك الوقت قيل يحمد فيه الاستحمام.
وذكر إنه ما بدىء شيء يوم الأربعاء إلا وقد تم فينبغي البداءة بنحو التدريس فيه.
وكان صاحب "الهداية" يتوقف في ابتداء الأمور على الأربعاء ويروى هذا الحديث ويقول هكذا كان يفعل أبي ويرويه عن شيخه أحمد بن عبد الرشيد.
وسئل عليه السلام عن يوم الخميس "فقال يوم قضاء الحوائج والدخول على السلطان" ؛ لأن فيه دخل إبراهيم عليه السلام على ملك مصر فقضى حاجته وأهدى إليه هاجر.
(4/3)
وسئل عن يوم الجمعة فقال : "يوم نكاح" نكح فيه آدم حواء ويوسف زليخا وموسى بنت شعيب وسليمان بلقيس ونكح عليه السلام خديجة وعائشة رضي الله عنهما وعن ابن مسعود رضي الله عنه من قلم أظفاره يوم الجمعة أخرج الله منه داء وأدخل فيه الشفاء {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (النساء : 37) والوجه الثاني : بمعنى قبل وهو قوله : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (يونس : 3) معناه قبل ذلك استوى على العرش لأن قوله تعالى : {وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ} (هود : 7) يدل على أن وجود العرش سابق على تخليق السموات والأرض ومثله {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لالَى الْجَحِيمِ} (الصافات : 18) معناه قبل ذلك مرجعهم ومثله قول الشاعر :
قل لمن ساد ثم ساد أبوه
جزء : 4 رقم الصفحة : 7
ثم قد ساد قبل ذلك جده
والوجه الثالث : بمعنى الواو وهو قوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} (البلد : 17) معناه ومع ذلك كان من الذين آمنوا.
والرابع : بمعنى الابتداء وهو قوله : {أَلَمْ نُهْلِكِ الاوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاخِرِينَ} (المراسلات : 16 ـ ـ 17) معناه نحن نتبعهم والوجه الخامس : تكون بمعنى التعجب وهو قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَا ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام : 1) معناه تعجبوا منهم كيف يكفرون بربهم انتهى بزيادة.
يقول الفقير : ثم ههنا لتفخيم شان منزلة العرش وتفضيله على السموات والأرض لا للتراخي في الوقت كما ذهبوا إليه عند قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} (البقرة : 29) في أوائل سورة البقرة فلا حاجة إلى التأويل.
واعلم أن الأفلاك تسع طبقات بعضها فوق بعض والفلك المحيط
9
وهو العرش محيط بها كلها ، وكذلك جسم الإنسان خلق من تسعة جواهر بعضها فوق بعض ، ليكون جسم الإنسان مشاكلاً للأفلاك بالكمية والكيفية وهي ، أي : الجواهر المخ والعظام والعصب والعروق وفيها الدم واللحم والجلد والشعر والظفر ، وهو ، أي : العرش أول الموجود الجسماني كما أن روح نبينا صلى الله عليه وسلّم أول الموجود الروحاني وهو من ياقوتة حمراء وله ألف شرفة وفي كل شرفة ألف عالم مثل ما في الدنيا باسرها.
قال ابن الشيخ : ومعنى الاستواء عليه الاستيلاء عليه بالقهر ونفاذ التصرف فيه وخص العرش بالأخبار عن الاستواء عليه لكونه أعظم المخلوقات فيفيد أنه استولى على ما دونه.
قال الحدادي : ودخلت ثم على الاستواء وهي في المعنى داخلة على التدبير كأنه قال ثم {ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ} (الفجر : 28) وحقيقتها انجذاب القلب إلى الله تعالى ونتيجتها غروب النفس عن الدنيا ، واستواء الذهب والمدر عندها ، وانزعاج القلب مما سوى الله واستغراق الروح في بحر الشوق والمحبة ، والتبري مما سوى الله وهيمان السر وحيرته في شهود الحق ورجوعه من الخلق.
وأما المردود فرجوعه بغير اختياره مغلولاً بالسلاسل والأغلال يسحبون في النار على وجوههم وهي صورة صفة قهر الله ومن نتائج قهر الله تعلقاته بالدنيا وما فيها واستيلاء صفات النفس عليه من الحرص والبخل والأمل والكبر والغضب والشهوة والحسد والحقد والعداوة والشره فإن كل واحدة منها حلقة من تلك السلاسل وغل من تلك الأغلال بها يسحبون إلى النار {وَعْدَ اللَّهِ} (النبأ : 26).
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} وعذاب أليم وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم بما كانوا يكفرون وهو في موضع رفع صفة أخرى لعذاب ويجوز يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : ذلك المذكور من الشراب والعذاب حاصل لهم بسبب كفرهم بالله ورسوله وغير النظم ولم يقل وليجزى الكافرين بشراب الخ تنبيهاً على أن المقصود بالذات من الأبداء والإعادة هو الإثابة والعقاب واقع بالعرض.
جزء : 4 رقم الصفحة : 7
واعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة ، فالله تعالى
11
بقدرته يعيد الخلق بعد الموت ليحصدوا فيها ما زرعوه في الدنيا فمن زرع الخير يحصد السلامة ومن زرع الشر يحصد الندامة :
جمله دانند اين اكر تونكروى
هره مى كاريش روزى بدروى
وإنما أخر الجزاء إلى دار الآخرة لأن الدنيا لا تسعه ولله تعالى في كل شيء حكمة فإذا عرفت الحال فخف من الله المتعال فإنه غيور لا يرضى إقامة عبده على مخالفته وخروجه من دائرة طاعته.
وعن وهب بن منبه كان يسرج في بيت المقدس ألف قنديل فكان يخرج من طور سيناء زيت مثل عنق البعير صاف يجري حتى ينصب في القناديل من غير أن تمسه الأيدي وكانت تنحدر نار من السماء بيضاء تسرج بها القناديل وكان القربان والسرج في ابني هارون شبر وشبير فأمرا أن لا يسرجا بنار الدنيا فاستعجلا يوماً فاسرجا بنار الدنيا فوقعت النار فأكلت ابني هارون فصرخ الصارخ إلى موسى عليه السلام فجاء يدعو ويقول يا رب إن ابني هارون أخي قد عرفت مكانهما مني ، فأوحى الله إليه يا ابن عمران هكذا افعل بأوليائي إذا عصوني فكيف بأعدائي.
(4/4)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمرت على أهل الأرض معيشتهم فكيف بمن هو طعامه من زقوم وشرابه من حميم؟ ومن تذكر المبدأ والمعاد وتفكر أن الرجوع إلى رب العباد تاب من الخطايا والسيئات وصار من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وفي الحديث : (إذا بلغ العبد أربعين سنة ولم يغلب خيره شره قبل الشيطان بين عيينه وقال فديت وجهاً لا يفلح أبداً).
فإنْ منَّ الله عليه وتاب واستخرجه من غمرات الجهالة واستنقذه من ورطات الضلالة يقول الشيطان واويلاه قطع عمره في الضلالة وأقر عيني في المعاصي ثم أخرجه الله بالتوبة من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة.
وفي المثنوى :
مرداول بسته خواب وخورست
ر الأمر ازملائك بر ترست
درناه نبه وكبريتها
شعله نورش برآيد برسها
يعني أن الشرارة تصير ناراً عظيمة بمعونة القطن والكبريت فكذا الإنسان في أول حاله كالشرارة فإذا قارن المربي أو رباه الله من غير وساطة أحد من الناس يرقى إلى حيث يعظم قدره عند الله ويصير بين أقرانه كالمسك بين الدماء نسأل الله العناية والتوفيق.
هو الذي (اوست آن خداونديكه بقدرت).
جزء : 4 رقم الصفحة : 7
{جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً} (التغابن : 2).
{وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ} ().
كما في "أسئلة الحكم".
يقول الفقير : الكلام في التذكير والتأنيث الحقيقي دون اللفظي وكون القمر مذكراً لفظاً لا يوجب الفضل على ما هو مؤنث لفظاً وقد يسمى الرجل بطلحة وهو مؤنث لفظي مع إن الرجل أفضل من المرأة ، ونعم ما قيل :
ولا التأنيث عار لاسم شمس
ولا التذكير فخر للهلال
وجعل الله للشمس سلطاناً على جميع الطبائع النباتية والمعدنية والحيوانية ما نبت زرع ولا خرجت فاكهة ولا يكون في العالم طعم ولذة إلا والشمس تربيها بأمر الواحد القهار.
ويقال : الثمرة ينضجها الشمس ويلونها القمر ويعطي طعمها الكواكب.
قيل : أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام أن كن للناس في الحلم كالأرض تحتهم وفي السخاء كالماء الجاري وفي الرحمة كالشمس والقمر فإنهما يطلعان على البر والفاجر ، قال الحافظ قدس سره :
نظر كردن بدرويشان منافىء بزركى نيست
سليمان بانان حشمت نظرها بودبامورش
قال في "التأويلات النجمية" إن الله تعالى خلق الروح نورانياً له ضياء كالشمس وخلق القلب صافياً كالقمر قابلاً للنور والظلمة وخلق النفس ظلمانية كالأرض فمهما وقع قمر القلب في مواجهة شمس الروح يتنور بضيائها ومهما وقع في مقابلة أرض النفس تنعكس فيه ظلمتها.
ويسمى القلب قلباً لمعنين : إحداهما : أنه خلق بين الروح والنفس فهو قلبهما ، والثاني : لتقلب أحواله تارة يكون نورانياً لقبول فيض الروح وتارة يكون ظلماناً لقبول النفس انتهى.
قال حضرة شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة في بعض تحريراته نحن بين النورين نور شمس الحقيقة ونور قمر الشريعة فإذا جاء نهار الحقيقة نستضيىء بنور
13
شمسها وإذا جاء ليل الشريعة نستضيء بنور قمرها ونحن أرباب النورين من النور إلى النور نسير وبالنور إلى النور نطير وحالنا بين التجلي والاستتار فعند تجلي النور الإلهي لقلوبنا وأرواحنا وأسرارنا يكفي لنا هذا النور ولا حاجة إلى غيره وعند استتاره عن قلوبنا وأرواحنا وأسرارنا يكفي لنا بدله وهو نور قمر الشريعة ولا حاجة إلى غيره انتهى باجمال {وَقَدَّرَه مَنَازِلَ} (هود : 44) وهو كوكبان مستويان في المجرى إحدهما خفي والآخر مضيء يسمى بلع كأنه بلع الآخر وطلوعه لليلة تمضي من آب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 13
والرابع والعشرون : سعد السعود.
والخامس والعشرون : سعد الأخبية وهي كواكب مستديرة.
قال في "القاموس" : سعود النجوم عشرة : سعد بلع ، وسعد الأخبية ، وسعد الذابح ، وسعد السعود ، وهذه الأربعة من منازل القمر وسعد ناشرة ، وسعد الملك ، وسعد البهام ، وسعد الهمام ، وسعد البارع ، وسعد مطر وهذه الستة ليست من المنازل كل منها كوكبان بينها في المنظر نحو ذراع.
والسادس والعشرون : فرغ الدلو المقدم.
والسابع والعشرون : فرغ الدلو المؤخر.
قال في القاموس : في الغين المعجمة فرغ الدلو المقدم والمؤخر منزلان للقمر كل واحد كوكبان كل كوكبين في المرأى قدر رمح.
والثامن والعشرون : الرشاء ويقال له أيضاً بطن الحوت وهي كواكب صغار مجتمعة في صورة الحوت وفي سرتها نجم نير.
والسنة القمرية عبارة عن اجتماع القمر مع الشمس اثنتي عشرة مرة ، وزمان هذه يتم في ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوماً وكسر وهو ثمان ساعات وثمان وأربعون دقيقة.
قال في "شرح التقويم" : أرباب هذه الصناعة ما وجدوا زمان شهر واحد أقل من تسعة وعشرين يوماً وأكثر من ثلاثين وكذا ما وجدوا زمان سنة واحدة أقل من ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوماً وأكثر من ثلاثمائة وخمسة وخمسين فعدد أيام كل سنة إما ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً أو ثلاثمائة وخمسة وخمسون.
(4/5)
واعلم أن الله تعالى جعل الدورة المحمدية دورة قمرية كما قال : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} (التوبة : 36) تنبيهاً منه
15
تعالى للعارفين من عباده أن آية القمر ممحوّة عن العالم الظاهر لمن اعتبر وتدبر في قوله : {لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ} (يس : 4) أي في علو المرتبة والشرف فكان ذلك تقوية لكتم آياتهم التي أعطاها للمحدثين العربيين وأجراها وأخفاها فيهم كذا في "عقلة المستوفز" لحضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر.
قال شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة في كتاب "اللائحات البرقيات" له مرتبة القمر إشارة في المراتب الإلهية إلى مرتبة الربوبية ومرتبة الشمس إلى مرتبة الألوهية ، وفي المراتب الكونية الآفاقية مرتبة القمر إشارة إلى مرتبة الكرسي واللوح ومرتبة الشمس إشارة إلى مرتبة العرش والقلم وفي المراتب الكونية الأنفسية مرتبة القمر إشارة إلى مرتبة الروح ومرتبة الشمس إشارة إلى مرتبة السر انتهى بإجمال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 13
ثم لحروف ظاهر النفس الرحماني منازل عدد منازل القمر ويقال لها التعينات وهي العقل الأول ، ثم النفس الكلية ، ثم الطبيعة الكلية ، ثم الهباء ، ثم الشكل الكلي ، ثم الجسم الكلي ، ثم العرش ثم الكرسي ، ثم الفلك الأطلس ، ثم النازل ، ثم سماء كيوان ، ثم سماء المشتري ، ثم سماء المريخ ، ثم سماء الشمس ، ثم سماء الزهرة ، ثم سماء عطارد ، ثم سماء القمر ، ثم عنصر النار ، ثم عنصر الهواء ، ثم عنصر الماء ، ثم عنصر التراب ، ثم المعدن ، ثم النبات ، ثم الحيوان ، ثم الملك ثم الجن.
ثم الإنسان ، ثم المرتبة.
وفي مقابلتها على الترتيب حروف باطن النفس الرحماني وهي : الاسم البديع ثم الباعث ثم الباطن ثم الآخر ثم الظاهر ثم الحكيم ثم المحيط ثم الشكور ثم الغني ثم المقتر ثم الرب ثم العليم ثم القاهر ثم النور ثم المصور ثم المحصي ثم المبين ثم القابض ثم المحيي ثم المميت ثم العزيز ثم الرزاق ثم المذل ثم القوي ثم اللطيف ثم الجامع ثم الرفيع.
ولو تفطنت حروف التهجي وجدتها على هذا الترتيب كما رتب أهل الآراء وهي الهمزة ثم الهاء ثم العين ثم الحاء المهملة ثم الغين المعجمة ثم القاف ثم الكاف ثم الجيم ثم الشين المنقوطة ثم الياء المثناة ثم الضاد المعجمة ثم اللام ثم النون ثم الراء المغفلة ثم الطاء المهملة ثم الدال المهملة ثم التاء المثناة من فوق ثم الزاي ثم السين المهملة ثم الصاد المهملة ثم الظاء المعجمة ثم الثاء المثلثة ثم الذال المنقوطة ثم الفاء ثم الباء الموحدة ثم الميم ثم الواو فسبحان من أظهر بالنفس الرحماني هذه المنازل في الأنفس والآفاق إرادة كمال الوفاق.
{لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (الجاثية : 13) يقول الفقير : أصلحه الله القدير : هذا بالنسبة إلى ما أبيح من تعلم النجوم وتوسل به إلى معرفة الآيات السماوية.
وأما قوله عليه السلام : "من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر" أي : قطعة منه.
فقد قال الحافظ : المنهي عنه من علم النجوم هو ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية في مستقبل الزمان ، كمجيء المطر ووقوع الثلج وهبوب الريح وتغير الأسعار ونحو ذلك.
ويزعمون أنهم يدركون ذلك بسير الكواكب واقترانها وافترقاها وظهورها في بعض الأزمان دون بعض.
وهذا علم استأثر الله به لا يعلمه أحد غيره ، فأما ما يدرك من طريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعرف به الزوال وجهة القبلة وكم مضى وكم بقي فإنه غير داخل في النهي انتهى.
وسمع ذو النون المصري شخصاً قائماً على الجبل وسط البحر يقول سيدي سيدي أنا خلف البحور والجزائر وأنت الملك الفرد بلا حاجب ولا زائر من ذا الذي أنس بك فاستوحش من ذا الذي نظر إلى آيات قدرتك فلم يدهش أما في نصبك السموات الطرائق ونظمك الفلك فوق رؤوس الخلائق ورفعك العرش المحيط بلا علائق وإجرائك الماء بلا سائق وإرسالك الريح بلا عائق ما يدل على فردانيتك ، أما السموات فتدل على منعتك ، وأما الفلك فيدل على حسن صنعتك وأما الرياح فتنشر من نسيم بركاتك وأما الرعد فيصوت بعظيم آياتك وأما الأرض فتدل على تمام حكمتك وأما الأنهار فتتفجر بعذوبة كلمتك وأما الأشجار فتخبر بجميل صنائعك وأما الشمس فتدل على تمام بدائعك.
قال الشيخ المغربي قدس سره :
17
جمله نقش تعينات ويند
جزء : 4 رقم الصفحة : 13
هره هستند در زمين وسما
وله :
مغربي زان ميكند ميلى بكلشن كاندرو
هره رازنكى وبويى هست رنك وبوى اوست
جزء : 4 رقم الصفحة : 13
(4/6)
{إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} (الحاقة : 20) وبعدم الرجاء عدم اعتقاد الوقوع المنتظم لعدم الأمل وعدم الخوف فإن عدمهما لا يستدعي عدم اعتقاد وقوع المأمول والمخوف أي لا يتوقعون الرجوع إلينا أو لقاء حسابنا المؤدي إما إلى حسن الثواب أو إلى سوء العذاب فلا يأملون الأول وإليه أشير بقوله : {وَرَضُوا بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا} ير بقوله : واطمأنوا بها كما في الإرشاد ورضوا بالحيوة الدنيا من الآخرة وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي واطمأنوا بها وسكنوا إليها قاصرين هممهم على لذائذها وزخارفها أو سكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها فبنوا شديداً واملوا بعيداً : يعني (در دنيا ساكن كشتند بر وجهي كه كوييا هركز ايشانرا از آنجا رحلت نخواهد بودوند انستندكه لحظه بلحظه دست اجل طبل رحيل فرخوا اهد كوفت) :
آن كيست كه دل نهاد وفارغ بنشست
نداشت كه مهلتي وتأخيري هست
كو خيمه مزن كه ميخ مى بايد كند
كو رخت منه كه بار مى بايد بست
روى أن الله تعالى قال : عجبت من ثلاثة ، ممن آمن بالنار ويعلم أنها وراءه كيف يضحك.
ومن اطمأنت نفسه بالدنيا وهو يعلم أنه يفارقها كيف يسكن إليها.
وممن هو غافل وليس بمغفول عنه كيف يلهو.
ونزل النعمان بن المنذر تحت شجرة ليلهو فقال عدي أيها الملك أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ ثم أنشأ يقول :
رب ركب قد أناخوا حولنا
يمزجون الخمر بالماء الزلال
ثم اضحوا عصف الدهر بهم
وكذاك الدهر حالاً بعد حال
فتنغص على النعمان يومه كذا في ربيع الأبرار والذين هم عن آياتنا عن آيات القرآن فيكون المراد الآيات التشريعية أو عن دلائل الصنع فيكون المراد الآيات التكوينية غافلون لا يتفكرون فيها لانهماكهم فيما يضادها والعطف لتغاير الوصفين أي للجمع بين الوصفين المتغايرين الانهماك في لذات الدنيا وزخارفها والذهول عن آيات الله ودلائل المعرفة أو لتغاير الذاتين كما قال في التأويلات النجمية إن الذين لا يعتقدون السير إلينا والوصول بنا لدناءة همتهم ورضوا بالتمتعات الدنيوية وركنوا إلى مالها وجاهها وشهواتها همتهم والذين هم عن آياتنا غافلون وإن لم يركنوا إلى الدنيا وتمتعاتها ، وكانوا أصحاب الرياضات والمجاهدات من أهل الأديان والملل وهم البراهمة والفلاسفة والإباحية لكن كانوا معرضين عن متابعة النبي ، أو كانوا من أهل الأهواء والبدع.
جزء : 4 رقم الصفحة : 17
{والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم} (الرعد : 22) أو تحية الله إياهم كما قال : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58) :
سلام دوست شنيدن سعادتست وسلامت
بوصل يار رسيدن فضيلتست وكرامت
{وَءَاخِرُ دَعْوَاـاهُمْ} نعته بصفات الجلال أي دعاؤهم منحصر فيما ذكر إذ ليس لهم مطلب مترقب حتى ينظموه في سلك الدعاء ، وإن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف والجملة الاسمية التي بعدها في محل الرفع على أنها خبر لها وإن مع اسمها وخبرها في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول روى أن أهل الجنة إذا اشتهوا شيئاً يقولون : سبحانك اللهم فيأتيهم الخدم بالطعام والشراب وكل ما يشتهون فإذا طعموا قالوا الحمدرب العالمين.
واعلم أنه لا تكليف في الجنة ولا عبادة وما عبادة أهل الجنة إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه وذلك ليس بعبادة وإنما يلهمونه فينطقون به تلذذاً بلا كلفة (وهر آيينه لذت تسبيح وتحميد ايشسانرا از ميع لذاتهاى بهشت خو بترآيد)
ذوق نامش عاشق مشتاقرا
از بهشت جاودانى خوشتراست
كره درفردوس نعمتها بسى ست
وصل او ازهره دانى خوشترست
19
وفيه إشارة إلى أن اللسان إنما خلق للذكر والدعاء لا لكلام الدنيا والغيبة والبهتان.
زبان آمد از بهر شكرو ساس
بغيبت نكرداتدش حق شناس
وقد كان أول كلام تكلم به أبونا آدم عليه السلام حين عطس الحمد ، وآخر الدعاء أيضاً كان ذلك.
ففيه إشارة إلى أن العبد غريق في بحر نعم الله أولاً وآخراً فعليه استغراق أوقاته بالحمد ونعم الله في الدنيا متناهية وفي الآخرة غير متناهية فالحمد لا نهاية له أبد الآباد وهو منتهى مراتب السالكين : وفي المثنوى :
حمدشان ون حمدكلشنن از بهار
صد نشانى دارد وصد كير ودار
بر بهارش شمه ونخل وكياه
وان كلستان ونكارستان كواه
توملاف از مشك كان بوى ياز
جزء : 4 رقم الصفحة : 19
از دم تو ميكند مكشوف راز
كلشكر خوردم همى كوئى وبوى
مى زند از سير كه ياوه مكوى
يعني : أن لحمد العارف علامة فإنه يشهد لحمده كل أعضائه بخلاف حمد غيره فلا بد من تحقيق الدعوى بالحجة والبرهان فإن الدعوى المجردة لا تنفع كما لا يخفى على أهل الإيقان نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الحامدين في السراء والضراء بلسان الجهر والإخفاء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 19
(4/7)
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ} والاستعجال طلب العجلة والمراد بالشر العذاب وسمى به لأنه أذى مكروه في حق المعاقب روى أن النضر بن الحارث قال منكراً لنبوته عليه السلام اللهم إن كان محمد حقا في إدعاء الرسالة فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، وكانوا يستعجلون العذاب المتوعد به من لسان النبوة فقال تعالى : ولو يعجل الله للناس الشر والعذاب حين استعجلوه استعجالاً مثل استعجالهم بالخير والرحمة والعافية لقضى إليهم أجلهم لأدى إليهم الأجل الذي عين لعذابهم وأميتوا وأهلكوا بالمرة وما أمهلوا طرفة عين ، لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ما استعجلوه من العذاب ولكن لا نعجل ولا نقضى فنذر الذين أي نترك فالفاء للعطف على مقدر ، لا على يعجل ؛ إذ لو كان كذلك لدخل في الامتناع الذي يقتضيه لو ، وليس كذلك لأن التعجيل لم يقع وتركهم في طغيانهم يقع كما في تفسير أبي البقاء لا يرجون لقاءنا لا يتوقعون جزاءنا في الآخرة التي هي محل اللقاء لإنكارهم البعث في طغيانهم الذي هو عدم رجاء اللقاء وإنكار البعث والجزاء وهو متعلق بنذر أو بقوله : يعمهون أي : حال كونهم متحيرين ومترددين ، وذلك لأنه لاصلاح ولا حكمة في إماتتهم وإهلاكهم عاجلاً إذ ربما آمنوا بعد ذلك أو ربما خرج من أصلابهم من يكون مؤمناً ولذلك لا يعاجلهم الله تعالى بإيصال الشر إليهم ، بل يتركهم إمهالاً لهم واستدراجاً.
قال الحدادي : الآية عامة في كل من يستعجل العقاب الذي يستحقه بالمعاصي ويدخل فيها دعاء الإنسان على نفسه وولده وقومه بما يكره أن يستجاب له مثل قول الرجل إذا غضب على ولده اللهم لا تبارك فيه والعنه وقوله لنفسه رفعني الله من بينكم وفي الحديث : (دعاء المرء على محبوبه غير مقبول) وعن ابن عمر رضي الله عنهما رفعه (إني سألت الله لا يقبل دعاء حبيب على حبيبه) ولكن قد صح (إن دعاء الوالد على ولده لا يرد) فيجمع بينهما كما في المقاصد الحسنة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 20
وقال شهر بن حوشب : قرأت في بعض الكتب إن الله تعالى يقول للملكين
20
الموكلين لا تكتبا على عبدي في حال ضجره شيئاً.
ثم بين الله تعالى أنهم كاذبون في استعجال العذاب بناء على أنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه لا يصبر عليه بل يتضرع إلى الله في إزالته عنه فقال وإذا مسى الإنسان أصابه الضر جنس الضر من مرض وفقر وغيرهما من الشدائد إصابة يسيرة دعانا (بخواند مرا باخلاص براى ازاله او).
لجنبه اللام بمعنى على كما في قوله تعالى : يخرون للأذقان أي : دعنا كائناً على جنبه أي مضطجعاً ، أو ملقى لجنبه على الأرض لما به من المرض واللام على بابها.
أو قاعداً أو قائماً وذلك من الضرر ما يغلب الإنسان ويجعله صاحب فراش يضطره إلى الاضطجاع ، ومنه ما يكون أخف من ذلك ويجعله بحيث يقدر على القعود ومنه ما يتمكن الإنسان معه على القيام لا غير.
ففائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع أصناف الضرر ، ويجوز أن يكون لجميع الأحوال ، أي : دعانا في جميع أحواله مما ذكر وما لم يذكر لإزالة ما يضر عنه في حال ما من أحواله ، وتخصيص المعدودات بالذكر لعدم خلو الإنسان عنها عادة.
فلما كشفنا عنه ضره رفعناه وأزلناه بسبب إخلاصه في الدعاء مرّ مضى على طريقته التي كان ينتحيها قبل مساس الضر ونسى حالة الجهد والبلاء واستمر على كفره.
كأن أي : كأنه لم يدعنا إلى ضر مسه أي مشبهاً بمن لم يدع إلى كشف ضره فهو حال من فاعل مر وهذا وصف للجنس باعتبار حال بعض أفراده ممن هو متصف بهذه الصفات كذلك أي مثل ذلك التزيين ، فالكاف اسم منصوب المحل على أنه صفة مصدر محذوف لقوله : زين للمسرفين ما كانوا يعملون من الأعراض عن التضرع والانهماك في الشهوات حين انكشاف الضر عنهم.
وسمى الكافر مسرفاً لكونه مسرفاً في أمر دينه متجاوزاً عن الحد في الغفلة عنه فإنه لا شبهة في إن المرء كما يكون مسرفاً في الإنفاق فكذا يكون مسرفاً في اتباع الهوى وتضييع العمر فيما لا يعنيه بل يضره.
قال الصائب :
ازين ه سودكه دركلستان وطن دارم
مراكه عمر و نركس بخواب ميكذرد
جزء : 4 رقم الصفحة : 20
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ} يعني الأمم الماضية مثل قوم نوح وعاد من قبلكم متعلق بأهلكنا وليس بحال من القرون لأنه زمان أي : أهلكنا من قبل زمانكم يا أهل مكة لما ظلموا حين ظلموا بالتكذيب واستعمال القوى والجوارح لا على ما ينبغي وجاءتهم أي : والحال أنهم قد جاءتهم رسلهم بالبينات أي : بالحجج الدالة على صدقهم وما كانوا ليؤمنوا وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله لهم وعلمه بأنهم يموتون على كفرهم وهو عطف على ما ظلموا ، كأنه قيل لما ظلموا وأصروا على الكفر بحيث لم يبق فائدة في إمهالهم أهلكناهم كذلك أي : مثل ذلك الجزاء وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم للرسل وإصرارهم عليه بحيث تحقق إنه لا فائدة في إمهالهم نجزي القوم المجرمين نجزى كل مجرم.
(4/8)
ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر ؛ لأن الله تعالى لا يحتاج في العلم بأحوال الإنسان إلى الاختبار والامتحان في الحقيقة ، ولكن يعامل معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ليجازيهم بحسبه لننظر النظر في اللغة : عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي طلباً لرؤيته وهو في حقه
21
تعالى مستعار للعلم المحقق الذي لا يتطرق إليه شك ولا شبهة بأن يشبه هذا العلم بنظر الناظر وإدراكه عين المرئي على سبيل المعاينة والمشاهدة ، ويطلق عليه لفظ النظر والرؤية على سبيل الاستعارة التصريحية ثم تسرى الاستعارة إلى الفعل تبعاً.
قال الكاشفي : (تابه بينيم در صورت شهادت بعد ازانكه دانستيم درغيب شماكه) كيف تعملون (ه كونه عمل خواهيد كرد ازخر وشرتا باشما بمقتضاى اعمال شما عامله كنيم ان خيرا فخير وان شرا فشر) :
جزء : 4 رقم الصفحة : 21
را آيينه فعلست كويى
كه دروى هره كردى مينمايد
اكر كردى نكوئى نيك بيني
وكريد كرده بد يشت آيد
وكيف معمول تعملون فإن معنى الاستفهام يحجب أن يعمل فيه ما قبله ، وفائدته : الدلالة على أن المعتبر في الجزاء جهات الأفعال وكيفياتها لا من حيث ذاتها ولذلك يحسن الفعل تارة ويقبح أخرى وفي الحديث : إن الدنيا حلوة خضرة يعني حسنة في المنظر تعجب الناظر والمراد من الدنيا صورتها ومتاعها وإنما وصفها بالخضرة ؛ لأن العرب تسمى الشيء الناعم خضراء ولتشبيهها بالخضراوات في سرعة زوالها وفيه بيان كونها غرارة يفتتن الناس بحسنها.
قال الحافظ :
خوش عروست جهان ازره صورت ليكن
هركه يوست بدوعمر خودش كابين داد
قال : في فتح القريب حسنها للنفوس ونضارتها ولذتها كالفاكهة الخضراء الحلوة فإن النفس تطلبها طلباً حثيثاً فكذلك الدنيا وهي في الحال حلوة خضراء وفي المآل مرة كدرة نعمت المرضعة وبئست الفاطمة وإن الله مستخلفكم فيها أي : جاعلكم خلفاء في الدنيا يعني إن أموالكم ليست هي في الحقيقة لكم إنما هيجعلكم في التصرف فيها بمنزلة الوكلاء فناظر كيف تعملون أي : تتصرفون قيل معناه جاعلكم خلفاً ممن قبلكم وأعطى ما بأيديهم إياكم فناظر هل تعتبرون بحالهم وتتدبرون في مآلهم.
قال قتادة : ذكر لنا عمر رضي الله عنه قال : صدق ربنا جعلنا خلفاء الأرض لينظر إلى أعمالنا فأروه من أعمالكم خيراً بالليل والنهار والسر والعلانية.
وفي الآية : وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله ليرتدعوا عن إنكار النبوة واستعجال الشر حذراً من أن ينزل بهم عذاب الاستئصال كما نزل بمن قبلهم من المكذبين وهذا الوعيد والتهديد لا يختص بهم فإن أهل كل قرن خليفة لمن قبله إلى قيام الساعة.
فعلى العاقل أن يعتبر بمن مضى ويتدارك حاله قبل نزول القضاء.
قال : في التأويلات النجمية إن لهذه الأمة اختصاصاً باستحقاق الخلافة الحقيقية التي أودعها الله في آدم عليه السلام بقوله : إني جاعل في الأرض خليفة ولهذا السر ما كان في أمة من الأمم من الخلفاء ما كان في هذه الأمة بالصورة والمعنى وللخلافة صورة ومعنى فكما أن صورة الخلافة مبنية على الحكم بين الرعية الصورية بالعدل والتسوية على قانون الشرع والأجناب عن متابعة الهوى والطبع ، كذلك معنى الخلافة مبنى على الحكم بين الرعية المعنوية ، وهي الجوارح والأعضاء والقلب والروح والسر والنفس وصفاتها وأخلاقها والحواس الخمس والقوى النفسانية بالحق ، كما كان سيرة الأنبياء وخواص الأولياء في طلب الحق ومجانبة الباطل وترك ما سوى الله والوصول إلى الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 21
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ}
22
أي : على مشركي مكة.
آياتنا القرآنية الدالة على حقيقة التوحيد وبطلان الشرك حال كونها.
بينات واضحات الدلالة على ذلك.
قال الذين لا يرجون لقاءنا : يعني : (اميد ندارند ديدار مارا ورسيدن بما) وهو عبارة عن كونهم مكذبين للحشر.
(4/9)
قال في التأويلات النجمية فيه إشارة إلى أنه ليس لهم شوق إلى الله وطلبه إذا الشوق من شان القلب الحي وقلوبهم ميتة ونفوسهم حية فلما في القرآن مما يوافق القلوب ويخالف النفوس ما قبله أرباب النفوس ائت بقرآن غير هذا القرآن المنزل بأن لا يكون على ترتيب هذا ونظمه وبأن يكون خالياً عما نستبعده من أمر البعث والجزاء وعما نكرهه من ذم آلهتنا وتحقيرها أو بدله بأن يكون هذا القرآن المنزل باقياً على نظمه وترتيبه لكن يوضع مكان الآيات الدالة على ما نستبعده ونستكرهه آيات آخر موافقة لطريقتنا كما بدل أحبار اليهود التوراة ورهبان النصارى الإنجيل بما كان موافقاً لهواهم ولعلهم سألوا ذلك طمعاً في أن يسعفهم إلى إتيانه من قبل نفسه فليزموه بأن يقولوا قد تبين لنا أنك كاذب في دعوى إن ما تقرأه علينا كلام إلهي وكتاب سماوي أوحي إليك بواسطة الملك وإنك تقوله من عند نفسك وتفترى على الله كذباً قل ما يكون لي أي : ما يصح لي ولا يمكنني أصلاً أن أبدله من تلقاء نفسي أي : من قبل نفسي وإنما اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر كذا قال البيضاوي : وهو أولى مما في الكشاف ، والبيان.
أن التبديل داخل تحت قدرة الإنسان ، وإما الإتيان بقرآن آخر فغير مقدور عليه للإنسان وذلك ؛ لأن التبديل ربما يحتاج إلى تغيير سورة أو مقدارها وإعجاز القرآن يمنع من ذلك كما لا يخفى وهو اللائح بالبال إن اتبع إلا ما يوحى إليّ تعليل لما يكون فإن المتبع لغيره في أمر لم يستبد بالتصرف فيه بوجه أي : ما اتبع في شيء إلا ما يوحى إلي من غير تغيير له في شيء أصلاً على معنى قصر حاله عليه السلام على اتباع ما يوحى إليه لا قصر أتباعه على ما يوحي إليه كما هو المتبادر من ظاهر العبارة كأنه قيل ما افعل إلا اتباع ما يوحى إليّ وقد مر تحقيق المقام في سورة الأنعام إني أخاف إن عصيت ربي أي : بالتبديل عذا يوم عظيم هو يوم القيامة.
وفيه إشارة : إلى أن التبديل إذا كان عصياناً مستوجباً للعذاب يكون اقتراحه كذلك لأنه نتيجته والنتيجة مبنية على المقدمة فعلم منه أن المؤدي إلى المكروه أو الحرام ، مكروه أو حرام ألا ترى أن بعض الكيوف التي يستعملها أرباب الشهوات في هذا الزمان مؤد إلى استثقال الصوم الفرض واستثقال أمر الله تعالى ليس من علامات الإيمان نسأل الله تعالى أن يجذب عناننا من الوقوع في مواقع الهلاك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 21
{قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُه عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاـاكُم بِهِ} .
ما تلوته عليكم لأني أمي وليس التلاوة والقراءة من شأني كما كان حالي مع جبريل أول ما نزل فقال : اقرأ قلت لست بقارىء فغطني جبريل ثم ارسلني فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق ، فقرأته لما جعلني قارئاً ولو شاء الله أن لا أقرأه ما كنت قادراً على قرآته عليكم حكي إن واحداً من المشايخ الأميين استدعى منه بعض المنكرين الوعظ بطريق التعصب والعناد زعماً منهم أنه لا يقدر عليه فيفتضح لأنه كان كردياً لا يعرف لسان العرب ولا يحسن الوعظ والتذكير فنام بالغم فأذن له في المنام بذلك فلما أصبح جلس
23
مجلس الوعظ والتذكير وقرر من كل تأويل وتفسير وقال : أمسيت كرديا وأصبحت عربياً ، وذلك من فضل الله وهو على كل شيء قدير.
قال الحافظ :
فيض روح القدس ار باز مدد فرمايد
ديكران هم بكنند آنه مسيحا ميكر
ولا أدريكم به ماضٍ من دريت الشيء ، ودريت به ، أي : أعلمته وادرانيه غيري أي : اعلمنيه والمعنى ، ولا أعلمكم الله القرآن على لساني ولا أشعركم به أصلاً فقد لبثت فيكم أي : مكثت بين ظهرانيكم عمراً بضمتين الحياة والجمع أعمار كما في القاموس.
قال أبو البقاء : ينصب نصب الظروف أي : مقدار عمر أو مدة عمر.
قال ابن الشيخ : أي مدة متطاولة وهي أربعون سنة من قبله من قبل القرآن لا أتلوه ولا أعلمه وكان عليه السلام لبث فيهم قبل الوحي أربعين سنة ثم أوحي إليه فأقام بمكة بعد الوحي ثلاث عشرة سنة ، ثم هاجر إلى المدينة فأقام بها عشر سنين وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة فمن عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علماً ولم يشاهد عالماً ولم ينشىء قريضاً ولا خطبة ثم قرأ عليهم كتاباً بزت فصاحته فصاحة كل منطيق وعلى كل منثور ومنظوم واحتوى على قواعد علمي الأصول والفروع وأعرب عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هي عليه علم أنه معلم به من عند الله وإن ما قرأه عليه معجز خارق للعادة.
امىء داناكه بعلم فزون
راندرقم برورق كاف ونون
بى خط وقرطاس زعلم ازل
مشكل لوح وقلمش كش حل
أفلا تعقلون أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر فيه لتعلموا أنه ليس إلا من الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 23
{أولئك حِزْبُ اللَّه أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المجادلة : 22) كذا في "روض الرياحين" للامام اليافعي.
وفي "المثنوى" في وصف الأولياء :
مرده است ازخودشده زنده برب
زان بوداسرار حقش دردولب
(4/10)
جزء : 4 رقم الصفحة : 23
{وَيَعْبُدُونَ} أي : كفار مكة من دون الله حال من الفاعل أي : متجاوزين الله لا بمعنى ترك عبادته بالكلية بل بمعنى عدم الاكتفاء بها وجعلها قريباً لعبادة الأصنام ما لا يضرهم ولا ينفعهم أي : الأصنام التي لا قدرة لها على إيصال الضرر إليهم إن تركوا عبادتها ولا على إيصال المنفعة إن عبدوها ، لأن الجماد بمعزل عن ذلك والمعبود ينبغي أن يكون مثيباً ومعاقباً حتى تعود عبادته بجلب نفع أو دفع ضر ويقولون هؤلاء الأصنام شفعاؤنا عند الله تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا لأنهم كانوا لا يقرون بالمعاد ، أوفي الآخرة إن يكن بعث ، كما قال : الكاشفي : (يا اكر فرضا حشر ونشر باشد نانه معتقد مؤمنا نست مارا ازخداى درخواست ميكنند واز عذاب ميرهانند).
واعلم أن أول ما حدثت عبادة الأصنام في قوم نوح عليه السلام وذلك إن آدم كان له خمسة أولاد صلحاء وهم ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر.
فمات ودّ فحزن الناس
25
عليه حزناً شديداً فاجتمعوا حول قبره لا يكادون يفارقونه وذلك بأرض بل فلما رأى إبليس ذلك جاء إليهم في صورة إنسان وقال لهم هل لكم أن أصور لكم صورة إذا نظرتم إليها ذكرتموه قالوا : نعم فصور لهم صورته ثم صار كلما مات منهم واحد صور صورته وسموا تلك الصور بسمائهم ثم لما تقادم الزمن وتناست الآباء والأبناء وأبناء الأبناء قال : لمن حدث بعدهم إن الذين كانوا قبلكم يعبدون هذه الصور فعبدوها فأرسل الله إليهم نوحاً فنهاهم عن عبادتها فلم يجيبوه لذلك وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق ثم إن تلك الصور دفنها الطوفان في ساحل جدة فأخرجها اللعين ، وأول من نصب الأوثان في العرب عمرو بن لحي من خزاعة وذلك أنه خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فرأى بأرض البلقاء العماليق ولد عملاق بن لاود بن سام بن نوح وهم يعبدون الأصنام فقال : لهم ما هذه؟ قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا فقال : لهم أفلا تعطونني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب؟ فأعطوه صنماً يقال : له هبل من العقيق على صورة إنسان ، فقدم به مكة فنصبه في بطن الكعبة على يسراها وأمر الناس بعبادته وتعظيمه فكان الرجل إذا قدم من سفره بدأبه قبل أهله بعد طوافه بالبيت وحلق رأسه عنده كذا في إنسان العيون وكان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة العزى ومناة وهبل وأسافا قل أتنبئون الله أتخبرونه بما لا يعلم أي : بالذي لا يعلمه كائناً في السموات ولا في الأرض فما عبارة عن إن له شريكاً والظرف حال من العائد المحذوف وفي الاستفهام الإنكاري تقريع لهم وتهكم بهم حيث نزلوا منزلة من يخبر علام الغيوب بما ادعوه من المحال الذي هو وجود الشركاء كاء وشفاعتهم عند الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 25
وفي الظرف تنبيه على أن ما يعبدونه من دون الله إما سماوي كالملائكة والنجوم وإما أرضي كالأصنام المنحوتة من الشجر والحجر لا شيء من الموجودات فيهما إلا وهو حادث مقهور مثلهم لا يليق أن يشرك به سبحانه.
قال الكاشفي : (انتفاء علم بجهت معلومست يعني شما ميكوييد كه خدايرا شريك هست.
وإثبات بشفاعت بتان ميكنيد وخداوندكه عالمست بجميع معلومات اين را نمى دانيدس معلوم شدكه شريك نيست وشفاعت نخواهد بود) كما قال ابن الشيخ : فإن شيئاً من ذلك لو كان موجوداً لعلمه الله وما لا يعلمه الله استحال وجوده سبحانه (اكست) وتعالى (برترست(عما يشركون لما كان المنزه للذات الجليلة هو نفس الذات آل التنزيه إلى معنى التبرى أي : تبرأ وجل عن إشراكهم
واحداندر ملك اورايارنى
بندكانش را جز اوسالارنى
جزء : 4 رقم الصفحة : 25
{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً} أي : على ملة واحدة في عهد آدم عليه السلام إلى أن قتل قابيل هابيل أو في زمن نوح بعد الطوفان حين لم يبق على وجه الأرض من الكافرين دياراً فإن الناس كانوا متفقين على الدين الحق فاختلفوا أي : تفرقوا إلى مؤمن وكافر ولولا كلمة سبقت من ربك أي : لولا الحكم الأزلي بتأخير العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل والجزاء لقضي بينهم عاجلاً فيما فيه يختلفون بإهلاك المبطل وإبقاء المحقق.
قال الكاشفي : (هر آينه حكم كرده شدى ميان ايشان ران يزى كه ايشان دران اختلاف
26
(4/11)
ميكنند عذاب بيامدى ومبطل هلاك شدى ومحق بماندى) ويحتمل أن يكون المعنى أن الناس كانوا أمة واحدة في بدء الخلقة موجودين على أصل الفطرة التي فطر الناس عليها فاختلفوا بحسب تربية الوالدين كما قال عليه السلام : (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه ويمجسانه) ثم اختلفوا بعد البلوغ بحسب المعاملات الطبيعية والشرعية ؛ ثم هذا الاختلاف كما كان بين الأمم السالفة كذلك كان بين هذه الأمة فمن مؤمن ومن كافر ومن مبتدع وفي اختلافهم فائدة جليلة وحكمة عظيمة حيث إن الكمال الإلهي إنما يظهر بمظاهر جماله وجلاله لكن ينبغي للناس أن يكونوا على التآلف والتوافق دون التباغض والتفرق لأن يد الله مع الجماعة وإنما يأكل الذئب الشاة المنفردة وأوصى حكيم أولاده عند موته وكانوا جماعة فقال لهم : ائتوني بعصى فجمعها وقال : اكسروها وهي مجموعة فلم يقدروا على ذلك ثم فرقها وقال لهم : خذوا واحدة واحدة فاكسروها فكسروها فقال لهم : هكذا أنتم بعدي لن تغلبوا ما اجتمعتم فإذا تفرقتهم تمكن منكم عدوكم فاهلككم وفي الحديث : (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ) والمراد بالخلفاء : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين ، والراشدون جمع راشد اسم فاعل وهو الذي أتى بالرشد واتصف به وهو ضد الغي فالراشد ضد الغاوي والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه ، والنواجذ : آخر الأسنان والمعنى واظبوا على السنة وألزموها واحرصوا عليها كما يفعل العاض على الشيء بنواجذه خوفاً من ذهابه وتفلته وقد وقع هذا الاختلاف وسيقع إلى أن يقوم المهدي وينزل عيسى عليه السلام ، قال الحافظ :
جزء : 4 رقم الصفحة : 26
توعمر خواه وصبورى كه رخ شعبده باز
هزار بازى ازين طرفه تر بر انكيزد
وقال :
روزي اكر غمي رسدت تنك دل مباش
روشكر كن مبادكه ازبد بتر شود
قال بعض العلماء : في هذه الأمة فرقة مختلفة تبغض العلماء وتعادى الفقهاء ولم يكن ذلك فيمن تقدم قبلنا من الأمم بل كانوا منقادين لهم محبين كما وصفهم الله تعالى في كتابه اتخذوا أحبارهم وربهانهم أربابا من دون الله}(التوبة : 31) والفقيه إذا كان مبغوضاً بين الناس فما ظنك بالعالم بالله ألا تراهم إذا وجدوا الرجل كاملاً في العلوم الظاهرة والباطنة متفردا في فنه متميزاً من جنسه متفوقاً على أقرانه فمن قائل في حقه إنه زنديق ومن قائل إنه مبتدع وقلما تسمع من يقول إنه صديق فانظر إلى غيرة الله تعالى كيف ستره عن الأغيار وأخفى سره عن الأشرار.
قال الحافظ :
معشوق عيان ميكذرد برتو وليكن
اغيار همي بيند ازان بسته نقابست
قال رويم : من المشايخ الكرام : لا يزال الصوفية بخير ما تنافروا فإذا اصطلحوا هلكوا وذلك لأنه لو قبل بعضهم بعضاً لبقي بعضهم مع بعض وسكن بعضهم إلى بعض والسكون إلى غير الله تعالى عند الخواص من قبيل عبادة الأصنام عند العوام ، وهذا التبري بين الصوفية المحققين ليس كالتبري بين اليهود والنصارى لأن تبريهم في الحق للحق وتبرى هؤلاء في الباطل للباطل والحاصل : أن من الاختلاف ما كان مذموماً وما كان ممدوحاً ، فالمذموم هو ما كان في العقائد وأصول
27
الدين ، والممدوح هو ما كان في الأعمال وفروع الدين كما قال عليه السلام : (اختلاف الأئمة رحمة) وعن علي كرم الله وجهه قال : له يهودي : ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فقال : إنما اختلفنا عنه لا فيه ولكنكم ما جفت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيكم اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة وهذا من الأجوبة المسكتة والله يقول : الحق وهو يهدي السبيل.
{وَيَقُولُونَ} أي : كفار مكة لولا للتحضيض مثل هلا أنزل عليه على محمد عليه الصلاة والسلام آية معجزة من ربه كانوا يقولون إن القرآن يمكن معارضته كما دل عليه قولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا ويقترحون أشياء أخر سوى القرآن لتكون معجزة مثل اليد والعصا وتفجير الأنهار وغيرها :
كفت اكر آسان نمايد اين بتو
ايننين يك سوره كو اى سخت رو
فقل لهم في الجواب إنما الغيباللام للاختصاص العلمي دون التكويني فإن الغيب والشهادة في ذلك الاختصاص سيان.
والمعنى إن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة وعلقتم عليه إيمانكم من الغيوب المختصة بالله سبحانه لا وقوف لي عليه ولو علم الصلاح في زيادة الآيات لأنزل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 26
(4/12)
وفي التأويلات النجمية : الغيب : هو عالم الملكوت الذي ينزل منه الآيات ويظهر منه المعجزات بإنزال الله تعالى وإظهاره فهووبحكمه ينزل الآيات منه متى شاء كما شاء ، فانتظروا لنزول ما اقترحتموه إني معكم من المنتظرين لما يفعل الله بكم بجحودكم ما نزل عليّ من الآيات العظام واقتراحكم غيره وقدأمهلهم الله سبحانه ليأخذ الظالم منهم أخذ عزيز مقتدر وقد يعجل عقوبة من يشاء (آورده اندكه سسالارى بود ظالم وبا تباع خود بخانه يكى از مشايخ كبار فرود آمد خداوندخانه كفت من منشوري دارم بخانه من فرود مياكفت منشوري بنماى شيخ در خانه رفت ومصحفي عزيز داشت ودريش بياورد وبازكرد اين آيت برآمدكه يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها}(النور : 27) سهسالار كفت حن نداشتم كه منشورا ميردارى بدان التفات نكرد ودرخانه شيخ فرود آمد آن شب قولنجش بكرفت وهلاك شد) وفيه إشارة إلى أن حضرة القرآن ليس كسائر الآيات.
فمن رده واستحقره فقد تعرض لسخط الله تعالى أشد التعرض كما أن من قبله وعظمه ، صورة بالرفع والمس على الطهارة ونحو ذلك ، ومعنى بالعمل بما فيه والتخلق بأخلاقه نال من الله كما يتمناه ـ ـ حكى ـ ـ إن عثمان الغازي جد السلاطين العثمانية إنما وصل إلى ما وصل برعاية كلام الله تعالى ، وذلك أنه كان من أسخياء زمانه يبذل النعم للمترددين فثقل ذلك على أهل قريته ونغصوا عليه فذهب ليشتكي من أهل القرية إلى الحاج بكتاش أو غيره من الرجال فنزل بيت رجل قد علق فيه مصحف فسأل عنه فقالوا : هو كلام الله تعالى فقال : ليس من الأدب أن نقعد عند كلام الله تعالى فقام وعقد يديه مستقبلاً إليه فلم يزل قائماً إلى الصبح فلما أصبح ذهب إلى طريقه فاستقبله رجل وقال : أن مطلبك ثم قال له : إن الله تعالى عظمك وأعطاك وذريتك السلطنة بسبب تعظيمك لكلامه ثم أمر بقطع شجرة وربط برأسها منديلاً وقال : ليكن ذلك لواء ثم اجتمع عنده جماعة فجعل أول غزوته بلاجك ، وفتح بعناية الله تعالى ثم أذن له السلطان علاء الدين في الظاهر أيضاً فصار سلطاناً ثم بعد ارتحاله صار ولده
28
اورخان سلطاناً ففتح هو بروسة المحروسة بالعون الإلهي فمن ذلك الوقت إلى هذا الآن الدولة العثمانية على الازدياد بسبب تعظيمه كتاب الله وكلامه القديم كذا في "الواقعات المحمودية".
فليلازم العاقل تعظيم القرآن العظيم ليزداد جاهه ورتبته ، وليحذر من تحقيره لئلا ينتقص شأنه وهيبته ألا ترى أن السلطان محمد الرابع وأعوانه لما رفضوا العمل بالقرآن ، وأخذوا بالظلم والعدوان سلط الله عليهم وعلى الناس بسببهم القحط والخوف فخرج من أيديهم أكثر القلاع المعمورية الرومية ، واستولى الكفار إلى أن طمعوا في القسطنطينية واشتد الخوف إلى أن قال الناس : أين المفرّ ، وكل ذلك وقع من القرناء السوء فإنهم كانوا يحثون السلطان على الجريان بخلاف الشرع.
جزء : 4 رقم الصفحة : 26
اي فغان از يار ناجنس اي فغان
همنشين نيك جو ييد اي مهان
اي بسا مهتر به از شور وشر
شد زفعل زشت خود ننك در
اللهم اجعلنا من المعتبرين واجعلنا من المتبصرين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 26
{وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ} أي : أهل مكة رحمة صحة وسعة من بعد ضراء كحقط ومرض مستهم أصابتهم وخالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم وإسناد المساس إلى الضراء بعد إسناد الإذاقة إلى ضمير الجلالة من الآداب القرآنية كما في قوله تعالى : {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء : 80) ونظائره ، وإذا للشرط وجوابه قوله {إِذَآ} للمفاجأة لهم مكر في آياتنا أي : فاجأوا في وقت إذاقة الرحمة وقوع المكر منهم بالطعن في الآيات والاحتيال في دفعها وسارعوا إليه قبل أن ينفضوا عن رؤوسهم غبار الضراء.
قيل : قحط أهل مكة سبع سنين حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم الله وانزل الغيث على أراضيهم فطفقوا يقدحون في آيات الله ويكيدون رسوله.
قال مقاتل : لا يقولون هذا رزق الله وإنما يقولون سقينا بنوء كذا وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط من الأنواء جمع نوء وهي ثمانية وعشرون منزلاً ، ينزل القمر كل ليلة في منزل منها ويسقط في المغرب نجم واحد من تلك المنازل الثمانية والعشرين في كل ثلاثة عشر يوماً مع طلوع الفجر ، ويطلع رقيبه من المشرق في ساعته في مقابلة ذلك الساقط وهذا في غير الجبهة فإن لها أربعة عشر يوماً فينقضى الجميع بانقضاء السنة ، أي : مع انقضاء ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً لأن ثلاثة عشر في ثماني وعشرين مرة تبلغ هذا القدر من العدد وإنما سمى النجم نوأ لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب فالطالع بالمشرق ينوء أي : ينهض ويطلع فلما أنجاهم الله من القحط لبسوا الأمر على اتباعهم وأضافوا ذلك المطر إلى الأنواء لا إلى الله لئلا يشكروا الله ولا يؤمنوا بآياته فقيل هذا هو المراد بمكرهم في آيات الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 29
(4/13)
ومن لا يرى الأمطار إلا من الأنواء كان كافراً ، بخلاف من يرى أنها بخلق الله والأنواء وسائط وأمارات بجعله تعالى كما قال : في الروضة المؤثر هو الله تعالى والكواكب أسباب عادية.
قال الحافظ :
كررنج يشت آيد وكرراحت اي حكيم
نسبت مكن بغير كه اينها خدا كند
قل الله أسرع مكرا أي : أعجل عقوبة ، أي : عقابه أسرع وصولاً إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق وتسمية العقوبة بالمكر لوقوعها في مقابلة مكرهم وجودا ، فيكون من باب تسمية الشيء باسم سببه ، أو ذكرا فيكون من باب المشاكلة روى عن مقاتل أنه تعالى قتلهم يوم بدر
29
وجازى مكرهم في آياته بعقاب ذلك اليوم ، فكان أسرع في إهلاكهم من كيدهم في إهلاكه عليه السلام وإبطال آياته.
والمكر إخفاء الكيد وإرادة الله خفية عليهم وإرادتهم ظاهرة
توكل على الرحمن واحتمل الردى
ولا تخش مما قد يكيد بك العدى
إن رسلنا الذين يحفظون أعمالكم وهم الكرام الكاتبون.
وفيه التفات إذ لو جرى على أسلوب قوله : قل الله لقيل إن رسله يكتبون ما تمكرون أي : مكركم أو ما تمكرونه وهو تحقيق للانتقام ، وتنبيه على أن ما دبروا إخفاءه لم يخف على الحفظة فضلاً عن أن يخفى على الله وفيه تصريح بأن للكفار حفظة.
فإن قيل : فالذي يكتب عن يمينه أي : شيء يكتب ولم يكن لهم حسنة.
يقال : إن الذي عن شماله يكتب بإذن صاحبه ويكون شاهداً على ذلك وإن لم يكتب كما في البستان.
واختلفوا في عددهم فقال عبد الله بن المبارك : هم خمسة : اثنان بالنهار واثنان بالليل وواحد لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً فثبت بهذا أن أفعال الناس وأقوالهم سواء كانوا مؤمنين أو كافرين مضبوطة مكتوبة للإلزام عليهم يوم القيامة وإن المكر والحيلة لا مدخل له في تخليص الإنسان من مكروه بل قد قالوا : إذا أدبر الأمر كان العطب في الحيلة فمن ظن نجاته في المكر كان كثعلب ظن نجاته في تحريك ذنبه وإنما المنجى هو القدم وهو ههنا العمل الصالح بعد الإيمان الكامل ، والعاقل يتدارك حاله قبل وقوع القضاء (علاج واقعه يش از وقوع بايدكرد).
قال زياد : وليس العاقل الذي يحتال للأمر إذا وقع فيه ولكن العاقل الذي يحتال للأمور حذراً أن يقع فيها.
قال السعدي قدس سره :
تويش ازعقوبت درعفو كوب
كه سودى نداردفغان زيروب
كنون كرد بايد عمل را حساب
نه روزى كه منشور كردد كتاب
والإشارة في الآية : وإذا أذقنا الناس رحمة أي : أذقناهم ذوق توبة أو إنابة أو صدق طلب أو وصول إلى بعض المقامات أو ذوق كشف وشهود.
من بعد ضراء مستهم وهو الفسق والفجور والأخلاق الذميمة وحجب أوصاف البشرية وصفات الروحانية إذا لهم مكر في آياتنا بإظهارها مع غير أهلها للشرف بين الناس وطلب الجاه والقبول عند الخلق واستتباعهم والرياسة عليهم وجذب المنافع منهم.
قل الله أسرع مكراً أي : أسرع في إيصال مجازاة مكرهم إليهم باستدراجهم من تلك المقامات والمكرمات إلى دركات العبد وتراكم الحجب من حيث لا يعلمون إن رسلنا يكتبون ما تمكرون أي : غير خاف علينا قدر مراتب مكرهم فنجازيهم على حسب ما يمكرون كما في التأويلات النجمية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 29
وقد رؤى من أهل هذه الطريقة كثير ممن مشى على الماء والهواء وطويت له الأرض ثم رد إلى حاله الأولى وقد يمشى المستدرج على الماء والهواء وتزوى له الأرض وليس عند الله بمكان لأنه ليست عنده هذه المراتب نتائج مقامات محمودة وإنما هي نتائج مقامات مذمومة قامت به إرادة الحق سبحانه أن يمكر به في ذلك الفعل الخارق للعادة وجعله فتنة عليه وتخيل أنه إنما أوصله إليها ذلك الفعل الذي هو معصية شرعاً وإنه لولاه ما وقف على حقيقة ما اتفق له هذا وغفل المسكين عن موازنة نفسه بالشريعة.
نسأل الله تعالى أن لا يجعلنا ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً فيستمر على ذلك الفعل كذا في مواقع النجوم.
قال الحافظ قدس سره :
30
زاهد ايمن مشواز بازىء غيرت زنهار
كه ره از صومعه تادير مغان اين همه نيست
وقلَّ من تخلص من العقبات ، ألا ترى أن الواصل قليل بالنسبة إلى المنقطع ولا بد في قطعها من مرشد كامل ومؤدب حاذق.
وفي المثنوى :
درناه شيركم نايد كباب
روبها توسوى جيفه كم شتاب
ون كرفتى يرهن تسليم شو
همو موسى زير حكم خضررو
(4/14)
هو أي : الله تعالى الذي يسيركم من التسيير ، والتضعيف فيه للتعدية يقال : سار الرجل وسيرته أنا وهو بالفارسية (برفتن آوردن) والمعنى (مى راند وقد رت مى دهد در قطع مسافت شمارا) في البر على الأقدام وظهر الدواب من الخيل والبغال والحمير والإبل ، والبحر على السفن الكبيرة والصغيرة المعبر عنهما بالفارسية (كشتى وزورق) وفيه إشارة إلى أن المسير في الحقيقة هو الله تعالى لا الريح ، فإن الريح لا يتحرك بنفسه بل له محرك إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ولا يتحرك هو في نفسه أيضاً ، بل هو منزه عن ذلك وعما يضاهيه سبحانه وتعالى ومن عرف ذلك وقطع الاعتماد على الريح في استواء السفينة وسيرها تحقق بحقائق توحيد الأفعال وإلا بقي في الشرك الخفي.
قال السعدي قدس سره :
قضا كشتى آنجا كه خواهد برد
وكر ناخدا جامه برتن درد
وقال الحافظ قدس سره :
من از بيكانكان ديكر ننالم
كه بامن هره كرد آن آشناكرد
حتى إذا كنتم في الفلك غاية لقوله يسيركم في البحر.
فإن قيل : غاية الشيء تكون بعده والحال أن السير في البحر يكون بعد الكون في الفلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 29
قلنا ليس الغاية مجرد الكون في الفلك بل هي الكون في الفلك مع ما عطف عليه من قوله : وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها أفإن هذا المجموع بعد السير في البحر وجرين أي : الفلك لأنه جمع مكسر بمعنى السفن وتغييره تقديري بناء على أن ضمته كضمة أسد جمع أسد وضمة مفردة كضمة قُفل بهم أي : بالذين فيها والالتفات في بهم للمبالغة في التقبيح والإنكار عليهم ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويحملهم على الإنكار والتقبيح.
بريح طيبة لينة الهبوب موافقة لمقصدهم ، وفرحوا بها بتلك الريح لطيبها وموافقتها جاءتها أي : تلقت الريح الطيبة واستولت عليها من طرف مخالف لها فإن الهبوب على وفقها لا يسمى مجيئاً لريح أخرى عادة ، بل هو اشتداد للريح الأولى.
ريح عاصف يقال : عصفت الريح أي : اشتدت فهي ريح عاصف ، أي : شديدة الهبوب ولم يقل عاصفة لاختصاص الريح بالعصوف فلا حاجة إلى الفارق وجاءهم الموج وهو ما ارتفع من الماء من كل مكان أي : من أمكنة مجيء الموج عادة ولا بعد في مجيئه من جميع الجوانب أيضاً ؛ إذ لا يجب أن يكون مجيئه من جهة هبوب الريح فقط بل قد يكون من غيرها بحسب أسباب تتفق وإليه مال الكاشفي حيث قال : يعني (از ب وراست ويش وس) وظنوا أنهم أحيط بهم أي : هلكوا فإن ذلك في الهلاك وأصله إحاطة العدو بالحي دعوا الله بدل من ظنوا بدل اشتمال لأن دعاءهم ملابس لظنهم الهلاك ملابسة الملزوم مخلصين له الدين
31
من غير أن يشركوا به شيئاً من آلهتهم فإن إخلاص الدين والطاعة له تعالى عبارة عن ترك الشرك وهذا الإخلاص ليس مبنياً على الإيمان بل جار مجرى الإيمان الاضطراري.
وقيل : المراد بذلك الدعاء قولهم اهيا شرا هيا فإن تفسيره يا حي يا قيوم وهذان الاسمان من أوراد البحر كما سبق في تفسير آية الكرسي.
لئن انجيتنا اللام موطئة للقسم على إرادة القول ، أي : دعوا حال كونهم قائلين ، والله لئن انجيتنا من هذه الورطة لنكونن ألبتة بعد ذلك أبداً من الشاكرين لنعمك التي من جملتها هذه النعمة المسئولة وهي نعمة الإنجاء وذلك باتباع أوامرك والاجتناب عن مساخطك لا نكفر نعمتك بعبادة غيرك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 29
{فَلَمَّآ أَنجَـاـاهُمْ} مما غشيهم من الكربة إجابة لدعائهم والفاء للدلالة على سرعة الإجابة.
إذا هم يبغون في الأرض أي : فاجأوا الفساد فيها وسارعوا إلى ما كانوا عليه من التكذيب والشرك والجراءة على الله تعالى وزيادة في الأرض ، للدلالة على شمول بغيهم لأقطارهم.
بغير الحق أي : حال كونهم ملتبسين بغير الحق.
قال الكاشفي : (تأكيد ست يعني فساد ايشان بغير حق است هم باعتقاد ايشان ه ميدانندكه دران عمل مبطلند) فيكون كما في قوله تعالى : {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (البقرة : 61) وقد سبق في سورة البقرة يا اأَيُّهَا النَّاسُ} إنما بغيكم الذي تتعاطونه وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : على أنفسكم أي : وباله راجع عليكم وجزاؤه لا حق بكم لا على الذين تبغون عليهم وإن ظن كذلك متاع الحيوة الدنيا نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الاستئناف ، أي : تتمتعون متاع الحياة الدنيا أياماً قلائل فتفنى الحياة وما يتبعها من اللذات وتبقى العقوبات على أصحاب السيئات.
هركه اوبد ميكند بى شبهه باخود ميكند
ثم إلينا مرجعكم في يوم القيامة لا إلى غيرنا فننبئكم بما كنتم تعملون في الدنيا على الاستمرار من البغي وهو وعيد بالجزاء كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت عبر عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في إنهما سببان للعلم.
وفي الآية الكريمة إشارات : منها أن الفلك نعمة من الله تعالى ؛ إذ قد يحتاج الناس إلى عبور البحر به ولذا امتن الله عليهم بالتسيير في البحر
(4/15)
قال : في أنوار المشارق : يجوز ركوب البحر للرجال والنساء كذا قاله : الجمهور وكره ركوبه للنساء ؛ لأن الستر فيه لا يمكنهن غالباً ولا غض البصر من المتصرفين فيه ولا يؤمن انكشاف عوراتهن في تصرفهن لا سيما فيما صغر من السفن مع ضرورتهن إلى قضاء الحاجة بحضرة الرجال انتهى.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يرفعه إلى النبي : لا تركب البحر إلا حاجاً أو معتمراً أو غازياً في سبيل الله فإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً قوله : فإن تحت البحر ناراً ، إشارة إلى أن راكبه متعرض للآفات المهلكة كالنار.
وقوله : وتحت النار بحراً ، أراد به تهويل أمر البحر وخوف الهلاك منه كما يخاف من ملامسة النار وإن اختيار ذلك لغرض من الأغراض الفانية سفه وجهل ، لأن فيه تلف النفس ، وبذل النفس لا يجمل إلا فيما يقرب العبد إلى الله وهذا الحديث يدل على وجوب ركوب البحر للحج والجهاد إذا لم يجد طريقاً آخر ومن ركب البحر وأصابه نصب ومشقة كدوران الرأس ، وغثيان المعدة وغير ذلك فله أجر شهيد إن كان يمشي إلى طاعة الله كالغزو والحج وطلب العلم
32
وزيارة الأقارب ، وأما التجار : فإن لم يكن طريق سوى البحر وكانوا يتجرون للقوت لا لجمع المال فهم داخلون في هذا الأجر.
والغريقٍ له : أجر شهيدين.
أحدهما لقصد ما فيه طاعة.
وثانيهما للإغراق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 32
وفي الحديث : حجة لمن لم يحج خير من عشر غزوات وغزوة لمن قد حج خير من عشر حجج وغزوة في البحر خير من عشر غزوات في البر ومن فاته الغزو معي فليغز في البحر.
يقول الفقير : وأما الصوم فعلى عكس ذلك والله أعلم لأن الصوم في البحر سهل حيث لا يشتهي الطبع الطعام ، لأجل الدوران والغثيان بخلافه في البر وقوة الأجر بكثرة التعب ، وكذا الغزو في البر سهل بالنسبة إلى البحر لسعة الأرض وإمكان التحفظ من العدو وقوة المزاج ولم يكن ذلك في البحر.
قيل لبحار ما أعجب ما رأيت من عجائب البحر قال : سلامتي منه ونعم ما قيل :
بدريادر منافع بى شمارست
اكر خواهى سلامت دركنارست
قال السعدي قدس سره :
سود دريانيك بودى كرنبودى بم موج
صحبت كل خوش بدى كرنيستى تشويش خار
لطيفة ركب نحوي سفينة فقال للملاح : أتعرف النحو؟ قال : لا قال : ذهب نصف عمرك فهاجت الريح واضطربت السفينة ، فقال الملاح أتعرف السباحة؟ قال : لا قال : ذهب كل عمرك.
وفي المثنوى :
محو مى بايد نه نحو اينجابدان
كرتو محوى بى خطر در آب ران
آب دريا مرده را برسر نهد
وربود زنده زدريا كى رهد
ون بمردى توز اوصاف بشر
بحر اسرارت نهد بر فرق سر
اي كه خلقان راتوخر مى خوانده
اين زمان ون خربرين يخ مانده
ومنها : أن البغي والفساد والتعصب والعناد وكفران نعمة رب العباد إنما هو من نسيان العهد مع الله ذي الأمداد ونتيجة النسيان والإصرار على الآثام المؤاخذة والانتقام.
وفي الحديث : ثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين وفي الحديث : لا تمكر ولا تغن ماكراً ولا تبغ ولا تعن باغياً ولا تنكث ولا تعن ناكثا فالبغاة من القضاة والولاة لا يجوز إعانتهم في أمر من الأمور إلا في إجراء الأحكام الشرعية فقد ورد من أعان ظالماً سلطه الله عليه.
وفي الحديث : ما من عبد ولاه الله أمر رعيته فغشهم ، ولم ينصح لهم ولم يشفق عليهم إلا حرم الله عليه الجنة.
قال السعدي قدس سره :
رعيت و بيخند سلطان درخت
درخت اي سر باشد ازبيح سخت
مكن تاتوانى دل خلق ريش
وكر ميكنى ميكنى بيخ خويش
كر انصاف رسى بداختر كسست
كه در راحتش رنج ديكر كسست
نماند ستمكار بد روز كار
بماند بر ولعنت ايدار
ومنها : أن لكل عمل صورة حقيقية بها يظهر في النشأة الآخرة فإن كان خيراً فعلى صورة حسنة ، وإن كان شراً فعلى صورة قبيحة وهذه الصور المختلفة برزت في هذه النشأة على خلاف ما هي عليه في الآخرة ، ولذا استحسن العصاة المعاصي واستحلوها وإن كانت سموماً قاتلة ؛ واستكرهوا الطاعات ووجدوها مرة المذاق وإن كانت معاجين نافعة ، فالبغي برز في هذه الدار بصورة
33
مشتهاة عند البغاة لتمتعهم به من حيث أخذ المال والتشفي من الأعداء ونحو ذلك وسينبئهم الله بأعمالهم ، أي : يظهرها لهم على صورها الحقيقية فيرون أن الأمر على خلاف ما ظنوا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 32
{إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى} (العلق : 6 ـ ـ 7).
توانكرى كشدت سوى عجب ونخوت وناز
خوشست فقركه دارد هزار سوز ونياز
وقال بعضهم : (ون باران بنهال كل رسد لطافت وطراوت أو بيفزايد وون بخاربن كذرد حدت وشوكت او زيادت كند مال دنيا نيز ون بمصلح رسد صلاح او بيفزايد) (كما في الحديث نعم المال الصالح للرجل الصالح) (واكر بدست مفسد افتد مايه فساد وعناد اوروى بازدياد نهد) كما أن العلم النافع سيف قاطع لصاحبه في قتل الهوى والعلم الغير النافع سبب لقطع طريق صاحبه عن الحق فما أحسن الأول وما أقبح الثاني؟.
(4/16)
وقال بعضهم : (ون آب باران بزمين رسد قرار نكيرد وبلكه باطراف وجوانب روان كردد مال دنيا نيزيكجا قرار نكيرد بلكه هر روز دردست ديكرى باشد وهر شب بايكى عقد مواصلت بندد نه عهد اورا وفايى ونه وفاى اورا بقايى).
كنج امان نيست درين خاكدان
مغز وفانيست درين استخوان
كهنه سراييست بصد جاكرو
كهنه واندر كرو نوبنو
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الدنيا فقال : "دنياك ما يشغلك عن ربك".
أقول : إن الدنيا كالأم تربي الناس كالأولاد فمن اشتغل بالأم كالطفل عن المعلم بقي جاهلاً ، وصار كأنه اتخذها صنماً لنفسه يعبده ، ومن اشتغل بالمعلم عن الأم صار عالماً وتخلص من عبادة الهوى ووصل إلى المقصود.
فذم الدنيا إنما هو بحسب اشتغاله عن الله تعالى لا بحسب نفسها.
قيل : حد الدنيا من القاف إلى القاف.
وقال أهل التحقيق : حدها في الحقيقة من مقعر الكرسي إلى تحت الثرى فما يتعلق بعالم الكون والفساد فمن حد الدنيا ، فالسموات والأرضون وما فيهما من عالم الكون والفساد يدخل في حد الدنيا وأما العرش والكرسي وما يتعلق بهما من الأعمال الصالحة والأرواح الطيبة والجنة وما فيها فمن حد الآخرة ، عصمنا الله وإياكم من التعلق بغيره أيا كان وشرفنا بالتجرد التام عن عالم الإمكان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 37
{وَاللَّهُ} (الزمر : 42) والسالكون هم المنتبهون من رقدة هذه الغفلة وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَيُرْسِلُ الاخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} (الزمر : 42) وهو اللائح بالبال والله أعلم بحقيقة الحال.
قال : في "التأويلات النجمية" {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (الحجر : 29) ويدعوهم من الوجود إلى العدم والعلم بالجذبة وهي قوله تعالى : {ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ} (الفجر : 28).
ولما دعى النبي صلى الله عليه وسلّم بالجذبة إلى علم الله الأزلي الأبدي قال : (قد علمت ما كان وما سيكون) وذلك لأنه صار عالماً بعلم الله تعالى لا بعلم نفسه.
وهو سر قوله تعالى : {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} (النساء : 113) وإنما علمه ذلك حين قال : {فَاعْلَمْ أَنَّه لا إله إِلا اللَّهُ} (محمد : 19) أي : فاعلم بعلم الله الذي دعيت بالجذبة إليه أن لا إله في الوجود إلا الله فإن العلم الإلهي محيط بالوجود كله قال : {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَا} (الطلاق : 12) فأنت بعلمه محيط بالوجود كله فتعلم حقيقة أن ليس في الوجود إله غير الله انتهى.
يقول الفقير : المتلقف من فم حضرة الشيخ سلمه الله تعالى : إن الانتباه الصوري إشارة إلى يقظة القلب.
ثم الحركة إلى الوضوء إشارة إلى التوبة والإنابة.
ثم التكبيرة الأولى إشارة إلى التوجه الإلهي ، فحاله من الانتباه إلى هنا إشارة إلى عبوره من عالم الملك وهو الناسوت والدخول في عالم
37
الملكوت.
ثم الانتقال إلى الركوع إشارة إلى عبوره من عالم الملكوت إلى عالم الجبروت.
ثم الانتقال إلى السجدة إشارة إلى عبوره من عالم الجبروت والوصول إلى عالم اللاهوت.
وهو مقام الفناء الكلي وعند ذلك يحصل الصعود إلى وطنه الأصلي العلوي فالانتقالات تصعد في صورة التنزل.
ثم القيام من السجدة إشارة إلى حالة البقاء فإنه رجوع إلى القهقري وفيه تنزل في صورة التصعد والركوع مقام قاب قوسين وهو مقام الصفات ، أي : الذات الواحدية والسجدة مقام أو أدنى ، وهو مقام الذات الأحدية ومن هذا التفصيل عرفت ما في "التأويلات" من الصعود والهبوط مرة بالدعوة من العلم إلى الوجود ومرة بالدعوة من الوجود إلى العلم فإذا لم يقطع السالك عقبات العروج والنزول فهو ناقص ، وفي برزخ بالنسبة إلى من قطعها كلها وتلك العقبات هي تعينات الأجسام والأرواح والعلم والعين على حسب تفصيل المراتب فيها فانظر إلى قوله تعالى : {لا يَمَسُّه إِلا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة : 79) تجد الإشارة إلى أن الهوية الذاتية لا يمسها إلا المطهرون من دنس تعلق كل تعين روحانياً كان أو جسمانياً والله المعين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 37
قال : في "التأويلات" : {وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فلما جعل الله دعوة الخلق من العلم إلى الفعل ومن الوجود إلى العدم والعلم عامة ، جعل الهداية بالمشيئة إلى العلم وهي الصراط المستقيم خاصة ، يعني هو يهديهم بالجذبة الكاملة إلى علمه القديم بمشيئته الأزلية خاصة وهذا مقام السير في الله بالله انتهى كلامه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 37
{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا} أي : عملوها على الوجه اللائق وهو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي وقد فسره رسول الله بقوله : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
(4/17)
يقول الفقير العبادة على وجه رؤية الله تعالى وشهوده والحضور معه لا تكون إلا بعد غيبوبة الغير عن القلب وارتفاع ملاحظته جداً فيأول المعنى إلى قولنا للذين أخلصوا أعمالهم عن الرياء وقلوبهم عن غير الله تعالى.
الحسنى أي : المثوبة الحسنى وهي في اللغة تأنيث الأحسن والعرب تطلق هذا اللفظ على الخصلة المرغوب فيها وزيادة أي : وما يزيد على تلك المثوبة تفضلاً لقوله تعالى : ويزيدهم من فضله فالمثوبة ما أعطاه الله في مقابلة الأعمال ، والزيادة ما أعطاه الله لا في مقابلتها والكل فضل عندنا.
وقيل : الحسنى مثل حسناتهم ، والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وأكثر جمهور المحققين على أن الحسنى الجنة ، والزيادة اللقاء والنظر إلى وجه الله الكريم.
وفي الحديث : إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون : ألم تبيض وجو وهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال : فيكشف لهم الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم ثم تلا هذه الآية للذين أحسنوا الحسنى وزيادة رواه مسلم والترمذي والنسائي.
فإن قيل : لم سمىّ الله الرؤية زيادة والجنة الحسنى ، والنظر إلى وجهه أكبر من الجنة والزيادة في الدنيا تكون أقل من رأس المال؟
قيل : المراد بالزيادة في الآية الزيادة الموعودة والموعودة الجنة فالزيادة ههنا ليست من جنس المزيد عليه وهي الجنة ودرجاتها فالزيادة من العزيز الأكبر أكبر وأعز كما أن الرضوان من الكريم الأجود أكبر وأجل.
وفي الخبر إن أهل الجنة إذا رأوا الحق نسوا نعيم الجنة وهذه الرؤية بعين الرأس وأما في الدنيا فبعين العين لغير نبينا كما سبق عند قوله تعالى : لا تدركه الأبصار الآية وإنما تحصل بارتفاع الموانع وهي حجب التعينات جسمانية أو روحانية.
قال الحافظ :
38
جمال يا ندارد نقاب ورده ولى
جزء : 4 رقم الصفحة : 38
غبار ره بنشان تا نظر توانى كرد
وذلك لأن الله تعالى ليس بمحجوب ؛ لأنه لو حجبه شيء لستره وهو ليس في جهة ولا مكان وإنما المحجوب أنت ولو أزال الحق الحجاب عنا وشاهدناه نسينا الكون وما فيه كما ينسى أهل الجنة نعيمها عند التجلي فكان يفوت آن التعبد الشرعي ولذا لا نشاهد الحق في دار الدنيا لأنها مقام التكليف ولا يرهق وجوههم أي : لا يغشاها.
وبالفارسية (وشيده نكر داند رويهاى بهشتيانرا) قتر غبرة فيها سواد والقتر أشد من الغبار.
ولا ذلة أي : أثر هوان وكسوف بال والغرض من نفي هاتين الصفتين نفي أسباب الخوف والحزن والذل عنهم ليعلم أن نعيمهم الذي ذكره الله خالص لا يشوبه شيء من المكروهات وأنه لا يتطرق إليهم ما إذا حصل يغير صفحة الوجه ويزيل ما فيها من النضارة والحسن.
والجملة مستأنفة لبيان أمنهم من المكاره أثر بيان فوزهم بالمطالب ، والثاني : وإن اقتضى الأول إلا أنه ذكر إذ كارا بما ينقذهم الله منه برحمته وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام ببيان أن المصون من الرهق أشرف أعضائهم أولئك (آن كروه محسنان) أصحاب الجنة هم فيها خالدون بلا زوال دائمون بلا انتقال.
وفي التأويلات النجمية : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة أي : للذين عاملوا الله على مشاهدته فإن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه الحسنى وهي شواهد الحق والنظر إليه وزيادة والزيادة ما زاد على النظر بالوصول إلى العلم الأزلي مجذوباً من أنانيته إلى هويته بإفناء الناسوتية في اللاهوتية ولا يرهق وجوههم قتر أي : لا يصيبهم غبار الحجاب ولا ذلة وجود يقتضي الأثنينية أولئك أصحاب الجنة جنة السير في الله هم فيها خالدون دائمون في السير بجذبات العناية.
والذين كسبوا السيئات أي : ارتكبوا الشرك والمعاصي وهو مبتدأ بتقدير المضاف خبره قوله تعالى : جزاء سيئة بمثلها والجزاء مصدر من المبنى للمفعول والباء في بمثلها متعلقة بجزاء ، والمعنى وجزاء الذين كسبوا السيئات أن يجازي سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها كما يزاد في الحسنة.
قال : في الكشاف في هذا دليل على أن المراد بالزيادة الفضل ؛ لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله ودل ثمة بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله انتهى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 38
(4/18)
يقول الفقير : تبعه على هذا جمهور المفسرين ولكن تفسير رسول الله كما سبق أحق بأن يتبع ، ويرجح ويقدم على الكل ، ولا مانع من أن يراد بالزيادة الفضل واللقاء فإن اللقاء الذي هو أفضل الكرامات إذا حصل فلأن يحصل ما هو دونه من الفضل والتضعيف أظهر وترهقهم (وبوشد ايشانرا) إذا عاينوا النار.
ذلة (خوارى ورسوايى يعني آثار مذلت برايشان هويدا كردد) وفي إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم إيذان بأنها محيطة بها غاشية لهم جميعاً.
ما لهم من الله من عاصم أي : لا يعصمهم أحد من سخطه تعالى وعذابه ولا يمنعه كأنما اغشيت البست.
وبالفارسية (كوييا وشيده شده است) وجوههم قطعاً من الليل لفرط سوادها وظلمتها مظلماً حال من الليل والعامل فيه معنى الفعل أي : قطعاً كائنة من الليل في حال كونه مظلماً ، يعني : (سياه كردد رويهاى ايشان ازغم واندوه ون شب تيره) وقطعاً بفتح الطاء جمع قطعة مفعول ثاني لأغشيت وقرىء
39
قطعاً بسكون الطاء وهو مفرد اسم للشيء المقطوع فحينئذٍ يصح أن يكون مظلماً صفة له لتطابقهما في الأفراد والتذكير.
أولئك (آن كروه كه كاسب سيآتند) يعني : مشركان ومنافقان.
أصحاب النار هم فيها خالدون اعلم أن دخول الجنة برحمة الله تعالى وقسمة الدرجات بالأعمال والخلود بالنيات فهذه ثلاثة مقامات وكذلك في دار الشقاوة دخول أهلها فيها بعدل الله وطبقات عذابها بالأعمال وخلودهم بالنيات ، يعني : أن المؤمن لما كانت نيته في الدنيا أن يعبد الله أبدا ما عاش وكذا الكافر لما كانت نيته عبادة الأصنام أبداً ما عاش جوزي كل أحد بتأبيد النية ، وأصل ما استوجبوا به هذا العذاب المؤبد المخالفة كما كانت في السعادة الموافقة وكذلك من دخل من العاصين النار لولا المخالفة ما عذبهم الله شرعاً نسأل الله لنا ولك وللمسلمين أن يستعملنا بصالح الأعمال ويرزقنا الحياء منه تعالى.
قال أبو العباس الأقليشي : لم أجد في مقدار بقاء العصاة في النار حدا في صحيح الآثار غير أن الغزالي ذكر في الإحياء حال عصاة الموحدين فقال : إن بقاء العاصي في النار لحظة وأكثره سبعة آلاف عام لما ورد به الأخبار انتهى.
يقول الفقير : لعل الحكمة في ذلك كون تلك المدة ، عمر النوع الإنساني فاقتضى التشديد في التربية بقاءه في النار تلك المدة فالظاهر أن تلك السنين إنما هي باعتبار سني الآخرة التي كل يوم منها ألف سنة كما في حق الكفرة إلا أن يتفضل الله تعالى على المؤمنين والله أعلم.
وعذاب كل عاص كيفية وكمية إنما هو على حسب حجابه كيفية وكمية ، ألا ترى إلى قوله تعالى : كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً فإنه باعتبار توجههم إلى السفليات ، وهي الصفات الحيوانية والسبعية والشيطانية ظلمات بعضها فوق بعض ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين انتقلوا من معادنهم الطينية وخرجوا من رعونة البشرية والتحقوا بالعالم الأعلى وكل من صفت جوهرته ولطف معناه يكون هكذا بخلاف من انكدرت جوهرته وكثف معناه فلا بد لك من أن تضرم على النفس نار المجاهدة وتلقيها في أبواط الرياضة فإن الرجال الأنجاد رضي الله عنهم ما اشتغلوا بتدبير جسومهم من حيث الشهوات وإنما اشتغلوا بنفوسهم أن يخلصوها من رعونة الطبع حتى يلحقوها بعالمها ، ألا ترى سهلاً التستري وهو من رؤساء هذا الطريق وساداته لما قيل : له ما القوت؟ فقال : ذكر الحي الذي لا يموت ، قيل له : هذا قوت الأرواح فما قوت الأشباح؟ فقال : دع الديار إلى بانيها إن شاء عمرها وإن شاء خربها ، فما أحرم عبداً لم يوفقه الله لتخليص جوهرته؟ نعوذ الله من الحرمان.
وفي المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 38
يقول الفقير : تبعه على هذا جمهور المفسرين ولكن تفسير رسول الله كما سبق أحق بأن يتبع ، ويرجح ويقدم على الكل ، ولا مانع من أن يراد بالزيادة الفضل واللقاء فإن اللقاء الذي هو أفضل الكرامات إذا حصل فلأن يحصل ما هو دونه من الفضل والتضعيف أظهر وترهقهم (وبوشد ايشانرا) إذا عاينوا النار.
ذلة (خوارى ورسوايى يعني آثار مذلت برايشان هويدا كردد) وفي إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم إيذان بأنها محيطة بها غاشية لهم جميعاً.
ما لهم من الله من عاصم أي : لا يعصمهم أحد من سخطه تعالى وعذابه ولا يمنعه كأنما اغشيت البست.
وبالفارسية (كوييا وشيده شده است) وجوههم قطعاً من الليل لفرط سوادها وظلمتها مظلماً حال من الليل والعامل فيه معنى الفعل أي : قطعاً كائنة من الليل في حال كونه مظلماً ، يعني : (سياه كردد رويهاى ايشان ازغم واندوه ون شب تيره) وقطعاً بفتح الطاء جمع قطعة مفعول ثاني لأغشيت وقرىء
39
(4/19)
قطعاً بسكون الطاء وهو مفرد اسم للشيء المقطوع فحينئذٍ يصح أن يكون مظلماً صفة له لتطابقهما في الأفراد والتذكير.
أولئك (آن كروه كه كاسب سيآتند) يعني : مشركان ومنافقان.
أصحاب النار هم فيها خالدون اعلم أن دخول الجنة برحمة الله تعالى وقسمة الدرجات بالأعمال والخلود بالنيات فهذه ثلاثة مقامات وكذلك في دار الشقاوة دخول أهلها فيها بعدل الله وطبقات عذابها بالأعمال وخلودهم بالنيات ، يعني : أن المؤمن لما كانت نيته في الدنيا أن يعبد الله أبدا ما عاش وكذا الكافر لما كانت نيته عبادة الأصنام أبداً ما عاش جوزي كل أحد بتأبيد النية ، وأصل ما استوجبوا به هذا العذاب المؤبد المخالفة كما كانت في السعادة الموافقة وكذلك من دخل من العاصين النار لولا المخالفة ما عذبهم الله شرعاً نسأل الله لنا ولك وللمسلمين أن يستعملنا بصالح الأعمال ويرزقنا الحياء منه تعالى.
قال أبو العباس الأقليشي : لم أجد في مقدار بقاء العصاة في النار حدا في صحيح الآثار غير أن الغزالي ذكر في الإحياء حال عصاة الموحدين فقال : إن بقاء العاصي في النار لحظة وأكثره سبعة آلاف عام لما ورد به الأخبار انتهى.
يقول الفقير : لعل الحكمة في ذلك كون تلك المدة ، عمر النوع الإنساني فاقتضى التشديد في التربية بقاءه في النار تلك المدة فالظاهر أن تلك السنين إنما هي باعتبار سني الآخرة التي كل يوم منها ألف سنة كما في حق الكفرة إلا أن يتفضل الله تعالى على المؤمنين والله أعلم.
وعذاب كل عاص كيفية وكمية إنما هو على حسب حجابه كيفية وكمية ، ألا ترى إلى قوله تعالى : كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً فإنه باعتبار توجههم إلى السفليات ، وهي الصفات الحيوانية والسبعية والشيطانية ظلمات بعضها فوق بعض ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين انتقلوا من معادنهم الطينية وخرجوا من رعونة البشرية والتحقوا بالعالم الأعلى وكل من صفت جوهرته ولطف معناه يكون هكذا بخلاف من انكدرت جوهرته وكثف معناه فلا بد لك من أن تضرم على النفس نار المجاهدة وتلقيها في أبواط الرياضة فإن الرجال الأنجاد رضي الله عنهم ما اشتغلوا بتدبير جسومهم من حيث الشهوات وإنما اشتغلوا بنفوسهم أن يخلصوها من رعونة الطبع حتى يلحقوها بعالمها ، ألا ترى سهلاً التستري وهو من رؤساء هذا الطريق وساداته لما قيل : له ما القوت؟ فقال : ذكر الحي الذي لا يموت ، قيل له : هذا قوت الأرواح فما قوت الأشباح؟ فقال : دع الديار إلى بانيها إن شاء عمرها وإن شاء خربها ، فما أحرم عبداً لم يوفقه الله لتخليص جوهرته؟ نعوذ الله من الحرمان.
وفي المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 38
اين رياضتهاى درويشان راست
كان بلا برتن بقاي جانهاست
مردن تن در رياضت زند كيست
رنج ابن تن روح را ايند كيست
س رياضت رابجان شو مشترى
ون سردى تن بخدمت جان برى
جزء : 4 رقم الصفحة : 38
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} يوم منصوب على المفعولية بفعل مضمر ، أي : أنذرهم أو ذكرهم وضمير نحشرهم لكلا الفريقين الذين أحسنوا والذين كسبوا السيئات لأنه المتبادر من قوله : جميعاً حال من الضمير ، أي : مجتمعين لا يشذ منهم فريق ثم نقول للذين أشركوا أي : نقول للمشركين من بينهم مكانكم نصب على أنه في الأصل ظرف لفعل أقيم مقامه لا على أنه اسم فعل وحركته حركة بناء كما هو رأي الفارسي أي : الزموا مكانكم حتى تنظروا ما يفعل بكم
40
أنتم تأكيد للضمير المنتقل إليه من عامله لسده مسده وشركاؤكم عطف عليه فزيلنا من زلت الشيء عن مكانه ازيله ، أي : أزلته والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية لأن ثلاثيه متعد بنفسه ، وهذا التزييل وإن كان مما سيكون يوم القيامة إلا أنه لتحقق وقوعه صار كالكائن الآن فلذلك جاء بلفظ الماضي بعد قوله نحشر ونقول ، أي : ففرقتا بينهم وبين الآلهة التي كانوا يعبدونها وقطعنا العلائق والوصل التي كانت بينهم في الدنيا فخابت أعمالهم وانصرمت عرى أطماعهم وحصل لهم اليأس الكلي من حصول ما كانوا يرجونه من جهتهم ، والحال وإن كانت معلومة لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب لكن هذه المرتبة من اليقين إنما حصلت عند المشاهدة والمشافهة وقال شركاؤهم التي كانوا يعبدونها ويثبتون الشركة لها وهم الملائكة وعزير والمسيح وغيرهم ممن عبدوه من أولي العلم ، وقيل : الأصنام ينطقها الله الذي أنطق كل شيء.
ما كنتم إيانا تعبدون مجاز عن براءة الشركاء من عبادة المشركين حيث لم تكن تلك العبادة بأمر الشركاء وإرادتهم وإنما الآمر بها هو أهواؤهم والشياطين ، فالمشركون إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم وشياطينهم الذين أغووهم.
(4/20)
فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم فإنه العالم بكنه الحال إن مخففة من إن واللام فارقة كنا عن عبادتكم لنا لغافلين والغفلة عبارة عن عدم الارتضاء وإلا فعدم شعور الملائكة بعبادتهم لهم غير ظاهر ، وهذا يقطع احتمال كون المراد بالشركاء الشياطين كما قيل فإن ارتضاءهم بإشراكهم مما لا ريب فيه وإن لم يكونوا مجبرين لهم على ذلك كذا في الإرشاد وهذا بالنسبة إلى كون المراد بالشركاء ذوي العلم وأما إن كان المراد الأصنام فمن أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها ولا شعور ألبتة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 40
{هُنَالِكَ} ظرف مكان ، أي : في ذلك المقام الدهش أو في ذلك الوقت على استعارة ظرف المكان للزمان.
تبلو من البلوى والاختبار.
في الفارسية (بيازمودن) أي : تختبر وتذوق كل نفس مؤمنة كانت أو كافرة سعيدة أو شقية ما أسلفت أي : قدمت من العمل فتعاين نفعه وضره وأما ما عملت من حالها من حين الموت والابتلاء بالعذاب في البرزخ فأمر مجمل.
وردوا الضمير للذين أشركوا على أنه معطوف على زيلنا وما عطف عليه وقوله تعالى : هنالك تبلو الخ اعتراض في أثناء المقرر لمضمونها إلى الله أي : جزائه وعقابه فإن الرجوع إلى ذاته تعالى مما لا يتصور موليهم ربهم الحق أي : المتحقق الصادق ربوبيته لا ما اتخذوه ربا باطلاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 42
قال الشيخ في تفسيره : مولاهم الحق ، أي : الذي يتولى ويملك أمرهم حقيقة ولا يشكل بقوله : وإن الكافرين لا مولى لهم}(محمد : 11) لأن المعنى فيه المولى الناصر وفي الأول المالك {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} (الجاثية : 23) {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (يونس : 29) فيما شاهد {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَـافِلِينَ} أي : كنا في غفلة عن ذوق عبادتكم إيانا وحظها ومشربها بل كان الحظ والمشرب والذوق لهواكم في استيفاء اللذات والشهوات والتمتعات الدنيوية والأخروية عند عبادتنا بلا شعور منا بخلاف عبادة الله فإن في عبادة الله رضاه وشعوره بها ومنه المدد والتوفيق وعليه الجزاء والثواب هنالك تبلو كل نفس ما أسفلت أي : في ذلك الحال تبتلى كل نفس ما قدمت من التعلقات بالأشياء والتمسكات بها وردوا إلى الله في الحكم والقرب والبعد واللذة والألم.
مولاهم الحق أي : متوليهم في ذلك هو الله أي : في إذاقة اللذات من القرب والألم من البعد لا غيره من الشركاء.
وضل عنهم ما كانوا يفترون أن للشركاء أثراً في القربة والشفاعة انتهى ما في التأويلات النجمية قل للمشركين احتجاجاً على حقيقة التوحيد وبطلان الشرك من يرزقكم (كيست كه شمارا
42
روزى ميدهد) من السماء (از آسمانكه باران مى باراند) والأرض (واز زمين كه كياه مى روياند) أم من أم منقطعة لأنه لم يتقدمها همزة استفهام ولا همزة تسوية وتقدر هناببل وحده دون الهمزة بعدها كما في سائر المواضع ، لأنها وقع بعدها اسم استفهام صريح وهو من ، فلا حاجة إلى الهمزة وبل إضراب انتقال من الاستفهام الأول إلى استفهام آخر لا إضراب إبطال إذ ليس في القرآن ذلك.
والمعنى ، بالفارسية (آيا كيست كه) يملك السمع والأبصار أي : يستطيع خلقهما وتسويتهما على هذه الفطرة العجيبة أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما من أدنى شيء يصيبهما ، وكان علي رضي الله عنه يقول : سبحان من بَصّر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم.
ولما كانت حاجة الإنسان إلى السمع والبصر أكثر من حاجته إلى الكلام خلق الله له أذنين وعينين ولساناً واحداً ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي أي : من ينشىء الحيوان من النطفة ، والنطفة من الحيوان وكذا من يخرج الطائر من البيضة ويخرج البيضة من الطائر.
ومن يدبر الأمر أي : أمر جميع العالم علوياً كان أو سفلياً روحانياً أو جسمانياً.
فسيقولون بلا تأخير الله يفعل ما ذكر من الأفاعيل لا غيره إذ لا مجال للمكابرة لغاية وضوحه فقل عند ذلك تبكيتاً لهم أفلا تتقون أي : أتعلمون ذلك فلا تتقون عقابه بإشراككم به الأصنام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 42
(4/21)
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ} أي : الثابت ربوبيته لا ما أشركتم معه ، فقولهفذلكم مبتدأ والجلالة صفته وربكم الحق خبره ويجوز أن يكون الجلالة خبره وربكم بدل منه والإشارة محمولة على التجوز لاستحالة تعلق الإحساس به تعالى.
فماذا يجوز أن يكون الكل اسماً واحداً قد غلب فيه الاستفهام على اسم الإشارة وإن يكون موصولاً بمعنى الذي ، أي : ما الذي بعد الحق أي : غيره بطريق الاستعارة أي : ليس غير التوحيد وعبادة الله تعالى إلا الضلال الذي لا يختاره أحد وهو عبادة الأصنام ، وإنما سميت ضلالاً مع كونها من أعمال الخوارج باعتبار ابتنائها على ما هو ضلال من الاعتقاد والرأي.
فإني تصرفون استفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع واستبعاده والتعجب أي : كيف تصرفون من التوحيد وعبادة الله إلى الإشراك وعبادة الأصنام الذي هو ضلال عن الطريق الواضح.
قال السعدي قدس سره :
ترسم نرسى بكعبه أي : أعرابي
كين ره كه توميروى بتركستانست
فقد نبه الله على ضلالهم على لسان رسوله عليه السلام وهو الهادي إلى طريق الحق والصواب والفارق بين أهل التصديق والارتياب.
قال الصائب :
اقف نميشوندكه كم كرده اند راه
تا رهروان برهنمايى نمى رسند
كذلك الكاف في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف والإشارة بذلك إلى المصدر المفهوم من الحق في قوله ربكم الحق أي : كما حقت الربوبيةتعالى حقت كلمة ربك حكمه وقضاؤه ، يعني (واجب شد عذاب إلهي) على الذين فسقوا أي : تمردوا في كفرهم وخرجوا عن حد الاستصلاح أنهم تعليل لحقية تلك الكلمة والأصل لأنهم لا
43
يؤمنون فالكفر أداهم إلى العذاب فإن كل نتيجة مبنية على المقدمات والأسباب.
والقمح لا ينبت من الزوان ولا يثمر الثمر أم غيلان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 43
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآاـاِكُم مَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} بالفارسية (ابتدا كردن) ، أي : يخلق الخلق أولاً ثم يعيده بعد الموت ولما كانوا مقرين بالبدء ومنكرين للإعادة عناداً ومكابرة أمر بأن يبين لهم من يفعل ذلك فقيل له : قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده أي : هو يفعلهما لا غير كائناً من كان فأني تؤفكون أي : كيف تصرفون وتقلبون عن قصد السبيل والاستفهام إنكاري قل هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق ولو كان الهداية بوجه من الوجوه فإن أدنى مراتب العبودية هداية المعبود لعبدته إلى ما فيه صلاح أمرهم وهدى كما يستعمل بكلمة إلى لتدل على انتهاء ما قبلها إلى مدخولها كذلك يستعمل باللام التعليلة لتدل على أن الهداية لا تتوجه نحو ما دخل عليه اللام إلا لأجل أن تؤدي إليه ويترتب هو عليها كما هو شأن العلة والمعلل بها وقد جمع بين التعديتين في هذه الآية قل الله يهدي من يشاء للحق دون غيره بنصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب والتوفيق للنظر الصحيح والتدبر الصائب فإن العقول مضطربة والأفكار مختلطة وتعيين الحق صعب ولا يسلم من الغلط إلا الأقل من القليل فالاهتداء لإدراك الحقائق لا يكون إلا بإعانة الله وهدايته وإرشاده أفمن يهدي غيره إلى الحق هو الله تعالى أحق أن أي : بأن يتبع والمفضل عليه محذوف أي : ممن لا يهدي.
أم من لا يهدي بكسر الهاء وتشديد الدال أصله لا يهتدي وأدغم وكسر الهاء لالتقاء الساكنين أي : لا يهتدي في حال من الأحوال إلا أن يهدي إلا حال هدايته تعالى له إلى الاهتداء.
فإن قلت الأصنام جمادات لا تقبل الهداية فكيف يصح أن يقال : في حقها إلا أن يهدى؟ وأيضاً كلمة من تستعمل في ذوي العقول دون الجمادات فلا يليق أن يقال : في حقها أم من لا يهدي.
قلت : هذا أي : انتفاء الاهتداء إلا أن يهدي حال إشراف شركائهم كالملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام ، فهذا بيان لفساد مذهب من يتخذ العقلاء الذين يقبلون الهداية أرباباً بعد ما بين فساد مذهب مطلق أهل الشرك من عبدة الأوثان وغيرها بقوله : قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق الآية فإنه لا شك أن المراد بالشركاء فيه ما يتناول الأصنام وغيرها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 44
وقال : في التبيان الصنم لا ينفع ولا يضر ولا يقدر على شيء في نفسه إلا أن يهدى يعني يدخل ويخرج وينقل ويتصرف فيه والله تعالى جل عن ذلك ، وظاهر هذا الكلام يدل على أن الأصنام إن هديت اهتدت وليس كذلك ، لأنها حجارة لا تهتدي إلا أنهم لما اتخذوها آلهة عبر عنها كما يعبر عمن يعقل ويفعل فما لكم أي : أي : شيء لكم في اتخاذكم هؤلاء شركاءتعالى كيف تحكمون بما يقضي صريح العقل ببطلانه وهو إنكار لحكمهم الباطل حيث سوّوا بين من يحتاجون هم إليه وهو الله تعالى وبين من يحتاج هو إليهم وهو ما عبدوه من دون الله من الأصنام ولا مساواة بين القادر والعاجز جداً.
عجز وقدرت كه هر دو ضدانند
عقل كركويدت كه يكسانند
عجز بر خلق مى دراند وست
قادري بر كمال حضرت اوست
44
جزء : 4 رقم الصفحة : 44
(4/22)
{وَمَا يَتَّبِعُ} (الرعد : 39) يعني الأصل الذي لا يقبل التغير وهو علمه القائم بذاته القديم {لا رَيْبَ فِيهِ} خبر ثالث داخل في حكم الاستدراك أي : منتفياً عنه الريب.
يعني (از ظهور حجت ووضوح دلالت بمثابه ايست كه هركه درو ادنى تأملي كند زريب باز استد وداندكه بشبه در ومجال نيست).
من رب العالمين خبر آخر تقديره كائناً من رب العالمين فهو وحي نازل على رسول الله من عنده تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 44
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاهُ} أم منقطعة مقدرة ببل والهمزة ، والمعنى بل أيقولون كفار مكة افتراه محمد والهمزة لإنكار الواقع واستبعاده وجوز الزمخشري أن تكون للتقرير لإلزام الحجة.
قل لهم إن كان الأمر كما تقولون : فائتوا أنتم على وجه الافتراء والأمر من باب التعجيز وإلقام الحجر.
بسورة مثله في البلاغة وحسن النظم وقوة المعنى فإنكم مثلي في العربية والفصاحة.
وادعوا من استطعتم دعاءه والاستعانة به ليعاونكم على إتيان مثله إن لم يف عقل الواحد والاثنين منكم في استخراج ما يعارض القرآن.
من دون الله متعلق بادعوا ، ودون جار مجرى أداة الاستثناء أي : ادعوا متجاوزين الله أي : سواه تعالى من استطعتم من خلقه فإنه لا يقدر عليه أحد إن كنتم صادقين في أني افتريته فإن ما افتراه أحد من المخلوقين يفتريه غيره لأنه فوق كل ذي علم عليم فإذا عرفتم عجزكم حال الاجتماع وحال الانفراد عن هذه المعارضة فحينئذٍ يظهر أن نظمه وتنزيله ليس إلا من قبل الله تعالى.
واعلم أن إعجاز القرآن ، أي : جعله الغير عاجزاً كونه في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة ، بحيث يصرف الناس عن قدرة معارضته ، لا عن نفس المعارضة مع القدرة بأن عقد الله لسان البيان من بلغاء الزمان لطفاً منه بنبيه وفضلاً عليه كما توهمه البعض ، كذا في تفسير الفاتحة للمولى الفنارى.
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه أي : سارعوا إلى تكذيب القرآن قبل فهمه فإن تكذيب الكلام قبل الإحاطة بمعانيه مسارعة إليه في أول وهلة ومعنى الاضطراب في بل ، ذمهم على التقليد وترك النظر كأنه قيل دع تحديهم والزامهم ، فإنهم لا يستأهلون الخطاب لأنهم مقلدون متهافتون في الأمر لا عن خبر وتعقل ولو كان لهم وقوف على ما في تضاعيف القرآن من شواهد الإعجاز لعلموا أنه ليس مما يمكن أن يكون له نظير يقدر عليه المخلوق ولمّا يأتهم تأويله عطف على الصلة أو حال من الموصول ، أي : لم يجئهم ما يأول إليه أمره ، والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهم قد فاجأوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه
46
وينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة التي يظهر بعضها في الدنيا ويظهر بعضها في الآخرة ليستدلوا بذلك على صحة القرآن وصدق قول النبي عليه السلام ونفى إتيان التأويل بكلمة لما الدالة على التوقع بعد نفي الإحاطة بعلمه بكلمة لم لتأكيد الذم وتشديد التشنيع فإن الشناعة في تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها في تكذيبه قبل علمه مطلقاً ، والمعنى أنه كان يجب عليهم أن يتوقفوا إلى زمان وقوع المتوقع فلم يفعلوا.
كذلك أي : مثل ذلك التكذيب الواقع من قومك.
كذب الذين من قبلهم أنبياءهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم وإنما وصفهم بالظلم لأنهم وضعوا التكذيب في موضع التصديق فكان مآل أمرهم إلى ما أخبر به الكتب والأنبياء من العذاب والهلاك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 46
{وَمِنْهُم} أي : من المكذبين من يؤمن به من يصدق بالقرآن في نفسه ويعلم أنه حق ولكنه يعاند ومهم من لا يؤمن به في نفسه كما لا يؤمن به ظاهراً لفرط غباوته وقلة تدبره ، أو منهم من سيؤمن به ويتوب عن كفره لكونه مستعداً لقبول الإيمان ومنهم من لا يؤمن به فيما يستقبل بل يموت على كفره لعدم استعداده لقبوله وربك أعلم بالمفسدين بالمعاندين أو بالمصرين وإنما وصفهم بالإفساد لأنهم أفسدوا استعدادهم الفطري بالأعمال الفاسدة.
(4/23)
وإن كذبوك وإن أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة.
فقل لي عملي ولكم عملكم فتبرأ منهم فقد أعذرت ، أي : بالغت في العذر كقوله تعالى : فإن عصوك فقل إني بريىء والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقاً كان أو باطلاً وتوحيد العمل المضاف إليهم باعتبار الاتحاد النوعي ولمراعاة كمال المقابلة أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون تأكيد لما أفاده لام الاختصاص من عدم تعدي جزاء العمل إلى غير عامله أي : لا تؤاخذون بعملي ولا أؤآخذ بعملكم ، وعمله صرف الاستعداد الفطري في استعمال العبودية لقبول فيض الربوبية وجزاؤه الجنة والوصلة ، وعملهم إفساد الاستعداد في استيفاء اللذات والشهوات النفسانية وإبطال القلب عن قبول الفيض الإلهي وجزاؤه النار والقطيعة ، وأيضاً عمله التصديق والإقرار ، وعملهم التكذيب والانكار ، وكل بريء من صاحبه في الدنيا والآخرة لا يجتمعان أبداً ، لأنه لا يجتمع الضب والنون فإن الضب غذاؤه الهواء والنون غذاؤه الماء ولأحدهما وهو الضب القبض واليبوسة لأنه بري ومن طبع التراب ذلك ، وللآخر وهو النون البسط والرطوبة لأنه بحري ومن طبع الماء ذلك.
وفي المثنوى :
طوطيان خاص را قنديست رف
طوطيان عام ازين خود بسته طرف
كي شدد رويش صورت زان نكات
معنى است آن نى فعولن فاعلات
از خر عيسى دريغش نيست قند
ليك خر آمد بخلقت كه سند
بال بازان را سوى سلطان برد
بال زاغان را بكورستان برد
جزء : 4 رقم الصفحة : 46
{وَمِنْهُم} أي : من المكذبين من أي : ناس يستمعون إليك عند قراءتك القرآن وتعليمك للشرائع بسمع الظاهر وفي سمع قلوبهم صمم من محبة الدنيا وشهواتها فإن حب الشيء يعمي ويصم عن غيره.
أفأنت تسمع الصم الهمزة الاستفهامية إنكارية والفاء
47
للعطف على مقدر والتقدير أيستمعون إليك فأنت تسمعهم أي : تقدر على إسماعهم وقد أصمهم الله بسوء أعمالهم والمنكر هو وقوع الإسماع لا الاستماع فإنه أمر محقق ولو كانوا لا يعقلون أي : ولو انضم إلى صممهم عدم تعلقهم ، لأن الأصم العاقل ربما تفرس إذا وصل إلى صماخه صوت ، وأما إذا اجتمع فقدان السمع والعقل جميعاً فقد تم الأمر.
ومنهم من ينظر إليك بنظر الحس ويعائن دلائل نبوتك الواضحة وفي بصيرته عمي.
أفأنت تهدي العمي جمع الأعمى ، أي : عقيب ذلك أنت تهديهم ولو كانوا لا يبصرون أي : ولو انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الأبصار هو الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك البصيرة ، ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما يدركه البصير الأحمق فحيث اجتمع فيهم الحمق والعمى فقد انسد عليهم باب الهدى فقد شبه الله المكذبين الذين أصروا على التكذيب بالأصم والأعمى من حيث أن شدة بغضهم وكمال نفرتهم عن رسول الله منعهم عن إدراك محاسن كلامه ومشاهدة دلائل نبوته ، كما يمنع الصمم في الأذن عن إدراك محاسن الكلام ، ويمنع العمى في العين عن مشاهدة محاسن الصورة ، وقرن عدم العقل بعدم السمع وبعدم البصر عدم الإدراك تفضيلاً لحكم الباطن على الظاهر فلما بلغوا في معرض العقل إلى حيث لا يقبلون الفلاح ، والطبيب إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج أعرض عنه ولا يستوحش من عدم قبوله للفلاح فقد وجب التبري منهم وعدم الانفعال من إصرارهم على التكذيب.
قال يونان وزير كسرى : خمسة أشياء ضائعة : المطر في الأرض السبخة ، والسراج المشتعل في ضوء الشمس ، والمرأة الحسنة الصورة عند الرجل الأعمى ، والطعام الطيب عند المريض ، والرجل العاقل عند من لا يعرف قدره.
جزء : 4 رقم الصفحة : 47
{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـانِ وَفْدًا} (مريم : 85) {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ}
49
يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا يعرفون في الدنيا فكأنهم لم يتفارقوا بسبب الموت إلا مدة قليلة لا تؤثر في زوال ذلك التعارف أول ما خرجوا من القبور ، ثم ينقطع التعارف إذا عاينوا العذاب ويتبرأ بعضهم من بعضهم وهو حال أخرى مقدرة لأن التعارف بعد الحشر يكون قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله شهادة من الله على خسرانهم وتعجب منه ، أي : قد غبن المكذبون بالحساب والجزاء وما كانوا مهتدين في تجارتهم إذ باعوا الإيمان بالكفر ، والتصديق بالتكذيب ، فلم يكونوا على نفع وقد مضى الوقت.
ه خوش كفت باكودك آموزكار
كه كارى نكرديم وشد روز كار
جزء : 4 رقم الصفحة : 49
(4/24)
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} أصله إن نرك وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، أي : أن نبصرنك بأن نظهر لك بعض الذي نعدهم من العذاب ونعجله في حياتك كما أراه ببدر والجواب محذوف لظهوره أي : فذاك هو المأمول وإنا عليهم مقتدرون.
أو نتوفينك قبل أن نريك فإلينا مرجعهم أي : رجوعهم رجوعاً اضطراريا فنريكه في الآخرة وإنا منهم منتقمون وهو جواب نتوفينك لأن الرجوع إنما يكون في الآخرة بعد الموت فهو لا يصلح أن يكون جواباً للشرط وما عطف عليه ولأن قوله تعالى في حم الزخرف.
فأما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون}(الزخرف : 41 ـ ـ 42)يدل على ما ذكرنا والقرآن يفسر بعضه بعضاً هكذا لاح ببال الفقير أصلحه الله القدير {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} أي : مجاز على أفعالهم السيئة.
ذكر الشهادة وأراد نتيجتها ومقتضاها ولذلك رتبها على الرجوع بثم الدالة على التراخي ولو كان المراد من الشهادة نفسها لم يصح الترتيب المذكور لأنه تعالى شهيد على ما يفعلونه من التكذيب والمحاربة حال رجوعهم إليه تعالى وقبله.
وقال : في الكواشي ثم بمعنى الواو أو لترتيب الأخبار نحو زيد قائم ثم هو كريم وليس التأخير عجزاً بل للإيذان بإنه تعالى قادر عليهم في كل آنٍ.
ولكل أمة من الأمم الماضية رسول يبعث إليهم بشريعة خاصة مناسبة لأحوالهم ليدعوهم إلى الحق فإذا جاء رسولهم بالبينات فكذبوه قضى بينهم أي : بين كل أمة ورسولها بالقسط بالعدل وحكم بنجاة الرسول والمؤمنين به وهلاك المكذبين وهم لا يظلمون في ذلك القضاء المستوجب لتعذيبهم لأنه من نتائج أعمالهم.
يقول الفقير : إن قلت يرد على ظاهر الآية زمان الفترة فإنها بظاهرها ناطقة بأنه لم يهمل أمة قط ولم يبعث لأهل الفترة رسول كما يشهد عليه قوله تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم}(يس : 6).
قلت : مساق الآية الكريمة على أن كل أمة قضى لها بالهلاك قد أنذروا أولاً على لسان رسول من الرسل ولم يعذب أهل الفترة لأن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل غير رسول الله عليهما الصلاة والسلام فعذب أعقابهم ببدر وغيره لتكذيبهم رسول الله كما دل عليه قوله تعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء : 15) وقد انتهت رسالة إسماعيل بموته كبقية الرسل لأن ثبوت الرسالة بعد الموت من خصائص نبينا عليه السلام كما في "إنسان العيون".
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
وبهذا ظهر بطلان قول ابن الشيخ في حواشيه أن عموم الآية لا يقتضي إن يكون الرسول حاضراً مع كل واحدة منهم لأن تقدم الرسول على بعض منهم لا يمنع من كونه رسولاً إلى ذلك البعض كما لا يمنع
50
تقدم رسولنا عليه السلام من كونه مبعوثاً إلينا إلى آخر الأبد انتهى.
وأما كون أهل الفترة معذبين في الآخرة أم لا فقد سبق في أواخر سورة التوبة.
ثم الرسول يأتي بالوحي الظاهر والباطن ، ووارث الرسول يأتي بالوحي الباطن وهو الإلهام الإلهي وكل ما جاز وقوعه للأنبياء من المعجزات جاز للأولياء مثله من الكرامات ، والله تعالى لا يحكم بين العباد إلا بعد مجيء رسولهم بالظاهر والباطن ، فإن صدقوه قضى بينهم بالسعادة على قدر تصديقهم وإن كذبوه قضى بينهم بالشقاوة على قدر تكذيبهم.
هركسى ازهمت والاى خويش
سود دارد درخور كالاى خويش
فعليك بالصدق والتصديق في حق الأنبياء والأولياء واتباع ما جاؤوا به من الوحي والإلهام لتظفر بكل مرام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
{وَيَقُولُونَ} اسعباد واستهزاء (آورده اندكه بعد ازنزول واما نرينك الآية كفار مكة استعجال عذاب موعود نمودند اين آيت نازل شد).
متى هذا الوعد بالعذاب فليأتنا عجلة إن كنتم أي : أنت وأتباعك صادقين فإنه يأتينا.
(4/25)
قل لا أملك لا أقدر لأن الملك يلزمه القدرة لنفسي ضرا بأن ادفعه ولا نفعا بأن أجلبه فكيف أملك لكم فاستعجل في جلب العذاب إليكم إلا ما شاء الله استثناء منقطع أي : لكن ما شاء الله كائن فالله هو المالك للضر والنفع وهو لم يعين لوعده زماناً ثم اخلف فإذا حضر الوقت فإنه لا بد وإن يقع الموعود كما قال : لكل أمة ممن قضى بينهم وبين رسولهم أجل معين خاص بهم لا يتعدى إلى أمة أخرى مضروب لعذابهم جزاء على تكذيبهم رسلهم يحل بهم عند حلوله.
إذا جاء أجلهم أي : زمانهم الخاص المعين.
فلا يستأخرون أي : لا يتأخرون عن ذلك الأجل وصيغة الاستقبال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له.
ساعة أي : شيئاً قليلاً من الزمان.
ولا يستقدمون أي : لا يتقدمون عليه فلا يستعجلون فسيحين وقتكم وينجز وعدكم وهو عطف على يستأخرون لكن لا لبيان انتفاء التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر بل للمبالغة في انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيل عقلاً.
قل أرأيتم أي : أخبروني لأن الرؤية سبب للأخبار.
إن أتيكم عذابه الذي تستعجلون به بياتا أي : وقت بيات واشتغال بالنوم أو نهارا حين كنتم مشتغلين بطلب معاشكم ماذا يستعجل منه المجرمون جواب للشرط بحذف الفاء فإن جواب الشرط إذا كان استفهاماً لا بدّ فيه من الفاء إلا في الضرورة أي : شيء ونوع من العذاب يستعجلونه؟ وليس شيء من العذاب يستعجل به لمرارته وشدة إصابته فهو مقتض لنفور الطبع منه ، أو أي : شيء يستعجلون منه سبحانه والشيء لا يمكن استعجاله بعد إتيانه والمراد به المبالغة في إنكار استعجاله بإخراجه عن حيز الإمكان وتنزيله في الاستحالة منزلة استعجاله بعد إتيانه بناء على تنزيل تقرر إتيانه ودنوه منزلة إتيانه حقيقة ، والمجرمون موضوع موضع المضمر لتأكيد الإنكار ببيان مباينة حالهم للاستعجال فإن حق المجرم أن يهلك فزعاً من إتيان العذاب فضلاً عن استعجاله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
{أَثُمَّ} إذا ما وقع آمنتم به دخول حرف الاستفهام على ثم لإنكار التأخر وما مزيدة.
أي قل لهم : أبعد ما وقع العذاب وحل بكم حقيقة آمنتم به حين
51
لا ينفعكم الإيمان.
آلآن بإبدال الهمزة الثانية الفا مع المد اللازم وأصله أالان على أن تكون الأولى استفهامية وهو منصوب بآمنتم المقدر دون المذكور لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده كالعكس وهو استئناف من جهته تعالى غير داخل تحت القول الملقن ؛ أي : قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به إنكاراً للتأخير وقد كنتم به تستعجلون أي : تكذيباً واستهزاء.
ثم قيل عطف على ما قدر قبل آلآن للذين ظلموا أي : وضعوا التكذيب موضع التصديق والكفر موضع الإيمان.
ذوقوا عذاب الخلد (عذاب جاه يدي كه آن دائم بود) وذلك إنهم يعذبون في قبورهم ثم يصيرون إلى جهنم فيعبذون فيها أبداً.
نندارى كه بدكو رفت وجان برد
حسابش باكرام الكاتبين است
هل تجزون اليوم يعني : لا تجزون إلا بما كنتم تكسبون في الدنيا من الكفر والمعاصي ، وفيه تنبيه على أن العذاب لم يصدر منه تعالى ابتداء فإنه لم يخلق عباده إلا ليرحمهم بل هو نتيجة عملهم الباطل بمنزلة الهلاك المترتب على تناول السم.
رازغير شكايت كنم كه همو حباب
هميشه خانه خراب هواى خويشتنم
جزء : 4 رقم الصفحة : 51
{وَيَسْتَنابِئُونَكَ} أي : يستخبرونك فيقولون على طريق الاستهزاء والإنكار.
أحق هو والهمزة للاستفهام وحق خبر قدم على المبتدأ الذي هو الضمير ، والجملة في موضع النصب بيستنبئونك لأن أبنأ بمعنى أخبر يتعدى إلى اثنين بنفسه والأشهر أن يتعدى إلى الثاني بكلمة عن بأن يقال : استنبأت زيدا عن عمر أي : طلبت منه أن يخبرني عن عمرو قل لهم غير ملتفت إلى استهزائهم بانيا للأمر على أساس الحكمة إي وربي أي : بكسر الهمزة خاصة فالواو للقسم.
والمعنى بالفارسية (آرى بحق روردكارمن).
إنه أي : العذاب الموعود لحق ثابت البتة وما أنتم بمعجزين ربكم حين أراد تعذيبكم حتى يفوتكم العذاب بالهرب فهو لا حق بكم لا محالة.
وفي الآية إشارة : إلى أن أهل الغفلة لاحتجاب بصائرهم بحجب التعلقات الكونية ليس الأمور الأخروية عندهم بمنزلة المحسوس وأما أهل اليقظة فلنورهم بنور الله تعالى يشاهدون بعين القلب الآخرة وأهوالها كما تشاهد عين القالب الدنيا وأحوالها ، فهي عندهم بمنزلة المحسوس بل النبي عليه السلام قد عبر ليلة المعراج على الجنة والنار ، فشاهد ما شاهد بعين الرأس وكشف حقائق الأشياء ولذا حكم على الموعود بالحقية.
(4/26)
ولو أن لكل نفس ظلمت اشركت صفة نفس ما في الأرض أي : في الدنيا من خزائنها وأموالها لافتدت به أي : جعلته فدية لها من العذاب وبذلته مقابلة نجاتها من افتداه بمعنى فداه أي : أعطى فداءه وأسروا أي : النفوس المدلول عليها بكل نفس وإيثار صيغة جمع المذكر لحمل لفظ النفس على الشخص أو لتغليب ذكور مدلوله على إناثه الندامة على ما فعلوا من الظلم لما رأوا العذاب والمعنى أخفوها ولم يظهروها عند معاينة العذاب عجزاً عن النطق لكمال الحيرة ، كمن يذهب به ليصلب فإنه يبقى مبهوتاً لا ينطق بكلمة.
وفي
52
الكواشي وأسروا الندامة أظهروها ، لأنه ليس بيوم تصبر.
قال : في التبيان الأسرار من الأضداد وقضي بينهم أي : أوقع القضاء والحكم بين الظالمين من المشركين وغيرهم من أصناف أهل الظلم بأن أظهر الحق سواء كان من حقوق الله ، أو من حقوق العباد من الباطل وعومل أهل كل منهما بما يليق به بالقسط بالعدل وهم أي : الظالمون لا يظلمون فيما فعل بهم من العذاب ، بل هو من مقتضيات ظلمهم ولوازمه الضرورية كذا في الإرشاد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 52
وقال القاضي : ليس تكريراً لأن الأول قضاء بين الأنبياء ومكذبيهم ، والثاني مجازاة للمشركين على الشرك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 52
{أَلا} قال الامام : كلمة (ألا) إنما تذكر لتنبيه الغافلين وأهل هذا العالم مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيضيفون الأشياء إلى ملاكها الظاهرة المجازية فيقولون الدار لزيد والغلام لعمرو والسلطنة للخليفة والتصرف للوزير ونحو ذلك فكانوا مستغرقين في نوم الجهل والغفلة حيث يظنون صحة تلك الإضافات فلذلك نادى الحق هؤلاء النائمين بقوله ألا إنما في السموات والأرض لأنه قد ثبت أن جميع ما سواه تعالى ممكن لذاته وإن الممكن لذاته مستند إلى الواجب لذاته إما ابتداء أو بوساطة ، فثبت أن جميع ما سواه مملوك له تعالى يتصرف فيه كيفما يشاء إيجاداً وإعداماً وإثابة وعقاباً وكلمة ما لتغلب غير العقلاء على العقلاء.
ألا إن وعد الله حق أي : ما وعده من الثواب والعقاب كائن لا خلف فيه فالوعد بمعنى الموعود والحق بمعنى الثابت والواقع ، ويجوز أن يكون بمعناه المصدري ، والحق بمعنى المطابق للواقع أي : وعده بما ذكر مطابق للواقع.
ولكن أكثرهم لقصور عقلهم واستيلاء الغفلة عليهم والفهم بالأفعال المحسوسة المعتادة.
لا يعلمون ذلك وإنما يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا فيقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون.
مانده در تنكناى اين مجلس
غير دنياند يده ديده حس
شم دل كوكه ردها بدرد
جانب ملك آخرت نكرد
مرغ او در قفس زبون باشد
ه شنا سدكه باغ ون باشد
هو يحيي ويميت في الدنيا من غير دخل لأحد في ذلك وإليه ترجعون في الآخرة بالبعث والحشر.
وفي التأويلات النجمية هو يحيي من العدم بالإيجاد ويميت من الوجود بالإعدام وإليه ترجعون وجوداً وعدماً انتهى.
وفي الآية إشارة إلى أنه لا بدّ من الرجوع وإن كان اضطرارياً ، ونعم ما قيل : إذا جاء الموت لا ينفع العلم كما لم ينفع آدم ، ولا الخلة كما لم تنفع إبراهيم ، ولا القربة كما لم تنفع موسى ، ولا الملك كما لم ينفع داود وسليمان وذا القرنين ، ولا المحبة كما لم تنفع محمداً ، ولا المال كما لم ينفع قارون ، ولا الجنود كما لم تنفع نمرود ، ولا الجمال كما لم ينفع يوسف.
قيل : في الموت ستمائة ألف وأربعة وعشرون ألف غم كل غم لو وضع على أهل الدنيا لماتوا منه ، وبعد الموت ثلاثمائة وستون هولاً كل هول أشد من الموت فمن عرف هذا بطريق اليقين جاهد إلى أن يجد كل ذرة منه ألم الموت ، فحينئذٍ لا يبقى للألم حين الفوت مجال أصلاً لأنه مات بالاختيار قبل الموت بالاضطرار ، ورجع إلى المولى بنفسه وفنى عن جملة القيود والإضافات ، وبقي ببقاء الله تعالى ، فهذا يقال : له موت النفس
53
وحياة القلب أحيانا الله تعالى وإياكم.
والموت بالاختيار حال الأحرار والموت بالاضطرار حال أهل الدناءة والأغيار والأول رجوع بوصال والثاني رجوع بفراق.
وفي المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 53
اي برادر صبركن بردرد نيش
تارهى ازنيش نفس كبر خويش
هركه مرد اندرتن أو نفس كبر
مردرا فرمان برد خرشيدوابر
نى بكفتسن آن سراج امتان
اين جهان وآن جهان ون ضرتان
س وصال اين فراق آن بود
صحت اين تن سقام جان بود
سخت مى آيد فراق اين مقر
س فراق آن مقردان سخت تر
ون فراق آن نقش سخت آيدترا
تاز سخت آيد زنقاش جدا
جزء : 4 رقم الصفحة : 53
يا اأَيُّهَا النَّاسُ} (آل عمران : 133) فانتبه فزعاً وقال : هذا تنبيه من الله وموعظة فتاب إلى الله واشتغل بالطاعة.
ثم في عبارة {جَآءَتْكُم} إشارة إلى أن حضرة القرآن تحفة من الله تعالى جسيمة ، وهدية منه عظيمة وصلت إلينا فلم يبق إلا القبول وقبوله الائتمار بأوامره.
والانتهاء عن نواهيه.
(4/27)
قال بعض القراء : قرأت القرآن على شيخ لي ثم رجعت لأقرأ ثانياً فانتهرني وقال : جعلت القراءة على عملاً اذهب فاقرأ على غيري فانظر ماذا يأمرك وينهاك وماذا يفهمك كذا في الإحياء ونعم ما قيل :
نقد عمرش زفكرت معوج
خرج شد در رعايت مخرج
صرف كردش همه حيات سره
در قبراآت سبع وعشره
والمقصود من البيت أنه يلزم بعد تحصيل قدر ما يتحصل به تصحيح الحروف ورعاية المخرج صرف باقي العمر إلى الأهم وهو معرفة الله تعالى وهو متعلق القلب الذي هو أشرف من اللسان وسائر الأعضاء ومعرفة الله إنما تحصل غالباً بالذكر ، ثم بالفكر بانكشاف حقائق الأشياء وحقائق القرآن ، فكما أن الله تعالى أيدّ النبي عليه السلام بجبريل ، فكذا أيد الولي بالقرآن وهو جبريل ، وعلم الشريعة يبقى هنا لأن متعلقه على الفناء وإنما يذهب إلى الآخرة ثوابه بحسب العمل بالخلوص ، وأما علم الحقيقة فيذهب إلى الآخرة لأنه على البقاء وهو أزلي أبدي لا زوال له في كل موطن ومقام كما أفاده لي حضرة شيخي وسندي قدس الله نفسه الزاكية ونفعني وإياكم بعلومه النافعة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 53
{مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ} ما استفهامية منصوبة المحل بانزل سادة مسد المفعلوين لأرأيتم جعل الرزق منزلاً من السماء مع أن الأرزاق إنما تخرج من الأرض إما لأنه مقدر في السماء كما قال تعالى : وفي السماء رزقكم}(الذاريات : 22) ولا يخرج من الأرض إلا على حسب ما قدر فيها فصار بذلك كأنه منزل منها ، أو لأنه إنما يخرج من الأرض بأسباب متعلقة بالسماء كالمطر والشمس والقمر فإن المطر سبب الإنبات والشمس سبب النضج والقمر سبب اللون واللام للمنفعة فدلت على أن المراد منه ما حل.
{فَجَعَلْتُم مِّنْهُ} (الأنعام : 138) وقولهم {مَا فِى بُطُونِ هَـاذِهِ الانْعَـامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} (الأنعام : 139) وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ} (اياخدا) أذن لكم في ذلك الجعل فأنتم فيه ممتثلون لأمره قائلون بالتحريم والتحليل بحكمه أم على الله تفترون في نسبة ذلك إليه.
وفي الكواشي هذه الآية من أبلغ الزواجر عن التجوز فيما يسأل عنه من الحكم ، وباعثة على الاحتياط فيه ومن لم يحتط في الحكم فهو مفتر انتهى.
قال علي كرم الله وجهه : من أفتى الناس بغير علم لعنته السماء والأرض.
وسألت بنت علي البلخي أباها عن القيء إذا خرج إلى الحلق ، فقال : يجب إعادة الوضوء فرأى رسول الله فقال : لا يا علي حتى يكون ملء الفم فقال : علمت أن الفتوى تعرض على رسول الله فآليت على نفسي أن لا أفتى أبداً.
وفي الآية إشارة إلى أنه لا يجوز للمرء أن يعتقد ويقول : إن الرزق المعنوي من الواردات الإلهية والشواهد الربانية حرام على أرباب النفوس وحلال على أصحاب القلوب ، وإن تحصيل هذه السعادات ونيل هذه الكرامات ليس من شأننا وإنما هو من شأن الأخيار الكبراء وخواص الأنبياء والأولياء ، فإن هذا افتراء على الله فإن الله تعالى ما خص قوماً بالدعوة إلى الدرجات والمقامات العلية بل جعل الدعوة عامة لقوله : والله يدعو إلى دار السلام}(يونس : 25) وقوله : {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم} (إبراهيم : 10) فتحريمه هذا الرزق على نفسه من خساسة نفسه وركاكة عقله ودناءة همته وإلا فالله تعالى لم يسد عليه هذا الباب بل هو الفياض الوهاب.
قال الحافظ :
جزء : 4 رقم الصفحة : 56
عاشق كه شدكه يا بخالش نظر نكرد
اي خواجه درد نيست وكرنه طبيب هست
وقال :
طالب لعل وكهرنيست وكرنه خورشيد
همنان در عمل معدن وكانست كه بود
وفي "المثنوى" :
كر كران وكر شتابنده بود
عاقبت جو ينده يا بنده بود
وفي ()الحكم العطائية" وشرحها : من استغرب أن ينقذه الله من شهوته التي اعتقلته عن الخيرات ، وأن يخرجه من وجود غفلته التي شملته في جميع الحالات فقد استعجز القدرة الإلهية ومن استعجزها فقد كفر أو كاد ودليل ذلك أن الله تعالى يقول : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا} أبان سبحانه أن قدرته شاملة صالحة لكل شيء وهذا أمس الأشياء وإن أردت الاستعانة على تقوية رجائك في ذلك فانظر لحال من كان مثلي ثم انقذه الله وخصه بعنايته كإبراهيم بن أدهم ، وفضيل بن عياض وعبد الله بن المبارك وذي النون ومالك بن دينار وغيرهم من مجرمي البداية.
وما ظن الذين يفترون على الله الكذب ما استفهامية في محل الرفع على الابتداء وظن خبرها ومفعولاه محذوفان ، وزيادة الكذب مع إن الافتراء لا يكون إلا كذباً لإظهار كمال قبح ما افتعلوا وكونه كذباً في اعتقادهم أيضاً يوم القيامة ظرف لنفس الظن أي : أيّ شيء ظنهم في ذلك اليوم يوم عرض الأفعال والأقوال والمجازاة عليها مثقالاً بمثقال ، والمراد تهويله
56
(4/28)
وتفظيعه بهول ما يتعلق به مما يصنع بهم يومئذٍ.
إن الله لذو فضل عظيم على الناس جميعاً حيث أنعم عليهم بالعقل المميز بين الحق والباطل والحسن والقبيح ، ورحمهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل.
ولكن أكثرهم لا يشكرون تلك النعمة الجليلة فلا يصرفون قواهم ومشاعرهم إلى ما خلقت له ، ولا يتبعون دليل العقل فيما يستبد به ولا دليل الشرع فيما لا يدرك إلا به.
جزء : 4 رقم الصفحة : 56
{وَمَا} نافية تكون يا محمد في شأن أي : في أمر والجمع شؤون من قولك شأنت شأنه قصدت قصده مصدر بمعنى المفعول ويكون الشأن بمعنى الحال أيضاً يقال : ما شأن فلان بمعنى ما حاله وما تتلو منه الضمير للشأن والظرف صفة لمصدر محذوف ، أي تلاوة كائنة من الشأن لأن تلاوة القرآن معظم شأن الرسول.
من قرآن من مزيدة لتأكيد النفي وقرآن مفعول تتلو ولا تعملون (اي آدميان) من عمل من الأعمال تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم ولذلك ذكر حيث خص ما فيه فخامة وذكر حيث عم ما يتناول الجليل والحقير.
قال ابن الشيخ الخطاب : وإن خص به عليه السلام أولاً بحسب الظاهر إلا أن الأمة داخلون فيه لأن رئيس القوم إذا خوطب دخل قومه في ذلك الخطاب كما في قوله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء}(الطلاق : 1) {إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة ، أي : ما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال إلا حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له إذ تفيضون فيه ظرف لشهوداً ؛ إذ تخلص المضارع لمعنى الماضي ، والإفاضة الدخول في العمل يقال : أفاض القوم في العمل إذا اندفعوا فيه أي : تخوضون وتندفعون فيه وما يعزب عن ربك أي : لا يبعد ولا يغيب عن علمه الشامل من مثقال ذرة من مزيدة لتأكيد النفي ، أي : ما يساوي في الثقل نملة صغيرة أو هباء.
في الأرض ولا في السماء أي : في دائرة الوجود والإمكان.
ولا لنفي الجنس أصغر اسمها من ذلك الذرة ولا أكبر إلا في كتاب مبين خبرها وهو اللوح المحفوظ ، فإذ كان كل شيء مكتوباً في اللوح فكيف يغيب عن علمه شيء وكيف يخفى عليه أمر فلا يظن أحد أنه لا يجازي على أقواله وأفعاله خيراً كانت أو شراً.
وفيه إشارة إلى طريق المراقبة وحث على المحافظة فإن المرء إذا علم يقيناً اطلاع الله عليه في كل آن وحافظ على أوقاته سلم من الخلاف وعامل بالانصاف حكى عن عمر البناني رحمه الله قال : مررت براهب في مقبرة في كفه اليمنى حصى أبيض ، وفي كفه اليسرى حصى أسود فقلت : يا راهب ما تصنع ههنا؟ قال : إذا فقدت قلبي أتيت المقابر فاعتبرت بمن فيها فقلت ما هذا الحصى الذي في كفك؟ فقال : أما الحصى الأبيض إذا عملت حسنة ألقيت واحدة منها في الأسود وإذا عملت سيئة ألقيت واحدة من هذا الأسود في الأبيض ، فإذا كان الليل فنظرت فإن فضلت الحسنات على السيئات أفطرت وقمت إلى وردي ، وإن فضلت السيئات على الحسنات لم آكل طعاماً ولم أشرب شراباً في تلك الليلة هذه حالتي والسلام عليك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 57
وعن بعض الكبار من علامة موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من المراقبات ، وترك الندم على ما فعلته من وجود الزلات ، لأن الحياة تقتضي الاحساس ، والعكس صفة الميت وكل معصية من الغفلة والنسيان ، فذاكر الحق سالم في الدنيا والآخرة حكى إن ولياً اشتاق إلى رؤية حبيب
57
من أحباء الله فقيل له اذهب إلى القصبة الفلانية ففيها حبيبي فجاء إليها ورأى رجلاً يذكر الله وأسداً فإذا تغافل يختطفه الأسد حتى يقطع قطعة لحم من أعضائه ، فلما قرب إليه وسأل عن حاله قال : أردت أن لا أتغافل عن ذكر الله فإذا وقعت الغفلة سلط على كلباً من كلاب الدنيا فأنا ألازمه مخافة أن يسلط كلباً من كلاب الآخرة عليّ للغفلة.
يقول الفقير في هذه القصة إشارات.
منها إن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة وإن مقاساة شدائد طريق الحق في هذه النشأة أسهل من المؤاخذات الأخروية فعلى المرء ملازمة الطاعة والعبادة وإن كانت شاقة عليه.
وفي المثنوى :
اندرين ره مى تراش ومى خراش
تا دم آخر دمى فارغ مباش
ومنها أنه لا بد من المراقبة فإن عجز بنفسه عنها استعان عليها من خارج فإنه لا بد للنائم من محرك وموقظ إذ النوم طويل والنفس كسلى ، ولذا جعلوا من شرط الصحبة أن لا يصطحب إلا مع من فوقه.
وفي البستان :
زخود بهترىء جوى وفرصت شمار
كه باون خودى كم كنى روزكار
ومنها أن الأسد الذي سلطه الله عليه إنما سلطه في الحقيقة على نفسه ليفترسها فإن من لم يمت نفسه في هذه الدار سلطها الله عليه في دار البوار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 57
(4/29)
{إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ} أي : أحباء الله وأعداء نفوسهم فإن الولاية هي معرفة الله ومعرفة نفوسهم ، فمعرفة الله رؤيته بنظر المحبة ومعرفة النفس رؤيتها بنظر العداوة عند كشف غطاء أحوالها وأوصافها فإذا عرفتها حق المعرفة وعلمت أنها عدوةولك وعالجتها بالمعاندة والمكابدة أمنت مكرها وكيدها وما نظرت إليها بنظر الشفقة والرحمة كما في التأويلات النجمية.
قال : المولى أبو السعود رحمه الله الولي لغة القريب ، والمراد بأولياء خلص المؤمنين لقربهم الروحاني منه سبحانه انتهى ، لأنهم يتولونه تعالى بالطاعة أي : يتقربون إليه بطاعته والاستغراق في معرفته بحيث إذا رأوا رأوا دلائل قدرته ، وإن سمعوا سمعوا آياته وإن نطقوا نطقوا بالثناء عليه وإن تحركوا تحركوا في خدمته وإن اجتهدوا اجتهدوا في طاعته لا خوف عليهم في الدارين من لحوق مكروه ، والخوف إنما يكون من حدوث شيء من المكاره في المستقبل ولا هم يحزنون من فوات مطلوب والحزن إنما يكون من تحقق شيء مما كرهه في الماضي أو من فوات شيء أحبه فيه أي : لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوف وحزن بل يستمرون على النشاط والسرور كيف لا واستشعار الخوف والخشية استعظاماً لجلال الله وهيبته واستقصاراً للجد والسعي في إقامة حقوق العبودية من خصائص الخواص والمقربين.
ولذا قال : في الكواشي لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الآخرة وإلا فهم أشد خوفاً وحزناً في الدنيا من غيرهم انتهى.
وإنما يعتريهم ذلك ، لأن مقصدهم ليس إلا طاعة الله ونيل رضوانه إنه المستتبع للكرامة والزلفى ، وذلك مما لا ريب في حصوله ولا احتمال لفواته بموجب الوعد بالنسبة إليه تعالى ، وأما ما عدا ذلك من الأمور الدنيوية المترددة بين الحصول والفوات ، فهي بمعزل من الانتظام في سلك مقصدهم وجوداً وعدماً حتى يخافوا من حصول ضارها أو يحزنوا
58
بفوات نافعها كما في الإرشاد.
والتحقيق أنهم لفنائهم في عين الهوية الأحدية لم يبق فيهم بقية ولا غاية ما وراء ما بلغوا حتى يخافوا ويحزنوا كما فينفائس المجالس لحضرة الهدائي قدس سره الذين آمنوا وكانوا يتقون استئناف مبنى على السؤال ومحل الموصول الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف كأنه قيل من أولئك وما سبب فوزهم بتلك الكرامة؟ فقيل هم الذين جمعوا بين الإيمان بكل ما جاء من عند الله والتقوى المفضيين إلى كل خير المنحيين عن كل شر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 58
قال شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة : وكانوا يتقون الله تعالى من صدور سيئات الأعمال والأخلاق في مرتبة الشريعة والطريقة ومن ظهور الغفلات والتلوينات في مرتبة المعرفة والحقيقة لأنهم يصلحون طبائعهم بالشريعة وأنفسهم بالطريقة وقلوبهم بالمعرفة وأرواحهم وأسرارهم بالحقيقة فلا جرم أنهم يتقون من جميع ما سوى الله انتهى.
يقول الفقير : يشير رضي الله عنه بذلك إلى أن المراد بالتقوى المرتبة الثالثة منها وهو تنزه الإنسان عن كل ما يشغل سره عن الحق والتبتل إليه بالكلية وهذه المرتبة جامعة لما تحتها من مرتبة التوقى عن الشرك التي يفيدها الإيمان أيضاً ومرتبة التجنب عن كل ما يؤثم من فعل وترك ، وللأولياء في شأن التبتل والتنزه درجات متفاوتة ، حسب تفاوت درجات استعداداتهم ، أقصاها ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم السلام ، جمعوا بين رياستي النبوة والولاية ، وما عاقهم التعلق بعلم الأشباح عن العروج إلى عالم الأرواح ، ولم يصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن الاستغراق في شؤون الحق ، لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية ومن هنا يعرف فضل رسول الله على عيسى عليه السلام ؛ إذ ليس عروجه إلى الرابعة ببديع بالنسبة إلى عروج رسولنا عليه السلام إلى العرش وما فوقه إذ كان تعلقه بهذه النشأة من جهة الأم فقط وتعلق رسول الله من جهة الأبوين ومع ذلك ما عاقه التعلق حتى انتهى في عروجه إلى ما انتهى من نهايات العنصريات وغايات الطبيعيات ، ودوام الاتصال بالأنوار العالية ممكن ، كما يحكى عن بعض المتألهين وإن لم يمكن فيجعل هذه الحالة ملكة له فيصير بدنه كقميص يلبسه تارة ويخلعه أخرى ألا ترى أن من قدر على النفقة فهو متى جاع فبيده الشبع يأكل ما شاء فقس عليه الرزق المعنوي والعروج إلى مبدأه بل هو أولى من ذلك لأنه مستغن عن آلة وسبب وليس بين الطالب والمطلوب مسافة ، وفي المثنوى :
اين دراز وكوتهى مر جسم راست
ه درازوكوته آنجاكه خداست
ون خدا مر جسم را تبديل كرد
رفتنش بى فرسخ وبى ميل كرد
فإذا عرفت أن أولياء الله تعالى هم المؤمنون المتقون بالتقوى الحقيقية ، فاعرف أيضاً أنه قد جاء في الأولياء أوصاف أخر بعضها متقارب وبعضها باعتبار البداية ، وبعضها باعتبار النهاية إلى غير ذلك.
مما روى علي كرم الله وجهه هم صفر الوجوه من السهر عمش العيون من العبر خمص البطون من الطوى ، يبس الشفاه من الذوي.
(4/30)
وعن سعيد بن جبير أن رسول الله سئل من أولياء الله؟ فقال : هم الذي يذكر الله برؤيتهم أي : بسمتهم وإخباتهم وسكينتهم نحو : سيماهم في وجوههم}(الفتح : 29).
جزء : 4 رقم الصفحة : 58
وقال بعضهم : علامة الأولياء أن همومهم مع الله ، وشغلهم بالله وفرارهم إليه فنوافي أحوالهم ببقائهم في مشاهدة مالكهم فتوالت عليهم أنوار الولاية ، فلم يكن لهم عن
59
نفوسهم أخبار ، ولا مع واحد غير الله قرار ، وهم المتحابون في الله.
قال صلى الله عليه وسلّم "إنعباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله" قيل يا رسول الله من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم؟ قال : "هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام منهم ، ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس" قوله : يغبطهم الأنبياء تصوير لحسن حالهم على طريقة التمثيل.
قال : "الكواشي" وهذا مبالغة والمعنى لو فرض قوم بهذه الصفة لكانوا هؤلاء وإلا فلا خلاف أن أحداً من غير الأنبياء لا يبلغ منزله الأنبياء.
وفي تفسير الفاتحة للفنارى : إن النبيين يفزعون على أممهم للشفقة التي جبلهم الله عليها للخلق فيقولون يوم القيامة : اللهم سلم سلم ، ويخافون أشد الخوف على أممهم ، والأمم يخافون على أنفسهم ، وأما الآمنون على أنفسهم ، فيغبطهم النبيون في الذي هم عليه من الأمن لما هم أي : النبيون عليه من الخوف على أممهم وإن كانوا آمنين على أنفسهم.
يقول الفقير : وحين الانتهاء في التحرير إلى هذا المحل ظهر لي وجه آخر وهو أن الحديث المذكور ناطق عن المحبة في الله والمحبة مقام اختص به عليه السلام من بين الأنبياء والرسل وهو لا ينافي تحقق الكمل من ورثته بحقائقه إذ كمال التابع تابع لكمال متبوعه فمن الجائز أن يحصل لهم من ذلك المقام وآثاره ما به يغبطهم بعض الأنبياء.
وقد ورد "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" ولا يلزم من ذلك بلوغهم منزلة الأنبياء ورجحانهم عليهم مطلقاً وقد تقرر أن الأفضل قد يكون مفضولاً من وجه وبالعكس ألا ترى قوله عليه السلام : "أنتم أعلم بأمور دنياكم" ودرجات المعرفة لا نهاية لها وإلى الله المنتهى.
وقال أبو يزيد قدس سره : أولياء الله تعالى عرائس ، ولا يرى العرائس إلا من كان محرماً لهم وإما غيرهم فلا ، وهم مخدرون عنده في حجاب الأنس لا يراهم أحد في الدنيا ولا في الآخرة.
وقال سهل : أولياء الله لا يعرفهم إلا أشكالهم ، أو من أراد أن ينفعه بهم ولو عرفهم حتى يعرفهم الناس لكانوا حجة عليهم فمن خالف بعد علمه بهم كفر ومن قعد عنهم خرج.
جزء : 4 رقم الصفحة : 58
وقال الشيخ أبو العباس : معرفة الولي أصعب من معرفة الله فإن الله معروف بكماله وجماله ، ومتى يعرف مخلوق مخلوقاً مثله؟ يأكل كما يأكل ويشرب كما يشرب وهم ظاهرهم مزين بأحكام الشرع وباطنهم مشتغل بأنوار الفقر.
وفي "المثنوى" :
رهروراه طريقت اين بود
كاو باحكما شريعت ميرود
قال : "الكاشفي" في وصف الأولياء
رخش زميدان ازل تاخنه
كوى بو كان ابد باخته
معتكفان حرم كبريا
شسته دل از صورت كبروريا
راه نوردان شكسته قدم
راز كشايان فروبسته دم
وقال السعدي :
اسيرش نخواهد رهايى زبند
شكارش نجويد خلاص ازكمند
دلارام در بر دلاراى جوى
لب ازتشنكى خشك بر طرف جوى
جزء : 4 رقم الصفحة : 58
{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاخِرَةِ} بيان لما أولاهم من خيرات الدارين بعد بيان
60
(4/31)
إنجائهم من شرورهما ومكارههما.
والجملة مستأنفة كأنه قيل : هل لهم وراء ذلك من نعمة وكرامة؟ فقيل لهم ما يسرهم في الدارين وتقديم الأول لما إن التخلية سابقة على التحلية.
والبشرى مصدر أريد به المبشر به من الخيرات العاجلة كالنصر والفتح والغنيمة وغير ذلك والآجلة الغنية عن البيان والظرفان في موقع الحال منه والعامل ما في الخبر من معنى الاستقرار ، أي لهم البشرى حال كونها في الحياة الدنيا وحال كونها في الآخرة أي : عاجلة وآجلة أو من الضمير المجرور ، أي حال كونهم في الحياة الخ ومن البشرى العاجلة الثناء الحسن والذكر الجميل ومحبة الناس هذا ما اختاره المولى أبو السعود بناء على أنها بشارة ناجزة مقصودة بالذات.
وقيل البشرى مصدر والظرفان متعلقان به أما البشرى في الدنيا فهي البشارات الواقعة للمؤمنين المتقين في غير موضع من الكتاب المبين وعن النبي عليه السلام : هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له أي : يراها مسلم لأجل مسلم آخر ولا يخفى أن كون الرؤيا الصالحة مبشرة للمؤمن يمنع أن تكون بنبوة فتكون بوجه آخر من صلاح وتنبيه غفلة وفرح وغيرها كما في}()شرح المشارق" لابن الملك وهذه البشارة لا تحصل إلا لأولياء الله لأنهم مستغرقوا القلب والروح في ذكر الله ومعرفة الله فمنامهم كاليقظة لا يفيد إلا الحق واليقين وأما من يكون متوزع الخاطر على أحوال هذا العالم الكدر المظلم فإنه لا اعتماد على رؤياه.
وفي "التأويلات النجمية" لهم المبشرات التي هي تلو النبوة من الوقائع التي يرون بين النوم واليقظة والإلهامات والكشوف وما يرد عليهم من المواهب والمشاهدات كما قال عليه السلام : "لم يبق من النبوة إلا المبشرات" انتهى.
وفي الحديث : "الرؤيا الصادقة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" ومعناه أن النبي عليه السلام حين بعث أقام بمكة ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشر سنين فمدة الوحي إليه في اليقظة ثلاث وعشرون سنة ومدة الوحي في المنام ستة أشهر من ثلاث وعشرين سنة فهي جزء من ستة وأربعين جزءاً وإنما ابتدىء رسول الله بالرؤيا لئلا يفجأه الملك بالرسالة فلا تتحملها القوى البشرية فكانت الرؤيا تأنيساً له.
جزء : 4 رقم الصفحة : 60
وقال بعضهم : لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة ، وأما البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحف بإيمانهم وما يقرأون منها ، وغير ذلك من البشارات في كل موطن من المواطن الأخروية فتكون هذه بشارة بما سيقع من البشارات العاجلة والآجلة المطلوبة لغاياتها لا لذواتها.
(سلمى فرموده كه بشارت دنيا وعده لقاست ومده آخرت تحقيق آن وعده.
وشيخ الإسلام فرموده كه ولى راد وبشار تست.
دردنيا شناخت ودر عقبى نواخت.
درين سراى سرور مجاهده ودران سراى نور مشاهده.
اينجا صفا و وفا وآنجار ضا ولقا).
وفي "التأويلات النجمية" بشراهم في الآخرة بكشف القناع عن جمال العزة عند سطوات نور القدم وزهق ظلمة الحدوث وبلقاء الحق رحمة منه كما قال : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ} (التوبة : 21) وفي حديث : "الرؤية في النشأة الكثيبية يقول الله تعالى لهم بعد التجلي هل بقي لكم شيء بعد هذا ، فيقولون يا ربنا وأي : شيء بقي وقد نجيتنا من النار وأدخلتنا دار رضوانك وأنزلتنا بجوارك وخلعت علينا ملابس كرمك وأريتنا وجهك فيقول الحق جل جلاله : بقي لكم
61
فيقولون : يا ربنا وما ذاك الذي بقي؟ فيقول : دوام رضاي عليكم فلا أسخط عليكم أبداً" فما أحلاها من كلمة وما الذها من بشرى فبدأ سبحانه بالكلام ، خلقنا فقال : كن فأول شيء كان لنا منه السماع فختم بما به بدأ فقال : هذه المقالة فختم بالسماع وهو هذه البشرى {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَـاتِ اللَّهِ} أي : لمواعيده الواردة في حقهم إذ لا خلف لمواعيده أصلاً.
وفي التأويلات النجمية لا يتغير أحكامه الأزلية حيث قال : للولي كن ولياً وللعدو كن عدواً وكانوا كما أراد للحكمة البالغة فلا تغير لكلمة الولي وكلمة العدو ذلك التبشير هو الفوز العظيم الذي لا يصل إلى كنهه العقول وكيف لا وفيه سعادة الدارين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 60
(4/32)
اعلم أن الولاية على قسمين عامة وهي مشتركة بين جميع المؤمنين كما قال الله تعالى : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}(البقرة : 57) وخاصة وهي مختصة بالواصلين إلى الله من أهل السلوك ، والولاية عبارة عن فناء العبد في الحق والبقاء به ، ولا يشترط في الولاية الكرامات الكونية فإنها توجد في غير الملة الإسلامية ، لكن يشترط فيها الكرامات القلبية كالعلوم الإلهية والمعارف الربانية ، فهاتان الكرامتان قد تجتمعان كما اجتمعتا في الشيخ عبد القادر الكيلاني والشيخ أبي مدين المغربي قدس الله سرهما فإنه لم يأت من أهل الشرق مثل عبد القادر في الخوارق ومن أهل الغرب مثل أبي مدين مع مالهما من العلوم والمعارف الكلية وقد تفترقان فتوجد الثانية دون الأولى كما في أكثر الكمل من أهل الفناء ، وأما الكرامات الكونية كالمشي على الماء والطيران في الهواء وقطع المسافة البعيدة في المدة القليلة وغيرها فقد صدرت من الرهابنة والمتفلسفة الذين استدرجهم الحق بالخذلان من حيث لا يعلمون كما سبق في سورة البقرة عند قوله تعالى : {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنا بَعْدِ ذَالِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة : 74) الآية.
والنبوة والرسالة كالسلطنة اختصاص إلهي لا مدخل لكسب العبد فيها.
وأما الولاية كالوزارة فلكسب العبد مدخل فيها فكما يمكن الوزارة بالكسب ، كذلك يمكن الولاية بالكسب وفي الحقيقة كل منهما اختصاص عطائي غير كسبي حاصل للعين الثابتة من الفيض الأقدس وظهوره بالتدريج بحصول شرائطه وأسبابه يوهم المحجوب فيظن أنه كسبي بالتعمل ، فأول الولاية انتهاء السفر الأول الذي هو السفر من الخلق إلى الحلق بإزالة التعشق عن المظاهر والأغيار والخلاص من القيود والاستار ، والعبور على المنازل والمقامات والحصول على المراتب والدرجات ، وبمجرد حصول العلم اليقيني للشخص لا يلحق بأهل المقام لأنه إنما يتجلى الحق لمن انمحى رسمه وزال عنه اسمه ولما كانت المراتب متميزة قسم أرباب هذه الطريقة المقامات الكلية إلى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
فعلم اليقين متصور الأمر على ما هو عليه.
وعين اليقين بشهوده كما هو.
وحق اليقين بالفناء في الحق والبقاء به علماً وشهوداً وحالاً لا علماً فقط ، ولا نهاية لكمال الولاية فمراتب الأولياء غير متناهية ، والطريق التوحيد وتزكية النفس عن الأخلاق الذميمة وتطهيرها من الأغراض الدنيئة ، فمن جاهد في طريق الحق فقد سعى في الخلق نفسه بزمرة الأولياء ومن اتبع الهوى فقد اجتهد في الالتحاق بفرقة الأعداء ، والسلوك الإرادة لأجل الفناء فإن المريد من يفني إرادته في إرادة الشيخ فمن عمل برأيه أمراً فهو ليس بمريد.
وفي "المثنوى" :
جزء : 4 رقم الصفحة : 60
مكسل از يغمبر ايام خويش
تكيه كم كن برفن وبركام خويش
62
كره شيرى ون روى رم بيدليل
همو روبه ودر ضلالي وذليل
هين مرالا كه بارهاى شيخ
تابه بيني عون ولشكرهاى شيخ
وينبغي للمؤمن أن يجتهد في تحصيل سير أولياء الله وأقل الأمر إن لا يقصر في حبهم فإن المرء مع من أحب أن يحشر معه فلا بد من الجهة الجامعة من وجه خاص.
جزء : 4 رقم الصفحة : 60
{وَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} هو في الحقيقة نهي له عليه السلام عن الحزن كأنه قيل لا تحزن بقولهم : ولا تبال بتكذيبهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك وسائر ما يتفوهون به في شأنك مما لا خير فيه ، وإنما وجه النهي إلى قولهم للمبالغة في نهيه عليه السلام عن الحزن لما أن النهي عن التأثير نهى عن التأثر بأصله.
قال الكواشي : يتم الوقف هنا ويختار الاستئناف بأن العزة كأنه قيل فما لي لا أحزن؟ فقيل : إن العزة أي : الغلبة والقهرجميعاً أي : في مملكته وسلطانه لا يملك أحد شيئاً منهما أصلاً لا هم ولا غيرهم ويعصمك منهم وينصرك عليهم.
هو السميع العليم يسمع ما يقولون في حقك ، ويعلم ما يعزمون عليه وهو مكافئهم بذلك.
وفي التأويلات النجمية إن العزةجميعاً في الدنيا والآخرة يعز من يشاء في الدنيا دون الآخرة ويعز من يشاء في الآخرة دون الدنيا ويعز في الدنيا والآخرة جميعاً فلا يضره هواجس النفس ووساوس الشيطان في احتظاظه بشهوات الدنيا ونعيمها والتزين بزينتها ولا يمنعه نعيم الدنيا عن نعيم الآخرة كما قال تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}(الأعراف : 32) فيكون من خواص عباده الذين آتاهم الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة بل يكون لبعضهم نعيم الدنيا معيناً على تحصيل نعيم الآخرة كما جاء في الحديث الرباني : (وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فإن أفقرته يفسده ذلك).
(4/33)
{أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الأرْضِ} أي : العقلاء من الملائكة والثقلين ، وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات عبيداً له سبحانه مقهورين تحت قدرته وملكيته فما عداهم من الموجودات أولى بذلك فهو تعالى قادر على نصرك عليهم ونقل أموالهم وديارهم إليك.
وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ما نافية وشركاء مفعول يتبع ومفعول يدعون محذوف لظهوره ، والتقدير : وما يتبع الذين يدعون آلهة من دون الله شركاء في الحقيقة وإن سموها شركاء ؛ لأن شركة الله تعالى في الربوبية محال إن يتبعون إلا الظن أي : ما يتبعون إلا ظنهم أنها شركاء.
وإن هم أي : ما هم إلا يخرصون يكذبون فيما ينسبونه إلى الله سبحانه يقال : خرص يخرص خرصاً أي : كذب وهو من باب نصر والخراص الكذاب ، ثم نبه على تفرده بالقدرة الكاملة والنعمة الشاملة ليدلهم على توحده باستحقاق العبادة فقال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 62
{هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} لتحصيل أسباب معاشكم فحذف مظلماً لدلالة مبصراً عليه وحذف لتتحركوا لدلالة لتسكنوا عليه ، وإسناد الإبصار إلى النهار مجازي ، والمراد يبصر فيه كقوله نهاره صائم وليله قائم أي : صام في نهاره وقام في ليله.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى جعل بعض الأوقات للاستراحة من نصب المجاهدات وتعب الطاعات لنزول ملالة النفوس وكلالة القلوب ويستجد الشوق إلى جانب المطلوب ومن ثمة جعل أهل التدريس يوم التعطيل ليحصل النشاط الجديد للتحصيل كما قال ابن خيام :
63
زماني بحث ودرس وقيل وقالي
كه انسانرا بود كسب كمالى
زماني شعر وشطرنج وحكايات
كه خاطررا شود دفع ملالى
ففي الانتقال من أسلوب إلى أسلوب تجديد كتقلب أهل الكهف من اليمين إلى اليسار من عهد بعيد.
قال الحافظ :
از قال وقيل مدرسه حاله دلم كرفت
يك ند نيزخدمت معشوق ومى كنم
إن في ذلك أي : في جعل كل منهما كما وصف لآيات عجيبة كثيرة لقوم يسمعون أي : سماع تدبر واعتبار لمواعظ القرآن وتخصيص الآيات بهم مع أنها منصوبة لمصلحة الكل لما إنهم المنتفعون بها.
قالوا أي : بنوا مدلج كما في الكاشفي.
اتخذ الله ولدا أي : تبناه.
وفي التبيان قالت اليهود : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالت قريش : الملائكة بنات الله.
سبحانه تنزيه وتقديس له عما نسبوا إليه من الولد وتعجب لكلمتهم الحمقاء إما أنه تنزيه ؛ فلأن تقديره اسبحه تسبيحاً أي : أنزهه تنزيهاً وأما أنه تعجب فلأنه يقال : في مقام التعجب سبحان الله واستعمال اللفظ في الأول حقيقي وفي الثاني مجازي.
فإن قلت : لفظ واحد في معنيين حقيقي ومجازي ممنوع.
قلت : لا يلزم أن يكون استفادة معنى التعجب منه باستعمال اللفظ فيه بل هي من المعاني الثواني كما في حواشي سعدى لبى.
ورد في الأذكار لكل أعجوبة سبحان الله ، ووجه إطلاق هذه الكلمة عند التعجب هو أن الإنسان عند مشاهدة الأمر العجيب الخارج عن حد أمثاله يستبعد وقوعه ، وتنفعل نفسه منه كأنه استقصر قدرة الله فلذلك خطر على قلبه أن يقول قدر عليه وأوحده ، ثم تدارك إنه في هذا الزعم مخطىء فقال : سبحان الله تنزيهاًتعالى عن العجز عن خلق أمر عجيب يستبعد وقوعه لتيقنه بأنه تعالى على كل شيء قدير كذا في حواشي ابن الشيخ في سورة النصر هو الغني عن كل شيء وهو علة لتنزهه سبحانه فإن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة فيتخذه الضعيف ليتقوى به والفقير ليستعين به والذليل ليتعزز به والحقير ليشتهر به وكل ذلك علامة الاحتياج له ما في السموات وما في الأرض أي : من العقلاء وغيرهم وهو تقرير لغناه ، وتحقيق لمالكيته تعالى لكل ما سواه ، إن عندكم من سلطان بهذا أي : ما عندكم حجة وبرهان بهذا القول الباطل الذي صدر منكم فإن نافية ومن زائدة لتأكيد النفي وسلطان مبتدأ ، والظرف المتقدم خبره وبهذا متعلق بسلطان أتقولون على الله ما لا تعلمون توبيخ وتقريع على اختلافهم وجهلهم ، وفيه تنبيه على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة ، وإن العقائد لا بد لها من برهان قطعي ، وأن التقليد فيها غير جائز.
جزء : 4 رقم الصفحة : 63
{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} باتخاذ الولد وإضافة الشريك إليه.
لا يفلحون لا ينجون من مكروه ولا يفوزون بمطلوب أصلاً.
متاع في الدنيا جواب سؤال كأن قائلاً قال : كيف لا يفلحون وهم في الدنيا بأنواع ما يتلذذون به متمتعون فقيل ذلك متاع يسير في الدنيا زائل لا بقاء له وليس فوز بالمطلوب ثم إلينا مرجعهم أي : بالموت ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون فيبقون في الشقاء المؤبد بسبب كفرهم المستمر في الدنيا فأين هم من الفلاح؟
قال في التأويلات النجمية : في الدنيا ما ذاقوا ألم العذاب لأنهم
64
كانوا نياماً والنائم لا يجد ألم شيء من الجراحات والناس نيام فإذا ماتوا انتهبوا.
مردمان غافلند از عقبى
همه كويى بخقتكان مانند
ضرر غفلتي كه مى وزرند
(4/34)
ون بميرند آنكهى دانند
وفي الآيات نهيُّ عن الشرك والكذب وفي الحديث : ألا أخبركم بشيء أمر به نوح عليه السلام ابنه ؛ فقال : يا بني آمرك بأمرين وأنهاك عن أمرين آمرك أن تقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له فإن السماء والأرض لو جعلتا في كفة ولا إله إلا الله في كفة لرجح لا إله إلا الله وآمرك أن تقول سبحان الله وبحمده فإنها صلاة الملائكة ودعاء الخلق وبها يرزق الخلق ، وأنهاك أن لا تشرك بالله شيئاً فإن من أشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة وأنهاك عن الكبر فإن أحداً لا يدخل الجنة وفي قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أي : إن الله إذا أراد أن يدخله الجنة نزع ما في قلبه من الكبر حتى يدخلها بلا كبر أو لا يدخلها دون مجازاة إن جازاه أو لا يدخلها مع المتقين أول وهلة.
يقول الفقير : الظاهر أنه زجر بطريق التشديد ، وليس المراد كبر الكفر لأنه جاء في مقابلته.
والحاصل أن الكبر وهو الارتفاع على الناس واحتقارهم من الكبائر التي تقرب من الكفر في الجزاء ومثله ترك الصلاة كما جاء من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر وفي الحديث : بر الوالدين يزيد في العمر والكذب ينقص الرزق والدعاء يرد القضاء رواه الأصبهاني.
أما الأول : فوارد على طريق الفرض وحث على البر بطريق المبالغة بأن له من الأثر في الخير ما لو أمكن أن يبسط في عمر البار لكان ذلك ويجوز فرض المحال إذا تعلق بذلك حكمة قال تعالى : قل إن كان للرحمن ولد}(الزخرف : 81).
وأما الثاني ، فمعناه أن الكذب يمحق بركة الكذاب فيكون في حكم الناقص ويجوز على فرض المحال أي : لو كان شيء ينقص الرزق لكان هو الكذب ، وأما الثالث فالمراد أن الدعاء يرد القضاء المعلق الذي توقف رده على أسباب وشروط لا القضاء المبرم الذي لا يقبل التغير أصلاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 64
فعلى العاقل أن يجتهد في تحصيل التوحيد الحقاني ، برعاية الأوامر الشرعية ، والانتهاء عما نهى الله تعالى عنه من المحرمات القولية والفعلية ، والاجتناب عن المشاغل القلبية ، والاحتراز عن الميل إلى ما سوى الحضرة الأحدية ، فإن الرجوع إلى تلك الحضرة لا إلى غيرها والتوحيد تحفة مقبولة ولا يقبل الله أحداً إلا به والشرك سبب لعذابه كما قال تعالى : {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ} (يونس : 70) ، وفيه إشارة إلى أن عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة كلا عذاب ؛ إذ كلما انتقل المرء من طور إلى طور وجد الأمر على الشدة وهو كذلك مبدأ ومعاداً إلا من تداركه الله تعالى بعنايته وخصه بتوفيق خاص من حضرته.
جزء : 4 رقم الصفحة : 64
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} أي : على المشركين من أهل مكة نبأ نوح خبره مع قومه لينزجروا بذلك عما هم عليه من الكفر والعناد.
وقال : في البستان كان اسم نوح شاكراً وإنما يسمى نوحاً لكثرة نوحه وبكائه من خوف الله وهو أول من أمر بنسخ الأحكام وأمر بالشرائع وكان قبله نكاح الأخت حلالاً فحرم ذلك على عهده وبعثه الله نبياً وهو يومئذٍ ابن أربعمائة وثمانين سنة.
إذ قال معمول لنبأ لا لقوله اتل لأنه مستقبل وإذ ماض والمراد بعض نبأه عليه السلام لا كل ما جرى بينه وبين قومه.
لقومه اللام
65
للتبلغ يا قوم (اي كروه من) إن كان كبر عليكم أي : أعظم وشق مقامي أي : نفسي كما يقال فعلته لمكان فلان أي لفلان ، ومنه قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه أي : خاف ربه أو قيامي ومكثي بين ظهرانيكم مدة طويلة وهو ألف سنة إلا خمسين عاماً أو قيامي وتذكيري (ند دادن من شمارا) بآيات الله (بعلا متهاى روشن بر وحدانيت خدا) فإنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة يقومون على أرجلهم لكون ذلك أدخل في الأسماع كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود ، فيحتمل أن يستثقلوا ذلك وكان سحبان وهو رجل بليغ من العرب يقوم ويتكىء على عصاه ويسرد الألفاظ ، وكراسي الوعاظ اليوم بدل من القيام ، وكان عليه السلام يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي هو من الشجر وكان له ثلاث درجات ولم يزل على حاله حتى زاد مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله.
فعلى الله توكلت جواب للشرط ، أي : دمت على تخصيص التوكل به وتفويض الأمور إليه فإنه معيني وناصري فيما أردتم بي من القتل والأذى ، وإنما حمل على دوام التوكل واستمراره لئلا يرد أنه عليه السلام متوكل على الله دائماً كبر عليهم مقامه أو لم يكبر.
و ابن الشيخ الأظهر أن يقال : الجواب محذوف أي : فافعلوا ما شئتم والمذكور تعليل لعدم مبالاته بهم.
فأجمعوا أمركم بقطع الهمزة من الإجماع وهو العزم يقال : أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه فهو يتعدى بعلى إلا أن حرف الجر حذف في الآية وأوصل الفعل إلى المجرور بنفسه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 65
(4/35)
وقال أبو الهيثم : أجمع أمره جعله مجموعاً بعد ما كان متفرقاً وتفرقه إنه يقول مرة افعل كذا وأخرى كذا وإذا عزم على أمر واحد فقد أجمعه أي : جعله جميعاً.
والمعنى فاعزموا على أمركم الذي تريدون بي من السعي في إهلاكي.
وشركاءكم بالنصب على أن الواو بمعنى (مع) أي : مع آلهتكم التي تزعمون أن حالكم تقوى بالتقرب إليها واجتمعوا فيه على أي : وجه يمكنكم.
قال الكاشفي : (ملخص آيت آنكه شما همه بقصد من اتفاق كنيد).
ثم للتراخي في الرتبة.
لا يكن أمركم ذلك عليكم غمة أي : مستوراً من غمه إذا ستره واجعلوه ظاهراً مكشوفاً تجاهرونني به فإن الستر إنما يصار إليه لسد باب تدارك الخلاص بالهرب أو نحوه فحيث استحال ذلك في حقي لم يكن للستر وجه.
ثم اقضوا إليّ أي : أدوا إليّ وأوصلوا ذلك الأمر الذي تريدون بي وامضوا ما في أنفسكم أوأدوا إلي ما هو حق عليكم عندكم من إهلاكي كما يقضى الرجل غريمه ولا تنظرون ولا تمهلوني بل عجلوا ذلك باشد ما تقدرون عليه من غير انتظار وإنما خاطبهم بذلك إظهاراً لعدم المبالاة بهم وإنهم لن يجدوا إليه سبيلاً ، وثقة بالله سبحانه وبما وعده من عصمته وحفظه.
فإن توليتم أي : إن أعرضتم عن نصيحتي وتذكيري ودمتم عليه وجواب الشرط محذوف ، أي : فلا باعث لكم على التولي ولا موجب ، وقوله تعالى : فما سألتكم بمقابلة وعظى وتذكيري علة له.
من أجر أي : شيء من حطام الدنيا تؤدونه إليّ حتى يؤدي ذلك إلى توليكم إما لثقله عليكم أو لكونه سبباً لاتهامكم إياي بأن تقولوا إنما يعظنا ويذكرنا طمعاً لنيل الأجر والمال قبلنا.
إن أجرى إلا على الله أي : ما ثوابي على العظة
66
والتذكير إلا عليه يثيبني به آمنتم أو توليتم.
وأمرت أن أكون من المسلمين ممن أسلم وجههفلا يأخذ على تعليم الدين شيئاً ، وأيضاً إن المتعين لخدمة لا يجوز له أن يأخذ عليها أجرة والأنبياء والأولياء متعينون لخدمة الإرشاد ، ومن علم بالحسبة ولم يأخذ له عوضاً ، فقد عمل عمل الأنبياء عليهم السلام ، وقد جوز المتأخرون أخذ الأجرة على التعليم والتأذين والإمامة والخطابة وغير ذلك لكن ينبغي للآخذ إخلاص النية في عمله وإلا فقد جاء الوعيد.
قال السعدي :
زيان ميكند مرد تفسيردان
كه علم وادب ميفر وشدبنان
بدين اي فرومايه دين مخر
وخر بانجيل عيسى مخر
واعلم أن المعلم الناصح إذا رغب في إصلاحك وإصلاح غيرك حتى يودّ لو أن الناس كلهم صلحوا على يديه فإنما يرغب في ذلك ليكثر أتباع محمد لما سمعه يقول : إني مكاثر بكم الأمم وهذا مقام رفيع لغناه عن عظة في إرشاده ، وإنما غرضه إقامة جاه محمد وتعظيمه كما يحكى إن رابعة العدوية كانت تصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ، وتقول ما أريد بها ثواباً ولكن ليسر بها رسول الله ، ويقول للأنبياء انظروا إلى امرأة من أمتي هذا عملها في اليوم والليلة ، فإذا تعلقت نية المعلم والعامل بهذا يجازيهما الله على ذلك من حيث المقام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 65
{فَكَذَّبُوهُ} عطف على قوله : قال لقومه أي : أتل عليهم نبأ نوح إذ قال : لقومه كذا ، وكذا فأصروا على تكذيبه تمرداً وعناداً فتولوا عن تذكيره فحقت عليهم كلمة العذاب فأغرقوا فنجيناه من الغرق ، والفاء فصيحة تفصح عن كون الكلام مشتملاً على الحذف والتقدير كما قدرنا ، ومن استقر معه في الفلك وكانوا ثمانين أربعين رجلاً وأربعين امرأة كما في البستان ، أو فنجيناهم في هذا المكان فإن أنجاءهم وقع في الفلك فعلى هذا يتعلق في الفلك بنجيناه ، وعلى الأول يتعلق بالاستقرار الذي تعلق به معه وجعلناهم خلائف أي : سكان الأرض وخلفا ممن غرق وهلك.
قال : في البستان : لما خرجوا من السفينة ماتوا كلهم إلا أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم كما قال تعالى : وجعلنا ذريته هم الباقين}(الصافات : 77) فتوالدوا حتى كثروا فالعرب ولعجم والفرس والروم كلهم من ولد سام ، والحبش والسند والهند من أولاد حام ، ويأجوج ومأجوج والصقلاب والترك من أولاد يافث {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بآياتنا} .
قال حضرة الشيخ الشهير : بأفتاده أفندي : تأثير طوفان نوح يظهر في كل ثلاثين سنة مرة لكن على الخفة فيقع مطر كثير ويغرق بعض القرى والبيوت من السيل.
فانظر كيف كان عاقبة المنذرين وهم قوم نوح وفيه تحذير لمن كذب الرسول وتسلية له.
محالست ون دوست داردترا
كه دردست دشمن كذارد ترا
جزء : 4 رقم الصفحة : 67
ثم بعثنا أي : أرسلنا.
من بعده أي : بعد نوح رسلا التكثير للتفخيم ذاتا ووصفا ، أي : رسلاً كراماً ذوي عدد كثير إلى قومهم كل رسول إلى قومه خاصة كما يستفاد من إضافة القوم إلى ضميرهم مثل هود إلى عاد ، وصالح إلى ثمود ، وإبراهيم إلى قوم بابل ، وشعيب إلى قوم الأيكة وأهل مدين وغير ذلك ممن قص منهم ومن لم يقص.
فجاؤهم أي : جاء كل رسول قومه المخصوصين به.
بالبينات بالمعجزات الواضحة مثبتة لدعواهم ،
67
(4/36)
والباء إما متعلقة بالفعل المذكور على أنها للتعدية ، أو بمحذوف وقع حالاً من ضمير جاؤوا ، أي : ملتبسين بالبينات.
والمراد : جاء كل رسول بالبينات الكثيرة فإن مراعاة انقسام الآحاد إلى الآحاد إنما هي فيما بين ضميري جاؤهم فما كانوا ليؤمنوا أي : فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات أن يؤمنوا بل كان ذلك ممتنعاً منهم لشدة شكيمتهم في الكفر والعناد.
بما كذبوا به من قبل ما موصولة عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها ، والمراد بيان استمرار تكذيبهم من حين مجيء الرسل إلى زمان الإصرار والعناد ، فإن المحكي آخر حال كل قوم أو عبارة عن أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ، والمراد بيان استمرار تكذيبهم من قبل مجيء الرسل إلى زمان مجيئهم إلى آخره فالمحكي جميع أحوال كل قوم ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء رسلهم أنهم ما كانوا في زمن الجاهلية بحيث لم يسمعوا بكلمة التوحيد قط بل كان كل قوم من أولئك الأقوام يتسامعون بها من بقايا من قبلهم كثمود من بقايا عاد وعاد من بقايا قوم نوح فيكذبونها ، ثم كانت حالتهم بعد مجيئهم الرسل كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد.
وفيه إشارة إلى أن أهل الفترة مؤاخذون من جهة الأصول.
كذلك الكاف نعت مصدر محذوف ، أي : مثل ذلك الطبع والختم المحكم الممتنع زواله.
نطبع (مهرمى نهيم) على قلوب المعتدين المتجاوزين باختيار الإصرار على الكفر.
اعلم ، أن الله تعالى قد دعا الكل إلى التوحيد يوم الميثاق ، ثم لما وقع التنزل إلى هذه النشأة الجسمانية لم يزل الروح الإنساني داعياً إلى قبول تلك الدعوة الإلهية والعمل بمقتضاها ، لكن من كان شقياً بالشقاوة الأصلية الأزلية لما لم يقبلها في ذلك اليوم استمر على ذلك ، فلم يؤمن بدعوة الأنبياء ومعجزاتهم فتكذيب الأنبياء مسبب عن تكذيب الروح ، وتكذيبه مسبب عن تكذيب الله تعالى يوم الميثاق ، وهم وإن كانوا ممن قال : بلى ، لكن كان ذلك من وراء الحجب حيث سمعوا نداء ألست بربكم من ورائها فلم يفهموا حقيقته وأجابوا بما أجاب به غيرهم لكن تقليداً لا تحقيقاً وكما أن الله تعالى طبع على قلوب المكذبين للرسل بسوء اختيارهم ، وانهماكهم في الغي والضلال كذلك طبع على قلوب المنكرين للأولياء بسوء معاملاتهم وتهالكهم على التقليد فما دخل في قلوبهم الاعتقاد ، وما جرى على ألسنتهم الإقرار ، كما لم يدخل في قلوب الأولين التصديق ولم يصدر من ألسنتهم ما يستدل به على التوفيق ، ثم هم مع كثرتهم قد جاؤوا وذهبوا ولم يبق منهم أثر ولا اسم وسيلحق بهم الموجودون ومن يليهم إلى آخر الزمان.
وفي المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 67
منبرى كوكه بر آنجا مخبري
ياد آرد روزكار منكري
سكه شاهان همي كردد دكر
سكه أحمد ببين تا مستقر
برزخ نقره وياروى زرى
وإنما برسكه نام منكري
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من أهل التوحيد ، ويخلصنا وإياكم من ورطة التقليد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 67
[يونس : 75-18]{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنا بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَـارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ} (بسوى وليد بن مصعب باقابوس كه فرعون آن زمان بود)
68
وملائه أي : أشراف قومه وهو اكتفاء بذكر الجل عن الكل.
بآياتنا بالآيات التسع وهي العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس وفلق البحر وإضافها إلى نفسه تنبيهاً على خروجها عن حيز استطاعة العبد فاستكبروا الاستكبار ادعاء الكبر من غير استحقاق والفاء فصيحة ، أي : فأتياهم فبلغاهم الرسالة فاستكبروا عن اتباعهما وذلك قول اللعين لموسى عليه السلام ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين}(الشعراء : 18) {وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} أي : كانوا معتادين لارتكاب الذنوب العظام فإن الإجرام مؤذن بعظم الذنب ومنه الجرم أي : الجثة فلذلك استهانوا برسالة الله تعالى عز وجل.
فلما جاءهم الحق من عندنا المراد بالحق الآيات التسع التي هي حق ظاهر من عند الله بخلقه وإيجاده لا تخييل وتمويه كصنعتهم.
قالوا إن هذا (اين كه تو آورده ومعجزه نام كرده) لسحر مبين ظاهر كونه سحراً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 68
{قَالَ مُوسَى} (الأنبياء : 60) أي : يعيبهم فيستغنى عن المفعول ، أي : أتعيبونه وتطعنون فيه أسحر هذا الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف بحيث لا يرتاب فيه أحد ممن له عين مبصرة ، وهو إنكار مستأنف من جهة موسى لكونه سحراً ، وتقديم الخبر للإيذان بأنه مصب الإنكار ، ولا يفلح الساحرون جملة حالية من ضمير المخاطبين ، أي : أتقولون أنه سحر والحال إنه لا يفلح فاعله ، أي : لا يظفر بمطلوب ولا ينجو من مكروه فكيف يمكن صدوره من مثلي من المؤيدين من عند الله الفائزين بكل مطلب الناجين من كل محذور.
(4/37)
قالوا استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال فرعون وأصحابه : لموسى عند ما قال لهم ما قال؟ فقيل قالوا : عاجزين عن المحاجة أجئتنا خطاب لموسى وحده لأنه هو الذي ظهرت على يده معجزة العصا واليد البيضاء لتلفتنا أي : لتصرفنا واللام متعلقة بالمجيء ، أي : أجئتنا لهذا الغرض.
عما وجدنا عليه آباءنا أي : من عبادة الأصنام.
وقال سعدى المفتي : الظاهر من عبادة غير الله تعالى فإنهم كانوا يعبدون فرعون.
وتكون لكما الكبرياء أي : الملك ، لأن الملوك موصوفون بالكبر والتعظيم.
في الأرض أي : أرض مصر فلا نؤثر رياستكما على رياسة أنفسنا ، فلما بينوا أن سبب إعراضهم عن قبول دعوتهما هذان الأمران صرحوا بالحكم المتفرع عليهما فقالوا : وما نحن لكما بمؤمنين أي : بمصدقين فيما جئتما به.
جزء : 4 رقم الصفحة : 68
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} يأمرهم بترتب مبادي إلزامهما عليهما السلام بالفعل بعد اليأس عن إلزامهما بالقول.
ائتنوني بكل ساحر عليم بفنون السحر حاذق ماهر فيه ليعارض موسى فلما جاء السحرة الفاء فصيحة ، أي : فأتوا به فلما جاؤوا في مقابلة موسى.
قال لهم
69
موسى ألقوا ما أنتم ملقون أي : ملقون له كائناً ما كان من أصناف السحر.
وفي إبهام.
ما أنتم تخسيس له وتقليل وإعلام إنه لا شي يلتفت إليه.
فإن قيل : كيف أمرهم بالسحر والعمل بالسحر كفر والأمر بالكفر كفر.
فالجواب إنه أمرهم بإلقاء الحبال والعصي ليظهر للخلق أن ما أتوا به عمل فاسد وسعى باطل لا إنه أمرهم بالسحر فلما ألقوا ما ألقوا من العصي والحبال واسترهبوا الناس وجاؤوا بسحر عظيم قال لهم موسى غير مكترث بهم وبما صنعوا ما جئتم به السحر أي : الذي جئتم به هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله سبحانه ، فما موصولة وقعت مبتدأة والسحر خبرها والحصر مستفاد من تعريف الخبر إن الله سيبطله أي : سيمحقه بالكلية بما يظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثر أصلاً ، أو سيظهر بطلانه للناس والسين للتأكيد.
إذا جاء موسى وألقى العصا
فقد بطل السحر والساحر
سحر بامعجزه هلو نزند ايمن باش
إن الله لا يصلح عمل المفسدين أي : لا يثبته ولا يكمله ولا يديمه بل يمحقه ويهلكه ويسلط عليه الدمار.
قال القاضي : وفيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له انتهى.
وفيه بحث فإنه عند أهل الحق ثابت حقيقة ليس مجرد إراءة وتمويه وكون أثره هو التخييل لا يدل على أنه لا حقيقة له أصلاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 69
{وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ} (آنجه من آورده ام) أي : يثبته ويقويه بكلماته بأوامره وقضاياه ولو كره المجرمون ذلك والمراد بهم كل من اتصف بالإجرام من السحرة وغيرهم.
قال الكاشفي : (يعني حق سبحانه وتعالى بوعده نصرت وفاكند وازخشم وكراهت دشمنان باك ندارد ودر منثوى معنوي اشارتي بدين معنى هست)
حق تعالى ازغم وخشم خصام
كي كذارد اوليارا درعوان
مه فشاند نوروسك وع وع كند
سك زنور ماه كي مرتع كند
خس خسانه ميرود برروى آب
آب صافي ميرود بي اضطراب
مصطفى مه ميشكافد نيمشب
ا مى خايد ز كينه بولهب
آن مسيحا مرده زنده ميكند
وآن جهود ازخشم سبلت مكيند
وفي الآيات إشارة إلى موسى القلب وهارون السر وفرعون النفس وصفاتها وما يجري بينهما من الدعوة وعدم القبول ، فإن موسى القلب وهارون السر يدعون النفس إلى كلمة التوحيد وعبادة الله تعالى ، والنفس تدعي الربوبية ولا تثبت إلهاً غير هواها وتمتنع أن تكون السلطنة والتصرف لهما في أرضها والله تعالى يحق الحق بكلمة لا إله إلا الله ولو كره المجرمون من أهل الهوى من النفوس المتمردة الأمارة بالسوء.
قال الحافظ :
اسم أعظم بكند كارخود اي دل خوش باش
كه بتلبيس وحيل ديو سليمان نشود
يحكى أن الشيخ الجنيد العجمي اجتهد أربعين سنة لينال السلطنة فلم يتيسر ثم جاء من أولاده سلاطين روافض كشاه إسماعيل وشاه عباس وشاه طهماس ، فهزمهم الله تعالى على أيدي الملوك العثمانية فاندفع شرهم وارتفعت فتنتهم من الأرض ، فقد ظهر أن الحق ، من أهل الحق فهم كموسى وهارون ، وأهل الباطل كفرعون ، وقد ثبت أن لكل فرعون موسى وذلك
70
في كل عصر إلى أن ينزل عيسى عليه السلام ويقتل الدجال.
فإن قلت ما الحكمة في تسليط الظلمة على أهل الأرض ، وقد استعبد فرعون بني إسرائيل سنين كثيرة؟.
قلت : تحصيل جوهرهم مما أصابهم من غش الآثام إن كانوا أهلاً لذلك وإلا فهو عذاب عاجل يحكى أن عمر رضي الله عنه لما بلغه أن أهل العراق حصبوا أميرهم ، أي : رموه بالحجارة خرج غضبان فصلى فسها في صلاته فلما سلم قال : اللهم إنهم لَبَّسوا عليّ فألبس عليهم وعجل عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجاهلية لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم وكان ذلك قبل أن يولد الحجاج فلما ولد كان من أمره ما كان ، وفي الحديث : يلحد بمكة تيس من قريش اسمه عبد الله عليه مثل أوزار الناس.
جزء : 4 رقم الصفحة : 70
(4/38)
قال صاحب إنسان العيون : هو عبد الله الحجاج ولا مانع من أن يكون الحجاج من قريش.
وفي حياة الحيوان إن العرب إذا أرادوا مدح الإنسان قالوا : كبش وإذا أرادوا ذمه قالوا : تيس ومن ثمة قال : في المحلل (التيس المستعار).
فما آمن لموسى في مبدأ أمره قبل إلقاء العصا وأما إيمان السحرة فقد وقع بعده فلا ينافي الحصر المذكور هنا إلا ذرية من قومه أي : إلا أولاد من أولاد قومه بني إسرائيل حيث دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم وذلك إن لفظ الذرية يعبر به عن القوم على وجه التحقير والتصغير ولا سبيل لحمله على التحقير والإهانة ههنا فوجب حمله على التصغير بمعنى قلة العدد أو حداثة السن على خوف أي : كائنين على خوف عظيم من فرعون وملائهم أي : ملأ الذرية ولم يؤنث ، لأن الذرية قوم فذكر على المعنى.
تلخيصه آمنوا وهم يخافون من فرعون من أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون عليهم وعلى أنفسهم ، ويجوز أن يكون الضمير لفرعون على أن المراد بفرعون آله كثمود اسم قبيلة أن يفتنهم أن يعذبهم فرعون أو يرجع آباؤهم إلى فرعون ليردهم إلى الكفر ، وهو بدل اشتمال تقديره على خوف من فرعون فتنته كقولك أعجبني زيد علمه وإسناد الفعل إلى فرعون خاصة لأنه الآمر بالتعذيب.
قال في التأويلات النجمية : فما آمن لموسى القلب إلا ذرية من قومه وهي صفاته ويجوز أن تكون الهاء في قومه راجعة إلى فرعون النفس ، أي : ما آمن لموسى القلب إلا بعض صفات فرعون النفس فإنه يمكن تبديل أخلاقها الذميمة بالأخلاق الحميدة القلبية على خوف من فرعون ، وملائهم يعني على خوف من فرعون النفس والهوى والدنيا وشهواتها بأن يبدلوها بأخلاقها الطبيعية التي جبلت النفس عليها ، وبهذا يشير إلى أن النفس ، وإن تبدلت صفاتها الأمّارية إلى المطمئنة لا يؤمن مكرها وتبدلها من المطمئنة إلى الأمارية كما كان حال بلعام وبرصيصا أن يفتنهم بالدنيا وشهواتها ويرجع النفس قهقرى إلى أماريتها انتهى.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : الأطهر فيمواقع النجوم : وعلامة المدعى في الوصول رجوعه إلى رعونة النفس وإعراضها ولهذا قال أبو سليمان الداراني : من رؤساء المشايخ : لو وصلوا ما رجعوا ، وإنما حرموا الوصول لتضييعهم الأصول فمن لم يتخلق لم يتحقق وعلامة من صح وصوله الخروج عن الطبع ، والأدب مع الشرع ، واتباعه حيث سلك انتهى وإن فرعون لعال في الأرض لغالب في أرض مصر ومتكبر وطاغ.
وإنه لمن المسرفين في الظلم الفساد بالقتل وسفك
71
الدماء أو في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء ، وهم بنوا إسرائيل فإنهم من فروع يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 70
{وَقَالَ مُوسَى يا قَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ} أي : صدقتم به وبآياته وعلمتم أن إيصال المنافع ودفع المضار بقبضة اقتداره فعليه توكلوا وثقوا به واعتمدوا عليه ولا تخافوا أحداً غيره.
قال بعضهم : وصف نوح عليه السلام نفسه بالتوكل على وجه يفيد الحصر فقال : فعلى الله توكلت وموسى عليه السلام أمر قومه بذلك فظاهر أن هذه الدرجة فوق درجة نوح انتهى.
يقول الفقير : كان الكلام في القصة الأولى مع نوح وفي الثانية مع قوم موسى ولذا اقتصر نوح في تخصيص التوكل بالله تعالى على نفسه وموسى أمر بذلك ؛ وذا لا يدل على رجحان درجته على درجة نوح في هذا الباب لتغاير الجهتين ، كما لا يخفى على أولى الألباب إن كنتم مسلمين مستسلمين لقضاء الله مخلصين له ، وليس هذا من تعليق الحكم الذي هو وجوب التوكل بشرطين مختلفين هما الايمان بالله والإسلام وإلا لزم أن لا يجب التوكل بمجرد الإيمان بالله ، بل هما حكمان علق كل واحد منهما بشرط على حدة ، علق وجوب التوكل على الإيمان بالله فإنه المقتضى له وعلق حصول التوكل ووجوده على الإسلام فإن الإسلام ، لا يتحقق مع التخليط ونظيره إن أحسن إليك زيد فأحسن إليه إن قدرت.
فقالوا مجيبين له من غير تلعثم في ذلك على الله توكلنا لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين ولذلك أجيبت دعوتهم ثم دعوا ربهم قائلين ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين أي : موضع عذاب لهم بأن تسلطهم علينا فيعذبونا ويفتنونا عن ديننا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 71
{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ} من كيدهم وشؤم مشاهدتهم وسوء جوارهم.
قال المتنبي :
ومن نكد الدنياعلى الحر أن يرى
عدواً له ما من صداقته بد
وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي أن يتوكل أولاً لتجاب دعوته وحقيقة التوكل إسقاط الخوف والرجاء عما سوى الله تعالى ، والاستغراق في بحر شهود المسبب والانقطاع عن ملاحظة الأسباب.
وقال بعضهم : التوكل تعلق القلب بمحبة القادر المطلق ونسيان غيره ، يعني : لم يثبت لنفسه ولا لغيره قوة وتأثيراً بل كان منقاداً للحكم الأزلي بمثابة الميت في يد الغسال :
هركه در بحر توكل غرقه كشت
(4/39)
همتش ازماسوى الله در كذشت
اين توكل كره دارد رنجها
فهو حسبه بخشدازوى كنجها
ولما آمن هؤلاء الذرية بموسى واشتغلوا بعبادة الله تعالى لزمهم أن يبنوا مساجد للاجتماع فيها للعبادة ، فإن فرعون كان قد خرب مساجد بني إسرائيل حين ظهر عليهم لكن لما لم يقدروا على إظهار شعائر دينهم خوفاً من أذى فرعون أمروا باتخاذ المساجد في بيوتهم ، كما كان المؤمنون في أول الإسلام يعبدون ربهم سراً في دار الأرقم بمكة وذلك قوله تعالى وأوحينا إلى موسى وأخيه هارون أن مفسرة للمفعول المقدر أي : أوحينا إليهما شيئاً هو تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً يقال : تبوأ المكان إذا اتخذه مباءة ومنزلاً ، والمعنى : اجعلا بمصر المعروفة أو الاسكندرية كما في الكواشي بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما ومرجعا يرجعون إليها
72
للسكنى والعبادة واجعلوا أنتما وقومكما بيوتكم تلك قبلة مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة فإن موسى عليه السلام كان يصلي إليها وأقيموا الصلوة فيها وهذا ينبىء أن الصلاة كانت مفروضة عليهم دون الزكاة ولعل ذلك لفقرهم وبشر يا موسى لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة المؤمنين بالنصرة في الدنيا إجابة لدعوتهم والجنة في العقبى.
وفي الآية إشارة إلى أن السلاك ينبغي أن لا يتخذوا المنازل في عالم النفس السفلية بل يتخذوا المقامات في مصر عالم الروحانية ، ويقيموا الصلاة أي : يديموا العروج من المقامات الروحانية إلى القربات ، والمواصلات الربانية فإن سير الممكنات متناه وذوقها منقطع ، وأما سير الواجب فغير متناه وذوقه دائم في الدنيا والآخرة ، وذرة من سيره وذوقه لا يساويها لذة الجنان الثمان ، وجميع ذوق الرجال بأنواع الكرامات لا يعادل محنة أهل الفناء عند الله وإن تألموا هنا ، ولكن ذلك ليس بألم بل أشد ، والألم فيما إذا رأى أهل الذوق مراتب أهل الفناء فوقهم وأقله التألم من تقدمهم ، وغبطة موسى عليه السلام ليلة المعراج بنبينا عليه السلام من هذا القبيل ثم هذا بالنسبة إلى من كان في التنزل والإرشاد وأما من بقى في الوصلة فلا تألم له من شيء ولا مفخر فوق الحقيقة كما في الواقعات المحمودية.
ثم إن الابتلاء ماض إلى يوم القيامة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 72
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : الأطهر اعلم أنه لا بد لجميع بني آدم من العقوبة والألم شيئاً بعد شيء إلى دخولهم الجنة ، لأنه إذا نقل إلى البرزخ فلا بد له من الألم وأدناه سؤال منكر ونكير فإذا بعث فلا بد من ألم الخوف على نفسه أو غيره ، وأول الألم في الدنيا استهلال المولود حين ولادته صارخاً لما يجده من مفارقة الرحم وسخونته فيضربه الهواء عند خروجه من الرحم فيحس بألم البرد فيبكي فإن مات فقد أخذ حظه من البلاء انتهى كلامه.
وكان أمية بن خلف يعذب بلالاً رضي الله عنه لإسلامه فيطرحه على ظهره في الرمضاء أي : الرمل إذا اشتدت حرارته لو وضعت فيه قطعة لحم لنضجت ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره وهو يقول : أحد أحد أي : الله أحد فيمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان وقد وقع له رضي الله تعالى عنه أنه لما احتضر وسمع امرأته تقول واحزناه صار يقول واطرباه :
نلقى غدا الأحبة
محمداً وحزبه
فكان يمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء وقد أشير إلى هذه القصة في المثنوى :
كفت جفت امشب غريبي ميروري
از تبار خويش غائب ميشوى
كفت نى نى بلكه امشب جان من
ميرسد خود از غريبي در وطن
كفت رويت را كجا بينيم ما
كفت اندر حلقه خاص خدا
كفت ويران كشت اين خانه دريغ
كفت اندر مه نكر منكر بميغ
كرد ويران تا كند معمور تر
قومم انبه بود وخانه مختصر
من كدا بودم درين خانه و اه
شاه كشتم قصر بايد بهرشاه
قصرها خود مرشهانرا مأنس است
مرده اخانه ومكان كورى بس است
انبيا را تنك آمد اين جهان
ون شهان رفتند اندر لامكان
مردكان را اين جهان بنمود فر
ظاهرش زفت وبمعنى تنك نر
73
كرنبودى تنك اين افغان زيست
.
ون دوتاشد هركه دورى يش زيست
در زمان خواب ون آزاد شد
زان زمكان بنكر كه جاه ون شادشد
وحاصله أن الله تعالى خلق العوالم على التفاوت وجعل بعضها أوسع من بعض ، وأضيق الكل الدنيا وأوسعه عالم الأمر والشان ، ولكون الأنبياء وكمل الأولياء أصحاب السلوك والعروج كانوا بأجسادهم في الدنيا وأرواحهم عند الحضرة العليا فلا جرم أن كل العوالم بالنسبة إليهم على السواء فلذا لا يتأذون بشيء أصلاً ولا يخافون غير الله تعالى ، وأما غيرهم فليسوا بهذه المرتبة فلهذا اختلفت أحوالهم في السر والعلانية وغفلوا عن الوجه وحسن النية ومن الله العصمة والتوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 72
(4/40)
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاه زِينَةً} أي : ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوهما وأموالاً في الحيوة الدنيا وأنواعاً كثيرة من المال كالنقود والمتاع والضياع (ابن عباس فرموده كه ازفسطاط مصر تازمين حبشه كوههاكه دراو معادن ذهب وفضه وزبرجد بود همه تعلق بفرعون داشت وفرمان او درين مواضع بود بدين سبب مال بسيار بتصرف قبط درآمد ومتمول ومتجمل شدند وسبب ضلال واضلال شد) ، كما قال : ربنا تكرير للأول أي : آتيته وملأه هذه الزينة والأموال ليضلوا عن سبيلك أي : ليكون عاقبة أمرهم أن يضلوا عبادك عن طريق الإيمان فاللام للعاقبة كما في قوله : أموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أولأجل أن يضلوا عن سبيلك فاللام للتعليل لا حقيقة ، بل مجازاً ، لأن الله تعالى آتاهم ذلك نؤمنوا ويشكروا نعمته فتوسلوا به إلى مزيد البغي والكفر ، فأشبهت هذه الحالة حال من أعطى المال لأجل الاضلال فورد الكلام بلفظ التعليل بناء على هذه المشابهة.
وفي الآية بيان أن حطام الدنيا سبب للضلال والاضلال فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ومن رأى الغير في زينة ورفاهية حال يتمنى أن يكون له من ذلك مما قالوا : يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون لما خرج في زينته ، ولذا حذرعن صحبة الأغنياء وأبناء الملوك وفي الحديث : لا تجالسوا الموتى يعني الأغنياء وعن أبي الدرداء رضي الله عنه لأن أقع من فوق قصر فأنحطم ، أي : انكسر أحب إلى من مجالسة الغني وذلك لأن مجالسته سارية وصحبته مؤثرة.
باد ون بر فضاي بد كذرد
بوى بد كيرد از هواي خبيث
وقال أبو بكر رضي الله عنه : اللهم ابسط لي الدنيا وزهدني فيها ولا تزوها عني وترغبني فيها ربنا اطمس على أموالهم دعاء عليهم بعد الإنذار وعلمه أن لا سبيل إلى إيمانهم وأنما عرض إضلالهم أولاً ليكون تقدمة لهذا الدعاء وأنهم مستحقون له بسببه.
وأصل الطمس المحو وإزالة الأثر.
والمعنى : اذهب منفعتها وامسخها وغيرها عن هيئتها ، لأنهم يستعينون بنعمتك على معاصيك وإنما أمرتهم بأن يستعينوا بها على طاعتك وسلوك سبيلك ، قالوا : صارت دراهمهم ودنانيرهم وطعامهم من الجوز والفول والعدس وغيرها كلها حجارة مصورة منقوشة على هيئتها وكذلك البيض والمقاني وسائر أموالهم وهذه إحدى الآيات التسع.
واشدد على قلوبهم أصل الشد الايثاق : والمعنى اجعلها قاسية واختم عليها لئلا يدخلها الإيمان
74
فلا يؤمنوا جواب للدعاء حتى يروا أي : ليروا أو إلى أن يروا العذاب الأليم أي : يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك وكان كذلك فأنهم لم يؤمنوا إلى الغرق كان ذلك إيمان يأس فلم يقبل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 74
{قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} يعني : موسى وهارون لأنه كان يؤمن ، والتأمين دعاء أيضاً ؛ لأن معناه استجب.
فاستقيما فاثبتنا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تستعجلا فإن ما طلبتماه كائن في وقته لا محالة.
وفي الكواشي الاستقامة في الدعاء أن لا يرى الإجابة مكراً واستدراجاً وتأخيرها طرداً وإبعاداً.
ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون أي : بعادات الله تعالى في تعليق الأمور بالحكم والمصالح ، أو سبيل الجهلة في الاستعجال (كارهاً موقوف وقت آيدنكهداريد وقت) روى أن موسى عليه السلام أو فرعون وهو الأولى كما في حواشي سعدى المفتى مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة.
قال علي رضي الله عنه : جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته ، فما شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته واستمطرت شآبيب رحمته فلا يقنطك إبطاء إجابته فإن العطية على قدر النية وربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل وأجزل لعطاء الآمل وفي الحديث : ما من داع يدعو إلا استجاب الله له دعوته أو صرف عنه مثلها سوأ أو حط من ذنوبه بقدرها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أي : لم يدع حال مقارنة إثم أو قطيعة رحم كما في شرح العقائد لرمضان.
وفي المثنوى :
جز تو يش كه بر آرد بنده دست
هم دعا وهم اجابت از تو است
هم ز اول تو دهى ميل دعا
تو دهى آخر دعاهارا جزا
وفيه أيضاً :
داد مر فرعو نرا صد ملك ومال
تا بكرد و دعوى عز وجلال
در همه عمرش نديد او درد سر
تا ننالد سوى حق آن بدكهر
درد آمد بهتر از ملك جهان
تا بخوانى مر خدارا در نهان
ومن شرائط الدعاء الذلة فإن الإجابة مترتبة عليها كالنصر كما قال تعالى : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة.
وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال : كابدت العبادة ثلاثين سنة فرأيت قائلاً ، يقول : لي يا أبا يزيد خزائنه مملوءة من العبادة ، أن أردت الوصول إليه فعليك بالذلة والافتقار كما قال الحافظ :
جزء : 4 رقم الصفحة : 75
فقير وخسته بدر كاهت آمدم رحمى
كه جز دعاى توام نيست هي دست آويز
(4/41)
وفي الآية بيان جواز الدعاء السوء عند مساس الحاجة إليه وقد صدر من النبي أيضاً حيث دعا على مضر حين بالغوا في الأذية له عليه السلام فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف يعني : خذهم أخذا شديداً وعنى بسني يوسف السبع الشداد فاستجاب الله دعاءه عليه السلام فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام والعلهز وهو الوبر والدم أي : يخلط الدم بأوبار الإبل ويشوى على النار وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدخان من الجوع.
ثم أن العذاب الأليم للنفس فطامها عن شهواتها
75
ومألوفاتها فهي لا تؤمن بالآخرة على الحقيقة ولا تسلك سبيل الطلب حتى تذوق ألم ذلك العذاب ، فإن ذلك موت لها معنى ، ولا ينتبه الناس إلا بعد الموت أيقظنا الله وإياكم من رقدة الغفلات.
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر هو من جاوز المكان إذا تخطاه وخلفه ، والباء للتعدية ، أي : جعلناهم مجاوزين البحر بأن جعلناه يبساً وحفظناهم حتى بلغوا الشط.
قال الكاشفي : (ون عذاب آن قوم رسيد وحى آمد بموسى عليه السلام باقوم خود از مصر برون روكه قبطيان را هنكام عذاب رسيد موسى عليه السلام باجماعت بني إسرائيل متوجه شام شدند وبكناره درياى قلزم رسيده دريا شكافته شد وبني إسرائيل بسلامت آن دريارا بكذشتند نانه حق سبحان وتعالى ميفرمايد وجاوزنا ببني إسرائيل البحر وبكذرانيديم فرزندان يعقوب را ازدرياي قلزم بسلامت).
فاتبعهم يقال : تبعته حتى اتبعته إذا كان سبقك فلحقته أي : أدركهم ولحقهم.
فرعون وجنوده حتى تراءت الفئتان وكاد يجتمع الجمعان.
بغياً وعدواً أي : حال كونهم باغين في القول ومعتدين في الفعل أو للبغي والعدوان على أنهما مفعولان من أجلهما ، كما قال : الكاشفي (بغيا براي ستم كردن بني إسرائيل وعدواً ازجهت وازحد بيرون بردن ازجفاى ايشان).
وذلك أن موسى عليه اللام خرج ببني إسرائيل على حين غفلة من فرعون فلما سمع به تبعهم حتى لحقهم ووصل إلى الساحل ، وهم قد خرجوا من البحر ومسلكهم باقٍ على حاله يبساً فسلكه بجنوده أجمعين.
قال الكاشفي : (س ون بكنار دريا رسيدند واسب فرعون بسبب بوي باديان كه جبريل سوار بودبدريا در آمد ولشكر متابعت نموده همه خودرا دردريا افكندند وفرعون بنمى خواست كه بدريا در آمد أما مركب اورامى برد) فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج غشيهم من اليم ما غشيهم حتى إذا أدركه الغرق أي : لحقه والجمه وأحاط به قال فرعون آمنت إنه أي : بأنه والضمير للشأن.
لا إله (نيست معبودي مستحق عبادت) إلا الذي (مكر آن خدايى كه بدعوت موسى عليه السلام) آمنت به بنو إسرائيل لم يقل كما قاله السحرة : آمنا برب العالمين رب موسى وهارون}(الأعراف : 121 ـ ـ 122).
بل عبر عنه بالموصول وجعل صلته إيمان بني إسرائيل به للإشعار برجوعه عن الاستعصاء وباتباعه لمن كان يستتبعهم طمعاً في القبول والانتظام معهم في سلك النجاة كذا في "الإرشاد".
جزء : 4 رقم الصفحة : 75
يقول الفقير بل في قول ذلك المخذول رائحة التقليد ولذا لم يقبل ولو نمسك بحبل التحقيق لقال : آمنت بالله الذي لا إله إلا هو {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي : الذين أسلموا نفوسهمأي : جعلوها سالمة خالصة له تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 75
{ءَآلَْاـانَ} على قال ، أي : فقيل آلآن تؤمن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات؟ وقد عصيت قبل حال من فاعل الفعل المقدر أي : والحال قد عصيت قبل ذلك مدة عمرك وكنت من المفسدين أي : الغالين في الضلال والاضلال عن الإيمان ، فالأول عبارة عن عصيانه الخاص به ، والثاني عن فساده الراجع إلى نفسه والساري إلى غيره من الظلم والتعدي وصد بني إسرائيل عن الإيمان.
جاء في الأخبار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : غار النيل على عهد فرعون فأتاه أهل مملكته
76
فقالوا : أيها الملك أجرٍ لنا النيل ، فقال : إني لست براض عنكم حتى قالوا : ذلك ثلاث مرات فذهبوا فأتوه ، فقالوا : أيها الملك ماتت البهائم وهلكت الصبيان والأبكار ، فإن لم تجرٍ لنا النيل اتخذنا إلهاً غيرك ، فقال : لهم أخرجوا إلى الصعيد فخرجوا فتنحى عنهم بحيث لا يرونه ولا يسمعون كلامه والصق خده بالأرض ، وأشار بالسبابة فقال : اللهم إني خرجت إليك خروج العبد الذليل إلى سيده ، وإني أعلم أنه لا يقدر على إجرائه غيرك فأجره ، فقام فجرى النيل جرياً فأتاهم ، فقال لهم : إني أجريت لكم النيل فقال : خروا له سجداً.
(4/42)
يقول الفقير هذا لا يدل على إيمان فرعون وذلك ، لأن الإيمان وأن كان عبارة عن التصديق والإقرار وصاحبه ينبغي أن لا يكون كافراً بشيء من أفعال الكفر ، وألفاظه ما لم يتحقق منه التكذيب والإنكار إلا أن من المعاصي ما جعله الشارع إمارة التكذيب ، ومنه دعوة فرعون إلى عبادة نفسه ورضاه عن سجود قومه له ونحو ذلك فمع ذلك لا يكون مؤمناً البتة قالوا عرض له جبريل يوماً فقال : أيها الملك أإن عبداً ملكته على عبيدي وأعطيته مفاتيح خزائني وعاداني وأحب من عاديته وعادى من أحببته فقال له فرعون : لو كان لي ذلك العبد لغرقته في بحر القلزم فقال جبريل : أيها الملك اكتب لي بذلك كتاباً قال : فدعا بداوة وقلم وقرطاس فكتب فرعون فيه يقول أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعماءه أن يغرق في البحر فلما الجمه الغرق ناوله جبريل خطه فعرفه فقال جبريل هذا ما حكمت به على نفسك : قالوا : نكب عن الإيمان أي : عدل واعرض عنه أوان بقاء التكليف والاختيار ، وبالغ فيه حين لا يقبل ، حرصاً على القبول حيث كرر المعنى الواحد ثلاث مرات بثلاث عبارات حيث قال : أولا آمنت وقال ثانياً : لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وقال : ثالثاً وأنا من المسلمين وكانت المرة الواحدة كافية حين بقاء التكليف والاختيار ، وإيمان اليأس موقوف من جهة الرد والقبول وأن كان من مقام الاحتضار فمردود وإلا فلا ، والاحتضار لا يكون إلا في النفسين من الداخل والخارج كما فيأسئلة الحكم وهو مقبول عند الامام مالك حكماً بالظاهر كالمؤمن عند سل السيف والمؤمن عند إقامة الحد عليه يقبل إيمانه وعلى هذا بنى كلامه حضرة الشيخ الأكبر المالكي في الفصوص ذهب إلى إيمان فرعون ثم فوض.
جزء : 4 رقم الصفحة : 76
فاليوم ننجيك أي : نبعدك ونخرجك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافياً ، أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيل ويتحققوا بهلاكك ، والنجوة : المكان المرتفع الذي تظن أنه نجاؤك لا يعلوه السيل.
ببدنك الباء للمصاحبة كما في قولك : خرج زيد بعشيرته ، وهذه الباء يصلح في موضعها مع وهي مع ، مدخولها في موضع الحال من ضمير المخاطب ، أي : ننجيك ملابساً ببدنك فقط لا مع روحك كما هو مطلوبك فهو قطع لطمعه بالكلية ، أو كاملاً سوياً من غير نقص لئلا يبقى شبهة في أنه بدنك ، أو عرياناً من غير لباس أو بدرعك وكانت له درع من الذهب يعرف بها ، والعرب تطلق البدن على الدرع قال : الليث البدن الدرع الذي يكون قصير الكمين ، لتكون لمن خلفك آية لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليهم أنه لا يهلك حتى كذبوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه مطروحاً على ممرهم من الساحل قصيراً أحمر كأنه ثور ، إذ يروى أن قامته كانت سبعة أشبار ، ولحيته ثمانية أشبار أو لمن
77
يأتي بعدك من الأمم إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك آية عبرة ونكالاً على الطغيان ، أو حجة تدلهم على أن الإنسان وأن بلغ الغاية القصوى من عظم الشان وعلو الكبرياء وقوة السلطان فهو مملوك مقهور بعيد عن مظان الربوبية.
(بنده كه خودرا ازغرقه شدن دركر داب فنانرها ندرا صداى انا ربكم ألاعلى بسمع هانيان ساند
عاجز اي كواسير خواب وخورست
لاف قدرت زند ه بيخبرست
آنكه در نفس خود زبون باشد
صاحب اقتدار ون باشد
ثم قوله تعالى : آلآن إلى قوله : آية من كلام جبريل كما قال : الكاشفي (بعد ازانكه فرعون اين سخن كفت حق تعالى بجبريل درجواب اوفرموده) آلآن الخ.
وقال : في الكواشي وخاطبه كخطاب النبي أهل القليب انتهى وذلك أن الله تعالى لما هزم المشركين يوم بدر أمر أن يطرح قتلاهم في القليب ثم جاء بعد ثلاثة أيام حتى وقف على شفير القليب.
وجعل يقول : (يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقاً فإني وجدت ما وعدني الله حقاً بئس عشيرة النبي كنتم ، كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس) فقال : عمر رضي الله عنه يا رسول الله كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها؟ فقال عليه السلام : ما أنتم بأسمع لما اقول منهم وفي رواية : لقد سمعوا ما قلت غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 76
(4/43)
وعن قتادة أحياهم الله حتى سمعوا كلام رسول الله توبيخاً لهم وتصغيراً ونقمة وحسرة والمراد بإحيائهم شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى صاروا كالأحياء في الدنيا للغرض المذكور لأن الروح بعد مفارقة جسدها يصير لها تعلق به أو بما يبقى منه ولو عجب الذنب فإنه لا يفنى ، وأن اضمحل الجسم بأكل التراب أو بأكل السباع أو الطير أو النار وبواسطة ذلك التعلق يعرف الميت من يزوره ويأنس به ويرد سلامه إذا سلم عليه كما ثبت في الأحاديث ، والغالب أن هذا التعلق لا يصير به الميت حياً في الدنيا ، بل يصير كالمتوسط بين الحي والميت الذي لا تعلق لروحه بجسده ، وقد يقوى ذلك حتى يصير كالحي في الدنيا ولعله مع ذلك لا يكون فيه القدرة على الأفعال الاختيارية.
فلا يخالف ما حكي عن السعد اتفقوا على أنه تعالى لم يخلق في الميت القدرة والأفعال الاختيارية ، هذا كلامه والكلام في غير الأنبياء وشهداء المعركة وأما هما فتعلق أرواحهم بأجسادهم تصير به أجسادهم حية كحياتها في الدنيا وتصير لهم القدرة والأفعال الاختيارية كذا في إنسان العيون.
وأن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.
وفي المثنوى :
نى ترا ازروى ظاهر طاعتي
نى ترا درسر وباطن نيتي
نى ترا شبها مناجات وقيام
نى ترا روزان رهيز وصيام
نى ترا حفظ زبان زآزار كس
نى نظر كردن بعبرت يش وس
يش ه بودياد مرك ونزع خويش
س ه باشد مردن ياران يش
قالوا : فرعون مع شدة شكيمته وفرط عناده آمن.
ولو حال اليأس ، وأما فرعون هذه الأمة فقد قتله الله يوم بدر شر قتلة ولم يصدر منه ما يؤذن بإيمانه ، بل اشتد غيظه وغضبه في حق رسول الله وفي
78
حق المؤمنين إلى أن خرج روحه لعنه الله ، فصار أشد من فرعون فليعتبر العاقل بهذا وليقس عليه كل من سلك مسلكه في الكفر والظلم والعناد فنعوذ بالله رب العباد من كل شر وفساد.
ثم أن الله تعالى أهلك العدو وأنجى بني إسرائيل ، وذلك لصدق إيمانهم وبركة يقينهم كما يحكى أنه صاح رجل في مجلس الشبلي قدس سره فطرحه في دجلة ، فقال : أن صدق ينجه صدق كما نجا موسى ، وأن كذب غرق كما غرق فرعون كما في ربيع الأبرار.
فدل على أن النجاة في الإيمان والعدل والصدق ، والهلاك في الكفر والظلم والكذب ولما كذب ، فرعون في دعوى الربوبية واستمر على اضلال الناس دعا عليه موسى كما سبق فاستجاب الله دعاءه ولا كلام في تأثير الدعاء مطلقاً يحكى أن معاوية استجاب الله دعاء في حق ابنه يزيد وذلك أنه ليم على عهده إلى يزيد فخطب وقال : اللهم أن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فعله فبلغه ما املته وأعنه وأن كنت إنما حملني حب الوالد لولده وأنه ليس لما صنعت به أهلاً فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك فكان كذلك ، لأن ولايته كانت سنة ستين ومات سنة أربع وستين كما في الصواعق لابن حجر.
والحاصل : آن الآفاق والأنفس مملوءة بالآيات والعبر فمن له عين مبصرة وأذن واعية يرى الآثار المختلفة ويسمع الأخبار المتواترة فيعتبر اعتباراً إلى أن يأتي اليقين ، ويسلم من آثار القهر المتين ، ولا يكون عبرة للغير بما اقترفه كل حين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 76
{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} (الإسراء : 80) {وَرَزَقْنَـاهُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ} أي : اللذآئذ من الثمار وغيرها من المن والسلوى كما في التبيان فما اختلفوا في أمور دينهم حتى جاءهم العلم أي : إلا من بعد ما قرأوا التوراة وعلموا أحكامهم وما هو الحق في أمر الدين ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة فيه ، يعني : أنهم تشعبوا في كثير من أمور دينهم بالتأويل طلباً للرياسة وبغيا من بعضهم على بعضهم حتى أداهم ذلك إلى القتال كما وقع مثله بين علماء هذه الأمة حيث افترقوا على الفرق المختلفة ، وأولوا القرآن على مقتضى أهوائهم كالمعتزلة وغيرها من أهل الأهواء وفيهم من يقول بالظاهر.
وفي المثنوى :
كرده تأويل حرف بكررا
خويش را تلأيل كن نى ذكررا
بر هوا تأويل قرآن ميكنى
ست وكشد ازتو معنى سني
أو المراد ببني إسرائيل معاصروا النبي عليه السلام كقريظة والنضير وبني قينقاع ، أنزلهم الله ما بين المدينة ، والشام من أرض يثرب ورزقهم من النخل وما فيها من الرطب والتمر الذي لا يوجد مثله في البلاد ، فما اختلفوا في أمر محمد عليه السلام إلا من بعد ما علموا صدق نبوته وتظاهر معجزاته فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وكفر آخرون.
وقال : ابن عباس رضي الله عنهما المراد بالعلم القرآن العظيم ، وسمي القرآن علماً لكونه سبب العلم وتسمية السبب باسم المسبب مجاز مشهور أن ربك يقضي بينهم (حم كند ميان ايشان) يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون فيميز المحق من المبطل بالإثابة والتعذيب وأما في الدنيا فيجرون على
79
الستر والإمهال فإنها ليست بدار جزاء الأعمال.
وفيه تهديد بيوم القيمة الذي هو يوم الامتحان.
ون محك ديدى سيه كشتى و قلب
نقش شرى رفت ويدا كشت كلب
(4/44)
فإن كنت في شك أي : في شك ما يسير على الفرض والتقدير فإن مضمون الشرطية إنما هو تعليق شيء بشيء من غير تعرض لإمكان شيء منهما كيف لا ، وقد يكون كلاهما ممتنعاً ، كقوله تعالى : قل أن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين}(الزخرف : 81) {مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} من القصص التي من جملتها قصة فرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل.
فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك فإن ذلك محقق عندهم ثابت في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك ، والمراد إظهار نبوته عليه السلام بشهادة الأحبار حسبما هو المسطور في كتبهم وأن لم يكن إليه حاجة أصلاً ، أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة نبوته ، أو تهييجه عليه السلام وزيادة تثبيته على ما هو عليه من اليقين لا تجويز صدور الشك منه عليه السلام ولذلك قال : عليه السلام : لا أشك ولا أسأل (ودر زاد المسير آورده كه ان بمعنى ماى نافيه است يعني تودر شك نيستى إما براى زيادتى بصيرت سؤال كن از اهل كتاب).
جزء : 4 رقم الصفحة : 79
وقيل : الخطاب للنبي ، والمراد : أمته فأنه محفوظ ومعصوم من الشكوك والشبهات فيما أنزل ، وعادة السلطان الكبير إذا كان له أمير وكان تحت راية ذلك الأمير جمع فأراد السلطان أن يأمر الرعية بأمر مخصوص بهم فأنه لا يوجه خطابه لهم ، بل يوجه ذلك الخطاب لذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم ليكون أقوى تأثيراً في قلوبهم ، أو الخطاب لكل من يسمع ، أي : أن كنت أيها السامع في شك مما أنزلنا إليك على لسانه نبينا ، وفيه تنبيه على أن من خالجه شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم.
ون نين وسواس ديدى زود زود
باخدا كردوردرا اند سجود
سجده كه را تركن ازاشاك روان
كاى خدا يا وارهانم زين كمان
كوندانستى مرادحق ازين
فاسأل أهل العلم حتى تطمئن
لقد جاءك الحق الذي لا ريب في حقيقته.
من ربك وظهر ذلك بالآيات القاطعة فلا تكونن من الممترين بالتزلزل عما أنت عليه من الجزم واليقين ودم على ذلك كما كنت من قبل ، والامتراء : التوقف في الشيء والشك فيه ، وأمره أسهل من أمر المكذب فبدأ به أولاً ونهى عنه وأبتع به ذكر المكذب ونهى أن يكون منهم كما قال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 79
{وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيات اللَّهِ} من باب التهييج والإلهاب والمراد به إعلام أن التكذيب من القبح والمحذورية بحيث ينبغي أن ينهى عنه من لا يتصور إمكان صدوره عنه فكيف بمن يمكن اتصافه به ، وفيه قطع لأطماع الكفرة.
فتكون بذلك من الخاسرين أنفساً وأعمالاً.
واعلم أن تصديق الآيات سواء كانت آيات الوحي كالقرآن ، وآيات الإلهام كالمعارف الإلهية من أربح المتاجر الدينية ، وتكذيبها من أخسر المكاسب الإنسانية ، ولذا قال : بعض العارفين من لم يكن له نصيب من هذا العلم ، أي : العلم الوهبي الكشفي أخاف عليه سوء الخاتمة ، وأدنى النصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله وأقل عقوبة من ينكره أن لا يرزق منه شيئاً وهو علم الصديقين والمقربين كذا في إحياء العلوم.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : الأطهر علم النبوة
80
والولاية وراء طور العقل ليس للعقل دخول فيه بفكره ، ولكن له القبول خاصة عند سليم العقل الذي لم يغلب عليه شبهة خيالية فما لنا إلا ما نص عليه الشرع فإنك تعلم أن دليل الأشعري شبهة عند المعتزلي وبالعكس والناظر بفكره لا يبقى على طور واحد فيخرج من أمر إلى نقيضه كما في الفتوحات.
وفي المثنوى :
تنكتر آمد خيالات ازعدم
زان سبب باشد خيال اسباب غم
فلا بد من التصديق وكثرة الاجتهاد في طريق التوحيد ليتخلص المريد من الشك والشبهة والتقليد ، ويصل بإقراره إلى ما لم يصل إليه العنيد.
إن الذين حقت عليهم ثبتت ووجبت كلمة ربك وهي قوله : هؤلاء في النار ولا أبالي أي : وجبت عليهم النار بسبق هذه الكلمة كما في التأويلات النجمية.
أو حكمه وقضاؤه بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في النار كقوله تعالى : ولكن حق القول مني لأملان جهنم}(السجدة : 13) إلخ كما في "الإرشاد".
وقال الكاشفي : (يعني قولي كه در لوح محفوظ نوشته كه ايشان بر كفر ميرند وملائكه برا بران خبر داده) فهذه ثلاثة أقوال.
{لا يُؤْمِنُونَ} أي : لا يؤمنون إيماناً نافعاً واقعاً في أوانه ، فيندرج فيهم المؤمنون عند معاينة العذاب مثل فرعون باقياً عند الموت فيدخل فيهم المرتدون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 80
ولو جاءتهم كل آية سألوها واقترحوها وأنث فعل كل لاضافته إلى مؤنث وذلك أن سبب إيمانهم ، وهو تعلق إرادة الله به مفقود لكن فقدانه ليس لمنع منه سبحانه استحقاقه له بل لسوء اختيارهم المتفرع على عدم استعدادهم لذلك.
حتى يروا العذاب الأليم إلى أن يروه وحينئذٍ لا ينفعهم كما لم ينفع فرعون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 80
(4/45)
{فَلَوْلا} (آل عمران : 103) كان لإنقاذ منها حالة الإشراف عليها لا الحصول فيها كما في "التيسير" {فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} فنفعهم إيمانهم لوقوعه في وقت الاختيار وبقاء التكليف لا حال اليأس ومتعناهم بمتاع الدنيا بعد كشف العذاب عنهم إلى حين مقدر لهم في علم الله سبحانه ، والمعنى بالفارسية ، (را اهل قرى ايمان نياوردند قبل از معاينه عذاب وتعجيل نكردند يش ازحلول آن تانفع كردى ايشانرا ايمان ايشان ليكن قوم يونس ون امارات عذاب مشاهده نمودند تأخير نكردند ايمان خودرا تابوقت حلول وايمان آوردند) فالاستثناء على هذا
81
منقطع ويجوز أن يكون متصلاً ، والجملة في معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه يعني : أن لولا كلمة التحضيض في الأصل استعملت هنا للنفي ، لأن في الاستفهام ضرباً من الجحد ، كأنه قيل ما آمنت أهل قرية من القرى المشرفة على الهلاك فنفعهم إيمانهم الإقوم يونس فيكون قوله تعالى : لما آمنوا استئنافاً لبيان نفع إيمانهم وفيه دلالة على أن الإيمان المقبول هو الإيمان بالقلب.
وفي المثنوى :
بندكى درغيب آمدخوب وكش
حفظ غيب آيد در استبعاد خوش
طاعت وايمان كنون محمود شد
بعد مرك اندرعيان مردود شد
روى أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل ، وهو بكسر النون الأولى وفتح الثانية ، وقيل بضمها قرية على شاطىء دجلة في أرض الموصل وهو بفتح الميم وكسر الصاد المهملة اسم بلدة فدعاهم إلى الله تعالى مدة فكذبوه وأصروا عليه فضاق صدره ، فقال : اللهم أن القوم كذبوني فأنزل عليهم نقمتك وذلك أنه كان في خلقه ضيق ، فلما حملت عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها ، وقد قالوا : لا يستطيع حمل أثقال النبوة إلا أولوا العزم من الرسل.
وهم نوح وهود وإبراهيم ومحمد عليهم السلام.
أما نوح فلقوله يا قوم أن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله}(يونس : 71) الآية وقد سبق ، وأما هود فلقوله {إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِىاءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ} (هود : 54) الآية ، وأما إبراهيم فلقوله : {هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ} (الأحقاف : 35) فصبر فقيل له : أخبرهم أن العذاب مصبحهم بعد ثلاث أو بعد أربعين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 81
قال الكاشفي : (يونس ايشانرا خبر داد ازميان قوم يونس بيرون رفته در شكاف كوهى نهان شد ون زمان موعود نزديك رسيد حق تعالى بمالك دوزخ خطاب كردكه بمقدار شعيره از سموم دوزخ باين قوم فرست مالك فرمان إلهي بجا آورد وآن سموم بصورت ابرسياه بادود غليظ وشراره آتش بيامده كرد مدينه نينوى رافراكرفت أهل آن شهرد اسنتندكه يونس راست كفته روى بملك خود إوردندواو مرد عاقل بودفر مودكه يونس را طلب كنيد ندانكه طلبيد ندنيا فتند ملك كفت اكر يونس برفت خدائى كه مارا بدو دعوت ميكرد باقيتست ودانا وشنوا اكنون هي اره نيسست الا آنكه عجز وشكستى وتضرع بدركاه او بريم س ملك سر وا برهنه لاسى دروشيد ورعايا بهمين صورت روى بصحر انهادن مردوزن وخرد وبزرك خروش وفرياد دركرفتند كودكانرا ازمادران جدا كردند) قال : في "الكواشي" : فحنّ بعضهم إلى بعض وعجوا وتضرعوا واختلطت أصواتهم وفعلوا ذلك ليكون أرق لقلوبهم ، وأخلص للدعاء وأقرب إلى الإجابة ، وترادوا المظالم حتى كان الرجل يقلع الحجر قد وضع عليه بنيانه فيرده ، وقالوا : جملة بالنية الخالصة : آمنا بما جاء به يونس أو قالوا : يا حي حين لاحي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت أو قالوا : اللهم أن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل.
من اميد وارم زلطف كريم
كه خوانم كنه يش عفو عظيم
افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله.
(واز أول ذي الحجة تا عاشر محرم برين وجه
82
مى ناليدند ودرين هل روزه از افغان وناله نيا سوده در ماندكى وبياركى بموقف عرض مير سانيدند)
اره ما سازكه بى يا وريم
كر توبرانى بكه رو آوريم
بى طربيم ازهمه سازنده
جز تو نداريم نوازنده
يش توكربى سرو ا آمديم
هم باميد توخدا آمديم
(قومي ميكفتند خداوندا يونس مارا كفته بودكه خداى من كفته بند كان بخريد وآزاد كنيد ما بندكان توايم توبكرم خودمارا از عذاب آزادكن.
جماعتي ديكرمى ناليدندكه الهنا مارا يونس خبر دادكه توخداوند فرموده كه بياركان ودرماند كانرا دستكيرى ما بياره ودر مانده ايم بفضل خود مارا دستكير بعض ديكر بعرض مير سانيد ندكه اي رورد كار ما يونس از قول توميفر مودكه هركه برشما ستم كند ازو دركذرانيد خدايا ما بكناه برخود ستم كرده ايم از ما عفوكن برخى ديكر بدين كونه اداميردندكه خدايا يونس ما راى كفت كه روردكار من كفته است كه سائلا نرا رد مكنيد ما سائلان روى بدركاه كرمت آورده ايم مارا رد مكن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 81
ما تهى دستان بر آورديم دستى دردعا
نقد فيضى نه برين دست كنهكاران همه
قاضي حاجات درويشان ومحتاجان توئى
س رواكن ازكرم حاجات بسيارهمه
(4/46)
القصة روز هلكم كه آذينه بود وعاشورا أثر مناجات دلسوز ايشان ظهور نموده برات نجات ازديوان رحمت نوشته شد وظلمت سحاب مرتفع كشته ابر رحمت سايه رأفت بر مفارق ايشان افكنده يونس بعد از هل روز متوجه نينوى كشته ميخواست كه از حال قوم خبر كيرد ون بنزديك شهر رسيد وبر صورت واقعه مطلع شد ملال بسيار برو غلبه كرده باخود كفت من ايشانرا بعذاب ترسانيدم وعذاب بر رحمت مبدل شد اكر من بدين شهر روم مرا بكذب نسبت دهند) فذهب مغاضباً ، ونزل السفينة فلم تسر فقال لهم : أن معكم عبداً آبقاً من ربه ، وأنها لا تسير حتى تلقوه في البحر ، وأشار إلى نفسه فقالوا : لا نلقيك يا نبي الله أبدأ فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ثلاث مرات فالقوه فالتقمه الحوت ، وقيل : قائل ذلك بعض الملاحين وحين خرجت القرعة عليه ثلاثاً ألقى نفسه في البحر.
قال الشعبي : التقمه الحوت ضحوة يوم عاشوراء ، ونبذه عشية ذلك اليوم أي : بعد العصر وقاربت الشمس الغروب وفيه بيان فضيلة يوم عاشوراء فأنه الذي كشف الله العذاب فيه عن قوم يونس وأخرج يونس من بطن الحوت وأزال عنه ذلك الابتلاء ـ ـ حكى ـ ـ أنه هرب أسير من الكفار يوم عاشوراء فركبوا في طلبه فلما رأى الفرسان خلفه وعلم أنه مأخوذ رفع رأسه إلى السماء ، وقال : اللهم بحق هذا اليوم المبارك أسألك أن تنجيني منهم فاعمى الله أبصارهم جميعاً حتى تخلص منهم فصام ذلك اليوم فلم يجد شيئاً يفطر ويتعشى به فنام فاطعم وسقى في المنام فعاش بعد ذلك عشرين سنة لم يكن له حاجة إلى الطعام والشراب كما في "روضة العلماء".
ومن صامه أعطاه الله ثواب عشرة آلاف ملك ، وثواب عشرة آلاف حاج ، ومعتمر ، وثواب عشرة آلاف شهيد كما في "تنبيه الغافلين".
ذكر أن الله عز وجل يخرق ليلة عاشوراء زمزم إلى سائر المياه فمن اغتسل يومئذ أمن من المرض في جميع السنة كما في "الروض الفائق".
والمستحب في ذلك اليوم
83
فعل الخيرات من الصدقة والصوم والذكر وغيرها ولا يجعل ذلك يوم عيداً أويوم مأتم كالشيعة والروافض والناصبة كما في "عقد الدرر".
والاكتحال ونحوه وأن كان له أصل صحيح لكن لما كان شعاراً لأهل البدعة صار تركه سنة كالتختم باليمين فأنه لما كان شعار أهل البدعة صار السنة أن يجعل في يخنصر اليد اليسرى في زماننا كما في "شرح القهستاني".
جزء : 4 رقم الصفحة : 81
{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لامَنَ مَن فِى الارْضِ كُلُّهُمْ} من الثقلين لآمن من في الأرض كلهم بحيث لا يشذ منهم أحد جميعاً مجتمعين على الإيمان لا يختلفون لكنه لا يشاؤه لكونه مخالفاً للحكمة التي عليها بني أساس التكوين والتشريع فشاء أن يؤمن به ، من علم منه أنه لا يختار الكفر وأن لا يؤمن به من علم منه أنه لا يؤمن به تكميلاً لحكم القبضتين وتحصيلاً لأهل النشأتين ، وجعل الكل مستعداً ليصح التكليف عليهم ، وكان عليه السلام حريصاً على إيمان قومه شديد الاهتمام به ، لأن نشأة الكامل حاملة للرحمة الكلية بحيث لا يريد إلا ايمان الكل ومغفرته كما حكى أن موسى عليه السلام حين قصد إلى الطور لقي في الطريق ولياً من أولياء الله تعالى فسلم عليه ، فلم يرد سلامه فلما وصل إلى محل المناجاة قال : إلهي سلمت على عبد من عبادك فلم يرد علي سلامي قال الله تعالى : يا موسى أن هذا العبد لا يكلمني منذ ستة أيام قال موسى : لم يا رب قالا لأنه كان يسأل مني أن أغفر لجميع المذنبين وأعتق العصاة من عذاب جهنم أجمعين فما أجبت لسؤاله فما كلمني منذ ستة أيام كذا في الواقعات المحمودية.
والحاصل : أن الله تعالى لما رأى من حبيبه عليه السلام ذلك الحرص أنزل هذه الآية وعلق إيمان قومه على مشيئته و له أفأنت أي : أربك لا يشاء ذلك فأنت تكره الناس على ما لم يشأ الله منهم حتى يكونوا مؤمنين ليس ذلك إليك كما في الكواشي فيكون الإنكار متوجهاً إلى ترتيب الإكراه المذكور على عدم مشيئته تعالى كما في الإرشاد.
وفي إيلاء الاسم حرف الاستفهام إيذان بأن أصل الفعل وهو الاكراه أمر ممكن مقدور لكن الشان في المكره من هو؟ وما هو إلا هووحده لا يشارك فيه ، لأنه القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غير مستطاع للبشر.
وقال السيد الشريف في شرح المفتاح : المقصود من قوله : أفأنت تكره الناس إنكار صدور الفعل من المخاطب لا إنكار كونه هو الفاعل مع تقرر أصل الفعل انتهى والتقديم لتقوية حكم الإنكار كما في حواشي سعدى المفتى.
قال الكاشفي : (اين آيت منسوخ است بآيت قتال).
وقال في التبيان : والصحيح أنه لا نسخ لأن الإكراه على الايمان لا يصح لأنه عمل القلب وما كان أي : وما صح وما استقام لنفس من النفوس التي علم الله أنها تؤمن أن تؤمن في حال من أحوالها إلا بإذن الله أي : إلا حال كونها ملابسة بإذنه تعالى وتسهيله وتوفيقه فلا تجهد نفسك في هداها فأنه إلى الله.
قال الحافظ :
جزء : 4 رقم الصفحة : 81
رضا بداده بده وزجين كره بكشاى
كه بر من وتودر اختيار نكشادست
(4/47)
ويجعل الرجس أي : الكفر بقرينة ما قبله عبر عنه بالرجس الذي هو عبارة عن القبيح المستقذر المستكره لكونه علماً في القبح والاستكراه ، أي : يجعل الكفر ويبقيه على الذين لا يعقلون لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات ، فلا يحصل لهم الهداية
84
التي عبر عنها بالإذن فيبقون مغمورين بقبائح الكفر والضلال.
وفي التأويلات النجمية : ويجعل الرجس أي : عذاب الحجاب على الذين لا يعقلون سنة الله في الهداية والخذلان فأن سنته أن تهتدي العقول المؤيدة بنور الإيمان إلى توحيد الله ومعرفته ، ولا تهتدي العقول المجردة عن نور الإيمان إلى ذلك ، وهذا رد على الفلاسفة فأنهم يحسبون أن للعقول المجردة عن الإيمان سبيلاً إلى التوحيد والمعرفة انتهى.
قال الحافظ :
اي كه از دفتر عقل آيت عشق آموزى
ترسيم ابن نكته تحقيق ندانى دانست
جزء : 4 رقم الصفحة : 81
{قُلِ انظُرُوا} تفكروا يا أهل مكة ماذا مرفوع المحل على الابتداء في السموات والأرض خبره ، أي : أيُّ شيء بديع فيهما من عجائب صنعه ، الدالة على وحدته وكمال قدرته ، فماذا ، جعل بالتركيب اسماً واحداً مغلباً فيه الاستفهام على اسم الإشارة ، ويجوز أن يكون اسمين بمعنى ما الذي على أن تكون ما استفهامية مرفوعة على الابتداء ، والظرف صلة الذي ، والجملة خبر للمبتدأ وعلى التقديرين فالمبتدأ والخبر في محل النصب بإسقاط الخافض وفعل النظر معلق بالاستفهام وما نافية تغني الآيات والنذر جمع نذير على أنه فعيل بمعنى منذر ، أو على أنه مصدر ، أي : لا تنفع الآيات الأنفسية والآفاقية الدالة على الوحدانية والرسل المنذرون أو الإنذارات شيئاً.
عن قوم لا يؤمنون في علم الله تعالى وحكمه.
فهل ينتظرون أي : فما ينتظر كفار مكة وأضرابهم إلا مثل أيام الذي خلوا أي : إلا يوماً مثل أيام الذين مضوا من قبلهم من مشركي الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود ، وأصحاب الأيكة ، وأهل المؤتفكة ، أي : مثل وقائعهم ونزول بأس الله بهم ، إذ لا يستحقون غيره وهم ما كانوا منتظرين لذلك ، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر ، شبهوا بالمنتظر ، والعرب تسمى العذاب والنعم أياماً وكل ما مضى عليك من خير وشر فهو أيام قل تهديداً لهم فانتظروا ما هو عاقبتكم من العذاب إني معكم من المنتظرين لذلك أو فانتظروا إهلاكي إني معكم من المنتظرين لهلاككم ، فأن العاقبة للمتقين على ما هي السنة القديمة الإلهية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 84
{ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} عطف على محذوف دل عليه قوله : مثل أيام الذين خلوا كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ومن آمن بهم عند نزول العذاب على حكاية الحال الماضية ، فأن المراد أهلكنا ونجينا ، كذلك أي : مثل ذلك الانجاء حقاً علينا اعتراض بين الفعل ومعموله ونصبه بفعله المقدر ، أي : حق ذلك حقاً.
ننجي المؤمنين من كل شدة وعذاب ولم يذكر إنجاء الرسل إيذاناً بعدم الحاجة إليه.
وفيه تنبيه على أن مدار النجاة هو الإيمان ، وهذه سنة الله تعالى في جميع الأمم فأن الله تعالى كما أنجى الرسل المتقدمين ومن آمن بهم وأنجز ما وعد لهم ، كذلك أنجى رسول الله ومن معه من أصحابه وحقق لهم ما وعد لهم ، وسينجى إلى قيام الساعة جميع المؤمنين من أيدي الكفرة وشرورهم ما دام الشرع باقياً والعمل به قائماً.
قال السعدي قدس سره :
محالست ون دوست دارد ترا
دردست دشمن كذارد ترا
وأقل النجاة الموت ، فأن الموت تحفة المؤمن ، ألا ترى إلى قوله عليه السلام حين مرّ بجنازة : مستريح
85
أو مستراح منه ، فالأول : هو الرجل الصالح يتخلص من تعب الدنيا ويستريح في البرزخ بالثواب الروحاني وهو نصف النعيم ، والثاني : هو الرجل الفاسق يستريح بموته الخلق ويتخلصون بموته من أذاه ويصل هو إلى العذاب الروحاني البرزخي وهو نصف الجحيم نعوذ بالله تعالى منه.
والحديث المناسب لآية الانتظار والإنجاء قوله : أفضل العبادة انتظار الفرج وذلك لأن فيه استراحة القلب وثواب الصبر إذ المؤمن المبتلي يعتقد أن المبتلى هو الله تعالى وأنه لا كاشف له إلا هو ، وذلك يخفف ألم البلاء عنه ويهون عليه الصبر ، فيرفع الجزع ويجد الاستراحة في قلبه بخلاف حال الجاهل الذي لا يخطر بباله أن ما يجري عليه أنما هو بقضاء الله وأن الله لطيف بعباده ، إذ ربما يعتقد أنه لا يتخلص من بلائه أبداً ، فينسب العجز إلى الله تعالى من حيث لا يحتسب ، ويتقلب في ألم البلاء صباحاً ومساء فنعوذ بالله منه.
قال الحافظ :
جزء : 4 رقم الصفحة : 85
اي دل صبور باش مخور غم كه عاقبت
اين شم صبح كردد واين شب سحر شود
(4/48)
وفي الحديث : اشتدى أزمة تنفرجي خاطب عليه السلام السنة المجدبة فقال : ابلغي في الشدة والمشقة الغاية تنكشفي ، وفيه تنبيه على أن لا بقاء للمحنة في دار الدنيا كما لا بقاء للنعمة.
والأزمة : القحط ، والشدة : وقيل أزمة امرأة وقعت في الطلق فقال عليه السلام : أي أزمة اشتدى : يعني ابلغي في الشدة الغاية تنفرجي حتى تجدي الفرج عن قريب بالوضع ، والعرب تقول : إذا تناهت الشدة انفرجت.
وقد عمل أبو الفضل يوسف بن محمد الأنصاري المعروف بابن النحوي لفظ الحديث مطلع قصيدة في الفرج بديعة في معناها كذا في المقاصد الحسنة لخاتمة الحافظ والمحدثين الامام السخاوي رحمه الله سبحانه.
قل يا أيها الناس خطاب لأهل مكة إن كنتم في شك من ديني الذي أتعبد الله به وأدعوكم إليه ولم تعلموا ما هو وما صفته فلا أعبد أي : فأنا لا أعبد وإلا لا نجزم الذين تعبدون من دون الله في وقت من الأوقات ولكن أعبد الله الذي يتوفيكم يقبض أرواحكم بواسطة الملك ، ثم يفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب ، أي : فاعلموا تخصيص العبادة به تعالى ورفض عبادة ما سواه من الأصنام وغيرها مما تعبدونه جهلاً وذلك لأن شكهم ليس سبباً لعدم عبادة الأوثان وعبادة الله بل سبب للإعلام والإخبار بأن الدين كذا ، ومثله وما بكم من نعمة فمن الله فأن استقرار النعمة في المخاطبين ليس سبباً لحصولها من الله تعالى ، بل الأمر بالعكس وأنما هو سبب للأخبار بحصولها من الله تعالى وأمرت أن أي : بأن أكون من المؤمنين وفي الانتقال من العبادة التي هي جنس من أعمال الجوارح إلى الإيمان والمعرفة دلالة على أنه ما لم يصر الظاهر مزيناً بالأعمال الصالحة لا يستقر في القلب نور الإيمان والمعرفة ، فأن الله تعالى جعل أحكام الشريعة أساس المعرفة ، فإذا زال الأساس زال ما بنى عليه ، وأيضاً العمل لباس المعرفة فإذا انسلخت المعرفة عن هذا اللباس صارت كسراج على وجه الريح.
علم آبست وعمل سد ون سبو
ون سبو بشكست ريزد آب ازو
جزء : 4 رقم الصفحة : 85
{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} عطف على أن أكون وأن مصدرية أي : موصول حرفي وصلته لا تجب أن تكون خبرية بخلاف الموصول الأسمي ، والمعنى وأمرت بالاستقامة في الدين
86
والاشتداد فيه بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح كما في تفسير القاضي.
قال ابن الشيخ : في حواشيه وفيه إشارة إلى أن إقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادة الله تعالى والإعراض عما سواه ، فأن من أراد أن ينظر إلى شيء نظراً بالاستقصاء فأنه يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يلتفت يميناً ولا شمالاً ، فأنه لو التفت إلى جهة بطلت تلك المقابلة واختل النظر المراد ولذلك كنى بإقامة الوجه عن صرف القوي بالكلية إلى الدين انتهى.
قال في الكواشي : والمعنى كن مؤمناً وأخلص عملك :
عبادت باخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زبى مغز وست
حنيفاً حال من الدين ، أي : مائلاً عن الأديان الباطلة مستقيماً لا اعوجاج فيه بوجه ما ، ولا تكونن من المشركين اعتقاداً وعملاً عطف على أقم داخل تحت الأمر.
قال الإمام : من عرف مولاه لو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركاً ، وهذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي.
قال المغربي :
اكر بغير توكردم نكاه درهمه عمر
بياد جرم غرامت زديده ام بستان
ولا تدع عطف على قوله تعالى : قل يا أيها الناس غير داخل تحت الأمر من دون الله استقلالاً ولا اشتراكاً ما لا ينفعك إذا دعوته بدفع مكروه أو جلب محبوب.
ولا يضرك إذا تركته بسلب المحبوب دفعاً أو رفعاً أو بإيقاع المكروه فإن فعلت أي : ما نهيت عنه من دعاء ما لا ينفع ولا يضر فإنك إذاً من الظالمين الضارين بأنفسهم فأنه إذا كان ما سوى الحق معزولاً عن التصرف ، كان إضافة التصرف إلى ما سوى الحق وضعاً للشيء في غير موضعه فيكون ظلماً فلا نافع ولا ضار إلا الحق وكل شيء هالك إلا وجهه.
خيال جمله جهانرا بنور شم يقين
بجنب بحر حقيقت سراب مى بينم
جزء : 4 رقم الصفحة : 86
(4/49)
{وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} (واكر برساند خداي بتو مرضى ياشدتي يا فقري) فلا كاشف له عنك إلا هو وحده وإن يردك بخير (واكر خواهد بتوصحت وراحت وغنا) فلا راد فلا دافع لفضله من جملة ما أرادك به من الخير كائناً من كان فيدخل فيه الأصنام ، وفيه إيذان بأن فيضان الخير منه تعالى بطريق التفضل من غير استحقاق عليه سبحانه ولعل ذكر الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين للإيذان بأن الخير مراد بالذات ، وأن الضر أنما يمس من يمسه لما يوجبه من الدواعي الخارجية لا بالقصد الأولي ولم يستثن مع الإرادة كما استثنى مع المس بأن يقول إلا هو لأنه قد فرض أن تعلق الخير به واقع بإرادة الله تعالى فصحة الاستثناء تكون بإرادة ضده في ذلك الوقت وهو محال ، إذ لا يتعلق الإرادتان للضدين في وقت واحد بخلاف مس الضر فأن إرادة كشفه لا تستلزم المحال.
يصيب به (ميرساند فضل خودرا) أي : بفضله الشامل لما أرادك به من الخير ولغيره.
من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم فتعرضوا لرحمته بالطاعة ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية.
وفي التأويلات النجمية : وهو الغفور يستر بنور وجهه ظلمة وجود الصديقين الرحيم يتقرب برحمته إلى الطالبين الصادقين وهم الذين دينهم عبادة الله وطاعته ومحبته
87
وطلبه لا عبادة الهوى والدنيا وطاعتها ومحبتها.
وقال في المفاتيح : معنى الغفور يستر القبائح والذنوب بإسبال الستر عليها في الدنيا وترك المؤاخذة والعقاب عليها في الآخرة.
وحظ العارف من هذا الاسم أن يستر من أخيه ما يحب أن يستر منه وقد قال عليه السلام : من ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته يوم القيامة والمغتاب والمتجسس والمكافىء على الإساءة بمعزل عن هذا الوصف ، وأنما المتصف به من لا يفشى من خلق الله إلا سن ما فيه يروى أن عيسى عليه السلام مر مع الحواريين بكلب ميت قد غلب نتنه ، فقالوا : ما أنتن هذه الجيفة فقال عيسى عليه السلام : ما أحسن بياض أسنانها تنبيهاً على أن الذي ينبغي أن يذكر من كل شيء ما هو أحسن كما في شرح الأسماء الحسنى للامام الغزالي : وقال في المثنوى في الاسم الرحيم :
جزء : 4 رقم الصفحة : 87
بند كان حق رحيم وبردبار
خوى حق دارند در اصلاح كار
مهربان بى رشوتان يارى كران
در مقام سخت ودر روز كران
نسأل الله تعالى أن يفيض علينا سجال رحمته ويديم دوران كاسات فضله ومغفرته.
قل لكفار مكة يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم وهو القرآن العظيم واطلعتم على مافي تضاعيفه من البينات والهدى لم يبق لكم عذر ولا عليه تعالى حجة.
فمن اهتدى بالإيمان به والعمل بما في مطاويه فإنما يهتدي لنفسه أي : منفعة اهتدائه لها خاصة ومن ضل بالكفر به والإعراض عنه فإنما يضل عليها أي : فوبال الضلال مقصور عليها.
والمراد تنزيه ساحة الرسول عن شائبة غرض عائد إليه عليه السلام من جلب نفع أو دفع ضر كما يلوح به إسناد المجيء إلى الحق من غير إشعار يكون ذلك بواسطة.
وما أنا عليكم بوكيل بحفيظ موكول إلى أمركم وأنما أنا بشير ونذير.
وفي التأويلات النجمية : قد جاءكم الحق من ربكم القرآن وهو الحبل المتين فمن اهتدى إلى الاعتصام به فإنما يهتدي لنفسه بأن يخلصها من أسفل السافلين ويعيدها إلى أعلى عليين مقاماً ومن ضل عن الاعتصام به فإنما يضل عليها لأنها تبقى في أسفل الدنيا بعيدة عن الله معذبة بعذاب البعد وألم الفراق وما أنا عليكم بوكيل فأوصلكم إلى تلك المقامات والدرجات ، وأخلصكم من هذه السفليات والدركات بغير اختياركم وأنما أنا مأمور بتبليغ الوحي والرسالة والتذكير والموعظة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 87
{وَاتَّبِعْ} اعتقاداً وعملاً وتبليغاً.
ما يوحى إليك على نهج التجدد والاستمرار من الحق المذكور المتأكد يوما فيوماً واصبر على دعوتهم وتحمل أذيتهم حتى يحكم الله يقضي لك بالنصر وإظهار دينك وهو خير الحاكمين إذ لا يمكن الخطأ في حكمه لإطلاعه على السرائر إطلاعه على الظواهر :
از سيدي تاسياهى كيرو تالوح وقلم
يك رقم از خط حكمش وهو خيرا الحاكمين
قال في التأويلات النجمية : وهو خير الحاكمين فيما حكم بقبول الدعوة والقرآن والأحكام والعمل بها لمن سبقت له العناية الأزلية ، وبرد الدعوة والقرآن والأحكام والعمل بها لمن أدركته الشقاوة الأزلية.
وقال في المفاتيح : ومرجع الاسم الحاكم إما إلى القول الفاصل بين الحق والباطل والبر والفاجر والمبين لكل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر وإما إلى التمييز من السعيد والشقي بالإثابة والعقاب.
وحظ العبد منه أن يستسلم لحكمه وينقاد لأمره فأن من لم يرض بقضائه اختياراً
88
أمضي فيه إجباراً ومن رضى به طوعاً عاش راضيا مرضياً ويكفي لنا موعظة حال رسول الله فأنه رضى بقضاء الله وصبر على بلائه فعاش حميداً وصار عاقبة أمره إلى النصرة.
وفي المثنوى :
صد هزاران كيميا حق آفريد
كيميايى همو صبر آدم نديد
ونكه قبض آمد تو دروى بسط بين
تازه باش وين ميفكن برجبين
شم كودك همو خر در آخرست
شم عاقل درحساب آخرست
اودر آخر رب مى بيند علف
وين زقصاب آخرش بيند تلف
آن علف تلخست كين قصاب داد
بهر لحم ما ترا زويى نهاد
صبرمي بيند زرده اجتهاد
روى ون كلنار وزلفين مراد
ومما وقع له من الأذية ما حدث به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله في المسجد وهو يصلي وقد نحر جزور وبقي فرثه ، أي : روثه في كرشه فقال أبو جهل : ايكم يقوم إلى هذا القذر ويلقيه على محمد ، فقام عقبة بن أبي معيط ، وجاء بذلك الفرث فالقاه على النبي عليه السلام وهو ساجد فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض من شدة الضحك فهممنا ، أي : خففنا أن نلقيه عنه حتى جاءت فاطمة رضي الله عنها فألقته عنه وأقبلت عليهم تشتمهم وكان بجواره جماعة منهم أبو لهب والحكم بن العاص بن أمية ، وعقبة بن أبي معيط وكانوا يطرحون عليه الأذى فإذا طرحوه عليه أخذه عليه السلام وخرج به ووقف على بابه ، ويقول يا ابن عبد مناف أي : جوار هذا؟ ثم يلقيه في الطريق وقال عليه السلام : مرة فيمن التزم أذية له من رؤساء قريش مخاطباً لأصحابه : أبشروا فأن الله تعالى مظهر دينه ومتمم كلمته وناصر نبيه أن هؤلاء الذين ترون مما يذبح على أيديكم عاجلاً فوقع كما قال : حيث ذبحهم الأصحاب بأيديهم يوم بدر وهذه الأذية لا يظن ظان أنها منقصة له عليه السلام ، بل هي رفعة له ودليل على فخامة قدره وعلو مرتبته وعظيم رفعته ومكانته عند ربه لكثرة صبره عليه السلام وحلمه واحتماله مع علمه باستجابة دعائه ونفوذ كلمته عند الله تعالى وقد قال : أشد الناس بلاء الأنبياء عليهم السلام فالأنبياء كالذهب ، والشدائد التي تصيبهم كالنار التي يعرض عليها الذهب فأن ذلك لا يزيد الذهب إلا حسناً فكذا الشدائد لا تزيد الأنبياء إلا رفعة وفي المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 88
طبع را كشتند در حمل بدي
تا حمولي كربود هست ايزدى
اي سليمان درميان زاغ وباز
حلم حق شو باهمه مرغان بساز
أي : دوصد بلقيس حلمت را زبون
كه اهد قومي أنهم لا يعلمون
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الحق المبين ، ويحكم لنا بالنصر على نفوسنا ، وهو خير الحاكمين تمت سورة يونس بالإمداد الرحماني ، والتأييد الرباني في اليوم الحادي عشر يوم الإثنين في ذي القعدة الشريفة من سنة إثنتين ومائة وألف ويتلوها سورة هود.
89
جزء : 4 رقم الصفحة : 88(4/50)
تفسير سورة هود
وهي مكية وآيها مائة وثلاث وعشرون أو اثنتان وعشرون
قال في التأويلات النجمية قوله : بسم الله إشارة إلى الذات الرحمن يشير إلى صفة الجلال الرحيم إلى صفة الجمال.
والمعنى أن هاتين الصفتين قائمتان بذاته جل جلاله وباقي الأسماء مشتملة على هاتين الصفتين وهمان من صفات القهر واللطف.
جزء : 4 رقم الصفحة : 89
{الار} أي : هذه السورة الرأي : مسماة بهذا الاسم فيكون خبر مبتدأ محذوف أو لا محل له من الأعراب مسرود على نمط تعديد الحروف للتحدي والإعجاز ، وهو الظاهر في هذه السورة الشريفة ، إذ على الوجه الأول يكون كتاب خبراً بعد خبر فيؤدي إلى أن يقال : هذه السورة كتاب وليس ذاك بل هي آيات الكتاب الحكيم كما في سورة يونس ، وحمل الكتاب على المكتوب أو على البعض تكلف ، وهو اللائح بالبال قالوا : الله أعلم بمراده من الحروف المقطعة فأنها من الأسرار المكتومة كما قال الشعبي : حين سئل عنها سر الله فلا تطلبوه ، والله تعالى لا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول ، أو وارث رسول.
وفي الحديث : إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله رواه أبو منصور الديلمي وأبو عبد الرحمن السلمي كما في الترغيب.
قال الرقاشي : هي أسرار الله يبديها إلى أمناء أوليائه وسادات النبلاء من غير سماع ، ولا دراسة ، وهي من الأسرار التي لم يطلع عليها إلا الخواص كما في فتح القريب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : حفظت من رسول الله وعاءين فأما أحدهما فبثثته فيكم وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم.
قال البخاري : البلعوم مجرى الطعام كما في شرح الكردي على الطريقة المحمدية.
وقال سلطان المفسرين والمؤولين : ابن عباس رضي الله عنهما : معنى الر أنا الله أرى (منم خداي كه مي بينم طاعت مطيعا نرا ومعصيت عاصيا نرا وهركس را مناسب عمل أو جزا خواهم داد س اين كلمه مشتمل است بروعد ووعيد كما في تفسير الكاشفي ويقال : الألف آلاؤه واللام لطفه والراء ربوبيته كما في تفسير أبي الليث وسيأتي في التأويلات غير هذا كتاب أي : هذا القرآن كتاب كما ذهب إليه غير واحد من المفسرين.
احكمت آياته نظمت نظماً محكماً لا يعتريه نقض ولا خلل لفظاً ومعنى كالبناء المحكم المرصف أو منعت من النسخ بمعنى التغيير مطلقاً.
وفي المثنوى :
مصطفى را وعده كرد ألطاف حق
كر بميرى تو نميرد اين سبق
كس نتاند بيش وكم كردن درو
تو به ازمن حافظي ديكر مجو
هست قرآن مرترا همون عصا
كفر هارا دركشد ون ادها(4/51)
جزء : 4 رقم الصفحة : 90
تو اكر درزير حاكى خفته
ون عصايش دان تو آنه كفته
قاصد انرا برعصايت دست نى
توبخسب اي شه مبارك خفتني
ثم فصلت يقال عقد مفصل إذا جعل بين كل لؤلؤتين خرزة.
والمعنى زينت آياته بالفوائد كما تزين القلائد بالفرائد أي : ميزت وجعلت تفاصيل في مقاصد مختلفة ومعان متميزة من العقائد والأحكام والمواعظ والأمثال وغير ذلك ، وثم للتفاوت في الحكم أي : الرتبة لا للتراخي في الوجود
90
والوقوع في الزمان أو للتراخي في الأخبار لا في الوقت ، فأن الشائع في الجمل أن يراد بها نفس مفهومها ، إلا أنه قد يراد بها الأخبار بمفهومها كما تقول فلان كريم الأصل ، ثم كريم الفعل والمراد بالتراخي مجرد الترتيب مجازاً لظهور أن حقيقة التراخي منتفية بين الإخبارين ضرورة أن الإخبار بالتفصيل وقع عقيب الإخبار بالأحكام ، أو يقال : بوجود التراخي باعتبار ابتداء الخبر الأول وانتهاء الثاني والفعلان من قبيل قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل يعني أنه لم يكن البعوض كبيراً أولاً ، ثم جعله الله صغيراً لكنه كان ممكناً فنزل هذا الإمكان منزلة الوجود كما في شرح الهندي على الكافية من لدن حكيم خبير صفة ثانية للكتاب وصف أولاً بجلالة الشان من حيث الذات ثم وصف من حيث الإضافة ، ولدن بمعنى عند لكنها مختصة بأقرب مكان وعند للبعيد والقريب ، ولهذا تقول : عندي كذا لما تملكه حضرك أو غاب عنك ، ولا تقول لدي كذا إلا لما هو بحضرتك.
والحكيم الخبير هو الله تعالى ، حكيم فيما أنزل خبير بمن أقبل على أمره أو أعرض عنه.
أن لا تعبدوا إلا الله مفعول له حذف منه اللام مع فقدان الشرط أعني كونه فعلاً لفاعل الفعل المعلل بناء على القياس المطرد في حذف حرف الجر مع أن المصدرية كأنه قيل كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لأجل أن لا تعبدوا إلا الله ، أي : تتركوا يا أهل مكة عبادة غير الله وتتمحضوا في عبادته دل على أن لا مقصود من هذا الكتاب الشريف إلا هذا الحرف الواحد فكل من صرف عمره إلى سائر المطالب فقد خاب وخسر.
إنني لكم منه نذير وبشير كلام على لسان الرسول .
قوله : منه ، إما حال من نذير وبشير أي : كائناً من جهة الله تعالى أو متعلق بنذير أي : أنذركم من عذابه أن كفرتم ، أي : بقيتم على الكفر وعبادة غير الله تعالى وأبشركم بثوابه أن آمنتم ، وتقديم النذير لأن التخويف هو الأهم ، إذ التخلية قبل التحلية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 90
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} عطف على أن لا تعبدوا ، سواء كان نهياً أو نفياً وأن مصدرية وسوغ سيبويه أن توصل أن بالأمر والنهي لأن الأمر والنهي دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال ، والاستغفار طلب المغفرة وهي أن يستر على العبد ذنوبه في الدنيا ويتجاوز عن عقوبته في العقبى ثم توبوا إليه ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها كما في بحر العلوم للسمرقندي.
وقال في الإرشاد : المعنى فعل ما فعل من الأحكام والتفصيل لتخصوا الله بالعبادة وتطلبوا منه ستر ما فرط منكم من الشرك ثم ترجعوا إليه بالطاعة ، انتهى.
فثم أيضاً على بابها في الدلالة على التراخي الزماني ويجوز أن يكون ثم لتفاوت ما بين الأمرين وبعد المنزلة بينهما من غير اعتبار تعقيب وتراخ ، فأن بين التوبة وهي انقطاع العبد إليه بالكلية وبين طلب المغفرة بونا بعيداً كذا ذكره الرضى.
قال الفراء : ثم ههنا بمعنى الواو ، لأن الاستغفار توبة انتهى.
يقول الفقير : فرقوا بينهما كما قال الحدادي : عند قوله تعالى : ومن يعمل سوأ أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله}(النساء : 11) أي : بالتوبة الصادقة وشرطت التوبة ؛ لأن الاستغفار لا يكون توبة بالإجماع ما لم يقل معه تبت ، وأسأت ولا أعود إليه أبداً فاغفر لي يا رب {يُمَتِّعْكُم مَّتَـاعًا حَسَنًا} انتصابه على أنه مصدر بمعنى تمتيعا حذف منه الزوائد.
والتمتيع جعل الشخص متمتعاً منتفعاً بشيء.
والمعنى يعيشكم عيشاً مرضياً لا يفوتكم فيه شيء مما تشتهون ولا ينغصه شيء من المكدرات إلى أجل مسمى إلى آخر الأعمار المقدرة وتموتوا على فرشكم كما حكى أن الله
91
تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام قل لفرعون أن آمنت بالله وحده عمرك في ملك وردك شاباً طرياً ، فمنعه هامان وقال : له أنا أردك شاباً طرياً فأتاه بالوسمة فخضب لحيته بها ، وهو أول من خضب بالسواد ، ولذا كان الخضاب بالسواد حراماً.
وقال العتبي : أصل الامتاع الإطالة فيقال : جبل ماتع وقد متع النهار إذا طال.
والمعنى لا يهلككم بعذاب الاستئصال إلى آخر أيام الدنيا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 91
(4/52)
وههنا سؤالان : الأول أن قوله عليه السلام : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وقوله : وخص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ونحوهما يدل على أن نصيب المطيع عدم الراحة في الدنيا فكيف يكون في أمن وسعة إلى حين الموت ، والجواب أن من ربط قلبه بالله ورضى بما قضاه الله في حقه حي حياة طيبة ولذا قال بعضهم : متاعاً حسناً (رضاست برانه هست ازنعمت وصبر برانه رونمايد ازسخت) ومن ربط قلبه بالأسباب كان أبداً في ألم الخوف من فوات محبوبه فيتنغص عيشه ويضطرب قلبه وكون الدنيا سجناً أنما هو بالإضافة إلى ما أعد للمؤمن من نعيم الآخرة وهو لا ينافي الراحة في الجملة كما حكى أنه كان قاض من أهل بغداد مارا بزقاق كلخان مع خدمه وحشمه كالوزير فطلع الكلخاني في صورة جهنمي رث الهيئة كان القطران يقطر من جوانبه فأخذ بلجام بغلة القاضي فقال : أيد الله القاضي ما معنى قول نبيكم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر أما ترى أن الدنيا جنة لك وأنت مؤمن محمدي والدنيا سجن لي وأنا كافر يهودي فقال : القاضي الدنيا وما ترى من زينتها وحشمتها سجن للمؤمنين بالنسبة إلى الجنة وما أعدلهم فيها من الدرجات وجنة للكافرين بالنسبة إلى جهنم وما أعد لهم فيها من الدركات فعقل اليهودي فاسلم وأخلص.
والثاني : أن قوله تعالى : إلى أجل مسمى يدل على أن للعبد أجلين كما قال الكعبي : أن للمقتول أجلين أجل القتل وأجل الموت وأن المقتول لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو أجل الموت وكما قال الفلاسفة : أن للحيوان أجلاً طبيعياً هو وقت موته لتحلل رطوبته وانطفاء حرارته الغريزيتين وأجلا اخترامياً بحسب الآفات والأمراض.
والجواب أن الأجل واحد عند أهل السنة والجماعة ، فأن الأرزاق والأعمار وأن كانت متعلقة بالأعمال كالاستغفار والتوبة في هذه الآية وكالصلة في قوله صلة الرحم تزيد العمر لكنها مسماة بالإضافة في كل أحد بناء على علم الله باشتغاله بما يزيد في العمر من القرب فلا يثبت تعدد الأجل ويؤت كل ذي فضل في الأعمال والأخلاق والكمالات فضله والضمير راجع إلى كل أي : جزاء فضله من الثواب والدرجات العالية ولا يبخس منه.
قال سعيد بن جبير : في هذه الآية من عمل حسنة كتب له عشر حسنات ، ومن عمل سيئة كتب عليه سيئة واحدة ، فأن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من العشرة واحدة وبقيت له تسع حسنات.
(وجور جاني كفته كه ذو فضل آنست كه درديوان ازل بنام اونشان فضل نوشته باشند وهر آينه بعد از وجود بدان شرف خواهد رسيد آنراكه بدادندا زو بازنكيرند وإن تولوا أي : تتولوا أو تعرضوا عما ألقى إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة وتستمروا على الإعراض ، وأنما أخر عن البشارة جرياً على سنن تقدم الرحمة على الغضب فإني أخاف عليكم بموجب الشفقة والرحمة أو أتوقع عذاب يوم كبير شاق وهو يوم القيامة قال
92
في التبيان : وهو كبير لما فيه من الأهوال فوصف بوصف ما يكون فيه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 91
إلى الله مرجعكم أي : رجوعكم بالموت ثم بالبعث للجزاء في مثل ذلك اليوم لا إلى غيره وهو شاذ عن القياس ؛ لأن المصدر الميمي من باب ضرب قياسه أن يجيىء بفتح العين وهو لا يمنع الفصاحة نحو ويأبى الله وهو على كل شيء قدير فيقدر على تعذيبكم إذ من جملة مقدوراته العذاب والثواب.
واعلم أن الآية تدل على فضل التوحيد وشرف الاستغفار ألا يرى أن الموحد المستغفر كيف ينال العيش الطيب في الدنيا والدرجات العالية في العقبى فهما مفتاح سعادة الدارين وفي الحديث : لا إله إلا الله ثمن الجنة وفي خبر آخر مفتاح الجنة وفي الخبر قال آدم : يا رب إنك سلطت علي إبليس ولا استطيع أن أمتنع منه إلا بك قال الله تعالى : لا يولد لك ولد إلا وكلت عليه من يحفظه من مكر إبليس ومن قرناء السوء ، قال : يا رب زدني قال : الحسنة عشر وأزيد والسيئة واحدة وأمحوها ، قال : يا رب زدني ، قال : التوبة مقبولة ما دام الروح في الجسد ، قال : يا رب زدني قال : الله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً أنه هو الغفور الرحيم ثم الاستغفار لا يختص بكونه من الذنوب بل يكون من العبادة التي لا يؤتى بها على الوجه اللائق كما قال بعضهم : أن الصحابة كانوا يستغفرون من عبادتهم استقلالها وما يقع فيها.
قال العرفي :
مالب آلوده بهر توبه بكشاييم ليك
بانك عصيان ميزند ناقوس استغفار ما
جزء : 4 رقم الصفحة : 91
(4/53)
وفي التأويلات النجمية قوله : الر يشير بالألف إلى الله وباللام إلى جبريل وبالراء إلى الرسول كتاب أحكمت آياته يعني القرآن كتاب أحكمت بالحكم آياته كقوله : ويعلمكم الكتاب والحكمة فالكتاب : هو القرآن ، والحكمة : هي الحقائق والمعاني والأسرار التي أدرجت في آياته ثم فصلت أي : بينت لقلوب العارفين تلك الحقائق والحكم.
من لدن حكيم أودع فيها الحكمة البالغة التي لا يقدر غيره على إيداعها فيها وهذا سر من أسرار إعجاز القرآن.
خبير على تعليمها من لدنه لمن يشاء من عباده كقوله : فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً}(الكهف : 65) يشير إلى أن للقرآن ظهراً يطلع عليه أهل اللغة وبطنا لا يطلع عليه إلا أرباب القلوب الذين أكرمهم الله بالعلم اللدني ورأس الحكمة وسرها أن تقول يا محمد لأمتك أمرتم.
{أَن لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} أي : لا تعبدوا الشيطان ولا الدنيا ولا الهوى ولا ما سوى الله تعالى : أنني لكم منه نذير أنذركم بالقطيعة من الله تعالى أن تعبدوا وتطيعوا وتحبوا غيره وعذاب العبد في الجحيم وبشير أبشركم أن تعبدوه وتطيعوه وتحبوه بالوصول ونعم الوصال في دار الجلال وكان النبي عليه السلام مخصوصاً بالدعوة إلى الله من بين الأنبياء والمرسلين يدل عليه قوله : يا أيها النبي أن أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه}(هود : 3) {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} فيما فرطتم من أيام عمركم في طلب غير الله وترك طلبه وتحصيل الحجب وإبطال الاستعداد الفطري ليكون الاستغفار تزكية لنفوسكم وتصفية لقلوبكم.
ثم توبوا إليه ارجعوا بقدم السلوك إلى الله تعالى لتكون التوبة تحلية لكم بعد التزكية بالاستغفار ، وهي قوله : يمتعكم متاعاً حسناً وهو الترقي في المقامات من السفليات
93
إلى العلويات ومن العلويات ، إلى حضرة العلي الكبير إلى أجل مسمى وهو انقضاء مقامات السلوك وابتداء درجات الوصول ويؤت كل ذي فضل ذي صدق واجتهاد في الطلب.
فضله في درجات الوصول فأن المشاهدات بقدر المجاهدات ، وأن تولوا تعرضوا عن الطلب والسير إلى الله فقل أني أخاف عليكم عذاب يوم كبير عذاب يوم الانقطاع عن الله الكبير فأنه أكبر الكبائر وعذابه أعظم المصائب.
إلى الله مرجعكم طوعاً أو كرهاً فأن كان بالطوع يتقرب إليكم بجذبات العنايات كما قال : من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً وأن كان بالكره تسحبون في النار على وجوهكم وهو على كل شيء من اللطف والقهر قدير.
جزء : 4 رقم الصفحة : 91
.
{أَلا} أي : تنبهوا أيها المؤمنون إنهم أي : مشركي مكة يثنون صدورهم من ثنى يثنى أي : عطف وصرف.
والمعنى يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق وعداوة النبي بحيث يكون ذلك مخفياً مستوراً فيها ، كما تعطف الثياب على ما فيها من الأشياء المستورة.
ليستخفوا منه الاستخفاء الاستتار ، أي : ليختفوا ويستتروا من الله تعالى لجهلهم بما لا يجوز على الله تعالى روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في أخنس بن شريق الزهري وكان رجلاً حلو المنطق حسن السياق للحديث يظهر لرسول الله المحبة ويضمر في قلبه ما يضادها.
وقال ابن شداد : أنها نزلت في بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كيلاً يراه النبي عليه السلام فكأنه أنما كان يصنع ما يصنع لأنه لو رأه النبي عليه السلام لم يمكنه التخلف عن حضور مجلسه والمصاحبة معه وربما يؤدي ذلك إلى ظهور ما في قلبه من الكفر والنفاق.
فأن قلت الآية مكية والنفاق حدث بالمدينة؟.
قلت لك : أن تمنع ذلك ، بل ظهوره أنما كان فيها ولو سلم فليكن هذا من باب الأخبار عن الغيب وهو من جملة المعجزات.
ألا حين يستغشون ثيابهم أي : يتغطون بها للاستخفاء على ما نقل عن ابن شداد وحين يأوون إلى فراشهم ويتدثرون ثيابهم وكان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخى ستره ويحنى ظهره ويتغشى ثوبه ويقول هل يعلم الله ما في قلبي.
قال في الكواشي : حين توقيت للتغطي لا للعلم انتهى.
أي : لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرهم وعلنهم بهذا الوقت الخاص وهو تعالى عالم بذلك في كل وقت ، والجواب أنه تعالى إذا علم سرهم وعلنهم في وقت التغشية الذي يخفى فيه السر فأولى أن يعلم ذلك في غيره وهذا بحسب العادة وإلا فالله تعالى لا يتفاوت علمه بتفاوت أحوال الخلق يعلم ما يسرون أي : يضمرون في قلوبهم وما يعلنون بأفواههم وما مصدرية أي : إسرارهم وإعلانهم أو بمعنى الذي والعائد محذوف وقدم السر على العلن لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في القلب فتعلق علمه سبحانه بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية.
أنه أي الله تعالى عليم بذات الصدور مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدورهم بحيث لا تفارقها أصلاً ، فكيف يخفى عليه ما يسرون وما يعلنون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
(4/54)
اي كه در دل نهان كنى سرى
آنكه دل آفريد ميداند
94
ومعنى الآية : أن الذين اضمروا الكفر والعداوة لا يخفون علينا وسنجازيهم على ما أبطنوا من سوء أعمالهم حق جزائهم فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترىء على شيء مما يخالف رضاه :
صورت ظاهر ندارد اعتبار
باطني بايد مبرا از غبار
واعلم أن إصلاح القلب أهم من كل شيء ؛ إذ هو كالملك المطاع في إقليم البدن النافذ الحكم وظاهر الأعضاء كالرعية والخدم له والنفاق صفة من صفاته المذمومة وهو عدم موافقة الظاهر للباطن والقول للفعل.
وقال ناس لابن : عمر أنا لندخل إلى سلطاننا وأمرائنا فنقول : لهم : بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم فقال : كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله .
وقال حذيفة : أن المنافقين اليوم شر منهم على عهد رسول الله ، قالوا : وكيف ذلك؟ قال : كانوا يومئذٍ يسرون واليوم يجهرون :
هركه سازد نفاق يشه خويش
خوار كردد بنزد خالق وخلق
ومن آفات القلب العداوة.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال العداوة شغل.
هركه يشه كند عداوت خلق
از همه خيرها جدا كردد
كه دلش خسته عنا باشد
كه تنش بسته بلا كردد
وفي هذا المعنى قال حضرة الشيخ السعدي قدس سره :
دلم خانه مهر يا رست وبس
ازان جا نكنجد درو كين كس
وفي الآية إشارة إلى حال أهل الإنكار فأن كفار الشريعة كانوا يتغطون بثيابهم لئلا يسمعوا القرآن وكلام رسول الله وكذا كفار الحقيقة لا يصغون إلى ذكر الصوفية بالجهر ولا يقبلون على استماع أسرار المشايخ وحقائق القرآن بل يثنون صدورهم ويظنون أن الله تعالى لا يعلم سرهم ونجواهم ولا يجازيهم على إعراضهم عن الحق وعداوتهم لأهله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
.
{وَمَا} نافية من صلة دابة عام لكل حيوان يحتاج إلى الرزق صغيراً كان أو كبيراً ذكراً أو أنثى سليماً أو معيباً طائراً أو غيره لأن الطير يدب أي : يتحرك على رجليه في بعض حالاته في الأرض متعلق بمحذوف هو صفة لدابة أي : ما فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض إلا على الله رزقها غذاؤها ومعاشها اللائق لتكفله إياه تفضلاً ورحمة.
قال في التبيان : هو إيجاب كرم لا وجوب حق ، انتهى.
لأنه لا حق للمخلوق على الخالق ولذا قال : في الجامع الصغير يكره أن يقول الرجل في دعائه بحق نبيك أو بيتك أو عرشك أو نحوه إلا أن يحمل على معنى الحرمة كما في شرح الطريقة.
وقال : في بحر العلوم أنما قال : على الله بلفظ الوجوب
95
دلالة على أن التفضل رجع واجباً كنذور العباد.
وقال غيره : أتى بلفظ الوجوب مع أن الله تعالى لا يجب عليه شيء عند أهل السنة والجماعة اعتباراً لسبق الوعد وتحقيقاً لوصوله إليها البتة وحملاً للمكلفين على الثقة به تعالى في شأن الرزق ، والإعراض عن إتعاب النفس في طلبه ففي كلمة على هنا استعارة تبعية شبه إيصال الله رزق كل حيوان إليه تفضلاً وإحساناً على ما وعده بإيصال من يوصله ، وجوباً في انتفاء التخلف فاستعملت كلمة على (وكفته اند بمعنى من است يعني روزي همه ازخداست يا بمعنى إلى يعني روزي مفوض بخداي تعالى است اكر خواهد بسط كند واكر اراده نمايد قبض كند).
ويعلم مستقرها ومستودعها يحتمل وجوهاً.
الأول : ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن مستقرها المكان الذي تأوي إليه ليلاً ، أو نهاراً ، أو تستقر فيه وتستكن ومستودعها الموضع الذي تدفن فيه إذا ماتت بلا اختيار منها كالشيء المستودع قال عبد الله : إذا كان مدفن الرجل بأرض أدته الحاجة إليها حتى إذا كان عند انقضاء أمره قبض فتقول الأرض يوم القيامة هذا ما استودعتني.
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
والثاني : مستقرها محل قرارها في أصلاب الآباء ، ومستودعها موضعها في الأرحام وما يجري مجراها من البيض ونحوه ، وسميت الأرحام مستودعاً ، لأنها يوضع فيها من قبل شخص آخر بخلاف وضعها في الأصلاب فأن النطفة بالنسبة إلى الأصلاب في حيذها الطبيعي ومنشأها الخلقي.
والثالث : مستقرها مكانها من الأرض حين وجودها بالفعل ، ومستودعها حيث تكون مودعة فيه قبل وجودها بالفعل من صلب أو رحم أو بيضة ، ولعل تقديم محلها باعتبار حالتها الأخيرة لرعاية المناسبة بينها وبين عنوان كونها دابة في الأرض.
(4/55)
والرابع : مستقرها في العدم يعلم أنه كيف قدرها مستعدة لقبول تلك الصورة المختصة بها ومستودعها لغرض تؤول إليه عند استكمال صورتها ، وأيضاً يعلم مستقر روح الإنسان خاصة في عالم الأرواح لأنهم كانوا في أربعة صفوف كان في الصف الأول : أرواح الأنبياء وأرواح خواص الأولياء ، وفي الصف الثاني : أرواح الأولياء وأرواح خواص المؤمنين ، وفي الصف الثالث : أرواح المؤمنين والمسلمين ، وفي الصف الرابع أرواح الكفار والمنافقين ويعلم مستودع روحه عند استكمال مرتبة كل نفس منهم من دركات النيران ، ودرجات الجنان إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر.
كل أي : كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها.
في كتاب مبين أي : مثبت في اللوح المحفوظ البين لمن ينظر فيه من الملائكة أو المظهر لما ثبت فيه للناظرين.
وفي التأويلات النجمية : في كتاب مبين أي : عنده في أم الكتاب الذي لا تغير فيه من المحو والإثبات انتهى.
وقد اتفقوا على أن أربعة أشياء لا تقبل التغير أصلاً ، وهي : العمر ، والرزق ، والأجل ، والسعادة أو الشقاوة.
فعلى العاقل أن لا يهتم لأجل رزقه ويتوكل على الله فأنه حسبه :
مكن سعديا ديده بر دست كس
كه بخشنده روردكارست وبس
اكر حق رستى ز درها بست
كه كروي براند نخواند كست
روى أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه بالذهاب إلى فرعون للدعوة إلى الإيمان تعلق قلبه بأحوال أهله قائلاً يا رب من يقوم بأمر عيالي؟ فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه
96
صخرة فضربها فانشقت وخرج منها صخرة ثانية ، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت منها صخرة ثالثة ، ثم ضربها بعصاه فخرجت منها دودة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها ، ورفع الحجاب عن سمع موسى فسمع الدودة تقول : سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني.
وعن أنس رضي الله عنه قال : خرجت مع رسول الله يوماً إلى المفازة في حاجة لنا فرأينا طيراً يلحن بصوت جهوري فقال عليه السلام : أتدري ما يقول هذا الطير يا أنس؟ قلت : الله ورسوله أعلم بذلك قال : أنه يقول يا رب ، أذهبت بصري وخلقتني أعمى فارزقني فأني جائع قال : أنس فبينما نحن ننظر إليه إذ جاء طائر آخر وهو الجراد ودخل في فم الطائر فابتلعه ثم رفع الطائر صوته وجعل يلحن فقال عليه السلام : أتدري ما يقول الطير يا أنس؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : أنه يقول الحمدالذي لم ينس من ذكره وفي رواية : من توكل على الله كفاه كما في إنسان العيون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
قيل : كان مكتوباً على سيف الحسين بن علي رضي الله عنه أربع كلمات ، الرزق مقسوم ، والحريص محروم ، والبخيل مذموم ، والحاسد مغموم ، وفي الحديث : من جاع أواحتاج وكتمه عن الناس وأفضى به إلى الله تعالى كان حقاً على الله أن يفتح له رزق سنة كما في روضة العلماء.
وحقيقة التوكل في الرزق وغيره عند المشايخ الانقطاع عن الأسباب بالكلية ثقة بالله تعالى.
وهذا لأهل الخصوص فأما أهل العموم فلا بد لهم من التسبب.
كما قال في المثنوى :
كر توكل ميكنى در كار كن
كسب كن س تكيه بر جبار كن
ثم رزق الإنسان يعم جسده وغذاء روحه.
وفي المثنوى :
اين دهان بستى دهاني بازشد
كو خورنده لقمهاى راز شد
كر ز شير ديو تن را وا برى
در فطام أو بسى نعمت خورى
وهو الذي خلق السموات السبع ، السماء الدنيا وهو فلك القمر من الموج المكفوف المجتمع وهو مقر أرواح المؤمنين ، والسماء الثانية وهو فلك عطارد من درة بيضاء وهو مقر أرواح العباد ، والسماء الثالثة وهو فلك الزهرة من الحديد وهو مقر أرواح الزهاد ، والسماء الرابعة وهو فلك الشمس من الصفر وهو مقام أرواح أهل المعرفة ، والسماء الخامسة وهو فلك المريخ من النحاس وهو مقام أرواح الأنبياء ، والسماء السادسة وهو فلك المشتري من الفضة وهو مقام أرواح الأنبياء.
والسابعة : وهو فلك زحل من الذهب وهو مقام أرواح الرسل وفوق هذه السموات الفلك الثامن وهو فلك الثوابت ويقال : له الكرسي وهو مقام أرواح أولي العزم من الرسل وفوقه عرش الرحمن وهو مقام روح خاتم النبيين صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين وجمع السموات لاختلاف العلويات أصلاً كما ذكرنا وذاتا لأنها سبع طبقات بين كل اثنتين منها مسيرة خمسمائة عام على ما ورد في الخبر وكذا ما بين السابعة والكرسي وبين الكرسي والعرش على ما نقل عن ابن مسعود رضي الله عنهما ، قدم السموات لأنها منشأ أحكامه تعالى ومصدر قضاياه ومتنزل أوامره ونواهيه وأرزاقه ووعده ووعيده فأن مايؤمرون به وينهون عنه وما يرزقونه في الدنيا وما يوعدونه في العقبى كله مقدر مكتوب في السماء ولأنها وما فيها من الآثار العلويات أظهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة على الكبرياء والعظمة
97
(4/56)
والأرض أي : الأرضين السبع بدليل قوله السموات وأفردت فأن السفليات واحدة بالأصل والذات وقوله تعالى : ومن الأرض مثلهن أول بالأقاليم السبعة كما في حواشي سعدى المفتى وبين المشرق والمغرب خمسمائة عام كما بين السماء والأرض ، وأكثر الأرض مفازة وجبل وبحار والقليل منها العمران ثم أكثر العمران أهل الكفر والقليل منها أهل الإيمان والإسلام ، وأكثر أهل الإسلام أهل البدع والإهواء ، وكلها على الضلالة والباطل ، والقليل منهم على الحق ، وهم أهل السنة والجماعة ، وحول الدنيا ظلمة ثم وراء الظلمة جبل قاف وهو جبل محيط بالدنيا من زمردة خضراء وأطراف السماء ملتصقة به ووسط الأرض كلها عامرها وخرابها قبة الأرض وهو مكان تعتدل فيه الأزمان في الحر والبرد ويستوي فيه الليل والنهار أبداً لا يزيد أحدهما على الآخر ولا ينقص ، وأما الكعبة فهي وسط الأرض المسكونة وأرفع الأرضين كلها إلى السماء مهبط آدم عليه السلام بأرض الهند وهو جبل عال يراه البحريون من مسافة أيام ، وفيه أثر قدم آدم مغموسة في الحجر ، ويرى على هذا الجبل كل ليلة كهيئة البرق من غير سحاب ولا بد له في كل يوم من مطر يغسل قدمي آدم ، وذروة هذا الجبل أقرب ذرى جبال الأرض إلى السماء كما في إنسان العيون في ستة أيام السموات في يومين والأرض في يومين وما عليها من أنواع الحيوان والنباتات وغير ذلك في يومين حسبما قيل في سورةحم السجدة ولم يذكر خلق ما في الأرض لكونه من تتمات خلقها.
والمراد في ستة أوقات على أن يكون المراد باليوم يوم الشأن وهو الآن ، وهو الزمان الفرد الغير المنقسم وقد مر تحقيقه ، أو في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة فأن الأيام في المتعارف زمان كون الشمس فوق الأرض ولا يتصور ذلك حين لا أرض ولا سماء ، أو من أيام الآخرة كل يوم كألف سنة مما تعدون على ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وفي خلقها على التدريج مع أنه لو شاء لكان ذلك في أقل من لمح البصر حث على التأني في الأمور ولعل تخصيص ذلك بالعدد المعين باعتبار أصناف الخلق من الجماد والمعدن والنبات والحيوان والإنسان والأرواح.
وكان عرشه العرش في أصل اللغة السرير والعرش المضاف إليه تعالى عبارة عن مخلوق عظيم موجود هو أعظم المخلوقات.
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
قال مقاتل : جعل الله تعالى للعرش أربعة أركان بين كل ركن وركن وجوه لا يعلم عددها إلا الله تعالى أكثر من نجوم السماء وتراب الأرض وورق الشجر ليس لطوله وعرضه منتهى لا يعلمه أحد إلا الله تعالى.
فإن قيل : لم خلق الله تعالى العرش وهو سبحانه لا حاجة له به؟
أجيب بوجوه.
أحدها أنه جعله موضع خدمة ملائكته لقوله تعالى : وترى الملائكة حافين من حول العرش}(الزمر : 75).
وثانيها : أنه أراد إظهار قدرته وعظمته كما قال مقاتل : السموات والأرض في عظم الكرسي كحلقة في فلاة والكرسي مع السموات والأرض في عظم العرش كحلقة في فلاة وكلها في جنب عظمة الله تعالى كذرة في جنب الدنيا فخلقه كذلك ليعلم أن خالقه أعظم منه.
وثالثها : أنه خلق العرش إرشاداً لعباده إلى طريق دعوته ليدعوه من الفوق لقوله تعالى : {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (النحل : 50).
ورابعها : أنه خلقه لإظهار شرف محمد صلى الله عليه وسلّم وهو قوله تعالى : {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (الإسراء : 79) وهو مقام تحت العرش.
وخامسها : أنه جعله معدن كتاب الأبرار
98
لقوله تعالى : {إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ} (المطففين : 18) وفيه تعظيم لهم ولكتابهم.
وسادسها : أنه جعله مرآة الملائكة يرون الآدميين وأحوالهم كي يشهدوا عليهم يوم القيامة لأن عالم المثال والتمثال في العرش كالأطلس في الكرسي.
وسابعها : أنه جعله مستوى الاسم الرحمن أي : محل الفيض والتجلي والإيجاد والأحدي كما جعل الشرع الذي هو مقلوبه مستوى الأمر التكليفي الإرشادي لا مستوى نفسه تعالى الله عن ذلك {عَلَى الْمَآءِ} أي : العذب كما في إنسان العيون.
قال كعب الأحبار : أصله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد من مخافة الله تعالى فلذلك يرتعد الماء إلى الآن وأن كان ساكناً ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها أي : ظهرها ثم وضع العرش على الماء وليس ذلك على معنى كون أحدهما على الآخر ملتصقاً بالآخر بل ممسك بقدرته كما في فتح القريب.
قال الأصم : هذا كقولهم السماء على الأرض وليس ذلك على سبيل كون إحداهما ملتصقة بالأخرى ، فالمعنى وكان عرشه تعالى قبل خلق السموات والأرض على الماء لم يكن حائل محسوس بينهما وإنما قلنا محسوس فإن بين السماء والأرض حائلاً هو الهواء لكن لما لم يكن محسوساً لم يعد حائلاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
(4/57)
وفيه دليل على أن العرش والماء خلقا قبل السموات والأرض ، والجمهور على أن أول ما خلق الله من الأجسام هو العرش ومن الأرواح الروح المحمدي الذي يقال له : العقل الأول والفلك الأ على أيضاً.
وفيه دليل أيضاً على إمكان الخلاء فإن الخلاء هو الفراغ الكائن بين الجسمين اللذين لا يتماسان وليس بينهما ما يماسهما ، فإذا لم يكن بين العرش والماء حائل يثبت الخلاء ، والحكماء ذاهبون إلى امتناع الخلاء والمتكلمون إلى إمكانه.
قال في كتب الهيئة : مقعر سطح الفلك الأعظم يماس محدب فلك الثوابت ومحدبه لا يماس شيئاً إذ ليس وراءه شيء لا خلاء ولا ملاء بل عنده ينقطع امتدادات العالم كلها.
وقيل من ورائه أفلاك من أنوار غير متناهية ولا قائل بالخلاء فيما تحت الفلك الأعظم بل هو الملاء.
وقال المولى أبو السعود رحمه الله : وكان عرشه قبل خلقهما على الماء ليس تحته شيء غيره سواء كان بينهما فرجة أو كان موضوعاً على متنه كما ورد في الأثر فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء كيف لا؟ ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط ، ولا على كون الماء أول ما حدث في العالم بعد العرش وإنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السموات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما انتهى.
قال الكاشفي : (در وقوف عرش برآب واستقرار آب برباد اعتبار عظيم است مراهان تفكررا ازعباد) ليبلوكم متعلق بخلق واللام لام العلة عقلاً ولام الحكمة والمصلحة شرعاً بمعنى أن الله تعالى فعل فعلاً لو كان يفعله من يراعي المصالح لم يفعله إلا لتلك المصلحة أي : خلق السموات والأرض وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادي وجودكم وأسباب معايشكم وأودع في تضاعيفهما من أعجايب الصنائع والعبر ما تستدلون به على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يبتليكم ويمتحنكم.
أيكم أحسن عملاً فيجازيكم بالثواب والعقاب بعد ما تبين المحسن من المسيء.
فإن قلت : الاختبار يتعلق بجميع العباد محسنين كانوا أو مسيئين وأحسن عملاً يخصصه بالمحسنين منهم لأن العمل الأحسن يخص بالمحسنين ولا يتحقق في أهل القبائح فيلزم أن يعتبر عموم الابتلاء وخصوصه معاً وهما متنافيان.
قلت : الابتلاء وأن
99
كان يعم الفرق المكلفين إلا أن المراد خصوصه بالمحسنين تنبيهاً على أن المقصود الأقصى من خلق المخلوقات أن يتوسلوا بأحسن الأعمال إلى أجل المثوبات ، وتحريضاً لهم على ترك القبائح والمنكرات ، والمراد بالعمل ما يعم عمل القلب والجوارح ، ولذلك فسره عليه السلام بقوله : أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله فإن لكل من القلب والقالب عملاً مخصوصاً به ، فكما أن الأول أشرف من الثاني فكذا الحال في عمله فكيف لا ولا عمل بدون معرفة الله تعالى الواجبة على العباد وإنما طريقها النظري التفكر في عجائب صنعه ، ولا طاعة بدون فهم الأوامر والنواهي ، وقد روى عن النبي عليه السلام أنه قال : لا تفضلوني على يونس بن متى ، فأنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض قالوا : وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله تعالى الذي هو عمل القلب لأن أحداً لا يقدر على أن يعمل في اليوم بجوارحه مثل عمل أهل الأرض وأما ذات الله تعالى فلا يسعها التفكر.
وفي المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
بي تعلق نيست مخلوقي بدو
آن تعلق هست بيون اي عمو
اين تعلق را خرد ون ره برد
بسته فصلست ووصلست اين خرد
زين وصيت كرد مارا مصطفى
بحث كم جوئيد در ذات خدا
آنكه درذاتش تفكر كردنيست
در حقيقت آن نظر در ذات نيست
هست آن ندار او زيرا براه
د هزا ران رده آمد تا له
وفي التأويلات النجمية الابتلاء على قسمين.
قسم للسعداء وهو بلاء حسن وذلك أن السعيد لا يجعل المكونات مطلبه ومقصده الأصلي بل يجعل ذلك حضرة المولى والرفيق الأعلى ويجعل ما سوى المولى بإذن مولاه وأمره ونهيه وسيلة إلى القربات وتحصيل الكمالات فهو أحسن عملاً ، وقسم للأشقياء وهو بلاء سيء وذلك أن الشقي يجعل المكونات مطلبه ومقصده الأصلي ويتقيد بشهواتها ولذاتها ولم يتخلص من نار الحرص عليها والحسرة على فواتها ويجعل ما أنعم الله عليه به من الطاعات والعلوم التي هي ذريعة إلى الدرجات والقربات وسيلة إلى نيل مقاصده الفانية واستيفاء شهواته النفسانية فهو أسوء عملاً انتهى.
(4/58)
قال حضرة شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة : في بعض تحريراته نية الإنسان لا تخلو إما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو الدنيا فهو سيء نية وعملاً وإما أن يكون متعلقها في لسانه هو الآخرة وفي جنانه هو الدنيا فهو أسوأ نية وعملاً ، وإما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو الآخرة فهو حسن نية وعملاً الآخرة فهو حسن نية وعملاً وإما أن يكون متعلقها في لسانه وجنانه هو وجه الله تعالى فهو أحسن نية وعملاً فالأول حال الكفار والثاني حال المنافقين والثالث حال الأبرار والرابع حال المقربين وقد أشار الحق سبحانه إلى أحوال المقربين عبارة وإلى أحوال غيرهم إشارة في قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً}(الكهف : 7) انتهى باجمال.
قال الحافظ :
صحبت خور نخواهم كه بود عين قصور
باخيال تواكر بادكرى بر دازم
اللهم اجعلنا من الفارين إليك والحاضرين لديك
{وَلَـاـاِن} قلت يا محمد لقومك وهم أهل مكة واللام لام التوطئة للقسم إنكم أيها المكلفون مبعوثون من
100
بعد الموت يعني : يوم القيامة.
ليقولن الذين كفروا منهم وهو جواب القسم وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه إن هذا ما هذا القرآن الناطق بالبعث.
إلا سحر مبين أي : مثله في البطلان فأن السحر لا شك تمويه وتخييل باطل وإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره.
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
{وَلَـاـاِنْ} أخرنا عنهم العذاب الموعود إلى أمة معدودة إلى طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل ليقولن أي : الكفار ما يحبسه أي : أيُّ شيء يمنع العذاب من المجيء والنزول فكأنه يريده فيمنعه مانع وإنما كانوا يقولونه بطريق الاستعجال استهزاء ومرادهم إنكار المجيء والحبس رأساً لا الاعتراف به والاستفسار عن حابسه.
ألا (بدانيد) يوم يأتيهم العذاب كيوم بدر ليس مصروفاً عنهم أي : مدفوعاً عنهم ، يعني : لا يدفعه عنكم دافع بل هو واقع بكم.
ويوم منصوب بخبر ليس ، وهو دليل على جواز تقديم خبر ليس ، على ليس ، فأنه إذا جاز تقديم معمول خبرها عليها كان ذلك دليلاً على جواز تقديم خبرها إذ المعمول تابع للعامل فلا يقع إلا حيث يقع العامل.
وحاق بهم ونزل بهم وأحاط وهو بمعنى يحيق فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه ما كانوا به يستهزئون أي : العذاب الذي كانوا يستعجلون به استهزاء.
واعلم أن السبب الموجب للعذاب كان الاستهزاء ، والباعث على الاستهزاء كان الانكار والتكذيب ، والناس صنفان في طريق الآخرة صنف مبتاع نفسه من عذاب الله تعالى بالإيمان والأعمال الصالحة ، وصنف مهلكها باتباع الهوى وترك الأعمال الصالحة والكفار أمنوا من عذاب الله تعالى وسخطه فوقعوا فيما وقعوا من العذاب العاجل والآجل وفي الحديث القدسي : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين إذا خافني في الدنيا آمنته يوم القيامة وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ولشدة الأمر قال الفضيل بن عياض : إني لا أغبط ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا عبداً صالحاً أليس هؤلاء يعاينون القيامة وأهوالها وإنما أغبط من لم يخلق لأنه لا يرى أحوال القيام وشدائدها.
وعن السرى السقطي : اشتهي أن أموت ببلدة غير بغداد مخافة أن لا يقبلني قبري فأفتضح عندهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 101
فعلى العاقل أن يتدارك أمره قبل حلول الأجل كما قيل : (علاج واقعه يش از وقوع بايدكرد) ويخاف من ربه ويستغفر من ذنبه ويحترز عن الإصرار وفي الحديث : المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزىء بربه والله تعالى يريد من كل جزء من أجزاء الإنسان ما خلقه له فمن القلب المعرفة والتوحيد ، ومن اللسان الشهادة والتلاوة وترك الأذية بالاستهزاء وغيره فمن ترك الوفاء بما تعهد له من استعمال كل عضو فيما خلق هو لأجله فقد تعرض لسخط الله تعالى وعذابه وقد استهزأ أبو جهل بالنبي عليه السلام في بعض الأوقات حيث سار خلفه عليه السلام فجعل يخلج أنفه وفمه يسخر به فاطلع عليه فقال له : كن كذلك فكان كذلك إلى أن مات لعنه الله واستهزأ به عليه السلام عتبة بن أبي معيط فبصق في وجههه فعاد بصاقه على وجهه وصار برصاً ومر عليه السلام بجماعة من كفار أهل مكة فجعلوا يغمزون في قفاه ، ويقولون هذا يزعم أنه نبي وكان معه عليه السلام جبريل فغمز جبريل بأصبعه في أجسادهم فصاروا جروحاً
101
(4/59)
وانتنت فلم يستطع أحد أن يدنو منهم حتى ماتوا وقس عليه التعرض لأهل الحق بشيء مكروه كما يفعله أهل الإنكار في حق سادات الصوفية ولا يدرون أنه يوجب المقت وربما يبتلى أحدهم بمرض هائل في بدنه وهو غافل عن سببه وجهة نزوله به ، وكل عمل لا بدّ وأن يصل جزاؤه إلى عامله في الحال ولكن لا يرى في الدنيا بعين اليقين وإنما يرى في الآخرة إذا قيل له فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ألا ترى أن عذاب البعد واقع لأهل الغفلة والحجاب ، ولكن ما ذاقوا ألمه لأنهم نيام فإذا ماتوا انتبهوا وذاقوا ذلك حساً ، ولئن قلت : للأشقياء موتوا عن الطبيعة باستعمال الشريعة ومزاولة الطريقة لتحيوا بالحقيقة ، فأن الحياة الحقيقة تكون بعد الموت عن الحياة الطبيعية ليقولن الذي ستروا حسن استعدادهم الفطري بتعلق المكونات ومحبتها وهم الأشقياء : أن هذا إلا كلام مموه لا أصل له كما في التأويلات النجمية.
قال السعدي :
بكوى آنه دانى سخن سودمند
وكر هي كس رانيايد سند
كه فردا شيمان بر آرد خروش
كه آوخ را حق نكردم بكوش
وفي المثنوى :
منقبض كردند بعضى زين قصص
زانكه هر مرغى جدا دارد قفص
كود كان كره بيك مكتب درند
در سبق هريك زيك بالاترند
مرك يش ازمرك اينست اي فتى
اين نين فرمود مارا مصطفى
كفت موتوا كلكم من قبل ان
يأتي الموت تموتوا بالفتن
جزء : 4 رقم الصفحة : 101
{وَلَـاـاِنْ} اللام موطئة للقسم أذ قنا الإنسان منا رحمة أي : أعطيناه نعمة من صحة وأمن وجدة وغيرها وأوصلناها إليه بحيث يجد لذتها والمراد مطلق الإنسان وجنسه الشامل للمؤمن والكافر بدلالة الاستثناء الآتي.
وقوله منا حال من رحمة أي : لا باستحقاق منه ثم نزعناها منه أي : سلبنا تلك النعمة منه وأزلناها عنه وإيراد النزع للإشعار بشدة تعلقه بها وحرصه عليها.
قال سعدي المفتى الظاهر : أن من صلة نزعناها ، أي : قلعناها منه ولا يبعد أن يقال : والله أعلم أن من للتعليل يعني : أن منشأ النزع شؤم نفسه بارتكاب معصية الله إنه ليئوس شديد اليأس من أن يعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة قطوع رجاءه من فضل الله تعالى لقلة صبره وتسليمه لقضائه وعدم ثقته به وهو جواب القسم ساد مسد جواب الشرط.
كفور عظيم الكفران لما سلف له من النعم نساء له.
قال السعدي قدس سره :
سكى را لقمه كردادى فراموش
نكرد دكرزنى صد نوبتش سنك
وكر عمري نوازي سفله را
بكمتر تندى آيد باتو درجنك
ومعنى الكفران : إنكار النعمة والمعروف وستره وترك شكره وحمده وعدم الثناء على فاعله ومعطيه.
وفيه إشارة إلى أن النزع إنما كان بسبب كفرانهم.
ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته كصحة بعد سقم وجدة بعد عدم وفرج بعد شدة أضاف سبحانه وتعالى إذاقة النعماء إلى ذاته الكريمة ومس الضراء إليها لا إلى ذاته الجليلة تنبيهاً على أن القصد الأول إيصال الخير إلى العباد تفضلاً منه تعالى ورحمة ومساس الشر ليس إلا لشؤم نفسه وفساد
102
حاله مجازاة وانتقاماً قال الله تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وماأصابك من سيئة فمن نفسك}(النساء : 79) وهذا هو المراد من قول البيضاوي : وفي اختلاف الفعلين نكتة لا تخفى وفي التعبير عن ملابسة الرحمة والنعماء بالذوق الذي هو إدراك الطعم وعن ملابسة الضراء بالمس الذي هو مبدأ الوصول كأنما يلاصق البشرة من غير تأثير تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالانموذج لما يجده في الآخرة.
{لَيَقُولَنَّ} الإنسان ذهب السيئات عني أي : المكاره والمصائب التي ساءتني.
أي : فعلت بي ما أكره ولن يعتريني بعد أمثالها فأن الترقب لورود أمثالها مما يكدر السرور وينغص العيش.
إنه لفرح (شاد مانست مغروريان) وهو اسم فاعل من فعل اللازم.
والفرح إذا اطلق في القرآن كان للذم وإذا كان للمدح يأتي مقيداً بما فيه خير كقوله تعالى : {فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} كذا في حواشي سعدي المفتي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 102
يقول الفقير يرده قوله تعالى : {إِذَا فَرِحُوا بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَـاهُم بَغْتَةً} (الأنعام : 44) والظاهر أن كونه للمدح أو للذم إنما هو بحسب المقام والقرائن.
واعلم أن الفرح بالنعمة ونسيان المنعم فرح الغافلين والعطب إلى هذا أقرب من السلامة والإهانة أوفي من الكرامة.
قال حضرة شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة : في بعض "تحريراته" هو المحبوب لذاته لا لعطائه وعطاؤه محبوب لكونه محبوباً لا لنفسه ونحبه ونحب عطاءه لحبه انتهى باجمال ، يشير قدس سره إلى الفرح بالله تعالى على كل حال {فَخُورٌ} على الناس بما أوتي من النعم مشغول بذلك عن القيام بحقها.
قال السعدي قدس سره :
و منعم كند سفله را روزكار
نهد بردل تنك درويش بار
و بام بلندش بودخود رست
كندبول وخاشاك بربام ست
وقال :
كه اندر نعمتي مغرور وغافل
كهى ازتنك دستى خسته وريش
و درسرا وضرا حالت اينست
ندانم كى بحق بردازى ازخويش
(يعني كى فارغ شوى ازخود وبحق مشغول شوى).
(4/60)
جزء : 4 رقم الصفحة : 102
{إِلا الَّذِينَ} (مكر آنان كه) والاستثناء متصل صبروا على الضراء إيماناً بقضاء الله وقدره وفي الحديث : ثلاثة لا تمسهم فتنة الدنيا والآخرة ، المقر بالقدر ، والذي لا ينظر بالنجوم والمتمسك بسنتي ومعنى الإيمان بالقدر أن يعتقد أن الله تعالى قدر الخير والشر قبل خلق الخلق وأن جميع الكائنات بقضائه وقدره وهو مريد لها كلها وأما النظر في النجوم فقد كان حقاً في زمن إدريس عليه السلام ، يدل عليه قوله تعالى خبراً عن إبراهيم عليه السلام : فنظر نظرة في النجوم فقال : إني سقيم استدل بالنظر في النجوم على أنه سيسقم ثم نسخ في زمن سليمان عليه السلام كما في بحر الكلام.
وفي كتاب تعليم المتعلم علم النجوم بمنزلة المرض فتعلمه حرام لأنه يضر ولا ينفع والهرب من قضاء الله تعالى وقدره غير ممكن انتهى.
فينبغي أن لا يصدق أهل النجوم فيما زعموا أن الاجتماعات والاتصالات الفلكية تدل على حوادث معينة وكوائن مخصوصة في هذا العالم.
قال العماد الكاتب : أجمع المنجمون في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة في جميع البلاد
103
على خراب العالم في شعبان عند اجتماع الكواكب الستة في الميزان بطوفان الريح وخوّفوا بذلك ملوك الأعاجم والروم فشرعوا في حفر مغارات ونقلوا إليها الماء والأزواد وتهيئوا ، فلما كانت الليلة التي عينها المنجمون للخراب بمثل ريح عاد ، كنا جلوساً عند السلطان والشموع تتوقد فلا تتحرك ولم نر ليلة مثلها في ركودها ذكره الامام اليافعي وقال : في إنسان العيون أول من استخرج علم النجوم إدريس عليه السلام ، أي : علم الحوادث التي تكون في الأرض باقتران الكواكب.
قال الشيخ محيي الدين بن العربي قدس سره : وهو علم صحيح لا يخطىء في نفسه وإنما الناظر في ذلك هو الذي يخطىء لعدم استيفائه النظر انتهى ، وعملوا الصالحات شكراً لنعمائه الظاهرة والباطنة أو السالفة والآنفة والعمل الصالح هو ما كان لوجه الله تعالى.
وعن عمر رضي الله عنه الشكر والصبر مطيتان ما باليت أيهما أركب يشير رضي الله عنه إلى أن كل واحد من طريق الصبر والشكر موصل إلى الله تعالى أولئك الموصوفون بتلك الصفات الحميدة لهم مغفرة عظيمة لذنوبهم وأن جمت وأجر ثواب لأعمالهم الحسنة كبير أقله الجنة كما في تفسير البيضاوي وهو الجنة كما في الكواشي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 103
قال سعدي المفتي : وصف الأجر بقوله كبير لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف والأمن من العذاب ورضى الله عنهم والنظر إلى وجهه الكريم انتهى.
يقول الفقير الظاهر أن المراد بالأجر الكبير هو الجنة لأن نعم الله تعالى أدناها متاع الدنيا وأعلاها رضوان الله لقوله : ورضوان من الله أكبر}(التوبة : 72) وأوسطها الجنة ونعيمها فإذا وصف الرضى بالأكبرية لزم أن توصف الجنة بالكبيرية.
قال الكاشفي : (شيخ الإسلام فرموده كه درجنت نعمتي هست كه همه نعيم بهشتي در جنب آن محقر ومختصر باشد يعني مشاهده أنوار لقاي خدا).
مارا بهشت بهر لقاي تودر خورست
بي رتو جمال توجنت محقرست
وفي الآيتين إشارتان : الأولى : أن من ذاق طعم بعض المقامات الإلهية وشهد بعض المشاهد الربانية ثم نزع ذلك منه بشؤم خطاياها وسوء أدبه ينبغي أن لا ييأس من روح الله ولا يكفر بنعمته كإبليس ، بل إذا ابتلى بسدل الحجاب ورد الباب كان من شرط عبوديه أن يرجع إلى ربه معترفاً بظلمه على نفسه كآدم عليه السلام ليجتبيه ربه فيتوب عليه ويهديه ، فإن من رحمة الله ونعمته على عبده أنه إذا أسرف على نفسه ثم تاب ورجع إلى ربه وجده غفوراً رحيماً ، والثانية : أن من ذاق برد العفو وحلاوة الطاعة ينبغي أن لا يقول صرت معصوماً مطهراً مرفوع الحجاب فتعجبه نفسه فينظر إليها بنظر الإعجاب وينظر إلى غيره بنظر الحقارة ويأمن مكر الله فهو في كلتا الحالتين مذموم في حالة اليأس وكفران النعمة وفي حالة الإعجاب بنفسه وأمنه من مكر الله.
قال الحافظ :
زاهد غرور داشت سلامت نبرد راه
رند ازره نياز بدار السلام رفت
وقال :
زاهد ايمن مشو ازبازى غيرت زنهار
كه ره ازصومعه تادير مغان اين همه نيست
فالآيتان تناديان على النفس الأمارة بصفاتها الرذيلة فلا بد من معالجتها وإصلاحها بما أمكن من المجاهدات أصلحها الله سبحانه وتعالى.
{فَلَعَلَّكَ تَارِكُا بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} روى
104
(4/61)
أن مشركي مكة لما قالوا : ائت بقرآن غير هذا ليس فيه سب آلهتنا ولا مخالفة آبائنا همّ النبي عليه السلام أن يدع سب آلهتهم ظاهراً فنزل الله تعالى هذه الآية ، ولعل إما للترجي ومعناه توقع أمر مرجو لا وثوق بحصوله كقوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وإما للإشفاق وهو توقع أمر مخوف كقوله تعالى : {لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (الشورى : 17) والرجاء والإشفاق يتعلقان بالمخاطبين دون الله سبحانه والمراد هنا إما الأول فالمعنى لعظم ما يرد على قلبك من تخليطهم تتوهم أنهم يزيلونك عن بعض ما أنت عليه من تبليغ ما أوحي إليك ولا يلزم من توقع الشيء وجود ما يدعو إليه ووقوعه لجواز أن يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرسل عن الخيانة في الوحي والثقة في التبليغ ههنا وأما الثاني فالمعنى أشفق على نفسك أن تترك تبليغ ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأى المشركين مخافة ردهم له واستهزائهم وهو أوجه من الأول كما في "بحر العلوم" للسمرقندي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 103
قال الكاشفي : {فَلَعَلَّكَ تَارِكُ} (س شايدكه توترك كننده باشى.
امام ماتريدي رحمه الله ميكويد استفهام بمعنى نهى است : يعني ترك مكن) وضائق به صدرك أي : عارض لك ضيق صدر بتلاوته عليهم وتبليغه إليهم في أثناء الدعوة والمحاجة ، وضمير به يعود إلى بعض ما يوحى وعدل عن ضيق إلى ضائق ليدل على أنه كان ضيقاً عارضاً غير ثابت وٌّ رسول الله كان أفسح الناس صدراً ونحوه فلان سائد لمن عرضه له السودد وسيد لمن هو عريق فيه.
أن يقولوا أي : مخافة أن يقولوا مكذبين لولا انزل عليه هلا القى عليه كنز مال من السماء يستعين به في أموره وينفقه في الاستتباع كالملوك.
قال ابن الشيخ : كنز أي : مال كثير من شأنه أن يجعل كنزاً أي : مالاً مدفوناً فإن الكنز اسم للمال المدفون فهو لا ينزل ، فوجب أن يكون المراد به ههنا ما يكنز وقد جرت العادة بأن يسمى المال الكثير بهذا الاسم.
أو جاء معه ملك يشهد له على صدق قوله ويعينه على تحصيل مقصوده فتزول الشبهة عن أمره ، كما قال رؤساء مكة : يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهباً أن كنت رسولاً ، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة ليشهدوا بنبوتك ، إنما أنت نذير ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك ، ولا عليك ردوا أو تهكموا أو اقترحوا فما بالك يضيق به صدرك والله على كل شيء وكيل فتوكل عليه فأنه عالم بحالهم وفاعل بهم جزاء أقوالهم وأفعالهم.
قال الكواشي : تلخيصه أدّ الرسالة غير ملتفتٍ إليهم فإني حافظك وناصرك عليهم.
درشبى مهتاب مه را برسماك
زسكان وعوعو ايشان ه باك
قال في المفاتيح : الوكيل : القائم بأمور العباد وتحصيل ما يحتاجون إليه.
وقيل : الموكول إليه تدبير البرية وحظ العبد منه أن يكل إليه ويتوكل عليه ويلقي بالاستعانة إليه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 103
{أَمْ يَقُولُونَ} افتريه الضمير راجع إلى ما يوحى إليك ، وأم منقطعة مقدرة ببل والهمزة ومعنى الهمزة فيه التوبيخ والإنكار ، والتعجب أما التوبيخ فكأنه قيل : أيتها لكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء ثم إلى الاقتدار على الذي هو أعظم الفرى وأفحشها إذ يقوله ويفتريه على الله ولو قدر عليه دون عامة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة ، وإذا كانت معجزة كان تصديقاً من الله له والعليم الحكيم لا يصدق الكاذب فلا يكون مفترياً ، والمعنى : بل أيقولون افتراه وليس من عند الله.
قل أن كان الأمر كما تقولون :
105
فائتوا أنتم أيضاً بعشر سور مثله في البلاغة وحسن النظم ، قال : هنا بعشر ، وفي يونس والبقرة بسورة ؛ لأن نزول هذه السورة الكريمة مقدم عليهما لأنهم تحدوا أولاً بالإتيان بعشر فلما عجزوا تحدوا بسورة واحدة.
وقوله ، مثله نعت لسور أي أمثال ، وتوحيده باعتبار كل واحد.
وقال سعدي المفتي : ولا يبعد أن يقال : أنه صفة للمضاف المقدر ، فأن المراد بقدر عشر سور مثله والله أعلم.
مفتريات صفة أخرى لسور.
والمعنى فائتوا بعشر سور مماثلة له في البلاغة مختلقات من عند أنفسكم أن صح أني اختلقته من عند نفسي فإنكم فصحاء مثلي تقدرون على ما أقدر عليه بل أنتم أقدر لتعلمكم القصص والأشعار وتعودكم النثر والنظم.
وفي الآية : دلالة قاطعة على أن الله تعالى لا يشبهه شيء في صفة الكلام وهو القرآن كما لا يشبهه بحسب ذاته.
وادعوا للاستظهار في المعارضة.
من استطعتم دعاءه والاستعانة به من آلهلتكم التي تزعمون أنها ممدة لكم ومدارهكم التي تلجأون إلى آرائهم في الملمات ليسعدوكم فيها من دون الله أي : حال كونكم متجاوزين الله تعالى إن كنتم صادقين في إني افتريته فإن ما افترى إنسان يقدر إنسان آخر أن يفتري مثله.
فإن لم يستجيبوا لكم الضمير في لكم للرسول عليه السلام وجمع للتعظيم ، أو له وللمؤمنين لأنهم اتباع له عليه السلام في الأمر بالتحدي وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم أن لا ينفكوا عنه ويناصبوا معه لمعارضة المعاندين كما كانوا يفعلونه في الجهاد.
(4/62)
جزء : 4 رقم الصفحة : 105
قال سعدي المفتي : اختلف في تناول خطاب النبي عليه السلام لأمته فقال الشافعية : لا ، وقال الحنفية : والحنابلة نعم إلا ما دل الدليل فيه على الفرق انتهى.
والمعنى فإن لم يستجب هؤلاء المشركون لكم يا محمد ويا أصحاب محمد عليه السلام ، أي : ما دعوتموهم إليه من معارضة القرآن وإتيان عشر سور مثله وتبين عجزهم عنه بعد الاستعانة بمن استطاعوا بالاستعانة منه من دون الله تعالى فاعلموا إنما أنزل بعلم الله ما في أنما كافة وضمير انزل يرجع إلى ما يوحى وبعلم الله حال أي : ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله تعالى من المزايا والخواص والكيفيات.
وقال الكاشفي : (يعني ملتبس بعلمي كه خاصه اوست وآن علمست بمصالح عباد وآنه ايشانرا بكار آيد در معاش ودر معاد).
وقال في التأويلات النجمية : بعلم الله لا بعلم الخلق فإن فيه الأخبار عما سيأتي وهو بعد في الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله انتهى ، والمراد الدوام والثبات على العلم أي : فدوموا أيها المؤمنون واثبتوا على العلم الذي أنتم عليه لتزدادوا يقيناً وثبات قدم على أنه منزل من عند الله وأنه من جملة المعجزات الدالة على صدقه عليه السلام في دعوى الرسالة.
وأن لا إله إلا هو أي : ودوموا على هذا العلم أيضاً ، يعني : هو ينزل الوحي وليس أحد ينزل الوحي غيره لأنه الإ له ولا إله غيره ، فهل أنتم مسلمون ثابتون على الإسلام راسخون فيه ، أي : فاثبتوا عليه في زيادة الإخلاص.
وفي الآيات أمور : منها : أن الوحي على ثلاثة أنواع ، نوع أمر عليه السلام بكتمانه إذ لا يقدر على حمله غيره ، ونوع خير فيه ، ونوع أمر بتبليغه إلى العام والخاص من الأنس والجن وهو ما يتعلق بمصالح العباد من معاشهم ومعادهم فلا يجوز تركه وأن ترتب عليه مضرة وضاق به الصدر وسبيل تبليغ الرسالة هو اللسان فلا رخصة في الترك وأن خاف.
قال صاحب التيسير : فهذا دليل قولنا في المكره على الطلاق والعتاق إن تكلم به نفذ لأن تعلق ذلك باللسان
106
لا بالقلب والإكراه لا يمنع فعل اللسان فلا يمنع النفاذ انتهى.
وفي الحديث : أن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً فأوحى الله تعالى إلي إن لم تبلغ رسالتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت ويدخل فيه العلماء الآمرون بالمعروف والناهون عن النمكر فأنهم إذا عملوا بما علموا وتصدوا للتبليغ وخافوا الله دون غيره فأن الله تعالى يحفظهم من كيد الأعداء حكى أن زاهداً كسر خوابي الخمر لسليمان بن عبد الملك الخليفة وأتى به يعاقبه وكان للخليفة بغلة تقتل من ظفرت به ، واتفق رأى وزرائه أن يلقى الزاهد بين يدي البغلة فألقي بين يديها فخضعت له فلم تقتله ، فلما أصبحوا نظروا إليه فإذ هو صحيح فعلموا أن الله تعالى حفظه فاعتذروا إليه وخلوا سبيله :
جزء : 4 رقم الصفحة : 105
كرت نهى منكر بر آيد زدست
نشايد جوبى دست وابان نشست
ومنها أن المؤمنين ينبغي أن يعاونوا أئمتهم ومن اقتدى بهم في تنفيذ الحق وإجرائه وإلزام الخصم وإسكاته كما كان الأصحاب رضي الله عنهم يفعلون ذلك برسول الله في الجهاد وغيره من الأمور الدينية وفي الحديث : المؤمن للمؤمن كبنيان يشد بعضه بعضاً يعني : المؤمن لا يتقوى في أمر دينه ودنياه إلا بمعونة أخيه كما أن بعض البناء يقوى ببعضه وفيه حث على التعاضد في غير الإثم كذا في شرح المشارق لابن الملك ، وكان النبي يضع لحسان منبراً في المسجد فيقوم عليه يهجو من كان يهجو رسول الله ويدفع عن المسلمين ويقويهم على المشركين وكان روح القدس أي : جبريل يمده بالجواب ويلهمه الصواب.
هجا كفتن اره سنديده نيست
مبادا كسى كآلت آن ندارد
ه آن شاعري كوهجا كونباشد
وشيرى كه نكال ودندان ندارد
ومنها لزوم الثبات على التوحيد ومن علاماته التكرير باللسان جهراً وإخفاء ، جمعية وانفرادا وفي الحديث : جددوا إيمانكم والمراد الانتقال من مرتبة إلى مرتبة فأن أصل الإيمان قديم بالأول كما في الواقعات المحمودية.
قال المولى الجامي قدس سره :
دلت آيينه خداي نماست
روى آيينه توتيره راست
صيقلى دار صيقلى ميزن
باشد آيينه ات شود روشن
صيقل آن اكرنه آكاه
نيست جز لا إله إلا الله
وفي الحديث : من مات وهو يدعو من دون الله نداْ دخل النار ، ومن مات يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة.
واعلم أن كلمة هو في قوله تعالى : لا إله إلا هو اسم تام بمنزلة لفظة الجلالة ولذا جعلها الصوفية قدس الله أسرارهم ورداً الهم في بعض أوقاتهم.
قال : في فتح القريب : من خواص اسم الله أنك إذا حذفت من خطه حرفاً بقي دالاً على الله تعالى فأن حذفت الألف بقيوأن حذفت اللام الأولى وأبقيت الألف بقي إله ، وأن حذفتهما معاً بقي له ملك السموات والأرض ، وأن حذفت الثلاثة بقي هو الله الحي القيوم لا إله إلا هو انتهى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 105
{مَن كَانَ} (هركه باشدكه ازدنائت همت) وكان صلة ، أي : زائدة كما في التبيان.
(4/63)
وقال في الإرشاد : للدلالة على الاستمرار يريد بما عمله من أعمال البر والإحسان الحيوة الدنيا وزينتها أي : ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن
107
والسعة في الرزق وكثرة الأولاد والرياسة وغير ذلك لا وجه الله تعالى ، والمراد بالإرادة ما يحصل عند مباشرة الأعمال لا مجرد الإرادة القلبية لقوله تعالى : نوف إليهم أعمالهم فيها أي : نوصل إليهم ثمرات أعمالهم في الحياة الدنيا كاملة وليس المراد بأعمالهم أعمال كلهم ، فأنه لا يجد كل متمن ما تمناه فأن ذلك منوط بالمشيئة الإلهية كما قال تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد}(الإسراء : 18) ولا كل أعمالهم بل بعضها الذي يترتب عليه الأجر والجزاء {وَهُمْ فِيهَا} أي : في الحياة الدنيا لا يبخسون لا ينقصون شيئاً من أجورهم.
أولئك المريدون للحياة الدنيا وزينتها الموفون فيها ثمرات أعمالهم من غير بخس.
الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار لأن هممهم كانت مصروفة إلى الدنيا وأعمالهم مقصورة على تحصيلها فقد اجتنبوا ثمراتها فلم يبق في الآخرة إلا العذاب المخلد.
وحبط ما صنعوا فيها يعني : بطل ثواب أعمالهم التي صنعوها في الدنيا لأنها لم تكن لوجه الله تعالى والعمدة في اقتضاء ثواب الآخرة هو الإخلاص وباطل (ونايزاست) في نفس الأمر ما كانوا يعملون رياء وسمعة ، فقوله : باطل خبر مقدم وما كانوا يعملون مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية معطوفة على الفعلية قبلها.
والآية في حق الكفار كما يفصح عنه الحصر في كينونة النار لهم.
واعلم : أن حسنات الكفار من البر وصلة الرحم والصدقة وبناء القناطر وتسوية الطرق والسعي في دفع الشرور وأجراء الأنهار ونحو ذلك مقبولة بعد إسلامهم يعني : يحسب ثوابها ولا يضيع.
وأما قبل الإسلام فانعقد الإجماع على أنهم لا يثابون على أعمالهم بنعيم ولا تخفيف عذاب لكن يكون بعضهم أشد عذاباً من بعض بحسب جرائمهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 107
وذكر الامام الفقيه أبو بكر البيهقي أنه يجوز أن يراد بما في الآيات والأخبار من بطلان خيرات الكفار أنهم لا يتخلصون بها من النار ولكن يخفف عنهم ما يستوجبونه بجنايات ارتكبوها سوى الكفر ووافقه المازري كما في شرح المشارق لابن الملك.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في أهل الرياء من أهل القبلة فمعنى قوله تعالى : ليس لهم في الآخرة إلا النار ليس يليق لهم إلا النار ولا يستحقون بسبب الأعمال الريائية إلا إياها ، كقوله تعالى : فجزاؤهم جهنم وجائز أن يتغمدهم الله برحمته فليس في الآية دلالة على الخلود والعذاب البتة ، والظاهر أن الآية عامة لأهل الرياء مؤمناً كان أو كافراً أو منافقاً كما في زاد المسير والرياء مشتق من الرؤية وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس برؤيتهم خصال الخير كما في فتح القريب.
وفي الحديث : أن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : الرياء يقول الله عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟.
مرايي هر كسى معبود سازد
مرايى را ازان كفتند مشرك
قال في شرح الترغيب المشرك يطلق على كل كافر من عابد وثن وصنم ومجوسي ويهودي ونصراني ومرتد وزنديق وعلى المرائي وهو الشرك الأصغر والشرك الخفي يقال : للقراء من أهل الرياء أردت أن يقال : فلان قارىء فقد قيل ذلك ولمن وصل الرحم وتصدق فعلت حتى يقال : فقيل ولمن قاتل فقتل قاتلت حتى يقال : فلان جريىء فقد قيل ذلك فهؤلاء الثلاثة أول خلق تسعر بهم
108
النار كما في الحديث : ويصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء السابعة من صلاة وصوم ونفقة واجتهاد وورع فيقول لهم الملك الموكل بها اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه فأنه أراد بعمله غير الله تعالى ويصعد الحفظة بعمله من صلاة وزكاة وصوم وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر الله ويشيعه ملائكة السموات حتى يقطعون الحجب كلها فيقول لهم الله تعالى أراد به غيري فعليه لعنتي فيقول الملائكة كلها عليه لعنتك ولعنتنا ويلعنه السموات السبع ومن فيهن كما ورد في الحديث قال الحافظ :
كوييا باورنمى دارند روزداورى
كين همه قلب ودغل دركار داور ميكنند
قال الفضيل : ترك العمل لأجل الناس رياء ، والعمل لأجل الناس شرك والإخلاص الخلاص من هذين ، معنى كلامه أن من عزم على عبادة الله تعالى ثم تركها مخافة أن يطلع الناس عليه فهو مراىء لأنه لو كان عملهتعالى لم يضره اطلاع الناس عليه ومن عمل لأجل أن يراه الناس فقد أشرك في الطاعة ويستثنى من كلامه مسألة لا يكون ترك العمل فيها لأجل الناس رياء وهي إذا كان الشخص يعلم أنه متى فعل الطاعة بحضرة الناس آذوه واغتابوه فأن الترك من أجلهم لا يكون رياء بل شفقة عليه ورحمة كما في فتح القريب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 107
(4/64)
وقال في شرح الطريقة : من مكايد الشيطان أن الرجل قد يكون ذا ورد كصلاة الضحى والتهجد وتلاوة القرآن والأدعية المأثورة فيقع في قوم لا يفعلونه فيتركه خوفاً من الرياء ، وهذا غلط منه ، إذ مداومته السابقة دليل الإخلاص فوقوع خاطر الرياء في قلبه بلا اختيار ولا قبول ، لا يضر ولا يخل بالإخلاص فترك العمل لأجله موافقة للشيطان وتحصيل لغرضه نعم عليه أن لا يزيد على معتاده أن لم يجد باعثاً وقد يترك لا خوفاً من الرياء ، بل خوفاً من أن ينسب إليه ويقال : أنه مراىء وهذا عين الرياء لأنه تركه خوفاً من سقوط منزلته عند الناس ، وفيه أيضاً سوء الظن بالمسلمين ، وقد يقع في خاطره أن تركه لأجل صيانتهم من الغيبة لا لأجل الفرار من المذمة وسقوط المنزلة ، وهذا أيضاً سوء الظن بهم إذ صيانة الغير من المعصية أنما يكون في ترك المباحات دون السنن والمستحبات انتهى كلامه.
قال في التأويلات النجمية : وحبط ما صنعوا من أعمال الخير فيها في الدنيا للدنيا وباطل ما كانوا يعملون من الأعمال وإنك كانت حقاً لأنهم عملوها لغير وجه الله وهو باطل وبه يشير إلى أن كل من يعمل عملاً يطلب به غير الله فإن عمله ومطلوبه باطل كما قال : أن أصدق كلمة قالتها العرب : ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدسنا الله بسره الأطهر : اعلم أن الموجودات كلها وأن وصفت بالباطل فهي حق من حيث الوجود ، ولكن سلطان المقام إذا غلب على صاحبه يرى ما سوى الله تعالى باطلاً من حيث أنه ليس له وجود من ذاته فحكمه حكم العدم ، وهذا معنى قولهم قوله باطل أي : كالباطل ، لأن العالم قائم بالله لا بنفسه فهو من هذا الوجه باطل ، والعارف إذا وصل إلى مقامات القرب في بداية عرفانه ربما تلاشت هذه الكائنات وحجب عن شهودها بشهود الخلق لأنها زالت من الوجود بالكلية ، ثم إذا كمل عرفانه شهد الحق تعالى والخلق معاً في آن واحد وما كل أحد يصل إلى هذا المقام فإن غالب الناس أن شهد الخلق لم يشهد الحق وأن شهد الحق لم يشهد الخلق ولا يدرك الوحدة إلا من أدرك اجتماع الضدين ولعل
109
من المشهد الأول قول الاستاذ الشيخ أبي الحسن البكري قدس سره : أستغفر الله مما سوى الله تعالى ؛ لأن الباطل يستغفر من إثبات وجوده لذاته كذا في إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون.
قال الشيخ المغربي :
سايه هستى مى نمايد ليك اندر اصل نيست
نيست را ازهست اربشناختى يابى نجات
وقال أيضاً :
جزء : 4 رقم الصفحة : 107
بيدار شواز خواب كه اين جمله خيالات
اندر نظر ديده بيدار ون خوابيست
نسأل الله سبحانه أن يكشف القناع عن وجه المقصود ويتجلى لنا بجماله في وجه كل مظهر وموجود وهو الرحيم الودود ذو الفضل والفيض والجود.
جزء : 4 رقم الصفحة : 107
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} الهمزة للإنكار والبينة الحجة والبرهان ، وعلى للاستعلاء المجازي ، وهو الاستيلاء والاقتدار على إقامتها والاستدلال بها ، ومن شرطية أو موصولة مبتدأ حذف خبره والتقدير أفمن كان على برهان ثابت من ربه يدل على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره وهو كل مؤمن مخلص كمن ليس على بينة يعني : سواء ، بل الأول على السعادة وحسن العاقبة والثاني على الشقاوة وسوء الخاتمة ويتلوه من التلو وهو التبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل فتذكير الضمير الراجع إلى البينة إنما هو بتأويل.
شاهد منه أي : شاهد من الله تعالى يشهد بصحته وهو القرآن ومن قبله أي : ومن قبل القرآن الشاهد كتاب موسى وهو التوراة فإنها أيضاً تتلو ذلك البرهان في التصديق إماماً كتاباً مؤتماً به في الدين ومقتدى وانتصابه على الحال ورحمة أي : نعمة عظيمة على من أنزل إليهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامه الباقية المؤيدة بالقرآن العظيم.
قال في إنسان العيون : التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع بخلاف ما قبله من الكتب فأنها لم تشتمل على ذلك وإنما كانت مشتملة على الإيمان بالله وتوحيده ومن ثمة قيل لها صحف وإطلاق الكتب عليها مجاز انتهى أولئك إشارة إلى من كان على بينة.
يؤمنون به أي : يصدقون بالقرآن.
ومن يكفر به (وهركه كافر شود بقرآن) من الأحزاب من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله يقا : ل تحزبوا عليه أي : اجتمعوا فالنار موعده أي : مكان وعده الذي يصير إليه وفي جعلها موعداً إشعار بأن له فيها ما يوصف من أفانين العذابفلا تك في مرية منه أي : في شك من أمر القرآن وكونه من عند الله إنه الحق من ربك الذي يربيك في دينك ودنياك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بأن ذلك حق لا شبهة فيه إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم ، وإما لعنادهم واستكبارهم ، هذا ما اختاره البيضاوي وتبعه في ذلك أكثر المفسرين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 110
(4/65)
وقال المولى أبو السعود في الإرشاد : ما حاصله أن المراد بالبينة البرهان الدال على حقية الإسلام وهو القرآن والكون على بينة من الله عبارة عن التمسك بها ويتلوه ، أي : يتبعه شاهد من القرآن شهيد بكونه من عند الله وهو إعجازه وما وقع فيه من الأخبار بالغيب أو شاهد من الله تعالى كالمعجزات الظاهرة على يديه عليه السلام ، ولما كان المراد بتلو الشاهد للبرهان إقامة الشهادة بصحته وكونه من عند الله تعالى تابعاً له بحيث لا يفارقه في مشهد من المشاهد ، فإن القرآن بينة باقية على وجه الدهر مع شاهدها
110
الذي يشهد بأمرها إلى يوم القيامة عند كل مؤمن وجاحد.
عطف كتاب موسى في قوله تعالى : ومن قبله كتاب موسى على فاعله مع كونه مقدماً عليه في النزول فكأنه قيل أفمن كان على بينة من ربه ويشهد به شاهد آخر من قبل هو كتاب موسى.
وقال في التأويلات النجمية : وحمل الآية في الظاهر على النبي وأبي بكر أولى وأحرى فإنه عليه السلام كما كان على بينة من ربه ، كان أبو بكر شاهداً يتلوه بالإيمان والتصديق يدل عليه قوله : والذي جاء بالصدق}(الزمر : 33) يعني : النبي عليه السلام وصدق به يعني : أبا بكر رضي الله عنه وهو الذي كان ثانيه في الغار وتاليه في الإمامة في مرضه عليه السلام حين قال : "مروا أبا بكر فليصل بالناس" وكان تاليه بالخلافة بإجماع الصحابة وكان منه حيث قال صلى الله عليه وسلّم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما : "إنهما مني بمنزلة السمع والبصر".
{وَمِن قَبْلِهِ} أي : من قبل أبي بكر وشهادته بالنبوة كان كتاب موسى وهو التوراة إماماً يأتم به قومه بعده ، وفي أيام محمد كما ائتم به عبد الله بن سلام وسلمان وغيرهما من أحبار اليهود ؛ ولأنه كان فيه ذكر النبي بالنبوة والرسالة.
ورحمة أي : الكتاب كان رحمة لأهل الرحمة وهي الذين يؤمنون بالكتاب وبما فيه كما قال : أولئك يؤمنون به يعني : أهل الرحمة ومن يكفر به أي : بالكتاب وبما فيه من الأحزاب أي : حزب أهل الكتاب وحزب الكفار وحزب المنافقين وأن زعموا أنهم مسلمون لأن ؛ الإسلام بدعوى اللسان فحسب ، وإنما يحتاج مع دعوى اللسان إلى صدق الجنان وعمل الأركان.
فلاتك في مرية منه أي : من أن يكون الكافر بك وبما جئت به من أهل النار ، لأن الإيمان بك إيمان بي وأن طاعتك طاعتي فلا يخطرن ببالك إأني من سعة رحمتي لعلي أرحم من كفر بك كائناً من كان ؛ فإني لا أرحمهم لأنهم مظاهر قهري.
إنه الحق من ربك أي : يكون له مظاهر صفات القهر كما يكون له مظاهر صفات اللطف.
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بصفات قهره كما يؤمنون بصفات لطفه لرجائهم المذموم ولغرورهم المشئوم بكرم الله فإنه غرهم بالله وكرمه الشيطان الغرور انتهى.
قال الحافظ :
جزء : 4 رقم الصفحة : 110
در كار خانه عشق از كفرنا كزيرست
آتش كرابسوز دكر بو لهب نباشد
واعلم أن حضرة القرآن إنما نزل لتمييز أهل اللطف وأهل القهر فهو البرهان النير العظيم الشان ، وبه يعلم أهل الطاعة من أهل العصيان ، ولما كان الكلام صفة من الصفات القديمة له تعالى قال أهل التأويل في إشارة قوله : أفمن كان على بينة من ربه أي : كشف بيان من تجلى صفة من صفات ربه.
ويتلوه شاهد منه أي : ويتبع الكشف شاهد من شواهد الحق فإن الكشف يكون مع الشهود ويكون بلا شهود.
والمعنى أفمن كان على بينة من كشوف الحق وشواهده كمن كان على بينة من العقل والنقل مع احتمال السهو والغلط فيها ولذا.
قال الحافظ :
عشق ميورزم واميدكه اين فن شريف
ون هنرهاى دكر موجب حرمان نوشد
وقال الصائب :
طريق عقل را بر عشق رجحان مى دهد زاهد
عصايى بهتر ازصد شمع كافورست اعمى را
وقال :
جمعى كه شت كرم بعشق ازل نيند
نازسمور ومنت سنجاب ميكشند
111
جعلنا الله وإياكم من المستبصرين لشواهد الحق وأوصلنا وإياكم إلى شهود النور المطلق وحشرنا وإياكم تحت لواء الفريق الأسبق.
(4/66)
ومن أظلم أي : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا بأن نسب إليه ما لا يليق به كقولهم للملائكة : بنات الله وقولهم لآلهتهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله أولئك المفترون يعرضون على ربهم المراد عرضهم على الموقف المعد للحساب والسؤال ، وحبسهم فيه إلى أن يقضي الله تعالى بين العباد ، لأنه تعالى ليس في مكان حتى يعرضون عليه وأسند لعرض إليهم والمقصود عرض أعمالهم ، لأن عرض العامل بعمله وهو الافتراء هنا أفظع من عرض عمله مع غيبته ويقول الأشهاد عند العرض وهم الملائكة والنبيون والمؤمنون جمع شاهد أو شهيد كأصحاب وأشراف هؤلاء الذين كذبوا على ربهم المحسن إليهم والمالك لنواصيهم بالافتراء عليه وهؤلاء إشارة إلى تحقيرهم وإصغارهم بسوء صنيعهم ألا لعنة الله عذابه وغضبه على الظالمين بالافتراء المذكور وفي الحديث : أن الله تعالى يدنى المؤمن يوم القيامة فيستره من الناس فيقول أيك عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا فيقول نعم يا رب فإذا قرره بذنوبه قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم ثم يعطي كتاب حسناته وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين يفضحونهم بما كانوا عليه في الدنيا ويبينون أنهم ملعونون عند الله بسبب ظلمهم وفي الحديث : من سمع سمع الله بهأي : من أظهر عمله للناس رياء أظهر الله نيته الفاسدة في عمله يوم القيامة وفضحه على رؤوس الإشهاد وهم الملائكة الحفظة.
وقيل : عموم الملائكة.
وقيل : عموم الخلائق أجمعين ثم وصفهم بالصد فقال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 110
الذين يصدون أي : يمنعون كل من يقدرون على منعه بالتحريف وإدخال الشبه.
عن سبيل الله عن دين الله وطريق طاعته ويبغونها عوجاً السبيل مؤنث سماعي ، فلذلك أنث ضمير يبغونها يقال : بغيت الشيء طلبته وبغيتك خيراً أو شراً ، أي : طلبت لك أي : ويصفونها بالانحراف عن الحق والصواب فيكون من قبيل إطلاق اسم السبب على المسبب.
قال : في الإرشاد وهذا شامل لتكذيبهم بالقرآن وقولهم أإنه ليس من عند الله وهم بالآخرة هم كافرون أي : يصفونها بالعوج والحال أنهم كافرون بها لا أنهم مؤمنون بها ويزعمون أن لها سبيلاً سوياً يهدون الناس إليه وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به ، كأن كفر غيرهم ليس بشيء عند كفرهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 110
[يونس : 26-21]{وَمِن قَبْلِهِ} لم يكونوا معجزين الله تعالى أن يعاقبهم لو أراد عقابهم في الأرض مع سعتها وأن هربوا منها كل مهرب.
وما كان لهم من دون الله من أولياء ينصرونهم ويمنعونهم من العقاب ولكن أخر ذلك إلى اليوم تحقيقاً للإمهال كما قال تعالى : {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطلاق : 17) والجمع باعتبار أفراد الكفرة كأنه قيل وما كان لأحد منهم من ولي {يُضَـاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} ستئناف كأنه قيل هؤلاء الذين شأنهم ذلك ما مصير أمرهم وعقبى حالهم؟ فقيل يضاعف لهم عذاب الأبد ضعفين.
ما كانوا يستطيعون السمع النافع وما كانوا يبصرون الحق والآيات النمصوبة في الأنفس والآفاق وهو استئناف وقع تعليلاً لمضاعفة العذاب وليس المراد بالمضاعفة الزيادة بمرتبة واحدة لشمولها الزيادة بمراتب كما في الحواشي السعدية.
ولما كان قبح حالهم
112
في عدم إذعانهم للقرآن الذي طريق تلقيه السمع أشد منه في عدم قبولهم لسائر الآيات المنوطة بالأبصار بالغ في نفي الأول حيث نفى عنهم الاستطاعة واكتفى في الثاني بنفي الأبصار.
أولئك الذين خسروا أنفسهم باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى في البحر أنه على حذف مضاف ، أي : راحة أو سعادة أنفسهم وإلا فأنفسهم باقية معذبة انتهى.
ولعل الإبقاء على حاله أنسب لمرام المقام وأن البقاء معذباً كلابقاء ؛ إذ المقصود من البقاء انتفاع به.
وضل بطل وضاع عنهم ما كانوا يفترون من ألهية الآلهة وشفاعتها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 112
{لا} جرم فيه ثلاثة أوجه ، الأول : أن لا نافية لما سبق وجرم فعل بمعنى حق وأن مع ما في حيزه فاعله.
والمعنى لا ينفعهم ذلك الفعل أي : حق أنهم في الآخرة هم الأخسرون وهذا مذهب سيبويه.
والثاني : أن جرم بمعنى كسب وما بعده مفعوله وفاعله ما دل عليه الكلام أي : كسب ذلك خسرانهم فالمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور خسرانهم.
والثالث : أن لا جرم بمعنى لا بد أنهم في الآخرة هم الأخسرون وأياًما كان فمعناه أنهم أخسر من كل خاسر.
قال الكاشفي : (بى شك وشبهه ايشان دران سراى ايشان زيانكار تر ازهمه زيانكاران ه زستش بتانرا برستش خداي تعالى خريده اند ومتاع دنياي فإني را بر نعيم عقباي باقي اختيار كرده ودرين سود اغبن فاحش است) :
مايه اين را بدنيا دادن ازدون همتيست
زانكى دنيا جملكى رنج است ودين آسايش است
نعمت فاني ستاني دولت باقي دهى
اندرين سودا خرد داندكه بن فاحش است
(4/67)
وروى ابن أبي الدنيا عن الضحاك أنه قال : أتى النبي رجل فقال يا رسول الله : من أزهد الناس ، قال : من لم ينس القبر والبلى وترك زينة الدنيا ، وآثر ما يبقى على ما يفنى ، ولم يعد غداً من أيامه وعد نفسه من الموتى وفي الحديث : بادروا بالأعمال فإن بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ، ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ، ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا ومن البائع دينه بالدنيا المدعي مع الله رتبة طلباً للرياسة واستجلاب حظوظ النفس بطريق التزهد والشيخوخة وهو ملعون على ألسنة الأولياء الذين هم شهداء الله في الأرض لأنه نزل نفسه منزلة السادة الكبراء فظلم واستحق اللعنة.
وفي المثنوى :
توملاف ازمشك كان بوى ياز
ازدم توميكند مكشوف راز
كلشكر خوردم همى كوئى وبوى
ميزند ازسيركه ياوه مكوى
ومن أوصاف المدعين إنهم بادعائهم الشيخوخة يقطعون سبيل الله على طالبيه بالدعوة إلى أنفسهم ويمنعونهم أن يتمسكوا بذيل إرادة صاحب ولاية يهديهم إلى الحق وهم بالآخرة هم كافرون على الحقيقة لأن من يؤمن بالآخرة ولقاء الله والحساب والجزاء على الأعمال لا يجري مع الله بمثل هذه المعاملات ، ولهم عذاب الضلال عن سبيل الله بطلب الدنيا والقدوة فيها وعذاب إضلال أهل الإرادة عن طريق الحق باستتباعهم وهم مؤاخذون بخسرانهم وخسران اتباعهم وبحسبان أنهم يحسنون صنعاً فهم الأخسرون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 113
ترسم نرسى بكعبه أي : أعرابي
كين ره كه توميروى بتركستانست
إن الذين آمنوا أي : بكل ما يجب أن يؤمن به وعملوا الصالحات فيما بينهم وبين
113
ربهم وأخبتوا إلى ربهم الإخبات الخضوع ويستعمل باللام يقال : أخبتواستعماله بإلى في الآية لتضمينه معنى الاطمئنان والانقطاع ، والمعنى : اطمأنوا وسكنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع أولئك المنعوتون بتلك النعوت أصحاب الجنة هم فيها خالدون دائمون لم يأت هنا ضمير الفصل للإشارة والله أعلم إلى أن الخلود فيها ليس بمختص بهؤلاء الموصوفين ، فإن المؤمن وإن لم يعمل الصالحات مآله الخلود في الجنة على ما هو مذهب أهل السنة كذا في حواشي سعدي المفتي.
وقال في التأويلات النجمية : إن الذين آمنوا بطلب الله وطلبوه على أقدام المعاملات الصالحات للطلب المفيدات للوصول إلى المطلوب وأنابوا إلى ربهم بالكلية ولم يطلبوا منه إلا هو واطمأنوا به أولئك أصحاب الجنة أي : أرباب الجنة كما يقال : رب الدار لصاحب الدار وهم مطلوبوا الجنة لاطلابها ، وإنما هم طلاب الله هم فيها خالدون طلاباً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 113
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ} أي : حالهما العجيب لأن المثل لا يطلق إلا على ما فيه غرابة من الأحوال والصفات.
قال ابن الشيخ : لفظ المثل حقيقة عرفية في القول السائر المشبه مضربه بمورده ، ثم يستعار للصفة العجيبة والحال الغريبة تشبيهاً لهما بالقول المذكور في الغرابة ، فإنه لا يضرب إلا ما فيه غرابة كالأعمى والأصم والبصير والسميع أي : كهؤلاء فيكون ذواتهم كذواتهم فإن تشبيه حال الشيء بحال شيء آخر يستلزم تشبيه الشيء الأول بالثاني فالأعمى والأصم هم الكافرون والبصير والسميع هم المؤمنون.
والواو في والأصم والسميع لعطف الصفة على الصفة كقولك هو الجواد والشجاع فإن الأدخل في المبالغة أن يشبه الكافر بالذي جمع بين العمى والصمم كالموتى ، وذلك أن الكفرة حين لا ينظرون إلى ما خلق الله نظر اعتبار ولا يسمعون ما يتلى عليهم من آيات الله سماع تدبر ، كان بصرهم كلا بصر ، وسماعهم كلا سماع ، فكان حالهم لانتفاء جدوى البصر والسماع كحال الموتى الذي فقدوا مصحح البصر والسمع.
قال ابن الشيخ : الأعمى إذا سمع شيئاً ربما يهتدي إلى الطريق ، والأصم ربما ينتفع بالإشارة ومن جمع بينهما فلا حيلة له ، وقس عليه الشخص الذي جمع بين الوصفين الشريفين اللذين هما البصرو السمع فإنه يكون بذلك على أحسن حال.
وقدم الأعمى لكونه أظهر وأشهر في سوء الحال من الأصم.
هل يستويان يعني الفريقين المذكورين والاستفهام إنكاري.
مثلاً أي : حالاً وصفة وهو تمييز من فاعل يستويان منقول من الفاعلية والأصل هل يستوي مثلهما.
أفلا تذكرون أي : أتشكون في عدم الاستواء وما بينهما من التباين ، أو أتغفلون عنه فلا تتذكرون بالتأمل فيما ضرب لكم من المثل فيكون الإنكار وارداً على المعطوفين معاً أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون راجعاً إلى عدم التذكر بعد تحقق ما يوجب وجوده وهو المثل المضروب.
وفي التأويلات النجمية الأعمى الذي لا يبصر الحق حقا والباطل باطلاً بل يبصر الباطل حقاً والحق باطلاً.
والأصم من لا يسمع الحق حقاً والباطل باطلاً بل يسمع الباطل حقاً والحق باطلاً ، والبصير الذي يرى الحق حقاً ويتبعه ويرى الباطل باطلاً ويجتنبه ، والسميع الذي من كان الله سمعه فيسمع به ومن أبصر بالله لا يبصر غير الله ومن
114
سمع بالله لا يسمع إلا من الله انتهى.
(4/68)
جزء : 4 رقم الصفحة : 114
يعني يسمع من الحق تعالى ولا يرى أن أحداً في الوجود يخاطبه غير الله تعالى فهو ممتثل لكل ما يؤمر به حكى أن خير النساج لقيه إنسان ، فقال : له أنت عبدي واسمك خير فسمع ذلك من الحق سبحانه ، واستعمله الرجل في النسج أعواماً ثم بعد ذلك قال : له ما أنت عبدي ولا اسمك خير.
كوشى كه بحق بازبود درهمه جاى
ازهي سخن نشنود إلا زخداى
وان ديده كزو نور ذيرد اورا
هرذره بود آيينه دوست نماى
وفي كل من مقام الرؤية والسماع ابتلاء ، والطالب الصادق يقف عند الحد الذي حد له فلا ينظر إلى الحرام ، ولا يرتكب المحذور كشرب الخمر ، وإن قيل له من لسان واحد اشرب هذه الخمر ، لأن هذا القول ابتلاء من الله تعالى هل يقف عند حده أولا فلا بد من التحقق في الطريق ليكون تابعاً لأمر مولاه لا أسيراً لشهوته وعبداً لهواه وذلك التحقق والتبعية إنما يكون ويحصل بالاجتهاد والتشبث بذيل واحد من أهل الإرشاد.
وفي المثنوى :
آن سواريكه سه را شد ظفر
اهل دين را كيست سلطان بصر
باعصا كوران اكرره ديده اند
درناه خلق روشن ديده اند
كرنه بينايان بدندى وشهان
جمله كوران مرده اندى درجهان
نى زكوران كشت آيدنى درود
نى عمارت نى تجارتها وسود
جزء : 4 رقم الصفحة : 114
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} الواو ابتدائية واللام جواب قسم محذوف وحرفه الباء لا الواو كما في سورة الأعراف لئلا يجتمع واوان أي : بالله لقد بعثنا نوحاً وهو بن ملك ابن متوشلخ بن إدريس عليهما السلام وهو أول نبي بعث بعده قال ابن عباس رضي الله عنهما : بعث نوح على رأس أربعين من عمره ، ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة ، وكان عمره ألفا وخمسين سنة ، وقيل غير ذلك ولد نوح بعد الف وستمائة واثنتين وأربعين سنة من هبوط آدم عليه السلام وكانت دمشق داره ودفن في الكوفة.
وقال بعضهم : في الكرك ، وقال بعضهم : في مغارة إبراهيم عليه السلام في القدس ، ويقال : كان اسمه شاكراً وسمى نوحاً لكثرة نياحته على نفسه.
واختلفوا في سبب نياحته على ثلاثة أوجه ، الأول : قلة رحمته حين قال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً فلم يرض الله ذلك منه ، والثاني : أنه مر بكلب؟ فقال : ما أقبحك من خلق فعاتبه الله على ذلك أعبتني أم عبت الكلب؟ فقام وناح على نفسه وذهب في البراري والجبال ، والثالث : الميل والهوى إلى ولده ومراجعته إلى ربه حين قال : إن ابني من أهلي فقال الله : إنه ليس من أهلك فقام وناح على نفسه أو شفقة على الولد وخوفاً على نفسه كذا في التبيان.
يقول الفقير عامله الله بلطفه الخطير إن بعض الزلات وإن كان سبباً للنياحة كما وقع أيضاً لداود عليه السلام وغيره إلا أن نياحة الأنبياء والأولياء إنما هي من جلال الله تعالى وهيبته الآخذة بقلوبهم فهي من صفات العاشقين وسمات العارفين ، ألا ترى إلى يحيى عليه السلام لم ير أكثر نوحاً وبكاء منه في زمانه مع أنه لم يهم بذنب قط ، وبكاء يعقوب عليه السلام لم يكن لمجرد فراق يوسف عليه السلام ، بل كان فراقه سبباً صورياً
115
ظاهرياً له ، والله تعالى إذا أراد بكاء عبده وحنينه إلى جنابه ابتلاء بالفراق أو بالجوع أو بغيرهما كما لا يخفى على أهل القلوب وفي ذلك ترقيات له عجيبة وتجليات له غريبة ، قد شاهدت هذه الحال من بعض أهل الكمال.
وههنا سؤال وهو أنه كيف يستقيم الإخبار في الأزل عن إرسال نوح عليه السلام بلفظ الماضي ونوح وقومه لم يجد بعد؟
جزء : 4 رقم الصفحة : 115
والجواب أن هذا الإخبار بالنسبة إلى الأزل لا يتصف بشيء من الأزمنة إذ لا ماضي ولا مستقبل ولا حال بالنسبة إلى الله تعالى واتصافه به إنما هو بالنسبة إلى توجه الخطاب للسامع فإن كان معنى الكلام سابقاً على توجه الخطاب له كان ماضياً وإن كان معه أو بعده فالحال أو الاستقبال إني أي : فقال : لقومه إني لكم نذير مخوف مبين مظهر وذلك الإنذار على أكمل طرقه ، أي : أبين لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص منه بياناً ظاهراً لا شبهة فيه ، ولم يقل وبشير لأن البشارة إنما تكون لمن آمن ولم يكن أحد آمن كما اقتصر على الإنذار في قوله تعالى :}(المدثر : 2) {قُمْ فَأَنذِرْ} تقديماً للتخلية على التحلية.
إن لا تعبدوا إلا الله أي : بأن لا تعبدوا على أنّ إن مصدرية والباء متعلقة بأرسلنا ولا ناهية ، أي : أرسلناه ملتبساً بنهيهم عن الشرك.
قال في التأويلات النجمية : قال نوح : الروح لقومه القلب والنفس والبدن أن لا تعبدوا الدنيا وشهواتها والآخرة ودرجاتها فإن عبادة الله مهما كانت معلولة بشيء من الدنيا والآخرة فإنه عبد ذلك الشيء لا الله على الحقيقة انتهى.
ولذا قالوا : الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه لكونه إيماناً وطاعة وأما الرغبة فيه لطلب الثواب وللخوف من العقاب فغير مفيدة.
قال الشيخ المغربي قدس سره :
درجنت ديدار تماشاى جمالت
(4/69)
باشد ز قصور ار بودم ميل بحورى
إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم يوم القيامة أو يوم الطوفان.
وأليم يجوز أن يكون صفة يوم وصفة عذاب على أن يكون جره للجوار ، ووصفه بالأليم على الإسناد المجازي للمبالغة يعني أن إسناد الأليم إلى اليوم إسناد إلى الظرف ، كقولك نهاره صائم ، وإسناده إلى العذاب إسناد إلى الوصف كقولك جد جده والمتألم حقيقة هو الشخص المعذب المدرك لا وصفه ولا زمانه وإذا وصفا بالتألم دل على أن الشخص بلغ في تألمه إلى حيث سرى ما به من التألم إلى ما يلابسه من الزمان والأوصاف ، فالأليم : بمعنى المؤلم على أنه اسم مفعول من الإيلام ، ويجوز أن يكون بمعنى المؤلم على أنه اسم فاعل وهو صفة الله تعالى في الحقيقة ؛ إذ هو الخالق للألم روى أن الله تعالى أرسل نوحاً إلى قومه فجاءهم يوم عيد لهم وكانوا يعبدون الأصنام ويشربون الخمور ويواقعون النساء كالبهائم من غير ستر فناداهم بصوت عالٍ ودعاهم إلى التوحيد ففزعوا ، ثم نسبوه إلى الجنون وضربوه وكذبوه كما قال تعالى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 115
{فَقَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ} أي : الأشراف منهم الذين ملأوا القلوب هيبة والمجالس أبهة ، ووصفهم بالكفر لذمهم والتسجيل عليهم بذلك من أول الأمر ، لا لأن بعض أشرافهم ليسوا بكفرة ما نريك إلا بشراً مثلنا لا مزية لك علينا نخصك من دوننا بالنبوة ووجوب الطاعة ولو كان كذلك لرأيناه فالرؤية بصرية وإلا بشراً حال من المفعول ويجوز أن تكون قلبية وهو الظاهر ، فإلا بشرا
116
مفعول ثان ، وتعلق الرأي بالمثلية لا بالبشرية فقط.
قال الكاشفي : (ايشان هياكل بشر ديدند وازدرك حقائق اشيا غافل ماندند) مثنوى :
همسرى با نييا بر داشتند
اوليارا همو خود نداشتند
كفت اينك ما بشر ايشان بشر
ماوايشان بسته خوابيم وخور
اين ندانستند ايشان ازعمى
هست فرقي درميان بى منتهى
هر دوكون زنبور خوردند ازمحل
ليك شد زان نيش وزاين ديكر عسل
هردوكون آهو كيا خوردند وآب
زاين يكى سركين شد وزان مشكناب
هر دون نى خوردند ازيك آبخور
اين يكى خالي وآن راز شكر
والإشارة أن النفس سفلية وطبعها سفلى ونظرها سفلي والروح علوي وله طبع علوي ونظر علوي فالروح العلوي من خصائصه دعوة غيره إلى عالمه لأنه بنظره العلوي يرى شرف العبادات وعزتها ويرى السفليات وخستها وذلتها فمن طبعه العلوي يدعو السفلي إلى العلويات والنفس السفلية بنظرها السفلي لا ترى العلويات ولا تميل بطبعها السفلي إلى العلويات بل تميل إلى السفليات وترى بنظرها السفلى كل شيء سفلياً فتدعو غيرها إلى عالمها فمن هنا ترى الروح العلوي بنظر المثلية ، فكذلك صاحب هذه النفس يرى صاحب الروح العلوي بنظر المثلية فيقول ما نراك إلا بشراً مثلنا فلهذا ينظرون إلى الأنبياء ، ولا يرونهم بنظر النبوة بل يرونهم بنظر الكذب والسحر والجنون ويرون اتباع الأنبياء بنظر الحقارة كما قالوا : وما نريك اتبعك الرؤية إن كانت بصرية يكون اتبعك حالاً من المفعول بتقدير قد وإن كانت قلبية يكون مفعولاً ثانياً إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأي أخساؤنا ودانينا كالحاكة والأساكفة وأهل الصنائع الخسيسة ولو كنت صادقاً لاتبعك الأكياس والأشراف من الناس.
فالأراذل جمع اسم تفضيل أي : أرذل كقوله : اكابر مجرميها وأحاسنكم أخلاقاً جمع أكبر وأحسن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 116
فإن قلت يلزم الاشتراك إذا بين الأشراف وبينهم في مأخذ الاشتقاق الذي هو الرذالة.
قلت هو للزيادة المطلقة والإضافة للتوضيح فلا يلزم ما ذكرت ، وانتصاب بادى الرأي على الظرفية على حذف المضاف أي : اتبعك وقت حدوث بادى الرأي وظاهره ، أو في أول الوهلة من غير تعمق وتدقيق تفكر من البدو ، أو من البدء والياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها وإنما استرذلوهم مع كونهم أولى الألباب الراجحة لفقرهم وكان الأشراف عندهم من له جاه ومال كما ترى أكثر أهل زمانك يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم :
فلك بمردم نادان دهد زمام مراد
تواهل فضلي ودانش همين كناهت بس
وما أعجب شأن أهل الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر ولا اتباعه وقد رضوا للإلهية بحجر وعبادته.
قال في التأويلات النجمية أما الأراذل من اتباع الروح البدن وجوارحه الظاهرة فإن الغالب على الحق أن البدن يقبل دعوة الروح ويستعمل الجوارح بالأعمال الشرعية ، ولكن النفس الأمارة بالسوء تكون على كفرها ، ولا تخلى البدن يستعمل بالأعمال الشرعية الدينية إلا لغرض فاسد ومصلحة دنيوية كما هو المعتاد لأكثر الخلق وما نرى لكم أي : لك ولمتبعيك فغلب
117
المخاطب على الغائبين علينا من فضل من زيادة شرف في الملك والمال تؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة ، واتباعهم لك لا يدل على نبوتك ولا نجد بكم فضيلة تستتبع اتباعنا لكم.
قال في الكواشي : وما نرى لكم علينا من فضل لأنكم بشر تأكلون وتشربون مثلنا.
بل نظنكم كاذبين جميعاً لكون كلامكم واحداً ودعواكم واحدة.
(4/70)
قال نوح يا قوم (اي كروه من) أرأيتم أي : أخبروني فإن الرؤية سبب للإخبار إن كنت على بينة برهان ظاهر من ربي وشاهد يشهد بصحة دعواى.
وآتيني رحمة من عنده هي النبوة فعميت عليكم أي : أخفيت تلك البينة عليكم.
أنلزمكموها أي : أنلزمكم قبول تلك البينة ونوجبها عليكم ونجبركم على الاهتداء بها ، وهذا استفهام معناه الإنكار يقول لا نقدر أن نلزمكم من ذات أنفسنا وهو جواب أرأيتم وساد مسد جواب الشرط وأنتم لها كارهون والحال أنكم لا تختارونها ولا تتأملون فيها ومحصول الجواب أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة الدعوى إلا أنها خافية عليكم غير مسلمة عندكم أيمكننا إن نكرهكم على قبولها وأنتم معرضون عنها غير متدبرين فيها أي : لا يكون ذلك.
قال سعدي المفتي : المراد إلزام جبر بالقتل ونحوه فأما إلزام الإيجاب فهو حاصل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 116
قال قتادة : لو قدر الأنبياء إن يلزموا قومهم الإيمان لألزموهم ولكن لم يقدروا :
يكى را بخوانى كه مقبول ماست
يكى را برانى كه مخذول ماست
بدونيك امر ترا بنده اند
بتسليم حكمت سر افكنده اند
جزء : 4 رقم الصفحة : 116
{وَيَـاقَوْمِ لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ} على تبليغ الرسالة وهو إن لم يذكر فمعلوم من قوله إني لكم نذيرم مبين أن لا تعبدوا إلا الله ما لا تؤدونه إلي بعد إيمانكم واتباعكم لي فيكون ذلك أجراً لي في مقابلة اهتدائكم.
إن أجري إلا على الله وهو الثواب الذي يثيبني في الآخرة ، أي : ما بلغتكم من رسالة الله إلا لوجه الله لا لغرض من أغراض الدنيا.
وما أنا بطارد الذين آمنوا لأنهم طلبوا منه أن يطرد من عنده من الفقراء والضعفاء حتى يجالسوه كما طلب رؤوس قريش من رسول الله طرد فقراء المؤمنين الملازمين لمجلسه الشريف استنكافاً منهم أن ينتظموا معهم في سلك واحد.
قال الحافظ :
آنه زر ميشود از رتو آن قلب سياه
كيمياييست كه درصحبت درويشانست
وقال :
نظر كردن بدرويشان منافىء بزركى نيست
سليمان بانان حشمت نظرها بودبامورش
قيل : إن الله تعالى اختار الفقر لرسول الله نظراً لقلوب الفقراء حتى يتسلى الفقير بفقره كما يتسلى الغنى بماله ، وليدل على هوان الدنيا عند الله تعالى إنهم ملاقوا ربهم يوم القيامة فيقتص لهم ممن ظلمهم كما في الكواشي أو إنهم فائزون في الآخرة بلقاء الله تعالى وحسن جزائه كأنه قيل : لا أطردهم ولا أبعدهم عن مجلسي ، لأنهم مقربون في حضرة القدس وكيف أذل من أعزه الله تعالى.
ولكني أريكم قوماً تجهلون ما أمرتكم به وما جئتكم به قاله أبو الليث.
وقال في الإرشاد : تجهلون بكل ما ينبغي أن يعلم ، ويدخل فيه جهلهم بلقائه تعالى
118
وبمنزلتهم عنده وباستيجاب طردهم لغضب الله تعالى.
ويا قوم من ينصرني من الله يدفع عني غضب الله تعالى ويمنعني من انتقامه إن طردتهم وهم بتلك الصفة والمثابة من الكرامة والزلفى أفلا تذكرون أي : أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل المذكور ، فلا تتذكرون ما ذكر من حالهم حتى تعرفوا أن ما تأتون بمعزل من الصواب ، وفي الحديث : حب الفقراء والمساكين من أخلاق الأنبياء والمرسلين وبغض مجالستهم من أخلاق المنافقين.
والإشارة يقول نوح الروح للنفس من يمنعك من عذاب الله تعالى وقهره إن منعت البدن من الطاعة والعبودية واقتصر على مجرد إيمان النفس وتخلقها بأخلاق الروح ، كما هو معتقد أهل الفلسفة وأهل العناد فإنهم يقولون إن أصل العبودية معرفة الربوبية وجمعية الباطن والتحلية بالأخلاق الحميدة فلا عبرة للأعمال البدنية كذبوا والله وكذبوا الله ورسوله فضلوا كثيراً ، والقول ما قال المشايخ رحمهم الله : الظاهر عنوان الباطن وقال النبي : لا يستقيم إيمان أحدكم حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم أعماله يعني أركان الشريعة تسري إلى الباطن عند استعمال الشريعة في الظاهر وإن الله تعالى أودع النور في الشرع والظلمة في الطبع وإنما بعث الأنبياء ليخرجوا الخلق من ظلمات الطبع إلى نور الشرع.
جزء : 4 رقم الصفحة : 118
{وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآاـاِنُ اللَّهِ} أي : عندي رزق الله وأمواله حتى تستدلوا بعدمها على كذبي بقولكم ، وما نرى لكم علينا من فضل ، بل نظنكم كاذبين فإن النبوة أعز من أن تنال بأسباب دنيوية ودعواها بمعزل عن ادعاء المال والجاه.
قال سعدي المفتي : يعني : لا أدعى وجوب اتباعي بكثرة المال والجاه الدنيوي حتى تنكروا فضلي وإنما أدعى وجوبه ، لأني رسول الله وقد جئت ببينة تشهد على ذلك ولا أعلم الغيب أي : لا أدعى في قولي إني لكم نذير مبين إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ، العلم على الغيب حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد.
(4/71)
وقال سعدى المفتي : الظاهر أنهم حين أدعى النبوة سألوه عن المغيبات وقالوا : إن كنت صادقاً في دعواك فأخبرنا عن كذا وكذا ، فقال : أنا أدعى النبوة وقد جئتكم بآية من ربي ولا أعلم الغيب إلا بإعلامه ولا يلزم من أن يكون سؤالهم مذكوراً في النظم أن سؤال طردهم كذلك ولا أقول لكم إني ملك حتى تقولوا ما نراك إلا بشراً مثلنا فإن البشرية ليست من موانع النبوة بل من مباديها.
6
يعني إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي والحال أني لا أدعي شيئاً من ذلك ولا الذي أدعيه يتعلق بشيء منها ، وإنما يتعلق بالفضائل النفسانية التي بها تتفاوت مقادير البشر.
ولا أقول مساعدة لكم كما تقولون للذين تزدرى أعينكم زراه إذا عابه واستصغره أي : لأجل المؤمنين الذي تزدريهم أعينكم لفقرهم وفي شأنهم ، ولو كانت اللام للتبليغ لكان القياس لن يؤتيكم بكاف الخطاب ، وإسناد الازدراء إلى الأعين للمبالغة والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادىء الرؤية من غير رؤية وبما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل في معانيهم وكمالاتهم.
قال السعدي :
معانيست درزير حرف سياه
ودر رده معشوق ودرميغ ماه
سنديده ونغز بايد خصال
كه كاه آيد وكه رود جاه ومال
119
يقول الفقير : الظاهر أن إسناد الازدراء إلى الأعين إنما هو بالنسبة إلى ظهوره فيها كما يقال : فلان نظر إلى فلان بعين التحقير دون عين التعظيم ، وهذا لا ينافي كونه من صفات القلب في الحقيقة لن يؤتيهم الله خيراً في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله أن يؤتيهم خير الدارين وقد وقع كما قال ، فإن نطق الأنبياء عليهم السلام إنما هو من الوحي والإلهام حيث أورثهم الله أرضهم وديارهم بعد عزتهم الله أعلم بما في أنفسهم من الإيمان والمعرفة ورسوخهم فيه إني إذا أي : إذ قلت ذلك لمن الظالمين لهم بحط مرتبتهم ونقص حقوقهم ، أو من الظالمين لأنفسهم ، بذلك فإن وباله راجع إلى أنفسهم.
وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 119
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : لمسلم أخو المسلم المراد أخوة الإسلام لا يظلمه بنقصه حقه أو بمنعه أياه ولا يخذله بترك الإعانة والنصرة إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه ولا يحقره أي : لا يحتقره ولا يستكبر عليه.
والاحتقار بالفارسية (خوارداشتن) التقوى ههنا التقوى ههنا التقوى ههنا ويشير إلى صدره ، وأصل التقوى الاجتناب والمراد ههنا اجتناب المعاصي وكأن المتقي يتخذ له وقاية من عذاب الله تعالى بترك المخالفة.
وقوله ههنا إشارة إلى أن الأعمال الظاهرة لا تحصل بها التقوى وإنما تحصل بما يقع من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته فمن كانت التقوى في قلبه فلا ينظر إلى أحد بعين الحقارة بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم يعني : يكفيه من الشر احتقاره أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله العرض موضع المدح والذم من الإنسان كما في فتح القريب.
وقال ابن الملك : عرض الرجل : جانبه الذي يصونه.
قالوا يانوح قد جادلتنا خاصمتنا فأكثرت جدالنا أي : أطلته ، والمجادلة روم أحد الخصمين إسقاط كلام صاحبه وهو من الجدل وهو شدة القتل فائتنا بما تعدنا أي : تعدنا من العذاب المعجل.
إن كنت من الصادقين في الدعوى والوعيد فإن مناظرتك تؤثر فينا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 119
{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ} عاجلاً أو آجلاً وليس موكولاً إليّ ولا مما يدخل تحت قدرتي ، وفيه إشارة إلى أن وقوع العذاب بمشيئة الله لا بالأعمال الموجبة للوقوع وما أنتم بمعجزين بالهرب أو بالمدافعة كما تدافعون في الكلام.
قال الإمام : فإن أحداً لا يعجزه أي : يمنعه مما أراد يفعله والمعجز هو الذي يفعل ما عنده فيتعذر به مراد الغير فيوصف بأنه أعجزه فقوله تعالى : وما أنتم بمعجزين أي : لا سبيل لكم إلى أن تفعلوا ما عندكم فيمتنع على الله تعالى ما يشاء من العذاب إن أراد إنزاله بكم.
ولا ينفعكم نصحي النصح كلمة جامعة لكل ما يدور عليه الخير من فعل أو قول وحقيقته الخاصة إرادة الخير والدلالة عليه ونقيضه الغش ، وقيل هو إعلام موضع الغي ليتقي.
وموضع الرشد ليقتفى إن أردت أن أنصح لكم شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق عليه ، والتقدير إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحى وهذه الجملة دالة على ما حذف من جواب قوله تعالى إن كان الله يريد أن يغويكم والتقدير إن كان الله يريد أن يغويكم ، فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي ، وفيه إشارة إلى أن نصح الأنبياء ودعوتهم لا تفيد الهداية مع إرادة الله الغواية والكل بيد الله تعالى.
قال الحافظ :
مكن بشم حقارت نكاه برمن مست
كه نيست معصيت وزهد بي مشيت او
120
يقول الفقير : قد سبق أن نوحاً عليه السلام وصفهم بالجهل والجاهل لا ينفع فيه النصح والوعظ كما في المثنوى :
ند كفتن باجهول خوابناك
تخم افكندن بود درشوره خاك
اك حمق وجهل نذيرد رفو
تخم حكمت كم دهش اي ندكو
(4/72)
هو ربكم خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته وإليه ترجعون فيجازيكم على أعمالكم لا محالة.
أم يقولون قوم نوح افتريه الضمير المستتر المرفوع لنوح عليه السلام والبارز للوحي الذي بلغه إليهم.
قل يا نوح إن افتريته بالفرض البحت فهو لا يدل على أنه كان شاكاً بل هو قول يقال : على وجه الإنكار عند اليأس من القبول فعليّ إجرامي أي : وبال إجرامي وهو كسب الذنب فالمضاف محذوف ، وإن كنت صادقاً فكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب فحذف لدلالة قوله تعالى : وأنا برىء مما تجرمون عليه ، أي : من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ فلا وجه لإعراضكم عني ومعاداتكم لي.
وفيه إشارة إلى أن ذنوب النفس لا تنافي صفاء الروح ولا يتكدر الروح بها ما دام متبرئاً منها لكن كل من القوى يتكدر بما قارفه من ذنوب نفسه ، فالجهل يكدر الروح والميل إلى ما سوى الله تعالى يكدر القلب ، والهوى يكدر النفس والشهوة تكدر الطبيعة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 120
فعلى العاقل تجلية هذه المرائي وتصقيلها له تعالى والتوجه إلى الحضرة العلياء والعمل على وفق الهدى وترك المشتهيات.
قال حضرة شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة : الإنسان ، أما حيواني وهم الذين غلب عليهم أوصاف الطبيعة وأحوال الشهوة ، وأما شيطاني وهم الذين غلب عليهم أوصاف النفس وأحوال الشيطنة ، وأما ملكي وهم الذين غلب عليهم أوصاف الروح وأحوال الملكية ، وإما صاحب الجانبين وهم الذين استوى واشترك فيهم وصف الطبيعة والنفس ووصف الملكية والروح.
وإما رحماني وهم الذين غلب عليهم وصف السر وحاله ثم الثلاثة الأول من يخرج منهم بالإيمان من النيا فهم يدخلون الجنة بالفضل أو بعد إقامة العدل وهم أصحاب اليمين وأرباب الجمال ، ومن يخرج من الدنيا بلا إيمان فيدخلون الجحيم بالعدل وهم أصحاب الشمال وأرباب الجلال ، والرابع : من يخرج منهم بالإيمان فهم أهل الأعراف والخامس : هم أرباب الكمال السابقون المقربون وما منا إلاله مقام معلوم ورزق مقسوم ، ثم الحيوانيون بعدما خرجوا من الدنيا يحشرون مع الشياطين والملكيون يحشرون مع الملائكة وأصحاب الجانبين يحشرون بين الطرفين والرحمانيون يحشرون مع قرب الرحمن قال عليه السلام : تموتون كما تعيشون وتحشرون كما تموتون انتهى كلامه.
قال يحيى بن معاذ الرازي : الناس ثلاثة أصناف ، رجل شغله معاده عن معاشه.
ورجل شغله معاشه عن معاده ، ورجل مشتغل بهما جميعاً فالأول : درجة الفائزين ، والثاني : درجة الهالكين ، والثالث : درجة المخاطرين وفي الحديث : إنخواص يسكنهم الرفيع من الجنان كانوا أعقل الناس قالوا يا رسول الله : كيف كانوا أعقل الناس؟ قال : كانت همتهم المسابقة إلى ربهم والمسارعة إلى ما يرضيه ، وزهدوا في الدنيا وفي رياستها ، وفي فضولها ونعيمها فهانت عليهم فصبروا قليلاً ، واستراحوا طويلاً.
تاكى م دنياي دنى اي دل دانا
حيفست زخوبى كه شود عاشق زشتى
121
وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك أي : المصرين على الكفر ، وهو إقناط له عليه السلام من إيمانهم وإعلام لكونه كالمحال الذي لا يصح توقعه إلا من قد آمن.
وقال المولى أبو السعود رحمه الله : هذا الاستثناء على طريقة قوله تعالى : إلا ما قد سلف}(النساء : 22) وقد سبق في أواخر سورة النساء.
وقال سعدي المفتي : إن قيل من قد آمن لا يحدث الإيمان بل يستمر عليه فكيف صح اتصال الاستثناء؟ قلنا قد تقرر أن لدوام الأمور المستمرة حكم الابتداء ولهذا لو حلف لا ألبس هذا الثوب وهو لابسه فلم ينزعه في الحال يحنث ومبنى الأيمان على العرف.
جزء : 4 رقم الصفحة : 120
وقال القطب العلامة : {إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ} قد استعد للإيمان وتوقع منه ولا يراد الإيمان بالفعل وإلا لكان التقدير إلا من قد آمن فإنه يؤمن.
فلا تبتئس بما كانوا يفعلون هو تفتعل من البؤس ومعناه الحزن في استكانة وهي الخضوع ، أي : لا تحزن حزن بائس مستكين ، ولا تغتم بما كانوا يتعاطون من التكذيب والإيذاء في هذه المدة الطويلة فقد انتهى أفعالهم وحان وقت الانتقام منهم ، وعن النبي إنه قال : إن نوحاً كان إذا جادل قومه ضربوه حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون انتهى.
ولما جاء هذا الوحي من عند الله تعالى دعا عليهم فقال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً}(نوح : 26).
وفي "المثنوى" :
نا حمولى انبيارا از امر دان
ورنه حمالست بدرا حلمشان
طبع را كشتند اندر حمل بد
نا حمولى كر كند از حق بود
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : أول ما يتخلق المتخلق بعدم التأذي بأذى الأنام باحتماله صبراً ، وواسطته أن لا يجدهم مؤذين لأنه موحد فيستوى عنده المسيء والمحسن في حقه ، وخاتمته أن يرى المسيء محسناً إليه فإنه عالم بالحقائق متحقق بالتجلي الإلهي وهي بداية التحقيق.
(4/73)
والإشارة في الآية أن نوح الروح لا يؤمن من قومه إلا القلب والسر والبدن وجوارحه ، فأما النفس فإنها لا تؤمن أبداً اللهم إلا نفوس الأنبياء وخواص الأولياء ، فإنها تسلم أحياناً دون الإيمان وحال النفوس كأحوال الأعراب ، كقوله تعالى : {قَالَتِ الاعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ} (الحجرات : 14) فإن معدن الإيمان القلوب ومظهر الإسلام النفوس ، لأن الإسلام الحقيقي الذي قال تعالى فيه : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر : 22) هو ضوء قد انعكس من مرآة القلب المنور بنور الإيمان فأما إسلام الأعراب إذ قال تعالى لهم : {وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ} (الحجرات : 14) لم يكن ضوأ منعكساً من مرآة القلب المنور ولكن هو ضوء منعكس من النور المودع في كلمة التوحيد والأعمال الصالحة عند إتيانها بالصدق علم أن إيمان الخواص ينزل من الحق تعالى بنظر عنايته على القلوب القابلة للفيض الإلهي بلا واسطة وإيمان العوام يدخل في قلوبهم من طريق الإقرار باللسان والعمل بالأركان {فَلا تَبْتَـاـاِسْ} على نفوس السعداء بما كانوا يفعلون من أعمال الشر فإنها لهم كالجسد للأكسير ينقلب ذهباً مقبولاً عند طرح الروح فلذلك تنقلب أعمال الشر خيراً عند طرح التوبة عليها كما قال تعالى : أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ولا تبتئس على نفوس الأشقياء بما كانوا يفعلون لأنها حجة الله على
122
شقاوتهم وبتلك السلاسل يسحبون في النار على وجوهم كذا في التأويلات النجمية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 120
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} (ون فائده دعوت از ايشان منقطع كشته زمان نزول عذاب در رسيد حكم شدكه أ : ي نوح ميان اجتهاد دبربند وبساز كشتى را) والأمر للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروح من الغرق إلا به فيجب كوجوبها.
واللام إما للعهد بأن يحمل على أن هذا مسبوق بالوحي إليه أنه سيهلككم بالغرق وينجيه ومن معه بشيء سيصنعه بأمره تعالى ووحيه من شأنه كيت وكيت واسمه كذا وإما للجنس ، والصنعة بالفارسية (كاركردن) والمراد ههنا نجر الخشب أي : نحته ليتحصل منه صورة السفينة بأعيننا العين ليست من الآلات التي يستعان بها على مباشرة العمل بل هي سبب لحفظ الشيء فعبر بها عنه مجازاً وجمع العين لجمع الضمير والمبالغة والكثرة أسباب الحفظ والرعاية فالأعين في معنى محفوظاً على أنه حال من فاعل اصنع ، أي : اصنعه محفوظاً من أن يمنعك أحد من أعدائك عن ذلك العمل وإتمامه ومن أن تزيغ في صنعته عن الصواب.
وقال الكاشفي : (بأعييننا بنكاه داشتن ما يا باعين ملائكة كه مدد كار وموكل تواند) يقول الفقير : الأول أنسب لما في سورة الطور من قوله تعالى : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا}(الطور : 48) أي : في حفظنا وحمايتنا بحيث نراقبك ونكلؤك واتحاد القضية ليس بشرط {وَوَحْيِنَا} إليك كيف نصنعها وتعليمنا وإلهامنا ، أي : موحى إليك كيفية صنعتها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر بالفارسية (ون سينه مرغ وبراو) فأخذ القدوم وجعل يضرب ولا يخطىء (ودر اخبار آمده كه نوح عليه السلام وب كشتى بطلبيد فرمان برسيد تادرخت ساج بكاشت ودرمدت بيست سال كه درخت برسيد مطلقاً هي فرزند متولد نشد تا اطفال قوم بالغ شدند وايشان نيز متابعت آبا كرده از قبول دعوت نوح أبا كردند س نوح بساختن كشتى اشتغال فرمود) ونحتها في سنتين واستأجر أجراء ينحتون معه ، وقيل في أربعمائة سنة.
ومن الغرائب ما في حياة الحيوان من أن أول من اتخذ الكلب للحراسة نوح عليه السلام قال : يا رب أمرتني أن أصنع الفلك وأنا في صناعته أصنع أياماً فيجيئون بالليل فيفسدون كل ما عملت ، فمتى يلتئم لي ما أمرتني به قد طال عليّ أمري؟ فأوحى الله تعالى إليه يا نوح اتخذ كلباً يحرسك فاتخذ نوح كلباً ، وكان يعمل بالنهار وينام بالليل فإذا جاء قومه ليفسدوا بالليل ينبحهم الكلب فينتبه نوح عليه السلام فيأخذ الهراوة ويثب إليهم فينهزمون منه فالتأم ما أراد وفعل السفينة برشاد.
وفي المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 123
قابل تعليم وفهمست اين خرد
ليك صاحب وحى تعليمش دهد
جمله حرفتها يقين از وحى بود
اول أو ليك عقل آنرا فزود
هي حرفت را بين كين عقل ما
ماند أو آموختن بي اوستا
كره اندر فكرموى اشكاف بد
هي يشه رام بى اوستا نشد
وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع والذراع إلى المنكب وعرضها ، خمسين ذراعاً وسمكها أي : ارتفاعها في الهواء ثلاثين ذراعاً وبابها في عرضها أو كان طولها ألفاً ومائتي ذراع ، وعرضها
123
(4/74)
ستمائة ذراع كما قيل إن الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام : لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة يحدثنا عنها فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب فقال : أتدرون من هذا قالوا : الله ورسوله أعلم قال : هذا كعب بن حام فضرب بعصاه وقال : قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى : أهكذا هلكت قال : لا مت وأنا شاب ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت فقال : حدثنا عن سفينة نوح قال : كان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات طبقة للدواب والوحش وطبقة للإنس وطبقة للطير ثم قال : عد بإذن الله تعالى كما كنت فعاد تراباً.
قال في الكواشي : وطلاها بالقار فلما أتمها أنطقها الله فقالت : لا إله إلا الله في الأولين والآخرين ، أنا السفينة التي من ركبني نجا ومن تخلف عني هلك ولا يدخلني إلا أهل الإيمان والإخلاص فقال قومه : يا نوح هذا قليل من سحرك.
ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي : لا تراجعني فيهم ولا تدعني في استدفاع العذاب عنهم ، وفي وضع المظهر موضع المضمر تسجيل عليهم بالظلم ودلالة على أنه إنما نهى عن الدعاء لهم بالنجاة لتصميمهم على الظلم وأن العذاب إنما لحقهم لذلك إنهم مغرقون محكوم عليهم بالإغراق قد مضى به القضاء وجف القلم فلا سبيل إلى كفه ولزمتهم الحجة فلم يبق إلا أن يجعلوا عبرة للمعتبرين ومثلاً للآخرين.
ويقال : للذين ظلموا يعني : ابنه كنعان كما في تفسير أبي الليث وزاد في التبيان امرأته والعة أو واعلة بالعين المهملة وهي أم كنعان.
يقول الفقير لعله هو الأصوب لأنه روى أن الأرض صاحت وقال : يا رب ما أحلمك على هؤلاء الكفرة يمشون على ظهري ويأكلون رزقك ويعبدون غيرك ثم نطقت السباع كذلك ، فلما اشتد الأمر وعلم نوح أنه لا يؤمن من قومه أحد بعد دعا عليهم بالهلاك ، فكيف يخاطب الله فيهم وفي نجاتهم.
وأما كنعان وأمه فهما وإن كانا كافرين لكن لا يسوي بينهما وبينهم من حيث إن الشفقة على الأهل والأولاد أشد وكان من شأنه المخاطبة في حقهم ولذلك نهي عنها وسيجيء زيادة البيان في ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 123
قال في التأويلات النجمية : ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي : النفوس فإن الظلم من شيمتها إنه كان ظلوماً جهولاً ؛ لأنها تضع الأشياء في غير موضعها تضع عبادة الحق في هواها والدنيا وشهواتها ، وفي هذا الخطاب حسم مادة الطمع عن إيمان النفوس ، وفيه حِكَم يطول شرحها منها ترقى أهل الكمالات إلى الأبد فافهم جداً ، وإن النفس مكمن مكر الحق حتى لا تأمن منها ومن صفاتها إنهم مغرقون في طوفان الفتن إلا من سلمة الله منه والسلامه في ركوب سفينة الشريعة ، فإن نوح الروح إن لم يركبها كان من المغرقين انتهى.
وفي الحديث : مثلي ومثل أمتي كمثل سفينة نوح من تمسك بها نجا ومن تخلف عنها غرق وفي المثنوى :
بهر اين فرمود يغمبر كه من
همو كشتى ام بطوفان زمن
ما وأصحابيم ون كشتىء نوح
هركه دست اندر زند يابد فتوح
ونكه باشيخى تودور از زشتى
روز وشب سيارى ودركشتى
مكسل از يغمبر ايام خويش
تكيه كم كن برفن وبركام خويش
كره شيرى ون روى ره بى دليل
خويش روبه در ضلالي وذليل
124
ويصنع الفلك ينجرها ، وهي حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة ، وكلما أي : يصنعها والحال أنه كلما مر عليه ملأ أشراف ورؤساء من قومه سخروا منه استهزؤا به لعمله السفينة إما لأنهم ما كانوا يعرفونها ولا كيفية استعمالها والانتفاع بها فقالوا : يا نوح ما تصنع؟ قال : اصنع بيتاً يمشي على الماء فتعجبوا من قوله وسخروا منه ، وإما لأنه كان يصنعها في برية بهماء في أبعد موضع من الماء في وقت عزته عزة شديدة وكانوا يتضاحكون ويقولون : يا نوح صرت نجاراً بعد ما كنت نبياً ويقولون أتجعل للماء إكافاً فأين الماء؟ أو لأنه كان ينذرهم الغرق فلما طال مكثه فيهم ولم يشاهدوا منه عيناً ولا أثراً عدوه من باب المحال ، ثم لما رأوا اشتغاله بأسباب الخلاص من ذلك فعلوا ما فعلوا ومدار الجميع إنكار أن يكون لعمله عاقبة حميدة مع ما فيه من تحمل المشاق العظيمة.
من اكرنيكم وبدتو برو وخودرا باش
هر كسى آن درود عاقبت كاركه كشت
قوله كلما ظرف وما مصدرية ظرفية تقديره وكل وقت مرور سخروا منه والعامل سخروا منه قال استئناف كأن سائلاً سأل ، فقال : فما صنع نوح عند بلوغ أذاهم الغاية فقيل : قال : إن تسخروا منا (اكر سخريه وافسوس ميكنيد باما) فإنا نسخر منكم كما تسخرون سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة.
قال المولى أبو السعود رحمه الله : أي : نعاملكم معاملة من يفعل ذلك ؛ لأن نفس السخرية مما لا يكاد يليق بمنصب النبوة انتهى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 123
(4/75)
يقول الفقير : المقصود من هذه السخرية إصابة جزاء السخرية ، وكل أحد إنما يجازي من جنس عمله لا من خلاف جنسه ألا ترى إلى قوله تعالى في حق الصائمين ، كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية}(الحاقة : 24) فإنه يقال : لهم يوم القيامة كلوا يا من جوعوا بطونهم واشربوا يا من عطشوا أكبادهم ، ولا يقال : كلوا يا من قطعوا الليل واشربوا يا من ثبتوا يوم الزحف ، إذ ليس فيه المناسبة بين العمل وجزائه فالآية نظير قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ} (المطففين : 29) ألا ترى إلى ما قال في "الجزاء" : {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} (المطففين : 36) ثم تمم بقوله : {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
وفي الآية إشارة إلى أن أهل النفس وتابعي هواها يستهزئون بمن يستعمل أركان الشريعة الظاهرة ويضحكون منهم في إتعابهم بها نفوسهم إذ هم بمعزل عن أسرارها وأنوارها فإن سخروا منهم بجهلهم لفائدة هذه السفينة فسوف يسخر بهم من ركبها إذ نجوا وهلكوا.
قال شيخنا العلامة أبقاه الله بالسلامة : فكما أن العالم الغير العامل والجاهل الغير العامل سواء في كونهما مطروحين عن باب الله تعالى فكذلك العارف الغير العامل والغافل الغير العامل سواء في كونهما مردودين عن باب الله تعالى ، لأن مجرد العلم والمعرفة ليس بسبب القبول والفلاح ما لم يقارن العمل بالكتاب والسنة بل كون مجردهما سبب الفلاح مذهب الحكماء الغير الإسلامية فلا بد معهما من العمل حتى يكونا سبباً للنجاة كما هو مذهب أهل السنة والحكماء الإسلامية انتهى كلامه المقبول المفيد :
كارى كنيم ورنه حجالت بر آود
روزى كه رخت جان بجهان دكر كثيم
قال السعدي قدس سره :
125
كنون كوش كآب از كمر در كذشت
در وقت سيلابت از سر كذشت
جزء : 4 رقم الصفحة : 123
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} من عبارة عنهم وهي إما استفهامية في حيز الرفع ، أو موصولة في محل النصب بتعلمون ، وما في حزيها ساد مسد المفعولين.
قال سعدي المفتي من موصولة ويعدى تعلمون إلى واحد استعمالاً لها استعمال عرف في التعدية إلى واحد يأتيه عذاب وهو عذاب الغرق ، يخزيه يهينه ويذله وصف العذاب بالاخزاء ، لما في الاستهزاء والسخرية من لحوق الخزى والعار عادة.
ويحل عليه حلول الدين الذي لا انفكاك عنه ، ففي الكلام استعارة مكنية حيث شبه العذاب الأخروي الذي قضى الله تعالى به في حقهم بالدَّين المؤجل الواجب الحلول ، وأثبت له الحلول الذي هو من لوازمه عذاب مقيم دائم هو عذاب النار.
حتى إذا جاء أمرنا للتنور بالفوران أو للحساب بالإرسال وحتى هي التي يبتدأ بها الكلام دخلت على الجملة الشرطية وهي مع ذلك غاية لقوله ويصنع فإن كونها حرف ابتداء لا ينافي كون ما بعدها غاية لما قبلها.
والمعنى وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الطوفان وفار التنور (وبجوشيد آب ازتنور) والتنور اسم أعجمي عربته العرب لأن أصل بنائه تنر وليس في كلام العرب نون قبل راء ذكره القرطبي أي : نبع منه الماء وارتفع بشدة كما يفور القدر بغليانها ، والتنور : تنور الخبز لأهله وهو قول الجمهور روى أنه قيل لنوح إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب ومن معك في السفينة ، فلما نبع الماء أخبرته امرأته فركب ، وقيل : كان تنور آدم وكان من حجارة فصار إلى نوح وإنما نبع منه وهو أبعد شيء من الماء على خرق العادة ، واختلفوا في مكان التنور أيضاً فقيل كان في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلي باب الكنيسة ؛ وكان عمل السفينة في ذلك الموضع ، وفي القاموس : الغارقون مسجد الكوفة لأن الغرق كان فيه ، وفي زاوية له فار التنور ، وقيل : في الهند ، وقيل : في موضع بالشام يقال له : عين وردة وقيل : التنور وجه الأرض أو أشرف موضع في الأرض ، أي : أعلاه وعن علي رضي الله عنه فار التنور طلع الفجر قلنا جواب إذا وإن جعلت حتى جارة متعلقة بيصنع فإذا ليست بشرطية ، بل مجرورة بحتى وقلنا استئناف.
احمل فيها الضمير راجع إلى الفلك والتأنيث باعتبار السفينة من كل أي : من كل نوع من الحيوانات لا بدّ منه في الأرض زوجين اثنين}(النحل : 51) مفعول احمل واثنين صفة مؤكدة له وزيادة بيان كقوله تعالى : {لا تَتَّخِذُوا إِلَـاهَيْنِ اثْنَيْنِ} والزوجان عبارة عن كل اثنين لا يستغنى أحدهما عن الآخر ، ويقال : لكل واحد منهما زوج يقال : وزوج خف وزج نعل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 126
(4/76)
قال في الإرشاد : الزوج ماله مشاكل من نوعه فالذكر زوج للأنثى كما هي زوج له وقد يطلق على مجموعهما فيقابل الفرد ولإزالة ذلك الاحتمال قيل اثنين كل منهما زوج الآخر وقدم ذلك على أهله وسائر المؤمنين لأنه إنما يحمل بمباشرة البشر وهم إنما يدخلونها بعد حملهم إياه روى أن نوحاً قال : يا رب كيف احمل من كل زوجين اثنين ، فحشر الله إليه السباع والطير فجعل يضرب يديه في كل جنس فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في اليسرى فيجعلهما في السفينة.
قال الحسن : لم يحمل في السفينة إلا ما يلد ويبيض ، وأما ما يتولد من التراب كالحشرات والبق والبعوض فلم يحمل منه شيئاً.
قال الشيخ السمرقندي في بحر الكلام : وأول ما حمل نوح الذرة وآخر ما حمله الحمار فلما دخل صدره
126
تعلق إبليس بذنبه فلم يستقل رجلاه فجعل نوح يقول : ويحك ادخل فينهض فلا يستطيع حتى قال نوح : ادخل والشيطان معك ، فلما قالها نوح : خلى الشيطان سبيله فدخل ودخل الشيطان معه فقال نوح : ما أدخلك عليّ يا عدو الله؟ قال : ألم تقل أدخل والشيطان معك ، قال : اخرج عني يا عدو الله ، قال : مالك بدّ من أن تحملني معك وكان فيما يزعمون في ظهر الفلك انتهى.
وقال في : أن إبليس أراد أن يدخل السفينة فلم يمكن أن يدخل من غير إذن فتعلق بذنب حمار وقت دخوله في السفينة فلم يدخل الحمار في السفينة فألح عليه نوح عليه السلام فقال نوح للحمار : ادخل يا ملعون فدخل الحمار السفينة ودخل معه إبليس فلما كان بعد ذلك رأى نوح إبليس في السفينة فقال له : دخلت السفينة بغير أمري فقال له : إبليس ما دخلت إلا بأمرك فقال له : فأنا ما أمرتك فقال : أمرتني حين قلت للحمار ادخل يا ملعون ولم يكن ثمه ملعون إلا أنا فدخلت فتركه ، وفي الحديث : إذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنها رأت شيطاناً وإذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا قالوا : صوت كل حيوان تسبيح منه إلا الحمار فإن صوته من رؤية الشيطان وذلك يدل على كمال دناءته في نفسه ، ولذا تعلق الشيطان بذنبه وجاء صديقاً له ، وأما الديك فهو عدوله لأنه يصيح في أوقات الصلاة عند استماع صوت ديك العرش ولا بعد في تفاوت الحيوانات العجم كالإنسان وقد صح أن البغال كانت أسرع الدواب في نقل الحطب لنار إبراهيم عليه السلام ولذلك دعا عليها فقطع الله نسلها وإن الوزغ كان ينفخ في ناره ولذا ورد من قتل وزغة في أول ضربة كتبت له مائة حسنة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 126
قال في حياة الحيوان : إذا ذبح الديك الأبيض الأفرق أحد لم يزل ينكب في أهله وماله.
وعن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، قال : لما ركب نوح عليه السلام في السفينة رأى فيها شيخاً لم يعرفه فقال له نوح : ما أدخلك؟ قال : دخلت لأصيب قلوب أصحابك فيكون قلوبهم معي وأبدانهم معك ، قال نوح : أخرج يا عدو الله فقال إبليس : خمس أهلك بهن الناس وسأحدثك منهن بثلاث ولا أحدثك باثنتين فأوحى إلى نوح إنه لا حاجة بك إلى الثلاث مره يحدثك بالثنتين قال : الحسد وبالحسد لعنت وجعلت شيطاناً رجيماً والحرص أبيح لآدم الجنة كلها فأصبت حاجتي منه بالحرص.
وفي المثنوى :
حرص تودكار بدون آتشست
اخكر ازرنك خوش آتش خوشست
آن سياهى فحم در آتش نهان
ون شد آتش آن سياهى شد عيان
اخكراز حرص توشد فحم سياه
حرص ون شد ماند آن فحم تباه
آن زمان آن فحم احكر مينمود
آن نه حسن كارنار حرص بود
حرص كارت را بيار ائيده بود
حرص رفت وماند كار توكبود
وقيل : إن الحية والعقرب أتيا نوحاً فقالتا : احملنا فقال : أنتما سبب الضرر والبلاء فلا احملكما قالتا : احملنا فنحن نضمن لك لا نضر أحداً فمن قرأ حين خاف مضرتهما سلام على نوح في العالمين}(الصافات : 79) ما ضرتاه.
وعن وهب بن منبه أمر نوح بأن يحمل من كل زوجين اثنين قال : يا رب كيف أصنع بالأسد والبقرة وبالعناق والذئب وبالحمام والهرة قال : يا نوح من ألقى بينهم العداوة؟ قال : أنت يا رب قال : فإني أؤلف بينهم حتى يتراضوا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كثر الفار في السفينة
127
(4/77)
حتى خافوا على حبال السفينة فأوحى الله تعالى إلى نوح أن امسح جبهة الأسد فمسحهما فعطس فخرج منها سنوران فأكلا الفار وكثرت العذرة في السفينة ، فشكوا إلى نوح فأوحى الله تعالى أن امسح ذنب الفيل فمسحه فخرج منه خنزيران فأكلا العذرة وفي خبر آخر خنزير واحد ، ودل خبر وهب على أن الهرة كانت من قبل وهذا الخبر على إنها لم تكن من قبل إلا أن يقال : إن قصة التأليف وقعت بعد خروج الهرة من أنف الأسد والله أعلم [العنكبوت : 33]{وَأَهْلَكَ} عطف على زوجين والمراد امرأته المؤمنة فإنه كان له امرأتان أحدهما مؤمنة والأخرى كافرة وهي أم كنعان وبنوه ونساؤهم إلا من سبق عليه القول بأنه من المغرقين بسبب ظلمهم والمراد به ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا كافرين والاستثناء منقطع إن أريد بالأهل الأهل إيماناً وهو الظاهر لقوله تعالى : إنه ليس من أهلك أو متصل أن أريد به الأهل قرابة ويكفي في صحة الاستثناء المعلومية عند المراجعة إلى أحوالهم والتفحص عن أعمالهم وجيء بعلى لكون السابق ضاراً لهم كما جيء باللام فيما هو نافع لهم في قوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين}(الصافات : 171) وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى} (الأنبياء : 101) {وَمَنْ ءَامَنَ} عطف على وأهلك أي : واحمل أهلك والمؤمنين من غيرهم وإفراد الأهل منهم للاستثناء المذكور وما آمن معه إلا قليل (وإيمان نياورده بودند وموافقت نكرده بانوح مكر اندكى ازمردمان) روى عن النبي عليه السلام أنه قال : كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 126
قال العتبي : قرأت في التوراة أن الله تعالى أوحى إليه أن أصنع الفلك وأدخل أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك ومن كل شيء من الحيوان زوجان اثنان فإني منزل المطر أربعين يوماً وليلة فأتلف كل شيء خلقته على وجه الأرض.
وعن مقاتل كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأة وأولاد نوح ونساؤهم فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان في سفينة نوح ثمانون رجلاً وامرأة أحدهم جرهم يقال : إن في ناحية الموصل قرية يقال : لها قرية الثمانين سميت بذلك لأنهم لما خرجوا من السفينة بنوها فسميت بهم.
والإشارة حتى إذا جاء أمرنا وهو حد البلاغة التي يكون العبد مأموراً بالركوب على سفينة الشريعة.
وفار التنور أي : يفور ماء الشهوة من تنور القالب.
قلنا احمل فيها في سفينة الشريعة.
من كل صفة من صفات النفس.
زوجين اثنين أي : كل صفة وزوجها كالشهوة وزوجها العفة ، والحرص وزوجه القناعة ، والبخل وزوجه السخاوة والغضب وزوجه الحلم ، والحقد وزوجه السلامة ، والعداوة وزوجها المحبة ، والتكبر وزوجه التواضع ، والتأني وزوجه العجلة ، وأهلك أي : واحمل معك أهلك صفات الروح.
إلا من سبق عليه القول من النفس ومن آمن أي : آمن معك من القلب والسر.
وما آمن معه غالباً إلا قليل من صفات القلب فيه إشارة إلى أن كل ما كان من هذه الصفات وأزواجها في معزل عن سفينة الشريعة فهو غريق في طوفان الفتن ، وهذا رد على الفلاسفة والإباحية فإنهم يعتقدون أن من أصلح أخلاقها الذميمة وعالجها بضدها من الأخلاق الحميدة فلا يحتاج إلى الركوب في سفينة الشرع ولا يعلمون أن الإصلاح والعلاج إذا صدرا من طبيعة لا يفيدان النجاة ؛ لأن الطبيعة لا تعلم كيفية الإصلاح والعلاج ولا مقدار تزكية النفس وتحليتها وإن كانت الطبيعة
128
واقفة على صلاح النفس وفسادها لعاجلتها في ابتداء أمرها وما كانت النفس محتاجة إلى طبيب عالم بالأمراض ومعالجتها وهم الأنبياء عليهم السلام حيث قال : هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته}(الجمعة : 2) ليعلموا المرض من الصحة والداء من الدواء {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ} فبالتزكية عن الصفات الطبيعية يستحقون تحلية أخلاق الشريعة الربانية ، كذا في التأويلات النجمية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 126
{وَقَالَ} أي : نوح لمن معه من المؤمنين بعد إدخال ما أمره بحمله في الفلك من الأزواج.
قال الكاشفي : (نوح ايشانرا بنزديك كشتى آورد وسر وشى كه ترتيب داده بود بالاي كشتى وشيد واز زمين آب عذاب جوشيدن كرفت واز آسمان آب بلا رود آمدن آغاز كرد) وروى إنه حمل معه تابوت آدم وجعله معترضاً بين الرجال والنساء.
اركبوا فيها أي : في السفينة وهو متعلق باركبوا وعدي بفي لتضمنه معنى ادخلوا وصيروا فيها راكبين.
(4/78)
قال في الإرشاد : الركوب العلو على الشيء المتحرك ويتعدى بنفسه ، واستعماله هنا بكلمة في ليس لأن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظن فإن أظهر الروايات أنه عليه السلام جعل الوحوش والسباع والهوام في البطن الأسفل من الطبقات الثلاث للسفينة ، والأنعام والدواب في الأوسط وركب هو ومن معه مع ما يحتاجون إليه من الزاد في الأعلى ، بل رعاية لجانب المحلية والمكانية في الفلك ، والسر فيه أن معنى الركوب العلو على شيء له حركة إما إرادية كالحيوان أو قسرية كالسفينة والعجلة ونحوهما ، فإذا استعمل في الأول يوفر له حظ الأصل فيقال : ركبت الفرس وإن استعمل في الثاني يلوح لمحلية المفعول بكلمة في فيقال : ركبت في السفينة ، قيل : إنهم ركبوا السفينة يوم العاشر من رجب وكان يوم الجمعة فاتت السفينة البيت فطافت أسبوعاً فسارت بهم مائة وخمسين يوماً واستقرت بهم على الجودي شهراً وكان خروجهم من السفينة يوم عاشوراء من محرم.
بسم الله متعلق باركبوا حال من فاعله ، أي : اركبوا مسمين الله أو قائلين بسم الله.
قال سعدي المفتي : كان أصل التقدير ملتبسين أو متبركين باسم الله وهو تأويل مسمين الله ، أو قائلين بسم الله وعلى التقديرين فهو حال مقدرة ، لأن وقت الجري والإرساء بعد الركوب ، مجريها بفتح الميم من جرى وبكسر الراء على الإمالة نصب على الظرفية أي : وقت جريها ومرسيها أي : وقت إرسائها وحبسها وثبوتها.
وقال في الكواشي : بسم الله مجراها خبر ومبتدأ ومرساها عطف عليه أي : بسم الله إجراؤها وإرساؤها فكان عليه السلام إذا أراد أن تجري قال : بسم الله فجرت وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله فرست ومجراها ضماً وفتحاً مصدر أجريته وجريت به لغتان بمعنى كاذهبته وذهبت به ومرساها بضم الميم من ارست السفينة ترسى وقفت انتهى إن ربي لغفور للذنوب والخطايا رحيم لعباده ولهذا نجاكم من هذه الداهية ولولا ذلك لما فعله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 129
وفيه دلالة على أن نجاتهم ليست بسبب استحقاقهم لها بل بمحض فضل الله وغفرانه ورحمته على ما عليه رأى أهل السنة حكي أن عجوزاً مرت على نوح وهو يصنع السفينة وكانت مؤمنة به فسألته عما يصنعه فقال : إن الله تعالى سيهلك الكفار بالطوفان وينجي المؤمنين بهذه السفينة فأوصت أن يخبرها نوح إذا جاء وقتها لتركب في السفينة من
129
المؤمنين فلما جاء ذلك الوقت اشتغل نوح بحمل الخلق فيها ونسي وصية العجوز وكانت بعيدة منه ثم لما وقع ما وقع من إهلاك الكفار ونجاة المؤمين وخرجوا من السفينة جاءت إليه تلك العجوز فقالت : يا نوح إنك قلت لي سيقع الطوفان ألم يأن أن يقع؟ قال : قد وقع وكان أمر الله مفعولاً وتعجب من أمر العجوز فإن الله تعالى قد أنجاها في بيتها من غير ركوب السفينة ولم تر الطوفان قط وهكذا حماية الله تعالى لعباده المؤمنين.
وقد صح عن بعض أهل الكشف أن موضع الجامع الكبير في بلدة بروسه كان بيتاً للعجوز المذكورة كما في الواقعات المحمودية.
وفي المثنوى :
كاملان ازدور نامت بشنوند
تا بقعرباد وبودت درروند
بلكه يش از زادن توسالها
ديده باشندت ترا باحالها
هركسى اندازه روشن دلى
غيب را بيند بقدر صيقلى
والإشارة أن سفينة الشريعة معمولة للنجاة لراكبيها من طوفان فتن النفس والدنيا والأمر بالركوب في قوله تعالى : اركبوا فيها يشير إلى كشف سر من أسرار الشريعة ، وهو أن من ركب سفينة الشرع بالطبع وتقليد الآباء والاستاذين لم ينفعه للنجاة الحقيقية ، كما ركب المنافقون بالطبع لا بالأمر فلم ينفعهم ، وكما ركب إبليس في سفينة نوح فلم ينفعه وإنما النجاة لمن ركب فيها بالأمر وحفظاً لأدب المقام قال : بسم الله مجريها ومرسيها أي : يكون مجريها من الله ومرساها إلى الله كقوله : إن إلى ربك المنتهى}(النجم : 42) {إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ} بالنجاة لمن ركبها رحيم لمن ركبها بالأمر لا بالطبع كذا في التأويلات النجمية.
وهي أي : الفلك تجري حكاية حال ماضية بهم حال من فاعل تجري أي : وهم فيها ، أي : ملتبسه بهم ولك أن تجعل الباء للتعدية يقال : أجريته وجريت به كأذهبته وذهبت به فالمعنى بالفارسية (همى برد ايشانرا) والجملة عطف على محذوف دل عليه الأمر بالركوب أي : فركبوا فيها مسمين وهي تجري بهم.
في خلال موج يعني : موج الطوفان والطوفان من كل شيء ما كان كثيراً مطيفاً بالجماعة كالمطر الغالب في هذا المقام.
والموج جمع موجة وهو ما ارتفع من الماء إذا اشتد عليه الريح.
كالجبال شبه كل موجة من ذلك بالجبل في عظمها وارتفاعها على الماء وتراكمها وظاهره يدل على أن السفينة تجري داخل الموج ولكن المراد أن الأمواج لما أحاطت السفينة من الجوانب شبهت بالتي تجري في داخل الأمواج.
جزء : 4 رقم الصفحة : 129
فإن قلت : إن الماء ملأ ما بين السماء والأرض وإذا كان كذلك لم يتصور الموج فيه فما معنى جريها فيه.
(4/79)
قلت : هذا الجريان كان قبل أن يغمر الطوفان الجبال ثم كانت السفينة تجري في جوف الماء كما تسبح السمكة كما قالوا : ولا يلزم الغرق لأن الله تعالى قادر على إمساك الماء عن الدخول في السفينة ألا ترى إلى الحوت الذي اتخذ سبيله في البحر سرباً (يعني هرجاكه ماهي ميرفت اب بالاي ومرتفع مى ايستاد) ومثله من الخوارق فلق البحر لموسى عليه السلام وقومه وجعله تعالى في الماء كوى متعددة ونادى (وآوازداد) نوح ابنه قيل : اسم ابنه كنعان ، وقيل : يام واختلفوا أيضاً في أنه كان ربيبه أو ابنه لظهره فذهب أكثر علماء
130
الرسوم إلى الأول لأن ولد الرسول المعصوم يتسبعد أن يكون كافراً ولقراءة علي رضي الله عنه ابنها على أن يكون الضمير لامرأته واعلة بالعين المهملة أو والعة كما في التبيان ولقوله : إن ابني من أهلي دون أن يقول مني.
وذهب بعضهم وجمهور علماء الحقيقة قدس الله أسرارهم إلى الثاني لقوله تعالى : ابنه وقول نوح يا بني.
يقول الفقير : أما قولهم ولد الرسول يستبعد أن يكون كافراً فمنقوض بابن آدم ، وهو قابيل والله تعالى يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، وعلى هذا تدور حكمته في مظاهر جلاله وجماله وإذا ثبت إن والدي الرسول ووالد إبراهيم عليهما الصلاة والسلام كانوا كافرين فكيف يبعد أن يكون ولد نوح كافراً.
وإما قراءة علي رضي الله عنه فإنما أسند فيها الابن إلى الأم لكونها كافرة مثله عادلة عن طريقة نوح فحق أن ينسب الكافر إلى الكافر لا إلى المؤمن لا لأنه أي : علياً اعتبر قوله : إنه ليس من أهلك فإنه وهم.
وأما قوله : إن ابني من أهلي فلمواقفة قوله تعالى : وأهلك كما لا يخفى.
فإن قيل : إنه عليه السلام لما قال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً}(نوح : 26) كيف ناداه مع كفره.
أجيب : بأن شفقة الأبوة لعلها حملته على ذلك النداء.
والذي تقدم من قوله : {إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} كان كالمجمل فلعله جوز أن لا يكون هو داخلاً فيه كذا في حواشي ابن الشيخ وكان ابنه في معزل مكان منقطع عن نوح وعن دينه لكونه كافراً كما في الكواشي.
وقال في الإرشاد : أي : في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وإخوته وقومه بحيث لم يتناوله الخطاب باركبوا واحتاج إلى النداء المذكور وهو في محل النصب على أنه حال من ابنه والحال يأتي من المنادى لأنه مفعول به ، والمعزل : بكسر الزاي اسم لمكان العزل وهو التنحية والإبعاد يقال : عزله عنه إذا أبعده (س ازفرط شفقت كفت).
يا بني اركب معنا بإدغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج (اي سرك من سوار شود ركشتى باما تا يمن شوى).
ولم يقل اركب في الفلك لتعينها مع إغناء المعية عن ذكرها ولا تكن مع الكافرين فتهلك مثلهم ، أي : لا تكون معهم في المكان وهو وجه الأرض خارج الفلك لا في الدين ، وإن كان ذلك مما يوجبه كما يوجب ركوبه معه كونه معه في الإيمان ؛ لأنه عليه السلام بصدد التحذير عن المهلكة فلا يلائمه النهي عن الكفر كذا في الإرشاد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 129
يقول الفقير : الذي يلوح أن المعنى وكان في معزل أي : بمكان عزل فيه نفسه عن أبيه بناء على ظن أن الجبل يعصمه من الغرق يا بني اركب معنا بأن تؤمن بالله ونعوت جماله وجلاله ولا تكن مع الكافرين ، أي : منهم ، لأنه إذا كان معهم مصاحباً لهم فقد كان منهم وبعضهم ، كقوله تعالى : وكونوا مع الصادقين.
فإن قلت قوله تعالى : وأوحي إلي نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن يقطع رجاء الإيمان فكيف نادى نوح ابنه في إيمانه.
قلت : ذلك ليس بنص في حق ابنه مثل قوله : إلا من سبق عليه القول مع أنه من شأن الكمل أنه لا يستحيل عندهم مطلوب إلى أن يخبرهم الحق بإخبار مخصوص فحينئذٍ يصدقون ربهم ويحكمون باستحالة حصول ذلك المطلوب كحال موسى عليه السلام في طلب الرؤية لما أخبر بتعذر ذلك تاب وآمن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 129
{قَالَ} ابنه سآوي أصير وألتجىء إلى جبل من الجبال يعصمني يمنعني بارتفاعه من الماء فلا أغرق ولا أؤمن ولا أركب السفينة زعماً منه أن ذلك
131
كسائر المياه والسيول المعتادة التي ربما يتقي منها بالصعود إلى الربى وجهلا بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرة أن لا محيص من ذلك سوى الالتجاء إلى ملجأ المؤمنين قال نوح لا عاصم ذاتا وصفة اليوم زاد اليوم تنبيهاً على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع التي ربما يخلص من ذلك بالالتجاء إلى بعض الأسباب من أمر الله أي : عذابه الذي هو الطوفان.
وفيه تنبيه لابنه على خطاه في تسميته ماء ، وتوهمه أنه كسائر المياه التي يتفصى منها بالهرب إلى بعض الأمكنة المرتفعة وتمهيد لحصر العصمة في جنابه عز جاره بالاستثناء كأنه قيل لا عاصم من أمر الله إلا هو وإنما قيل إلا من رحم أي : إلا الراحم وهو الله تعالى تفخيماً لشأنه الجليل بالإبهام ثم التفسير ، وبالإجمال ثم التفصيل ، وإشعاراً بعلية رحمته في ذلك بموجب سبقها على غضبه فهو استثناء متصل وعاصم على معناه.
(4/80)
وقيل : بمعنى المعصوم كقوله تعالى : من ماء دافق} (الطارق : 6) أي : مدفوق {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} (الحاقة : 21) بمعنى مرضية ، أي : لا معصوم من عذاب الله إلا من رحم الله.
وقيل : لا عاصم بمعنى لا ذا عصمة على حذف المضاف على أن يكون بناء النسبة ، وذو عصمة يطلق على عاصم وعلى معصوم ، والمراد هنا المعصوم فهو مصدر من عصم المبنى للمفعول ويكون من رحم بمعنى المرحومين والاستثناء متصلاً كالأولين ، لأن المرحوم من جنس المعصوم.
{وَحَالَ} (وحائل شد) بينهما الموج أي : بين نوح وبين ابنه فانقطع ما بينهما من المجاوبة فكان من المغرقين من المهلكين بالماء.
وفيه دلالة على هلاك سائر الكفرة على أبلغ وجه فكان ذلك أمراً مقرر الوقوع عير مفتقر إلى البيان وفي إيراد كان دون صار مبالغة في كونه منهم.
وفي المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 131
همو كنعان كآشنا ميكرد او
كه نخواهم كشتى نوح عدو
هين بيا در كشتى بابا نشين
تانكردى غرق طوفان اي مهين
كفت نى من آشنا آموختم
من بجز شمع تو شمع افرو ختم
هين مكن كين موج طوفان بلاست
دست واى آشنا امروز لاست
باد قهرست وبلاى شمع كش
جز كه شمع حق نمى بايد خمش
كفت مى رفتم بران كوه بلند
عاصمست آن كه مرا ازهر كزند
هين مكن كه كوه كاهست اين زمان
جز حبيب خويش را ندهدامان
كفت من كى ند تو بشنوده ام
كه طمع كردى كه من زين دوده ام
خوش نيامد كفت توهر كز مرا
من برى ام ازتو در هر دوسرا
اين دم سردتو در كوشم نرفت
خاصه اكنون كه شدم دانا وزفت
كفت باباه زيان دارد اكر
بشنوى يكبار توند در
همنين مى كفت اوبند لطيف
همنان ميكفت او دفع عنيف
نى در از نصح كنعان سير شد
نى دمى دركوش ان ادبير شد
اندرين كفتن بدند وموج تيز
بر سر كنعان زد وشد رزيريز
وقيل : إنه بني قبة في أعلى الجبل وسدها عليه حتى لا يدخل فيها ماء فجاءه البول فبال داخل
132
القبة فما برح البول يتزايد حتى غرق فيه والكفار غرقوا بالماء روى عن ابن عباس أنه قال : أمطرت السماء أربعين يوماً وليلة ، وخرج ماء الأرض كذلك وذلك قوله تعالى : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر}(القمر : 11 ـ ـ 12) فارتفع الماء على أطول جبل في الأرض بخمسة عشر زراعاً أو بثلاثين أو بأربعين وطافت بهم السفينة الأرض كلها في خمسة أشهر لا تستقر على شيء حتى أتت الحرم ، فلم تدخله ودارت حول الحرم أسبوعاً وقد أعتق الله البيت من الغرق كما في "بحر العلوم".
وقال في "تفسير" أبي الليث : ورفع البيت الذي بناه آدم عليه السلام إلى السماء السادسة وهو البيت المعمور واستودع الحجر الأسود أبا قبيس إلى زمن إبراهيم عليه السلام وسمى أبا قبيس باسم رجل من جرهم اسمه قبيس هلك فيه كما في "إنسان العيون".
قال الحكيم : خرج قوس قزح بعد الطوفان أماناً لأهل الأرض من أن يغرقوا جميعاً ، وسمي به ، لأنه أول ما رؤى في الجاهلية على قزح جبل بالمزدلفة ، أو لأن قزح هو الشيطان ومن ثمة قال علي رضي الله عنه : "لا تقل قوس قزح" لأن قزح هو الشيطان "ولكنها قوس الله" هي علامة كانت بين نوح وبين ربه تعالى وهي أمان لأهل الأرض من الغرق كما في "الصواعق" لابن حجر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 131
قال حضرة الشيخ الشهير : بأفتاده افندي قدس سره : تأثير طوفان نوح يظهر في كل ثلاثين سنة مرة واحدة لكن على الخفة فيقع مطر كثير ويغرق بعض القرى والبيوت من السيل وفي الحديث : "سألت ربي ثلاثاً" أي : ثلاث مسائل "فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة ، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة" أي : القحط أراد به قحطاً يعم أمته "فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم" أراد بها الحرب والفتن "فمنعنيها".
وفي "التأويلات النجمية" {وَهِىَ} تجري يعني سفينة الشريعة بهم بمن ركبها بالأمر في موج أي : موج الفتن كالجبال من عظمتها ونادى نوح الروح ابنه كنعان النفس المتولدة بينه وبين القلب وكان في معزل من معرفة الله وطلبه يا بني اركب معنا سفينة الشريعة ولا تكن مع الكافرين من الشياطين المتمردة وألابالسنة الملعونة المطرودة.
قال يعني كنعان النفس.
سآوى إلى جبل أي : جبل العقل يعصمني من الماء من ماء الفتن قال لا عاصم اليوم من أمر الله يعني : إذا نبع ماء الشهوات من أرض البشرية ونزول ماء ملاذ الدنيا وفتنها من سماء القضاء لا يتخلص منه إلا بسفينة الشريعة ، فلا عاصم منه غيرها ، وذلك قوله : إلا من رحم أي : يرحمه الله بالتوفيق للاعتصام بسفينة الشريعة ، وحال بينهما الموج أي : بين كنعان النفس المعتصم بجبل العقل وبين العقل موج الشهوات النفسانية الحيوانية ، وفتن زخارف الدنيا فكان من المغرقين يعني : كل نفس لا تعتصم بسفينة الشريعة وتريد أن تعتصم بجبل العقل لتتخلص به من طوفان الفتن المهلكة ، كما هو حال الفلاسفة لا يتهيأ له متمناه وهو من الهالكين.
وفي المثنوى :
س بكوشى وباخر از كلال
خود بخود كوئى كه العقل عقال
همو آن مرد مفلسف روز مرك
(4/81)
عقل را مى ديدى س بى بال وبرك
بى غرض ميكرد آن دم اعتراف
كز زكاوت را ندايم اسب ازكزاف
از غروري سر كشيديم از رجال
آشنا كرديم در بحر خيال
133
آشنا هيست اندر بحر روح
نيست آنجا اره جز كشتى نوح
همو كنعان سوى هر كوهى مرو
از نبي لا عاصم اليوم شنو
مى نمايد ست آن كشتى زبند
مى نمايد كوه فكرت س بلند
در بلندى كوه فكرت كم نكر
كه يكى موجش كند زير وزبر
كرتو كنعاني ندارى باورم
كردو صد ندين نصيحت آورم
كوش كنعان كي ذيرد اين كلام
كه براو مهر خدايست وختام
آخر اين اقرار خواهى كرد هين
جزء : 4 رقم الصفحة : 131
هم زاول روز آخررا ببين
هركه آخر بين بود مسعود بود
نبودش هر دم بره رفتن عثور
كر نخوائى هردمى اين خفت وخيز
كن زخاك اى مردى شم تيز
وقال الحافظ :
يار مردان خداباش كه در كشتى نوح
هست خاكى له بابي نخرد طوفانرا
ومن اللطائف المناسبة لهذا المحل ما قال خسرو دهلوى :
زيدرياى شهادت ون نهنك لابر آردسر
نيم فرض كردد نوح رادروقت طوفانش
قوله (زدرياى شهادت) هو قول المؤمنين أشهد (ون نهنك لابر آرد سر) هو ارتفاع لا والمراد من التيمم الضربتان ضربة إلا وضربة الله.
والمراد من نوح اللسان ومن الفم السفينة وطوفانه تلفظه بأن لا إله إلا الله ، وإذا قال : أشهد أن لا إله إلا الله رفع لا رأسه من بحر الشهادة ووقع الطوفان على اللسان فوجب عليه هاتان الضربتان ، فإذا ضربهما نجا ، وإن لم يضربهما ووقف ساعة غرق في بحر الطوفان ، والوقف كفر كذا شرحه حضرة الشيخ بالي الصوفيوي شارح الفصوص قدس سره.
وقيل بني على المفعول كأخواته الآتية لتعين الفاعل وهو الله تعالى إذ لا يقدر أحد غيره على مثل هذا القول البديع والفعل العجيب ، أي : قال الله تعالى : بعد مدة الطوفان تنزيلاً للأرض والسماء منزلة من له صلاحية النداء.
يا أرض قدم أمر الأرض على أمر السماء لابتداء الطوفان منها.
ابلعي أي : انشفي فإن البلع حقيقة إدخال الطعام في الحلق بعمل الجاذبة ، فهو استعارة لغور الماء في الأرض ، ووجه الشبه الذهاب إلى مقرّ خفي يقال : نشف الثوب العرق بكسر الشين أي : شربه ، وفيه دلالة على أنه ليس كالنشف المعتاد التدريجي ماءك أي : ما على وجهك من ماء الطوفان دون المياه المعهودة فيها من العيون والأنهار ، وإنما لم يقل ابلعي بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظراً إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء كذا في المفتاح.
يقول الفقير : تفسير الإرشاد يدل على أن الماء المضاف إلى الأرض مجموع الماء الذي خرج من بطنها ونزول من السماء والظاهر الذي لا محيص عنه أنه ماء الأرض بخصوصه فإنها لما نشفته صار ما نزل من السماء هذه البحور على ما في تفسير التيسير ثم رأيت في بعض الكتب المعتبرة ما يوافق هذا وهو أن الله تعالى لما نزل الطوفان على قوم نوح عليه السلام انزل عليهم
134
المطر من السماء أربعين يوماً بمياه كثيرة ، وأمر عيون الأرض فانفجرت فكان الماآن سواء في اللين غير أن ماء السماء كان مثل الثلج بياضاً وبرداً ، وماء الأرض مثل الحميم حرارة حتى ارتفع الماء على أعلى جبل في الدنيا ثمانين ذراعاً ، ثم أمر الأرض فابتعلت ماءها وبقي ماء السماء لم تبتلغه الأرض فهذه البحور التي على وجه الأرض منها ، وأما البحر المحيط فغير ذلك بل هو جزر عن الأرض حين خلق الله الأرض من زبده ، انتهى ويا سماء اقلعي أي : أمسكي عن إرسال المطر يقال : اقلع الرجل عن عمله إذا كف ، واقلعت السماء إذا انقطع مطرها فالإقلاع يشترك بين الحيوانات والجمادات.
جزء : 4 رقم الصفحة : 131
قال العلماء : قيل مجاز مرسل عن الإرادة كأنه قيل أريد أن يرتد ما انفجر من الأرض إلى بطنها وأن ينقطع طوفان السماء وذلك بعد أربعين يوماً وليلة روى أنه لا ينزل من السماء قطرة من ماء إلا بكيل معلوم ووزن معلوم إلا ما كان يوم الطوفان فأنزل بغير كيل ووزن.
وأصل الكلام قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ماءها ، ويا سماء اقلعي عن إرسال الماء اقلعت عن إرساله ، وغيض الماء النازل من السماء فغاض وترك ذكره لظهور انفهامه من الكلام وغيض الماء أي : نقص ما بين السماء والأرض من الماء فظهرت الجبال والأرض.
والغيض : النقصان يقال : غاض الماء قل ونضب وغاضه الله نقصه يتعدى ويلزم وهو في الآية من المتعدي لأن الفعل لا يبني للمفعول بغير واسطة حرف الجر إلا إذا كان متعديا بنفسه وقضى الأمر أي : أنجز الموعود من إهلاك الكافرين ، وإنجاء المؤمنين فالقضاء ههنا بمعنى الفراغ كأنه قيل تم أمرهم وفرغ من إهلاكهم وإغراقهم.
قال في المفتاح : قيل الأمر دون أن يقال : أمر نوح لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك.
(4/82)
قال السيد : إما لأن اللام بدل من المضاف إليه كما هو مذهب الكوفية ، وإما لأنها تغني غناء الإضافة في الإشارة إلى المعهود.
واستوت واستقرت الفلك واختير استوت على سويت ، أي : أقرت مع كونه أنسب بأخواته المبنية للمفعول اعتباراً لكون الفعل المقابل للاستقرار أعني الجريان منسوباً إلى السفينة على صيغة المبنى للفاعل في قوله وهي تجري بهم مع أن استوت أخصر من سويت على الجودي هو جبل بالجزيرة بقرب الموصل أو بالشام أو بآمد وروى في الخبر أن الله تعالى أوحى إلى الجبال إني أنزل السفينة على جبل فتشامخت الجبال وتواضع الجوديتعالى فأرست عليه السفينة.
قال السعدي قدس سره :
طريقت جزاين نيست درويش را
كه افكنده داردتن خويش را
بلنديت بايد تواضع كزين
كه آن نام را نيست راهى جزاين
والتواضع آخر مقام ينتهي إليه رجال الله تعالى وحقيقته العلم بعبودية النفس ، ولا يصح مع العبودية رياسة أصلاً ، لأنها ضد لها ، ولهذا قال المشايخ قدس الله أسررهم : آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرياسة ولا تظن أن هذا التواضع الظاهر على أكثر الناس وعلى بعض الصالحين تواضع وإنما هو تملق لسبب غاب عنك ، وكل يتملق على قدر مطلوبه والمطلوب منه فالتواضع سر من أسرار الله تعالى لا يهبه على الكمال إلا لنبي أو صديق كما في المواقع.
وعن علي رضي الله عنه أشد الخلق الجبال الرواسي والحديد أشد منها إذ ينحت به الجبل والنار تغلب الحديد والماء يطفى
135
النار والسحاب يحمل الماء والريح تحمل السحاب والإنسان يغلب الريح بالبنيان والنوم يغلب الإنسان والموت يغلب الكل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 131
وذكر أهل الحكمة أن مجموع ما عرف في الأقاليم السبعة من الجبال مائة وثمانية وسبعون جبلاً.
وفي زهرة الرياض ستة آلاف وستمائة وثلاثة وسبعون جبلاً سوى التلول ، منها ما طوله عشرون فرسخاً ومنها مائة فرسخ إلى ألف فرسخ.
وفي أسئلة الحكم ، جعل الله الجبال كراسي أنبيائه كأحد لنبينا ، والطور لموسى ، وسر نديب لآدم ، والجودي لنوح عليهم السلام وكفى بذلك شرفاً ، وإنها بمنزلة الرجال في الأكوان يقال : للرجال الكامل جبل.
واختلفوا في أن أي : الجبال أفضل؟ فقيل أبو قبيس لأنه أول جبل وضع على الأرض وقيل عرفة وقيل : جبل موسى وقيل : قاف.
وقال السيوطي : أفضل الجبال جبل أحد وهو جبل من جبال المدينة وسمى بذلك لتوحده وانفراده عن غيره من الجبال التي هناك ، وهذا الجبل يقصد لزيارة سيدنا حمزة رضي الله عنه ومن فيه من الشهداء رضي الله عنهم وهو على نحو ميلين أو على نحو ثلاثة من المدينة واستدل على أفضليته بأنه مذكور في القرآن باسمه في قراءة من قرأ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد}(آل عمران : 153) أي : بضم الهمزة والحاء وبقوله عليه السلام : "أحد ركن من أركان الجنة" أي : جانب عظيم من جوانبها وقوله : الآخر "أن أحداً هذا جبل يحبنا ونحبه ، فإذا مررتم به فكلوا من شجرة ولو من عضاهه" وهي كل شجرة عظيمة لها شوك ، والقصد الحث على عدم إهمال الأكل من شجره تبركاً به ، ولا مانع أن تكون المحبة من الجبل على حقيقتها وضع الحب فيه كما وضع التسبيح في الجبال مع داود عليه السلام وكما وضعت الخشية في الحجارة قال الله تعالى : {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (البقرة : 74) كما في "إنسان العيون".
يقول الفقير للجمادات حياة حقانية عند أهل الله تعالى كما قال في "المثنوى" :
بادرا بي شم اكر بينش نداد
فرق ون ميكردد اندر قوم عاد
كر نبودي نيل را آن نورديد
ازه قبطي را زسبطى ميكزيد
كرنه كوه سنك باديدار شد
س را داود را و يار شد
اين زمين را كر نبودى شم جان
ازه قارونرا فرو خوردى نان
ومن هذا عرفت النداء في قوله تعالى يا أرض ويا سماء حقيقة عند العلماء بالله وكذا مقاله تعالى المنفهم من قوله وقيل.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : وكما نقول تجلى الله تعالى في صورة ، كما يليق بجلاله ، كذلك نقول تكلم بحرف وصوت كما يليق بجلالة ، وكلام الله تعالى عين المتكلم في مرتبة ، ومعنى قائم به في الأخرى كالكلام النفسي ، ومركب من الحروف ومتعين بها في عالمي المثال والحس بحسبهما كما في "الدرة الفاخرة" للمولى الجامي رحمه الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 131
ثم إن نوحاً هبط من السفينة إلى الجودي يوم عاشوراء.
وعن قتادة استقلت بهم السفينة لعشر خلون من رجب وكانت في الماء خمسين ومائة يوم ، واستقرت بهم على الجودي شهراً وذلك ستة أشهر ، وهبطت بهم يوم عاشوراء وسيأتي ما يتعلق بذلك.
{وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} قوله بعداً مصدر مؤكد لفعله ، المقدر أي : بعدوا بعداً أي : هلكوا من قولهم بعداً وبعداً إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ، والمعنى : الدعاء عليهم بذلك وهو تعليم من الله تعالى لعباده أن يدعوا
136
(4/83)
على الظالمين به أي : ليبعد القوم بعداً وليهلكوا ، وهو بالفارسية.
(دوري وهلاكي باد مرقوم ستمكارانرا) واللام في للقوم لبيان من دعى عليهم كاللام في هيت لك وسقياً لك متعلق بالفعل المحذوف ، أو بقوله قيل أي : قيل لأجلهم هذا القول والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك ، وفيه تعريض بأن سالكي مسالكهم في الظلم والتكذيب يستحقون مثل هذا الإهلاك والدعاء عليهم.
قال في المفتاح : وختم الكلام ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه لأن الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم.
قيل : ما نجا من الكفار غير عوج بن عنق كان في الماء إلى حجزته وهو معقد الإزار ، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع وقد عاش ثلاثة آلاف سنة وقد سبق في سورة المائدة وكان سبب نجاته أن نوحاً عليه السلام احتاج إلى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقلها فحملها عوج إليه من الشام فنجاه الله من الغرق بذلك.
وقد ثبت أيضاً أن واحداً من آل فرعون كان يلبس قلنسوة مثل قلنسوة موسى عليه السلام ويسخر منه ، وقد نجاه الله تعالى من الغرق في بحر القلزم بمجرد تشبهه الصوري ، ولو تاب من جنايته لنجا من عذاب الدارين.
وعن أبي العالية قال : لما رست سفينة نوح عليه السلام إذا هو بإبليس على كوثل السفينة ، أي : مؤخرها ، فقال له نوح : ويلك قد غرق أهل الأرض من أجلك قد أهلكتهم ، قال له إبليس : فما اصنع؟ قال : تتوب ، قال : فسل ربك هل لي من توبة فدعا نوح ربه فأوحى الله تعالى إليه أن توبته أن يسجد لقبر آدم عليه السلام فقال له نوح : قد جعلت لك قال : وما هي؟ قال : تسجد لقبر آدم ، قال : تركته حياً وأسجد له ميتاً.
وفيه إشارة إلى أن السجدة لآدم وهو مقبور كالسجدة له وهو غير مقبور ، إذ الأنبياء عليهم السلام أحياء عند ربهم ، وكذا كُمَّل الأولياء قدس الله أسرارهم ، كما قال الصائب :
جزء : 4 رقم الصفحة : 131
مشو بمرك زامداد اهل دل نوميد
كه خواب مردم آكاهعين بيداريست
والشيطان الرجيم غفل عن هذا فنكل عن قبول الحق الصريح ، ومثله من ينكر الأولياء أو زيارة قبورهم والاستمداد منهم نسأل الله العصمة ونعوذ به من الخذلان.
اعلم أن القرآن بجميع سورة وآياته معجز في غاية طبقات الفصاحة والبلاغة لكن بين بعض أجزائه تفاوت بحسب الاشتمال على الخواص ، والمزايا فإن بعض المقام لا يتحمل ما تحمله مقام كلام فوقه من اللطائف والخفايا ، فمن المرتفع شأنه في الحسن والقبول هذه الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : وقيل يا أرض ابلعي إلى آخره ولذا لما سمعها من تبوأ أسرة الفصاحة القحطانية وركب متن البلاغة في بدوّ الخطب العدنانية من العرب العرباء ومصاقع الخطباء سجدوا لفصاحتها وتططأوا دون سرادقات إحاطتها ، ونسوا قصائدهم المعلقة ورجعوا عن منشآتهم المقررة المحققة ، ولقد أحسن من نبه على التفاوت المذكور ، وقال على ما هو المشهور :
دربيان ودر فصاحت كي بود يكسان سخن
كره كوينده بود ون جاحظ وون اصمعي
از كلام ايزد بيون كه وحي منزلست
كى بود تبت يدا ون قيل يا أرض ابلعي
ألا ترى أن الله سبحانه جعل الأنبياء عليهم السلام متساوية الأقدام في درجة النبوة وجعل استعدادات أممهم مختلفة فاختلافهم إنما هو لمعنى في نفسهم لا لمعنى في الذي أرسل إليهم ، فلما كانت
137
هذه الآيات الآفاقية والأنفسية الواقعة في مصحف الفرقان متفاوتة متباينة كانت الآيات البينات المندرجة في مصحف القرآن كذلك ؛ إذ هو جامع لحقائق جميع النسخ الوجوبية والإمكانية موافق لما فصله الكتب العلمية والأعيانية ولله در شأن التنزيل في الإشارة إلى المراتب والله الغالب.
قال في التأويلات النجمية : وقيل يا أرض ابلعي ماءك أي : يا أرض البشرية ماء شهواتك ويا سماء القضاء اقلعي عن إنزال مطر الآفات.
وغيض الماء ماء الفتن أي : نقصت ظلمتها بنور الشرع وسكنت سورتها.
وقضى الأمر أي : انقضى ما كان مقدراً من طوفان الفتن للابتلاء واستوت أي : سفينة الشريعة.
على الجودي وهو مقام التميكن يعني أيام الطوفان كانت من مقامات التلوين في معرض الآفات والهلاك ، فلما مضت تلك الأيام آل الأمر إلى مقام التمكين وفيه النجاة والثبات ونيل الدرجات.
وقيل بعدا أي : غرقة وهلاكاً للقوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالتقاعد عن ركوب سفينة الشريعة انتهى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 131
{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ} (وبخواند روردكار خودرا).
فقال الفاء لتفصيل ما في النداء من الإجمال.
رب (اي روردكار من إن ابني كنعان وسمى الابن ابناً لكونه بناء أبيه ، أي : مبني أبيه من أهلي وقد وعدتني إنجاءهم في ضمن الأمر بحملهم في الفلك ، ومن تبعيضية لأنه كان ابنه من صلبه على ما هو الأرجح أو كان ربيباً له فهو بعض أهله والأهل يفسر بالأزواج والأولاد وبالعبيد والإماء وبالأقارب وبالأصحاب وبالمجموع كما في شرح المشارق لابن ملك.
(4/84)
قال ابن الكمال : الأهل خاصة الشيء وما ينسب إليه ، ومنه قوله تعالى : إن ابني من أهلي وإن وعدك ذلك والوعد عبارة عن الأخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها.
الحق الثابت الذي لا يتطرق إليه الخلف ولا يشك في إنجازه والوفاء به ، والظاهر أن هذا النداء كان قبل غرق ابنه فإن الواو لا تدل على الترتيب ، والمقصود منه طلب نجاته لا طلب الحكمة في عدم نجاته حين حال الموج بينهما ولم يعلم بهلاكه بعد إما بتقريبه إلى الفلك بتلاطم الأمواج أو بتقريبها إليه ، ومجرد حيلولة الموج بينهما لا يستوجب هلاكه فضلاً عن العلم به لظهور إمكان عصمة الله إياه برحمته والله على كل شيء قدير ، ويؤيده ما في بحر الكلام أن ذكر المسألة أي : في قوله تعالى : فلا تسألن كما يستأتى دليل على أن النداء كان قبل أن يغرق حتى يخاف عليه وأنت أحكم الحاكمين أي : أعلم الحكام وأعدلهم ، إذ لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل ، وربَّ جاهل ظالم من متقلدي الحكومة في زمانك لقد لقب أقضى القضاة ، ومعناه احكم الحاكمين فاعتبر واستعبر قال جار الله :
قضاة زماننا صاروا لصوصاً
عموماً في القضايا لا خصوصاً
خشينا منهمو لو صافحونا
للصوا من خواتمنا فصوصاً
وفي الحديث : القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به وأما الآخران فرجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار أي : لا يعرف الحق فيخلط الحلال بالحرام.
قال الشيخ السعدي :
جزء : 4 رقم الصفحة : 138
مها زور مندى مكن بر كهان
كه بر يك نمط مى نماند جهان
138
لب خشك مظلوم را كو بخند
كه دندان ظالم بخواهند كند
قال الله تعالى يا نوح إنه أي : ابنك ليس من أهلك الذين عمهم الوعد بالإنجاء لخروجه منهم بالاستثناء فإن مدار الأهلية هو القرابة الدينية ولا علاقة بين المؤمن والكافر.
وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة إنه ابنه غير أنه خالفه في العمل.
قال بعض الحكماء : الابن إذا لم يفعل ما فعل الأب انقطع عنه ، والأمة إذا لم يفعلوا ما فعل نبيهم أخاف أن ينقطعوا عنه ، فظهر أن لا فائدة في نسب من غير علم وعمل وفي فخر بمجرد الآباء.
قال السعدي قدس سره :
و كنعا نرا طبيعت بى هنر بود
يمبر زاده كي قدرش نيفزود
هنر بنماى اكر داري نه كوهر
كل از خارست وإبراهيم از آزر
وفي الحديث : يا بني هاشم لا يأتني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم والغرض تقبيح الافتخار لديه عليه السلام بالأنساب حين يأتي الناس بالأعمال :
وما ينفع الأصل من هاشم
إذا كانت النفس من باهله
وهي قبيلة معروفة بالدناءة لأنهم كانوا يأكلون نقي عظام الميتة إنه عمل غير صالح أصله إنه ذو عمل غير صالح فجعل نفس العمل مبالغة في مداومته على العمل الفاسد ، ولم يقل عمل فاسد مع أنهما متلازمان للإيذان بأن النجاة إنما كانت بسبب الصلاح.
يقول الفقير : لاح لي حين المطالعة معنى آخر وهو أن العمل بمعنى الكسب والفعل ، ولا يبعد أن يكون المعنى إنه كسب غير صالح من غير احتياج إلى تقدير مضاف وقد ورد في الحديث تسمية الولد كسباً في قوله : إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه وفي قوله : أنت ومالك لأبيك.
قيل لحكيم وهو يواقع زوجته : ما تعمل؟ قال : إن تم فإنساناً فلا تسألن سمي نداؤه سؤالاً لما فيه من السؤال والطلب ، أي : إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني.
ما ليس لك به علم أي : مطلباً لا تعلم يقيناً أن حصوله صواب وموافق للحكمة إني أعظك (ندميدهم ترا) أن تكون أي : كراهة أن تكون من الجاهلين عبّر عن ترك الأولى بالجهل ؛ لأن استثناء من سبق عليه القول قد دله على الحال وأغناه عن السؤال أشغله حب الولد عنه حتى اشتبه الأمر عليه ، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 138
{قَالَ} عند ذلك قبلت يا ربي هذا التكليف فلا أعود إليه إلا إني لا أقدر على الاحتراز منه إلا بإعانتك وهدايتك فلهذا بدأ أولاً بقوله رب إني أعوذ بك أن أسألك أي : من أن أطلب منك من بعد ما ليس لي به علم أي : مطلوباً لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة ، يعني : احفظني بعد اليوم من المعاودة إلى مثل السؤال ، وكان على قدم الاستغفار إلى أن توفي ، وهذه عادة الصالحين أنهم إذا وعظوا اتعظوا وإذا نبهوا للخطأ استغفروا وتعوذوا ، وحكى تعالى ما كان من الأنبياء عليهم السلام ليقتدى بهم في الاستغفار وأن لا يقطع الرجاء من رحمة الله تعالى ، وقد قبل الله تعالى توبة نوح عليه السلام كما يدل عليه قوله تعالى : قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات ، ثم حقيقة التوبة تقتضي أمرين ، أحدهما : العزم على ترك الفعل في المستقبل وإليه لإشارة بقوله : إني أعوذ بك الخ ، والآخر : الندم والاستغفار لما مضى وإليه الإشارة بقوله : وإلا مركب من أن ولا ، ثم أدغم أحدهما
139
(4/85)
في الآخر تغفر لي أي : وإن لم تغفر لي ما صدر مني من السؤال المذكور.
وترحمني بقبول توبتي أكن من الخاسرين أعمالاً بسبب ذلك فإن الذهول عن شكر الله لا سيما عند وصول مثل هذه النعمة الجليلة التي هي النجاة وهلاك الأعداء والاشتغال بما لا يعني خصوصاً بمبادي خلاص من قيل في شأنه إنه عمل غير صالح والتضرع إلى الله تعالى في أمره معاملة غير رابحة وخسران مبين.
واعلم أن التوبة والاستغفار والالتجاء إلى الملك الغفار ورد لا ينقطع إلى الموت ، وفعل يستمر إلى زمان الفوت ، لأن المؤمن لا يزال متقلباً بين التنزلات والترقيات ، والسالك لا يبرح مبتلى بالاستتار والتجليات ، والكامل لا ينفك يتدرج إلى غايات مراتب السير في عوالم الصفات والذات ، وهذا نوح قد سأل ما سأل ثم تاب ، وهذا موسى قد طلب ما طلب ثم أناب ، والكل جار بقضاء الله وقدره فإنه إذا جاء يتعطل العبد عن قواه وقدره.
وفي المثنوى :
اين هم از تأثير حكمست وقدر
اه مى بيني ونتوانى حذر
جزء : 4 رقم الصفحة : 139
نيست خودا زمرغ ران اين عجب
كو نبيند دام وافتد در عطب
اين عجب كه دام بيند هم وتد
كر بخواهد ور نخواهد مى فتد
شم باز وكوش باز ودام يش
سوى دامى مى برد بار خويش
ألا ترى إلى نوح عليه السلام فإنه لما ابتدر إلى سؤال ابنه نبه على تركه مرات.
والإشارة : ونادى نوح أي : نوح الروح ربه فقال رب إن ابني من أهلي أي : النفس المتولدة من ازدواج الروح والقالب من أهلي وإن وعدك الحق وذلك أن الله تعالى لما أراد بحكمته أن ينزل الأرواح المقدسة العلوية من أعلى عليين جواره وقربه إلى أسفل سافلين القالب قال أرواح الأنبياء والأولياء وخواص المؤمنين : يا ربنا وإلهنا تنزلنا من أعلى مقامات قربك إلى أسفل دركات بعدك ، ومن عالم البقاء إلى عالم الفناء ومن دار السرور واللقاء إلى دار الحزن والبلاء ومن منزل التجرد والتواصل إلى منزل التوالد والتناسل ومن رتبة الاصطفاء والاجتباء إلى رتبة الاجتهاد والابتلاء ، فوعدهم الله من عواطف إحسانه بأن ينجيهم وأهليهم من ورطات الهلاك فكما أن من قضية حكمته أن يكون لنوح أربعة بنين ثلاثة منهم مؤمنون وواحد كافر فكذلك حكمته اقتضت أن يكون للروح أربعة بنين ثلاثة منهم مؤمنون وهم القلب والسر والعقل ، وواحد كافر وهو النفس فكما ، كان ثلاثة من بني نوح معه في السفينة وكان واحد في معزل منه فكذلك ثلاثة من بني الروح معه كانوا في سفينة الشريعة وكان واحد وهو كافر النفس في معزل منه ، ومن الدين والشريعة ، فلما أشرف ولده الكافر على الغرق في بحر الدنيا وطوفان الفتن قال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق ، وأنت احكم الحاكمين يعني : إن أنجيته أو أغرقته أنت اعدل العادلين فيما تفعله لأنك حكيم ، وأحكم الحكماء ، لا تخلوا فعالك من عدل وحكمة أنت اعلم بها قال أي : الرب تعالى للروح يا نوح إنه ليس من أهلك أي : من أهل دينك وملتك والأهلية على نوعين أهلية القرابة وأهلية الملة والدين وما نفى هنا أهلية القرابة لتولدها من الروح ، ثم أظهر علة نفي الأهلية الدينية فقال : إنه عمل غير صالح أي خلق للأمارية بالسوء وهذه سيرتها أبداً ، ثم أدب الروح بآداب أهل القربة فقال : فلا تسألن ما ليس لك به علم أي : علم
140
حقيقي بأن يجوز لأهل القربة ، على بساط القرب هذا الانبساط أم لا.
إني أعظك يا روح القدس أن تكون على البساط بهذا الانبساط من الجاهلين أي : من النفوس الجاهلة الظالمة.
وفيه إشارة إلى أن الروح العالم العلوي يصير بمتابعة النفس وهواها جاهلاً سفليّ الطبع دنىء الهمة.
قال أي : الروح رب إني أعوذ بك إن أسألك ما ليس لي به علم من التماس نجاة النفس الممتحنة بآفات الدنيا وشهواتها من طوفان الفتن.
وإلا تغفر لي تؤيدني بأنوار المغفرة وترحمني على عجزي عن الاهتداء بغير هداك اكن من الخاسرين يشير إلى أن الرحمة هي المانعة للروح من الخسران كذا في التأويلات النجمية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 139
(4/86)
قيل القائل هو الله تعالى يا نوح اهبط هبط لازم ومتعد إلا أن مصدر اللازم الهبوط ومصدر المتعدي الهبط كالرجوع والرجع والمراد هنا الأول والهبوط بالفارسية (فرود آمدن) أي : انزل من الفلك إلى جبل الجودي الذي استقرت السفينة عليه شهراً أو من الجودي إلى الأرض المستوية.
بسلام ملتبساً بسلامة من المكاره كائنة منا فسلام بمعنى السلامة حال من فاعل اهبط ، ومنا صفة له دالة على تعظيمه وكماله ، لأن ما كان من الله العظيم عظيم ، أو بسلام وتحية منا عليك كما قال : سلام على نوح في العالمين}(الصافات : 79) فالسلام بمعنى التسليم ، والأول أوجه ، لأن المقام مقام النجاة من الغرق.
{وَبَرَكَـاتٍ عَلَيْكَ} أي : خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق.
وعلى أمم ناشئة ممن معك متشعبة منهم فمن ابتدائية ، والمراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممن معه من أولاده إلى يوم القيامة فهو من إطلاق العام وإرادة الخاص هذا على رواية من قال : كان معه في السفينة أولاده وغيرهم مع الاختلاف في العدد فمات غير الأولاد ، أي : بعد الهبوط ولم ينسل وهو الأرجح ، وإما على رواية من قال : ما كان معه في السفينة ألا أولاده ونساؤهم على أن يكون المجموع ثمانية فلا يحتاج إلى التأويل ، وأياً ما كان فنوح أبو الخلق كلهم ، ولذا سمي آدم الثاني ، وآدم الأصغر ، لأنه لم يحصل النسل إلا من ذريته ، وقد أخرج الله الكثير من القليل بقدرته كما أخرج من صلب زين العابدين الكثير الطيب وذلك إنه قتل مع سلطان الشهداء الحسين رضي الله عنه عامة أهل بيته ولم ينج إلا ابنه زين العابدين على أنه رضي الله عنه أصغرهم فانمى الله تعالى ذريته السادة.
قال في نفائس المجالس : لما ارتفع الطوفان قسم نوح الأرض بين أولاده الثلاثة ، فأما سام فأعطاه بلاد الحجاز واليمن والشام فهو أبو العرب ، وأما حام فأعطاه بلاد السودان فهو أبو السودان ، وأما يافث فأعطاه بلاد المشرق فهو أبو الترك.
قال في أسئلة الحكم : أما ممالك الأقاليم السبعة التي ضبط عددها في زمن المأمون فثلاثمائة وثلاث وأربعون مملكة ، منها ثلاثة أيام وهي أضيقها ، وثلاثة أشهر وهي أوسعها ووجدت مملكة في خط الاستواء لها ربيعان وصيفان وخريفان وشتاآن في سنة واحدة وفي بعضها ستة أشهر ليل وستة أشهر نهار وبعضها حر وبعضها برد ، وأما جميع مدائن الأقاليم فهو أربعة آلاف مدينة وخمسمائة وست وخمسون وقيل غير ذلك وما العمران في الخراب إلا كخردلة في كف أحدكم وفي الخبر : إندابة في مرج من مروجه رزقها كل يوم بقدر رزق العالم باسره فانظر إلى سعة رحمة الله وبركاته ولا تغتم لأجل الرزق.
وفي المثنوى :
141
جمله را رزاق روزى ميدهد
جزء : 4 رقم الصفحة : 139
قسمت هركس كه يشش مينهد
سالها خوردى وكم نامد زخور
ترك مستقبل كن وماضي نكر
وأمم مبتدأ سنمتعهم صفة والخبر محذوف وهو منهم ، أي : ليس جميع من تشعب منهم مسلماً ومباركاً عليهم ، بل منهم أمم سنمتعهم في الدنيا معناه بالفارسية (زود باشدكه برخوردارى دهيم ايشانرا دردنيا بفراخى عيش وسعت رزق) ثم يمسهم منا (س برسد ايشانرا ازما) عذاب أليم (عذابي دردناك) إما في الآخرة أو في الدنيا أيضاً وهم الكفار وأهل الشقاوة ، يشير سبحانه وتعالى إلى أن كون كل الناس سعداء أو أشقياء مخالف لحكمته فإنه أودع فيهم جماله وجلاله على مقتضى تدبيره فلا بد من ظهور آثار كل منهما ، كما قال الحافظ :
در كار خانه عشق ازكفرنا كزيرست
آتش كرا بسوزد كر بولهب نباشد
حكى في التفاسير أنه لما رست السفينة على الجودي كشف نوح الطبق الذي فيه الطير فبعث الغراب لينظر هل غرقت البلاد كما في حياة الحيوان أو كم بقى من الماء فيأتيه بخبر الأرض كما في تفسير أبي الليث فابصر جيفة فوقع عليها واشتغل بها فلم يرجع ولذا قالوا : في المثل أبطأ من غراب نوح ، ثم أرسل الحمامة فلم تجد موضعاً في الأرض فجاءت بورق الزيتون في منقارها فعرف نوح أن الماء قد نقص وظهرت الأشجار ثم أرسلها فوقعت على الأرض فغابت رجلاها في الطين قدر حمرتهما فجاءت إلى نوح وأرته فعرف إن الأرض قد ظهرت فبارك على الحمامة وطوقها الخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم تألف البيوت ، ودعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت وتشاءم العرب بالغراب واستخرجوا من اسمه الغربة قالوا : غراب البين لأنه بان عن نوح.
واعلم أن نوحاً عليه السلام هبط بمن معه في السفينة يوم عاشوراء فصام وأمر من معه بصيامه شكراً الله تعالى وكان قد فرغت أزدواهم فجاء هذا بكف حنطة وهذا بكف عدس وهذا بكف حمص إلى أن بلغت سبعة حبوب فطبخها نوح عليه السلام لهم فافطروا عليها وشبعوا جميعاً ببركات نوح ، وكان أول طعام طبخ على وجه الأرض بعد الطوفان هذا فاتخذه الناس سنة يوم عاشوراء وفيه أجر عظيم لمن يفعل ذلك ويطعم الفقراء والمساكين.
(4/87)
وذكر أن الله عز وجل يخرق ليلة عاشوراء زمزم إلى سائر المياه فمن اغتسل يومئذٍ أمن من المرض في جميع السنة كما في الروض الفائق ومن وسع فيه على عياله في النفقة وسع الله له سائر سنته.
قال ابن سيرين : جربناه ووجدناه كذلك كما في الأسرار المحمدية.
قال في عقد الدرر واللآلى : المستحب في ذلك يوم فعل الخيرات من الصدقة والصوم والذكر وغيرها ، ولا ينبغي للمؤمن أن يتشبه بيزيد الملعون في بعض الأفعال ، وبالشيعة والروافض والخوارج أيضاً ، يعني : لا يجعل ذلك اليوم يوم عيد أو يوم مأتم ، فمن اكتحل يوم عاشوراء فقد تشبه بيزيد الملعون وقومه ، وإن كان للاكتحال في ذلك اليوم أصل صحيح فإن ترك السنة سنة إذا كانت شعاراً لأهل البدعة كالتختم باليمين فإنه في الأصل سنة لكنه لما كان شعار أهل البدعة والظلمة صارت السنة أن يجعل الخاتم في خنصر اليد اليسرى في زماننا كما في شرح القهستاني ومثله تقصير الثياب
142
وتطويلها اللهم إلا أن يفعل بعض الأفعال كالاغتسال وزيارة الأخوان وتوسيع النفقة ونحوها من غير أن يخطر بباله التشبيه وعدمه كما إذا خرج بطريق التنزه والتفرج يوم نيروز النصارى أو نيروز العجم ، وأهدى شيئاً إلى بعض إخوانه بطريق الاتفاق أو بمصلحة داعية إليه من غير أن يخطر بقلبه الموافقة فإنه لا بأس.
جزء : 4 رقم الصفحة : 139
ومن قرأ يوم عاشوراء وأوائل المحرم مقتل الحسين رضي الله عنه فقد تشبه بالروافض خصوصاً إذا كان بألفاظ مخلة بالتعظيم لأجل تحزين السامعين.
وفي كراهية القهستاني لو أراد ذكر مقتل الحسين ينبغي أن يذكر أولاً مقتل سائر الصحابة لئلا يشابه الروافضة انتهى.
قال حجة الإسلام الغزالي : يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين ، وحكايته وما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم فإنه يهيج بغض الصحابة والطعن فيهم وهم أعلام الدين ، وما وقع بينهم من المنازعات فيحمل على محامل صحيحة ، ولعل ذلك لخطأ في الاجتهاد لا لطلب الرياسة والدنيا كما لا يخفى.
وقال عز الدين بن عبد السلام : في فصل آفات اللسان الخوض في الباطل هو الكلام في المعاصي ، كحكاية أحوال الوقاع ، ومجالس الخمور وتجبر الظلمة ، وكحكاية مذاهب أهل الأهواء وكذا حكاية ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم انتهى.
قال في عقد الدرر : ويح قاتل الحسين كيف حاله مع أبويه وجده وأنشدوا :
لا بد إن ترد القيامة فاطم
وقيمصها بدم الحسين ملطخ
ويل لمن شفعاؤه خصماؤه
والصور في يوم القيامة ينفخ
وفي الحديث : قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل الدنيا.
قال في إنسان العيون : أرسل أهل الكوفة إلى الحسين أن يأتيهم ليبايعوه ، فأراد الذهاب إليهم فنهاه ابن عباس وبين له غدرهم وقتلهم لأبيه وخذلانهم لأخيه الحسن ، فأبى إلا أن يذهب فبكى ابن عباس رضي الله عنهما وقال : واحسيناه ولم يبق بمكة إلا من حزن على مسيره ، وقدم أمامه إلى الكوفة مسلم بن عقيل فبايعه من أهل الكوفة للحسين اثنا عشر ألفاً وقيل : أكثر من ذلك ، ولما شارف الكوفة جهز إليه أميرها من جانب يزيد وهو عبد الله بن زياد عشرين ألف مقاتل وكان أكثرهم ممن بايع لأجل السحت العاجل على الخير الآجل ، فلما وصلوا إليه ورأى كثرة الجيوش طلب منهم إحدى ثلاث إما أن يرجع من حيث جاء ، أو يذهب إلى بعض الثغور ، أو يذهب إلى يزيد يفعل فيه ما أراد ، فأبوا وطلبوا منه نزوله على حكم ابن زياد وبيعته ليزيد ، فأبي فقاتلوه إلى أن أثخنته الجراحة فسقط إلى الأرض فحزوا رأسه وذلك يوم عاشوراء عام إحدى وستين ووضع ذلك الرأس بين يدي عبد الله بن زياد.
قال في روضة الأخيار : قبر الحسين رضي الله عنه بكر بلاء ، وهي من أرض العراق ورأسه بالشام في مسجد دمشق على رأس أسطوانة وقد رأى النبي بعض الصالحين في النوم فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما ترى فتن أمتك؟ فقال : زادهم الله فتنة قتلوا الحسين ولم يحفظوني ولم يرعوا حقي فيه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 139
وعن الشعبي مرّ علي رضي الله عنه بكر بلاء عند مسيره إلى صفين فوقف وسأل عن اسم هذه الأرض فقيل : كربلاء فبكى حتى بل الأرض من دموعه ثم قال : دخلت على رسول الله وهو يبكي فقال : كان عندي جبريل آنفاً وأخبرني أن ولدي الحسين يقتل بشاطىء
143
الفرات بموضع يقال : له كربلاء ثم قبض جبريل قبضة من تراب اشمني إياها فلم أملك عيني أن فاضتاً روى أن تلك التربة جعلها رسول الله في قارورة وقال : لأم سلمة رضي الله عنها : إن هذا من تربة الأرض التي يقتل بها الحسين فمتى صار دماً فاعلمي أنه قد قتل قالت أم سلمة : فلما كان ليلة قتل الحسين سمعت قائلاً يقول :
أيها القاتلون جهلا حسينا
أبشروا بالعذاب والتذليل
قد لعنتم على لسان ابن داو
دو موسى وحامل الإنجيل
قالت : فبكيت وفتحت القارورة فإذا التربة قد جرت دماً.
حكى إن السماء احمرت لقتله.
(4/88)
قال ابن سيرين : والحمرة التي مع الشفق لم تكن حتى قتل الحسين ، وحكمته على ما قال ابن الجوزي : إن غضبنا يؤثر حمرة الوجه والحق منزه عن الجسمية فأظهر تأثير غضبه على من قتل الحسين بحمرة الأفق إظهاراً لعظيم الجناية ولم يرفع حجر في الدنيا يوم قتله إلا وجد تحته دم عبيط.
وأخرج أبو الشيخ أن جمعاً تذاكروا أنه ما من أحد أعان على قتل الحسين إلا أصابه بلاء قبل أن يموت ، فقال شيخ : أنا أعنت وما أصابني شيء فقام ليصلح السراج فأخذته النار فجعل ينادي النار النار وانغمس في الفرات ومع ذلك لم يزل ذلك به حتى مات ، وبعضهم ابتلى بالعطش فكان يشرب راوية ولا يُروى ، وبعضهم عوقب بالقتل أو العمى أو سواد الوجه أو زوال الملك في مدة يسيرة وغير ذلك ، فإذا عرفت فكن على جانب ممن يعادى أهل البيت ومن صحبتهم فإن موالاتهم معاداة لأهل البيت وبغض لهم ، واحفظ الحرمة يحفظك الله تعالى وفي الحديث : إنتعالى ثلاث حرمات فمن حفظهن حفظ الله دينه ومن لم يحفظهن لم يحفظ الله تعالى دينه ولا دنياه حرمة الإسلام وحرمتي وحرمة رحمي ومن لم يعرف حق عترتي والأنصار والعرب فهو لإحدى ثلاث ، إما منافق ، وإما لزنية وإما حملت به أمه في غير طهر.
دركار دين زمردم بي دين مدد مخواه
ازماه منخسف مطلب نور صبحكاه
اللهم احفظنا من الانقطاع عن الوسائل الحقة وألحقنا في الدنيا والآخرة بالطائفة المحقة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 139
{تِلْكَ} إشارة إلى قصة نوح عليه السلام ومحلها الرفع بالابتداء وخبرها قوله : من أنباء الغيب أي : بعض أخباره فإنه لتقادم عهده لم يبق علمه إلا عند الله تعالى.
نوحيها أي : تلك القصة بواسطة جبريل خبر ثانٍ إليك ليكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء عليهم السلام ما كنت تعلمها أنت ولا قومك خبر آخر ، أي : مجهولة عندك وعند قومك من قبل هذا أي : من قبل إيحائنا إليك وإخبارنا بها ، وفي ذكر جهلهم تنبيه على إنه عليه السلام لم يتعلمه إذ لم يخالط غيرهم وأنهم مع كثرتهم لم يسمعوه فكيف يؤخذ منهم.
قال سعدي المفتي : أعلمناهم بها ليكون لهم مثالاً وتحذيراً أن يصيبهم إذا كذبوك ما أصاب أولئك فاصبر متفرع على الإيحاء أي : وإذ قد أوحيناها.
وفي تفسير أبي الليث يعني : إن لم يصدقوك فاصبر على مشاق تبليغ الرسالة وأذية قومك وتكذيبهم كما صبر نوح في هذه المدة المتطاولة.
إن العاقبة أي : آخر الأمر بالظفر في الدنيا وبالفوز في الآخرة.
144
للمتقين أي : المؤمنين الموحدين الصابرين كما شاهدته في نوح وقومه ولك فيه أسوة حسنة.
وفيه تسلية لرسول الله وللمؤمنين.
قال الحافظ :
سروش عالم غيبم بشارتي خوش داد
كه كس هميشه كرفتار غم نخواهد ماند
قال الكاشفي : (ير طريقت فرمودكه صبر كليد همه بستكيها است وشكيبايي علاج همه خستكيها است نتيجه شكيباي ظفراست وكار بي صبر ازهر روز بترست :
صبراست كليد كنج مقصود
بي صبر درمراد نكشود
كر صبر كنى مراد يابى
وزباي در افتى ازشتابى
روى عن خباب بن الأرت قال : أتينا رسول الله وهو متوسد بردائه في ظل الكعبة فشكونا إليه فقلنا : يا رسول الله ، ألا تدعو الله لنا وتستنصرنا فجلس محماراً لونه ثم قال : إن من كان قبلكم ليؤتى بالرجل فيحفرله في الأرض حفرة فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ، وفي الحديث : يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الأرض فيغمس في النار غمسة فيخرج أسود محترقاً فيقال : له هل مر بك نعيم قط أو كنت فيه فيقول لا لم أزل في هذا البلاء منذ خلقني الله تعالى ويؤتي باشد أهل الدنيا بلاء فيغمس في الجنة غمسة يعني : يدخل فيها ساعة فيخرج كأنه القمر ليلة البدر فيقال : له هل مر بك شدة قط فيقول لا لم أزل في هذا النعيم منذ خلقني الله تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
(4/89)
يقول الفقير : هذا إذا صبر ولم يظفر ببغيته في الدنيا مع أن من الظفر والنصر الموت على ما قال بعض العلماء : في قوله تعالى : إلا إن نصر الله قريب}(البقرة : 214) فإن الميت أما مستريح أو مستراح منه ولكن غالب العادة الإلهية إنزال النصر للعاجز ولقد شاهدت في عصري كثيراً من مواد هذا الباب.
منها : أني كنت في الأسكوب من الديار الرومية أنهى عن المنكر فلقيني من القوم في مدة ست سنين ما يضيق نطاق البيان عنه حتى آل الأمر إلى الهجرة من تلك البلدة فأخرجوني من بينهم ، فانقلب الابتلاء إلى مقاساة شدائد الهجرة مع الأهل والأولاد ، حتى إذا دخلت مدينة بروسة بإشارة حضرة الشيخ قدس سره ووجدت فيها الراحة العظمى استولى الكفار على البلاد الرومية وأحرقوا الأسكوب ، وجعل الله من فيها من المستكبرين كأن لم يكن شيئاً مذكوراً.
ومنها : أن إبراهيم الوزير في أواخر دولة السلطان محمد الرابع نفى حضرة شيخنا الأجل الذي جعله الله آية من آيات هذه الدورة القمرية إلى بلدة المعروفة بشمني ، وكان حين النفي متمكناً في القسطنطينية فلم يلبث حتى نفاه الله أي : الوزير ثم قتل ، ثم لما آلت الوزارة إلى مصطفى المعروف بابن كور يلي في دولة السلطان سليمان الثاني أخرج حضرة الشيخ أيضاً لغرض فاسد إلى جزيرة قبرس فما مضى سنة إلا قتل الوزير وجعل عبرة للمعتبرين ومثلاً للآخرين ، وكنت أتحزن في أمر حضرة الشيخ حين كان في الجزيرة المذكورة ، فبينما أنا في تفكره يوماً ، إذ ورد لي كتاب من جنابه مندرج فيه قوله تعالى : {وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَارا بَلَـاغٌا فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَـاسِقُونَ} (الأحقاف : 35) فصادف قتل الوزير وهو من كراماته العجيبة حفظه الله سبحانه ومتعنا بعلومه الإلهية ووارادته الربانية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
{وَإِلَى عَادٍ} قبيلة من
145
العرب بناحية اليمن فهو متعلق بمضمر معطوف على قوله تعالى أرسلنا في قصة نوح وهو الناصب لقوله : أخاهم وتقديم المجرور على المنصوب ههنا للحذار من الاضمار قبل الذكر.
والمعنى وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي : واحداً منهم في النسب من قولهم ويا أخا العرب يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم هودا وكان عليه السلام من جملتهم فإنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.
وقيل : هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ابن عم أبي عاد.
قال الكاشفي : (عاد هارم در هودست وعاد سر عوص بن أرم بن سام بن نوح است وبرين قول از أبناء عم عاد باشد) قال بعضهم : عاد هو اسم القبيلة وهي الفروع المنشعبة من أصل واحد فيكون اسم الأب الكبير في الحقيقة والتعبير بأخص الأوصاف التي هي الأخوة بمعنى انتساب شخصين إلى صلب واحد أو رحم واحد وإلى صلب ورحم معاً ، ككونه كذلك بالنسبة إلى اتحاد الأب.
وقال بعضهم : هو اسم ملكهم وكانوا يسمون باسم ملكهم وإنما جعل واحداً منهم لأنهم أفهم لقوله وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وأرغب في اقتفائه.
قيل : إن هوداً مكث في ديار قومه أربعين سنة يعبد الله ويتجنب أصنامهم فنزل عليه جبريل بالرسالة إلى بني عاد فذهب هود إليهم وهم بالأحقاف متفرقون ، وهي الرمال والتلال وجعل يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وترك عبادة الأصنام ، كما قال تعالى : قال استئناف بياني كأنه قيل ماذا قال؟ لهم فقيل قال : يا قوم (اي كروه من) اعبدوا الله وحده لأنه ما لكم من إله غيره فخصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئاً ، وغيره بالرفع صفة لإله باعتبار محله.
إن أنتم إلا مفترون أي : ما أنتم باتخاذكم الأصنام شركاء إلا مفترون على الله الكذب.
قال في التأويلات النجمية : يشير بهود إلى القلب وبعاد إلى النفس وصفاتها فإن القلب أخو عاد النفس لأنهما قد تولدا من ازدواج الروح والقالب.
فالمعنى : إنا أرسلنا هود القلب إلى عاد النفس كما أرسلنا نوح الروح إلى قومه وبهذا المعنى يشير إلى أن القلب قابل لفيض الحق تعالى : كما أن الروح قابل لفيضه ، قال : يا قوم اعبدوا الله يشير إلى النفس ، وصفاتها أن يتوجهوا لعبودية الحق وطلبه ما لكم من إله غيره ، أي : شيء دونه لاستحقاق معبوديتكم ومحبوبيتكم ومطلوبيتكم إن أنتم إلا مفترون فيما تتخذون الهوى والدنيا معبوداً ومطلوباً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 145
يا قوم لا أسألكم عليه أي : على تبلغي الرسالة.
أجراً يعني جعلاً ورشوة ، ومعناه لست بطامع في أموالكم.
إن أجرى إلا على الذي فطرني خلقني جعل الصلة فعل الفطرة لكونه أقدم النعم الفائضة من جناب الله تعالى المستوجبة للشكر.
أفلا تعقلون أي : أتغفلون عن هذه القصة فلا تعقلونها.
(4/90)
واعلم : أن المال والجاه وثناء الخلق وغيرها من مشارب النفس عند أهل الله تعالى ولذا قالوا : ما من رسول إلا خاطب قومه بهذا القول إزاحة للتهمة وتمحيضاً للنصيحة فإنها لا تنجع ولا تنفع إلا إذا كانت خالصة غير مشوبة بشيء من المطامع :
طمع بند ودفتر زحكمت بشوى
طمع بكسل وهره خواهى بكوى
كما روى عن بعض المشايخ أنه كان له سنور ، وكان يأخذ من قصاب في جواره شيئاً من الغدد لسنوره فرأى على القصاب منكراً فدخل الدار فأخرج السنور أولاً ، ثم جاء واحتسب على
146
القصاب ، فقال : له القصاب لا أعطيك بعد اليوم لسنورك شيئاً ، فقال : ما احتسب عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك والطمع سكون القلب إلى منفعة مشكوكة.
مكن سعديا ديده بردست كس
كه بخشنده رورد كارست وبس
طمع آب روى موقر بريخت
براى دوجو دامن در بريخت
وساحة قلوب الأنبياء عليهم السلام ، وكذا الأولياء قدس سرهم مطهرة من دنس التعلق بغير الله في دعوتهم وإرشادهم ، وإنما يريد أهل الإرشاد من هذه الأمة تعظيم جاه رسول الله بتكثير اتباعه لا المال والمنافع الدنيوية فإن الآخرة خير وأبقى ، وفي المثل : أجهل من داعي ثمانين من الضأن.
قال ابن خالويه : إنه رجل قضى للنبي عليه السلام حاجة فقال : ائتني بالمدينة فأتاه فقال : أيما أحب إليك ثمانون من الضأن أو ادعو الله أن يجعلك معي في الجنة قال : بل ثمانون من الضأن قال : أعطوه إياها ثم قال : إن صاحبة موسى عليه السلام كانت أعقل منك وذلك أن عجوزاً دلته على عظام يوسف عليه السلام فقال لها موسى : أيما أحب إليك أسأل الله أن تكوني معي في الجنة أو مائة من الغنم قالت : الجنة ولكمال المحافظة على الدين لم يقبل العلماء المتقدمون أجرة على الوعظ والتعليم والأمامة والخطابة والتأذين وغيرها.
زيان ميكند مرد تفسير دان
كهعلم وأدب ميفروشد بنان
جزء : 4 رقم الصفحة : 145
{وَيَـاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} من عبادة غيره لأن التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان كما في بحر العلوم واللائح للبال أن المعنى اطلبوا مغفرة الله تعالى لذنوبكم السالفة من الشرك والمعاصي بأن تؤمنوا به فإن الإيمان يجب ما قبله ، أي : يقطع ثم ارجعوا إليه بالطاعة فإن التحلية بالمهملة بعد التخلية بالمعجمة فيكون ثم على بابها في التراخي أيضاً.
يرسل السماء عليكم أي : المطر مدرارا من أبنية مبالغة الفاعل يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وأصله من در اللبن درورا وهو كثرة وروده على الحالب ، يقال سحاب مدرار ومطر مدرار إذا تتابع منه المطر في أوقات الاحتياج إليه.
والمعنى حال كونه متتابعاً دائماً كلما تحتاجون.
وقال الكاشفي : (تابفر ستد از آسمان باراني يوسته) ويزدكم (وبيفزايد وزياده كند) قوة مضافة منضمة إلى قوتكم أي : يضاعفها لكم وإنما رغبهم في الإيمان بكثرة المطر وزيادة القوة ، لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات حراصاً عليها أشد الحرص فكانوا أحوج شيء إلى الماء ، وكانوا مدلين بما أوتوا من شدة القوة والبطش والبأس والنجدة ممنوعين بها من العدو مهيبين في كل ناحية.
وقال الكاشفي : (آورده اندكه عاديان دعوت هود قبلو نكردند وحق سبحانه وتعالى بشآمت آن سه سال باران ازايشان بازكرفت وزنان ايشانرا عاقره وعقيمه ساخت وون أصحاب زراعت بودند ودشمنان نيزداشتند براى زراعت به باران وبراي دفع أعادي بأولاد محتاج شدند هود عليه السلام فرمودكه يا قوم استغفروا إلخ فيكون معنى قوله : ويزدكم قوة إلى قوتكم قوتي باقوت شما يعني : فرزندان دهد شمارا تابمدد ايشان بر دفع أعادي قادر شويد).
وعن الحسن بن علي أنه وفد على معاوية ، فلما خرج تبعه بعض حجابه ، فقال : إني رجل ذو مال ولا يولد لي فعلمني شيئاً لعل الله يرزقني ولداً ، فقال : عليك بالاستغفار فكان يكثر
147
الاستغفار حتى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة فولد له عشرة بنين فبلغ ذلك معاوية ، فقال : هلا سألته ممَ قال : ذلك فوفد وفدة أخرى فسأله الرجل فقال : ألم تسمع قول هود ويزدكم قوة إلى قوتكم وقال نوح ويمددكم بأموال وبنين}(نوح : 12) {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} أي : حال كونكم مصرين على الإجرام والآثام والإجرام كسب الجرم كالإذناب بكسر الهمزة كسب الذنب قالوا استئناف بتقدير سؤال سائل ، كأنه قيل ما قال : له قومه بعد أن أمرهم ونهاهم فقيل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 147
قالوا : يا هود ما جئتنا ببينة أي : بحجة تدل على صحة دعواك وإنما قالوه : لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات كما قالت : قريش لرسول الله لولا أنزل عليه آية من ربه مع فوات آياته الحصر وما نحن بتاركي آلهتنا أي : بتاركي عبادتهم وأصله تاركين سقطت النون بالإضافة.
عن قولك حال من الضمير في تاركي ، كأنه قيل : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك ، أي : صادراً تركنا عن ذلك بإسناد حال الوصف إلى الموصوف ومعناه التعليل على أبلع وجه لدلالته على كونه علة فاعلية ولا يفيده الباء واللام.
(4/91)
قال السعدي المفتي : قد يقال : عن للسببية كما في قوله تعالى : إلا عن موعدة وعدها إياه}(التوبة : 114) فيتعلق بتاركي أي : بقولك المجرد عن حجة {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي : بمصدقين فيما تدعونا إليه من التوحيد وترك عبادة الآلهة وهو إقناط له من الإجابة والتصديق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 147
{إِن نَّقُولُ} إلا اعتريك قوله اعتراك جملة مفسرة لمصدر محذوف تقديره ما نقول في شأنك إلا قولنا اعتراك أي : أصابك من عراه يعره إذا أصابه بعض آلهتنا بسوء الباء للتعدية.
والمعنى بالفارسية (مكر آنكه رسانيده اند بتو برخى ازخدايان ما رنجى وكزندى وعلتي) أي : بجنون لسبك إياها وصدك عنها وعداوتك مكافاة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء فمن ثم تتكلم بكلام المجانين وتهذي بهذيان المبرسمين قال هود إني أشهد الله واشهدوا أي : وأقول أشهدوا لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر أني بريىء تنازع فيه أشهد الله واشهدوا أي : على أني برييء مما تشركون أي : من إشراككم.
من دونه أي : من دون الله أو مما تشركون من آلهة غير الله فما موصولة وإشهاد الله تعالى حقيقة ، وإشهادهم استهزاء بهم واستهانة ، إذ لا يقول أحد لمن يعاديه أشهدك على أني بريء منك إلا وهو يريد عدم المبالاة ببراءته والاستهانة بعداوته.
واعلم أنهم لما سموا أصنامهم آلهة وأثبتوا لها الضرر نفى هود بقوله إني أشهد الله الآية كونهم آلهة رأساً ثم نفى الضرر بقوله : فكيدوني الكيد إرادة مضرة الغير خفية وهو من الخلق الحيلة السيئة ، ومن الله التدبير بالحق لمجازاة أعمال الخلق ، أي : إن صح ما تفوهتم به من كون آلهتكم مما تقدر على إضرار من يسبها ويصد عن عبادتها ، فإني بريء منها فكونوا أنتم وآلهتكم جميعاً حال من ضمير كيدوني على قصد إهلاكي بكل طريق.
ثم لا تنظرون لا تمهلوني ولا تسامحوني في ذلك فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم على ما قالوا : وعلى البراءة كليهما كما في الإرشاد.
وفيه إشارة إلى أن النفس وصفاتها والشيطان والهوى والدنيا في كيد القلب على الدوام والقلب المؤيد بالتأييد الرباني لا يناله كيدهم.
جمله عالم اكر دريا شود
ون تو باحق ترنكردد اي تو
148
جزء : 4 رقم الصفحة : 148
{إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ} يعني : إنكم وإلهتكم لا تقتدرون على ضرري فإني متوكل على الله القادر القوي وهو مالكي ومالك كل شيء إذ ما من دابة نسمة تدب على الأرض.
إلا هو أي : رب تعالى آخذ بناصيتها الناصية عند العرب منبت الشعر في مقدمة الرأس ويسمى الشعر النابت هناك أيضاً ناصية تسمية له باسم منبته ، والأخذ بناصية الإنسان عبارة عن قهره والغلبة عليه وكونه في قبضة الآخذ بحيث يقدر على التصرف فيه كيف يشاء ، والعرب إذا وصفوا إنساناً بالذلة والخضوع لرجل قالوا : ما ناصيته إلا بيد فلان ، أي : إنه مطيع له لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته وأخذ الله بناصية الخلائق استعارة تمثيلية لنفاذ قدرته فيهم.
والمعنى إلا وهو مالك لها قادر عليها يصرفها على ما يريد بها والغرض من هذا الكلام الدلالة على عظمته وجلالة شأنه وكبرياء سلطانه وباهر قدرته وأن كل مقدور وإن عظم وجل في قوته وجثته فهو مستصغر إلى جنب قدرته مقهور تحت قهره وسلطانه منقاد لتكوينه فيه ما يشاء غير ممتنع عليه إن ربي على صراط مستقيم يعني : إنه على الحق والعدل في ملكه لا يفوته ظالم ولا يضيع عنده معتصم به.
وفي التأويلات النجمية ما من دابة تدب في طلب الخير والشر إلا هو آخذ بناصيتها يجرها بها إلى الخير والشر وهي في قبضة قدرته مذللة له إن ربي على صراط مستقيم في إصلاح حال أهل الخير وإفساد حال أهل الشر.
وفيه إشارة أخرى : إن ربي على صراط مستقيم يدل طالبيه به عليه يقول من طلبه فليطلبه على صراط مستقيم الشريعة على أقدام الطريقة فإنه يصل إليه بالحقيقة وأيضاً يعني : الصراط المستقيم هو الذي ينتهي إليه لا إلى غيره كقوله : وأن إلى ربك المنتهى}(النجم : 42) (ودرنقد النصوص قدس سر جامعه مذكور است درباب احديت افعال وبيان تأثيرات ومؤثرات كه آن ذات متعاليه كه في الحقيقة مصدر جميع أفعال ومؤثر درتمام منفعلاتست بحكم تربيت هريكى را بحسب قابليات بسوى حضرت خود مي كشاند انيست سر آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم)
جزء : 4 رقم الصفحة : 149
كش كشاند مى كشد كانا إليه راجعون
وروى جاى دكر فكر غلط باشد جنون
وازين مقوله ها ست قول قائل :
ون همه راه اوست ازب وراست
تو بهرره كه ميروى اوراست
ون از وبود ابتداى همه
هم بدو باشد انتهاى همه
(4/92)
{فَإِن تَوَلَّوْا} فإن تتولوا بحذف إحدى التاءين ، أي : وإن تستمروا على التولي والإعراض فلا تفريط مني فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم أي : لأني قد أديت ما عليّ من الإبلاغ وإلزام الحجة وكنتم محجوجين بأن بلغكم الحق فأبيتم إلا التكذيب والجحود ، فالمذكور دليل الجزاء.
ويستخلف ربي قوماً غيركم كلام مستأنف ، أي : ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم ولا تضرونه بتوليكم وإعراضكم شيئاً من ضرر قط لأنه لا يجوز عليه المضار والمنافع وإنما تضرون أنفسكم.
إن ربي على كل شيء حفيظ رقيب فلا يخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مجازاتكم.
واعلم أن بين وجوب التوكل على الله وكونه حفيظاً حصيناً أولاً بأن ربوبيته عامة لكل أحد ، ومن يرب يدبر أمر المربوب ويحفظه فلا يحتاج حفظ الغير ، وثانياً : بأن كل ذي نفس تحت قهره أسير عاجز عن الفعل والتأثير في غيره
149
فلا حاجة إلى الاحتراز منه ، وثالثاً : بأنه على طريق العدل في عالم الكثرة الذي هو ظل وحدته فلا يسلط أحداً على أحد إلا عن استحقاق لذلك بسبب ذنب وجرم ولا يعاقب أحداً من غير زلة ولو صغيرة نعم قد يكون لتزكية ورفع درجة فالمستفاد في ضمن ذلك كله نفي القدرة عنهم وعن آلهتهم ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، والله تعالى لا يظلم الناس مثقال ذرة وما يرى في صورة الظلم فمن خفأ سره وحكمته ، والعارف ينظر إلى الأسرار الإلهية ويحمل الوقائع على الحكم حكى أنه كان رجل سقاء بمدينة بخاري يحمل الماء إلى دار صائغ مدة ثلاثين سنة وكان لذلك الصائغ زوجة صالحة في نهاية الحسن والبهاء فجاء السقاء على عادته يوماً وأخذ بيدها وعصرها فلما جاء زوجها من السوق قالت : ما فعلت اليوم خلاف رضي الله تعالى فقال : ما صنعت فألحت فقال : جاءت امرأة إلى دكاني وكان عندي سوار فوضعته في ساعدها فأعجبني بياض يدها فعصرتها فقالت : الله أكبر هذه حكمة خيانة السقاء اليوم فقال الصائغ : أيتها المرأة إني تبت فاجعليني في حل ، فلما كان من الغد جاء السقاء وتاب وقال : يا صاحبة المنزل اجعليني في حل فإن الشيطان قد أضلني فقالت : امض فإن الخطأ لم يكن إلا من الشيخ الذي في الدكان فاقتص الله منه في الدنيا ، وأمثال ذلك من عدل الله تعالى فليكن العباد على العدالة خصوصاً الحكام والسلاطين ، فإن العدل ينفع في الدنيا والآخرة حكى أن ذا القرنين سأل من ارستطاليس أي : شيء أفضل للملوك الشجاعة أم العدل؟ فقال : إذا عدل السلطان لم يحتج إلى الشجاعة ، فمن آمن بالملك الديان وخشى من عذابه كل آن ، فقد عدل واحترز عن الظلم والطغيان وفاز بالدرجات في أعلى الجنان ، وإلا فقد عرض نفسه لعذاب النيران بل ولعذاب الدنيا أيضاً على أشد ما كان ، ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية ويستخلف ربي قوماً غيركم مع ماله من أنواع اللعنة.
قال : السعدي قدس سره :
جزء : 4 رقم الصفحة : 149
نماند ستمكار بد روزكار
بماند برو لعنت ايدار
خنك روز محشر تن دادكر
كه در سايه عرش دار دمقر
جزء : 4 رقم الصفحة : 149
{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} أي : عذابنا فيكون واحد الأمور أو أمرنا بالعذاب فيكون مصدر أمر.
نجينا هوداً والذين آمنوا معه وكانوا أربعة آلاف برحمة عظيمة كائنة منا أي : نجيناهم بمجرد رحمة وفضل لا بأعمالهم لأنه لا ينجوا أحد وإن اجتهد في الأعمال والعمل الصالح إلا برحمة الله تعالى كما هو مذهب أهل السنة ونجيناهم من عذاب غليظ شديد ، وهو تكرير لبيان ما نجيناهم منه أي : كانت تلك التنجية تنجية من عذاب غليظ وهي السموم التي كانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطعهم أرباً أرباً وقد سبق تفصيل القصة في سورة الأعراف فارجع إليها.
وفيه إشارة إلى أن العذاب نوعان خفيف وغليظ ، فالخفيف ، هو عذاب الشقاوة المقدرة قبل خلق الخلق ، والغليظ : هو عذاب الشقي بشقاوة معاملات الأشقياء التي تجري عليه مع شقاوته المقدرة له قبل الوجود كما في التأويلات النجمية روى أن الله تعالى لما أهلك عاداً ونجى هوداً والمؤمنين معه أتوا مكة وعبدوا الله تعالى فيها حتى ماتوا.
قال في إنسان العيون : كل نبي من الأنبياء كان إذا كذبه قومه خرج
150
من بين أظهرهم وأتى مكة يعبد الله تعالى حتى يموت وجاء ما بين الركن اليماني والركن الأسود روضة من رياض الجنة وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة وفي فتوح الحرمين :
هي نبي هي ولي هم نبود
كونه برين دررخ اميد سود
كعبه بود نوكل مشكين من
تازه از وباغ دل ودين من
وتلك القبيلة يا قوم محمد عاد قال العلامة الطيبي : كأنه تعالى أذن بتصوير تلك القبيلة في الذهن ثم أشار إليها وجعلها خبراً للمبتدأ لمزيد الإبهام فيحسن التفسير بقوله جحدوا بآيات ربهم كل الحسن لمزيد الإجمال والتفصيل انتهى.
(4/93)
ويجوز أن تكون إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه تعالى قال : سيروا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا ففي الكلام مجاز حذف إما قبل المبتدأ أي : أصحاب تلك وإما قبل الخبر أي : قبور عاد كفروا بآيات ربهم بعد ما استيقنوها يعني : أنهم كانوا يعرفون أنها حق لكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة ويستمر على جحوده ولا يرعوي وعصوا رسله لأنهم عصوا رسولهم ومن عصى رسوله فقد عصى الكل لاتفاق كلمتهم على التوحيد وأصول الشرائع.
قيل لم يرسل إليهم إلا هود وحده وهذا الجحود والعصيان شامل لكل فرد منهم أي : لرؤسائهم وأسافلهم.
واتبعوا أي : الأسافل أمر كل جبار (فرمان هر سركشى) عيند (ستيزه كاررا).
جزء : 4 رقم الصفحة : 150
قال في التبيان : الجبار المتعظم في نفسه المتكبر على العباد ، والعنيد الذي لا يقول الحق ولا يقبله.
وقال القاضي : أي : من كبرائهم الطاغين.
قال سعدي المفتي : أشار إلى أن الجبار بمعنى المتكبر فإنه يأتي بمعنى المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقاً ويقال : عند إذا طغى ، والمعنى عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم واتبعوا أي : التابعون والرؤساء في هذه الدنيا لعنة أي : إبعاداً عن الرحمة وعن كل خير ، أي : جعلت تابعة لهم ولازمة تكبهم في العذاب كمن يأتي خلف شخص فيدفعه من خلف فيكبه ، وإنما عبر عن لزوم اللعنة لهم بالتبعية للمبالغة فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب بل تدور معهم حيثما داروا ولوقوعه في صحبة اتباعهم رؤساءهم ، يعني : أنهم لما اتبعوا اتبعوا ذلك جزاء لصنيعهم جزاء وفاقاً.
ويوم القيمة أي : اتبعوا في يوم القيامة أيضاً لعنة وهي عذاب النار المخلد حذفت لدلالة الأولى عليها.
ألا إن عادا كفروا ربهم جحدوه كأنهم كانوا من الدهرية وهم الذين يرون محسوساً ولا يرون معقولاً وينسبون كل حادث إلى الدهر.
قال في الكواشي : كفر يستعمل متعدياً ولازماً كشكرته وشكرت له ألا بعداً لعاد (بدانيدكه دوريست مر عاديا نرا يعني : ازرحمت دورند) كما قال في التبيان : أبعدهم الله فبعدوا بعداً.
قوم هود عطف بيان لعاد لأن عادا عادان عاد هود القديمة وعاد إرم الحديثة ، وإنما كرر ألا ودعاءه عليهم وأعاد ذكرهم تهويلاً لأمرهم وتفظيعاً له وحثاً على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم.
وفي المثنوى :
بس ساس اوراكه مارا درجهان
كرد يدا از س يشينيان
تاشنيديم آن سياستهاى حق
بر قرون ماضيه اندر سبق
151
استخوان وشم آن كر كان عيان
بنكريد وند كيريد اي مهان
عاقل از سر بنهد اين هستى وباد
ون شنيد انجام فرعونان وعاد
ورنه بنهد ديكران از حال او
عبرتي كيرند از اضلال او
ثم قوله : ألا بعداً لعاد قوم هود دعاء عليهم بالهلاك ، أي : ليبعد عاد بعداً وليهلكوا والمراد به الدلالة على إنهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما حكى عنهم وذلك ، لأن الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم ، ففائدته ما ذكر ثم اللام تدل أيضاً على الاستحقاق وعلى البيان كأنه قيل لمن؟ فقيل : لعاد.
قال سعدى المفتى : ويجوز أن يكون دعاء عليهم باللعن.
وفي القاموس البعد والبعاد اللعن انتهى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 150
وفي الكفاية شرح الهداية اللعن على ضربين.
أحدهما : الطرد من رحمة الله تعالى وذلك لا يكون إلا للكافر.
والثاني : الإبعاد عن درجة الأبرار ومقام الصالحين وهو المراد بقوله عليه السلام : المحتكر ملعون لأن أهل السنة والجماعة لا يخرجون أحداً من الإيمان بارتكاب الكبيرة وجاء في اللعن العام لعن الله من لعن والديه ، ولعن الله من ذبح لغير الله ، ولعن الله من آوى محدثاً ، ولعن الله من غير منار الأرض.
قوله محدثاً بكسر الدال معناه الآتي بالأمر المنكر مما نهى عنه وحرم عليه ، أي : من آواه وحماه وذب عنه ولم يكن ينكر عليه ويردعه ، ومنار الأرض العلامات التي تكون في الطرق والحد بين الأراضي وفي الحديث : لعن الله آكل الربا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهده ، والواشمة ، والموشومة ، ومانع الصدقة ، والمحلل ، والمحلل له.
الوشم هو الزرقة الحاصلة في البدن بغرز الإبرة فيه وجعل النيلة أو الكحل في موضعه ، والواشمة : الفاعلة ، والموشومة المفعول بها ذلك ، وفي الحديث : لعن الله الراشي والمرتشى والرائش أي : الذي يسعى بينهما وفي الحديث : لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وأكل ثمنها ويكره للمسلم أن يؤجر نفسه من كافر لعصر العنب كما في الأشباه ويجوز بيع العصير لمن يتخذه خمراً لأن عين العصير عار عن المعصية ، وإنما يلحقه الفساد بعد تغيره بخلاف بيع السلاح في أيام الفتنة ، لأن عينه آلة بلا تغيير ، يعني : يكره بيع السلاح أيام الفتنة إذا علم أن المشتري من أهل الفتنة لأنه يكون سبباً للمعصية وإذا باع مسلم خمراً وقبض الثمن وعليه دين كره لرب الدين أخذه منه ، لأن الخمر ليست بمال متقوم في حق الذمي فملك الثمن فحل الأخذ منه وفي الحديث : لعن المسلم كقتله.
(4/94)
قال ابن الصلاح : في فتاواه قاتل الحسين رضي الله عنه لا يكفر بذلك ، وإنما ارتكب ذنباً عظيماً وإنما يكفر بالقتل قاتل نبي من الأنبياء.
ثم قال : والناس في يزيد ثلاث فرق ، فرقة تتولاه وتحبه ، وفرقة تسبه وتلعنه ، وفرقة متوسطة في ذلك لا تتولاه ولا تلعنه وتسلك به مسالك سائر ملوك الإسلام وخلفائهم غير الراشدين في ذلك وهذه الفرقة هي المصيبة ، ومذهبها هو اللائق بمن يعرف سير الماضين ، ويعلم قواعد الشريعة المطهرة انتهى.
وقال سعد الدين التفتازاني :
اللعن على يزيد في الشرع يجوز
واللاعن يجزي حسنات ويفوز
قد صح لدى إنه معتل
واللعن مضاعف وذلك مهموز
جزء : 4 رقم الصفحة : 150
وباقي البحث فيه قد سبق في سورة البقرة ألا لعنة الله على الظالمين.
قال في حياة الحيوان :
152
إن الله تعالى لم يجعل الدنيا مقصودة لنفسها بل جعلها طريقة موصلة إلى ما هو المقصود لنفسه ، وإنه لم يجعلها دار إقامة ولا جزاء وإنما جعلها دار رحلة وبلاء ، وإنه ملكها في الغالب الجهلة والكفرة وحماها الأنبياء والأولياء والأبدال وحسبك بها هواناً إنه سبحانه صغرها وحقرها وأبغضها وأبغض أهلها ومحبها ولم يرض لعاقل فيها إلا بالتزود للارتحال عنها وفي الحديث : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله ومن والاه وعالماً أو متعلماً ولا يفهم من هذا إباحة لعن الدنيا وسبها مطلقاً ، كما روى أبو موسى الأشعري إن النبي قال : لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر أن العبد إذا قال : لعن الله الدنيا قالت : الدنيا لعن الله من عصى ربه وهذا يقتضي المنع من سب الدنيا ولعنها ، ووجه الجمع بينهما أن المباح لعنه من الدينا ما كان منها مبعداً عن الله تعالى وشاغلاً عنه كما قال : السلف كل ما شغلك عن الله سبحانه من مال وولد فهو مشؤوم عليك ، وأما ما كان من الدنيا يقرب من الله ويعين على عبادته فهو المحمود بكل لسان المحبوب لكل إنسان ، فمثل هذا لا يسب بل يرغب ويحب ، وإليه الإشارة حيث قال : إلا ذكر الله ومن والاه و عالماً أو متعلماً وهو المصرح به في قوله : نعمت مطية المؤمن الخ وبهذا يرتفع التعارض بين الحديثين.
واعلم أن حقيقة اللعن هو الطرد عن الحضرة الإلهية إلى طلب شهوات الدنيا وتعب وجدانها وتعب فقدانها ، فهو اللعنة الدنيوية وأما اللعنة يوم القيامة ، فبالبعد والخسران والحرمان وعذاب النيران فالنفس إذا لم تقبل نصيحة هود القلب ، وتركت مشارب القلب الدينية الباقية من لوامع النورانية وطوامع الروحانية وشواهد الربانية ، وأقبلت على المشارب الدنيوية الفانية من الشهوات والمستلذات الحيوانية وثناء الخلق والجاه عندهم وأمثال هذا فقد جاء في حقها ألا بعدا أي : طرداً وفرقة وقطيعة وحسرة لها عصمنا الله ، وإياكم من مكايد النفس الأمارة وشرفنا بصلاح الحال إلى آخر الأعمال والآجال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 150
{وَإِلَى ثَمُودَ} أي : وأرسلنا إلى ثمود وهي قبيلة من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عاد بن إرم بن سام.
وقيل إنما سموا بذلك لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل ، في تفسير أبي الليث إنما لم ينصرف لأنه اسم قبيلة وفي الموضع الذي ينصرف جعله اسماً للقوم.
أخاهم أي : واحداً منهم في النسب.
صالحاً عطف بيان لأخاهم وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسخ بن عبيد بن خاور بن ثمود قال استئناف بياني كأن قائلاً قال : فما قال : لهم صالح حين أرسل إليهم؟ فقيل : قال يا قوم (اي قوم من) اعبدوا الله وحده لأنه ما لكم من إله غيره (نيست شمارا معبودي جزوى) هو لا غيره لأنه فاعل معنوي وتقديمه يدل على القصر أنشأكم كونكم وخلقكم من الأرض من لابتداء الغاية ، أي : ابتداء إنشاءكم منها فإنه خلق آدم من التراب ، وهو أنموذج منطو على جميع ذرياته التي ستوجد إلى يوم القيامة انطواء إجمالياً ، لأن كل واحد منهم مخلوق من المني ، ومن دم الطمث ، والمني : إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد من الأغذية ، وهي إما حيوانية ، أو نباتية ، والنباتية إنما تتولد من الأرض ، والأغذية الحيوانية لا بد أن تنتهي إلى الأغذية النباتية المتولدة من الأرض ، فثبت أنه تعالى
153
أنشأ الكل من الأرض.
واستعمركم فيها من العمر يقال : عمر الرجل يعمر عمراً بفتح العين وسكون الميم أي : عاش زمانا طويلاً واستعمره الله أي : أطال بقاءه ، ونظيره بقي الرجل واستبقاه الله من البقاء أي : أبقاء الله فبناء استفعل للتعدية ، والمعنى عمركم واستبقاكم في الأرض وبالفارسية (وزند كانى وبقاداد شمارا درزمين.
درمدارك مذكورست كه سال عمر هريك از ثمود از سيصد تاهزار بوده) ويجوز أن يكون من العمارة بالفارسية (آبادان كردن).
(4/95)
قال كعب قوله تعالى : واستعمركم فيها يدل على وجوب عمارة الأرض لأن الاستعمار طلب العمارة ، والطلب المطلق منه تعالى يحمل على الأمر والإيجاب.
والمعنى أمركم بالعمارة فيها وأقدركم على إمارتها ، كما قال الكاشفي : (شمارا قدرت داد برعمارت زمين تامنازل نزه ساختيد وبر حفر انهار وغرس أشجار اشتغال نموديد).
فاستغفروه فاطلبوا مغفرة الله بالإيمان يعني : (ايمان آريد تا شمارا بيامرزد) فإن ما فصل من فنون الإحسان داع إلى الاستغفار ثم توبوا إليه من عبادة غيره لأن التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان وقد سبق تحقيق ثم هذه غير مرة إن ربي قريب أي : قريب الرحمة لقوله تعالى : إن رحمة الله قريب من المحسنين}(الأعراف : 56) {مُّجِيبٌ} لمن دعاء وسأله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 153
قال سعدي المفتي : والذي يلوح للخاطر أن قوله تعالى قريب ناظر لتوبوا ومجيب لاستغفروا أي : ارجعوا إلى الله فإنه قريب ما هو بعيد واسألوا منه المغفرة فإنه مجيب لسائله لا يخيبه :
محالست اكر سربرين در نهى
كه باز آيدت دست حاجت تهى
وحظ العبد من الاسم المجيب أن يجيب ربه فيما أمره ونهاه ويتلقى عباده بلطف الجواب وإسعاف السؤال والعبد إذا أجاب ربه فالله تعالى يجيبه كما قال أبو طالب لرسول الله : ما أطوع ربك فقال عليه السلام : وأنت يا عم لو أطعته لأطاعك.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر : الدعاء يوذن بالبعد وهو تعالى القريب وإذا كان القريب فلم تدعو وإن سكت قال لك : لم تدعو؟ هل استكبرت؟ فلم تبق الغبطة إلا للأخرس وهم البكم صم بكم عمى طوبى لهم وحسن مآب انتهى.
وهذا وصف العلماء بالله وهم الذين قيل فيهم من عرف الله كلّ لسانه.
و بيت المقدس درون برقباب
رها كرده ديوار بيرون خراب
بخود سر فرو وبرده همون صدف
نه ماند زدريا بر آورده كف
واعلم أن عمارة الظاهر بأفعال الشريعة من أسباب عمارة الباطن بأخلاق الربانية.
قال العلماء : العمارة متنوعة إلى واجب ومندوب ومباح وحرام.
فالواجب : مثل سد الثغور وبناء القناطر على الأنهر المهلكة وبناء المسجد الجامع في المصر وغير ذلك.
والمندوب : كبناء القناطر على الأنهر الصغيرة والمساجد والمدارس والرباطات ونحو ذلك تيسيراً للناس والمباح كالزوايا والخانقاهات والبيوت التي تقي الحر والبرد وربما تكون الأخيرة واجبة.
قال في الأسرار المحمدية : الغرض من المسكن دفع المطر والبرد وأقل الدرجات فيه معلوم وما زاد عليه فهو من الفضول ، والاقتصار على الأقل والأدنى يمكن في الديار الحارة وأما في البلاد الباردة في
154
غلبة البرد ونفوذه من الجدران الضعيفة حتى كاد يهلك أو يمرض فالبناء بالطين وأحكامه لا يخرجه عن حد الزاهدين ، وكذا في أيام الصيف عند اشتداد الحر واستضراره واستضرار أولاده بالبيت الشتوى السفلى لعدم نفود الهواء البارد فيه ، ومن براغيثه في الليل المزعجات عن النوم ، وأنواع الحشرات فيه فلا يجوز حملهم على الزهد بأن يتركهم على هذه الحال ، بل عليه أن يبنى لهم صيفياً علوياً لما روينا عن النبي عليه السلام : من بنى بنياناً في غير ظلم ولا اعتداء ، أو غرس غرساً في غير ظلم ولا اعتداء كان له أجراً جارياً ما انتفع به أحد من خلق الرحمن انتهى والحرام كأبنية الجهلة الذين بنوا للمباهاة وأبنية الظلمة وغير ذلك مما ليس له به حاجة.
وفي الخبر من بنى فوق ما يكفيه جاء يوم القيامة وهو حامله على عنقه وفي الحديث : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان منهاتعالى وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار وعمروا الأعمار الطوال مع ما كان فيهم من عسف الرعايا فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم فأوحى إليه إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 153
وعن معاوية إنه أخذ في إحياء الأرض في آخر أمره فقيل له فقال : ما حملني عليه إلا قول القائل :
ليس الفتى بفتى يستضاء به
ولا يكون له في الأرض آثار
والمراد بهذه الآثار ما يتناول العمارة الواجبة والمندوبة.
قال سعدي قدس سره :
نمرد آنكه ماند س ازوى بجاي
ل ومسجد وخان ومهمان سراى
هر آن كو نماند ازسش يا دكار
درخت وجودش نياورد بار
وكر رفت آثار خيرش نماند
نشايد س از مرك الحمد خواند
جزء : 4 رقم الصفحة : 153
{قَالُوا} قوم صالح بعد دعوتهم إلى الله تعالى وعبادته.
يا صالح قد كنت فينا فيما بيننا مرجوا مأمولاً قبل هذا الوقت وهو وقت الدعوة كانت تلوح فيك مخايل الخير وإمارات الرشد والسداد فكنا نرجوك أن تكون لنا سيداً ننتفع بك ، ومستشاراً في الأمور ومسترشداً في التدابير فلما سمعنا منك هذا القول انقطع رجاؤنا عنك ، وعلمنا أن لا خير فيك كما يقول بعض أهل الإنكار لبعض من يسلك طريق الإرادة والطلب : إن هذا قد فسد بل جن وكان قبل هذا رجلاً صالحاً عاقلاً فلا يرجى منه الخير.
وفي المثنوى :
عقل جزوى عشق را منكربود
كره بنمايد كه صاحب سربود
قال الحافظ :
(4/96)
مبين حقير كدايان عشق را كين قوم
شهان بي كمر وخسروان بي كلهند
غلام همت دردى كشان يك رنكيم
نه زين كروه كه ازرق ردا ودل سيهند
أتنهينا معنى الهمزة الإنكار ، أي : أتمنعنا من أن نعبد ما يعبد آباؤنا أي : عبدوه والعدل إلى صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية وإننا من قال : أنا أسقط النون الثانية من أن دون كناية المتكلمين نا وهو المختار لفي شك مما تدعونا إليه من التوحيد وترك عبادة الأوثان مريب موقع في الريبة أي : قلق النفس وانتفاء الطمأنينة.
يعني : (كمانى كه نفس را مضطرب ميسازد ودل آرام نمى دهد وعقل را شوريده مى كرداند) من أرابه أي :
155
اوقعه في الريبة وإسناد الأرابة إلى الشك وهو أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النفي والإثبات مجازي ، لأن الريب هو انتفاء ما يرجح أحد طرفي النسبة أو تعارض الأدلة لا نفس الشك.
وقال سعدي المفتي : يجوز أن يعتقدوا أن الشك يوقع في القلق والاضطراب فيكون الإسناد حقيقياً وإن كان الموقع عند الموحدين هو الله تعالى.
قال صالح يا قوم أرأيتم أي : أخبروني إن كنت في الحقيقة على بينة حجة ظاهرة وبرهان وبصيرة من ربي مالكي ومتولي أمري وآتيني منه من جهته رحمة نبوة وإنما أتى بحرف الشك مع أنه متيقن أنه على بينة وأنه نبي لأن خطابه للجاحدين وهو على سبيل الفرض والتقدير كأنه قال : افرضوا وقدروا أني على بينة من ربي وأني نبي بالحقيقة وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي فيما أمرني فمن ينصرني من الله أي : فمن يمنعني من عذاب الله فيه تضمين ينصر معنى يمنع ، وتقدير المضاف قبل اللفظة الجليلة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 155
وقال في الإرشاد : فمن ينصرني منجياً من عذابه تعالى.
إن عصيته في تبليغ رسالته والنهي عن الإشراك به.
فما تزيدونني إذا باستتباعكم إياي كما ينبى عنه قولهم قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أي ألا تفيدونني إذ لم يكن فيه أصل الخسران حتى يزيدوه غير تخسير أي : غير إن تجعلوني خاسراً بإبطال أعمالي وتعريضي لسخط الله تعالى ، أو فما تزيدونني بما تقولون لي وتحملوني عليه غير إن أنسبكم إلى الخسران ، وأقول لكم إنكم لخاسرون فالزيادة على معناها وصيغة التفعيل للنسبة يقال : فسقه وفجره إذا نسبه إلى الفسق والفجور فكذا خسره إذا نسبه إلى الخسران.
وفي الآية : إشارة إلى أن لا رجوع عن الحق بعدما استبان فإنه ماذا بعد الحق إلا الضلال والخذلان والخسران.
قال أحد المشايخ في وقته : أبو عبد الله الشيرازي قدس سره رأيت رسول الله في المنام وهو يقول من عرف طريقاً إلى الله فسلكه ، ثم رجع عنه عذبه الله بعذاب لم يعذب به أحداً من العالمين.
وقال الجنيد قدس سره : لو أقبل صديق على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله.
وفي شرح التجليات البيعة لازمة إلى أن يلقى الله تعالى ، ومن نكث الاتباع فحسبه جهنم خالداً فيها لا يكلمه الله ولا ينظر إليه وله عذاب أليم ، هذا كما قال أبو سليمان الداراني قدس سره : حظه في الآخرة.
وأما الدنيا فقد قال أبو يزيد البسطامي قدس سره في حق تلميذه لما خالفه : دعوا من سقط من عين الله فرؤى بعد ذلك مع المخنثين وسرق فقطعت يده ، هذا لما نكث أين هو ممن وفى بيعته مثل تلميذ الداراني قيل له ألق نفسك في التنور فألقى نفسه فعاد عليه برداً وسلاماً وهذا نتيجة الوفاء.
واعلم أن المبايع في الحقيقة وهو معطي البيعة هو الله تعالى لكن خلق الوسائط والوسائل ليسهل الأخذ والعهد فجعل الأنبياء والشيوخ الورثة والسلاطين اللاحقين بالشيوخ مبايعين فهم معصومون محفوظون لا يأمرون بمعصية أصلاً ولا يتصور منهم نكث العهد قطعاً فبقي الاتباع فمن لزم منهم الباب استسعد بحسن المآب ومن رجع القهقري ونعوذ بالله أذله الله وأخزاه.
وفي المثنوى :
مرسكانرا ون وفا آمد شعار
روسكانرا ننك بدنامى ميار
بي وفائي ون سكانرا عار بود
بي وفائي ون روا دارى نمود
156
فعلى العاقل أن لا يكون في تردد وشك مما دعا إليه الأنبياء والأولياء من التوحيد وحقائقه بل يتبع الحق إلى أن يصل إلى دقائقه فإن الترد والشك من أوصاف الكفرة ، والقلق والاضطراب من أحوال الفجرة :
جزء : 4 رقم الصفحة : 155
اين تردد عقبه راهحقست
اي خنك آنراكه ايش مطلقست
بى ترد مى رود برراه راست
ره نمى دانى بجو كامش كجاست
كام آهورا بكيرو رومعاف
تارسى ازكام آهو تابناف
كركران وك شتابنده بود
عاقبت جوينده يابنده بود
وقد رأينا في زماننا أشخاصاً يطلبون شيوخاً ورثة هم على بينة من ربهم فلا يجدونهم لأن في الطلب ضعفاً وترددا وفي الاعتقاد والهمة توزعاً وتفرقا ، فإذا لم يكن الطالب على بصيرة من الأمر لا يجد أهل البصيرة ، وإن كانوا نصب عينيه بل تزداد خسارته ونعم ما قيل الشمس شمس وإن لم يرها الضرير ألا ترى إلى طغاة الأمم السالفة كيف أنكروا الأنبياء مع ظهور حججهم وبراهينهم للهم إنا نسألك العصمة والتوفيق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 155
(4/97)
{وَيَـاقَوْمِ} روى عن النبي عليه السلام أنه قال : إن صالحاً لما دعا قومه إلى الله تعالى كذبوه ، فضاق صدره فسأل ربه أن يأذن له في الخروج من عندهم ، فأذن له فخرج وانتهى إلى ساحل البحر فإذا رجل يمشي على الماء ، فقال له صالح : ويحك من أنت؟ فقال : أنا من عباد الله كنت في سفينة كان قومها كفرة غيري ، فأهلكهم الله ونجاني منهم فخرجت إلى جزيرة أتعبد هناك فاخرج أحياناً وأطلب شيئاً من رزق الله ، ثم أرجع إلى مكاني ، فمضى صالح فانتهى إلى تل عظيم فرأى رجلاً ، فانتهى إليه وسلم عليه ، فرد عليه السلام فقال له صالح : من أنت؟ قال : كانت ههنا قرية كان أهلها كفاراً غيري فأهلكهم الله تعالى ونجاني منها ، فجعلت على نفسي أن أعبد الله تعالى ههنا إلى الموت ، وقد أنبت الله لي شجرة رمان وأظهر عين ماء آكل من الرمان وأشرب من ماء العين ، وأتوضأ منه فذهب صالح ، وانتهى إلى قرية كان أهلها كفاراً كلهم غير أخوين مسلمين يعملان عمل الخوص فضرب النبي عليه السلام مثلاً فقال : لو أن مؤمناً دخل قرية فيها ألف رجل كلهم كفار ، وفيهم مؤمن واحد فلا يسكن قلبه مع أحد حتى يجد المؤمن ولو أن منافقاً دخل قرية فيها ألف رجل كلهم مؤمنون وفيهم منافق واحد ، فلا يسكن قلب المنافق ، مع أحد ما لم يجد المنافق فدخل صالح وانتهى إلى الأخوين فمكث عندهما أياماً وسأل عن حالهما فأخبرا أنهما يصبران على أذى المشركين وأنهما يعملان عمل الخوص ويمسكان قوتهما ويتصدقان بالفضل فقال صالح : الحمدالذي أراني في الأرض من عباده الصالحين الذي صبروا على أذى الكفار فأنا أرجع إلى قومي واصبر على أذا هم فرجع إليهم وقد كانوا خرجوا إلى عيد لهم فدعاهم إلى الإيمان فسألوه آية فقال : أية آية تريدون؟ فأشار سيدهم جندع بن عمرو إلى صخرة منفردة يقال لها : الكاثبة وقال له : أخرج من هذه الصخرة ناقة واسعة الجوف كثيرة الوبر عشراء أي : أتت عليها من يوم أرسل الفحل عليها عشرة أشهر فإن فعلت صدقناك فأخذ عليهم مواثقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن فقالوا : نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج
157
بولدها فانشقت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا فقال : يا قوم هذه ناقة الله الإضافة للتشريف والتنبيه على أنها مفارقة لسائر ما يجانسها من حيث الخلقة ومن حيث الخلق ؛ لأن الله تعالى خلقها من الصخرة دفعة واحدة من غير ولادة وكانت عظيمة الجثة جداً لكم آية معجزة دالة على صدق نبوتي فآمن جندع به في جماعة وامتنع الباقون ، وانتصاب آية على الحال من ناقة الله ، وعاملها ما في اسم الإشارة من معنى الفعل ، أي : أشير إليها آية ولكن حال من آية متقدمة عليها لكونها نكرة لو تأخرت لكانت صفة لها فلما تقدمت انتصبت حالاً.
فذروها أي : خلوها وشأنها تأكل في أرض الله ترع نباتها وتشرب ماءها فهو من قبيل الاكتفاء نحو تقيكم الحر والمراد إنه عليه السلام رفع عن القوم مؤونتها يعني : (روزى اوبر شمانيست ونفع اورا شماراست) كما روى أنها كانت ترعى الشجرة وتشرب الماء ثم تفرج بين رجليها فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدخرون وهم تسعمائة أهل بيت ، ويقال : ألف وخمسمائة ثم إنه عليه السلام لما خاف عليها منهم ما شاهد من إصرارهم على الكفر فإن الخصم لا يحب ظهور حجة خصمه بل يسعى في إخفائها وإبطالها بأقصى ما يمكن من السعي فلهذا احتاط وقال : ولا تمسوها بسوء (ومر سانيد بوي آزارى) فالباء للتعدية بولغ في النهي عن التعرض لها بما يضرها حيث نهى عن المس الذي هو من مبادي الإصابة ونكر السوء ليشمل جميع أنواع الأذى من ضرب وعقر وغير ذلك أي : لا تضربوها ولا تطردوها ولا تقربوها بشيء من الأذى فضلاً عن عقرها وقتلها فيأخذكم عذاب قريب أي : قريب النزول وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق عليهم ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 157
فعقروها عقرها قدار بأمرهم ورضاهم وقسموا لحمها على جميع القرية ، والعقر : قطع عضو يؤثر في النفس وقدار كهمام بالدال المهملة اسم رجل وهو قدار بن سالف وتفصيل القصة سبق في سورة الأعراف.
(4/98)
قال الكاشفي : (صالح عليه السلام دران وقت درميان قوم نبود وون بيامد حال با اوتقريد كردند) فقال لهم صالح تمتعوا أي : عيشوا في داركم في بلدكم ومنازلكم وتسمى البلاد الديار لأنه يدار فيها أي : يتصرف يقال : دياربكر لبلادهم وتقول العرب : الذين حوالي مكة نحن من عرب الدار يريدون من عرب البلد كما في بحر العلوم ثلاثة أيام الأربعاء والخميس والجمعة فإنهم عقروها ليلة الأربعاء وأهلكوا صبيحة يوم السبت كما في التبيان قيل : قال : لهم تصبح وجوهكم غداً مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب وكان كما قال : ذلك إشارة إلى ما يدل عليه الأمر بالتمتع ثلاثة أيام من نزول العذاب عقيبها.
وعد غير مكذوب أي : غير كذب كالمجلود بمعنى الجلد الذي هو الصلابة والجلادة أو غير مكذوب فيه فحذف حرف الجر فاتصل الضمير باسم المفعول ، بإقامته مقام المفعول به توسعا كما يقال : شهدناه والأصل شهدنا فيه فأجرى الظرف مجرى المفعول ، وذلك لأن الوعد إنما يوصف بكونه غير مكذوب إذا كان من شأنه أن يكون مكذوباً وليس كذلك ، لأن المصدوق والمكذوب من كان مخاطباً بالكلام المطابق للواقع وغير
158
الواقع وقلما يوصف بهما إلا الإنسان الصالح للخطاب.
والإشارة أن القوم إنما فعلوا ذلك جهلاً منهم بحقيقة الأمر ولا داء أدوأ من الجهل والدنيا مسكن النفس ومقرها ، والتمتع فيها ثلاثة أيام اليوم الأول : هو يوم الجهل وفيه تصفر الوجوه ، واليوم الثاني : هو يوم الغفلة وفيه تحمر الوجوه ، واليوم الثالث : هو يوم الرين والختم على القلوب وفيه تسود الوجوه فلا يبقى إلا العذاب.
فعلى العاقل أن يزيل حجاب الجهل بمعرفة الله تعالى والغفلة باليقظة قبل حصول الرين فإنه عند حصوله لا يوجد له العلاج فإنه الداء العضال ونعوذ بالله تعالى ، وكما تتلون الوجوه بنار الجلال كذلك تتلون بنور الجمال كما قال : ذو النون المصري ، بينما أنا في طريق البصرة إذ سمعت قائلاً يقول يا شفيق يا رفيق ارفق بنا ، فطلبت الصوت فإذا أنا بجارية متطلعة من قصر مشرف فقلت أراك مسفرة بغير خمار فقالت : ما يصنع بالخمار وجه قد علاه الصفار ، قلت ومم الصفار؟ قالت : من الخمار قلت يا جارية عساك تناولت من الشراب قالت : نعم شربت البارحة بكأس الودّ مسرورة فأصبحت غداة صباحي هذا من شوقه مخمورة قلت أراك حكيمة فعظيني قالت : عليك بالسكوت ولزوم خدمته في ظلم البيوت حتى يتوهم الناس إنك مبهوت وارض من الله بالقوت واستعد ليوم تموت ، لكي يبني لك بيت في الملكوت ، أساسه من الزبرجد والياقوت.
وفي المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 157
روح همون صالح وتن ناقه است
روح اندر وصل وتن در فاقه است
روح صالح قابل آفات نيست
زخم بر ناقه بود بر ذات نيست
جسم خاكى را بدو يوسته جان
تا بيازارند وبينند امتحان
بي خبر كازار اين آزار أوست
آب اين خم متصل باآب جوست
ناقه جسم ولي را بنده باش
تاشوى باروح صالح خواجه تاش
جزء : 4 رقم الصفحة : 157
{فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} (س آن هنكام كه آمد فرمان ما بعذاب ايشان) نجينا التنجية (نجات دادن) صالحاً والذين آمنوا معه متعلق بنجينا أو بآمنوا وهو الأظهر إذ المراد آمنوا كما آمن صالح واتبعوه في ذلك لا أن زمان إيمانهم مقارن لزمان إيمانه فإن ايمان الرسول مقدم على إيمان من اتبعه من المؤمنين برحمة أي : ملتبسين بمجرد رحمة عظيمة منا وفضل لا بأعمالهم كما هو مذهب أهل السنة قال في التأويلات النجمية : هي توفيق أعمال النجاة.
وقال في الإرشاد : هي بالنسبة إلى صالح النبوة وإلى المؤمنين الإيمان ومن خزى يومئذٍ عطف على نجينا ، أي : ونجيناهم من خزى يومئذٍ ، أي : من زله ومهانته وفضيحته ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب الله وانتقامه.
قال ابن الشيخ : كرر نجينا لبيان ما نجاهم منه وهو هلاكهم يومئذٍ أي : يوم إذ جاء أمرنا فإن إذ مضافة إلى جملة محذوفة عوض عنها التنوين أو هو الذل والهوان الذي نزل بهم في ذلك اليوم ولزمهم بحيث بقي ما لحقهم من العار بسببه مأثوراً عنهم ومنسوباً إليهم إلى يوم القيامة ، فإن معنى الخزى العيب الذي تظهر فضيحته ويستحيى من مثله.
واعلم أن ظرف الزمان إذا أضيف إلى مبنى جاز فيه البناء والأعراب فمن قرأ بفتح الميم بناه لإضافته إلى مبنى وهو اذ الغير المتمكن ومن قرأ بكسرها أعربه لإضافة الخزي إليه ،
159
والقراءة الأولى لنافع والكسائي والثانية لغيرهما.
إن ربك يا محمد هو القوي القادر على كل شيء العزيز الغالب عليه لا غيره.
وقال الكاشفي : هو القوي (اوست توانا بنجات مؤمنان العزيز غالب بر دشمان بر هلاك ايشان) ولكون الأخبار بتنجية الأولياء لا سيما عند الأنباء بحلول العذاب أهم ، ذكرها أو لا ثم أخبر بهلاك الأعداء فقال :
(4/99)
وأخذ الذين ظلموا أنفسهم الصيحة أي : صيحة جبرائيل عليه السلام وهو فاعل أخذ والموصول مفعوله والصيحة فعلة تدل على المرة من الصياح وهو الصوت الشديد يقال : صاح يصيح صياحاً ، أي : صوت بقوة وفي سورة الأعراف فأخذتهم الرجفة أي : الزلزلة ولعلها وقعت عقيب الصيحة المستتبعة لتموج الهواء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 159
قال الكاشفي : (در زاد المسير آورده كه درآن سه روزكه وعده حيات داشتند درخانهاى خود ساكن شده قبرها كنديد ندو منتظر عذاب مى بودند ون روز هارم آفتاب طالع شده وعذاب نيامد ازمنازل بيرون آمده يكديركررا مى خواندند واستهزا ميكر دندكه ناكاه جبرائيل برصورت اصل خويش ايش برزمين وسر برآسمان رهاى خويش نشر كرده ازمشرق تا مغرب ايهاى وى زرد وبالهايش سبز ودندانهاى سفيد وبراق ويشانى باجلا ونوراني ورخسارى برا فروخته وموى سروي سرخ برنك مرجان ظاهر شده وأوفق را بوشيد وقوم ثمود آن حالرا مشاهده نمودند وروى بمساكن نهاده بقبور در آمدند جبرائيل نعره زدكه موتوا عليكم لعنة الله بيكبار همه مردند وزلزله در خانها افتاده سقفها برايشان فرود آمد) فأصبحوا أي : صاروا في ديارهم في بلادهم أو في مساكنهم.
جاثمين خامدين ميتين لا يتحركون والمراد كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب بهم من غير اضطراب وحركة كما يكون ذلك عند الموت المعتاد.
ولا يخفى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ وسرعته ، اللهم إنا نعوذ بك من حلول غضبك ، وجثومهم سقوطهم على وجوههم أو الجثوم السكون يقال : للطير إذا باتت في أوكارها جثمت ثم إن العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموت.
قال في بحر العلوم : يقال : الناس جثم ، أي : قعود لاحراك بهم ولا ينبسون بنبسة ومنه المجثمة التي نهى الشرع عنها وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى.
وفي المثنوى :
شحنه قهر خدا ايشان بجست
خونبهاى اشترى شهري درست
ون همه درنا اميدى سر زدند
همو اشتر دردو زانوا آمدند
در نبي آورد جبريل أمين
شرح اين زانوا زدن را جاثمين
زانوا آندم زن كه تعليمت كنند
وز نين زانوا زدن بيمت كنند
جزء : 4 رقم الصفحة : 159
{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أي : كأنهم لم يقيموا في ديارهم ولم يكونوا أحياء مترددين متصرفين وهو في موقع الحال أي : أصبحوا جاثمين مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط.
والمغنى المنزل والمقام الذي يقيم الحي به يقال : غنى الرجل بمكان كذا ، أي : أقام به وغنى أي : عاش.
ألا (بدانيد) إن ثمود كفروا ربهم جحدوا بوحدانية الله تعالى فهذا تنبيه وتخويف لمن بعدهم ألا بعدا (دوري وهلاك) لثمود فقولهبعداً مصدر وضع موضع فعله فإن معناه بعدوا اي هلكوا ، واللام لبيان من دعى عليهم ، وفائدة الدعاء عليهم بعد هلاكهم الدلالة على استحقاقهم عذاب
160
الاستئصال بسبب كفرهم وتكذيبهم وعقرهم ناقة الله تعالى.
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله لما نزل الحجر في غزوة تبوك قام فخطب الناس فقال : يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم الناقة فكانت ترد من هذا الفج ، فتشرب ماءهم يوم وردها ويحلبون من لبنها مثل الذي كانوا يشربون من مائها يوم غبها ، فعتوا عن أمر ربهم فقال : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام وكان وعداً من الله غير مكذوب ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان في مشارق الأرض ومغاربها منهم إلا رجلاً كان في حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله يقال له أبو رغال قيل له يا رسول الله من أبو رغال قال : أبو ثقيف.
الإشارة فيه أنه أشار إلى إهلاك النفس وصفاتها بعذاب البعد وصاعقة القهر إلا ما كان في حرم الله تعالى وهو الشريعة يعني : النفس وصفاتها إن لم تكن آمنت ولكن التجأت إلى حرم الشريعة آمنت من عذاب البعد فتكون بقدر التجائها في القرب وجوار الحق وهو الجنة ولهذا قال تعالى للنفس المطمئنة : فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}(الفجر : 29 ـ ـ 30) كما في "التأويلات النجمية".
والناس في القرب والبعد والسلوك والترك على طبقات ، فمنهم من اختار الله له في الأزل البلوغ إليه بلا كسب ولا تعمل فوقع مفطوراً على النظر إليه بلا اجتهاد بدفع غيره عن مقتضى قصده ، ومنهم من شغلته الأغيار عن الله زماناً فلم يزل في علاج وجودها بتوفيق الله تعالى حتى أفناها ولم يبق له سواه سبحانه ، ومنهم من بقي في الطريق ولم يصل إلى المقصد الأقصى لكون نشأته غير حاملة لما أراده ، ومنهم من لم يدر ما الطريق وما الدخول فيها فبقي في مقامه الطبيعي.
قال الحافظ :
جزء : 4 رقم الصفحة : 160
قومي بجد وجهد خريدند وصل دوست
قومي دكر حواله بتقدير ميكنند
(4/100)
أما الأول فأخذوا بقول الله تعالى : {وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت : 69) فالوصل إذا مما للكسب مدخل فيه فيكون كالوزارة الممكن حصولها بالأسباب ، وأما الثاني فجعلوا الوصل من الاختصاصات الإلهية التي ليس للكسب مدخل فيها عند الحقيقة فهو كالسلطنة قال الله تعالى : {قُلِ اللَّهُمَّ مَـالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ} (البقرة : 269) وقال : {وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ} .
{وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ} (فاطر : 2) أي : وبالله لقد جاء جبريل وجمع من الملائكة معه في صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن والبهاء والجمال إلى إبراهيم عليه السلام.
[العنكبوت : 31-71]{بِالْبُشْرَى} أي : ملتبسين بالبشارة بالولد من سارة بدليل ذكره في سور أخرى ولأنه أطلق البشرى هنا ، وقيد في قوله : فبشرناها بإسحاق}(هود : 71) والمطلق محمول على المقيد {قَالُوا سَلَـامًا} أي : سلمنا عليك سلاماً أو نسلم.
وبالفارسية (سلام ميكنيم برتو سلام كردنى) قال إبراهيم عليكم سلام حياهم بأحسن من تحيتهم لأن الجملة الفعلية دالة على التجدد والحدوث والأسمية دالة على الثبات والاستمرار.
قال الكاشفي : (إبراهيم عليه السلام ندانست كه فرشتكانند ايشانرا در مهما نخانه نشانيد) فما نافية لبث مكث إبراهيم أن جاء بعجل ولد البقرة حنيذ يعني : (س درنك نكرد تا آنكه آورد كوساله بريان كرده برسنك كرم) والحنيذ هو المشوي في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة بغير تنور ومن غير أن تمسه النار
161
كفعل أهل البادية فإنهم يشوون في الأخدود بالحجارة المحماة.
وفي الكواشي حنيذ مشوي في حفيرة يقطر دسماً من حنذت الفرس إذا وضعت إليه جلاله ليسيل عرقه.
وفي التأويلات النجمية : قالوا سلاماً أي : نبلغك سلاماً قولاً من رب رحيم قال سلام أي : علينا سلام الجليل وهذا كما كان حال الحبيب ليلة أسرى به قال : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته قال الحبيب : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين والفرق بين الحبيب والخليل أن سلام الحبيب بلا واسطة وسلام الخليل بواسطة الرسل وفي سلام الحبيب زيادة رحمة الله وبركاته فما لبث أن جاء بعجل حنيذ تكرمة لسلام الخليل وإعزازاً لرسله انتهى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 160
قاصد دلبر كه آرد يك يام
از حبيب من كه آمديك سلام
م دكانه مال وجانم مى دهم
هره ميدارم براهش مى نهم
قال مقاتل : إنما جاءهم بالعجل لأنه كان أكثر ماله البقر فلما قرب إليهم ووضع بين أيديهم كفواً عنه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 160
{فَلَمَّا رَءَآ أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ} .
نكرهم أنكر ذلك منهم ولم يعرف سبب عدم تناولهم منه وامتناعهم عنه.
وأوجس الإيجاس الإدراك.
وفي التهذيب (بيم دردل كرفتن) أي : أحس وأدرك منهم من جهتهم خيفة لما وقع في نفسه أنهم ملائكة وأن نزولهم لأمر أنكره الله عليه أو لتعذيب قومه.
قال في التأويلات النجمية : ما كان خوف إبراهيم خوف البشرية بأن خاف على نفسه فإنه حين رمى بالمنجنيق إلى النار ما خاف على نفسه وقال : أسلمت لرب العالمين وإنما كان خوفه خوف الرحمة والشفقة على قومه يدل عليه.
قالوا لا تخف إنا أرسلنا بالعذاب إلى قوم لوط خاصة ما أرسلنا إلى قومك فكن طيب النفس وكان أخا سارة أو ابن أخي إبراهيم عليهما السلام.
وامرأته سارة بنت هاران بن ناخور وهي ابنة عمه.
قائمة وراء الستر بحيث تسمع محاوراتهم أو على رؤوسهم للخدمة ، وكانت نساؤهم لا تحجب كعادة الأعراب ونازلة البوادي والصحراء ، ولم يكن التبرج مكروهاً وكانت عجوزاً ، وخدمة الضيفان مما يعد من مكارم الأخلاق والجملة حال من ضمير قالوا : أي : قالوا : لإبراهيم لا تخف في حال قيام امرأته.
فضحكت سروراً بزوال الخوف.
فبشرناها بإسحاق أي : عقبنا سرورها بسرور أتم منه على ألسنة رسلنا وإسحاق بالعبرانية الضحاك.
ومن وراء إسحاق الوراء فعال ولامه همزة عند سيبويه وأبي علي الفارسي ، وياء عند العامة وهو من ظروف المكان ، بمنى خلف وقدام فهو من الأضداد وقد يستعار للزمان كما في هذا المكان.
والمعنى وهبنا لها بعد إسحاق يعقوب فهو من عطف جملة على جملة ولا يكون يعقوب على هذا مبشراً به.
وقال في التبيان : أي : بشروها بأنها تلد إسحاق وأنها تعيش إلى أن ترى ولد الولد وهو يعقوب بن إسحاق والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كيحيى حيث سمى به في البشارة قال الله تعالى : إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى}(مريم : 7) ويحتمل وقوعهما في الحكاية بعد أن ولد فسميا بإسحاق ويعقوب وتوجيه البشارة إليها لا إليه ، مع أنه الأصل في ذلك للدلالة على أن الولد المبشر به يكون منها ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد وكان لإبراهيم ولده إسماعيل من هاجر لأن المرأة أشد فرحاً بالولد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 162
وقال ابن عباس : ووهب
162
(4/101)
فضحكت تعجباً من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها وعلى هذا تكون الآية من التقديم والتأخير تقديره وامرأته قائمة فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فضحكت كما في "بحر العلوم" و"تفسير أبي الليث".
وقال في "التأويلات النجمية" : هذه البشارة لها ما كانت بشارة تتعلق ببشريتها وحيوانيتها وما كان ضحكها للسرور بحصول الابن الذي هو من زينة الدنيا وإنما كان ضحكها لسرور نجاة القوم من العذاب وكانت بشارتها بنبوة ابنها إسحاق بعد إبراهيم ومن وراء إسحاق يعقوب أي بعد إسحاق يكون يعقوب نبياً وتكون النبوة في عقبهم إلى عهد خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلّم فإنه يكون من عقب إسماعيل.
قال الكاشفي عند قوله تعالى : {بِالْبُشْرَى} (در حقايق آورده كه مده بود بظهور حضرت سيد أنبياء از صلب وى بآنكه خاتم يغمبران وصاحب لواء حمداست وجه بشارت در مقابله اين تواند بودكه دريرا نين سر باشد) :
خوش وقت آن دركه نين باشدش سر
ساباش ازان صدف كه نين رورد كهر
آبا ازو مكرم وابنا ازو عزيز
صلوا عليه ما طلع الشمس والقمر
جزء : 4 رقم الصفحة : 162
{قَالَتْ كَأَنَّهُ} قالت : إذ بشرت بذلك فقيل قالت : يا ويلتنا أي : يا عجباً أصله يا ويلتني فأبدل من الياء الألف ، ومن كسرة التاء الفتحة لأن الألف مع الفتحة أخف من الياء مع الكسرة وأصل هذه الكلمة في الشر ، لأن الشخص ينادي ويلته وهي هلكته يقول لها تعالي واحضري فهذا أوان حضورك ، ثم اطلق في كل أمر عجب كقولك يا سبحان الله وهو المراد هنا.
قال سعدي المفتي : أصل الدعاء بالويل ونحوه في التفجع لشدة مكروه يدهم النفس ثم استعمل في عجب يدهم النفس ءالد (آيا من بزايم) وأنا عجوز بنت تسعين أو تسع وتسعين سنة لم ألد قط وهذا الذي تشاهدونه بعلءَ أي : زوجي وأصله القائم بالأمر شيخاً ابن مائة سنة أو مائة وعشرين ونصبه على الحال والعامل معنى الإشارة.
قال في الكواشي : كأنها أشارت إلى معروف عندهم أي : هذا المعروف بعلي ثم قالت : شيخاً أي : أشير إليه في حال شيخوخته ولو لم يكن معروفاً عندهم لكان يجب أن يكون بعلها مدة شيخوخته ولم يكن بعلها مدة شبيبته ونحوه هذا زيد قائماً إن أخبرت من يعرفه صح المعنى وإن أخبرت من لا يعرفه لا يصح لأنه إنما يكون زيداً ما قام ، فإذا ترك القيام فليس بزيد ، وقدمت بيان حالها على بيان حال بعلها لأن مباينة حالها لما ذكر من الولادة أكثر إذ ربما يولد للشيوخ من الشواب ولا يولد للعجائز من الشبان.
إن هذا أي : حصول الولد من هرمين مثلنا.
لشيء عجيب بالنسبة إلى سنة الله المسلوكة فيما بين عباده ومقصدها استعظام نعمة الله عليها في ضمن الاستعجاب العادي لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرة الله تعالى ؛ لأن التعجب من قدرة الله يوجب الكفر لكونه مستلزماً للجهل بقدرة الله تعالى.
قالوا منكرين عليها أتعجبين من أمر الله أي : من شأن الله تعالى بإيجاد الولد من كبيرين.
قال الكاشفي (ازكار خداى تعالى هي عجب نيست كه از صنع بي آلت واز فضل بي علت ازميان دو ير فرزندى بيرون آرد).
قدرتي راكه بر كمال بود
كى نينها از ومحال بود
163
قال سعدي المفتي : أخذ جبريل عموداً من الأرض يابساً فدلكه بين أصبعيه فإذا هي شجرة تهتز فعرفت أنه من الله تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 163
وفي التأويلات النجمية : من أمر الله أي : من قدرة الله تعالى فإنتعالى سنة وقدرة فيجرى أمر العوام بسنته وأمر الخواص إظهاراً للآية ، والإعجاز بقدرته فأجرى أمركم بقدرته ومثلها امرأة عمران وهي حنة ، كانت عاقراً لم تلد إلى أن عجزت أي : صارت عجوزاً ، ثم حملت بمريم وقد سبق في آل عمران فإذا كان هذا الحمل بقدرة الله تعالى خارقاً للعادة لم يحتج إلى الحيض ولا يبعد الحيض أيضاً في كبر السن ، كما فسر بعض العلماء قوله تعالى : ضحكت بحاضت قيل لما صلب الحجاج عبد الله بن الزيبر جاءته أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق فلما رأته حاضت مع كبر سنها وقد بلغت مائة سنة وخرج اللبن من ثدييها وقالت : حنت إليه مراتعه ودرت عليه مراضعه ، رحمة الله التي وسعت كل شيء واستبقت كل خير.
وبركاته خيراته النامية المتكاثرة في كل باب التي من جملتها هبة الأولاد حالتان.
عليكم لازمتان لكم لا تفارقاكم يا أهل البيت أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة فليست بمكان عجب.
والجملة مستأنفة فقيل خبر وهو الأظهر وقيل دعاء وقيل الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم عليه السلام ومثله في قصة نوح عليه السلام قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك}(هود : 48) وقد سبق {أَنَّهُ} أي : الله تعالى حميد فاعل ما يستوجب به الحمد من عبادة لا سيما في حقها مجيد كثير الخير والإحسان إلى عباده خصوصاً في أن جعل بيتها مهبط البركات.
(4/102)
وفي التأويلات النجمية حميد على ما يجري من السنة والقدرة مجيد فيما ينعم به على العوام والخواص وأصل المجد في كلامهم السعة.
قال ابن الشيخ : المجد الكرم ، والمجيد صيغة مبالغة منه.
وقال الإمام الغزالي رحمه الله : المجيد الشريف ذاته ، الجميل أفعاله ، الجزيل عطاؤه ونواله فكان شريف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمي مجيداً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 163
[البقرة : 225]{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} أي : زال الخوف والفزع الذي أصابه لما لم يأكلوا من العجل ، واطمأن قلبه بعرفانهم بحقيقتهم الملكية وعرفان سبب مجيئهم وجاءته البشرى بنجاة قومه كما قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط أو بالولد إسحاق كما قال : فبشرناها بإسحاق وإبراهيم أصل في التبشير كما قال في سورة أخرى : وبشرناه بغلام حليم}(الصافات : 101) {يُجَـادِلُنَا} أي : جادل وخاصم رسلنا لأنه صرح في سورة العنكبوت بكون المجادلة مع الرسل وجيء بجواب لما مضارعاً مع أنه ينبغي أن يكون ماضياً لكونها موضوعة للدلالة على وقوع أمر في الماضي لوقوع غيره فيه على سبيل الحكاية الماضية.
في قوم لوط في شأنهم وحقهم لرفع العذاب جدال الضعيف مع القوى لا جدال القوي مع الضعيف بل جدال المحتاج الفقير مع الكريم الغني وجدال الرحمة والمعاطفة وطلب النجاة للضعفاء والمساكين الهالكين ، وكان لوط ابن أخيه ، وهو لوط بن آزور ابن آزر ، وإبراهيم بن آزر ويقال : ابن عمه وسارة كانت أخت لوط ، فلما سمعا بهلاك قوم لوط اغتما لأجل لوط فطفق إبراهيم يجادل الرسل حين قالوا : إنا مهلكوا أهل هذه القرية فقال : أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا : لا ، قال : فأربعون؟ قالوا : لا قال : فثلاثون؟ قالوا : لا ، حتى بلغ خمسة قالوا : لا قال : أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟
164
قالوا : لا ، فعند ذلك قال : فإن فيها لوطاً قالوا : نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله.
إن إبراهيم لحليم غير عجول على الانتقام من أساء إليه أواه كثير التأوه على الذنوب والتأسف على الناس.
وفي ربيع الأبرار معنى التأوه الدعاء إلى الله بلغة توافق النبطية منيب راجع إلى الله تعالى بما يحب ويرضى أي : كان جداله بحلم وتأوه عليهم فإن الذي لا يتعجل في مكافاة من يؤذيه يتأوه أي : يقول أوه وآه إذا شاهد وصول الشدائد إلى الغير وإنه مع ذلك راجع إلى الله في جميع أحواله أي : ما كان بعض أحواله ، مشوباً بعلة راجعة إلى حظ نفسه ، بل كان كلهفتبين أن رقة القلب حملته على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع عنهم العذاب ويمهلوا لعلهم يحدثون التوبة والإنابة كما حملته على الاستغفار لأبيه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 164
يقول الفقير دلت الآية على أن المجادلة وقعت في قوم لوط ودلت التفاسير على أنها وقعت في لوط نفسه والمؤمنين معه ولا تنافي بينهما ، فإن عموم الرحمة التي حملته عليها نشأة الأنبياء عليهم السلام لا يميز بين شخص ، وشخص فإن الأمة بالنسبة إلى النبي كالأولاد بالنسبة إلى الأب ، وكفرهم لا يرفع الرحمة في حقهم ، ويدل عليه حال نوح مع ابنه كنعان كما وقفت عليه فيما سبق وإنما مجيء البشرى في حق قومه فقط فبقي الألم في حق الغير على حاله واتصال القرابة بين إبراهيم ولوط يقتضي أن يكون قوم لوط في حكم قوم إبراهيم فافهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 164
يا اإِبْرَاهِيمُ} على إرادة القول أي : قالت الملائكة : يا إبراهيم أعرض عن هذا الجدال بالحلم والرحمة على غير أهل الرحمة إنه أي : الشأن قد جاء أمر ربك قدره بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم والقضاء هو الإرادة الأزلية ، والعناية الإلهية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص والقدر تعلق الإرادة بالأشياء في أوقاتها وإنهم آتيهم عذاب غير مردود غير مصروف عنهم بجدال ولا بدعاء ولا بغير ذلك وإنك مأجور مثاب فيما جادلتنا لنجاتهم ، وهذا كما كان النبي يقول : اشفعوا تؤجروا وليقصن الله على لسان نبيه ما شاء قال ابن الملك في شرح الحديث : لا يخفى أن مطلق الشفاعة لا يكون سبباً للأجر فيحمل على أن تكون الشفاعة لأرباب الحوائج المشروعة كدفع ظلم وعفو عن ذنب ليس فيه حد انتهى.
والحد : واجب في اللواطة عند الإمامين لأنهما ألحقاها بالزنى ، وعند أبي حنيفة يعزر في ظاهر الرواية وزاد في الجامع الصغير ويودع في السجن حتى يتوب ، وروى عنه الحد في دبر الأجنبية ولو فعل هذا بعبده أو أمته أو منكوحته لا يحد بلا خلاف.
وفي الشرح الأكملي والظاهر أن ما ذهب إليه أبو حنيفة أنما هو استعظام لذلك الفعل فإنه ليس في القبح بحيث يجازي بما يجازي القتل أو الزنى وإنما التعزير لتسكين الفتنة الناجزة كما أنه يقول في اليمين الغموس : إنه لا يجب فيه الكفارة لأنه لعظمه لا يستتر بالكفارة.
(4/103)
يقول الفقير : الظاهر أن إتيان العذاب الغير المردود لإصرارهم على الكفر والتكذيب بعد استبانة الحق واللواطة من جملة أسباب الإتيان كالعقر لناقة الله بالنسبة إلى قوم صالح روي أن الرسل الذين بشروا إبراهيم خرجوا بعد هذه المجادلة من عنده وانطلقوا إلى قرية لوط سدوم وما بين القريتين أربعة فراسخ فانتهوا إليها نصف النهار فإذا هم بجوار يستقين من الماء فأبصرتهم ابنة لوط وهي تستقي الماء فقالت : لهم ما شأنكم وأين تريدون قالوا : أقبلنا من مكان
165
كذا ونريد كذا فأخبرتهم عن حال أهل المدينة وخبثهم فاظهروا الغم من أنفسهم فقالوا : هل أحد يضفنا في هذه القرية؟ قالت : ليس فيها أحد يضيفكم إلا ذاك الشيخ ، فأشارت إلى أبيها لوط وهو قائم على بابه فأتوا إليه.
وقال الكاشفي : (ون نزديك شهر سدوم رسيدندكه لوط در انجا مى بود نكاه كردند ديدندكه وى درزمين كار ميكرد ييش وى رفتند وسلام كردند) فلما رآهم وهيئتهم ساءه ذلك وهو قوله تعالى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 165
{وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِىاءَ بِهِمْ} (اندوهكين شد بديشان) وهو فعل مبني للمفعول والقائم مقام الفاعل ضمير لوط من قولك ساءني كذا أي : حصل لي منه سوء وحزن وغم وبهم متعلق به أي : بسببهم.
والمعنى ساءه مجيئهم لا لأنهم جاؤوا مسافرين وهو لا يود الضيف وقراه فحاشى بيت النبوة عن ذلك بل لأنهم جاؤوا في صورة غلمان حسان الوجوه فحسب أنهم أناس فخاف عليهم أن يقصدهم قومه فيعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم.
وفيه إشارة إلى عروض الهمّ والحزن له لهلاك قومه بالعذاب فانظر إلى التفاوت بين إبراهيم ولوط وبين قومهما حيث كان مجيئهم لإبراهيم للمسرة وللوط للمساءة مع تقديم المسرة ؛ لأن رحمة الله سابقة على غضبه وروى أن الله تعالى قال لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات فلما أتوا إليه قال لهم : أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا : وما أمرها؟ قال : أشهد بالله إنها لشرّ قرية في الأرض عملاً يقول ذلك أربع مرات فدخلوا منزله ولم يعلم بذلك أحد فأذاع خبرهم امرأته الكافرة كما ستقف عليه وضاق بهم ذرعاً (وتنك دل شد بجهت ايشان) وذرعا نصب على التمييز أي : ضاق بمكانهم صدره أو قلبه أو وسعه وطاقته ، وهو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه يقال : ضاق ذرع فلان بكذا إذا وقع في مكروه ولا يطيق الخروج منه.
وفي الاخترى ضاق به ذرعاً أي : طاقة وضاق بالأمر أي : لم يطقه ولم يقو عليه وكان مد إليه يده فلم تنله.
قال الأزهري : الذرع يوضع موضع الطاقة والأصل فيه البعير يذرع بيديه في سيره ذرعاً على قدر سعة خطوته فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فضعف ومد عنقه وجعل ضيق الذرع عبارة عن قلة الوسع والطاقة فيقال : مالي به ذرع ولا ذراع أي : مالي به طاقة وقال هذا يوم عصيب أي : شديد عليّ وهو لغة جرهم كما في ربيع الأبرار ثم قال لوط لامرأته : ويحك قومي اخبزي ولا تعلمي أحداً ، وكانت امرأته كافرة منافقة فانطلقت لطلب بعض حاجتها فجعلت لا تدخل على أحد إلا أخبرته ، وقالت : إن في بيت لوط رجالاً ما رأيت أحسن وجوهاً منهم ولا أنظف ثياباً ولا أطيب رائحة ، فلما علموا بذلك جاؤوا إلى باب لوط مسرعين فذلك قوله تعالى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 166
وجاءه أي : لوطاً وهو في بيته مع أضيافه قومه والحال أنهم يهرعون إليه يسرعون إليه كأنما يدفعون دفعاً طلباً للفاحشة من أضيافه غافلين عن حالهم جاهلين بمآلهم والإهراع الإسراع.
قال في التهذيب الهرع : (براندن سخت وشتا بانيدن) يقال : اهرع القوم وهرعوا ومن قبل كانوا يعملون السيئات الجملة حال أيضاً من قومه أي : جاؤوا مسرعين والحال أنهم كانوا من قبل هذا الوقت وهو وقت مجيئهم إلى لوط منهمكين في عمل الفواحش (عملهاى بد از لواطه وكبوتر بازى وصفير زدن در مجالس وبراى استهزا نشستن
166
برسر راها) فتمرنوا بها ، أي : تعودوا واستمروا حتى لم تعب عندهم قباحتها ولذلك لم يستحيوا ما فعلوا من مجيئهم مهرعين مجاهرين.
وفي التأويلات النجمية كانوا يعملون السيئات الموجبة للهلاك والعذاب فجاؤوا مسرعين مستقبلي العذاب وطلبوا من بيت النبوة من أهل الطهارة معاملة ساءتهم بخباثة نفوسهم ليستحقوا بذلك كمال الشقاوة وسرعة العذاب انتهى.
ودل ما ذكر على أن جهار الفسق فوق إخفائه ولذا رد شهادة الفاسق المعلن وفي الحديث : كل أمتي معافى إلا المجاهرون أي : لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون بل يؤخذون في الدنيا إن كانت مما يتعلق بالحدود وأما في الآخرة فمطلقاً.
قال السعدي قدس سره :
نه هركز شنيدم درين عمر خويش
كه بد مردرا نيكى آمد بيش
نه ابليس بدكرد ونيكى نديد
بر اك نايد زتخم ليد
(4/104)
قال يا قوم (اي قو من) هؤلاء مبتدأ خبره قوله بناتي الصلبية فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعيته فإن تزويج المسلمات من الكفار كان جائزاً في شريعته ، وهكذا كان في أول الإسلام بدليل أنه عليه السلام زوج ابنتيه من أبي العاص بن وائل وعتبة بن أبي لهب قبل الوحي وهما كافران ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا}(البقرة : 221) وقيل كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه وأياً ما كان فقد أراد به وقاية ضيفه وذلك غاية في الكرم {هُنَّ} مبتدأ خبره قوله أطهر لكم هذا لا يدل على أن إتيان الذكور كان طاهراً ، كما لا يدل قولك النكاح أطهر من الزنى على كون الزنى طاهراً ، لأنه خبث ليس فيه شيء من الطهارة لكن هؤلاء القوم اعتقدوا ذلك طهارة فبنى ذلك على زعمهم الفاسد واعتقادهم الباطل ، وهو مثل ما قال النبي عليه السلام لعمر رضي الله عنه : الله أجل وأعلى جواباً لأبي سفيان حيث قال : أعل هبل اعتقد علو صنمه وذلك اعتقاد فاسد لا شبهة فيه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 166
يقول الفقير عرض عليهم أولاً بناته لكي يرغبوا فيهن فينسد باب الفتنة ففيه حسن دفع لهم من أول الأمر وبناته وإن لم تف للجميع الكثير ، لأنه على ما روى كان له بنتان لكنه إذا أرضى بهن البعض ممن كان مطاعاً انقطع عرق النزاع من الاتباع ، ولئن سلم أنه لم يكن فيهم مطاع فلقد شاهدنا اندفاع شر كثير بخير يسير ، ثم حكم بكونهن أطهر وهو للزيادة المطلقة على ما ذهب إليه الرازي في الكبير تأكيداً للترغيب وتقبيحاً لحالهم في استطابة الخبائث لينزجروا ويتركوا ما هم عليه من اللواطة ، فإنه إذا كان المحيض أذى وقذراً يجب التجنب عنه مع كون المحل مباح الأصل فلأن يكون الجزاء كذلك أولى مع كون المحل حرام الأصل فاتقوا الله بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم ولا تخزون (مرا رسواى نكنيد) في ضيفي في حقهم وشأنهم فإن أخزاء ضيف الرجل أخزاؤه كما أن إكرام من يتصل به إكرامه.
والضيف مصدر في الأصل يكون للقليل والكثير أليس منكم رجل رشيد رجل واحد يهتدي إلى الحق ويرعوى عن القبيح.
وقال الكاشفي : (آيانيست ازشما مردى راه يافته كه شمارا ند دهد واز عملهاى بد باز دارد).
وفي التأويلات النجمية رجل رشيد يقبل نصحي ويتوب إلى
167
الله بالصدق فينجيكم من العذاب ببركته انتهى.
وذلك لأن الواحد على الحق كالسواد الأعظم وكالأكسير.
جزء : 4 رقم الصفحة : 166
{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أي : لا رغبة لنا فيهن فلا ننكحهن ومقصودهم أن نكاح الإناث ليس من عادتنا ومذهبنا ولذا قالوا : علمت فإن لوطاً كان يعلم ذلك ولا يعلم عدم رغبتهم في بناته بخصوصهن ويؤيده قوله وإنك لتعلم ما نريد هو إتيان الذكور وهو في الحقيقة طلب ما أعد الله لهم في الأزل من قهره يعني الهلاك بالعذاب ولما يئس من ارعوائهم عماهم عليه من الغي قال لو أن لي بكم قوة لو للتمنى وهو الأنسب بمثل هذا المقام فلا يحتاج إلى الجواب وبكم حال من قوة أي : بطشاً ، والمعنى بالفارسية (كاشكى مرا باشد بدفع شما قوتي) أو آوي إلى ركن شديد عطف على أن لي بكم ، لما فيه من معنى الفعل ، والركن بسكون الكاف وضمها الناحية من الجبل وغيره أي : لو قويت على دفعكم ومقاومتكم بنفسي ، أو التجأت إلى ناصر عزيز قوي استند إليه وأتمنع به فيحميني منكم شبه بركن الجبل في الشدة والمنعة.
وقال الكاشفي : (ياناه كيرم وباز كردم بركنىء سخت يعني شعيره وقبيله كه بديشان منع شماتوا نم كرد) وكان لوط رجلاً غريباً فيهم ليس له عشيرة وقبيلة يلتجىء إليهم في الأمور الملمة والغريب لا يعينه أحد غالباً في أكثر البلدان خصوصاً في هذا الزمان.
قال الحافظ :
تيمار غريبان سبب ذكر جميلست
جانا مكر اين قاعده درشهر شمانيست
وإنما تمنى القوة لأن الله تعالى خلق الإنسان من ضعف كما قال : خلقكم من ضعف}(الروم : 54) والعارف ينظر إلى هذا الضعف ذوقاً وحالاً ولذا قيل إن العارف التام المعرفة في غاية العجز والضعف عن التأثير والتصرف لانقهاره تحت الوحدة الجمعبة وقد قال تعالى : {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} (المزمل : 9) والوكيل هو المتصرف ، فإن ألهم التصرف بجزم تصرف ، وإن منع امتنع وإن خير اختار ترك التصرف إلا أن يكون ناقص المعرفة.
وفي "المثنوى" :
ما كه باشيم اي تومارا جان جان
تاكه ما باشيم باتو درميان
دست نى تادست جنباند بدفع
نطق نى تادم زند از ضر ونفع
يش قدرت خلق جمله باركه
عاجزان ون يش سوزن كاركه
وفي الحديث : "رحم الله أخي لوطاً كان يأوى إلى ركن شديد" وهو نصر الله ومعونته.
جزء : 4 رقم الصفحة : 168
واختلف في معناه.
فقال الكاشفي ، يعني : (بخداي ناه كرفت وخدا اورايارى دادكه ملجأ درماندكان جزدركاه اونيست) :
آستانش كه قبله همه است
هركه دل درحمايتش بستست
ازغم هردوكون وارستست
(4/105)
وقال ابن الشيخ : أي : كان يريد أو يتمنى أن يأوي إلى ركن شديد وفي قوله : "رحم الله" إشارة إلى أن هذا الكلام من لوط ليس مما ينبغي من حيث إنه يدل على قنوط كلي ويأس شديد من أن يكون له ناصر ينصره ، والحال أنه لا ركن أشد من الركن الذي كان يأوى إليه ، أليس الله بكافٍ عبده انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما بعث الله نبياً بعد لوط إلا في عز من قومه ، يعني : استجيب دعوته
168
ضرورة ، وكان صلى الله عليه وسلّم يحميه قبيلته كأبي طالب فإنه كان يتعصب للنبي ويذب عنه دائماً وإنما اضطر إلى الهجرة بعد وفاته ـ ـ روي ـ ـ أن لوطاً أغلق بابه دون أضيافه حين جاؤوا وأخذ يحاولهم من وراء الباب ، فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة ما بلوط من الكرب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 168
{قَالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَا فَأَسْرِ} ولا مكروه ولن يخزوك فينا وإن ركنك شديد فافتح الباب ودعنا ، وإياهم ، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبرائيل ربه تعالى في عقوبتهم ، فأذن له ، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وله جناحان وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم كما قال تعالى : فطمسنا أعينهم فصاروا لا يعرفون الطريق فخرجوا وهم يقولون النجاء النجاء فإن في بيت لوط سحرة وهددوا لوطاً ، وقالوا : مكانك حتى نصبح فأسر بأهلك الإسراء بالفارسية (رفتن بشب) وهو لازم ومتعد وكذا السرى فإن معناه (رفتن بشب) والمصدر على فعل خص به المعتل كما في التهذيب والمعنى كما قال الكاشفي : (ببركسان خودرا) بقطع من الليل القطع في آخر الليل.
وقال ابن عباس : بطائفة من الليل ، والمعنى (بار شب يعني بعد از كذشتن برخى ازشب) فالباء في باهلك للتعدية ويجوز أن تكون للحال ، أي : مصاحباً بهم وفي قوله بقطع للحال أي : مصاحبين بقطع على أن المراد به ظلمة الليل ، وقيل الباء فيه بمعنى في ، أي : أخرجوا ليلاً لتستبقوا نزول العذاب الذي موعده الصبح ولا يلتفت منكم أحد منك ومن أهلك أي : لا يتخلف ولا ينصرف عن امتثال المأمور به ، أو لا ينظر إلى ورائه فالظاهر على هذا أنه كان لهم في البلد أموال وأقمشة وأصدقاء ، فالملائكة أمروهم بأن يخرجوا ويتركوا تلك الأشياء ويقطعوا تعلق قلوبهم كما قال في التأويلات النجمية : ولا يلتفت منكم أحد إلى ما هم فيه من الدنيا وزينتها ومتاعها أراد به تجرد الباطن عن الدنيا وما فيها فإن النجاة من العذاب والهلاك منوط به انتهى وفي الحديث : اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم أي : أنفذها وتممها لهم ولا تمسهم في بلدة هاجروا منها لئلا ينتقض الثواب بالركون إلى الوطن.
6
قال أبو الليث في تفسيره : جمع لوطاً أهله وابنتيه ريثا ورعورا فحمل جبريل لوط وبناته وماله على جناحه إلى مدينة زغر ، وهي إحدى مدائن لوط وهي خمس مدائن ، وهي على أربع فراسخ من سدوم ولم يكونوا على مثل عملهم انتهى ويخالفه الأمر بالإسراء كما لا يخفى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 169
وقال في بحر العلوم : وإنما نهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم ويجوز أن يكون النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التوقف ؛ لأن من يلتفت إلى ما وراءه لا بد له من أدنى وقفة إلا امرأتك استثناء من قوله تعالى : فأسر بأهلك إنه أي : الشان مصيبها ما أصابهم من العذاب :
بابدان يا ركشت همسر لوط
خاندان نبوتش كم شد
يعني : وقعت أهل بيت نبوته في الضلالة فهلكت ، والمراد امرأته فإنها مع تشرفها بالإضافة إلى بيت النبوة لما اتصلت بأهل الضلالة صارت ضالة : وأدّى ضلالها وكفرها إلى الهلاك معهم ففيه تنبيه على أن لصحبة الأغيار ضرراً عظيماً إن موعدهم الصبح أي : موعد عذابهم وهلاكهم وهو تعليل للأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات المشعر بالحث على الإسراع كما في الإرشاد وروى
169
أنه قال للملائكة : متى موعدهم؟ قالوا : الصبح فقال : أريد أسرع من ذلك فقالوا : أليس الصبح بقريب (آيا نيست صبح نزديك نفي نزديكست) ، وإنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذٍ أفظع ، ولأنه أنسب بكون ذلك عبرة للناظرين.
وفيه إشارة إلى أن صبح يوم الوفاة قريب لكل أحد فإذا أدركه ، فكأنه لم يلبث في الدنيا إلا ساعة من نهار.
قال السعدي قدس سره :
را دل برير كاروان مى نهيم
كه ياران برفتند وما بررهيم
س اي خاكساركنه عن قريب
سفر كرد خواهى بشهر غريب
برين خاك جندان صبا بكذرد
كه هرذره از ما بجايى برد
جزء : 4 رقم الصفحة : 169
{فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} أي : وقت عذابنا وموعده وهو الصبح جعلنا بقدرتنا الكاملة عاليها أي : عالي قرى قوم لوط وهي التي عبر عنها بالمؤتفكات وهي أربع مدائن فيها أربعمائة ألف أو أربعة آلاف.
(4/106)
قال الكاشفي : (درهريكى صد هزار مرد شمشيررن) وهي سدوم ، وعامورا ، وكادو ما ، ومذوايم ، كانت على مسيرة ثلاثة أيام من بيت المقدس سافلها أي : قلبناها على تلك الهيئات.
وبالفارسية (نكون ساختيم) روى أن جبريل جعل جناحه في أسفلها فاقتلعها من الماء الأسود ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة لم يكفأ إناء ولم ينتبه نائم ، ثم قلبها عليهم فاقبلت تهوى من السماء إلى الأرض.
وأمطرنا عليها على أهل المدائن من فوقهم (أي بعد از سر نكون شدن) وكان حقه جعلوا وأمطروا ، أي : الملائكة المأمورون به فأسند إلى نفسه من حيث إنه المسبب تعظيماً للأمر وتهويلاً للخطب حجارة من سجيل من طين متحجر كقوله حجارة من طين واصله (سنك كل) فعرب منضود نضد في الإرسال بتتابع بعضه بعضاً كقطار الأمطار.
والنضد وضع الشيء بعضه على بعض وهو نعت لسجيل.
مسومة نعت حجارة ، أي : معلمة لا تشبه حجارة الدنيا ، أو باسم صاحبها الذي تصيبه ويرمى بها ، عند ربك أي : جاءت من عند ربك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 170
قال الكاشفي : (آماده كشته در خزائن روردكار تو براى عذاب ايشان) روى إن الحجر اتبع شذاذهم أينما كانوا في البلاد ودخل رجل منهم الحرم وكان الحجر معلقاً في السماء أربعين يوماً حتى خرج فأصابه فأهلكه (در تفسير زاهدى آورده كه سنك كلان او برابر خمى بود وخردى مساوى اسبويى).
يقول الفقير : لعل الأمطار على تلك القرى بعد القلب إنما هو لتكميل العقوبة كالرجفة الواقعة بعد الصيحة لقوم صالح ، ولتحصيل الهلاك لمسافريهم الخارجين من بلادهم لمصالحهم وهو الظاهر والله أعلم وما هي أي : الحجارة الموصوفة من الظالمين من كل ظالم فهم بسبب ظلمهم مستحقون لها ملابسون بها ببعيد تذكيره على تأويل الحجارة بالحجر.
وفيه وعيد لأهل الظلم كافة ، وعنه عليه السلام أنه سأل جبرائيل فقال يعني : ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرضة حجر يسقط من ساعة إلى ساعة يقال : فلان عرضة للناس لا يزالون يقعون فيه ، وجعلت فلاناً عرضة لكذا ، أي : نصبته فلا تظن الظالمين أنهم يتخلصون ويسلمون من هذه الحجارة أن تسقط عليهم وقت وفاتهم وحصولهم إلى صباح موتهم ، ونظيره
170
أن رسول الله كان قاعداً مع أصحابه في المسجد فسمعوا هدَّة عظيمة وهي صوت انهدام الحائط فارتاعوا ، أي : خافوا وفزعوا فقال عليه السلام : أتعرفون ما هذه الهدة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : حجر ألقي من أعلى جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها وكان وصوله إلى قعرها وسقوطه فيها هذه الهدة فما فرغ من كلامه إلا والصراخ في دار منافق من المنافقين قد مات وكان عمره سبعين سنة فلما مات حصل في قعرها قال الله تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}(النساء : 145) فكان سماعهم تلك الهدة التي أسمعهم الله ليعتبروا ، وفي الخبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ليلة أسرى بي إلى السماء رأيت في السماء الثالثة حجارة موضوعة ، فسألت عن ذلك جبريل فقال : لا تسأل عنها ، فلما انصرفت وقفت على تلك الحجارة ، وقلت أخبرني عن الحجارة فقال : هذه الحجارة فصلت من حجارة قوم لوط خبئت للظالمين من أمتك ، ثم تلا وما هي من الظالمين ببيعد" كذا في "زهرة الرياض" :
ون عالم ازستمكر ننك دارد
عجب نبودكه بروى سنك بارد
وفي "التبيان" والبعيد الذي ليس بكائن ولا يتصور وقوعه وكل ما هو كائن فهو قريب.
وعن محمد بن مروان قال : صرت إلى جزيرة النوبة في آخر ممرنا ، فأمرت بالمضارب فضربت ، فخرج النوب يتعجبون ، وأقبل ملكهم رجل طويل أصلع حافٍ عليه كساء فسلم وجلس على الأرض ، فقلت له ما لك لا تقعد على البساط؟ قال : أنا ملك وحق لمن رفعه الله أن يتواضع له إذا رفعه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 170
تواضع زكردن فرازان نكوست
كدا كر تواضع كند خوى اوست
ثم قال : ما بالكم تطاؤن الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم؟ فقلت : عبيدنا فعلوه بجهلهم ، قال : ما بالكم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في دينكم قلت أشياعنا فعلوه بجهلهم قال : فما بالكم تلبسون الديباج وتتحلون بالذهب والفضة وهي محرمة عليكم على لسان نبيكم قلت : فعل ذلك أعاجم من خدمنا كرهنا الخلاف عليهم فجعل ينظر في وجهي ويكرر معاذرى على وجه الاستهزاء ثم قال : ليس كما تقول يا ابن مروان ، ولكنكم قوم ملكتم فظلمتم وتركتم ما أمرتم فأذاقكم الله وبال أمركم ، ولله فيكم نعم لم تحص ، وإني أخشى أن ينزل بك وأنت في أرضي مصيبة فتصيبني معك فارتحل عني.
واعلم أن الظلم من نتائج القساوة التي تمطر على كل قلب مقدار ما قدر له فلا يزال يزداد ظلم المرء بحسب ازدياد قساوة قلبه ، فإذا أحاطت بمرآة قلبه قساوته أبعد من أن يكون مرجواً نجاته ، وكان من المهلكين بحجر القساوة النازلة من سماء القهر والجلال ، عصمنا الله وإياكم من البغي والفساد وأرشدنا إلى العدل والصلاح إنه ولي الإرشاد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 170
(4/107)
{وَإِلَى مَدْيَنَ} هو اسم ابن إبراهيم عليه السلام ثم صار اسماً للقبيلة ، أو اسم مدينة بناها مدين فسميت باسمه ، أي : وأرسلنا إلى قبيلة مدين أو ساكني بلدة مدين.
أخاهم أي : واحداً منهم في النسب.
شعيباً عطف بيان له وهو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين قال استئناف بياني يا قوم (اي كروه من) اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً من الأصنام ؛ لأنه مالكم من إله غيره أي : ليس لكم إله سوى الله تعالى وكانت كلمة جميع الأنبياء في التوحيد واحدة فدعوا إلى الله الواحد
171
وعبادته ، فأمرهم شعيب بالتوحيد أولاً لأنه ملاك الأمر وقوامه ثم نهاهم عما اعتادوه من النقص في الكيل والوزن لأنه يورث الهلاك فقال : ولا تنقصوا المكيال والميزان أي : آلة الوزن والكيل وكان لهم مكيالان وميزانان أحدهما أكبر من الآخر فإذا اكتالوا على الناس يستوفون بالأكبر ، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون بالأصغر ، والمراد لا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود ، وكذا الصنجات كي تتوسلوا بذلك إلى بخس حقوق الناس ويجوز أن يكون من ذكر المحل وإرادة الحال ، والمعنى بالفارسية (مكاهيد وكم مكنيد يمانه را در يمودن ميكلات وترازورا در سنجيدن موزونات) وكل من البخسين شائع في هذا الزمان أيضاً ، كأنه ميراث من الكفرة الخائنين إني أرايكم بخير علة للنهي أي : ملتبسين بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف.
يعني (درمانده ومحتاج نيستيدكه داعي باشد شمارا بخيانت بلكه منعم وتوانكريد رسم حق كزارى آنست كه مردم را از مال خود بهره مند كنيد نه آنكه از حقوق ايشان باز كيريد).
وإني أخاف عليكم إن لم ترجعوا عن ذلك النقص عذاب يوم محيط لا يشذ منه أحد منكم ، والمراد منه عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال ووصف اليوم بالإحاطة وهي حال العذاب لاشتماله عليه ففيه إسناد مجازي ، وأصل العذاب في كلام العرب من العذب ، وهو المنع وسمى الماء عذباً لأنه يمنع العطش والعذاب عذاباً لأنه يمنع المعاقب من معاودة مثل جرمه ويمنع غيره من مثل فعله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 171
ويا قوم أوفوا المكيال والميزان إيفاء الحق إعطاؤه تاماً كاملاً ، أي : اسعوا في إعطاء الحق على وجه التمام والكمال بحيث يحصل لكم اليقين بالخروج عن العهدة بالقسط حال من فاعل أوفوا ، أي : ملتبسين بالعدل والتسوية من غير زيادة ولا نقصان فإن الزيادة في الكيل والوزن ، وإن كانت تفضلاً مندوباً إليه لكنها في الآلة محظورة كالنقص فلعل الزائد للاستعمال عند الاكتيال والناقص للاستعمال وقت الكيل كذا في الإرشاد.
وصرح بالإيفاء بعد النهي عن ضده ؛ لأن النهي عن نقص حجم المكيال وصنجات الميزان والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن وهذا الأمر بعد مساواة المكيال والميزان للمعهود فلا تكرار في الآية كما في حواشي سعدي المفتي.
ولا تبخسوا الناس أشياءهم مطلقاً أي : سواء كانت من جنس المكيل والموزون أو من غيره وسواء كانت جليلة أو حقيرة ، وكانوا يأخذون من كل شيء يباع شيئاً كما يفعل السماسرة ويمكنون الناس وينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء ولا تعثوا في الأرض مفسدين العثي أشد الفساد أي : ولا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم ، لأنهم كانوا متمادين فيه فنهوا عن ذلك ومن الفساد نقص الحقوق ، ومن الإفساد قص الدراهم والدنانير وترويج الزيوف ببعض الأسباب وغير ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 171
[هود : 86-276]{بَقِيَّتُ اللَّهِ} أي : ما أبقاه الله لكم من الحلال بعد ترك الحرام ، فهي فعيلة بمعنى المفعول وإضافتها للتشريف كما في بيت الله وناقة الله ، فإن ما بقي بعد إيفاء الكيل والوزن من الرزق الحلال يستحق التشريف.
خير لكم مما تجمعون بالبخس والتطفيف فإن ذلك هباء منثور بل شر محض وإن زعمتم أن فيه خيراً ، كما قال تعالى : يمحق الله الربا ويربى الصدقات}(البقرة : 276).
قال في "شرح الشرعة" :
172
ولا يخون أحد في مبايعته بالحيل والتلبيس فإن الرزق لا يزيد بذلك بل تزول بركته فمن جمع المال بالحيل حبة حبة ، يهلكه الله جملة قبة قبة ، ويبقى عليه وزره ذرة ذرة ، كرجل كان يخلط اللبن بالماء ليرى كثيراً فجاء السيل وقتل بقره فقالت : صبيته يا أبتِ قد اجتمع المياه التي جعلتها في اللبن وقتلت البقر {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بشرط أن تؤمنوا ، وإنما شرط الإيمان في خيرية ما بقي بعد الإيفاء ؛ لأن فائدته وهي حصول الثواب والنجاة من العقاب إنما تظهر مع الإيمان فإن الكافر مخلد في عذاب النيران ومحروم من رضوان وثواب الرحمن سواء ، أو في الكيل والميزان أو سلك سبيل الخوّان إن كنتم مصدقين لي في مقالتي لكم وما أنا عليكم بحفيظ أي : ما بعثت لأحفظكم عن المعاصي والقبائح وإنما بعثت مبلغاً ومنبهاً على الخير وناصحاً وقد بلغت.
من آنه شرط بلاغست باتو ميكويم
توخواه از سختم ند كير وخواه ملال
(4/108)
اعلم أن العدل ميزان الله في الأرض سواء كان في الأحكام أو في المعاملات والعدول عنه يؤدي إلى مؤاخذة العباد فينبغي أن يجتنب الظلم والمراد بالظلم أن يتضرر به الغير والعدل إن لا يتضرر منه أحد بشيء كما قال عكرمة : أشهد أن كل كيال ووزان في النار ، قيل له فمن أو في الكيل والميزان؟ قال : ليس رجل في المدينة يكيل كما يكتال ولا يزن كما يتزن ، والله تعالى يقول : ويل للمطففين}(المطففين : 1).
وقال سعيد بن المسيب : إذا أتيت أرضاً يوفون المكيال والميزان فأطل المقام فيها ، وإذا أتيت أرضاً ينقصون المكيال والميزان فأقل المقام فيها وفي الحديث : "ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب ولا فشا الزنى في قوم إلاكثر فيهم الموت ، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع الله عنهم الرزق ولا حكم قوم بغير حق إلا فشا فيهم الدم ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو" قوله : ولا ختر أي : غدر ونقض العهد كما في "الترغيب".
جزء : 4 رقم الصفحة : 172
وفي "التأويلات النجمية" : {وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} أي : مكيال المحبة وميزان الطلب فإن للمحبة مكيالاً وهو عداوة ما سوى الله تعالى كما قال الخليل : عند إظهار الخلة فإنهم عدولي إلارب العالمين ، فإنك أن تحب أحداً وشيئاً مع الله فقد نقصت في مكيال محبة الله وإن للطلب ميزاناً وهو السير على قدمي الشريعة والطريقة ، كما قيل : خطوتان وقد وصلت فإن خطوت خطوتين دونهما فقد نقصت من الميزان انتهى.
فعلى السالك أن يتأدب بآداب الأولياء والأنبياء ويضع القدم في هذا الطريق الأولى كما أمر به وشرط له ولا بد من الأمانة والاستقامة ، وإيتاء كل ذي حق حقه قائماً بالعدل والقسط القويم وازناً بالقسطاط المستقيم كائلاً بالكيل السليم ، فعند ذلك يتفضل له المولى بالقبول والمدح في الدنيا والثواب والأنعام في الآخرة فيعيش سعيداً ويموت سعيداً ، وأما إذا غدر وظلم وخان واستكبر وأصر يعدل له المولى بالرد والذم في الدنيا ، والعقاب والانتقام في الآخرة إن لم يتداركه الفضل والعفو فيعيش شقياً ، ويموت شقياً ويحشر شقياً.
وفي المثنوى :
ون ترازوى توك و دغا
راست ون جوئى ترازوى جزا
ونكه اي ب بود در غدر وكاست
نامه ون آيد ترا در دست راست
173
ون جزا سايه است اي قد توخم
سايه توك فتد در يش هم
قالوا يا شعيب (آورده اندكه انبيا برد وقسم بوده اند بعضي آنكه ايشانرا فرمان حرب بود ون موسى وداود وسليمان عليهم السلام وبرخى آنكه ايشانرا بحرب نفر مودند وشعيب ازان جمله بودكه رخصت حرب نداشت قوم خودرا موعظه ميكفت وخودهمه شب نمازمى كرد كفتند قوم اوكه اي شعيب) أصلوتك (آيا نمازتو) تأمرك أسندوا الأمر إلى صلاته قصداً إلى الاستهزاء ، فمرادهم السخرية لا حقيقة الاستفهام.
والمعنى : أصلاتك تدعوك إلى أمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا من الأوثان ، وقد توارثنا عبادتها أباً عن جد أجابوا بذلك أمره عليه السلام إياهم بعبادة الله وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأوثان ، أو أن نفعل في أموالنا ما نشؤاه جواب عن أمره بإيفاء الحقوق ونهيه عن البخس والنقص معطوف على ما ، وأو بمعنى الواو لأن ما كلفهم به شعيب هو مجموع الأمرين لاأحدهما.
والمعنى أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء من التصرفات.
وقال بعضهم : كان ينهاهم عن تقطيع أطراف الدراهم والدنانير وقصها فأرادوا به ذلك.
والمعنى ما نشاء من تقطيعها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 172
واعلم أن أول من استخرج الحديد والفضة والذهب من الأرض هو شنك في عصر إدريس عليه السلام ، وكان ملكاً صالحاً داعياً إلى الإسلام ، وأول من وضع السكة على النقدين الضحاك وإفساد السكة بأي وجه كان إفساد في الأرض.
وسئل الحجاج عما يرجو به النجاة فذكر أشياء منها ما أفسدت النقود على الناس إنك لأنت الحليم الرشيد الأحمق السفيه بلغة مدين كما في ربيع الأبرار.
وقال في الكواشي : تتعاطى الحلم والرشد ولست كذلك ، أي : ما أنت بحليم ولا رشيد فيما تأمرنا وترشدنا إليه.
وقال أكثر أهل التفسير : أرادوا السفيه الضال الغاوي فتهكموا به كما يتهكم بالشحيح ، فيقال : لو أبصرك حاتم لتعلم منك الجود.
وبالمستجهل والمستخف فيقال : يا عالم يا حليم ، فهو إذاً من قبيل الاستعارة التبيعة نزلوا التضاد منزلة التناسب على سبيل الهزؤ فاستعاروا الحلم والرشد للسفه والغواية ثم سرت الاستعارة منهما إلى الحليم الرشيد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 172
(4/109)
قال شعيب يا قَوْمِ أَرَءَيْتُمْ} أخبروني إن كنت إيراد حرف الشك باعتبار حال المخاطبين {عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى} أي : حجة واضحة وبرهان نير من مالك أمري عبر بهما عما أتاه الله تعالى من النبوة والحكمة رداً على مقالتهم الشنعاء في جعلهم أمره ونهيه غير مستند إلى سند ورزقني منه أي : من لدنه رزقاً حسناً هو النبوة والحكمة أيضاً عبر عنهما بذلك تنبيهاً على أنهما مع كونهما بينة رزق حسن كيف لا وذلك مناط الحياة الأبدية له ولأمته.
وقال بعضهم : هو ما رزقه الله من المال الحلال من غير شائبة حرام ، أي : من غير بخس وتطفيف وكان كثير المال ، وجواب الشرط محذوف لأن إثباته في قصة نوح ولوط دل على مكانه ومعنى الكلام ينادي عليه ، والمعنى أخبروني إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبياً على الحقيقة فهل يصح لي أن أتبعكم وأشوب الحلال بالحرام ولا آمركم بتوحيد الله وترك عبادة الأصنام والكف عن المعاصي ، والقيام بالقسط والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك.
وما أريد بنهيي إياكم عن التطفيف أن أخالفكم مخالفتكم حال كوني مائلاً إلى ما أنهيكم عنه يقال : خالفت
174
زيداً إلى كذا إذا قصدته ، وهو مول عنه وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس ، أي : لا أنهى عن شيء وارتكبه من نقصان الكيل والوزن ، أي : اختار لكم ما اختار لنفسي فإنه ليس بواعظ من يعظ الناس بلسانه دون عمله.
قال في الإحياء : أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني.
قال الحافظ :
واعظان كين جلوه در محراب ومنبر ميكنند
ون بخلوت ميروند آن كار ديكر ميكنند
مشكلي دارم زدانشمند مجلس باز رس
توبه فرمايان راخود توبه كمتر ميكنند
إن أريد أي : ما أريد بما أباشره من الأمر والنهي.
إلا الإصلاح إلا أن أصلحكم بالنصيحة والموعظة ما استطعت أي : مقدر ما استطعته من الإصلاح.
قال في بحر العلوم : ما مصدرية واقعة موقع الظرف أي : مدة استطاعتي الإصلاح وما دمت متمكناً منه لا أترك جهدي في بيان ما فيه مصلحة لكم.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 4 رقم الصفحة : 174
بكوى آنه دانى سخن سودمند
وكر هي كس را نيايد سند
وما توفيقي مصدر من المبني للمفعول أي : كوني موفقاً لتحقيق ما أقصده من إصلاحكم إلا بالله إلا بتأييده ومعونته بل الإصلاح من حيث الخلق مستند إليه وإنما أنا من مباديه الظاهرة.
والتوفيق يعدى بنفسه وباللام وبالباء ، وهو تسهيل سبل الخير وأصله موافقة فعل الإنسان القدر في الخير والاتفاق هو موافقة فعل الإنسان خيراً كان أو شراً القدر.
وقال في التأويلات النجمية : التوفيق اختصاص العبد بعناية أزلية ورعاية أبدية عليه توكلت اعتمدت في ذلك معرضاً عما عداه ، فإنه القادر على كل مقدور وما عداه عاجز محض في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار بمعزل عن رتبة الاستمداد به في الاستظهار وإليه أنيب أي : ارجع فيما أنا بصدده في جميع أموري ويجوز أن يكون المراد وما كوني موفقاً لإصابة الحق والصواب في كل ما آتى وما أذر إلا بهدايته ومعونته ، عليه توكلت وهو إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ وإليه أنيب أي : عليه أقبل بشرا شر نفسي في مجامع أموري.
وفيه إشارة إلى معرفة المعاد ، والتوكل على ثلاثة أوجه ، توكل المبتدى وهو ترك الأسباب في طلب المعاش ، وتوكل المتوسط وهو ترك طلب المعاش في طلب العيش مع الله ، وتوكل المنتهى وهو استهلاك الوجود في وجود الله وإفناء الاختيار في اختيار الله ليبقى في هويته بلا هو متصرفاً في الأسباب وإن لا يرى التصرف والأسباب إلا لمسبب الأسباب.
قال في التأويلات القاشانية : أول مراتب التوحيد توحيد الأفعال ، ثم توحيد الصفات ، ثم توحيد الذات فإن الذات محجوبة بالصفات ، والصفات بالأفعال ، والأفعال بالآثار والأكوان ، فمن تجلت عليه الأفعال بارتفاع حجب الأكوان توكل ، ومن تجلت عليه الصفات بارتفاع حجب الأفعال رضى وسلم ، ومن تجلت عليه الذات بانكشاف حجب الصفات فهو في الوجدة فصار موحداً مطلقا انتهى.
تا نخوانى لا و إلا الله را
درنيابى منهج اين راه را
عشق آن شعله است كوون برفروخت
هره جز معشوق باقي حمله سوخت
تيغ لا در قتل غير حق براند
درنكر آخر كه بعداز لا ه ماند
175
ماند إلا الله وباقي جمله رفت
شادباش اي عشق شركت سوز ورفعت
فعلى العاقل أن يجتهد في طريق الحق بالأذكار النافعة والأعمال الصالحة إلى أن يصل إلى مقام التوحيد الحقيقي ، ثم إذا وصل إليه اقتفى بأثر الأنبياء وكمل الأولياء في طريق النصح والدعوة ولم يرد إلا الإصلاح تكثيراً للاتباع المحمدية ، وتقويماً لأركان العالم بالعدل ونظماً للناس في سلك الرشاد ، والله ولي الإرشاد وهو المبدأ وإليه الرجوع والمعاد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 174
(4/110)
{وَيَـاقَوْمِ} (اي كروه من) {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} يقال : جرم زيد ذنباً ، أي : كسبه وجرمته ذنباً ، أي : اكسبته إياه فهو يتعدى إلى واحد وإلى اثنين ، والأول في الآية الكاف والميم.
والمعنى لا يكسبنكم شقاقي فاعل لا يجر منكم ويقال : جرمني فلان على أن صنعت كذا ، أي : حملني فيقدر حرف الجر بعد أن.
والمعنى لا يحملنكم بغضكم إياي على أن يصيبكم.
قال الكاشفي : (شما بران نداد ودشمني وستيزه كارى بامن كه برسد شمارا) مثل فاعل أن يصيب مضاف إلى قوله ما أصاب قوم نوح من الغرق أو قوم هود من الريح أو قوم صالح من الصيحة وما قوم لوط قال الجوهري : القوم بذكر ويؤنث منكم ببعيد يعني أنهم أهلكوا بسبب الكفر والمعاصي في عهد قريب من عهدكم فهم أقرب الهالكين منكم فإن لم تعتبروا بمن قبلهم من الأمم المعدودة فاعتبروا بهم ولا تكونوا مثلهم كيلاً يصيبكم مثل ما أصابهم.
والإشارة : إن في طبيعة الإنسان مركوزاً من صفات الشيطنة الإباء والاستكبار ومن طبعه أنه حريص على ما منع كما أن آدم عليه السلام لما منع من أكل الشجرة حرص على أكلها فلهاتين الصفتين إذا أمر بشيء أبى واستكبر ، وإذا نهي عن شيء حرص على إتيانه لا سيما إذا صدر الأمر والنهي عن إنسان مثله ، فإن طاعة الله هينة القبول بالنسبة إلى طاعة المخلوق لأن في الطاعة ذلة وهواناً وكسرا للنفس ، وإن ما يحتمل المخلوق من خالقه أكثر مما يحتمله من مخلوق مثله ولهذا السر بعث الله الأنبياء وأمر الخلق بطاعتهم وقال : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم}(النساء : 59) فمن كان موفقاً من الله تعالى بالعناية الأزلية يأتمر بما أمر به ، وينتهي عما نهى عنه ويطيع الرسل فيما جاؤوا به ، أخرجته الطاعة من ظلمات صفاته المخلوقة إلى نور صفاته الخالقية ومن سبقته الشقاوة في الأزل تداركه الخذلان ووكل إلى نفسه وطبعه فلا يطيع الله ورسوله ويتمرد عن قبول الدعوة ويستكبر على الرسول ويعاديه بمعاداته ما أمره الله به فيصيبه قهر الله وعذابه {مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَـالِحٍا وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} أي : وما معاملة قوم لوط من معاملتكم وذنوبهم من ذنوبكم ببعيد لأن الكفر كله من جنس واحد ، وصفات الكفر قريب بعضها من بعض كذا في التأويلات النجمية.
قال في المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 176
س وصيت كرد وتخم وعظ كاشت
ون زمين شان شوره بدسودى نداشت
كره ناصح را بود صد داعيه
ندرا أذنى ببايد واعيه
توبصد تلطيق وندش ميدهى
اوز ندت ميكند هلوتهى
يك كس نا مستمع زاستيز ورد
صد كس كوينده را عاجز كند
176
زانبينا ناصحتر وخوش لهجه تر
كى بودكه رفت دمشان درحجر
زانه كوه وسنك دركار آمدند
مى نشد بدبحت را بكشاده بند
آننان دلها كه بدشان ما ومن
نعتشان شد بل أشد قسوة
واستغفروا ربكم بالإيمان ثم توبوا إليه مما أنتم عليه من المعاصي وعبادة الأوثان لأن التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان أو استغفروا بالإيمان ، ثم ارجعوا إليه بالطاعة ، أو استغفروا بالأعمال الصالحة وتوبوا بالفناء التام.
قال في التأويلات النجمية : واستغفروا من صفات الكفر ومعاملاته كلها وبدلوها بصفات الإسلام ومعاملاته فإنها تزكية النفوس عن الصفات الذميمة ، ثم ارجعوا إليه على قدمي الشريعة والطريقة سائرين منكم إليه ليحليكم بتحلية الحقيقة ، وهي الفناء عنكم والبقاء به.
إن ربي رحيم عظيم الرحمة للمؤمنين والتائبين.
ودود فاعل بهم من اللطف والإحسان كما يفعل البليغ المودة بمن يوده.
قال في المفاتيح الودود : مبالغة الوادّ ومعناه الذي يحب الخير لجميع الخلائق ويحسن إليهم في الأحوال كلها ، وقيل المحب لأوليائه ، وحاصله يرجع إلى إرادة مخصوصة وحظ العبد منه أن يريد للخلق ما يريد لنفسه ، ويحسن إليهم حسب قدرته ووسعته ، ويحب الصالحين من عباده ، وأعلى من ذلك من يؤثرهم على نفسه كمن قال منهم : أريد أن أكون جسراً على النار يعبر عليه الخلق ولا يتأذون بها كما في المقصد الأسنى للغزالي.
قال الكاشفي في تفسيره : (قطب الأبرار مولانا يعقوب رخى قدس سره در شرح أسماء الله تعالى معنى الودود درا برين وجه آورده است كه دوست دارنده نيكى بهمه خلق ودوست دردلهاى بحق يعني أونيك را دوست ميداردونيكان اورا دوست ميدارند وفي الحقيقة دوستى ايشان فرع دوستى اوست زيراكه ون بنظر تقحيق درنكر نداصل حسن واحسان كه سبب محبت مى باشد غير اورا ثابت نيست سر خود خودرا دوست ميداردوازين باب نكتة ندد رآيت يحبهم ويحبونه}(المائدة : 54) بر منظر عيان جلوه نمود وللوالد الأعز زيدت حقائقه :
اين حسن توداده يوسفانرا خوبى
وز عشق توكرده عاشقان يعقوبى
كرنكي نظر كند كسى غير تونيست
در مرتبه محبي ومحبوبي
جزء : 4 رقم الصفحة : 176
(4/111)
واعلم أن الله تعالى لو لم يكن له ود لما هدى عباده ، ولما فرح بتوبة عبده المؤمن كما قال صلى الله عليه وسلّم " أفرح بتوبة عبد المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلة عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهب راحلته ، فطلبها حتى اشتد عليه الحر والعطش قال : أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت ، فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه ، فلاأشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده" فمن أضاع راحلته في برية الهوى بغلبة الغفلة فعليه الرجوع إلى مكانه الأول أعني الفطرة الأولى بالتسليم والموت الاختياري حتى يجد ما أضاعه ، وفي الحديث إشارة إلى الطريق من البداية إلى النهاية أما إلى البداية فبقوله عليه السلام فاستيقظ لأن اليقظة ابتداء حال السالك وأما إلى النهاية فبقوله عليه السلام ليموت ، لأن الفناء غاية السير إلى الله ثم إن قوله فاستيقظ فإذا راحلته عنده إشارة إلى البقاء بعد الفناء والرجوع إلى البشرية.
ثم اعلم أن التوبة على مراتب ، أعلاها الرجوع عن جميع ما سوى الله تعالى إلى الله سبحانه ، وهذا المقام يقتضي نسيان المعصية والتوبة عن التوبة
177
فإن وقت الصفاء يقتضي نسيان الجفاء وأيضاً إذ تجلى الحق للسالك ورأى كل شيء هالكاً إلا وجهه فني الذوات كلها فما ظنك بالأعمال والله تعالى تواب يقبل التوبة إلا أن يكون العبد كذوباً ـ ـ يحكى ـ ـ أن مالك بن دينار مر بشابين يلهوان فوعظهما فقال أحدهما : أنا أسد من الأسود فقال مالك : سيأتيك أسد تكون عنده ثعلباً فمرض الشاب وعاده مالك فبكى الشاب وقال : قد جاء الأسد الذي صرت عنده ثعلباً فقال : مالك تب إلى الله تعالى فإنه تواب فنودى من زاوية البيت جربناه مراراً فوجدناه كذوباً.
وفي "المثنوى" :
توبه آرند وخدا توبه ذير
امر و كيرند او نعم الأمير
جزء : 4 رقم الصفحة : 176
[يونس : 68-36]يا شُعَيْبُ} ما نفقه الفقه معرفة غرض المتكلم من كلامه أي : لا نعرف ولا نفهم كثيراً مما تقول أي : كل ما تقول من التوحيد ومن إيفاء الكيل والوزن وغير ذلك ، كما في قوله تعالى : وما يتبع أكثرهم إلا ظناً}(يونس : 36) أي : كلهم على أحد الوجهين وذلك استهانة بكلامه واحتقاراً به كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه ما ندري ما تقول ، وإلا فشعيب كان يخاطبهم بلسانهم وهم يفهمون كلامه لكن لما كان دعاؤه إلى شيء خلاف ما كانوا عليه وآباؤهم قالوا ما قالوا : {وَإِنَّا لَنَرَاـاكَ فِينَا} أي : فيما بيننا ضعيفاً هو في المشهور من ليس له قوة جسمانية أي : لا قوة لك فتمتنع منا إن أردنا بك سوءاً ، أو مهيناً لا عز لك وهذا لا يتعلق بالقوة الجسمانية فإن ضعيف الجسم قد يكون وافر الحرمة بين الناس وهو الظاهر لأن الكفرة كانوا يزدرون بالأنبياء وباتباعهم المؤمنين.
وفي}()التأويلات النجمية" : {ضَعِيفًا} أي : ضعيف الرأي ناقص العقل وذلك ؛ لأنه كما يرى العاقل السفيه ضعيف الرأي يرى السفيه العاقل ضعيف الرأي.
ولولا رهطك ولولا حرمة قومك ومراعاة جانبهم وقالوا : ذلك كرامة لقومه ؛ لأنهم كانوا على دينهم لا خوفاً منهم لأن الرهط من الثلاثة إلى السبعة أو التسعة أو العشرة وهم ألوف فكيف يخافون من رهطه لرجمناك لقتلناك برمى الحجارة وقد يوضع الرجم موضع القتل وإن لم يكن بالحجارة من حيث إنه سببه ولأن أول القتل وهو قتل قابيل هابيل لما كان بالحجارة سمى كل قتل رجماً وإن لم يكن بها.
قال عمر رضي الله عنه : تعلموا أنسابكم تعرفوا بها أصولكم وتصلحوا بها أرحامكم.
قالوا : ولو لم يكن في معرفة الأنساب إلا الاحتراز بها من صولة الأعداء ومنازعة الأكفاء لكان تعلمها من أحزم الرأي وأفضل الصواب ، ألا ترى إلى قول قوم شعيب ولولا رهطك لرجمناك فابقوا عليه لرهطه يقال : أبقيت على فلان إذا أرعيت عليه ورحمته وما أنت علينا بعزيز مكرم محترم حتى تمنعنا عزتك من رجمك بل رهطك هم الأعزة علينا لكونهم من أهل ديننا فإنما نكف عنك للمحافظة على حرمتهم ، وهذا ديدن السفيه المحجوج يقابل الحجج والآيات بالسب والتهديد ، وتقديم الفاعل المعنوي لإفادة الحصر والاختصاص وإن كان الخبر صفة لا فعلاً وعلينا متعلق بعزيز وجاز لكون المعمول ظرفاً والباء مزيدة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 178
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن من كان على الله بعزيز فإنه ليس على الجاهل بعزيز انتهى.
أقول : وذلك لأن العزة والشرف عند الجهلاء بالجاه والمال لا بالدين والكمال ، وقد قال النبي عليه السلام : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم بل ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم يعني : إذا كانت لكم قلوب وأعمال صالحة تكونون مقبولين مطلقاً سواء كانت لكم صور حسنة وأموال فاخرة أم لا وإلا فلا.
وفي المثنوى :
178
وقت بازى كودكان را زا اختلاف
مى نمايد اين خزفها زرو مال
عارفانش كيميا كر كشته اند
تاكه شد كانها ريشان ونند
باغها وقصرها وآب رود
(4/112)
يش شم از عشق كلخن مى نمود
قال شعيب في جوابهم يا قوم أرهطي (أيا عشيره وقوم من) وهمزة الاستفهام للإنكار والتوبيخ أعز عليكم (عزيز ترند برشما ودوسترند نزدشما) من الله كان الظاهر أن يقال : مني ، إلا أنه قيل من الله ، للإيذان بأن تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله تعالى وإنما أنكر عليهم أعزية رهطه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلق عزة رهطه لا أعزيتهم منه تعالى مع الاشتراك في أصل العزة لتكرير التوبيخ حيث أنكر عليهم أولاً بترجيح جنب الله تعالى وثانياً بنفي العزة بالمرة ، والمعنى أرهطي أعز عليكم من الله تعالى فإنه مما لا يكاد يصح والحال أنكم لم تجعلوا له حظاً من العزة أصلاً واتخذتموه أي : الله تعالى وراءكم (از س شت خود) ظهرياً (همو مرد فراموش شده) اي شيئاً منبوذاً وراء الظهر منسياً لا يبالى به أي : جعلتموه مثله باشراككم به والإهانة برسوله فلا تبقون على الله وتبقون على رهطي ، أي : فلا تحفظونني ولا ترحموننيوتراعون نسبة قرابتي إلى الرهط وتضيعون نسبتي إلى الله بالنبوة ، فكأنكم زعمتم أن القوم أعز من الله حيث تزعمون أنكم تركتم قتلي إكراماً لرهطي والله أولى بأن يتبع أمره كأنه يقول حفظكم إياي في الله أولى منه في رهطي ، والعرب تقول لكل ما لا يعبأ بأمره قد جعل فلان هذا الأمر بظهره ، فالظهري : منسوب إلى الظهر والكسر لتغيير النسب كقولهم في النسبة إلى أمس أمسيّ بكسر الهمزة وإلى الدهر دهري بضم الدال.
إن ربي بما تعملون من الأعمال السيئة لتي من جملتها عدم مراعاتكم لجانبه.
محيط لا يخفى عليه منها خافية وإن جعلتموه منسياً فيجازيكم عليها والإحاطة إدراك الشيء بكماله وإحاطة الله بالأعمال مجاز.
جزء : 4 رقم الصفحة : 178
{وَيَـاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} مصدر من مكن مكانة فهو مكين إذا تمكن أبلغ التمكن والجار والمجرور في موقع النصب على الحال.
والمعنى : اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة كل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إلي ، أو بمعنى المكان كمقام ومقامة فاستعيرت من العين للعني كما يستعار حيث للزمان وهو للمكان ، والمعنى على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من الشرك والعداوة لي.
إني أيضاً عامل على مكانتي فحذف للاختصار أي : عامل بقدر ما آتاني الله من القدرة وعلى حسب ما يؤتيني الله من النصرة والتأييد فكأنهم قالوا : ماذا يكون إذا عملنا على قوتنا فقال : سوف تعلمون من استفهام أي أينا ، أو موصولة ، أي : تعرفون الذي يأتيه عذاب يخزيه يذله ويهينه ومن هو كاذب عطف على من يأتيه لما أوعده وكذبوه أراد أن يدفع ذلك عن نفسه ويلحقه بهم فسلك سبيل إرخاء العنان لهم وقال : سوف تعلمون من المعذب والكاذب مني ومنكم وأينا الجاني على نفسه والمخطىء في فعله يريد أن المعذب والكاذب أنتم لا أنا وارتقبوا أي : انتظروا مآل ما أقول لكم سيظهر صدقه إني معكم رقيب منتظر فعيل بمعنى الراقب ، وكان شعيب عليه السلام يسمى خطيب الأنبياء لحسن محاورته مع قومه وكمال اقتداره في مراجعته
179
جوابهم ، وكان كثير البكاء حتى عمى ثم رد الله عليه عليه السلام بصره فأوحى إليه يا شعيب ما هذا البكاء أشوقاً إلى الجنة أم خوفاً من النار؟ فقال : إلهي وسيدي إنك تعلم إني ما أبكى شوقاً إلى الجنة ، ولا خوفاً من النار ولكن اعتقدت حبك بقلبي فإذا نظرت إليك فما أبالي ما الذي تصنع بي فأوحى الله تعالى يا شعيب إن يكون ذلك حقاً فهنيئاً لك لقائي يا شعيب ، لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي.
قال المولى الجامي :
زهاد خلد خواهد واوباش عيش نقد
ما خود بدولت غمت ازهر دورسته ايم
جزء : 4 رقم الصفحة : 179
(4/113)
وهذه حال المقربين فإنهم جعلوا الله تعالى بين أعينهم ، وجعلوا الخلق وراء ظهورهم خلاف ما عليه أهل الغفلة ، فلم يلتفتوا إلى شيء من الكونين حباتعالى وقصراً للنظر عليه وهم العبيد الأحرار ، والناس في حقهم على طبقات ، فأما أهل الشقاء فلم يعرفوهم من هم ولم يروهم أصلاً لانطماس بصيرتهم وعدم استعدادهم لهذا الانكشاف ، ألا ترى إلى قوم شعيب كيف حجبهم كونه أعمى في الصورة عن رؤية جمال نبوته وظنوا أن لهم أبصاراً ولا بصر له ، ولذا عدوه ضعيفاً ولم يعرفوا أنهم عمى في الحقيقة وأن أبصارهم الظاهرة لا تستجلب لهم شرفاً وأن الحق مع أهل الحق سواء ساعده الأسباب الصورية والآلات الظاهرة أولا ، فإن الناس مشتركون فيما يجري على ظواهرهم من أنواع الابتلاء مفترقون فيما يرد على بواطنهم من أصناف النعماء ، والله تعالى أرسل الأنبياء عليهم السلام إلى الناس الغافلين ليفتحوا عيون بواطنهم من نوم الغفلة ، ويدعوهم إلى الله تعالى ووصاله ولقاء جماله ، فمن كان له منهم استعداد لهذا الانفتاح رضي بالتربية والإرشاد وقام في طريق الحق بالسعي والاجتهاد ، ومن لم يكن له منهم ذلك أبى واستكبر عن أخذ التلقين وامتنع عن الوصول إلى حد اليقين ، فبقي في الظلمات كالأعمى لا يدري أين يذهب فيا أيها الأخوان أرجعوا إلى ربكم مع القوافل الروحانية فعن قريب ينقطع الطريق ولا يوجد الرفيق ، ونعم ما قال من قال :
خز دلامست شواز مى قدسي ازانك
ما نه درين تيره جام بهر نشست آمديم
ولما جاء أمرنا الذي قدرناه في الأزل من العذاب والهلاك لقوم شعيب فالأمر واحد الأمور نجينا شعيباً قدم تنجيته إيذاناً بسبق الرحمة التي هي مقتضى الربوبية على الغضب الذي يظهر أثره بموجب الجرائم والذين آمنوا معه أي : ونجينا الذي اتبعوا شعيباً في الإيمان وآمنوا كما آمن هو برحمة أزلية صدرت منا في حقهم ومجرد فضل لا بسبب أعمالهم كما هو مذهب أهل السنة ، وقال بعضهم : هي الإيمان الذي وفقناهم له.
يقول الفقير : وجه هذا القول أن العذاب والهلاك الذي هو من باب لعدل قد أضيف إلى الكفر والظلم فاقتضى أن يضاف الخلاص ، والنجاة الذي هو من باب الفضل إلى الإيمان ولما كان الإيمان ، والعمل الصالح أمراً موقوفاً على التوفيق كان مجرد فضل ورحمة فافهم وأخذت الذين ظلموا أنفسهم بالإباء والاستكبار عن قبول دعوة شعيب الصيحة فاعل أخذت والمراد صيحة جبرائيل عليه السلام بقوله موتوا جميعاً.
وفي سورة الأعراف فأخذتهم الرجفة}(الأعراف : 78) أي : الزلزلة ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء المفضى إليها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 179
عن ابن عباس
180
رضي الله عنهما "لم يعذب الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وصالح" وذلك إنه أصابهم حر شديد فخرجوا إلى غيضة لهم فدخلوا فيها فظهرت لهم سحابة كهيئة الظلة فأحدقت بالأشجار وأخذت فيها النار وصاح بهم جبريل ورجفت بهم الأرض فماتوا كلهم واحترقوا فذلك قوله تعالى : {فَأَصْبَحُوا} أي : صاروا في ديارهم بلادهم أو مساكنهم جاثمين ميتين لازمين لأماكنهم لإبراح لهم منها.
أي : لا زوال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 179
{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أي : لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين.
ألا بعداً لمدين أي : هلاكاً لأهل مدين.
واعلم أن بعداً وسحقاً ونحوهما مصادر قد وضعت مواضع أفعالها التي لا يستعمل إظهارها.
ومعنى بعداً بعدوا ، أي : هلكوا.
وقوله لمدين بيان لمن نبه عليه بالبعد نحو هيت لك.
قال الكاشفي : (بدانيدكه هلاكيست قوم مدين را ودوري از رحمت من) كما بعدت ثمود أي : هلكت ، شبه هلاكهم بهلاكهم لأنهما أهلكتا بنوع من العذاب وهو الصيحة كما مر آنفاً.
والجمهور على كسر العين من بعدت على أنها من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك يهلك ، أرادت العرب أن تفرق بين البعد بمعنى الهلاك وبين البعد الذي هو ضد القرب ففرقوا بينهما بتيغير البناء فقالوا : بعد بالضم في ضد القرب وبعد بالكسر في ضد السلامة والبعد بالضم والسكون مصدر لهما والبعد بفتحتين إنما يستعمل في مصدر مكسور العين.
وفي الآية إشارة إلى أن الكفرة وأهل الهوى أفسدوا الاستعداد الروحاني الفطري في طلب الدنيا واستيفاء شهواتها ، والاستكبار عن قبول الحق والهدى ، وأدى تمردهم عن الحق وتماديهم في الباطل إلى الهلاك صورة ومعنى ، أما صورة فظاهر ، وأما معنى فلأنهم أبعدوا عن جوار الله وطيب العيش معه إلى أسفل سافلين القطيعة فبقوا في نار الفرقة لا يحيون ولا يموتون وما انتفعوا بحياتهم فصاروا كالأموات وكما أن الصيحة من جبرائيل أهلكتهم فكذا النفخة من شعيب أحيت المؤمنين لأن أنفاس الأنبياء والأولياء كنفخ إسرافيل في الأحياء إذا كان المحل صالحاً لطرح الروح فيه كجسد الأكسير.
قال في المثنوى : :
سازد إسرافيل روزي ناله را
جان دهد وسيده صد ساله را
هين كه اسرافيل وقتند اوليا
مرده را زيشان حياتست ونما
جان هريك مرده ازكور تن
(4/114)
برجهد ز اواز شان اندر كفن
سركشى از بندكان ذو الجلال
وانكه دارند از وجود توملال
كهربا دارند ون يدا كنند
كاه هستى ترا شيدا كنند
كهرباي خويش ون نهان كنند
زود تسليم ترا طغيان كنند
جزء : 4 رقم الصفحة : 181
قد سبق أن قوم شعيب عدوه ضعيفاً فيما بينهم وما عرفوا إن الله القوي معه
كرتو يلى خصم تو از تو رميد
نك جزا طيرا ابابيلت رسيد
كر ضعيفي درزمين خواهد امان
غلغل افتد در ساه آسمان
كر بدندانش كزى رخون كنى
درد دندانت بكيرد ون كنى
هر يمبر فرد آمد درجهان
فرد بود وصدجهانش درنهان
181
ابلهان كفتند مردى بيش نيست
واي آن كوعاقبت انديش تيست
فعلى الصالحين أن يعتبروا بأحوال الصالحين فإنهم قد أخذوا الدنيا وآثروها على الآخرة ثم سلبهم الله أموالهم وديارهم كأن لم ينتفعوا بشيء ولم يقيموا في دار.
وعن جابر بن عبد الله أنه قال : شهدت مجلساً من مجالس رسول الله إذ أتاه رجل أبيض الوجه حسن الشعر واللون عليه ثياب بيض ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، فقال عليه السلام : عليك السلام فقال يا رسول الله : ما الدنيا؟ قال : هي حلم المنام وأهلها مجازون ومعاقبون قال يا رسول الله : وما الآخرة؟ قال : عيش الأبد فريق في الجنة وفريق في السعير فقال يا رسول الله : فما الجنة؟ قال : بذل الدنيا لطالبها نعيمها لأهلها أبداً قال : فما جهنم؟ قال : بذل الآخرة لطالبها لا يفارقها أهلها أبداً قال : فما خير هذه الأمة؟ قال : الذي يعمل بطاعة الله قال : فكيف يكون الرجل فيها؟ قال : مشمراً كطالب القافلة قال : فكم القرار بها؟ قال : كقدر المتخلف عن القافلة قال : فكم ما بين الدنيا والآخرة؟ قال : غمضة عين قال : فذهب الرجل فلم يُر فقال رسول الله : هذا جبريل أتاكم ليزهدكم في الدنيا ويرغبكم في الآخرة كذا في تنبيه الغافلين.
قال السعدي قدس سره :
يكى بر سركور ميسرشت
كه حاصل كندزان كل كورخشت
بانديشه لختى فرو رفت ير
كه اي نفس كوته نظر ند كير
ه بندى درين خشت زرين دلت
كه يك روز خشتى كند ازكلت
تو غافل در انديشه سود ومال
كه سرمايه عمر شد ايمال
دل اندر دلارام دنيا مبند
كه ننشست باكس كه دل برنكند
بر مرد هشيار دنيا خسست
كه هر مدتي جاي ديكر كسست
ولقد أرسلنا أي : وبالله لقد أرسلنا موسى حال كونه ملتبساً بآياتنا التسع التي هي العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص الأموال والأنفس.
وسلطان برهان مبين واضح هو من قبيل عطف الصفة مع اتحاد الموصوف أي : ولقد أرسلنا موسى بالجامع بين كونه آياتنا وبين كونه سلطاناً له على صدق نبوته واضحاً في نفسه أو موضحاً إياها فإن أبان جاء لازماً ومتعدياً كقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب} (هود : 110) أي : التوراة الجامعة بين كونها كتاباً وحجة تفرق بين الحق والباطل ويجوز أن يراد بسلطان مبين الغلبة والاستيلاء كقوله تعالى : {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَـانًا} (القصص : 35)
جزء : 4 رقم الصفحة : 181
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلايْهِ} أي : أشراف قومه ورؤسائه ، وتخصيص ملئه بالذكر مع عموم رسالته لقومه كافة لأصالتهم في الرأي وتدابير الأمور واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور.
فاتبعوا أمر فرعون أي : أمره بالكفر بما جاء به موسى من البينات وأطاعوا قوله حين قال لهم : ما علمت لكم من إله غيري ، وخالفوا أمر موسى بالتوحيد وقبول الحق ، وإنما لم يصرح بكفر فرعون بآيات الله للإيذان بوضوح حاله فكان كفره وأمر ملئه بذلك محقق الوجود غير محتاج إلى الذكر صريحاً ، وإنما المحتاج إلى ذلك شأن ملئه المترددين بين هاد إلى الحق وداع إلى الضلال ، وإيراد الفاء للإشعار
182
بمسارعتهم إلى الاتباع فكأنه لم يتراخ من الإرسال والتبليغ بل وقعا في وقت واحد.
وما أمر فرعون برشيد.
قال الكاشفي : (نبود كار فرعون برنهج رشد وصواب) وقال غيره : الرشد مستعمل في كل ما يحمده ويرتضى كما استعمل الغي في كل ما يذم ويتسخط فهو ضد الغي والرشيد بمعنى المرشد والإسناد مجازي ، والمعنى وما هو مرشد إلى خير وهو عي محض وضلال صريح وإنما يتبع العقلاء من يرشدهم ويهديهم لا من يضلهم ويغويهم وفيه تجهيل لمتبعيه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 181
{يَقْدُمُ} في الصحاح قدم بالفتح يقدم قدماً أي : تقدم وهو استئناف لبيان حاله في الآخرة قومه جميعاً من الأشراف وغيرهم يوم القيامة أي : يتقدمهم يوم الآخرة إلى النار وهم خلفه ويقودهم إلى النار كما كانوا يتبعونه في الدنيا ويقودهم إلى الضلال.
فأوردهم النار أي : يوردهم ويدخلهم فيها.
وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع لا محالة لأن الماضي متيقن الوجود.
(4/115)
واعلم أن الورود عبارة عن المجيء إلى الماء والإيراد إحضار الغير والمورد الماء فشبه فرعون بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء واتباعه بالواردة والنار بالماء الذي يردونه ثم قيل وبئس الورد المورود أي : بئس المورد الذي يردونه النار ؛ لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار على ضد ذلك.
وأُتبعوا أي : الملأ الذين اتبعوا أمر فرعون.
في هذه أي : في الدنيا لعنة لعنة عظيمة حيث لعنهم من بعدهم من الأمم.
ويوم القيامة أي : حيث يلعنهم أهل الموقف قاطبة فهي تابعة لهم حيثما ساروا دائرة معهم أينما داروا فكما اتبعوا أمر فرعون اتبعتهم اللعنة في الدارين جزاء وفاقاً أو يلعنون ويطردون من رحمة الله تعالى في الدنيا بالغرق والآخرة بما فيها من عذاب ، فإن كل معذب ملعون مطرود من الرحمة كما أن كل مخذول محروم من التوفيق والعناية كذلك واكتفى ببيان حالهم الفظيع عن بيان حال فرعون ؛ إذ حين كان حالهم هكذا فما ظنك بحال من أغواهم والقاهم في هذا الضلال البعيد وحيث كان شأن الاتباع أن تكون أعواناً للمتبوع جعلت اللعنة رفداً لهم على طريقة التهكم فقيل بئس الرفد المرفود الرفد قد جاء بمعنى العون وبمعنى العطية والملائم هنا هو الأول.
قال الزجاج : كل شيء جعلته عوناً لشيء وأسندت به شيئاً فقد رفدته ، والمعنى بئس العون المعان رفدهم وهي اللعنة في الدارين وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له وقد رفدت باللعنة في الآخرة ، وفي الآية بيان شقاء فرعون وإنه لم ينفعه إيمانه حين الغرق ولو نفعه لما كان قائد قومه إلى النار.
وفي الفتوحات في الباب الثاني والستين : المجرمون أربع طوائف كلها في النار لا يخرجون منها : وهم المتكبرون على الله تعالى ، كفرعون وأمثاله ممن ادعى الربوبية لنفسه ونفاها عن الله تعالى فقال : يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري}(القصص : 38) وقال : {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى} يريد أنه ليس في السماء إله غيري وكذلك نمرود وغيره.
جزء : 4 رقم الصفحة : 183
وقال في الفتوحات : في موضع آخر هو معتقدي وغير هذا قلت على سبيل البحث والاستكشاف انتهى.
وعلى هذا يحمل ما في فصوص الحكم من كونه مقبوضاً على الطهارة فتدبر وأمسك لسانك عن الشيخ فإن لكلمات الكبار محامل كثيرة ، والقرآن لا ينقضى عجائبه وهي بكر بالنسبة إلى أرباب الرسوم ، هدانا الله وإياكم إلى حقيقة العلم والعمل
183
وأرشدنا وإياكم إلى طريقة الكمل.
وفي الآية أيضاً ذم لاتباع أهل الهوى وصحبة أهل الفسق فإن العرق دساس والطبع جذاب والمقارنة مؤثرة والأمراض سارية.
اي فغان ازيارنا جنس اي فغان
همنشين نيك جوئيد اي مهان
وفي الحديث : لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم ، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو منهم وليس منا أي : لا تسكنوا مع المشركين في المسكن الواحد ولا تجتمعوا معهم في المجلس الواحد حتى لا يسرى إليكم أخلاقهم الخبيثة وسيرهم القبيحة بحكم المقارنة ، فقوم فرعون لما اتبعوا فرعون أوردهم النار ولو اتبعوا موسى لأوردهم الجنة.
وفي المثنوى :
اي خنك آن مرده كز خو درسته شد
در وجود زنده يوسته شد
سيل ون آمد بدريا بحر كشت
دانه ون آمد بمزرع كشت كشت
ون تعلق يافت نان بأبو البشر
نان مرده زنده كشت وباخبر
موم وهيزم ون فداي نارشد
ذات ظلمانى أو أنوار شد
سنك سرمه ونكه شد در ديدكان
كشت بينائي شد آنجا ديده بان
واي آن زنده كه بامرده نشست
مرده كشت وزندكى ازوى بجست
جزء : 4 رقم الصفحة : 183
{ذَالِكَ} أي الخبر السابق يامحمد من أنباء القرى بعض أنباء القرى المهلكة بما جنت أيدي أهلها نقصه عليك خبر بعد خبر ، أي مقصوص عليك ليكون فيه دلائل نبوتك.
منها أي من تلك القرى قائم باقٍ أثره وجدرانه كالزرع القائم على ساقه مثل ديار عاد وثمود وحصيد مبتدأ حذف خبره ، أي : ومنها عافي الأثر كالزرع المحصود مثل بلاد قوم نوح ولوط.
وقال الكاشفي : (قائم باقيست وآبادان وحصيد مفقوداست يا خراب).
وفي التأويلات النجمية من الأجساد ما هو قائم قابل لتدارك ما فات عنها وإصلاح ما أفسد النفس منها ومنها ما هو محصود بمحصد الموت مأيوس من التدارك.
(4/116)
وما ظلمناهم بإهلاكنا إياهم والضمير إلى الأهل المحذوف المضاف إلى القرى.
ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما يوجب الهلاك من الشرك وغيره فإنهم أكلوا رزق الله وعبدوا غيره وكذبوا رسله.
وفيه إشارة إلى أنه تعالى أعطاهم استعداداً روحانياً وآلة لتحصيل كمالات لا يدركها الملائكة المقربون ، فاستعملوا تلك الآلة على وفق الطبيعة لا على حكم الشريعة فعبدوا طاغوت الهوى ووثن الدنيا وأصنام شهواتها فجاءهم الهلاك من أيدي الأسماء الجلالية.
فما أغنت عنهم ما نافية ، أي فما نفعتهم ولا قدرت أن ترد بأس الله عنهم.
آلهتهم التي يدعون أي : يعبدون وهي حكاية حال ماضية وإنما أريد بالدعاء العبادة لأنه منها ومن وسائطها ومنه قوله عليه السلام : الدعاء هو العبادة.
من دون الله أي : حال كونهم متجاوزين عبادة الله.
من شيء في موضع المصدر أي شيئاً من الأغناء وهو القليل منه.
لما جاء أمر ربك منصوب باغنت أي : حين مجيء عذابه ونقمته وهي المكافأة بالعقوبة.
وما زادوهم الضمير المرفوع للأصنام والمنصوب لعبدتها وعبر عن الأصنام بواو العقلاء لأنهم نزلوها منزلة العقلاء في عبادتهم إياها واعتقادهم أنها تنفع غير تتبيب من تب إذا هلك وخسر ، وتبه غيره إذا
184
أهلكه وأوقعه في الخسران ، أي غير إهلاك وتخسير فإنهم إنما هلكوا وخسروا بسبب عبادتهم لها وكانوا يعتقدون في الأصنام جلب المنافع ودفع المضار فزال عنهم بسبب ذلك الاعتقاد منافع الدنيا والآخرة وجلب ذلك إليهم مضار الدنيا والآخرة وذلك من أعظم الهلاك وأشد الخسران.
جزء : 4 رقم الصفحة : 184
{وَكَذَالِكَ} الكاف في محل الرفع على أنها خبر مقدم للمصدر المذكور بعده أي مثل ذلك الأخذ الذي مر بيانه.
أخذ ربك إذا أخذ القرى أي أهلها وإنما أسند إليها للأشعار بسريان أثره إليها.
وهي ظالمة حال من القرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أقيمت مقامهم في الأخذ أجريت الحال عليها ، وفائدتها الأشعار بأنهم أخذوا بظلمهم وكفرهم ليكون ذلك عبرة لكل ظالم.
إن أخذه أليم شديد أي : عقوبة مؤلمة شديدة صعبة على المأخوذ والمعاقب لا يرجى منها الخلاص.
وعن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله : إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ وكذلك أخذ ربك الآية.
كسى كر صرصر ظلمش دمادم
راغ عيش مظلومات بميرد
نميترسد ازان كايزد تعالى
اكره دير كيرد سخت كيرد
والله تعالى لا يجير الظالم ولكن يمهله ويكله إلى نفسه فمن أمارية نفسه يظلم على نفسه وعلى نفس غيره فيؤاخذه الله تعالى بظلمه عدلاً منه ، ولكنه إذا نظر بفضله ورحمته إلى عبد بنظر العناية يزيل بنور العناية ظلمات أمارية نفسه فتصير نفسه مأمورة لأمر الشريعة فلا يعمل إلا للنجاة من عذاب الآخرة ونيل الدرجات والقربات فعلى كل من أذنب أن يحذر أخذ ربه فيبادر إلى التوبة ويترك التسويف فإنه ورد : هلك المسوفون.
قبول توبه بر رب كريم فعجل إن في التأخير آفات
إن في ذلك أي فيما نزل بالأمم الهالكة بذنوبهم أو فيما قصه الله من قصصهم لآية لعبرة بينة وموعظة بالغة لمن خاف عذاب الآخرة أي أقر به وآمن لأنه يعتبر به حيث يستدل بما حاق بهم من العذاب الشديد بسبب ما عملوا من السيئات على أحوال عذاب الآخرة وأما من أنكر الآخرة وأحال فناء العالم ، ولم يقل بالفاعل المختار وجعل تلك الوقائع لأسباب فلكية اتفقت في تلك الأيام لا لذنوب المهلكين فهو بمعزل من هذا الاعتبار تباً لهم ، ولما لهم من الأفكار.
قال الحافظ :
سير سهر ودور قمر راه اختيار
در كردشند بر حسب اختيار دوست
ذلك إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة.
يوم مجموع له الناس أي : يجمع له الأولون والآخرون للمحاسبة والجزاء واستعمال اسم المفعول حقيقة فيما تحقق فيه وقوع الوصف وقد استعمل ههنا فيما لم يتحقق مجازاً تنبيهاً على تحقق وقوعه.
وذلك أي : يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له يوم مشهود أي مشهود فيه حيث يشهد فيه أهل السموات والأرضين للموقف لا يغيب عنه أحد فالمشهود هو الموقف والشاهدون أي الحاضرون الخلائق والمشهود فيه اليوم فاتسع فيه إجراء للظرف مجرى المفعول به ، واليوم
185
كما يصح أن يوصف بأنه مشهود فيه بمعنى يشهد فيه الخلائق من كل ناحية لأمر له شأن أو لخطب يهمهم كيوم الجمعة والعيد وعرفة وأيام الحروب وقدوم السلطان ، كذلك يصح أن يوصف بأنه مشهود أي مدرك كما تقول أدركت يوم فلان فأريد في هذا المقام اليوم المشهود فيه لما فيه من تهويل ذلك اليوم لا اليوم المشهود لأن سائر الأيام كذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 185
{وَمَا نُؤَخِّرُهُ} أي وما نؤخر أحداً في ذلك اليوم الملحوظ بعنواني الجمع والشهود إلا لأجل معدود إلا لانقضاء مدة قليلة بحذف المضاف.
(4/117)
قال الكاشفي : (مكر از براى كذشتن مدتي شمرده يعني تاوقت وي در نرسد قائم نكردد) حسما يقتضيه الحكمة ، وفي الآيات تهديد وتخويف من الله وحث على تصحيح الحال وتصفية البال وتزكية الأعمال ومحاسبة النفوس قبل بلوغ الآجال ، فإن العبد لا يحصد إلا ما يزرع ولا يشرب إلا بالكأس التي يسقي ، وفي الحديث القدسي يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظلموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطمعوني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وإني أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وجنكم وأنسكم كانوا على قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أو لكم وآخركم وجنكم وأنسكم قاموا في صعيد واحد فسألني كل واحد منكم مسألة وأعطيته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر غمسة واحدة ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم وأوفيكم إياها يوم القيامة ، فمن وجد خيراً فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه فعلى العاقل أن يتدارك ما فات ولا يضيع الأوقات.
قال المولى الجامي قدس سره :
هردم از عمر كرامي هست كنج بي بدل
ميرود كنج نين هر لحضه باد آخ آخ
وقد خسر من فات عنه نفس في طلب غير الله فكيف يكون حال من أضاع أنفاسه في هواه.
يوم يأت أي : حين يأتي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء له وهو يوم القيامة فلا يلزم أن يكون للزمان زمان ، وذلك لأن الحين مشتمل على ذلك اليوم وغيره من الأوقات ولا محذور في كون الزمان جزءاً من زمان آخر ألا ترى أن الساعة جزء من اليوم واليوم من الأسبوع والأسبوع من الشهر وعلى هذا ؛ ويأت بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة كما قالوا لا أدر ولا أبال وهو كثير في لغة هذيل روى عن عثمان رضي الله عنه أنه عرض عليه المصحف فوجد فيه حروفاً من اللحن فقال لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل ما وجد فيه هذه الحروف فكأنه مدح هذيلاً بالفصاحة والناصب للظرف قوله : لا تكلم نفس لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة إلا بإذنه أي بإذن الله تعالى كقوله تعالى : لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا}(النبأ : 38) وقوله : {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه إِلا بِإِذْنِهِ} ويوم القيامة يوم مقداره ألف سنة من سني الدنيا ففيه مواقف وأزمنة وأحوال مختلفة يتكلمون في بعضها ويتساءلون كما قال : يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ولا يتكلمون}(النحل : 111) في بعضها لشدة
186
الهول والفزع وظهور سطوة آثار القهر أو لعدم الإذن لهم في الكلام كما قال : {هَـاذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (المرسلات : 35 ـ ـ 36) ويختم في بعضها على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 186
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلّم "تمكثون ألف عام في الظلمة لا تتكلمون".
قال السعدي قدس سره :
(اكر تيغ قهر بركشد ولى وبني سردر كشد وكر غمزه لطف بجنباند بدانرا بنيكان رساند)
كر بمحشر خطاب قهر بود
انبيارا ه جاى معذرتست
رده از لطف كوبردار
كاشقيارا اميد مغفرتست
{فَمِنْهُم} أي : من الناس المذكور في قوله مجموع له الناس أو من أهل الموقف المدلول عليهم بقوله لا تكلم نفس شقي وجبت له النار بموجب الوعيد وسعيد أي : ومنهم سعيد وجبت له الجنة بمقتضى الوعد.
وتقديم الشقي على السعيد ؛ لأن المقام مقام التحذير والإنذار.
قال في التبيان علامة الشقاوة خمسة أشياء ، قساوة القلب ، وجمود العين ، والرغبة في الدنيا ، وطول الأمل ، وقلة الحياء ، وعلامة السعادة خمسة ، أشياء لين القلب ، وكثرة البكاء ، والزهد في الدنيا ، وقصر الأمل ، وكثرة الحياء.
وفي التأويلات النجمية : شقى محكوم عليه بالشقاوة في الأزل وسعيد محكوم عليه بالسعادة في الأزل.
وعلامة الشقاء الإعراض عن الحق وطلبه ، والإصرار على المعاصي من غير ندم عليها ، والحرص على الدنيا حلالها وحرامها ، واتباع الهوى والتقليد والبدعة ، وعلامة السعادة الإقبال على الله وطلبه ، والاستغفار من المعاصي والتوبة إلى الله ، والقناعة باليسير من الدنيا وطلب الحلال منها ، واتباع السنة واجتناب البدعة ومخالفة الهوى انتهى (شيخ أبو سعيد خراز قدس سره فرموده كه حق سبحانه وتعالى درين سوره دوكار عظيم بيان فرموده يكى سياست جباري وسطوت قهاري كه دمار از روز كار كفار بر آورده ديكر حكم أزلي كه بشقاوت وسعادت خلق شرف نفاذ بافته وحضرت رسالت از هيبت آن خبر وسطوت اين حكم فرموده كه شيبتني سورة هود).
آن يكى را ازا زل لوح سعادت بركنار
وين يكى را تا ابد داغ شقاوت برجبين
عدل او مير انداين را سوى أصحاب شمال
فضل او ميخواند آنرانزد أصحاب يمين
(4/118)
قال ابن الشيخ في حواشيه قوله تعالى : فمنهم شقى وسعيد ظاهره يدل على أن أهل الموقف لا يخرجون عن هذين القسمين اللذين.
أحدهما مخلد في النار أبداً إلا ما شاء ربك.
وثانيهما مخلد في الجنة أبداً إلا ما شاء ربك ؛ فيلزم أن يكون أطفال المشركين والمجانين الذين لم يعلموا صالحاً غير خارجين عنهما ، فإن قلت : إنهم من أهل الجنة فبلا إيمان ، وإن قلت إنهم من أهل النار فبلا ذنب ، فاعلم أن أمرهم فيما يتعلق بالأمور الدنيوية تبع لأشرف الأبوين وفيما يتعلق بأمر الآخرة من الثواب والعقاب معلوم مما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه إنه قال سئل رسول الله عن أطفال المشركين أهم من أهل الجنة أم من أهل النار فقال عليه السلام : الله أعلم بما كانوا عاملين من الكفر والإيمان إن عاشوا وبلغوا وتحقيق هذا المقام ؛ أن الله تعالى يحشر يوم القيامة أصحاب الفترات والأطفال الصغار والمجانين في صعيد واحد لإقامة
187
العدل والمؤاخذة بالجريمة والثواب للعمل في أصحاب الجنة ، فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل عن الناس بعث فيهم نبي من أفضلهم وتمثل لهم نار يأتي بها هذا النبي المبعوث في ذلك اليوم فيقول لهم أنا رسول الله إليكم فيقع عند بعضهم التصديق به ويقع التكذيب عند بعضهم ويقول لهم : اقتحموا هذه النار لأنفسكم ، فمن أطاعني نجا ومن عصاني وخالف أمري هلك وكان من أهل النار فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها سعد ونال ثواب العمل ووجد تلك النار برداً وسلاماً ، ومن عصاه استحق العقوبة ودخل النار ونزل فيها بعمله المخالف ليقوم العدل من الله تعالى في عباده هكذا ورد في صحيح الأخبار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 186
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} أي سبقت لهم الشقاوة وقضي لهم بالنار ففي النار أي مستقرون في جهنم كأن سائلاً قال ما شأنهم فيها فقيل لهم فيها زفير وشهيق الزفير إخراج النفس بقوة وشدة والشهيق رده واستعمالهما في أول ما ينهق الحمار وآخر ما يفرغ من نهيقه ، وفيه استعارة تصريحية فإن المراد تشبيه صراخهم بأصوات الحمير ، فكما أن الحمير لها أصوات منكرة كذلك لهم أصوات منكرة في جهنم كما يشاهد ذلك في أهل الابتلاء في الدنيا لا سيما عند الصلب أو الخنق أو ضرب العنق أو قطع اليد أو نحوها ، فإن لبعض المجرمين حينئذٍ خوارا كخوار البقر يتغير صوته كما يتغير لونه وحال الآخرة أشد من حال الدنيا ألف مرة.
خالدين فيها مقيمين دائمين فيها حال مقدرة من ضمير الاستقرار في الظرف وهو قوله في النار هذا إن أريد حدوث كونهم في النار.
وقال بعضهم : لا حاجة هنا إلى جعل الحال مقدرة كما في قوله تعالى : فادخلوها خالدين} (الزمر : 73) لأن الخلود بعد الدخول وهي ههنا حال من استقر فيها فلا حاجة إلى التقدير [هود : 107-30]{مَا دَامَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ} ما مصدرية والمصدر المؤول قائم مقام الظرف.
والمعنى مدة دوامهما وهو عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع على عادة العرب وذلك أنهم إذا وصفوا شيئاً بالأبد والخلود قالوا ما دامت السموات والأرض ، لأنهما باقيتان أبد الآباد على زعمهم فمثلوا ما قصد تأبيده بهما في عدم الزوال فورد القرآن على هذا المنهاج ، وإن أريد تعليق قرارهم فيها بدوام السموات والأرض فالمراد سموات الآخرة وأرضها ، وهي دائمة مخلدة ويدل عليه قوله : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات}(إبراهيم : 48) وقوله : {وَأَوْرَثَنَا الارْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ} (الزمر : 74) وإن أهل الآخرة لا بد لهم من مظل ومقل ، إما اسماء يخلقها الله فتظلهم أو يظلهم العرش وكل ما علاك فأظلك فهو سماء وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض ولا فساد في التشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ولا مانع ، ونظيره تشبيه الشيء بالكيمياء أو بمدينة ارم وغير ذلك (حضرت شيخ قدس سره درفتوحات آورده كه دوام آسمان وزمين از حيثيت جوهر ايشان مرادست نه از حيثيت صورت ايشان) وقال أهل التأويل سموات الأرواح والقلوب وأرض النفوس والبشرية {إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ} استثناء من الخلود في النار لأن بعض أهل النار وهم فساق الموحدين يخرجون منها وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض ويجوز اجتماع الشقاوة والسعادة في شخص واحد باعتبارين كما قال في التأويلات النجمية : إلا ما شاء ربك من الأشقياء وذلك لأن أهل الشقاوة على ضربين شقي وأشقى
188
فيكون من أهل التوحيد شقي بالمعاصي سعيد بالتوحيد فالمعاصي تدخله النار والتوحيد يخرجه منها ويكون من أهل الكفر والبدعة أشقى يصليه كفره وتكذيبه النار فيبقى خالداً مخلداً انتهى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 188
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد بعد ما يلبثون فيها أحقاباً.
(4/119)
وعن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص مثله ومعناه عند أهل السنة أن لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان فتبقى طبقتهم خالية وأما مواضع الكفار فممتلئة أبداً.
قال الحافظ :
دلا طمع مبر از لطف بي عنايت دوست
كه ميرسد همه را لطف بي نهايت او
وفي هذا البيت إشارة إلى سر خفي لا يدركه إلا أهل الإلهام.
قال بعض الكبار : الترقي والتدلي إنما يجري في هذا العالم وأما في الآخرة فلا ترقي فيها.
فإن قلت فقد ترقى العاصي إلى مرتبة الجنة بعد الخروج من النار.
قلت : ذلك الترقي كان في الدنيا بسبب الإيمان غير أن ظهوره كان في الآخرة فعذب أوّلاً ثم دخل الجنة.
إن ربك فعال لما يريد من تخليد البعض كالكفار وإخراج البعض كالفساق من غير اعتراض عليه.
وإنما قيل فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة.
وقال المولى أبو السعود : إلا ما شاء ربك استثناء من الخلود على طريقة قوله تعالى : لا يذقون فيها الموت إلا الموتة الأولى}(الدخان : 56) وقوله : {مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء : 22) وقوله : {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ} (الأعراف : 40) غير أن استحالة الأمور المذكورة معلومة بحكم العقل واستحالة تعلق المشيئة بعدم الخلود معلومة بحكم النقل ، يعني أنهم مستقرون في النار في جميع الأزمنة إلا في زمان مشيئة الله تعالى لعدم قرارهم فيها وإذ لا إمكان لتلك المشيئة ولا لزمانها بحكم النصوص القاطعة الموجبة للخلود ، فلا إمكان لانتهاء مدة قرارهم فيها ولدفع ما عسى يتوهم من كون استحالة تعلق المشيئة بطريق الوجوب على الله تعالى قال : {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} يعني أنه في تخليد الأشقياء في النار بحيث يستحيل وقوع خلافه فعال بموجب إرادته قاض بمقتضى مشيئته الجارية على سنن حكمته الداعية إلى ترتب الأجزئة على أفعال العباد ، ولك أن تقول : إنهم ليسوا بمخلدين في العذاب الجسماني بل لهم من العقوبات والآلام الروحانية ما لا يعلمه إلا الله تعالى وهذه العقوبات ، وإن كانت تعتريهم وهم في النار لكنهم ينسون بها عذاب النار ولا يحسون بها ألا ترى أن من دهمه الغم المفرط وأدهشه خطب جليل ، فإنه لا يحس بقرص النملة والبرغوث ونحوهما وقس عليه الحال في جانب السرور كما سيأتي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 188
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} من سعد بمعنى أسعد لغتان حكاهما الكسائي ، أي قدر لهم السعادة وخلقوا لها ، ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك.
قال قتادة : الله أعلم بثنياه.
وقال الضحاك إلا ما مكثوا في النار حتى ادخلوا الجنة فإن التأبيد من مبدأ معين كما ينقص باعتبار الانتهاء فكذلك باعتبار الابتداء.
وقال المولى أبو السعود في تفسيره : إن حمل على طريقة التعليق بالمحال فقوله : عطاء غير مجذوذ نصب على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله : ففي الجنة خالدين فيها يقتضي إعطاء وإنعاماً فكأنه قيل يعطيهم إعطاء غير مقطوع ، بل ممتداً لا إلى نهاية وهو إما اسم مصدر هو الإعطاء أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى : أنبتكم من الأرض نباتاً}(نوح : 17) وإن حمل على ما أعد الله لعباده الصالحين من النعيم الروحاني الذي عبر عنه "بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" فهو
189
نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة.
قال بعض الكبار : أهل الجنة يبقى في مرتبة الجنة وأهل الترقي يتجاوز ويترقى إلى ما فوقها.
وتحقيقه على ما في "التأويلات النجمية" أن أهل السعادة على ضربين سعيد وأسعد فالسعيد من يبقى في الجنة ودرجاتها وغرفاتها إلى العليين بحسب العبادة والعبودية ، والأسعد من يدخل الجنة ويعبر عن درجاتها وغرفاتها إلى مقامات القربة بحسب المعرفة والتقوى والمحبة كقوله تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَنَهَرٍ * فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر} (القمر : 54 ـ ـ 55) وقال صلى الله عليه وسلّم "إن أهل الجنة ليرون أهل العليين ، كما يرى أحدكم الكوكب الدري في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم في أنعم مكان" فمن كان من أهل الجنة وأهل العليين فلهم خلود في الجنة ومن كان في مقام مقعد الصدق فهو في أنعم مقام من الجنة فلهم الخروج من الجنة من جذبات العناية إلى عالم الوحدة والسر في هذا أن السالك يسلك بقدم المعاملات إلى أعلى مقام الروحانية من حضيض البشرية وهو بعد في مقام الأثنينية وهو سدرة المنتهى عندها جنة المأوى فلا عبور عن هذا المقام للملك المقرب ولا للنبي المرسل إلا برفرف جذبة العناية فإنها توازي عمل الثقلين وبها يصل العبد إلى عالم الوحدة فافهم جداً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 189
فما بقي هناك الدخول والخروج والاستثناء بقوله : {إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ} راجع إلى هذا المقام ولهذا قال : عطاء غير مجذوذ لأنه لا انقطاع له ولا تغيير فيه انتهى.
(4/120)
يقول الفقير : على ما تلقف من فم حضرة الشيخ العلامة أبقاه الله بالسلامة : إن أهل الجنة يصلون بمقتضى الاستثناء الذي هو قوله تعالى : إلا ما شاء ربك إلى مقام لا يشابه ما قبله أصلاً وذلك بعد تطاول الزمان وتباعد التنعم في الجنان وعند ذلك يظهر سر الأزل في مرآة الأبد فكما أن مبدأ التعينات وهو شئونات الغيبية أزل الأزال ، كذلك مقام هذا التجلي المخصوص أبد الآباد فالأبد المضاف هو ما بعد هذا التجلي لا إلى نهاية ، والمضاف إليه ما كان قبله مذ دخولهم الجنة وكذا الأزل فإن ما فوق المبدأ المذكور هو الأزل المضاف وما تحته هو الأزل المضاف إليه ونظير هذا هو ما يصل إليه أهل الفناء الكلي في الدنيا وذلك أنهم استوفوا حظهم من الأرزاق المعنوية بحيث لم يبق لهم بحسب مرتبتهم وتعينهم الخاص شيء لم يصلوا إليه من أسرار الأفعال والصفات والذات في جميع المراتب والتعينات ، فعند ذلك يتجلى الله لهم بصورة أخرى لا تشابه ما قبلها أصلاً فيحيون حياة أبداً باقية ، ثم السر المذكور المنسوب إلى أهل الجنة والعليين جار على أهل النار لكنهم أهل الجلال ومقامهم مقام الفردية ولذا لا تزوج لهم ولا تنعم بما يتنعم به أهل الجنان ، وأهل الجنة أهل الجمال ومقامهم مقام الصفة ومقتضاه التنعم والتلذذ.
فالفرق بين أهل الجنة وأهل النار أن لأهل الجنة ظهوراً بالصفات وفي الظهور بطون وهو سر الذات وأن لأهل النار بطوناً وليس في البطون ظهور ، ولأهل الكمال إحاطة وسعة بحيث لا توصف وذلك في الدارين فالمقربون واقفون على أحوال الأبرار ، ومكاشفون عن مقاماتهم ومواطنهم ، وهم محجوبون عن المقربين في ذلك ، وكذا الأبرار واقفون على أحوال أصحاب المشأمة وهم محجوبون عن الأبرار ، فقس على حال الدنيا حال البرازخ والآخرة ، ولذا قال بعض الكبار : إن الروح بعد خلاصه من حبس البدن إن كان علوياً بعضه يقطع برزخا وبعضه أكثر إلى أن يسموا
190
البرازخ فكلما قطع برزخاً ازداد إحاطة حتى يصل إلى المحيط الحقيقي ، فهناك يضمحل الكل فهو محيط الكل وأما إذا كان سفلياً فإنه في البلاء والعياذ بالله تعالى.
ثم إن العلم الإلهي إنما يستكمل بعد أربعين سنة من أول المكاشفة والظهور كما أن العقل إنما يستكمل في سن الأربعين يعني أن الوصول إلى منتهى المراتب إنما يحصل في تلك المدة وقد أجرى الله عادته على ذلك فلا يطمع أحد فيه قبلها ، فإن العلم يزداد إلى ذلك الحد ثم يحصل التحقق وتصير الأوصاف الطبيعية والنفسانية كلها تحت تسخيره وفي يده غالباً عليها بإذن الله تعالى وعونه فانظر إلى طول الطريق وعزة المطلب فاختر لك دليلاً إلى أن تصل إلى الله الرب.
وفي المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 189
يررا بكزين بي ير اين سفر
هست ره ر آفت وخوف وخطر
آن رهى كه بارها تورفته
بي قلاوز اندر آن آشفته
س رهى راكه نديد ستى توهي
هين مروتنها زر هبر سر مي
كرنباشد سايه بيرا يفضول
س تراسر كشته دارد بانك غول
اللهم خذ بأيدينا وجد علينا كل حين.
فلاتك أصله لا تكن حذفت النون لكثرة الاستعمال أي إذا تبين عندك ما قصصت عليك من قصص المتقدمين وسوء عاقبتهم فلا تكن في مرية أي في شك مما يعبد هؤلاء ما مصدرية ، أي من جهة عبادة هؤلاء الحاضرين من المشركين وكن على يقين في أنها ضلال سيء العاقبة ، كأنه قيل لم لا أكون في شك فأجيب لأنهم ما يعبدون إلا كما كان يعبد آباؤهم من قبل أي حالهم كحال آبائهم من غير تفاوت فهم على الباطل والتقليد لا على الحق والتحقيق.
وفيه إشارة إلى أن أهل الفترة الذين عبدوا الأصنام من أهل النار ، فإن الذم ينادى على ذلك وإنا لموفوهم توفية الشيء تأديته وإعطاؤه على وجه التمام والضمير لهؤلاء الكفرة.
نصيبهم أي حظهم المتعين لهم من العذاب الدنيوي والأخروي كما وفينا آباءهم أنصباءهم المقدرة حسب جرائمهم فسيلحقهم مثل ما لحق بآبائهم فإن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات.
فإن قيل : لا سبب عندنا إلا الله.
قلنا : يكفينا السببية العادية وهو ما يفضي إلى الشيء بحسب جريان العادة غير منقوص حال مؤكدة من النصيب كقوله : هو الحق مصدقاً}(فاطر : 31) وفائدته مع دفع توهم التجوز تقرير ذي الحال أي جعله مقرراً ثابتاً لا يظن أنه غيره.
وفي الآية : ذم للتقليد وهو قبول قول الغير بلا دليل وهو جائز في الفروع والعمليات ولا يجوز في أصول الدين والاعتقاديات ، بل لا بد من النظر والاستدلال لكن إيمان المقلد صحيح عند الحنفية والظاهرية ، وهو الذي اعتقد جميع ما وجب عليه من حدوث العالم ووجود الصانع وصفاته وإرسال الرسل وما جاؤوا به حقاً من غير دليل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قبل إيمان الأعراب والصبيان والنسوان والعبيد والإماء من غير تعليم الدليل ، ولكنه يأثم بترك النظر والاستدلال لوجوبه عليه ولا يحصل اليقين إلا بترك التقليد وبالوصول إلى عين التوحيد.
قال المولى الجامي قدس سره :
سيراب كن زبحر يقين جان تشنه را
زين بيش خشك لب منشين برسر آب ريب
(4/121)
ثم إن أهل التقليد وأرباب الطبيعة إنما يعبدون الدنيا والهوى في الحقيقة ، فلا بد من ترك الهوى
191
واتباع الهدى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 189
يقال : لما وقع الازدواج بين آدم وحواء وقع الازدواج بين إبليس والدنيا فتولد من الازدواج الأول نوع البشر ومن الثاني الهوى فجميع الأديان الباطلة والأخلاق المذمومة من تأثير ذلك الهوى.
قال بعض المحققين : لما جعل الله سلطان الروح ملكاً في ملك البدن وجعل العقل وزيره جعل النفس خليلة الروح فمالت النفس إلى الهوى فسئل الوزير عن حالها فقال وزير العقل : أيها الملك إن ههنا مسمى بالهوى قد أضل النفس فتوجه الروح إلى الله تعالى بالتضرع والابتهال فانقادت النفس للروح بالصلاح وحسن الحال ، فمن أراد إصلاح نفسه فليرجع إلى القادر المتعال.
يقال : إن ضرر البدعة والهوى أكثر من ضرر المعصية فإن صاحب المعصية يعلم قبحها فيستغفر ويتوب بخلاف صاحب البدعة والهوى.
ثم إن البدعة والهوى عندنا معاشر الصوفية خلاف العمل بسنة النبي عليه السلام وسنة الأصحاب العظام وسنة المشايخ الكرام ، والاتباع بالعقل الجزئي والطبع في كل فعل وترك.
فعلى السالك أن لا يخالف السنن مطلقاً ولا يخرج عن آثار الأخيار ولا يلتفت إلى طعن الأغيار فإن الحق أحق أن يتبع
دين ما عشقست اي زاهد مكوبيهوده ند
ما بترك دين خود كفتن نخواهيم ازكذاف
جزء : 4 رقم الصفحة : 189
{وَلَقَدْ} أي : وبالله لقد آتينا موسى الكتاب أي التوراة وهو أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع وأما ما قبله من الكتب فإنما كانت مشتملة على الإيمان بالله وتوحيده ومن ثمة قيل لها صحف وإطلاق الكتب عليها مجاز.
فاختلف فيه أي في شأنه وكونه من عند الله وآمن به قوم وكفر به آخرون فلا تبال يا محمد باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن واصبر على تكذيبهم كما صبر موسى على تكذيب قومه ، ففيه تسلية له ولما قسم غنائم الطائف وأطال بعض المنافقين الكلام في أنه لم يعدل في القسمة قال عليه السلام : من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله رحمة الله على أخي موسى لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر يعني أن موسى أصابه الأذى الكثير من جهة قومه فصبر على أذاهم فلم يجزع فأنا أحق بالصبر منه لأن الجمعية الكمالية في ذاته عليه السلام أتم فحظه من الصفات الإلهية والأخلاق الحميدة الربانية أكثر وأوفر : قال المولى الجامي قدس سره في نعته :
بر دفتر جلال تو تورات يك رقم
وز مصحف جمال توانجيل يك ورق
ولولا كلمة سبقت من ربك هي كلمة القضاء بإنظارهم إلى يوم القيامة.
قال سعدي المفتي الأطهر : أن لا تقيد بيوم القيامة فإن أكثر طغاتهم نزل بهم العذاب يوم بدر وغيره لقضي بينهم أي : لا وقع القضاء بين المختلفين من قومك بإنزال العذاب الذي يستحقه المبطلون ليتميزوا به عن المحقين وإنهم أي : وإن كفار مكة أريد به بعض من رجع إليهم ضمير بينهم للأمن من الإلباس لفي شك عظيم منه أي : من القرآن وإن لم يجر له ذكر فإن مقام التسلية ينادي على ذلك نداء غير خفي.
مريب وصف لشك يقال أرابه أوقعه في الريبة.
يعني (نفس را مضطرب ودل را شوريده كننده).
وإن كلا التنوين عوض عن المضاف إليه ، أي وإن كل المختلفين فيه المؤمنين منهم والكافرين : لما ليوفينهم ربك
192
أعمالهم اللام الأولى موطئة للقسم والثانية جواب للقسم المحذوف ، ولما بتشديد الميم أصله لمن ما بكسر الميم على أنها من الجارة دخلت على ما الموصولة أو الموصوفة فلما اجتمعت النون ساكنة مع ميم ما وجب ادغامها فقلبت ميماً فاجتمع في اللفظ ثلاث ميمات فحذفت إحداهن ، أولاهن كانت المحذوفة أم وسطاهن على اختلاف الأقوال ، والمعنى أن جميعهم لمن الذي أو لمن خلق أو لمن فريق والله ليوفينهم ربك أعمالهم من الإيمان وسائر الحسنات والكفر وسائر السيئات أي ليعطينهم ويؤدينهم جزاء أعمالهم خيراً أو شراً تاما وافياً كاملاً.
إنه أي الله تعالى بما يعملون أي بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر خبير بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائه ودقائقه فيجازي كلا بحسب عمله ، وتوفية جزاء الطاعات وعد عظيم وتوفية جزاء المعاصي وعيد عظيم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 192
فعلى العاقل أن ينتبه من الغفلة ويجانب ما يخالف أمراتعالى فإن الله تعالى لا يفوته منه شيء.
بهمه كار بنده دانا اوست
بمكافات أو توانا أوست
(4/122)
واعلم أن الكلمة الإلهية الأزلية سبقت بسعادة أهل الإيمان وشقاوة أهل الكفر فهم في قبضتي الكفر والقهر وإمهالهم وتأخيرهم إنما هو لاستكمال السعادة والشقاوة لنفوسهم ولغيرهم ، فكتاب الله تعالى هو محك النفوس فمن آمن به وعمل بأحكامه فقد كملت سعادته ومن كفر به وترك العمل بأحكامه فقد كملت شقاوته ، وكل واحد من الفريق الأول أهل يقين ونجاة وكل واحد من الفريق الثاني أهل شك وهلاك ، وعادة الله تعالى جارية على تسليط أهل الإنكار على أهل الإقرار لاستخراج ما في معادن نفوسهم من جواهر أوصافه الشريفة كالصبر على الأذى والتحمل على البلاء والحلم على السفهاء والعفو عن الجهلاء والصفح عمن ليس له حياء لكي يتخلقوا بأخلاق الله تعالى ويظهر بها صدق عبوديتهم وتفاوت درجاتهم فإن المراتب ليست بالدعاوى والأماني بل بالحقائق والمعانى.
قال المولى الجامي :
بى رنج كسى ون نبردره بسر كنج
آن به كه بكوشم بتمنا ننشينم
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام قدس سره مباني طريق الصوفية على أربعة أشياء وهي اجتهاد وسلوك وسير وطير ، فالاجتهاد التحقق بحقائق الإيمان والسير التحقق بحقائق الإحسان والطير الجذبة بطريق الجود والإحسان إلى معرفة الملك المنان ، فمنزلة الاجتهاد من السلوك منزلة الاستنجاء من الوضوء فمن لا استنجاء له لا وضوء له فكذا من لا اجتهاد له لا سلوك له ومنزلة السلوك من السير منزلة الوضوء من الصلاة فمن لا وضوء له لا صلاة له ، فكذا من لا سلوك له لا سير له ، وبعده الطير وهو الوصول وأدنى الانتساب في هذا الباب محبة أهل الاجتهاد وتصديق الواصلين إلى سر المبدأ والمعاد ، ورعاية جانب المتحققين بحقائق القرآن دون العداوة والبغض والشنآن ، وفي الحديث القدسي : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب أي : أعلمته أني محارب له حيث كان محارباً لي بمعاداة أوليائي ، فإذا كان معادي الوليّ ورافض علومه محارباًتعالى فما ظنك بمعادي النبي وتارك كتابه؟ ولا يفلح أحد ممن حارب الله تعالى ورسوله ووارث رسوله ، فإن الله تعالى ذو البطش الشديد ، فإذا أخذه لم يفلته نسأل الله العافية والوفاء والصفاء ونعوذ به
193
من الخذلان وأهل الجفاء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 192
{فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ} يقول الفقير : أي إذا تبين عندك يا محمد أحوال القرون الأولى وأن إخوانك الأنبياء ومؤمنيهم تحملوا من قومهم الأذى وصبروا واستقاموا على طريقتهم المثلى إلى أن يأتي أمر الله تعالى ، فدم أنت أيضاً على الاستقامة على التوحيد والدعوة إليه كما أمرك الله تعالى.
ومن تاب معك معطوف على المستكن في فاستقم من غير تأكيد بالمنفصل لوجود الفاصل القائم مقامه ، أي ومن تاب من الشرك والكفر وشاركك في الإيمان هو المعنى بالمعية ، وإلا فليس لهم مصاحبة له في التوبة عما ذكر إذ الأنبياء معصومون عن الكفر وكذا عن تعمد الكبائر قبل الوحي وبعده بالإجماع ، لكن الظاهر أن الاشتراك في نفس التوبة يكفي في الاصطحاب ولا يلزم الاشتراك في المتوب عنه وقد كان عليه السلام يستغفر الله كل يوم أكثر من سبعين مرة على ما ورد في الحديث كذا في حواشي سعدى المفتي.
يقول الفقير : لعل التوبة في مثل هذا المقام هي الرجوع عن الحالة الأولى ومفارقتها سواء صدر فيها الكفر كسجود الصنم وغيره وهو حال أكثر المؤمنين ، أو لم يصدر وهو حال الأقلين ومنهم رسول الله وقد صح أنه عليه السلام شهد بأن علياً رضي الله عنه لم يكفر بالله قط طرفة عين مع قوله له في دعوة الإسلام : وأدعوك إلى الكفر باللات والعزى فإن هذا القول لا يقتضي كفره رضي الله عنه ؛ إذ قد يدعى الرجل إلى كفر ما لم يتصف به إذا كان من شأنه الكفر به والإنكار عليه ولا تطغوا أي ولا تنحرفوا عما حد لكم بإفراط وتفريط فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم ، وإنما سمى ذلك طغياناً وهو تجاوز الحد تغليظاً أو تغليباً لحال سائر المؤمنين على حاله.
وفي سورة شورى واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم} (الشورى : 15) والنهيان متقاربان إذ المراد عدم الاتباع لإهواء أهل الكفر ؛ لأن في الاتباع الطغيان وفي عدمه الاستقامة المحضة {أَنَّهُ} أي : الله تعالى.
بما تعملون بصير عالم لا يخفى عليه شيء فيجازيكم على ذلك فاتقوه في المحافظة على حدوده وهو في معنى التعليل للأمر والنهي.
(4/123)
وعن بعض الصلحاء وهو أبو علي السنوسي رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله في النوم فقلت له روى عنك إنك قلت : شيبتني سورة هود فقال : نعم فقلت : فما الذي شيبك منها أقصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال : لا ، ولكن قوله : فاستقم كما أمرت ، وذلك لأن حقيقة الاستقامة هي الوفاء بالعهود كلها وملازمة الصراط المستقيم برعاية حد التوسط في كل الأمور من الطعام والشراب واللباس في كل أمر ديني ودنيوي ترغيب أو ترهيب أو حال أو حكم أو صفة أو معاملة وذلك هو الصراط المستقيم كالصراط المستقيم في الآخرة والتمشي على هذا الصراط الذي يقال لها الاستقامة الاعتدالية عسير جداً ، كما قال في بحر العلوم الاستقامة على جميع حدود الله على الوجه الذي أمر الله بالاستقامة عليه مما يكاد يخرج عن طوق البشر ولذلك قال عليه السلام : شيبتني سورة هود ولن يطيق مثل هذه المخاطبة بالاستقامة إلا من أيد بالمشاهدات القوية والآثار الصادقة ثم بالتثبت كما قال : لولا أن ثبتناك}(الإسراء : 74) ثم حفظ وقت المشاهدة ومشافهة الخطاب ، ولولا هذه المقدمات لتفسخ دون هذا الخطاب ألاتراه كيف قال للأمة : "استقيموا ولن تحصوا" أي لن تطيقوا الاستقامة التي أمرت بها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 194
قيل لمحمد بن فضل حاجة
194
العارفين إلى ماذا؟ قال : حاجتهم إلى الخصلة التي كملت بها المحاسن كلها ألا وهي الاستقامة فكل من كان أتم معرفة كان أتم استقامة.
قال ابن عطاء : فاستقم ، أي افتقر إلى الله مع تبريك من الحول والقوة.
وفي "التفسير الفارسي" للامام القشيري (فر مودكه مستقيم آنكس است كه از راه حق بازنكردد تابسر منزل وصال برسد.
وشيخ أبو علي دقاق كفته استقامت آنست كه سر خودرا از ما سوى محفوظ داري.
وخواجه عصمت بخاري در صفت أهل استقامت فرموده)
كسى را دانم أهل استقامت
كه باشد برسر كوى ملامت
ز اوصاف طبيعت اك برده
باطلاق هويت جان سرده
تمام از كردتن دا من فشانده
برفته سايه وخوشيد مانده
وقال أبو علي الجرجاني : كن طالب الاستقامة لا طالب الكرامة فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة ويطلب منك الاستقامة ، فالكرامة الكبرى الاستقامة في خدمة الخالق لا بإظهار الخوارق.
قال حضرة الشيخ الشهير بالهدائي قدس سره في "نفائس المجالس" : لا تتيسر الاستقامة إلا بإيفاء حق كل مرتبة من الشريعة والطريقة والمعرفة والحقيقة ، فمن رعاية حق الشريعة العدالة في الأحكام فالاستقامة في مرتبة الطبيعة برعاية الشريعة وفي مرتبة النفس برعاية الطريقة وفي مرتبة الروح برعاية المعرفة وفي مرتبة السر برعاية المعرفة والحقيقة ، فمراعاة تلك الأمور في غاية الصعوبة ولذلك قال عليه السلام : "شيبتني سورة هود" فالكمال الإنساني بتكميل تلك المراتب لا بإظهار الخوارق ، كما حكى أنه قيل للشيخ أبي سعيد : إن فلاناً يمشي على الماء قال إن السمك والضفدع كذلك ، وقيل إن فلاناً يطير في الهواء فقال إن الطيور كذلك ، وقيل إن فلاناً يصل إلى الشرق والغرب في آن واحد قال أن إبليس كذلك فقيل فما الكمال عندك قال إن تكون في الظاهر مع الخلق وفي الباطن مع الحق.
واعلم أن النفوس جبلت على الاعوجاج عن طريق الاستقامة إلا ما اختص منها بالعناية الأزلية والجذبة الإلهية.
قال المولى الجامي قدس سره :
سالكان بي كشش دوست بجايي نرسند
سالها كره درين راه تك ووى كنند
{وَلا تَرْكَنُوا} هو الميل اليسير والخطاب لرسول الله ومن معه من المؤمنين ، أي ولا تميلوا أدنى ميل.
إلى الذين ظلموا أي إلى الذين وجد منهم الظلم في الجملة فتمسكم بسبب ذلك وهو منصوب بإضمار إن في جواب النهي يعني : (بشما برسد) النار (آتش دوزخ) وإذا كان الركون إلى من صدر منهم ظلم مرة في الإفضاء إلى مساس النار هكذا فما ظنك بالركون إلى من صدر منهم الظلم مراراً ورسخوا فيه؟ ثم بالميل إليهم كل الميل.
وما لكم من دون الله من أولياء أي : من أنصار ينقذونكم من النار على أن يكون مقابلة الجمع بالجمع بطريق انقسام الآحاد على الآحاد ، والجملة نصب على الحالية من مفعول فتمسكم النار وأنتم على هذه الحالة وهي انتفاء ناصركم ثم لا تنصرون جملة فعلية معطوفة على الاسمية قبلها.
وكلمة ثم لاستبعاد نصرة الله تعالى إياهم مع استحقاقهم العذاب بسبب ركونهم ، ثم لا ينصركم الله ، إذ سبق في حكمه أن يعذبكم ولا يبقي عليكم.
والآية
195
أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه ، والعجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما فيها ثم لا يرتدعون عن الظلم والميل إلى أهله ولا يتدبرون أنهم مؤاخذون غير منصورين.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 4 رقم الصفحة : 194
كرازي باه اندر افتاده بود
كه ازهول اوشير نرمانده بود
بد انديش مردم بجز بدنديد
بيفتادو عاجز تر ازخود نديد
همه شب زفرياد وزاري نخفت
يكى برسرش كوفت سنكي وكفت
تو هركز رسيدي بفرياد كس
كه ميخواهى امروز فرياد رس
كه برريش جانت نهد مرهمي
كه دلها زدردت بنالد همي
تومارا همي اه كندي براه
(4/124)
بسر لا جرم درفتادى باه
اكربد كنى شم نيكى مدار
كه هر كز نيارد كا نكور بار
وفي الحديث : إياكم والظلم فإنه يخرب قلوبكم وفي تخريب القلب تخريب سائر الجسد فالظالم يظلم على نفسه حيث يخرب أعضاءه الظاهرة والباطنة ، وعلى الله حيث يخرب بنيان الله ويغيره ويفسده ، ولأنه إذا ظلم غيره وآذاه ، فقد ظلم على الله ورسوله وآذاه.
والدليل عليه قوله عليه السلام : أنا من الله والمؤمنون مني فمن آذى مؤمناً فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله تعالى ودخل في الركون إلى الظالمين المداهنة والرضى بأقوالهم وأعمالهم ومحبة مصاحبتهم ومعاشرتهم ، ومد العين إلى زهرتهم الفانية وغبطتهم فيما أوتوا من القطوف الدانية ، والدعاء لهم بالبقاء وتعظيم ذكرهم ، وإصلاح دواتهم وقلمهم ودفع القلم أو الكاغد إلى أيديهم والمشي خلفهم والتزيي بزيهم والتشبه بهم وخياطة ثيابهم وحلق رؤوسهم.
وقد امتنع بعض السلف عن رد جواب الظلمة في السلام.
وقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء؟ فقال : لا فقيل له : يموت فقال : دعه فإنه إعانة للظالم.
وقال غيره : يسقى إلى أن يثوب إلى نفسه ثم يعرض عنه ، وفي الحديث : العلماء أمناء الرسل على عباد الله مالم يخالطوا السلطان فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم فإذا علمت هذا فاعلم أن الواجب عليك أن تعتزل عنهم بحيث لا تراهم ولا يرونك إذ لا سلامة إلا فيه ، وأن لا تفتش عن أمورهم ولا تتقرب إلى من هو من حاشيتهم ومتصل بهم من إمامهم ومؤذنهم فضلاً عن غيرهم من عمالهم وخدمهم ، ولا تتأسف على ما يفوت بسب مفارقتهم وترك مصاحبتهم ، واذكر كثيراً قول رسول الله : إذا قرأ الرجل القرآن وتفقه في الدين ، ثم أتى باب السلطان تملقاً إليه وطمعاً لما في يديه خاض بقدر خطاه في نار جهنم والحديث كأنه مأخوذ من الآية فهما متطابقان معنى كما لا يخفى وروى أن الله تعالى أوحى إلى يوشع بن نون إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم فقال ما بال الأخيار فقال إنهم لم يغضبوا لغضبي فكانوا يواكلونهم ويشاربونهم وبهذا تبين أن بغض الظلمة والغضب عليهمواجب ، وإنما ظهر الفساد في الرعايا وجميع أقطار الأرض براً وبحراً بفساد الملوك ، وذلك بفساد العلماء أولاً ؛ إذ لولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك ، بل لو اتفق العلماء في كل عصر على الحق ومنع الظلم مجتهدين في ذلك
196
مستفرغين مجهودهم لما اجترأ الملوك على الفساد ولاضمحل الظلم من بينهم رأساً وبالكلية ، ومن ثم قال النبي عليه السلام : لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وكنفه ما لم يمالىء قرّاؤها أمراءها وإنما ذكر القراء لأنهم كانوا هم العلماء وما كان علمهم إلا بالقرآن ومعانيهم إلا بالسنة ، وما وراء ذلك من العلوم إنما أحدثت بعدهم كذا في بحر العلوم للشيخ على السمرقندي قدس سره.
جزء : 4 رقم الصفحة : 194
يقول الفقير أصلحه الله القدير : ذكر في الإحياء أن من دخل على السلطان بلا دعوة كان جاهلاً ومن دعى فلم يجب كان أهل بدعة.
وتحقيق المقام أن الركون في الآية أسند إلى المخاطبين ، والمخالطة وإتيان الباب والممالأة إلى العلماء والقراء فكل منها إنما يكون مذموماً إذا كان من قبل العلماء وأما إذا كان من جانب السلاطين والأمراء بأن يكونوا مجبورين في ذلك مطالبين بالاختلاط لأجل الانتفاع الديني فلا بأس حينئذٍ بالمخالطة لأن المجبور المطالب مؤيد من عند الله تعالى خال عن الأغراض النفسانية بخلاف ما إذا كان مقارناً بالأغراض النفسانية فيكون موكولاً إلى نفسه فتختطفه الشياطين نعوذ بالله تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 194
(4/125)
[العنكبوت : 45-130]{وَأَقِمِ الصَّلَواةَ} في الأمر بأفعال الخير جاء موحداً موجهاً إلى رسول الله في الظاهر وإن كان المأمور به من حيث المعنى عاماً ، وفي النهي عن المحظورات موجهاً إلى غير الرسول مخاطبا به أمته ، فهذا من جليل البلاغة القرآنية والمراد بإقامة الصلاة أداؤها وإنما عبر عنه بها إشارة إلى أن الصلاة عماد الدين طرفي النهار أي : غدوة وعشية ، وانتصابه على الظرفية لكونه مضافاً إلى الوقت فيعطى حكم المضاف إليه وزلفا من الليل منصوب على الظرفية لعطفه على طرفي النهار أي ساعات من الليل وهي الساعات القريبة من النهار فإنه من أزلفه إذا قربه جمع زلفة كغرف جمع غرفة ، ولمراد بصلاة الغدوة صلاة الفجر.
وبصلاة العشية الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشى ، وبصلاة الزلف المغرب والعشاء وفيه دلالة بينة على إطلاق لفظ الجمع وهو الزلف على الاثنين فالآية مشتملة على الصلوات الخمس ونظيرها قوله تعالى في سورة ق وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس}(طه : 130) أي : بصلاة الصبح [ق : 39-79]{وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} أي : بصلاة العصر والظهر فالعصر أصل في ذلك الوقت والظهر تبع لها كما في تفسير المناسبات ومن الليل في بعض أوقاته فسبحه بصلاتي المغرب والعشاء وفسر بعضهم طرفي النهار بالصبح والمغرب وزلف الليل بالعشاء والتهجد فإنه كان واجباً عليه فيوافق قوله : ومن الليل فتهجد به}(الإسراء : 79)أو الوتر على ما ذهب إليه أبو حنيفة أو مجموع العشاء والوتر والتهجد على ما يقتضيه ظاهر صيغة الجمع في زلفاً.
[هود : 114-45]{إِنَّ الْحَسَنَـاتِ} على الإطلاق لا سيما الصلوات الخمس.
يذهبن السيئات أي : يكفرن الصغائر ، يعني لا أنها تذهب السيئات نفسها إذ هي قد وجدت بل ما كان يترتب عليها ، وفي الحديث : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر ويمنعن من اقترافها كقوله تعالى : إن الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر}(العنكبوت : 45) ـ ـ روى ـ ـ في سبب النزول أن أبا اليسر الأنصاري كان يبيع التمر فأتته امرأة ، فأعجبته ، فقال لها : إن في البيت أجود من هذا التمر فذهب بها إلى نحو بيته فضمها إلى نفسه وقبلها وفعل بها كل شيء إلا الجماع ، فقالت له : اتقِ الله فتركها وندم ، فأتى أبا بكر رضي الله عنه فأخبره فقال : استر على نفسك وتب إلى الله تعالى ،
197
فلم يصبر فأتى عمر رضي الله عنه فقال له مثل ذلك فلم يصبر ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره بما فعل فقال : "انتظر أمر ربي فاستر على نفسك" فلما صلى صلاة العصر نزلت هذه الآية فقال عليه السلام : "صليت العصر معنا" قال نعم فقال : "اذهب فإنها كفارة لما فعلت" فقال الحاضرون من الصحابة "هذا له خاصة أم للناس عامة" قال : "بل للناس كافة" وفي الحديث : "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء" قالوا : لا قال : "فذلك مثل صلاة الخمس يمحو الله بها الخطايا".
جزء : 4 رقم الصفحة : 197
واعلم : أن الذنوب كلها نجاسات والطاعات مطهرات وبماء أعضاء الوضوء تتساقط الأوزار ولذا كانت الغسالة في حكم النجاسة ، ومن هنا أخذ بعض الفقهاء كراهة الصلاة بالخرقة التي يتمسح بها أعضاء الوضوء ، وقال الله تعالى لموسى عليه السلام "يا موسى يتوضأ أحمد وأمته كما أمرتهم وأعطيهم بكل قطرة تقطر من الماء جنة عرضها كعرض السماء" فانظر إلى ما سلبه الوضوء وجلبه.
قال الحافظ :
خوشا نماز ونياز كسى كه ازسردرد
بآب ديده وخون جكر طهارت كرد
وأحسن الحسنات وأفضل الطاعات العلم بالله ، وطريقه التوحيد ، وخلاف هوى النفس ، فبذكر الله يتخلص العبد من الذنوب ، وبه يحصل تزكية النفوس وتصفية القلوب ، وبه يتقوى العبد على طاعة الرحمن ويتخلص من كيد الشيطان ، قالوا : يا رسول الله ، لا إله إلا الله من الحسنات قال : "هي أحسن الحسنات" وفي الآية إشارة إلى إدامة الذكر والطاعة والعبادة في الليل والنهار إلا أن يكون له ضرورة من الحاجات الإنسانية فيصرف بعض الأوقات إليها كطلب المعاش في النهار والاستراحة في الليل ، فإنه يحصل للقوى البشرية والحواس كلال ، فيلزم دفعه بالمنام ليقوم في أثناء الليل نشيطاً للذكر والطاعة {إِنَّ الْحَسَنَـاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّـاَاتِ} أي أن أنوار الحسنات وهي الأعمال الصالحة والذكر والمراقبة طرفي النهار وزلفا من الليل يذهبن ظلمات سيئات الأوقات التي تصرف في قضاء الحوائج النفسانية الإنسانية وما يتولد من الاشتغال بها.
واعلم أن تعلق الروح النوراني العلوي بالجسد الظلماني السفلي موجب لخسران الروح إلا أن تتداركه أنوار الأعمال الصالحة الشرعية فتربى الروح وترقيه من حضيض البشرية إلى ذروة الروحانية بل إلى الوحدانية الربانية وتدفع عنه ظلمة الجسد السفلي كما أن إلقاء الحبة في الأرض موجب لخسران الحبة إلا أن يتداركها الماء فيربيها إلى أن تصير الحبة الواحدة إلى سبعمائة حبة والله يضاعف لمن يشاء.
(4/126)
فعلى العاقل أن يصبر على مشاق الطاعات والعبادات فإن له فيها أنواراً وحياة باقية :
مده براحت فاني حيات باقي را
بمحنث دوسه روز ازغم ابدبكريز
ذلك أي : المذكور من الاستقامة والإقامة وغيرهما ذكرى للذاكرين أي : موعظة للمتعظين ، فمن امتثل إلى أمر الله تعالى فاستقام وأقام فقد تحقق بحقيقة الحال والمقام.
قال بعض الحكماء : علامة الذي استقام أن يكون مثله كمثل الجبل ؛ لأن الجبل له أربع علامات ، أحداها : أن لا يذيبه الحر ، والثانية : أن لا يجمده البرد ، والثالثة : أن لا تحركه الريح ، والرابعة : أن لا يذهب به السيل ، فكذا المستقيم إذا أحسن إليه إنسان لا يحمله إحسانه على أن يميل إليه بغير الحق كما يفعله أرباب الجاه والمناصب في هذا الزمان فإنهم بالشيء اليسير من الدنيا الواصل إليهم من يد رجل
198
أو امرأة يتخطون الحد ويتركون الاستقامة وليس الاتعاظ وقبول النصيحة من شأنهم.
والثاني : إذا أساء إليه إنسان لا يحمله ذلك على أن يقول بغير الحق.
والثالث : أن هوى نفسه لا يحوله عن أمر الله تعالى.
والرابع : أن حطام الدنيا لا يشغله عن طاعة الله.
فقال الحافظ :
جزء : 4 رقم الصفحة : 197
ببال ورمر وازره كه تير رتابى
هوا كرفت زمانى ولى بخاك نشست
يعني : لا تخرج بالقدرة الدنيوية والمكنة المالية عن حد الطريق المستقيم ، فإن لكل ترق تنزلاً ألا ترى إلى حال السهم كيف صعد إلى جو السماء زماناً ثم سقط على الأرض فالإنسان لا بد وأن يسقط على الأرض في آخر أمره ونهاية عمره.
واصبر يا محمد على مشاق الأوامر ويدخل فيه الأمة بالتبعية وقد كانت العادة القرآنية على إجراء أكثر خطابات الأوامر على النبي عليه السلام ، وأكثر خطابات النهي على الأمة اعتباراً للأصالة في الاتصاف والتنزه والاجتناب فافهم فإن الله لا يضيع أجر المحسنين في أعمالهم صلاة كانت أو صبراً أو غيرهما من فرائض الإسلام ومندوبات الأعمال ومكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، أي : يوفيهم أجور أعمالهم من غير بخس أصلاً ، وإنما عبر عن ذلك بنفي الإضاعة مع أن عدم إعطاء الأجر ليس بإضاعة حقيقة كيف لا والأعمال غيرم موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها ضياعها ، لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يمتنع صدوره عنه سبحانه من القبائح وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة ، وهو تعليل للأمر بالصبر ، وفيه إيماء إلى أن الصبر من باب الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه لأنه إذا قدر المرء على هذه المشاهدة هان عليه الصبر وغيره من مر الأحكام ولا يكون هذا الإحسان إلا بالإخلاص وإخلاص السريرة.
كر نباشد نيت خالص ه حاصل از عمل
وكان أهل الخير يكتب بعضهم إلى بعض بثلاث كلمات ، من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته ، ومن أصلح فيما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس.
واعلم : أن الله تعالى أمر ونهى ومراده إطاعة عباده له في كل ما يأتون وما يذرون فإن فلاحهم في ذلك ولا يرضى الله منهم إلا بالطاعة والتسليم والقبول.
قال الحافظ :
مزن زون ورا دمكه بنده مقبول
قبول كرد بجان هر سخن كه جانان كفت
وعن أبي بكر الوراق قال : طلبنا أربعة أشياء سنين فوجدناها في أربعة.
طلبنا رضى الله تعالى فوجدناه في طاعته ، وطلبنا السعة في المعيشة فوجدناها في صلاة الضحى ، وطلبنا سلامة الدين فوجدناها في حفظ اللسان ، وطلبنا نور القبر فوجدناه في صلاة الليل ، فعلى العاقل السعي في طريق الطاعات وتنوير القلب بنور العبادات.
وفي التأويلات النجمية : واصبر أيها الطالب الصادق والعاشق الوامق على صرف الأوقات في طلب المحبوب بدوام الذكر ومراقبة القلب وترك الشهوات ومخالفة الهوى والطبيعة فإن الله لا يضيع أجر المحسنين أي سعي الطالبين كما قال : ألا من طلبني وجدني لأن من سنة كرمه قوله : من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً والمقصود من الحديث القدسي بيان سعة فيضه وجوده على عباده ، والتقرب إلى الله تعالى إنما يكون بقطع التعينات ، ورفع حجب الكثرة عن وجه الوحدة الذاتية إلا أن ذلك مشروط
199
بشرائط ومربوط بالأسباب في الصورة الظاهرة ، ولا تقيد تلك الشرائط والأسباب إلا بالجذبة الإلهية والدعوة الربانية ، فمن دعاه وأزال الموانع عن طريقه فقد وصل وإلا فقد انقطع دونه الطرق وبقى متحيراً مبهوتاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 197
داد حق را قابليت شرط نيست
بلكه شرط قابليت داد اوست
اللهم ارحمنا فإن ذنوبنا قد جلت وحجبنا قد كثفت وحيلنا قد انقطعت وما بقي إلا التوفيق منك والعفو والغفران واللطف والكرم والإحسان إنك أنت المحسن في كل زمان ومكان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 197
{فَلَوْلا} كان لولا بمعنى هلا وكان بمعنى وجد.
والمعنى بالفارسية (س را نبود) من القرون الهالكة الكائنة من قبلكم على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أو كائنة من قبلكم على أن يكون حالاً وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم.
(4/127)
قال في القاموس : القرن مائة سنة ، وهو الأصح ، لقوله عليه السلام لغلام : عش قرناً فعاش مائة سنة وكل أمة هلكت فلم يبق منها أحد لألوا بقية أصحاب فضل وخير وسمى الفضل والجودة بقية على أن يكون الهاء للنقل كالذبيحة ، لأن الرجل إنما يستبقي مما يكسبه عادة أجوده وأفضله فصار مثلاً في الجودة والفضل ، يقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم ومنه ما قيل : في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ينهون المفسدين نعت لأولوا عن الفساد في الأرض الواقع منهم حسبما حكى عنهم ومعناه جحد أي لم يكن فيهم أولوا بقية ينهون حتى لا ينزل العذاب بهم إلا قليلاً ممن أنجينا منهم استثناء منقطع أي لكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وهم اتباع الأنبياء وسائرهم تاركوا النهي ، ومن في ممن للبيان لا للتبعيض ، لأن جميع الناجين ناهون واتبع الذين ظلموا عطف على مضمر دل عليه الكلام أي لم ينهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا بمباشرة الفساد وترك النهي عنه ، فيكون العدول إلى المظهر لإدراج المباشرين معهم في الحكم والتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب.
ما اترفوا فيه الأتراف الأنعام من الترف وهو النعمة أي أنعموا فيه من الشهوات واللذات وآثروها على أمر الآخرة ، ويقال رفته النعمة أي أطغته.
فالمعنى ما أطغوا فيه على أن يكون فيه للسببية والمراد هو الأموال والأملاك قال الله تعالى : إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} (العلق : 6 ـ ـ 7) يعني اهتموا بكسبها وبذلوا وسعهم في تحصيلها وجمعها واعرضوا عما وراءها.
أما المباشرون فظاهر.
وأما المتساهلون فلما لهم في ذلك من نيل حظوهم الفاسدة {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} عطف على اتبع وهذا بيان لسبب استئصال الأمم المهلكة وهو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتباع الشهوات وفي الحديث : إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروا فلا ينكرون فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة فكل قوم لم يكن فيهم آمر بالمعروف وناه عن المنكر من أرباب الصدق وهم مجتمعون على الفساد أو لا يأتمرون بالأمر بالمعروف ولا ينتهون بالنهي عن المنكر فإنهم هالكون.
قال السعدي :
جزء : 4 رقم الصفحة : 200
كرت نهى منكر برآيد ز دست
نشايد و بى دست وايان نشست
بكو آنه دانى سخن سودمند
وكر هي كس را نيايد سند
200
و دست وزبانرا نماند مجال
بهمت نمايند مردى رجال
وما كان ربك ليهلك القرى اللام لام الجحود عند البصريين وينتصب الفعل بعدها بإضمار إن وهي متعلقة بخبر كان المحذوف ، أي : مريداً لإهلاك أهل القرى وقال الكوفيون : يهلك خبر كان زيدت اللام دلالة على التأكيد بظلم حال من الفاعل ، أي : ظالماً لها بغير ذنب واستحقاق للهلاك بل استحال ذلك في الحكمة.
وأهلها مصلحون غير ظالمين حال من المفعول.
والمراد تنزيه الله تعالى عن الظلم بالكلية بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى وإلا فلا ظلم فيما فعل الله بعباده كائناً ما كان.
وقيل قوله : بظلم متعلق بالفعل المتقدم والمراد به الشرك.
والمعنى ليهلك القرى بسبب شرك أهلها وبمجرده وهم مصلحون فيما بينهم لا يضمون إلى شركهم فساداً آخر ، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه ولهذا قال الفقهاء حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة وحقوق العباد مبنية على المضايقة وقدموا عند تزاحم الحقوق حقوق العباد.
والحاصل : أن عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك والكفر بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا خانوا في المعاملات ، وسعوا في أذى الخلق وظلمهم ، وإنما لم يهلكهم بمجرد شركهم لأن مكافاة الشرك النار لا ما دونها ، وإنما يهلكهم بمعاصيهم زيادة على شركهم مثل قوم صالح بعقر الناقة ، وقوم لوط بالأفعال الخبيثة ، وقوم شعيب بنقصان الكيل والوزن ، وقوم فرعون بإيذائهم موسى وبني إسرائيل.
قال بعضهم : الملك يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم.
واشتهر انو شروان بالعدل اشتهار حاتم بالجود حتى صار العادل لقباً له فلفظ العادل إنما يطلق عليه لعدم جوره وظهور عدله لا لمجرد المدح له والثناء عليه.
وأما سلاطين الزمان فلظهور جورهم وعدم اتصافهم بالعدل منعوا عن إطلاق لعادل عليهم إذا إطلاقه عليهم حينئذٍ يكون بمجرد المدح لهم والثناء عليهم فيكون كذباً وكفراً حكى أن انوشروان لما مات كان يطاف بتابوته في جميع مملكته وينادي منادٍ من له علينا حق فليأت فلم يوجد أحد في ولايته له عليه حق من درهم.
شه كسرى از ظلم ازان ساده است
كه در عهد أو مصطفى زاده است
(4/128)
وذكر عن أبي ميسرة قال أتى إلى رجل في قبره بعد ما دفن منكر ونكير فقالا له إنا ضارباك مائة سوط فقال الميت إني كنت كذا وكذا فتشفع حتى حطا عنه عشرة ثم لم يزل بهما حتى حطا عنه عشرة أخرى إلى أن صار إلى ضربة واحدة فقالا إنا ضارباك ضربة فضرباه واحدة فالتهب القبر ناراً فقال لم ضربتماني فقالا مررت برجل مظلوم فاستغاث بك فلم تغثه ، فهذه حال الذي لم يغث المظلوم فكيف يكون حال الظالم؟ فعلى السلاطين والحكام العدل على كافة الأنام وتفتيش أحوال أهل الإسلام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 200
نيايد بنزديك دانا سند
شبان خفته وكر در كوسفند
مكن تاتوانى دل خلق ريش
وكر ميكنى ميكنى بيخ خويش
جزء : 4 رقم الصفحة : 200
[يونس : 99-19]{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ} مشيئة قسر كما في الكواشي : لجعل الناس أمة واحدة متفقة على الحق ودين الإسلام بحيث لا يكاد يختلف فيه أحد كما كانوا قبل الاختلاف قال الله تعالى : وما كان
201
الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا}(يونس : 19) وكما يكونون بعد الاختلاف في آخر الزمان في عهد عيسى عليه السلام على ما في بعض الروايات ولكن لم يشأ ذلك لما علم أنهم ليسوا بأهل لذلك فلم يكونوا أمة متفقة على الحق.
يقول الفقير : وقع الاتفاق في أول النشأة الإنسانية ثم آل الأمر إلى الاختلاف بمقتضى الحكمة الإلهية إلى عهد عيسى عليه السلام ويعود في زمانه على ما كان عليه قبل ، ففيه إشارة إلى اتحاد سر الأزل والأبد فافهم جداً ، وأما الاختلاف الواقع قبل آدم فغير معتبر لكونه من غير جنس الناس وكذا بعد عيسى عليه السلام لكونه بعد انقطاع الولاية المطلقة وانتقالها إلى نشأة أخرى [هود : 118-53]{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} في الحق ودين الإسلام أي مخالفين له كقوله تعالى : وما اختلف فيه إلا الذين لأتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم}(البقرة : 213) أو على أنبيائهم كما قال عليه السلام : "إن الله بعثني رحمة للعالمين كافة فأدوا عني رحمكم الله ولا تختلفوا كما اختلف الحواريون على عيسى فإنه دعاهم إلى الله مثل ما أدعوكم إليه".
وفي الآية إثبات الاختيار للعبد لما فيها من النداء على أنهم صرفوا قدرتهم وإرادتهم إلى كسب الاختلاف في الحق ، فإن وجود الفعل بلا فاعل محال ، سواء كان موجباً أولاً وهو جبر متوسط وقول بين القولين وذلك لأن الجبرية اثنتان متوسطة تثبت كسباً في الفعل كالأشعرية من أهل السنة والجماعة ، وخالصة لا تثبته كالجهمية ، وإن القدرية يزعمون أن كل عبد خالق لفعله لا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله تعالى ، فنحن معاشر أهل السنة نقول العبد كاسب والله خالق أي فعل العبد حاصل بخلق الله إياه عقيب إرادة العبد وقصده الجازم بطريق جرى العادة بأن الله يخلقه عقيب قصد العبد ولا يخلقه بدونه فالمقدور الواحد داخل تحت القدرتين المختلفتين لأن الفعل مقدور الله من جهة الإيجاد ومقدور العبد من جهة الكسب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 201
يقول الفقير : قوله تعالى : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} (الأنفال : 17) ونحوه لا ينافي الاختيار لأن ذلك بالنسبة إلى فناء العبد في الحق ، ولا كلام في أن المؤثر على كل حال هو الله تعالى.
كما قال المولى الجامي قدس سره :
حق فاعل وهره جز حق آلات بود
تأثير زآلت از محالات بود
هستى مؤثر حقيقي است يكيست
باقي همه أوهام وخيالات بود
{إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} استثناء متصل من الضمير في مختلفين وإن شئت من فاعل لا يزالون أي إلا قوماً هداهم الله بفضله إلى الحق فاتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه ، أي لم يخالفوه.
ولذلك أي وللرحمة بتأويل إن مع الفعل خلقهم الضمير لمن قاله ابن عباس ، أي خلق أهل الرحمة للرحمة كما خلق أهل الاختلاف للاختلاف.
وفي المثنوى :
ون خلقت الخلق كي يربح على
لطف توفر مود أي قيوم وحي
لا لان تربح عليهم جودتست
كه شود زو جمله ناقصها درست
عفو كن زين بند كان تن رست
عفو از درياي عفو او ليترست
وتمت كلمة ربك أي : وجب قول ربك للملائكة أو حكمه ، وهو لأملان جهنم من الجنة والناس أجمعين أي : من عصاتهما أجمعين أو منهما أجمعين لا من أحدهما فهو لتأكيد العموم للنوعين والثلان هما النوعان المخلوقان للاختلاف في دين الله الموصوفان بكفران نعم الله
202
ونسيان حقه وهما سيان في الحكم فلاشقياء الجن ما لاشقياء الأنس من العقاب.
واعلم أن الناس في الأديان على أربعة أقسام سعيد.
بالنفس والروح في لباس السعادة وهم الأنبياء وأهل الطاعة ، والثاني : شقي بالنفس في لباس الشقاوة وهم الكفرة المصرون ، والثالث : شقي بالنفس في لباس السعادة مثل بلعم بن باعورا وبرصيصا وإبليس ، والرابع : سعيد بالنفس في لباس الشقاوة كبلال وصهيب وسلمان في أوائل أمرهم ثم بدل الله لباسهم بلباس التقوى والهداية ، فأصل الأصول هو العناية الأزلية والهداية الإلهية والسعادة الأصلية.
(4/129)
قال في الإحياء : المانع من الوصول عدم السلوك والمانع من السلوك عدم الإرادة والمانع من الإرادة عدم الإيمان وسبب عدم الإيمان عدم الهداية انتهى.
قرب توبا سباب وعلل نتوان يافت
بى سابقه فضل ازل نتوان يافت
قال في التأويلات النجمية : ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة في طلب الحق ولا يزالون الخلق مختلفين في الطلب فمنهم من طلب الدنيا ومنهم من طلب الآخرة منهم من طلب الحق إلا من رحم ربك فأخرجهم بنور رحمته من ظلمة طبيعتهم الجسمانية والروحانية إلى نور طلب الربوبية فلا يكونون طلاباً للدنيا والعقبى ، بل يكونون طلاب جمال الله وجلاله ولذلك خلقهم أي ولطلب الله تعالى خلقهم وأكرمهم بحسن استعداد الطلب ورحمهم على توفيق الطلب وفضلهم على العالمين بفضيلة الوجدان وتمت كلمة ربك في الأزل : إذ قال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي لأملأن جهنم من الجنة أي من الأرواح المستهلكة المتمردة وهم إبليس واتباعه والناس وهم النفوس الأمارات بالسوء أجمعين كلهم من الفريقين المعرضين عن الله تعالى وطلبه انتهى.
قال المولى الجامي قدس سره :
جزء : 4 رقم الصفحة : 201
يا من ملكوت كل شيء بيده
طوبى لمن ارتضاك ذخرا لغده
اين بس كه دلم جز توندارد كامى
توخواه بده كام دلم خواه مده
وقال المغربي قدس سره :
نيست درباطن أرباب حقيقت جز حق
جنت أهل حقيقت بحقيقت اينست
فإذا عرفت حقيقة الحال وسر هذا الكلام فجرد همتك من لباس علاقة كل حال ومقام وصر واصلاً إلى الله حاصلاً عنده هو غاية المرام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 201
{وَكُلا} مفعول به لنقص وتنوينه عوض عن المضاف إليه المحذوف أي كل نبأ وخبر نقص عليك نخبرك به من أنباء الرسل بيان لكل أو صفة لما أضيف إليه كل لا لكلاً ، لأن الفصيح وصف المضاف إليه ومن للتبعيض.
ما نثبت به فؤادك بدل من كلا أو صفة لما أضيف إليه ، والأظهر أن يكون المضاف إليه المحذوف في كلا المفعول المطلق لنقص ، أي : كل اقتصاص ، أي كل أسلوب من أساليبه نقص عليك من أنباء الرسل.
وقوله ما نثبت به فؤادك مفعول نقص أي ما نشد به قلبك حتى يزيد يقينك ويطيب به نفسك وتعلم أن الذي فعل بك قد فعل بالأنبياء قبلك ، والإنسان إذا ابتلى بمحنة وبلية ، فرأى جماعة يشاركونه فيها خف على قلبه بليته كما يقال البلية إذا عمت خفت وطابت.
قال القاشاني رحمه الله في شرح التائية : للقلب وجه إلى الروح يسمى فؤاداً وهو محل الشهود كما قال سبحانه : ما كذب الفؤاد ما رأى}(النجم : 11) ووجه إلى النفس يسمى صدراً وهو محل صور العلوم والقلب عرش
203
الروح في عالم الغيب كما أن العرش قلب الكائنات في عالم الشهادة انتهى {وَجَآءَكَ} في هذه السورة على ما فسره ابن عباس رضي الله عنهما في منبر البصرة وعليه الأكثر الحق ما هو حق وبيان صدق وتخصيصها بالحكم بمجيء الحق فيها مع أن ما جاءه في جميع السور حق يحق تدبره وإذعانه والعمل بمقتضاه تشريفاً لها ورفعاً لمنزلتها وموعظة ونصيحة عظيمة وذكرى وتذكرة للمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالموعظة والتذكير بأيام الله وعقوبته.
قال في الإرشاد : أي الجامع بين كونه حقاً في نفسه وكونه موعظة وذكرى للمؤمنين ولكون الوصف الأول حالاً له في نفسه حلى باللام دون ما هو وصف له بالقياس إلى غيره وتقديم الظرف أعني في هذه على الفاعل لأن المقصود بيان منافع السورة لا بيان ذلك فيها لا في غيرها.
وقل للذين لا يؤمنون بهذا الحق ولا يتعظون به ولا يتذكرون من أهل مكة وغيرهم.
اعملوا على مكانتكم أي : حالكم وجهتكم التي هي عدم الإيمان.
إنا عاملون على حالنا وهو الإيمان به والاتعاظ والتذكير به.
جزء : 4 رقم الصفحة : 203
{وَانتَظِرُوا} بنا الدوائر والنوائب على ما يعدكم الشيطان.
إنا منتظرون أن ينزل بكم ما نزل بأمثالكم من الكفرة على ما وعد الرحمن فهذا تهديد لهم لا إن الآية منسوخة بآية السيف.
واعلم أن تثبيت القلوب على الدين والطاعة إلى الله تعالى لا إلى غيره ، لأنه تعالى أسنده إلى ذاته الكريمة وأن التثبت يكون منه بالواسطة وبغير الواسطة فإما بالواسطة فهنا كما قال : ما نثبت به أي : بالأنباء عن أقاصيص الرسل كقوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت}(إبراهيم : 27) وإما بغير الواسطة فكقوله تعالى : {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَـاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْـاًا قَلِيلا} (الإسراء : 74) وهذا التثبيت من إنزال السكينة في قلبه بغير واسطة كقوله : {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِهِ} (الفتح : 26) وكقوله : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَـانًا مَّعَ إِيمَـانِهِمْ} (الفتح : 26).
(4/130)
واعلم أنه كما يزداد الإيمان بالسكينة فكذلك يزداد اليقين على اليقين باستماع قصص الأنبياء والأمم السالفة كما قيل حكايات الصالحين جند من جنود الله تعالى ، وهذا لمن يثبت الله به قلبه لا لمن يزداد شكه على الشك وكفره على الكفر كأبي جهل ونحوه لأن الله تعالى أودع في كل شيء لطفه وقهره فمن فتح عليه باب لطفه أغلق عليه باب قهره ومن فتح عليه باب قهره ، أغلق عليه باب لطفه قال في "المثنوى" :
ما هيانرا بحر نكذارد برون
خاكيانرا بحر نكذارد درون
اصل ماهى زاب وحيوان ازكاست
حيله وتدبير اينجا باطلست
قفل رفتست وكشاينده خدا
دست در تسليم زن اندر رضا
ومن فتح الله عليه باب لطفه جاءه الحق من هذا الباب ، كما قال الله تعالى : {وَجَآءَكَ فِى هَاذِهِ الْحَقُّ} أي : أنك لست بقادر أن تجيء في هذه بالحق لأن أبواب اللطف والقهر مغلوقة والمفتاح بيد الفتاح لا يقدر غير المفتاح أن يفتحه ، فإذا هو الذي يفتح باب لطفه في كل شيء على العبد ويجيء بكرمه فيه إليه بلا كيف ولا أين.
وموعظة وذكرى للمؤمنين ليطلبوا الحق من باب لطفه في كل شيء ولا يطلبوا من باب قهره.
جزء : 4 رقم الصفحة : 204
اطلبوا الأرزاق من أسبابها
ادخلوا الأبيات من أبوابها
204
وقل للذين لا يؤمنون بطلب الحق ووجدانه اعملوا على مكانتكم في طلب المقاصد من باب قهر الحق تعالى.
إنا عاملون في طلب الحق من باب لطفه وانتظروا قهر الحق من باب قهره إنا منتظرون وجدان الحق من باب لطفه وقد ثبت عند أهل التحقيق أن الوجود العيني تابع لعلم الله تعالى وهو تابع للمعلوم الذي هو عين ثابتة لكل فرد من أفراد الإنسان ، وهم قد سألوا بلسان الاستعداد في تلك المرتبة ، أي : حين كونهم أعياناً ثابتة كل مالهم وعليهم فسلوكهم في هذه النشأة إلى طريق الأعمال القهرية ودقهم باب الجلال الإلهي إنما هو من نتائج استعداداتهم ومقتضيات أسئلتهم السابقة ، وقس عليه أهل اللطف والجمال ، وكما أن الله تعالى نصر أنبيائه كذلك ، ينصر أولياءه وصالح المؤمنين ، ويفتح عليهم أبواب لطفه وكرمه ، ويؤيدهم ويثبتهم ويحفظهم من تزلزل الأقدام بحسب مراتبهم ، ويدفع عن قلوبهم الألم وإنما الألم ، من فقدان العيان يحكى أن شاباً ضرب تسعة وتسعين سوطاً فما صاح ولا استغاث إلا في واحدة بعدها فتبعه الشبلي رحمه الله فسأله عن أمره ، فقال : إن العين التي ضربت من أجلها كانت تنظر إليّ في التسعة والتسعين وفي الواحدة حجبت عني.
وفي المثنوى :
هركجا باشد شه مارا بساط
هست صحرا اكر بود سم الخياط
هركجا يوسف رخى باشد وماه
جنتست آن كره باشد قعر ام
فالكلام إنما هو في كون المرء مع الحق وشهوده في كل وقت.
ولله اللام للاختصاص غيب السموات والأرض الغيب في الأصل مصدر وإضافة المصدر من صيغ العموم والإضافة بمعنى في أي يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه فكيف يخفى عليه أعمالكم وإليه تعالى وحده يرجع الأمر كله بضم الياء وفتح الجيم بمعنى يرد وبفتح الياء وكسر الجيم بمعنى يعود عواقب الأمور كلها يوم القيامة فيرجع أمرك يا محمد وأمر الكفار إليه فينتقم لك منهم فاعبده أي أطعه واستقم على التوحيد وتوكل عليه فوض إليه جميع أمورك فإنه كافيك وعاصمك من شرهم فعليك تبليغ ما أوحينا إليك بقلب فسيح غير مبال بعدواتهم وعتوهم وسفههم وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعار بأنه لا ينفع بدونها وما ربك بغافل عما تعملون وكل عمل تعمله أنت وهم أي الكفار فالله تعالى عالم به غير غافل عنه لأن الغفلة والسهو لا يجوزان على من لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض فيجازي كلا منك ومنهم بموجب الاستحقاق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 204
وعن كعب الأحبارأن فاتحة التوراة سورة الأنعام وخاتمتها هذه الآية وهي : ولله غيب السموات والأرض الخ.
اعلم أن علم الغيوب بالذات مختص بالله تعالى وأما أخبار الأنبياء والأولياء صلوات الله عليهم أجمعين فبواسطة الوحي والإلهام وتعليم الله تعالى.
ومن هذا القبيل إخباره عليه السلام عن حال العشرة المبشرة.
وكذا عن حال بعض الناس.
وعن محمد بن كعب أنه قال : قال رسول الله : إن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة فدخل عبد الله بن سلام فقام إليه الناس من أصحاب رسول الله فأخبروه بذلك قالوا : لو أخبرتنا بأوثق عمل ترجو به فقال : إني ضعيف وإن أوثق ما أرجو به سلامة الصدر وترك ما لا يعني.
وكذا إخباره عليه السلام
205
عن أشراط الساعة وما يظهر في آخر الزمان من غلبة البدع والهوى وإماتة الصلاة وأتباع الشهوات.
وعن سيد الطائفة جنيد البغدادي رحمه الله قال لي خالي سري السقطي : تكلم على الناس وكنت اتهم نفسي في استحقاق ذلك ورأيت النبي عليه السلام وكان ليلة الجمعة فقال : تكلم على الناس ، فانتبهت وأتيت بابه العامي فقال : لم تصدقنا حتى قيل لك : فقعدت من غد للناس أي بطريق العظة والتذكير فقعد علي غلام نصراني متنكراً وقال : أيها الشيخ ما معنى قوله عليه السلام : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله قال فاطرقت رأسي ورفعت فقلت : أسلم فقد حان وقت إسلامك فأسلم الغلام ، فمثل هذا العلم والوقوف على أحوال الناس لا يحصل إلا بإخبار الله تعالى وإلا فكل ولي متحير في أمره وأمر غيره كما قال المولى الجامي :
اي دل توكه آن فضولي وبو العجبي
از من ه نشان عافيت مي طلبي
سر كشته بود خواه ولى خواه نبي
در وادي ما أدري ما يفعل بي
ثم إن التوكل عبارة عن الاعتصام به تعالى في جميع الأمور ، ومحله القلب وحركة الظاهر لا تنافي توكل القلب بعد ما تحقق عند العبد أن التقدير من قبل الله تعالى ، فإن تعسر شيء فبتقديره فالواجب على كافة العباد أن يعبدوا الله تعالى ويعتمدوا عليه كل الاعتماد لا على الجاه والعقل والأموال والأولاد فإن الله تعالى خالق كل مخلوق ورازق كل مرزوق وفي الحديث : ما من زرع على الأرض ولا ثمر على الأشجار إلا وعليه مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم هذا رزق فلان ابن فلان وفي الحديث : خلق الله الأرزاق قبل الأجساد بألف عام فبسطها بين السماء والأرض فضربتها الرياح فوقعت في مشارق الأرض ومغاربها ، فمنهم من وقع رزقه في ألف موضع ، ومنهم من وقع في مائة ، ومنهم من وقع على باب داره يغدو ويروح حتى يأتيه.
قال المولى الجامي قدس سره :
جزء : 4 رقم الصفحة : 204
حرص ه ورزى كه نبودت اوسود
هي دوشش كرد دوهشت تونه
رنج طلب راهمه برخود مكير
يطلبك الرزق كما تطلبه
وأفضل العبادات في مقام التوكل هو التوكل ، وفي مقام الرضى هو الرضى ، وفي مقام الفناء هو الفناء ، وعلى هذا ، ثم إن العبادة وإن كثرت أنواعها ، ولكن العبادة في الحقيقة ترك العادات ومخالفة النفس بالمجاهدات ، والانقطاع عما سوى الله تعالى حتى يترقى العبد من مقام العبادة إلى مقام العبودية ، ولا يحصل ذلك إلا بكمال التوحيد وكمال التوحيد لا يحصل إلا بالمداومة للعبادات والملازمة إلى ذكر الله تعالى في جميع الحالات.
يا رب ز دوكون بي نيازم كردان
واز افسر فقر سر فرزم كردان
درراه طلب محرم رازم كردان
زان ره كه نه سوى تست بازم كردان
والله ولى التوفيق وإليه تعود العواقب على التحقيق.
206
جزء : 4 رقم الصفحة : 204(4/131)
تفسير سورة يوسف
وهي مكية وآيها مائة وإحدى عشرة على ما هو المضبوط
روى عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن رسول أنه قال : علموا أرقاءكم سورة يوسف فإنه أيما مسلم أملاها وعليها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوة وأن لا يحسد مسلماً كذا في تفسير التبيان وذلك إن يوسف عليه السلام ابتلى بحسد الأخوان وشدائد البئر والسجن فأرسل الله تعالى جبرائيل فسلاه وهون عليه تلك الشدائد بإيصاله إلى مقام الأنس والحضور ، ثم أعطاه القوة والعزة والسلطنة فآل أمره إلى الصفاء بعد أنواع الجفاء فمن حافظ على تلاوة سورة يوسف وتدبر في معانيها ، وصل إلى ما وصل يوسف من أنواع السرور كما قال ابن عطاء رحمه الله تعالى : لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح كما في تفسير الكواشي نسأل الله الراحة من جميع الحواشي روى أن أحبار اليهود قالوا لرؤساء المشركين سلوا محمداً لماذا انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف ففعلوا ذلك فنرلت هذه السورة الر أي أنا الله أرى وأسمع سؤالهم إياك عن هذه القصة ويقال أنا الله أرى صنيع أخوة يوسف ومعاملتهم معه.
ويقال أنا الله أرى ما يرى الخلق وما لا يرى الخلق.
ويقال الر تعديد للحروف على سبيل التحدي فلا محل له من الأعراب أو خبر مبتدأ محذوف أي هذه السورة الر اي مسماة بهذا الاسم.
يقول الفقير أصلحه الله القدير : الحروف المقطعة من الأسرار المكتومة التي يحرم إفشاؤها لغير أهلها.
وقول بعضهم هذه الحروف من المتشابهات القرآنية لا يعلم معانيها إلا الله سلوك إلى الطريق الأسلم وتسليم للأمر إلى أهله ، وليس ببعيد من كرم الله تعالى أن يفيض معانيها على قلوب الكمل لكنهم إنما يرمزون بها ويشيرون بغير تصريح بحقائقها صونا للعقول الضعيفة وحفظاً للعهد المأخوذ منهم.
قدر كوهر و كوهرى داند
ه نهى در دكان خرده فروش
قال الحافظ :
قيمت در كرانما يه ه دانند عوام
حافظاً كوهر يكدانه مده جز بخواص
وعن علي رضي الله عنه : لو حدثتكم ما سمعته من فم أبي القاسم لخرجتم من عندي وتقولون إن علياً أكذب الكذابين وأفسق الفاسقين كما في شرح المثنوى.
قال حضرت الشيخ العطار قدس سره.
دلى ر كوهر أسرار دائم
ولى اندر زبان مسمار دارم
وقال حضرة مولانا قدس سره :
هركه را أسرار كار آمو ختند
مهر كردند ودهانش دوختند(4/132)
جزء : 4 رقم الصفحة : 207
وكون هذه الحروف المبسوطة مما ليس لها وضع لغوي أو عرفي معلوم ، لا ينافي أن يكون لها معان حقيقية في الحقيقة ، فإن الواضع هو الله تعالى فيحتمل أنه وضع لها معاني معلومة لخلص عباده ، بل الاحتمال مرفوع حيث إن نزول حرف التهجي على أبينا آدم عليه السلام
207
يحقق موضعيتها ، فقول العلماء إنها تعديد على نمط التحديد ليس له كثير معنى فافهم جداً ، وفي الحديث : سألني ربي أي : ليلة المعراج فلم استطع أن أجيبه فوضع يده بين كتفي بلا تكييف ولا تحديد أي يد قدرته لأنه سبحانه منزه عن الجارحة فوجدت بردها فأورثني علوم الأولين والآخرين وعلمني علوماً شتى ، فعلم أخذ عليّ كتمانه ؛ إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري وعلم خيرني فيه وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي وهي الأنس والجن والملك كما في إنسان العيون.
تلك السورة وأشير إليها بما يشير إلى البعيد لأنه وصل من المرسل إلى المرسل فصار كالمتباعد ، أو لأن الإشارة لما كانت إلى الموجود في الذهن أشير به إيماء إلى بعده عن حيز الإشارة لما إنها تكون بمحسوس مشاهد وهو مبتدأ خبره قوله : آيات الكتاب أي : القرآن المبين من أبان بمعنى بان أي وضح وظهر أي الظاهر أمره في كونه من عند الله تعالى وفي إعجازه ، أو بمعنى بين وأوضح أي المبين لما فيه من الأحكام والشرائع وخفايا الملك والملكوت وأسرار النشأتين وغير ذلك من الحكم والمعارف والقصص.
وفي بحر العلوم الكتاب المبين هو اللوح وإبانته أنه قد كتب وبين فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه إبانة ولما وصف الكتاب بما يدل على الشرف الذاتي عقب ذلك بما يدل على الشرف الإضافي فقيل :
جزء : 4 رقم الصفحة : 207
.
{إِنَّآ أَنْزَلْنَـاهُ} أي : الكتاب المتضمن قصة يوسف وغيرها في حال كونه قرآناً عربياً بلغتكم ، فعربياً نعت لقرآنا نعت نسبة ، لا نعت لزوم ، لأنه كان قرآناً قبل نزوله فلما نزل بلغة العرب نسب إليها كما في الكواشي.
وقرآناً حال موطئة ، أي توطئة للحال التي هي عربياً لأنه في نفسه لا يبين الهيئة وإنما بينها للغير وهي ما يتبعها من الصفة فإن الحال الموطئة اسم جامد موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة فكأن الاسم الجامد وطأ الطريق لما هو حال في الحقيقة بمجيئه قبلها موصوفاً بها كما في شرح الكافية للعلامة.
لعلكم تعقلون أي : لكي تفهموا معانيه وتحيطوا بما فيه وتطلعوا على أنه خارج عن طوق البشر ، منزل من عند خلاق القوى والقدر ، والعقل إدراك معنى الكلام والعلة على التشبيه والاستعارة ، فإن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض عند أهل السنة.
وقال في بحر العلوم : لعل مستعار لمعنى الإرادة لتلاحظ العرب معناه أو معنى الترجي أي أنزلنا قرآنا عربياً إرادة أن تعقله العرب ويفهموا منه ما يدعوهم إليه فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا لنبيهم ما خوطبنا به كما قال : ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته}(فصلت : 44).
وفي "التأويلات النجمية" : {الر يشير بألف إلى الله وباللام إلى جبريل وبالراء إلى الرسول ، أي ما أنزل الله تعالى على لسان جبريل على قلب الرسول دلالات الكتاب من المحبوب إلى المحب ليهتدي المحب بالبيان طريق الوصول إلى المحبوب إنا كسوناه للقراءة كسوة العربية لعلكم تعقلون حقائق معانيه وأسراره ومبانيه وإشاراته بها إذ هي لغتكم ، كما أنزلنا التوراة على أهلها بلغة العبري ، والإنجيل بلغة السرياني ، يشير به إلى أن حقيقة كلام الله تعالى منزهة في كلاميته عن كسوة الحروف والأصوات واللغات ولكن الخلق يحتاجون في تعقل معانيه إلى كسوة الحروف واللغات.
وفي الآيات دليل على شرف اللسان العربي وفي كلام الفقهاء العرب أولى الأمم لأنهم المخاطبون أولاً والدين عربي ، وفي
208
الحديث : أحب العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي وفي الحديث : إن لواء الحمد يوم القيامة بيدي وإن أقرب الخلق من لوائي يومئذٍ العرب وفي الحديث : إذا ذلت العرب ذل الإسلام وفي الحديث : إن الله حين خلق الخلق بعث جبريل فقسم الناس قسمين : قسم العرب قسماً ، وقسم العجم قسماً وكانت خيرة الله في العرب ، ثم قسم العرب قسمين قسم اليمن قسماً ، وقسم مضر قسماً وكانت خيرة الله في مضر وقسم مضر قسمين فكانت قريش قسماً وكانت خيرة الله في قريش ، ثم أخرجني من خير من أنا منه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 208
تازىء يثربى لقب مكى هاشمي نسب
معتكف سراى وحى امى امتي سراى
(4/133)
يقول الفقير : ولكون رسول الله عربياً جاء وارثه الأكمل من العرب ، وهو حضرة الشيخ الأكبر والمسك الأذفر والكبريت الأحمر محيي الدين بن عربي قدس الله نفسه الزاكية ، وإنما قلت بكونه الوارث الأكمل لكونه خاتمة الولاية الخاصة المحمدية فهو من أكمل مظاهر هذه المرتبة وفيه ظهر التفضيل الذي لم يظهر في غيره ومن عداه طفيلي مائدته في هذا الباب وبهذا المعنى نصرح به ولا نكني وليمت المنكر بغيظه وغضبه ونعوذ بالله من سوء الاعتقاد.
نحن نقص عليك نخبرك ونحدثك.
وبالفارسية (ما ميخوا نيم برتو) من قصى أثره إذا اتبعه لأن من يقص الحديث ويرويه يتبع ما حفظ منه شيئاً فشيئاً كما يقال تلا القرآن إذا قرأه لأن من يتلو يتبع ما حفظ منه آية بعد آية.
أحسن القصص مفعول به لنقص على أن يكون القصص مصدراً بمعنى المقصوص أي نبين لك أحسن ما يقص من الأنباء والأحاديث وهو قصة آل يعقوب والظاهر أنه أحسن ما يقص في بابه كقولك فلان أعلم الناس وأفضلهم تريد في فنه كما في بحر العلوم أي فلا يلزم أن يكون أحسن من قصة سيد الكونين والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين ويمكن أن يقال قد يراد بافعل الزيادة من وجه كما في قوله تعالى : {أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} (الزخرف : 48) كما في "حواشي" سعدى المفتي قال محيي السنة سمى الله قصة يوسف أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدين والدنيا من سير الملوك والمماليك ، ومكر النساء ، والصبر على أذى الأعداء ، والتجاوز عنهم بعد الاقتدار وغير ذلك من الفوائد.
وقال بعضهم : لأن يوسف عليه السلام كان أحسن أبناء بني إسرائيل ونسبه أحسن الأنساب كما قال صلى الله عليه وسلّم "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" والكرم اسم جامع لكل ما يحمد به ، واجتمع في يوسف مع كونه ابن ثلاثة أنبياء متراسلين شرف النبوة وحسن الصورة وعلم الرؤيا ورياسة الدنيا وحياطة الرعايا في القحط والبلايا فأي رجل أكرم من هذا؟.
وقال بعضهم : لأن دعاءه كان أحسن الأدعية توفني مسلماً وألحقني بالصالحين وهو أول من تمنى لقاء الله تعالى بالموت.
غافلان ازموت مهلت خواستند
عاشقان كفتند نى نى زود باش
وتزويجه أحسن التزويج ، وفي قصة تزويجه صفة فرقة ووصلة ، وصلة وغربة ، وتلطيف وتعنيف وعشق وعاشق ومعشوق ، وحبس وخلاص ، وقيد وعبودية ، وعتق ، وتعارف وتناكر ، وإقبال
209
وفرار ، ونفحة وجذبة ، وإشارة وبشارة ، وتعبير وتفسير ، وتعسير وتيسير ، وأودع في قصته ما لم يودع في غيره من اللطائف وأنواع المعاملات مما يروح الأرواح ويهيج الأشباح.
جزء : 4 رقم الصفحة : 208
يقول الفقير : لا يبعد أن يقال إن قصة يوسف أحسن الأقاصيص السالفة في سورة هود في باب تسلية النبي صلى الله عليه وسلّم وفي نفسها أيضاً إذ ما يتعلق بالمحبوب محبوب وما ينبىء عن الأحسن أحسن كما قال المولى الجامي :
بس دلكش است قصه خوبان وزان ميان
تو يوسفي وقصه تو أحسن القصص
وسيجيء ذكر الملاحة المتعلقة بجناب يوسف وحضرة الرسالة عليهما السلام.
وقال بعضهم : هي أول قصة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهي أوجز لفظاً وأجمع معنى ، مترجمة في الحقيقة عن أسرار الوراثة والخلافة والروح والقلب والقوى وتصفية النفس الأمارة التي ظهرت أولاً في صورة زليخا ثم أسلمت وتزكت وصفت إلى أن وصلت إلى مقام الرضى والامتنان بعدهمها بأماريتها ثم اجتمعت بالروح اليوسفي بعد انقياد قواها في صورة الأخوة.
وقال في "التأويلات النجمية" إنما كانت أحسن القصص لأن لها مناسبة ومشابهة بأحوال الإنسان ورجوعه إلى الله ووصوله إليه وذلك لأنها تشير إلى معرفة تركيب الإنسان من الروح والقلب والسر والنفس وحواسه الخمس الظاهرة وقواه الست الباطنة والبدن وابتلائه بالدنيا وغير ذلك إلى أن يبلغ الإنسان أعلى مراتبه فإشارة يوسف إلى القلب ويعقوب إلى الروح وراحيل إلى النفس وأخوة يوسف إلى القوى والحواس ثم إن القرآن مع اشتماله على مثل هذه القصة البديعة وغيرها من عجائب البيان طعن فيه الكفار لكونهم عن غير أولى الأبصار وفي "المثنوى" :
ون كتاب الله بيامد هم بران
ايننين طعنه زدند آن كافران
كه اساطير است وافسانه نند
نيست تعميقي وتحقيقي بلند
ذكر يوسف ذكر زلف ور مش
ذكر يعقوب وزليخاى غمش
ونعم ما قال حضرة الشيخ السعدي قدس سره :
كسى بديده انكار اكر نكاه كند
نشان صورت يوسف دهدبنا خوبى
وكر بشم ارادت نكه كند درديو
فرشته اش بنمايد بشم كروبى
{بِمَآ أَوْحَيْنَآ} (الشورى : 52) وقوله : {وَوَجَدَكَ ضَآلا} (الضحى : 7) ونحوهما فإن مثل هذا التعبير إنما هو بالنسبة إلى الله تعالى وقد تعارفه العرب من غير أن يخطر ببالهم نقص ويجب علينا حسن الأداء في مثل هذا المقام رعاية للأدب في التعبير وتقرير
210
(4/134)
الكلام مع أن الزمان وأهله قد مضى وانقضت الأيام والأنام اللهم اجعلنا فيمن هديتهم إلى لطائف البيان ووفقتهم لما هو الأدب في كل أمر وشأن إنك أنت المنان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 208
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ} أي : اذكر يا محمد وقت قول يوسف وهو اسم عبري ولذا لم ينصرف للعجمة والتعريف ولو كان عربياً لانصرف والعبري والعبراني لغة إبراهيم عليه السلام كما إن السرياني هي اللغة التي تكلم بها آدم عليه السلام.
قال السيوطي السرياني منسوب إلى سريانة وهي أرض الجزيرة التي كان نوح وقومه قبل الغرق فيها وكان لسانهم سريانياً إلا رجلاً واحداً يقال له جرهم وكان لسانه عربياً.
قال في أنوار المشارق : من اللطائف الاتفاقية أن الأسف في اللغة الحزن والأسيف العبد وقد اتفق اجتماعهما في يوسف لأبيه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
قال بعض من مال إلى الاشتقاق في هذه الأسماء : إنما سمى يعقوب ؛ لأن يعقوب وعيصا كانا توأمين فاقتتلا في بطن أمهما حيث أراد يعقوب أن يخرج فمنعه عيص وقال : لئن خرجت قبلي لاعترضن في بطن أمي فلاقتلنها فتأخر يعقوب ، فخرج عيص فأخذ يعقوب بعقب عيص فخرج بعده فلهذا سمى به ، وسمى الآخر عيصاً لما عصى وخرج قبل يعقوب ، وكان عيص رجلاً أشعر ، وكان يعقوب أجرد ، وكان عيص أحبهما إلى أبيه ، وكان يعقوب أحبهما إلى أمه وكان عيص صاحب صيد وكان يعقوب صاحب غنم فلما كبر إسحاق وعمي قال لعيص يوماً : يا بني ، أطعمني لحم صيد واقترب مني ادع لك بدعاء دعا لي به أبي هو دعاء النبوة ، وكان لكل نبي دعوة مستجابة ، وأخر رسولنا دعاءه للشفاعة العظمى يوم القيامة ، فخرج عيص لطلب صيد فقالت أمه ليعقوب يا بني اذهب إلى الغنم فاذبح منها شاة ثم اشوها والبس جلدها وقدمها إلى أبيك قبل أخيك وقل له أنا ابنك عيص لعله يدعو لك ما وعده لأخيك فلما جاء يعقوب بالشواء قال يا بت كل قال : من أنت؟ قال : أنا ابنك عيص فمسه فقال المس مس عيص والريح ريح يعقوب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 211
يقول الفقير : والأسلم أن يقال إن أمه أحضرت الشواء بين يدي إسحاق وقالت إن ابنك جاءك بشواء فادع له فظن إسحاق أنه عيص فأكل منه ، ثم دعا لمن جاء به أن يجعل الله في ذريته الأنبياء والملوك فذهب يعقوب ، ولما جاءه عيص قال يا أبت قد جئتك بالصيد الذي أردت فعلم إسحاق الحال وقال يا بني قد سبقك أخوك ولكن بقيت لك دعوة فهلم ادعو لك بها فدعا أن يكون ذريته عدد التراب فأعطى الله له نسلاً كثيراً وجملة الروم من ولده روم ، وكان إسحاق متوطناً في كنعان ، وإسماعيل مقيماً في مكة ، فلما بلغ إسحاق إلى مائة وثمانين من العمر وحضرته الوفاة وصى سراً بأن يخرج يعقوب إلى خاله في جانب الشام ، حذراً من أن يقتله أخوه عيص حسداً لأنه أقسم بالله في قصة الشواء أن يقتل يعقوب ، فانطلق إلى خاله ليا بن ناهز ، وأقام عنده وكان لخاله بنتان أحداهما لايا ، وهي كبراهما والأخرى راحيل ، وهي صغراهما فخطب يعقوب إلى خاله بأن يزوجه إحداهما ، فقال له خاله : هل لك مال قال لا ولكن اعمل لك فقال نعم صداقها أن تخدمني سبع سنين فقال يعقوب : أخدمك سبع سنين على أن تزوجني راحيل قال ذلك بيني وبينك فرعى له يعقوب سبع سنين فزوجه الكبرى وهي لايا ، قال له يعقوب إنك خدعتني إنما أردت راحيل فقال له خاله إنا لا ننكح الصغيرة قبل الكبيرة فهلم فاعمل سبع سنين
211
أخرى فازوجك أختها وكان الناس يجمعون بين الأختين إلى أن بعث الله موسى عليه السلام فرعى له سبع سنين أخرى فزوجه راحيل فجمع بينهما وكان خاله حين جهزها دفع إلى كل واحدة منهما أمة تخدمها اسم إحداهما زلفة والأخرى بلهة ، فوهبتا الأمتين ليعقوب ، فولدت لايا ستة بنين وبنتاً واحدة روبيل.
شمعون.
يهودا.
لاوى.
يسجر.
زيالون.
دنية.
وولدت زلفة ابنين دان.
يغثالى.
وولدت بلهة أيضاً ابنين جاد ، آشر ، وبقيت راحيل عاقراً سنين ثم حملت وولدت يوسف وليعقوب من العمر إحدى وتسعون سنة ، وأراد يعقوب أن يهاجر إلى موطن إبيه إسحاق بكل الحواشي ، وكان ليوسف خال له أصنام من ذهب فقالت لايا ليوسف : اذهب واسترق منه صنماً لعلنا نستنفق منه فذهب يوسف فأخذ صنماً.
يقول الفقير : والأسلم أن خاله وهو أبو امرأته جهزه كما في بعض الكتب فخرج وقد رفع الله ما في قلب عيص من العداوة :
كفر ايمان كشت وديو اسلام يافت
آن طرف كان نور بي اندازه يافت
(4/135)
فلما التقيا تعانقا وكانا على المصافاة ، وفي سنة الهجرة حملت راحيل ببنيامين وماتت في نفاسها ويوسف ابن سنتين ، وكان أحب الأولاد إلى يعقوب وحين صار ابن سبع سنين رأى في المنام أن أحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة ، وإذا عصا صغيرة تثبت عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه ، فقال : إياك أن تذكر هذا لأخوتك ثم رأى ليلة الجمعة ، وكانت ليلة القدر وهو ابن ثنتي عشرة سنة أو سبع عشرة ما حكى الله تعالى عنه بقوله : يا أبت (كويند يوسف دركنار در در خواب بودناكاه سراسيمه ازخواب بود نا كاه سراسيمه ازخواب در آمد س يعقوب كفت اي سر تراه رسيد كفت) يا أبت : واصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في أن كل واحدة زيادة مضمومة إلى آخر الاسم ، أو لأن التاء تدل في بعض المواضع على التفخيم كما في علامة ونسابة ، والأب والأم مظنتا التفخيم كما اختاره الرضى.
والمعنى بالفارسية (اي در خواب عجب ديدم).
إني رأيت في المنام فهو من الرؤيا لا من الرؤية لقوله : لا تقصص رؤياك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 211
قال في الكواشي : الرؤيا في المنام والرؤية في العين والرأي في القلب أحد عشر كوكباً والشمس والقمر (من برسر كوهى بلند بودم كه حوالى أو انهار جاري وأشجار سبزبود) وعطف الشمس والقمر على كوكباً تخصيصاً أي لإظهار شرفهما على سائر الطوالع كعطف الروح على الملائكة ثم استأنف على تقدير كيف رأيت فقال رأيتهم لي ساجدين (اين ستار كان ونيرين فرود آمدند ومن در ايشان نكرستم ديدم مرا سجود كنند كان) أي سجدة تحية لا سجدة عبادة.
قال ابن الشيخ : لفظ السجود يطلق على وضع الجبهة على الأرض سواء كان على وجه التعظيم والإكرام أو على وجه العبادة ، ويطلق أيضاً على التواضع والخضوع ، وإنما أجريت مجرى العقلاء في الضمير لوصفها بوصف العقلاء أعني السجود روى عن جابر أن يهودياً جاء رسول الله فقال : أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت النبي عليه الصلاة والسلام فنزل جبريل فأخبره بذلك فقال عليه السلام :
إذا أخبرتك بذلك هل تسلم قال نعم قال عليه السلام : جريان ، والطارق ، والذيال ، وقابس ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والضروح ، والفرغ ، ووثاب ، وذو الكتفين رآها يوسف والشمس
212
والقمر نزلن من السماء وسجدن له فقال اليهودي أي والله إنها لأ سماؤها.
واعلم أن يوسف رأى أخوته في صورة الكواكب ؛ لأنه يستضاء بالأخوة ويهدي كما يهدي بالكواكب ورأى أباه وخالته ليا في صورة الشمس والقمر ، وإنما قلنا خالته ؛ لأن أمه ماتت في نفاس بنيامين كما مر وسجودهم له دخولهم تحت سلطنته وانقيادهم كما سيأتي في آخر القصة.
قال في الإرشاد ولا يبعد أن يكون تأخير الشمس والقمر إشارة إلى تأخر ملاقته لهما عن ملاقاته لأخوته.
والإشارة : بالأحد عشر كوكباً إلى الحواس الخمس الظاهرة ، من السمع والبصر والشم والذوق واللمس والقوى الست الباطنة من المفكرة والمذكرة والحافظة والمخيلة والواهمة والحس لمشترك فإن كل واحدة من هذه الحواس والقوى كوكب مضيء يدرك به معنى مناسب له وهو أخوة يوسف القلب لأنهم تولدوا بازدواج يعقوب الروح وراحيل النفس كلهم بنوا أب واحد.
والإشارة : بالشمس والقمر إلى الروح والنفس ، ومقام كمالية الإنسان أن يكون للقلب سلطان يسجد له الروح والنفس والحواس والقوى كما سجد الملائكة لآدم أي تنقاد وتصير مسخرة مقهورة تحت يده وهذا هو الفتح المطلق الذي أشارت إليه سورة النصر ، وليس لوارث ذا المقام بقاء في الدنيا غالباً أي بعد أن تحقق بحقيقته فافهم ، جداً وكان شيخنا الأجل الأكمل من هذا القسم روح الله روحه ، وأفاض علينا فتوحه ، وهم يختارون المقام عند ربهم إذا وصلوا إلى نهاية مطالبهم كما قال المولى الجامي :
جزء : 4 رقم الصفحة : 211
اكر كنند بمن عرض ديني وعقبي
من آستان توبر هردوجاى بكزينم
والموت أنسب لكونهم في مقام العندية لكون التفصيل البرزخي أكثر من التفصيل الدنيوي وإلا فهم ليسوا في الدنيا ولا في العقبى في حياتهم ومماتهم.
(4/136)
ثم اعلم أن الرؤيا عبارة عن ارتسام صورة المرئي وانتقاشها في مرآة القلب في النوم دون اليقظة ، فالرؤيا من باب العلم ، ولكل علم معلوم ، ولكل معلوم حقيقة ، وتلك الحقيقة صورته ، والعلم عبارة عن وصول تلك الصورة إلى القلب وانطباعها فيه ، سواء كان في النوم أو في اليقظة فلا محل له غير القلب ، ولما كان عالم الأرواح متقدماً بالوجود والمرتبة على عالم الأجسام وكان الأمداد الرباني الواصل إلى الأجسام موقوفاً على توسط الأرواح بينها وبين الحق وتدبير الأجسام مفوض إلى الأرواح ، وتعذر الارتباط بين الأرواح والأجسام للمباينة الذاتية الثابتة بين المركب والبسيط ، فإن الأجسام كلها مركبة ، والأرواح بسيطة فلا مناسبة بينهما فلا ارتباط ، وما لم يكن ارتباط لا يحصل تأثير ولا تأثر ولا امداد ولا استمداد ، فلذلك خلق الله عالم المثال برزخا جامعاً بين عالم الأرواح وعالم الأجسام ليصح ارتباط أحد العالمين بالآخر فيتأتى حصول التأثر والتأثير ووصول الامداد والتدبير ، وهكذا شأن روح الإنسان مع جسمه الطبيعي العنصري الذي يدبره ويشتمل عليه علماً وعملا فإنه لما كانت المباينة ثابتة بين روحه وبدنه وتعذر الارتباط الذي يتوقف عليه التدبير ووصول المدد إليه خلق الله نفسه الحيوانية برزخا بين البدن والروح المفارق ، فنفسه الحيوانية من حيث إنها قوة معقولة هي بسيطة تناسب الروح المفارق ، ومن حيث إنها مشتملة بالذات على قوى مختلفة متكثرة منبثة في أقطار البدن متصرفة بتصرفات مختلفة ومحمولة أيضاً في البخار الضبابي الذي
213
في التجويف الأيسر من القلب الصنوبري تناسب المزاج المركب من العناصر فحصل الارتباط والتأثر والتأثير وتأتى وصول المدد.
وإذا وضح هذا فاعلم أن القوة الخالية التي في نشأة الإنسان من كونه نسخة من العالم بالنسبة إلى العالم المثالي المطلق ، كالجزء بالنسبة إلى الكل ، وكالجدول بالنسبة إلى النهر الذي هو مشرعه ، وكما أن طرف الجدول الذي يلي النهر متصل به كذلك عالم الخيال الإنساني من حيث طرفه الأعلى متصل بعالم المثال.
والمثال نوعان : مطلق ومقيد ، فالمطلق : ما حواه العرش المحيط من جميع الآثار الدنيوية والأخروية ، والمقيد نوعان نوع هو مقيد بالنوم ونوع غير مقيد بالنوم مشروط بحصول غيبة وفتور ما في الحس كما في الواقعات المشهورة للصوفية وأول ما يراه الأنبياء عليهم السلام إنما هو الصور المثالية المرئية في النوم والخيال ، ثم يترقون إلى أن يروا الملك في المثال المطلق أو المقيد في غير حال النوم لكن مع نوع فتور في الحس ، وكونهم مأخوذين عن الدنيا عند نزول الوحي إنما هو مع بقاء العقل والتمييز ولذا لا ينتقض حينئذٍ وضوؤهم ولأنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم لكون بواطنهم محلاة بصفات الله متخلقة بأخلاقه مطهرة عن أوصاف البشرية من الحرص والعجز والأمل والضعف وغير ذلك مما فيه نقص ظاهر بالإضافة إلى ذروة الكمال فضلاً عن النوم لأن النوم عجز وضعف وآفة ، ولو حلت الآفة قلب النبي لجاز أن يحله سائر الآفات من توهم في الوحي وغفلة عنه وسآمة منه وفزع يمنعه عن واجب عليه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 211
قال بعضهم : إن الله قد وكل بالرؤيا ملكاً يضرب من الحكمة الأمثال ، وقد اطلعه الله سبحانه على قصص ولد آدم من اللوح المحفوظ فهو ينسخ منها ويضرب لكل قصة مثلاً ، فإذا نام يمثل له تلك الأشياء على طريق الحكمة لتكون بشارة له أو نذارة أو معاتبة ليكونوا على بصيرة من أمرهم.
وفي شرح الشرعة أن اللوح المحفوظ في المثال كمرآة ظهر فيها الصور ، ولو وضع مرآة في مقابلة أخرى ورفع الحجاب بينهما كانت صورة تلك المرآة تتراىء في تلك والقلب مرآة تقبل رسوم العلوم واشتغاله بشهواته ومقتضى حواسه ، كأنه حجاب مرسل بينه وبين مطالعة اللوح الذي هو من عالم الملكوت ، فإن هبت ريح الرحمة حرك هذا الحجاب ورفع فيتلألأ في مرآة القلب شيء من عالم الملكوت كالبرق الخاطف ، وقد يثبت ويدوم ، وما دام متيقظاً فهو مشغول بما يورده الحس عليه من عالم الشهادة إلا من شاء الله تعالى من المؤيدين من عند الله تعالى فإذا ركدت الحواس عند النوم وتخلص القلب من شغلها ومن الخيال ، وكان صافياً في جوهره ، وارتفع الحجاب وقع في القلب شيء مما في اللوح بحسب صفاته إلا أن النوم لا يمنع الخيال عن عمله وحركته ، فما وقع في القلب من اللوح يبتدره الخيال فيحاكيه بمثال يقاربه وتكون التخيلات أثبت في الحفظ من غيرها فإذا انتبه من النوم لا يتذكر إلا الخيال فيحتاج الرائي إلى معبر لينظر بفراسته أن هذا الخيال حكاية ، أي معنى من المعاني ، ولهذا السرّ كان من السنة لمن يرى في منامه شيئاً أن يقصه على عالم ناصح.
(4/137)
والرؤيا ثلاثة ، أحدها : حديث النفس كمن يكون في أمر أو حرفة يرى نفسه في ذلك الأمر وكالعاشق يرى معشوقه ونحو ذلك ، وثانيها : تخويف الشيطان بأن يلعب بالإنسان فيريه ما يحزنه ومن لعبه به الاحتلام الموجب للغسل ، وهذان لا تأويل لهما ، وثالثها : بشرى من الله تعالى بأن يأتيك ملك الرؤيا من نسخة أم الكتاب
214
يعني من اللوح المحفوظ وهو الصحيح وما سوى ذلك أضغاث أحلام.
قال استئناف مبني على سؤال من قال فماذا قال يعقوب بعد سماع هذه الرؤيا العجيبة؟ فقيل قل يا بني تصغير ابن صغره للشفقة والمحبة وصغر السن ، فإنه كان ابن ثنتي عشرة سنة كما مر ، وأصله يا بنيا الذي أصله يا بني فأبدلت ياء الإضافة الفا كما قيل في يا غلامي يا غلاماً بناء على أن الألف والفتحة أخف من الياء والكسرة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 211
قال في الإرشاد : ولما عرف يعقوب من هذه الرؤيا أن يوسف يبلغه تعالى مبلغاً جليلاً من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه الكرام خاف عليه حسد الأخوة وبغيهم فقال صيانة لهم من ذلك ، وله من معاناة المشاق ومقاساة الأحزان ، وإن كان واثقاً من الله تعالى بأن سيتحقق ذلك لا محالة وطمعاً في حصوله بلا مشقة.
لا تقصص (مخوان ويدامكن) رؤيك كلا أو بعضاً على إخوتك وهم بنوا علاته العشرة كما هو المشهور إذ عدّ دنية من الرجال سهو فإن الأصح إنها بنت ليا ، كما سبق ، فقوله في تفسير الإرشاد المراد بإخوته ههنا الذين يخشى غوائلهم ومكايدهم من بني علاته الأحد عشر.
وأما بنيامين الذي هو شقيق يوسف وأمهما راحيل فليس بداخل تحت هذا النهي ؛ لأنه لا يتوهم مضرته ولا يخشى معرته ولا يكن معهم معدوداً في الرؤيا إذ لم يكن معهم في السجود ليوسف انتهى ليس بوجيه ، بل ليس بسديد ، إذ ليس في الأخوة من يسمى دنية كما في حواشي سعدي المفتي ، ولا يلزم من عدم كون بنيامين داخلاً معهم في الرؤيا أن لا يكون منهم باعتبار التغليب فهو حادي الأحد عشر.
فيكيدوا نصب بإضمار أن أي : فيفعلوا لك أي : لأجلك ولإهلاكك كيدا خفياً عن فهمك لا تقدر على مدافعته وهذا أوفق بمقام التحذير ، وإن كان يعقوب يعلم أنهم ليسوا بقادرين على تحويل ما دلت الرؤيا على وقوعه والكيد الاحتيال للاغتيال ، أو طلب إيصال الشر بالغير وهو غير عالم به.
إن الشيطان للإنسان عدو مبين استئناف كأن يوسف قال كيف يصدر ذلك عن إخوتي الناشئين في بيت النبوة؟ فقيل : إن الشيطان ظاهر العداوة للإنسان أو مظهرها قد بانت عداوته لك ولأبناء جنسك إذ اخرج أبويكم آدم وحواء من الجنة ، ونزع عنهما لباس النور ، وحلف إنه ليعلمن في نوع الإنسان كل حيلة وليأتينهم من كل جهة وجانب ، فلا يزال مجتهداً في إغواء إخوتك وإضلالهم وحملهم على الأضرّ : فبه علم أنهم يعلمون تأويلها فقال ما قال.
قال بعض العارفين : برأ أبناءه من ذلك الكيد فالحقه بالشيطان لعلمه أن الأفعال كلها من الله تعالى ، ولما كان الشيطان مظهراً لاسم المضل أضاف الفعل السببي إليه وهذه الإضافة أيضاً كيد ومكر ، فإن الله تعالى هو الفاعل في الحقيقة لا المظهر الشيطاني :
حق فاعل وهره جز حق آلات بود
تأثير زآلت از محالات بود
جزء : 4 رقم الصفحة : 211
{وَكَذَالِكَ} أي مثل اجتبائك واختيارك من بين أخوتك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبرياء شأنك فالكاف في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف يجتبيك ربك يختارك ويصطفيك لما هو أعظم منها كالنبوة ويبرز مصداق تلك الرؤيا في عالم الشهادة إذ لا بد لكل صورة مرئية في عالم المثال حقيقة واقعة في عالم الشهادة وإن كانت الدنيا كلها خيالاً كما سيأتي تحقيقه.
215
خيال جمله جهانرا بنور شم يقين
بجنب بحر حقيقت سراب مى بينم
ويعلمك كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل وهو يعلمك ؛ لأن الظاهر أن يشبه الاجتباء بالاجتباء والتعليم غير الاجتباء فلو كان داخلاً في حكم التشبيه كان المعنى ويعلمك تعليماً مثل الاجتباء بمثل هذا الرؤيا وظاهر سماجته ؛ فإن الاجتباء وجه الشبه بين المشبه والمشبه به ولم يلاحظ في التعليم ذلك كذا قالوا.
يقول الفقير : هذا هو منهما نعمة جسيمة من الله تعالى كما يدل عليه مقام الامتنان فلا سماجة من تأويل الأحاديث أي : ذلك الجنس من العلوم فتطلع على حقيقة ما أقول فإن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا لا بد من توفيقه لتعبيرها فإن علم التعبير من لوازم الاجتباء غالباً.
(4/138)
والمراد بتأويل الأحاديث تعبير الرؤى جمع الرؤيا ؛ إذ هي إما أحاديث الملك إن كانت صادقة أو أحاديث النفس والشيطان إن لم تكن كذلك ، وتسميتها تأويلاً لأنه يؤول أمرها إليه أي يرجع إلى ما يذكره المعبر من حقيقتها ، والأحاديث اسم جمع للحديث ومنه أحاديث الرسول والحديث في اللغة الجديد ، وفي عرف العامة الكلام وفي عرف المحدثين ما يحدث عن النبي عليه السلام فكأنه لوحظ فيه مقابلة القرآن إذ ذاك قديم وهذا حادث.
وفي الصحاح الحديث ضد القديم ويستعمل في قليل الكلام وكثيره لأنه يحدث شيئاً فشيئاً.
ويتم نعمته عليك يا يوسف يجوز أن يتعلق بقوله يتم وأن يتعلق بنعمته أي بأن يضم إلى النبوة المستفادة من الاجتباء الملك ويجعله تتمة لها وتوسيط التعليم لرعاية الوجود الخارجي.
وعلى كرر على ليمكن العطف على الضمير المجرور.
آل يعقوب الآل وإن كان أصله الأهل إلا أنه لا يستعمل إلا في الأشراف بخلاف الأهل وهم أهله من بيته وغيرهم ، فإن رؤية يوسف أخوته كواكب يهتدى بأنوارها من نعم الله عليهم لدلالتها على مصير أمرهم إلى النبوة فيقع كل ما يخرج من القوة إلى الفعل إتماماً لتلك النعمة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 215
وقال سعدي المفتي غاية ما تدل رؤيتهم على صور الكواكب مجرد كونهم هادين للناس ولا يلزم أن يكون ذلك بالنبوة والظاهر أنه عليه السلام علم ذلك بالوحي انتهى.
يقول الفقير : لعل يعقوب انتقل من كونهم على صور الكواكب إلى نبوتهم لأن الفرد الكامل للهداية أن يكون ذلك بالنبوة ولذلك قد قال الله تعالى في حق الأنبياء.
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}(الأنبياء : 73) فاعرف ذلك.
{كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ} نصب على المصدرية ، أي : ويتم نعمته عليك إتماماً كائناً كإتمام نعمته على أبويك وهي نعمة الرسالة والنبوة.
من قبل أي : من قبل هذا الوقت أو من قبلك.
إبراهيم وإسحاق عطف بيان لأبويك والتعبير عنهما بالأب مع كونهما أبا جده وأبا أبيه للأشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء الكرام.
قال في الكواشي الجد أب في الأصالة يقال فلان ابن فلان وبينهما عدة آباء انتهى.
أما إتمامها على إبراهيم فباتخاذه خليلاً وبانجائه من النار ومن ذبح الولد ، وأما على إسحاق فبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه ، وكل ذلك نعم جليلة وقعت تتمة لنعمة النبوة ولا يجب في تحقيق التشبيه كون ذلك في جانب المشبه به مثل ما وقع في جانب المشبه في كل وجه.
والإشارة أن إتمام النعمة على يوسف القلب بأن يتجلى له ويستوى عليه إذ هو عرش حقيقي للرب تعالى دون ما سواه كما قال تعالى : لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن :
216
دردل مؤمن بكنجم اي عجب
كرمرا جوئى دران دلها طلب
ولهذا الاستحقاق كان يوسف القلب مختصاً بكمال الحسن ، وإذا تجلى الله تعالى للقلب تنعكس أنوار التجلي من مرآة القلب على جميع المتولدات من الروح كالحواس والقوى وغيرهما من آل يعقوب الروح.
إن ربك أي : يفعل ما ذكر لأن ربك عليم أي : عليم حكيم أي : حكيم وهو معنى مجيئهما نكرتين ، أي واسع العلم باهر الحكمة يعلم من يحق له الاجتباء ولا يتم نعمته إلا على من يستحقها ، أو يفعل كما ما يفعل على مقتضى الحكمة والصواب.
اعلم أن الله تعالى قدم في بعض المواضع الاسم الحكيم على الاسم العليم وعكس في بعضها كما في هذا المقام ، أما الأول فباعتبار حضرة العلم لأن العلم في تعلقه في الأعيان والحقائق العلمية تابع للحكمة ، وذلك عبارة عن كونه تابعاً للمعلوم حيث تعلق به في تلك الحضرة على وجه ما أعطاه إياه من نفسه ، وأما الثاني فهو باعتبار حضرة العين لأن الحكمة في تعلقها بالتعينات والصور المعينة تابعة للعلم ، وهذا عبارة عن كون المعلوم تابعاً للعلم حيث إنما تعلقت بها في هذه الحضرة على وجه ما أعطاه العلم إياها من نفسه على الوجه الأول ، فلا جرم أن المتبوع في أية مرتبة كان له التقدم ، والتابع كذلك له التأخر جداً ، ولا شك أن المعتبر إنما هو تقدم المعلومات على تعلق العلم بها بالذات في الحضرة الأولى ، وتأخرها عنه في الثانية ، والحكمة إنما هي ترتب تلك المعلومات في مراتبها ووضعها في مواضعها في أية حضرة كانت ، وهذا الترتيب والوضع في أي : مرتبة كان إذا وقع من الحكيم العليم والعليم الحكيم بحسب اقتضاآت استعداداتها الكلية الأزلية وبقدر استدعاآت قابليتها الجزئية الأبدية في النشآت الدنيوية والبرزخية والنشرية والحشرية والنيرانية والجنانية والجسمانية والروحانية وغير ذلك من سائر النشاآت فافهم هداك الله إلى الفهم عن الله كذا في بعض تحريرات شيخنا الأجل ومرشدنا الأكمل قدس الله نفسه الزاكية وروح روحه في جميع المواطن كلها آمين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 215
(4/139)
{لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} أي بالله قد كان في قصة يوسف وحكاية إخوته الأحد عشر.
آيات علامات عظيمة الشأن دالة على قدرة الله القاهرة وحكمته الباهرة للسائلين لكل من سأل عن قصتهم وعرفها فإن كبار أولاد يعقوب بعد ما اتفقوا على إذلال أصغر أولاده يوسف وفعلوا به ما فعلوا قد اصطفاه الله للنبوة والملك وجعلهم خاضعين له منقادين لحكمه وإن وبال حسدهم له قد انقلب عليهم وهذا من أجل الدلائل على قدرة الله القاهرة وحكمته الباهرة.
وفي التفسير الفارسي (آورده اندكه ون يوسف خواب مذكوررا بادر تقرير كرد ويعقوب بكتمان آن وصيت فرمود وباجتباء واتمام نعمت أو مده داد بعض اززنان برادران او شنودند ونمازشام كه ايشان بخانه باز آمدند صورت حال را بازنمودند ايشانرا عرق حسد در حركت آمد بتدبير مهم مشغول شدند).
وقال يهودا وروبيل وشمعون : ما رضي أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه فدبروا لإخراجه من البين كما حكى الله عنهم بقوله :
إذ قالوا (يا دكن آنراكه كفتند برادران يوسف بايكديكر) ليوسف (هرآينه يوسف) فلام الابتداء لتحقيق مضمون الجملة وتأكيده أي إن زيادة محبته لهما أمر محقق ثابت لا شبهة فيه وأخوه أي : شقيقه بنيامين والشقيق الأخ من الأب والأم وقد يقال للأخ
217
لأب شقيق كأنه شق معك ظهر أبيك وللأخ من الأم لأنه شق معك بطن أمك.
وفي القاموس الشقيق كأمير الأخ كأنه شق نسبه من نسبه انتهى.
وإنما لم يذكر باسمه تلويحاً بأن مدار المحبة أخوُّته ليوسف من الطرفين الأب والأم فالمآل إلى زيادة الحب ليوسف ، ولذلك دبروا لقتله وطرحه ولم يتعرضوا لبنيامين أحب إلى أبينا منا أحب أفعل تفضيل مبني من المفعول شذوذاً ، وحد الخبر مع تعدد المبتدأ لأن أفعل من كذا لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ولا بين المذكر والمؤنث ، لأن تمامه بمن ، ولا يثنى اسم التفضيل ولا يجمع ولا يؤنث قبل تمامه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 217
قال بعض العارفين : مال يعقوب إلى يوسف لظهور كمال استعداده الكلي في رؤياه حين رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين فعلم أبوه من رؤياه أنه يرث أباه وجده ويجمع استعدادات إخوته فكان يضمه كل ساعة إلى صدره ولا يصبر عنه فتبالغ حسدهم حتى حملهم على التعرض له ، وقيل لأن الله تعالى أراد ابتلاءه محبته إليه في قلبه ثم غيبه عنه ليكون البلاء أشد عليه لغيرة المحبة الإلهية ، إذ سلطان المحبة لا يقبل الشركة في ملكه ، والجمال والكمال في الحقيقةتعالى ، فلا يحتجب أحد بما سواه ، ولا كيد أشد من كيد الولد ألا ترى أن نوحاً عليه السلام دعا على الكفار فاغرقهم الله تعالى فلم يحترق قلبه فلما بلغ ولده الغرق صاح ولم يصبر وقال إن ابني من أهلي}(هود : 45) {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي : والحال أنا جماعة قادرون على الحل والعقد أحقاء بالمحبة ، وما معنى اختيار صغيرين ضعيفين على العشرة الأقوياء والعصبة والعصابة العشرة من الرجال فصاعداً وسموا بذلك لأن الأمور تعصب بهم وتشتد ، والنفر ما بين الثلاثة إلى الخمسة والرهط ما بين الخمسة إلى العشرة.
إن أبانا في ترجيحهما علينا في المحبة مع فضلنا عليهما وكونهما بمعزل من الكفاية بالصغر والقلة.
لفي ضلال أصل الضلال العدول عن القصد أي ذهاب عن طريق التعديل اللائق وتنزيل كل منا منزلته مبين ظاهر الحال نظروا إلى صورة يوسف ولم يحيطوا علما بمعناه فقالوا ما قالوا ولم يعرفوا أن يوسف أكبر منهم بحسب الحقيقة.
وفي المثنوى :
عارفي رسيد ازان ير كشيش
كه تواى خواجه مسنن ترياك ريش
كفت نى من يش ازو زائيده ام
بي زريشى بس هانرا ديده ام
كفت ريشت شد سفيد از حال كشت
خوى زشت تو نكر ديده است وشت
او س ازتو زاد وازتو بكذريد
تونين خشكى زسوداى ثريد
توبدان رنكى كه اول زاده
يك قدم زان يشتر ننهاده
همنان دوغى ترش درمعدنى
خود نكردى زو مخلص روغنى
قال في الكواشي : لا وقف من السائلين إلى صالحين لأن الكلام جملة محكية عنهم انتهى.
أي للتعلق المعنوي بين مقدم الكلام ومؤخره إلا أن يكون مضطراً بأن ينقطع نفسه فحينئذٍ يجب عليه أن يرجع إلى ما قبله ويوصل الكلام بعضه ببعض فإن لم يفعل أثم كما في بعض شروح الجزري وقرىء مبين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 217
{اقْتُلُوا يُوسُفَ} بكسر وضم والمشهور الكسر ، وجه الضم التبعية لعين الفعل وهي مضمومة.
فإن قلت : الحسد من أمهات الكبائر لا سيما وقد أقدموا بسبب ذلك على القتل
0
ونحوه وكل ذلك ينافي العصمة والنبوة.
قلت : المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حصول النبوة فأما ما قبلها فذلك غير واجب كذا أجاب الامام.
وفي شرح العقائد : الأنبياء معصومون من الكفر قبل الوحي وبعده بالإجماع وكذا من تعمد الكبائر انتهى.
(4/140)
(درتيسير آورده كه ون شيطان ابن كلمات از ايشان استماع كرد بصورت يرى رشان ظاهر شد وكفت يوسف ميخواهدكه شمارا ببندكى كيرد كفتنداى ير تدبير يست كفت اقتلوا يوسف) أو اطرحوه أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران ليهلك فيها أو يأكله السباع وهو معنى تنكيرها وإبهامها لا أن معناه ، أي أرض كانت ، ولذلك نصبت نصب الظروف المبهمة وهي ما ليس له حدود تحصره ولا أقطار تحويه.
وفيه إشارة إلى أن التغريب يساوي القتل كما في قوله تعالى : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا}(الحشر : 3) فسلاطين الزمان كأنهم قاتلون العلماء لا سيما المشايخ منهم بتغريبهم وإقصائهم إلى البلاد البعيدة وتفريقهم من أولادهم واتباعهم ، وذلك لكونه من غير سبب موجب غالباً أصلحنا الله تعالى وإياهم {يَخْلُ} بالجزم جواب للأمر ، أي : يخلص لكم وجه أبيكم فيقبل عليكم بكليته ولا يلتفت عنكم إلى غيركم وتتوفر محبته فيكم فذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم ؛ لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه ، ويجوز أن يراد بالوجه الذات وتكونوا بالجزم عطف على يخل من بعده من بعد يوسف ، أي : من بعد الفراغ من أمره.
قوماً صالحين صلحت حالكم عند أبيكم أو تائبين إلى الله تعالى مما جئتم (واين نيز زمكائد إبليس بودكه ناشكيبان باديه آرزورا ازروى تسويف ميكويد مصراع امروز كنه كنيد وفردا توبه آخر تأمل ميكندكه عذر فردارا عمر فردا مى بايد وبر عمر اعتمادي نيست) :
كار امروز بفردا نكذارى زنهار
اسم الكتاب : روح البيان
كه و فردا برسد نوبت كارد كرست
يقول الفقير : أما قول بعض الحكماء : هكذا يكون المؤمن يهيىء التوبة قبل المعصية فمعناه أن يصمم التوبة على ما سيصدر عنه من الزلات سهواً بحسب غلبة البشرية وإلا فلا معنى لتلويث لباس طاهر ثم تطهيره ورب ملسوع يموت قبل أن يصل إلى الترياق ، فأكل السم على ظن أن الترياق يدفع مضرته ليس من ديدن أهل القلب السليم والعقل المستقيم.
قال استئناف مبني على سؤال من سأل وقال اتفقوا على ما عرض عليهم من الأمرين أم خالفهم في ذلك أحد؟ فقيل قال : قائل منهم وهو يهوداً وكان أحسنهم فيه رأياً حيث جوزوا قتله ولم يساعدهم عليه لا تقتلوا يوسف فإن قتله عظيم لكونه من غير جرم ولا تطرحوه أرضاً لكونه في حكم القتل والقوه يعني بدل الطرح في غيابة الجب في قعره وغوره وما أظلم منه من أسفله سمى به لغيبته عن عين الناظر ، والجب البئر التي لم تطو بعد ، لأنه ليس فيها غير جب الأرض وقطعها فإذا طويت فهر بئر.
يلتقطه يأخذه على وجه الصيانة من الضياع والتلف فإن الالتقاط أخذ شيء مشرف على الضياع.
بعض السيارة جمع سيار وهو بناء المبالغة أي بعض طائفة تسير في الأرض.
وبالفارسية (بعضي ازراه كذريان كه بدانجا رسندو ببرندش بناحيتي ديكر وشما ازوبار رهيد) إن كنتم فاعلين (بمشورتي
219
يعني ون غرض شمابودن اسوت برين وجه ميبايد كرد) لم يبت القول عليهم ، بل إنما عرض ذلك عليهم تأليفاً لقلبهم وتوجيهاً لهم إلى رأيه وحذرا من نسبتهم له إلى التهكم والافتيات أي الاستبداد والتفرد.
قال سعدي المفتي : إنما قال هذا القائل ذلك لكونه أوجه مما ذكروه في التدبير فإن من التقطه من السيارة يحمله إلى موضع بعيد ويحصل المقصود بلا احتياج إلى الحركة بأنفسهم فربما لا يأذن لهم أبوهم وربما يطلع على قصدهم انتهى.
فانظر إلى هؤلاء الإخوان الذين أرحمهم له لا يرضى إلا بإلقاء يوسف في أسفل الجب وهكذا إخوان الزمان وأبناؤه فإن ألسنتهم دائرة بكل شر ساكتة عن كل خير.
جامى ابناي زمان از قول حق صمند وبكم
نام ايشان نيست عند الله بجز شر الدواب
در لباس دوستى سازندكار دشمني
حسب الامكان واجبست ازكيدايشان اجتناب
شكل ايشان شكل إنسان فعلشان فعل سباع
هم زئاب في ثياب أو ثياب في ذئاب
وفي الآية إشارة : إلى أن الحواس والقوى تسعى في قتل يوسف القلب بسكين الهوى ، فإن موت القلب منشأه الهوى وهو السم القاتل للقلب ، أو تسعى في طرحه في أرض البشرية فإنه بعد موت القلب يقبل الروح بوجهه إلى الحواس والقوى لتحصيل شهواتها ومراداتها وتكون هي بعد موته قوماً صالحين للتنعم الحيواني والنفساني ، قال قائل منهم وهو يهودا المتفكرة لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة جب القالب وسفل البشرية يلتقطه سيارة الحوادث النفسانية إن كنتم فاعلين ساعين به كذا في التأويلات النجمية.
اسم الكتاب : روح البيان
فالحياة الحقيقية إنما هي في حياة القلب ، والقلب بيت الله ومحل استوائه عليه.
قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن الفضل : العجب ممن يقطع الأودية والمفاوز والقفار ليصل إلى بيته وحرمه ، لأن فيه آثار أنبيائه ، كيف لا يقطع بالله نفسه وهواه حتى يصل إلى قلبه فإن فيه آثار مولاه وذكر الله تعالى هو طريق الوصول.
(4/141)
قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم رضي الله عنه ذكر الله يرطب القلب ويلينه فإذا خلا عن الذكر أصابته حرارة النفس ونار الشهوات فقسا ويبس ، وامتنعت الأعضاء من الطاعة فإذا مددتها انكسرت كالشجرة إذا يبست لا تصلح إلا للقطع ، وتصير وقوداً للنار أعاذنا الله منها.
اسم الكتاب : روح البيان
{قَالُوا} (اورده اندكه برادران يوسف برقول يهوداً متفق شدند ونزد در آمده كفتند فصل بهار رسيده وسبزها از زمين دميده ه شودكه يوسف را باما بصحرا فرستي تاروزى بتماشا وتفرج بكذا رند يعقوب فرمودكه از هجر حسن بهار رخسار يوسف ون بلبل خزان ديده خواهم بود روامداريدكه شما دركلزار باشيد ومن درخانه بخار هجر كرفتار باشم) :
حريفان دربهار عيش خندان
من اندر كنج غم ون دردمندان
(فرزندان يعقوب نا اميد شده يش يوسف آمدند واز تماشاى سبزه وصحرا شمه باوى درميان آورده وكفتند
موسم كل دوسه روزيست غنيمت دانيد
كه دكر نوبت تاراج خزان خواهد بود
يوسف ون نام تماشا شنيد خاطر مباركش متوجه صحرا شد وبا برادران يش در آمده التماس أجازت نمود ومضمون اين مقال بزيان حال بعرض رسانيده) :
زين تنكناى خلو تم خاطر بصحرا مى كشد
كزبوستان باد سحر خوش ميدهد بيغامرا
(يعقوب درفكر دور ودراز افتاد) ، وعند ذلك قالوا : يا أبانا خاطبوه بذلك تحريكاً
220
لسلسلة النسب بينه وبينهم وتذكيراً لرابطة الأخوة بينهم وبين يوسف ليتسببوا بذلك إلى استننزاله عن رأيه في حفظه منهم لما أحس منهم بأمارات الحسد والبغي فكأنهم قالوا : مالك لا تأمنا أي : أي عذر لك في ترك الأمن أي في الخوف على يوسف مع أنك أبونا ونحن بنوك وهو أخونا.
قوله لا تأمنا حال من معنى الفعل في ما لك كما تقول مالك قائماً بمعنى ما تصنع قائماً وإنا له لناصحون الواو للحال من مفعول لا تأمنا ، أي والحال إنا لمريدون له الخير ومشفقون عليه ليس فينا ما يخل بالنصيحة والمقة.
وبالفارسية ، (نيك خواهانيم وبغايت بروى مهربان) أرسله معنا غداً إلى الصحراء يرتع أي : يتسع في أكل الفواكه ونحوها ، فإن الرتع هو الاتساع في الملاذ.
ويلعب بالاستباق والتناضل ونحوهما مما يكون الغرض منه تعلم المحاربة مع الكفار وإنما سموه لعباً ؛ لأنه في صورته وأيضاً لم يكونوا يومئذٍ أنبياء ، وأيضاً جاز أن يكون المراد من اللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر ، كما روى عنه عليه السلام أنه قال لجابر رضي الله عنه فهلا بكراً أي فهلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 220
قال أبو الليث : لم يريدوا به اللعب الذي هو منهى عنه ، وإنما أرادوا به المطايبة في المزاح في غير مأثم.
وفيه دليل على إنه لا بأس بالمطايبة ، قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : لا بأس بفكاهة يخرج بها الإنسان من حد العبوس روى أنه أتى رجل برجل إلى علي فقال إن هذا زعم أنه احتلم على أمي ، فقال أقمه في الشمس واضرب ظله وإنا له لحافظون من أن يناله مكروه ثم استأنف عمن يسأل ويقول : فماذا قال يعقوب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 220
{قَالَ إِنِّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُوا بِهِ} (آنكه شما ببريداورا از يش من) وذلك لشدة وفارقته عليّ وقلة صبري عنه.
فإن قيل : لام الابتداء تخلص المضارع للحال عند جمهور النجاة والذهاب ههنا مستقبل فيلزم تقدم الفعل على فاعله مع أنه أثره.
قلنا : إن التقدير قصد أن تذهبوا به والقصد حال أو تصور ذهابكم وتوقعه ، والتصور موجود في الحال كما في العلة الغاثية.
و مع ذلك أخاف أن يأكله الذئب لأن الأرض كانت مذأبة واللام للعهد الذهني ، والحزن ألم القلب بفوت المحبوب ، والخوف انزعاج النفس لنزول المكروه ولذلك أسند الأول إلى الذهاب به ، المفوت لاستمرار مصاحبته ومواصلته ليوسف ، والثاني إلى ما يتوقع نزوله من أكل الذئب وروى أنه رأى في المنام كأنه على رأس جبل ويوسف في صحراء فهجم عليه أحد عشر ذئباً فغاب يوسف بينهن ، ولذا حذرهم من أكل الذئب ومع ذلك فقد دفعه إلى إخوته لأنه إذا جاء القضاء عمي البصر :
اين هم ازتأثير حكمست وقدر
اه مى بيني ونتوانى حذر
وأنتم عنه غافلون (ازو بيخبران باشيد بسبب تماشا)
ازان ترسم كزو غافل نشينيد
زغفلت صورت حالش نبينيد
درين ديرينه دشت محنت انكيز
كهن كركى برودندان كندتيز
قالوا والله لئن أكله الذئب ونحن عصبة (وحال آنكه ما كروهي توانا وقوى هيكليم كه هريكي ازمابا ده شير در محاربه مقاومت ميتواندكرد) إنا إذا (بدرستى كه ما آن وقت كه برادررا بكرك دهيم) لخاسرون (هر آيينه زيانكار ان باشيم) من الخسار
221
بمعنى الهلاك أي لهالكون ضعفاً وخورا وعجزا.
وفي الكواشي مغبونون بترك حرمة الوالد والأخ ، وإنما اقتصروا على جواب خوف يوسف من أكل الذئب ولم يجيبوا عن الاعتذار الأول لأنه السبب القوى في المنع دون الحزن لقصر مدته بناء على أنهم يأتون به عن قريب.
(4/142)
وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قال : لا ينبغي للرجل أن يلقن الخصم الحجة لأن أخوة يوسف كانوا لا يعلمون أن الذئب يأكل الناس إلى أن قال ذلك يعقوب ولقنهم العلة في كيد يوسف ، وفي الحديث : البلاء موكل بالمنطق ما قال عبد لشيء والله لا أفعله إلا ترك للشيطان كل شيء فولع به حتى يؤثمه وفي حديث : إني لأجد نفسي تحدثني بالشيء فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن ابتلى به يحكى أن ابن السكيت من أئمة اللغة جلس مع المتوكل يوماً فجاء المعتز والمؤيد ابنا المتوكل فقال : أيما أحب إليك ابناي أم الحسن والحسين؟ قال : والله إن قنبر خادم علي رضي الله عنه خير منك ومن ابنيك فقال : سلوا لسانه من قفاه ففعلوا فمات في تلك الليلة.
ومن العجب أنه أنشد قبل ذلك إلى المعتز والمؤيد وكان يعلمهما فقال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 221
يصاب الفتى من عثرة بلسانه
وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه
وعثرته في الرجل تبراً على مهل
والإشارة أن القلب ما دام في نظر الروح مراقباً له غير مشغول باستعمال الحواس والقوى من الروح أن يرسل يوسف القلب معهم إلى مراتعهم الحيوانية ليتمتعوا به في غيبة يعقوب الروح وهو لا يأمنهم عليه لأنه واقف في مكيدتهم وإنهم يدعون نصحه وحفظه من الآفات والقلب إذا بعد من الروح ونظره يقرب منه ذئب الشيطان ويتصرف فيه ويهلكه ، وخسران جميع أجزاء الإنسان في هلاك القلب وربحها في سلامته.
فعلى العاقل أن لا يلعب بالدنيا كالصبيان ، ويحترز عن فتنتها وآفاتها ولا يرى ترك عنان النفس حذراً من الوقوع في بئر الهوى ويجتهد في قمع الهوى ودفع الميل إلى ما سوى الله تعالى :
وصل ميسر نشود جز بقطع
قطع نخست ازهمه ببريدنست
عصمنا الله وإياكم من الاستماع إلى حديث النفس والشيطان وجعلنا وإياكم محفوظين من موجبات القطيعة والخذلان ، إنه هو الكريم المنام المحسان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 221
{فَلَمَّا ذَهَبُوا} به متصل بمحذوف ، أي : فأذن له وأرسله معهم فلما ذهبوا به (س آن هنكام كه برادران ببردند يوسف را) والجواب محذوف وهو فعلوا به من الأذية ما فعلوا.
وتفصيل المقام أن يعقوب عليه السلام لما رأى إلحاح أخوة يوسف في خروجه معهم إلى الصحراء ومبالغتهم بالعهد واليمين ، ورأى أيضاً ميل يوسف إلى التفرج والتنزه رضى بالقضاء فأذن فأمر أن يغسل بدن يوسف في طست كان أتى به جبريل إلى إبراهيم حين مجيء الفداء فأجرى فيه دم الكبش وأن يرجل شعره ، ويدهن بدهن اسماعيل الذي جاء به جبريل من الجنة وأن يكحل ففعلوا ويروى أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وجرد عن ثيابه أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فالبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحاق ، وإسحاق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة وعلقها في عنق يوسف.
وقال الكاشفي (ون تعويذي بربازويش بست وبمشايعه فر زندان تاشجرة الوداع كه بردروازه كنعان بودبيرون آمد ويوسف رادركنار كرفته كريه كنان اغاز وداع كرد) :
222
دل نمى خواست جدايى زتوا ماه كنم
دور أيام نه بر قاعده دلخواشنت
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
(يوسف كفت اي در سبب كريه يست كفت اي يوسف ازين رفتن تو رايحه اندوهى عظيم بمشام دل من ميرسد ونمى دانم كه سرا نجام كار بكجا خواهد كشيد بارى لا تنساني فإني لا أنساك مرافراموش مكن كه من ترانيز فراموش نخواهم كرد) فراموشى نه شرط دوستانست (س فرزندانرا درباب محافظه يوسف مبالغه بسيار فرمود) وهم جعلوا يحملونه على عواتقهم إكراماله وسرورا به ، فذهبوا به (يعقوب درايشان مينكريست واز شوق لقاي فرزند ارجمند مى كريست)
هنوز سرو روانم زشم ناشده دور
دل ازتصور دورى وبيد لرزانست
(ون فرزندان ازيش نظروي غائب شدند روى بكنعان نهاد) فلمّا بعدوا به عن العيون تركوا وصايا أبيهم فالقوه على الأرض ، وقالوا : يا صاحب الرؤيا الكاذبة أين الكواكب التي رأيتهم لك ساجدين حتى يخلصوك من أيدينا اليوم ، فجعلوا يؤذونه ويضربونه وكلما لجأ إلى واحد منهم ضربه ولا يزدادون عليه إلا غلظة وحنقاً ، وجعل يبكي بكاء شديداً وينادي يا أبتاه ماأسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 222
قال الكاشفي : (درخاك خواري كرسنه وتشنه بروى مي كشيدند تابهلاك نزديك رسيد) وقال بعضهم : فأخذه روبيل فجلد به الأرض ووثب على صدره وأراد قتله ولوى عنقه ليكسرها ، فنادى يوسف يا يهودا وكان أرفقهم به اتقِ الله وحل بيني وبين من يريد قتلي ، فأخذته رقة ورحمة فقال يهودا : ألستم قد أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه قالوا : بلى قال أدلكم على ما هو خير لكم من القتل ألقوه في الجب فسكن غضبهم ، وقالوا : نفعل.
وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وعزموا على إلقاء يوسف في قعر الجب ، وكان على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب بكنعان التي هي من نواحي الأردنّ ، حفره شداد حين عمر بلاد الأردنّ ، وكان أعلاه ضيقاً وأسفله واسعاً.
(4/143)
وقال الكاشفي : (هفتاد كز عمق يافت يا زياده) فأتوا به إلى رأس البئر فتعلق بثيابهم فنزعوها من يديه ، فدلوه فيها بحبل مربوط على وسطه فتعلق بشفيرها ، فربطوا يديه ونزعوا قميصه لما عزموا عليه من تلطيخه بالدم الكذب احتيالاً لأبيه ، فقال : يا أخوتاه ردوا علي قميصي اتوارى به في حياتي ويكون كفناً بعد مماتي ، فلم يفعلوا فلما بلغ نصفها قطعوا الحبل وألقوه ليموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة بجانب البئر فقام عليها وهو يبكي فنادوه وظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه فمنعهم يهودا.
قال الكاشفي (از حضرت ملك أعلى خطاب مستطاب بطائر آشيان سدرة المنتهى رسيدكه (أدرك عبدي جبريل) يش ازانكه يوسف به تك اه رسد بوي رسيد واورا بانه مقدسه خود كرفت وبربالاى صحره كه درتك اه بود بنشانيد واز طعام وشراب بهشت بوي داد يراهن خليل كه تعويذ وار بربازوداشت اورا بوشانيد) قال الحسن : ألقي يوسف في الجب وهو ابن ثنتي عشرة سنة ولقى أباه بعد ثمانين سنة ، وقيل : كان يوسف
223
ابن سبع عشرة سنة ، وقيل ابن ثماني عشرة سنة وروى إن هوام البئر قال بعضها لبعض لا تخرجن من مساكنكن فإن نبيا من الأنبياء نزل بساحتكن فانجحرن إلا الأفعى فإنها قصدت يوسف فصاح بها جبريل فصمت وبقى الصمم في نسلها ولما ألقي في الجب قال : يا شاهدا غير غائب ويا قريبا غير بعيد ويا غالباً غير مغلوب اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً وروى اجعل لي فرجاً مما أنا فيه فما بات فيه.
قال الكواشي : لبث في البئر ثلاثة أيام أو خرج من ساعته انتهى.
وعلم جبريل يوسف هذا الدعاء أي في البئر اللهم يا كاشف كل كربة ، ويا مجيب كل دعوة ، ويا جابر كل كسير ، ويا ميسر كل عسير ويا صاحب كل غريب ، ويا مؤنس كل وحيد لا إله إلا أنت سبحانك أسألك أن تجعل لي فرجاً ومخرجاً وأن تقذف حبك في قلبي حتى لا يكون لي هم ولا ذكر غيرك وأن تحفظني وترحمني يا أرحم الراحمين روى إن يوسف لما ألقى في الجب ذكر الله بأسمائه الحسنى فسمعه الملائكة فقالوا يا رب نسمع صوتاً حسناً في الجب فأمهلنا ساعة فقال الله ألستم قلتم أتجعل فيها من يفسد فيها}(البقرة : 30) فحفته الملائكة فأنس بهم وكذلك إذا اجتمع المؤمنون على ذكر الله تعالى يقول الملائكة إلهنا انظرنا نستأنس بهم فيقول الله تعالى ألستم قلتم {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} فالآن تتمنون الاستئناس بهم فعلم أن الملائكة المقربين تنزل لشرف الذكر كما في نفائس المجالس :
جزء : 4 رقم الصفحة : 222
ذره ذره كاندرين ارض وسماست
جنس خودرا هريكي ون كهرباست
ضدرا باضد ايناس از كجا
با امام الناس نسنانس از كجا
اين قدر كفتيم باقي فكر كن
فكرا اكر جامد بودرو ذكر كن
ذكر آرد فكررا در اهتزاز
ذكررا خورشيد اين افسرده ساز
كما في المثنوى : وأوحينا إليه تبشير إليه بما يؤول إليه أمره وإزاله لو حشته ، وإيناساً له وكان وحي نبوة ورسالة كما عليه المحققون ، وقد صح أن الله تعالى أوحى إلى يحيى وعيسى عليهما السلام قبل إدراكهما وذلك لأن الله تعالى قد فتح باب الولاية الخاصة لبعض الآحاد في صغرهم كالشيخ سهل قدس سره فلأن يكون باب النبوة مفتوحاً أولى ، لكمال استعداد الأنبياء عليهم السلام فأمر الولاية والنبوة لا يتوقف على البلوغ وعلى الأربعين وإن استنبىء أكثر الأنبياء بعد الأربعين على ما جرى عليه عادة الله الغالبة هكذا لاح بالبال.
قال الكاشفي : (وما وحى فرستاديم سوى اوكه اندو هناك مباش بيرون زحضيض جاه رسانيم وبرار انرا بحاجتمندى نزديك توآريم) لتنبئنهم لتحدثن إخوتك فيما يستقبل بأمرهم هذا بما فعلوا لك وهم لا يشعرون بأنك يوسف لتباين حاليك حالك هذه وحالك يومئذٍ لعلو شانك وكبرياء سلطانك وبعد حالك عن أوهامهم ولطول المبدل للأشكال والهيئات ، وذلك إنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون ، دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان أخ لكم من أبيكم يقال له يوسف ، وكان يدنيه دونكم وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم أكله الذئب.
والإشارة : أن من خصوصية تعلق الروح بالقالب أن يتولد منها القلب العلوي والنفس السفلية والقوى والحواس فيكون ميل الروح والقلب ونزاعهما إلى عالم الروحانية وميل النفس والقوى والحواس إلى عالم
224
(4/144)
الحيوانية ، فإن وكل الإنسان إلى طبعه تكون الغلبة للنفس والبدن على الروح والقالب وهذا حال الأشقياء ، وإن أيد القلب بالوحي في غيابة جب القلب إذا سبقت له العناية الأزلية تكون الغلبة للروح والقلب على النفس والبدن وهذا حال السعداء ، فالأنبياء وكذا الأولياء مؤيدون من عند الله تعالى بالوحي والإلهام والصبر والاحتمال وإن كانوا في صورة الجفاء والجلال ، وقد قضى الله تعالى على يعقوب ويوسف أن يوصل إليهما تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليصبرا على مرارتها ويكثر رجوعهما إلى الله تعالى وينقطع تعلق فكرهما عما سوى الله تعالى فيصلا إلى درجة عالية لا يمكن الوصول إليها إلا بتحمل المحن العظيمة كما قال بعض الكبار : سبب حبس يوسف في الجسن اثنتي عشرة سنة تكميل ذاته بالخلوة والرياضة الشاقة والمجاهدات مما تيسر له عند أبيه ومن هذا المقام اغترب الأنبياء والأولياء عن أوطانهم.
قال المولى الجامي :
جزء : 4 رقم الصفحة : 222
بصبر كوش دلا روز هجر فائده يست
طبيب شربت تلخ ازبراى فائده ساخت
وقال بعضهم : ابتلى أبوه بفراقه لما في الخبر أنه ذبح جدياً بين يدي أمه فلم يرض الله تعالى ذلك منه ، وأرى دماً بدم وفرقة بفرقة لعظمة احترام شأن النبوة ومن ذلك المقام حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقال بعضهم : استطعمه يوماً فقير فما اهتم بإطعامه فانصرف الفقير حزينا وفيه نظر كما قاله البعض لأن ذلك لا يليق بأخلاق النبوة.
وقال بعضهم : لما ولد يوسف اشترى يعقوب له ظئراً ، وكان لها ابن رضيع فباع ابنها تكثيراً للبن على يوسف فبكت وتضرعت ، وقالت : يا رب إن يعقوب فرق بيني وبين ولدي ففرق بينه وبين ولده يوسف فاستجاب الله دعاءها فلم يصل يعقوب إلى يوسف إلا بعد أن لقيت تلك الجارية ابنها وفي الحديث : لا توله والدة بولدها أي : لا تجعل والهة بتفريقه منها وذلك في السبايا كما في الجوهري ، ومن أحاديث المقاصد الحسنة من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ومثل هذا وإن كان بعيداً بالنسبة إلى الأنبياء عليهم السلام إلا أن القضاء يفعل ما يفعل.
قال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره : إذا شاء الحق إنفاذ قوله تعالى وكان أمر الله قدرا مقدوراً}(الأحزاب : 38) على عموم الأفعال في العبد بإيفاء زلة منه يجري عليه القدر بما أراده ثم يرده إلى مقامه إن كان من أهل العناية والوصول.
قيل لأبي يزيد قدس سره : أيعصي العارف فقال : "وكان أمر الله قدراً مقدوراً".
قال الحافظ :
جايى كه برق عصيان بر آدم صفي زد
ما راه كونه زيبد دعوى بي كناهى
هذا بالنسبة إلى حال يعقوب وابتلائه.
وأما بالنسبة إلى يوسف فقد حكي إنه أخذ يوماً مرآة فنظر إلى صورته فأعجبه حسنه وبهاؤه فقال لو كنت عبداً فباعوني لما وجد لي ثمن فابتلى بالعبودية وبيع بثمن بخس وكان ذلك سبب فراقه من أبيه.
وفيه إشارة إلى أن الجمال والكمال كلهتعالى وإذا أضيف إلى العبد مجازاً فلا بد للعبد أن يجتهد إلى أن يصير حراً عما سوى الله تعالى ويتخلص من الاضافات والقيود ويرى الأمر كلهتعالى ويكون عبداً محضاً حقاًتعالى.
قال المولى الجامي :
كسوت خواجكى وخلعت شاهى ه كند
هر كرا غاشيه بند كيت بر دوش است
225
وبالجملة إن طريق التصفية طريقة صعبة ومن أسبابها الأدب والمحنة ولذلك ورد "ما أوذى نبي مثل ما أوذيت" أي : ما صفى نبي مثل ما صفيت.
وذرة من محنة هذه الطريقة العلية أعلى من كثير من الكشف والكرامات وما ابتلى الله أحداً بمثل ما ابتلى به اصفياءه إلا اختاره لذاته ولعبوديته فافهم والله الهادي إلى الحقائق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 222
{وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً} ظرف أي في آخر النهار فإن العشاء آخر النهار إلى نصف الليل.
وفي تفسير أبي الليث بعد العصر.
قال في الكواشي : وإنما جاؤوا عشاء ليقدموا على المبالغة في الاعتذار.
يبكون حال ، أي : متباكين.
والتباكي بالفارسية (كريستن يدا كردن) روى إن امرأة خاصمت زوجها إلى شريح فبكت فقال له الشعبي : يا أبا أمية أظنها مظلومة أما تراها تبكي فقال شريح قد جاء أخوة يوسف يبكون وهم ظلمة ولا ينبغي أن يقضي إلا بما أمر أن يقضي به من السنة المرضية.
وفي المثنوى :
زراى مضطر نشسته معنويست
زارى نزد دروغ آن غويست
كرهي اخوان يوسف حيلتست
كه درونشان رز رشك وعلتست
روى أنه لما سمع صوتهم فزع وقال ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شي قالوا الأمر أعظم قال فما هو وأين يوسف؟
جزء : 4 رقم الصفحة : 222
(4/145)
[يوسف : 97-65]{قَالُوا يا اأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أو الرمي يقال استبق الرجلان وتسابقا إذا عارضا في السبق طلباً للغلبة كما يقال انتضلا وتناضلا إذا عارضا في الرمي طلباً للغلبة.
وتركنا يوسف (وبكذا شتيم يوسف راتنها) عند متاعنا أي : ما نتمع به من الثياب والأزواد وغيرهما فإن المتاع في اللغة كل ما انتفع به وأصله النفع الحاضر وهو اسم من متع كالسلام من سلم ، والمراد به في قوله تعالى : ولما فتحوا متاعهم}(يوسف : 65) أوعية الطعام {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} عقيب ذلك من غير مضي زمان يعتاد فيه التفقد والتعهد وما أنت بمؤمن لنا بمصدق لنا في مقالتنا ولو كنا عندك في اعتقادك صادقين موصوفين بالصدق والثقة لفرط محبتك ليوسف فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا.
والصدق هو الإخبار عن الشيء على ما هو به والكذب لا على ما هو به والتصديق باللسان الإخبار بكون القائل صادقاً وبالقلب الإذعان والقبول لذلك ، والتكذيب بخلاف ذلك وجاؤوا (آمدند) على قميصه محله النصب على الظرفية من قوله : بدم أي : جاؤوا فوق قميصه بدم أو على الحالية منه والخلاف في تقدم الحال على المجرور فيما إذا لم يكن الحال ظرفاً كذب مصدر وصف به الدم مبالغة ، كأن مجيئهم من الكذب نفسه كما يقال للكذاب هو الكذب بعينه والزور بذاته أو مصدر بمعنى المفعول أي مكذوب فيه لأنه لم يكن دم يوسف وقرأت عائشة رضي الله عنها بغير المعجمة أي كدب بمعنى كدر أو طريّ روى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها وزل عنهم أن يمزقوه فلما سمع يعقوب بخبر يوسف صاح بأعلى صوته فقال : أين القميص؟ فأخذه والقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص قال : تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه قال كأنه قيل ما قال يعقوب هل صدقهم فيما قالوا أو لا؟ فقيل : قال لم يكن ذلك بل سولت لكم أنفسكم أي : زينت وسهلت قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
والتسويل :
226
تقدير شيء في الأنفس مع الطمع في إتمامه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 226
قال الأزهري : كان التسويل تفعيل من سؤال الأشياء وهي الأمنية التي يطلبها فيزين لطالبها الباطل وغيره.
أمراً من الأمور منكراً لا يوصف ولا يعرف فصنعتموه بيوسف استدل يعقوب على أنهم فعلوا بيوسف ما أرادوا وأنهم كاذبون بشيئين بما عرف من حسدهم الشديد وبسلامة القميص حيث لم يكن فيه خرق ولا أثر ناب فقوله بل سولت ردّ لقولهم أكله الذئب وبل للإعراض عما قبله وإثبات ما بعده على سبيل التدارك نحو جاء زيد بل عمرو كما في بحر العلوم.
فصبر جميل أي : فأمري صبر جميل وهو الذي لا شكوى فيه إلى الخلق وإلا فقد قال يعقوب إنما أشكو بثي وحزني إلى الله.
قال الكمال الخجندي :
بوصل صحبت يوسف عزيز من مشتاب
جمال يار نبيني مكر بصبر جميل
قال شيخنا الأجل الأكمل روح الله روحه.
اعلم أن الصبر إذا لم يكن فيه شكوى إلى الخلق يكون جميلاً ، وإذا كان فيه مع ذلك شكوى إلى الخالق يكون أجمل لما فيه من رعاية حق العبودية ، ظاهراً حيث أمسك عن الشكوى إلى الخلق ، وباطناً حيث قصر الشكوى على الخالق والتفويض جميل والشكوى إليه أجمل انتهى.
قال الشيخ عمر بن الفارض قدس سره في تائيته :
ويحسن إظهار التجلد للقوي
ويقبح غير العجز عند الأحبة
أي : لا يحسن إظهار التجلد والصبر على صدمات المحن مطلقاً بل يحسن للأعادي كما أظهر رسول الله للكفار في غزواته ومناسكه.
وأما عند الأحبة فلا يحسن إلا العجز لأن إظهار التجلد عندهم قبيح جداً كما أظهره سمنون في بعض مناجاته وقال :
وليس لي في سواك حظ
فكيفما شئت فاختبرني
فأدب بتسليط عسر البول عليه فاعترف بعجزه وطاف في سكك بغداد يتسأجر الصبيان ويأمرهم أن ادعوا عمكم الكذاب فقير وخسته بدركاهت إمدم رحمى وقال بعضهم : الصبر الجميل تلقي البلاء بقلب رحيب ووجه مستبشر.
وقيل : لا أعايشكم على كآبة الوجه بل أكون لكم كما كنت وذلك لأن الموحد الحقيقي يطوي بساط الوسائط والأسباب ، فلا يرى التأثير إلا من الله تعالى في كل باب ، مع أن التغافل من أخلاق الكرام والعفو والصفح وقبول العذر من ديدن الأخيار :
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً
إن بر عندك فيما قال أو فجرا
والله المستعان أي : المطلوب منه العون وهو إنشاء الاستعانة المستمرة.
على ما تصفون على إظهار حال ما تصفون من شأن يوسف وبيان كونه كذبا وإظهار سلامته كأنه علم منهم الكذب.
قال تعالى : سبحان ربك رب العزة عما يصفون}(الصافات : 180).
جزء : 4 رقم الصفحة : 226
(4/146)
قال البيضاوي هذه الجريمة كانت قبل استنبائهم إن صح انتهى ، وذلك لأنهم قالوا لا دليل على امتناع صدور الكبيرة من الأنبياء قبل الوحي ، وقوله : إن صح يدل على الشك في صحة استنبائهم ، وأصاب في ذلك لأن الأنبياء محفوظون قبل نبوتهم كما أنهم معصومون بعدها من الأمور الموجبة للنفرة الغير اللائقة بشأنهم وليس همّ يوسف كما سيأتي من قبيل ما صدر من إخوته من الحسد وضربه والقائه في الجب بالفعل والكذب عمداً من غير تأويل.
وأما قوله تعالى : {وَيُتِمُّ نِعْمَتَه عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ} (يوسف : 6)
227
فلا يدل على نبوة غيره من الإخوان الموجودين إذ يكفي في إتمام النعمة على آل يعقوب إن لا تنقطع سلسلة النبوة من أعقابهم كما قال تعالى في كلمة التوحيد كلمة باقية في عقبه ، فإنه لا ينافي وجود الشرك من بعض الأحفاد كما لا يخفى.
وكذا تمثلهم في صورة الكواكب لا يدل على نبوتهم ، لأنه إذا كان يعقوب بمنزلة الشمس التي تعينه بالنبوة ودعوة الخلق وهدايتهم إلى الله تعالى كان أولاده بمنزلة الكواكب التي تتبع الشمس والقمر ولوكان كلهم أنبياء لاستدعى أن يكون محبة يعقوب لهم على السوية أي من أول الأمر بناء على وراثة كلهم لنبوته ، ولما ظهر ما ظهر من تفضيل يوسف عليهم فيوسف من بينهم كشيث من بين بني آدم عليه السلام ، هكذا لاح ببال الفقير أيده الله القدير.
وفي الآيات إشارات إلى تزوير الحواس والقوى وتلبسها وتمويهاتها وتخيلاتها الفلسفية وكذباتها وحيلها ومكرها وكيدها وتوهماتها وتسويلاتها المجبولة عليها ، وإن كانت للأنبياء وأن الروح المؤيد بنور الإيمان يقف على النفس وصفاتها وما جبلت الحواس والقوى عليه ، ولا يقبل منها تمويهاتها وتسويلاتها ويرى الأمور كلها من عند الله وأحكامه الأزلية ، فيصبر عليها صبراً جميلاً وهو الصبر على ظهور ما أراد الله فيها بالإرادة القديمة ، والتسليم لها والرضى بها وبقوله : {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} يشير إلى الاستعانة بالله على الصبر الجميل فيما يجري من قضائه وقدره كذا في التأويلات النجمية نفعنا الله تعالى بها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 226
{وَجَآءَتْ سَيَّارَةٌ} جماعة يسيرون من جهة مدين إلى مصر فنزلوا قريباً من جب يوسف ، وكان ذلك بعد ثلاثة أيام من إلقائه فيه.
قال الكاشفي : (روزهارم مده نجات بوى رسيد).
قال السمرقندي في بحر العلوم : كان الجب في قفرة بعيدة من العمران لم يكن إلا للرعاة فأخطأوا الطريق فنزلوا قريباً منه انتهى.
فهذا يخالف قوله تعالى : يلتقطه بعض السيارة فإنه يقتضي كون الجب في الأمن والجادة والسير هو السير المعتاد.
فارسلوا أي : إلى الجب واردهم أي : الذي يرد الماء ، أي : يحضره ليستقي لهم وكان ذلك مالك بن دعر الخزاعي.
قال في القاموس مالك بن دعر : بالدال المهملة فأدلى دلوه ادلاء بالفارسية (فرهشتن دلو) أي : أرسلها إلى الجب ليملأها فأوحى إلى يوسف بالتعلق بالحبل.
اي يوسف آخر بهرتست اين دلو در اه آمده
(در معالم آورده كه ديوارهاى اه برفراق يوسف بكريستند) ، وذلك لأن للجمادات حياة حقانية لا يعرفها إلا العلماء بالله ، فلها أنس الذكر والتوحيد والتسبيح ومجاورة أهل الحق وقد صح أن الجزع الذي كان يعتمد عليه رسول الله حين الموعظة للناس أنّ أنين بني آدم لما فارقه رسول الله وذلك بعد أن عمل له المنبر.
قال في المثنوى :
استن حنانه از هجر رسول
ناله مى زد همو أرباب عقول
كفت يغمبر ه خواهى اي ستون
كفت جانم ازفراقت كشت خون
فلما خرج يوسف إذا هو بغلام أحسن ما يكون وقد كان أعطى شطر الحسن فلما رآه مالك قال مبشراً نفسه وأصحابه يا بشرى هذا غلام (اي مده وشادمانى) كأنه نادى البشرى وقال : تعالي وهذا أوانك حيث فاز بنعمة نادرة ، وأي نعمة مكان ما يوجد مباحاً من الماء ،
228
وقيل : هو اسم صاحب له ناداه ليعينه على إخراجه ، كما قال الكاشفي : (اورا آوزداد وكفت اين سريست كه دلورا كران ساخته س بمدد كارىء أو يوسف را از اه آورده)
ون آن ماه جهان آرا بر آمد
ز جانش بانك يا بشرى بر آمد
بشارت كز نين تاريك جاهى
بر آمد س جهان افروز ماهى
وذلك لأن ماء الحياة لا يوجد إلا في الظلمات كما أن العلم الإلهي إنما يوجد في ظلمات هذا القلب والقالب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 228
وفي التأويلات النجمية : يشير إلى أن القلب كما له بشارة من تعلق الجذبة وخلاصه من الجب ، فكذلك للجذبة بشارة في تعلقها بالقلب وخلاصه من الجب وهي من أسرار.
يحبهم ويحبونه وأسروه}(المائدة : 54) أي : أخفاه الوارد وأصحابه عن بقية الرفقة لئلا يطالبوا بالشركة فيه {بِضَـاعَةً} حال كونه بضاعة أي متاعاً للتجارة فإنها قطعة من المال بضعت منه ، أي قطعت للتجارة والله عليم بما يعملون لم يخف عليه إسرارهم.
وشروه أي : باعوه وهو من الأضداد والضمير للوارد وأصحابه.
(4/147)
يقول الفقير أيده الله القدير : جعلوه عرضة للابتذال بالبيع والشراء ؛ لأنهم لم يعرفوا حاله إما لأن الله تعالى أغفلهم عن السؤال ليقضي أمراً كان مفعولاً ، أو لأنهم سألوا عن حاله ولم يفهموا لغته لكونها عبرية.
وههنا روايات واهية بعيدة ينبغي أن لا يلتفت إليها وإن ذهب إليها الجم الغفير من المفسرين ولله در المولى أبي السعود في إرشاده بثمن بخس زيف ناقص العيار.
قال الكاشفي : (ببهاى اندك وبي اعتبار) وهو بمعنى المبخوس لأن الثمن لا يوصف بالمعنى المصدري ووصف بكونه مبخوساً إما لرداءته وغشه أو لنقصان وزنه من بخسه حقه ، أي : نقصه كما في حواشي ابن الشيخ.
وقال بعضهم : بثمن بخس ، أي حرام منقوص لأن ثمن الحر حرام انتهى حمل البخس على المعنى لكون الحرام ممحوق البركات والقول الأول هو الأصح دراهم بدل من ثمن ، أي لا دنانير معدودة أي : غير موزونة فهو بيان لقلته ونقصانه مقداراً بعد بيان نقصانه في نفسه لأنهم كانوا يزنون الأوقية وهي أربعون درهماً ويعدون ما دونها.
فعن ابن عباس أنها كانت عشرين درهماً.
وعن السدي اثنين وعشرين درهماً.
قيل : إن الصبيان أخذوا النبي عليه السلام في طريق المسجد وقالوا : كن لنا جملاً كما تكون للحسن والحسين ، قال لبلال اذهب إلى البيت وائت بما وجدته لأشتري نفسي منهم فأتى بثماني جوزات فاشترى بها نفسه وقال : أخي يوسف باعوه بثمن بخس دراهم معدودة وباعوني بثماني جوزات كذا في روضة الأخبار وكانوا أي : البائعون فيه في يوسف من الزاهدين الزهد والزهادة قلة الرغبة في الشيء أي من الذين لا يرغبون فيما بأيديهم فلذلك باعوه بما ذكر من الثمن البخس وسبب ذلك أنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به أو غير واثق بأمره يخاف أن يظهر له مستحق فينتزعه منه فيبيعه من أول مساوم بأوكس ثمن هذا مع الجمال الظاهر.
وفيه إشارة إلى أن الجمال الظاهر لا خطر له عند الله تعالى ، وإنما الجمال هو الجمال الباطن ، وفي الحديث : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم بل إلى قلوبكم وأعمالكم يعني إذا كانت لكم قلوب وأعمال صالحة تكونون مقبولين مطلقاً ، سواء كانت لكم صور حسنة وأموال فاخرة أم لا وإلا فلا ، وليس بيع يوسف بثمن بخس باعجب من بيعك نفسك بأدنى شهوة فلا بد من الإمساك والاحتماء والقناعة.
قال المولى الجامي قدس سره :
229
هر آنكه كنج قناعت بكنج دنيا داد
جزء : 4 رقم الصفحة : 228
فروخت يوسف مصري بكمترين ثمني
(كويندكه نافع مولاي عبد الله بن عمركه استاد امام شافعي بود آنكاه كه مرد كفت اين ايكه را بكنيد بكنيند بيست وده هزار درم درسبوى بديد آمد كفت آنكاه كه از جنازه من باز امده باشيد اين بدرويش دهيد اورا كفتند يا شيخ ون توكسى درم نهد كفت بحق اين وقت شك زكاة وى بر كردن من نيست وهر كز عيالان خودرا بسختى نداشتم لكن هركاه كه مرا آرزويى بودي آنه بدان آرزو بايستى دادن درين سؤال افكندمى تا كر مرا روز سختى يش آيد بدر سفله نبايد رفتن) ففي هذه الحكاية ما يدل على المجاهدة النفسية والطبعية.
أما الأولى ، فلأنه ما كتم المال وداخره لأجل الكنز بل لأجل البذل ، وأما الثانية فلأنه منع عن طبيعته مقتضاها وشهواتها والحواس والقوى لا تعرف قدر القلب وتبيعه بأدنى حظ نفس فانٍ ، لأنها مستعدة للاحتظاظ بالتمتعات الدنيوية الفانية والقلب مستعد للاحتظاظ بالتمتعات الأخروية الباقية ، بل هو مستعد للاحتظاظ بالشواهد الربانية وإنه إذا سقي بشراب طهور تجلى الجمال والجلال يهريق سؤره على أرض النفس والقوى والحواس فيحتظون به فإنه للأرض من كأس الكرام نصيب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 228
{وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاـاهُ مِن مِّصْرَ} وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر وصاحب جنود الملك واسمه قطفير وكان يقال له العزيز.
قال في القاموس : العزيز الملك لغلبته على أهل مملكته ولقب من ملك مصر مع الاسكندرية انتهى.
وبيان كونه من مصر للإشعار بكونه غير من اشتراه من الملتقطين مما ذكر من الثمن البخس كما في الإرشاد.
وقال الكاشفي : (وكفت آنكس كه خريد يوسف را ازاهل مصر) يعني عزيز انتهى.
وكان الملك يومئذٍ الريان بن الوليد من العماليق مات في حياة يوسف بعد أن آمن به وملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه إلى الإسلام فأبى.
قال في القاموس : قابوس ممنوع للعجمة والمعرفة معرب كاووس انتهى وهذا غير قابوس الذي قيل في خطه هذا خط قابوس أم جناح طاووس ، فإنه كان ملكاً عظيماً مات في ثلاث وأربعمائة كما في الروضة.
وكان فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف فقوله تعالى : ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات}(غافر : 34) من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء.
قال الكاشفي : (ون خبر كاروان مدين بمصر آمد وكماشتكان عزيز بسرراه كاروان آمده يوسف را ديدند ازلمعه جمال او شيفته وحيران بازكشته خبر بعزيز مصر بردند واو عاشق يوسف بود ازكوش) :
والأذن تعشق قبل العين أحياناً
(4/148)
فالتمسوا من مالكه عرض يوسف للبيع فزينه وأخرجه إلى السوق فلما رآه أهل مصر افتتنوا به :
اراسته آن يا رنبا زار بر آمد
فرياد وفغان ازدر وديوار بر آمد
وعرض في بيع من يزيد ثلاثة أيام فزاد الناس بعضهم على بعض حتى بلغ ثمنه شيئاً لا يقدر عليه أحد.
خريداران ديكر لب به بستند
س زانوى خاموشى نشتند
فاشتراه عزيز مصر بوزنه مرة مسكاً ومرة لؤلؤاً ومرة ذهباً ومرة فضة ومرة حريراً وكان وزنه أربعمائة رطل ـ ـ وحكى ـ ـ أن عجوزاً أحضرت شيئاً من الغزل وأرادت أن تشتري به يوسف وإلى هذا يشير المولى الجامي بقوله :
230
بي سر عرفان متن تار فكرت
جزء : 4 رقم الصفحة : 230
خريدار يوسف مشوزين كلابه
وفيه إشارة إلى أنه ينبغي لكل أحد بذل ما في ملكه مما قدر عليه في طريق المطلوب فإنه من علامات العاشق.
هر كسى ازهمت والاى خويش
سود برد در خور كالاى خويش
وكان سن يوسف إذ ذاك سبع عشرة سنة ، وأقام في منزل العزيز مع ما مر عليه من مدة لبثه في السجن ثلاث عشرة سنة ، واستوزره الريان وهو ابن ثلاثين ، وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة وهو أول من عمل القراطيس {لامْرَأَتِهِ} اللام متعلقة بقال لا باشترى ، أي قال لامرأته راعيل بنت رعاييل ، أو بنت هيكا هروان كما في التبيان ولقبها زليخا بضم الزاي المعجمة وفتح اللام كما في عين المعاني والمشهور في الألسنة فتح الزاي وكسر اللام أكرمي مثويه اجعلي محل إقامته كريماً حسناً مرضياً والمعنى أحسني تعهده في المطعم والمشرب وغيرهما ، فهو كناية عن إكرام نفسه وإحسان تعهده كما يقال المقام العالي ويكنى به عن السلطان.
قال الإمام الغزالي رحمه الله : يكنى عن الشريف بالجناب والحضرة والمجلس فيقال السلام على حضرته المباركة ومجلسه الشريف ، والمراد به السلام عليه لكن يكنى عنه بما يتعلق به نوع التعلق إجلالاً انتهى.
عسى أن ينفعنا فيما نحتاج إليه ويكفينا بعض المهمات.
وبالفارسية (شايد آنكه سود رساند مارا دركار ضياع وعقار وسر انجام مصالح روز كارما) أو نتخذه ولدا أي نتبناه ونقيمه مقام الولد ، وإنه لم يكن لها ولد وقد تفرس فيه الرشد فقال ذلك ولذلك قيل افرس الناس ثلاثة : عزيز مصر وابنة شعيب التي قالت : يا أبت استأجره}(القصص : 26) وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنه أن تفرس في عمر وولاه من بعده {وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأرْضِ} أي : جعلنا له فيها مكاناً والمراد أرض مصر وهي أربعون فرسخاً ، في أربعين فرسخاً وذلك إشارة إلى مصدر الفعل المؤخر على أن يكون عبارة عن التمكين في قلب العزيز أو في منزله وكون ذلك تمكيناً في الأرض بملابسة أنه عزيز فيها ، لا عن تمكين آخر يشبه به فالكاف مقحم للدلالة على فخامة شأن المشار إليه إقحاماً لا يترك في لغة العرب ولا في غيرها ، ومن ذلك قولهم مثلك لا يبخل ، أي مثل ذلك التمكين البديع مكنا ليوسف في الأرض وجعلناه محباً في قلب العزيز ومكرماً في منزله ليترتب عليه ما ترتب بما جرى بينه وبين امرأة العزيز.
ولنعلمه من تأويل الأحاديث أي : نوفقه لتعبير بعض المنامات التي عمدتها رؤيا الملك وصاحبي السجن لقوله تعالى : ذلكما مما علمني ربي}(يوسف : 37) فيؤدي ذلك إلى الرياسة العظمى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 230
وفي "تفسير أبي الليث" : من تأويل الأحاديث ، يعني : تعبير الرؤيا وغير ذلك من العلوم {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} الهاء راجعة إلى الله أي على أمر نفسه لا يرده شيء ولا ينازعه أحد فيما شاء ويحكم في أمر يوسف وغيره بل إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر كذلك فيأتون ويذرون زعماً منهم أن لهم من الأمر شيئاً وأنى لهم ذلك.
بود هركسى را دكر كونه راى
نباشد مكر آنه خواهد خداي
231
وجاء في بعض الآثار أن الله تعالى يقول : ابن آدم تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد فإن سلمت لي فيما أريد أعطيتك ما تريد وإن نازعتني فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد فالأدب مع الله تعالى أن يستسلم العبد لما أظهره الله تعالى في الوقت ولا يريد إحداث غيره.
(4/149)
وفي التأويلات النجمية لما أخرجوه من جب الطبيعة ذهبوا به إلى مصر الشريعة وقال الذي اشتريه من مصر وهو عزيز مصر الشريعة أي الدليل والمربي على جادة الطريقة ليوصله إلى عالم الحقيقة لامرأته وهي الدنيا اكرمي مثواه أخدمي له في منزل الجسد بقدر حاجته الماسة عسى أن ينفعنا حين يكون صاحب الشريعة وملكاً من ملوك الدنيا يتصرف فينا باكسير النبوة فتصير الشريعة حقيقة والدنيا آخرة أو نتخذه ولداً نربيه بلبان ثديي الشريعة والطريقة والفطام عن الدنيا الدنية وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يشير إلى أن تمكين يوسف القلب في أرض البشرية إنما هو ليعلم علم تأويل الرؤيا وهو علم النبوة ، كما قال : ولنعلمه من تأويل الأحاديث فكما أن الثمرة على الشجرة إنما تظهر إذا كان أصل الشجرة راسخاً في الأرض فكذلك على شجرة القلب إنما تظهر ثمرات العلوم الدينية والمشاهدة الربانية إذا كان قدم القلب ثابتاً في طينة الإنسانية والله غالب على أمره بمعنيين أحدهما.
أن يكون الله غالباً على أمر القلب أي يكون الغالب على أمره ومحبة الله وطلبه والثاني أن يكون الغالب على أمر القلب جذبات العناية لتقيمه على صراط مستقيم الفناء منه والبقاء بالله فيكون تصرفاته بالله ولله وفي الله لأنه باق بهويته فأني عن أنانية نفسه ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنهم خلقوا مستعدين لقبول هذه الكمالية يصرفون استعدادهم فيما يورثهم النقصان والخسران انتهى ما في التأويلات.
ثم إن الله تعالى مدح العلم في هذه الآية وذم الجهل.
أما الأول فلأن الله تعالى ذكر العلم في مقام الامتنان حيث قال : ولنعلمه.
وأما الثاني فلأنه قال : ولكن أكثر الناس لا يعلمون وعلم منه أن أقلهم يعلمون.
والعلم علمان علم الشريعة وعلم الحقيقة ولكل منهما فضل في مقامه وفي الخبر قيل يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ فقال : العلم بالله قيل أي الأعمال يزيد مرتبة؟ قال : العلم بالله ، فقيل نسأل عن العمل تجيب عن العلم فقال : إن قليل العمل ينفع مع العلم وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل والعلم بالله لا يتيسر إلا بتصفية الباطن وتجلية مرآة القلب وكان مطمح نظر الأكابر في إصلاح القلوب والسرائر دون القوالب والظواهر ، لأن الظواهر مظهر نظر الخلق والبواطن مظهر نظر الحق وإصلاح ما يتعلق بالحق أولى من إصلاح ما يتعلق بالخلق :
جزء : 4 رقم الصفحة : 230
كعبه بنياد خليل آز رست
دل نظركاه جليل اكبرست
نسأل الله التوفيق.
ولما بلغ يوسف أشده قال في القاموس أي قوته وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين.
واحد جاء على بناء الجمع كأنك ولا نظير لهما أو جمع لا واحد له من لفظه.
وقال أهل التفسير : أي منتهى اشتداد جسمه وقوته واستحكام عقله وتمييزه وهو سن الوقوف ما بين الثلاثين إلى الأربعين.
والعقلاء ضبطوا مراتب أعمار الناس في أربع ، الأولى سن النشو والنماء ونهايته إلى ثلاثين سنة ، والثانية سن الوقوف وهو سن الشباب ونهايته إلى أن
232
تتم أربعون سنة من عمره ، والثالثة سن الكهولة وهو سن الانحطاط اليسير الخفي وتمامه إلى ستين سنة ، والرابعة سن الشيخوخة وهو سن الانحطاط العظيم الظاهر وتمامه عند الأطباء إلى مائة وعشرين سنة ، والأشد غاية الوصول إلى الفطرة الأولى بالتجرد عن غواشي الخلقة التي يسميها الصوفية بمقام الفتوة.
قال في التعريفات الفتوة في اللغة السخاء والكرم وفي اصطلاح أهل الحقيقة هي أن تؤثر الخلق على نفسك بالدنيا والآخرة آتيناه حكماً كمالا في العلم والعمل ، استعد به الحكم بين الناس بالحق ورياستهم.
قال القشيري من جملة الحكم الذي آتاه الله نفوذ حكمه على نفسه حتى غلب شهوته فامتنع عما راودته زليخا عن نفسه ، ومن لا حكم له على نفسه لم ينفذ حكمه على غيره.
قال الإمام نقلاً عن الحسن : كان نبياً من الوقت الذي ألقي فيه في غيابة الجب لقوله تعالى : ولما بلغ أشده آتيناه ولذا لم يقل ههنا ولما بلغ أشده واستوى كما قال في قصة موسى لأن موسى أوحي إليه عند منتهى الأشد والاستواء وهو أربعون سنة وأوحي إلى يوسف عند أوله وهو ثمان عشرة سنة.
وعلما قالوا المراد من الحكم الحكمة العملية ومن العلم الحكمة النظرية وذلك لأن أصحاب الرياضات والمجاهدات يصلون أولاً إلى الحكمة العملية ثم يترقون منها إلى الحكمة النظرية ، وأما أصحاب الأفكار والأنظار العقلية فإنهم يصلون أولاً إلى الحكمة النظرية ثم ينزلون منها إلى الحكمة العملية ، وطريقة يوسف عليه السلام هي الأول لأنه صبر على المكاره والبلاء والمحن ففتح الله له أبواب المكاشفات ، قال الحافظ :
مكن زغصه شكايت كه در طريق طلب
برحتى نرسيد آنكه زحمتى نكشيد
وقال :
ه جورها كه كشيدند بلبلان ازدى
ببوى آنكه دكرنو بهار بازآمد
والحاصل : أن طريقة يوسف طريقة السالك المجذوب لا طريقة المجذوب السالك والأولى هي سنة الله الغالبة في أنبيائه وأوليائه ، ففي قوله : حكماً وعلماً إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية.
(4/150)
جزء : 4 رقم الصفحة : 230
وعن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله ، وفيه إشارة إلى أن المطيع تفتح له ينابيع الحكمة ، وتنبيه على أن العطية الإلهية تصل إلى العبد وإن طال العهد إذا جاء أوانها فلطالب الحق أن ينتظر إحسان الله تعالى ولا ييأس منه ، وفي الحديث : أفضل أعمال أمتي انتظارهم فرج الله.
قال النصر لما عقل يوسف عن الله أوامره ونواهيه واستقام معه على شروط الأدب ، أعطاه حكماً على الغيب في تعبير الرؤيا وعلماً بنفسه في مخالفة هواها.
قال بعض الأكابر : الكمال العلمي أفضل من الكمال العملي والتقصير من جهة العلم أشد من التقصير من جهة العمل فإن حسن العقيدة وصفاء القريحة بسبب العلم والكمال ، ولشرفه أمر الله تعالى سيد الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم وسلامه بطلب الزيادة منه ، فقال : وقل رب زدني علماً}(طه : 114) وقد ذكر أهل الإشارة أن آدم عليه السلام وصل إلى رياسة سجود الملائكة بعلم الأسماء ، وسليمان إلى الملك العظيم بالفهم ، وعلم منطق الطير ، ويوسف إلى النجاة والشرف والعز بعلم التعبير فالعالم بعلم التوحيد كيف لا ينجو من الجحيم وينال شرف لقاء الله تعالى في دار النعيم.
{وَكَذَالِكَ} أي مثل الجزاء العجيب الذي
233
جزينا يوسف.
نجزى المحسنين كل من يحسن في عمله وفي تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعار بعلية الإحسان له وتنبيه على أنه سبحانه إنما آتاه الحكم والعلم لكونه محسناً في أعماله متقياً في عنفوان أمره ، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
قال بعض الأكابر : نجزي المحسنين الذين يحسنون لأنفسهم في الطلب والإرادة والاجتهاد والرياضة فمن أدخل نفسه في زمرة أهل الإحسان جزاه الله بأحسن الجزاء وأحبه ، كما قال تعالى : والله يحب المحسنين}(آل عمران : 134) فمن أحبه الله نال سعادة الدارين في الحديث : "إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلاناً ، فأحبه فيحبه جبريل فينادي في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض".
وفي "التأويلات النجمية" : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} مبلغ كمالية استعداده لقبول فيض الألوهية آتيناه حكماً وعلماً أفضنا عليه سجال الحكمة الإلهية والعلم اللدني وكما أفضنا على القلب ما هو مستحقه من الحكمة والعلم بفضلنا.
و كرمنا كذلك نجزي المحسنين الأعضاء الرئيسية والجوارح إذا أحسنوا الأعمال والأخلاق على قاعدة الشريعة والطريقة خير الجزاء وهو التبليغ إلى مقام الحقيقة انتهى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 230
ثم إن الجزاء ينبغي أن يكون مترتباً على انقضاء العمل ، فتارة يظهر بعد تمام الأعمال كلها ، وتارة يظهر لكل عمل منقض جزاء ، وهكذا إلى الوصول إلى غاية الأجزية ، فعلم تعبير رؤيا الملك وصاحبي السجن أوتى يوسف في السجن وتمامه مع انضمام العلوم الكلية بعد انتهاء الابتلاء فافهم المقام وكن على بصيرة من إدراك دقائق الكلام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 230
{وَرَاوَدَتْهُ} التي هو في بيتها عن نفسه المراودة المطالبة من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيء ، وهي مفاعلة من واحد لكن لما كان سبب هذا الفعل صادراً من الجانب المقابل لجانب فاعله فإن مراودتها إنما هي لجمال يوسف ، كمداواة الطبيب إنما هي للمرض الذي هو من جانب المريض عبر عنه بالمسبب وجيء بصيغة المفاعلة وتعديتها بعن لتضمنها معنى المخادعة ، فالمعنى خادعت زليخا يوسف عن نفسه لتنال غرضها أي فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن شيء لا يريد إخراجه عن يده وهو يحتال أن يأخذه منه وهي عبارة عن التمحل في مواقعته إياها ، والمحل طلب بحيلة وتكلف ، كما في القاموس وإيراد الموصول لتقرير المراودة فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك ، قيل لواحدة ما حملك على ما أنت عليه مما لا خير فيه قالت قرب الوساد وطول السواد ، ولإظهار كمال نزاهته فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها وامتناعه منها مع كونه تحت مملكتها ينادي بكونه في أعلى معارج العفة والنزاهة حكي أن زليخا كانت من أجمل النساء وكانت بنت سلطان المغرب واسمه طيموس فرأت ذات ليلة في المنام غلاماً على أحسن ما يكون من الحسن والجمال فسألت عنه فقال أنا عزيز مصر فلما استيقظت افتتنت بما رأت في الرؤيا وأدى ذلك إلى تغير حالها ولكنها كتمت حالها عن الأغيار دهراً.
نهان ميداشت رازش دردل تنك
وكان لعلى ولعل اندر دل سنك
ثم تفطن من في البيت من الجواري وغيرها أن بها أمراً فقال بعض بإصابة العين وبعض بإصابة السحر وبعض بمس الجن وبعض بالعشق.
صح عند الناس أني عاشق
غير أن لم يعرفوا عشقي لمن
ففتش عن أمرها فما وجد من غير العشق.
234
زليخا عشق را وشيده مى داشت
بسينه تخم را وشيده ميكاشت
ولى سر ميزد آن هردم زجايى
همي كرد از برون نشو ونمايى
خوشست از بخردان اين نكته كفتن
كه مشك عشق را نتوان نهفتن
اكر برمشك كر دررده صد توى
(4/151)
كند غمازى ازصد رده اش بوي
وقد كان خطبها ملوك الأطراف فأبت إلا عزيز مصر ، فجهزها أبوها بما لا يحصى من العبيد والجواري والأموال وأرسلها مع حواشيه إلى جانب مصر فاستقبلها العزيز بجمع كثير في زينة عظيمة فلما رأته زليخا علمت أنه ليس الذي رأته في المنام فأخذت تبكي وتتحسر على ما فات من المطلوب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 234
نه آنست آنكه من در خواب ديدم
بجست وجويش اين محنت كشيدم
خدا را اي فلك بر من ببخشاي
برروى من درى از مهر بكشاي
مسوز ازغم من بي دست وارا
مده بركنج من اين ادهارا
فسمعت من الهاتف لا تحزني يا زليخا فإن مقصودك إنما يحصل بواسطة هذا.
زليخا ون زغيب اين مده بشنود
بشكرانه سر خود برزمين سود
ثم لما دخلوا مصراً نزلوا زليخا في دار العزيز بالعز والاحترام وهي في نفسها على الفراق والآلام
بظاهر باهمه كفت وشنوداشت
ولى دل جاي ديكر دركرو داشت
نهى صدر دسته ريحان يش بلبل
نخواهد خاطرش جزنكهت كل
وكانت هذه الحال سنين وبقيت بكراً ؛ لأن العزيز كان عنيناً لا يقدر على المواقعة.
بيا جامى كه همت بركماريم
ز كنعان ماه كنعانرا بر آريم
زليخا بادل اميد وارست
نظر بر شاهرا انتظارست
فكان ما كان من حسد الإخوان ووصول يوسف إلى مصر بالعبودية ، فلما رأته زليخا علمت أنه الذي رأته في المنام وقالت :
بخوابم روى زيباوى نمودست
شكيب ازجان شيداوى ربودست
درين كشور زسودايش فتادم
بدين شهر از تمنايش فتادم
(ون يوسف بخانه عزيز در آمد سلطان عشق رخت بخانه زليخا فرستاد ولشكر حسنش متاع صبر وسكون اورا بيغماداد) :
زليخا ون برويش ديده بكشاد
بيك ديدارش افتاد آنه افتاد
زحسن صورت ولطف شمائل
اسيرش شدبيك دل نى بصددل
بمعشوقان و يوسف كس نبوده
جمالش ازهمه خوبان فزدوه
نبوداز عاشقان كس ون زليخا
بعشق ازجمله بودافزون زليخا
ز طفلى تابه ير عشق ورزيد
بشاهى واسيرى عشق ورزيد
(بعد آزانكه عشق بغايت كشيد وشوق بنهايت آنجاميد صورت حال بميان آورد بايوسف) :
235
روى أن يوسف كان يأوى إلى بستان في قصر زليخا يعبد الله فيه وكان قد قسم نهاره ثلاثة أقسام ثلثاً ، لصلواته ، وثلثا يبكي فيه ، وثلثاً يسبح الله فيه ويذكره ، فلما أدرك يوسف مبالغ الرجال جعلت زليخا تراوده عن نفسها ، وهو يهرب منها إلى البستان فلما طال ذلك عليها تغير لونها واصفر وجهها ودخلت عليها داية من داياتها فأخبرتها بذلك ، فأشارت عليها أن تبني له بيتاً مزيناً بكل ما تقدر عليه من الزينة والطيب ليكون وسيلة إلى صحبة يوسف ، ولما فرغ الصناع من عمله دعت العزيز فدخل فأعجبه لكونه على أسلوب عجيب ، وقال لها : سميه بيت السرور ثم خرج فاستدعت يوسف فزينوه بكل ما يمكن من الزينة وتزينت هي أيضاً وكانت بيضاء حسناء بين عينيها خال يتلألأ حسناً ، ولها أربع ذوائب قد نظمتها بالدر والياقوت وعليها سبع حلل وأرسلت قلائدها على صدرها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 234
بز يورها نبودش احتياجي
ولي افزود ازان خودرا رواجي
بخوبى كل بيستانها سمرشد
ولى از عقد شبنم خو بترشد
فجاؤوا بيوسف.
در آمد ناكهان ازدر وماهى
عطارد حشمتي خورشيد جاهى
وجودي از خواص آب وكل دور
جبين طلعتي نور على نور
(4/152)
فلما دخل عليها في القسم الأول من البيت أغفلته وأغلقته وراودته عن نفسه بكل حيلة ، ثم أدخلته في الذي يليه فأغلقته وراودته بكل ما يمكن فلم يساعدها يوسف فدفعها بما قدر عليه ثم وثم إلى أن انتهى إلى البيت السابع فأغلقته وذلك قوله تعالى : وغلقت الأبواب عليها وعليه وكانت سبعة أبواب ولذلك جاء الفعل بصيغة التفعيل الدالة على التكثير وقالت هيت لك اسم فعل معناه أقبل وبادر.
وبالفارسية (بشتاب يش من آي كه من ترا ام) واللام للبيان متعلقة بمحذوف أي لك أقول هذا روى عن ابن عباس أنه قال : كان يوسف إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه ، وإذا تكلم رأيت شعاع النور في كلامه يذهب من بين يديه ، ولا يستطيع آدمي أن ينعت نعته.
فقالت له : يا يوسف إنما صنعت هذا البيت المزين من أجلك فقال يوسف : يا زليخا إنما دعيتني للحرام وحسبي ما فعل بي أولاد يعقوب البسوني قميص الذل والحزن يا زليخا إني أخشى أن يكون هذا البيت الذي سميته بيت السرور بيت الأحزان والثبور ، وبقعة من بقاع جهنم.
فقالت زليخا : يا يوسف ما أحسن عينيك قال هما أول شيء يسيلان إلى الأرض من جسدي.
قالت : ما أحسن وجهك قال هو للتراب يأكله ، قالت : ما أحسن شعرك قال : هو أول ما ينتشر من جسدي ، قالت : إن فراش الحرير مبسوط فقم فاقض حاجتي ، قال : إذاً يذهب نصيبي من الجنة ، قالت : إن طرفي سكران من محبتك فارفع طرفك إلى حسني وجمالي ، قال : صاحبك أحق بحسنك وجمالك مني قالت هبت لك قال معاذ الله هو من جملة المصادر التي ينصبها العرب بأفعال مضمرة ولا يستعمل إظهارها ، كقولهم : سبحان الله وغفرانك وعونك أي أعوذ بالله معاذاً مما تدعونني إليه من العصيان والخيانة ثم علل الامتناع بقوله : إنه أي : الشأن الخطير هذا وهو ربي أي : سيد العزيز الذي اشتراني أحسن مثواي أي أحسن
236
تعهدي ورعايتي حيث أمرك بإكرامي فما جزاؤه أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه.
وفيه إرشاد لها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه.
إنه لا يفلح الظالمون أي : لا يدخل في دائرة الفلاح والظفر كل ظالم كائناً من كان ، فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة والعصيان لأمر الله تعالى (واز زبان حال يوسف كه بازليخا خطاب مي كرد كفته اند) :
جزء : 4 رقم الصفحة : 234
زهى خجلت كه در روزقيامت
كه افتد برزنا كاران غرامت
جزاى آن جفا كيشان نويسند
مرا سر دفتر ايشان نويسند
وفي الآية دليل على أن معرفة الإحسان واجب ، لأن يوسف امتنع لأجل شيئين لأجل المعصية والظلم ولأجل إحسان الزوج إليه.
قال الجامي :
كه ون نوبت بهفتم خانه افتاد
زليخا از جان بر خاست فرياد
مراتاكى درين محنت سندى
كه شم رحمت ازرويم ببندى
بكفتا مانع من أين دو يزست
عتاب ايزد وقهر عزيز ست
زلخا كفت زان دشمن مينديش
كه ون روز طرب بنشسته ام يش
دهم جامى كه با جانش ستيزد
زمستى تا قيامت بر نخيزد
توميكويى خداي من كريمست
هميشه بر كنهكاران رحيمست
مرا از كوهر وزر صد خزينه
درين خلوت سرا باشد دفينه
فدا سازم همه بهر كناهت
كه تاباشد زايزد عذر خواهت
بكفت آنكس نيم كافتد سندم
كه آيد بر كس ديكر كزندم
خداي من كه نتوان حقز اريش
برشوت كي توان آمرز كاريش
زليخا در تقاضا كرم يوسف
همي انكيخت اسباب توقف
دلش ميخواست درسفتن بالماس
ولي ميداشت حكم عصمتش اس
جزء : 4 رقم الصفحة : 234
كما قال تعالى : {وَلَقَدْ هَمَّتْ} به الهم عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر وهو القصد والمراد همت بمخالطته ومجامعته إذا لهم لا يتعلق بالأعيان ، أي قصدتها وعزمت عليها عزماً جازماً بعد ما باشرت مباديها وفعلت ما فعلت من المراودة وتغليق الأبواب ودعوته إلى نفسها بقولها : هيت لك ، ولعلها تصدت هنالك لأفعال أخر من بسط يدها إليه ، وقصد المعانقة وغير ذلك مما يضطره إلى الهرب نحو الباب والتأكيد لدفع ما عسى يتوهم من اختصاص إقلاعها عما كانت عليه بما في مقالته من الزواجر.
وهمّ بها بمخالطتها ، أي : مال إليها بمقتضى الطبيعة البشرية ، وشهوة الشباب ميلاً جبلياً لا يكاد يدخل تحت التكليف ، لا قصدا اختيارياً ، لأنه كما أنه برىء من ارتكاب نفس الفاحشة والعمل الباطل ، كذلك برىء من الهمّ المحرم ، وإنما عبر عنه بالهمّ لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق المشاكلة ، لا لشبهة به ولقد أشير إلى تباينهما بأنه لم يقل : ولقد هما بالمخاطلة أو هم كل منهما بالآخر.
قال حضرة الشيخ افتاده قدس سره : وهمّ بها أي هجم للطبيعة البشرية فقمع مقتضاها ولم يعط حكمها فإن عدم تقاضيها نقصان ، بل الكمال أن لا يعطي لها حكمها مع غاية التوقان فيترقى به الإنسان وينال المراتب العالية
237
عند الرحمن ، ألا ترى أن العنين لا يمدح على ترك الجماع.
وفي المثنوى :
هين مكن خودار خصى رهبان مشو
زانكه عفت هست شهوترا كرو
بى هوا نهى ازهوا ممكن نبود
هم غزابا مرد كان نتوان نمود
(4/153)
قال الشافعي : أربعة لا يعبأ الله بهم يوم القيامة زهد خصي ، وتقوى جندي ، وأمانة امرأة ، وعبادة صبي وهو محمول على الغالب كما في المقاصد الحسنة وروى في الخبر إنه ليس من نبي إلا وقد أخطأ وهم بخطيئة غير يحيى بن زكريا ، ولكنهم كانوا معصومين من الفواحش.
فمن نسب إلى الأنبياء الفواحش كالعزم على الزنى ونحوه الذي يقوله الحشوية في يوسف كفر ، لأنه شتم لهم كذا في القنية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 237
قال بعض أرباب الأحوال كنت بمجلس بعض القصاص فقال ما سلم أحد من هوى ولا فلان وسمى من لا يليق ذكره في هذا المقام العظيم الشأن فقلت : اتق الله فقال : ألم يقل : حبب إليّ فقلت : ويحك قال حبب ولم يقل أحببت ، قال ثم خرجت بالهمّ فرأيت النبي عليه السلام فقال : لا تهتم فقد قتلناه قال فخرج ذلك القاص إلى بعض القرى فقتله بعض قطاع الطريق لولا أن رأى برهان ربه أي : حجته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنى ، والمراد برؤيته لها كمال إيقانه ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين التي تتجلى هناك حقائق الأشياء بصورها الحقيقية ، وتتخلع عن صورها المستعارة التي بها تظهر في هذه النشأة على ما نطق به قوله عليه السلام : حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وكأنه قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته أقبح ما يكون ، وجواب لولا محذوف يدل عليه الكلام ، أي : لولا مشاهدته برهان ربه في شأن الزنى لجرى على موجب ميله الجبلي لعدم المانع الظاهر ، ولكنه حيث كان شاهداً له من قبل استمر على ما هو عليه من قضية البرهان وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة بل بمحض العفة والنزاهة مع وفور الدواعي الداخلية وترتب المقدمات الخارجية الموجبة لظهور الأحكام الطبيعية هذا.
وقد نص أئمة الصناعة على أن لو في أمثال هذه المواقع جار من حيث المعنى لا من حيث الصيغة مجرى التقييد للحكم المطلق ، كما في مثل قوله تعالى : إن كاد ليضلنا عن ألهتنا لولا صبرنا عليها} (الفرقان : 42) فلا يتحقق هناك همّ أصلاً ، وقالوا : البرهان ما رأى في جانب البيت مكتوباً {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَىا} أو قال له ملك : تهمّ بفعل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء ، أو انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عاضاً على يديه ، وبه كان يخوف صغيراً ، أو رأى شخصاً يقول له : يا يوسف انظر إلى يمينك فنظر فرأى ثعباناً أعظم ما يكون ، فقال هذا يكون في بطن الزاني غداً كذلك الكاف منصوب المحل وذلك إشارة إلى الإراءة المدلول عليها بقوله تعالى : لولا أن رأى برهان ربه أي : مثل ذلك التبصير والتعريف عرفناه برهاننا فيما قبل لنصرف عنه السوء خيانة السيد والفحشاء والزنى لأنه مفرط في القبح.
وفيه آية بينة وحجة قاطعة على أنه لم يقع منه هم بالمعصية ولا توجه إليها قط وإلا لقيل لنصرفه عن السوء والفحشاء ، وإنما توجه إليه ذلك من خارج فصرفه تعالى عنه بما فيه من موجبات العفة والعصمة كما في الإرشاد إنه من عبادنا المخلصين الذين أخلصهم الله لطاعة بأن عصمهم مما هو قادح فيها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 237
وفيه دليل على أن الشيطان لم يجد إلى إغوائه سبيلاً ألا يرى إلى قوله : فبعزتك
238
لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين}(ص : 82 ـ ـ 83).
قال في "بحر لعلوم" واعلم أنه تعالى شهد ببراءته من الذنب ومدحه بأنه من المحسنين وأنه من عباده من المخلصين فوجب على كل أحد إن لا يتوقف في نزاهته وطهارة ذيله وعفته وتثبته في مواقع العثار.
قال الحسن : لم يقص الله عليكم ما حكى من أخبار الأنبياء تعييراً لهم ، لكن لئلا تقنطوا من رحمته ، لأن الحجة للأنبياء ألذم فإذا قبلت توبتهم كان قبولها من غيرهم أسرع ، وعدم ذكر توبة يوسف دليل على عدم معصيته ؛ لأنه تعالى ما ذكر معصية عن الأنبياء وإن صغرت إلا وذكر توبتهم واستغفارهم منها كآدم ونوح وداود وإبراهيم وسليمان عليهم السلام.
(4/154)
والإشارة : أن يوسف القلب وإن بلغ أعلى مراتبه في مقام الحقيقة وفنائه عن صفات الأنانية واستغراقه في بحر صفات الهوية لا ينقطع عنه تصرفات زليخا الدنيا ما دام هو في بيتها وهو الجسد فإن الجسد للقلب بيت دنيوي ، فالمعنى أنه : {وَرَاوَدَتْهُ} يوسف القلب زليخا الدنيا التي هو يوسف القلب في بيتها أي في الجسد الدنيوي ، أي : عن نفسه لما رأت في نفسه لتعلقه بالجسد داعية الاحتظاظ من الحظوظ الدنيوية ليحتظ منها وتحتظ منه وغلقت الأبواب وهي أبواب أركان الشريعة يعني إذا فتحت الدنيا على القلب أبواب شهواتها وحظوظها غلقت عليه أبواب الشريعة التي تدخل منها أنوار الرحمة والهداية ونفحات الألطاف والعناية وقالت أي : الدنيا هيت لك أقبل إلي وأعرض عن الحق قال يعني : القلب الفاني عن نفسه الباقي بربه.
معاذ الله أي : عياذي بالله مما سواه.
إنه ربي الذي ربني بلبان ألطاف ربوبيته أحسن مثواي أي مقامي في عالم الحقيقة فلا أعرض عنه إنه لا يفلح الظالمون الذين يقبلون على الدنيا ويعرضون عن المولى ولقد همت به أي همت الدنيا بالقلب لما ترى فيه من الحاجة الضرورية الإنسانية إليها وهم بها أي هم القلب بها فوق الحاجة الضرورية إليها لمشاركة النفس الحريصة على الدنيا ولذاتها.
لولا أن أرى القلب برهان ربه وهو نور القناعة التي من نتائج نظر العناية إلى قلوب الصادقين كذلك لنصرف عنه عن القلب بنظر العناية السوء هو الحرص على الدنيا.
والفحشاء وهو تصرف حب الدنيا فيه إنه قلب كامل من عبادنا لا من عباد الدنيا وغيرها المخلصين مما سوانا أي المخلصين من جنس الوجود المجازي الموصلين إلى الوجود الحقيقي ، وهذا مقام كمالية القلب ، أن يكون عبداً الله حراً عما سواه ، فانياً عن أوصاف وجوده ، باقياً بأوصاف ربه ، كذا في التأويلات النجمية حكى عن علي بن الحسن أنه كان في البيت صنم فقامت زليخا وسترته بثوب فقال لها يوسف : لم فعلت هذا؟ قالت : استحييت منه أن يراني على المعصية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 237
درون رده كردم جايكاهش
كه تانبود بسوى من نكاهش
زمن آيين بي ديني نبيند
درين كارم كه مي بيني نبيند
فقال يوسف : أتستحيين ممن لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه ، وأنا أحق أن استحيي من ربي الذي خلقني فأحسن خلقي.
قال في التبيان : إن يوسف لما رأى البرهان قام هارباً مبادراً إلى الباب فتبعته زليخا ، وذلك قوله تعالى :
واستبقا الباب بحذف حرف الجر ، أي تسابقا إلى الباب البراني الذي هو المخرج من الدار ولذلك وحد بعد الجمع فيما سلف ، أما يوسف فللفرار منها
239
وأما هي فلتصده عن الخروج والفتح وقدت قميصه من دبر أي : اجتذبته من ورائه وخلفه فانشق طولاً نصفين وهو القد كما أن الشق عرضاً هو القط وألفيا وجدا وصادفا سيدها زوجها وهو قطفير تقول المرأة لزوجها سيدي ولم يقل سيدهما ، لأن ملك يوسف لم يصح فلم يكن له سيدا على الحقيقة لدى الباب أي عند الباب البراني مقبلاً ليدخل ، أو كان جالساً مع ابن عم لزليخا يقال له : يمليخا روى عن كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناسر ويسقط حتى خرج من الأبواب كما قال المولى الجامي :
وكش اندر دويدن كام تيزش
كشاد ازهر درى راه كريزش
بهر دركامدى بي در كشايي
ريدى قفل جايى ره جايي
زليخا ون بديدان از عقب جست
بوي در آخرين دركاه يوست
ي باز آمدن دامن كشيدش
زسوى شت يراهن در يدش
برون رفت از كف آن غم رسيده
بسان غنه يراهن دريده
برون آمد يش آمد عزيزش
كروهى از خواص خانه نيزش
قالت كأنه قيل فماذا كان حين ألفيا العزيز عند الباب ، فقيل قالت : منزهة نفسها ما جزاء من أراد بأهلك سوأ من الزنى ونحوه وما نافية ، أي ليس جزاؤه إلا أن يسجن أو عذاب أليم إلا السجن أو العذاب الأليم مثل الضرب بالسوط ونحوه ، أو استفهامية ، أي : أيّ شيء جزاؤه غير ذلك كما تقول من في الدار إلا زيد.
قال العزيز : من أراد باهلي سوأ؟ قالت زليخا : كنت نائمة في الفراش فجاء هذا الغلام العبراني وكشف عن ثيابي وراودني عن نفسي :
و دزدان بر سربالينم آمد
بقصد حرمن نسرينم آمد
خيالش آنكه من ازوى نه آكاه
بحرم كلستانم آورد راه
باذن باغبان ناكشته محتاج
برد تا سنبل وكل را بتاراج
فالتفت العزيز إليه وقال يا غلام هذا جزائي منك حيث أحسنت إليك وأنت تخزيني.
ثمى شايد درين دير ر آفات
جز احسان أهل اسحانرا مكافاة
جزء : 4 رقم الصفحة : 237
زكوى حقكزارى رخت بستى
نمك خوردى نمكدانرا شكستي
كأنه قيل : فماذا قال يوسف حينئذٍ؟ فقيل :
جزء : 4 رقم الصفحة : 237
{قَالَ} دفعاً عن نفسه وتنزيهاً لعرضه هي راوتني عن نفسي طالبتني للمواقعة لا أني أردت بها سوأ كما قالت :
زليخا هره ميكويد دروغست
دروغ أو راغ بي فروغست
زن از بهلوى ب شد آفريده
كس از ب راستى هر كزنديده
(4/155)
فقال العزيز : ماأقبل قولك إلا ببرهان ، وفي رواية نظر العزيز إلى ظاهر قول زليخا وتظلمها فأمر بأن يسجن يوسف وعند ذلك دعا يوسف بإنزال البراءة ، وكان لزليخا خال ، له ابن في المهد ابن ثلاثة أشهر أو أربعة أو ستة على اختلاف الروايات فهبط جبريل إلى ذلك الطفل وأجلسه في مهده ، وقال له إشهد ببراءة يوسف فقام الطفل من المهد وجعل يسعى حتى قام بين يدي العزيز وكان في حجرانه.
240
فغان زد كاى عزيز آهسته ترباش
ز تعجيل عقوبت بر حذر باش
سزاوار عقوبت نيست يوسف
بطلف ومرحمت او ليست يوسف
عز يزاز كفتن كودك عجب ماند
سخن با او بقانون ادب راند
كه اي ناشسته لب زالايش شير
خدايت كرد تلقين حسن تفرير
بكوروشن كه اين آتش كه افروخت
كزانم رده عز وشرف سوخت
كما قال الله تعالى : وشهد شاهد من أهلها أي : ابن خالها الذي كان صبياً في المهد ، وإنما القى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها ليكون أوجب للحجة عليها ، وأوثق لبراءة يوسف وأنفى للتهمة عنه.
وفي الإرشاد ذكر كونه من أهلها لبيان الواقع إذ لا يختلف الحال في هذه الصورة بين كون الشاهد من أهلها أو من غيرهم.
واعلم أنه تكلم في المهد جماعة ، منهم شاهد يوسف هذا ، ومنهم نبينا فإنه تكلم في المهد في أوائل ولادته وأول كلام تكلم به أن قال : الله أكبر كبيراً والحمدكثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلا.
ومنهم عيسى عليه السلام ويأتي تكلمه في سورة مريم ، ومنهم مريم ، والدة عيسى عليهما السلام ، ومنهم يحيى عليه السلام ، ومنهم إبراهيم الخليل عليه السلام ، فإنه لما سقط على الأرض استوى قائماً على قدميه وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد الحمدالذي هدانا لهذا.
ومنهم نوح عليه السلام فإنه تكلم عقيب ولادته فإن أمه ولدته في غار خوفاً على نفسها وعليه فلما وضعته وأرادت الانصراف قالت وانوحاه فقال لها لا تخافي أحداً عليّ يا أمّاه فإن الذي خلقني يحفظني ، ومنهم موسى عليه السلام ، فإنه لما وضعته أمه استوى قاعداً وقال يا أماه لا تخافي أي من فرعون إن الله معنا ، وتكلم يوسف عليه السلام في بطن أمه فقال : أنا المفقود والمغيب عن وجه أبي زماناً طويلاً فأخبرت أمه والده بذلك ، فقال لها : اكتمي أمرك ، وأجاب واحد أمّه بالتشميت وهو في بطنها حين عطست وسمع الحاضرون كلهم صوته من جوفها ، ومنهم ابن المرأة التي مر عليها بامرأة يقال إنها زنت فشهد بالبراءة.
ومنهم طفل لذي الأخدود.
ومنهم ابن ماشطة بنت فرعون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 240
عن ابن الجوزي أن ماشطة بنت فرعون لما أسلمت أخبرت الابنة أباها بإسلامها ، فأمر بإلقائها وإلقاء أولادها في النقرة المتخذة من النحاس المحماة ، فلما بلغت النوبة إلى آخر ولدها وكان مرضعاً قال : اصبري يا أماه فإنك على الحق ، ومنهم مبارك اليمامة قال بعض الصحابة دخلت داراً بمكة فرأيت فيها رسول الله وسمعت منه عجباً جاءه رجل بصبي يوم ولد وقد لفه في خرقة فقال النبي عليه السلام : يا غلام من أنا قال الغلام بلسان طلق أنت رسول الله قال : صدقت بارك الله فيك ثم إن الغلام لم يتكلم بشيء فكنا نسميه مبارك اليمامة ، وكانت هذه القصة في حجة الوداع ، ومنهم صاحب جريج الراهب وقصته أن جريجاً كان يتعبد في صومعة فقالت بنية من بني إسرائيل لافتننه ، فعرضت له نفسها فلم يلتفت إليها فمكنت نفسها من راعي غنم كان يأوى بغنمه إلى أصل صومعته ، فولد غلاماً وقالت : إنه من جريج فضربوه وهدموا صومعته فصلى جريج وانصرف إلى الغلام ووضع يده على رأسه فقال : بحق الذي خلقك أن تخبرني من أبوك؟ فتكلم بإذن الله تعالى إن أبي فلان الراعي ، فاعتذروا إلى جريج
241
وبنوا صومعته ، ومنهم ما ذكره الشيخ محيي الدين ابن العربي قدس سره قال : قلت لبنتي زينب مرة وهي في سن الرضاعة قريباً عمرها من سنة ما تقولين في الرجل يجامع حليلته ولم ينزل؟ فقالت : عليه الغسل فتعجب الحاضرون من ذلك ثم إني فارقت تلك البنت وغبت عنها سنة في مكة وكنت أذنت لوالدتها في الحج وجاءت مع الحج الشامي فلما خرجت لملاقاتها رأتني من فوق الجمل وهي ترضع فقالت قبل أن تراني أمها هذا أبي وضحكت ورمت نفسها إليّ كما في إنسان العيون.
إن كان قميصه قد من قبل الشرطية محكية على إرادة القول كأنه قيل وشهد شاهد من أهلها فقال إن كان قميصه وجمع بين إن الذي هو للاستقبال ، وبين كان ، لأن المعنى إن يعلم أن قميصه قد من قبل أي من قدام فالشرط وإن كان ماضياً بحسب اللفظ لكنه في تأويل المضارع.
فإن قلت : كيف اطلق الشهادة على تقوّل هذه الشرطية مع أن الشهادة في عرف الشرع عبارة عن الإخبار بثبوت حق الغير على غيره بلفظ أشهد؟
قلت : هذه الشرطية تقوم مقام الشرطية وتؤدي مؤداها من حيث إن تقولها ثبت به صدق يوسف وبطل قولها فصدقت أي : فقد صدقت زليخا في قولها.
وهو من الكاذبين في قوله لأنه إذا طلبها دفعته عن نفسها فشقت قميصه من قدام ، أو يسرع خلفها ليدركها فيتعثر بذيله فينشق جيبه.
(4/156)
وإن كان قميصه قد من دبر من خلف فكذبت في قولها وهو من الصادقين لأنه يدل على أنها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدته.
جزء : 4 رقم الصفحة : 240
{فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَه قُدَّ مِن دُبُرٍ} وعلم براءة يوسف وصدقه كما قال الجامي :
عزيز از طفل ون كوش اين سخن كرد
روان تفتيش حال يرهن كرد
و ديد ازس دريده يرهن را
ملامت كردآن مكاره زن را
قال إنه أي الأمر الذي وقع فيه التشاجر من كيدكن من جنس حيلتكن ومكركن أيتها النساء لا من غيركن فخجلت زليخا ، وتعميم الخطاب للتنبيه على أن ذلك خلق لهن عريق.
إن كيدكن عظيم فإنه ألصق وأعلق بالقلب وأشد تأثيراً في النفس ، أي من كيد الرجال فعظم كيد النساء على هذا بالنسبة إلى كيد الرجال ؛ ولأن الشيطان يوسوس مسارقة وهن يوجهن به الرجال فالعظم بالنسبة إلى كيد الشيطان.
وعن بعض العلماء أنا أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان فإنه تعالى يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفاً}(النساء : 76) وقال للنساء {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} :
ز كيد زن دل مردان دونيمست
زنانرا كيد هاى بس عظيمست
عزيز انرا كند كيد زنان خوار
بكيد زن بود دانا كرفتار
زمكر زن كسى عاجز مبادا
زن مكاره خود هركز مبادا
يوسف أي قال العزيز يا يوسف اعرض عن هذا الأمر وعن التحديد به واكتمه حتى لا يشيع فيعيروني
قدم ازراى غمازى بدرنه
كه باشد رده بوش ازرده دربه
واستغفري أنت يا زليخا لذنبك الذي صدر عنك وثبت عليك إنك كنت
242
بسبب ذلك من الخاطئين من جملة القوم الذين تعمدوا للخطيئة والذنب ، يقال خطىء إذا أذنب عمدا والتذكير لتغليب الذكور على الإناث وفي الحديث : كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون وكان العزيز رجلاً حليماً فاكتفى بهذا القدر في مؤاخذتها كما قال المولى الجامي :
عزيز اين كفت وبيرون شد زخانه
بخوش خوبى سمر شد درزمانه
تحمل دلكش است اما نه ندين
نكر خويى خوشست امانه ندين
و مرداززن بخوش خويى كشدبار
زخوش خويى ببد رويى كشدكار
مكن باكرزن ندان صبوري
كه افتد رخنه درسد غيوري
وقيل كان قليل الغيرة وروى أنه حلف أن لا يدخل عليها إلى أربعين يوماً وأخرج يوسف من عندها وشغله في خدمته وبقيت زليخا لا ترى يوسف :
جزء : 4 رقم الصفحة : 242
دريغ آن صيد كزدامم برون رفت
دريغ آن شهد كزكامم برون رفت
عزيمت كرد روزى عنكبوتي
كه بهر خود كند تحصيل قوتي
بجايي ديد شهبازى نشسته
زقيد دست شاهان بازرسته
بكرد اوتنيدن كرد آغاز
كه بندد بال ورش را زرواز
زماني كار در يكار او كرد
لعاب خودهمه دركاراو كرد
ون آن شباز كرد ازوى كناره
نماند غير تارى ند اره
منم آن عنكبوت زارو رنجور
فتاده ازمراد خويشتن دور
رك جانم كسسته همو تارش
نكشته مرغ اميد شكارش
كسسته تارم از هركار وبارى
بدستم نيست جز بكسسته تارى
والإشارة إن يوسف القلب لما رأى برهان ربه وهو نظر نور العناية التي من نتائجها القناعة وهرب من زليخا الدنيا وما انخدع من زينتها وشهواتها اتبعته زليخا الدنيا.
واستبقا الباب وهو الموت فإن الموت باب بين الدنيا والآخرة وكل الناس داخله فمن زحزح عن باب دار الدنيا دخل باب الدار الآخرة لأن من مات قامت قيامته ، فتعلقت زليخا الدنيا بيد شهواتها بذيل قميص بشرية يوسف القلب قبل خروجه من باب الموت الحقيقي وقدت قميصه فقدت قميص بشريته من دبر فلما خرج يوسف القلب من باب موت البشرية ، والصفات الحيوانية واتبعته زليخا الدنيا والفيا سيدها لدى الباب وهو صاحب ولاية تربية يوسف القلب وزوج زليخا الدنيا وإنما سمى سيدها ؛ لأن أصحاب الولايات هم سادة الدنيا والآخرة وهم الرجال الحقيقية المتصرفون في الدنيا كتصرف الرجل في امرأته قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوأ ما جزاء قلب يتصرف في الدنيا بالسوء وهو على خلاف الشريعة ووفق الطبيعة.
إلا أن يسجن في سجن الصفات الذميمة النفسانية أو عذاب أليم أي : يعذب بألم البعد والفراق قال يوسف القلب وأظهر عداوة زليخا الدنيا بعد أن تخرق قميص بشريته وخرج من باب الموت عن صفاتها هي راودتني عن نفسي لأنها كانت مأمورة بخدمتي كما قال : يا دنيا اخدمي من خدمني وإني
243
(4/157)
كنت فاراً منها لقوله : ففروا إلى الله}(الذاريات : 50) {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} أي : حكم بينهما حاكم وهو العقل الغريزي دون العقل المجرد فإن الغريزي دنيوي والمجرد أخروي.
فالمعنى أن حاكم العقل الغريزي الذي هو من أهل زليخا حكم إن كان قميصه قد من قبل أي إن كان قميص بشرية يوسف القلب قد من قبل يدل على أن التابع كان يوسف القلب على قدمي الهوى والحرص فعدل عن الصراط المستقيم العصمة وقد قميص بشريته من قُبُل.
فصدقت زليخا الدنيا إنها متبوعة.
وهو من الكاذبين في دعواه إنها راودتني عن نفسي واتبعتني وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت زليخا الدنيا إنها متبوعة.
وهو من الصادقين يعني يوسف القلب صادق في أن زليخا الدنيا راودته عن نفسه واتبعته وإنه متبوع فلما رأى قميصه قد من دبر ميز حاكم العقل أن يد تصرف زليخا الدنيا لا تصل إلى يوسف القلب إلا بواسطة قميص بشريته قال إنه أي التعليق بقميص بشريته يوسف القلب من كيدكن أي : من كيد الدنيا وشهواتها إن كيدكن عظيم لأنكن تكدن في أمر عظيم وهو قطع طريق الوصول إلى الله العظيم على القلب السليم.
يوسف أعرض عن هذا أي يا يوسف القلب اعرض عن زليخا الدنيا فإن كثرة الذكر تورث المحبة وحب الدنيا رأس كل خطيئة.
واستغفري لذنبك يا زليخا الدنيا.
إنك كنت بزينتك وشهواتك قاطعة طريق الله تعالى على يوسف القلب وأنت في ذلك.
من الخاطئين الذين ضلوا عن الطريق وأضلوا كثيراً ، كذا في التأويلات النجمية نفعنا الله بحقائقها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 242
{وَقَالَ نِسْوَةٌ} أي جماعة من النساء وكن خمساً امرأة الخباز ، وامرأة الساقي وامرأة صاحب الدواب ، وامرأة صاحب السجن ، وامرأة الحاجب.
والنسوة : اسم مفرد لجميع المرأة وتأنيثه غير حقيقي ، ولذا لم يلحق فعله تاء التأنيث.
وقال الرضى : النسوة جمع لأنها على وزن فعلة فيقدر لها مفرد وهو نساء كغلام وغلمة لا أنها اسم جمع (آورده اندكه اكره عزيز اين قصه را تسكين داد أما سخن عشق نهان كي ميماند شمه ازين واقعه در السنه عوام افتاد)
زليخارا و بشكفت آن كل راز
جهاني شد بطغش بلبل آواز
(وبعض از خواتين مصر زبان ملامت برزليخا درازكردند وهر آيينه عشق را غوغاي ملامت دركارست نه سوداي سلامت) قال الحافظ :
من أزان حسن روزافزون كه يوسف داشت دانستم.
كه عشق از رده عصمت برون آرد زليخارا وقال الجامي :
نسازد عشق راكنج سلامت
خوشا رسوايي وكويى ملامت
غم عشق ازملامت تازه كردد
وزين غوغا بلند آوازاه كردد
في المدينة ظرف لقال ، أي أشعن الأمر في مصر أو صفة للنسوة.
وقال الكاشفي : (با يكديكر نشسته كفتند در شهر مصر بموضعي كه عين الشمس مضمون سخن ايشان آنكه).
امرأة العزيز والعزيز بلسان العرب الملك ، والمراد به قطفير وزير الريان وبامرأته زليخا ولم يصرحن باسمها ، على ما عليه عادة الناس عند ذكر السلطان والوزير ونحوهما وذكر من يتبعهم من خواص حرمهم.
وقال سعدي المفتي : صرحن بإضافتها إلى العزيز مبالغة للتشنيع لأن النفوس أقبل إلى سماع أخبار ذوي الأخطار وما يجري لهم.
تراود فتيها
244
أي : تطالب غلامها بمواقعته لها وتحتال في ذلك وتخادعه عن نفسه والفتى من الناس الشاب ، ويستعار للمملوك وإن كان شيخاً كالغلام وهو المراد هنا وفي الحديث : لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي قال ابن الملك : إنما كره النبي عليه السلام أن يقول السيد عبدي لأن فيه تعظيماً لنفسه ، ولأن العبد في الحقيقة إنما هوقيل إنما يكره إذا قاله على طريق التطاول على الرقيق والتحقير لشأنه وإلا فقد جاء القرآن به قال الله تعالى : والصالحين من عبادكم وأمائكم} (النون : 32) {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} (بدرستى كه شكافته است غلاف دل اوازجهت دوستى يعني محبت يوسف بدرون دل او در آمده) وهو بيان لاختلال أحوالها القلبية كأحوالها القالبية خبر ثان وحباً تمييز منقول من الفاعلية ، أي شق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى فؤادها.
والشغاف حجاب القلب وقرىء شعفها بالعين المهملة يقال شعفه الحب أحرق قلبه كما في الصحاح.
جزء : 4 رقم الصفحة : 244
اعلم أن المحبة هو الميل إلى أمر جميل ، وهو إذا كان مفرطاً يسمى عشقاً ، وهو إذا كان مفرطاً يسمى سكراً أو هيماناً ، وصاحب العشق المفرط معذور غير ملوم ، لأنه آفة سماوية كالجنون والمرض مثلاً ، والمحبة أصل الإيجاد وسببه كما قال تعالى : كنت كنزا مخفياً فأحببت أن أعرف.
قال القاشاني : العشق أخص لأنه محبة مفرطة ، ولذلك لا يطلق على الله لانتفاء الأفراط عن صفاته انتهى.
قال الجنيد : قالت النار يا رب لو لم أطعك هل كنت تعذبني بشيء هو أشد مني؟ قال : نعم كن أسلط عليك ناري الكبرى قالت وهل نار أعظم مني قال نعم نار محتبي اسكنها قلوب أوليائي المؤمنين كذا في فتح القريب.
(4/158)
قال يحيى بن معاذ : لو وليت خزائن العذاب ما عذبت عاشقاً قط لأنه ذنب اضطرار لا ذنب اختيار ، وفي الحديث : من عشق فعف وكتم ثم مات مات شهيداً.
قال الحافظ :
عاشق شوارنه روزى كار جهان سر آيد
ناخوانده نقش مقصود از كاركاه هستى
وعشق زليخا ، وإن كان عشقاً مجازياً ، لكن لما كان تحققها به حقيقة وصدقاً جذبها إلى المقصود ، وآل الأمر من المجاز إلى الحقيقة لأنه قنطرتها.
قال العطار في منطق الطير :
هركه او درعشق صادق آمدست
بر سرش معشوق عاشق آمدست
كر بصدقي عشق يش آيد ترا
عاشقت معشوق خويش آيد ترا
إنا لنريها أي : نعلمها علماً مضاهياً للمشاهدة والعيان فيما صنعت من المراودة والمحبة المفرطة مستقرة.
في ضلال في خطأ وبعد عن طريق الرشد والصواب.
مبين واضح لا يخفى كونه ضلالاً على أحد أو مظهر لأمرها فيما بين الناس ، وإنما لم يقلن إنها لفي ضلال مبين ، إشعاراً بأن ذلك الحكم غير صادر عنهن مجازفة بل عن علم ورأى ، مع التلويح بأنهن متنزهات عن أمثال ما هي عليه ولذا ابتلاهن الله تعالى بمارمين به الغير ، لأنه ما عير أحد أخاه بذنب إلا ارتكبه قبل أن يموت ، وهذه أعني ملامة الخلق وتضليهم علامة كمال المحبة ونتيجته لأن الله تعالى إذا اصطفى عبداً لجنابه رفع محبته الذاتية عن قلوب الأغيار غيرة منه عليه ، ولذا ترى أرباب الأحوال وأصحاب الكشوف مذكورين غالباً بلسان الذم والتعيير ، إذ هم قد تجاوزوا حد الجمهور فكانوا كالمسك بين الدماء ، فكما أن المسك خرج بذلك الوصف الزائد عن كونه جنس
245
الدم فكذا العشاق خرجوا بما هم عليه من الحالة الجمعية الكمالية عن كونهم من جنس العباد ذوي التفرقة والنقصان ، والجنس إلى الجنس يميل لا إلى خلافه فافهم حقيقة الحال وهو اللائح بالبال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 244
فلما سمعت بمكرهن باعتيابهن وسوء قولهن وقولهن ، امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني وهو مقتها ، وتسميته مكراً لكونه خفية منها كمكر الماكر وإن كان ظاهراً لغيرها.
أرسلت إليهن تدعوهن للضيافة إكراماً لهن ، ومكراً بهن ، ولتعذر في يوسف لعلمها أنهن إذا رأينه دهشن وافتتن به.
قيل دعت أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات واعتدت أي أحضرت وهيأت لهن متكأ أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد وغيرها عند الطعام والشراب كعادة المترفهين ولذلك نهي عن الأكل بالشمال أو متكأ.
وقرىء متكأ وهو ألاترج أو إلزماورد بالضم وهو طعام من البيض واللحم معرب والعامة تقول البز ما ورد كما في القاموس وآتت كل واحدة منهن بعد الجلوس على المتكأ سكيناً لتستعمله في قطع ما يعهد فيما قدم بين أيديهن وقرب إليهن من اللحوم والفواكه ونحوها وقصدت بتلك الهيئة وهي قعودهن متكئات والسكاكين في أيديهن أن يدهشن ويبهتن عند رؤيته ويشغلن عن نفوسهن فيقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها لأن المتكىء إذا بهت لشيء وقعت يده على يده روي أنها اتخذت لهن ضيافة عظيمة من ألوان الأطعمة وأنواع الأشربة بحيث لا توصف.
روان هي سو كنيزان وغلامان
بخدمت همو طاوسان خرامان
رى رويان مصري حلقه بسته
بمسندهاى زركش خوش نشسته
و خوان برداشتند از يش آنان
زليخا شكر كويان مدح خوانان
نهاد از طبع حيلت ساز رفن
ترنج وكز لكي بردست هر زن
وقالت ليوسف وهن مشغولات بمعالجة السكاكين وأعمالها ، فيما بأيديهن من الفواكه وأضرابها.
أخرج يا يوسف عليهن أي : أبرز لهن.
قال المولى الجامي :
باى خود زليخا سوى او شد
دران كاشانه هم زانوى اوشد
بزارى كفت كاى نور دو ديده
تمناى دل محنت رسيده
فتادم در زبان مردم ازتو
شدم رسوا ميان مردم از تو
كرفتم آنكه در شم تو خوارم
بنزديك تو بس بي اعتبارم
مده زين خوارى وبي اعتباري
ز خاتونان مصرم شرمسارى
شد از افسون آن افسو نكر كرم
دل يوسف به بيرون آمدن نرم
ى تزيين أو ون با برخاست
وسروا زحله سبزش بياراست
فرود آو يخت كيسوى معنبر
به يش حله اش ون عنبر تر
ميانش راكه با مو همسرى كرد
ززرين منطقه زيور كرى كرد
بسر تاج مرصع از جواهر
زهر جوهر هزارش لطف ظاهر
با نعليني از لعل وكهر ر
برو بسته دوال از رشته در
فلما رأينه عطف على مقدر فخرج عليهن
246
ز خلوت خانه آن كنج نهفته
جزء : 4 رقم الصفحة : 244
برون آمد ون كلزار شكفته
فرأينه فلما رأينه أكبرنه عظمنه وهبن حسنه الفائق ، وجماله الرائق ، فإن فضل جماله على جمال كل جميل كان كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وسيأتي مزيد البيان في هذا الشأن أو حضن ليوسف من شدة الشبق على حذف اللام ، والشبق شدة شهوة الضراب والمرأة إذا اغتلمت واشتدت شهوتها سال دم حيضها من أكبرت المرأة إذا حاضت لأنها تدخل الكبر بالحيض ، أو امنين لتوقهن إليه كما في الكواشي.
(4/159)
وفي الشرعة ويستحب من أخلاق الزوجة ما قال علي بن إبي طالب : خير نسائكم العفيفة الغليمة المطيعة لزوجها وقطعن أيديهن أي جرحنها بالسكاكين لفرط وحشتهن وخروج حركات جوارحهن عن منهج الاختيار والاعتياد حتى لم يعلمن ما فعلن أو أبنها كما في التبيان.
وقال وهب ماتت جماعة منهن كما قال المولى الجامي :
و هريك را دران ديدار ديدن
تمنا شد ترنج خود بريدن
ندانسته ترنج از دست خود باز
ز دست خود بريدن كرد آغاز
يكى از تيغ انكشتان قلم كرد
بدل حرف وفاي اورقم كرد
يكى برساخت از كف صفحه سيم
كشيدش جدول از سرخى و تقويم
بهر جدول روانه سيلى از خون
ز حد خود نهاده اي بيرون
كروهى زان زنان كف بريده
زعقل وصبر وهوش ودل رميده
زتيغ عشق يوسف جان نبردند
ازان مجلس نرفته جان سردند
كروهى از خرد بيكانه كشتند
ز عشق آن رى ديوانه كشتند
كروهى آمدند آخر بخود باز
ولى با درد وسوز عشق دمساز
جمال يوسف آمد خمى از مى
بقدر خود نصيب هركس ازوى
وقطعن أيديهن لدهشتنهن ، والمدهوش لا يدرك ما يفعل ، ولم تقطع زليخا يديها ؛ لأن حالها انتهت إلى التمكين في المحبة كاهل النهايات ، وحال النسوة كانت في مقام التلوين ، كاهل البدايات فلكل مقام تلون وتمكن وبداية ونهاية.
قال القاشاني : خرج يوسف بغتة على النسوة فقطعن أيديهن لما أصابهن من الحيرة لشهود جماله والغيبة عن أوصافهن كما قيل :
غابت صفات القاطعات اكفها
في شاهد هو في البرية أبدع
ولا شك أن زليخا كانت أبلغ في محبته منهن لكنها لم تغب عن التمييز بشهود جماله لتمكن حال الشهود في قلبها انتهى.
در حقائق سلمى (مذكوراست كه حق تعالى بدين آيت مدعيان محبت را سرزنش ميكندكه مخلوقي دررؤيت مخلوقي بدان مرتبه ميرسدكه احساس الم قطع نميكند شمادر شهود ذير جمال خالق باديكه بهر هي كس از بلا وعنا متألم نشويد)
جزء : 4 رقم الصفحة : 244
كر باتودمى دست دراغوش توان كرد
بيداد توسهلست فراموش توان كرد
وقال في شرح الحكم العطائية ما تجده القلوب من الهموم والأحزان يعني عند فقدان مرادها وتشويش معتادها فلأجل ما منعت من وجود العيان إذ لو عاينت جمال الفاعل جمل عليها ألم
247
البعد ، كما اتفق في قصة النسوة اللاتي قطعن أيديهن انتهى وقلن حاش الله (اكست خداي تعالى از صفت عجز درآ فريدن نين مخلوقي) وأصله حاشا حذفت الألف الأخيرة تخفيفاً ، وهو حرف جر يفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء تقول أساء القوم حاشا زيد ، فوضع موضع التنزيه والبراءة فمعناه تنزيه الله وبراءة الله ، واللام لبيان المبرأ والمنزه ، كما في سقيا لك والدليل في وضعه موضع المصدر قراءة أبي السماك حاشاًبالتنوين ما هذا بشرا أي آدمياً مثلنا ؛ لأن هذا الجمال غير معهود للبشر إن نافية بمعنى ما هذا إلا ملك كريم يعني : على ربه كما في تفسير أبي الليث وهو من باب قصر القلب لقلبه حكم السامعين حيث اعتقدوا أنه بشر لا ملك وقصرنه على الملكية مع علمهن أنه بشر ، لأنه ثبت في النفوس لا أكمل ولا أحسن خلقاً من الملك ، يعني ركز في العقول من أن لا حي أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان ولذلك لا يزال يشبه بهما كل متناه في الحسن والقبح وغرضهن وصفه بأقصى مراتب الحسن والمال.
و ديدندش كه جز والا كهرنيست
بر آمد بانك كين هذا بشر نيست
نه ون آدم زآب وكل سرشتست
ز بالا آمده قدسي فرشتست
قال بعضهم : إن من لطف الله بنا عدم رؤيتنا للملائكة على الصورة التي خلقوا عليها لأنهم خلقوا على أحسن صورة فلو كنا نراهم لطارت أعيننا وأروحانا لحسن صورهم ، ولذا ابتدىء رسول الله بالرؤيا تأنيساً له إذ القوى البشرية لا تتحمل رؤية الملك فجأة ، وقد رأى جبريل في أوائل البعثة على صورته الأصلية فخر مغشياً عليه فنزل إليه في صورة الآدميين كما في إنسان العيون.
قالوا : كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه كما يرى نور الشمس من السماء عليها ، وكان يشبه آدم يوم خلقه ربه وكانت أمه راحيل وجدته سارة جميلتين جداً
ه كويم كان ه حسن ودلبرى بود
كه بيرون از حد حور ورى بود
مقدس نوري ازقيد ه وون
سر از جلباب ون آورده بيرون
ون آن بيون درين ون كرد آرام
ى رو وش كرده يوسفش نام
زليخايى كه رشك حور عين بود
بمغرب رده عصمت نشين بود
ز خورشيد رحمش ناديده تابى
جزء : 4 رقم الصفحة : 244
كرفتار جمالش شد بخواني
قال الكاشفي في تفسيره الفارسي : صاحب وسيط بإسناد خود از جابر أنصاري نقل ميكندكه حضرت رسالت فرمودكه جبرائيل بر من فرود آمد وكفت خداي تعالى ترا سلام ميرساند وميكويد حبيب من حسن روى يوسف را ازنور كرسي كنوت دادم وكسوت حسن ترا ازنور عرش مقرّر كردم وما خلقت خلقاً أحسن منك يوسف را جمال بود وآن حضرت را كمال در شهود جمال يوسف دستها بريده شد در ظهور كمال محمدي زناها قطع يافت :
از حسن روى يوسف دست بريده سهلست
دداي دلبر من سرها بريده باشد
(از عايشه صديقه نقل ميكنند كه درصفت جمال حضرت رسالت ناه فرمودكه)
248
(4/160)
لوائم زليخا لو رأين جبينه
لآثرن في القطع القلوب على اليد
زنان مصر بهنكام جلوه يوسف
زروى بيخودى ازدست خويش ببريدتد
مقرراست كه دل اره ميكردند
اكر جمال تواى نورديده ميديدند
وفي الحديث : ما بعث الله نبياً إلاحسن الوجه حسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجهاً وأحسنهم صوتاً.
يقول الفقير أيده الله القدير الظاهر أن بعض الأنبياء مفضل على البعض في بعض الأمور وأن الحسن بمعنى بياض البشرة مختص بيوسف وأن رسول الله كان أسمر اللون لكن مع الملاحة التامة وهو لا ينافي الحسن وإليه يشير قول الحافظ :
آن سيه رده كه شيرينى عالم با اوست
شم ميكون لب خندان رخ خرم با اوست
وقول المولى الجامي :
ز خوبى توبهرجا حكايتي كفتند
حديث يوسف مصري فسانه باشد
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : قال لي جبريل إن أردت أن تنظر من أهل الأرض شبيهاً بيوسف فانظر إلى عثمان بن عفان وجاء هو أشبه الناس بجدك إبراهيم وأبيكِ محمد والخطاب لرقية بنت رسول الله زوجة عثمان ، وكانت رقية ذات جمال بارع أيضاً ومن ثم كان النساء تغنيهما بقولهن أحسن شيء يرى إنسان رقية وبعلها عثمان ، وجاء في حق رومان ، أم عائشة رضي الله عنها بضم الراء وفتحها من أراد أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان وفيه بيان حسنها وكونها من أهل الجنة كما لا يخفى.
والإشارة : وقال نسوة صفات البشرية النفسانية من البهيمية والسبعية والشيطانية في المدينة في مدينة الجسد.
امرأة العزيز وهي الدنيا.
تراود فتاها عن نفسه تطالب عبدها وهو القلب كان عبداً للدنيا في البداية للحاجة إليها في التربية ، فلما كمل القلب وصفا وصقل عن دنس البشرية واستأهل للنظر الإلهي ، فتجلى له الرب تعالى فتنور القلب بنور جماله وجلاله احتاج إليه كل شيء وسجد له حتى الدنيا قد شغفها حباً أي أحبته الدنيا غاية الحب لما ترى عليه آثار جمال الحق ، ولما لم يكن لنسوة صفات البشرية اطلاع على جمال يوسف القلب كن يلمن الدنيا على محبته فقلن إنا لنراها في ضلال مبين فلما سمعت زليخا الدنيا بمكرهن في ملامتها أرسلت إلى الصفات وهيأت أطعمة مناسبة لكل صفة منها وآتت كل واحدة منهن سكيناً سكين الذكر وقالت زليخا الدنيا ليوسف القلب اخرج عليهن وهو إشارة إلى غلبات أحوال القلب على الصفات البشرية فلما رأينه فلمّا وقفن على جماله وكماله أكبرنه أكبرن جماله أن يكون جمال البشر.
وقطعن أيديهن بسكين الذكر عن تعلق ما سوى الله وقلن حاشما هذا بشراً أي : جمال بشر إن هذا إلا جمال ملك كريم وهو الله تعالى بقراءة من قرأ ملك
249
بكسر اللام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 244
{وَقَالَتِ} فذلكن كن للنسوة وذا ليوسف ولم تقل فهذا مع إنه حاضر رفعا لمنزلته في الحسن واسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره ، وهو الذي لمتنني فيه في شأنه فالآن علمتن من هو وما قولكن فينا.
قال الكاشفي : (واكنون دانستيدكه حق بطرف من بود).
قال سعدي :
ملامت كن مرا ندانكه خواهى
كه نتوان شستن از زنكى سياهى
وقال في كتاب كلستان (يكى را ازملوك عرب حديث ليلى ومجنون بكفتند وشورش حال اوكه باكمال فضل وبلاغت سر در بيابان نهاده است وزمان اختيار ازدست داده بفرمودش تا حاضر آوردند وملامت كردن كرفت كه در شرف نفس إنسان ه خلل ديديكه خوى حيواني كرفتى وترك عيش آدمي كفتي مجنون بناليد وكفت).
ورب صديق لامنى في ودادها
ألم يرها يوماً فيوضح لي عذري
كاش كانانكه عيب من جستند
رويت اي دلستان بديدندى
تابجاى ترنج در نظرت
بيخبر دستها بريدندي
(نا حقيقت معنى بر صورت دعوى كواهى دادي كه) قوله تعالى : فذلكن الذي لمتنني فيه وفي القصيدة البردية :
يالائمي في الهوى العذري معذرة
مني إليك ولم انصفت لم تلم
والهوى العذري ، عبارة عن الحب الشديد الفرط ، نسبة إلى بني عذرة بضم العين وسكون الذال المعجمة قبيلة في اليمن مشهورة بالابتلاء بداء العشق وكثير من شبانهم يهلكون بهذا المرض ، كما يحكى أن واحداً سأل منهم عن سبب انهماكهم في أودية المحبة والمودة ، وموجب هلاكهم من شدة المحبة فأجابوا بأن في قلوبنا خفة وفي نسائنا عفة (اصمعي كفت وقت ازاوقات در أثناء أسفار بقبيله بني عذره نزول كردم ودر وثاقي كه بودم دخترى ديدم درغايت حسن وجمال روزي از سبيل تفرج از آنجا بيرون آمدم وطوفي ميكردم جوانى را ديدم ضعيف تر ازهلالي اين ابيات ميخواند وقطرات عبرات از ديد كان مي راند)
فلا عنكِ لي صب ولا فيك حيلة
ولا منك لي بد ولا منك مهرب
فلو كان لي قلبان عشت بواحد
وأفردت قلباً في هواك يعذب
ولي ألف باب قد عرفت طريقه
جزء : 4 رقم الصفحة : 250
ولكن بلا قلب إلى أين اذهب
(4/161)
(از آن جماعت رسيدم كه اين جوان كيست وحال اويست كفتند او بدان دختركه دران خانه كه تو نزول كرده عاشقست وبا آنكه بنت عم اوست ده سالست تا يكديكر را نديده اند اصمعي ميكويدكه بخانه باز كشتم وخال آن جوان با اين دختر تقرير كردم وكفتم شك نيست كه مهمان غريب را درعرب حرمتي هره تمامترست التماس آنست كه امروز جمال خود را بدو نمايى دختر كفت صلاح او درين نيست اصمعي كفت نداشتم كه بخل ميكند ودفع ميدهد كفتم ازبراي دل مهمان يك دو قدم بردار تا از مشاهده جمال راحتي يابد كفت مرا رحمت وشفقت درح ق عم زاده بيش از آنست اميد داري
250
وليك ميدانم كه مصلحت او در ديدن من نيست أما ون باور نمى داري)
تو برر دربيت برايم من
أصمعي ميكويدكه برفتم ويش آن جوان بنشستم وكفتم حاضر باش مشاهده دلدار راكه بالتماس من مي آيد تا بحضور خود مسكن ترا رنور كرداند درين سخن بوديم كه دختر ازدور ييدا شدودامن درزمين ميكشيدو كردآن برهوا ميرفت جوان ون آن كردبديد نعره بزد وبرزمين افتاد آندام او نه جا سوخته شد ون بخانه مراجعت كردم دختر بامن عتاب كرد وكفت)
آنه امروز يافت او زتو يافت
وانه ديد او رهكذار توديد
إنه لا يطيق مشاهدة غبار من آثار ذيلنا فكيف يطيق مشاهدة جمالنا ولقائنا.
ثم بعد ما أقامت زليخا عليهن الحجة ، وأوضحت لديهن عذرها ، وقد أصابهن من قبله عليه السلام ما أصابها ، باحت لهن ببقية سرها ، لأن شان العشاق أن يظهر بعضهم لبعض ما في قلوبهم ، غير ملتفت إلى تعيير أحد ، ولا خائف لومة لائم ، ولا مبال بزجر وسفاهة من جهل ولم يعلم حالهم فقالت : ولقد راودته عن نفسه طلبت منه أن يمكنني من نفسه حسبما قلتن وسمعتن فاستعصم (س خويش را نكاداشت وسر بمن نياورد) أي طلب العصمة من الله مبالغاً في الامتناع لأنه يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو مجتهد في الاستذادة منها ، وفيه برهان نير على أنه لم يصدر عنه شيء مخل باستعصامه بقوله معاذ الله من الهم وغيره.
ولئن لم يفعل ما آمره من حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير أي ما آمر به من موافقتي فالضمير للموصول.
ليسجنن بالنون الثقيلة آثرت بناء الفعل للمفعول جرياً على رسم الملوك.
والمعنى بالفارسية (هرآينه بزندان كرده شود) وليكونا بالنون الخفيفة وإنما كتبت بالألف اتباعاً لخط المصحف مثل لنسفعا على حكم الوقف يعني أن النون الخفيفة يبدل منها في الوقف الألف وذلك إنما يكون في الحفيفة لشبهها بالتنوين من الصاغرين أي : الأذلاء في السبحن وهو من صغر بالكسر والصغير من صغر بالضم.
قال الجامي :
جزء : 4 رقم الصفحة : 250
اكر ننهد بكام من دكر اي
ازين س كنج زندان سازمش جاي
نكردد مرغ وحشي جزبدان رام
كه كيرد در قفس يك ند آرام
ولقد أتت بهذا الوعيد المنطوي على فنون التأكيد بمحضر منهن ليعلم يوسف أنها ليست في أمرها على خفية ولا خيفة من أحد فتضيق عليه الحيل ، وينصحن له ويرشدن إلى موافقتها.
قال الجامي :
بدو كفتند اي عمر كرامي
دريده يرهن درنيك نامي
درين بستان كه كل باخار جفت است
كل بي خار ون توكم شكفت است
زليخا خاك شد درراهت اي اك
همي كش كه كهي دامن برين خاك
حذر كن زانكه ون مضطر شوددوست
بخوارى دوست را از سركشد وست
251
و از سر بكذرد سيل خطر مند
نهد ما در بزير اي فرزند
دهد هر لحظه تهديدت بزندان
كه هست آرامكاه نا سندان
كجا شابد نين محنت سرايي
كه باشد اي ون تو دلربابي
خدارا بر وجود خود ببخشاي
بروى أو دري از مهر بكشاي
وكر باشد ترا ازوى ملالي
كه ندانش نمى بيني جمالي
و زو ايمن شوى دمساز ما باش
نهاني همدم وهمراز ما باش
كه ماهريك بخوبي بي نظيريم
سهر حسن را ماه منيريم
و بكشاييم لبهاي شكرخا
زخجلت لب فروبندد زليخا
نين شيرين وشكرخا كه ما ييم
زليخارا ه قدر آنجاكه ما ييم
و يوسف كوش كردافسون كزايشان
ي كام زليخا ياوريشان
كذشتند ازره دين وخردنيز
نه تنها بهروي از بهر خود نيز
قال مناجياً لربه رب السجن الذي أوعدتني بالإلقاء فيه وهوه بالفارسية (زتدان) أحب إليّ مما يدعونني إليه أي : آثر عندي من موافقتها لأن للأول حسن العاقبة دون الثاني :
عجب درمانده ام دركار اينان
مرازندان به از ديدار اينان
به از صد سال درزندان نشينم
كه يكدم طلعت اينان به بينم
بنا محرم نظر دلرا كند كور
زدولخانه قرب افكند دور
وعند ذلك بكت الملائكة رحمة له وهبط إليه جبريل فقال له : يا يوسف ربك يقرئك السلام ويقول لك اصبر فإن الصبر مفتاح الفرج وعاقبته محمودة ، وإسناد الدعوة إليهن جميعاً لأنهن تنصحن له ، وخوفنه من مخالفتها ، أو لأنهن جميعاً دعونه إلى أنفسهن كما ذكر.
قال بعض الحكماء لو قال : رب العافية أحب إليّ لعافاه الله ، ولكن لما نجا بدينه لم يبال ما أصابه في الله ، والبلاء موكل بالمنطق.
وعن معاذ سمع النبي رجلاً يقول : اللهم إني أسألك الصبر قال : سألت البلاء فاسأله العافية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 250
(4/162)
قال الشيخ سعدي : (في كتاب الكلستان ار سايى را ديدم كه بركنار دريا زحم لنك داشت وبه هي دارو به نمى شد ومدتها درا رنجورى بودومدام شكر خدا مى كزاريد رسيدندش كه ه شكر كنى كفت شكر آنكه بمصيبتي كر فتارم نه بمعصيتي بلى مردان خدا مصيبت را برمعصيت اختيار كنند نه بيني كه يوسف صديق دران حالت ه كفت قال رب السجن الآية)
كرمي آزار بكشتن دهد آن يار عزيز
تانكويى كه دران دم غم جانم باشد
كويم از بنده مسكين ه كنه صادر شد
كودل آزرده شد ازمن غم آنم باشد
وإلا وإن لم تصرف عني كيدهن (واكر نكرداني از من مكر وفريب ايشانرا يعني مرا در ناه عصمت نكيري).
أصب إليهن أمل إلى جانبهن على قضية الطبيعة وحكم القوة الشهوية أي ميلاً اختيارياً قصدياً ، والصبوة الميل إلى الهوى ، ومنه الصبا لأن
252
النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها ، وهذا فزع منه إلى ألطاف الله جرياً على سنن الأنبياء والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة من الشرور على جناب الله ، وسلب القوى والقدر عن أنفسهم ومبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة كقول المستغيث أدركني وإلا هلكت لأنه يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة وفي نفسه داعية تدعوه إلى هواهن.
وأكن من الجاهلين أي : الذين لا يعملون بما يعلمون ، لأن من لم يعمل بعلمه هو والجاهل سواء أو من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه لأن الحكيم لا يفعل القبيح.
وفيه دلالة بينة على أن ارتكاب الذنب والمعصية عن جهل وسفاهة وإن من زنى فقد دخل من جملة الكاذبين في الجهال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 250
{فَاسْتَجَابَ لَه رَبُّهُ} دعاءه الذي تضمنه قوله : وإلا تصرف عني كيدهن الخ فإن فيه استدعاء لصرف كيدهن والاستجابة تتعدى إلى الدعاء بنفسها نحو استجاب الله تعالى دعاءه وإلى الداعي باللام ويحذف الدعاء إذا عدى إلى الداع في الغالب فيقال استجاب له ولا يكاد يقال استجاب له دعاءه كما في بحر العلوم فصرف عنه كيدهن حسب دعائه وثبته على العصمة والعفة حتى وطن نفسه على مقاساة السجن ومحنته واختارها على اللذة المتضمنة للمعصية إنه هو السميع لدعاء المتضرعين إليه العليم بأحوالهم وما يصلحهم.
وعن الشيخ أبي بكر الدقاق قدس سره قال : بقيت بمكة عشرين سنة وكنت اشتهي اللبن فغلبتني نفسي فخرجت إلى عسفان وهو كعثمان موضع على مرحلتين من مكة ، فاستضفت حياً من أحياء العرب فوقعت عيني على جارية حسناء أخذت بقلبي فقالت يا شيخ لو كنت صادقاً لذهبت عنك شهوة اللبن ، فرجعت إلى مكة وطفت بالبيت ، فأريت في منامي يوسف الصديق عليه السلام فقلت له : يا نبي الله أقر الله عينك بسلامتك من زليخا فقال : يا مبارك بل أقر الله عينك بسلامتك من العسفانية ثم تلا ولمن خاف مقام ربه جنتان}(الرحمن : 46) وأنشدوا :
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً
لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
قال بعضهم : لا يمكن الخروج من النفس بالنفس وإنما يمكن الخروج عن النفس بالله.
وقال الشيخ أبو تراب النخشبي قدس سره : من شغل مشغولاً بالله عن الله أدركه المقت في الوقت فليس للعصمة شيء يعادلها.
والإشارة : أن القلب إذا لم يتابع أمر الدنيا وهوى نفسه ولم يجب إلى ما تدعوه دواعي البشرية يكون مسجوناً في سجن الشرع والعصمة من الله تعالى ، والقلب وإن كان في كمالية قلب نبي من الأنبياء لو خلي وطبعه ولم يعصمه الله من مكايد الدنيا وآفات دواعي البشرية وهواجس النفس ووساوس الشيطان يميل إلى ما يدعونه إليه ويكون من جملة النفوس الظلومة الجهولة كما في "التأويلات النجمية".
قال الحافظ :
دام سخت است مكر لطف خدا يا رشود
ورنه آدم نبرد صرفه ز شيطان رجيم
نسأل الله القوة والغلبة على الأعداء الظاهرة والباطنة إنه هو المعين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 253
{ثُمَّ بَدَا لَهُم} أي ظهر للعزيز وأصحابه المتصدين للحل والعقد رأي ، وثم يدل على تغير رأيهم في حقه.
من بعد ما رأوا الآيات أي : الشواهد على براءة يوسف كشهادة الصبي وقد القميص وغيرهما.
253
(4/163)
ليسجننه (هر آيينه در زندان كنند اورا) أي قائلين والله ليسجننه حتى حين حتى جارة بمعنى إلى أي إلى حين انقطاع قالة الناس ، وهذا بادي الرأي عند العزيز وخواصه ، وأما عندها فحتى يذلله السجن ويسخره لها ويحسب الناس أنه المجرم فلبث في السجن خمس سنين أو سبع سنين والمشهور أنه لبث اثنتي عشرة سنة كما سيأتي عند قوله تعالى : فلبث في السجن بضع سنين وقال ابن الشيخ لا دلالة في الآية على تعيين مدة حبسه وإنما القدر المعلوم إنه بقى محبوساً مدة طويلة لقوله تعالى : وادّكر بعد أمة والحين عند أهل اللغة وقت من الزمان غير محدود ويقع على القصير منه والطويل ، وأما عند الفقهاء فلو حلف والله لا أكلم فلاناً حيناً أو زماناً بلا نية على شيء من الوقت فهو محمول على نصف سنة ، ومع نية شيء معين من الوقت فما نوى من الوقت.
وفي الآية محذوف والتقدير لما تغير رأيهم في حقه ورأوا حبسه حبسوه وحذف لدلالة قوله : ودخل معه السجن فتيان وذلك أن زوج المرأة قد ظهر له براءة يوسف فلا جرم لم يتعرض له واحتالت المرأة في طريق آخر ، فقالت لزوجها : هذا العبد العبراني فضحني في الناس
درين قولند مرد وزن موافق
كه من بروى بجانم كشته عاشق
كما قال : هي راودتني عن نفسي وأنا لا أقدر على إظهار عذري فأرى أن الأصلح أن تحبسه لينقطع عن الناس ذكر هذا الحديث ، وكان العزيز مطاعاً لها وجملاً ذلولاً زمامه في يدها فاغتر بقولها ، ونسى ما عاين من الآيات وعمل برأيها وإلحاق الصغار به كما أوعدته به.
وقال الكاشفي : (آورده اندكه بعد از نوميدى زنان ازوى زليخارا كفتند صلاح آنست كه اورا دوسه روزي بزندان بازداري شايد بسبب رياضت رام كردد وقدر نعمت وراحت را دانسته سر تسليم را بر خط فرمان نهد)
و كوره ساز زندانرا برو كرم
بود زان كوره كردد آهنش نرم
وكردد كرم زآتش طبع فولاد
از يزى تواند ساخت استاد
نه كرمى نرم اكر نتواندش كرد
ه حاصل زانكه كوبد آهن سرد
زليخارا وزان جادو زبانان
شداز زندان اميد وصل جانان
براى راحت خود رنج او خواست
دران ويران اميد كنج او خواست
و نبود عشق عاشق را كمالي
جزء : 4 رقم الصفحة : 253
نه بندد جز مراد خود خيالي
طفيل خويش خواهد يار خودرا
بكام خويش خواهد كار خودرا
ببوى يك كل ازبستان معشوق
زند صد خار غم بر جان معشوق
وكان للعزيز ثلاثة سجون ، سجن العذاب ، وسجن القتل ، وسجن العافية ، فأما سجن العذاب فإنه محفور في الأرض ، وفيه الحيات والعقارب وهو مظلم لا يعرف فيه الليل من النهار ، وأما سجن القتل : فإنه محفور في الأرض أربعين زراعاً وكان الملك إذا سخط على أحد يلقيه فيه على أم رأسه فلا يصل إلى قعره إلا وقد هلك ، وأما سجن العافية : فإنه كان على وجه الأرض إلى جانب قصره فإذا غضب على أحد من حاشيته حبسه في ذلك السجن ، فلما أرادت
254
زليخا أن يسجن يوسف أرسلت إلى سجان سجن العافية وأمرته أن يصلح فيه مكاناً منفرداً ليوسف ثم قالت ليوسف : لقد أعييتني وانقطعت فيك حيلتي فلأسلمنك إلى المعذبين يعذبونك كما عذبتني ، ولألبسنك بعد الحلى والحلل جبة صوف تأكل جلدك ولأقيدنك بقيد من حديد يأكل رجليك ثم نزعت ما كان عليه من اللباس وألبسته جبة صوف ، وقيدته بقيد من حديد ، كما قال المولى الجامي :
ز آهن بند بر سيمش نهادند
بكردن طوق تسليمش نهادند
بسان عيسى اش برخر نشاندند
بهر كويى ز مصران خر براندند
منادي زن منادي بر كشيده
كه هر سركش غلام شوخ ديده
كه كيرد شيوه بي حرمتي يش
نهد ا در فراش خواجه خويش
بود لائق كه همون ناسندان
بدين خواري برندش سوى زندان
ولى خلقي زهر سو در تماشا
همي كفتند حاشا ثم حاشا
كزين روى نكوبد كارى آيد
وزين دلدار دل آزاري آيد
فرشتست اين بصد اكى سرشته
نيايد كار شيطان از فرشته
نان كز زشت نيكويى نيايد
زنيكونيز بد خويى نيايد
بدينسان تا بزندانش ببردند
بعياران زندانش سردند
فلما دنا من باب السجن نكس رأسه ، فلما دخل قال : بسم الله وجلس وأحاط به أهل السجن وهو يبكي ، وأتاه جبريل وقال له : مم بكاؤك وأنت اخترت السجن لنفسك؟ فقال : إنما بكائي لأنه ليس في السجن مكان طاهر أصلي فيه ، فقال له جبريل : صل حيث شئت فإن الله قد طهر خارج السجن وداخله أربعين ذراعاً لأجلك ، فكان يصلي حيث شاء ، وكان يصلي ليلة الجمعة عند باب السجن.
قال المولى الجامي :
ون آن دل زنده در زندان در آمد
بجسم مرده كويى جان بر آمد
دران محنت سرا افتاد جوشى
بر آمد زان كرفتاران خروشي
جزء : 4 رقم الصفحة : 253
بشادي شد بدل اندوه ايشان
كم از كاهى غم ون كوه ايشان
بهرا ياركلر خسار كردد
اكر كلخن بود كلزار كردد
حكي أن يوسف عليه السلام دعا لأهل السجن ، فقال : اللهم اعطف عليهم الأخيار ولا تخفِ عنهم الأخبار فيقال : إنهم أعلم الناس بكل خبر.
ون درزندان كرفت از جنبش آرام
بندانيان زليخا داد يغام
كزين س محنتش مسند بر دل
ز كردن غل زايش بند بكسل
تن سيمينش از شمين مفرساي
بذر كش حله سروش بنياراي
(4/164)
بشوى از فرق او كرد نندى
زتاج حشمتش ده سر بلندي
يكى خانه باري اوجدا كن
جدا از ديكران آنجاش جاكن
زمينش راز سندس فرش انداز
زاستبرق بساط دلكش انداز
255
دران خانه ومنزل ساخت يوسف
بساط بندكى انداخت يوسف
رخ آورد آننان كش بود عادت
دران منزل بمحراب عبادت
و مردان در مقام صبر بنشست
بكشرانه كه ازكيد زنان رست
نيفتد درجهان كس را بلايى
كه نايد زان بلا بوي عطايي
اسيرى كز بلا باشد هراسان
كند بوي عطا دشوراش آسان
ثم إن زليخا أثر في قلبها الفراق وإحراق نار الاشتياق.
و قدر نعمت ديدار نشناخت
بداغ دورى ازديدار بكداخت
وصارت دارها عين السجن في عينها.
به تنك آمد دران زندان دل او
يكى صد شد زهجران مشكل او
ه آسايش دران كلزار ماند
كزان كل رخت بندد خار ماند
زدل خونين رقم بر روى همي زد
بحسرت دست بر زانو همي زد
كه اين كارى كه من كردم كه كردست
نين زهري كه من خوردم كه خوردست
درين محنت سرايك عشق يشه
نزد ون من باي خويش تيشه
وكانت تتفكر في إلقاء نفسها من أعلى القصر أو شرب السم حتى تهلك ، وكانت لها داية تسليها وتحثها على الصبر.
زمن بشنوكه هشتم ير اين كار
شكيبايى بود تدبير اين كار
بصبر اندر صدف باران شود در
بصبر از لعل وكوهر كان شود ر
ثم إنها عيل صبرها فجاءت ليلة مع دايتها إلى السجن وطالعت جمال يوسف من بعيد.
بديدش بر سر سجاده ازدور
و خورشيد در خشان غرقه نور
كهى ون شمع برا ايستاده
زرخ زندانيانرا نور داده
كهى خم كرده قامت ون مه نو
فكنده بربساط از هره رتو
كهى سر برزمين از عذر تقصير
و شاح تازه كل ازباد شبكير
كهى طرح تواضع در فكنده
نشسته ون بنفشه سر فكنده
جزء : 4 رقم الصفحة : 253
ثم لما أصبحت جعلت تنظر من روزنة القصر إلى جانب السجن.
نبودي هيكه خالي ازين كار
كهى ديوار ديدي كاه ديدار
زنعمتهاى خوش هر لحظه يزى
نهادى بر كف محرم كنيزى
فرستادى بزندان سوى يوسف
كه تاديدي بجايش روى يوسف
بكشت از حال خودروزى مزاجش
بزخم نشتر افتاد احتياجش
ز خونش بر زمين درديده كس
نيامد غير يوسف يوسف وبس
بكلك نشتر استاد سبك دست
بلوح خاك نقش اين حرف را بست
نان ازدوست ر بودش رك ووست
كه بيرون نا مدش از وست جزدوست
خرش آكس كورهايى يابداز خويش
نسيم آشنايى يابد از خويش
256
نه بويى باشدش ازخود نه رنكى
نه صلحي باشدش باكس نه جنكى
نيارد خويشتن را در شمارى
نكيرد يش غير ازعشق كارى
جزء : 4 رقم الصفحة : 253
[يوسف : 36-12]{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} أي : أدخل يوسف السجن واتفق أن أدخل حينئذٍ آخران من عبيد الملك الأكبر وهو ريان بن الوليد ، أحداهما شرابيه ، واسمه أبروها أويونا ، والآخر خبازه واسمه غالب أو مخلب روى أن جماعة من أهل مصر ضمنوا لهما مالاً لَيِّسمَّا الملك في طعامه وشرابه فأجاباهم إلى ذلك ، ثم إن الساقي نكل عن ذلك ومضى عليه الخباز فسم الخبز ، فلما حضر الطعام قال الساقي : لا تأكل أيها الملك فإن الخبز مسموم وقال الخباز : لا تشرب أيها الملك فإن الشراب مسموم ، قال الملك : للساقي أشربه فشربه فلم يضره وقال للخباز كله فأبى فجربه بدابة فهلكت ، فأمر بحبسهما فاتفق أن أدخلاه معه ، وكأنه قيل ماذا صنعا بعد ما دخلا معه السجن فأجيب بأن قال أحدهما وهو الشرابي إني أريني في المنام كأني في بستان ، فإذا أنا بأصل حبلة حسنة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب ، فجنيتها وكان كأس الملك بيدي فعصرها فيه وسقيت الملك فشربه ، وذلك قوله تعالى : أعصر خمراً أي : عنباً سماه بما يؤول إليه لكونه المقصود من العصر وقال الآخر وهو الخباز إني أريني كأني في مطبخ الملك احمل فوق رأسي خبزاً فوق بمعنى على ، أي : على رأسي ، ومثله.
فاضربوا فوق الأعناق}(الأنفال : 12) كما في "التبيان" ثم وصف الخبز بقوله.
{تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} يعني كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها خبز وألوان الأطعمة وأرى سباع الطير يأكلن من السلة العليا.
واختلف في أنهما هل رأيا رؤيا أو لم يريا شيئاً فتحالما اختباراً ليوسف ، لأنه لما دخل السجن ، قال لأهله : إني أعبر الأحلام ورأى أحدهما وهو الناجي وكذب الآخر وهو المصلوب.
نبئنا بتأويله أي : أخبرنا بتفسير ما ذكر من الرؤيين وما يؤول إليه أمرهما وعبارة كل واحد منهما نبئني بتأويله مستفسرا لما رآه وصيغة المتكلم مع الغير واقعة في الحكاية دون المحكي على طريقة قوله تعالى : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات}(المؤمنون : 51) فإنهم لم يخاطبوا بذلك دفعة بل خوطب كل منهم في زمانه بصيغة مفردة خاصة به {إِنَّا نَرَاـاكَ} يجوز أن تكون من الرؤية بالعين وأن يكون من الرؤية بالقلب كما في بحر العلوم من المحسنين الذين يجيدون عبارة الرؤيا لما رأياه يقص عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤولها له تأويلاً حسناً ويقع الأمر على ما عبر به أو من المحسنين إلى أهل السجن ، أي فأحس إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادراً على ذلك ، كما قال المولى الجامي :
(4/165)
جزء : 4 رقم الصفحة : 257
و زندان بركر فتاران زندان
شد از ديدار يوسف باغ خندان
همه از مقدم او شاد كشتند
زبند دردورنج آزاد كشتند
بكردن غلشان شد طوق اقبال
با زنجير شان فرخنده خلخال
اكر زندانى بيمار كشتى
اسير محنت وتيمار كشتى
كمر بستي ي بيمار داريش
خلاصي دادي از تيمار اريش
اكر جابر كرفتارى شدى تنك
سوى تدبير كارش كردي آهنك
كشاده روشدي اورا دوا جوى
زتنكى دركشاد آورديش روى
257
وكر بر مفلسي عشرت شدى تلخ
زنا داري نموده غره اش سلخ
ززرداران كليد زر كرفتي
زعيشش قفل تنكى بر كرفتي
وكر خوابي بديدي تنك بختي
بكرداب بلا افتاده رختي
شنيدي ازلبش تعبير آن خواب
بخشكي آمدي رختش زكرداب
وكان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول : أبشروا واصبروا تؤجروا
صبوري مايه اميدت آرد
صبوري دولت جاويدت آرد
فقالوا : بارك الله عليك ما أحسن وجهك ، وما أحسن خلقك ، لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ قال : أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب ، ابن ذبيح الله إسحاق ، ابن خليل الله إبراهيم عليهم السلام فقال له عامل السجن : لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك ، فكن في أي بيوت السجن شئت وروى أن الفتيين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك ، فقال : أنشدكما بالله أن لا تحباني فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء ، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من حبها بلاء ، ثم أحبني أبي فدخل عليّ من حبه بلاء ، ثم أحبني زوجة صاحبي ، فدخل عليّ من حبها بلاء ، فلا تحباني بارك الله فيكما.
قال بعضهم : ابتلى يوسف بالعبودية والسجن ليرحم المماليك والمسجونين إذا صار خليفة وملكاً في الأرض ، وابتلى بجفاء الأقارب والحساد ليعتاد الاحتمال من القريب والبعيد وابتلى بالغربة ليرحم الغرباء وفي الخبر يجاء بالعبد يوم القيامة فيقال له ما منعك أن تكون عبدتني؟ فيقول : ابتليتني فجعلت علي أرباباً فشغلوني فيجاء بيوسف عليه السلام في عبوديته فيقال : أنت أشد أم هذا؟ فيقول : بل هذا ، فيقال لِمَ لم يمنعه ذلك أن عبدني ، ويجاء بالغني فيقال ما منعك أن تكون عبدتني فيقول يا رب كثرت لي من المال فيذكر ما ابتلى به فيجاء بسليمان عليه السلام فيقال ءانت أغنى أم هذا؟ فيقول : بل هذا فيقول : لِمَ لم يمنعه ذلك أن عبدني ، ويجاء بالمريض فيقال له ما منعك أن تعبدني فيقول : رب ابتليتني ، فيجاء بأيوب عليه السلام فيقال : ءانت أشد ضراً وبلاء أم هذا؟ فيقول : بل هذا فيقال : لِمَ لم يمنعه ذلك إن عبدني ، ويجاء بيائس من رحمة الله بسبب عصيانه ، فيقال : لِمَ يئست من رحمتي؟ فيقول : لكثرة عصياني ، فيجاء بفرعون فيقال أأنت كنت أكثر عصياناً أم هذا؟ فيقول بل هذا : فيقال له : ما هو يائس من الرحمة التي وسعت كل شيء حيث أجرى كلمة التوحيد على لسانه عند الغرق ، فيوسف حجة على من ابتلى بالرق ، والعبودية ، إذا قصر في حق الله تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 257
وسليمان حجة على الملوك والأغنياء.
وأيوب حجة على أهل البلاء.
وفرعون حجة على أهل اليأس نعوذ برب الناس أي بالنسبة إلى ظاهر الحال عند الغرق وإن كان كافراً في الحقيقة بإجماع العلماء وليس ما جرى على الأنبياء والأولياء من المحن والبلايا عقوبات لهم بل هي تحف وهدايا وفي الحديث : إذا أحب الله عبداً صب عليه البلاء صباً.
جاميا دل بغم ودردنه اندرره عشق
كه نشد مردره آنكس كه نه اين درد كشيد
والإشارة أنه لما دخل يوسف القلب سجن الشريعة ، دخل معه السجن فتيان وهما ساقي النفس وخباز البدن غلامان لملك الروح أحدهما صاحب شرابه والآخر صاحب طعامه فالنفس صاحب شرابه تهيىء لملك الروح ما يصلح له شربه منه فإن الروح العلوي الأخروي
258
(4/166)
لا يعمل عملاً في السفلى البدني إلا بشرب يشربه النفس ، والبدن صاحب طعامه الذي يهيىء من الأعمال الصالحة ما يصلح لغذاء الروح ، والروح لا يبقى إلا بغذاء روحاني باق ، كما أن الجسم لا يبقى إلا بغذاء جسماني ، وإنما حبسا في سجن الشريعة لأنهما مهتمان بأن يجعلا السم في شراب ملك الروح وطعامه فيهلكاه وهو سم الهوى والمعصية ، فإذا كانا محبوسين في سجن الشريعة أمن ملك الروح من شرهما ، والنفس والبدن كلاهما دنيوي وأهل الدنيا نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا وكل عمل يعمله أهل الدنيا هو بمثابة الرؤيا التي يراها النائم ، فإذا انتبه بالموت يكون لها تأويل يظهر لها في الآخرة ويوسف القلب بتأويل مقامات أهل الدنيا عالم ، لأنه من المحسنين أي الذين يعبدون الله على الرؤية والمشاهدة بقلوب حاضرة عند مولاهم وجوه ناضرة إلى ربها ناظرة ، وكل حكم صدر من تلك الحضرة فهم شاهدوه في الغيب ، كما قبل نزوله إلى عالم الغيب ، فكسته القوة المتخيلة عند عبوره عليها كسوة خيالية تناسب معناه ، فصاحب الرؤيا إن كان عالماً بلسان الخيال يعبره ولا يعرضه على المعبر ليكون ترجماناً له فيترجم له بلسان الخيال ، فيخبره عن الحكم الصادر من الحضرة الإلهية ، فلهذا كانت الرؤيا الصالحة جزأ من أجزاء النبوة لأنها فرع من الوحي الصادر من الله وتأويل الرؤيا جزء أيضاً من أجزاء النبوة لأنه علم لدني يعلمه الله من يشاء من عباده قال يوسف أراد أن يدعو الفتيين إلى التوحيد الذي هو أولى بهما وأوجب عليهما مما سألا منه ويرشدهما إلى الإيمان ، ويزينه لهما قبل أن يسعفهما بذلك كما هو طريقة الأنبياء والعلماء الصالحين في الهداية والإرشاد والشفقة على الخلق ، فقدم ما هو معجزة من الأخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير.
جزء : 4 رقم الصفحة : 257
[يوسف : 37]{لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِه إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} هذا حسب عادتكما المطردة.
ألا نبأتكما بتأويله استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما به بأن بينت لكما ماهيته من أي جنس هو ومقداره وكيفيته من اللون والطعم وسائر أحواله ، وإطلاق التأويل عليه بطريق الاستعارة فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعام المبهم بمنزلة التأويل بالنظر إلى ما رؤى في المنام وشبيه له.
قبل أن يأتيكما}(يوسف : 37) قبل أن يصل إليكما ، وكان يخبر بما غاب مثل عيسى عليه السلام كما قال : {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ} (آل عمران : 49).
وفي المثنوى :
اين طبيبان بدن دانشورند
بر سقام تو زتو واقفترند
تاز قاروره همي بينند حال
كه نداني توازان رو اعتدال
هم زنبض وهم زرنك وهم زدم
بو برند ازتو بهر كونه سقم
س طبيبان الهي درجهان
ون ندانند ازتوبى كفت دهان
هم زنبضت هم زشمت هم زرنك
صد سقم بينند درتو بي درنك
اين طبيبان نو آموزند خود
كه بدين آياتشان حاجت بود
كاملان ازدور نامت بشنوند
تا بقعر تارو بودت درروند
بلكه يش اززادن توسالها
ديده باشندت ترا با عالها
259
{ذَالِكُمَا} أي : ذلك التأويل والأخبار بالمغيبات أيها الفتيان مما علمني ربي بالوحي والإلهام وليس من قبل التكهن والتنجم وذلك أنه لما نبأهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما ويقول اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت وكم تأكلان فيجدان كما أخبرهما قالا : هذا من فعل العرافين والكهان ، فمن أين لك هذا العلم؟ فقال : ما أنا بكاهن وإنما ذلك العلم مما علمني ربي ، وفيه دلالة على أن له علوماً جمة ما سمعناه قطعة من جملتها وشعبة من دوحتها وكأنه قيل لماذا علمك ربك تلك العلوم البديعة فقيل : إني أي : لأني تركت رفضت ملة قوم أي : قوم كان من قوم مصر وغيره لا يؤمنون بالله والمراد بتركها الامتناع عنها رأساً لا تركها بعد ملابستها وإنما عبر عنه بذلك لكونه أدخل بحسب الظاهر في اقتدائهما به عليه السلام.
وهم بالآخرة وما فيها من الجزاء هم كافرون على الخصوص دون غيرهم لإفراطهم في الكفر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 259
قال في بحر العلوم : هذا التعليل من أبين دليل على أن أفعال الله معللة بمصالح العباد كما هو رأي الحنفية مع أن الأصلح لا يكون واجباً عليه ، قالوا : وما أبعد عن الحق قول من قال إنها غير معللة بها ، فإن بعثة الأنبياء لاهتداء الخلق ، وإظهار المعجزات لتصديقهم ، وأيضاً لو لم يفعل لغرض يلزم العبث تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً انتهى.
قال في التأويلات النجمية : يعني لما تركت هذه الملة علمني ربي وفيه إشارة إلى أن القلب مهما ترك ملة النفس والهوى والطبيعة علمه الله علم الحقيقة وملتهم أنهم قوم لا يؤمنون بالله لأن النفس تدعى الربوبية ، كما قال نفس فرعون أنا ربكم الأعلى ، والهوى يدعى الألوهية كما قال تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه}(الجاثية : 23) والطبيعة هي التي ضد الشريعة.
(4/167)
جزء : 4 رقم الصفحة : 259
{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِيا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ} عرف شرف نسبه وأنه من أهل بيت النبوة لتتقوى رغبتهما في الاستماع منه والوثوق عليه ، وكان فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمراً مشهوراً في الدنيا فإذا ظهر أنه ولدهم عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال وأخذوا منه ، ولذلك جوز للعالم إذا جهلت منزلة في العلم أن يصف نفسه ويعلم الناس بفضله حتى يعرف فيقتبس منه وينتفع به في الدين ، وفي الحديث : إن الله يسأل الرجل عن فضل علمه كما يسأله عن فضل ماله وقدم ذكر ترك ملة الكفرة على ذكر اتباعه لملة آبائه لأن التخلية بالمعجمة متقدمة على التحلية بالمهملة ، وفيه إشارة إلى أن الاتباع سبب للفوز بالكمالات والظفر بجميع المرادات والإشارة أن ملة إبراهيم السر وإسحاق الخفاء ويعقوب الروح التوحيد والمعرفة ، ما كان أي : ما صح وما استقام فضلاً عن الوقوع لنا معاشر الأنبياء لقوة نفوسنا ووفور علومنا.
أن نشرك بالله من شيء أي شيء كان من ملك أو جنى أو أنسي فضلاً عن الجماد الذي لا يضر ولا ينفع ذلك التوحيد المدلول عليه بقوله ما كان لنا إلخ ناشىء من فضل الله علينا بالوحي يعني (بوحي مارا آكاهى داده) وعلى الناس كافة بواسطتنا وأرسالنا لإرشادهم إذ وجود القائد للأعمى رحمة من الله أية رحمة ولكن أكثر الناس المبعوث إليهم لا يشكرون هذا فيعرضون عنه ولا ينتهون ولما كان الأنبياء وكمل الأولياء وسائط بين الله وخلقه لزم شكرهم تأكيداً للعبودية وقياماً
260
بحق الحكمة.
يا صاحبي السجن الإضافة بمعنى في ، أي يا صاحبي في السجن لما ذكر ما هو عليه من الدين القويم تلطف في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام فناداهما باسم الصحبة في المكان الشاق الذي يخلص فيه المودة ويتمحض فهي النصيحة.
ءارباب متفرقون الاستفهام إنكاري (آيا خدايان راكنده كه شما داريد اززر ونقره وآهن ووب وسنك) او من صغير وكبير ووسط كما في التبيان.
خير لكما أم الله المعبود بالحق الواحد المنفرد بالألوهية القهار الغالب الذي لا يغالبه أحد ، وفيه إشارة إلى أن الله يقهر بوحدته الكثرة وأن الدنيا والهوى والشيطان وإن كان لها خيرية بحسب زعم أهلها لكنها شر محض عند الله تعالى لكونها مضلة عن طريق طلب أعلى المطالب وأشرف المقاصد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 260
ما تعبدون الخطاب لهما ولمن على دينهما.
من دونه أي من دون الله شيئاً.
إلا أسماء مجردة لا مطابق لها في الخارج لأن ما ليس فيه مصداق إطلاق الاسم عليه لا وجود له أصلاً فكانت عبادتهم لتلك الأسماء فقط.
سميتموها جعلتموها أسماء أنتم وآباؤكم بمحض جهلكم وضلالتكم.
ما أنزل الله بها أي بتلك التسمية المستتبعة للعبادة.
من سلطان من حجة تدل على صحتها إن الحكم في أمر العبادة المتفرعة على تلك التسمية إلالأنه المستحق لها بالذات ؛ إذ هو الواجب بالذات الموجد للكل ، والمالك لأمره ، فكأنه قيل فماذا حكم الله في هذا الشأن فقيل : أمر على ألسنة الأنبياء أن لا تعبدوا أي بأن لا تعبدوا إلا إياه الذي دلت عليه الحجج ذلك تخصيصه تعالى بالعبادة الدين القيم أي الثابت أو المستقيم وهو دين الإسلام الذي لا عوج فيه وأنتم لا تميزون الثابت من غيره ، ولا المعوج من القويم قال تعالى : إن الدين عند الله الإسلام}(آل عمران : 19) وهو باعتبار الأصول واحد وباعتبار الفروع مختلف ولا يقدح الكثرة العارضة بحسب الشرائع المبنية على استعدادات الأمم في وحدته.
{وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} فيخبطون في جهالتهم.
واعلم أن ما سوى الله تعالى ظل زائل ، والعاقل لا يتبع الظل بل يتبع من خلق الظل ، وهو الله تعالى واتباعه به هو تدينه بما أمر به ، ومن جملته قصر العبادة له بالاجتناب عن الشرك الجلي والخفي وهو الإخلاص التام الموصل إلى الله الملك العلام.
قال بعض الفضلاء : الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه لكونه إيماناً وطاعة وأما الرغبة فيه لطلب الثواب وللخوف من العقاب فغير مفيد انتهى وحكى أن أمرة قالت لجماعة ما السخاء عندكم؟ قالوا : بذل المال قالت هو سخاء أهل الدنيا والعوام ، فما سخاء الخواص ؛ قالوا : بذل المجهود في الطاعة ، قالت : ترجون الثواب قالوا : نعم قالت تأخذون العشرة بواحد لقوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}(الأنعام : 160) فأين السخاء؟ قالوا : فما عندك قالت : العملتعالى لا للجنة ولا للنار ولا للثواب وخوف العقاب ، وذلك لا يمكن إلا بالتجريد والتفريد والوصول إلى حقيقة الوجود ، وبمثل هذا العمل يصل المرء إلى الله تعالى ويجد الله أطوع له فيما أراد ، ولا تزال العوالم في قبضته بإذن الله تعالى فيحكم بحكم الله تعالى ويعلم بعلم الله تعالى فيخبر عن المغيبات كما وقع ليوسف عليه السلام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 260
قال أبو بكر الكتاني قال
261
(4/168)
لي الخضر كنت بمسجد صنعاء وكان الناس يستمعون الحديث من عبد الرزاق وفي زاوية المسجد شاب في المراقبة فقلت له لم لا تسمع كلام عبد الرزاق؟ قال : أنا أسمع كلام الرزاق وأنت تدعوني إلى عبد الرزاق ، فقلت له : إن كنت صادقاً فأخبرني من أنا؟ فقال : أنت الخضر ؛ فللَّه عباد قد بدلوا الحياة الفانية بالحياة الباقية وذلك ببذل الكل وإفنائه في تحصيل الوجود الحقاني وعملوافي الله بإسقاط ملاحظة الدارين ، فكوشفوا عن صور الأكوان وحقائق المعاني.
وعن قدوة العارفين الشيخ عبد الله القرشي رحمه الله قال : دخلت مصر في أيام الغلاء الكبير فعزمت أن ادعو الله لرفعه ، فنوديت بالمنع فسافرت إلى الشام ، فلما دنوت من قبل خليل الله تلقاني الخليل عليه السلام ، فقلت يا خليل الله اجعل ضيافتي الدعاء لأهل مصر ، فدعا لهم ففرج الله عنهم.
فقال الإمام اليافعي : قول الشيخ تلقاني الخليل حق لا ينكره إلا جاهل بمعرفة ما يرد عليهم من الأحوال التي يشاهدون فيها ملكوت السموات.
ثم اعلم أن جميع الأنبياء أمروا بالإيمان وإخلاص العبادة ، والإيمان يقبل البلى كما دل عليه قوله عليه السلام : "جددوا إيمانكم بقول لا إله إلا الله" وذلك بزوال الحب فلا بد من تجديد عقد القلب بالتوحيد ، وكلمة التوحيد مركبة من النفي والإثبات فتنفى ما سوى المعبود وتثبت ما هو المقصود ، ويصل الموحد إلى كمال الشهود ، وحصول ذلك بنور التلقين والكينونة مع أهل الصدق واليقين ، وأقل الأمر ملازمة المجالس وربط القلب بواحد منهم نسأل الله تعالى أن يوفقنا لتحصيل المناسبة المعنوية بعد المجالسة الصورية إنه وهاب العطايا فياض المعاني والحقائق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 260
يا صَـاحِبَىِ السِّجْنِ} الإضافة بمعنى في كما سبق.
والمعنى بالفارسية (اي ياران زندان).
أما أحدكما وهو الشرابي ولم يعينه لدلالة لتعبير عليه.
فيسقى (بياشاماند) ربه سيده خمراً كما كان يسقيه قبل روى أنه عليه السلام قال له : أما ما رأيت من الكرمة وحسنها فهو الملك وحسن حالك عنده ، أو قال له ما أحسن ما رأيت أما حسن الحبلة ، وهي أصل من أصول الكرم فهو حسن حالك وسلطانك وعزك وأما القضبان الثلاثة ، فثلاثة أيام تمضي في السجن ثم يوجه الملك إليك عند انقضائهن فيردك إلى عملك فتصير كما كنت بل أحسن وأما الآخر وهو الخباز فيصلب فتأكل الطير من رأسه (ازكله سروى).
روى أنه عليه السلام قال له : بئس ما رأيت أما خروجك من المطبخ فخروجك من عملك وأما السلال الثلاثة فثلاثة أيام تمر ثم يوجه الملك إليك عند انقضائهن فيصلبك فتأكل الطير من رأسك.
وفي الكواشي : أكل الطير من أعلاها إخراجه في اليوم الثالث.
قضى الأمر فرغ منه وأتم وأحكم وهو ما رأياه من الرؤيين وإسناد القضاء إليه مع أنه من أحوال مآله وهو نجاة أحدهما وهلاك الآخر لأنه في الحقيقة عين ذلك المآل وقد ظهر في عالم المثال بتلك الصورة الذي فيه تستفتيان تطلبان فتواه وتأويله روى أنه لما عبر رؤياهما جحدا وقالا ما رأينا شيئاً ، فأخبر أن ذلك كائن صدقتما أو كذبتما ، ولعل الجحود من الخباز ؛ إذ لا داعي إلى جحود الشرابي إلا أن يكون ذلك لمراعاة جانبه فكان كما عبر يوسف حيث أخرج الملك صاحب الشراب ورده إلى مكانه وخلع عليه وأحسن إليه لما تبين عنده حاله في الأمانة ، وأخرج الخباز ونزع ثيابه وجلده بالسياط حتى مات لما ظهر عنده خيانته وصلبه
262
على قارعة الطريق ، وأقبلت طيور سود فأكلت من رأسه وهو أول من استعمل الصلب ثم استعمله فرعون موسى كما حكى عنه من قوله : لأصلبنكم في جذوع النخل}(طه : 71) ـ ـ وروى ـ ـ أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما رجع من غزوة بدر إلى المدينة ومر بعرق الظبية وهي شجرة يستظل بها أمر فصلب عقبة بن أبي معيط من الأسارى وهو أول مصلوب من الكفار في الإسلام وكان يفترى على رسول الله في مكة وبزق مرة في وجهه والصلب أصعب أنواع أسباب الهلاك لانحباس النفس في البدن ويفعله الحاكم بحسب ما رأى في بعض المجرمين تشديداً للجزاء وليكون عبرة للناس.
جزء : 4 رقم الصفحة : 262
والإشارة : إما النفس فسقى الروح خمراً ، وهو ما خامر العقل مرة من شراب الشهوات واللذات النفسانية وتارة بأقداح المعاملات والمجاهدات شراب الكشوف والمشاهدات الربانية وهي باقية في خدمة ملك الروح أبداً ، وأما البدن فيصلب بحبل الموت فتأكل طير أعوان الملك من رأسه الخيالات الفاسدة التي جمعت في أم دماغه.
واعلم : أن الموت أشد شيء وأن المرء ينقطع عنده عن كل شيء ولا يبقى معه إلا ثلاث صفات صفاء القلب وأنسه بذكر الله وحبه ، ولا يخفى إن صفاء القلب وطهارته عن أدناس الدنيا لا تكون إلا مع المعرفة ، والمعرفة لا تكون إلا بدوام الذكر والفكر ، وخير الأذكار التوحيد وفي الحديث : "ذكر الله علم الإيمان ، وبراءة من النفاق ، وحصن من الشيطان ، وحرز من النار".
قال المولى الجامي :
دلت آيينه خداي نماست
روى آيينه توتيره راست
صيقلى داري صيقلي ميزن
(4/169)
باشد آيينه ات شود روشن
صيقل آن اكرنه آكاه
نيست جز لا إله إلا الله
{قَالَ يُوسُفُ} للذي ظن يوسف أنه ناج منهما (ازان هردو يعني ساقيرا) أي وثق وعلم لأن الظن من الأضداد يكون شكا ويقيناً فالتعبير بالوحي ، كما ينبىء عنه قوله : قضى الأمر إذ لو بنى جوابه على التعبير لما قال قضى ، لأن التعبير على الظن ، والقضاء هو الإلزام الجازم والحكم القاطع الذي لا يصح ابتناؤه على الظن اذكرني عند ربك أي : سيدك وقل له في السجن غلام محبوس ظلماً طال حبسه لعله يرحمني ويخلصني من هذه الورطة
بكو هست اند اران زندان غريبي
زعدل شاه دوران بي نصيبي
نينش بي كنه مسند رنجور
كه هست اين از طريق معدلت دور
(أما ون تقرب برسيد واز ساغر جاه ودولت سرخوش كرديد از زندان وازاهل آن غافل شد) فانسيه الشيطان أي أنسى الشرابي بوسوسته والقائه في قلبه أشغالاً تعوقه عن الذكر وإلا فالإنساء في الحقيقة الله تعالى ، والفاء للسببية فإن توصيته عليه السلام المتضمنة للاستعانة بغيرة تعالى كانت باعثة لما ذكر من الإنساء ذكر ربه أي : ذكر الشرابي له عليه السلام عند الملك والإضافة لأدنى ملابسة ، يعني أن الظاهر أن يقال ذكره لربه على إضافة المصدر إلى مفعوله لأن الشائع في إضافته أن يضاف إلى الفاعل ، أو المفعول به الصريح إلا أنه أضيف إلى غير الصريح للملابسة.
قال المولى الجامي :
نان رفت آن وصيت از خيالش
كه بر خاطر نيامد ند سالش
263
نهال وعده اش مأيوسى آورد
جزء : 4 رقم الصفحة : 262
بزندان بلا محبوسي آورد
بلى آنراكه ايزد بركزيند
بصدر عز معشوقي نشيند
ره أسباب درويشي به بندد
رهين اين وآنش كم سندد
نخواهد دست او در دامن كس
اسيردام خويشش خواهد وبس
وفي القصص أن زليخا سألت العزيز أن يخرج يوسف من السجن فلم يفعل وأنساهم الله أمر يوسف فلم يذكره فلبث يوسف بسبب ذلك الإنساء أو القول في السجن بضع سنين نصب على ظرف الزمان أي سبع سنين بعد الخمس لما روى عن النبي أنه قال : رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك لما لبث في السجن سبعاً بعد الخمس.
قال في الفتح لبث يوسف في السجن اثنتي عشرة سنة عدد حروف اذكرني عند ربك فصاحباه اللذان دخلا معه السجن بقيا محبوسين فيه خمس سنين ، ثم رأيا رؤياهما قبل انقضاء تلك المدة بثلاثة أيام ، وفي هذا العدد كمال القوة والتأثير كالأئمة الاثني عشر على عدد البروج الاثني عشر وملائكة البروج الاثني عشر أئمة العالم والعالم ، تحت إحاطتهم وفي الخبر إشارة إلى قوة هذا العدد معنى إذ اثنا عشر ألفاً لن يغلب عن قلة أبداً ، ولذلك وجب الثبات على العسكر إذا وجد العدد المذكور ، ولا إله إلا الله اثنا عشر ، حرفا وكذا محمد رسول الله ، ولكل حرف الف باب فيكون للتوحيد اثنا عشر الف باب.
يقول الفقير : حبس الله تعالى يوسف في السجن اثني عشر عاماً لتكميل وجوده بكمالات أهل الأرض ، والسماء ، ففي العدد المذكور إشارة إليه مع أخوته الأحد عشر فله القوة الجمعية الكمالية فافهم.
قال بعضهم : فأنساه الشيطان ذكر ربه أي أنسى يوسف ذكر الله حتى استعان بغيره وليس ذلك من باب الإغواء حتى يخالف إلا عبادك منهم المخلصين فإن معناه الإضلال بل هو من ترك الأولى.
وفي بحر العلوم والاستعانة بغير الله في كشف الشدائد وإن كانت محمودة في الجملة لكنها لا تليق بمنصب الأنبياء الذين هم أفضل الخلق وأهل الترقي فهي تنزل من باب ترك الأولى والأفضل ، ولا شك أن الأنبياء يعاتبون على الصغائر معاتبة غيرهم على الكبائر كما في الكواشي.
وليس ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله لم يأخذه النوم ليلة من الليالي وكان يغلب من يحرسه حتى جاء سعد فسمعت غطيطه مخالفاً له إذ ليس فيه استعانة في كشف الشدة النازلة بغير الله ، بل هو استئناس كما في حواشي سعدي المفتي وحكى أن جبريل دخل على يوسف في السجن فلما رآه يوسف عرفه ، فقال له : يا أخا المنذرين مالي أراك بين الخاطئين فقال له جبريل : يا طاهر الطاهرين إن الله كرمني بك وبآبائك وهو يقرئك السلام ، ويقول لك أما استحييت مني إذا استعنت بغيري ، وعزتي لا لبثنك في السجن بضع سنين قال يا جبريل : وهو عني راض قال نعم ، إذا لا أبالي ، وكان الواجب عليه أن يقتدي بجده إبراهيم في ترك الاستعانة بالغير كما روى أنه قال له جبريل حين رمى به في النار : هل لك حاجة فقال : أما إليك فلا قال فسل ربك قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 262
وعن مالك بن دينار لما قال يوسف للشرابي : اذكرني عند ربك قال الله تعالى يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلن حبسك ، فبكى يوسف ، وقال يا رب أقسى قلبي كثرة الأحزان
264
والبلوى فقلت كلمة ولا أعود.
وعن الحسن أنه كان يبكي إذا قرأها ويقول : نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس.
قال الكمال الحجندي :
كيست در خوركه رسد دوست بفرياد دلش
آنكه فرياد جور وستم او نكند
ارسا شت فراغت ننهد بر محراب
كر كند تكيه را بر كرم او نكند
(4/170)
والإشارة : وقال يوسف القلب المسجون في حبس الصفات البشرية للنفس اذكرني عند الروح ، يشير إلى أن القلب المسجون في بدء أمره يلهم النفس بأن يذكره بالمعاملات المستحسنة الشرعية عند الروح ليتقوى بها الروح ، وينتبه من نوم الغفلة الناشئة من الحواس الخمس ، ويسعى في استخلاص القلب من أسر الصفات البشرية بالمعاملات الروحانية مستمداً من الألطاف الربانية ، والشيطان بوساوسه يمحو عن النفس أثر الهامات القلب لينسى النفس ذكر الروح بتلك المعاملات.
وفيه معنى آخر : وهو أن الشيطان أنسى القلب ذكر ربه ، يعني : ذكر الله حتى استغاث بالنفس ليذكره عند الروح ولو استغاث بالله لخلصه في الحال.
فلبث في السجن بضع سنين يشير إلى الصفات البشرية السبع التي بها القلب محبوس ، وهي الحرص والبخل والشهوة والحسد والعداوة والغضب والكبر ، كما في التأويلات النجمية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 262
وقال الملك أي ملك مصر وهو الريان بن الوليد إني أرى في المنام سبع بقرات جمع بقرة بالفارسية (كاو) سمان جمع سمينة نعت لبقرات يأكلهن سبع عجاف (هفت كاو لاغر) أي سبع بقرات عجاف جمع عجفاء والقياس عجف ، لأن أفعل وفعلاء لا يجمع على فعال لكنه حمل على نقيضه وهو سمان والعجف الهزال والأعجف المهزول روى أنه لما قرب خروج يوسف من السجن جعل الله لذلك سبباً لا يخطر بالبال :
بسا قفلاكه نايدا كليدست
برو راه كشايش نا بديدست
ز ناكه دست صنعي درميان نى
بفتحش هي صانع را كمان نى
بديد آيد زغيب آنر اكشادى
وديعت در كشادش هر مرادي
و يوسف دل زحيلتهاى خود كند
بريد از رشته تدبير يوند
بجز ايزد نماند اورا ناهى
كه باشد در نوائب تكيه كاهى
ز ندار خودي وبخردي رست
كرفتش فيض فضلي ايزدى دست
وذلك أن الملك أكبر كان يتخذ في كل سنة عيداً على شاطىء النيل ويحشر الناس إليه فيطعمهم أطيب الطعام ، ويسقيهم ألذ الشراب ، وهو جالس على سريره ينظر إليهم فرأى ليلة الجمعة في منامه سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس أو من البحر ، كما في الكواشي وخرج عقيبهن سبع بقرات مهازيل في غاية الهزال فابتلعت العجاف السمان فدخلن في بطونهن فلم ير منهن شيء وسبع أي : وأرى سبع سنبلات جمع سنبلة خضر جمع خضراء نعت لسنبلات والمعنى بالفارسية (هفت خوشه سبزو تازه كه دانهاى ايشان منعقد شده بود) وأخر أي سبعاً أخر يابسات قد أدركت الحصاد والتوت على الخضر حتى غلبن عليها ، وإنما استغنى عن بيان حالها بما قص من حال البقرات فلما استيقظ من منامه اضطرب بسبب أنه شاهد
265
أن الناقص الضعيف استولى على الكامل ، القوي فشهدت فطرته بأن هذه الرؤيا صورة شر عظيم يقع في المملكة إلا أنه ما عرف كيفية الحال فيه فاشتاق ورغب في تحصيل المعرفة بتعبير رؤياه فجمع أعيان مملكته من العلماء والحكماء فقال لهم : يا أيها الملأ فهو خطاب للأشراف من العلماء والحكماء أو للسحرة والكهنة والمنجمين وغيرهم.
كما قال الكاشفي : (اي كروه كاهنان ومعبران وأشراف قوم) أفتوني في رؤياي هذه ، أي عبروها وبينوا حكمها وما يؤول إليه من العاقبة ، وبالفارسية (فتوى دهيد يعني جواب كوييد مرا) إن كنتم للرؤيا تعبرون أي : تعلمون عبارة جنس الرؤيا علماً مستمرا وهي الانتقال من الصور الخيالية المشاهدة في المنام إلى ما هي صور أمثلة لها من الأمور الآفاقية والأنفسية الواقعة في الخارج فالتعبير والعبارة الجواز من صورة ما رأى إلى أمر آخر من العبور وهي المجاوزة وعبرت الرؤيا أثبت من عبرتها تعبيراً واللام للبيان ، كأنه لما قيل كنتم تعبرون قيل لأي شيء فقيل للرؤيا وهذه اللام لم تذكر في بحث اللامات في كتب النحو.
جزء : 4 رقم الصفحة : 265
(4/171)
واعلم : أن الرؤيا تطلب التعبير ، لأن المعاني تظهر في الصور الحسية منزلة على المرتبة الخيالية ، وأما إبراهيم عليه السلام فقد جرى على ظاهر ما أري في ذبح ابنه لأن شأن مثله أن يعمل بالعزيمة دون الرخصة ولو لم يفعل ذلك لما ظهر للناس تسليمه وتسليم ابنه لأمر الحق تعالى وحكى أن الإمام تقي بن مخلد صاحب المسند في الحديث رأى النبي في المنام وقد سقاه لبناً فلما استيقظ استقاء وقاء لبناً أي ليعلم حقيقة هذه الرؤيا وتحقيق قوله عليه السلام : من رآني في المنام فقد رآني في اليقظة فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي ولو عبر رؤياه لكان ذلك اللبن علماً فحرمه الله علماً كثيراً على قدر ما شرب من اللبن ، ثم قاء ، ووجه كون اللبن علماً أنه أول ما يظهر بصورة الحياة ويغتذى به الحيوان فيصير حياً ، كما أن العلم أول ما يتعين به الذات فيظهر عالماً ، ثم إن رآه عليه السلام أحد في المنام بصورته التي مات عليها من غير نقصان من أجزائه ولا تغير في هيئته فإنه يأخذ عنه جميع ما يأمره به أو ينهاه أو يخبره من غير تعبير وتأويل ، كما كان يأخذ عنه من الأحكام الشرعية لو أدركه في الحياة الدنيا إلا أن يكون الللفظ مجملاً فإنه يؤوله ، فإن أعطاه شيئاً في المنام فإن ذلك الشيء هو الذي يدخله التعبير ، فإن خرج في الحس كما كان في الخيال فتلك الرؤيا لا تعبير لها وحكى أن رجلاً من الصلحاء رأى في المنام أنه لطم النبي عليه السلام فانتبه فزعاً وهاله ما رأى مع جلالة النبي عليه السلام عنده فأتى بعض الشيوخ فعرض عليه رؤياه ، فقال له الشيخ : إعلم أنه عليه السلام أعظم من أن يكون عليه يد لك أو لغيرك ، والذي رأيته لم يكن النبي عليه السلام إنما هو شرعه ، قد أخللت بحكم من أحكامه وكون اللطم في الوجه يدل على أنك ارتكبت أمراً محرماً من الكبائر فافتكر الرجل في نفسه فلم يذكر أنه أقدم على محرم من الكبائر وكان من أهل الدين ولم يتهم الشيخ في تعبيره لعلمه بإصابته فيما كان يعبره ، فرجع إلى بيته حزيناً فسألته زوجته عن سبب حزنه فأخبرها برؤياه وتعبير الشيخ فتعجبت الزوجة وأظهرت التوبة وقالت أنا أصدقك كنت حلفت أني إن دخلت دار فلان أحد معارفك فإني طالق ، فعبرت على بابهم فحلفوا عليّ فاستحييت من إلحاحهم فدخلت إليهم وخشيت أن
266
اذكر لك ما جرى فكتمت الحال ، فتاب الرجل واستغفر وتضرع إلى الحق واعتدت المرأة ثم جدد العقد عليها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 265
ومن رأى الحق تعالى في صورة يردها الدليل لزم أن يعبر تلك الصورة التي توجب النقصان ويردها إلى الصورة الكمالية التي جاء بها الشرع ، فما لم يكن عليه لا ينسب إليه تعالى كما في الأسماء ، فما لم يطلق الشرع عليه ما لنا أن ننسبه إليه ، وتلك الصورة التي ردها الدليل وجعلها مفتقرة إلى التعبير ما في حق حال الرائي يحسب مناسبته لتلك الصورة المردودة والمكان الذي يراه فيه أو في حقهما معاً حكي أن بعض الصالحين في بلاد الغرب رأى الحق تعالى في المنام في دهليز بيته ، فلم يلتفت إليه فلطمه في وجهه فلما استيقظ قلق قلقاً شديداً فأخبر الشيخ الأكبر قدس سره بما رأى وفعل ، فلما رأى الشيخ ما به من القلق العظيم قال له : أين رأيته؟ قال : في بيت لي قد اشتريته ، قال الشيخ : ذلك الموضع مغصوب وهو حق للحق المشروع اشتريته ولم تراع حاله ولم تف بحق الشرع فيه فاستدركه فتفحص الرجل عن ذلك فإذا هو من وقف المسجد وقد بيع بغصب ، ولم يعلم الرجل ولم يلتفت إلى أمره فلما تحقق رده إلى وقف المسجد واستغفر الله ولعل الشيخ علم من صلاح الرائي وشدة قلقه أنه ليس من قبيل الرائي فسأله عن المكان الذي رأى فيه فمثل هذا إذا رؤي يجب تأويله ، وأما إذا كان التجلي في الصورة النورية كصورة الشمس أو غيرها من صور الأنوار كالنور الأبيض والأخضر وغير ذلك أبقينا تلك الصورة المرئية على ما رأينا كما نرى الحق في الآخرة فإن تلك الرؤية تكون على قدر استعدادنا فافهم المراتب والمواطن حتى لا تزل قدمك عن رعاية الظاهر والباطن.
وقد جاء في الحديث : أن الحق يتجلى بصورة النقصان فينكرونه ، ثم يتحول ويتجلى بصورة الكمال والعظمة فيقبلونه ويسجدون له فمن صورة مقبولة ومن صورة مردودة فما يحتاج إلى التعبير ينبغي أن لا يترك على حاله فإن موطن الرؤيا وهو عالم المثال يقتضي التعبير ولذا قال ملك مصر.
أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 265
{قَالُوا} استئناف بياني فكأنه قيل فماذا قال : الملأ للملك فقيل قالوا هي : اضغاث أحلام تخاليطها أي أباطيلها وأكاذيبها من حديث نفس أو وسوسة شيطان ، فإن الرؤيا ثلاث ، رؤيا من الله ، ورؤيا تحزين من الشيطان ، ورؤيا مما حدث المرء نفسه على ما ورد في الحديث.
والاضغاث جمع ضغث.
(4/172)
قال في القاموس الغضث بالكسر قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس ، وأضغاث أحلام رؤيا لا يصح تأويلها لاختلاطها انتهى.
والأحلام جمع حلم بضم اللام وسكونها وهي الرؤيا الكاذبة لا حقيقة لها ، لقوله عليه السلام الرؤيا من الله والحلم من الشيطان ، وإضافة الأضغاث إلى الأحلام من قبيل لجين الماء وهو الظاهر كما في حواشي سعد المفتي وجمعوا الضغث مع أن الرؤيا واحدة مبالغة في وصفها بالبطلان فإن لفظ الجمع كما يدل على كثرة الذوات يدل أيضاً على المبالغة في الاتصاف كما تقول فلان يركب الخيل لمن لا يركب إلا فرساً واحداً أو لتضمنها أشياء مختلفة من السبع السمان والسبع العجاف والسنابل السبع الخضر والآخر اليابسات فتأمل حسن موضع الأضغاث مع السنابل فللَّه در شأن التنزيل.
وما نحن بتأويل الأحلام أي المنامات الباطلة التي لا أصل لها بعالمين لا لأن لها تأويلاً ولكن لا نعلمه ، بل لأنه لا تأويل لها ، وإنما التأويل للمنامات
267
الصادقة ، ويجوز أن يكون ذلك اعترافاً منهم بقصور علمهم وأنهم ليسوا بنحارير في تأويل الأحلام مع أن لها تأويلاً فكأنهم قالوا هذه الرؤيا مختلطة من أشياء كثيرة والانتقال فيها من الأمور المخيلة إلى الحقائق العقلية الروحانية ليس بسهل وما نحن بمتبحرين في علم التعبير حتى نهتدي إلى تعبير مثلها ، ويدل على قصورهم قول الملك إن كنتم للرؤيا تعبرون فإنه لو كان هناك متبحر لبت القول بالافتاء ولم يعلقه بالشرط وهو اللائح بالبال وعلى تقدير تبحرهم عمى الله عليهم ، وأعجزهم عن الجواب ليصير ذلك سبباً لخلاص يوسف من الحبس وظهور كماله.
وقال الذي نجا منهما أي : من صاحبي يوسف وهو الشرابي وادكر أصله اذتكر فقلبت التاء دالاً والذال دالاً وأدغمت ، والمعنى تذكر يوسف وما قاله.
بعد أمة أي مدة طويلة حاصلة من اجتماع الأيام الكثيرة وهي سبع سنين كما أن الأمة إنما تحصل من اجتماع الجمع العظيم ، فالمدة الطويلة كأنها أمة من الأيام والساعات والجملة حال من الموصول.
جزء : 4 رقم الصفحة : 267
قال الكاشفي : (ملك ريان وليد از جواب ايشان متحير كشته در درياي تفكر غوطه خورده كه آيا ين مشكل من كه كشايد وراه تعبير اين واقعه كه بمن نمايد)
يا رب اين خواب ريشان مرا تعبير يست
(ساقى كه ملك را متفكر ديد از حال يوسفش ياد آمدى) أي تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه وطلبه أن يذكره عند الملك فجثا بين يدي الملك أي جلس على ركبتيه فقال : أنا أنبئكم بتأويله أي : أخبركم به خاطبه بلفظ الجماعة تعظيماً فارسلون فابعثون إلى السجن فإن فيه رجلاً حكيماً من آل يعقوب يقال له يوسف يعرف تعبير الرؤيا قد عبر لنا قبل ذلك.
بود بدار در تعبير هر خواب
دلش از غوص اين دريا كهرياب
اكر كويى برو بكشايم اين راز
وزو تعبير خوابت آورم باز
بكفتا اذن خواهى يست ازمن
ه بهتر كوررا از شم روشن
مراشم خرداين لحظه كورست
كه از دانستن اين راز دورست
فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فاعتذر إليه وقال : يا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 267
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} البليغ في الصدق وإنما وصفه بذلك ؛ لأنه جرب أحواله وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات أي : في رؤيا ذلك فإن الملك قد رأى هذه الرؤيا ففي قوله أفتنا مع أن المستفتي واحد إشعار بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة ، وأنه في ذلك سفير ، ولم يغير لفظ الملك وأصاب فيه إذ قد يكون بعض عبارات الرؤيا متعلقة باللفظ لعلي أرجع إلى الناس (تا باشدكه بازكردم بآن جواب تمام بسوى مردمان يعني ملك وملازمان او) لعلهم يعلمون (تاباشدكه ايشان ببركت تو بدانند تأويل اين واقعه را) كأنه قيل فما ذا قال يوسف في التأويل فقيل :
قال تزرعون سبع سنين دأبا مصدر دأب في العمل إذا جدّ فيه وتعب وانتصابه على الحالية من فاعل تزرعون بمعنى دائبين أي مستمرين على الزراعة على عادتكم بجد
268
(4/173)
واجتهاد ، والفرق بين الحرث والزرع أن الحرث القاء البذر وتهيئة الأرض ، والزرع مراعاته وإنباته ولهذا قال : أفرأيتم ما تحرثون ءانتم تزرعونه أم نحن الزارعون}(الوافعة : 64) فأثبت لهم الحرث ونفى عنهم الزرع فالزرع أعم لأنه يقال زرع أي طرح البذر وزرع الله ، أي أنبت كما في "القاموس" أخبرهم أنهم يواظبون سبع سنين على الزراعة ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخصب الذي هو مصداق البقرات السمان وتأويلها ودلهم في تضاعيف ذلك على أمر نافع لهم فقال {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنابُلِهِ} (س آنه بدرويد ازغلات در هر سال) أي : اتركوه فيه ولا تذروه كيلاً يأكله السوس كما هو شأن غلال مصر ونواحيها ولعله استدل على ذلك بالسنبلات الخضر وإنما أمرهم بذلك إذ لم يكن معتاداً فيما بينهم وحيث كانوا معتادين للزراعة لم يأمرهم بها وجعلها أمراً محقق الوقوع وتأويلاً للرؤيا ومصداقاً لما فيها من البقرات السمان.
إلا قليلاً (مكراندكى بقدر حاجت) مما تأكلون في تلك السنين فأنتم تدرسون وقت حاجتكم إليه.
وفيه إرشاد منه عليه السلام لهم إلى التقليل في الأكل والاقتصار على استثناء المأكول دون البذر ، لكون ذلك معلوماً من قوله قال تزرعون سبع سنين وبعد إتمام ما أمرهم به شرع في بيان بقية التأويل التي يظهر منها حكمة الأمر المذكور فقال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 268
ثم يأتي من بعد ذلك أي من بعد السنين المذكورات وهو عطف على تزرعون سبع شداد جمع شديدة ، أي : سبع سنين صعاب على الناس لأن الجوع أشد من الأسر والقتل يأكلن ما قدمتم لهن أي يأكل أهلهن ما ادخرتم من الحبوب المتروكة في سنابلها ، وفيه تنبيه على أن أمره بذلك كان لوقت الضرورة وإسناد الأكل إليهم مع أنه حال الناس فيهن مجاز كما في نهاره صائم.
وفيه تلويح بأنه تأويل لا كل العجاف السمان ، واللام في لهن ترشيح لذلك فكأن ما ادخر في السنابل من الحبوب شيء قد هيىء وقدم لهن ، كالذي يقدم للنازل وإلا فهو في الحقيقة مقدم للناس فيهن.
إلا قليلاً مما تحصنون تحرزون وتدخرون للبذر ثم يأتي من بعد ذلك أي : من بعد السنين الموصوفة بما ذكر من الشدة وأكل الغلال المدخرة عام فيه (سالى كه درو) يغاث الناس من الغيث ، أي يمطرون فيكون بناؤه من ثلاثي والفه مقلوبة من الياء يقال غاثنا الله من الغيث ، وبابه باع ويجوز يكون من الغوث ، أي : ينقذون من الشدة ، فيكون بناؤه من رباعي تقول أغاثنا من الغوث فالألف مقلوبة من الواو.
وفيه يعصرون أي : ما شأنه أن يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمسم ونحوها من الفواكه لكثرتها ، وتكرير فيه لأن الغيث والغوث من فعل الله والعصر من فعل الناس ، وأحكام هذا العام المبارك لست مستنبطة من رؤيا الملك ، وإنما تلقاه من جهة الوحي فبشرهم بها ، أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة ، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، وابتلاع العجاف للسمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة وبيانه أن البقر في جنس الحيوانات هو المخصوص بالعجافة وتناول النباتات حلوها ومرها وشرب المياه صافيها وكدرها ، كما أن السنة هي التي تسع الأمور كلها مرغوبها ومكروهها وتأتي بالحوادث حسنها وسيئها ، وأيضاً المعتبر في أمر التعبير هو عبارة الرائي وقد عبر الملك عن رؤياه ببقرات وسنبلات
269
فاستشعر يوسف من الأول بالاشتقاق الكبير على ما هو المعول عليه عند الأكابرآت قرب ومن الثاني سنة بلاء ، ثم إن البلاء مشترك بين الخير والشر والخضر فيه حرفان من الخير مع ظهور ضاد الضوء بها واليابس هو البائس كذا في شرح الفصوص للشيح مؤيد الدين الجندي قدس سره.
يقول الفقير أصلحه الله القدير : وجه تخصيص البقرات والسنابل أن البقر عليه في الأكل والحنطة معظم معاش الناس ، فأشارت الرؤيا إلى أن الناس يقعون في ضيق معاش من جهة الحنطة التي هي أول مأكولاتهم ، ومعظم أغذيتهم ، ولا ينافيه وجود قحط آخر من سائر الأنواع.
جزء : 4 رقم الصفحة : 268
(4/174)
والإشارة : أن السبع البقرات السمان صفات البشرية السبع التي هي الحرص والبخل والشهوة والحسد والعداوة والغضب والكبر ، والعجاف صفات الروحانية السبع التي هي أضداد صفات البشرية ، وهي القناعة والسخاء والعفة والغبطة والشفقة والحلم والتواضع ، والملك الروح وهو ملك مصر القالب ، والملأ الأعضاء والجوارح والحواس والقوى ، وليس التصرف في الملكوت ومعرفة شواهده من شأنها ، والناجي هي النفس الملهمة وهي إذا أرادت أن تعلم شيئاً مما يجرى في الملكوت ترجع بقوة التفكر إلى القلب فتستخبر منه ، فالقلب يخبرها لأنه يشاهد الملكوت ويطالع شواهده ، وهو واقف بلسان القلب ، وهو ترجمان بين الروحانيات والنفس فيما يفهم من لسان الغيب الروحاني يؤول للنفس ، ويفهمها تارة بلسان الخيال ، وتارة بالفكر السليم وتارة بالإلهام ، وقوله : تزرعون سبع سنين دأباً يشير إلى تربية صفات البشرية السبع بالعادة والطبيعة ، وذلك في سني أوان الطفولية قبل البلوغ وظهور العقل ، وجريان قلم التكليف عليه فما حصدتم من هذه الصفات عند كماله فلا تستعملوه فذروه في أماكنه إلا قليلاً مما تعيشون به وهو بمنزلة الغذاء لمصالح قيام القالب إلى أن تبلغوا حد البلاغة ، ويظهر نور العقل في مصباح السر عن زجاجة القلب كأنه كوكب دريّ ، ونور العقل إذا أيد بتأييد أنوار تكاليف الشرع بعد البلوغ وشرف بإلهام الحق في إظهار فجور النفس ، وهو صفات البشرية السبع وتقواها وهو الاجتناب بالتزكية عن هذه الصفات ، والتحلية بصفات الروحانية السبع وكان السبع العجاف قد أكلن السبع السمان ، وإنما سمى السبع العجاف لأنها من عالم الأرواح وهو لطيف ، وصفات البشرية من عالم الأجساد تنشأ وهو كثيف ، فسميت السمان ، ولا يبقى من صفات البشرية عند غلبات صفات الروحانية إلا قليلاً يحصن به الإنسان حياة قالبه وبقاء صورته ، وبعد غلبات صفات الروحانية واضمحلال صفات البشرية يظهر مقام ، فيه يتدارك السالك جذبات العناية وفيه يتبرا العبد من معاملاته وينجو من حبس وجوده وحجب أنانيته ، وكان حصنه وملجؤه الحق تعالى كذا في التأويلات النجمية.
قال الكمال الخجندي :
جامه بده جان ستان روى ميج اززيان
عاشق بي مايه را عين زيانست سود
سر فناكوش كن جام بقا نوش كن
حاجت تقرير نيست كزعدم آمد وجود
اللهم اجعلنا من أصحاب الفناء والبقاء وأرباب اللقاء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 268
{وَقَالَ الْمَلِكُ} أي ملك مصر وهو الريان ائتوني به أي بيوسف وذلك أن الساقي لما رجع بتعبير الواقعة من عند يوسف
270
إلى الملك ، وفي محضره الأشراف أعجب به تعبيره وعلم أن له علماً وفضلاً فأراد أن يكرمه ويقربه ويستمع التعبير المذكور من فمه بالذات.
سخن كزدوست آرى شكراست آن
ولى كرخود بكويد خوشتراست آن
ولذا قال : ائتوني به فعاد الساقي.
فلما جاءه أي : يوسف الرسول وهو الساقي ليخرجه :
كه اي سرو رياض قدس بخرام
سوى بستان سراي شاه نه كام
وقال إن الملك يدعوك فأبى أن يخرج معه قال للرسول إرجع إلى ربك أي سيدك فاسأله ليسأل ويتفحص ما بال النسوة اللاتي (كه ه حال بود حال آن زنان كه) قطعن أيديهن في مجلس زليخا كما سبق مفصلاً :
بكفتا من ه آيم سوى شاهى
كه ون من بيكسى را بي كناهي
بزندان سالها محبوس كردست
ز آثار كرم مأيوس كردست
اكر خواهدكه من بيرون نهم اي
ازين غمخانه كو اول بفرماي
كه آناني كه ون رويم بديدند
زحيرت دررحم كفها بريدند
كه جرم من ه بوداز من ه ديدند
را رختم سوى زندان كشيدند
بودكين سر شود بر شاه روشن
كه اكست از خيانت دامن من
مرا به كرزن ثقب خزائن
كه باشم درفراش خانه خائن
ولم يذكر سيدته تأدباً ومراعاة لحقها واحترازاً عن مكرها ، حيث اعتقدها مقيمة في عدوة العداوة وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم.
قال العلماء : إنما أبى يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن إلا بعد أن يتفحص الملك عن حاله مع النسوة لتنكشف حقيقة الحال عنده لا سيما عند العزيز ويعلم أنه سجن ظلماً فلا يقدر الحاسد إلى تقبيح أمره وليظهر كمال عقله وصبره ووقاره ، فإن من بقي في السجن ثنتي عشرة سنة إذا طلبه الملك وأمر بإخراجه ولم يبادر إلى الخروج وصبر إلى أن تتبين براءته من الخيانة في حق العزيز وأهله ، دل ذلك على براءته من جميع أنواع التهم ، وعلى أن كل ما قيل فيه كان كذباً وبهتاناً ، وفيه دليل على أنه ينبغي أن يجتهد في نفي التهمة ويتقى مواضعها ، وفي الحديث : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعن مواقع التهم ومنه قال عليه السلام للمارين به في معتكفه وعنده بعض نسائه هي فلانة نفياً للتهمة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 270
(4/175)
وروى عن النبي عليه السلام أنه استحسن حزم يوسف وصبره ، حين دعاه الملك فلم يبادر إلى الخروج حيث قال عليه السلام : لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترطت أن يخرجوني ، ولقد عجبت حين أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربك الآية ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب وما ابتغيت العذر إنه كان حليماً ذا أناة الحلم بكسر الحاء تأخير مكافاة الظالم.
والأناة على وزن القناة التأني وترك العجلة.
قال ابن الملك : هذا ليس إخباراً عن نبينا عليه السلام بتضجره وقلة صبره ، بل فيه دلالة على مدح صبر يوسف
271
وترك الاستعجال بالخروج ليزول عن قلب الملك ما كان متهماً به من الفاحشة ولا ينظر إليه بعين مشكوكة انتهى.
وقال الطيبي : هذا من رسول الله على سبيل التواضع لا أنه كان مستعجلاً في الأمور غير متأن والتواضع لا يصغر كبيراً ولا يضع رفيعاً ، بل يوجب لصاحبه فضلاً ويورثه جلالاً وقدراً.
إن ربي إن الله بكيدهن بمكرزنان وقريب ايشان عليم حين قلن لي أطع مولاتك.
وفيه استشهاد بعلم الله على أنهن كدنه وأنه بريء من التهمة ، كأنه قيل احمله على التعرف يتبين له براءة ساحتي فإن الله يعلم أن ذلك كان كيداً منهن
جوانمر داين سخن ون كفت باشاه
زنان مصررا كردند آكاه
كه يش شاه يكسر جمع كشتند
همه روانه آن شمع كشتند
فلما حضرن.
قال الملك لهن ما خطبكن أي شأنكن العظيم إذا راودتن ظاهر الآية يدل على أنهن جميعاً قد راودن لا امرأة العزيز فقط ، فلا يعدل عنه إلا بدليل والمراودة المطالبة يوسف وخادعتنه عن نفسه هل وجدتن منه ميلاً إليكن
كزان شمع حريم جان ه ديديد
كه بروى تيغ بدنامى كشيديد
زرويش در بهار وباغ بوديد
را ره سوى زندانش نموديد
بتى كازار باشد برتنش كل
كي ازدانا سزد بر كردنش غل
كلى كش نيست تاب باد شبكير
بايش ون نهد جزآب زنجير
قلن أي : جماعة النساء مجيبة للملك.
حاشأصله حاشا بالألف فحذفت للتخفيف وهو في الأصل حرف وضع هنا موضع المصدر أي التنزيه واللام لبيان من يبرأ وينزه وقد سبق في هذه السورة فهو تنزيه له وتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله.
والمعنى بالفارسية (كست خداي تعالى از آنكه عاجز باشد از آفريدن مرد اكيزه و يوسف) ما علمنا عليه من سوء من ذنب وخيانة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 270
زيوسف ما بجز اكى نديديم
بجز عز وشرفنا كي نديديم
نباشدد رصدف كوهر نان اك
كه بودازتهمت آن جان جهان اك
قالت امرأة العزيز أي : زليخا وكانت حاضرة في المجلس.
قال الكاشفي : (ون زليخا ديدكه جزراستى فائده ديكر نيست وى نيز باكى يوسف اقرار كرد) الآن أرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام لا زمان شهادتهن.
حصحص الحق أي وضح وانكشف وتمكن في القلوب والنفوس أنا راودته عن نفسه (مى جستم يوسف را از نفس او وآرزوى وصال كردم) لا أنه راودني عن نفسي وإنه لمن الصادقين أي في قوله هي راودني عن نفسي.
قال المولى الجامي :
بجرم خويش كرد اقرار مطلق
بر آمد زوصداي حصحص الحق
بكفتا نيست يوسف را كناهى
منم در عشق او كم كرده راهى
نخست اورا بوصل خويش خواندم
وكام من ندان از يش راندم
272
بزندان از ستمهاى من افتاد
دران غمها زغمهاى من افتاد
غم من ون كذشت ازحدو غايت
بجانش كرد حال من سرايت
جفايى كر رسيد اورا زجافي
كنون واجب بود اورا تلافي
هر احسان كايد ازشاه نكوكار
بصد ندان بود يوسف سزاوار
قال ابن الشيخ : لما علمت زليخا أن يوسف راعى جانبها حيث قال ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن فذكر هن ولم يذكر إياها مع أن الفتن كلها إنما نشأت من جانبها وجزمت بأن رعايته إياها إنما كانت تعظيماً لجانبها وإخفاء للأمر عليها ، فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلذلك اعترفت بأن الذنب كله كان من جانبها ، وأن يوسف كان بريئاً من الكل روى أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر ، فأمر القاضي بأن تكشف عن وجهها حتى يتمكن الشهود من أداء الشهادة على وجهها فقال الزوج لا حاجة إلى ذلك فإني مقر بصدقها في دعواها فقالت المرأة لما أكرمتني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمتك عن كل حق كان لي عليك.
قال في الإرشاد فانظر أيها المنصف هل ترى فوق هذه المرتبة نزاهة حيث لم تتمالك الخصماء عدم الشهادة بها والفضل ما شهدت به الخصماء.
(4/176)
قال بعض أرباب التأويل : أن قول نسوة القوى حاشوقول امرأة العزيز التي هي النفس الأمارة الآن حصحص الحق إشارة إلى تنور النفس والقوي بنور الحق واتصافها بصفة الأنصاف والصدق ، وحصول ذلك إنما هو بتكميل الأسماء السبعة أو الاثني عشر في سجن الخلوة ، فإن القلب بهذه الخلوة والتكميل يصل إلى نور الوحدة ويحصل للنفس التزكية والاطمئنان والإقرار بفضيلة القلب وصدقه وبراءته فإن من كمال اطمئنان النفس اعترافها بالذنب واستغفارها مما فرط منها حالة كونها أمارة ، والصدق في الأعمال كونها موافقة لرضى الله تعالى وخالية عن الأغراض وفي الأحوال كونها على وفق رضي الله تعالى وطاهرة عن الصفات النفسانية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 270
{ذَالِكَ} من كلام يوم يوسف أي طلب البراءة أو ذلك التثبت والتشمر لظهور البراءة.
قال الكاشفي؟ (ملك يوسف رايغام دادكه زنان بكناه معترف شدند بياتاً بحضور تو ايشانرا عقوبت كنم يوسف فرمودكه غرض من عقوبت نبود اين خواست براي آن كردم كه) ليعلم أي العزيز إني لم أخنه في حرمه لأن المعصية خيانة بالغيب بظهر الغيب وهو حال من الفاعل أي لم أخنه وأنا غائب عنه خفي على عينه أو من المفعول أي وهو غائب عني خفي عن عيني أو ظرف أي بمكان الغيب أي وراء ستار والأبواب المغلقة وأن الله أي : وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا ينفذه ولا يسدده بل يبطله ويزهقه ، كما لم يسدد كيد امرأته حتى اقرت بخيانة أمانة زوجها ، وسمى فعل الخائن كيداً لأن شأنه أن يفعل بطريق الاحتيال والتلبيس فمعنى هداية الكيد إتمامه وجعله مؤدياً إلى ما قصد به ، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته ، وبنفس العزيز في خيانة أمانة الله حين ساعدها على حبس يوسف بعد ما رأوا الآيات نزاهته ويجوز أن يكون ذلك لتأكيد أمانته لأنه لو كان خائناً لما هدى الله أمره وأحسن عاقبته.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يوصل عباده الصادقين بعد الغم إلى السرور ويخرجهم من الظلمات إلى النور.
قال
273
بعضهم : كنت أقرأ الحديث من الشيخ أبي حفص وكان بقربنا جانوت عطار فجاء رجل فأخذ منه العطر بعشرة دراهم فسقط من يده ففزع الرجل فقلنا تفزع على يسير من الدنيا قال لو فزعت على الدنيا لفزعت حين سقط مني ثلاثة آلاف دينار مع جوهرة قيمتها كذلك ولكن الليلة ولد ولد لي فكلفت بلوازمه ولم يكن لي غير هذه العشرة وقد ضاعت فلم يبق لي غير الفرار ففزعي لفراق الأهل والأولاد ، فسمع جندي قوله فاخرج كيساً فيه الدنانير والجوهرة بالعلامة التي أخبر بها الرجل ولم يؤخذ منه شيء ، فسبحان من ابتلى عبده أولاً بالشدائد ثم أنجاه قال المولى الجامي :
درين دهر كهن رسميست ديرين
كه بي تلخى نباشد عيش شيرين
خورد نه ماه طفلي در رحم خود
كه آيد بارخ ون ماه بيرون
بساسختي كه بيند لعل درسنك
جزء : 4 رقم الصفحة : 273
كه خورشيد در خشانش دهدرنك
وفي الآية ، دلالة على أن الخيانة من الصفات الذميمة ، كما أن الأمانة من الخصائل المحمودة فالصلاة والصوم والوزن والكيل والعبيد والإماء والودائع كلها أمانات وكذا الإمامة والخطابة والتأذين ونحوها أمانات يلزم على الحكام تأديتها بأن يقلدوها أرباب الاستحقاق ، ثم في الوجود الأنفسي أمانات مثل السمع والبصر واليد والرجل ونحوها وكل أولئك كان عنه مسئولاً ، والقلب أمانة فاحفظه عن الميل إلى ما سوى المولى.
قال الصائب :
ترا بكوهر دل كرده اند امانتدار
زدزد امانت حق رانكاه دار مخسب
فمن تيقن أنه تعالى حاضر لديه ناظر عليه ، لم يجترىء على سوء الأدب بموافقة النفس التي هي منبع القباحة والخيانة وحكي أن شاباً كان له رائحة طيبة فقيل له لك مصرف عظيم في تلك الرائحة فقال هي عطاء من الله تعالى وذلك إن امرأة أدخلتني بحيلة في بيتها وراودتني فلطخت نفسي وثيابي بالنجاسة فخلتني بظن الجنون ، فأعطاني الله تعالى تلك الرائحة ، ورأى الشاب في المنام يوسف الصديق ، فقال له طوبى لك حيث خلصك الله من كيد امرأة العزيز ، فقال عليه السلام : طوبى لك خلصك الله من تلك المرأة بدون هم منك ، وقد صدر مني هم ، أي هجوم الطبيعة البشرية وإن لم يكن هناك وجود مقتضاها نسأل الله العصمة والتوفيق في الدارين.
وما أبرىء نفسي من كلام يوسف عليه السلام أي لا أنزهها عن السوء ولا أشهد لها بالبراءة الكلية قاله تواضعاًتعالى وهضماً لنفسه الكريمة لا تزكية لها وعجباً بحاله في الأمانة ، ومن هذا القبيل قوله عليه السلام : أنا سيد ولد آدم ولا فخر لي أو تحديثاً بنعمة الله تعالى عليه في توفيقه
274
(4/177)
وعصمته ، أي لا أنزهها عن السوء من حيث هي هي ، ولا أسند هذه الفضيلة إليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من الله تعالى إن النفس اللام للجنس ، أي جميع النفوس التي من جملتها نفسي في حد ذاتها لأمارة بالسوء تأمر بالقبائح والمعاصي ؛ لأنها أشد استلذاذاً بالباطل والشهوات واميل إلى أنواع المنكرات ، ولولا ذلك لما صارت نفوس أكثر الخلق مسخرة لشهواتهم في استنباط الحيل لقضاء الشهوة ، وما صدرت منها الشرور أكثر من ههنا وجب القول بأن كل من كان أوفر عقلاً وأجل قدراً عند الله ، كان أبصر بعيوب نفسه ومن كان أبصر بعيوبها كان أعظم اتهاماً لنفسه وأقل إعجاباً.
إلا ما رحم ربي من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المهالك ومن جملتها نفسي ونفوس سائر الأنبياء ونفوس الملائكة ، أما الملائكة فإنه لم تركب فيهم الشهوة ، وأما الأنبياء فهم وإن ركبت هي فيهم لكنهم محفوظون بتأييد الله تعالى معصومون فما موصولة بمعنى من.
وفيه إشارة إلى أن النفس من حيث هي كالبهائم ، والاستثناء من النفس ، أو من الضمير المستتر في أمارة كأنه قيل إن النفس لأمارة بالسوء إلا نفساً رحمها ربي فإنها لا تأمر بالسوء أو بمعنى الوقت ، أي هي أمارة بالسوء في كل وقت إلا وقت رحمة ربي وعصمته لها ، ودل على عموم الأوقات صيغة المبالغة في أمارة يقال في اللغة أمرت النفس بشيء فهي آمرة وإذا أكثرت الأمر فهي أمارة إني ربي غفور عظيم المغفرة لما يعتري النفوس بموجب طباعها رحيم مبالغ في الرحمة لها بعصمتها من الجريان بمقتضى ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 273
قال في التأويلات النجمية خلقت النفس على جبلة الأمارية بالسوء ، طبعاً حين خليت إلى طبعها لا يأتي منها إلا الشر ولا تأمر إلا بالسوء ولكن إذا رحمها ربها ونظر إليها بنظر العناية يقلبها من طبعها ويبدل صفاتها ويجعل أماريتها مبدلة بالمأمورية ، وشريرتها بالخيرية ، فإذا تنفس صبح الهداية في ليلة البشرية وأضاء أفق سماء القلب صارت النفس لوامة ، تلوم نفسها على سوء فعلها وندمت على ما صدر عنها من الأمارية بالسوء فيتوب الله عليها ، فإن الندم توبة وإذا طلعت شمس العناية من أفق الهداية صارت النفس ملهمة ، إذ هي تنورت بأنوار شمس العناية فألهمها نورها فجورها وتقواها ، وإذا بلغت شمس العناية وسط سماء الهداية وأشرقت الأرض بنور ربها صارت النفس مطمئنة مستعدة لخطاب ربها بجذبة ارجعي إلى ربك راضية مرضية انتهى.
يقول الفقير : سلوك الأنبياء عليهم السلام وإن كان من النفس المطمئنة إلى الراضية والمرضية والصافية ، إلا أن طبع النفوس مطلقاً أي سواء كانت نفوس الأنبياء أو غيرهم على الأمارية وكون طبعها عليها لا يوجب ظهور آثار الأمارة بالنسبة إلى الأنبياء ، ولذا لم يقل يوسف عليه السلام إن نفسي لأمارة بالسوء بعد ما قال : وما أبرىء نفسي ، بل أطلق القول في الأمارية واستثنى النفوس المعصومة فلولا العصمة لوقع من النفس ما وقع ، ولذا قال عليه السلام : رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك فالدليل على أمارية مطلق النفوس هذه الآية.
وقد قال ابن الشيخ في هذه السورة عند قوله تعالى : ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً يحتمل أن يكون المراد من الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على نفسه الأمارية بالسوء مستعلية عليها قاهرة لها انتهى فأثبت الأمارية لنفس يوسف.
وقال سعدي المفتي عند قوله تعالى : أصب إليهن في هذه السورة أيضاً
275
على قول البيضاوي ، أي أمل إلى جانبهن : أو إلى أنفسهن بطبعي ومقتضى شهوتي ، قوله بطبعي أي بسبب طبعي ونفسي الأمارة بالسوء انتهى.
وقال حضرة الشيخ نجم الدين دايه قدس سره : عند قوله تعالى في سورة الأنعام وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الأنس والجن}(الأنعام : 112) فشيطان الأنس نفسه الأمارة بالسوء وهي أعدى الأعداء انتهى.
وصرح أيضاً بذلك في مواضع أخر من تأويلاته وهكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام فإنه من مزالق الأقدام ، وقد رأيت من تحير فيه وزلق ووقع في هاوية الاضطراب والقلق ، مع شهرته التامة والعامة في الأفواه القائلة بمكاشفاته ووصوله إلى الله ، فليجتهد العبد مع النفس الأمارة حتى يصل إلى الاطمئنان فيتخلص من كيدها ، والتوحيد أقوى الأمور في هذا الباب ، لأنه أشد تأثيراً في تزكية النفس وطهارتها من الشرك الجلي والخفي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 273
(4/178)
قال في نفائس المجالس" : النفس منبع العناد والخيانة ومعدن الشر والجناية فهي منشأ الفتن في الأنفس والآفاق ، وسبب ظهور الظلم على الإطلاق ، فلو حصل بين سلطان الروح ووزير العقل ومفتى القلب اتفاق لارتفع من القوى النفسانية والطبيعة خلاف وشقاق ـ ـ وحكى ـ ـ أن ثلاثة أثوار أحدها أصفر والثاني أزرق والثالث أسود استولت على جبل باتفاق منها بحيث لم يقدر غيرها أن يرعى في ذلك الجبل فتشاور الحيوانات يوماً في ذلك فقال أسد أنا أتدارك الأمر فجاء إلى سفح الجبل فلما هجم الأثوار لمنعه قال الأسد : يا إخوتي الأثوار اتركنني حتى أكون معكن فإنه يحصل بسببي زيادة قوة فرضين بأخوته وكونه بينهن ، فيوماً قال للثور الأصفر والأزرق أيها الأخوان ألا تريان أن لا مناسبة بيننا وبين الأسود فلو دبرنا فيه لكان خيراً ، قالا ماذا نفعل؟ قال : افعل ما أرى أن سامحتما وسكتيما قالا : فافعل ما شئت ، فأتاه الأسد وهو يرعى فصال عليه فاستمد الثور الأسود من أخويه فلم يلتفتا فافترسه الأسد وأكله ، ثم بعد زمان قال للأصفر يا أخي شعرك يشابه شعري فبيني وبينك مناسبة تامة ولكن أي مناسبة في أن يكون هذا الأزرق بيننا فتعال حتى نرفعه من البين ويخلو لنا الجبل ، فقال : افعل ما شئت فأتاه وهو يرعى فلما أراد أن يتعرض له خار واستمد من أخيه فلم يرفع له أخوه رأساً فأكله ، ثم بعد زمان قال للأصفر تهيأ فإني آكلك فإنه أي مناسبة في أن يكون بيننا أخوة واتفاق ، فتضرع ولكن لم يسمعه الأسد فقال الثور : قد كنت أتصور مجيء هذا إلى رأسي منذ ما جاء إلى رأس أخي الثور الأسود ما جاء فافترسه وأكله ، فالنفس مثل هذا الأسد إذا ظهرت في جبل الوجود غلبت على القوى وأكلتها ، وفي هذا التمثيل مواعظ كثيرة لمن تأمل فيه.
قال المولى جلال الدين الرومي قدس سره :
بيت من بيت نيست اقليمست
هزل من هزل نيست تعليمست
جزء : 4 رقم الصفحة : 273
{وَقَالَ الْمَلِكُ} (آورده اندكه ون باملك مصر سخنان يوسف باز كفتند آرزو مندىء وى بديدار يوسف زياده شد) {ائْتُونِى بِهِ} (بياريد يوسف را يش من) استخلصه اجعله خالصاً لنفسي وخاصاً بي.
قال سعدي المفتي : كان استدعاء الملك يوسف أولاً بسبب علم الرؤيا فلذلك قال ائتوني به فقط فلما فعل يوسف ما فعل وظهرت أمانته وصبره وهمته وجودة نظره وتأنيه في عدم التسرع إليه بأول طلب عظمت منزلته عنده وطلبه ثانياً بقوله ائتوني به أستخلصه لنفسي.
فلما كلمه أي : فأتوا به فلما كلمه يوسف إثر ما أتاه
276
فاستنطقه وشاهد منه ما شاهد من الرشد والدهاء وهو جودة الرأي قال له أيها الصديق إنك اليوم لدينا عندنا وبحضرتنا مكين ذو مكانة ومنزلة رفيعة أمين مؤتمن على كل شيء واليوم ليس بمعيار لمدة المكانة بل هو آن التكلم والمراد تحديد مبدأهما احترازا عن احتمال كونهما بعد حين روى أن الرسول أي الساقي جاء إلى يوسف فقال أجب الملك.
قال الحافظ :
ماه كنعانى من مسند مصر آن توشد
كاه آنست كه بدرود كنى زندانرا
قال المولى الجامي :
شب يوسف بكذشت از درازى
طلوع صبح كردش كار سازى
و شد كوه كران بر جانش اندوه
بر آمد آفتابش از س كوه
فخرج من السجن وودع أهل السجن ودعا لهم وقال لهم أعطف قلوب الصالحين عليهم ولا تستر لأخبار عنهم فمن ثم تقع الأخبار عند أهل السجن قبل أن تقع عند عامة الناس وكتب على باب السجن هذه منازل البلوى ، وقبور الأحياء ، وشماتة الأعداء ، وتجربة الأصدقاء ، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثياباً جدداً (در تيسير آورده كه ملك هفتاد حاجب را باهفتاد مركب آراسته با تاج ولباس ملكوانه بزندان فرستاد)
و يوسف شد سوى خسرو روانه
بخلعتهاى خاص خسروانه
فراز مركبي از اي تا فرق
و كوهى كشته دردرو كهر غرق
بهر جا طبلهاى مشك و عنبر
زهر سو بدرهاى زر وكوهر
براه مركب او مى فشاندند
كدا را از كدايى مى رهاندند
(وون نزديك ملك رسيد اورا احترام تمام نموده استقبال فرمود)
جزء : 4 رقم الصفحة : 276
زقرب مقدمش شه ون خبر يافت
باستقبال أو ون بخت بشتافت
كشيدش دركنار خويشتن تنك
و سرو كلرخ وشمشاد كلرنك
به هلوى خودش بر تخت بنشاند
به ر سشهاى خوش با او سخن راند
(4/179)
روى أنه لما دخل على الملك قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرك من شره ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية وكان يوسف يتكلم باثنين وسبعين لساناً فلم يفهمها الملك فقال : ما هذا اللسان؟ قال : لسان آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ثم كلمه بالعربية فلم يفهمها الملك فقال : ما هذا اللسان؟ قال : لسان عمي إسماعيل وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه ، وفيه إشارة إلى حال أهل الكشف مع أهل الحجاب فإن أصحاب الحقيقة ، يتكلمون في كل مرتبة شريعة كانت أو طريقة أو معرفة أو حقيقة وأما أرباب الظاهر فلا قدرة لهم على التكلم إلا في مرتبة الشريعة وعلمان خير من علم واحد ، وقال الملك : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك فحكاها فعبرها يوسف على وجه بديع وأجاب لكل ما سأل بأسلوب عجيب :
جوابي دلكشن ومطبوع كفتش
نان كامدازان كفتن شكفتش
277
وفي الآية إشارتان.
الأولى أن الروح يسعى في خلاص القلب من سجن صفات البشرية ليكون خالصاً له في كشف حقائق الأشياء ولم يعلم أنه خلق لصلاح جميع رعايا مملكته روحانية وجسمانية كما قال عليه السلام : إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب.
والثانية : أن الله استحسن من الملك إحسانه مع يوسف واستخلاصه من السجن فأحسن إليه بأن رزقه الإيمان واستخلصه من سجن الكفر والجهل وجعله خالصاً لحضرته بالعبودية وترك الدنيا وزخارفها وطلب الآخرة ودرجاتها.
قال مجاهد : أسلم الملك على يده وجمع كثير من الناس لأنه كان مبعوثاً إلى القوم الذين كان بين أظهرهم.
يقول الفقير أيده الله القدير : إذا كان الإحسان إلى يوسف والإكرام له سبباً للإيمان والعرفان فما ظنك بمن آسى رسول الله وذب عنه ما دام حياً وهو عمه أبو طالب فالأصح أنه ممن أحياه الله للإيمان كما سبق في الجلد الأول.
واعلم : أن اللطف والكرم من آثار السعادة الأزلية فلو صدر من الكافر يرجى أن ذلك يدعوه إلى الإيمان والتوحيد ويصير عاقبته إلى الفلاح والنجاح ولو صدر من أهل الإنكار أداه إلى الاستسعاد بسعادة التوفيق الخاص كما لا يخفى على أهل المشاهدة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 276
قال يوسف اجعلني على خزائن الأرض أي أرض مصر فاللام للعهد ، أي ولني أمرها من الإيراد والصرف (يعني مرا بر آنه حاصل ولايت مصر باشد از نقود واطعمه خازن كردان) إني حفيظ لها عمن لا يستحقها عليم بوجوه التصرف فيها.
وذلك أنه لما عبر رؤيا الملك وأخبر بإتيان السنين المجدبة قال له : فما ترى يا يوسف؟ قال : تزرع زرعاً كثيراً وتأخذ من الناس خمس زروعهم في السنين المخصبة وتدخر الجميع في سنبله فيكفيك وأهل مصر مدة السنين المجدبة.
وفي بحر العلوم قال ل : ه من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء فيأتيك الخلق من النواحي ويمتارون منك ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك ، فقال الملك : ومن لي بذاك فقال اجعلني الآية.
ولى هركاررا بايد كفيلي
كه از دانش بود باوى دليلي
بدانش غايت آن كار داند
و داند كاررا كردن تواند
زهر يزى كه در عالم توان يافت
و من دانا كفيلي كم توان يافت
بمن تفويض كن تدبير اين كار
كه نابد ديكرى ون من بدايدار
وذلك لأنه علم في الرؤيا التي رآها الملك أن الناس يصيبهم القحط فخاف عليهم القحط والتلف ، فأحب أن تكون يداه على الخزانة ليعينهم وقت الحاجة شفقة على عباد الله وهي من أخلاق الخلفاء ، وكانت خدمته معجزة لفراعنة مصر ولهذا قال فرعون زمانه حين بنى الفيوم له : هذا من ملكوت السماء ، وهو أول من دون الدفاتر وعين علوم الحساب والهندسة بأنواع الأقلام والحروف.
وفي الآية : دليل على جواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة.
قال العلماء : سؤال تولية الأوقاف مكروه كسؤال تولية الأمارة والقضاء روى أن قوماً جاؤوا إلى النبي عليه السلام فسألوه ولاية فقال : إنا لن نستعمل على عملنا من أراده وذلك لأن الله تعالى يعين المجبور ويسدده ويكل الطالب
278
إلى نفسه ، والولاية أمور ثقيلة فلا يقدر الإنسان على رعاية حقوقها وإذا تعين أحد للقضاء أو الأمارة أو نحوهما لزمه القبول ، لأنها من فروض الكفاية فلا يجوز إهمالها ويوسف عليه السلام كان أصلح من يقوم بما ذكر من التدبير في ذلك الوقت فاقتضت الحال تقلده وتطلبه إصلاحاً للعالم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 276
(4/180)
وفي الآية دلالة أيضاً على جواز التقلد من يد الكافر والسلطان الجائر ، إذا علم إنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الباطل وإقامة الحق إلا بالاستظهار به وتمكينه ، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه وحكى الشيخ العلامة ابن الشحنة : أن تيمورلنك ذكروا عنه كان يتعنت على العلماء في الأسئلة ، ويجعل ذلك سبباً لقتلهم وتعذيبهم مثل الحجاج ، فلما دخل حلب فتحها عنوة وقتل وأسر كثيراً من المسلمين وصعد نواب المملكة وسائر الخواص إلى القلعة وطلب علماءها وقضاتها فحضرنا إليه ، وأوقفنا ساعة بين يديه ، ثم أمرنا بالجلوس فقال لمقدم أهل العلم عنده وهو المولى عبد الجبار ابن العلامة نعمان الدين الحنفي ، قل لهم : إني سائلهم عن مسألة سألت عنها علماء سمرقند وبخارى وهراة وسائر البلاد التي افتتحتها ولم يفصحوا عن الجواب ، فلا تكونوا مثلهم ولا يجاوبني إلا أعلمكم وأفضلكم وليعرف ما يتكلم به فقال لي عبد الجبار : سلطاننا يقول : بالأمس قتل منا ومنكم فمن الشهيد قتيلنا أم قتيلكم؟ ففتح الله عليّ بجواب حسن بديع فقلت جاء أعرابي إلى النبي عليه السلام ، فقال الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه في سبيل الله ومن قتل منا ومنكم لإعلاء كلمة الله فهو الشهيد فقال تيمورلنك : خوب خوب وقال عبد الجبار : ما أحسن ما قلت وانفتح باب المؤانسة فتكررت الأسئلة والأجوبة وكان آخر ما سأل عنه ما تقولون في علي ومعاوية ويزيد فقلت : لا شك أن الحق كان مع علي وليس معاوية من الخلفاء ، فقال : قل عليّ على الحق ومعاوية ظالم ، ويزيد فاسق قلت : قال صاحت الهداية يجوز تقليد القضاء من ولاة الجور فإن كثيراً من الصحابة والتابعين تقلدوا القضاء من معاوية وكان الحق مع على في توبته فسر لذلك ، وأحسن إلينا وإلى من يتعلق بنا في البلدة وروى أن الملك لما عين يوسف عليه السلام لأمر الخزائن توفي قطفير في تلك الليالي كما قال المولى الجامي :
و يوسف را خدا داد اين بلندي
بقدر اين بلندي ار جمندي
عزيز مصررا دولت زبون كشت
لو أي حشمت لأ سر نكون كشت
دلش طاقت نياورد اين خللل را
بزودي شد هدف تير اجل را
زليخا روى در ديوار غم كرد
زبار هجر يوسف شت خم كرد
نه از جاي عزيزش خانه آباد
نه ازاندوه يوسف خاطر آزاد
فلك كو دير مهر وتيز كين است
درين حرمان سرا كاروى اينست
يكى را بركشد ون خور بافلاك
يكى را افكند ون سايه برخاك
جزء : 4 رقم الصفحة : 276
خوش آن دانا بهر كارى وبارى
كه از كارش بكيرد اعتباري
نه از اقبال او كردن فرازد
نه از ادبار او جانش كدازد
حكي أن زليخا بعد ما توفي قطفير انقطعت عن كل شيء وسكنت في خرابة من خرابات
279
مصر سنين كثيرة ، وكانت لها جواهر كثيرة جمعت في زمان زوجها ، فإذا سمعت من واحد خبر يوسف أو اسمه بذلت منها محبة له حتى نفدت ولم يبق لها شيء.
وقال بعضهم : أصاب زليخا ما أصاب الناس من الضر والجوع في أيام القحط فباعت حليها وحللها وجميع ما كانت تملكه وذهب نعمتها وبكت بكاء الشوق ليوسف وهرمت.
جواني تيره كشت از رخ يرش
برنك شير شد موى و قيرش
بر آمد صبح وشب هنكامه بر يد
بمشكستان او كافور باريد
به شت خم آزان بودي شرش يش
كهجستى كم شده مايه خويش
ثم لما غيرها الجهد واشتد حالها بمقاساة شدائد الخلوة في تلك الخرابة اتخذت لنفسها بيتاً من القصب على قارعة الطريق التي هي ممر يوسف ، وكان يوسف يركب في بعض الأحيان وله فرس يسمع صهيله على ميلين ، ولا يصهل إلا وقت الركوب فيعلم الناس أنه قد ركب فتقف زليخا على قارعة الطريق ، فإذا مرَّ بها يوسف تناديه بأعلى صوتها فلا يسمع لكثرة اختلاط الأصوات :
زبس بر كوشها ميزد زهرجا
صهيل مركبان باد يما
زبس بر آسمان ميشد زهر سوى
نفير اوشان طرقوا كوى
كس از غوغا بحال اونيفتاد
بحالي شدكه اوراكس مبيناد
و كردى كوش آن حيران ومهجور
زاووشان صداي دور شودور
زدي افغان كه من عمريست دورم
بصد محنت دران دوري صبورم
زجانان تا بكى مهجور باشم
همان بهتركه از خود دور باشم
بكفتى اين وبيهوش اوفتادى
زخود كرده فراموش او فتادى
فأقبلت يوماً على صنمها الذي كانت تعبده ولا تفارقه ، وقالت له تباً لك ولمن يسجد لك أما ترحم كبري وعماي ، وفقري ، وضعفي في قواي فأنا اليوم كافرة بك
بكفت اين را بزد برسنك خاره
خليل آسا شكستش اره اره
تضرع كرد ورو بر خاك ماليد
بدركاه خداي اك ناليد
اكر رودربت آوردم خدايا
بآن بر خود جفا كردم خدايا
بلطف خود جفاي من بيامرز
خطا كردم خطاي من بيامرز
زس راه خطا يمايى از من
ستاندي كوهر بينايى ازمن
و آن كرد خطا از من فشاندي
بمن ده باز آنجه از من ستاندي
بود دل فارغ ازداغ تأسف
بنيم لا له ازباغ يوسف
جزء : 4 رقم الصفحة : 276
(4/181)
فآمنت برب يوسف وصارت تذكر الله تعالى صباحاً ومساء ، فركب يوسف يوماً بعد ذلك فلما صهل فرسه علم الناس أنه ركب ، فاجتمعوا لمطالعة جماله ورؤية احتشامه ، فسمعت زليخا الصهيل فخرجت من بيت القصب فلما مرَّ بها يوسف نادت بأعلى صوتها سبحان من جعل الملوك عبيداً بالمعصية ، وجعل العبيد ملوكاً بالطاعة ، فأمر الله تعالى الريح فالقت كلامها في مسامع يوسف
280
فأثر فيه فبكى ، ثم ألتفت فرآها فقال لغلامه اقضِ لهذه المرأة حاجتها فقال لها : ما حاجتك قالت : إن حاجتي لا يقضيها إلا يوسف فحملها إلى دار يوسف فلما رجع يوسف إلى قصر نزع ثياب الملك ، ولبس مدرعة من الشعر وجلس في بيت عبادته يذكر الله تعالى فذكر العجوز ودعا بالغلام وقال له : ما فعلت العجوز؟ فقال : إنها زعمت إن حاجتها لا يقضيها غيرك فقال ائتني بها فأحضرها بين يديه ، فسلمت عليه وهو منكس الرأس فرق لها ، ورد عليها السلام وقال لها : يا عجوز إني سمعت منك كلاماً فأعيديه فقالت : إني قلت سبحان من جعل العبيد ملوكاً بالطاعة ، وجعل الملوك عبيداً بالمعصية فقال : نعم ما قلت ، فما حاجتك؟ قالت يا يوسف ما أسرع ما نسيتني فقال من أنت؟ ومالي بك معرفة.
بكفت آنم كه ون روى توديدم
ترا از جمله عالم بر كزيدم
فشاندم كنج وكوهر در بهايت
دل وجان وقف كردم درهوايت
جواني درغمت بر باد دادم
بدين يرى كه مي بيني فتادم
كرفتي شاهد ملك اندر آغوش
مرا يكبار تو كردىء فراموش
أما أنا زليخا ، فقال : يوسف لا إله إلا الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، وأنت بعد في الدنيا يا رأس الفتنة وأساس البلية ، فقالت : يا يوسف أبخلت عليّ بحياة الدنيا ، فبكى يوسف وقال ما صنع حسنك وجمالك ومالك ، قالت ذهب به الذي أخرجك من السجن وأورثك هذا الملك ، فقال لها : ما حاجتك قالت : أو تفعل؟ قال : نعم وحق شيبة إبراهيم ، فقالت لي ثلاث حوائج الأولى والثانية : أن تسأل الله أن يرد عليّ بصري وشبابي وجمالي ، فإني بكيت عليك حتى ذهب بصري ونحل جسمي فدعا لها يوسف فرد الله عليها بصرها وشبابها وحسنها.
سفيدي شد زمشكين مهره اش دور
در آمد در سواد نركسش نور
جواني يريش را كشت هاله
س از ل سالكي شد هده ساله
وقال بعضهم : كان عمرها يومئذٍ تسعين سنة ، والحاجة الثالثة : أن تتزوجني فسكت يوسف وأطرق رأسه زماناً فأتاه جبريل وقال له يا يوسف ربك يقرأك السلام ويقول لك لا تبخل عليها بما طلبت.
جزء : 4 رقم الصفحة : 276
كه ما عجز زليخارا و ديديم
بتو عرض نيازش را شنيديم
دلش ار تيغ نوميدي نخستيم
بتو بالاي عرشش عقد بستيم
فتزوج بها ، فإنها زوجتك في الدنيا والآخرة
و فرمان يافت يوسف از خداوند
كه بندد با زليخا عقد ويوند
دعا سلطان مصر وجميع الأشراف وضاف لهم
بقانون خليل ودين يعقوب
بر آيين جميل وصورت خوب
زليخارا بعقد خود در آورد
بعقد خويش يكتا كوهر آورد
ونزلت عليه الملائكة تهنئة بزواجه بها ، وقالوا هناك الله بما أعطاك ، فهذا ما وعدك ربك وأنت في الجب فقال يوسف الحمدالذي أنعم علي وأحسن إليّ وهو أرحم الراحمين ثم قال
281
إلهي وسيدي أسألك إن تتم هذه النعمة وتريني وجه يعقوب وتقر عينه بالنظر إليّ وتسهل لأخوتي طريقاً إلى الاجتماع بي فإنك سميع الدعاء ، وأنت على كل شيء قدير ، وأرسلت زليخا إلى بيت الخلوة فاستقبلتها الجواري بأنواع الحلي والحلل فتزينت بها فلما جن الليل ودخل يوسف عليها قال لها : أليس هذا خيراً مما كنت تريدين؟ فقالت : أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء ناعمة في ملك ودنيا وكان زوجي عنيناً لا يصل إلى النساء وكنت كما جعلك الله في صورتك الحسنة فغلبتني نفسي
شكيبايي نبود از تو حد من
بكش دامان عفوي از بد من
ز جرمي كز كمال عشق خيزد
كجا معشوق با عاشق ستيزد
فلما بنى بها يوسف وجدها عذراء وأصابها وفك الخاتم
كليد حقه از ياقوت ترساخت
كشادش قفل دروي كوهر انداخت
فحملت من يوسف وولدت له ابنين في بطن أحدهما أفراييم والآخر ميشا ، وكانا كالشمس والقمر في الحسن والبهاء وباهى الله بحسنهما ملائكة السموات السبع ، وأحب يوسف زليخا حباً شديداً وتحول عشق زليخا وحبها الأول إليه حتى لم يبق له بدونها قرار
و صدقش بود بيرون از نهايت
در آخر كرد بر يوسف سرايت
وحول الله تعالى عشق زليخا المجازي إلى العشق الحقيقي ، فجعل ميلها إلى الطاعة والعبادة وراودها يوسف يوماً ففررت منه فتبعها وقّد قميصها من دبر فقالت ، فإن قددت قميصك من قبل فقد قددت قميصي الآن فهذا بذاك
درين كار ازتفاوت بي هراسيم
به يراهن درى رأساً برأسيم
و يوسف روى او در بندكى ديد
وزان نيت دلش را زندكى ديد
بنام او ز زر كاشانه ساخت
نه كاشانه عبادت خانه ساخت
ووضع في البيت الذي بناه سريراً مرصعاً بالجواهر فأخذ بيدها وأجلسها عليه وقال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 276
درو بنشين ي شكر خدايي
كزو داري بهر مو يى عطايي
توانكر ساختت بعد از فقيري
جواني داد بعد از ضعف يرى
بشم نور رفته نور دادت
وزان بررو در رحمت كشادت
(4/182)
س از عمرى كه زهر غم شاندت
بتر ياك وصال من رساندت
ز ليخاهم بتوفيق الهي
نشسته بر سرير ادشاهى
دران خلوت سرامى بود خرسند
بوصل يوسف وفضل خداوند
وسيأتي وفاتهما في آخر السورة فانظر أيها المنصف إن الدنيا ما شغلتهما عن الله تعالى فاستعملا الأعضاء والجوارح في خدمة الله تعالى.
والإشارة : قال يوسف القلب لملك الروح اجعلني على خزائن الأرض أرض الجسد فإنتعالى في كل شيء ، وعضو من أعضاء ظاهر الجسد وباطنه خزانة من القهر واللطف فيها نعمة أخرى كالعين فيها نعمة البصر فإن استعملها في رؤية العين ، ورؤية الآيات والصنائع فيجد اللطف وينتفع به وإن استعملها في مستلذاتها وشهوات النفس ولم يحفظ
282
نفسه منها فيجد القهر ويضره ذلك فقس الباقي على هذا المثال ، ولهذا قال يوسف إني حفيظ عليم أي : حافظ نفسي فيها عما يضرها عليم بنفعها وضرها واستعمالها فيما ينفع ولا يضر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 276
{وَكَذَالِكَ} الكاف منصوبة بالتمكين وذلك إشارة إلى ما أنعم الله به عليه من إنجائه من غم الحبس وجعل الملك الريان إياه خالصاً لنفسه مكنا ليوسف أي : جعلنا له مكاناً في الأرض أي أرض مصر وكانت أربعين فرسخاً في أربعين كما في الإرشاد.
وقال في المدارك التمكين الأقدار وأعطاء القدرة.
وفي تاج المصادر : مكنه في الأرض بوأه إياها يتعدى بنفسه واللام كنصحته ونصحت له.
وقال أبو علي : يجوز أن يكون على حد ردف لكم يتبوأ منها حال من يوسف أي ينزل من بلادها حيث يشاء ويتخذه مباءة ومنزلاً وهو عبارة عن كمال قدرته على التصرف فيها ودخولها تحت سلطانه ، فكأنها منزله يتصرف فيها كما يتصرف الرجل في منزله ، وفي الحديث : رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة وعن ابن عباس رضي الله عنهما لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتوجه وختمه بخاتمه وردّاه بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت وطول السرير ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرة أذرع عليه ثلاثون فراشاً فقال يوسف أما السرير فأشدّ به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي فقال الملك فقد وضعته إجلالاً لك وإقراراً بفضلك فجلس على السرير وأتت له الملوك وفوض إليه الملك أمره كما قال المولى الجامي :
وشاه ازوى بديد اين كار سازى
بملك مصر دادش سرفرازي
سبه را بنده فرمان او كرد
زمين را عرصه ميدان او كرد
ونعم ما قيل :
يرست رخ واختر بخت تو نوجوان
آن به كه ير نوبت خود باجوان دهد
وكان يوسف يومئذٍ ابن ثلاثين سنة كما في التبيان وأقام العدل في مصر واحبته الرجال والنساء وأمر أهل كل قرية وبلدة بالاشتغال بالزرع وترك غيره فلم يدعوا مكاناً إلا زرعوه حتى بطون الأودية ورؤوس الجبال مدة سبع سنين وهو يأمرهم أن يدعوه في سنبله فأخذ منهم الخمس وجعله في الإهداء وكذا ما زرعه السلطان ثم أقبلت السنون المجدبة فحبس الله عنهم القطر من السماء والنبات من الأرض حتى لم ينبت لهم حبة واحدة ، فاجتمع الناس وجاؤوا له وقالوا له يا يوسف قد فني ما في بيوتنا من الطعام فبعنا مما عندك فأمر يوسف بفتح الإهراء وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام في السنة الأولى بالدراهم والدنانير وفي الثانية بالحلي والجواهر وفي الثالثة بالدواب وفي الرابعة بالعبيد والإماء وفي الخامسة بالضياع والعقار وفي السادسة بأولادهم وفي السابقة برقابهم حتى استرقهم جميعاً فقالوا ما رأينا ملكاً أجل وأعظم منه فقال يوسف للملك كيف رأيت صنع ربي فيما خولني فما ترى؟ فقال : أرى رأيك ونحن لك فقال إني أشهد الله وأشهدك إني قد اعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 283
قال الكاشفي : (حكمت درين آن بودكه مصريان
283
يوسف را بوقت خريد وفروخت در صورت بندكي ديده بودند قدرت أزلي همه را طوق بندكى او دركردن نهار تاكسي راكه درباره او سختى بي أدبانه نرسد) وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس وكان لم يشبع مدة القحط مخافة نسيان الجياع.
قال السعدي قدس سره :
آنكه در راحت وتنعم زيست
اوه داندكه حال كرسنه يست
حال درماندكى كسى داند
كه باحوال خود فروماند
(4/183)
نصيب برحمتنا (ميرسانيم برحمت خود از نعيم ديني ودنيوي وصوري ومعنوي) فالباء للتعدية.
من نشاء كل من نريد له ذلك لا يمنعنا منه شيء ولا نضيع أجر المحسنين عملهم بل نوفيه بكماله في الدنيا والآخرة روى عن سفيان بن عيينة المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ، وتلا هذه الآية وفي الحديث : إن للمحسنين في الجنة منازل حتى المحسن إلى أهله وأتباعه والإحسان وإن كان يعم أموراً كثيرة ولكن حقيقته المشاهدة والعيان وهي ليست رؤية الصانع بالبصر وهو ظاهر ، بل المراد بها حالة تحصل عند الرسوخ في كمال الإعراض عما سوى الله تعالى ، وتمام توجهه إلى حضرته بحيث لا يكون في لسانه وقلبه وهمه غير الله تعالى ، وسميت هذه الحالة مشاهدة لمشاهدة البصيرة إياه تعالى كما أشار إليها بعض العارفين بقوله :
خيالك في عيني وذكرك في فمي
وحبك في قلبي فأين تغيب
ولا جر الآخرة أي : أجرهم في الآخرة فالإضافة للملابسة وهو النعيم المقيم الذي لا نفاد له.
خير لأنه أفضل في نفسه وأعظم وأدوم للذين آمنوا وكانوا يتقون الكفر والفواحش (ون يوسف بإحسان وتقوى ازعقر اه بتخت وجاه رسيد)
بدني وعقبي كسى قدر يافت
كه او جانب صبر وتقوى شتافت
وفي الآية : إشارة إلى أن غير المؤمن المتقي لا نصيب له في الآخرة.
قال بعض العارفين : لو كانت الدنيا ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً لكانت الآخرة خيراً من الدنيا فكيف والدنيا خذف فأن والآخرة ذهب باق.
وعن أبي هريرة قال : قلنا يا رسول الله : مم خلق الخلق؟ قال : من الماء قلنا : أخبرنا عن بنائها قال : لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك الإذفر وترابها الزعفران وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ومن يدخلها ينعم ويخلد ولا يموت ولا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه وإن أهل الجنة ليزدادون كل يوم جمالاً وحسناً كما يزدادون في الدنيا هرماً ولا بد من الطاعات فإنها بذر الدرجات وأجرة الجنات حكى أن إبراهيم بن أدهم أراد أن يدخل الحمام فمنعه الحمامي أن يدخله بدون الأجرة فبكى إبراهيم وقال إذا لم يؤذن أن أدخل في بيت الشيطان مجاناً فكيف لي بالدخول في بيت النبيين والصديقين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 283
يقول الفقير : فإن كان المراد ببيت النبيين الجنة ، فلا بد في دخولها من صدق الأعمال وإن كان المراد القلب فلا بد في دخوله من صدق الأحوال ، وعلى كلا التقديرين لا بد من العبودية لأنها مقتضى الحكمة ولذا قال : للذين آمنوا وكانوا يتقون فمن لا عبودية له لم تكن الآخرة عنده خيراً من الدنيا ، إذ لو علم خيريتها يقينها لاجتهد في العبوديةتعالى والامتثال
284
بالأمر والاجتناب عن النهي ، وقد جعل الله التصرف في عالم الملك والملكوت في العمل على وفق الشرع وخلاف الطبع إذ فيه المجاهدة التي هي حمل النفس على المكاره وترك الشهوات ، ألا ترى أن يوسف عليه السلام لما خالف الطبع ومقتضاه ونهى النفس عن الهوى ورضى بما قسم المولى وصبر على مقاساة شدائد الجب والسجن والعبودية جعله الله تعالى سلطاناً في أرض مصر ، ففسح له في مكانه فكان مكافاة لضيق الجب والسجن وسخر له أهل مصر مجازاة للعبودية وزوجه زليخا بمقابلة كف طبعه عن مقتضاه.
والتقوى لا بد منها لأهل النعمة والمحنة ، أما أهل النعمة فتقواهم الشكر لأنه وقاية من الكفران وجنة منه ، وأما أهل المحنة فتقواهم الصبر لأنه جنة من الجزع والاضطراب.
فعلى العاقل أن يتمسك بعروة التقوى ، فإنها لا انفصام لها ، ولها عاقبة حميدة ، وأما غيرها من العرى فلها انفصام وانقطاع وليس لها نتيجة مفيدة ، كما شوهد مرة بعد أخرى ، اللهم أعصمنا من الزلل في طريق الهدى واحفظنا عن متابعة النفس والهوى واجعلنا من الذين عرفوك فوقفوا عند أمرك وتوجهوا إليك فرفضوا علاقة المحبة لغيرك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 283
{وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} (آورده اندكه اثر قحط بكنعان وبلاد شام رسيده كار بر أولاد يعقوب تنك كرديد وكفتند أي در درشهر مصر ملكيست كه همه قحط زدكانرا مى نوازد وكار غرباً وأبناء سبيل بد لخواه ايشان مي سازد)
زاحسانش آسوده بر ناوير
وزوكشته خوش دل غريب وفقير
ببخشش زابر بهارى فزون
صفات كمالش زغايت برون
(4/184)
(اكر فرمايى برويم وطعامي جهت كرسنكان كنعان بياريم يعقوب أجازت فرمود وبنيامين را جهت خدمت خود باز كرفت وده فرزند ديكر هريك باشترى وبضاعتي كه داشتند روى براه آوردند ويك شترجهت بنيامين بابضاعت او همراه بردند) وقال بعضهم : لما أجدبت بلاد الشام وغلت أسعارها جمع يعقوب بنيه وقال لهم يا بني أما ترون ما نحن فيه من القحط فقالوا : يا أبانا وما حيلتنا؟ قال : اذهبوا إلى مصر واشتروا منها طعاماً من العزيز قالوا : يا نبي الله كيف يطيب قلبك ترسلنا إلى فراعنة الأرض وأنت تعلم عدواتهم لنا ولا نأمن أن ينالنا منهم شر ، وكانت تسمى أرض مصر بأرض الجبابرة لزيادة الظلم والجور فقال لهم يا بني قد بلغني إنه ولى أهل مصر ملك عادل فاذهبوا إليه واقرئوه مني السلام فإنه يقضي حاجتكم ثم جهز أولاده العشرة وأرسلهم ، فذلك قوله تعالى : وجاء أخوة يوسف أي : ممتارين قالوا : لما دنا ملاقاة يعقوب بيوسف وتحول الحال من الفرقة إلى الوصلة ومن الألم إلى الراحة ابتلى الله الخلق ببلاء القحط ، ليكون ذلك وسيلة إلى خروج أبناء يعقوب لطلب المعاش وهو إلى المعارفة والمواصلة ، وكانت بين كنعان ومصر ثماني مراحل لكن أبهم الله تعالى ليعقوب عليه السلام مكان يوسف ولم يأذن ليوسف في تعريف حاله له إلى مجيء الوقت المسمى عند الله تعالى فجاؤوا بهذا السبب إلى يوسف في مصر.
فدخلوا عليه أي على يوسف وهو في مجلس حكومته على زينة واحتشام فعرفهم في بادىء الرأي وأول النظر لقوة فهمه وعدم مباينة أحوالهم السابقة لحالهم يومئذٍ لمفارقته إياهم وهم رجال وتشابه هيآتهم وزيهم في الحالين
285
ولكون همته معقودة بهم وبمعرفة أحوالهم لا سيما في زمان القحط ، وقد أخبره الله حين ما ألقاه إخوته في الجب لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ، فعلم بذلك أنهم يدخلون عليه البتة فلذلك كان مترصداً لوصولهم إليه فلما رآهم عرفهم وهم له منكرون أي والحال إنهم منكرون ليوسف لطول العهد ، لما قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه كان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة ، ومفارقته إياهم في سن الحداثة ولاعتقادهم أنه قد هلك ، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه ولبعد حاله التي رأوه عليها من الملك والسلطان عن حاله التي فارقوه عليها طريحاً في البئر ، مشرياً بدراهم معدودة وقلة تأملهم في حلاه من الهيبة والاستعظام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 285
وفي التأويلات النجمية عرفهم بنور المعرفة والنبوة وهم له منكرون لبقاء ظلمة معاصيهم وحرمانهم من نور التوبة والاستغفار ولو عرفوه حق المعرفة ما باعوه بثمن بخس ولما جهزهم بجهازهم أي : أصلحهم بعدتهم وهي عدة السفر من الزاد وما يحتاج إليه المسافر وأوقر ركائبهم ، أي : أثقل بما جاؤوا لأجله من الميرة ، وهي بكسر الميم وسون الياء طعام يمتاره الإنسان أي يجلبه من بلد إلى بلد قال ائتوني باخ لكم من أبيكم (بياريد بمن برادرى كه شماراست ازدر شما يعني علاتيست نه اعياني) والعلة الضرة وبنوا العلات بنوا أمهات شتى من رجل لأن الذي تزوجها على الأولى قد كانت قبلها تأهل ثم عل من هذه ، وبنوا الأعيان أخوة لأب وأم وبنوا الأخياف أخوة ، أمهم واحدة والآباء شتى ، ولم يقل بأخيكم مبالغة في إظهار عدم معرفته لهم فإنه فرق بين مررت بغلامك ومررت بغلام لك ، فإنك في التعريف تكون عارفاً بالغلام وفي التنكير أنت جاهل به ، ولعله إنما قاله لما قيل من إنهم سألوه حملاً زائداً على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرطهم أن يأتوا به ليعلم صدقهم ، وكان يوسف يعطي لكل نفس حملاً لا غير تقسيطاً بين الناس.
وقال الكاشفي : (هريك را يك شتر بار كندم دادن كفتنديك شتروار ديكر بجهت برادر ماكه در خدمت در است بدهيد يوسف كفت من شمار مردم ميدهم نه بشمار شتر ايشان مبالغه نمودند قال ائتوني) الآية.
وقال في بحر العلوم لا بد من مقدمة سبقت له معهم حتى اجترأ القول هذه المسألة روى أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم أخبروني من أنتم وما شأنكم فإني أنكركم قالوا نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال لعلكم جئتم عيوناً تنظرون عورة بلادي ، قالوا : معاذ الله نحن أخوة بنوا أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب قال كم أنتم قالوا كنا اثني عشر فهلك منا واحد ، قال : فكم أنتم ههنا؟ قالوا : عشرة قال : فأين الآخر الحادي عشر؟ قالوا : عند أبيه ليتسلى به من الهالك ، قال فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون وأن الذي تقولون حق؟ قالوا : أنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا ، قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون فخلفوه عنده ألا ترون (ايا نمى بينيد) أني أوفى الكيل أتمه لكم.
(4/185)
قال الكاشفي : (من تمام مى بيمايم يمامنه را وحق كسى بازنمى كيرم) وأنا خير المنزلين والحال أني في غاية الإحسان وفي إنزالكم وضيافتكم ، وقد كان الأمر كذلك (يعني در انزال مهمانان وإكرام وإحسان
286
با يشان دقيقه فرونميكذاريم) ولم يقله عليه السلام بطريق الامتنان بل لحثهم على تحقيق ما أمرهم به.
فإن لم تأتوني به (س اكرنيارد بمن آن برادررا) فلا كيل لكم عندي من بعد ، أي في المستقبل فضلاً عن إيفائه والمقصود عدم إعطاء الطعام كيلاً ولا تقربون بدخول بلادي فضلاً عن الإحسان في الإنزال والضيافة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 285
قالوا : الله أمره بطلب أخيه ليعظم أجر أبيه على فراقه ، وهو إما نهي أو نفي معطوف على الجزاء ، كأنه قيل فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا ، يعني أنه سواء كان خبراً أو نهياً يكون داخلاً في حكم الجزاء معطوفاً عليه لكن جزمه على الثاني بلا الناهية ، وعلى الأول بالعطف على ما هو في محل الجزم.
قال في الإرشاد وفيه دليل على أنهم كانوا على نية الامتيار مرة بعد أخرى وأن ذلك كان معلوماً له عليه السلام.
قالوا سنراود عنه أباه سنخادعه عنه ونحتال في انتزاعه من يده ونجتهد في ذلك وفيه تنبيه على عزة المطلب وصعوبة مناله وإنا لفاعلون ذلك غير مفرطين ولا متوانين عبروا بما يدل على الحال تنبيهاً على تحقيق وقوعه كما في قوله تعالى : وإن الدين لواقع}(الذاريات : 6) وفيه إشارة إلى أن لطائف الحيل وسائل في الوصول إلى المراد وأن الانخداع كما أنه من شأن العامة كذلك هو من شأن خواص العباد بموجب البشرية التي ركبها الله على السوية بين الأفراد (آورده اندكه هار كس درباغي رفتند بي أجازت مالك وبخوردن ميوه مشغول كشتند.
يكى ازان جمله دانشمندي بود.
ودوم علوي.
وسوم لشكري.
وهارم بازارى خداوند باع در آمد ون ديدكه دست خيانت دراز كرده اند وميوه بسيار تلف شده باخود انديشه كردكه اكرنه بنوع از فريب ومكر وحيلت دريش آيم با يشان برنيايم.
اول روى بمرد عالم آورد وكفت تومردد انشمندي ومقتداي مايى ومصالح معاش ومعاد ما ببركت اقلام وحركت أقدام شما منوطست وأين بزرك ديكر ازخاندان نبوت وازاهل فتوت است وما ازجمله اكران خاندان ويم ودوستى ايشان بر ما واجبست نانكه حق تعالى ميفر مايد {قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى} (الشورى : 23) واين عزيز ديكر مرد لشكريست وخانمان وجان ما بتيغ بران وسعى وتدبيرايشان آبادان وباقيست شما اكر درباغ من آييد وتمام ميوها بمصلحت خود صرف كنيد جان ما وباغ ما فداي شما باد اين مرد بازارى كيست واورا حجت يست وبه سبب درباغ من آمده است ودست دراز كرده كريبان وى بكرفت واورا دست بردى تمام نمودكه آواز اي در آمد ودست وايش محكم ببست وبينداخت بعد ازان روى بلشكرى نهاد وكفت من بنده سادات وعلما ام توندانسته كه من خراج اين باغ بسلطان داده أم اكر سادات وائمه بجان ما حكم فرمايند حاكم باشند أما بكوى كه توكيستى وبه سبب درباغ من آمدى اورانيز بكرفت وكوشمالي تمام بتقديم رسانيد واورا نيز محكم دربست بعد ازان روى بدانشمند آوردكه همه عالم بندكان ساداتند وحرمت داشتن ايشان برهمه كس واجبست أما توكه مرد عالمي اين قدر ندانى كه درملك ديكران بي أجازت نبايد رفت ومال مسلمانان بغصب نبايد برد جان من وخانمان من فداى سادات بادهر جاهل كه خودرا دانشمند خواند وهي نداند درخور تأديب ومستحق تعذيب باشد اورا نيزتمام بر نجانيد ومقيد كردانيد بعدازان
287
روى بعلوى آورد وكفت اي لا سيد مكار وأي مدعى نابكار أي ننك سادات عظام وأي عاروشين شرفاء كرام به سبب درباغ من آمده وبكدام دل وزهره اين دليرى نموده رسول فرموده است كه مال امت من بر لا علويان حلالست اورانيز أدب بليغ بتقديم رسانيد ومحكم دست اى وى دربست وبلطف حيل هر اررا تأديب كرد وبهاي ميوه كه خورده بودند ازايشان بستاد وبشفاعت ديكران دست ازايشان بداشت اكر حيله درامور دنويي نبودي صاحب باغ كه يك تن بود تأديب هار مرد نتوانستي كرد ومقصود أو بحصول موصول نكشتى) فإذا انقطع أسباب الحيل يلزم حينئذ الغلظة في المعاملة إن اقتضت الحال ذلك وإلايسكت ويسلم
و دست ازهمه حيلتي دركسست
حلالست بردن بشمشير دست
جزء : 4 رقم الصفحة : 285
(4/186)
{قَالَ يُوسُفُ} لفتيانه غلمانه الكيالين ، أي الموكلين على خدمة الكيل جمع فتى وهو المملوك شاباً كان أو شيخاً.
اجعلوا بضاعتهم في رحالهم دسوها في جواليقهم وذلك بعد أخذها وقبولها وإعطاء بدلها من الطعام ، والبضاعة من البضع بمعنى الشق والقطع لأنها قطعة من المال.
والرحل الوعاء ويقال لمنزل الإنسان ومأواه رحل أيضاً ، ومنه نسى الماء في رحله ، وكل بكل رحل من يعبي فيه بضاعتهم التي شروا بها الطعام وكانت نعالاً وأدما وقيل دراهم ، فإن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد بالآحاد وإنما فعله عليه السلام تفضلاً عليهم وخوفاً من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به مرة أخرى لعلهم يعرفونها أي : يعرفون حق ردها وحق التكرم بإعطاء البدلين.
إذا انقلبوا أي : رجعوا إلى أهلهم وفتحوا أوعيتهم فالمعرفة مقيدة بالرجوع وتفريغ الأوعية لعلهم يرجعون لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا مرة أخرى بأخيهم بنيمين ، فإن التفضل عليهم بإعطاء البدلين ولا سيما عند إعادة البضاعة من أقوى الدواعي إلى الرجوع.
فلما رجعوا من مصر إلى أبيهم في كنعان قالوا قبل أن يشتغلوا بفتح المتاع.
يا أبانا منع منا الكيل مصدر كلت الطعام إذا أعطتيه كيلاً ويجوز أن يراد به المكيال أيضا على طريقة ذكر المحل وإرادة الحال ، أي منع ذلك فيما بعد في المستقبل وفيه ما لا يخفى من الدلالة على كون الامتيار مرة بعد أخرى معهوداً فيما بينهم وبينه عليه السلام.
قال الكاشفي : (يعني ملك مصر حكم كردكه ديكر طعام برمانه يمانند اكر بنيامين را نبريم) وذكروا له إحسانه ، وقالوا : إنا قدمنا على خير رجل نزلنا ، وأكرمنا بكرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته وذكروا أنه ارتهن شمعون.
فأرسل معنا أخانا بنيامين إلى مصر وفيه إيذان بأن مدار النمع عدم كونه معهم نكتل بسببه ما نشاء من الطعام من الاكتيال يقال اكتلت عليه ، أي : أخذت منه كيلاً وإنا له لحافظون من أن يصيبه مكروه ضامنون برده.
جزء : 4 رقم الصفحة : 287
{ءَالِ يَعْقُوبَ} هل آمنكم عليه استفهام في معنى النفي ، وآمن فعل مضارع والأمن والائتمان بمعنى وهو بالفارسية (أمين داشتن كسى را).
إلا كما أمنتكم على أخيه منصوب على أنه نعت مصدر منصوب أي إلا أمنا كامني إياكم على أخيه يوسف من قبل وقد قلتم في حقه ما قلتم ثم فعلتم به ما فعلتم ، فلا أثق بكم
288
ولا بحفظكم وإنما أفوض الأمر إلى الله تعالى فالله خير مني ومنكم حافظاً تمييز أو حال ، مثل : دره فارساً.
وهو أرحم الراحمين من أهل السموات والأرضين فارجو أن يرحمني بحفظه ، ولا يجمع عليّ مصيبتين ، وهذا كما ترى ميل منه إلى الإذن والإرسال لما رأى فيه من المصلحة.
قال كعب : لما قال يعقوب فالله خير حافظاً قال الله تعالى : وعزتي لأردنّ عليك كليهما بعد ما توكلت عليّ فينبغي أن يتوكل على الله ويعتمد على حفظه دون حفظ ما سواه فإن ما سواه محتاج في حفظه إلى الأسباب والآلات والله تعالى غني بالذات مستغن عن الوسائط في كل الأمور وفي جميع الحالات ولذا حفظ يوسف في الجب وكذا دانيال عليه السلام فإن بخت نصر طرحه في الجب وألقى عليه أسدين فلم يضراه ، وجعلا يلحسانه ويتبصبصان إليه فأتاه رسول فقال يا دانيال فقال : من أنت؟ قال : أنا رسول ربك إليك أرسلني إليك بطعام فقال الحمدالذي لا ينسى من ذكره.
ومن حفظه تعالى ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله إذا أراد الحاجة أبعد فذهب يوماً تحت شجرة فنزع خفيه قال ولبس أحدهما فجاء طائر فأخذ الخف الآخر فحلق به في السماء فانفلت منه أسود سالخ وهو نوع من الأفعوان شديد السواد وسمى بذلك لأنه يسلخ جلده كل عام فقال النبي عليه السلام : هذه كرامة أكرمني الله بها اللهم إني أعوذ بك من شر من يمشي على رجلين ومن شر من يمشي على أربع ومن شر من يمشي على بطنه.
ومن لطائف الأخبار ما ذكر في أنيس الوحدة بالفارسية : (مردى رازنى بود صاحب جمالواوازغايت غيرت كه از لوازم محبت است طاقتي نداشتى كه باد بر سر زلف أو كذر يا فتى يا آفتاب جهان تاب دروى تافتي :
جزء : 4 رقم الصفحة : 288
بادرا كر خبر ازغيرت عاشق بودي
بر سر سنبل زلفش نكذشتى ازبيم
أطراف وجوانب خانه نان محفوظ ومضبوط كرادنيده كه ازنظر غير دائماً مصون ومستور بودي زن ون روزي ند دران خانه ضيق بماند بتنك آمد شوهر را كفت مراتا اين غايت رادر بند ميدارى :
در قفص طلبد هر كجا كرفتاريست
(4/187)
يش ازين مرا كرفتار مدارزن اكر بد كار ونابكار باشد هي افريده اورا نكاه نتواند داشت وندارد واكر ارسا وعفيفه ونيكو كار باشد سر بهركه درجهان بلكه بماه آسمان فرونيارد ازين بندو حبس دست بدار ومرا بامستورى من ساركه عفت من مرا حافظي بي مثل وراقبي بي نظيرست ازين نوع ند انكه كفت درنكرفت بلكه در محافظت أو بيشترمى كوشيد زن خواست كه اورا برهاني نمايد در جوار اوزالي بودكه كاه كاهي ازشكاف دربا اوسخن كفتي روزي اورابخواند وبجواني كه دران همسايه بود يغام فرستاد وكفت مدتي است تادر عشق كرفتارم وى تو عاشق زارم وخواهان دولت مواصلت وآرزومند سعادت ملاقات زال تبليغ رسالت كرد جوان ون وصف حسن وجمال اوشنيده بود ازشادى در طرب واهتزاز آمد واز مسرت وابتهاج در هواى عشق جون باز برواز جواب فرستاد كه :
289
جانا بز بان من سخن ميكويى
باخود سخن از زبان تو ميكويى
كيست آنكس كه نخوهدكه توجانش باشى
من بعد در سراين كارم وعشق ترا بجان خريدار أما شوهر مردي عظيم غيورست وتمناي وصالت انديشه دور كفت
راه وصل ما باى عاشقان
كر ترا رغبت بود كامى بود
مصلحت آنست كه بعزم سفر آوازه دراندازى وصندوقي بزرك بسازى وبشوهر من فرستي كه بسفر ميروم وصندوقي ر ازمتاع دارم وبجز ازتو بهي كس اعتماد ندارم ميخواهم كه بخانه ثو آرم وبامانت بسارم اكر قبول كنى لطفي بموقع خود بود ورهين منت كردم اورا وداع كنى وبروى وبعد ازان درين صندوق روى وغلامت بخانه ما آرد وهركاه كه شوهرم بيرون رود
تو ز صندوق خويش بيرون آي
وز جمالم هميشه مى آساي
جوانرا اين تدبير خوش آمد وبران موجب كار يش كرفت ون صندوق را بخانه آن فرستاد وموضعي معين كرد كه صندوق بنهد زن يش شوهر آمد وكفت اين يست وصندوق كيست شوهر حال بازفكت زن كفت ميدانيكه در صندوق يست كفت نمى دانم كفت از عقل دور باشدكه صندوقي مقفل بخانه آرى وندانيكه درانجا يست اكر فردا خصم بيايد وكويد درابحا أنواع جواهر ولآلى بود وخلاف آن باشد ون از عهده آن بيرون آبى صواب آن باشد كه يكى را ازخانه او بياري وجمعي از محلت حاضر كر داني تاسر صندوق بكشايند وهره در آنجا باشد بنمايند تادر وقت مطالبت أمانت طرق قيل وقال مسدود باشد مرد ون سخن مقبول شنيد صلاح درين ديد غلام آن مرد وجماعتي ند حاضر كردانيد وسر صندوق بكشادند وجوانرا ديدند در آنجا ون مغزدر سته نشسته وازغايت خجالت وشر مسارى زبان نطق بسته شوهر زن صاحب جمال نيك متحير ومتغير شد زن كفت أي خواجه اين جوانرا هي كناهى نيست اين كار منست ويشه من غرض آن بودكه ون يوسته مرا مقيد ومعذب ميداشتى خواستم كه باتو نمايم كه زنانر هركز نكاه نتوان داشت زن بايدكه خود مستور ونيك نام بود اكره از آنه احتراز ميكردي مرا بدان ميل والتفاتي بودي يانه عفت من مانع آن حالت كشتى تو بدست خود يارى آورده بودي أما غرض من نمودن بر هانست واظهار عفت خود اكنون مرا باعفت خود سار ودست از محافظت ومراقبت من بدار مرد ون آن حال مشاهده كرد دست ازرعايت أو بداشت وبيش ازان اورا مقيد نداشت وبحفظ حق حواله كرد).
جزء : 4 رقم الصفحة : 288
ولما فتحوا متاعهم الذي حملوه من مصر وهو اسم من متع كالكلام والسلام من كلم وسلم ، وهو في الأصل كل ما انتفع به والمراد به هنا أوعية الطعام مجازاً إطلاقاً للكل على بعض مسمياته ، ويسمى بعضهم هذا النوع من المجاز أعني إطلاق الكل على البعض حقيقة قاصرة وجدوا بضاعتهم (يافتند بضاعت خو دراكه تسليم ملك كرده بودند) ردت إليهم تفضلاً وقد علموا ذلك بدلالة الحال ، كأنه قيل ماذا قالوا حينئذٍ؟ فقيل : قالوا لأبيهم ولعله كان حاضراً عند الفتح كما في الإرشاد
290
ويؤيده ما في القصص من أن يعقوب قال لهم : يا بني قدموا أحمالكم لأدعو لكم فيها بالبركة فقدموا أحمالهم وفتحوها بين يديه فرأوا بضاعتهم في رؤوس أحمالهم فقالوا عند ذلك يا أبانا ما نبغي ما استفهامية منصوبة بنبغي وهو من البغي بمعنى الطلب أي أي شيء نطلب وراء هذا من الإحسان.
هذه بضاعتنا (اينست بضاعت ماكه غله بدين بضاعت بما فروخته اند) ردت إلينا أي : حال كونها مردودة إلينا تفضلاً من حيث لا ندري بعد ما من علينا بالمنن العظام هل من مزيد على هذا فنطلبه أرادوا الاكتفاء به في استيجاب الامتثال لأمره والالتجاء إليه في استجلاب المزيد ونمير أهلنا أي نجلب إليهم الطعام من عند الملك ، وهو معطوف على مقدر أي ردت إلينا فنستظهر بها ونمير أهلنا في رجوعنا إلى الملك يقال مار أهله يميرهم ميرا إذا أتاهم بالميرة وهي الطعام المجلوب من بلد إلى بلد ومثله امتار.
ونحفظ أخانا من الجوع والعطش وسائر المكاره ونزداد (وزياده بستانيم بواسطه او) كيل بعير أي حمل بعير يكال لنا من أجل أخينا لأنه كان يعطي باسم كل رجل حمل بعير كأنه قيل أي حاجة إلى الازدياد فقيل : ذلك أي : ما يحمله أباعرنا كيل يسير أي : مكيل قليل لا يقوم بأودنا أي قوتنا.
(4/188)
جزء : 4 رقم الصفحة : 288
{قَالَ أَبُوهُمْ} لن أرسله معكم بعد ما عاينت منكم ما عاينت حتى تؤتون (تابدهيد مرا) موثقاً من الله أي عهداً موثوقاً به أي معتمداً مؤكداً بالحلف وذكر الله ، وهو مصدر ميمي بمعنى الثقة استعمل في الآية بمعنى اسم المفعول أي الموثوق به ، وإنما جعله موثقاً منه تعالى لأن توكيد العهود به مأذون فيه من جهته تعالى فهو إذن منه تعالى لتأتنني به جواب القسم إذ المعنى حتى تحلفوا بالله لتأتنني به في كل الأوقات إلا أن يحاط بكم إلا وقت الإحاطة بكم وكونهم محاطاً بهم إما كناية عن كونهم مغلوبين مقهورين بحيث لا يقدرون على إتيانه البتة أو عن هلاكهم وموتهم جميعاً وأصله من العدو فإن من أحاط به العدو يصير مغلوباً عاجزاً عن تنفيذ مراده أو هالكاً بالكلية ، ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر وهو قولهم البلاء موكل بالمنطق فإن يعقوب عليه السلام قال أولاً في حق يوسف وأخاف أن يأكله الذئب فابتلي من ناحية هذا القول حيث قالوا أكله الذئب وقال ههنا لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فابتلي أيضاً بذلك وأحيط بهم وغلبوا عليه كما سيأتي.
قال الكاشفي : (درتبيان فرموده كه اورا بشما ندهم تا سوكند خوريد بحق محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين ايشان قبول نموده بمنزلت حضرت يغمبر ما سوكند خوردند كه درمهم بنيامين غدر نكنند).
فلما آتوه موثقهم عهدهم من الله حسبما أراد يعقوب قال الله على ما نقول وكيل أي على ما قلنا في أثناء طلب الموثق وإيتائه من الجانبين وكيل مطلع رقيب يريد به عرض ثقته بالله وحثهم على مراعاة ميثاقهم.
وفيه إشارة إلى أن التوكل بعد التوكيد كقوله تعالى : فإذا عزمت فتوكل على الله}(آل عمران : 159) وفي "الكواشي" في قول يعقوب {لَنْ أُرْسِلَه مَعَكُمْ} الآية دليل على جواز التعلق بالأسباب الظاهرة مع صحة التوكل.
وفي المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 291
كر توكل ميكنى در كار كن
كشت كن س تكيه برجبا ركن
فينبغي للإنسان أن يجمع بين رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم وبين أن لا يعتمد عليها وأن
291
لا يراعيها إلا لمحض التعبد ، بل بربط قلبه بالله وبتقديره ويعتمد عليه وعلى تدبيره ، ويقطع رجاه عن كل شيء سواه وليس الشأن أن لا تترك السبب بل الشأن أن تترك السبب ، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية لأن التجريد حال الآخذ من الله بلا واسطة فالمتجرد في هذه الحالة كمن خلع عليه الملك خلعة الرضى فجعل يتشوف لسياسة الدواب.
قال بعض المشايخ مثل المتجرد والمتسبب كعبدين للملك قال لأحدهما إعمل وكل من عمل يدك ، وقال للآخر الزم أنت حضرتي وأنا أقوم لك بقسمتي فمتى خرج واحد منهما عن مراد السيد منه فقد أساء الأدب وتعرض لأسباب المقت والعطب والأسباب على أنواع.
فقد قيل : من وقع في مكان بحيث لم يقدر على الطعام والشراب فاشتغل باسم الصمد كفاه والصمدية هي الاستغناء عن الأكل والشرب.
وعن بعضهم أنه سافر للحج على قدم التجريد وعاهد الله سبحانه أن لا يسأل أحداً شيئاً فلما كان في بعض الطريق مكث مدة لا يفتح عليه شيء فعجز عن المشيء ثم قال هذا حال ضرورة تؤدي إلى تهلكة بسبب الضعف المؤدي إلى الانقطاع ، وقد نهى الله عن الإلقاء إلى التهلكة ثم عزم على السؤال فلما همّ بذلك انبعث من خاطره رده عن ذلك العزم ثم قال أموت ولا انقض عهداً بيني وبين الله تعالى ، فمرت القافلة وانقطع واستقبل القبلة مضجعاً ، ينتظر الموت فبينما هو كذلك إذا هو بفارس قائم على رأسه معه إداوة فسقاه وأزال ما به من الضرورة فقال له أتريد القافلة؟ فقال : وأين مني القافلة؟ فقال قم وسار معه خطوات ثم قال قف هنا والقافلة تأتيك فوقف وإذا بالقافلة مقبلة من خلفه فانظر إن البقاء فرع الفناء ، فما دام لم يحصل للمرء الفناء عن الوجود لم يجد البقاء من الله ذي الفيض والجود :
يكجو از خر من هستي نتواند برداشت
هركه در كوى فنا درره حق دانه نكشت
وقال يعقوب ناصحاً لبنيه لما ازمع على إرسالهم جميعاً يا بني لا تدخلوا مصر من باب واحد وكان لها أربعة أبواب وادخلوا من أبواب متفرقة أي : من طرق شتى وسكك مختلفة مخافة العين فإن العين والسحر حق ، أي كائن أثرهما في المعين والمسحور ، وصاهم بذلك في هذه الكرة لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة مشتهرين في مصر بالقربة عند الملك فخاف عليهم إن دخلوا جماعة واحدة أن يصابوا بالعين ولم يوصهم في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين حينئذٍ مغمورين بين الناس غير متجملين تجملهم في الثانية ، وكان الداعي إليها خوفه على بنيامين (در لطائف آورده كه يعقوب در اول مهر دري يداكرد وآخر عجز بندكي آشكار كرد كه كفت) وما أغني عنكم أي : لا أنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيري من الله وقضائه من من زائدة لتأكيد النفي شيء أي : شيئاً فإن الحذر لا يمنع القدر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 291
من جهد همي كنم قضا ميكويد
(4/189)
بيرون ز كفايت تو كار دكرست
ولم يرد به الغاء الحذر بالمرة كيف لا وقد قال تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}(البقرة : 195) وقال : {خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء : 71) بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة ، بل هو تدبير في الجملة وإنما التأثير وترتب المنفعة عليه من العزيز القدير ، وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر بل هو استعانة بالله وهرب منه إليه.
{إِنِ الْحُكْمُ} أي : ما الحكم مطلقاً إلالا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء فلا يحكم
292
أحد سواه بشيء من السوء وغيره عليه لا على أحد سواه توكلت في كل ما آتى واذر ، وفيه دلالة على أن ترتيب الأسباب غير مخل بالتوكل وعليه دون غيره فليتوكل المتوكلون الفاء لإفادة التسبب فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدى بهم.
قال سهل بن عبد الله التستري قدس سره للعباد على الله ثلاثة أشياء تكليفهم وآجالهم والقيام بأمرهم ، ولله على العباد ثلاثة التوكل عليه واتباع نبيه والصبر على ذلك إلى الموت.
ومعنى ذلك أن الثلاثة الأول دخول العبد فيها تكلف إذ لا يتصور وجودها بسبب منه ، ولا يجب على الله شيء.
والثلاثة الآخر لا بد من قيام العبد بها إذ لا بد من تسببه فيها.
واعلم أنه قد شهدت بإصابة العين تجاريب العلماء من الزمن الأقدم وتطابق ألسنة الأنبياء على حقيتها : قال الكمال الجندي :
عقل باطل شمرد شم توهر خون كه كند
ظاهراً بي خر ازنكته العين حقست
وفي الحديث : إن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر وعن علي رضي الله عنه إن جبريل أتى النبي فوافقه مغتماً فقال يا محمد ما هذا الغم الذي أراه في وجهك فقال الحسن والحسين أصابهما عين فقال يا محمد صدقت فإن العين حق وتحقيقه أن الشيء لا يعان إلا بعد كماله وكل كامل فإنه يعقبه النقص بقضاء ، ولما كان ظهور القضاء بعد العين أضيف ذلك إليها فالتأثير الحاصل عقيبه هو فعل الله على وفق إجراء عادته إذ لا تأثير للعين حقيقة على ما هو مذهب أهل السنة.
وقال بعضهم تأثير المؤثر في غيره لا يجب أن يكون مستنداً إلى القوى الجسمانية بل قد يكون التأثير نفسانياً محضاً ، ويدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض إذا كان موضوعاً على الأرض يقدر الإنسان على المشي عليه ، ولو كان موضوعاً فيما بين جدارين عاليين يعجز عن المشي عليه وما ذلك إلا لأن خوفه من السقوط يوجب سقوطه منه ، فعلمنا أن التأثيرات النفسانية موجودة من غير أن يكون للقوى الجسمانية مدخل لها ، وأيضاً إذ تصور الإنسان كون فلان مؤذياً له حصل في قلبه غضب يسخن بذلك مزاجه جداً ، فمبدأ تلك السخونة ليس إلا ذاك التصور النفسني ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية ، فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضاً أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان فثبت أنه لا يمتنع في العقل أن يكون بعض النفوس مؤثراً في سائر الأبدان فإن جواهر النفس مختلفة بالماهية فجاز أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه ويتعجب منه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 291
وقال بعضهم : وجه إصابة العين أن الناظر إذا نظر إلى شيء واستحسنه ولم يرجع إلى الله وإلى رؤية صنعه قد يحدث الله في المنظور علة بجناية نظره على غفلة ، ابتلاء من الله لعباده ليقول المحق إنه من الله ، وغيره من غيره فيؤاخذ الناظر لكونه سبباً.
وقال بعضهم : صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب المكلف متعلقاً به.
وقال بعضهم : لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة غير مرئية فتتصل بالمعين فيتضرر بالهلاك والفساد ، كما قيل مثل ذلك في بعض الحيات فإن من أنواع الأفاعي ما إذا وقع بصرها على عين إنسان مات من ساعته ، والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية بل بعضها
293
بالمقابلة والرؤية وبعضها لا يحتاج إلى المقابلة بل يتوجه الروح إليه ونحوه ، ومن هذا القبيل شر الحسود المستعاذ منه ، حتى قال بعضهم إن بعض العائنين لا يتوقف عينهم على الرؤية بل ربما يكون أعمى فيوصف له الشيء فتؤثر نفسه فيه بالوصف من غير رؤية.
(4/190)
قال القزويني ويختص بعض النفوس من الفطرة بأمر غريب لا يوجب مثله لغيرها ، كما ذكر أن في الهند قوماً إذا اهتموا بشيء اعتزلوا عن الناس وصرفوا همتهم إلى ذلك الشيء فيقع على وفق اهتمامهم.
ومن هذا القبيل ما ذكر أن السلطان محمود غزا بلاد الهند وكان فيها مدينة كلما قصدها مرض ، فسأل عن ذلك فقيل له إن عندهم جمعاً من الهند إذا صرفوا همتهم إلى ذلك يقع المرض على وفق ما اهتموا ، فأشار إليه بعض أصحابه بدق الطبول ونفخ البوقات الكثيرة لتشويش همتهم ففعل ذلك فزال المرض واستخلصوا المدينة فهذا تأثير الهمة ، وأما تأثير المحبة فقد حكى أن بعض الناس كان يهوى شاباً يلقب ببدر الدين فاتفق أنه توفى ليلة البدر فلما أقبل الليل وتكمل البدر لم يتمالك محبه رؤيته من شدة الحزن وأنشد يخاطب البدر.
شقيقك غيب في لحده
وتطلع يا بدر من بعده
فهلا خسفت وكان الخسوف
لباس الحداد على فقده
فخسف القمر من ساعته ، فانظر إلى صدق هذه المحبة وتأثيرها في القمر وصدق من قال إن المحبة مغناطيس القلوب ، وتأثير الأرواح في الأجسام أمر مشاهد محسوس فالتأثير للأرواح ولشدة ارتباطها بالعين نسبت إليها.
قال بعض الحكماء : ودليل ذلك أن ذوات السموم إذا قتلت بعد لسعها خف أثر لسعها لأن الجسد تكيف بكيفية السم وصار قابلاً للانحراف ، فما دامت حية فإن نفسها تمده بامتزاج الهواء بنفسها وانتشاق اللمسوع به وهذا مشاهد ، ولا أقول إن خاصية قتلها منحصرة فيها فقط بل هي إحدى فوائدها المنقولة عنها ، وأصل ذلك كله من إعجاب العائن بالشيء فيتبعه كيفية نفسه الخبيثة فيستعين على تنفيذ سميتها بعينه وقد يعين الرجل نفسه بغير إرادة منه وهذا أردى ما يكون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 291
وينبغي أن يعلم أن ذلك لا يختص بالإنس بل قد يكون في الجن أيضاً وقيل عيونهم أنفذ من اسنة الرماح.
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام رأى في بيتها جارية وفي وجهها صفرة فقال : استرقوا لها فإن بها النظرة وأراد بها العين أصابتها من الجن.
قال الفقهاء : من عرف بذلك حبسه الإمام وأجرى له النفقة إلى الموت فلما كان أصل ذلك استحسانه.
قال عثمان رضي الله عنه : لما رأى صبياً مليحاً ، دسموا نونته لئلا تصيبه العين أي سودوا نقرة ذقنه.
قالوا : ومن هذا القبيل نصب عظام الرؤوس في المزارع والكروم ووجهه أن النظر الشؤم يقع عليه أولاً فتنكسر سورته فلا يظهر أثره ، وقد جعل الله لكل داء دواء ولكل شي ضداً فالدعوات والأنفاس الطيبة تقابل الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة ، والحواس الفاسدة فتزيله وروى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال دخلت على رسول الله في أول النهار فرأيته شديد الوجع ثم عدت إليه آخر النهار فرأيته معافي فقال إن جبريل عليه السلام أتاني فرقاني وقال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد الله يشفيك قال عليه السلام فأفقت وفيه وفيما ذكر
294
من حديث أم سلمة دلالة على جواز الاسترقاء وعليه عامة العلماء هذا إذا كانت الرقى من القرآن أو الاذكار المعروفة أما الرقى التي لا يعرف معناه فمكروهة.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت له هلا تنشرت أي تعلمت النشرة وهي الرقية.
قال بعضهم : وفيه دليل على عدم كراهة استعمال النشرة حيث لم ينكر عليه السلام ذلك عليها ، وكرهها جمع ، واستدلوا بحديث في سنن أبي داود مرفوعاً النشرة من عمل الشيطان وحمل ذلك على النشرة التي تصحبها العزائم المشتملة على الأسماء التي لا تفهم كما قال المطرزي في المغرب إنما تكره الرقية إذا كانت بغير لسان العرب ولا يدرى ما هو ولعله يدخل فيه سحراً وكفراً.
وأما ما كان من القرآن وشيء من الدعوات فلا بأس به.
وأما تعليق التعويذ وهو الدعاء المجرب أو الآية المجربة أو بعض أسماء الله لدفع البلاء فلا بأس به ولكن ينزعه عند الخلاء والقربان إلى النساء كذا في التتارخانية وعند البعض يجوز عدم النزع ، إذا كان مستوراً بشيء والأولى النزع.
وكان عليه السلام يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما فيقول : أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة فعوذوا بها أولادكم فإن إبراهيم كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق رواه البخاري في صحيحه.
وكلمات الله كتبه المنزلة على أنبيائه أو صفات الله كالعزة والقدرة وغيرهما وكونها تامة لعرائها عن النقص والانفصام.
وكان أحمد بن حنبل يستدل بقوله بكلمات الله التامة على أن القرآن غير مخلوق ويقول إن رسول الله لا يستعيذ بمخلوق وما من كلام مخلوق إلا وفيه نقص فالموصوف منه بالتمام غير مخلوق وهو كلام الله تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 291
(4/191)
يقول الفقير : جاءت الاستعاذة بمخلوق في قول علي رضي الله عنه : إذا كنت بواد تخاف فيه السبع فقل أعوذ بدانيال وبالجب من شر الأسد وذلك أن دانيال لما ابتلى بالسباع كما ذكرناه عند قوله تعالى : فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين جعل الله الاستعاذة به في ذلك تمنع شر الذي لا يستطاع كما في حياة الحيوان.
قال بعضهم : هذا مقام من بقي له التفات إلى غير الله فأما من توغل في بحر التوحيد حيث لا يرى في الوجود إلا الله لم يستعذ إلا بالله ولم يلتجىء إلا إلى الله والنبي عليه السلام لما ترقى عن هذا المقام قال أعوذ بك منك.
وإلهامه إحدى الهوام وهي حشرات الأرض.
وقال الخطابي : ذوات السموم كالحية والعقرب ونحوهما ، وأما حديث ابن عجرة أيؤذيك هوام رأسك فالمراد بها القمل على الاستعارة.
واللامة الملمة ، من المت به أي نزلت ، وجيء على فاعلة ولم يقل ملمة للازدواج بهامة ويجوز أن يكون على ظاهرها بمعنى جامعة للشر على المعيون من لمه يلمه إذا جمعه يقال إن دارك تلم الناس أي تجمعهم.
وفي الفتوحات المكية أن التأثير الحاصل من الحروف وأسماء الله تعالى من جنس الكرامات أي إظهار الخواص بالكرامة فإن كل أحد لا يقدر استخراج خواص الأشياء.
وعن عائشة رضي الله عنها يؤمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين وهو الذي أصيب بالعين.
وعن الحسن دواء إصابة العين أن تقرأ هذه الآية وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين}(القلم : 51 ـ ـ 52) وليس في الباب أنفع من هذه الآية لدفع العين.
وعن عائشة ـ ـ رضي الله عنها ـ ـ أن النبي عليه السلام "كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فقرأ قل هو الله
295
أحد والمعوذتين فنفث فيهما ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه يفعل ذلك ثلاث مرات" وقد قيل إن ذلك أمان من السحر والعين والهوام وسائر الأمراض والجراحات.
والسنة لمن رأى شيئاً فأعجبه ، فخاف عليه العين أن يقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله ثم يبرك عليه تبريكاً ، فيقول : بارك الله فيك وعليك.
وذكر أن أعجب ما في الدنيا ثلاثة ، البوم لا تظهر بالنهار خوف أن تصيبها لعين لحسنها كما قال في "حياة الحيوان" ولما تصور في نفسها أنها أحسن الحيوان لم تظهر إلا بالليل.
والثاني الكركي لا يطأ الأرض بقدميه بل بأحداهما فإذا وطئها لم يعتمد عليها خوف أن تخسف الأرض.
والثالث الطائر الذي يقف على سوقه في الماء من الأنهار ويعرف بمالك حزين يشبه الكركي لا يشبع من الماء خشية أن يفنى فيموت عطشاً ، ونظيره أن دوداً بطبرستان يكون بالنهار من المثقال إلى الثلاثة يضيء في الليل كضوء الشمع ويطير بالنهار فيرى له أجنحة وهي خضراء ملساء لا جناحين له في الحقيقة غذاؤه التراب لم يشبع قط منه خوفاً من أن يفنى تراب الأرض فيهلك جوعاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 291
يقول الفقير : ذلك الطائر وهذا الدود إشارة إلى أهل الحرص والبخل من أهل الثروة فإنهم لا يشبعون من الطعام بل من الخبز خوفاً من نفاد أموالهم مع كثرتها ، ونعوذ بالله وقد التقطت إلى هنا من "إنسان العيون" و"شرح المشارق" لابن الملك و"شرح الشرعة" لابن السيد على أنوار المشارق و"شرح الطريقة" لمحمد الكردي و"الأسرار المحمدية" ولغة "المغرب" و"حياة الحيوان" و"شرح الحكم" و"حواشي" ابن الشيخ و"حواشي" سعد المفتى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 291
{وَلَمَّا دَخَلُوا} (آن هنكام كه در آمدند اولاد يعقوب) من حيث أمرهم أبوهم من الأبواب المتفرقة في البلد والجار والمجرور في موضع الحال ، أي دخلوا متفرقين ما كان يغني عنهم رأي يعقوب ودخولهم متفرقين من الله من جهته تعالى من شيء أي : شيئاً مما قضاه عليهم والجملة جواب لما إلا حاجة في نفس يعقوب قضيها حاجة منصوبة بإلا لكونها بمعنى لكن ، وقضاها بمعنى أظهرها ، ووصى بها خبر لكن ، والمعنى أن رأي يعقوب في حق بنيه وهو أن يدخلوا من الأبواب المتفرقة واتباع بنيه له في ذلك الرأي ما كان يدفع عنهم شيئاً مما قضاه الله عليهم ، ولكن يعقوب أظهر بذلك الرأي ما في نفسه من الشفقة والاحتراز من أن يعانوا ، أي : يصابوا بالعين ووصى به ، أي لم يكن للتدبير فائدة سوى دفع الخاطر من غير اعتقاد أن للتدبير تأثيراً في تغيير التقرير ، وأما إصابة العين فإنما لم تقع لكونها غير مقدرة عليهم لا لأنها اندفعت بذلك مع كونها مقتضية عليهم.
قال في المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 296
كرشود ذرات عالم حيله ي
باقضاى آسمان هيست هي
هره آيد زآسمان سوى زمين
نى مقر دارد نه اهره نه كمين
حيله ها وارها كز ا دهاست
يش إلا الله إنها جمله لاست
(4/192)
وإنه أي يعقوب لذو علم جليل لما علمناه بالوحي ونصب الأدلة ولذلك قال وما أغنى عنكم من الله من شيء لأن العين لو قدر أن تصيبهم أصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم وهم مجتمعون ولكن أكثر الناس لا يعلمون أسرار القدر ويزعمون أن يغني الحذر
296
تدبير كند بنده وتدبير نداند
تقدير خدارند بتدبير نماند
وفي التأويلات النجمية ولكن أرباب الصورة لا يعلمون أن ما يجري على خواص العباد إنما هو بوحينا وإلهامنا وتعليمنا فهم يعلمون بما نأمرهم ونحن نفعل ما نشاء بحكمتنا.
ولما دخلوا على يوسف (وآن وقت كه در آمدند اولاد يعقوب بر يوسف بباركاه او رسيدند يوسف بر تخت نشسته بود ونقاب فرو كذاشته رسيدكه ه كسانيد بباركاه او رسيدند يوسف بر تخت نشسته بود ونقاب فرو كذاشه رسيدكه ه كسانيد كفتند كنعا نيانيم كه مارا فرموده بوديد كه برادر خودرا بياريد اورا ازدر خواستيم وبعهد ويمان آورديم) فقال لهم أحسنتم وستجدون ذلك عندي فاجلسوا فجلسوا على حاشية البساط فأكرمهم ثم أضافهم واجلسهم مثنى مثنى أي كل اثنين منهم على قصعة.
وفي التبيان على خوان.
قال الكاشفي (يوسف فرمودكه هر دو برادر كه ازيك در ومادرند بريك خوان طعام خورند هر دو كس بريك خوان بنشستند بنيامين تنها مانده بكريه در آمد وميكريست تابيهوش شد يوسف بفر مود تاكلاب بروى او زدنن ون بهوش آمد رسيدكه اي جوان كنعاني تراه شدكه بيهوش شدي كفت أي ملك حكم فرموديدكه هركس بابرادر أعياني طعام خورد مرا برادري ازمادر ودر بودكه يوسف نام داشت بياد آمد باخود كفتم لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه از شوق اين حال بي طاقت شدم سبب كريه وبيهو شيء من أين بود كفت بياتاً من برادر توباشم وبا توبريك خوان نشيم س بفرمود تا خوان وبرابر داشتند ودرس رده آوردند واورانيز طلبيده وبدين بهانه) أوى إليه في الطعام أخاه بنيامين ، وكذا في المنزل والمبيت وأنزل كل اثنين منهم بيتاً ثم قال له : هل تزوجت؟ قال نعم ولي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك.
وفي القصص رزقت ثلاثة أولاد ذكور قال فما أسماؤهم؟ قال : اسم أحدهم ذئب ، فقال له يوسف أنت ابن نبي فكيف تسمى ولدك بأسماء الوحوش؟ فقال : إن إخوتي لما زعموا أن أخي أكله الذئب سميت ابني ذئباً حتى إذا صحت به ذكرت أخي فأبكي ، فبكى يوسف وقال : ما اسم الآخر قال : دم قال ولم سميت بهذا الاسم فقال إخوتي جاؤوا بقميص أخي متضمخاً بالدم ، فسميته بذلك حتى إذا صحت به ذكرت أخي يوسف فأبكي فبكى يوسف وقال وما اسم الثالث؟ قال : يوسف سميت به حتى إذا صحت به ذكرت أخي فأبكي ، فبكى يوسف وقال في نفسه : إلهي وسيدي هذا أخي أراه بهذا الحزن فكيف يكون حال الشيخ يعقوب ، اللهم أجمع بيني وبينه قبل فراق الدنيا ثم قال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك ، قال : من يجد أخاً مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وتعرف إليه وعند ذلك قال إني أنا أخوك يوسف.
جزء : 4 رقم الصفحة : 296
قال الكاشفي (يوسف نقاب بسته دست بطعام كردون بنيامين را نظر بر دست يوسف افتاد بكريست يوسف اورا رسيدكه اين ه كريه است كفت أي ملك ه ما نندست دست تو بدست برادرم يوسف كه اين كلمه را شنيد طاقتش نماند نقاب ازهره برداشت وبنيامين را كفت منم برادر تو).
وفي القصص جعل بنيامين يأكل ويغض بأكله ويطيل النظر إلى يوسف فقال له يوسف أراك تطيل النظر إليّ فقال إني أخي الذي أكله الذئب يشبهك فقال له يوسف أنا أخوك فلا تبتئس فلا تحزن.
قال في تهذيب المصادر (الابتئاس : اندو هكين شدن)
297
بما كانوا يعملون بناء فيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا بخير وأمره أن لا يخبرهم بل يخفى الحال عنهم.
وفيه تنبيه على أن إخفاء المرام وكتمه مما يستحب في بعض المكان ويعين على تحصيل المقاصد ولذلك ورد في الأثر استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان وأيضاً في الضيافة المذكورة إشارة إلى أن إطعام الطعام من سنن الأنبياء العظام كان إبراهيم عليه السلام مضيافاً لا يأكل طعاماً بلا ضيف.
وعن جابر رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله فقال : ألا أحدثكم بغرف الجنة قلنا بلى يا رسول الله بابينا وأمنا قال إن في الجنة غرفاً من أصناف الجواهر يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها وفيها من النعيم واللذات والسرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال قلت لمن هذه الغرف يا رسول الله قال : لمن أفشى السلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام.
(4/193)
ثم إن في قوله : فلا تبتئس بما كانوا يعملون إشارة إلى أن الله تعالى لا يهدي كيد الحاسدين بل النصر الإلهي والتأييد الرباني مع القوم الصالحين ولذلك قال النبي لصاحبه في الغار لا تحزن إن الله معنا ألا ترى إلى ما فعل أولاد يعقوب في حق يوسف وأخيه من الحسد والأذى فما وصلوا إلى ما أملوا بل الله تعالى جمع بينهما أي الأخوين ولو بعد حين وكذا بين يعقوب ويوسف فلها جهزهم بجهازهم الجهاز المتاع وهو كل ما ينتفع به أي كال كيلهم وأعطى كل واحد منهم حمل بعير وأصلحهم بعدتهم وهي الزاد في السفر.
وفي القصص قال يوسف لأخوته أتحبون سرعة الرجوع إلى أبيكم قالوا نعم فأمر الكيال بكيل الطعام وقال له زدهم وقر بعير ثم جهزهم بأحسن جهاز وأمرهم بالمسير روى إن يوسف لما تعرف إلى أخيه بنيامين (از هوش برفت وباخود آمده دست دركردن يوسف افكند وبزبان حال كفت
اين كه مى بينم به بيداريست يا رب يا بخواب
جزء : 4 رقم الصفحة : 296
خويشتن رادر نين راحت س از ندين عذاب
آنكه دست در دامن زد) قائلاً له فأنا لا أفارقك قال يوسف قد علمت اغتمام والدي بي فإذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أشهرك بأمر فظيع قال لا أبالي فافعل ما بدا لك قال ادس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم قال افعل فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية هي مشربة بكسر الميم أي أناء يشرب منه جعلت صواعاً يكال به وكانت من فضة وكان الشرب في إناء الفضة مباحاً في الشريعة الأولى أو من بلور أو زمردة خضراء أو ياقوتة حمراء تساوي مائتي ألف دينار ويشرب يوسف منها وقال في الكواشي كانت من ذهب مرصعة بالجواهر كال بها لأخوته إكراماً لهم.
وقال الكاشفي (ملك ازان آب خوردي درين وقت بجهت عزت ونفاست طعام آنرا يمانه ساخته بود) في رحل أخيه بنيامين ولما انفصلوا عن مصر نحو الشام أرسل يوسف من استوقفهم فوقفوا ثم أذّن مؤذن أي نادى مناد من فتيان يوسفو اسمه أفراييم أيتها العبر (اي كاروانيان) وهي الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء والمراد أصحاب الإبل إنكم لسارقون قال بعضهم هذا الخطاب بأمر يوسف
298
فلعله أراد بالسرقة أخذم له من أبيه ودخول بنيامين فيه يطريق التلغيب وهو من قبيل المبالغة في التشبيه أي ذتم يوسف من أبيه على وجه الخيانة كالسراق وقد صدر التعريض والتورية من الأبناء عليهم السلام روى إن رسول الله لما نزل قريباً من بدر ركب هو وأبو بكر حتى وقفا على شيخ من العرب يقال له سفيان فسأله عليه السلام عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال لا أخبركما حتى تخبراني من انتما فقال له عليه السلام إذا برتنا أخبرناك فاخبر الشيخ حسبما بلغه خبرهم فلما فرغ قال من أنتما فقال عليه السلام : نحن من ماء دافق وأوهم إنه من ماء العراق ففيه تورية وأضيف الماء إلى العراق لكثرته به وروى إن رسول الله لما خرج من الغار وتوجه إلى المدينة كان أبو بكر رضي الله عنه رديفاً له وإذا سأله أي أبا بكر سائل من هذا الذي معك يقول هذا الرجل يهديني الطريق يعني طريق الخير كذا في إنسان العيون.
قال في حواشي سعدي المفتي لكذب إذا تضمن مصلحة يرخص فيه (دروغ مصلحت آميز به ازراست فتنه انكيز) وقال بعضهم هذا الخطاب من قبل المؤذن بناء على عزمه وذلك أن يوسف وضع السقاية بنفسه في رحل أخيه وأخفى الأمر عن الكل أو أمر بذلك بعض خواصه.
قال في القصص إنه ابنه وأمره بإخفاء ذلك عن الكل ثم إن أصحاب يوسف لما طلبوا السقاية وما ودوها وما كان هناك أحد غير الذين ارتحلوا غلب على ظنهم إنهم هم الذين أخذوها فنادى المنادي من بينهم على حسب ظنه إنكم لسارقون قالوا أي الأخوة واقبلوا عليهم جملة السقاية ماذا تفقدون أي تعدمون تقول فقدت الشيء إذا عدمته بأن ضل عنك لا بفعلك والمآل ما الذي ضاع منكم قالوا في جوابهم نفقد صواع الملك وصيغة المضارع في كلا المحلين لاستحضار الصورة ثم قالوا تربية لما تلقوه من قبلهم وإراءة لاعتقاد إنه إنا بقى في رحلهم اتفاقاً ولمن جاء به من عند نفسه مظهراً له قبل التفتيش.
جزء : 4 رقم الصفحة : 296
وفي البحر ولمن دل على سارقه وفضحه حمل بعير من البر جعلا له وأنا به زعيم كفيل أؤديه إلى من جاء به ورده لأن الملك يتهمني في ذلك وهو قول المؤذن.
(4/194)
وفي التأويلات النجمية فيه إشارة إلى أن من يكون مستأهلاً لحمل البعير الذي هو علف الدواب متى يكون مستحقاً لمشربة هي من مشارب الملوك قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم والجمهور على أن التاء بدل من الواو مختصة باسم الله تعالى.
والمعنى ما أعجب حالكم أنتم تعلمون علماً جلياً من ديانتنا وفرط أمانتنا اننا بريئون مما تنسبون إلينا فكيف تقولون لنا إنكم لسارقون.
وقوله لنفسد أي لنسرق فإنه من أعظم أنواع الفساد وما كنا سارقين أي ما كنا نوصف بالسرقة قط وإنما حكموا بعلمهم ذلك لأن العلم بأحوالهم الشاهدة يستلزم العلم بأحوالهم الغائبة قالوا أي أصحاب يوسف فما جزاؤه على حذف المضاف أي فما جزاء سرقة الصواع عندكم وفي شريعتكم إن كنتم كاذبين في جحودكم ونفى كون الصواع فيكم قالوا جزاؤه من وجد أي ذ من وجد الصواع في رحله واسترقاقه
299
وكان حكم السارق في شرع يعقوب أن يسترق سنة بدل القطع في شريعتنا فهو جزاؤه تقرير لذلك الحكم أي فأخذه جزاؤه كذلك أي مثل ذلك الجزاء الأدنى نجزي الظالمين بالسرقة تأكيد للحكم المذكور غب تأكيد وبيان بقبح السرقة ولقد فعلوا ذلك ثقة بكمال براءتهم نمها وهم عما فعل بهم غافلون فبدأ يوسف بعد ما رجعوا إليه التفتيش بأوعيتهم بأوعية الأخوة العشرة أي بتفتيشها قبل تفتيش وعاء أخيه بنيامين لنفي التهمة روى أن أصحاب يوسف قالوا انيخوا نفتش رحالكم فأناخوا وواثقين ببراءتهم ففتشوا رحل الأخ الأكبر ثم الذي يليه ثم وثم إلى أن بلغت النوبة إلى رحل بنيامين فقال يوسف ما أظن أخذ هذا شيئاً فقالوا والله لا نتركه حتى ننظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه وذلك قوله ثم استخرجها أي الصواع لأنه يذكر ويؤنث من وعاء أخيه فلما وجد الصاع مدسوساً في رحل بنيامين واستخرج منه نكسوا رؤوسهم وانقطت ألسنتهم فأخذوا بنيامين مع ما معه من الصواع وردوه إلى يوسف وأخذوا يشتمونه بالعبرانية وقالوا له يا لص ما حملك على سرقة صاع الملك ولا يزال ينالنا منك بلاء كما لقينا من ابن راحيل فقال بنيامين بل ما لقى ابنا راحيل البلاء إلا منكم فأما يوسف فقد عملتم به ما فعلتم وأما أنا فسرّقتموني أي نسبتموني إلى السرقة قالوا فمن جعل الإناء في متاعك أليس قد خرج من رحلك قال إن كنتم سرقتم بضاعتكم الأولى وجعلتموها في رحالكم فكذلك ا سرقت الصاع وجعلته في رحلي فقال روبيل والله لقد صدق وارد بنيامين أن يخبرهم بخبر يوسف فذكر وصيته له فسكت كذلك نصب على المصدرية والكاف مقحمة للدلالة على فخامة المشار إليه وكذا ما في ذلك من معنى البعد أي مثل ذلك الكيد العجيب وهو عبارة عن إرشاد الأخوة إلى الافتاء المذكور بإجرائه على ألسنتهم وبحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا فمعنى قوله تعالى كدنا ليوسف صنعنا له ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس الصواع وما يتلوه فاللام ليست كما في قوله : فيكيدوا لك كيداً فإنها داخلة على المتضرر على ما هو الاستعمال الشائع.
والكيد في الأصل عبارة عن المكر والخديعة وهو أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه ما كان يوسف ليأخذ أخاه في دين الملك استئناف وتعليل لذلك الكيد وصنعه كأنه قيل لماذا فعل يوسف ذلك فقيل لأنه لم يكن ليأخذ أخاه بما فعل في دين ملك مصر في أمر السارق أي في حكمه وقضائه إلا به لأن جزاء السارق في دينه إنما كان ضربه وتغريمه ضعف ما أخذ دون الاسترقاق والاستعباد كما هو شريعة يعقوب فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بالسرقة التي نسبها إليه في حال من الأحوال إلا أن يشاء الله أي إلا حال مشيئته التي هي عبارة عن إرادته لذلك الكيد وإلا حال مشيئته للأخذ بذلك الوجه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 296
قال الكواشي لولا شريعة أبيه لما تمكن من أخذ أخيه انتهى.
قال في بحر العلوم وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية كقوله لأيوب وخذ بيدك ضغثاً ليتخلص من جلدها ولا يحنث وكقول إبراهيم هي أختي لتسلم من يد الكافر وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد وقد علم الله في هذه الحيلة التي لقنها يوسف مصالح عظيمة
300
فجعلها سلماً وذريعة إليها فكانت حسنة جميلة وانزاحت عنها وجوه القبح نرفع درجات أي رتبا كثيرة عالية من العلم وانتصابها على المصدرية أو الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات والمفعول قوله تعالى من نشاء أي نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة كما رفعنا يوسف وفوق كل ذي علم من الخلق عليم ارفع درجة منه في العلم يعني ليس من عالم إلا وفوقه اعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى
دست شد بالاي دست اين تاكجا
تا بيزدان كه إليه المنتهى
كان يكى درياست بي غور وكران
جمله درياها وسيلي يش آن
(4/195)
وعن محمد بن كعب إن رجلاً سأل علياً رضي الله عنه عن مسألة فقال فيها قولاً فقال الرجل ليس هو كذا ولكنه كذا وكذا فقال علي أصبت وأخطأت وفوق كل ذي علم عليم.
وفي التأويلات النجمية نرفع درجات من نشاء من عبادنا بأن نؤتيه علم الصعود من حضيض البشرية إلى ذروة العبودية بتوفيق الربوبية وفوق كل ذي علم آتيناه علم الصعود عليم يجذبه من المصعد الذي يصعد إليه بالعلم المخلوق إلى مصعد لا يصعد إليه إلا بالعلم القديم وهو السير في الله بالله إلى الله وهذا صواع لا يسعه أوعية الإنسانية انتهى كلام التأويلات قالوا أن الصواع لما خرج من رحل بنيامين افتضح الأخوة ونكسوا رؤوسهم حياء فقالوا تبرئة لساحتهم أن يسرق بنيامين فلا عجب فقد سرق أخ له من قبل يريدون به يوسف.
واختلف فيما أضافوا إلى يوسف من السرقة فقيل كان أخذ في صباه صنماً كان لجده أبي أمه لأنه كان يعبد الأصنام بحران وهي بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء قرية في جانب دمشق فقالت رحيل لابنها يوسف خذ الصنم واكسره لعله يترك عبادة الصنم فأخذه يوسف وكسره وألقاه بين الجيف في الطريق وهو الأصح لما ذكر في الفردوس إن النبي قال : سرق يوسف صنماً لجده أبي أمه من فضة وذهب فكسره والقاه على الطريق وعيره أخوته بذلك.
وفيه إشارة إلى أن الإنسان الكامل قابل لتهمة السرقة في بدء الأمر وهي الاستراق من الشهوات الدنيوية النفسانية ويخلص في النهاية للأمور الأخروية الروحانية فبين أول الأمر وآخره فرق كثير.
جزء : 4 رقم الصفحة : 296
وقيل كانت لإبراهيم منطقة يتوارثها أكابر ولده فورثها إسحاق ثم وقعت إلى ابنته وكانت أكبر أولاده فحضنت يوسف وهي عمته بعد وفاة أمه راحيل وكانت تحبه حباً شديداً بحيث لا تصبر عنه فلما شب أراد يعقوب أن ينزعه منها فاحتالت بأن شدت المنطقة على وسط يوسف تحت ثيابه وهو نائم وقالت فقدت منطقة إسحاق فانظروا من أخذها ففتشوا فوجدوها مشدودة علي يوسف تحت ثيابه فقالت إنه سرقها مني فكان سلماً لي وكان حكمهم إن من سرق يسترق فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها فتركه يعقوب عندها إلى أن ماتت فأسرّها يوسف أي أكن الحزازة الحاصلة مما قالوا والحزازة وجع في القلب من غيظ ونحوه كما في القاموس.
وقال في الكواشي فأسرها أي كلمتهم إنه سرق في نفسه لا إنه أسرها في بعض أصحابه كما في قوله : وأسررت لهم أسراراً ولم يبدها لهم أي : لم يظهرها لهم لا قولاً ولا فعلاً صفحاً عنهم وحلماً كأنه قيل فماذا قال في نفسه عند تضاعيف ذلك الإسرار ،
301
فقيل : قال أنتم شر مكاناً أي : منزلة حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفقتم تفترون على البريىء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : عوقب يوسف بثلاث حين همّ بزليخا فسجن ، وحين قال اذكرني عند ربك فلبث في السجن بضع سنين ، وحين قال إنكم لسارقون فردوا عليه وقالوا فقد سرق أخ له من قبل والله أعلم بما تصفون أي : عالم علماً بالغاً إلى أقصى المراتب بأن الأمر ليس كما تصفون من صدور السرقة منا ، بل إنما هو افتراء علينا ، فالصيغة لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمه على علمهم كيف لا وليس لهم بذلك من علم.
وفي البحر أعلم بما تصفون منكم لأنه عالم بحقائق الأمور وكيف كانت سرقة أخيه الذي أحلتم سرقته عليه انتهى.
فأعلم على ما قرره على معناه التفضيلي ، فإن قيل : لم يكن فيهم علم والتفضيل يقتضي الشركة قلنا : يكفي الشركة بحسب زعمهم فإنهم كانوا يدعون العلم لأنفسهم ألا يرى إلى قولهم فقد سرق أخ له من قبل على سبيل الجزم كما في الحواشي السعدية روى أنهم أكلوا العزيز في إطلاق بنيامين فقال روبيل أيها الملك لتردّن إلينا أخانا أو لأصيحنّ صيحة تضع منها الحوامل في مصر وقامت شعور جسده فخرجت من ثيابه ، وكان بنوا يعقوب إذا غضبوا لا يطاقون خلا أنه إذا مس من غضب واحد منهم سكن غضبه ، فقال يوسف لابنه قم إلى جنبه فمسه ويروى خذ بيده فمسه فسكن غضبه فقال روبيل إن هنا لبذراً من بذر يعقوب ، فقال يوسف من يعقوب؟ وروى إنه غضب ثانياً ، فقام إليه يوسف فركضه برجله وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض ، فقال : أنتم معشر العبرانيين تظنون أن لا أحد أشد منكم :
جزء : 4 رقم الصفحة : 296
خدايى كه بالا وبست آفريد
ز بردست هردست دست آفريد
قال السعدي :
كره شاطر بودخروس بجنك
ه زند يش باز رويين نك
كربه شيرست در كر فتن موش
ليك موشست در مصاف لنك
ولما رأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا ، حيث.
قالوا مستعطفين يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً في السن لا يكاد يستطيع فراقه (وبعد ازهلاك سر خود يوسف بدو انس والفت دارد) فخذ أحدنا مكانه بدله على وجه الاسترهان أو الاسترقاق ، فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة إنا نريك من المحسنين إلينا في الكيل والضيافة ، فأتمم إحسانك بهذه النعمة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 296
(4/196)
{قَالَ يُوسُفُ} معاذ الله من إضافة المصدر إلى المفعول به ، أي نعوذ بالله معاذاً من أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده غير من وجد الصواع في رحله ، لأن أخذنا له إنما هو بقضية فتواكم فليس لنا الإخلال بموجبها إنا إذا أي : إذا أخذنا غير من وجد متاعنا عنده ، ولو برضاه لظالمون في مذهبكم وما لنا ذلك.
قال في بحر العلوم وإذا جواب لهم وجزاء ، لأن المعنى إن أخذنا بدله ظلمنا ، هذا ظاهره ، وأما باطنه فهو أن الله أمرني بالوحي أن آخذ بنيامين لمصالح علمها الله في ذلك ، فلو أخذت غيره لكنت ظالماً وعاملاً بخلاف الوحي.
وفيه إشارة إلى أن العمل بخلاف الإلهام أيضاً ظلم ، لأن كل وارد يرد من الله تعالى لا بد أن يعمل به النبي والولي ويضعه في المحل الذي عينه الله ، فالأنبياء والأولياء منتظرون لأمر الله
302
في كل حادثة ، فما لم يأمروا به ولم يخبروا لا يصدقونه ولا يتبعونه.
وكان لسري تلميذة ولها ولد عند المعلم فبعث به المعلم إلى الرحى ، فنزل الصبي في الماء فغرق فاعلم المعلم سرياً بذلك ، فقال السري : قوموا بنا إلى أمه فمضوا إليها ، وتكلم السري عليها في علم الصبر ، ثم تكلم في علم الرضى فقالت يا أستاذ وأي شيء تريد بهذا؟ فقال لها : إن ابنك قد غرق فقالت ابني؟ فقال : نعم فقالت إن الله تعالى ما فعل هذا ، ثم عاد السري في كلامه في الصبر والرضى فقالت : قوموا بنا فقاموا معها حتى انتهوا إلى النهر فقالت : اين غرق؟ قالوا ههنا فصاحت ابني محمد فأجابها لبيك يا أماه ، فنزلت وأخذت بيده فمضت به إلى منزلها فالتفت السرى إلى الجنيد وقال أي شيء؟ هذا فقال أقول قال قل قال إن المرأة مراعية لماعليها ، وحكم من كان مراعياً لماعليه أن لا تحدث حادثة حتى يعلم بها فلما لم تكن تعلم هذه الحادثة أنكرت ، فقالت : إن ربي ما فعل هذا.
ثم إن الظلم على أنواع فالحكم بغير ما حكم الله به ظلم ، وطلب الظلم ظلم ، والصحبة بغير المجانس ظلم ، ومن ابتلى بالظلم وسائر الأوزار فعليه التدارك بالتوبة والاستغفار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 302
قال سهل : إذا أحب الله عبداً جعل ذنبه عظيماً في نفسه ، وفتح له باباً من التوبة إلى رياض أنسه ، وإذا غضب على عبد جعل ذنبه صغيراً في عينيه ، فكلما أدبه لا يتعظ نسأل الله التوبة فلما استيأسوا منه يئسوا غاية اليأس بدلالة صيغة الاستفعال.
قال الكاشفي : (س آن وقت كه نوميد شدند از يوسف ودانستند كه برادررا بديشان نمى دهد) خلصوا اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم غيرهم نجياً متناجين في تدبير أمرهم على أي صفة يذهبون ، وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم.
قال في الكواشي جماعة يتناجون سراً ، لأن النجي من تساره ، وهو مصدر يعم الواحد والجمع والذكر والأنثى قال كبيرهم في السن وهو روبيل أو في العقل وهو يهوداً أو رئيسهم وهو شمعون ، وكانت له الرياسة على أخوته كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملة ولم يرض ، فقال : منكراً عليهم ألم تعلموا أي قد علمتم يقيناً أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله عهداً وثيقاً ، وهو حلفهم بالله وكونه من الله لأذنه فيه.
وقال الكاشفي : (وشما سوكند خوريد بمحمد آخر زمان كه درشان وى غدر نكنيد اكنون اين صورت واقع شد).
ومن قبل أي من قبل هذا وهو متعلق بالفعل الآتي.
ما مزيدة فرطتم في يوسف أي : قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم وقد قلتم وإنا لناصحون وإنا له لحافظون ، فنحن متهمون بواقعة يوسف فليس لنا مخلص من هذه الورطة فلن أبرح الأرض ضمن معنى المفارقة فعدى إلى المفعول ، أي لن أفارق أرض مصر ذاهباً منها فلن أبرح تامة لا ناقصة ، لأن الأرض لا تحمل على المتكلم.
حتى يأذن لي أبي في العود إليه وكأن أيمانهم كانت معقودة على عدم الرجوع بغير إذن يعقوب.
أو يحكم الله لي بالخروج منها على وجه لا يؤدي إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب.
وهو خير الحاكمين إذ لا يحكم إلا بالحق والعدل.
قال الكاشفي : (وميل ومداهنه در حكم او نيست).
جزء : 4 رقم الصفحة : 302
قال سهل : إذا أحب الله عبداً جعل ذنبه عظيماً في نفسه ، وفتح له باباً من التوبة إلى رياض أنسه ، وإذا غضب على عبد جعل ذنبه صغيراً في عينيه ، فكلما أدبه لا يتعظ نسأل الله التوبة فلما استيأسوا منه يئسوا غاية اليأس بدلالة صيغة الاستفعال.
قال الكاشفي : (س آن وقت كه نوميد شدند از يوسف ودانستند كه برادررا بديشان نمى دهد) خلصوا اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم غيرهم نجياً متناجين في تدبير أمرهم على أي صفة يذهبون ، وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم.
(4/197)
قال في الكواشي جماعة يتناجون سراً ، لأن النجي من تساره ، وهو مصدر يعم الواحد والجمع والذكر والأنثى قال كبيرهم في السن وهو روبيل أو في العقل وهو يهوداً أو رئيسهم وهو شمعون ، وكانت له الرياسة على أخوته كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملة ولم يرض ، فقال : منكراً عليهم ألم تعلموا أي قد علمتم يقيناً أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله عهداً وثيقاً ، وهو حلفهم بالله وكونه من الله لأذنه فيه.
وقال الكاشفي : (وشما سوكند خوريد بمحمد آخر زمان كه درشان وى غدر نكنيد اكنون اين صورت واقع شد).
ومن قبل أي من قبل هذا وهو متعلق بالفعل الآتي.
ما مزيدة فرطتم في يوسف أي : قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم وقد قلتم وإنا لناصحون وإنا له لحافظون ، فنحن متهمون بواقعة يوسف فليس لنا مخلص من هذه الورطة فلن أبرح الأرض ضمن معنى المفارقة فعدى إلى المفعول ، أي لن أفارق أرض مصر ذاهباً منها فلن أبرح تامة لا ناقصة ، لأن الأرض لا تحمل على المتكلم.
حتى يأذن لي أبي في العود إليه وكأن أيمانهم كانت معقودة على عدم الرجوع بغير إذن يعقوب.
أو يحكم الله لي بالخروج منها على وجه لا يؤدي إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب.
وهو خير الحاكمين إذ لا يحكم إلا بالحق والعدل.
قال الكاشفي : (وميل ومداهنه در حكم او نيست).
جزء : 4 رقم الصفحة : 302
{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا اأَبَانَآ إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلا بِمَا عَلِمْنَا} وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمنا وشاهدنا أن الصواع استخرج من وعائه وما كنا للغيب أي باطن
303
الحال حافظين فما ندري أحقيقة الأمر كما شاهدنا أم هي بخلافه؟ يعني : (بظاهر دزدي أو ديدم أما ازنفس الأمر خبر نداريم كه بروتهمت كردند وصاع را درباراو نهادند يا خود مباشر اين أمر بوده).
ثم إنهم لما كانوا متهمين بسبب واقعة يوسف أمرهم كبيرهم بأن يبالغوا في إزالة التهمة عن أنفسهم ويقولوا :
واسأل القرية التي كنا فيها أي : وقولوا لأبيكم أرسل إلى أهل مصر واسألهم عن كنه القصة لتبين لك صدقنا والعير التي أقبلنا فيها العير الإبل التي عليها الأحمال ، أي أصحاب العير التي توجهنا فيهم وكنا معهم ، وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوب.
وإنا لصادقون ثم رجع كبيرهم فدخل على يوسف ، فقال له : لِمَ رجعت؟ قال إنك اتخذت أخي رهينة فخذني معه فجعله عند أخيه وأحسن إليهما ، كأنه قيل فماذا كان عند قول المتوقف لأخوته ما قال فقيل :
قال يعقوب عندما رجعوا إليه فقالوا له ما قال لهم أخوهم.
بل اضراب عما يتضمن كلامهم من ادعاء البراءة من التسبب فيما نزل به وأنه لم يصدر منهم ما يؤدي إلى ذلك من قول أو فعل ، كأنه قيل لم يكن الأمر كذلك بل سولت لكم زينت وسهلت أنفسكم أمراً من الأمور اردتموه ففعلتموه وهو فتواكم أن جزاء السارق أن يؤخذ ويسترق ، وإلا فما أدرى الملك أن السارق يؤخذ بسرقته لأن ذلك إنما هو من دين يعقوب لا من دين الملك ولولا فتواكم وتعليمكم لما حكم الملك بذلك ، ظن يعقوب عليه السلام سوأ بهم كما كان في قصة يوسف قبل فاتفق أن صدق ظنه هناك ولم يتحقق هنا.
قال السعدي : (دروغ كفتن بضربت لازب ما ندكه اكر نيز جراحت درست شود نشان بماند ون برادران يوسف بدروغي موسوم شدند بر راست كفتن ايشان نيز اعتماد نماند) قال الله تعالى : بل سولت لكم الآية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 303
كسى را كه عادت بود راستي
خطا كر كند در كذا رند ازو
وكر نامور شد بناراستي
دكر راست باور ندارند ازو
فصبر جميل أي : فأمري صبر جميل وهو أن لا يكون فيه شكوى إلى الخلق.
وعن أبي الحسن قال : خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام فبينا أنا أطوف وإذا بامرأة قد أضاء حسن وجهها ، فقلت : والله ما رأيت إلى اليوم قط نضارة وحسناً مثل هذه المرأة ، وما ذاك إلا لقلة الهم والحزن فسمعت ذلك القول مني فقالت كيف قلت يا هذا الرجل؟ والله إني لوثيقة بالأحزان مكلومة الفؤاد بالهموم والأشجان ما يشركني فيها أحد ، فقلت وكيف ذلك قال ذبح زوجي شاة ضحينا بها ولي ولدان صغيران يلعبان وعلى يدي طفل يرصع فقمت لا صنع لهم طعاماً إذ قال ابني الكبير للصغير ، ألا أريك كيف صنع أبي بالشاة؟ قال بلى فاضجعه وذبحه وخرج هارباً نحو الجبل فأكله ذئب ، فانطلق أبوه في طلبه فأدركه العطش فمات ، فوضعت الطفل وخرجت إلى الباب انظر ما فعل أبوهم فدب الطفل إلى البرمة وهي على النار فالقى يده فيها وصبها على نفسه وهي تغلي فانتشر لحمه عن عظمه فبلغ ذلك ابنة لي كانت عند زوجها فرمت بنفسها إلى الأرض فوافقت أجلها فأفردني الدهر من بينهم ، فقلت لها فكيف صبرك على هذه المصائب العظيمة فقالت : ما من أحد ميز الصبر والجزع إلا وجد بينهما منهاجاً متفاوتاً فأما
304
الصبر بحسن العلانية فمحمود العاقبة وأما الجزع فصاحبه غير معوض ثم أعرضت وهي تنشدني :
صبرت وكان الصبر خير معول
وهل جزع يجدي عليّ فاجزع
(4/198)
صبرت على ما لو تحمل بعضه
جبال غرور أصبحت تتصدع
ملكت دموع العين حتى رددتها
إلى ناظري فالعين في القلب تدمع
عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً (شايدكه خداي تعالى آورد همه ايشانرا بمن).
أي : بيوسف وأخيه والمتوقف بمصر ، فإنهم حين ذهبوا إلى البادية أول مرة كانوا اثني عشر فضاع يوسف وبقى أحد عشر ، ولما أرسلهم إلى مصر في الكرة الثانية عادوا تسعة لأن بنيامين حبسه يوسف واحتبس ذلك الكبير الذي قال فلن أبرح الأرض فلما بلغ الغائبون ثلاثة لاجرم أورد صيغة الجمع إنه هو العليم بحالي في الحزن والأسف الحكيم الذي لم يبتلني إلا لحكمة بالغة.
واعلم أن البلاء على ثلاثة أضرب ، منها تعجيل عقوبة للعبد ، ومنها امتحان ليبرز ما في ضميره فيظهر لخلقه درجته اين هو من ربه ، ومنها كرامة ليزداد عنده قربة وكرامة ، وأما تعجيل العقوبة فمثل ما نزل بيوسف عليه السلام من لبثه في السجن بالهم الذي هم به ومن لبثه بعد مضي المدة في السجن.
بقوله : اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ومثل ما نزل بيعقوب كما قال وهب : أوحى الله إلى يعقوب أتدري لما عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟ قال : لا إلهي ، قال لأنك شويت عناقاً وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه وروى أن سبب ابتلاء يعقوب إنه ذبح عجلاً بين يدي أمه وهو يخور.
جزء : 4 رقم الصفحة : 303
وقيل : اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت وروى أنه أوحى إليه إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه منها شيئاً.
وأما الامتحان فمثل ما نزل بأيوب عليه السلام قال تعالى : إنا وجدناه صابرا نعم العبد أنه أواب}(ص : 44).
وأما الكرامة فمثل ما نزل بيحيى بن زكريا عليهما السلام ولم يعمل خطيئة قط ولم يهم بها فذبح ذبحاً وأهدى رأسه إلى يغي من بغايا بني إسرائيل وفي الكل عظم الأجر والثواب بالصبر وعدم الاضطراب.
وقام بعضهم ليقضي ورده من الليل فأصابه البرد فبكى من شدته فجازت عليه سنة فقال له قائل ما جزاء إن أنمناهم وأقمناك إلا أن تبكي علينا فانتبه واستغفر.
قال أبو القاسم القشيري : سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق ، يقول في آخر عمره ، وقد اشتدت به العلة : من أمارات التأييد حفظ التوحيد في أوقات الحكم ، ثم قال : كالمفسر لفعله مفسراً لما كان فيه من حاله : وهو أن يقرضك بمقاريض القدرة في إمضاء الأحكام قطعة قطعة وأنت ساكن خامد قال الحافظ :
عاشقا نرا كردر آتش مى سندد لطف يار
تنك شمم كر نظر در شمه كوثر كنم
جزء : 4 رقم الصفحة : 303
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أعرض يعقوب عنهم كراهة لما سمع منهم.
قال الكاشفي : (س يعقوب ازغايت ملال توجه به بيت الأحزان فرمود) قال الجامي :
رواى همدم تودر بزم طرب بادوستان خوش زي
مرا بكذار تاتنها درين بيت الحزن ميرم
305
وقال يا أسفي على يوسف الأسف : أشد الحزن والحسرة ، وأصله يا أسفي بإضافة الأسف إلى ياء المتكلم فقلبت الياء ألفاً طلباً للتخفيف لأن الفتحة والألف أخف من الكسرة والياء نادى أسفه وقال يا أسفا تعال واحضر فهذا أوانك.
قال الجامي :
كرو يوسف زما شوى غائب
همو يعقوب ما ويا أسفا
وقال الحافظ :
يوسف عز يزم رفعت أي برادران رحمي
كز غمش عجب ديدام حال ير كنعاني
وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخويه بنيامين والمحتبس والحادث أشد على النفس ، دلالة به على تمادي أسفه على يوسف وإن زرأه أي مصيبته مع تقادم عهده كان غضاً عنده طرياً ، ولأن زرأ يوسف كان قاعدة المصيبات ولأنه كان واثقاً بحياتهما عالماً بمكانهما طامعاً في إيابهما ، وأما يوسف فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلة رجائه سوى رحمة الله وفضله وفي الحديث : لم تعط أمة من الأمم إنا الله وإنا إليه راجعون عند المصيبة إلا أمة محمد ألا يرى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع بل قال يا أسفا على يوسف.
وعن أبي ميسرة قال لو إن الله أدخلني الجنة لعاتبت يوسف بما فعل بأبيه حيث لم يكتب كتاباً ولم يعلم حاله ليسكن ما به من الغم انتهى.
يقول الفقير : هذا كلام ظاهري وذهول عما سيأتي من الخبر الصحيح أن هذا كان بأمر جبرائيل عن أمر الله تعالى ، وإلا فكيف يتصور من الأنبياء قطع الرحم ، وقد كان بين مصر وكنعان ثماني مراحل.
وابيضت عيناه من الحزن الموجب للبكاء فإن العبرة إذا كثرت محقت سواد العين وقلبته إلى بياض وقد تعميها كما أخبر عن شعيب عليه السلام ، فإنه بكى من حب الله تعالى حتى عمي فرد الله عليه بصره ، وكذا بكى يعقوب حتى عمءَ وهو الأصح لقوله تعالى : فارتد بصيراً.
قال الكمال الجندي :
جزء : 4 رقم الصفحة : 305
زكريه برسر مردم يقين كه خانه شم
فرو رود شب هجران زبس كه بارانست
روى أنه ما جفت عيناً يعقوب من يوم فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين سنة ، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.
فإن قلت : لم ذهب بصر يعقوب بفراقه واشتياقه إلى يوسف.
(4/199)
قلت : لئلا يزيد حزنه النظر إلى أولاده ولسر شهود الجمال ، لما ورد في الخبر النبوي يرويه عن جبريل عن ربه قال : يا جبريل ما جزاء من سلبت كريمتيه يعني : عينيه قال : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ، قال تعالى : جزؤاه الخلود في داري ؛ والنظر إلى وجهي وفي الخبر أول من ينظر إلى وجه الرب تعالى الأعمى قال بعض الكبار : أورث ذلك العمى بذهاب بصره النظر إلى الجمال اليوسفي الذي هو مظهر من مظاهر الجمال المطلق ؛ لأن الحق تعالى تجلى بنور الجمال في المجلى اليوسفي فأحبه أبوه وابتلى بحبه أهل مصر من وراء الحجاب.
وفيه إشارة : إلى أنه ما لم يفن العارف العين الكوني الشهادي لا يصل إلى شهود الجمال المطلق :
هر محنتى مقدمه راحتي بود
شد همزبان حق و زبان كليم سوخت
فالعارف يشاهد الجمال المطلق بعين السر في مصر الوجود الإنساني ، وينقاد له القوى والحواس جميعاً.
واستدل بالآية على جواز التأسف والبكاء عند النوائب ، فإن الكف عن ذلك مما لا يدخل
306
تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد.
قال أنس رضي الله عنه دخلنا مع رسول الله على أبي سيف القين ، وكان ظئراً لإبراهيم ولده عليه السلام فأخذ رسول الله إبراهيم فقبله وشمه ، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله قال : يا ابن عوف إنها رحمة ثم اتبعها أخرى أي دمعة أخرى فقال : إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
قال في الروضة : وإبراهيم ابن النبي عليه السلام مات في المدينة وهو ابن ثمانية عشر شهراً انتهى.
وإنما الذي لا يجوز ما يفعله الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الحدود والصدور وشق الجيوب وتمزيق الثياب.
وعنه عليه السلام أنه بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه فقيل يا رسول الله تبكي وقد نهيتنا عن البكاء فقال : ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين صوت عند الفرح وصوت عند الترح قال في المغرب الحمق : نقصان العقل وإنما قيل لصوتي النياحة والترنم في اللعب أحمقان لحمق صاحبهما.
جزء : 4 رقم الصفحة : 305
والبكاء على ثلاثة أوجه ، من الله وعلى الله وإلى الله ، فالبكاء منه من توبيخه وتهديده ، والبكاء إليه من شوقه ومحبته ، والبكاء عليه من خوف الفراق ، وفرق الله بين يوسف وأبيه لميله إليه ومحبته عليه والمحبوب يورث المحنة.
والعميان من الأنبياء إسحاق ويعقوب وشعيب.
ومن الأشراف عبد المطلب بن هاشم ، وأمية بن عبد شمس ، وزهرة بن كلاب ، ومطعم بن عدي.
ومن الصحابة سواء كان أعمى في عهده أو حدث له بعد وفاته عليه السلام البراء بن عازب ، وجابر بن عبد الله ، وحسان بن ثابت ، والحكم بن أبي العاص ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن يربوع ، وصخر بن حرب أبو سفيان ، والعباس بن عبد المطلب ، وعبد الله بن الأرقم ، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمير ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وعتبان بن مالك ، وعتبة بن مسعود الهذلي ، وعثمان بن عامر أبو قحافة ، وعقيل بن أبي طالب ، وعمرو بن أم مكتوم المؤذن ، وقتادة بن النعمان.
فهو كظيم مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه.
در ديست درين سينه كه كفتن نتوانيم
قالوا تالله تفتؤا أي لا تفتأ ولا تزال وحذفت لا لعدم الالتباس ؛ لأنه لو كان إثباتاً للزمه اللام والنون أو إحداهما تذكر يوسف تفجعاً عليه حتى تكون حرضاً مريضاً مشرفاً على الهلاك أو تكون من الهالكين أي الميتين.
وفيه إشارة إلى أنه لا بد للمحب من ملامة الخلق فأول ملامتي في العالم آدم عليه السلام حين طعن فيه الملائكة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها}(البقرة : 30) ولو امعنت النظر رأيت أول ملامتي على الحقيقة حضرة الربوبية لقولهم {أَتَجْعَلُ فِيهَا} وذلك لأنه تعالى كان أول محب ادعى المحبة ، وهو قوله : يحبهم فطالما يلوم أهل السلوّ المحبين ومن علامة المحب أن لا يخاف في الله لومة لائم :
ملامت كن مرا ندانكه خواهى
كه نتوان شستن اززنكى سياهى
قال إنما أشكو بثي البث أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس ، أي ينشره فكأنهم قالوا له ما قالوا بطريق التسلية والأشكاء ، فقال لهم إني لا أشكو ما بي إليكم
307
أو إلى غيركم حتى تتصدوا للتسلي ، وإنما أشكو همي وحزني إلى الله ملتجئاً إلى جنابه تضرعاً لدى بابه في دفعه
رازكويم بخلق وخوار شوم
باتو كويم بزر كوار شوم
والحزن أعم من البث ، فإذا عطف على الخاص يراد به الأفراد الباقية ، فيكون المعنى لا اذكر الحزن العظيم والحزن القليل إلا مع الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 305
فإن قيل : لم قال يعقوب فصبر جميل ثم قال يا اسفا على يوسف وقال إنما اشكو بثي وحزني إلى الله فكيف يكون الصبر مع الشكوى؟
(4/200)
قيل : ليس هذا إلا شكاية من النفس إلى خالقها وهو جائز ، ألا ترى أن أيوب عليه السلام قال : رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين}(الأنبياء : 83) وقال تعالى مع شكواه إلى ربه في حقه {إِنَّا وَجَدْنَـاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ} لأنه شكا منه إليه وبكى منه عليه فهو المعذور لديه ، لأن حقيقة الصبر ومعناه الحقيقي حبس النفس ومنعها عن الشكوى إلى الغير وترك الركون إلى الغير وتحمل الأذى والابتلاء لصدوره من قضائه وقدره ، كما قيل بلسان الحقيقة :
كل شيء من المليح مليح
لكن الصبر عنه غير مليح
وقيل :
والصبر عنك فمذموم عواقبه
والصبر في سائر الأشياء محمود
وذلك لأن المحب لا يصبر عن حضرة المحبوب ، فلا يزال يعرض حاله وافتقاره إلى حضرته ، ولسان العشق لسان التضرع والحكاية لا لسان الجزع والشكاية كما أشار العاشق :
بشنوازنى ون حكايت ميكند
از جداييها شكايت ميكند
يعني : شكاية العارف الواقف في صورة الشكوى حكاية حاله وتضرعه وافتقاره إلى حبيبه.
وعن أنس رضي الله عنه رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام : أن رجلاً قال ليعقوب : ما الذي اذهب بصرك وحنى ظهرك؟ قال : أما الذي اذهب بصري فالبكاء على يوسف ، وأما الذي حنى ظهري فالحزن على أخيه بنيامين؟ فأتاه جبريل فقال : أتشكو إلى غير الله؟ قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، قال جبريل : الله أعلم بما قلت منك ، قال ثم انطلق جبريل ودخل يعقوب بيته ، فقال أي رب أما ترحم الشيخ الكبير أذهبت بصري وحنيت ظهري فرد على ريحانتي فأشمهما شمة واحدة ثم اصنع بي بعد ما شئت فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول أبشر فإنهما لو كانا ميتين لنشرتهما لك لأقربهما عينك ، ويقول لك يا يعقوب أتدري لِمَ أذهبت بصرك وحنيت ظهرك ولِمَ فعل إخوة يوسف بيوسف ما فعلوه؟ قال : لا ، قال إنه أتاك يتيم مسكين وهو صائم جائع وذبحت أنت وأهلك شاة فطعمتموها ولم تطعموه ، ويقول : إني لم أحب من خلقي شيئاً حبي اليتامى والمساكين فاصنع طعاماً وادع المساكين قال أنس قال عليه السلام : فكان يعقوب كلما أمسى نادى مناديه من كان صائماً فليحضر طعام يعقوب ، وإذا أصبح نادى مناديه من كان مفطراً فليفطر على طعام يعقوب ذكره في الترغيب والترهيب.
قال السعدي قدس سره :
جزء : 4 رقم الصفحة : 305
نخواهى كه باشى برا كنده دل
را اكند كانرا زخاطر مهل
كسى نيك بيند بهر دو سراى
كه نيكي رساند بخلق خداي
وأعلم من الله من لطفه ورحمته ما لا تعلمون فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ولا يخيب
308
رجائي أو أعلم من الله بنوع من الإلهام ما لا تعلمون من حياة يوسف وروى أنه رأى ملك الموت في منامه فسأله عنه فقال هو حي ، وقيل علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى يخروا له سجداً وروى أن يوسف قال لجبريل : أيها الروح الأمين هل لك علم بيعقوب قال نعم وهب الله له الصبر الجميل ، وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم ، قال فما قدر حزنه قال حزن سبعين ثكلى قال فماله من الأجر قال أجر مائة شهيد ، وما ساء ظنه بالله ساعة قط.
وقال السدي : لما أخبره ولده بسيرة الملك أحست نفسه فطمع وقال لعله يوسف فقال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 305
يا بَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} أي تعرفوا من خبرهما بحواسكم فإن التحسس طلب الشيء بالحاسة.
قال في تهذيب المصادر (التحسس مثل التجسس : آكاهى جستن) وفي الإحياء بالجيم في تطلع الأخبار وبالحاء في المراقبة بالعين.
وقال في إنسان العيون ما بالحاء أن يفحص الشخص عن الأخبار بنفسه وما بالجيم أن يفحص عنها بغيره وجاء تحسسوا ولا تجسسوا انتهى.
والمراد بأخيه بنيامين ، ولم يذكر الثالث وهو الذي قال فلن أبرح الأرض واحتبس بمصر لأن غيبته اختيارية لا يعسر إزالتها.
قال ابن الشيخ : فإن قلت كيف خاطبهم بهذا اللطف وقد تولى عنهم؟ فالجواب أن التولي التجاء إلى الله والشكاية إليه والإعراض عن الشكاية إلى أحد منهم ومن غيرهم ، لا ينافي الملاطفة والمكالمة معهم في أمر آخر انتهى.
قالوا لهأما بنيامين فلا نترك الجهد في أمره ، وأما يوسف فإنه ميت وإنا لا نطلب الأموات فإنه أكله الذئب منذ زمان ، فقال لهم يعقوب : ولا تيأسوا من روح الله لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه واليأس والقنوط انقطاع الرجاء.
وعن الأصمعي : إن الروح ما يجد الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه وتركيب الراء والواو والحاء يفيد الحركة والاهتزاز فكل ما يلتذ الإنسان ويهتز بوجوده فهو روح.
قال في الكواشي : أصله استراحة القلب من غمه ؛ والمعنى لا تقنطوا من راحة تأتيكم من الله انتهى.
(4/201)
وقرىء من روح الله بالضم أي من رحمته التي يحيى بها العباد.
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون لعدم علمهم بالله وصفاته فإن العارف لا يقنط في حال من الأحوال ، أي في الضراء والسراء ويلاحظ قوله تعالى : إن مع العسر يسراً}(الشرح : 5) فصنع الله عجيب وفرج الله قريب ، وفي الحديث : "الفاجر الراجي أقرب إلى الله من العابد القانط" ـ ـ وروي ـ ـ أن رجلاً مات فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام مات ولي من أوليائي فاغسله ، فجاء موسى عليه السلام فوجده قد طرحه الناس في المزابل لفسقه ، فقال موسى يا رب أنت تسمع مقالة الناس في حقه ، فقال الله تعالى يا موسى إنه تشفع عند موته بثلاثة أشياء ، لو سأل بها جميع المذنبين لغفرت ، الأول أنه قال : يا رب أنت تعلم أني وإن كنت ارتكبت المعاصي بفعل الشيطان والقرين السوء ولكني كنت أكرهها بقلبي ، والثاني أني وإن كنت مع الفسقة بارتكاب المعاصي ولكن الجلوس مع الصالحين كان أحب إلي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 309
والثالث لو استقلبني صالح وفاجر كنت أقدم حاجة الصالح.
وفي رواية وهب بن منبه قال : يا رب لو عفوت عني لفرح أنبياؤك وأولياؤك وحزن عدوك الشيطان ولو عذبتني لكان الأمر بالعكس ولا ريب أن فرح الأولياء أحب إليك من فرح الأعداء فارحمني وتجاوز عني قال الله تعالى فرحمته فإني غفور رحيم خاصة لمن أقر بالذنب.
فعلى العاقل أن لا يقنط من رحمة ربه فإنه تعالى
309
يكشف الشدائد في الدنيا والآخرة ـ ـ حكى ـ ـ أن رجلاً بقي في جزيرة بلا زاد فقال بطريق اليأس :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي
وصار القار كاللبن الحليب
فسمع قائلاً يقول :
عسى الكرب الذي أمست فيه
يكون وراءه فرج قريب
فلما نظر رأى سفينة فوصل بها إلى أهله.
قال في "التأويلات النجمية" في الآية إشارة إلى أن الواجب على كل مسلم أن يطلب يوسف قلبه وبنيمين سره ، ولا ييأس أن يجد روح الله أي ريحه منهما بل من وجد قلبه وجد فيه ربه إذ هو سبحانه متجل لقلوب أوليائه المؤمنين وقد وعد الله بوجدانه الطالبين فقال : "ألامن طلبني وجدني" والسر فيه إن طلب الحق تعالى يكون بالقلب لا بالقالب ووجدانه أيضاً يكون في القلب كما قال موسى عليه السلام إلهي أين أطلبك؟ قال : "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" أي من محبتي ، وفي قوله : {إِنَّه لا يَا يْـاَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَـافِرُونَ} إشارة إلى أن ترك طلب الله واليأس من وجدانه كفر انتهى.
وفي المثنوى :
كر كران وكر شتابنده بود
آنكه جويندست يا بنده بود
در طلب زن دائماً توهر دودست
كه طلب درراه نيكو رهبرست
لنك ولوك وخفته شكل بي أدب
سوى اومى غيثر واو رامى طلب
كه بكفت وكه بخاموشى وكه
بوي كردن كير هرسو بوي شه
كفت آن يعقوب با اولاد خويش
جستن يوسف كنيد از حد ببيش
هرخسى خودرا درين جستن بجد
هر طرف رانيد شكل مستعد
كفت از روح خدا لا تيأسوا
همو كم كرده سر رو سوبسو
ازره حس دهان رسان شويد
كوش را بر ار راه او نهيد
هركجا بوي خوش آيد بوبريد
سوى آن سركاشناى آن سريد
هر كجا لطفي ببيني ازكسى
سوى أصل لطف ره يابى عسى
اين همه خوشها زدر ياييست رف
جزوراً بكذار وبر كل دار طرف
جزء : 4 رقم الصفحة : 309
فلما دخلوا عليه روي أن يعقوب أمر بعض أولاده فكتب بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء ، أما جدي إبرهيم فإنه ابتلى بنار النمرود ، فصبر وجعلها الله عليه بردا وسلاماً ، وأما أبي إسحاق فابتلي بالذبح فصبر ففداه الله بذبح عظيم ، وأما أنا فابتلاني الله بفقد ولدي يوسف فبكيت عليه حتى ذهب بصري ونحل جسمي ، وقد كنت اتسلى بهذا الغلام الذي أمسكته عندك وزعمت أنه سارق ، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً ، فإن رددته عليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام (س نامه بفر زندان داد واندك بضاعتي ازشم وروغن وأمثال آن ترتيب نموده ايشانرا بمصر فرستاد ايشان بمصر آمده براد ريراكه آنجا بود ملاقات كردند وباتفاق روى بباركاه يوسف نهادند س آن هنكام در آمدند برادران
310
يوسف بروى) قالوا يا أيها العزيز أي : الملك القادر الغالب مسنا أصابنا وأهلنا وهم من خلفوهم الضر الفقر والحاجة وكثرة العيال وقلة الطعام.
وجئنا ببضاعة (وآورده ايم بضاعتي) مزجية (اندك وبى اعتبار) أي مردودة مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً لها من ازجيته إذا دفعته وطردته وكان بضاعتهم من متاع الأعراب صوفاً وسمناً ، وقيل : هي الصنوبر والحبة الخضراء ، وهي الفستق أو دراهم زيوف لا تؤخذ إلا بنقصانها فأوف لنا الكيل فأتم لنا الكيل الذي هو حقنا.
(4/202)
قال بعضهم أعطنا بالزيف كما تبيع بالدراهم الجياد ولا تنقصنا شيئاً وتصدق علينا تفضل بالمسامحة وقبول المزجاة فإن التصدق التفضل مطلقاً ، واختص عرفاً بما يبتغي به ثواب الله ولذا لا يقال في العرف اللهم تصدق عليّ ؛ لأنه لا يطلب الثواب من العبد بل يقال أعطني أو تفضل عليّ وارحمني.
ثم هذا ، أي : حمل التصدق على المساهلة في المعاملة على قول من يرى تحريم الصدقة على جميع الأنبياء وأهليهم أجمعين ، وأما على قول من جعله مختصاً بنبينا عليه السلام فالمراد حقيقة الصدقة إن الله يجزي المتصدقين يثيب المتفضلين أحسن الجزاء والثواب.
قال الضحاك : لم يقولوا إن الله يجزيك لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن.
يقول الفقير : دخل يوسف في لفظ الجمع سواء شافهوه بالجزاء أولا مع أن الجزاء ليس بمقصور على الجزاء الأخروي بل قد يكون دنيويا وهو أعم فافهم.
ومن آثار الثواب الدنيوي : ما حكي عن الشيخ أبي الربيع أنه قال : سمعت امرأة في بعض القرى أكرمها الله بشاة تحلب لبناً وعسلاً فجئت إليها وحلبت الشاة فوجدتها كما سمعت وسألت عن سببها ، قالت : كانت لنا شاة نتقوّت بلبنها فنزل علينا ضيف وقد أمرنا بإكرامه فذبحناها له لوجه الله تعالى ، فعوضنا الله تعالى هذه الشاة ثم قالت : إنها ترعى في قلوب المريدين يعني لما طابت قلوبنا طاب ما عندنا فطيبوا قلوبكم يطب لكم ما عندكم فالاعتقاد الصحيح والنية الخالصة وطيب الخاطر لها تأثير عظيم حكى أن السلطان محمود مر على أرض قوم يكثر فيها قصب السكر وكان لم يره بعد فقشر له بعض القصبات فلما مص منه السكر استحسنه والتذ منه في الغاية فخطر بباله أن يضع فيه شيئاً من الرسوم كالباج والخراج حتى يحصل له من هذا القصب في كل سنة كذا وكذا فلما مص بعد هذه الخاطرة وجده قصباً يابساً خالياً عن السكر فسمعه من تلك القبيلة شيخ عتيق وقال قد همّ الملك بأن يفعل بدعة وظلماً في مملكته أو فعلها فلذلك نفد سكر القصب فاستتاب السلطان في نفسه ورجع عما خطر بباله فلما مصه ثانيا بعد ذلك وجده مملوأ من السكر كما كان فهذا من تأثير النية والهمة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 309
ثم إن الصدقة لا تختص بالمال بل كل معروف صدقة ، ومنها العدالة بين الاثنين ، والإعانة والكلمة الطيبة والمشي إلى الصلاة وإماطة الأذى عن الطريق ونحوها ، وكذا النوافل لا تختص عند أهل الإشارة بالصلوات بل تعم كل خير زائد وفي الحديث القدسي : لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه وبصره فعلى العاقل الاشتغال بنوافل الخيرات من الصدقات وغيرها.
قال السعدي قدس سره :
يكى دربيابان سكى تشنه يافت
برون ازرمق در حياتش نه يافت
311
كله دلو كرد آن بسنديده كيش
و حبل اندران بست دستار خويش
به خدمت ميان بست وباز وكشاد
سك ناتون را دمي آب داد
خبر داد يغمبر از حال مرد
كه داور كناهان او عفو كرد
ألا كر جفا كارى انديشه كن
وفايش كيرو كرم يشه كن
كسى باسكى نيكوى كم نكرد
كجاكم شود خير بانيك مرد
كرم كن نان كت بر آيدزدست
جهانبان در خير بر كس نبست
كرت در بيابان نباشد هى
راغى بنه در زيارتكهي
به قنطار زربخش كردن زكنج
نباشد و قيراطي ازدست رنج
بردهر كسى بار در خور دزور
كرانست اي ملخ يش مور
ثم في قوله : وجئنا ببضاعة مزجية الآية إشارة إلى أن طالب الحق ينبغي له عرض الحاجة والفقر والافتقار ورؤية تقصيره ، فإن الفناء محبوب المحبوب ، وطريق حسن لنيل المطلوب ولذلك لما سمع يوسف كلامهم هذا أدركته الرحمة فرفع الحجاب وخلصهم من ألم الفرقة والاضطراب.
ومن هذا المقام ما قيل لأبي يزيد البسطامي قدس سره : خزائننا مملوءة بالأعمال فأين العجز والافتقار والتضرع والسؤال؟ ولا يلزم من هذا ترك العمل فإنه لا بد منه في مقامه ألا ترى أن الأخوة إنما قالوا ما قالوا بعد أن جاؤوا ببعض الأمتعة ، فللطالب أن يعمل قدر طاقته ولكن لا يغتر بعلمه بل يتقرب إليه بالفناء وترك الرؤية ليكون ذلك وسيلة إلى المعرفة والقربة والوصلة.
قال أبو يزيد البسطامي قدس سره :
ار يز آورده ام شاهاكه در كنج تو نيست
نيستى وحاجت وعجز ونياز آورده ام
قال لما رأى يوسف تمسكن إخوته رق لهم فلم يتمالك من أن عرفهم نفسه.
قال الكاشفي (آن نامه يعقوب بركوشه تخت نهادند يوسف نامه را بخواند كريه بروى غلبه كرد عنان تمالك ازدست داده كفت اي برادران).
جزء : 4 رقم الصفحة : 309
(4/203)
{هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} أي : هل تبتم عن ذلك بعد علمكم بقبحه فهو سؤال عن الملزوم ، والمراد لازمه وفعلهم بأخيه بنيامين إفراده عن يوسف وأذاه بأنواع الأذى وإذلاله حتى كان لا يقدر أن يكلمهم إلا بعجز وذلة.
إذ أنتم جاهلون (ه آن وقت نادان بوديد بقبح آن) فلذلك أقدمتم على ذلك أو جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف ، وإنما كان كلامه هذا شفقة عليهم وتنصحاً لهم في الدين وتحريضاً على التوبة لا معاتبة وتثريبا إيثاراً لحق الله على حق نفسه روى أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم إلى يعقوب إسرائيل الله من ملك مصر أما بعد أيها الشيخ فقد بلغني كتابك وقرأته وأحطت به علماً وذكرت فيه آباءك الصالحين ، وذكرت أنهم كانوا أصحاب البلايا فإنهم إن ابتلوا وصبروا ظفروا ، فاصبر كما صبروا والسلام ، فلما قرأ يعقوب الكتاب ، قال : والله ما هذا كتاب الملوك ولكنه كتاب الأنبياء ولعل صاحب الكتاب هو يوسف.
قال الكاشفي : (آنكه نقاب افكند وتاج ازسر بر داشت ايشانرا نظر بران
312
شكل وشمائل افتاد) قالوا أئنك لانت يوسف استفهام تقرير (يعني البته تويى يوسف كه باين جمال وكمال ديكرى نتواند بود)
كه دارد ازهمه خوبان رخى نين كه تو دارى
تبارك الله ازين روى نازنين كه توداري
قال أنا يوسف وهذا أخي من أبي وأمي ذكره مبالغة في تعريف نفسه وتفخيماً لشأن أخيه وإدخالاً له في قوله : قد منّ الله علينا فكأنه قال هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال ، فأنا يوسف وهذا أخي قد أنعم الله علينا بالخلاص مما ابتلينا به والاجتماع بعد الفرقة والأنس بعد الوحشة.
إنه أي : الشأن من (هركه) يتق أي يفعل التقوى في جميع أحواله أويق نفسه عما يوجب سخط الله وعذابه.
ويصبر على المحن كمفارقة الأوطان والأهل والعشائر والسجن ونحوها ، أو على مشقة الطاعات أو عن المعاصي التي تسلتذها النفس فإن الله لا يضيع أجر المحسنين أي : أجرهم وإنما وضع المظهر موضع المضمر للتنبيه على أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر (ون برادران يوسف را بشناختند روى بتخت آورده خواستند كه دراى وى افتند يوسف ازتخت فروده آمده ايشانرا در كنار كرفت).
جزء : 4 رقم الصفحة : 312
قالوا تا الله لقد آثرك الله علينا اختارك وفضلك علينا بالجمال والكمال والجاه والمال وإن أي : وإن شأننا وحالنا كنا لخاطئين يقال خطىء فعل الأثم عمداً ، وأخطأ فعله غير عمد أي لمتعمدين بالذنب إذ فعلنا بك ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا ، وفيه أشعار بالتوبة والاستغفار ولذلك.
قال لا تثريب عليكم اليوم (هي سرزنش نيست برشما امروز ومن هركز ديكر كناه شمارا باروى شمانيارم) وهو تفعيل من الثرب وهو الشحم الذي يغشى الكرش ، ومعناه إزالة الثرب فكأن التعبير والاستقصاء في اللوم يذيب جسم الكريم وثربه لشدته عليه كما في الكواشي.
وقال ابن الشيخ : سمى التقريع تثريباً تشبيهاً له بالتثريب في اشتمال كل منهما على معنى التمزيق فإن التقريع يمزق العرض ويذهب ماء الوجه.
واليوم منصوب بالتثريب أي لا تثريب عليكم اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بسائر الأيام؟ أو أراد إلخ باليوم الزمان مطلقاً ثم ابتدأ فقال يغفر الله لكم فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم أو منصوب بيغفر وذلك أن يوسف صفح عن جريمتهم يومئذٍ فسقط حق العبد وتابوا إلى الله فلم يبق حق الله لأن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده فلذلك قال يغفر الله لكم.
وفي التأويلات النجمية أخبر بصنيعهم في البداية ولكنه كان سبب رفعة منزلته ونيل مملكته في النهاية فلذلك قال : يغفر الله لكم انتهى.
ومن كرم يوسف أن إخوته أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشياً ونحن نستحيي منك بما فرط منا فيك فقال : إن أهل مصر وإن ملكت فيهم ، كانوا ينظرون إليّ بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهماً ما بلغ ، ولقد شرفت بكم الآن وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم أخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام وروى أن رسول الله أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح فقال لقريش ما ترونني فاعلاً بكم؟ قالوا نظن خيراً أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت فقال : أقول ما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم وروى أن أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس : إذا أتيت الرسول فاتل عليه لا تثريب عليكم اليوم ففعل فقال عليه السلام :
313
غفر الله لك ولمن علمك وهو أرحم الراحمين لأن رحمة الراحمين أيضاً برحمته ، أو لأن رحمتهم جزء من مائة جزء من رحمته تعالى والمخلوق إذا رحم فكيف الخالق
بآهى بسوزد جهاني كناه
بأشكى بشويد درون سياه
بدر مانده تخت شاهى دهد
بدر ماند كان هر ه خواهى دهد
جزء : 4 رقم الصفحة : 312
قال السعدي قدس سره :
نه يوسف كه ندان بلاديد وبند
و حكمش روان كشت وقدرش بلند
كنه عفو كرد آل يعقوب را
كه معنى بود صورت خوب را
بكر دار دشان مقيد نكرد
بضاعات مزجات شان رد نكرد
ز لطف همين شم داريم نيز
(4/204)
درين بي بضاعت ببخش اي عزيز
بضاعت نياوردم إلا اميد
خدايا ز عقوم مكن نا اميد
قال في بحر العلوم الذنب للمؤمن سبب للوصلة والقرب من الله فإنه سبب لتوبته وإقباله على الله.
قال أبو سليمان الداراني ما عمل داود عليه السلام عملاً أنفع له من الخطيئة ما زال يهرب منها إلى الله حتى اتصل.
وقال في التأويلات النجمية في قوله : وهو أرحم الراحمين إشارة إلى أنه أرحم من أن يجري على عبد من عباده المقبولين أمراً يكون فيه ضرر لعبد آخر في الحال وأنفع في المآل ، ثم لا يوفقه لاسترضاء الخصم ليعفو عنه ما جرى منه ويستغفر له حتى يرحمه الله ، وأيضاً إنه تعالى أرحم للعبد المؤمن من والديه وجميع الرحماء انتهى حكي أنه اعتقل لسان فتى عن الشهادة حين أشرف على الموت فأخبروا النبي فدخل عليه وعرض الشهادة فاضطرب ولم يعمل لسانه فقال عليه السلام : أما كان يصلي أما كان يزكي أما كان يصوم قالوا بلى قال : فهل عق والديه قالوا نعم قال : هاتوا بأمه فجاءت وهي عجوز عوراء فقال عليه السلام هلا عفوت أللنار حملته تسعة أشهر؟ أللنار أرضعته سنتين؟ فأين رحمة الأم فعند ذلك انطلق لسانه بالكلمة والنكتة أنها كانت رحيمة لا رحمانة فللقليل من رحمتها ما جوزت إحراقه بالنار فالرحمن الرحيم الذي لا يتضرر بجناية العباد كيف يستجيز إحراق المؤمنين المواظب على كلمة الشهادة سبعين سنة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 312
{اذْهَبُوا} لما عرفهم يوسف نفسه وعرفوه سألهم عن أبيه فقال ما فعل أبي بعدي قالوا اذهبت عيناه فأعطاهم قميصه ، وقال : اذهبوا يا أخوتي.
بقميصي هذا حال والباء للملابسة والمصاحبة ويجوز أن تكون للتعدية.
فالمعنى بالفارسية (ببريد اين يراهن مرا) وهو القميص المتوارث ، كما روى عن أنس بن مالك عن رسول الله قال : أما قوله اذهبوا بقميصي هذا فإن نمرود الجبار لما ألقى إبراهيم في النار نزل الله جبريل بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة ، وقعد معه يحدثه فكسا إبراهيم ذلك القميص إسحاق وكساه إسحاق يعقوب وكساه يعقوب يوسف فجعله في قصبة من فضة وعلقها أي للحفظ من العين وغيرها.
وفي التبيان مخافة من أخوته عليه فألقي في الجب والقميص في عنقه وكان فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى أو سقيم الأصح وعوفي.
وفي التأويلات النجمية فيه إشارة إلى أن قميص يوسف القلب من ثياب الجنة وهو كسوة كساه الله تعالى
314
من أنوار جماله إذا ألقى على وجه يعقوب الروح الأعمى يرتد بصيراً ، ومن هذا السر أرباب القلوب من المشايخ يلبسون المريدين ، خرقتهم لتعود بركة الخرقة إلى أرواح المريدين فيذهب عنهم العمى الذي حصل من حب الدنيا والتصرف فيها انتهى.
قال بعض الحفاظ : من الكذب قول من قال إن علياً ألبس الخرقة الحسن البصري فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعاً فضلاً عن أن يلبسه الخرقة انتهى.
يقول الفقير هذا من سنة المشايخ قدس الله أسرارهم فإنهم لبسوا الخرقة وألبسوها تبركاً وتيمنا وهم قد فعلوا ذلك بإلهام من الله تعالى وإشارة فليس لأحد أن يدعي أنه من الزيادات والبدع القبيحة.
وزرت في بلدة قونية مرقد حضرة الشيخ صدر الدين قدس سره وله في حجرة الكتب خرقة لطيفة محفوظة يقال إنها من البسة الجنة وغسلت طرفاً من ذيلها في طست له يستشفى بمائة وشربت على نية زوال الأمراض الظاهرة والباطنة والحمد .
فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً يصير بصيراً ، كقولك : جاء البناء محكماً بمعنى صار ويشهد له فارتد بصيراً ويأتي إليّ حال كونه بصيراً ذاهباً بياض عينه وراجعاً إليها الضوء وينصره قوله وائتوني (وبياييد بمن).
أي : أنت وأبي ففيه تغلب المخاطبين بأهلكم أجمعين بنسائكم وذراريكم ومواليكم ، فإن الأهل يفسر بالأزواج والأولاد وبالعبيد والإماء وبالأقارب وبالأصحاب وبالمجموع روي أن يهوداً حمل القميص وقال أنا أحزنته ، بحمل القميص الملطخ بالدم إليه فافرحه كما أحزنته فحمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتاه وكانت المسافة ثمانين فرسخاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 314
قال الكاشفي : (يراهن بوي داد وأسباب راه جهت در ومتعلقان مهيا ساخنه برادران تسليم كرد).
ولما فصلت العير يقال فصل من البلد فصولاً إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وعمرانه.
قال الكاشفي (وآن وقت كه جدا شد يعني بيرون آمد كاروان از عمارت مصر وبفضاء صحرا رسيده).
قال أبوهم يعقوب لمن عنده من ولد ولده وغيرهم إني لأجد ريح يوسف أوجده الله ، أي جعله واجداً ريح ما عبق أي لزق ولصق من ريح يوسف من ثمانين فرسخاً حين أقبل به يهودا.
أيها السالون قوموا واعشقوا
تلك ريا يوسف فاستنشقوا
قال في 3المثنوى4 :
بوي يراهان يوسف را ثديد
آنكه حافظ بود يعقوبش كشيد
(4/205)
وهذا البيت إشارة إلى حال أهل السلوك والسكر وأصحاب الزهد والعشق ، وذلك لأن الزاهد ذاهل عما عنده كالحمار الغافل عما استصحبه من الكتب فكيف يعرف ما عند غيره ، والعاشق يستنشق من كل مظهر ريح سر من الأسرار ويدخل في خيشومه من روائح النفس الرحماني ما لو عاش الزاهد الف سنة على حاله ما شم شيئاً منها.
قال أهل المعاني : إن الله أوصل إليه رائحة يوسف عند انقضاء المحنة ومجيء وقت الروح والفرح من المكان البعيد ، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى ، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل.
وذكر أن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي
315
يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير بالقميص ، فأذن لها فأتته بها.
قال المولى الجامي :
ديرمى جنبد بشيراي بادر بركنعان كذر
مده يراهن يوسف ببر يعقوب را
ولذلك يستروح كل محزون بريح الصبا ويتنسمها المكربون ، فيجدون لها روحاً وهي التي تأتي من ناحية المشرق وفيها لين إذا هبت على الأبدان نعمتها ولينتها وهيجت الأشواق إلى الأحباب والحنين إلى الأوطان قال الشاعر :
أيا جبلي نعمان بالله خليا
نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست
على نفس مهموم تجلت همومها
قال الحافظ :
باصبا همراه بفرست ازرحت كلدسته
بوكه بويي بشنويم از خاك بستان شما
وفي التبيان هاجت الريح فحملت ريح القميص من مسافة ثمانين فرسخاً واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص انتهى.
يقول الفقير : هذا موافق لما ذكر من أنه كان في القميص ريح الجنة لا يقع على مبتلى إلاصح فالخاصية في ريح الجنة لا في ريح يوسف كما ذهب إليه البيضاوي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 314
وأما الإضافة في قوله : ريح يوسف فللملابسة كما لا يخفى.
قال الامام الجلدكي في كتاب الإنسان من كتاب البرهان لعمري كلما كثفت طينة الإنسان وزادت كثافتها نقصت حواسه في مدركاتها لحجب الكثافة الطارية على ذات الإنسان من أصل فطرته ، وأما جوهر ذات الإنسان إذا لطف وتزايدت لطافته فإن جميع حواسه تقوى ويزيد إدراكها وكثير من أشخاص النوع الإنسان يدركون بحاسة الشم الروائح العطرة من بعد المسافة على مسافة ميل ، أو أكثر من ذلك على مسيرة أميال ولعل من تزايدت لطافته يدرك رائحة ما لا رائحة له من الروائح المعتادة كما قال الله تعالى حكاية عن يعقوب : إني لأجد ريح يوسف وهذه الحاسة مخصوصة بأهل الكشف لا بغيرهم من الناس انتهى.
وفي المثنوى :
بود واي شم باشد نور ساز
شد زبويى ديده ديده يعقوب باز
بوي بد مريده را تارى كند
بوي يوف ديده را يارى كند
بوي كل ديدي كه انجاكل نبود
جوش مل ديدي كه انجامل نبود
آن شنيدي داستان بايزيد
كه زحال بو الحسن يشين ه ديد
روزي آن سلطان تقوى ميكذشت
بامريدان جانبصحرا ودشمت
برى خوش آمد مراورا ناكهان
از سوادري زسوى خارقان
هم برانجا ناله مشتاق كرد
بوي را ازباد استشاق كرد
ون در وآثار مستى شد بديد
يك مريد اورا ازان دم بر رسيد
س بر سيدش كه اين أحوال خوش
كه برونست از حجاب نج وشش
كاه سرخ وكاه زرد وكه سيد
مى شود رويت ه حالست ونويد
مى كشى بوي وبظاهر نيست كل
بي شك از غيبست واز كلزار كل
316
كفت بوي بو العجب آمد بمن
همنانكه مصطفى را از يمن
كه محمد كفت برست ضبا
از يمن مي آيدم بوي خدا
از اويس واز قرن بوي عجب
مر نبي را مست كرد ور طرب
كفت ازين سوبوي يارى مي رسد
اندرين ده شهرياري مي رسد
بعد ندين سال مي زايد شهى
مي زند بر آسمانها خر كهي
رويش از كلزار حق كلبون بود
از من او اندر مقام افزون بود
يست نامش كفت نامش بو الحسن
حليه اش واكفت از كيسو ذقن
قد او ورنك او وشكل او
يك بيك واكفت از كيسو ورو
حليهاي روح اورا هم نمود
از صفات واز طريق وجا وبود
لولا أن تفندون أي تنسبوني إلى الفند وهو الخرف ونقصان العقل وفساد الرأي من هرم يقال شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة ، إذ لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها ، أي نقصان عقلها ذاتي لا حادث من عارض الهرم وجواب لولا محذوف تقديره لولا تفنيدكم لصدقتموني.
جزء : 4 رقم الصفحة : 314
واعلم : أن الخرف بالفارسية : (فرتوت شدن) لا يطرأ على الأنبياء والورثة ، لأنه نوع من الجنون الذي هو من النقائص وهم مبرأون مما يشين بهم من الآفات.
جزء : 4 رقم الصفحة : 314
{قَالُوا} أي الحاضرون عنده تالله إنك لفي ضلالك القديم (درهمان حيرت قديمى در أفراط محبت يوسف وبسيارى ذكر أو وتوقع ملاقات أو بعد از هل سال يا هشتاد سال) وكان عندهم قد مات وفيه إشارة إلى أنه لا بد للعاشق من لائم :
يا عاذل العاشقين دع فئة
أضلها الله كيف ترشدها
مكن بنامه سياهى ملامت من مست
كه آكهست تقدير برسرش ه نوشت
(4/206)
فلما أن إن صلة أي زائدة لتأكيد الفعلين واتصالهما حتى كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان من غير وقت جاء البشير (مده دهنده) وهو يهودا.
القيه على وجهه طرح البشير القميص على وجه يعقوب.
فارتد الارتداد انقلاب الشيء إلى حال كان عليها وهو من الأفعال الناقصة أي عاد ورجع.
بصيراً بعدما كان قد عمى ورجعت قوته وسروره بعد الضعف والحزن :
داشت در بيت حزن جامى جاي
جاءه منك بشير فنجا
قال في التأويلات النجمية : فلما أن جاء البشير من حضرة يوسف القلب إلى يعقوب الروح بقميص أنوار الجمال القيه على وجهه فارتد بصيراً يشير إلى أن الروح كان بصيراً في بدو الفطرة ثم عمي لتعلقه بالدنيا وتصرفه فيها ثم ارتد بصيراً بوارد من القلب.
ورد البشير بما أقر الأ عينا
وشفى النفوس فنلن غايات المنى
وتقاسم الناس المسرة بينهم
قسما فكان أجلهم حظاً أنا
وفيه إشارة إلى أن القلب في بدو الأمر كان محتاجاً إلى الروح في الاستكمال فلما كمل وصلح لقبول فيضان الحق بين الأصبعين ونال مملكة الخلافة بمصر القربة في النهاية صار الروح
317
محتاجاً إليها لاستنارته بأنوار الحق ، وذلك ، لأن القلب بمثابة المصباح في قبول نار نور الإلهية والروح بمثابة الزيت ، فيحتاج المصباح في البداية إلى الزيت في قبول النار ولكن الزيت يحتاج إلى المصباح وتركيبه في النهاية ليقبل بواسطته النار ، فإن الزيت بلا مصباح وآلاته ليس قابلاً للنار فافهم جداً.
قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون أي : ألم أقل لكم يا بني حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتجسس ونهيتكم عن اليأس من روح الله إني أعلم من الله ما لا تعلمون من حياة يوسف وإنزال الفرج وروي أنه سأل البشير كيف يوسف فقال هو ملك مصر قال ما أصنع بالملك وعلى أي دين تركته قال على دين الإسلام قال الآن تمت النعمة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 317
قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا (آمرزش طلب براي ما ازخدا عز وجل) إنا كنا خاطئين متعمدين للخطيئة والإثم مذنبين بما فعلنا بك وبيوسف وبنيامين ، ومن حق شفقتك علينا أن تستغفر لنا ذنوبنا فإنه لولا ذلك لكنا هالكين.
قال سوف استغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم سوف وعسى ولعل في وعد الأكابر والعظماء يدل على صدق الأمر وجده ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم وترك استعجالهم فعلى ذلك جرى وعد يعقوب كأنه قال إني استغفر لكم لا محالة وإن تأخر كما في بحر العلوم.
وعن شعبي قال : سوف استغفر لكم ربي قال اسأل يوسف إن عفا عنكم استغفر لكم ربي ، فإن عفو المظلوم شرط المغفرة فأخر الاستغفار إلى وقت الاجتماع بيوسف ، فلما قدموا عليه في مصر قام إلى الصلاة في السحر ليلة الجمعة ، وكانت ليلة عاشوراء ، فلما فرغ رفع يديه ، وقال : اللهم اغفر جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لولدي ما أتوا به أخاهم ، وقام يوسف خلفه يؤمن ، وقام أخوته خلفهما أذلة خاشعين ، فأوحى الله إليه إن الله قد غفر لك ولهم أجمعين ثم لم يزل يدعو لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة إلى أن حضره الوفاة.
والتحقيق في هذا المقام ما قاله حضرة شيخي وسندي قدس الله سره في بعض تحريراته وهو أنه تعالى قال في حكاية قول يوسف عليه السلام : يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين وقال في حكاية قول يعقوب عليه السلام : سوف استغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم وذلك لأنه انبعث من غيب قلب يوسف النظر إلى ما نال إليه بسبب إخوته من النعماء والآلاء وانبعث أيضاً من غيب قلبه النية والإرادة للاستغفار لهم ، فقال بلا توقف ولا تأخر : يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين أي : وهو أرحم بكم مني ومن أبي ومنكم ومن سائر الراحمين وهو يرحمكم ويغفر لكم بسبب استغفاري لكم قدر ما نلت إليه بسبب ابتلائي بكم بل فوقه ، إذ لولا رحمته ومغفرته لكم لما ابتلاني بكم ولما أنالني إلى ما رأيتم من السلطنة الظاهرة والباطنة والنعمة التامة الكاملة ، ولم ينبعث عن غيب قلب يعقوب عليه السلام ذلك ، بل انبعث النظر إلى ما وصل إليه بسببهم من العناء والمحن ، ولم ينبعث النية للاستغفار لهم ، بل توقف وتأخر إلى انبعاث النية من جانب الغيب حتى يستغفر لهم بالنية الصادقة المأذونة من قبل الحق تعالى فقال إشارة إلى هذا وتنبيهاً لهم عليه.
سوف استغفر لكم ربي حين تنبعث نية الاستغفار إلى قلبي من قبل العزيز الغفار ولا تستعجلوا إنه هو الغفور الرحيم لأنه كما أنزل عليّ هذه المنح في صورة المحن من قبلكم
318
(4/207)
يرحمكم ويغفر لكم ولولا إرادته الرحمة والمغفرة لكم لما ابتلاكم بهذا البلاء ولكن هذه الوقعة نعمة في صورة النقمة ورحمة في صورة الغضب ، الحمدعلى ما أنعم وهو الأكرم والأرحم وأصل ذلك إرادة الحق سبحانه أن يتجلى لهم بالقبض والجلال من جانب أبيهم وبالبسط والجمال من جانب أخيهم حتى ينالوا إلى مرتبة الصبر بالتجلي الأول ، ويصلوا إلى مرتبة الشكر التجلي الثاني وتكون تربيتهم بالقبضتين واليدين ، ومرتبتهم جامعة بين المرتبتين فلو كان التجلي من كلا الجانبين بالقبضة واليد الواحدة لكان مخالفاً لسنته القديمة فإنه لا يتجلى لأحد من مجليين إلا بصورتين مختلفتين ، وكذا لا يتجلى لشخصين من مجليين إلا بصورتين ألا ترى أنه لا يوجد شخصان في صورة واحدة وإن كانا من أب واحد ، لأن في اتحاد التجلي فيهما تحصيل حاصل وهو نوع عبث تعالى شأنه عن العبث علواً كبيراً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 317
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} روى إن يوسف وجه إلى أبيه جهازاً كثيراً ومائتي راحلة وسأله أن يأتيه بأهله أجمعين فتهيأ يعقوب للخروج إلى مصر.
قال الخجندي :
كرد شيرين دهن ما خبر يار عزيز
كه زمصرت دكرا اينك شكرى مي آيد
فتوجه مع أولاده وأهاليهم إلى مصر على رواحلهم فلما قربوا من مصر أخبر بذلك يوسف.
صبا زدوست يامي بسوى ما آورد
بهمدمان كهن دوستى بجا آورد
براي شم ضعيف رمد كرفته ما
ز خاك مقدم محبوب توتيا آورد
فاستقبله يوسف والملك الريان في أربعة آلاف من الجند أو ثلاثمائة ألف فارس والعظماء وأهل مصر بأجمعهم ، ومع كل واحد من الفرسان جنة من فضة وراية من ذهب فتزينت الصحراء بهم واصطفوا صفوفاً ، وكان الكل غلمان يوسف ومراكبه ، ولما صعد يعقوب تلاً ومعه أولاده وحفدته أي أولاد أولاده ونظر إلى الصحراء مملوءة من الفرسان مزينة بالألوان نظر إليهم متعجباً فقال له جبريل : انظر إلى الهواء فإن الملائكة قد حضرت سروراً بحالكم كما كانوا محزونين مدة لأجلك.
يعني (ازين لشكر وتجمل عجب ميداري ببالا نكر جنود ملك از زمين تا فلك بتفرج آمده بشادى تو مبتهج ومسرورند نانه درين مدت ازاندوه تومحزون ورنجور بودند).
ثم نظر يعقوب إلى الفرسان ، فقال : أيهم ولدي يوسف ، فقال جبريل : هو ذاك الذي فوق رأسه ظلة فلم يتمالك أن أوقع نفسه من البعير فجعل يمشي متوكئاً على يهودا :
راه نزديك و بماندم سخت دير
سير كشتم زين سواري سيرسير
سر نكون خودرا زاشتردر فكند
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
كفت سوزندم زغم تاند ند
فقال جبريل : يا يوسف إن أباك يعقوب قد نزل لك فأنزل له فنزل من فرسه وجعل كل واحد منهما يعدو إلى الآخر فلما تقربا قصد يوسف أن يبدأ بالسلام فقال جبريل لا حتى يبدأ يعقوب به ؛ لأنه أفضل وأحق فابتدأ به وقال السلام عليك يا مذهب الأحزان.
ه جورها كه كشندند بلبلان ازدى
ببوى آنكه دكر نو بهار باز آيد
فتعانقا وبكيا سروراً وبكت ملائكة السموات وماج الفرسان بعضهم في بعض وصهلت الخيول وسبحت الملائكة وضرب بالطبول والبوقات فصار كأنه يوم القيامة.
319
ه خوش جاليست روى دوست ديدن
س از عمري بيك ديكر رسيدن
بكام دل زماني آرميدن
بهم كفتن سخن وزهم شنيدن
قال يوسف : يا أبت بكيت عليّ حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ فقال : بلى ولكن خشيت أن يسلب دينك فيحال بيني وبينك ، نسأل الله الثبات على الإيمان إنه الكريم المنان.
عروسي بود نوبت ما تمت
كرت نيك روزي بود خاتمت
آوى إليه أبويه الجمهور على أن المراد بأبويه أبوه وخالته ليا لأن أمه راحيل كانت قد ماتت في ولادة بنيامين ولذلك سمى بنيامين فإن يامين وجع الولادة بلسانهم كما في تفسير أبي الليث.
والرابة وهي موطوءة الأب تدعى أما لقيامها مقام الأم أو لأن الخالة أم كما أن العم أب.
والمعنى ضمهما إلى نفسه فاعتنقهما وكأنه عليه السلام حين استقبلهم نزلهم في خيمة أو بيت كان له هنالك فدخلوا عليه في ذلك البيت أو الخيمة وضمهما إليه.
وقال الكاشفي : (س در نزديك مصر موضعي بود ازان يوسف وقصر رفيع در آنجا ساخته بودند يوسف در انجا نزول فرمود س آن هنكام كه در آمد بر يوسف دران منزل آوى إليه أبويه جاي داد بسوى خود در وخاله خودراكه بجاي ما درش بود وديكر باره برادران را دركنار كرفت خالته را رسش فرمود وبرادر زادكانرا نوازش كرد).
وقال لهم قبل أن يدخلوا مصر ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين من الجوع والخوف وسائر المكاره قاطبة ، لأنهم كانوا قبل ولاية يوسف يخافون ملوك مصر ولا يدخلونها إلا بإجازتهم لكونهم جبابرة ، والمشيئة متعلقة بالدخول والأمن معاً كقولك للغازي ارجع سالماً غانماً إن شاء الله ، فالمشيئة متعلقة بالسلامة والغنم معاً والتقدير ادخلوا مصر آمنين وذو الحال هو فاعل ادخلوا.
(4/208)
ورفع أبويه عند نزولهم بمصر وكانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأة وكانوا حين خرجوا منها مع موسى عليه السلام ستمائة ألف وخمسمائة وبضعا وتسعين أو سبعين رجلاً سوى الذرية والهرمى وكانت الذرية الف الف ومائتي ألف.
على العرش وهو السرير الرفيع الذي كان يجلس عليه يوسف وهو بالفارسية (تخت) أي اجلسهما معه على سرير الملك تكرمة لهما فوق ما فعله لأخوته ، واشتركوا في دخول دار يوسف لكنهم تباينوا في الإيواء فانفرد الأبوان بالجلوس معه على سرير الملك لبعدهما من الجفاء كذا غداً إذا وصلوا إلى الغفران يشتركون فيه في دخول الجنة ولكنهم يتباينون في بساط القربة فيختص به أهل الصفاء دون من اتصف اليوم بالالتواء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
هركسى ازهمت والاى خويش
سود برد در خور كالاي خويش
وخروا له (وبروى درافتادند در وخاله وبرادران مرورا) سجداً حال مقدرة لأن السجود بعد الخرور يكون ؛ أي حال كونهم ساجدين تحية وتكرمة له ، فإنه كان السجود عندهم جارياً مجرى التحية والتكرمة كالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها من عادات الناس الناشئة في التعظيم والتوقير والرفع مؤخر عن الخرور إذ السجود له كان قبل الصعود على السرير في أول الملاقاة لأن ذلك هو وقت التحية إلا أنه قدم لفظاً للاهتمام بتعظيمه لهما ، والترتيب الذكرى لا يجب كونه على وقف الترتيب الوقوعي وليصل به ذكر كونه تعبير
320
الرؤيا.
قال الكاشفي : (يوسف كه آن حال مشاهده نمود إظهار مسرت وبهجت فرمود) وقال يا أبت (أي درمن) هذا (اين سجده كردن شمارا).
تأويل رؤياي التي رأيتها وقصصتها عليك من قبل في زمن الصبى يريد قوله : إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قد جعلها ربي حقاً صدقا في اليقظة واقعا بعينها.
قال بعضهم : وقعت رؤيا يوسف بعد أربعين سنة وإليها ينتهي الرؤيا.
يقول الفقير : فيكون القول بأن الاجتماع كان بعد ثمانين سنة مرجوحاً.
واعلم أن السبب في تأخير ظهور المنامات الجيدة وسرعة الرديئة هو أن القدرة الإلهية المظهرة لهذه المنامات تعجل البشارة بالخيرات الكامنة قبل أوانها بمدة طويلة لتكون مدة السرور أطول وتؤخر الانذار بالشرور الكامنة إلى زمان يقرب من حصولها ليقصر زمان الهم والحزن.
قال الشيخ صدر الدين القنوى قدس سره : في شرح قوله عليه السلام : أصدق المنامات ما رؤى في السحر : اعلم أن السحر هو زمان أواخر الليل واستقبال أول النهار ، والليل مظهر الغيب والظلمة ، والنهار هو زمان الكشف والوضوح ومنتهى سير المغيبات والمقدرات الغيبية في العلم الإلهي ثم في عالم المعاني والأرواح ولما كان زمان السحر هو مبدأ زمان استقبال كمال الانكشاف والتحقق ، لزم أن الذي يرى إذ ذاك يكون قريب الظهور والتحقق وإلى ذلك أشار يوسف بقوله : هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً أي : ما كملت حقية الرؤيا إلا بظهورها في الحس فإن فيه ظهر المقصود من تلك الصورة الممثلة واينعت ثمراتها انتهى.
وقال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر.
هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً أي : أظهرها في الحس بعد ما كانت في صورة الخيال ، فقال النبي عليه السلام : الناس نيام أي جعل النبي عليه السلام اليقظة أيضاً نوعاً من أنواع النوم لغفلة الناس فيها عن المعاني الغيبية والحقائق الإلهية ، كما يغفل النائم عنها فكان قول يوسف قد جعلها ربي حقاً بمنزلة من رأى في نومه أنه استيقظ من رؤيا رآها ثم ذكرها وعبرها ولم يعلم أنه في النوم عينه ما برح فإذا استيقظ ، يقول : رأيت كذا ورأيت كأني استيقظت وأولتها بكذا هذا مثل ذلك ، كما قال في المثنوى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
اين جهانراكه بصورت قائمست
كفت يغمبر كه حلم نائمست
او كمان برده كه اين دم خفته ام
بي خبر زان كوست در خواب دوم
فانظر كم بين إدراك محمد وبين إدراك يوسف عليهما السلام في آخر أمره حين قال : هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً معناه ثابتاً حساً ، أي محسوساً وما كان إلا محسوساً فإن الخيال لا يعطي أبداً إلا المحسوسات ليس له غير ذلك ، فالنبي عليه السلام جعل الصورة الحسية أيضاً كالصورة الخيالية التي تجلى الحق والمعاني الغيبية فيها ، وجعل يوسف الصور الحسية حقاً ثابتاً والصور الخيالية غير ذلك فصار الحس عنده مجالي للحق والمعاني الغيبية دون الخيال ، فانظر ما أشرف علم ورثة سيد الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
وهم ، أي : الورثة الأولياء الكاملون المطلعون على هذه الأسرار.
والإشارة : أن يعقوب هو الروح ، وزوجته النفس ، وأولاده أوصاف البشرية والقوى والحواس ، ويوسف هو القلب والقلب
321
(4/209)
بمثابة العرش ، وهو على الحقيقة عرش الرحمن والسجدة كانت على الحقيقة لرب لعرش لا للعرش ، وقوله : إن شاء الله لأنه لا يصل إلى مصر حضرة الملك العزيز أحد إلا بجذبة مشيئته وقوله آمنين أي : من الانقطاع عن تلك الحضرة فإنها منزهة عن الاتصال والانفصال والانقطاع عنها.
فعلى العاقل أن يجتهد في طريق الوصول إلى أن تنفتح بصيرته ويتخلص من الظلمة ولا يقول أين هو كما قال في المثنوى :
اين جهان ر آفتاب ونورماه
أو بهشت سر فرو برده باه
كه اكر حقست س كوروشنى
سر زه بردار وبنكراي دنى
جمله عالم شرق وغرب آن نور يافت
تاتودر اهى نخواهد برتوتافت
وصحبة هذا النور إنما تحصل بالصبر على المعاصي والشرور ، وإصلاح الطبيعة والنفس بالشريعة والطريقة ، وحبس الوجود في ظلمة بيت الخلوة إلى إشراق نور الحقيقة ألا ترى إلى قول الحافظ الشيرازي :
آنكه يرانه سرم صحبت يوسف بنواخت
اجر صبريست كه در كلبه احزان كردم
اللهم اجعلنا من الواصلين وقد أحسن بي قال في الكواشي المفعول محذوف تقديره أحسن بي صنعه والمشهور استعمال الإحسان بإلي وقد يستمل بالباء أيضاً كما في قوله : وبالوالدين إحسانا والمعنى بالفارسية (وبدرستى كه نيكويي كرده است بمن آفرين كارمن) إذاخرجني من السجن (ون بيرون آورد مرا اززندان) ولم يذكر الجب لئلا يستحي أخوته ومن تمام الصفح والعفو أن لا يذكر ما تقدم من الذنب ، ولأنه كان في السجن مع الكفار وفي الجب مع جبرائيل ولأنه كان في وقت دخول الجب صغيراً ولا يجب الشكر على الصبيان ولأن عهده بالسجن أقرب من الجب فلذا ذكره والوجه الأول أرجح ، وقد سبق مثله في حق زليخا أيضاً حيث قال : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ولم يذكر زليخا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
قال لقمان رضي الله عنه : خدمت أربعة آلاف نبي واخترت من كلامهم ثماني كلمات.
إن كنت في الصلاة فاحفظ قلبك ، وإن كنت في بيت الغير فاحفظ عينيك ، وإن كنت بين الناس فاحفظ لسانك ، واذكر اثنين ، وانسَ اثنين ، أما اللذان تذكرهما فالله والموت ، وأما اللذان تنساهما إحسانك في حق الغير وإساءة الغير في حقك.
وفي التأويلات أخرجني من سجن الوجود ، ولهذا لم يقل من الجب جب البشرية ونعمة إخراجه من سجن الوجود أكبر من نعمة إخراجه من جب البشرية.
وجاء بكم (وآورد شمارا) من البدو قال في القاموس والبدو والبادية خلاف الحضر لكون الصحراء بادية على العين أي ظاهرة سميت بها وكانوا أصحاب المواشي والعمد أي الأخبية ينتقلون في الماء والمرعى.
وقال الكاشفي : (وآن موضعي بود اززمين فلسطين درزمين شام كه يعقوب آنجا نشستى وآن نزديك كنعان بود يوسف جهت شكر نعمت فرمودكه حق سبحانه وتعالى مرا اززندان بتخت رسانيد وشمارا ازباديه نزديك من آورد تابايكديرك برنشينيم) من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين أخوتي أي أفسد بيننا وحرش واغرى من نزغ الرائض الدابة إذا نخسها وحملها على
322
الجرى والحركة ولقد بالغ في الإحسان حيث نسب ذلك إلى الشيطان.
يقول الفقير : الأدب أن يسند الشر إلى النفس والشيطال لأنهما معدنه ومنشأه ، وإن كان الكل بخلق الله تعالى إن ربي لطيف لما يشاء أي : لطيف التدبير لأجله رفيق حتى يجيء على وجه الحكمة والصواب ما من صعب إلا وهو بالنسبة إلى تدبيره سهل.
وقال في الكواشي : ذو لطف بمن يشاء واللطف الإحسان الخفي.
قال الامام الغزالي رحمه الله : إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها ومادق منها وما لطف ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف ، وإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك تم معنى اللطف ولا يتصور كمال ذلك في العلم والفعل إلاتعالى ، وحظ العبد من هذا الوصف الرفق بعباد الله تعالى والتلطف بهم في الدعوة إلى الله والهداية إلى سعادة الآخرة ، من غير إزراء وعنف ومن غير تعصب وخصام وأحسن وجوه اللطف فيه الجذب إلى قبول الحق بالشمائل والسير المرضية والأعمال الصالحة فإنها أوقع وألطف من الألفاظ المزينة.
وفي المثنوى :
ند فعلى خلق را جذابتر
كه رسدد رجان هربا كوش كر
إنه هو العليم بليغ العلم بوجوه المصالح والتدابير.
الحكيم الذي يفعل كل شيء على قضية الحكمة وقد سبق في أوائل هذه السورة سر التقدم والتأخر بين اسمي العليم والحكيم روى أن يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه فادخله في خزائن الورق والذهب وخزائن الحلى وخزائن الثياب وخزائن السلاح وغير ذلك فلما أدخله خزائن القراطيس وهو أول من عملها قال يا بني ما أعقك؟ عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثماني مراحل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
مدبارشد ازعشق توام حال دكر كون
يكبار نكفتي فلان حال توون شد
قال : أمرني جبريل ، قال أو ما تسأله؟ قال : أنت ابسط إليه مني فاسأله ، قال جبريل : الله أمرني بذلك لقولك : أخاف أن يأكله الذئب قال فهلا خفتني.
قال المولى الجامي :
زليخا ون زيوسف كام دل يافت
بوصل دائمش آرام دل يافت
(4/210)
تمادى يافت أيام وصالش
دران دولت زل بكذشت سالش
ياي داد آن نخل برومند
بر فرزند بل فرزند فرزند
مرادي درجهان دردل نبودش
كه برخوان امل حاصل نبودش
وولد ليوسف من راعيل ، أي زليخا إفراييم وميشا وحمة امرأة أيوب علي السلام ، وولد لإفراييم نون ، ولنون يوشع فتى موسى ، ولما نزل يعقوب في قصر يوسف جاء أولاد يوسف فوقفوا بين يدي يعقوب ففرح بهم وقبلهم ، وحدثه يوسف بحديثه مع زليخا وما كان منه ومنها وأخبره أن هؤلاء أولاده منها فاستدعاها يعقوب فحضرت وقبلت يده وسألته زليخا أن ينزل عندها فقال لا أرضى بزينتكم هذه ولكن اصنعوا لي عريشاً من البردى والقصب مثل عريشي بأرض كنعان فصنعوا له عريشاً كما أراد ونزل فيه في أتم سرور وغبطة.
قال السهيلي : كان مساكن نبينا مبنية من جريد النخل عليه طين وبعضها من
323
حجارة مرصوصة وسقفها كلها من جريد.
وعن الحسن البصري : كنت وأنا مراهق أدخل بيوت أزواج النبي عليه السلام في خلافة عثمان رضي الله عنه فأتناول سقفها بيدي ، وهدمها عمر بن عبد العزيز بعد موت أزواجه عليه السلام وأدخلها في المسجد.
قال بعضهم : ما رأيت باكياً أكثر من ذلك اليوم ، وليتها تركت ولم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء ويرضون بما رضي الله لنبيه عليه السلام ، ومفاتيح خزائن الأرض بيده عليه السلام ، أي فإن ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر في البنيان ، وفي الحديث : إن شر ما ذهب فيه مال المرء المسلم البنيان.
وكتب بهلول على حائط من حيطان قصر عظيم بناه أخوه الخليفة هارون ؛ يا هارون رفعت الطين ووضعت الدين رفعت الجص ووضعت النص ، إن كان من مالك فقد أسرفت ، إن الله لا يحب المسرفين ، وإن كان من مال غيرك ظلمت إن الله لا يحب الظالمين.
رب روي أن يعقوب أقام مع يوسف أربعاً وعشرين سنة ، وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق فنقله يوسف بنفسه في تابوت من ساج فوافق يوم وفاة عيص فدفنا في قبر واحد وكانا في بطن واحد وكان عمرهما مائة وسبعاً وأربعين سنة كما في تفسير أبي الليث ثم عاد إلى مصر وعاش بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة ، وكان عمره مائة وعشرين سنة فلما جمع الله شمله وانتظمت أسبابه واطردت أحواله ورأى أمره على الكمال علم أنه أشرف على الزوال وأن نعيم الدنيا لا يدوم على كل حال قال قائلهم :
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
إذا تم أمر دنا نقصه
توقع زوالا إذا قيل تم
فاسألِ الله الموت بحسن العاقبة.
قال الكاشفي (يوسف دررا بخواب ديدكه ميكويد اي يوسف بغايت مشاق لقاي توام بشتاب تاسه روز ديكر نزد من آيى يوسف از خواب در آمد وبرادرانرا طلبيد ووصيتها كرد ويهودا ولي عهد ساخته فرزندانرا بروسرد وبطريق مناجات كفت اي روردكار من) قد آتيتني من الملك أي أعطيتني بعضاً منه عظيماً وهو ملك مصر إذ لم يكن له ملك كل الدنيا.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده قدس سره : كان في وجود يوسف عليه السلام قابلية السلطنة وأما سلطان الأنبياء فقد أفنى جميع ما في ملك وجوده من جهة الأفعال والصفات فلم يبق شيء ، فظهر مكانه شيء لا يوصف بحيث وقع تجلى الذات فملكه وسلطانه لا يدانيه شيء ولذا لو قال أحد على وجه التحقير إنه كان فقيراً يكفر.
شمع سراجه أبيت اختر برج لو دنوت
تارك دينى دنى مالك ملكت دنا
وعلمتني من تأويل الأحاديث (وبياموختى مرا از تعبير خوابها) ومن للتبعيض أيضاً لأنه لم يؤت علم كل التأويل على التفصيل وإن جاز أن يؤتى ملكته ، ويقال من هنا لإبانة الجنس لا للتبعيض.
قال ابن الكمال : الأحاديث مبنى على واحده المستعمل وهو الحديث ، كأنهم جمعوا حديثاً على أحدثة ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع واقطعه وأقاطيع ، والمراد بالأحاديث الرؤي جمع الرؤيا وتأويلها بيان ما تؤول هي إليه في الخارج وعلم التعبير من العلوم الجليلة لكنه ليس من لوزم النبوة والولاية ، فقد يعطيه الله بعض خواصه على التفصيل وبعضهم على
324
الإجمال.
فاطر السموات والأرض أي : خالقهما وموجدهما من العدم إلى الوجود.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان معنى الفاطر غير ظاهر لي إلى أن تقدم رجلان من العرب يدعى كل منهما الملكية في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأت حفرها فعرفت ذلك أنت وليي سيدي وأنا عبدك.
وقال الكاشفي : (تويى يا رمن ومتولى كارمن) أي القائم بأمري في الدنيا والآخرة (درين سراي ودران سراي) واعلم أن من عرض له حاجة فأراد أن يدعو فعليه أن يقدم الثناء على الله تعالى ولذا قدم يوسف عليه السلام الثناء ، ثم قال داعياً.
توفني مسلماً وهو طلب للوفاة على حال الإسلام لأنها تمام النعمة ونحوه ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران : 102) ويجوز أن يكون تمنيا للموت أي اقبضني إليك مخلصاً بتوحيدك.
قيل : ما تمنى الموت نبي قبله ولا بعده إلا هو.
وفي "المثنوى" :
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
إذا تم أمر دنا نقصه
توقع زوالا إذا قيل تم
فاسألِ الله الموت بحسن العاقبة.
(4/211)
قال الكاشفي (يوسف دررا بخواب ديدكه ميكويد اي يوسف بغايت مشاق لقاي توام بشتاب تاسه روز ديكر نزد من آيى يوسف از خواب در آمد وبرادرانرا طلبيد ووصيتها كرد ويهودا ولي عهد ساخته فرزندانرا بروسرد وبطريق مناجات كفت اي روردكار من) قد آتيتني من الملك أي أعطيتني بعضاً منه عظيماً وهو ملك مصر إذ لم يكن له ملك كل الدنيا.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده قدس سره : كان في وجود يوسف عليه السلام قابلية السلطنة وأما سلطان الأنبياء فقد أفنى جميع ما في ملك وجوده من جهة الأفعال والصفات فلم يبق شيء ، فظهر مكانه شيء لا يوصف بحيث وقع تجلى الذات فملكه وسلطانه لا يدانيه شيء ولذا لو قال أحد على وجه التحقير إنه كان فقيراً يكفر.
شمع سراجه أبيت اختر برج لو دنوت
تارك دينى دنى مالك ملكت دنا
وعلمتني من تأويل الأحاديث (وبياموختى مرا از تعبير خوابها) ومن للتبعيض أيضاً لأنه لم يؤت علم كل التأويل على التفصيل وإن جاز أن يؤتى ملكته ، ويقال من هنا لإبانة الجنس لا للتبعيض.
قال ابن الكمال : الأحاديث مبنى على واحده المستعمل وهو الحديث ، كأنهم جمعوا حديثاً على أحدثة ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع واقطعه وأقاطيع ، والمراد بالأحاديث الرؤي جمع الرؤيا وتأويلها بيان ما تؤول هي إليه في الخارج وعلم التعبير من العلوم الجليلة لكنه ليس من لوزم النبوة والولاية ، فقد يعطيه الله بعض خواصه على التفصيل وبعضهم على
324
الإجمال.
فاطر السموات والأرض أي : خالقهما وموجدهما من العدم إلى الوجود.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان معنى الفاطر غير ظاهر لي إلى أن تقدم رجلان من العرب يدعى كل منهما الملكية في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأت حفرها فعرفت ذلك أنت وليي سيدي وأنا عبدك.
وقال الكاشفي : (تويى يا رمن ومتولى كارمن) أي القائم بأمري في الدنيا والآخرة (درين سراي ودران سراي) واعلم أن من عرض له حاجة فأراد أن يدعو فعليه أن يقدم الثناء على الله تعالى ولذا قدم يوسف عليه السلام الثناء ، ثم قال داعياً.
توفني مسلماً وهو طلب للوفاة على حال الإسلام لأنها تمام النعمة ونحوه ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران : 102) ويجوز أن يكون تمنيا للموت أي اقبضني إليك مخلصاً بتوحيدك.
قيل : ما تمنى الموت نبي قبله ولا بعده إلا هو.
وفي "المثنوى" :
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
س رجال از نقل عالم شادمان
وزبقا اش شادمان اين كودكان
همنين باد اجل بر عارفان
نرم وخوش همون نسيم يوسفان
آتش إبراهيم را دندان نزد
ون كزيده حق بود ونش كزد
وفي الحديث : "الموت تحفة المؤمن" لأن الدنيا سجنه لا يزال منها في عناء بمقاساة نفسه ورياضتها في شهواتها ومدافعة شيطانه فالموت إطلاقه واستراحته ، كما قيل موت الأمراء فتنة وموت العلماء مصيبة وموت الأغنياء محنة ، وموت الفقراء راحة ، وفي الحديث : "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" ، وقالوا يا رسول الله كلنا نكره الموت قال : "ليس ذلك بكراهة للموت ولكن المؤمن إذا احتضر جاء البشير من الله بما يرجع إليه ، فليس شيء أحب إليه من لقاء الله فأحب الله لقاءه ، وإن الفاجر أو الكافر إذا احتضر جاءه النذير بما هو صائر إليه من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه" ومعنى محبة الله أفاضة فضله على المؤمن وإكثار العطايا له ومعنى كراهته تبعيد الكافر عن رحمته وإرادة نقمته.
وإنما دعا يوسف بهذا الدعاء وهو التوفي مسلماً ليقتدي به قومه ومن بعده ممن ليس بآمن على ختمه فلا يترك الدعاء امتثالاً له ، لأن ظواهر الأنبياء عليهم السلام كانت لنظر الأمم إليهم ليعلموا موضع الشكر من موضع الاستغفار.
{وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} أي بآبائي المرسلين في الجنة أو بعامة الصالحين في النعمة والكرامة وهو اسم للأنبياء لكمال حالهم واستجماع خصال الخير فيهم قال تعالى : وادخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين.
قال سعدي المفتي : فيه بحث فإن يوسف من أكابر الأنبياء والصلاح أول درجات المؤمنين فكيف يليق به أن يطلب اللحاق بمن هو في البداية ثم قال ويمكن أن يقال سبيله سبيل الاستغفار عن نبينا عليه السلام فإن أمثاله تصدر عن الأنبياء هضماً للنفس انتهى.
يقول الفقير : هذا معنى ساقط ذهول عن حقيقة الحال وكأنه ذهب بوهمه إلى ترتيب قوله تعالى : فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدقين والشهداء والصالحين}(النساء : 69) ولم يعرف أن مرتبة الصلاح مرتبة عظيمة جامعة لجميع المراتب ، فإن الصالح إذا ترقى من مقامه يسمى شهيداً ثم صديقاً ثم نبياً ويلزم منه أن لا يتصف الشهيد مثلاً بالصلاح ، فإن تسميته شهيداً إنما هي باعتبار صفة غالبة كتسمية الإنسان أميراً ثم وزيراً باعتبار تفاوت درجات
325
(4/212)
ولايته مع كونه إنساناً في نفسه ، فكما أن أرباب البداية يسمون صلحاء كذلك أصحاب النهاية بشهادة الله تعالى كما قال : {إِنَّهُم مِّنَ الصَّـالِحِينَ} (الأنبياء : 86) وقال : {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّـالِحِينَ} (الأعراف : 196) ووجهه أن النهاية هي الرجوع إلى البداية فالتوفى مسلماً إشارة إلى مرتبة الفناء في الله ، والإلحاق بالصالحين إشارة إلى مرتبة البقاء بالله فإن المعنى عند أهل الإشارة توفتني مسلماً أي افنى عني بك مستسلماً والحقني بالصالحين للبقاء بك بأن تغنيني عني وتبقيني ببقائك الأزلي الأبدي فافهم وفقك الله ـ ـ روى ـ ـ أن يوسف عليه السلام قص رؤياه المذكورة كما نقل عن الكاشفي على زليخا ودعا بهذا الدعاء فعلمت أن الله يقبل دعاءه وأن الأمر يصير إلى الفرقة بعد الوصلة فبكت وقالت إلهي :
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
ندارم طاقت هجران يوسف
زتن كش جان من باجان يوسف
بقاثون وفانيكو نباشد
كه من باشم بدنيا اونباشد
وكر بامن نسازى همره اورا
مرا بيرون براول آنكه اورا
بديكر اوز يوسف بامدادان
كه شد دلها زفيض صبح شاذان
ببر كرده لباس شهرياري
برون آمد بآهنك سوازي
و ا دريك ركاب آورد جبريل
بدو كفتا مكن زين بش تعجيل
امان نبود زرخ عمر فرساي
كه سايد درركاب ديكرت اي
عنان بكسل زآمال اماني
بكش ا از ركاب زندكاني
و يوسف اين بشارت كرد ازوكوش
زشادى شد بروهستى فراموش
زشاهى دامن همت بر افشاند
يكى از وارثان ملك برخواند
بجاي خودشه آن مر زكردش
بخصلتهاي نيك اندر زكردش
دكر كفتار زليخارا بخوانيد
بميعاد وداع من رسانيد
بكفتند او زدست غم زبونست
فتاده درميان خاك وخونست
ندارد طاقت اين باد جانش
بحال خويش بكذار آنجنانش
بكف جبريل حاضر داشت سيبى
كه باغ خلد ازان ميداشت زيبى
و يوسف را بدست آن سيب بنهاد
روان آن سيب را بوييدو جان داد
و يوسف را ازان بوجان بر آمد
زجان حاضران افغان بر آمد
زليخا كفت اين سوز وفغان يست
راز غوغا زمين وآسمان يست
بدو كفتند كان شاه جوان بخت
بسوى تخته رو كرد از سر تخت
وداع كلبه تنك جهان كرد
وطن بر اوج كاخ لامكان كرد
زهول اين سخن آن سرو الاك
سه روز افتاد همون سايه بر خاك
و ارم روز شد زان خواب بيدار
سماع آن زخود بر دش دكر بار
سه باراينسان سه روز از خود همي رفت
بداغ سينه سوز خود همي رفت
هارم بار ون آمد بخود باز
ز يوسف كرد اول رسش آغاز
جز اين ازوى خبر بازش ندادند
كه همون كنج درخاكش نهادند
326
بيك جنيش ازين اندوه خانه
بر حلت كاه يوسف شد روانه
كهى فرقش همي بوسيدو كه اي
فغان ميزد زدل كاي واي من واي
فرو رفته توهمون آب در خاك
به بيرون مانده من ون خار وخاشاك
و درد وحسرتش از حد برون شد
برسم خاك بوسى سر نكون شد
بشمان خود انكشتان در آورد
دو نركس را زنركسدان بر آورد
بخاك وى فكند از كاسه سر
كه نركس كاشتن درخاك بهتر
بخاكش روى خو آلوده بنهاد
بمسكيني زمين بوسيد وجان داد
خوش آن عاشق كه در هجران نان مرد
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
بخلوتكاه جانان جان نان برد
نخست از غير جانان ديده بركند
وزان س نقد جان برخا كش افكند
هزاران فيض بر جان وتنش باد
بجانان ديده جان روشنش باد
حريفان حال اورا ون بديدند
فغان وناله بر كردون كشيدند
ز كرد فرقتش رخ اك كردند
بجنب يوسفش درخاك كرند
وقال في "القصص" : ماتت زليخا قبله فحزن عليها ولم يتزوج بعدها ولما دنت وفاة يوسف وصى إلى ولده افراييم أن يسوس الناس ، وقال : إن يوسف خرج بأهله وأولاده وأخوته ومن آمن معه من مصر ونزل عليه جبريل فخرق له من النيل خليجا إلى الفيوم ولحق به كثير من الناس وبنوا هناك مدينتين وسموهما الحرمين ، فكان يوسف هناك سنين إلى أن مات فتخاصم المصريون في مدفنه من جانبي النيل كل طائفة أرادت أن يدفن يوسف في جانبه وسمته تبركاً بقبره الشريف وجلبا للخصب حتى هموا بالقتال ، ثم تصالحوا على أن يدفن سنة في جانب مصر وسنة في جانب آخر من البدو ، فدفن في الجانب المصري فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر من البدو ثم نقل إلى الجانب البدوي فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر المصري ، ثم اتفقوا على دفنه في وسط النيل ، وقدروا ذلك بسلسلة وعملوا له صندوقاً من مرمر.
شكاف سنك قيرانداى كردند
ميان قعر نيلش جاي كردند
يكى شد غرق بحر آشنايي
يكى لب تشنه در بر جدايي
به بين حيله كه رخ بي وفاكرد
كه بعد مركش از يوسف جدا كرد
نمى دانم كه با يشان ه كين داشت
كه زير خاكشان آسوده نكذاشت
(4/213)
وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال : إن الله تعالى حين أمر موسى عليه السلام بالسير ببني إسرائيل أمره أن يحمل معه عظام يوسف وأن لا يخلفها بأرض مصر وإن يسير بها حتى يضعها في الأرض المقدسة أي وفاء بما أوصى به يوسف ، فقد ذكر أنه لما أدركته الوفاة أوصى أن يحمل إلى مقابر آبائه فمنع أهل مصر أوليائه من ذلك ، فسأل موسى عمن يعرف موضع قبر يوسف فما وجد أحداً يعرفه إلا عجوزاً في بني إسرائيل فقالت له يا نبي الله أنا أعرف مكانه وأدلك عليه إن أنت أخرجتني معك ولم تخلفني بأرض مصر قال افعل ، وفي لفظ أنها قالت أكون معك في الجنة فكأنه ثقل عليه ذلك فقيل له : أعطها طلبتها فأعطاها وقد كان موسى وعد بني إسرائيل
327
أن يسير بهم إذا طلع القمر فدعا ربه أن يؤخر طلوع القمر حتى يفرغ من أمر يوسف ففعل فخرجت به العجوز حتى أرته إياه في ناحية من النيل.
وفي لفظ في مستنقعة ماء أي وتلك المستنقعة في ناحية من النيل فقالت لهم : انضبوا عنها الماء أي ارفعوه عنها ففعلوا فقالت : احفروا فحفروا وأخرجوه.
وفي لفظ أنها انتهت به إلى عمود على شاطىء النيل ، أي في ناحية منه فلا يخالفه ما سبق في أصله سكة من حديد فيها سلسلة ، ويجوز أن يكون حفرهم الواقع في تلك الرواية كان على إظهار تلك السلسلة فلا مخالفة ، ووجده في صندوق من حديد في وسط النيل في الماء استخرجه موسى وهو في صندوق من مرمر أي داخل ذلك الصندوق الذي من الحديد فاحتمله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
وفي "أنيس الجليس" أن موسى جاءه شيخ له ثلاثمائة سنة فقال له يا نبي الله ما يعرف قبر يوسف إلا والدتي فقال له موسى : قم معي إلى والدتك فقام الرجل ودخل منزله وأتى بقفة فيها والدته فقال لها : ألك علم بقبر يوسف قالت نعم ولا أدلك على قبره إلا أن دعوت الله أن يرد عليّ شبابي إلى سبع عشرة سنة ويزيد في عمري مثل ما مضى فدعا موسى لها وقال لها كم عمرك قالت تسعمائة سنة فعاشت الفا وثمانمائة سنة فأرته قبر يوسف وكان في وسط نيل مصر ليمر النيل عليه فيصل إلى جميع مصر فيكونوا شركاء في بركته فاخصب الجانبان وكان بين دخول يوسف مصر إلى يوم خروج موسى أربعمائة سنة وهو أي يوسف أول نبيّ من بني إسرائيل.
قال في "بحر العلوم" ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم تزل بنوا إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه إلى أن بعث الله موسى فنجاهم من الفراعنة بعونه وتيسيره.
وعن عمر بن عبد العزيز أن ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت فقال : صنع الله على يديك خيراً كثيراً أحييت سنناً وأمت بدعاً ، وفي حياتك خير وراحة للمسلمين ، فقال : أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقر الله عينه وجمع له أمره قال توفني مسلماً وألحقني بالصالحين.
كرت ملك جهان زير نكين است
بآخر جاي تو زير زمين است
جزء : 4 رقم الصفحة : 319
{ذَالِكَ} المذكور من نبأ يوسف يا محمد من أنباء الغيب من الأخبار التي غاب عنك علمها نوحيه إليك على لسان جبريل وهو خبر ثانٍ لقوله : ذلك.
وما كنت حاضراً لديهم أي : عند أخوة يوسف إذ أجمعوا أمرهم حين عزموا على إلقائه في غيابة الجب فإن الإجماع العزم على الأمر يقال أجمعت الأمر وعليه وهم يمكرون به وبابيه ليرسله معهم وإنما نفى الحضور وانتفاؤه معلوم بغير شبهة تهكماً بالمنكرين للوحي من قريش وغيرهم لأنه كان معلوماً عند المكذبين علماً يقيناً أنه عليه السلام ليس من جملة هذا الحديث وأشباهه ولا قرأ على أحد ولاسمع منه ، وليس من علم قومه فإذا أخبر به لم يبق شبهة في أنه من جهة الوحي لا من عنده فإذا أنكروه تهكم بهم.
وقيل لهم قد علمتم يا مكابرين أنه لا سماع له من أحد ولا قراءة ولا حضور ولا مشاهدة لمن مضى من القرون الخالية روي أن كفار قريش وجماعة من اليهود سألوا رسول الله عن قصة يوسف على سبيل التعنت ، فلما أخبرهم على موافقة التوراة لم يسلموا فحزن النبي عليه السلام فعزاه الله بقوله :
وما أكثر الناس عام لأهل مكة وغيرهم.
ولو حرصت على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات لهم ،
328
والحرص طلب شيء باجتهاد في إصابته بمؤمنين لعنادهم وتصميمهم على الكفر وهذا في الحقيقة من أسرار القدر ؛ لأن عدم إيمانهم من مقتضيات استعداداتهم الأزلية الغير المجعولة وأحوال أعيانهم الثابتة.
فإن قلت : فما فائدة التكليف والأمر بما يعلم عدم وقوعه؟
قلت : فائدته تمييز من له استعداد ذلك لتظهر السعادة والشقاوة وأهلهما.
فإن قلت : لم كان الكفرة أكثر مع أن الله تعالى خلق الخلق للعبادة.
قلت : المقصود ظهور الإنسان الكامل وهو واحد كألف.
جزء : 4 رقم الصفحة : 328
(4/214)
{وَمَا تَسْـاَلُهُمْ عَلَيْهِ} أي على الإنباء والإرشاد بالقرآن من أجر مال يعطونك كما يفعله حملة الأخبار والمراد إنا أرخينا العلة في التكذيب حيث بعثناك مبلغاً بلا أجر إن هو أي ما القرآن إلا ذكر عظة من الله وانذار للعالمين عامة بعثاً لهم على طلب النجاة.
وفيه إشارة إلى أن الدعوة والإرشاد وسائر أفعال الخير لا يطلب فيها المنفعة من الناس فإنهاتعالى ، وما كانلا يجوز أن يشوبه شيء من أعراض الدنيا والآخرة.
وفي المثنوى :
عاشقا نرا شادماني وغم اوست
دست مزدو اجرت خدمت هم اوست
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن اللاهوتية غير محتاجة إلى الناسوتية وإن دعتها إلى الاستكمال لأنها كاملة في ذاتها مكملة لغيرها.
وكأين قال المولى الجامي في شرح الكافية من الكناية كأين وإنما بني لان كاف التشبيه دخلت على أي ، وأي كان معرباً لكنه انمحى عن الجزءين معناهما الإفرادي فصار المجموع كاسم مفرد ، بمعنى كم الخبرية فصار كأنه اسم مبني على السكون آخره نون ساكنة كما في من لا تنوين تمكن ، ولهذا يكتب بعد الياء نون مع أن نون التنوين لا صورة لها في الخط.
اه من آية أي : كثير من الآيات الدالة على وجود الصانع وتوحيده وصفاته من العلم والقدرة وغير ذلك في السموات والأرض صفة آية كالشمس والقمر والنجوم والمطر والشجر والدواب والبحار والأنهار يمرون عليها خبر كأين أي يمرون على الآيات ويشاهدونها وهم عنها معرضون لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها والقرآن هو المبين لتلك الآيات فمن لم يكن متصفاً باخلاقه إذا قرأ القرآن ناداه الله ما لك ولكلامي؟ وأنت معرض عني دع عنك كلامي إن لم تتب إليّ ، ولما سمع المشركون قوله وكأين من آية الآية قالوا إنا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء فانزل الله.
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون حيث يثبت له شريكاً في المعبودية تقول العرب في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك ، ويقول أهل مكة الله ربنا وحده لا شريك له والملائكة بناته فلم يوحدوه بل اشركوا ويقول عبدة الأصنام : الله ربنا وحده والأصنام شركاؤه في استحقاق العبادة ، وقالت اليهود ربنا الله وحده وعزيز ابن الله ، وقالت النصارى ربنا الله وحده والمسيح ابنه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 329
وفي التأويلات وما يؤمن أكثرهم أكثر الخلق بالله وطلبه إلا وهم مشركون برؤية الإيمان والطلب إنهما منهم لا من الله فإن من يرى السبب فهو مشرك ومن يرى المسبب فهو موحد وإن كل شيء هالك في نظر الموحد إلا وجهه انتهى.
ولما دخل الواسطي نيسابور سأل أصحاب الشيخ أبي عثمان المغربي بم يأمركم شيخكم؟ قالوا : يأمرنا بالتزام الطاعة ورؤية التقصير عنها ، فقال : أمركم
329
بالمجوسية المحضة هلا أمركم بالغيبة عنها بشهود منشأها ومجراها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 329
{أَفَأَمِنُوا} يعني : المشركون أن تأتيهم غاشية من عذاب الله عقوبة تغشاهم وتشملهم.
أو تأتيهم الساعة بغتة مصدر في موضع الحال بالفارسية (ناكاه) أي فجأة من غير سابقة علامة وهم لا يشعرون باتيانها غير مستعدين لها.
فإن قيل : أما يؤّدي قوله بغتة مؤدّى قوله وهم لا يشعرون فيستغنى عنه.
قيل : لا فإن معنى قوله وهم لا يشعرون وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم كقوله تأخذهم وهم يخصمون ، وفي الحديث : موت الفجأ أخذة أسف بكسر السين أي غضبان ، يعني : موت الفجأة أثر غضب الله على العبد ، والفجاءة بالمد مع الضم وبالقصر مع فتح الفاء هي البغتة دون تقدم مرض ولا سبب ، وفي الحديث : أكره موتاً كموت الحمار قيل : وما موت الحمار قال : موت الفجأة وإنما كره لئلا يلقي المؤمن ربه على غفلة من غير أن يقدم لنفسه عذراً ويجدد توبة ويرد مظالمه وروي أن إبراهيم وداود وسليمان عليهم السلام ماتوا فجأة ، ويقال إنه موت الصالحين وحمل الجمهور الأول على من له تعلقات يحتاج إلى الإيصاء أما المنقطعون المستعدون فإنه تخفيف ورفق بهم ، كذا في شرح الترغيب المسمى بالفتح القريب.
ذكر بعض السلف أن الخضر عليه السلام هو الذي يقتل الذين يموتون فجأة كما في إنسان العيون.
قال في التأويلات النجمية وفي الحقيقة يشير بالساعة إلى عشق ومحبة من الله بلا سبب من الأسباب وقيل العشق عذاب الله والعشق أخص من المحبة لأنه محبة مفرطة والعشق عبارة عن هيجان القلب عند ذكر المحبوب والشوق عبارة عن انزعاج القلب إلى لقاء المحبوب.
وقال حكيم : الشوق نور شجرة المحبة والعشق ثمرتها.
وقال بعض أهل الرياضة : الشوق في قلب المحب كالفتيل في المصباح والعشق كالدهن.
قال المولى الجامي :
اسير عشق شو كآزاد باشي
غمش برسينه نه تاشاد باشي
نى عشقت دهد كرمى وهستى
ذكر افسردكى وخود رستى
(4/215)
قل هذه سبيلي أي : هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي أي طريقي وهما يذكران ويؤنثان ، ثم فسرها بقوله : ادعو إلى الله إلى دينه وطاعته وثوابه الموعود يوم البعث على بصيرة بيان وحجة بصيرة أي واضحة مرشدة إلى المطلوب فإن الدليل إذا كان بصيراً يتمكن من الإرشاد والهداية بخلاف ما إذا كان أعمى.
أنا تأكيد للمستتر في ادعو ومن اتبعني عطف عليه أي ادعو إليه إنا ويدعوا إليه من اتبعني وسبحان الله اسم من التسبيح منصوب بفعل مضمر وهو اسبح ، أي أسبح الله تسبيحاً ، أي انزهه تنزيهاً من الشركاء.
وما أنا من المشركين عطف على وسبحان الله عطف الجملة على الجملة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 330
وفي نفائس المجالس قل هذه سبيلي أي الدعوة إلى التوحيد الذاتي طريقي المخصوصة بي ثم فسر السبيل بقوله ادعو إلى الله إلى الذات الأحدية الموصوفة بجميع الصفات على بصيرة أنا ومن اتبعني فكل من يدعو إلى ذلك السبيل فهو من أتباعي.
قال في المثنوى :
اين نين فرمود آن شاه رسل
كه منم كشتى درين درياي كل
با كسى كودر بصيرتهاى من
شد خليفه راستي برجاي من
330
كشتى نوحيم در درياكه نا
رو نكرداني زكشتى اي فتا
وكان الأنبياء قبله عليه السلام يدعون إلى المبدأ والمعاد وإلى الذات الواحدية الموصوفة ببعض الصفات الإلهية إلا إبراهيم عليه السلام فإنه قطب التوحيد ولذا أمر الله نبينا عليه السلام باتباعه بقوله : ثم أوحينا إليك إن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً}(النحل : 123) فهو من أتباع إبراهيم باعتبار الجمع دون التفصيل ، إذ لا متمم لتفاصيل الصفات إلا هو ولذا لم يكن غيره خاتماً.
{وَسُبْحَـانَ اللَّهِ} أنزهه عن اشتراك الغير ، بل هو الداعي إلى ذاته.
وإما أنا من المشركين المثبتين للغير في مقام التوحيد.
قال بعضهم : الداعي إلى الله يدعو الخلق به والداعي إلى سبيله يدعوهم بنفسه ولذلك كثرت الإجابة إلى الثاني لمشاركته الطبع ، ثم الاتباع شامل للاتباع على الظاهر كما هو حال العامة وللاتباع على الحقيقة كما هو حال الخاصة ، ولا سبيل إلى الدعوة على بصيرة إلا بعد الاتباع قولاً وفعلاً وحالاً ، وهو النتيجة من الاتباع على الظاهر حكي أن فقيهاً قصد إلى زيارة أبي مسلم المغربي فسمعه يلحن في القرآن فقال في نفسه : قد ضاع سعيي ثم سلط أسدين على الفقيه حين خرج للوضوء وقت التهجد فهرب وصاح ودفعهما أبو مسلم ثم قال للفقيه : إن كنت لحنت في القرآن فقد لحنت في الإيمان فنحن نسعى في تصحيح الباطن فيخاف منا المخلوق وأنتم تسعون في الظاهر فتخافون الخلق وحكي أن ابن الرشيد اختار البقاء على الفناء فعيره أبوه يوماً وقال لحقني العار منك بين الملوك فدعا طيراً فأجابه ثم قال لأبيه ادع أنت فدعاه فلم يجب فقال لحقني العاربين أولياء الله لأنك كنت أسير الدنيا ، والبصيرة قوة للقلب المنور بنور القدس يرى بها حقائق الأشياء وبواطنها بمثابة البصر للنفس يرى به صور الأشياء وظواهرها وهي التي يسميها الحكماء العاقلة النظرية ، والقوة القدسية ، وجميع قلوب بني آدم في الأصل مائلة للبصيرة بحسب الفطرة لكنها لاشتغالها بالذات والشهوات والإعراض عن الطاعات والعبادات أظلمت وبنور البصيرة والتوفيق آمنت بلقيس وسحرة فرعون ونحوهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 330
واعلم أن اتباع الرسول باب النجاة وطريق السعادة العظمى.
قال سهل : محب الله على الحقيقة يكون اقتداؤه في أحواله وأقواله وأفعاله بالنبي عليه السلام.
قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده قدس سره سأل أمام إبراهيم اشا مني يوماً عن تأويلات السلمى لأجل الأذية فقلت له نخلي ذلك فإننا لسنا من أهله ولكن نفتح المثنوى بنيتك ففتحت فجاء.
رهو و راه طريقت اين بود
كاو باحكام شريعت ميرود
فتعجب المرحوم وترك الإنكار بعد ذلك على أولياء الله تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 330
[الكهف : 37]{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا} لأ ملائكة ، فهو رد لقولهم لو شاء ربنا لا نزل ملائكة قالوا ذلك تعجباً وإنكاراً لنبوته فقال تعالى كيف يتعجبون من إرسالنا إياك والحال أن من قبلك من الرسل كانوا على مثل حالك لأن الاستفاضة منوطة بالجنسية ، وبين البشر والملك مباينة من جهة اللطافة والكثافة ولو أرسل ملك لكان في صورة البشر كما قال تعالى : ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً}(الأنعام : 9) وقس عليه الجن فلا يكون من الجن رسول إلى البشر ، وفي عبارة الرجال دلالة على أن الله تعالى ما بعث رسولاً إلى الخلق من النسوان ، لأن مبنى حالهن على التستر ومنتهى كمالهن هي الصديقية لا النبوة ، فمنها آسية
331
ومريم وخديجة وفاطمة وعائشة رضي الله عنهن أجمعين.
قال الكاشفي : (ودر باب سجاح كاهنه كه دعوى نبوت مي كرده كفته اند)
أصحت نبيتنا أنثى نطوف بها
ولم تزل أنبياء الله ذكرانا
(4/216)
{نُّوحِى إِلَيْهِم} على لسان الملك كما نوحي إليك.
من أهل القرى من أهل الأمصار دون أهل البوادي لغلبة الجهل والقسوة والجفاء عليهم.
والمراد بالقرية الحضر خلاف البادية فتشمل المصر الجامع وغيره ، أي ما يسمى بالفارسية (ده وشهر) لكنه فرق كثير بين المصر الجامع وغيره ، ولذا قال عليه السلام : لا تسكنوا الكفور فإن ساكني الكفور ساكنوا القبور والكفور القرى واحدها كفر يريد بها القرى النائية البعيدة عن الأمصار ومجتمع أهل العلم لكون الجهل عليهم أغلب وهم إلى التبدع أسرع.
وفي المثنوى :
ده مرو ده مر درا أحمق كند
عقل را بي نور وبي رونق كند
قول بيغمبر شنو أي مجتبى
كور عقل آمد وطن درروستا
هركه دررستابود روزى وشام
تا بماهى عقل او نبود تمام
جزء : 4 رقم الصفحة : 331
تابماهى احمقي با او بود
ازحشيش ده جزاينها ه درود
وانكه ماهى باشد اندر روستا
روز كارى باشدش جهل وعمى
فإن قيل : فما تقول في قوله تعالى : وجاء بكم من البدو.
قلنا لم يكن يعقوب وبنوه من أهل البادية بل خرجوا إليها لمواشيهم.
وفي التأويلات النجمية إن الرسالة لا تستحقها إلا الرجال البالغون المستعدون للوحي من أهل قرى الملكوت والأرواح لا من أهل المدائن الملك والأجساد ولذا قيل الرجال من القرى انتهى.
وفي المثنوى :
ده ه باشد شيخ واصل ناشده
دست در تقليد درحجت زده
يش شهر عقل كلي اين حواس
ون خران شم بسته در خراس
أفلم يسيروا في الأرض آياسير نمى كنند كافران درزمين شام ويمن وبرديار عادو تمود نميكذرند يعني بايدكه بكذرند) فينظروا (س به بينند بنظر عبرت).
كيف كان (ه كونه بود) عاقبة الذين من قبلهم من المشركين المكذبين الذين أهلكوا بشؤم إشراكهم وتكذيبهم فيحذروهم وينتهوا عنهم وإلا يحيق بهم مثل ما حاق بهم لأن التماثل في الأسباب يوجب التماثل في المسببات ولدار الآخرة (وهر آيينه سراي آخرت يعني بهشت ونعمت او) وهو من إضافة الموصوف إلى صفته واصله وللدار الآخرة ، كما في قوله تعالى تلك الدار الآخرة}(القصص : 83) (خير بهتراست از لذات فانيه دنيا) {لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} تستعملون عقولكم لتعرفوا إنها خير.
ه نسبت اه سفلى را بنزهتكا روحاني
ه ماند كلخن تيره بكاشنهاى سلطاني
روى أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم ، قالوا : ومن الموتى قال الراغبون في الدنيا والمحبون لها.
وقال بعض الصحابة رضي الله عنهم لصدر التابعين : إنكم أكثر أعمالاً واجتهاداً من أصحاب رسول الله وهم كانوا خيراً منكم ، قيل ولم ذاك؟
332
قال كانوا ازهد منكم في الدنيا وأرغب في الآخرة.
حتى إذا استيأس الرسل حتى غاية محذوف دل عليه الكلام أي لا يغررهم تمادي أيامهم ، فإن من قبلهم امهلوا حتى أيس الرسل من النصر عليهم في الدنيا أو من إيمانهم لانهماكهم في الكفر مترفهين متمادين فيه من غير رادع.
وظنوا أنهم قد كذبوا بتخفيف الذال وبناء الفعل للمفعول ، والمكذوب من كان مخاطباً بالكلام الغير المطابق للواقع حتى ألقى خبر كاذب ، والمعنى وظنوا أنهم قد كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما وظنوا حين ضعفوا وغلبوا إنهم قد اخلفوا ما وعدهم الله من النصر ، وقال كانوا بشراً وتلا قوله : وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله فأراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية دون ترجح أحد الجائزين على الآخر ، لأن ذلك غير جائز على المسلمين فما بال رسل الله الذين هم أعرف الخلق بربهم وإنه متعال عن خلف الميعاد جاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب ، والمعنى أن زمان الإمهال قد تطاول عليهم حتى توهموا أن لا نصر لهم في الدنيا فجاءهم نصرنا بغتة بغير سبق علامة.
فنجى بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء.
من نشاء قائم مقام الفعل وهم الأنبياء والمؤمنون التابعون لهم ، وإنما لم يعينهم للدلالة على أنهم الذين يستأهلون أن شأن نجاتهم لا يشاركهم فيه غيرهم ولا يرد بأسنا عذابنا عن القوم المجرمين إذا نزل بهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 331
قال في التأويلات النجمية : وفي قوله تعالى : إذا استيأس الرسول وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء إشارة إلى أن النصر كان للرسل منجياً من الابتلاء وللأمم المكذبة مهلكاً بالعذاب ، ثم أكد هذا المعنى بقوله : ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين أي المكذبين.
والمعنى ويرد بأسنا عن القوم المطيعين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 331
{لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ} الضمير للرسل وأممهم أي أخبارهم.
وقرىء بكسر القاف جمع قصة.
عبرة اسم من الاعتبار وهو الاتعاظ حقيقته تتبع الشيء بالتأمل لأولي الألباب لذوي العقول المبرأة من شوائب الإلف والركون إلى الحس.
(4/217)
قال في بحر العلوم : أي عظة يتعظ بها ذووا العقول بعدهم فلا يجترئون على نحو ما أخبر هؤلاء من أسباب بأس الله والإهلاك بل يجتنبون عن مثلها ، لأنهم إن أتوا بمثلها يترتب على فعلهم مثل ذلك الجزاء ويسعون في أسباب النصرة والنجاة إذا سمعوا بحال الأمم الماضية وهوأنهم على الله.
والحاصل أن في قصص أخوة يوسف فكرة وتدبرا لأولى الألباب وذلك أن من قدر على اعزاز يوسف وتمليكه مصر بعد ما كان عبداً لبعض أهلها قادر على أنيعز محمداً وينصره.
قال الكاشفي : (سلمى از جعفر صادق نقل ميكند كه مراد از أولى الألباب أرباب اسرارست س اعتبار ازين قصها أرباب أسرار باشد وحقائق الكلام در آيينه دل بي غل ايشان روى نمايد)
ولى در يابد أسرار معاني
كه روشن شد بنور جاوداني
ما كان القرآن وما ذكر فيه حديثاً يفترى يتقوله بشر ولكن تصديق الذي بين يديه أي ولكن كان تصديق ما تقدمه من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء ودليل صحتها ؛ لأنه معجزة وتلك ليست بمعجزات فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها افتقار المجتمع
333
عليه إلى شهادة الحجة.
وتفصيل كل شيء وتبيين كل شيء من أمور الدين لاستنادها كلها إليه على التفصيل أو الإجمال إذ ما من أمر منها إلا وهو مبتنى على الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس والثلاثة الأخيرة مستندة إليه بوسط أو بغير وسط.
وهدى من الضلالة ورحمة من العذاب لقوم يؤمنون من آمن وأيقن وانتصاب الأربعة بعد لكن للعطف على خبر كان.
واعلم أن القرآن جامع لجميع المراتب ، ففيه تفصيل ظاهر الدين وباطنه.
فالأول للمؤمن بالإيمان الرسمي البرهاني ، والثاني للمؤمن بالإيمان الحقيقي العياني ، وأيضاً هو هدى على العموم والخصوص ورحمة من عذاب جهنم وعذاب الفرقة والقطيعة ، فإن من اهتدى إلى أنواره واطلع على أسراره دخل جنة الذوق والحضور والشهود وأمن من بلاء البشرية والوجود ولله تعالى عباد ، لهم تجلى حقائق الآفاق ثم تجلى حقائق الأنفس ثم تجلى حقائق القرآن ، فهذه نسخ ثلاث لا بد للواصل من تلاوة آياته وأصل تلك النسخ الثلاثة ومبدأها نسخة حقائق الرحمن وإلى تلك النسخ الأربع الإشارة بالكتب الأربعة الإلهية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 333
فعلى العاقل أن يتعظ بمواعظ القرآن ، ويهتدي إلى حقائقه ، ويتخلق بأخلاقه ، ولا يقتصر على تلاوة نظمه وأنشد ذو النون المصري.
منع القرآن بوعده ووعيده
مقل العيون بليلها لا تهجع
فهموا عن الملك العظيم كلامه
فهما تذل له الرقاب وتخضع
اللهم اجعل القرآن خلق الجنان وسائر الأركان
جزء : 4 رقم الصفحة : 333(4/218)
تفسير سورة الرعد
وهي مدنية وقيل مكية إلا قوله : ولا يزال الذين
كفروا وقوله : ويقول الذين كفروا وآيها خمس وأربعون
جزء : 4 رقم الصفحة : 333
المر في كلام الشيخ محيي الدين بن العربي قدس سره في قوله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن الشعر محل للإجمال واللغز والتورية ، أي وما رمزنا لمحمد شيئاً ولا لغزنا ولا خاطبناه بشيء ونحن نريد شيئاً ، ولا أجملنا له الخطاب حيث لم يفهمه وأطال في ذلك ، وهل يشكل على ذلك الحروف المقطعة في أوائل السور ولعله رضي الله عنه لا يرى أن ذلك من المتشابه أو أن المتشابه ليس مما استأثر الله بعلمه كذا في إنسان العيون.
قال ابن عباس : معناه أنا الله أعلم وأرى ما لا يعلم الخلق وما لا يرى من فوق العرش إلى ما تحت الثرى ، فتكون الألف واللام مختصرتين من أنا الله الدالين على الذات والميم والراء من أعلم وارى الدالين على الصفة.
وقال الكاشفي : (الف آلاي اوست ولام لطف بي منتهاي أو وميم ملك بي زوال وراء رأفت بركمال) فتكون كل واحدة منها مختصرة من الكلمات الدالة على الصفات الإلهية.
وفي التبيان الألف الله واللام جبريل والميم محمد والراء الرسل ، أي : أنا الله الذي أرسل جبريل إلى محمد بالقرآن وإلى الرسل بغيره من الكتب الإلهية والصحف الربانية.
وقال ابن
334
الشيخ : الظاهر أن المر مستقل والتقدير هذه السورة مسماة بألمر تلك أي آيات هذه السورة آيات الكتاب أي القرآن.
وفي التأويلات إن حروف المر آيات القرآن.
فبالألف يشير إلى قوله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم}(البقرة : 255) الآية.
وباللام يشير إلى قوله : {لَّه مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} (الزمر : 63) وبالميم إلى قوله : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة : 4) وبالراء إلى قوله : {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} (الزخرف : 82) كما أن ق إشارة إلى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (ا"خلاص : 1) وهو مرتبة الأحدية التي هي التعين الأول.
وص إشارة إلى {اللَّهُ الصَّمَدُ} (الإخلاص : 2) وهو مرتبة الصمدية التي هي التعين الثاني {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} (الصافات : 10) إشارة إلى التعينات التابعة له {وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} أي : القرآن وهو مبتدأ خبره قوله الحق ليس كما يقول المشركون إنك تأتي به من قبل نفسك باطلاً فالإيمان به والعمل بأحكامه واجب فمن اعتصم به وهو حبل الله ينجيه من الأسفل الذي هبط إليه بقوله : اهبطوا منها}(البقرة : 38).
جزء : 4 رقم الصفحة : 334
واعلم أن المنزل من عند الله أعم من الحكم المنزل صريحاً كالأحكام الثابتة بصريح نص القرآن ومن الحكم المنزل ضمناً كالتي تثبت بالسنة والإجماع والقياس فالكل حق {وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} بالقرآن ويجحدون بحقيته وأنه حبل من الله يوصل المعتصم به إليه ، لإفراطهم في العناد ، وخروجهم عن طريق السداد ، وعدم تفكرهم في معانيه وإحاطتهم بما فيه ، وكفرهم به لا ينافي كونه حقاً منزلاً من عند الله تعالى فإن الشمس شمس وإن لم يرها الضرير والشهد شهد وإن لم يجد طعمه المرور والتربية إنما تفيد المستعد والقابل دون المنكر والباطل.
قال المولى الجامي :
هي سودى نكند تر بيت نا قابل
كره بر تر نهى از خلق جهان مقدارش
سبز وخرم نشود از نم باران هركز
خار خشكى كه نشاني بسر ديوارش
ثم بين دلائل ربوبيته واحديته بقوله :
جزء : 4 رقم الصفحة : 334
{اللَّهِ} مبتدأ خبره قوله : الذي رفع السموات خلقها مرفوعة بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة عام لا أن تكون موضوعة فرفعها.
بغير عمد بالفتح جمع عماد أو عمودو هو بالفارسية (استون) حال من السموات ، أي رفعها خالية من عمد وأساطين ترونها الضمير راجع إلى عمد والجملة صفة لها ، أي خالية من عمد مرئية وانتفاء العمد المرئية يحتمل أن يكون لانتفاء العمد والرؤية جميعاً ، أي لا عمد لها فلا ترى ، ويحتمل أن يكون لانتفاء الرؤية فقط بأن يكون لها عماد غير مرئي وهو القدرة ، فإنه تعالى يمسكها مرفوعة بقدرته فكأنها عماد لها ، أو العدل ، لأن بالعدل قامت السموات ، أي العلويات والسفليات.
آسمان وزمين بعدل باست
شد زشاهان بغير عدل نخاست
كر نباشد ستون خيمه بجاي
كي بود خيمه بي ستون براي
ويجوز أن يكون ترونها جملة مستأنفة فالضمير راجع إلى السموات ، كأنه قيل ما الدليل على أن السموات مرفوعة بغير عمد فأجيب بأنكم ترونها غير معمودة ثم استوى على العرش ثم لبيان تفاضل الخلقن وتفاوتهما ، فإن العرش أفضل من السموات ، لا للتراخي في الوقت لتقدمه عليها والاستواء في اللغة بالفارسية (راست بيستادن) والعرش سرير الملك وهو هنا مخلوق عظيم موجود
335
هو أعظم المخلوقات وتحته الماء العذب كما قال تعالى : وكان عرشه على الماء}(هود : 7) وهو بحر عظيم لا يعلم مقدار عظمته إلا الله ، والمعنى على ما في "بحر العلوم" ثم أوفى على العرش يقال أوفى على الشيء إذا أشرف عليه أي اطلع عليه من فوق ، وفي الحديث : "إن الله كبس عرصة جنة الفردوس بيده ثم بناها لبنة من ذهب مصفى ولبنة من مسك مذرى ، وغرس فيها من كل طيب الفاكهة وطيب الريحان وفجر فيها أنهارها ثم أو في ربنا على عرشه فنظر إليها فقال وعزتي وجلالي لا يدخلك مدمن خمر ، ولا مصرّ على زنى ، ولا ديوث ، ولاقتات ، ولاقلاع ، ولا جياف ، ولا ختار".
جزء : 4 رقم الصفحة : 335
وقال البيضاوي : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} بالحفظ والتدبير فالاستواء على العرش عبارة عن الاستيلاء على الملك والتصرف فيما رفعه بلا عمد ، يقال : استوى فلان على العرش إذا ملك وإن لم يقعد عليه البتة.(4/219)
قال ابن الشيخ : الظاهر أن كلمة ثم لمجرد العطف والترتيب مع قطع النظر عن معنى التراخي ، لأن استيلاءه تعالى على التصرف فيما رفعه ، ليس بمتراخ عن رفعه والتحقيق أن المراد بهذا الاستواء استواؤه سبحانه لكن لا باعتبار نفسه وذاته تعالى علواً كبيراً عما يقول الظالمون بل باعتبار أمره الإيجادي وتجليه الحبى الأحدى ، وإنما كان العرش محلى هذه الاستواء لأن التجليات التي هي شروط التجليات المتعينة ، والأحكام الظاهرة والأمور البارزة والشؤون المتحققة في السماء والأرض وفيما بينهما من عالم الكون والفساد بالأمر الإلهي والإيجاد الأزلي إنما تمت باستيفاء لوازمها واستكمال جوانبها واستجماع أركانها الأربعة المستوية في ظهور العرش بروحه وصورته وحركته الدورية ، لأنه لا بد في استواء تجليات الحق في هذه العوالم بتجليه الحبى وأمره الايجادي من الأمور الأربعة التي هي من هذه التجليات الحبية والإيجادية الحسية هي حركة العرش وهي بمنزلة الحد الأكبر ، ولما استوى أمر تمام حصول الأركان الأربعة الموقوف عليها بتوقيف الله التجليات الإيجادية الأمرية المتنزلة بين السموات السبع والأرضين السبع بحسب مقتضيات استعدادات أهل العصر ، وموجبات قابليات أصحاب الزمان في كل يوم بل في كل آن ، كما أشير إليه بقوله تعالى : يتنزل الأمر بينهن}(الطلاق : 12) وقوله : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} (الرحمن : 29) في العرش كان العرش مستوى الحق بهذا الاعتبار ، واستواء الأمر الإيجادي على العرش بمنزلة استواء الأمر التلكيفي الإرشادي على الشرع ، وكل منهما مقلوب الآخر كذا في "الأبحاث البرقيات" لحضرة شيخنا الأجل قدس الله سره {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} ذللهما لما يراد منهما وهو انتفاع الخلق بهما كما قال في بحر العلوم معيني تسخيرهما نافعتين للناس حيث يعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر ، وينوران لهم في الليل والنهار ويدرآن الظلمات ويصلحان الأرض والأبدان والأشجار والنباتات.
كل منهما يجري لأجل مسمى اللام بمعنى إلى ، أي إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا أو تمام ، دوره وللشمس والقمر منازل كل منهما يغرب في كل ليلة في منزل ويطلع في منزل حتى ينتهي إلى أقصى المنازل.
يدبر الأمر يقضي ويدبر أمر ملكوته من الإعطاء والمنع والإحياء والإماتة ومغفرة الذنوب وتفريج الكروب ورفع قوم ووضع آخرين وغير ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 335
وفي التأويلات يدبر الأمر أمر العالم وحده وهو يدل على أن الاستواء أي العلو على العرش بالقدرة لتدبير المكونات لا للتشبيه.
يفصل الآيات يبين البراهين الدالة على التوحيد والبعث
336
وكمال القدرة والحكمة لعلكم (شايدكه شما) بلقاء ربكم (بديدار روردكار خود يعني بديدن جزاكه خواهد دادسر قيامت).
توقنون (بي كمان كرديد ودانيدكه هركه قادرست بر آفريدن اين اشيا قدرت دارد براعاده واحيا).
قال في بحر العلوم لعل مستعار لمعنى الإرادة لتلاحظ معناها ومعنى الترجى أي يفصل الآيات إرادة أن تتأملوا فيها وتنظروا فتستدلوا بها عليه ووحدته وقدرته وحكمته وتتيقنوا أن من قدر على خلق السموات والعرش وتسخير الشمس والقمر مع عظمها وتدبير الأمور كلها كان على خلق الإنسان مع مهانته وعلى إعادته وجزائه أقدر.
واعلم أنه كان ما كان من إيجاد عالم الإمكان ليحصل للناس المشاهدة والاطمئنان والإيقان.
قال المولى الجامي :
سير آب كن زبحر يقين جان تشنه را
زين يش خشك لب منشين برسر آب ريب
وعن سيدنا علي رضي الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً وذلك أن أهل المكاشفة وصلوا من علم اليقين إلى عين اليقين الذي يحصل لأهل الحجاب يوم القيامة فلو ارتفع الغطاء وهو دار الدنيا وظهرت الآخرة ما ازدادوا يقيناً بل كانوا على ما كانوا عليه في الدنيا بخلاف أهل الحجاب فإن علمهم إنما يكون عين اليقين يوم القيامة ، ويدل عليه قوله عليه السلام : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا أي : ماتوا موتاً اختيارياً أو اضطرارياً حصل لهم اليقظة.
فعلى العاقل تحصيل اليقين والنظر بالعبرة في آيات العالمين.
قال الفقيه : لا غنية للمؤمين عن ست خصال.
أولاها علم يدله على الآخرة والثانية رفيق يعينه على طاعة الله ويمنعه عن معصية الله.
والثالثة معرفة عدوه والحذر منه.
والرابعة عبرة يعتبر بها في آيات الله وفي اختلاف الليل والنهار.
والخامسة إنصاف الخلق لكيلا يكون له يوم القيامة خصماء.
والسادسة الاستعداد للموت ولقاء الرب قبل نزوله كيلاً يكون مفتضحاً يوم القيامة.
وهو الذي (اوست آن قادر مطلق كه) مدّ الأرض بسطها طولاً وعرضاً ووسعها لتثبت عليها لأقدام ويتقلب الحيوان أي أنشأها ممدودة لا أنها كانت مجموعة في مكان فبسطها ، وكونها بسيطة لا ينافي كريتها لأن جميع الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها يشاهد كالسطح.
جزء : 4 رقم الصفحة : 335
(4/220)
وفي تفسير أبي الليث بسطها من تحت الكعبة على الماء وكانت تكفأ بأهلها كما تكفأ السفينة بأهلها فأرساها بالجبال الثقال.
وفي بعض الآثار : إن الله تعالى قبل أن يخلق السموات والأرض أرسل على الماء ، ريحاً هفافة فصفقت الريح الماء أي ضرب بعضه بعضاً فأبرز منه خشفة بالخاء المعجة وهي حجارة يبست بالأرض في موضع البيت كأنها قبة وبسط الحق سبحانه من ذلك الموضع جميع الأرض طولها والعرض فهي أصل الأرض وسرتها في الكعبة وسط الأرض المسكونة وأما وسط الأرض كلها عامرها وخرابها فهي قبة الأرض وهو مكان تعتدل فيه الأزمان في الحر والبرد ويستوي الليل والنهار فيه أبداً لا يزيد أحدهما على الآخر ولا ينقص واصل طينة رسول الله من سرة الأرض بمكة ولما تموج الماء رمى بتلك الطينة إلى محل مدفنه بالمدينة فلذلك دفن عليه السلام فيها.
قال بعضهم : الأرض مضجعنا وكانت أمنا فيها معايشنا وفيها نقبر.
وجعل فيها رواسي من رسا الشي إذا ثبت جمع راسية والتاء للمبالغة كما في علاَّمة لا للتأنيث ؛ إذ لا يقال جبل راسية.
والمعنى وجعل فيها
337
جبالاً ثابتة أوتاداً للأرض لئلا تضطرب فتستقر ويستقر عليها وكان اضطرابها من عظمة الله تعالى قال ابن عباس رضي الله عنهما كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض.
قال في القاموس : أبو قبيس جبل بمكة سمى برجل حداد من مذحج كمجلس لأنه أول من بني فيه وكان يسمى الأمين لأن الركن كان مستودعاً فيه.
قال في إنسان العيون : وكان أول جبل وضع عليها أبا قبيس وحينئذٍ كان ينبغي أن يسمى أبا الجبال وأن يكون أفضلها مع أن أفضلها كما قال السيوطي أحد لقوله عليه السلام : أحد يحبنا ونحبه وهو بضمتين جبل بالمدينة.
ذكر أهل الحكمة أن مجموع ما عرف في الأقاليم السبعة من الجبال مائة وثمانية وسبعون جبلاً منها ما طوله عشرون فرسخاً ، ومنها مائة فرسخ إلى ألف فرسخ ويقال ستة آلاف وستمائة وثلاثة وسبعون جبلاً سوى التلول ، وليس فيها جبل إلا وله عروق من جبل قاف ، فإذا أراد الله تعالى أن يزلزل الأرض أوحى إلى جبل قاف ، فيحرك ذلك العرق من الجبل فتزلزل.
وفي المثنوى :
رفت ذو القرنين سوى كوه قاف
ديدكه را كز زمرد بود صاف
كرد عالم حلقه كشته أو محيط
ماند حيران اندران خلق بسيط
كفت تو كوهى دكرها يستند
كه به يش عظم توباز ايستند
كفت تو كوهوى دكرها يستند
كه به يش عظم توباز ايستند
كفت ركهاى منند آن كوهها
جزء : 4 رقم الصفحة : 335
مثل من نبود در حسن وبها
من بهر شهري ركى دارم نهان
بر عروقم بسته أطراف جهان
حق و خواهد زلزله شهري مرا
كويد او من برجهانم عرق را
س بجنانم من آن رك را بقهر
كه بدان رك متصل كشتست شهر
ون بكويد بس شود ساكن ركم
ساكتم وز روى فعل اندرتكم
همو مرهم ساكن وبس كاركن
ون خرد ساكن و زوجنبان سخن
نزد انكس كه نداند عقلش اين
زلزله هست از يخارات زمين
وأنهاراً جارية ضمها إلى الجبال وعلق بهما فعلاً واحداً من حيث إن الجبال أسباب لتولدها وذلك أن الحجر جسم صلب ، فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك فلا تزال تتزاحم وتتضاعف حتى تحصل بسبب الجبل مياه عظيمة ثم إنها لكثرتها وقوتها تنقب الجبل وتخرج وتسيل على وجه الأرض ، وفي الملكوت إن الله يرسل على الأرض الثلوج والأمطار فتشربها الأرض حتى يعدلها في طبعها ومشربها فتصير عيوناً في عروق الأرض ثم تنشق الأرض عنها في المكان الذي يؤمر بالانشقاق فيه فتظهر على وجه الأرض منفعة للخلائق والملك الموكل بذلك ميكائيل وأعوانه.
ومن الأنهار العظيمة : الفرات وهو نهر الكوفة ، ودجلة وهو نهر بغداد ، وسيحان بفتح السين المهملة نهر المصيصة ، وسيحون وهو نهر بالهند ، وجيحان بفتح الجيم نهر أذنه في بلاد الأرمن ، وجيحون وهو نهر بلخ والنيل وهو نهر مصر.
يقال : أن واحداً من الملوك جمع قوماً وهيأ لهم السفن ومكنهم من زاد سنة وأمرهم أن يسيروا في النيل حتى يقفوا على آخره فخرجوا ستة أشهر ولم يصلوا إلى آخره إلا أنهم رأوا هناك قبة فيها خلق على صورة الآدميين ، خضر الأبدان فاصطادوا منه ليحملوه فلم يزل يضطرب
338
عليهم حتى مات فعالجوه واحتملوه واتملوه ليراه الناس.
وفي الواقعات المحمودية أن ذا القرنين طلب رأس النيل فلم يجد وحكى أنهم وصلوا إلى جبل فكل من نظر وراءه لم يأت ، فربطوا في وسط شخص حبلاً فبعد أن نظر جذبوه وسألوا منه فلم ينطق حتى مات.
قال بعضهم : لولا دخول بحر النيل في الملح الذي يقال له البحر الأخضر قبل أن يصل إلى بحيرة الزنج ويختلط بملوحته لما قدر أحد على شربه لشدة حلاوته ، ولذا يقال : إن النيل نهر العسل في الجنة ومن الأنهار نهر أرس كما قال الشاعر :
ارس را در بيابان جوش باشد
بدريا ون رسد خاموش باشد
(4/221)
ومن كل الثمرات متعلق بقوله : جعل فيها زوجين اثنين اثنين تأكيد للزوجين كما هو دأب العرب في كلامهم ، أي : وخلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين كالحلو والحامض والأسود والأبيض والأصفر والأحمر والصغير والكبير.
يغشى الليل النهار أي يجعل الليل غاشياً يغشى النهار بظلمته فيذهب بنور النهار أي يجعله مستوراً بالليل ويغطيه بظلمته ولم يذكر العكس اكتفاء بأحد الضدين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 335
قال البيضاوي : يلبسه مكانه فيصير الجوّ مظلماً بعد ما كان مضيئاً يعني إن الإغشاء إلباس الشيء الشيء ولما كان إلباس الليل النهار وتغطية النهار به غير معقول لأنهما متضادان لا يجتمعان واللباس لا بد أن يجتمع مع اللابس قدر المضاف وهو مكانه ومكان النهار هو الجو وهو الذي يلبس ظلمة الليل ، شبه أحداث الظلمة في الجو الذي هو مكان الضوء بإلباسها إياه وتغطيه بها فأطلق عليه اسم الأغشاء والإلباس فاشتق منه لفظ يغشى فصار استعارة تبعية.
إن في ذلك أي : في كل من الأرض والجبال والأنهار والثمار والملوين.
لآيات تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره.
أما في الأرض : فمن حيث هي ممدودة مدحوة كالبساط لما فوقها وفيها المسالك والفجاج للماشين في مناكبها وغير ذلك مما فيها من العيون والمعادن والدواب مثلاً.
وأما الجبال : فمن جهة رسوها وعلوها وصلابتها وثقلها وقد أرسيت الأرض بها كما يرسى البيت بالأوتاد.
وأما الأنهار : فحصولها في بعض جوانب الجبال دون بعض لا بد أن يستند إلى الفاعل المختار الحكيم.
وأما الثمار : فالحبة إذا وقعت في الأرض وأثرت فيها نداوة الأرض ربت وكبرت وبسبب ذلك ينشق أعلاها وأسفلها فتخرج من الشق الأعلى الشجرة الصاعدة ، وتخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في أسفل الأرض وهذا من العجائب لأن طبيعة تلك الحبة واحدة وتأثير الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد ثم إنه خرج من أحد جانبي تلك الحبة جرم صاعد إلى الهواء ومن الجانب الآخر منها جرم غائص في الأرض ، ومن المحال أن يتولد من طبيعة واحدة طبيعتان متضادتان فعلمنا أن ذلك إنما كان بسبب تدبير المدبر الحكيم ، ثم إن الشجرة النابتة من تلك الحبة بعضها يكون خشباً وبعضها يكون نورة ، وبضعها يكون ثمرة ثم إن تلك الثمرة ، أيضاً يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع ، فالجوز له أربعة أنواع من القشور ، قشره الأعلى ، وتحته القشرة الخشبية ، وتحته القشرة المحيطة باللب ، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرقة تمتاز عما فوقها حال كون الجوز واللوز رطباً ، وأيضاً قد يحصل في الثمرة الواحدة الطبائع المختلفة فالعنب مثلاً
339
وعجمه باردان يابسان ، ولحمه وماؤه حاران رطبان ، فتولد هذه الطبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع وتأثيرات الأنجم والأفلاك لا بد وأن يكون لأجل تدبير الحكيم القدير ، وأما الملوان فلا يخفى ما في اختلافهما ووجودهما من الآية أي الدلالة الواضحة.
لقوم يتفكرون فيستدلون ، والتفكر تصرف القلب في طلب معاني الأشياء وكما أن في العالم الكبير أرضاً وحبالاً ومعادن وبحاراً وأنهاراً وجداول وسواقي فكذلك في الإنسان الذي هو العالم الصغير مثله ، فجسده كالأرض وعظامه كالجبال ومخه كالمعادن وجوفه كالبحر وأمعاؤه كالأنهار وعروقه كالجداول وشحمه كالطين وشعره كالنبات ومنبت الشعر كالتربة الطيبة وأنسه كالعمران وظهره كالمفاوز ووحشته كالخراب وتنفسه كالرياح وكلامه كالرعد وأصواته كالصواعق وبكاؤه كالمطر وسروره كضوء النهار وحزنه كظلمة الليل ونومه كالموت ويقظته كالحياة وولادته كبدء سفره وأيام صباه كالربيع وشبابه كالصيف وكهولته كالخريف وشيخوخته كالشتاء وموته كانقضاء مدة سفره والسنون من عمره كالبلدان والشهور كالمنازل والأسابيع كالفراسخ وأيامه كالأميال وأنفاسه كالخطى فكلما تنفس نفساً كان يخطو خطوة إلى أجله فلا بد من التفكر في هذه الأمور.
جزء : 4 رقم الصفحة : 335
ويقال : أخلاق الأبدال عشرة أشياء : سلامة الصدور ، وسخاوة في المال ، وصدق اللسان ، وتواضع النفس ، والصبر في الشدة ، والبكاء في الخلوة ، والنصيحة للخلق ، والرحمة للمؤمنين ، والتفكر في الأشياء ، وعبرة من الأشياء.
وعن النبي عليه السلام أنه مر على قوم يتفكرون فقال لهم تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق كذا في تنبيه الغافلين وفي المثنوى :
بى تعلق نيست مخلوقي بدو
آن تعلق هست بيون اي عمو
اين تعلق را خرد ون ره برد
بسته وصلست وفصلست اين خرد
زين وصيت كرد مارا مصطفى
بحث كم جوئيد درذات خدا
آنكه درذاتش تفكر كرد نيست
در حقيقت آن نظر در ذات نيست
هست آن ندار اوزيرا براه
صد هزاران رده آمد تا اله
هريكي در رده موصول جوست
وهم او آنست كان خود عين هوست
س يمبر دفع كرد اين وهم ازو
تانباشد در غلط سودا ز او
جزء : 4 رقم الصفحة : 335
(4/222)
{وفي الأرض خبر مقدم لقوله قطع جمع قطعة بالفارسية (اره) متجاورات أي بقاع متلاصقات بعضها طيبة تنبت شيئاً وبعضها سبخة لا تنبت وبعضها قليلة الريع وبعضها صلبة وبعضها كثيرة الريع وبعضها رخوة وبعضها يصلح للزرع دون الشجر وبعضها بالعكس ولولا تخصيص قادر موقع لأفعاله على وجه دون وجه لم يكن كذلك لاشتراك تلك القطع وانتظامها في جنس الأرضية وجنات عطف على قطع أي : بساتين.
من أعناب جمع عنب بالفارسية (انكور) وسمت العرب العنب الكرم لكرم ثمرته وكثرة حمله وتذلله للقطف ليس بذي شوك ولا بشاق المصعد ويؤكل غضاً ويابساً وأصل الكرم الكثرة والجمع للخير ، وبه سمى الرجل كرماً لكثرة خصال الخير فيه.
واعلم : أن قلب المؤمن لما فيه من نور الإيمان أولى بهذا الاسم ، ولذا قال عليه السلام : لا يقولن أحدكم الكرم فإنما الكرم قلب
340
المؤمن قال ابن الملك : سبب النهي أن العرب كانوا يسمون العنب وشجرته كرماً ؛ لأن الخمر المتخذة منه تحمل شاربها على الكرم ، فكره النبي هذه التسمية لئلا يتذاكروا به الخمر ويدعوهم حسن الاسم إلى شربها ، وجعل المؤمن وقلبه أحق أن يتصف به لطيبه وذكائه ، والغرض منه تحريض المؤمن على التقوى وكونه أهلا لهذه التسمية.
وزرع بالرفع عطف على جنات وتوحيده لأنه مصدر في أصله.
ونخيل النخل والنخيل بمعنى واحد.
بالفارسية (خرما بنان).
صنوان نعت لنخيل جمع صنو وهي النخلة لها رأسان وأصلهما واحد أي نخلات يجمعهن أصل واحد.
وبالفارسية (ند شاخ ازيك اصل رسته) وفي الحديث : لا تؤذوني في العباس فإنه بقية آبائي وإن عم الرجل صنو أبيه قال في القاموس ما زاد في الأصل الواحد كل واحد منهما صنو ، ويضم ويقال هو عام في جميع الشجر وغير صنوان ومتفرقات مختلفة الأصول ، وفي الحديث : اكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة آدم وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم ابنة عمران فأطعموا نساءكم الولد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر وحكى المسعودي أن آدم عليه السلام لما هبط من الجنة خرج ومعه ثلاثون قضيباً مودعة أصناف الثمر فيها.
منها عشرة لها قشر الجوز واللوز والفستق والبندق والشاه بلوط والصنوبر والرمان والنارنج والموز والخشخاش.
جزء : 4 رقم الصفحة : 340
ومنها عشرة لا قشر لها ولثمرها نوى الرطب والزيتون والمشمش والخوخ والأجاص والعناب الغبيراء والدوابق والزعرور والنبق.
ومنها عشرة لها قشر ولا نوى : التفاح والكمثرى والسفرجل والتين والعنب والأترج والخرنوب والقثاء والخيار والبطيخ ، وهذا لا ينافي كون هذه الثمرات مخلوقة في الأرض كما لا يخفى.
يسقى المذكور من القطع والجنات والزرع والنخيل بماء واحد والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام ونفضل بنون العظمة أي ونحن نفضل بعضها على بعض في الأكل في الثمر شكلاً وقدراً وطعماً ورائحة فمنها بياض وسواد وصغير وكبير وحلو ومر وحامض وجيد ورديىء وذلك أيضاً مما يدل على الصانع الحكيم وقدرته ، فإن إنبات الأشجار بالثمار المختلفة الأصناف والأشكال والألوان والطعوم والروائح مع اتحاد الأصول والأسباب لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار ، لأنه لو كان ظهور الثمار بالماء والتراب لوجب في القياس أن لا يختلف الألوان والطعوم ولا يقع التفاضل في الجنس الواحد إذا نبت في مغرس واحد بماء واحد.
والأكل بضم الكاف وسكونها ما يتهيأ للأكل ثمراً كان أو غيره كقوله تعالى في صفة الجنة {أُكُلُهَا دَآاـاِمٌ} (الرعد : 35) فإنه عام في جميع المطعومات وإطلاق الثمر على الحب لا يصح إلا باعتبار التغليب فإن الثمر حمل الشجر على ما في "القاموس".
قال الكاشفي : (درتبيان آورده كه اين مثل بني آدم در اختلاف الوان واشكال وهيآات وأصوات باوجود آنكه در همه يكيست.
در مدارك كفته كه مثل اختلاف قلوبست در آثار وأنوار وأسرار وهردلي را صفتي وهر صفت را نتيجه دمي باشد موصوف بانكار واستكبار كه {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} (النحل : 22) وباز دمي آرميده بذكر حضرت رورد كاركه {وَتَطْمَـاـاِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ} (الرعد : 28).
341
ببين تفاوت ره كز كجاست تابكجا
قال بعض الكبار : العلم الحاصل لأهل الله كالماء ، فإن الماء حياة الأشباح ، والعلم حياة الأرواح واختلاف العلم مع كونه حقيقة واحدة باختلاف الجوارح والأشخاص ، كاختلاف الماء في الطعوم باختلاف البقاع مع كونه حقيقة واحدة ، فمن الماء عذب فرات كعلم الموحد العارف بالله ومنه ملح أجاج كعلم الجاهل المحجوب بالسوى والغير ، فإنه شاب اللطيفة العلمية عند مروروه عليها بما يكفيها ويغيرها عن لطفها الطبيعي.
قال الحافظ :
جزء : 4 رقم الصفحة : 340
اك وصافى شو واز اه طبيعت بدرآى
كه صفايي ندهد آب تراب آلوده
وقال في المولى الجامي :
نكته عرفان مجو از خاطر آلودكان
كهور مقصودرا دلهاي اك آمد صدف
(4/223)
{إِنَّ فِي ذَالِكَ} المذكور لآيات لدلالات واضحة لقوم يعقلون يعملون على قضية عقولهم وأن من قدر على خلق الثمار المختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح من الأرض والماء ولا تناسب بين التراب والماء ، وقدر على إحياء الأرض بالماء وجعلها قطعاً متجاورات وحدائق ذات بهجة قدر على إعادة ما ابدأه بل هذا ادخل في القدرة من ذلك وأهون في القياس.
والإشارة في أرض الإنسانية قطع من النفس والقلب والروح والسر والخفي متقاربات بقرب الجوار مختلفات في الحقائق فمنها حيوانية ، ومنها ملكوتية ومنها روحانية ومنها جبروتية ومنها عظموتية ، وبالجنات يشير إلى هذه الأعيان المستعدة لقبول الفيض عند قبولها وتثميرها من أعناب وهي ثمرة النفس ، فمن الصفات ما تدل على الغفلة والحماقة والسهو واللهو فإنها أصل السكر ، وزرع وهو ثمرة القلب فإن القلب بمثابة الأرض الطيبة القابلة للزرع من بذر الصفات الروحانية والنفسانية ، فبأي بذر صفة من الصفات ازدرعت يتجوهر القلب بجوهر تلك الصفة فتارة يصير بظلمات النفس ظلمانياً ، وتارة يصير بنور الروح نورانياً ، وتارة يصير بنور الرب ربانياً كما قال : وأشرقت الأرض بنور ربها}(الزمر : 69) [الرعد : 4-10]{وَنَخِيلٌ} وهو الروح ذو فنون من الأخلاق الحميدة الروحانية كالكرم والجود والسخاء والشجاعة والقناعة والحلم والحياء والتواضع والشفقة صنوان وهو السر الجبروتي وبه يكشف أسرار الجبروت التي بين الرب والعبد ولها مثل ومثال ويحكى عنها.
وغير صنوان وهو الخفي المكاشف بحقائق العظموت التي لا مثل لها ولا مثال ولا يحكى عنها ، كما قال : فأوحى إلى عبده ما أوحى}(النجم : 10) وكما قيل :
بين المحبين سر ليس يفشيه
{يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ} وهو ماء القدرة والحكمة ونفضل بعضها على بعض في الأكل في الثمرات والنتائج فبعضها أشرف من بعضها ، وإن كان لكل واحدة منها شرف في موضعه لاحتياج الإنسان في أثناء السلوك.
إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون الذين يلتمسون من القرآن أسراراً وآيات تدلهم على السير إلى الله وتهديهم إلى الصراط المستقيم إليه كما في التأويلات النجمية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 340
{وَإِن تَعْجَبْ} أي إن يقع منك عجب وتعجبت من شيء يا محمد أو أيها السامع فعجب قولهم خبر ومبتدأ أي فليكن ذلك العجب من قول المشركين.
ءاذا كنا تراباً (آيا آن وقت كه ما باشيم خاك يعني بعد ازمرك كه ما خاك باشيم) والجملة الاستفهامية
342
منصوبة المحل على أنها محكية بالقول ، وإذا ظرف محض ليس فيها معنى الشرط والعامل محذوف دل عليه قوله أئنا (أياماً) لفي خلق جديد (باشيم در آفرينش نو) والتقدير إذا كنا تراباً أنبعث ونخلق لا كنا لأنه مضاف إليه فلا يعمل ولا خلق جديد لأن ما بعد أداة الاستفهام وكذا أن لا يعمل فيما قبله.
وقال بعضهم : وإن تعجب من إنكار المشركين البعث وعبادتهم الأصنام بعد اعترافهم بالقدرة على ابتداء الخلق فحقيق بأن تتعجب منه أي فقد وضعت التعجب في موضعه لكونه جديراً لأن يتعجب منه فإن من قدر على إبداء هذه المخلوقات قدر على إعادتها.
آنكه يدا ساختن كارش بود
زندكى دادن ه دشوراش بود
والتعجب حالة انفعالية تعرض للنفس عند إدراك ما لا يعرف سببه فهو مستحيل في حق الله تعالى فكان المراد إن تعجب فعجب عندك.
قال في التأويلات النجمية وإن تعجب أي تعلم إنك يا محمد لا تعجب شيئاً لأنك ترى الأشياء منا ومن قدرتنا وإنك تعلم أني على كل شيء قدير ولكن إن تعجب على عادة أهل الطبيعة إذا رأوا شيئاً غير معتاد لهم أو شيئاً ينافي نظر عقولهم فعجب قولهم أي فتعجب من قولهم ءاذا كنا تراباً أي صرنا تراباً بعد الموت ائنا لفي خلق جديد أي : بعود تراب أجسادنا أجساداً كما كان وتعود إليها أرواحنا فنحيي مرة أخرى.
معنى الآية أنهم يتعجبون من قدرة الله لأن الله هو الذي خلقهم من لا شيء في البداية ، إذ لم تكن الأرواح والأجساد ولا التراب فالآن أهون عليه أن يخلقهم من شيء وهو التراب والأرواح ولكن العجب تعجبهم بعد أن رأوا أن الله خلقهم من لا شيء من أن يخلقهم مرة أخرى من شيء.
أولئك (آن كروه كه منكرينند) الذين كفروا بربهم لأنهم كفروا بقدرته على البعث.
جزء : 4 رقم الصفحة : 342
وفي التأويلات كفروا بربهم أنه خلقهم من لا شيء إذ أنكروا أنه لا يخلقهم من شيء وأولئك الأغلال في أعناقهم (وآن كر وهندكه غلها دركردنهاى ايشانست) أي مقيدون بالكفر والضلال لا يرجى خلاصهم ، يقال للرجل هذا غل في عنقك للعمل الرديء ، ومعناه إنه لازم لك لا يرجى خلاصك منه ، والغل طوق يقيد به اليد إلى العنق.
(4/224)
وفي التأويلات هي أغلال الشقاوة التي جعلها القدير الأزلي في أعناقهم كما قال : وكل إنسان الزمناه طائره في عنقه}(الإسراء : 13) ويجوز أن يكون على حقيقته أي يغلون يوم القيامة (يعني روز قيامت غل آتشين بركردن ايشان نهند وعلامت كفار در دوزخ اين باشد) وفي الحديث "ينشيء الله سحابة سوداء مظلمة فيقال يا أهل النار أيُّ شيء تطلبون فيذكرون بها سحابة الدنيا فيقولون يا ربنا الشراب فتمطرهم أغلالاً تزيد في أغلالهم ، وسلاسل تزيد في سلاسلهم وجمراً يلتهب عليهم" {وَأُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} توسيط ضمير الفصل وتقديم فيها يفيد الحصر أي هم الموصوفون بالخلود في النار لا غيرهم وأن خلودهم إنما هو في النار لا في غيرها فثبت أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار.
وفي التأويلات هم الذين قال الله تعالى فيهم في الأزل وهؤلاء في النار ولا أبالي فآل أمرهم إلى أن يكونوا أصحاب النار إلى الأبد ، فالشرك والإنكار من أعظم المعاصي والأوزار وعن النبي عليه السلام مخبراً عن الله تعالى أنه
343
قال : عبدي ما عبدتني ورجوتني ولم تشرك بي شيئاً غفرت لك على ما كان منك ، ولو استقبلتني بملىء الأرض خطايا وذنوباً لأستقبلتك بملئها مغفرة واغفر لك ولا أبالي أي إن لم تشرك بي شيئاً غفرت لك على ما كان منك من نفي جميع الإشراك ، لأن النكرة إذا وقعت في سياق النفي تفيد العموم ، وهذا لا يحصل إلابعد إصلاح النفس فالمرء أسير في يد نفسه ، والهوى كالغل في عنقه ، وهذا الغل الملازم له في دنياه معنوي وسيصير إلى الحس يوم القيامة ، إذ الباطن يصير هناك ظاهراً كما حكي عن بعض العصاة أنه مات فلما حفروا قبره وجدوا فيه حية عظيمة ، فحفروا له قبراً آخر فوجدوها فيه ، ثم كذلك قبراً بعد قبر إلى أن حفروا نحواً من ثلاثين قبراً وفي كل قبر يجدونها فلما رأوا أنه لا يهرب من الله هارب ولا يغلب الله غالب دفنوه معها ، وهذه الحية هي عمله ، قال السعدي قدس سره :
برادر زكار بدان شرم دار
كه دروري نيكان شوى شرمسار
جزء : 4 رقم الصفحة : 342
ترا خود بماند سراز ننك يش
كه كرت بر آيد عملهاى خويش
ويستعجلونك الاستعجال طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته ، أي يطلب مشركوا مكة منك العجلة بالسيئة بإتيان العقوبة المهلكة وسميت العقوبة سيئة لأنها تسؤوهم قبل الحسنة متعلق بالاستعجال ظرف له ، أو بمحذوف على أنه حال مقدرة من السيئة أي قبل العافية والإحسان إليهم بالإمهال ، ومعنى قبل العافية قبل انقضاء الزمان المقدر لعافيهم وذلك أنه عليه السلام كان يهدد مشركي مكة تارة بعذاب القيامة ، وتارة بعذاب الدنيا ، وكلما هددهم بعذاب القيامة أنكروا القيامة والبعث وكلما هددهم بعذاب الدنيا استعجلوه ، وقالوا متى تجيئنا به؟ فيطلبون العقوبة والعذاب والشر بدل العافية والرحمة والخير ، استهزاء منهم وإظهاراً أن الذي يقوله لا أصل له ولذا قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}(الأنفال : 32) والله تعالى صرف عن هذه الأمة عقوبة الاستئصال ، وأخر تعذيب المكذبين إلى يوم القيامة فذلك التأخير هو الحسنة في حقهم فهؤلاء طلبوا منه عليه السلام نزول ملك العقوبة ولم يرضوا بما هو حسنة في حقهم.
واعلم : أن استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة استعجالهم بالكفر والمعاصي قبل الإيمان والطاعات فإن منشأ كل سعادة ورحمة هو الإيمان الكامل والعمل الصالح ، ومنشأ كل شقاوة وعذاب هو الكفر والشرك والعمل الفاسد.
{وَقَدْ خَلَتْ} حال من المستعجلين : أي مضت من قبلهم المثلات أي عقوبات أمثالهم من المكذبين كالخسف والمسخ والرجفة ، فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزئوا.
نرود مرغ سوى دانه فراز
ون دكر مرغ بيند اندر بند
ند كير از مصائب دكران
تا نكيرند دكيران زتو ند
جمع مثلة بفتح الثاء وضمها وهي العقوبة لأنها مثل المعاقب عليه وهو الجريمة.
وفي التبيان أي العقوبات المهلكات يماثل بعضها بعضاً وإن ربك لذو مغفرة ستر وتجاوز للناس على ظلمهم أي مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب وإلا لما ترك على ظهر الأرض من دابة
س رده بيند عملهاي بد
هم او رده وشد بآلاى خود
344
وكر برجفا يشه بشتافتى
هميشه زقهرش امان يافتى
وهو حال من الناس ، أي : حال اشتغالهم بالظلم كما يقال رأيت فلاناً على أكله والمراد حال اشتغاله بالأكل.
فدلت الآية على جواز العقوبة بدون التوبة في حق أهل الكبيرة من الموحدين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 342
قال في التأويلات النجمية : هم الذين قال تعالى فيهم هؤلاء في الجنة ولا أبالي وإن ربك لشديد العقاب لمن شاء من العصاة.
وفي التأويلات لمن قال فيهم هؤلاء في النار ولا أبالي روى إنها لما نزلت قال رسول الله لولا عفو الله وتجاوزه لما هنأ أحد العيش ، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد وبالفارسية.
(اكر عفو خداي نبود عيش هي احدى كوارنده نشدى واكر وعيد حق نبودي همه كس تكيه برعفو كرده از عمل بازماندى
(4/225)
زحق مي ترس تا غافل نكردى
مشو نوميد تابد دل نكردي
محققان بر آنندكه تمهيد قواعد خوف ورجا درين آيت است ميفر ما يدكه آمر زنده است تا ازرحمت او نوميد نشوند عقوبت كننده است تا ازهيبت او ايمن نباشد) ونظير الآية قوله تعالى : نبيء عبادي إني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم}(الحجر : 49 ـ ـ 50).
لقى يحيى عيسى عليهما السلام : فتبسم عيسى على وجه يحيى ، فقال : مالي أراك لاهياً كأنك آمن فقال الآخر مالي أراك عابساً ، كأنك آيس ، فقالا : لا نبرح حتى ينزل علينا الوحي فأوحى الله تعالى أحبكما إليّ أحسنكما ظناً بي.
يقال : الخوف ما دام الرجل صحيحاً أفضل ، وإذا مرض فالرجاء أفضل ، يعني إذا كان الرجل صحيحاً كان الخوف أفضل حتى يجتهد في الطاعات ويجتنب المعاصي ، فإذا مرض وعجز عن العمل كان الرجاء له أفضل.
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : يا داود بشر المذنبين وأنذر الصديقين قال : يا رب كيف أبشر المذنبين وأنذر الصديقين؟ قال بشر المذنبين أني لا يتعاظمني ذنب إلا أغفره وأنذر الصديقين أن لا يعجبوا بأعمالهم وإني لا أضع عدلي وحسابي على أحد إلا هلك
كر بمحشر خطاب قهر كند
انبيارا ه جاي معذرتست
رده ازروى لطف كو بردار
كاشقيارا اميد مغفرتست
جزء : 4 رقم الصفحة : 342
واعلم أن الله تعالى ركب في الإنسان الجمال والجلال ، فرجاؤه ناظر إلى الجمال وخوفه ناظر إلى الجلال وإلى كليها الإشارة بالجسم والروح لكن رحمته وهو الروح وحاله سبقت على غضبه وهو الجسد وما تبعه ، والحكم للسابق لا للاحق فعليك بالرجاء مع العمل إلى حلول الأجل {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ} حرف تحضيض.
والمعنى بالفارسية (ر افرو فرستاده نمى شود) عليه محمد آية من ربه التنوين للتعظيم ، أي آية جلية يستعظمها من يدركها في بادىء نظره ، وعلامة ظاهرة يستدل بها على صحة نبوته ، وذلك لعدم اعتدادهم بالآيات المنزلة على رسول الله وتهاونهم فاقترحوا عليه آيات تعنتا لا استرشاداً ، وإلا لأجيبوا إلى مقترحهم وذلك مثل ما أوتي موسى وعيسى وصالح من انقلاب العصا حية وإحياء الموتى وخروج الناقة من الصخرة فقيل لرسول الله : إنما أنت منذر مرسل للإنذار والتخويف لهم من سوء العاقبة كغيرك من الرسل وما عليك إلا الإتيان بما تصح به نبوتك من جنس المعجزات لا بما يقترح عليك ، وصحة ذلك حاصلة بأية آية كانت ، ولو أجيب إلى كل ما اقترحوا لأدى
345
إلى إتيان ما لا نهاية له لأنه كلما أتى بمعجزة جاء واحد آخر فطلب منه معجزة أخرى وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء.
ولكل قوم هاد أي ولكل قوم نبي مخصوص بمعجزة من جنس ما هو الغالب عليهم يهديهم إلى الحق ويدعوهم إلى الصواب ، ولما كان الغالب في زمان موسى هو السحر جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقهم ، ولما كان الغالب في أيام عيسى الطب جعل معجزته ما يناسب الطب ، وهو إحياء الموتى وإبراء الأبرص والأكمه ، ولما كان الغالب في زمان نبينا الفصاحة والبلاغة جعل معجزته فصاحة القرآن وبلوغه في باب البلاغة إلى حد خارج عن قدرة الإنسان ، فلما لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع أنها أقرب إلى طريقهم وأليق بطباعهم فأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى.
والمراد بالهادي هو الله ، أي إنما أنت منذر وليس لك هدايتهم ولكل قوم من الفريقين هاد يهديهم ، هادٍ لأهل العناية بالإيمان والطاعة إلى الجنة ، وهادٍ لأهل الخذلان بالكفر والعصيان إلى النار كما في التأويلات النجمية.
قال الغزالي في شرح الأسماء الحسنى : الهادي هو الذي هدى خواص عباده أولاً إلى معرفة ذاته حتى استشهدوا على الأشياء به وهدى عوام عباده إلى مخلوقاته حتى استشهدوا بها على ذاته وهدى كل مخلوق إلى ما لا بد له منه في قضاء حاجاته ، فهدى الطفل إلى التقام الثدي عند انفصاله والفرخ إلى التقاط الحب عند خروجه ، والنحل إلى بناء بيته على شكل التسديس لكونه أوفق الأشكال لبدنه ، والهداة من العباد الأنبياء عليهم السلام ثم العلماء الذين أرشدوا الخلق إلى السعادة الأخروية وهدوهم إلى صراط الله المستقيم ، بل الله الهادي لهم على ألسنتهم وهم مسخرون تحت قدرته وتدبيره.
جزء : 4 رقم الصفحة : 342
وفي تفسير الكواشي أو المنذر محمد ، والهادي علي رضي الله عنه احتجاجاً بقوله عليه السلام : فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم والغرض من الإرشاد إقامة جاه محمد عليه السلام بتكثير اتباعه الكاملين ، وفي الحديث تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم وهذا التناكح والتناسل يشمل ما كان صوريا وما كان معنوياً فإن السلسلة ممدودة من الطرفين إلى آخر الزمان ، وسيخرج في أمته مهدي يحكم بشريعته وينفي تحريف المائلين وزيغ الزائغين في خلافته عن ملته.
(4/226)
وأخرج الطبراني أنه عليه السلام قال لفاطمة رضي الله عنها نبينا خير الأنبياء وهو أبوك وشهيدنا خير الشهداء وهو عم أبيك حمزة ، ومنا من له جناحان يطير بهما في الجنة حيث شاء وهو ابن عم أبيك جعفر ، ومنا سبطاً هذه الأمة الحسن والحسين وهما ابناك ومنا المهدي.
وروى أبو داود في سننه : أنه من ولد الحسن ، وكان سر ترك الحسن الخلافةتعالى شفقة على الأمة فجعل الله القائم بالخلافة الحق عند شدة الحاجة إليها من ولده ليملأ الأرض عدلاً وظهوره يكون بعد أن يكسف القمر في أول ليلة من رمضان وتكسف الشمس في النصف منه ، فإن ذلك لم يوجد منذ خلق الله السموات والأرض عمره عشرون سنة وقيل أربعون ووجهه كوكب دريّ على خده الأيمن خال أسود ومولده بالمدينة المنورة ، ويظهر قبل الدجال بسبع سنين ويخرج الدجال قبل طلوع الشمس من مغربها بعشر سنين ، وقبل ظهور المهدي أشراط وفتن.
قال الحافظ :
تو عمر خواه وصبوري كه رخ شعبده باز
هزار بازى ازين طرفه تر برانكيزد
346
حفظنا الله وإياكم من الأكدار وجعلنا في خير الدار وحسن الجوار.
الله وحده يعلم ما تحمل كل أنثى أي حملها على أن ما مصدرية ، والحمل بمعنى المحمول أو ما تحمله من الولدان ذكر أو أنثى تام أو ناقص حسن أو قبيح طويل أو قصير سعيد أو شقي ولي أو عدو جواد أو بخيل عالم أو جاهل عاقل ، أو سفيه كريم ، أو لئيم ، حسن الخلق أو سيء الخلق إلى غير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة فما موصولة والعائد محذوف ، كما في قوله : وما تغيض الأرحام وما تزداد أي : نقص جميع الأرحام وزيادتها ، أو ما تغيضه وما تزداده فإن كلا من غاض وازداد يستعمل لازماً ومتعدياً.
يقال غاض الماء يغيض غيضاً إذا قل ونضب ، وغاضه الله ، ومنه قوله : تعالى : وغيض الماء ويقال زدته فزاد بنفسه وازداد وأخذت منه حقي وازددت منه كذا فإن كان لازماً فالغيوض والزيادة لنفس الأرحام في الظاهر ، ولما فيها في الحقيقة وإن كان متعدياً فهماتعالى وعلى كلا التقديرين فالإسناد مجازي ، والأرحام جمع رحم وهو مبيت للولد في البطن ووعاؤه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 342
واعلم أن رحم المرأة عضلة وعصب وعروق ورأس عصبها في الدماغ ، وهي على هيئة الكيس ولها فم بإزاء قبلها ، ولها قرنان شبه الجناحين تجذب بهما النطفة وفيها قوة الإمساك لئلا ينزل من المنى شي وقد أودع الله في ماء الرجل قوة الفعل ، وفي ماء المرأة قوة الانفعال فعند الامتزاج يصير مني الرجل كالأنفحة الممتزجة.
باللبن واختلفوا فيا تغيضه الأرحام وما تزداده ، فقيل هو جثة الولد فإنه قد يكون كبيراً وقد يكون صغيراً وقد يكون تام الأعضاء وقد يكون ناقصا ، وقيل هو مدة ولادته فإن أقلها ستة أشهر عند الكل وقد تكون تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند الشافعي وإلى خمس عند مالك روى أن الضحاك بن مزاحم التابعي مكث في بطن أمه سنتين وأن مالكاً مكث في بطن أمه ثلاث سنين على ما في المحاضرات للجلال السيوطي وأخبر مالك إن جارة له ولدت ثلاثة أولاد في اثنتي عشرة سنة تحمل أربع سنين وهرم بن حبان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك تسمى هرماً.
وعن الحسن : الغيوضة أن تضع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك والازدياد أن تزيد على تسعة أشهر.
وعنه الغيض الجنين الذي يكون سقطاً لغير تمام والازدياد ما ولد لتمام.
وفي إنسان العيون وقع الاختلاف في مدة حمله فقيل : بقي في بطن أمه تسعة أشهر كملاً ، وقيل : عشرة أشهر ، وقيل : ستة أشهر ، وقيل : سبعة أشهر ، وقيل : ثمانية أشهر فيكون ذلك آية كما أن عيسى عليه السلام ولد في الشهر الثامن كما قيل به ، مع نص الحكماء والمنجمين على أن من يولد في الشهر الثامن لا يعيش ، بخلاف التاسع والسابع والسادس الذي هو أقل مدة حمل.
وقد قال الحكماء في بيان سبب ذلك : أن الولد عند استكماله سبعة أشهر يتحرك للخروج حركة عنيفة أقوى من حركته في الشهر السادس ، فإن خرج عاش وإن لم يخرج استراح في البطن عقيب تلك الحركة المضنية له فلا يتحرك في الشهر الثامن ولذلك نقل حركته في البطن في ذلك الشهر فإذا تحرك للخروج وخرج فقد ضعف غاية الضعف فلا يعيش لاستيلاء حركتين مضعفتين له مع ضعفه.
وفي كلام الشيخ محيي الدين ابن العربي قدس سره : لم أر للثمانية صورة في نجوم المنازل ولهذا كان المولود إذا ولد في الشهر الثامن يموت ولا يعيش ، وعلى فرض أن يعيش يكون معلولاً لا ينتفع بنفسه ، وذلك
347
لأن الشهر الثامن يغلب فيه على الجنين البرد واليبس وهو طبع الموت انتهى.
وقيل : هو عدة الولد فإن الرحم قد يشتمل على ولد واحد وعلى اثنين وثلاثة وأربعة روى أن شريكاً التابعي وهو أحد فقهاء المدينة كان رابع أربعة في بطن أمه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 342
(4/227)
وقال الشافعي : أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطوناً في كل بطن خمسة ، وقيل هو دم الحيض فإنه يقل ويكثر ، وقيل : غيض الأرحام الحيض على الحمل فإذا حاضت المرأة الحامل كان نقصاناً في الولد لأن دم الحيض غذاء الولد في الرحم فإذا أهراقت الدم ينتقص الغذاء فينتقص الولد وإذا لم تحض يزداد الولد ويتم ، فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم والزيادة تمام خلقته باستمساك الدم.
وكل شي عنده تعالى بمقدار (باندازه است كه ازان زياده وكم نشود).
وفي بحر العلوم مقدر مكتوب في اللوح معلوم قبل كونه قد علم حاله وزمانه ومتعلقه.
وفي التبيان أي بحد لا يجاوزه من رزق وأجل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 342
{عَـالِمُ الْغَيْبِ} خبر مبتدأ محذوف واللام للاستغراق أي هو تعالى عالم كل ما يطلق عليه اسم الغيب وهو ما غاب عن الحس فيدخل فيه المعلومات والأسرار الخفية والآخرة.
قال بعضهم : ما ورد في القرآن من إسناد علم الغيب إلى الله تعالى إنما هو بالنسبة إلينا إذ لا غيب بالنسبة إلى الله تعالى.
وقال بعض سادات الصوفية قدس الله أسرارهم : لما سقطت جميع النسب والإضافات في مرتبة الذات البحت والهوية الصرفة انتفت النسبة العلمية فانتفى العلم بالغيب ، يعني : بهذا الاعتبار وأما باعتبار التعينات ، وإثبات الوجودات في مرتبة الصفات وهي مرتبة الذات الواحدية فالعلم على حاله فافهم.
برو علم يك ذره وشيده نيست
كه يدا ونهان بنزدش يكيست
والشهادة أي : كل ما يطلق عليه اسم الشهادة وهو ما حضر للحس فيدخل فيه الموجودات المدركة والعلانية والدنيا.
الكبير العظيم الشأن الذي لا يخرج عن علمه شيء المتعال المستعلي على كل شيء بقدرته.
وفي الكواشي : عن صفات المخلوقين وقول المشركين.
وفي التأويلات الله يعلم ما تحمل كل أنثى ذرة من ذرات المكونات من الآيات الدالة على وحدانيته لأنه أودعه فيها وقال : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم.
قال الشاعر :
ففي كل شيء له آية
تدل على إنه الواحد
وقال :
جهان مرآت حسن شاهد ماست
فشاهد وجهه في كل ذرات
وأيضاً يعلم ما أودع فيها من الخواص والطبائع وما تغيض الأرحام أرحام الموجودات وأرحام المعدومات ، أي وما تغيض من المقدرات أرحام الموجودات بحيث تبقى في الأرحام ولا تخرج منها وما تزداد أي وما تخرج منها وكل شيء عنده بمقدار أي : وكل شيء مما يخرج من أرحام الموجودات والمعدومات وما يبقي ، فيها عند علمه وحكمته بمقدار معين موافق لحكمة خروج ما خرج وبقاء ما بقى لأنه عالم الغيب والشهادة أي عالم بما غاب عن الوجود والخروج بحكمته وبما شاهد في الوجود والخروج الكبير المتعال في ذاته وإحاطة علمه بالموجودات والمعدومات وبما في أرحامهما المتعال في صفته بأنه متفرد بها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 348
وفي شرح الأسماء الحسنى الكبير هو ذو الكبرياء ،
348
والكبرياء عبارة عن كمال الذات ، وأعني بكمال الذت كمال الوجود ، وكمال الوجود يرجع إلى شيئين أحدهما دوامه أزلاً وأبداً وكل موجود مقطوع بعدم سابق أو لاحق فهو ناقص ، ولذلك يقال للإنسان إذا طالت مدة وجوده إنه كبير أي كبير السن طويل مدة البقاء ، ولا يقال عظيم السن فالكبير يستعمل فيما لا يستعمل فيه العظيم وإن كان ما طالت مدة وجوده مع كونه محدود مدة البقاء كبيراً ، فالدائم الأزلي الأبدي الذي يستحيل عليه العدم أولى بأن يكون كبيراً ، والثاني أن وجوده هو الوجود الذي يصدر عنه وجود كل موجود فإن كان الذي تم وجوده في نفسه كاملاً وكبيراً ، فالذي فاض منه الوجود لجميع الموجودات أولى بأن يكون كاملاً كبيراً ، والكبير من العباد هو الكامل الذي لا يقتصر عليه صفات كمال ، بل ينتهي إلى غيره ولا يجالسه أحد إلا ويفيض عليه من كماله شيء ، وكمال العبد في عقله وورعه وعلمه ، فالكبير هو العالم التقي المرشد للخلق الصالح لأن يكون قدوة يقتبس من أنواره وعلومه ولهذا قال عيسى عليه السلام من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السماء ، والمتعال بمعنى العلي إلا أن فيه نوع مبالغة وهو الذي لا رتبة فوق رتبته ، والعبد لا يتصور أن يكون علياً مطلقاً ، إذ لا ينال درجة إلا ويكون في الوجود ما هو فوقها وهي درجات الأنبياء والملائكة ، نعم يتصور أن ينال درجة لا يكون في جنس الأنس من يفوقه وهي درجة نبينا عليه السلام ولكنه قاصر بالإضافة إلى العلو المطلق لأن علوه بالإضافة إلى بعض الموجودات والآخر علوه بالإضافة إلى الموجودات لا بطريق الوجوب ، بل يقارنه إمكان وجود إنسان فوقه فالعلي المطلق هو الذي له الفوقية لا بالإضافة وبحسب الوجوب لا بحسب الوجد الذي يقارنه إمكان نقيضه.
(4/228)
سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به من مبتدأ خبره سواء ؛ ومنكم حال من ضمير سواء لأنه بمعنى مستو ، ولم يثن الخبر مع إنه خبر عن شيئين ، لأنه في الأصل مصدر وإن كان هنا بمعنى مستو ، والاستواء يقتضي شيئين وهما الشخصان المرادان بمن.
والمعنى مستو في علم الله تعالى من أضمر القول في نفسه ومن أظههر بلسانه منكم أيها الناس.
ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار الاستخفاء (نهان شدن) والسروب (برفن بروز) كما في تهذيب المصادر.
والسرب بفتح السين وسكون الراء الطريق كما في القاموس وسارب معطوف على من فيتحقق شيآن ومن موصوفة كأنه قيل سواء منكم إنسان هو مستتر ومتوار في الظلمات وآخر ظاهر في الطرقات كما قال في بحر العلوم.
وسارب أي ذاهب في سربه بارز بالنهار يراه كل واحد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 348
وقال الكاشفي : (وهركه طلب خفاء ميكند ومى وسد عمل خودرا بشب وهركه ظهرست وآشكارا ميكند عمل خودرا بروز يعني مطلقاً هي يز از قول وفعل سر وعلانيه برو وشيده نيست).
جزء : 4 رقم الصفحة : 348
{لَهُ} أي الله تعالى ، أو للإنسان الموصوف بما ذكر معقبات من بين يديه ومن خلفه جمع معقبة والتاء للمبالغة كما في علامة لا للتأنيث ، فإن الملك لا يوصف بالذكورة ولا بالأنوثة وصيغة التفعيل للمبالغة والتكثير ، كما في قولك طوف البيت لا للتعدية.
والتعقيب (در عقب كسى بيامدن) كما في التهذيب يقال عقبه تعقيباً جاء بعقبه.
والمعقبات ملائكة الليل والنهار كما في القاموس.
وقيل للملائكة الحفظة معقبات لكثرة تعاقب بعضهم بعضاً في النزول إلى الأرض بعضهم بالليل
349
وبعضهم بالنهار إذا مضى فريق ، خلفه فريق أي يعقب ملائكة الليل ملائكة النهار وملائكة النهار ملائكة الليل ويجتمعون في صلاة الفجر والعصر ، والمعنى له ملائكة يتعاقب بعضهم بعضاً كائنون من أمام الإنسان ووراء ظهره أي يحيطون به من جوانبه.
يحفظونه من أمر الله من بأسه ونقمته إذا أذنب بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب من ذنبه وينيب أو يحفظونه من المضار التي أمر الله بالحفظ منها.
قال مجاهد : ما من عبد إلا له ملك موكل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما يأتيه منهم شيء يريده إلا قال وراءك إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه وروي عن عمرو بن أبي جندب قال : كنا جلوساً عند سعيد بن قيس بصفين فأقبل علي رضي الله عنه يتوكأ على عنزة له بعد ما اختلط الظلام فقال سعيد أأمير المؤمنين؟ قال : نعم قال : أما تخاف أن يغتالك أحد قال إنه ليس من أحد إلا ومعه من الله حفظة من أن يتردى في بئر أو يخر من جبل أو يصيبه حجر أو تصيبه دابة فإذ جاء القدر خلوا بينه وبين القدر.
قال في أسئلة الحكم اختلف العلماء في عدد الملائكة التي وكلت على كل إنسان ، فقيل : عشرون ملكاً ، وقيل أكثر والأول أصح لأن عثمان رضيعنه سأل رسول الله عن ذلك فذكر عشرين ملكاً وقال : ملك عن يمينك على حسناتك وهو أمير على الملك الذي عن يسارك كما.
قال تعالى : عن اليمين وعن الشمال قعيد}(ق : 17) وملكان بين يديك ومن خلفك لقوله تعالى : {لَه مُعَقِّبَـاتٌ مِّنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} يحفظونه من أمر الله وملك قائم على ناصيته إذا تواضعرفعه وإذا تجبر على الله قصمه وملكان على شفتيك يحفظان عليك الصلاة على النبي عليه السلام وملك على فيك لا يدع الحية تدخل فيك وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي فتنزل ملائكة الليل على ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكاً على كل آدمي وإبليس بالنهار وأولاده بالليل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 349
قال بعض الأئمة : إن قلت الملائكة التي ترفع عمل العبد في اليوم هم الذين يأتون أم غيرهم؟ قلت : الظاهر أنهم هم وأن ملكي الإنسان لا يتغيران عليه ما دام حياً ، فإذا مات قالا يا رب قد قبضت عبدك فإلى أين نذهب قال تعالى : سمائي مملوءة من ملائكتي وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني اذهبا إلى قبر عبدي فسبحاني وحمداني وهللاني وكبراني ومجداني وعظماني واكتبا ذلك كله لعبدي إلى يوم القيامة وقيل المعقبات أعوان السلطان فهو توبيخ الغافل المتمادي في غروره والتهكم به على اتخاذه الحراس بناء على توهم أنهم يحفظونه من أمر الله وقضائه كما يشاهد من بعض الملوك والسلاطين.
والعاقل يعلم أن القضايا الإلهية والنوازل المقدرة مما لا يمكن التحفظ منه فانظروا رأيهم وما ذهبوا إليه.
از كمان قضا وتير قدر
بدر آمد نشد مفيد سر
ويقال للمؤمن طاعات وصدقات يحفظونه من عذاب الله عند الموت وفي القبر وفي القيامة.
(4/229)
قال بعض السلف : إذ احتضر المؤمن يقال للملك : شم رأسه فيقول : أجد في رأسه القرآن فيقال : شم قلبه فيقول أجد في قلبه الصيام فيقال : شم قدميه فيقول أجد في قدميه القيام فيقال حفظ نفسه حفظه الله إن الله لا يغير ما بقوم من العافية والنعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم حتى يتركوا الشكر وينقلبوا من الأحوال الجميلة إلى القبيحة.
350
كرت هواست كه معشوق نكسلد يوند
نكاه دار سر رشته تانكه دارد
وفي التأويلات النجمية : إن الله لا يغير ما بقوم من الوجود والعدم حتى يغيروا ما بأنفسهم باستدعاء الوجود والعدم بلسان الاستحقاق للوجود والعدم على مقتضي حكمته ووفق مشيئته انتهى.
وفي الآية : تنبيه لجميع الناس ليعرفوا نعمة الله عليهم ويشكروا له كيلا تزول ، فدوران اللسان بالذكر والجنان بالفكر من الأمور الجميلة ، فإذا تحول المرء من الذكر إلى النسيان فقد تحول إلى الحالة القبيحة ، فإذا لا يجد من الفيض الإلهي ما يجده قبل وقد غير الله بشؤوم المعصية أشياء كثيرة غير إبليس وكان اسمه عزازيل فسماه إبليس.
قال إبراهيم بن أدهم مشيت في زرع إنسان فناداني صاحبه يا بقر فقلت غير اسمي بزلة فلو كثرت لغير الله معرفتي ، وكذا غير اسمي هاروت وماروت وكان اسمهما قبل اقتراف الذنب عزلا وعزايا ، وكذا غير لون حام بن نوح إذ نظر إلى عورة أبيه وكان نائماً فأخبر نوح بذلك فدعا عليه فسوده الله فالهند والحبشة من نسله ، وقيل إن نوحاً قال لأهل السفينة وهي تطوف بالبيت العتيق إنكم في حرم الله وحول بيته لا يمس أحد امرأة وجعل بينهم وبين النساء حاجزاً فتعدى ولده حام ووطىء زوجته فدعا الله عليه بأن يسود لون بنيه فأجاب الله دعاءه ، وغير الصورة على داود بزلة واحدة وغير الصورة على قوم موسى لأخذهم الحيتان فصيرهم قردة ، وعلى قوم عيسى فصيرهم خنازير وغير المال والبساطين على آل القطروس حيث منعوا الناس عنها فأحرقتها نار ، وكذلك هلاك أموال القبط بدعاء موسى ربنا اطمس على أموالهم}(يونس : 88) الآية فصار ماؤهم دماً وأموالهم حجراً وغير العلم على أمية بن أبي الصلت ، كان نائماً فأتاه طائر وأدخل منقاره في فيه فلما استيقظ نسى جميع علومه ، وكان من بلغاء قريش وكان يرجو أن يكون هو نبي آخر الزمان أو وعد الإيمان به ، فلما بعث نبينا صلى الله عليه وسلّم أنكره وغير المكان على آدم بزلة واحدة وخسف بقارون الأرض حيث منع الزكاة.
قال الحافظ :
جزء : 4 رقم الصفحة : 349
كنج قارون كه فروميرود از قهر هنوز
خوانده باشى كه هم ازغيرت درويشانست
وغير اللسان على رجل بسبب العقوق ، نادته والدته فلم يجبها فصار أخرس ، وغير الإيمان على برصيصا بعد ما عبد الله مائتين وعشرين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين لأنه لم يشكر يوماً على نعمة الإسلام.
شكر نعمت نعمتت افزون كند
كفر نعمت از كفت بيرون كند
{لَه مُعَقِّبَـاتٌ مِّنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} وهلاكاً فلا مرد له فلا ردّ له ، والعامل في إذا ما دل عليه ، قوله فلا مرد له وهو لا يرد ، وإذا عند نحاة البصرة حقيقة في الظرف وقد تجيء للشرط من غير سقوط معنى الظرف ، نحو إذا قمت ، قمت ، أي : أقوم وقت قيامك تعليقاً لقيامك بقيامة بمنزلة تعليق الجزاء بالشرط ودخوله ، إما في أمر كائن متحقق في الحال نحو
إذا أرى الدنيا وأبناءها
استعصم الرحمن من شرها
أوامر منتظر لا محالة مثل إذا وقعت الواقعة}(الواقعة : 1) و{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (التكوير : 1) فهي ترد الماضي إلى المستقبل لأنها حقيقة في الاستقبال وعند الكوفيين يجيء للظرف والشرط نحو
وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
351
ونحو :
وإذا تصبك خصاصة فتحمل
{وَمَا لَهُم} أي : لمن أراد تعالى إهلاكه من دونه سوى الله تعالى من وال ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم السوء.
والوالي من أسماء الله تعالى وهو من ولي الأمور وملك الجمهور والولاية تنفيذ القول على الغير شاء الغير أوأبي.
وفيه دليل على أن خلاف مراد الله محال فإنه المتفرد بتدبير الأشياء المنفذ للتدبير ولا معقب لحكمه.
هو تعالى وحده.
الذي يريكم البرق هو الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً إذا لمع.
خوفاً أي : إرادة خوف أو إخافة من الصاعقة وخراب البيوت وطمعاً أي إرادة طمع أو إطماعاً في الغيب ورجاء بركته وزوال المشقة ، والمطر يكون لبعض الأشياء ضرراً ولبعضها رحمة فيخاف مه المسافر ومن في خزينته التمر والزبيب ومن له بيت لا يكف ويطمع فيه المقيم وأهل الزرع والبساتين ، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر فإن انتفاعهم إنما هو بالنيل وبالمطر يحصل الوطر.
(4/230)
وفيه إشارة إلى أن في باطن جمال الله تعالى جلالاً وفي باطن جلاله جمالاً وأسند الإراءة إلى ذاته لأنه الخالق في الأبصار نوراً يحصل به الرؤية للخلائق ، وهذه الإراءة إما متعلقة بعالم الملك وهي ظاهرة وإما متعلقة بعالم الملكوت ، فمعناها أن الله تعالى إذا أرى السائر برقا من لمعان أنوار الجلال يغلب عليه خوف الانقطاع واليأس ، وإذا أراه برقاً من تلألؤ أنوار الجمال يغلب عليه الرجاء والاستثناء وينشى السحاب أي : يبتدىء إنشاء السحاب ، أي : خلقه وفيه دلالة على أن السحاب يعدمه الله تعالى ثم يخلقه جديداً والسحاب اسم جنس والواحدة سحابة ، ولذا وصف بقوله : الثقال بالماء جمع.
جزء : 4 رقم الصفحة : 349
واختلف في أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب ، أو يخلقه الله في السحاب فيمطر.
وفي حواشي ابن الشيخ : السحاب جسم مركب من أجزاء رطبة مائية ومن أجزاء هوائية وهذه الأجزاء المائية المشوبة بالأجزاء الهوائية إنما حدثت وتكونت في جو الهواء بقدرة المحدث القادر على ما شاء ، والقول بأن تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض فلما وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت فثقلت فرجعت إلى الأرض باطل ؛ لأن الأمطار مختلفة فتارة تكون قطراتها كبيرة ، وتارة تكون صغيرة ، وتارة متقاربة ، وتارة متباعدة ، وتارة تدوم زماناً طويلاً ، وتارة لا تدوم فاختلاف الأمطار في هذه الصفات مع أن طبيعة الأرض واحدة ، وكذا طبيعة الشمس المسخنة للبخارات واحدة لا بد أن يكون بتخصيص الفاعل المختار.
وأيضاً فالتجربة دلت على أن للدعاء والتضرع في نزول الغيث أثراً عظيماً ولذلك كان صلاة الاستسقاء مشروعة فعلمنا أن المؤثر فيه هو قدرة الفاعل لا الطبيعة والخاصية.
يقول الفقير : إن المردود هو إسناد الحوادث إلى الكون من غير ملاحظة تأثير الله تعالى فيها وأما إذا أسندت إلى الأسباب مع ملاحظة المسبب فهو مقبول ، لأن هذا العالم عالم الأسباب والحكمة ، وما هو أدخل في القدرة الإلهية فهو أولى بالاعتبار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 349
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ} اختلف العلماء فيه والتحقيق أنه اسم ملك خلق من نور الهيبة الجلالية والرعد صوته الشديد أيضاً يسوق السحاب بصوته كما يسوق الحادي الإبل بحدائه ، فإذا سبح أوقع الهيبة على الخلق كلهم حتى الملائكة.
يقول الفقير : لعل الرعد صوت ذلك الملك وإسناد التسبيح إلى صوته لكمال فيه بحمده في موقع الحال أي حامدين له وملتبسين
352
بحمده (يعني تسبيح را باتحميد مقترن ميسازد) فيصيح سبحان الله والحمد ، وفي الحديث : البرق والرعد وعيد لأهل الأرض فإذا رأيتموه فكفوا عن الحديث وعليكم بالاستغفار وإذا اشتد الرعد قال عليه السلام : لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك والملائكة من خيفته من عطف العام على الخاص أي ويسبح الملائكة من خوف الله وخشيته وهيبته وجلاله وذلك لأنه إذا سبح الرعد وتسبيحه ما يسمع من صوته لم يبق ملك إلا رفع صوته بالتسبيح ، فينزل القطر والملائكة خائفون من الله وليس خوفهم كخوف ابن آدم فإنه لا يعرف أحدهم من على يمينه ومن على يساره ولا يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء أصلاً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما من سمع الرعد فقال : سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فأصابته صاعقة فعليّ ديته ويرسل الصواعق جمع صاعقة ، هي نار لا دخان لها تسقط من السماء ، وتتولد في السحاب ، وهي أقوى نيران هذا العالم ، فإنها إذا نزلت من السحاب فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتات تحت البحر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود سألت النبي عليه السلام عن الرعد ما هو؟ فقال : ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله قالوا فما الصوت الذي يسمع قال زجره السحاب فإذا شدت سحابة ضمها ، وإذا اشتد غضبه طارت من فيه نار هي الصاعقة والمخاريق جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضاً والمراد به ههنا آلة يسوق بها الملك السحاب فيصيب بها الباء للتعدية.
والمعنى بالفارسية (س ميرساند آنرا) من يشاء أصابته فيهلكه والصاعقة تصيب المسلم وغيره ولا تصيب الذاكر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 352
يقول الفقير : لعل وجهه أن الصاعقة عذاب عاجل ولا يصيب إلا الغافل وأما الذاكر فهو مع الله ورحمته ، وبين الغضب والرحمة تباعد ، وقولهم تصيب المسلم بشير إلى أن المصاب بالصاعقة على حاله من الإيمان والإسلام ولا أثر لها فيه كما في اعتقاد بعض العوام وهم أي هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الدلائل.
يجادلون في الله حيث يكذبون رسوله فيما يصفه به من العظمة والتوحيد والقدرة التامة ، والجدال التشدد في الخصومة من الجدل وهو الفتل.
وهو شديد المحال أي شديد المكر والكيد لأعدائه يهلكهم من حيث لا يحتسبون من محل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان ، ومنه تمحل لكذا إذا تكلف في استعمال الحيلة واجتهد فيه.
(4/231)
قال في أسباب النزول إن رسول الله عليه السلام بعث رجلاً مرة إلى رجل من فراعنة العرب قال : فاذهب فادعه لي فقال يا رسول الله إنه أعتى من ذلك قال : فاذهب فادعه لي قال فذهبت إليه فقلت يدعوك رسول الله ، فقال : وما الله أمن ذهب هو أمن فضة أو من نحاس؟ قال الراوي وهو أنس فرجع إلى رسول فأخبره وقال قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك قال لي كذا وكذا قال : فارجع إليه الثانية فادعه فرجع إليه فأعاد عليه مثل الكلام الأول ورجع إلى النبي عليه السلام فأخبره فقال : ارجع إليه فرجع إليه الثالثة فأعاد عليه مثل ذلك الكلام فبينما هو يكلمه ؛ إذ بعث الله سحابة حيال رأسه فرعدت فوقع منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه فأنزل الله تعالى : ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه
353
الآية والتي قبلها في عامر بن الطفيل وأربد بن قيس وهو أخو لبيد بن ربيعة الشاعر لأمه وذلك أنهما أقبلا يريدان رسول الله ، فقال رجل من أصحابه يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك فقال : دعه فإن يرد الله به خيراً يهده فأقبل حتى قام عليه قال : يا محمد مالي إن أسلمت؟ قال : لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم قال تجعل لي الأمر بعدك قال : لا ليس ذلك إليّ إنما ذاك إلى الله تعالى يجعله حيث شاء قال أسلم على أن لك المدر ولي الوبر ، يعني : لك ولاية القرى ولي ولاية البوادي قال : لا قال فماذا تجعل لي قال : أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها قال أو ليس ذلك إليّ اليوم وكان أوصى إلى أربد إذا رأيتني أكلمه قدر من خلفه فاضربه بالسيف ، فجعل يخاصم رسول الله ويراجعه فدار أربد خلفه عليه السلام ليضربه فاخترط من سيفه شبراً ثم حبسه الله فلم يقدر على سله وجعل عامر يومي إليه فالتفت رسول الله فرأى أربد وما يصنع بسيفه فقال : اللهم اكفنيهما بما شئت فارسل الله على أربد صاعقة في يوم صائف صاحي فأحرقته ، وولى عامر هارباً فقال يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأن عليك الأرض رجالاً ألفاً أشعر وألفاً أمرد فقال عليه السلام : يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة يريد الأوس والخرزج فنزل عامر بيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم إليه سلاحه وخرج ، وهو يقول : واللات لئن اصحر محمد إليّ وصاحبه ، يعني : ملك الموت لأنفذنهما برمحى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 352
صعوه كاو باعقاب سازد جنك
دهد ازخون خود رش رارنك
فلما رأى الله ذلك منه أرسل ملكاً فلطمه بجناحه فاذراه بالتراب ، وخرجت على ركبته غدة في الوقت عظيمة فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية ثم مات على ظهر فرسه فأنزل الله تعالى في هذه القصة قوله : سواء منكم من أسر القول ومن جهر به حتى بلغ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال قالوا في قوله وهم يجادلون في الله على هذا للحال أي يصيب بالصاعقة من يشاء في حال جداله في الله ، فإن أربد وكذا فرعون العرب في الرواية الأولى لما جادل في الله أحرقته الصاعقة ، وقوله : غدة كغدة البعير أي أصابتني غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية ، وسلول قبيلة من العرب أقلهم وأرذلهم قال قائل في حقهم.
إلى الله أشكو أنني بت طاهراً
فجاء سلولي فبال على نعلي
فقلت اقطعوها بارك الله فيكمو
فإني كريم غير مدخلها رجلي
كأن عامراً يقول ابتليت بأمرين كل واحد منهما شر من الآخر ، أحدهما : أن غدتي غدة مثل غدة البعير وأن موتي موت في بيت أرذل الخلائق ، والغدة الطاعون للإبل وقلما يسلم منه يقال أغد البعير ، أي صار ذا غدة وهي طاعونة.
وفي الآية : إشارة إلى أن أهل الجدال في ذات الله وفي صفاته مثل الفلاسفة والحكماء اليونانية الذين لم يتابعوا الأنبياء وما آمنوا بهم وتابعوا العقل دون أدلة السمع.
وبعض المتكلمين من أهل الأهواء والبدع هم الذين أصابهم صواعق القهر ، واحترقت استعداداتهم في قبول الإيمان فظلوا يجادلون في الله هل هو فاعل مختار أو موجب بالذات لا بالاختيار ، ويجادلون في صفات الله هل لذاته صفات قائمة به ، أو هو قادر بالذات ولا صفات له ومثل هذه الشبهات المكفرة المضلة عن سبيل الرشاد والله تعالى شديد العقوبة والأخذ لمن جادل فيه
354
بالباطل ، كذا في التأويلات النجمية.
له (مرخدايراست) وتقديم الخبر لإفادة التخصيص.
دعوة الحق أي : الدعاء الحق على أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى الصفة والدعوة بمعنى العبادة والحق بمعنى الحقيق اللائق الغير الباطل.
والمعنى أن الدعوة التي هي التضرع والعبادة قسمان ما يكون حقاً وصواباً وما يكون باطلاً وخطأ ، فالتي تكون حقاً منها مختصة به تعالى لا يشاركه فيها غيره أو له الدعوة المجابة على أن يكون الحق بمعنى الثابت الغير الضائع الباطل ، فإنه الذي يجيب لمن دعاه دون غيره.
قال في المدارك المعنى أن الله يدعى فيستجيب الدعوة.
ويعطي السائل الداعي سؤاله فكانت دعوة ملابسة لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء بخلاف ما لا ينفع دعاؤه.
(4/232)
جزء : 4 رقم الصفحة : 352
فرو ماند كانرا برحمت قريب
تضرع كنانرا بدعوت مجيب
والذين يدعون من دونه أي والأصنام الذين يدعونهم الكفار متجاوزين الله في الدعاء إلى الأصنام فحذف الراجع ، أو والكفار الذين يدعون الأصنام من دونه تعالى فحذف المفعول لا يستجيبون أي : لا يجيب الأصنام وضمير العقلاء لمعاملتهم إياها معاملة العقلاء.
لهم أي : الكفار بشيء من مراداتهم إلا كباسط كفيه إلى الماء استثناء مفرغ من أعم عام المصدر أي إلا استجابة مثل استجابة مادٍ يديه ، أي : كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه.
قال الكاشفي : (مكر همون اجابت كسى كه بكشاده هرد وكف خودار بسوى آب يعني تشنه كه بر سر اهى رسد وبا و دلو رسنى نبود هردودست خود بسوى اه بكشايد وبفرياد وزارى آب رامي طلبد).
ليبغ فاه (تا بدهن او برسد).
أي : يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده ليصل إلى فمه فاللام متعلق بباسط ففاعل يبلغ هو الماء وما هو أي : الماء ببالغه ببالغ فيه لأنه جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ولا يقدر على نفعهم ، والتشبيه من المركب التمثيلي شبه حال الأصنام مع من دعاءهم من المشركين وهو عدم استجابتهم دعاء المشركين وعدم فوز المشركين من دعائهم الأصنام شيئاً من الاستجابة والنفع بحال الماء الواقع بمرأى من العطشان الذي يبسط إليه كفيه يطلب منه ، أي يبلغ فاه وينفعه من احتراق كبده ووجه الشبه عدم استطاعة المطلوب ، منه إجابة الدعاء وخيبة الطالب عن نيل ما هو أحوج إليه من المطلوب وهذا الوجه كما ترى منتزع من عدة أمور.
وما دعاء الكافرين يعني لأصنامهم إلا في ضلال في ضياع وخسار وباطل ، لأن الآلهة لا تقدر على إجابتهم وأما دعاؤهم له تعالى فالمذهب جواز استجابته كما في كتب الكلام والفتاوى ، وقد أجاب الله دعاء إبليس وغيره ألا ترى أن فرعون كان يدعو الله في مكان خال عند نقصان النيل فيستجيب الله دعاءه ويمده فإذا كان الله لا يضيع دعاء الكافرين فما ظنك بالمؤمن ، والماء وإن كان من طبعه التسفل ولكن الله تعالى إذا أراد يحركه من المركز إلى جانب المحيط على خلاف طبعه بطريق خرق العادة كما وقع لبعض أولياء الله تعالى فإنهم لوصولهم إلى المسبب قد لا يحتاجون إلى الأسباب حكي عن الشيخ أبي عبد الله بن حفيف رضي الله عنه قال : دخلتُ بغداد قاصداً الحج وفي رأسي نخوة الصوفية ، يعني : حدة الإرادة وشدة المجاهدة وإطراح ما سوى الله
355
تعالى ، قال : ولم آكل أربعين يوماً ، ولم أدخل على الجنيد وخرجت ولم أشرب وكنت على طهارتي فرأيت ظبيا في البرية على رأس بئر وهو يشرب وكنت عطشان فلما دنوت من البئر ولى الظبي ، وإذا الماء في أسفل البئر فمشيت وقلت يا سيدي مالي عندك محل هذا الظبي ، فسمعت من خلفي يقال : جربناك فلم تصبر ارجع فخذ الماء إن الظبي جاء بلا ركوة ولا حبل وأنت جئت ومعك الركوة والحبل فرجعت فإذا البئر ملآن فملأت ركوتي فكنت أشرب منها وأتطهر إلى المدينة ولم ينفد الماء ، فلما رجعت من الحج دخلت الجامع فلما وقع بصر الجنيد عليّ ، قال : لو صبرت لنبع الماء من تحت قدمك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 352
والإشارة في الآية : أن الله تعالى دعاة يدعون الخلق بالحق إلى الحق والذين يدعون لغير الحق لا يقبلون النصح إذا خرج من القلب الساهي ولا يتأثر ، فهم كمن بسط يده إلى الماء إراءة للخلق بأن يريد شربه وما هو ببالغه أي فمه فلا حصل الشرب على الحقيقة وإن توهم الخلق أنه شارب وهذا مثل ضربه الله للدعاة من أهل الأهواء والبدع يدعون الخلق إلى الله لغير الله فلا يستجابون على الحقيقة وإن استجيبوا في الظاهر لأنهم استجابوا لهم على الضلال يدل عليه قوله : وما دعاء الكافرين إلا في ضلال الخلق عن الحق كما في التأويلات النجمية.
ترسم نرسى بكعبه أي أعرابي
كاين ره كه توميروي بتركستانست
جزء : 4 رقم الصفحة : 352
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ} حقيقة وهو بوضع الجبهة على الأرض.
من في السموات يعني الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء وأهل الدرجات من المؤمنين.
والأرض من الملائكة والمؤمنين من الثقلين طوعاً حال أي طائعين حالتي الشدة والرخاء وكرها أي : كارهين حالة الشدة والضرورة وذلك من الكافرين والمنافقين والشياطين ، ويقال من ولد في الإسلام طوعاً ومن سبى من دار الحرب كرهاً ، وفي الحديث : عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل وفيه إشارة إلى أن من أهل المحبة والوفاء من يطلب لدخول الجنة فيأبى ذلك طلباً للقيام بالخدمة فتوضع في أعناقهم السلاسل من الذهب فيدخلون بها الجنة.
قال الكمال الخجندي :
نيست ما راغم طوبى وتمناي بهشت
شيوه مردم نا اهل بودهمت ست
(4/233)
وظلالهم على حذف الفعل ، أي : ويسجد ظلال أهل السموات والأرض بالعرض أي تبعاً لذي الظل ويجوز أن يراد بالسجود معناه المجازي وهو انقيادهم لإحداث ما أراده الله فيهم شاؤوا أو كرهوا ، وانقياد ظلالهم لتصريفه إياها بالمد والتقليص ونقلها من جانب إلى جانب فالكل مذلل ومسخر تحت الأحكام والتقدير بالغدو والآصال الغدو جمع غداة وهي البكرة والآصال جمع أصيل وهو العشي من حين زوال الشمس إلى غيبوبتها كما في بحر العلوم.
وقال في الكواشي وغيره : الأصيل ما بين العصر وغروب الشمس والباء بمعنى في ظرف ليسجد أي يسجد في هذين الوقتين والمراد بهما الدوام ؛ لأن السجود سواء أريد به حقيقته أو الانقياد والاستسلام لا اختصاص له بالوقتين ، وتخصيصهما مع أن انقياد الظلال وميلانها من جانب إلى جانب وطولها بسبب انحطاط الشمس وقصرها بسبب ارتفاعها لا يختص بوقت دون وقت بل هي مستسلمة منقادةتعالى في عموم الأوقات لأن الظلال إنما تعظم وتكثر فيهما.
جزء : 4 رقم الصفحة : 356
قال في التأويلات النجمية وظلالهم أي نفوسهم فإن النفوس ظلال الأرواح وليس السجود بالطوع من شأن النفوس ، لأن النفس
356
أمارة بالسوء طبعاً إلا ما رحم الرب تعالى لتسجد طوعاً والإكراه على السجود بتبعية الأرواح وأيضاً ولله يسجد من في السموات أي سموات القلوب من صفت القلوب والأرواح والعقول طوعاً والأرض أي ومن في أرض النفوس من صفات النفس والحيوانية والسبعية والشيطانية كرهاً لأنه ليس من طبعهم السجود والانقياد اه.
قال بعض الكبار : من أسرار هذا العالم أنه ما من حادث إلا وله ظل يسجدتعالى سواء كان ذلك الحادث مطيعاً أو عاصياً فإن كان من أهل الموافقة فهو ساجد مع ظلاله وإن كان من أهل المخالفة فالظل نائب منابه في الطاعة (وحقيقت آنست كه طوع ورغبت صفت آنهاست كه لطف ازل نهال ايمان درز مين دل ايشان نشانده ونفرت وكراهيت خاصيت آنانكه قهر لم يزل تخم خذلان در مزرعه نفس نافرمان ايشان فشانده)
برآن زخمى زندكين بي نيازيست
برين مرهم نهديكن دلنوازيست
قال الكاشفي : (اين سجده دوم است از سجدات قرآني وحضرت شيخ رضي الله عنه در سفر سابع ازفتوحات كه ذكر سجده قرآني ميكند اين را سجود الظلال وسجود العام كفه وفرموده كه لازم است بنده تصديق كند خدايرا درين خبر وسجده آرد) وقد سبق في آخر الأعراف ما يتعلق بسجدة التلاوة فارجع.
وأما سجدة الشكر وهي أن يكبر ويخر ساجداً مستقبل القبلة ، فيحمده تعالى ويشكره ويسبح ثم يكب فيرفع رأسه فقد قال الشافعي يستحب سجود الشكر عند تجدد النعم كحدوث ولد أو نصر على الأعداء ونحوه ، وعند دفع نقمة كنجاة من عدو أو غرق ونحو ذلك ، وعن أبي حينفة ومالك أن سجود الشكر مكروه ، ولو خضع فتقربتعالى بسجدة واحدة من غير سبب فالأرجح إنه حرام قال النووي : ومن هذا ما يفعله كثير من الجهلة الضالين من السجود بين يدي المشايخ فإن ذلك حرام قطعاً بكل حال ، سواء كان إلى القبلة أو لغيرها وسواء قصد السجودأو غفل وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر كذا في الفتح القريب.
قل يا محمد للمشركين من (كيست) رب السموات والأرض خالقهما ومالكهما ومتولي أمرهما قل في الجواب الله إذ لا جواب لهم سواه لأنه البين الذي لا مراء فيه فكأنه حكاية لاعترافهم به.
قل إلزاماً لهم أفأتخذتم من دونه أولياء الهمزة للإنكار والفاء للاستبعاد أي أبعد إقراركم هذا وعلمكم بأنه تعالى صانع العالم ومالكه اتخذتم من دونه تعالى أصناماً وهو منكر بعيد من مقتضى العقل لا يملكون أي : تلك الأولياء لأنفسهم نفعاً ولا ضراً لا يستطيعون لأنفسهم جلب نفع إليها ولا دفع ضرر عنها وإذا عجزوا عن جلب النفع إلى أنقسهم ودفع الضرر عنها كانوا عن نفع الغير ودفع الضر عنه أعجز ، ومن هو كذلك فكيف يعبد ويتخذ ولياً وهذا تجهيل لهم وشهادة على غباوتهم وضلالتهم التي ليس بعدها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 356
والإشارة : قل من رب السموات القلوب وأرض النفوس ومن دبر فيهما درجات الجنان بالأخلاق الحميدة ودركات النيران بالأخلاق الذميمة وجعل مشاهدة القلوب مقامات القرب وشواهد الحق ومراتع النفوس شهوات الدنيا ومنازل البعد ، قل الله أي أجب أنت عن هذا السؤال
357
لأن الأجانب منه بمعزل قل للأجانب أفأتخذتم من دونه أولياء من الشياطين والدنيا والهوى لا يملكون لأنفسهم ولا لكم نفعاً ولا ضراً في الدنيا والآخرة ؛ لأنهم مملوكون والمملوك لا يملك شيئاً.
قل هل يستوي الأعمى والبصير وارد على التشبيه ، أي : فكما لا يستوي الأعمى والبصير في الحس كذلك لا يستوي المشرك الجاهل بعظمة الله وثوابه وعقابه وقدرته مع الموحد العالم بذلك.
(4/234)
قال في التأويلات النجمية الأعمى من يرى غير الله مالكاً ومتصرفاً في الوجود والبصير من لا يرى مالكاً ولا متصرفاً في الوجود غير الله وأيضاً الأعمى هو النفوس لأنها تتعلق بغير الله وتحب غيره ، والبصير القلوب لأنها تتعلق بالله وتحبه فالأعمى من عمى بالحق وأبصر بالباطل والبصير من أبصر بالحق وعمى بالباطل ، وأيضاً الأعمى من أبصر بظلمات الهوى والبصير من أبصر بأنوار المولى.
أم هل تستوي الظلمات والنور هذا وارد على التشبيه أيضاً ، أي فكما لا تستوي الظلمات والنور كذلك لا يستوي الشرك والإنكار والتوحيد والمعرفة ، وعبر عن الشرك بصيغة الجمع لأنه أنواع ؛ شرك النصارى وشرك اليهود وشرك عبدة الأوثان وشرك المجوس وغيرها بخلاف التوحيد.
وفي التأويلات هل يستوي المستكن في ظلمات الطبيعة والهوى ومن هو مستغرق في بحر نور جمال المولى فالأول كالأعمى إذ لا يقدر أن يرى الملكوت من ظلمات الملك والثاني كالبصير فكما أن المستغرق في البحر والغائص فيه لا يرى غير الماء فكذا لا يرى أهل البصيرة سوى الله.
قال المولى الجامي :
عاشق اندر ظهر وباطن نه بيند غير دوست
يش اهل باطن اين معنى كه كفتم ظاهرست
أم جعلواشركاء بل اجعلوا فأم منقطعة ، والهمزة للإنكار بمعنى لم يكن.
والمعنى بالفارسية (يا آيا كافران ساختند براي خداي انبازاني كه) خلقوا كخلقة صفة شركاء داخلة في حكم الإنكار يعني أنهم لم يتخذواشركاء خالقين مثل خلق الله فتشابه الخلق عليهم حتى يتشابه ويلتبس عليهم خلق الله وخلقهم ، فيقولوا هؤلاء قدروا على الخلق كما قدر الله عليه فاستحقوا العبادة كما استحقها ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه أقل خلق الله وأذله وأصغره وأحقره فضلاً عن أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق.
قل الله خالق كل شيء من الأجسام والأعراض لا خالق غير الله فيشاركه في العبادة جعل الخلق موجب العبادة ولازم استحقاقها ، ثم نفاه عمن سواه ليدل على قوله وهو الواحد القهار يحتمل أن يكون هذا القول داخلاً تحت الأمر بقل ، ويحتمل أن يكون استئنافاً إخباراً منه تعالى بهذين الوصفين أي المتوحد بالألوهية الغالب على كل شيء فما سواه مقهور مغلوب له ومن الأشياء آلهتهم فهو يغلبهم فكيف يتوهم أن يكونوا له أولياء وشركاء
جزء : 4 رقم الصفحة : 356
نرد خدمت ون بنا موضع بباخت
شير سنكين را شقى شيرى شناخت
قال المولى الجامي :
مده بعشوه صورت عنان دل جامي
كه هست درس اين رده صورت آرايى
وفي التأويلات النجمية الواحد في ذاته وصفاته القهار لمن دونه أي هو الواحد في خلق الأشياء وقهرها لا شريك له فيه ولا في المطلوبية والمحبوبية ، فالعارف لا يطلب غير الله ولا يرى في مرآة الأشياء إلا الله.
358
شهود يار در ايغار مشرب جاميست
كدام غيركه لا شيء في الوجود سواه
والآية : إشارة إلى أنه تعالى خالق الخير والشر روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله ، إذ أقبل أبو بكر وعمر في جمعة من الناس فلما دنوا سلموا على رسول الله فقال بعض القوم : يا رسول الله قال أبو بكر الحسنات من الله والسيئات منا وقال عمر الحسنات والسيئات كلها من الله تعالى فتابع بعض القوم أبا بكر وبعض القوم عمر فقال عليه السلام : ما أقضى بينكما إلا كما قضى إسرافيل بين جبرائيل وميكائيل أما جبرائيل فقال مثل مقالتك يا عمر وأما ميكائيل فقال مثل مقالتك يا أبا بكر ، فقال جبرائيل : إذا اختلف أهل السماء اختلف أهل الأرض فهلم نتحاكم إلى إسرافيل فقصا عليه القصة فقضى بينهما أن القدر خيره وشره من الله تعالى ثم قال النبي عليه السلام : فهذا قضائي بينكما قال : يا أبا بكر لو شاء الله أن لايعصى في الأرض لم يخلق إبليس.
قال الحافظ :
دركار خانه عشق در كفرنا كزيرست
آتش كرا بسوز دكر بو لهب نباشد
نسأل الله التوفيق إلى الخير والفلاح والرشاد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 356
{أُنزِلَ} أي الله تعالى من السماء ماء أي مطراً ينحدر منها إلى السحاب ، ومنه إلى الأرض وهو رد لمن زعم أنه يأخذه من البحر ومن زعم أن المطر إنما يتحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء فينعقد هناك من شدة برد الهواء ثم ينزل مرة أخرى ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن تحت العرش بحر ينزل منه أرزاق الحيوانات يوحي الله إليه فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء الدنيا ، ويوحي إلى السحاب أن غربله فيغربله فليس من قطرة تقطر إلا ، ومعها ملك يضعها موضعها ولا ينزل من السماء قطرة إلا بكيل معلوم ووزن معلوم إلا ما كان يوم الطوفان من ماء فإنه نزل بغير كيل ولا وزن.
(4/235)
يقول الفقير : هذه الرواية أدل على قدرة الله تعالى مما ذهب إليه الحكماء كما لا يخفى فقول من قال في التفسير أي من السماء نفسها ، فإن مبادي الماء منها ففي لفظة من مجاز تضييق للأمر وعدول عن الحقيقة من غير وجه معتد به والله على كل شيء قدير فسالت من ذلك الماء والسيلان الجريان.
أودية جمع واد كأندية جمع ناد وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة والمراد ههنا الأنهار بطريق ذكر المحل وإرادة الحال ، ونكرها لأن المطر يأتي على طريق المناوبة بين البقاع فيسيل بعض أودية دون بعض بقدرها بفتح الدال وسكونها صفة لأودية أو متعلق بسالت والضمير راجع إلى المعنى المجازي للأودية أي بمقدارها الذي علم الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضار أي بالقدر الذي لا يتضرر الناس به.
وبالفارسية (باندازه كه خداي تعالى مقرر كرده كه آن سود رساند وزيان نكند) وذلك لأن ضرب المطر مثلاً للحق فوجب أن يكون مطراً خالصاً للنفع خالياً من المضرة ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف ، ويجوز أن يكون الضمير راجعاً إلى المعنى الحقيقي لها على طريق الاستخدام أي بمقدارها في الصغر والكبر أي إن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع الوادي كثر الماء ، وبالفارسية (بقدرها باندازه خود يعني هر وادي بمقدار خود در جزوى وبزركى وتنكى وفراخي برداشت) فاحتمل السيل أي حمل ورفع.
زبداً هو اسم لكل ما علا وجه الماء من رغوة وغيرها
359
جزء : 4 رقم الصفحة : 359
سواء حصل بالغليان أو بغيره.
وبالفارسية (كف) واصله كل شيء تولد من شيء مع مشاهبته له ومنه الزبد.
رابياً عالياً فوق الماء ومما يوقدون عليه في النار خبر مقدم لقوله زبد مثله وعليه متعلق بيوقدون.
والإيقاد جعل النار تحت الشيء ليذوب ، وفي النار حال من الضمير في عليه ، أي ومن الذي يوقد الناس عليه يعني (ميكذارند) حال كونه ثابتاً في النار وهو يعم الفلزات ، والفلز بكسر الفاء واللام وشد الزاي جوهر الأرض أي الأجساد السبعة المعدنية التي تذاب وهي الذهب والفضة والحديد والنحاس والآنك والزئبق والصفر ابتغاء حلية مفعول له ، أي طلب زينة فإن أكثر الزين من الذهب والفضة أو متاع عطف على حلية وهو ما يتمتع به أي ينتفع به كالنحاس والحديد والرصاص يذاب فيتخذ منه الأواني وآلات الحروب والحرث.
زبد مثله قوله : مثله صفة زبد ، أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء يعلو عليه إذا أذيب وهو الخبث على أن تكون من ابتدائية أو بعضه زبد مثله على أن تكون تبعيضية.
كذلك في محل النصب أي مثل ذلك الضرب والبيان والتمثيل يضرب الله الحق والباطل أي : بينهما ويمثلهما فإنه تعالى مثل الحق في الثبات والنفع بالماء النافع وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلى منه واتخاذ الأمتعة المختلفة ، وشبه الباطل في سرعة زواله وقلة نفعه بالزبد الضائع ، أي بزبد السيل الذي يرمى به وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب ، فالزبد وإن علا الماء فهو ينمحق وكذا الباطل وإن علا الحق في بعض الأحوال فإن الله سيمحقه ويبطله بجعل العاقبة للحق وأهله ، كما قيل : للحق دولة وللباطل صولة.
قال الحافظ :
سحر با معجزه هلو نزند ايمن باش
سامرى كيست كه دست از يد بيضا ببرد
وبين وجه الشبه وهو الذهاب باطلاً مطروحاً والثبات نافعاً مقبولاً بقوله : فأما الزبد (اما كف روى آب وخبث بالاي فلز) وبدأ بالزبد مع تأخره فإن ذا الزبد يبقى بعد الزبد ويتأخر وجوده الاستمراري فيذهب جفاء قال في القاموس الجفاء كغراب الباطل وهو حال ، أي باطلاً مرمياً به.
وأما ما ينفع الناس كالماء وخلاصة الفلز.
فيمكث في الأرض أي يبقى ولا يذهب فينتفع به الناس أما الماء فيثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار وأما الفلز فيبقى أزمنة متطاولة كذلك (همنين كه ذكر كرده شد) يضرب الله الأمثال ويبينها لإيضاح المشتبهات ، والمثل القول الدائر بين الناس ، والتمثيل أقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي وهو إظهار للوحشي في صورة المألوف.
جزء : 4 رقم الصفحة : 359
قال الكاشفي : (بعضي بادنندكه مراد ازين آب قر آنست كه حيات دل اهل ايمانست وأودية دلها اندكه فراخور استعداد خود ازان فيض ميكيرند وزبد هواجس نفساني ووساوس شيطاني است).
وقال أبو الليث في تفسيره شبه الباطل بالزبد يعني احتملت القلوب على قدر هواها باطلاً كثيراً فكما أن السيل يجمع كل قذر فكذلك الهوى يحتمل الباطل وكما أن الزبد لا وزن له فكذلك الباطل لا ثواب له ، والإيمان واليقين ينتفع به أهله في الآخرة كما ينتفع بالماء الصافي في الدنيا ، والكفر والشك لا ينتفع به في الدنيا والآخرة.
وفي التأويلات النجمية انزل من السماء من سماء القلوب ماء المحبة فسالت أوية النفوس بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً
360
(4/236)
من الأخلاق الذميمة النفسانية والصفات البهيمية الحيوانية وانزل من سماء الأرواح ماء مشاهدات أنوار الجمال فسالت أودية القلوب بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً من أنانية الروحانية وانزل من سماء الجبروت ماء تجلى صفة الألوهية فسالت أودية الأسرار بقدرها فاحتمل السيل زبد الوجود المجازي.
قال في المثنوى :
ون تجلى كرد اوصاف قديم
س بسوزد وصف حادث را كليم
جزء : 4 رقم الصفحة : 359
{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} خبر مقدم لقوله الحسنى أي للمؤمنين الذين أجابوا في الدنيا إلى ما دعا الله إليه من التوحيد والطاعة المثوبة الحسنى في الآخرة ، وهي الجنة وسميت بذلك لأنها في نهاية الحسن لكونها من آثار الجمال الصفاتي ، وأما الأحسن فهو الله تعالى وحسنه الأزلي من ذاته لا من غيره فقد علم من هذا أن الداعي إلى الحسنى هو الله تعالى والمجيب إلى تلك الدعوة الإلهية هو المؤمنون ، والجنة ونعيمها هي الضيافة العظمى وقد ورد اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
قال بعض الكبار : من أحب رؤية الله أحب الجنة لأنها محلها.
يقول الفقير : فيه تصريح بأن الجنة محل الرؤية لا محل الله تعالى حتى يلزم إثبات المكان له ولا يلزم من كونها محل الرؤية كونها محله تعالى لأن التقيد بالمكان حال الرائي لا حال المرئي والدنيا والآخرة سواء بالنسبة إلى الرائي كما أنهما سيان بالنسبة إلى المرئي إذ لو رؤي في الدنيا بحسب ارتفاع الموانع لكان لا يضر إطلاقه وتنزهه ، وكذا لو رؤي في الجنة وقد ثبت أن رسول الله رآه في الدنيا فجعلت الدنيا ظرفاً لرؤيته مع أن الله تعالى على تنزهه الأزلي وإذا عرفت هذا عرفت ضعف قول الفقهاء لو قال أرى الله في الجنة يكفر لأنه يزعم أن الله تعالى في الجنة والحق أن يقال نرى الله في الجنة انتهى قولهم.
مجرد ابيش ز اطلاق وتقييد
اكر جلباب هستى راكنى شق
والذين لم يستجيبوا له وهم الكافرون بالله الخارجون عن الطاعة وهو مبتدأ خبره قوله لو أن لهم (اكر باشد مرايشانرا) ما في الأرض جميعاً من نقودها وأمتعتها وضياعها ومثله معه وضعفه معه (يعني آن قدركه نقود وأقمشه ديني هست باآن اضافت كنند وهمه در تصرف كافران باشد روز قيامت) لافتدوا به جعلوه فداء أنفسهم من العذاب ولو فادوا به لا يقبل منهم.
يقول الفقير : سر هذا أنهم بسبب الدنيا غفلوا عن الله تعالى وحين الانتباه بالموت والبعث صغر في أعينهم الدنيا وما فيها فلو قدروا لبذلوا الكل وأخذوا الله تعالى بدلاً منه فقد قصروا في وقت القبول وتمنوا ما تمنوا حين لا درهم ولا دينار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 361
مده براحت فإني حيات باقي را
بمحنت دوسه روز ازغم ابد بكريز
أولئك (آن كروه) لهم سوء الحساب هو المناقشة بأن يحاسب الرجل بذنبه ولا يغفر منه شيء.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك قلت أو ليس يقول الله فسوف يحاسب حساباً يسيراً}(الإنشقاق : 8) فقال : "إنما ذلك العرض ولكن من نوقش في الحساب يهلك" والمناقشة الاستقصاء في الحساب بحيث لا يترك
361
منه شيء يقال ناقشه الحساب إذا عاسره فيه واستقصى فلم يترك قليلاً ولا كثيراً ، ومعنى الحديث أن المناقشة في الحساب وعدم المسامحة مفض إلى الهلاك ودخول النار ولكن الله يعفو ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء.
قال النووي : وهذا لمن لم يحاسب نفسه في الدنيا فيناقش بالصغيرة والكبيرة فأما من تاب وحاسب نفسه فلا يناقش كما في "الفتح القريب".
نريزد خدا آب روى كسى
كه ريزد كناه آب شمش بسى
{وَمَأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ} مرجعهم بعد المناقشة جهنم.
فإن قلت : هلا قيل مأواهم النار.
قلت : لأن في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً ويحتمل أن يكون جهنم هي أبعد النار قعراً من قولهم بئر جهنم بعيدة القعر.
قال بعضهم : جهنم معرب وكأنه في الفرس (ه نم) وبئس المهاد (وبد جايكاهست دوزخ) وهو بمعنى الممهود المبسوط يقال مهدت الفراش مهداً أي بسطته ، أطلق ههنا بمعنى المستقر مطلقاً أي بئس موضع القرار جهنم وروى أحمد أنه عليه السلام قال لجبريل مالي لا أرى ميكائيل ضاحكاً فقال : ما ضحك منذ خلقت النار وروى أن موسى عليه السلام ناجى ربه فقال يا رب خلقت خلقاً وربيتهم بنعمتك ثم تجعلهم يوم القيامة في نارك قال في المثنوى :
مستفيدي اعجمي شد آن كليم
تا عجميا نرا كند زين سر عليم
فأوحى الله تعالى إليه آن يا موسى قم فازرع زرعاً فزرعه فسقاه وقام عليه وحصده وداسه فقال له : ما فعلت بزرعك يا موسى قال قد رفعته قال : فما تركت منه شيئاً قال : يا رب تركت ما لا خير فيه قال يا موسى : فإني أدخل النار ما لا خير فيه وهو الذي يستنكف أن يقول لا إله إلا الله وفي المثنوى.
ونكه موسى كشت وشد كشتش تمام
خوشهايش يافت خوبى ونظام
داس بكرفت ومران را مى بريد
س ندا ازغيب دركوشش رسيد
كه را كشتى كنى ورورى
(4/237)
ون كمالى يافت آنرا مى برى
كفت يا رب زان كنم ويران وست
كه در اينجا دانه هست وكاه هست
جزء : 4 رقم الصفحة : 361
دانه لايق نيست در انبار كاه
كاه در انبار كندم هم تباه
نيست حكمت اين دورا آميختن
فرق واجب مى كند در بيختن
كفت اين دانش تو ازكه يا فتى
كه بدانش بيدرى برساختى
كفت تمييزم تودادي اي خدا
كفت س تمييز ون نبود مرا
در خلايق روحهاى اك هست
روحهاى تيره وكلناك هست
اين صدفها نيست دريك مرتبه
در يكى دراست ودر ديكر شبه
واجبست اظهار اين نيك وتباه
همنا كاظهار كندمها زكاه
جزء : 4 رقم الصفحة : 361
{أَفَمَن يَعْلَمُ} (آي كسى ميداندكه) أن ما أنزل إليك من ربك (آنكه هره فرو فرستاده اند بسوى تو از روردكار تو) الحق (درست وراستست) يعني يعلم أن القرآن الذي أنزل الله تعالى هو الحق وهو حمزة بن عبد المطلب أو عمار كمن هو أعمى
362
قلبه فينكر القرآن وهو أبو جهل أي لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ومن لا يبصره ولا يتبعه وهذا عام فيمن كان كذلك.
وفي المثنوى :
در سرورو در كشيده ادرى
رونهان كرده زشمت دلبرى
شاه نامه يا كليله يش تو
همنان باشد كه قرآن ازعتو
فرق آنكه باشد ازحق ومجاز
كه كند كحل عنايت شم باز
وزنه شك ومشك يش اخشمى
هردويكسانست ون نبودشمى
كفت يزدان كه ترا هم ينظرون
نقش حمامند هم لا يبصرون
إنما يتذكر أولوا الألباب أي لا يقبل نصح القرآن ولا يعمل به إلا ذووا العقول الصافية من معارضة الوهم.
قال في التأويلات هم المستخرجة عقولهم من قشور آفات الحواس والوهم والخيال المؤيدة بتجلى أنوار الجمال والجلال.
اعلم أن طالب الحق لا بد له في التزكية من التفكر ثم التذكر وبينهما فرق فإن التذكر فوق التفكر فإن التفكر طلب ، والتذكر وجود ، يعني أن التفكر لا يكون إلا عند فقدان المطلوب لاحتجاب القلب بالصفات النفسانية فتلتمس البصيرة مطلوبه ، وأما التذكر فعند رفع الحجاب وخلوص الخلاصة الإنسانية من قشور صفات النفس والرجوع إلى الفطرة الأولى فيتذكر ما انطبع في النفس في الأزل من التوحيد والمعارف بعد النسيان.
قال في حياة الأرواح التذكر لا يكون إلا لذي لب قد خلص من قشر غواشي النشأة قال تعالى : وما يتذكر إلا أولوا الألباب والنسيان إنما يحصل بسبب الغواشي كما قال تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى}(طه : 115) وقد أمر الله بأحكام الشريعة لإزالة هذه الغواشي والملابس وعدد الأعضاء المكلفة ثمانية ، وهي العين والأذن واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب فعلى كل واحد من هذه الأعضاء تكليف يخصه من أنواع الأحكام الشرعية أو فعال المحمدة عند الله ، فالمحمدة كالصلاة والصوم وما أشبه ذلك والمذمة كضربك نفسك بسكين لتقتلها ومنها ما لا يلحقك فيه مذمة ولا محمدة كصنف المباح ، ولا يجوز ذلك هذا الفعل إلا في ذاتك وأما في غيرك فلا إلا بشرط ما ، فالذي لذاتك كنظرك إلى عورتك والذي هو مع غيرك ثمانية أصناف المال والولد والزوجة وملك اليمين والبهيمة والجار والأجير والأخ الإيماني والطيني.
جزء : 4 رقم الصفحة : 362
{الَّذِينَ} الموصولات مع صلاتها مبتدأة خبرها قوله : أولئك لهم عقبى الدار يوفون بعده الله عهد الله مضاف إلى مفعوله ، أي بما عقدوه على أنفسهم من الشهادة والاعتراف بربوبيته حين قالوا بلى شهدنا ، وبالفارسية : (آنانكه وفاميكنند به يمان خداي تعالى كه درروز ميثاق بسته اند) ولا ينقضون الميثاق أي ذلك العهد بينهم وبين الله وكذا عهودهم بينهم وبين الناس فهو تعميم بعد تخصيص.
والذين يصلون (وآنانكه يوند ميكنند) ما أمر الله به أن يوصل المفعول الأول محذوف تقديره ما أمرهم به وأن يوصل بدل من الضمير المجرور أي يوصله.
وهذه الآية يندرج فيها أمور.
الأول صلة الرحم واختلف في حد الرحم التي يجب صلتها.
فقيل كل ذي رحم محرم بحيث لو كان أحدهما ذكراً والآخر أنثى حرمت مناكحتهما فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام والعمات وأولاد الخال والخالات.
363
وقيل هو عام في كل ذي رحم محرماً كان أو غير محرم وارثا كان أو غير وارث وهذا القول هو الصواب.
قال النووي : وهذا أصح والمحرم من لا يحل له نكاحها على التأبيد لحرمتها.
فقولنا على التأبيد احتراز عن أخت الزوجة ، وقولنا لحرمتها احتراز عن الملاعنة فإن تحريمها ليس لحرمتها بل للتغليظ.
واعلم أن قطع الرحم حرام والصلة واجبة ، ومعناها التفقد بالزيارة والإهداء والإعانة بالقول والفعل وعدم النسيان ، وأقله التسليم وإرسال السلام والمكتوب ، ولا توقيت فيها في الشرع بل العبرة بالعرف والعادة كذا في شرح الطريقة.
وصلة الرحم سبب لزيادة الرزق وزيادة العمر وهي أسرع أثراً كعقوق الوالدين فإن العاق لهما لا يمهل في الأغلب ولا تنزل الملائكة على قوم فيهم قاطع رحم.
والثاني الإيمان بكل الأنبيا عليهم السلام فقولهم نؤمن ببعض ونكفر ببعض قطع لما أمر الله به أن يوصل.
(4/238)
والثالث موالاة المؤمنين فإنه يستحب استحباباً شديداً زيارة الأخوان والصالحين والجيران والأصدقاء والأقارب وإكرامهم وبرهم وصلتهم وضبط ذلك يختلف باختلاف أحوالهم ومراتبهم وفراغهم وينبغي للزائر أن تكون زيارته على وجه لا يكرهون وفي وقت يرتضون فإن رأى أخاه يحب زيارته ويأنس به أكثر زيارته والجلوس عنده ، وإن رآه مشتغلاً بعبادة أو غيرها أو رآه يحب الخلوة يقل زيارته حتى لا يشغله عن عمله ، وكذا عائد المريض لا يطيل الجلوس عنده إلا أن يستأنس به المريض ، ومن تمام المواصلة المصافحة عند الملاقاة ويستحب مع المصافحة البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة وغيرها.
قال الحافظ :
جزء : 4 رقم الصفحة : 362
يارى اندركس نمى بينيم يارانرا ه شد
دوستى كي آخر آمدد وستدارا نراه شد
كسى نمى كويدكه يارى داشت حق دوستى
حق شنا سانراه حال افتاد ويار انراه شد
والرابع : مراعاة حقوق كافة الخلق حتى الهرة والدجاجة.
وعن الفضيل أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال : من أين أنتم؟ قالوا : من أهل خراسان قال اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم واعلموا أن العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين وروى أن امرأة عذبت في هرة حبستها فلم تطعمها إلى أن ماتت وامرأة رحمها الله وغفر لها بسبب أن سقت كلباً عطشان بخفها.
وكان أويس القرني يقتات من المزابل ويكتسى منها فنبحه يوماً كلب على مزبلة فقال له أويس : كل ممايليك وأنا آكل مما يليني ولا تنبحني فإن جزت الصراط فأنا خير منك وإلا فأنت خير مني.
يقول الفقير : وذلك لأن الإنسان السعيد خير البرية والشقي شر البرية ، والكلب داخل في البرية وهذا كلام من مقام الانصاف فإن أهل الحق لا يرون لأنفسهم فضلاً ولذا كانوا يعدون من سواهم أياًما كان خيراً منهم ، وورد : رب بهيمة خير من راكبها وهذا العلم أعطاهم مراعاة الحقوق مع جميع الحيوانات ويخشون ربهم أي وعيده عموماً ويخافون سوء الحساب خصوصاً فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
وقال أبو هلال العسكري الخوف يتعلق بالمكروه ومنزل المكروه يقال خفت زيداً وخفت المرض كما قال تعالى : يخافون ربهم من فوقهم}(النحل : 50) ، وقال : {وَيَخَافُونَ سُواءَ الْحِسَابِ} والخشية تتعلق بمنزل المكروه ولا يسمى الخوف من نفس المكروه خشية ولهذا قال ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب انتهى وسوء الحساب سبق قريباً والخوف من أجل المنازل وأنفعها للقلب وهو فرض على كل أحد.
364
هركه ترسد مرورا ايمن كنند
مر دل ترسنده را ساكن كنند
جزء : 4 رقم الصفحة : 362
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا} على ما تكره النفوس من أنواع المصائب ومخالفة الهوى من مشاق التكاليف ابتغاء وجه ربهم طلباً لرضاه من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء وسمعة ولا إلى جانب النفس زينة وعجبا.
واعلم أن مواد الصبر كثيرة منها.
الصبر على العمى وفي الحديث القدسي : إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه أي العينين وسميتا بذلك لأنهما أحب الأشياء إلى الشخص فصبر على البلاء راضياً بقضاء الله تعالى عوضته منهما الجنة والأعمى أول من يرى الله تعالى يوم القيامة.
ومنها الصبر على الحمى وصداع الرأس وموت الأولاد والأحباب وغير ذلك من أنواع الابتلاء ، ومنها الصوم فإن فيه صبراً على ما تكرهه النفس من حيث إنها مألوفة بالأكل والشرب والصوم ربع الإيمان بمقتضى قوله عليه السلام : الصوم نصف الصبر والصبر نصف الإيمان.
قال الحافظ :
ترسم كزين من نبرى آستين كل
كز كلشنش تحمل خارى نميكنى
روى أن شقيق بن إبراهيم البخلي دخل على عبد الله بن المبارك متنكراً فقال له عبد الله من أين أتيت؟ فقال : من بلخ قا : ل وهل تعرف شقيقاً : قال نعم ، قال كيف طريقة أصحابه؟ فقال : إذا منعوا صبروا وإذا أعطوا شكروا ، فقال عبد الله : طريقة كلا بنا هكذا ، فقال : وكيف ينبغي أن يكون الأمر فقال الكاملون هم الذين إذا منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا.
قال حضرة شيخي وسندي روح الله روحه في بعض مناجاته : اللهم إني أحمدك في السراء والضراء ، وأقول في السراء الحمدالمنعم المفضل نظراً إلى النعمة الظاهرة والمنحة الجلية في السراء وأقول في الضراء الحمدعلى كل حال نظراً إلى النعمة الباطنة والمنحة الخفية في الضراء لكن أشكرك في السراء وأقول الشكرطمعاً في زيادة النعمة والمنحة بمقتضى وعدك في قولك لئن شكرتم لأزيدنكم}(إبراهيم : 7) فإذا دفعت عني البلية ورفعت المحنة فاشكرك مطلقاً كما أحمدك كذلك وأقول الشكرمطلقاً كما أقول الحمدكذلك انتهى.
(4/239)
وهذا كلام لم أر مثله من المتقدمين حقيق بالقبول والحفظ فرضي الله عن قائله {وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ} المفروضة أي داوموا على إقامتها وانفقوا مما رزقناهم أي بعضه الذي وجب عليهم إنفاقه فمن للتبعيض والمراد بالبعض المتصدق به الزكاة المفروضة لاقترانه بالصلاة التي هي أخت الزكاة وشقيقتها أو مطلق ما ينفق في سبيل الله نظراً إلى إطلاق اللفظ من غير قرينة الخصوص سراً لمن لا يعرف بالمال يتناول النوافل لأنها في السر أفضل وعلانية لمن عرف به يشمل الفرائض لوجوب المجاهرة بها نفياً للتهمة ، وانتصابهما على الحال أي ذوي سر وعلانية بمعنى مسرين ومعلنين ، أو على الظرف أي وقتى سر وعلانية أو على المصدر أي انفاق سر وعلانية.
والمعنى إسرار النوافل من الصدقات والإعلان بالفرائض.
جزء : 4 رقم الصفحة : 365
ومن الانفاق الواجب الانفاق على الأبوين إذا كانا فقيرين.
قال الفقهاء : تقدم الأم على الأب في النفقة إذا لم يكن عند الولد إلا كفاية أحدهما لكثرة تعبها عليه وشفقتها وخدمتها ومعاناة المشاق في حمله ثم وضعه ثم إرضاعه ثم تربيته وخدمته ومعالجة أوساخه وتمريضه وغير ذلك كما في الفتح القريب.
قال الشيخ عز الدين : الواجب قسمان واجب بالشرع
365
وواجب بالمروءة والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة فإن منع واجبا منهما فهو بخيل ، ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل كالذي يمنع أداء الزكاة والنفقة الواجبة أو يؤديها بمشقة فإنه بخيل بالطبع متسخ بالتكلف ، أو كان بحيث لا يطيب له أن يعطي من أطيب ماله أو من أوسطه فهذا كله بخل وأما واجب المروءة المضايقة والاستقصاء في المحقرات فإن ذلك مستقبح واستقباحه يختلف بالأحوال والأشخاص فمن كثر ماله يستقبح منه ما لا يستقبح من الفقير من المضايقة ما لا يستقبح أقل منه في المبايعة والمعاملة ، فيختلف ذلك بما فيه المضايقة من ضيافة أو معاملة وبما به المضايقة من طعام أو ثوب فالبخيل هو الذي يمنع حيث ينبغي أن لا يمنع إما بحكم الشرع وإما بحكم المروءة وجاء في وصف البخيل.
لو عبر البحر بأمواجه
في ليلة مظلمة بارده
وكفه مملوءة خردلاً
ما سقطت من كفه واحده
وفيه :
خواجه در ما هتاب نان ميخورد
در سرايى كه هي خلقي نبود
سايه خويش را كسى نداشت
كاسه از يش خويشتن بربود
واعلم أن الله تعالى أسند الانفاق إليهم وإعطاء الرزق إلى ذاته تعالى تنبيهاً على أنهم أمناء الله فيما أعطاهم ووكلاؤه ، والوكيل دخيل في التصرف لا أصيل ، فينبغي له أن يلاحظ جانب الموكل لا جانب نفسه ولا جانب الخلق وقد قالوا من طمع في شكر أو ثناء فهو بياع لا جواد فإنه اشترى المدح بماله والمدح لذيذ مقصود في نفسه والجود هو بذل الشيء من غير غرض.
كرم ولطف بي غرض بايد
تا ازان مردمتهم نبود
از كرم ون جزا طمع داري
آن تجارت بود كرم نبود
ومن الكرم ضيافة الأخوان في شهر رمضان ، وفي الحديث : يا أصحابي لا تنسوا أمواتكم في قبورهم خاصة في شهر رمضان فإن أرواحهم يأتون بيوتهم فينادي كل أحد منهم ألف مرة من الرجال والنساء أعطفوا علينا بدرهم أو برغيف أو بكسرة خبز أو بدعوة أو بقراءة آية أو بكسوة كساكم الله من لباس الجنة كذا في ربيع الأبرار فإذا كان الرغيف أو الكسرة مفيداً مقبولاً عند الله تعالى فما ظنك بما فوقه من اللذائذ وفي الحديث : من لقم أخاه لقمة حلوة صرف الله عنه مرارة الموقف يوم القيامة ويدرأون بالحسنة السيئة ويدفعونها بها فيجاوزون الإساءة بالإحسان والظلم بالعفو والقطع بالوصل والحرمان بالعطاء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 365
كم مباش از درخت سايه فكن
هركه سنكش زند ثمر بخشش
از صدف يا دكير نكته حلم
هركه زد برسرش كهر بخشش
أو المعنى يتبعون الحسنة السيئة فتمحوها وأحسن الحسنات كلمة لا إله إلا الله إذ التوحيد رأس الدين فلا أفضل منه كما أن الرأس أفضل الجوارح.
وعن ابن كيسان إذا اذنبوا تابوا فيكون المراد بالحسنة التوبة وبالسيئة المعصية.
قال عبد الله بن المبارك : هذه ثمان خصال مسيرة إلى ثمانية أبواب الجنة أولئك (آن كروه كه بدين صفات موصوفند) لهم عقبى الدار عاقبة الدنيا ومرجع
366
أهلها وهي العاقبة المطلقة التي هي الجنة وأما النار فإنما كانت عقبى الكافرين لسوء اختيارهم وليس كونها عاقبة دار الدنيا مقصوداً بالذات بخلاف الجنة.
جنات عدن بدل من عقبى الدار والعدن الإقامة يقال عدن بالبلد يعدن بالكسر أي أقام وسمى منبت الجواهر من الذهب ونحوه المعدن بكسر الدال لقرارها فيه أو لأن الناس يقيمون فيه ، الصيف والشتاء.
يدخلونها أي جنات يقيمون فيها ولا يخرجون منها بعد الدخول.
وقيل : هو وسط الجنان وأفضلها وأعلاها وهو مقام التجلي الإلهي والانكشاف الإلهي خلقه الله بيده من غير واسطة.
(4/240)
يقول الفقير : الوجه الثاني أوجه عندي ، لأن الإقامة في الجنة من شأن كل مؤمن كاملاً كان أو ناقصاً وأما الإقامة في جنة عدن فإنما هي من شأن المؤمن الكامل وليس الكمال إلا بإتيان هذه الخصال الثمان وليس كل أحد يكفل بمؤونتها ويتصف بها إلا من هداه الله من الخواص ومن صلح من آبائهم عطف على المرفوع في يدخلونها وإنما ساغ للفصل بالضمير.
قال في بحر العلوم وآبائهم جمع أبوي كل واحد منهم ، كأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم والمعنى إنه يلحق بهم الصلحاء من أبويهم وأزواجهم جمع زوج.
بالفارسية (زن) ويقال للمرأة الزوج والزوجة والزوج أفصح.
وذرياتهم أولادهم وإن لم يبلغوا مبلغ فضلهم تبعاً لهم وتعظيماً لشأنهم وتكميلاً لفرحهم.
ويقال من أعظم سرورهم أن يجتمعوا فيتذاكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكروا الله على الخلاص منها ، والفوز بالجنة ، وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة فإنه إذا جاز أن تعلو بمجرد التبعية للكاملين في الإيمان تعظيماً لشأنهم فلان تعلو بشفاعتهم أولى والتقييد بالصلاح دليل على أن النسب المجرد لا ينفع قيل :
أتفخر باتصالك من عليّ
وأصل البولة الماء القراح
وليس بنافع نسب زكي
يدنسه صنائعك القباح
جزء : 4 رقم الصفحة : 365
أصل را اعتبار ندان نيست
روى تركل زخار خندان نيست
مى زغوره شود شكرازنى
عسل از نحل حاصلست بقى
والملائكة يدخلون عليهم من كل باب من أبواب المنازل فإنه يكون لمقامهم ومنازلهم أبواب فيدخلون عليهم من كل باب ملك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 365
{سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ} في موقع الحال ، لأن المعنى قائلين سلام عليكم يعني سلمكم الله من العذاب سلامة وما تخافون منه وفي الحديث : إن للعبد من أهل الجنة لسبعين ألف قهرمان إذ الملائكة يحبونه ويسلمون عليه ويخبرونه بما أعد الله تعالى.
قال مقاتل : يدخلون عليهم في مقدار يوم وليلة من أيام الدنيا ثلاث كرات معهم الهدايا والتحف من الله يقولون سلام عليكم بشارة لهم بدوام السلامة بما صبرتم أي هذه الكرامة العظمى بسبب صبركم في الدنيا على الفقر وملازمة الطاعة ، تلخيصه تعبتم ثمة فاسترحتم هنا (در اخبار آمده كه حضرت رسالت عليه السلام بلال را كفت نان فقيركن كه بخداي رسى نه غنى)
كانجا فقرا از همه مقبولترند
وعن أنس رضي الله عنه قال : بعث الفقراء إلى رسول الله رسولاً فقال
367
يا رسول الله إني رسول الفقراء إليك فقال : مرحباً بك جئت من عند قوم هم أحب إلي فقال يا رسول الله إن الفقراء يقولون لك إن الأغنياء قد ذهبوا بالخير كله ، هم يحجون ولا نقدر عليه ويتصدقون ولا نقدر عليه ، ويعتقون ولا نقدر عليه وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخراً لهم فقال عليه السلام : بلغ الفقراء عني آن لمن صبر واحتسب منهم ثلاث خصال ليس للأغنياء منها شيء.
أما الخصلة الأولى فإن في الجنة غرفاً من ياقوت أحمر ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الدنيا إلى النجوم لا يدخلها إلا نبي فقير ، أو شهيد فقير أو مؤمن فقير.
والخصلة الثانية يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو مقدار خمسمائة عام.
والخصلة الثالثة إذ قال الفقير : سبحان الله والحمدولا إله إلا الله والله أكبر مخلصاً وقال الغني مثل ذلك لم يلحق الغنى بالفقير في فضله وتضاعف الثواب وإن أنفق الغني معها عشرة آلاف درهم وكذلك أعمال البر كلها فرجع الرسول إليهم وأخبرهم بذلك فقالوا رضينا يا رب فنعم عقبى الدار المخصوص بالمدح محذوف أي فنعم عقبى الدار جنات عدن ، واللام في الدار للجنس لا غير كما في بحر العلوم وقد وعدهم الله بثلاثة أمور الأول الجنة والثاني أن يضم إليهم من آمن من أهلهم ولم يعملوا مثل عملهم والثالث دخول الملائكة عليهم من كل باب مبشرين لهم بدوام السلامة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 367
(4/241)
وعن الشيخ عبد الواحد بن زيد رحمه الله قال : كنت في مركب فطرحتنا الريح إلى جزيرة وإذا فيها رجل يعبد صنماً فقلنا له : يا رجل من تعبد فاومأ إلى الصنم ، فقلنا له : إن إلهك هذا مصنوع ، عندنا من يصنع مثله ما هذا باله يعبد ، قال : فأنتم من تعبدون؟ قلنا : نعبد الذي في السماء عرشه وفي الأرض بطشه وفي الأحياء والأموات قضاؤه قال : ومن أعلمكم بهذا؟ قلنا وجه إلينا رسولاً كريما فأخبرنا بذلك قال فما فعل الرسول فيكم؟ قلنا لما أدى الرسالة قبضه الله إليه وترك عندنا كتاباً فأتيناه بالمصحف وقرأنا عليه سورة فلم يزل يبكي حتى ختمنا السورة فقال : ينبغي لصاحب هذا الكلام أن لا يعصى ثم أسلم وعلمناه شرائع الدين وسوراً من القرآن فلما كان الليل صلينا العشاء وأخذنا مضاجعنا فقال يا قوم هذا الإله الذي دللتموني عليه ينام إذا جن الليل قلنا : لا قال فبئس العبيد أنتم تنامون ومولاكم لا ينام فاعجبنا كلامه ، فلما قدمنا عبادان قلت لأصحابي هذا قريب عهد بالإسلام فجمعنا له دراهم وأعطيناه فقال : ما هذا؟ قلنا دراهم تنفقها فقال : لا إله إلا الله دللتموني على طريق لم تسلكوها أنا كنت في جزائر البحر أعبد صنماً من دونه فلم يضيعني وأنا لا أعرفه فكيف يضيعني الآن وأنا أعرفه فلما كان بعد ثلاثة أيام قيل لي : إنه في الموت فأتيته فقلت له هل من حاجة؟ قال قضى حوائجي من جاء بكم إلى الجزيرة ، قال عبد الواحد فغلبتني عيناي فنمت عنده فرأيت روضة خضراء فيها قبة وفي القبة سرير وعلى السرير جارية حسناء لم ير أحسن منها وهي تقول بالله إلا ما عجلتم به إليّ فقد اشتد شوقي إليه فاستيقظت فإذا به قد فارق الدنيا فغسلته وكفنته وواريته فلما كان الليل رأيت في منامي تلك الروضة وفيها تلك القبة وفي القبة ذلك السرير وعلى السرير تلك الجارية وهو إلى جانبها وهو يقرأ هذه الآية والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
واعلم أن استماع سلام الملائكة ورؤيتهم في الدنيا مخصوص بخواص اللبشر للطافة
368
جوهرهم كما قال الامام الغزالي رحمه الله في المنقذ من الضلال إن الصوفية يشاهدون الملائكة في يقظتهم أي لحصول طهارة نفوسهم وتزكية قلوبهم وقطعهم العلائق وحسمهم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال وإقبالهم على الله بالكلية علماً دائماً وعملاً مستمراً وأما غيرهم فلا يراهم إلا في عالم المثال أو في النشأة الآخرة كما لا يخفى.
والذين هم الكفار ينقضون عهد الله المأخوذ عليهم بالطاعة والإيمان من بعد ميثاقه أي من بعد توكيد ذلك العهد بالإقرار والقبول وهو العهد الذي جرى بينهم إذ أخرجهم من ظهر آدم وعاهدهم على التوحيد والعبودية كقوله : ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان}(يس : 60) الآية.
فالعهد عهدان عهد على المحبة وهو للخواص وعهد على العبودية وهو للعوام فأهل عهد المحبة ما نقضوا عهودهم أبداً وأهل عهد العبودية من كان عهدهم مؤكداً بعهد المحبة ما نقضوه ومن لم يكن عهدهم مؤكداً نقضوه وعبدوا غيره واشركوا به الأشياء وأحبوها للهوى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 367
واعلم أن هذا العهد يتذكره أهل اليقظة الكاملة المنسلخون عن كل لباس وغاشية كما قال ذو النون المصري : وقد سئل عن سر ميثاق ألست بربكم هل تذكره فقال : نعم كأنه الآن في أذنى وكما قال بعضهم مستقربا أي عادّاً لعهد ألست قريباً كأنه بالأمس كان ولذا ما نسوه ، وأما غيرهم وهم أهل الحجاب فاستبعدوه ولم يذكروا منه شيئاً {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يُوصَلَ} سبق إعرابه أي يقطعون الأرحام وموالاة المؤمنين وما بينه الأنبياء من الوصلة والاتحاد والاجتماع على الحق حيث آمنوا ببعضهم وكفروا ببعضهم ويفسدون في الأرض بالدعاء إلى عبادة غير الله تعالى وبالظلم وتهييج الحروب والفتن وفي الحديث : الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها وهي إيقاع الناس في الاضطراب والاختلال والاختلاف والمحنة والبلية بلا فائدة دينية وذلك حرام لأنه فساد في الأرض واضرار المسلمين وزيغ والحاد في الدين.
قال السعدي قدس سره :
زان همنشين تاتواني كريز
كه مرفتنه خفته را كفت خيز
(4/242)
فمن الفتنة أن يغرى الناس على البغي والخروج على السلطان وذلك لا يجوز وإن كان ظالماً لكونه فتنة وفساداً في الأرض ، وكذا معاونه المظلومين إذا أرادوا الخروج عليه وكذا المعاونة له لكونه إعانة على الظلم وذلك لا يجوز ، ومنها أن يقول للناس ما لا تصل عقولهم إليه وفي الحديث : أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم.
ومنها أن يذكر للناس ما لا يعرفه بكهنه ولا يقدر على استخراجه فيوقعهم في الاختلاف والاختلال والفتنة والبلية كما هو شأن بعض الوعاظ في زماننا.
ومنها أن يحكم أو يفتى بقول مهجور أو ضعيف أو قوي يعلم أن الناس لا يعلمون به بل ينكرونه أو يتركون بسببه طاعة أخرى كمن يقول لأهل القرى والبوادي والعجائز والعبيد والإماء لا تجوز الصلاة بدون التجويد وهم لا يقدرون على التجويد فيتركون الصلاة رأساً وهي جائزة عند البعض وإن كان ضعيفاً ، فالعمل به واجب وكمن يقول للناس لا يجوز البيع والشراء والاستقراض بالدراهم والدنانير إلا بالوزن لأن رسول الله نص عليها بالوزن فهو وزنى أبداً وإن ترك الناس فيه الوزن فهذا القول قوي في نفسه وهو قول الامام أبي حنيفة ومحمد مطلقاً وقول أبي يوسف في غير ظاهر الرواية وهي خروجها عن الوزنية بتعامل الناس إلى العددية فهذه الرواية
369
وإن كانت ضعيفة فالقول بها واجب ولازم فراراً من الفتنة فيجب على القضاة والمفتين والوعاظ معرفة أحوال الناس وعاداتهم في القبول والرد والسعي والكسل ونحوها فيكلمونهم بالأصلح والأوفق لهم حتى لا يكون كلامهم فتنة للناس وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه يجب على الآمر والناهي معرفة أحوال الناس وعاداتهم وطبائعهم ومذاهبهم لئلا يكون فتنة للناس وتهييجاً للشر وسبباً لزيادة المنكر وإشاعة المكروه أولئك لهم اللعنة في الآخرة والجملة خبر والذين ينقضون.
واللعنة : الإبعاد من الرحمة والطرد من باب القرب ولهم سوء الدار أي : سوء عاقبة الدنيا وهي جهنم فاللعنة وسوء العاقبة لاصقان بهم لا يعدوانهم إلى غيرهم وفيه تنفير للمسلمين عن هذه الخصال الثلاث وإن لا ترفع همتهم حول ذلك الحمى ، وفي الحديث : ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم ولا ظهرت الفاحشة إلا سلط الله عليهم الموت ولا منع قوم الزكاة إلا حبس عنهم القطر.
وفي الحديث من أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجميعن لا يقبل الله منه يوم القيامة عدلاً ولا صرفاً أي فريضة ونافلة كما في الأسرار المحمدية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 367
وفا وعهد نكو باشد ار بياموزى
وكرنه هركه توبيني ستمكرى داند
واعلم أن اللعنة لعنتان : طرد عن الجنة وهو للكافرين وطرد عن ساحة القربة والوصلة وهو للمؤمنين الناقصين فمن قصر في العبودية وسعى في إفساد الأرض الاستعداد وقع في دار القطيعة والهجران وإن كان صورة في الجنان ورب كامل في الصورة ناقص في المعنى وبالعكس.
قال المولى الجامي :
ه غم زمنقصت صورت أهل معنى را
وجان زروم بود كوتن از حبش مي باش
ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام إذ ألقى في النار كانت برداً وسلاماً فلم يضره كونه في صورة النار والنمرود كان في صورة النعمة فلم ينفعه ذلك بل وجد في النعمة نقمة نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الجنة والقربة والوصلة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 367
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} يوسعه في الدنيا لمن يشاء بسطه وتوسيعه ويقدر قال في تهذيب المصادر.
القدر (تنك كردن) وهو من باب ضرب أي يضيق الرزق لمن يشاء ويعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء كأنه قيل لو كان من نقض عهد الله ملعونين في الدنيا ومعذبين في الآخرة لما فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا فقيل إن فتح باب الرزق في الدنيا لا تعلق له بالكفر والإيمان بل هو متعلق بمجرد مشيئة الله فقد يضيق على المؤمن امتحاناً لصبره وتكفيراً لذنوبه ورفعاً لدرجاته ومن هذا القبيل ماوقع لأكثر الأصحاب رضي الله عنهم من المضايقة ويوسع على الكافرين استدراجاً ومنه ما وقع لأكثر كفار قريش من الوسعة ثم إن الله تعالى جعل الغنى لبعضهم صلاحاً وجعل الفقر لبعضهم صلاحاً وقد جعل في غنى بعضهم فساداً كالفقر وفي الكل حكمة ومصلحة.
قال الحافظ :
ازين رباط دو در ون ضرور تست رحيل
رواق طاق معيشت ه سر بلندوه ست
بهست ونيست مرنجان ضمير وخوش دل باش
كه نيستيست سر انجام هر كمال كه هست
ببال ورمرو ازره كه تر ر تابى
هوا كرفت زماني ولى بخاك نشست
وفرحوا يعني مشركي مكة.
والفرح لذة في القلب لنيل المشتهي بالحيوة الدنيا بما بسط
370
لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح شكر وسرور بفضل الله وإنعامه عليهم.
وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام
افتخار ازرنك وبو واز مكان
هست شادي وفريب كودكان
(4/243)
قال في شرح الحكم عند قوله تعالى : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا}(يونس : 58) إنما لم يؤمر العبد برفض الفرح جملة لأن ذلك من ضرورات البشر التي لا يمكن رفعها بل ينبغي صرفها للوجه اللائق بها وكذا جميع الأخلاق كالطمع والبخل والحرص والشهوة والغضب لا يمكن تبدلها بل يصح أن تصرف إلى وجه لائق بها حتى لا تتصرف إلا فيه.
{وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا فِى الاخِرَةِ} ليست ظرفاً للحياة ولا للدنيا لأنهما لا يقعان فيها بل هي حال والتقدير وما الحياة القريبة كائنة في جنب حياة الآخرة أي بالقياس إليها ففي للمقايسة وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق.
إلا متاع إلا شيء قليل يتمتع به كزاد الراعي وعجالة الراكب وهي ما يتعجل به من تميرات أو شربة سويق أو نحو ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 370
قال الصاحب بن عباد : سمعت امرأة في بعض القبائل تسأل أين المتاع ويجيب ابنها الصغير بقوله جاء الرقيم أي الكلب وأخذ المتاع وهو ما يبل بالماء فيمسح به القصاع وفيه تقبيح لحال الدنيا.
قال الكاشفي : (بامتاعى از امتعه كه وفايي وبقايي ندارد ون ادوات خانه) مثل القصعة والقدح والقدر ينتفع بها ثم تذهب ، والعاقل لا يفرح بما يفارقه عن قريب ويورثه حزناً طويلاً وإن حدثته نفسه بالفرح به يكذبها.
ومن سره أن لا يرى ما يسوءه
فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقداً
حكى أنه حمل إلى بعض الملوك قدح من فيروزج مرصع بالجوهر لم ير له نظير وفرح به الملك فرحاً شديداً فقال لمن عنده من الحكماء : كيف ترى هذا؟ قال : أراه فقراً حاضراً ومصيبة عاجلة قال : وكيف ذلك؟ قال : إن انكسر كان مصيبة لا جبر لها وإن سرق صرت فقيراً إليه وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر فاتفق أنه انكسر القدح يوماً فعظمت المصيبة على الملك وقال : صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا.
قال في الحكم العطائية إن أردت أن لا تعزل فلا تتول ولاية لا تدوم لك وكل ولايات الدنيا كذلك وإن لم تعزل عنها بالحياة عزلت عنها بالممات قال وقد جعل الله الدنيا محلاً للأغيار ومعدناً لوجود الأكدار تزهيداً لك فيها حتى لا يمكنك استناد إليها ولا تعريج عليها.
وقد قيل : إن الله تعالى أوحى إلى الدنيا تضيقي وتشددي على أوليائي وترفهي وتوسعي على أعدائي تضيقي على أوليائي حتى لا يشتغلوا بك عني وتوسعي على أعدائي حتى يشتغلوا بك عني فلا يتفرغوا لذكري.
وفي التأويلات النجمية الله يبسط الرزق الكشوف والشهود لمن يشاء من عباده المحبين والمحبوبين ويضيق لمن فتح عليهم أبواب الدنيا وشهواتها فاغرقهم فيها وفرحوا بها بالحيوة الدنيا أي باستيفاء لذاتها وشهواتها وما الحيوة الدنيا بالنسبة إلى من عبر عنها ولم يلتفت إليها فيجد في آخرتها ما يجد إلا تمتع أيام قلائل بأدنى شيء خسيس فان.
قال الكمال الجندي :
جهان وجمله لذاتش بزنبور وعسل ماند
كه شير ينيش بسيارست وزان افزون شر وشورش
371
وقال المولى الجامي :
مرد جاهل اه كيتي را لقلب دولت نهد
همنا نكه آماس بيند طفل كويد فربه است
ويقول الذين كفروا ثبتوا واستمروا على كفرهم وعنادهم وهم كفار مكة لولا هلا وبالفارسية (را) انزل عليه على محمد آية عظيمة كائنة من ربه (بران وجهي كه ما ميخواهيم) مثل آيات موسى وعيسى عليهما السلام من العصا وإحياء الموتى ونحوهما لكون دليلاً وعلامة على صدقه قل إن الله يضل من يشاء إضلاله باقتراح الآيات تعنتا بعد تبين الحق وظهور المعجزات فلا تغنى عنه كثرة المعجزات شيئاً إذا لم يهده الله ويهدي إليه من أناب من أقبل إلى الحق ورجع عن العناد فضمير إليه راجع إلى الحق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 370
قال في القاموس : ناب إلى الله تاب كأناب ، والاضلال خلق الضلالة في العبد والهداية خلق الاهتداء ، والدلالة على طريق يوصل إلى المطلوب مطلقاً ، وقد يسند كل منهما إلى الغير مجازاً بطريق السبب والقرآن ناطق بكلا المعنيين فيسند الاضلال إلى الشيطان في مرتبة الشريعة وإلى النفس في مرتبة الطريقة وإلى الله في مرتبة الحقيقة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 370
[محمد : 3-45]{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} بدل ممن أناب أو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم (وآرام مى يا بدد لهاى ايشان) بذكر الله إذا سمعوا ذكر الله أحبوه واستأنسوا به ودل في الذكر القرآن فالمؤمنون يستأنسون بالقرآن وذكر الله الذي هو الاسم الأعظم ويحبون استماعها ، والكفار يفرحون بالدنيا ويستبشرون بذكر غير الله كما قال تعالى : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يسبتشرون}(الزمر : 45) {إِلا} (بدانيدكه) {بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} قلوب المؤمنين ويستقر اليقين فيها فقلوب العوام تطمئن بالتسبيح والثناء وقلوب الخواص بحقائق الأسماء الحسنى وقلوب الأخص بمشاهدة الله تعالى.
(4/244)
وفي}()التأويلات النجمية" {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي : ستروا الحق بالباطل لولا أنزل عليه على من يدعو الخلق إلى الحق آية من ربه ظاهرة من المعجزات والكرامات كما نزل على بعضهم ليستدلوا بها على صدق دعواهم قل الله يضل من يشاء أن يضله في الأزل بعين الآية ليراها سحراً ويحسبها باطلاً ويرشد إلى حضرة جلاله من يرجع إليه طالباً مشتاقاً إلى جماله.
وفيه إشارة إلى أن الطالب الصادق في الطلب هو من أهل الهداية في الهداية وليس ممن يشاء الله ضلالته في الأزل ، وهم الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله لا بذكر غيره يعني أهل الهداية هم الذين آمنوا.
واعلم أن القلوب أربعة : قلب قاس : وهو قلب الكفار والمنافقين ، فاطمئنانه بالدنيا وشهواتها كقوله تعالى : رضوا بالحياة الدنيا واطمؤنوا بها}(يونس : 7).
وقلب ناس وهو قلب المسلم المذنب كقوله تعالى : {فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا} (طه : 115) فاطمئنانه بالتوبة ونعيم الجنة كقوله : {فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (طه : 122).
وقلب مشتاق وهو قلب المؤمن المطيع فاطمئنانه بذكر الله كقوله تعالى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَـاـاِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ} .
وقلب وحداني وهو قلب الأنبياء وخواص الأولياء فاطمئنانه بالله وصفاته كقوله تعالى لخليله عليه السلام في جواب قوله : كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي}(البقرة : 260) باراءتك إياي كيفية إحياء الموتى إذا تتجلى لقلبي بصفة محييك فأكون بك محيي الموتى ولهذا إذا تجلى الله لقلب العبد يطمئن به فينعكس نور الاطمئنان من مرآة قلبه إلى
372
نفسه فتصير النفس مطمئنة به أيضاً فتستحق لجذابت العناية وهي خطاب ارجعي إلى ربك فافهم جداً انتهى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 372
قال في "نفائس المجالس" الذكر صيقل القلوب وسبب سرور المحبوب ، فمن ذكر الله فالله يذكره كما قال تعالى : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) فالمحجوبون تطمئن قلوبهم بذكرهم له تعالى وأما الواصلون فاطمئنان قلوبهم بذكره تعالى ـ ـ روي ـ ـ أن النبي عليه السلام بعث بعثاً قبل نجد فغنموا ورجعوا ، فقال رجل ما رأينا بعثاً أفضل غنيمة وأسرع رجعة من هذا البعث ، فقال عليه السلام : "ألا أدلكم على قوم أفضل غنيمة وأسرع رجعة قوم شهدوا صلاة الصبح ثم جلسوا يذكرون الله حتى طلعت الشمس" قال أبو سعيد : خرج رسول الله يوماً على حلقة من أصحابه فقال : "ما أجلسكم"؟ فقالوا جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام قال : "آ ما أجلسكم إلا ذلك" قوله آ بالجر والمد على القسم أي بالله ما أجلسكم قالوا بالله ما أجلسنا إلا ذاك قال : "أما إني لم استحلفكم تهمة ولكن أتاني جبرائيل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة".
فإن قلت : ما تقول فيما روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إنه سمع قوماً اجتمعوا في المسجد يهللون ويصلون على النبي عليه السلام برفع الصوت جهراً فراح إليهم وقال لهم ما عهدنا هذا على عهد رسول الله وما أراكم إلا مبتدعين فما زال يكرر ذلك حتى أخرجهم من المسجد.
قلت : أجاب عنه صاحب "الرسالة التحقيقية" في طريق الصوفية الشيخ سنبل الخلوتي قدس سره بأنه كذب وافتراء على ابن مسعود لمخالفته النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وأفعال الملائكة قال الله تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه وَسَعَى فِى خَرَابِهَآا أُوالَـائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلا خَآئِفِينَ} (البقرة : 114) ولو سلمنا صحة وقوعه فهو لا يعارض الأدلة المذكورة لأنه أثر ، والأثر لا يعارض الحديث كما لا يخفى وبطلان الأدلة يدل على بطلان المدلولات وفي الحديث : "علامة حب الله حب ذكر الله وعلامة بغض الله بغض ذكر الله".
واعلم أن نور الذكر قدره على قدر حال الذاكر ، وذلك بالفناء في الله والذاكرون على أربعة أصناف.
الصنف الأول : أهل الخلوة ووظيفتهم في اليوم والليلة من الذكر الخفي القوي بالنفي والإثبات والحركة الشديدة سبعون ألف لا إله إلا الله وهؤلاء مشتغلون بالحق لا بغيره.
الصنف الثاني أهل العزلة ووظيفتهم من الذكر الخفي في اليوم والليلة ثلاثون ألف لا إله إلا الله وهؤلاء مشتغلون تارة بالحق وتارة بأنفسهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 372
الصنف الثالث أصحاب الأوقات وهؤلاء وظيفتهم من الذكر جهراً وخفية اثنا عشر ألفاً وهؤلاء مشغولون بالحق مرة وبمصالح أنفسهم مرة وبالخلق أخرى.
الصنف الرابع أصحاب الخدمة وهؤلاء وظيفتهم ذكر الجهر على كل حال من الأحوال ليلاً ونهاراً بعد المداومة على الوضوء.
قال بعض الأكابر : من قال في الثلث الأخير من ليلة الثلاثاء لا إله إلا الله ألف مرة بجمع همة وحضور قلب وأرسلها إلى ظالم عجل الله دماره وخرب دياره وسلط عليه الآفات وأهلكه بالعاهات.
(4/245)
قال الشيخ أبو العباس أحمد البوني قدس الله روحه من قال ألف مرة لا إله إلا الله وهو على طهارة في كل صبيحة يسر الله عليه أسباب الرزق من نسبته وكذلك من قالها عند منامه العدد المذكور باتت روحه تحت العرش تتغذى من ذلك العالم حسب قواها.
قال المولى الجامي قدس سره :
373
دلت آيينه خداي نماست
روى آيينه توتيره راست
صيقلى وار صيقلى ميزن
باشد آيينه ات شود روشن
صقل آن اكرنه آكاه
نيست جز لا إله إلا الله
ومن شرط الذكر أن يأخذه الذاكر بالتلقين من أهل الذكر كما أخذه الصحابة بالتلقين من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولقن الصحابة التابعين والتابعون المشايخ شيخاً بعد شيخ إلى عصرنا هذا وإلى أن تقوم القيامة كذا في "ترويح القلوب بلطائف الغيوب" للشيخ عبد الرحمن البسطامي قدس سره الخطير.
{الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} الذين جمعوا بين الإيمان بالقلب والعمل الصالح بالجوارح وهو مبتدأ خبره طوبى لهم (زند كانى خوش است ايشانرا) واللام للبيان كما في سلام لك ، وهو مصدر من طاب كزلفى وبشرى ، أصله طيبي انقلبت الياء واواً لضم ما قبلها كما في موقن.
وفي التبيان : غبطة وسرور لهم وفرح وقيل نعم حالهم وحسن مآب أي مرجع يعني ولهم حسن منقلب ومرجع ينقلبون ويرجعون إليه في الآخرة وهو الجنة.
وقال بعضهم : طوبى علم الشيء بعينه كما قال كعب الأحبار : سألت رسول الله عن أشجار الجنة فقال : إن أكبر أشجارها شجرة طوبى وخيمتي تحتها أصلها من در وأغصانها من زبرجد وأوراقها من سندس عليها سبعون ألف غصن أقصى أغصانها يلحق بساق العرش وأدنى أغصانها في سماء الدنيا ليس في الجنة دار ولا بحبوحة ولا قصر ولا قبة ولا غرفة ولا حجرة ولا سرير إلا وفيها غصن منها فتظل عليها وفيها من الثمار ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 372
قال في الفتح القريب أصلها في دار محمد ثم تنقسم فروعها على جميع منازل أهل الجنة كما انتشر منه العلم والإيمان على جميع أهل الدنيا وقد غرسها الله بيده وينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل ، وفيها من جميع الثمار والأزهار والألوان إلا السواد وكل ورقة تظل أمة وعلى كل ورقة منها ملك يسبح الله بأنواع التسبيح عظيمة الجسد لا يدرك آخرها يسير الراكب الجادّ تحت ظلها مائة عام وقيل ألف عام ما يقطعها.
قال بعض الكبار : المراد بالعمل الصالح التزكية وطوبى لهم بالوصول إلى الفطرة الأصلية وكمال الصفات وحسن مآب بالدخول في جنة القلب أعني جنة الصفات.
قال الحريري : طوبى لمن طاب قلبه مع الله لحظة في عمره ورجع إلى ربه بقلبه في وقت من الأوقات.
قال الجنيد : طاب أوقات العارفين بمعرفتهم والعمل الصالح ما أريد به وجه الله تعالى وهو المثمر والمفيد لا غيره.
شاخ بي ميوه كرهمه طوبيست
ببريدش بميوه يونديد
فالعمل الذي للجنة ليس لوجه الله تعالى فإنه تعالى لو لم يخلق جنة ولا ناراً كان مستحقاً لأن يعبد.
هرزاهد خشكى ه سزاوار بهشت است
شايسته آتش شمر آنهاكه نانند
وفي التأويلات النجمية الذين آمنوا وعملوا الصالحات يشير إلى الذين غرسوا غرس الإيمان ، وهي كلمة لا إله إلا الله في أرض القلب وربوه بماء الشريعة ودهقنة الطريقه وهو الأعمال الصالحة حتى صار شجرة طيبة كما ضرب الله لهذا مثلاً فقال : ضرب الله مثلاً
374
كلمة طيبة كشجرة طيبة}(إبراهيم : 24) فلما كملت الشجرة وأثمرت الحقيقة كانت {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَـاَابٍ} وهي الرجوع والإياب إلى الله نفسه لا إلى ما سوا وهذا هو الثمرة الحقيقية يدل عليه قوله : فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا}(النبأ : 39) فعلى هذا يشير بطوبى إلى حقيقة شجرة لا إله إلا الله في قلب النبي عليه السلام وفي قلب كل مؤمن منها غصن فافهم جداً.
قال الشيخ العطار قدس سره :
هر دو عالم بسته فتراك او
عرش وكرسي كرده قبله خاك او
يشواي اين جهان وآن جهان
مقتداى اشكارا ونهارا
جزء : 4 رقم الصفحة : 372
(4/246)
{كَذَالِكَ} أي مثل إرسالنا الرسل إلى أممهم قبلك يا محمد أرسلناك في أمة بمعنى إلى كما في قوله تعالى : فردّوا أيديهم في أفواههم وفي بحر العلوم وإنما عدى الإرسال بفي وحقه أن يعدي بالي ؛ لأن الأمة موضع الإرسال قد خلت مضت وتقدمت من قبلها عائد إلى أمة على لفظها.
أمم أرسلوا إليهم فليس ببدع إرسالك إلى أمتك ثم علل الإرسال فقال : لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك ضمير عليهم راجع إلى أمة على معناها ، أي لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك وهو القرآن وما فيه من شرائع الإسلام وتزينهم بحلية الإيمان ، فإن المقصود من نزول القرآن هو العمل بما فيه وتحصيل السيرة الحسنة لا التلاوة المحضة والاستماع المجرد فالعامي المتعبد راجل ، سالك والعالم المتهاون راكب نائم.
قال السعدي : (تلميذ بي ارادت عاشق بي زرست ورونده بي معرفت مرغ بي رو عالم بي عمل درخت بي بر وزاهد بي علم خانه بي در) وهم يكفرون بالرحمن حال من فاعل أرسلناك ، أي وحالهم إنهم يكفرون بالله الواسع الرحمة ، ولا يعرفون قدر رحمته وإنعامه إليهم بإرسالك وإنزال القرآن العظيم عليهم وروى أن أبا جهل سمع النبي عليه السلام وهو في الحجر يدعو يا الله يا رحمن فرجع إلى المشركين ، وقال : إن محمداً يدعو إلهين يدعو الله ويدعو آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعني ، به مسليمة الكذاب صاحب اليمامة وهي بلدة في البادية فنزلت هذه الآية قل لهم يا محمد هو أي الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته ربي خالقي ومتولي أمري لا إله إلا هو خبر بعد خبر أي هو مجامع لهذين الوصفين من الربوبية والألوهية فلا مستحق للعبادة سواه ومعنى لا إله إلا هو الواحد المختص بالإلهية عليه توكلت إليه أسندت أمري في العصمة من شركم والنصرة عليكم وإليه لا إلى غيره متاب مصدر تاب يتوب واصله متابي أي مرجعي ومرجعكم فيرحمني وينتقم لي منكم والانتقام من الرحمن أشد ، ولذا قيل نعوذ بالله من غضب الحليم.
قال الحافظ :
جزء : 4 رقم الصفحة : 375
بمهلتي كه سهرت دهد زراه مرو
تراكه كفت كه اين زال ترك دستان كفت
والإشارة : أن الأمم لما كفروا بالله كفروا بالرحمن ؛ لأن الرحمانية قد اقتضت إيجاد المخلوقات فإن القهارية كانت مقتضية الواحدية بأن لا يكون معه أحد ، فسبقت الرحمانية القهارية في إيجاد المخلوقات ولهذا السر قال تعالى : إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً}(مريم : 93) فأرسل الله الرسل وانزل معهم الكتب ليقرأوا عليهم ويذكروهم بأيام الله التي كان الله ولم يكن معه شيء ثم أوجدهم وأخرجهم من العدم إلى الوجود وهو الذي رب كل شيء وخالقه ولا إله إلا هو وإليه المرجع والمآب
375
كما في "التأويلات النجمية".
يقول الفقير : عبارة الخطاب في أرسلناك للنبي صلى الله عليه وسلّم فهو المرسل لغة واصطلاحاً وصاحب الوحي والدعوة وإشارته لكل واحد من ورثته الذين هم على مشربه إلى يوم القيامة بحسب كونه مظهراً لأرثه فهو المرسل لغة لا اصطلاحا وصاحب الإلهام والإرشاد وكما أن لكل زمان صاحب دولة وظهور فكذا له صاحب رحمة وتصرف معنوي ، ولذا قال عليه السلام : "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" فأثبت لهم النبوة بمعنى الإخبار عن الله بالإلهام وفي قوله : {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـانِ} إشارة إلى أن المنعم عليه يجب أن لا يكفر المنعم بل يشكره بالإيمان والاعتقاد كما دل عليه ما قبله ، والكفر والانكار من أقبح القبائح كما أن الإيمان والإقرار من أحسن المحاسن ولحسن الظن والاعتقاد الحسن تأثير بليغ روى أن جماعة من السراق نزلوا على أهل رباط فسأل عنهم صاحب الرباط فاستحيوا منه وقالوا نحن الغزاة فهيأ لهم طعاماً وجاءت امرأة بطست ليغسلوا أيديهم قبل الطعام وقالت إن لي بنتاً عمياء أغسلها تبركاً بغسالة الغزاة فغسلوا فغسلت المرأة وجه ابنتها بها فأصبحت سالمة من العمى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 375
(4/247)
ولو أن قرآناً روى إن نفراً من مشركي مكة معهم أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية قالوا يا محمد إن يسرك أن نتبعك فسير لنا بقرءانك الجبال عن حوالي مكة فإنها ضيقة حتى تتسع لنا الأرض فنتخذ البساتين والمحارث وشقق الأرض وفجر لنا الأنهار والعيون كما في أرض الشام وأحي رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا منهم قصي بن كلاب ليكلمونا ونسألهم عن أمرك أحق ما تقول أم باطل فلما اقترحوا عليه هذه الآيات نزل قوله : ولو أن الخ وجواب الشرط محذوف كما سيأتي.
والمعنى بالفارسية (واكر كتابي بودي كه درين عالم) سيرت به الجبال التسيير بالفارسية (برفتن آوردن) أي نقلت من أماكنها واذهبت عن وجه الأرض بالفارسية (رانده شدى بوي كوهها يعني در وقت خواندن وى از مواضع خود برفتي) أو قطعت به الأرض شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً.
وبالفارسية (يا شكافته شدى بدو زمين ون برو خواندندى) أو كلم أحيي به الموتى (يا بسخن در آوردندى از بركت خواندن او مرد كانرا) أي لكان هذا القرآن لكونه غاية في الإعجاز ونهاية في التذكير ، والمراد منه تعظيم شأن القرآن والرد على المشركين الذين كابروا في كون القرآن آية واقترحوا آية غيرها والتنبيه على أن ما ينفعهم في دينهم خير لهم مما ينفعهم في دنياهم كالزراعة ونحوها مع أن في القرآن تأثيرات وخاصيات أنفسية عجيبة فلو كان لهم استعداد لظهور تلك التأثيرات لسيرت به جبال نفوسهم وقطعت به أرض بشريتهم وأحيي به قلوبهم الموتى بل (نه نانست كه كافران ميكويند بقرآن تويا بفرمان تو بايد اينها واقع شود)الأمر أي أمر خلقه جميعاً فله التصرف في كل شيء وله القدرة على ما أراد وهو قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك لعلمه بأنه لا تنفعهم الآيات روى أنه لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام : والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم ولو شئت لكان ولكن خيرني بين أن تدخلوا في باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة فاخترت باب الرحمة وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم أن يعذبكم عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين كما في أسباب النزول للامام
376
الواحدي.
واعلم أن الكفار ما أبصروا نور القرآن فعموا عن رؤية البرهان ، وكذا أهل الانكار غفلوا عن سر القرآن فحرموا من المشاهدة والعيان.
وفي المثنوى :
تو ز قرآن اي سر ظاهر مبين
ديو آدم رانه بيند جز كه طين
جزء : 4 رقم الصفحة : 375
ظاهر قرآن و شخص آدميست
كه نقوشش ظاهر وجانش خفيست
ولا شك أن من تخلق بالقرآن الذي هو صفة الله تعالى قدر على ما لم يقدر عليه غيره وفي الحديث : لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار أي : لو صور القرآن وجعل في إهاب وألقى في النار ما مسته ولا أحرقته ببركة القرآن فكيف بالمؤمن الحامل له المواظب على تلاوته.
ومن الحكايات اللطيفة أن علياً رضي الله عنه مرض فقال أبو بكر رضي الله عنه لعمر وعثمان رضي الله عنهما إن علياً قد مرض فعلينا العيادة فأتوا بابه وهو يجد خفة من المرض ففرح فرحاً فتموج بحر سخائه فدخل بيته فلم يجد شيئاً سوى عسل يكفي لواحد في طست وهو أبيض وأنور وفيه شعر أسود ، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لا يليق الأكل قبل المقالة فقالوا أنت أعزنا وأكرمنا وسيدنا فقل أولاً فقال : الدين أنور من الطست وذكر الله تعالى أحلى من العسل والشريعة أدق من الشعر فقال عمر رضي الله عنه الجنة أنور من الطست ونعيمها أحلى من العسل والصراط أدق من الشعر فقال عثمان رضي الله عنه القرآن أنور من الطست وقراءة القرآن أحلى من العسل وتفسيره أدق من الشعر فقال علي رضي الله عنه الضيف أنور من الطست وكلام الضيف أحلى من العسل وقلبه أدق من الشعر نور الله تعالى قلوبنا بنور العرفان وأوصلنا وإياكم إلى سر القرآن آمين يا الله يا رحمن أفلم ييأس الذين آمنوا اليأس قطع الطمع عن الشيء والقنوط منه والاستفهام بمعنى الأمر روى أن طائفة من المؤمنين قالوا يا رسول الله أجب هؤلاء الكفار يعنون كفار مكة إلى ما اقترحوا من الآيات فعسى أن يؤمنوا فقال تعالى أفلم يقنط المؤمنون من إيمان هؤلاء الكفرة بعد ما رأوا كثرة عنادهم بعد ما شاهدوا الآيات أن أي علماً منهم أنه لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً فآمنوا وقد يستعمل اليأس بمعنى العلم مجازاً لأنه مسبب عن العلم بأن ذلك الشيء لا يكون فإن المخففة مع ما في حيزها في محل النصب على أنهار مفعول اليأس بمعنى العلم.
والمعنى أفلم يعلم الذين آمنوا أن الله تعالى لا يهدي الناس جميعاً لعدم تعلق مشيئتة باهتداء الجميع فيهدي من يشاء ويضل من يشاء بمقتضى قبضتيه الجمالية والجلالية.
قال الحافظ :
در كار خانه عشق از كفرنا كزيرست
آتش كرا بسوزد كربو لهب نباشد
(4/248)
ولا يزال الذين كفروا بالرحمن وهم كفار مكة تصيبهم بما صنعوا أي بسبب ما فعلوا من كفرهم وأعمالهم الخبيثة قارعة داهية تقرعهم وتفجأهم من القتل والأسر والحرب والجدب وأصل القرع الضرب والصدع ، تلخيصه لا يزال كفار مكة معذبين بقارعة أو تحل القارعة أي تنزل قريباً (بموضعي نزديك) من دارهم أي مكة فيفزعون فيها ويقلعون ويتطاير عليهم شرارها ويتعدى إليهم شرورها ويجوز أن يكون تحل خطاباً للنبي عليه السلام فإنه حل بجيشه قريباً من دارهم عام الحديبية فأغار على أموالهم ومواشيهم.
377
وفي التأويلات النجمية : قارعة من الأحكام الأزلية تقرعهم في أنواع المعاملات التي تصدر منهم موجبة للشقاوة وبقوله : أو تحل قريباً من دارهم يشير إلى أن الأحكام الأزلية تارة تصدر منهم وتارة من مصاحبهم فتوافقوا في أسباب الشقاوة وترافقوا إلى ما أوعدهم الله من درك الشقاء كما قال : حتى يعني (بلابديشان خواهد رسيد تاوقتى كه) يأتي وعد الله وهو موتهم أو يوم القيامة أو فتح مكة إن الله لا يخلف الميعاد لامتناع الخلف لكونه نقصاً منافياً للألوهية وكمال الشيء ، والميعاد بمعنى الوعد كالميلاد والميثاق بمعنى الولادة والتوثقة ، والوعد عبارة عن الأخبار بإيصال المنفعة قبل وقوعها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 375
[الحجر : 11]{وَلَقَدِ اسْتُهْزِىاَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} كاستهزاء قومك بك والتنكير للتكثير أي بجميع الرسل من قبلك ويدل عليه قوله تعالى : وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون}(يس : 30) ومعنى الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والأذى والتكذيب {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي للمستهزئين الذين كفروا.
والإملاء الإمهال وإن يترك ملاوة من الزمان أي مدة طويلة منه في دعة وأمن ، كالبهيمة في المرعى أي أطلت لهم المدة في أمن وسعة بتأخير العقوبة ليتمادوا في المعصية ثم أخذتهم بالعقوبة بعد الإملاء والاستدراج فكيف كان (س ه ونه بود) عقاب عقابي إياهم كيف رأيت ما صنعت بمن استهزأ برسلي ولم ير النبي عليه السلام عقوبتهم إلا أنه علم بالتحقيق فكأنه رأى عياناً.
وفي بحر العلوم فإنكم تمرون على بلادهم ومساكنهم فتشاهدون أثر ذلك وهذا تعجيب من شدة أخذه لهم سلى رسول الله عن استهزائهم به وأذاهم وتكذيبهم واقتراحهم الآيات بأن له في الأنبياء أسوة وأن جزاء ما يفعلون به ينزل بهم كما نزل بالمستهزئين بالأنبياء جزاء ما فعلوا.
وفيه إشارة إلى أن من أمارات الشقاء الاستهزاء بالأنبياء والأولياء وفي الحديث : من أهان لي ويروى من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة أي من أغضب وآذى واحداً من أوليائي فقد حاربني والله أسرع شيء إلى نصرة أوليائه لأن الولي ينصر الله فيكون الله ناصره وروى أن الله تعالى قال لبعض أوليائه : أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت راحة نفسك وأما ذكرك إياي فقد تشرفت بي فهل واليت فيّ ولياً وهل عاديت فيّ عدواً ، فمحبة أولياء الله تعالى وموالاتهم من أنفع الأعمال عند الله وبغضهم وعداوتهم واستحقارهم والطعن فيه من أضر الأعمال عنده تعالى وأكبر الكبائر (آورده انده كه سهالارى بود ظالم وباتباع خود بخانه يكى از مشايخ كبار فرود آمد خداوند خانه كفت من منشوري دارم بخانه من فرود ميا كفت منشور بنما شيخ درخانه رفت ومصحفي عزيز داشت ودر يش آمد وباز كرد اين آيت بر آمدكه) يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها}(النور : 27) (سهسا لا ركفت.
من نداشتم كه منشور أمير داري بدان التفات نكرد ودرخانه شيخ فرود آمد آن شب قو لنجش بكرفت وهلاك شد) قال الصائب :
جزء : 4 رقم الصفحة : 378
نتيجه نفس كرم عند ليبانست
كه عمر شبنم كستاخ يكزمان باشد
ولا شك أن مثل هذه المعاملات القبيحة من غلبة أوصاف النفس ، فعلى العاقل أن يزكى نفسه
378
عن سفساف الأخلاق حتى يتخلص من قهر القهار الخلاق ألا ترى أن المؤمنين نظروا إلى النبي عليه السلام بعين التعظيم وبدلوا الكبر بالتواضع والفناء ودخلوا في الاستسلام فاستعسدوا بسعادة الدارين وأما الكفرة فعتوا عتواً كبيراً فاستأصلهم الله من حيث لا يحتسبون فشقوا شقاوة أيدية وهكذا حال سائر المؤمنين والمنكرين إلى يوم القيامة فإن الأولياء ورثة الرسول عليه السلام والمعاملة معهم كالمعاملة معه.
قال الكمال الخجندي :
مقربان خدا ند وارثان رسول
توازخداي نين دور وازرسولى يست
(4/249)
[آل عمران : 162-17]{أَفَمَنِ} (يا كسى كه) فمن موصولة مرفوعة المحل على الابتداء والخبر محذوف والاستفهام بمعنى النفي أي فالله الذي هو قائم رقيب على كل نفس صالحة أو طالحة بما كسبت من خير وشر يحفظه عليها فيجازيها به يعني أراد المجازاة ولم يغفر كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام التي لا تضر ولا تنفع وهذا كقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق}(النحل : 17) أي لا يكون من هو قائم على كل نفس يعلم خيرها وشرها ويجازيها على حسب ذلك كمن ليس بقائم على شيء متناه في العجز والضعف والجهل ومعنى القيام التولي لأمور خلقه والتدبير للأرزاق والآجال وإحصاء الأعمال للجزاء يقال قام فلان إذا كفاه وتولاه {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ} أي الأصنام وهو استئناف ، يعني : أن الكفار سووا بين الله وبين الأصنام واتخذوها شركاء له في العبادة وإنما تكون سواء وشركاء فيها لو كانت سواء وشركاء في القيام على كل نفس فما أعجب كفرهم وإشراكهم وتسويتهم مع علمهم التفاوت بينهما أي تعجبوا من ذلك قل سموهم بينوا شركاءكم بأسمائهم وصفوهم بصفاتهم فانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة والشركة يشير إلى أن الأسماء مأخذها من الصفات فإن لم تروا منهم شيئاً من صفات الله فكيف تسمونهم كما قال الكاشفي (مراد آنست كه حق را حى وقادر وخالق ورزاق وسميع وبصير وعليم وحكيم ميكويند واطلاق هي يك ازين اسما بر اصنام نمى تواندكرد) قال في بحر العلوم قوله : قل سموهم من فن الكناية وذلك لأن معنى سموهم عينوا أساميهم ، ولما كان تعيين الشي بالاسم من لوازم وجوده جعل عدم التعيين كناية عن عدم وجود الشيء ، يعني ليس لهم عندنا أسام يستحقون بها العبادة وإن كانت عندكم فسموهم بها وانظروا هل يستحقون بها ولما لم تكن لهم عندهم أيضاً اسام تقتضي استحقاق العبادة لم يستحقوها ولم يتحقق لهم العبادة والشركة أم تنبئونه أم منقطعة مقدرة ببل والهمزة الإنكارية أي بل أتخبرون الله تعالى بما لا يعلم في الأرض أي بما لا وجود له ولا علم الله متعلق بوجوده وهو الشركاء المستحقون للعبادة وهو نفي للملزوم ينفي اللازم بطريق الكناية ، أي : لا شريك له ولا علم ، إذ لو كان الشريك موجوداً لكان معلوماًتعالى لأن علم الله لازم لوجود الشيء وإلا يلزم جهله تعالى الله عن ذلك فإذا لم يكن وجوده معلوماً له وجب أن لا يكون موجوداً لاستلزام انتفاء اللازم ملزومه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 378
قال في بحر العلوم أم تنبئونه إضراب عن ذكر تسميتهم وتعيين أساميهم إلى ذكر تنبئتهم ومعنى الهمز في أم الانكار بمعنى ما كان ينبغي أولا ينبغي أن يكون ذلك.
وفي التبيان تأويل الآية فإن سموهم بصفات الله فقل أتبنئونه بما لا يعلم
379
في الأرض أم بظاهر من القول بل تسمونهم شركاء بكلام لا حقيقة له كتسمية الزنجي كافوراً.
وفي بحر العلوم هو إضراب عن ذكر تنبئتهم وإخبارهم إلى ذكر تسميتهم الأصنام بشركاء بظاهر من القول من غير حقيقة واعتبار معنى ، ومعنى الهمزة في أم الإنكار والتعجب كأنه قال دع ذلك المذكور واسمع قولهم المستنكر المقضي منه العجب وذلك أن قولهم بالشركاء قول لا يعضده برهان فما هو إلا لفظ يتفوهون به فارغ عن معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس لا تدل على معان ولا يتكلم بها عاقل تنفراً منها واستقباحاً بل زين للذين كفروا مكرهم أنفسهم بتخيلهم أباطيل ثم ظنهم إياها حقا ، وهو اتخاذهم الله شركاء خذلانا من الله.
والمكر صرف الغير عما يقصده بحيلة والمزين إما الشيطان بوسوسته كقوله تعالى : وزين لهم الشيطان أعمالهم}(النمل : 24) أو الله تعالى كقوله : {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ} (النمل : 4) وفي الحديث : "بعثت داعياً ومبلغاً وليس لي من الهدى شيء وخلق إبليس مزيناً وليس إليه من الضلالة شيء".
حق فاعل وهره جز حق آلات بود
تأثير زآلت از محالات بود
{وَصَدُّوا} من الصد وهو المنع عن السبيل سبيل الحق ومن (هركه) يضلل الله يخذله عن سبيله.
قال سعدي المفتي : ولا منع عند أهل السنة أن يفسر الاضلال بخلق الضلال وكذا الهداية يجوز أن تفسر بخلق الاهتداء فماله من هاد فماله من أحد يقدر على هدايته ويوفقه لها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 378
{لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} بالقتل والأسر وسائر ما ينالهم من المصائب والمحن ولا يلحقهم إلا عقوبة لهم على الكفر ولذلك سماه عذاباً ، وأصل العذاب في كلام العرب من العذب وهو المنع يقال عذبته عذباً إذا منعته وسمى الماء عذباً لأنه يمنع العطش ، وسمى العذاب عذاباً لأنه يمنع المعاقب من معاودة مثل جرمه ويمنع غيره من مثله فعله.
(4/250)
وفي التأويلات النجمية وهو عذاب البعد والحجاب والغفلة والجهل وعذاب عبودية النفس والهوى والدنيا وشياطين الجن والأنس ولعذاب الآخرة أشق أشد وأصعب لدوامه وهو عذاب النار وعذاب نار القطيعة وألم البعد وحسرة التفريط في طاعة الله تعالى وندامة الإفراط في الذنوب والمعاصي والحصول على الخسارات والهبوط من الدرجات ونزول الدركات وما لهم من الله أي من عذابه من واق حافظ ومانع حتى لا يعذبوا.
من الثانية زائدة والأولى متعلقة بواق.
وفي التأويلات وما لهم من الله من خذلان الله في الدنيا وعذاب الله في الآخرة من واق يقيهم من الخذلان والعذاب وفي حديث المعراج ثم أتى على واد فسمع صوتاً منكراً فقال يا جبريل ما هذا الصوت قال صوت جهنم تقول يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وغسليني وقد بعد قعري واشتد حرى ائتني بما وعدتني قال لك كل مشرك ومشركة وخبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب قالت رضيت كما في الترغيب والترهيب.
وكان ابن مرثد لا تنقطع دموع عينيه ولا يزال باكياً فسئل عن ذلك فقال لو أن الله أوعدني بأني لو أذنبت لحبسني في الحمام أبداً لكان حقيقاً على أنها لا تنقطع دموعي ، فكيف وقد أوعدني بأن يحبسني في نار قد أوقد عليها ثلاثة آلاف سنة أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت ثم أخرى حتى أبيضت ثم أخرى
380
حتى اسودت فهي سوداء مظلمة كالليل المظلم ، فهذه حال المعذب بالنار الصغرى وأما المعذب بالنار الكبرى وهي نار القطيعة والهجر فحاله أشد وأعظم.
بررخ جامى بودبي رويت ازدوزخ درى
جزء : 4 رقم الصفحة : 380
كرز روضه خازن اندر قبر او روزن كند
نسأل الله العصمة والتوفيق لطريق الحق والتحقيق.
مثل الجنة التي وعد المتقون من الشرك والمعاصي وهو مبتدأ خبره محذوف أي فيما قصصنا عليك مثل الجنة أي صفتها التي هي كالمثل السائر في الغرابة تجري من تحتها الأنهار حال من العائد المحذوف من الصلة والتقدير وعد بها المتقون مقدراً جريان أنهارها أربعة من تحت أشجارها بمقابلة المراتب الأربع التي هي الشريعة والطريقة والمعرفة والحقيقة وتعطى هذه الأنهار على الكمال لمن جمع بين هذه المراتب الأربع وهم المقربون وأما غيرهم من الأبرار وأرباب البرازخ فإنهم وإن كانوا يشربون منها لكنهم لا يجدون فيها ما يجده أولئك المقربون من زيادة اللذة لتفاوت معرفتهم بالله.
هر كسى از همت والاي خويش
سود برد در خور كالاي خويش
أكلها (ميوه آن بستان).
قال في الكواشي ما يؤكل فيها دائم لا ينقطع ولا يمنع منه بخلاف ثمر الدنيا.
وظلها أي : وظلها دائم لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس لأنه لا شمس في الجنة ولا حر ولا برد فالمراد بدوام الظل دوام الاستراحة ، وإنما عبر عنه به لندرة الظل عند العرب وفيه معظم استراحاتهم في أرضهم ، والمراد بدوام الأكل الدوام بالنوع لا الدوام بالجزء والشخص فإنه إذا فني منه شيء جيء ببدله وهذا لا ينافي الهلاك لحظة كما قال تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه}(القصص : 88) على أن دوامه مضاف إلى ما بعد دخول الجنة كما يقتضيه سوق الكلام فهلاكه لحظة عند هلاك كل شيء قبل الدخول لا ينافي وجوده وبقاءه بعده.
وفي الآية رد على الجهمية حيث قالوا إن نعم الجنة يفنى ومن مقالات لبيد قبل إسلامه.
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
ولما أنشده في مجلس من قريش وقال :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال عثمان بن مظعون رضي الله عنه صدق ولما قال :
وكل نعيم لا محالة زائل
قال : كذبت لما فهم أنه أراد بالنعيم ما هو شامل لنعيم الآخرة (أمام قشيري فرموده كه اهل ايمان امروز در ظل رعايتند وفردا در ظل حمايت وعارفان بدنيا وعقبى در ظل عنايت كه يوسته است)
سايه دولت او در دوجهان جاويدست
اي خوش آن بنده كه اين سايه فتدبر سراو
{تِلْكَ الْجَنَّةُ} التي بلغك وصفها وسمعت بذكرها عقبى الذين اتقوا مآلهم وعاقبة أمرهم وعقبى الكافرين النار لا غيره فالتقوى طريق إلى الجنة والكفر طريق إلى النار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 380
والإشارة : أن الله تعالى يشير إلى حقيقة أمر الجنة التي وعدها للمتقين ووصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار وهي أنهار الفضل والكرم ومياه العناية والتوفيق أكلها دائم وهي مشاهدات الجمال ومكاشفات الجلال وظلها أي وهم في ظل هذه المقامات والأحوال التي هي من وجوده لا من شمس وجودهم على الدوام بحيث لا تزول أبداً وتلك الأحوال والمقامات عاقبة من اتقى
381
بالله عما سواه وعاقبة من أعرض عن هذه المقامات والأحوال نار القطيعة والحسرة كما في التأويلات النجمية.
وفي المثنوى :
جور دوران وهرآن رنجى كه هست
سهلتر از بعد حق وغفلتست
زانكه اينها بكذرد آن نكذرد
دولت آن دارد كه جان آكه برد
(4/251)
(شبلي ديد زنى راكه ميكريد وميكويد يا ويلاه من فراق ولدي.
شبلي كريست وكفت يا ويلاه من فراق الأحد.
آن زن كفت را نين ميكويي.
شبلي كفت تو كريه ميكنى بر فراق مخلوقي كه هر آينه فإني خواهد شد من را كريه نميكنم بر فراق خالقي كه باقي باشد)
فرزند ويا ونكه بميرند عاقبت
اي دوست دل مبند بجز حى لا يموت
عصمنا الله وإياكم من نار البعد والعذاب الأليم وشرفنا بالذوق الدائم والنعيم المقيم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 380
{وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ} يريد المسلمين من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه ومن النصارى وهم ثمانون رجلاً أربعون بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بالحبشة ، فالمراد بالكتاب التوراة والإنجيل يفرحون بما أنزل إليك بجميعه وهو القرآن كله ، لأنه من فضل الله ورحمته على العباد ولا شك أن المؤمن الموقن يسره ما جاء إليه من باب الفضل والإحسان ومن الأحزاب ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله بالعداوة نحو كعب بن الأشرف واتباعه والسيد والعاقب أسقفي نجران وأشياعهما وبالفارسية (واز لشكرهاى كفر وضلالت) من ينكر بعضه وهو ما يخالف شرائعهم.
وفي الكواشي : لأنهم وافقوا في القصص وأنكروا غيرها وعن ابن عباس رضي الله عنهما آمن اليهود بسورة يوسف وكفر المشركون بجميعه.
واعلم أن القرآن يشتمل على التكاليف والأحكام وعلى الأسرار والحقائق فالروح والقلب والسر يفرحون بالكل.
وأما النفس والهوى والقوى فينكر بعضه لثقل تكاليفه وجهل فوائده اللهم ارفع عنا تعب التكاليف واجعلنا بالقرآن خير اليف واحفظنا من المخالفة والانكار واحشرنا مع أهل القبول والإقرار.
مزن زون ورا دم كه بنده مقبل
قبول كرد بجان هر سخن كه جانان كفت
قل يا محمد في جواب المنكرين إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به أي : إنما أمرت فيما أنزل إليّ بأن أعبد الله وأوحده ، وهو العمدة في الدين ولا سبيل لكم إلى إنكاره.
وأما ما تنكرونه لما يخالف شرائعكم فليس ببدع مخالفة الشرائع والكتب الإلهية في جزئيات الأحكام لأن الله الحكيم ينزل بحسب ما يقتضيه صلاح أهل العالم كالطبيب يعامل المريض بما يناسب مزاجه من التدبير والعلاج إليه أي إلى الله وتوحيده لا إلى غيره ادعوا العباد أو أخصه بالدعاء إليه في جميع مهامي وإليه مآب أي مرجعي ومرجعكم للجزاء لا إلى غيره وهذا هو القدر المتفق عليه بين الأنبياء.
فأما ما عدا ذلك من التفاريع فمما يختلف بالأعصار والأمم فلا معنى لإنكار المخالف فيه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 382
وكذلك أي وكما أنزلنا الكتاب على الأنبياء بلغة أممهم كما قال : كذلك أرسلناك في أمة أو ومثل هذا الإنزال المشتمل على أصول الديانات
382
المجمع عليها كما هو المشهور في مثله.
أنزلناه يعني : القرآن حكماً يحكم في كل شيء يحتاج إليه العباد على مقتضى الحكمة والصواب ، فالحكم مصدر بمعنى الحاكم لما كان جميع التكاليف الشرعية مستنبطاً من القرآن كان سبباً للحكم فأسند إليه الحكم إسناداً مجازياً ثم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة ويقال حكماً أي محكماً لا يقبل النسخ والتغيير عربياً مترجماً بلسان العرب ليسهل لهم فهمه وحفظه ، وانتصاب حكماً على أنه حال موطئة وعربياً صفته والحال الموطئة اسم جامد موصوف بصفة هي الحال فكأن الاسم الجامد وطأ الطريق لما هو حال في الحقيقة لمجيئه قبلها موصوفاً بها روى أن المشركين كانوا يدعونه عليه السلام إلى اتباع ملة آبائهم المشركين وكاد اليهود يدعونه إلى الصلاة إلى قبلتهم أي بيت المقدس بعد ما حول عنها فقال تعالى ولئن اتبعت أهواءهم التي يدعونك إليها لتقرير دينهم جعل ما يدعونه إليه من الدين الباطل والطريق الزائغ هوى ، وهو ما يميل إليه الطبع وتهواه النفس بمجرد الاشتهاء من غير سند مقبول ودليل معقول لكونه هوى محضاً بعد ما جاءك من العلم من الدين المعلوم صحته بالبراهين مالك من الله من عذابه من ولى ينصرك ولا واق يحفظك ويمنع عنك العذاب وهذا خطاب له عليه السلام والمراد تحريض أمته على التمسك بالدين وتحذيره من التزلزل فإنه إذا حذر من كان أرفع منزلة من الكل هذا التحذير ، كان غيره أولى بذلك أعانك الله وإياي في كل مقام.
فعلى العاقل أن يسلك طريق العبودية إلى عالم الربوبية ولا يشرك شيئاً من الدنيا والآخرة بل يكون مخلصاً في طلبه ، ومن اتبع الشرك بعد ما جاءه من العلم وهو طلب الوحدانية ، ببذل الأنانية ماله من الله من ولى يخرجه من ظلمات الاثنينية إلى نور الوحدانية ولا واقٍ يقيه من عذاب البعد وحجاب الشركة في الوجود بالوجود فطريق الخلاص إنما هي العبودية.
(4/252)
قال الامام الفخر الرازي في الكبير وقد بلغ شرف العبودية مبلغاً بحيث اختلف العلماء في العبودية والرسالة المستجمعين في المرسلين أيهما أفضل فقالوا إن العبودية أفضل واستدلوا عليه بأنه بالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق والعبودية أن يكل أموره إلى سيده فيكون هو المتكفل تعالى باصلاح مهامه والرسالة التكفل بمهام الأمة وشتان ما بينهما هذا آخر كلامه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 382
والعبودية هي مقام الجمع ، والرسالة مقام التفرقة ، انظر إلى النبي كان في تمحض عبوديته مع ربه كما أخبر عنه أبيت عند ربي هو يطعمني ويسقيني وفي حال رسالته يقول : علميني يا حميراء لينقطع من الحق إلى الخلق وكفى شرفاً تقديم العبد على الرسول في أشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وفي العبودية معنى الكرامة والتشريف كما قال : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}(الحجر : 42).
قال الحافظ :
كدايىء ذرجانان بسلطنت مفروش
كسى ز سايه اين در بآفتاب رود
وعن علي رضي الله عنه كفاني شرفاً أن تكون لي رباً ، وكفاني عزاً أن أكون لك عبداً وكما أن الله تعالى هو خالق العبد فكذا لا جاعل للعبد عبداً وذلك برفع هواه إلا هو ، ألا ترى إلى قوله تعالى : [النساء : 49-4]{بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ} {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُه مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ} (النور : 21) أبداً {لا يَمَسُّه إِلا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة : 79) فإن المطهر بالكسر في الحقيقة هو الله تعالى
383
وما سواه أسباب ووسائط.
جزء : 4 رقم الصفحة : 382
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ} بشراً مثلك يا محمد وهو جواب لقول قريش إن الرسول لا بد وأن يكون من جنس الملائكة وجعلنا لهم أزواجاً وذرية أي نساء وأولادا كما هي لك فلما جاز ذلك في حقهم فلم لا يجوز مثله أيضاً في حقك ، وهو جواب لقول اليهود ما نرى لهذا الرجل همة إلا في النساء والنكاح ولو كان نبياً لاشتغل بالزهد والعبادة روى أنه كان لداود عليه السلام مائة امرأة منكوحة وثلاثمائة سرية ولابنه سليمان عليه السلام ثلاثمائة امرأة مهرية وسبعمائة سرية فكيف يضر كثرة الأزواج لنبينا عليه السلام.
وفي التأويلات النجمية أن الرسل لما جذبتهم العناية في البداية رقتهم من دركات البشرية الحيوانية إلى درجات الولاية الروحانية ثم رقتهم منها إلى معارج النبوة والرسالة الربانية في النهار فلم يبق فيهم من دواعي البشرية وأحكام النفسانية ما يزعجهم إلى طلب الأزواج بالطبيعة والركون إلى الأولاد بخصائص الحيوانية بل جعل لهم رغبة في الأزواج والأولاد على وفق الشريعة بخصوصية الخلافة في إظهار صفة الخالقية كما قال تعالى : أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون}(الواقعة : 59) انتهى.
وقال الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" : الأنبياء زيدوا في القوة بفضل نبوتهم وذلك إن النور إذا امتلأت منه الصدور ففاض في العروق التذت النفس والعروق فأثار الشهوة وقواه انتهى.
وفي الحديث : "فضلت على الناس بأربع بالسخاء والشجاعة وقوة البطش وكثرة الجماع" وطاف عليه السلام على نسائه التسع ليلة ، وتطهر من كل واحدة قبل أن يأتي الأخرى وقال هذا أطيب وأطهر وأوتى عليه السلام قوة أربعين رجلاً من أهل الجنة في الجماع وقوة الرجل من أهل الجنة كمائة من أهل الدنيا فيكون أعطى عليه السلام قوة أربعة آلاف رجل ، وسليمان عليه السلام قوة مائة رجل وقيل ألف رجل من رجال الدنيا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 384
قال في "إنسان العيون" لا يخفى أن أزواجه عليه السلام المدخول بهن اثنتا عشرة امرأة وكان له أربع سراري.
وفي "بستان العارفين" ما تزوج من النساء أربع عشرة نسوة.
وفي "الواقعات المحمدية" إن فخر الأنبياء عليه وعليهم السلام قد تزوج إحدى وعشرين امرأة ومات عن تسع نسوة ، قال سفيان بن عيينة كثرة النساء ليست من الدنيا لأن علياً رضي الله عنه كان أزهد أصحاب النبي عليه السلام ، وكان له أربع نسوة وسبع عشرة سرية وتزوج المغيرة بن شعبة ثمانين امرأة.
وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما منكاحاً حتى نكح زيادة على مائتي امرأة وقد قال عليه السلام : "أشبهت خلقي وخلقي".
يقول الفقير : قد تزوج شيخي وسندي روح الله روحه قدر عشرين وجمع بين أربع مهرية وخمس عشرة سرية ، وكان يقول للعامي حين يسأل عن كثرة نكاحه أن لكل أحد ابتلاء في هذه الدار وقد ابتليت بكثرة النكاح ويقول لهذا الفقير في خلوته إنها من أسرار النبوة وخصائص خواص هذه الأمة وأشار به إلى الحديث المشهور "حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة" فهذا العشق والمحبة إنما يكون لأصحاب النفوس القدسية وهم يطالعون في كل شيء ما لا يطالعه غيرهم.
ونعم ما قيل :
منعم كنى زعشق ودي اي مفتى زمان
معذور دارمت كه تو اورا نديده
(4/253)
{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} وما صح لواحد منهم ولم يكن في وسعه إن يأتي بآية تقترح عليه
384
إلا بإذن الله أي بأمره لا باختيار نفسه ورأيه فإنهم عبيد مر بوبون وهو جواب لقول المشركين لو كان رسولاً من عند الله لكان عليه أن يأتي بأي شيء طلبنا منه من المعجزات ولا يتوقف فيه وفيه إشارة إلى أن حركات عامة الخلق وسكناتهم بمشيئة الله تعالى وإرادته وإن حركات الرسل وسكناتهم بإذن الله ورضاه لكل أجل وقت كتاب حكم مكتوب مفروض يليق بصلاح حال أهله فإن الحكمة تقتضي اختلاف الأحكام على حسب اختلاف الأعصار والأمم ، وهو جواب لقولهم لو كان نبياً ما نسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل.
وقال الشيخ في تفسيره : أي لكل شيء قضاه الله وقت مكتوب معلوم لا يزاد عليه ولا ينقص منه أو لا يتقدم ولا يتأخر عنه (ياهر أجلى را از آجال خلائق كتابيت نزديك خداي تعالى كه جزوى كسى را بر آجال خلق اطلاع نباشد).
يمحو الله ما يشاء محوه ويثبت ما يشاء إثباته فينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما هو خير منه أو مثله ويترك ما يقتضيه حكمته غير منسوخ.
أو يمحو سيئات التائب ويثبت الحسنات مكانها.
أو يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة وذلك لأنهم مأمورون بكتب جميع ما يقول الإنسان ويفعل فإذا كان يوم الاثنين والخميس يعارض ما كتبه الحفظة بما في اللوح المحفوظ فينفي من كتاب الحفظة ما لا جزاء له من ثواب وعقاب ويثبت ماله جزاء من أحدهما ويترك مكتوباً كما هو ، فإن كان في أول الديوان وآخره خير يمحو الله ما بينهما من السيئات وإن لم يكن في أوله وآخره حسنات أثبت ما فيه من السيئات.
جزء : 4 رقم الصفحة : 384
واختلف هل يكتب الملك ذكر القلب فسئل سفيان بن عيينة هل يعلم الملكان الغيب؟ فقال : لا فقيل له : فكيف يكتبان ما لا يقع من عمل القلب؟ فقال : لكل عمل سيما يعرف بها كالمجرم يعرف بسيماه إذا هم العبد بحسنة فاح من فيه رائحة المسك فيعلمون ذلك فيثبتونها وإذا هم بسيئة واستقر عليها قلبه فاح منه ريح منتنة.
وجعل النووي هذا أي كونهم يكتبون عمل القلب أصح.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : الملك لا سبيل له إلى معرفة باطن العبيد في قول أكثرهم انتهى.
ويؤيده ما في ريحان القلوب أن الذكر الخفي هو ما خفي عن الحفظة لا ما يخفض به الصوت وهو خاص به ومن له أسوة حسنة انتهى.
يقول الفقير : يحتمل أن الإنسان الكامل لكونه حامل أمانة الله ومظهر أسراره وخير البرية لا يطلع عليه الملك ويطلع على حال غيره بعلامات خفية عن البشر إلزاماً وإحصاء لعمله ، كما قال تعالى : لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}(الكهف : 49) أو يمحو ويثبت في السعادة والشقاوة
385
والرزق والأجل ـ ـ روى ـ ـ عن عمر رضي الله عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة لأنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.
وفي الأثر أن الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فيرد إلى ثلاثة أيام ويكون قد بقى من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة.
قال في "التأويلات النجمية" لأجل أهل المشيئة والإرادة في حركاتم وقت معين لوقوع الفعل فيه وكذا لأهل الأذن والرضي ثم يمحو الله ما يشاء لأهل السعادة من أفاعيل أهل الشقاوة ويثبت لهم من أفاعيل أهل السعادة ويمحو ما يشاء لأهل الشقاوة من أفاعيل أهل السعادة ويثبت لهم من أفاعيل أهل الشقاوة وعنده أم الكتاب الذي مقدر فيه حاصل أمر كل واحد من الفريقين وخاتمتهم فلا يزيد ولا ينقص انتهى.
يقول الفقير : إن التغير والتبدل والمحو والإثبات إنما هو بالنسبة إلى السعادة والشقاوة العارضتين فإنهما تقبلان ذلك بخلاف الأصليتين كما روى أنه عليه السلام قال : "إذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة يدخل الملك على تلك النطفة فيقول يا رب أشقي أم سعيد؟ فيقضي الله ويكتب الملك فيقول يا رب أذكرأم أنثى؟ فيقضي الله ويكتب الملك فيقول عمله ورزقه فيقضي الله ويكتب الملك ثم تطوي الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقض منها" فعلم أن بطن الأم ناظر إلى لوح الأزل فلا يتغير أبداً وأما عالم الحس فناظر إلى اللوح وعلى هذا يحمل قول بعضهم {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} إلا الشقاوة والسعادة والموت والحياة والرزق والعمر والأجل والخلق والخلق.
كما قال السعدي قدس سره :
جزء : 4 رقم الصفحة : 384
خوى بد در طبيعتي كه نشست
نرهد جز بوقت مرك ازدست
(4/254)
فمعنى زيادة العمر بصلة الرحم إن يكتب ثواب عمله بعد موته ، فكأنه زيد في عمره أو هو من باب التعليق أو الفرض والتقدير ويمحو الأحوال ويثبت أضدادها من نحو تحويل النطفة علقة ثم مضغة إلى آخرها ، ويمحو الأعمال إذا كان كافراً ثم أسلم في آخر عمره محيت الأعمال التي كانت في حال كفره فأبدلت حسنات ، كما قال تعالى إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات}(الفرقان : 70) وإذا كان مسلماً ثم كفر في آخر عمره محيت أعماله الصالحة فلم ينتفع بها كما قال تعالى : {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَـاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود : 16) فالله تعالى يمحو الكفر ويثبت الإيمان ويمحو الجهل ويثبت العلم والمعرفة ويمحو الغفلة والنسيان ويثبت الحضور والذكر ويمحو البغض ويثبت المحبة ويمحو الضعف ويثبت القوة ويمحو الشك ويثبت اليقين ويمحو الهوى ويثبت العقل ويمحو الرياء ويثبت الإخلاص ويمحو البخل ويثبت الجود ويمحو الحسد ويثبت الشفقة ويمحو التفرقة ويثبت الجمع على هذا النسق ودليله {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} (الرحمن : 29) محواً واثباتاً.
قال الكاشفي : (ابو درداء رضي الله عنه از حضرت نقل ميكندكه ون سه ساعت ازشب باقي ماند حق سبحانه وتعالى نظر ميكند در كتابي كه غير ازو هيكس دران اطلاع نمى كند هره خواهد ازومحو كند وهره خواهد ثبت كند در فصلو آورده كه محو كند رقوم انكار ازقلوب أبرار وإثبات كند بجاي آن رموز وأسرار).
وقال الشبلي ـ ـ رحمه الله ـ ـ يمحو ما يشاء من شهود العبودية وأوصافها ويثبت ما يشاء من شهود الربوبية ودلائلها.
وقال ابن عطاء : يمحو الله أوصافهم ويثبت أسرارهم لأنها موضع المشاهدة.
وفي "التأويلات النجمية" {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ} من الأخلاق الذميمة النفسانية ويثبت ما يشاء من الأخلاق الحميدة الروحانية للعوام ويمحو من الأخلاق الروحانية ويثبت من الأخلاق الربانية للخواص ويمحو آثار الوجود ويثبت آثار الجود لأخص الخواص كل شيء هالك إلا وجهه (امام قشيري ميفر ما يدكه محو حظوظ نفساني ميكند وإثبات حقوق رباني يا شهود خلق ميبرد وشهود حق مي آرد يا آثار بشريت محو ميكند وأنوار احديت ثابت ميسازد ازان بنده مى كاهد وازان خود مي افزايد تا نانه باول خود بود بآخرهم خود باشد.
شيخ الإسلام فرموده كه
386
الهي جلال وعزت نوجاي اشارت نكذاشت محو وإثبات توراه اضافت.
برداشت ازان من كاست وازان تو مي فزود بآخرهمان شدكه باول بود)
جزء : 4 رقم الصفحة : 384
محنت همه درنهاد آب وكل ماست
يش ازدل وكل ه بود آن حاصل ماست
در عالم نيست خانه داشته ايم
رفتيم بدان خانه كه سر منزل ماست
وعنده تعالى أم الكتاب العرب تسمى كل ما يجري مجرى الأصل أماً ومنه أم الرأس للدماغ وأم القرى لمكة ، أي أصله الذي لا يتغير منه شيء وهو ما كتبه في الأزل وهو العلم الأزلي الأبدي السرمدي القائم بذاته وقد أحاط بكل شيء علماً بلا زيادة ولا نقصان وكل شيء عنده بمقدار وهو لوح القضاء السابق فإن الألواح أربعة لوح القضاء السابق الخالي عن المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول ، ولوح القدر أي لوح النفوس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول ويتعلق بأسبابها وهو المسمى باللوح المحفوظ ، ولوح النفوس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيئاته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا وهو بماثبة خيال العالم ، كما أن الأول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه ، ثم لوح الهيولي القابل للصور في عالم الشهادة.
وفي الواقعات المحمودية اعلم أن اللوح معنوي وصوري.
فالصوري ثمانية عشر ألفاً أصغرها في هذا التعين وهو قابل للتغير والتبدل ، وقوله تعالى : يمحو الله ما يشاء ويثبت ناظر إليه.
وأما المعنوي : فلا يقبل التغير والتبدل وليس له زمان ولا حجم وما ذكروا من أن اللوح ياقوتة حمراء أطرافه من زبرجد فهو اللوح الصوري.
وأما المعنوي ففي علم الله تعالى الأزلي وهو لا يتغير أبداً وقد وقع الكل بإرادة واحدة.
(4/255)
وفي الوجود الإنساني أيضاً لوحان جزئيان معنوي وصوري فالمعنوي الجزئي باب اللوح المعنوي الكلي والصوري للصوري فالصوري ينكشف لأكثر الأولياء ، وأما المعنوي فلا يحصل إلا لواحد بعد واحد.
وفي موضع آخر منها جميع ما سوى الله تعالى مما كان وما سيكون من إرادة واحدة أزلية لا تكثر فيها ولا تغير ولا تبدل وهي المراد من قوله ما يبدل القول لدي}(ق : 29) وأما قوله : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ} ويثبت فناظر إلى تعلقات تلك الإرادة الأزلية التي هي من الصفات الحقيقية بالمحدثات على ما تقتضيه حكمته ومن جملتها أفعال العبودية فتصدر منهم بإرادتهم الحادثة واختيارهم الجزئي بمعنى أنهم يصرفون اختيارهم إلى جانب أفعالهم فيخلقها الله سبحانه فالكسب منهم والخلق من الله فلا يلزم الجبر ، والأعمال إعلام فمن قدر له السعادة ختم بالسعادة من قدر له الشقاوة ختم بالشقاوة وفي الحديث : إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها الإ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها وفي قوله عليه السلام في الحديث : فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وقوله : فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها تنبيه على سببية العمل في الجانبين حيث لم يقل فيسبق عليه الكتاب فيدخل النار أو الجنة بل ذكر العمل أيضاً كما لا يخفى على المتفطن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 384
واعلم أن الله تعالى علق كثيراً من العطايا على الأعمال الصالحة وأمر العباد بها وفي الحديث الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل.
وفي الإحياء إن قيل ما فائدة الدعاء والقضاء لا مرد له؟ قلنا : إن من جملة
387
القضاء كون الدعاء سبباً لرد البلاء واستجلاب الرحمة وصار كالترس فإنه لما كان لرد السهم لم يكن حمله مناقضاً للاعتراف بالقضاء فكذا الدعاء فقدر الله الأمر وقدر سببه.
قال الحسن البصري : طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب.
وقال : علامة الحقيقة : ترك ملاحظة العمل لا ترك العمل فعلى العاقل أن يجتهد في أعمال البر ويكف النفس عن الهوى إلى أن يجيء الأجل.
قال الكمال الخجندي قدس سره :
بكوش تابكف آرى كليد كنج وجود
كه بي طلب نتوان يافت كوهر مقصود
وإما نرينك في حياتك يا أفضل الرسل وأصله وإن نرك وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ومن ثمة الحقت النون بالفعل بعض الذي نعدهم أي مشركي مكة من العذاب والزلازل والمصائب والجواب محذوف أي فذاك شافيك من أعدائك.
س از مرك آنكس نبايد كريست
كه روزى س از مرك دشمن بزيست
أو نتوفينك أي نقبض روحك الطاهرة قبل إراءة ذلك فلا تحزن فإنما عليك البلاغ اسم أقيم مقام التبليغ كالأداء مقام التأدية أي تبليغ الرسالة وأداء الأمانة لا غير وعلينا الحساب أي مجازاتهم يوم القيامة لا عليك فننتقم منهم أشد الانتقام فلا يهمنك إعراضهم ولا تستعجل بعذابهم ونظيره قوله تعالى : فأما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون}(الزخرف : 41) يعني لا يتخلصون من عذاب الله مت أو بقيت حياً.
وفي "التأويلات النجمية" {إِنَّا نَرَاـاكَ} بالكشف والمشاهدة بعض الذي نعدهم وعدناهم من العذاب والثواب قبل وفاتك كما كان يخبر عن العشرة المبشرة وغيرهم بدخولهم الجنة وقد أخبر السائل عن أبيه حين قال أين أبوك؟ قال : أبي وأبوك في النار وقال : رأيت الجنة وفيها فلان ورأيت النار وفيها فلان أو نتوفينك قبل أن نريك من أحوالهم فإنما عليك البلاغ فيما أمرناك بتبليغه ولا عليك القبول فيما تقول وعلينا الحساب في الرد والقبول انتهى ، وكأن الكفرة قالوا أين ما وعد ربك أن يريك فقال تعالى :
أو لم يروا أنا نأتي الأرض أي : يأتي أمرنا أرض الكفرة ننقصها من أطرافها حال من فاعل نأتي أو من مفعوله أي نفتح ديار الشرك بمحمد والمؤمنين به فما زاد في بلاد الإسلام باستيلائهم عليها جبراً وقهراً نقص من ديار الكفرة ، والله تعالى إذا قدر على جعل بعض ديار الكفرة للمسلمين فهو قادر على أن يجعل الكل لهم أفلا يعتبرون والله يحكم لا معقب لحكمه محل لامع المنفى النصب على الحال أي يحكم نافذاً حكمه خالياً عن المعارض والمناقض ، وحقيقته الذي يعقب الشيء بالرد والإبطال.
والمعنى : أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس وذلك كائن لا يمكن تغييره وهو سريع الحساب فيحاسبهم عما قليل في الآخرة بعد عذاب الدنيا من القتل والإجلاء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 384
يقول الفقير : نقص الأرض إنما يكون بالفتح المبني على الأمر بالجهاد وهو إنما فرض بالمدينة فالأظهر أن الآية مدنية لا مكية كما لا يخفي ، وكون السورة مكية لا ينافيه وقد تعرض من ذهب إلى كونها مكية لاستثناء آيتين كما أشير إليهما في عنوان السورة ولم يتعرض لهذه الآية والحق ما قلنا.
وقال بعضهم : نقص الأرض ذهاب البركة أو خراب النواحي أو موت الناس
388
(4/256)
أو موت العلماء والفقهاء والخيار وفي الحديث : إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وفي ذكر إذا دون إن إشارة إلى أنه كائن لا محالة بالتدريج.
وقال سلمان رضي الله عنه : لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخر فإذا هلك الأول ولم يتعلم الآخر هلك الناس.
وقال ابن المبارك : ما جاء فساد هذه الأمة إلا من قبل الخواص وهم خمسة العلماء والغزاة والزهاد والتجار والولاة أما العلماء فهم ورثة الأنبياء ، وأما الزهاد فعماد الأرض ، وأما الغزاة فجند الله في الأرض ، وأما التجار فإمناء الله في الأمة ، وأما الولاة فهم الرعاة فإذا كان العالم للدين واضعاً للمال رافعاً فبمن يقتدى الجاهل؟ وإذا كان الزاهد في الدنيا راغباً فبمن يقتدي التائب وإذا كان الغازي طامعاً فكيف يظفر بالعدو ، وإذا كان التاجر خائناً فكيف تحصل الأمانة ، وإذا كان الراعي ذئباً فكيف تحصل الرعاية.
نكند جور يشه سلطاني
كه نيايد ذكرك وباني
والإشارة أو لم يروا أنا نأتي الأرض البشرية ننقصها من أطرافها من أوصافها بالازدياد في أوصاف الروحانية وأرض الروحانية ننقصها من أخلاقها بالتبديل بالأخلاق الربانية وأرض العبودية ننقصها من آثار الخلقية بإظهار أنوار الربوبية والله يحكم من الأزل إلى الأبد لا معقب لا مقدم ولا مؤخر ولا مبدل لحكمه وهو سريع الحساب فيما قدر ودبر وحكم فلا يسوغ لأحد تغيير حكم من أحكامه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 384
{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} تسلية لرسول الله أي مكر الذين قبل مشركي مكة بأنبيائهم والمؤمنين بهم كما مكر أهل مكة بمحمد عليه السلام ومكرهم ما أخفوه من تدبير القتل والإيذاء بهم ، مكر نمرود بإبراهيم عليه السلام وبني الصرح وقصد السماء ليقتل رب إبراهيم ، ومكر فرعون بموسى عليه السلام واليهود بعيسى عليه السلام وثمود بصالح عليه السلام كما قالوا لنبيتنه وأهله أي لنقتلهم ليلاً ومكر كفار مكة في دار الندوة حين أرادوا قتل النبي فللَّه المكر جميعاً مكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة.
وفي الكواشي أسباب المكر وجزاؤه بيد الله لا يغلبه أحد على مراده فيجازيهم جزاء مكرهم وينصر أنبياءه ويبطل مكر الكافرين إذا هو من خلقه فالمكر جميعاً مخلوق له ليس يضر منه شيء إلا بإذنه ثم بين قوة مكره وكماله بقوله يعلم ما تكسب كل نفس من خير وشر فيعد جزاءها.
وفي التأويلات النجمية في أهل كل زمان وقرن مكر وهم يمكرون به فللَّه المكر جميعاً فإنه مكر بهم ليمكروا بمكره مكراً مع أهل الحق ليبتليهم الله بمكرهم ويصبروا على مكرهم ثقة بالله إنه هو خير الماكرين.
وفي المثنوى :
مر ضعيفاً توبي خصمي مدان
از نبي إذ جاء الله بخوان
كرد خود ون كرم يله برمتن
بهر خوده ميكنى اندازه كن
كر تويلى خصم تو از تورميد
نك جزا طيرا ابابيلت رسيد
كر ضعيفي در زمين خواهدامان
غلغل افتد درساه آسمان
كر بد ندانش كزى رخون كنى
در ددندانت بكيرد ون كنى
389
وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار من الفريقين حيثما يأتيهم العذاب المعد لهم وهم في غفلة منه واللام تدل على أن المراد بالعقبى العاقبة المحمودة والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت ودخول الجنة.
قال سعدى المفتي : ثم لا يبعد أن يكون المراد والله أعلم سيعلم الكفار من يملك الدنيا آخراً فاللام للملك انتهى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 389
فينبغي للمؤمن أن يتوكل على المولى ويعتمد على وعده ويوافقه باستعجال ما عجله واستئجال ما أجله وكما أنه تعالى نصر رسوله فكان ما كان ، كذلك ينصر من نصر رسوله في كل عصر وزمان ، فيجعله غالباً على أعدائه الظاهرة والباطنة روى أنه عليه السلام أمر في غزوة بدر أن يطرح جيف الكفار في القليب وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلما كان اليوم الثالث أمر عليه السلام براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه حتى وقف على شفة القليب وجعل يقول يا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقاً فإني وجدت ما وعدني الله حقاً فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله كيف تكلم أجساداً لا روح فيها فقال عليه السلام : ما أنتم باسمع لما أقول منهم وفي رواية لقد سمعوا ما قلت غير إنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئاً.
(4/257)
وعن قتادة رضي الله عنه أحياهم الله حتى سمعوا كلام رسول الله توبيخاً لهم وتصغيراً ونقمة وحسرة وكان أبو لهب قد تأخر في مكة وعاش بعد أن جاء الخبر عن مصاب قريش ببدر أياماً قليلة ، ورمى بالعدسة وهي بثرة تشبه العدسة من جنس الطاعون فقتلته فلم يحفروا له حفيرة ولكن أسندوه إلى حائط وقذفوا عليه الحجارة خلف الحائط حتى واروه ، لأن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها ويرون أنها تعدى أشد العدوى ، فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه وبقي بعد موته ثلاثاً لا يقرب جنازته ولا يحاول دفنه حتى أنتن فلما خافوا السبة أي سب الناس لهم فعلوا به ما ذكر ، وفي رواية حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه فوجد جزاء مكره برسول الله وكانت عائشة رضي الله عنها إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها ، قال في النور وهذا القبر الذي يرجم خارج باب شبيكة الآن ليس بقبر أبي لهب وإنما هو قبر رجلين لطخا الكعبة بالعذرة وذلك في دولة بني العباس فإن الناس أصبحوا ووجدوا الكعبة ملطخة بالعذرة فرصدوا للفاعل فامسكوهما بعد أيام فصلبا في ذلك الموضع فصارا يرجمان إلى الآن فهذا جزاؤهما في الدنيا وقد مكر الله بهما بذلك فقس على هذا جزاء من استهزأ بدين الله وأهل دينه من العلماء الأخيار والاتقياء الأبرار ، وقد مكر بعض الوزراء بحضرة شيخي وسندي في أواخر عمره فأماته الله قبله بأيام فرؤي في المنام وهو منكوس الرأس لا يرفعها حياء مما صنع بحضرة الشيخ اللهم احفظنا واعصمنا من سوء الحال وسيئات الأعمال.
ويقول الذين كفروا يعني مشركي مكة أو رؤساء اليهود فتكون الآية مدنية لست يا محمد مرسلاً فيه إشارة إلى أن من يقول للرسول إنه ليس مرسلاً من الله كما قالت الفلاسفة إنه حكيم وليس برسول فقد كفر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 389
قال في هدية المهديين : أما الإيمان بسيدنا محمد عليه السلام فيجب بأنه رسولنا في الحال وخاتم الأنبياء والرسل ، فإذا آمن بأنه رسول ولم يؤمن بأنه خاتم الرسل لا نسخ لدينه إلى يوم القيامة لا يكون مؤمناً
390
شمسه نه مسند وهفت اختران
ختم رسل وخواجه يغمبران
قل كفى بالله الباء دخلت على الفاعل شهيدا تمييز بيني وبينكم (بآنكه من بيغمبرم بشما) والمراد بشهادة الله تعالى إظهار المعجزات الدالة على صدقه في دعوى الرسالة ومن عنده أم الكتاب وهو الذي علمه الله القرآن وعلمه البيان وأراه آيات القرآن ومعجزاته فبذلك علم حقية رسالته وشهد بها وهم المؤمنون فالمراد بالكتاب القرآن.
وعن عبد الله بن سلام أن هذه الآية نزلت فيّ ، فالمراد به التوراة فإن عبد الله بن سلام وأصحابه وجدوا نعته عليه السلام في كتابهم فشهدوا بحقية رسالته وكانت شهادتهم أيضاً قاطعة لقول الخصوم ، واعلم أن رسول الله أرسل إلى الخلق كافة الإنس والجن والملك والحيوان والنبات والحجر.
قال العطار قدس سره :
داعى ذرات بود آن اك ذات
در كفش تسبيح ازان كفتى حصات
وفي المثنوى :
سنكها اندر كف بو جهل بود
كفت اين احمد بكواين يست زود
كر رسولي يشت درمشتم نهان
ون خبر داري زراز آسمان
كفت ون خواهي بكويم آن هاست
يا بكويند آنكه ما حقيم وراست
كفت بو جهل اين دوم نادر ترست
كفت آرى حق ازان قادر ترست
ازميان مشت اوهر اره سنك
در شهادت كفتن آمد بي درنك
لا إله كفت وإلا الله كفت
كوهر أحمد رسول الله سفت
ون شنيد از سنكها بو جهل اين
زد زخشم آن سنكهارا بر زمين
وقد أخذ الله تعالى بأبصار الأنس والجن عن إدراك حياة الجماد إلا من شاء الله من خواص عباده ولو لم يكن سر الحياة سارياً في جميع العالم لما سبح الحصى ونحوه ، وقد ورد أن كل شي سمع صوت المؤذن من رطب ويابس يشهد له ولا يشهد إلا من كان حياً عالماً وكذا لا يحب إلا من كان كذلك ، وقد ورد في حق جبل أحد قوله عليه السلام : أحد يحبنا ونحبه.
ثم إن الأكوان مملوءة من أعلام الرسالة وشواهد النبوة ولقد خلق الله العرش الذي هو أول الأجسام وأعظمها ، فكتب عليه قبل كل شيء الكلمة الطيبة كما روي أن آدم عليه السلام لما اقترف الخطيئة قال يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت قال وكيف عرفت محمداً ، قال : لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك قال صدقت يا آدم إنه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 389
وعن بعضهم رأيت في جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كبير طيب الرائحة مكتوب عليه بالحمرة والبياض في الخضرة كتابة واضحة خلقة أبدعها الله بقدرته في الورقة ثلاثة أسطر الأول لا إله إلا الله والثاني محمد رسول الله والثالث إن الدين عند الله الإسلام.
وفي الواقعات المحمودية كل قول يقبل الاختلاف بين المسلمين إلا كلمة لا إله إلا الله فإنه غير قابل فمعناه متحقق وإن لم يتكلم به أحد تمت سورة الرعد في الحادي والعشرين من شوال المنتظم في سلك شهور سنة ثلاث ومائة وألف.
391
جزء : 4 رقم الصفحة : 389(4/258)
تفسير سورة إبراهيم
وهي مكية إلا ألم تر إلى الذين بدلوا الآيتين
وهي إحدى ومائتان أو أربع أو خمس وخمسون آية
جزء : 4 رقم الصفحة : 391
يشير إلى أن ببركة اسم الله وهو اسم ذاته تبارك وهو الاسم الأعظم ابتدأت بخلق العالمين إظهاراً لصفة الرحمانيته فالرحيمية ليكون عالم الدنيا مظهر صفة رحمانية ولهذا يقال يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ، وذلك لأن المخلوقات من الحيوان والجماد والمؤمن والكافر والسعيد والشقي عامة ينتفعون في الدنيا بصفة رحمانيته التي على صيغة المبالغة في الرحمة وفي الآخرة لا ينتفع بصفة رحيميته إلا المؤمنون خاصة كما قال وكان بالمؤمنين رحيما}(الأحزاب : 43) كما في "التأويلات النجمية" :
جامى اكر ختم نه برر حمتست
بهره شد خاتمه آن رحيم
{الار} يشير بالألف إلى القسم بآلائه ونعمائه وباللام إلى لطفه وكرمه وبالراء إلى القرآن يعني قسماً بآلائي ونعمائي إن صفة لطفي وكرمي اقتضت إنزال القرآن وهو كتاب إلخ كما في التأويلات النجمية.
وقال حضرة الشيخ الشهير بافتاده قدس سره أهل السلوك يعرفون المتشبهات على قدر مرتبتهم فمثل قوله تعالى : ق ون إشارة إلى مرتبة واحدة في ملك وجوده مثل حم إشارة إلى مرتبتين ومثل الم.
الر إشارة إلى ثلاث مراتب ومثل كهيعص.
وحمعسق إشارة إلى خمس مراتب.
وفي البعض إشارة إلى سبع مراتب فقوله عليه السلام : إن للقرآن ظهراً وبطناً لا يعرفه غير أهل السلوك وما ذكره العلماء تأويله لا تحقيقه ، فمثل القاضي وصاحب الكشاف سلوكهم من جهة اللفظ لا المعنى وكان في تفسير القاضي روحانية لكنه بدعاء عمر النسفي صاحب تفسير التيسير والمنظومة في الفقه وكان هو مدرس الثقلين روى أن شخصاً رأى الامام عمر النسفي بعد موته في المنام فقال كيف كان سؤال منكر ونكير فقال رد الله إلى روحي فسألاني فقلت لهما أخبركما في رد الجواب نظماً أو نثراً فقالا قل نظماً فقلت :
ربي الله لا إله سواه
ونبيي محمد مصطفاه
ديني الإسلام وفعلى ذميم
اسأل الله عفوه وعطاه
فانتبه ذلك الشخص في المنام وقد حفظ البيتين.
يقول الفقير علم : الحروف المقطعة من نهايات علوم الصوفية المحققين فإنهم إنما يصلون إلى هذا العلم الجليل بعد أربعين سنة من أول السلوك بل أول الفتح ، فهو من الأسرار المكتومة ولا بد لطالبه من الاجتهاد الكثير على يدي إنسان كامل.
قال الكمال الخجندي قدس سره :
جزء : 4 رقم الصفحة : 392
كرت دانستن علم حروفست آرزو صوفي
نخست افعال نيكوكن ه سوداز خواندن اسما
بنا اهل ارنشان دادي كمال ازخاك دركاهش
كشيدي كحل بينايي ولي در شم نابينا
392
قال الكاشفي (در شرح تأويلات ازامام مارتيدي مذكوراست كه حروف مقطعة ابتلاست مر تصديق مؤمن وتكذيب كافررا وخداي تعالى بندكانرا بهره ميخواهد امتحان كند) كتاب أي : القرآن المشتمل على هذه السورة وغيرها كتاب فهو خبر مبتدأ محذوف.(4/259)
وفي تفسير الكاشفي : (جمعي بر آنندكه اين حروف اسامي قر آنندوبدين وجه توان كفت كه الريعني قرآن كتاب) أنزلناه إليك يا محمد بواسطة جبرائيل حال كونه حجة على رسالتك بإعجازه يناسب قوله تعالى فيما بعد ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ثم بين المصلحة في إنزال الكتاب على رسول الله بقوله لتخرج الناس كافة بدعائك وإرشادك إياهم إلى ما تضمنه الكتاب من العقائد الحقة والأحكام النافعة من الظلمات إلى النور أي : من أنواع الضلالة إلى الهدى ومن ظلمة الكفر والنفاق والشك والبدعة إلى نور الإيمان والإخلاص واليقين والسنة ومن ظلمة الكثرة إلى نور الوحدة ومن ظلمة حجب الأفعال وأستار الصفات إلى نور وحدة الذات ومن ظلمة الخلقية إلى نور تجلى صفة الربوبية وذلك أن الله تعالى خلق عالم الآخرة وهو عالم الأرواح من النور وجعل زبدته روح الإنسان ، وخلق عالم الدنيا وهو عالم الأجسام وجعل زبدته جسم الإنسان ، وكماأنه تعالى جعل عالم الأجسام حجاباً لعالم الأرواح جعل ظلمات صفات جسم الإنسان حجاباً لنور صفات روح الإنسان وجعل العالمين بظلماتهما وأنوارهما حجاباً لنور صفة الوهيته كما قال : إنسبعين حجاباً من نور وظلمة لو كشفت لأحرقت سبحات وجه ما انتهى إليها بصره وما جعل الله لنوع من أنواع الموجودات استعداداً للخروج من هذه الحجب إلا للإنسان لا يخرج منها أحد إلا بتخريجه إياه منها ، واختص المؤمن بهذه الكرامة كما قال الله تعالى : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}(البقرة : 257) فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم والقرآن من أسباب تخريج المؤمنين من حجب الظلمات إلى النور {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي بحوله وقوته أي لا سبيل له إلى ذلك إلا به وإنما قال ربهم لأنه تعالى مربيهم ، وما قال بإذن ربك ليعلم إن هذه التربية من الله لا من النبي عليه السلام كذا في التأويلات النجمية.
وقال أهل التفسير : الباء متعلق بتخرج أي تخرج منها إليه لكن لا كيف ما كان فإنك لا تهدي من أحببت بل بإذن ربهم فإنه لا يهتدي مهتد إلا بإذن ربه أي بتيسيره وتسهيله ولما كان الإذن من أسباب التيسير أطلق عليه فإن التصرف في ملك الغير متعذر فإذا أذن تسهل وتيسر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 392
واعلم أن الدعوة عامة الهداية خاصة كما قال تعالى : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}(يونس : 25) وإذن الله شامل لجميع الناس في الظلمات إذ المقصود من إيجاد العوالم وإنشاء النشئات كلها ظهور الإنسان الكامل وقد حصل وهو الواحد الذي كالألف وهو السواد الأعظم فلا تقتضي الحكمة اتفاق الكل على الحق لأنتعالى جمالاً وجلالاً لا بد لكليهما من أثر.
در كار خانه عشق ز كفرنا كزيرست
آتش كرا بسوزد كر بولهب نباشد
{إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل وإضافة الصراط إلى العزيز وهو الله على سبيل التعظيم له ، والمراد دين الإسلام فإنه طريق موصل إلى الجنة والقربة والوصلة ، والعزيز الغالب الذي ينتقم لأهل دينه من أعدائهم ، والحميد المحمود الذي يستوجب
393
بذلك الحمد من عباده.
وفيه إشارة إلى أن العبور على الظلمات الجسمانية والأنوار الروحانية هو الطريق إلى الله تعالى وهو العزيز الذي لا يصل العبد إليه إلا بالخروج من هذه الحجب وهو الحميد الذي يستحق من كمالية جماله وجلاله أن يحتجب بحجب العزة والكبرياء والعظمة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 392
{اللَّهُ} بالجر عطف بيان للعزيز الحميد ، لأنه علم للذات الواجب الوجود الخالق للعالم.
الذي له ما في السموات وما في الأرض من الموجودات من العقلاء وغيرهم.
وفيه إشارة إلى أن سير السائرين إلى الله لا ينتهي بالسير في الصفات وهي العزيز الحميد وإنما ينتهي بالسير في الذات وهو الله ، فالمكونات أفعاله فمن بقي في أفعاله لا يصل إلى صفاته ومن بقي في صفاته لا يصل إلى ذاته ومن وصل إلى ذاته وصولاً بلا اتصال ولا انفصال بل وصولاً بالخروج من أنانيته إلى هويته تعالى ينتفع به في صفاته وأفعاله.
قال الكمال الخجندي قدس سره :
وصل ميسر نشود جز بقطع
قطع نخست ازهمه ببر يدنست
وقال المولى الجامي قدس سره :
سبحانك لا علم لنا إلا ما
علمت والهمت لنا الهاماً
ما را برهان زما وآكاهى ده
از سر معيني كه داري باما
وويل الويل الهلاك.
وقال الكاشفي : (رنج ومشقت) وهو مبتدأ خبره قوله للكافرين بالكتاب وأصله النصب كسائر المصادر إلا أنه لم يشتق منه فعل لكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه فيقال ويل لهم كسلام عليكم.
من عذاب شديد من لتبيين الجنس صفة لويل أو حال من ضميره في الخبر أو ابتدائية متعلقة بالويل على معنى أنهم يولون من عذاب شديد ويضجون منه ويقولون يا ويلاه كقوله تعالى : دعوا هنالك ثبورا}(الفرقان : 13).(4/260)
{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الاخِرَةِ} محل الموصول الجر على أنه بدل من الكافرين أو صفة له.
والاستحباب استفعال من المحبة.
والمعنى يختارون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الحياة الآخرة الأبدية فإن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحب إليها وأفضل عندها من غيره.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : يأخذون ما تعجل فيها تهاوناً بأمر الآخرة وهذا من أوصاف الكافر الحقيقي فإنه يجد ويجتهد في طلب الدنيا وشهواتها ويترك الآخرة بإهمال السعي في طلبها واحتمال الكلفة والمشقة في مخالفة هوى النفس وموافقة الشرع ، فينبغي للمؤمن الحقيقي أن لا يرضى باسم الإسلام ولا يقنع بالإيمان التقليدي فإنه لا يخلو عن الظلمات بخلاف الإيمان الحقيقي فإنه نور محض وليس فيه تغيير أصلاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 394
كي سيه كردد زآتش روى خوب
كونهد كلكونه از تقوى القلوب
ويصدون عن سبيل الله أي : ويمنعون الناس عن قبول دين الله.
وفيه إشارة إلى أن أهل الهوى يصرفون وجوه الطالبين عن طلب الله ، ويقطعون عليهم طريق الحق في صورة النصيحة ويلومون الطلاب على ترك الدنيا والعزلة والعزوبة والانقطاع عن الخلق للتوجه إلى الحق ويبغونها أي ويبغون لها فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير ، أي يطلبون لها عوجا زيغا واعوجاجاً ، أي يقولون لمن يريدون صده وإضلاله إنها سبيل
394
ناكبة وزائغة غير مستقيمة (يعني اين راه كج است وبمنزل مقصود نميرسد).
والزيغ الميل عن الصواب والنكوب الاعراض أولئك الموصوفون بالقبائح المذكورة.
في ضلال بعيد أي : ضلوا عن طريق الحق ووقعوا عنه بمراحل ، والبعد في الحقيقة من أحوال الضال ، لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق فوصف به فعله مجازاً للمبالغة وفي جعل الضلال محيطاً بهم إحاطة الظرف بما فيه ما لا يخفى من المبالغة وليس في طريق الشيطان فوق من هو ضال ومضل كما أنه ليس في طريق الرحمن فوق من هو مهتد وهاد وقد أشير إلى كليهما في هذه الآيات فإن إنزال الكتاب على رسول الله إشارة إلى اهتدائه به كما قال تعالى في مقام الامتنان ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان وقوله لتخرج صريح في هدايته وإرشاده ولكل وارث من ورثته الأكملين حظ ، أوفى من هذين المقامين وهم المظاهر للاسم الهادي ، وقوله تعالى يستحبون ويصدون إشارة إلى الضلال والاضلال وهم ورثة الشيطان في ذلك أي المظاهر للاسم المضل.
فعلى العاقل أن يحقق إيمانه بالذكر الكثير وينقطع من الدنيا وما فيها إلى العليم الخبير.
وسئل سلطان العارفين أبو يزيد البسطامي قدس سره عن السنة والفريضة فقال : السنة ترك الدنيا والفريضة الصحبة مع المولى لأن السنة كلها تدل على ترك الدنيا والكتاب كله يدل على صحبة المولى فمن عمل بالسنة والفريضة فقد كملت النعمة في حقه ووجب عليه الشكر الكثير شرفنا الله وإياكم بالسلوك إلى طريق الأخيار والأبرار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 394
[النساء : 64]{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ} (درزاد المسير آورده كه قريش ميكفتند ه حالتست كه همه كتب منزل بلغة عجمي فرود آمده وكتابي كه بمحمد مي آيد عربيست آيت آمدكه) وما أرسلنا من رسول إلا ملتبساً بلسان قومه لفظ اللسان يستعمل فيها هو بمعنى العضو وبمعنى اللغة والمراد هنا هو الثاني أي بلغة قومه الذين هو منهم وبعث فيهم (يعني كروهى كه اواز ايشان زاده ومبعوث شده بديشان ه هريغمبرى را اول دعوت نزديكان خود بايد كرد) ويدل عليه قوله تعالى : وإلى عاد أخاهم هودا}(هود : 50) {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} (الأعراف : 73) ونحو ذلك ولا ينتقض بلوط عليه السلام فإنه تزوج منهم وسكن فيما بينهم فحصل المقصود الذي هو معرفة قومه بلسانه وديانته ، وعمم المولى أبو السعود حيث قال إلا ملتبساً بلسان قومه متكلماً بلغة من أرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة ، سواء بعث فيهم أم لا انتهى {لِيُبَيِّنَ} أي لقومه ما دعوا إليه وأمروا بقبوله فيفقهوه عنه بسهولة وسرعة ثم ينقلوه ويترجموه لغيرهم فإنهم أولى الناس بأن يدعوهم وأحق بأن ينذرهم ولذلك أمر النبي عليه السلام بإنذار عشيرته أولاً ولقد بعث عليه السلام إلى الناس جميعاً بل إلى الثقلين ولو نزل الله كتبه بألسنتهم مع اختلافها وكثرتها استقل ذلك بنوع من الإعجاز لكن أدى إلى التنازع واختلاف الكلمة وتطرق أيدي التحريف ، وإضاعة فضل الاجتهاد في تعلم الألفاظ ومعانيها والعلوم المتشعبة منها وما في أتعاب النفوس وكذا القرائح فيه من القرب والطاعات المقتضية لجزيل الثواب وأيضاً لما جعله الله تعالى سيد الأنبياء وخيرهم وأشرفهم وشريعته خير الشرائع وأشرفها وأمته خير الأمم
395(4/261)
وأفصلهم أراد أن يجمع أمته على كتاب واحد منزل بلسان هو سيد الألسنة وأشرفها وأفضلها إعطاء للأشرف الأشرف وذلك هو اللسان العربي الذي هو لسان قومه ولسان أهل الجنة فكان سائر الألسنة تابعاً له كما أن الناس تابع للعرب ، مع ما فيه من الغنى عن النزول بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل أي يبعث الرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله ويترجمون لهم بألسنتهم يقال ترجم لسانه إذا فسره بلسان آخر ومنه الترجمان كما في الصحاح.
جزء : 4 رقم الصفحة : 395
قال في لسان العيون : أما قول اليهود أو بعضهم وهم العيسوية طائفة من اليهود أتباع عيسى الأصفهاني أنه عليه السلام إنما بعث للعرب خاصة دون بني إسرائيل وأنه صادق ففاسد لأنهم إذا أسلموا أنه رسول الله وأنه صادق لا يكذب لزمهم التناقض لأنه ثبت بالتواتر عنه أنه رسول الله لكل الناس ثم قال ولا ينافيه قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}(إبراهيم : 4) لأنه لا يدل على اقتصار رسالته عليهم بل على كونه متكلماً بلغتهم ليفهموا عنه أو لا ، ثم يبلغ الشاهد الغائب ويحصل الأفهام لغير أهل تلك اللغة من الأعاجم بالتراجم الذين أرسلوا إليهم فهو صلى الله عليه وسلّم مبعوث إلى الكافة وإن كان هو وكتابه عربيين ، كما كان موسى وعيسى عليهما السلام مبعوثين إلى بني إسرائيل بكتابيهما العبراني وهو التوراة والسرياني وهو الانجيل ، مع أن من جملتهم جماعة لا يفهمون بالعبرانية ولا بالسريانية كالأروام فإن لغتهم اليونانية انتهى.
والحاصل أن الإرشاد لا يحصل إلا بمعرفة اللسان ـ ـ حكى ـ ـ إن أربعة رجال عجمي وعربي وتركي ورومي وجدوا في الطريق درهماً فاختلفوا فيه ولم يفهم واحد منهم مراد الآخر فسألهم رجل آخر يعرف الألسنة فقال للعربي أي شيء تريد؟ وللعجمي (ه ميخواهى) وللتركي "نه استرسين" وعلم أن مراد الكل أن يأخذوا بذلك الدرهم عنباً ويأكلوه فأخذ هذا العارف الدرهم منهم واشترى لهم عنباً فارتفع الخلاف من بينهم بسبب معرفة ذلك الرجل لسانهم ـ ـ وحكى ـ ـ أن بعض أهل الانكار ألحوا على بعض من المشايخ الأميين أن يعظ لهم باللسان العربي تعجيزاً له وتفضيحاً فحزن لذلك فرأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمره بما التمسوا منه من الوعظ فأصبح متكلماً بذلك اللسان وحقق القرآن بحقائق عجزوا عنها وقال أمسيت كرديا وأصبحت عربياً.
وفي "المثنوى" :
خويش راصافي كن از اوصاف خويش
تاببيني ذات اك صاف خويش
بيني اندر دل علوم انبيا
بي كتاب وبي معيد واوستا
سر امسينا لكرديا بدان
راز اصبحنا عرابيا بخوان
{فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ} إضلاله أي : يخلق فيه الكفر والضلال لمباشر الأسباب المؤدية إليه.
قال الكاشفي : (س كمراه كرداند خداي تعالى هركه را خواهد يعني فرو كذا ردتاكه كمراه شود) والفاء فصيحة مثلها في قوله تعالى : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق}(الشعراء : 63) كأنه قيل فبينوه لهم فاضل الله منهم من شاء إضلاله لما لا يليق إلا به.
{وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ} هدايته أي يخلق فيه الإيمان والاهتداء لاستحقاقه له لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 395
قال الكاشفي : (وراه نمايد هركه را خواهد يني توفيق دهدتاراه يابد) وهو العزيز الغالب على كل شيء فلا يغالب في مشيئته الحكيم الذي لا يفعل شيئاً من الاضلال والهداية إلا لحكمة بالغة وفيه أن
396
ما فوض إلى الرسل إنما هو تبليغ الرسالة وتبيين طريق الحق وأما الهداية والإرشاد إليه فذلك بيد الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وفي التأويلات النجمية وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه أي ليتكلم معهم بلسان عقولهم ليبين لهم الطريق إلى الله وطريق الخروج من ظلمات أنانيتهم إلى نور هويته فيضل الله من يشاء في أنانيته ويهدي من يشاء بالخروج إلى هويته وهو العزيز أي هو أعز من أن يهدي كل واحد إلى هويته الحكيم بأن يهدي من هو المستحق للهداية إليه فمن هذا تحقق إنه تعالى هو الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور لا غيره انتهى.
فعلى العاقل أن يصرف اختياره في طريق الحق ويجتهد في الخروج من بوادي الأنانية فقد بين الله الطريق وأرشد إلى الأسباب فلم يبق إلا الدخول والانتساب.
قال بعض الكبار : النظر الصحيح يؤدي إلى معرفة الحق وذلك بالانتقال من معلوم إلى معلوم إلى أن ينتهي إلى الحق لكن طريق التصور والفكر وأهله لا يتخلص من الأنانية والاثنينينة وأما المكاشفة فليس فيها الانتقال المذكور وطريقها الذكر ألا ترى إلى قوله تعالى : الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض}(آل عمران : 191) كيف قدم الذكر على الفكر فالطريقة الأولى طريقة الإشراقيين والثانية طريقة الصوفية المحققين.(4/262)
قال الإمام الغزالي ـ ـ كرم الله وجهه ـ ـ : من عرف الله بالجسم فهو كافر ومن عرف الله بالطبيعة فهو ملحد ومن عرف الله بالنفس فهو زنديق ومن عرف الله بالعقل فهو حكيم ومن عرف الله بالقلب فهو صديق ومن عرف الله بالسر فهو موقن ومن عرف الله بالروح فهو عارف ومن عرف الله بالخفي فهو مفرد ومن عرف الله بالله فهو موحد أي بالتوحيد الحقيقي.
طالب توحيدرا بايدقدم بر "لا" زدن
بعد زان در عالم وحدت دم "الا" زدن
رنك وبويي از حقيقت كربدست آورده
ون كل صد برك بايد خيمه بر صحرازدن
وإنما منع الأغيار من شهود الآثار غيرة من الله العزيز القهار
معشوقعيان ميكذرد برتو وليكن
اغيار همي بيند ازان بسته نقابست
ومعنى الوحدة الحاصلة بالتوحيد زوال الوجود المجازي الموهم للاثنينية وظهور الوجود الحقيقي على ما كان عليه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 395
هرموج ازين محيط أنا البحر ميزند
كرصد هزاردست بر آيد دعا يكيست
حققنا الله وإياكم بحقائق التوحيد ووصلنا وإياكم إلى سر التجريد والتفريد وجعلنا من المهديين الهادين وإلى طريق الحق داعين.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى} ملتبساً بآياتنا يعني اليد والعصا وسائر معجزاته الدالة على صحة نبوته أن مفسرة لمفعول مقدر للفظ دال على معنى القول مؤد معناه أي أرسلناه بأمر هو أخرج قومك من الظلمات من أنواع الضلال التي كلها ظلمات محض كالكفر والجهالة والشبهة ونحوها إلى النور إلى الهدى كالإيمان والعلم واليقين وغيرها.
وقال المولى أبو السعود رحمه الله : الآيات معجزاته التي أظهرها لبني إسرائيل والمراد إخراجهم بعد مهلك فرعون من الكفر والجهالات التي أدتهم إلى أن يقولوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة إلى الإيمان بالله وتوحيده وسائر ما أمروا به
397
انتهى.
يقول الفقير : قد تقرر أن القرآن يفسر بعضه بعضاً فقوله تعالى : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه}(هود : 96 ـ ـ 97) ينادي بأعلى صوته على أن المراد بالآيات غير التوراة وبالقوم القبط وهم فرعون واتباعه وأن الآية محمولة على أول الدعوة ولما كان رسولنا صلى الله عليه وسلّم مبعوثاً إلى الكافة قال الله تعالى في حقه [إبراهيم : 1-25]{لِتُخْرِجَ النَّاسَ} ولم يقل لتخرج قومك كما خصص وقال هنالك بإذن ربهم وطواه هنا لأن الإخراج بالفعل قد تحقق في دعوته عليه السلام فكان أمته أمة دعوة وإجابة ولم يتحقق في دعوة موسى إذ لم يجبه القبط إلى أن هلكوا وإن أجابه بنوا إسرائيل والعمدة في رسالته كان القبط ، ومن شأن الرسول تقديم الإنذار حين الدعوة كما قال نوح عليه السلام في أول الأمر.
إني لكم نذير مبين}(نوح : 2) ولذا وجب حمل قوله تعالى : {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّاامِ اللَّهِ} على التذكير بالوقائع التي وقعت على الأمم الماضية قبل قوم نوح وعاد وثمود.
والمعنى وعظهم وأنذرهم مما كان في أيام الله من الوقائع ليحذروا فيؤمنوا كما يقال رهبوت خير من رحموت أي لأن ترهب خير من أن ترحم وأيام العرب ملاحمها وحروبها كيوم حنين ويوم بدر وغيرهما.
وقال بعضهم : ذكرهم نعمائي ليؤمنوا بي كما روى أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن حببني إلى عبادي فقال يا رب كيف أحببك إلى عبادك والقلوب بيدك؟ فأوحى الله تعالى أن ذكرهم نعمائي ومن هنا وجب الكلام عند الكلام بما يرجح رجاءه فيقال له لا تحزن فقد وفقك الله للحج أو للغزو أو لطلب العلم أو نحو ذلك من وجوه الخير ولو لم يرد بك خيراً لما فعله في حقك فهذا تذكير أي تذكير وأيام الله في الحقيقة هي التي كان الله ولم يكن معه شيء من أيام الدنيا ولا من أيام الآخرة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 395
فعلى السالك أن يتفكر ثم يتذكر كونه في مكنون علم الله تعالى ويخرج من الوجود المجازي المقيد باليوم والليل ويصل إلى الوجود الحقيقي الذي لا يوم عنده ولا ليل إن في ذلك إشارة إلى أيام الله لآيات عظيمة أو كثيرة دالة على وحدانية الله وقدرته وعلمه وحكمته لكل صبار مبالغ في الصبر على طاعة الله وعلى البلايا شكور مبالغ في الشكر على النعم والعطايا كأنه قال لكل مؤمن كامل إذ الإيمان نصفان نصفه صبر ونصفه شكر ، وتخصيص الآيات بهم لأنهم المنتفعون بها لا لأنها خافية عن غيرهم فإن التبيين حاصل بالنسبة إلى الكل وتقديم الصبر لكون الشكر عاقبته.
آخر هركريه آخر خنده ايست
فالمنذرون المذكرون بالكسر صبروا على الأذى والبلاء فظفروا والعاقبة للمتقين والمنذرون المذكورون بالفتح تمادوا في الغي والضلال فهلكوا ألا بعدا للقوم الظالمين.
وفي المثنوى :
عاقل از سر بنهد اين هستى وباد
ون شنيد انجام فرعونان وعاد
ورنه بنهد ديكران از حال او
عبرتي كيرند از اضلال او
جزء : 4 رقم الصفحة : 395(4/263)